ولكن تفسير وكيع هو الأشهر والأصوب. وذلك لأن الإستنجاء بالماء هو الذي يساعد على تخلية الذكر من بقايا البول، المترسب في بعض ثنايا الذكر. ويكون ذلك في الوضوء حتى يكون المرء على يقين من عدم نزول شيء من بوله أثناء وضوئه أو بعده.
أما النضح، فإنما يكون بعد الوضوء - على ما سيأتي- وليس المراد منه نقص البول بل الغرض منه إزالة الوسوسة من قلب المؤمن. في الطهارة.
وقد اختلف أهل اللغة في الأصل الذي يرجع إليه استعمال الإستنجاء في إزالة آثار البول والغائط عن السبيلين
فحكى العيني عن صاحب المطالع: أن الإستنجاء: إزالة النجو. وهو الأذى الباقي في فم المخرج وأكثر ما يستعمل في الماء. وقد يستعمل في الأحجار. وأصله من النجو وهو القَشْر والإزالة [90] .
ونقل صاحب اللسان عن أبي عبيد: أن النجو: ما يخرج من البطن من ريح أو غائط. وقد نجا الإنسان والكلب نجواً، والإستنجاء: الإغتسال بالماء من النجو والتمسح بالحجارة منه، وقال كراع، هو قطع الأذى بأيهما كان واستنجيت بالماء والحجارة أي تطهرت بهما.
وقال الكسائي: يقال: ما أنجي فلان شيئاً وما نجا منذ أيام أي لم يأت الغائط، والإستنجاء: التنظف بمدر أو ماء، واستنجى أي. مسح موضع النجو أو غسله.
وقال بعض العرب: أنجيت قضيباً من الشجرة فقطعته. واستنجيت الشجرة قطع لها من أصلها. ونجا غصون الشجرة نجواً واستنجاها قطعها، قال شمر: وأرى الإستنجاء في الوضوء من هذا لقطعه العذرة بالماء [91] .
وحكى ابن الأثير ما جاء في حديث بئر بضاعة "تلقى فيها المحائص وما ينجى الناس "أي يلقونه من العذرة. يقال منه: أنجى ينجى؛ إذا ألقى نجوه ونجا وأنجى، إذا قضى حاجته منه، والإستنجاء، استخرج النجو من البطن. وقيل إزالته عن بدنه بالغسل والمسح [92] .(17/272)
وقيل إن الإستنجاء من الحدث مأخوذ من النجوة وهو ما ارتفع من الأرض لأنه إذا أراد قضاء حاجته استتر بنجوة من الأرض [93] .
والإستنجاء في اصطلاح الفقهاء: هو إزالة النجاسة من السبيلين المعتادين بالماء أو الأحجار أو بهما معاً. سواءً كان الخارج بولاً أو غائطاً أو مذياً أو غير ذلك إذا خرج هذا الغير ملوثاً بالنجاسة [94] .
ثبوت الإستنجاء بالماء:
ثبت الإستنجاء بالماء في السنة بأحاديث كثيرة منها: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء " [95] .
وفي رواية أخرى عن أنس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً وتبعه غلام معه ميضأة وهو أصغرنا فوضعها عند سدرة، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته فخرج علينا وقد استنجى بالماء " [96] وعند البخاري:"إذا خرج لحاجته أجيء أنا وغلام معنا إداوة من ماء "، يعني يستنجي به [97] .
إنكار الإستنجاء بالماء:
وقد أنكر ثبوت الإستنجاء بعض الشيعة وبعض الفقهاء مستندين في ذلك إلى بعض الآثار المروية عن بعض الصحابة والتابعين وتابعيهم والتي سنورد بعضها فيما يلي:
أ- ما روى ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه سئل عن الإستنجاء بالماء. فقال:" إذن لا يزال في يدي نتن ".
ب- وعن نافع ابن عمر: أنه كان لا يستنجي بالماء.
جـ- وعن ابن الزبير: قال:"ما كنا نفعله ".
د- نقل ابن التين عن مالك أنه أنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم استنجى بالماء [98] .
هـ - روى مالك عن يحي بن سعيد "أنه سمع سعيد بن المسيب يسأل عن غسل الغائط فقال سعيد:"إنما ذلك وضوء النساء " [99] .
و– ونقل عن ابن حبيب من المالكية:"أنه منع الإستنجاء بالماء لأنه مطعوم " [100] .(17/273)
ز – وقيل إن عبارة "يستنجي بالماء "الواردة في حديث أنس المتقدم ليست من لفظ أنس، بل هي من قول أبي الوليد: - أحد الرواة عن شعبة - واستدل على ذلك بأن سليمان بن حرب رواه عن شعبة فلم يذكرها، وقال: فيحتمل أن يكون الماء لوضوئه [101] . وعليه فلا يكون في الحديث دلالة على ثبوت الإستنجاء بالماء.
وما حكاه ابن التين عن أبي عبد الله الملك البوني؛ من أن قوله:"يستنجي بالماء "مدرج من قول عطاء الراوي عن أنس، فيكون مرسلاً فلا حجة فيه [102] .
مناقشة أدلة هذا الفريق والرد عليها:
أ، ب، جـ – ما نقل عن حذيفة وابن عمر وابن الزبير رضي الله عنه ليس فيه نفي ورود الإستنجاء بالماء عن الرسول عليه الصلاة والسلام أو كراهية فعله. بل غاية ما يفيده؛ أنهم كانوا لا يستعملونه بل كانوا يستعملون الأحجار. أو كان ذلك منهم على سبيل المبالغة لدفع قول من يقول بتعيين الماء لإزالة النجاسة الباقية على أحد السبيلين.
وقد نقل عن ابن عمر "أنه بال بالمزدلفة فأدخل يده فنضح فرجه من تحت ثيابه " [103] .
د – أما ما نقل عن مالك من إنكاره ثبوت الإستنجاء عن الرسول عليه الصلاة والسلام فهو غريب إذ الثابت عن مالك هو تقديم الإستنجاء بالماء، حتى أنه إذا استجمر بالحجارة مرة وصلى فإنه ينبغي أن يستنجي بالماء ذلك لما يستقبل.
قال ابن القاسم: وقال مالك:" لا يستنجى من الريح ولكن إن بال أو تغوط فليغسل مخرج الأذى فقط؛ إن بال؛ فمخرج البول الإحليل، وإن تغوط فمخرج الأذى فقط " [104] .
وقال ابن القاسم أيضاً: قلت لمالك؛" فمن تغوط واستنجى بالحجارة ثم توضأ ولم يغسل ما هناك بالماء حتى صلى ". قال:"تجزئه صلاته وليغسل ما هناك بالماء فيما يستقبل" [105] .
وكذلك قواعد المذهب المالكي؛ فإنها تقضي بأفضلية تقديم الماء على الأحجار إذا تعذر الجمع بينهما. وبالجملة؛ فإن مراتب الإستنجاء عندهم خمس:
1- ماء وحجر.(17/274)
2- ماء ومدر. والمدر كل طاهر منق مستوف الشروط غير حجر.
3- ماء فقط.
4- حجر فقط.
5- مدر فقط [106] .
هـ - أما ما نقل عن سعيد بن المسيب، فاختلف العلماء في بيان المراد منه؛ فقال ابن نافع:"يريد سعيد: أن الإستنجاء بالحجارة بجزء الرجل، وإنما يكون الإستنجاء بالماء للنساء ".
وقال الباجي:"يحتمل عندي وجهين: أحدهما أن يكون سعيد أراد أن ذلك حكم من أحكام النساء من جهة العادة والعمل، وأن عمل الرجال الإستنجاء - والوجه الآخر: أنه يريد ذلك عيب الإستنجاء بالماء " [107] .
وقال النووي:"محمول على أن الإستنجاء بالماء لا يجب أو أن الأحجار عنده أفضل ".
وقيل: ربما سعيد اتبع مذهب المهاجرين فهم كانوا يقتصرون في استنجائهم على الأحجار وقد قال ابن عبد البر في الإستذكار:"الإقتصار على الأحجار مذهب معروف عن المهاجرين بخلاف الأنصار فإنهم كانوا يجمعون بين الماء والحجارة ".
وربما كان سعيد لم يصله خبر عن استنجاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالماء فاتبع مذهب المهاجرين بدليل ما جاء عند أبي شيبة عن سعيد بن المسيب لما ذكر له الإستنجاء بالماء قال: أنتم فعلتم ذلك؛ هم كانوا يجتزون بالحجارة " [108] .
و– أما ما نقل عن ابن حبيب – فإن ثبت ذلك عنه – فإنه شاذ مخالف لقواعد المذهب المالكي التي أشرنا إليها فيما سلف.
ز – أما نسبة عبارة الإستنجاء في حديث أنس المتقدم إلى غيره للوصول إلى عدم إثبات استنجاء النبي صلى الله عليه وسلم بالماء. فهو مردود عليه بما يلي:
أولاً: ترجيم البخاري لحديث أنس السابق بعبارة "الإستنجاء بالماء "والإمام البخاري فقيه ومحدث. وباختياره تصدير الباب بهذه الترجمة: إثبات الإستنجاء بالماء من النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق إثبات اتصال الحديث.(17/275)
ثانياً: ما رد به الحافظ بن حجر على هذه الدعوى؛ من أن عقبة رواه من طريق محمد بن جعفر عن شعبة فقال:" يستنجي بالماء "وكذلك الإسماعيلي؛ من طريق ابن مرزوق عن شعبة:" فأنطلق أنا وغلام من الأنصار معنا إداوة فيها ماء يستنجي منها صلى الله عليه وسلم "كما رواه البخاري عن طريق روح بن القاسم عن عطاء بن أبي ميمونة: "إذا تبرر لحاجته أتيته بماء فتغسل به "ولمسلم من طريق خالد الحذاء عن عطاء عن أنس: "فخرج علينا وقد استنجى بالماء "وبهذا يثبت أن العبارة من قول أنس. وعليه فيكون الحديث صالحاً للإستدلال به على ثبوت الإستنجاء بالماء [109] .
كما يتأكد ذلك؛ بما أخرجه الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:"مُرْنََ أزواجكن أن يستطيبوا بالماء فإني أستحييهم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله". قال الترمذي بعد سرده لهذا الحديث: هذا حديث حسن صحيح [110] .
وبما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما لما نزلت هذه الآية: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا.. الآية} [111] بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عويم بن ساعدة فقال:" ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم" فقالوا: يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه – أو قال – مقعدته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هو هذا "رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن، إلا أن ابن إسحاق مدلس وقد عنعنه [112] .
أقول: ابن إسحاق لم يذكره البخاري في الضعفاء وذكره في التاريخ الكبير وقال:"قال لي علي بن عبد الله ابن عيينة؛ قال الزهري: من أراد المغازي فعليه بمولى قيس بن مخرمة هذا ". قال ابن عيينة:"ولم أر أحداً يتهم ابن إسحاق ".
وقال:"قال لي عبيد بن يعيش سمعت يونس بن بكير يقول سمعت شعبة يقول: محمد بن إسحاق أمير المحدثين بحفظه" [113] .
وقال فيه الحافظ في التقريب:" مقبول" [114] .
وقال الذهبي فيه:"هو صالح الحديث " [115] .(17/276)
وقد روى حديث عويم بن ساعدة أيضاً؛ محمد بن عبد الله بن سلام عن أبيه وقد أخرجه الطبراني في الكبير وفيه شهر بن حوشب. وقد اختلفوا فيه. ولكن وثقه أحمد وابن معين وأبو زرعة ويعقوب بن شيبة [116] .
كما ذكره النووي في المجموع من رواية أبي أيوب وأنس عند ابن ماجه والدارقطني والبيهقي وقال:"إسناده صحيح إلاّ أن فيه عتبة بن أبي حكيم وثقة الجمهور ولم يبين من ضعفه سبب تضعيفه. والجرح لا يقبل إلا مفسراً " [117] .
وبالجملة: فالحديث له طرق كثيرة من شأنها أن يعضد بعضها بعضاً وتجعله صالحاً للإستدلال به على ثبوت الإستنجاء بالماء.
ويستدل لثبوته أيضاً بما جاء في الموطأ عن عثمان بن عبد الرحمن أن أباه حدثه أنه سمع عمر بن الخطاب يتوضأ بالماء لما تحت إزاره [118] أي أنه سمع قول من قال إن عمر بن الخطاب يفعل ذلك.
الحاصل: أن الإستنجاء بالماء أمر مشروع فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم واستحسنه وفعله أصحابه رضي الله عنهم ونبين فيما يلي مدى هذه المشروعية بمعنى هل تتقوى هذه المشروعية حتى تصل إلى الوجوب بحيث يتعين استعمال الماء أو تبقى في مجال السنية باعتبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله وداوم عليه ولم يأمر فيه بعزيمة أو تتنزل إلى درجة المندوب أو الأفضل نظراً للأثر الحسن المترتب على استعمال الماء.
حكم استعمال الماء في الإستنجاء:
لمعرفة حكم استعمال الماء في إزالة بقايا النجاسة عن مخرج البول أو الغائط علينا أن نعرض بإيجاز لحكم إزالة النجاسة عنهما: ثم ننتقل منه إلى ما نريد:(17/277)
يرى جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة وأبو ثور وإسحاق وداود: أن إزالة النجاسة عن أحد المخرجين واجبة لورود الطلب بها بصيغة الأمر مثل حديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن فإنها تجزئ عنه " [119] . وكذلك حديث أبي هريرة " ليستنج بثلاثة أحجار " [120] والأمر يفيد الوجوب إذا أطلق وليس له صارف كما هنا. وغير ذلك من الأدلة.
ويرى الحنفية ورواية عن مالك؛ ونقل عن المزني من أصحاب الشافعي: أن الإستنجاء سنة لمواظبته صلى الله عليه وسلم ولا يجب لحديث أبي هريرة عن النبي على الله عليه وسلم قال:"من اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج " الحديث، أخرجه أبو داود وأحمد كما أخرجه الطحاوي في الآثار. ذكر ذلك البدر العيني بسنده. ثم قال: فالحديث صحيح ورجاله ثقات ثم رد كلام ابن حزم والبيهقي حول سند هذا الحديث. كما استدل هذا الفريق بأن النجاسة الحادثة بسبب البول والغائط هي كدم البراغيث في عدم وجوب إزالة أثرها، فكذلك عينها. وقال المزني:" لأنا أجمعنا على جواز مسحها بالحجر فلم تجب إزالتها كالمني " [121] .
ونكتفي بهذا الموجز لبيان آراء الفقهاء بعد أن تبين لنا قوة استدلال الفريق الأول على وجوب إزالة النجاسة الحاصلة على أحد المخرجين من أثر البول والغائط لنقصد إلى ما نريد.
يرى أكثر الفقهاء – باستثناء بعض الشيعة وبعض الفقهاء كابن حبيب الذي يذهب إلى كراهة الإستنجاء بالماء لأنه مطعوم [122]-: أفضلية الجمع بين الماء والأحجار في الإستنجاء بأن يقدم الأحجار لإزالة عين النجاسة المتبقية على المحل ثم يتبعها بالماء لغسل الأثر الباقي بعد إزالة العين.(17/278)
ومحل هذه الأفضلية: إن توفر الماء وتوفرت الأحجار وأمكن الجمع بينهما، وإن توفرا معاً وتعذر الجمع بينهما لسبب ما. فالأفضل استعمال الماء فإنه مزيل لعين النجاسة وأثرها معاً، بخلاف الأحجار فإنها غالباً تزيل عين النجاسة ولكن يبقى أثرها.
وهذه الأفضلية في الجمع بين الماء والأحجار التي قال بها جمهور الفقهاء؛ ليس لها سند صحيح من السنة يمكن الإعتماد عليه. وما جاء في بعض الروايات في سبب نزول قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا.. الآية} من أن الأنصار كانوا يتبعون الأحجار بالماء، لم يصح منها شيء. قال النووي في رده على صاحب المهذب في استشهاده ببعض هذه الروايات:"وأما قول المصنف: قالوا نتبع الحجارة بالماء. فكذا يقوله أصحابنا وغيرهم في كتب الفقه والتفسير وليس له أصل في كتب الحديث " [123] .
ثم قال:"فإذا علم أنه ليس له أصل من جهة الرواية فيمكن تصحيحه من جهة الإستنباط؛ لأن الإستنجاء بالحجر كان معلوماً عندهم يفعله جميعهم. وأما الإستنجاء بالماء فهو الذي انفردوا به فلهذا ذكر، ولم يذكر الحجر لأنه مشترك بينهم وبين غيرهم، ولكونه معلوماً فإن المقصود بيان فضلهم الذي أثنى الله عليهم بسببه. ويؤيد هذا قولهم إذا خرج أحدنا من الغائط أحب أن يستنجي بالماء. فهذا يدل على أن استنجاءهم بالماء كان بعد خروجهم من الخلاء. والعادة جارية أنه لا يخرج من الخلاء إلا بعد التمسح بماء أو حجر، وهكذا المستحب أن يستنجي بالحجر في موضع قضاء الحاجة، ويؤخر الماء إلى أن ينتقل إلى موضع آخر [124] .
وما قاله النووي:"وهكذا المستحب إلى.. الخ ". محل نظر.. لأنهم كانوا يفعلون ذلك بحكم العادة أو أن بيوت الخلاء كانت ضيقة.. أو لا تتحمل استعمال الماء بها وربما كان هذا في الصحراء حيث الحجر متوفر. ولكن هذا قد يتعذر الآن. لذلك أرى أن تؤخذ أفضلية أتباع الأحجار بالماء على الإطلاق.(17/279)
الحالات التي يتعين فيها الإستنجاء بالماء:
أ – يتعين استعمال الماء في الإستنجاء إذا تعدى الخارج المحل المعتاد؛ بأن تنتشر النجاسة إلى الصفحتين في الدبر، أو تمتد إلى الحشفة في الذكر. وذلك لأن الإستجمار بالحجر في المحل المعتاد رخصة لأجل المشقة في تكرر غسله كلما أحدث، والرخصة تقدر بقدرها، أمّا ما عدا المحل المعتاد رخصة لأجل المشقة في تكرر غسله كلما أحدث فلا يجزئ فيه إلا الغسل لأن الأمر حينئذ خرج من موضوع الإستنجاء إلى موضع إزالة النجاسة وهي واجبة عند عامة الفقهاء.
وأما ما كان يفعله بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإكتفاء بالأحجار فلعدم موجب استمال الماء عندهم، وهو تجاوز الخارج المحل المعتاد وهذا ما يفهم من قول علي رضي الله عنه: " إن من كان قبلكم كانوا يبعرون بعراً وأنتم اليوم تثلطون ثلطاً فاتبعوا الماء الأحجار " [125] يريد رضي الله عنه: أنههم كانوا يتغوطون يابساً كالبعر لأنهم كانوا قليلي الأكل وأنتم اليوم تثلطون رقيقاً وهو إشارة إلى كثرة الأكل والمآكل وتنوعها وعلى قول علي رضي الله عنه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: " يكفي أحدكم ثلاثة أحجار "أي ما لم يتجاوز محل العادة.
ويستعمل الماء هنا لإزالة النجاسة الكائنة على المحل المعتاد والأماكن الأخرى التي وصل إليها عند أكثر الفقهاء خلافاً لأبي حنيفة وأبي يوسف اللذين يقصران وجوب الإزالة بالماء للنجاسة الحاصلة على الأماكن الزائدة عن المحل المعتاد، أما المحل المعتاد فيكفي فيه الإستجمار بالأحجار [126] .(17/280)
2- إزالة المني لمن فرضه التيمم كالمريض أو عادم الماء الكافي لاغتساله فإنه يتعين عليه غسل المني من المخرج بالماء عند أكثر الفقهاء الذين يقولون بنجاسة المني. كما يتعين الماء لغسل المني لمن فرضه الوضوء كأن خرج بلا لذة في حالة اليقظة أو لذة غير معتادة. فإنه يجب عليه إزالة المني عن المخرج قبل أن يشرع في الوضوء [127] .
ويسن لمن فرضه الغسل ولكن أراد تأخيره لما بعد النوم، أن يغسل ذكره من المني قبل الوضوء ويشهد لذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما "ذكر عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تصيبه الجنابة من الليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"توضأ واغسل ذكرك ثم نم " [128] .
ومعلوم أن الواو لمطلق الجمع أي أغسل ذكرك وتوضأ ثم نم وفي رواية أبي نوح عند مالك "فاغسل ذكرك ثم توضأ ثم نم " [129] .
وأصرح من ذلك: حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري قالت: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل فرجه وتوضأ للصلاة ". أي كوضوئه للصلاة [130] .
3- إزالة دم الحيض أو النفاس للمريضة التي طهرت منه ولكنها لم تستطع الإغتسال أو تستطيع الإغتسال ولكن عدمت الماء الكافي لذلك فإنها يجب أن تزيل آثار دم الحيض أو النفاس قبل تيممها للصلاة وكذلك الحكم في الإستحاضة إن لم تلازم المرأة كل يوم ولو مرة وإلا فهو معفو كسلس البول [131] .
4- إزالة بول المرأة بكراً أو ثيباً لتعديه المخرج عادة. وقد استثني الحنابلة البكر من وجوب استعمال الماء لإزالة البول عن المخرج بحجة أن عذرتها تمنع انتشار البول وكذلك الثيب إذا خرج بشدة لأن حدته تمنع انتشاره حول المخرج [132] .
ويلاحظ أن تعين الغسل هنا وفي الحالات السابقة هو من باب إزالة النجاسة وتعين الماء لإزالة النجاسة محل اتفاق عند أكثر العلماء.(17/281)
5- إزالة المذي من محل الخارج أو الأماكن الأخرى التي وصل إليها. وقيل بوجوب غسل كل الذكر وقيل كل الذكر مع الأنثيين. فمن أخذ بحديث علي:"سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المذي فقال:"من المذى الوضوء ومن المني الغسل " قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح [133]-: قال بالإقتصار على موضع المذي فقط.
ومن أخذ بحديث المقداد بن الأسود - "ليغسل ذكره"الحديث ولم يذكر فيه الأنثيين. وقد اختلف في وصله وإرساله – [134]-: قال بالإقتصار على غسل كل الذكر فقط.
ومن أخذ بحديث حزام بن حكيم عن عمه عبد الله الأنصاري الذي جاء فيه:"سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يوجب الغسل وعن الماء يكون بعد الماء؟ فقال:"ذلك المذي وكل فحل يمذي فتغسل من ذلك فرجك وأنثييك وتوضأ وضوءك للصلاة " [135] قال بغسل الذكر كله والأنثيين.
وقد رد ابن القيم قول ابن حزم بتضعيف هذا الحديث وذكر له شاهداً من حديث عليّ عند أبي عوانة وفيه:"يغسل أنثييه وذكره ويتوضأ " [136] .
فهذه هي أهم الحالات التي يتعين فيها استعمال الماء في الإستنجاء وإن كان الحنفية يرون أن المائع الطاهر كالخل وماء الورد يحل محل الماء في حكم إزالة النجاسة المذكورة في الصورة السابقة [137] .
أما في غير هذه الحالات وما يماثلها فلا بأس من استعمال الأحجار ونحوها في الإستطابة من البول والغائط ولو مع توفر الماء – وإن كان استعمال الماء أفضل كما أشرنا لذلك فيما تقدم – لثبوت ذلك في السنة.
من قال بتعيين الماء مطلقاً في الإستنجاء وأدلتهم
نقل عن بعض أصحاب مالك:"أن الإستجمار بالأحجار لا يكون إلا عند عدم الماء "كما نسب إلى العترة والحسن البصري وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وأبي علي الجبائي: القول بعدم اجتزاء الحجارة للصلاة ووجوب الماء وتعيينه في الإستنجاء وأهم أدلتهم ما يلي:(17/282)
1- قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [138] .
2- حديث أنس المتقدم؛ وفيه ثبوت استنجاء النبي صلى الله عليه وسلم بالماء.
3- حديث عائشة:"مُرْن أزواجكنّ أن يستطيبوا بالماء.." الخ وقد تقدم.
4- حديث قباء: وفيه الثناء على أهلها لأنهم كانوا يستنجون بالماء وقد تقدم الكلام عليه. وقد أجيب عن هذه الأدلة بما يلي:
1- بالنسبة للآية، فقد وردت في الوضوء ولا شك أن الماء متعين له ولا يجزئ التيمم إلا عند عدمه.
2- أما حديث أنس؛ ففيه ثبوت الإستنجاء بالماء وليس فيه ما يدل على تعيينه وحصر الإستطابة فيه.
3- أما حديث عائشة؛ فإنه يفيد ثبوت استنجاء النبي صلى الله عليه وسلم بالماء كما يفيده حث الأصحاب على الإقتداء به صلى الله عليه وسلم في ذلك. والسنة في فعله صلى الله عليه وسلم – لا في قول عائشة رضي الله عنها – وقد ثبت عنه الأمران.
4- حديث قباء – على فرض ثبوته – فهو يفيد استنجاء بالماء أو إتباع الأحجار بالماء وليس فيه قصر الإستنجاء على الماء دون الأحجار [139] .
والمعتبر في حد الإستنجاء هو الإنقاء ولا يتقيد بعدد معين إذ لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك عدد معين ولا أمر به. فالمدار على الإنقاء حتى تذهب لُزوجة النجاسة وآثارها [140] .
آداب الإستنجاء:
1- يندب لمن أراد الإستنجاء بالماء: أن يتحوط في ذلك بإحضار الماء الذي يريد استعماله في الإستنجاء أو يؤكد من وجوده في المكان الذي يجلس فيه لذلك؛ لما جاء في حديث أنس رضي الله عنه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج لحاجته تبعته أنا وغلام معنا إداوة من ماء "أخرجه البخاري [141] . وفي رواية له أيضاً "فأحمل أنا وغلام نحوي إداوة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء ".(17/283)
وقال أبو الدرداء: - موجهاً كلامه لأهل الكوفة – "أليس فيكم صاحب النعلين والطهور والوساد " [142] يقصد ابن مسعود رضي الله عنهما.
2- كما ينبغي على الشخص ستر عورته عن الناس عند إرادته التكشف للإستنجاء للجماع على حرمة كشف العورة في الجملة. فإذا خشي رؤية الناس لعورته وجب الستر. لما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم – من حديث طويل – "من أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا كثيباً من رمل فليستدبره فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم " رواه أبو داود [143] .
وفي فتح القدير: إنما يستنجي إذا وجد مكاناً يستر فيه نفسه. ولو كان على شط نهر ليس فيه ما يستره لو استنجى بالماء، قالوا يفسق [144] .
3- ألا يمس ذكره بيمينه حال الإستنجاء. وقد عقد الإمام البخاري باباً في صحيحه وترجم له بهذا المعنى حيث قال: (باب النهي عن الإستنجاء باليمين) ثم ذكر بعد ذلك حديث قتادة عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء وإذا أتى الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه ولا يتمسح بيمينه " [145] بل ينبغي أن يستعمل اليد اليسرى في الإستنجاء لحديث حفصة رضي الله عنها:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه ويجعل شماله لما سوى ذلك " [146] .
والنهي هنا عن الإستنجاء باليمين إنما هو للتنزيه عند الجمهور وللتحريم عند الإمام أحمد وأهل الظاهر.
وإنما كان للتنزيه عند الجمهور لأن النهي فيه لمعنيين؛ أحدهما: لرفع قدر اليمين، والآخر: أنه لو باشر النجاسة بها فإنه ربما يتذكر عند تناوله الطعام ما باشرت يمينه من النجاسة فينفر طبعه من ذلك.(17/284)
وقد حمل أحمد والظاهرية النهي على التحريم لأن النهي إذا أطلق وليس له صارف يكون للتحريم. وقد تشدد أهل الظاهر في هذه المسألة حتى قال الحسين بن عبد الله الناصري، في كتابه (البرهان) على مذهب أهل الظاهر: ولو استنجى بيمينه لا يجزيه، وهو وجه عند الحنابلة وطائفة من الشافعية [147] .
4- كما ينبغي عليه إذا أراد الإستنجاء عقب البول أن يستبرئ منه حتى لا ينزل منه شيء بعد الإستنجاء أو بعد الوضوء. وهو يختلف باختلاف الأشخاص، فقد يكون بالمشي بضع خطوات، وقد يكون بالتنحنح قليلاً، وقد يكون بالسلت والنتر الخفيفين؛ والسلت: هو إمرار الإبهام على أعلى القضيب من بدايته والسبابة من أسفله كذلك. ويمرهما معاً ثم ينتره نتراً خفيفاً بضع مرات مع التلطف وعدم الإسترسال في ذلك، حتى لا تسترخي أعصاب القضيب وتسبب له أضراراً كثيرة وأيضاً: حتى لا يصل إلى الوسوسة المضرة بالدين وبعض الناس لا يحتاج في استبرائه إلى شيء من ذلك. وبالجملة: ينبغي على المرء أن يستبرئ حتى يطمئن إلى عدم نزول شيء من البول بعد الإستنجاء أو بعد الوضوء – وقد وردت في الإستبراء أحاديث كثيرة أصحها حديث ابن عباس في قصة صاحبي القبرين فقد جاء فيه: "أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله " وفي الترمذي "لا يستتر من بوله "أي لا يتحفظ منه وعند أبي نعيم "كان لا يتوقى " أخرجه مسلم والبخاري وأبو داود والنسائي [148] .
وقد اختلف العلماء في حكم الإستبراء؛ فأوجبه المالكية وبعض الحنفية وبعض الشافعية. وقال يندبه الحنابلة وبعض الحنفية وأكثر الشافعية.
وأرى أن يحمل الوجوب على ما إذا تحقق أو غلب على ظنه بمقتضى عادته أنه إذا لم يستبرئ خرج منه شيء بعد التطهر. فإن لم يتحقق أو غلب على ظنه ذلك، فإنه يندب فعله على سبيل التحوط [149] .(17/285)
5- ينبغي لمن أراد الإستنجاء بالماء أن يبل يده التي سيلاقي بها الأذى بالماء حتى تنسد المسام في كفه فلا تتسرب بعض آثار الفضلات في داخلها فيصعب بعد ذلك إزالة الرائحة منها [150] .
كما يسن في حقه أيضاً أن يدلك هذه اليد بعد الإستنجاء بتراب ونحوه أو يغسلها بمنظف آخر كصابون وغاسول ونحوهما من المواد المستعملة [151] في النظافة وقد أخرج أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى الخلاء أتيته بماء في ثور أو ركوة فاستنجى ثم مسح يده على الأرض ثم أتيته بإناء آخر فتوضأ "أخرجه أبو داود. كما أخرج ابن ماجه رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى حاجته ثم استنجى من تور ثم دلك يده بالأرض " [152] .
6- كما ينبغي عليه أن يبدأ بغسل قُبُلهِ أولاً حتى لا يتنجس إذا ما بدأ بغسل دبره أولاً، كما ينبغي عليه أن يسترخي قليلاً عند غسل مقعدته لأنه أعون على الإستنجاء الجيد.
الخصلة الثانية الإنتضاح:
معنى الإنتضاح: اختلف العلماء في تفسير معنى الإنتضاح الوارد في بعض أحاديث الفطرة. وقد حكى ابن العربي أربعة أقوال للعلماء في بيان المراد من عبارة "فانتضح "الواردة في حديث هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"جاءني جبريل فقال يا محمد إذا توضأت فانتضح " [153] وقد تقدم تخريجه:
الأول: معناه إذا توضأت فصب الماء على العضو صباًّ ولا تقتصر على مسحه فإنه لا يجزئ فيه إلا الغسل.
الثاني: معناه: استبرىء الماء بالنتر والتنحنح: يقال: نضحت: استبرأت وانتضحت: تعاطيت الإستبراء له.
الثالث: معناه إذا توضأت فرش الإزار الذي يلي الفرج ليكون ذلك مذهِباً للوسواس.(17/286)
الرابع: معناه الإستنجاء بالماء. إشارة إلى الجمع بينه وبين الأحجار. فإن الحجر يخفف الوسخ والماء يطهره، وقد حدثني أبو مسلم المهدي؛ قال:"من الفقه الرائق: الماء يذهب الماء ". ومعناه: أن من استنجى بالحجر فإنه لا يزال البول يرشح فيجد منه البلل فإذا استعمل الماء نسب الخاطر ما يجد من البول إلى الماء وارتفع الوسواس انتهى كلام ابن العربي [154] .
وقال صاحب التحفة:"والحق أن المراد بالإنتضاح في هذا الحديث: هو الرش على الفرج بعد الوضوء، كما يدل عليه ألفاظ أكثر الأحاديث الواردة في هذا الباب " [155] .
وقال الخطابي في معالم السنن في تعليقه على حديث الحكم بن سفيان الثقفي:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بال يتوضأ- توضأ- ينتضح ".. الإنتضاح ههنا الإستنجاء بالماء وكان من عادة أكثرهم أن يستنجوا بالحجارة لا يمسون الماء ". وقال أيضاً:"وقد يتأول الإنتضاح أيضاً على رش الفرج بالماء بعد الإستنجاء ليدفع بذلك وسوسة الشيطان ". وذكر النووي عن الجمهور:"أن هذا الثاني هو المراد ههنا ". وقال صاحب العون:"قلت: وهذا- إشارة إلى كلام النووي:- هو الحق " [156] .
ويتأيد ما ذكره النووي من أن الإنتضاح: هو الرش بالماء على الفرج وما يلبسه من السراويل ونحوها بما نقله صاحب التحفة من حديث ابن عباس الذي أخرجه عبد الرزاق في جامعه " أنه شكا إليه رجل فقال إني أكون في الصلاة فيتخيل لي أنه بذكري بللاً. فقال: قاتل الله الشيطان إنه يمس ذكر الإنسان ليريه أنه قد أحدث. فإذا توضأت فانضح فرجك بالماء فإن وجدت فقل هو من الماء ففعل الرجل ذلك فذهب " [157] وهذا الأثر موقوف على ابن عباس رضي الله عنه لما جاء في سنن البيهقي عن سعيد بن جبير: أن رجلاً أتى ابن عباس فذكره [158] .(17/287)
كما يتأيد ما ذكره النووي أيضاً بما قال أهل اللغة في تفسير بعض الأحاديث الواردة فيه: قال صاحب النهاية:" من السنن العشر الإنتضاح بالماء "وهو أن يأخذ قليلاً من الماء فيرش به مذاكيره بعد الوضوء لينفي عنه الوسواس وقد نضح عليه الماء ونضح به إذا رش عليه [159] .
وقال صاحب اللسان: استنضح الرجل وانتضح: نضح شيئاً من ماء على فرجه بعد الوضوء، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عد عشر خلال من السنة وذكر فيها الإنتضاح بالماء. وهو: "أن يأخذ ماء قليلاً فينضح به مذاكيره ومُؤْتَزَرَه بعد فراغه من الوضوء لينفي بذلك عنه الوسواس " [160] .
إذا ثبت هذا أقول: استحب جمهور الفقهاء من الشافعية والحنفية والحنابلة أن يرش على الفرج أو ما حول من إزار أو سروال أو ثوب؛ قليلاً من الماء ليقطع بذلك وسوسة الشيطان. قال حنبل: سألت أحمد، قلت: أتوضأ واستبرئ وأجد في نفسي قد أحدثت بعده. قال:"إذا توضأت فاستبرئ ثم خذ كفاً من ماء فرشه على فرجك ولا تلتفت إليه فإنه يذهب إن شاء الله " [161] .
الخصلة الثالثة من خصال الفطرة: غسل البراجم:
وقد ورد في الأمر بتنقية البراجم من الأوساخ عند الطهارة للصلاة وغيرها، فقد أخرج ابن عدي من حديث أنس:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتعامد البراجم عند الوضوء، وذلك لأن الوسخ إليها سريع.. الحديث". قال العراقي:" إسناده ضعيف " [162] لكن له شواهد من حديث عائشة عند مسلم المذكور في صدر البحث.
وللترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث عبد الله بن يسر رفعه:"قصوا أظفاركم، وادفنوا قلائمكم، وتقّوا براجمكم "وفيه عمر بن بلال وهو غير معروف [163] .
كما روى أحمد في المسند من حديث ابن عباس:"أنه قيل له: يا رسول الله لقد أبطأ عنك جبريل. فقال: "ولم لا يبطئ عني وأنتم لا تستنّون ولا تقلّمون أظفاركم ولا تقصون شواربكم ولا تتقون رواجبكم " [164] .(17/288)
قال أبو عبيد:"البراجم والرواجب مفاصل الأصابع كلها "، وقال ابن سيده؛" البرجمة: المفصل الظاهر من المفاصل.. وقيل الباطن منها ".
وحكى عن صاحب التهذيب:"أن البراجمة: هي البقعة الملساء التي بين البراجم، والبراجم: هي المشنّجات في مفاصل الأصابع ". وقال في موضع آخر:"المشنجات في طهور الأصابع، وفي كل أصبع ثلاث برجمات إلا الإبهام فلها برجمتان ".
وحكى عن الجوهري:"أن البراجم: هي مفاصل الأصابع التي بين الأشاجع والرواجب والأشاجع – جمع أشجع -: وهي أصول الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر الكف وقيل عروق ظاهر الكف. والرواجب هي رؤوس السلاميّات من ظهر الكف إذا قبض القابض كفه نشزت وارتفعت ".
وقال محقق اللسان:"البراجم: رؤوس السلاميات، والرواجم – الرواجب – بطونها وظهورها ". هذا ما قاله علماء اللغة في بيان معنى البراجم والرواجب والأشاجع [165] ولكني أختار في بيانها ما قاله الإمام الرهوني في حاشيته على الزرقاني حيث قال:" الرواجب: هي مفاصل الأصابع العليا والبراجم: هي الوسطى والأشاجع هي السفلى التي تتصل ظاهر الكف ". وقد نظمها في بيتين من الزجر تقريباً للحفظ قال:
رواجب براجم أشاجع
ثلاثة مفاصل الأصابع
فأول لأول ثم كذاك
والبدء من أعلى فحقق ما هناك [166]
ويرجح النووي كلام أبي عبيد وصاحب المحكم:"بأن الرواجب والبراجم جميعاً هي مفاصل الأصابع كلها " [167] وهو ما يفهم من قول الخطابي. بأنها المواضع التي تتسخ ويجتمع فيها الوسخ ولا سيما ممن لا يكون طري البدن، وقول الغزالي:"كانت العرب لا تغسل اليد عقب الطعام فيجتمع في تلك الغضون وسخ فأمر بغسلها " [168] .
والحاصل: أن بعض العلماء فسر البراجم: بأنها عقد ظهور الأصابع فقط. ومنهم من فسرها: بأنها عقد بطون الأصابع فقط. ومنهم من فسرها بأنها عقد بطون الأصابع وظهورها.(17/289)
فعلى رأي الفريقين الأول والثاني يكون بعض العقد قد نص عليها والبعض لم ينص عليها ولكن ما لم ينص عليها أيضاً يتعهدها بالتنقية والتنظيف قياساً على ما نص عليه لوجود العلة فيه وهي تسارع الوسخ إليه.
وقد أدخل العلماء في هذا الباب كل العقد التي تكون مجتمعاً للوسخ سواء كانت في ظهور الأصابع أو بطونها، وسواء كانت في اليدين أو الرجلين كما ألحقوا بها ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن وقعر الصماخ فيزيله بالمسح لأنه ربما أضرت كثرته بالسمع. وكذلك ما يجتمع في داخل الأنف أو أي موضع شبيه بالبراجم في جميع أجزاء سواء نشأ عن عرق أو غبار أو غيرهما [169] .
تنظيف البراجم سنة:
والمراد: أنه يسن في حق المسلم أن يتعاهد هذه المواضع بإظهار ما يخفى من ثنايا هذه العقد، وإمرار الماء عليها ودلكها حتى يتأكد من نظافتها وليس ذلك في حال الوضوء فقط بل في كل ما يرى ضرورة لذلك. وقد أشار الإمام النووي إلى هذا المعنى حيث قال:" وأما غسل البراجم فمتفق على استحبابه. وهو سنة مستقلة غير مختصة بالوضوء " [170] .
الخصلة الرابعة: الإستياك:
والإستياك: هو دلك الفم بالسواك أو المسواك.
والسواك أو المسواك: اسم للآلة التي تستعمل في دلك الفم.
والإستياك مشتق من ساك؛ فإذا قيل: إستاك أو تسوك فلا يذكر الفم.
يجمع السواك على سوك على وزن فعل، مثل كتاب وكتب، وربما همز فيقال فيه: سؤك، ويذكر ويؤنث؛ ففي الحديث "السواك مطهرة للفم "؛ أي يطهر الفم. قال أبو منصور:"ما سمعت أن السواك يؤنث "ثم قال:" والسواك مذكر.."وقوله: "مطهرة للفم"؛ كقولهم الولد مجبنة مجهلة مبخلة [171] .
ما يستاك به:(17/290)
ومشروعية الإستياك تحصل بكل شيء خشن يصلح لإزالة بقايا الطعام والرائحة المتغيرة من الفم، والصفرة التي تعلو الأسنان؛ وذلك كالخرقة أو الخشبة أو الأصابع الخشنة. وقد جاء في سنن البيهقي من حديث أنس أن رجلاً من الأنصار من بني عمرو بن عوف قال: يا رسول الله؛ إنك رغبتنا في السواك فهل دون ذلك من شيء؟ قال: "إصبعاك سواك عند وضوئك تمرهما على أسنانك، إنه لا عمل لمن لا نيّة له ولا أجر لمن لا حُسْبةَ له " [172] الحديث رجاله ثقات إلا أن الراوي له عن أنس بعض أهله غير مسمى وقد ورد في بعض طرقه بأنه النضر بن أنس وهو ثقة. ولفظه: "تجزئ من السواك الأصابع " [173] .
وفيه عيسى بن شعيب البصري. قال فيه عمرو بن علي الفلاّس:"إنه صدوق "وقال ابن حبان:"كان ممن يخطئ حتى فحش خطؤه فاستحق الترك "وله عند البيهقي طريق آخر غير طريق عيسى بن شعيب؛ في إسنادها: إسماعيل بن أبي نصر الصابوني عن محمد الحسن بن محمد المخلدي عن محمد بن حمدون بن خالد عن أبي أمية الطرسوسي، عن عبد الله بن عمر الحمال، عن عبد الله بن المثنى عن ثمامة عن أنس، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الإصبع تجزئ من السواك " [174] . وفيه عبد الله بن المثنى. قال الحافظ فيه:"صدوق كثير الغلط " [175] .
وقد جزم النووي بصحة إجزاء الإصبع الخشنة في الإستياك سواء كانت إصبع نفسه أو إصبع غيره موافقاً بذلك كثيراً من الفقهاء [176] . ومخالفاً للصحيح المشهور عند الشافعية بعدم صحة إجزاء إستياك الإنسان بإصبع نفسه [177] .
وعند الحنابلة رأيان في الإستياك بالإصبع والخرقة؛ قيل لا يصيب السنة لأن الشرع لم يرد به ولا يحصل الإنقاء به حصوله بالعود. قال صاحب المغني:- بعد ذكر ما تقدم:" والصحيح أنه يصيب بقدر ما يحصل من الإنقاء ولا يترك القليل من السنة للعجز عن تحصيل كثيرها والله أعلم " [178] .(17/291)
وإني لأعجب من موقف الشافعية، إذ يفرقون بين الإستياك بإصبع الغير وإصبع الشخص نفسه فيجيزون الإستياك بإصبع الغير ويمنعون أن يستاك الإنسان بإصبع نفسه؟ والحق أن المدار على الإنقاء وإزالة الرائحة من الفم فإن كان الإصبع خشناً قادراً على ذلك أجزأ الإستياك به وإن كان لا يستطيع ذلك فلا، والله أعلم.
قال ابن عبد البر:"ما جلا الأسنان ولم يؤذها ولا كان من زينة النساء فجائز لاستنان به " [179] .
أفضل ما يستاك به:
يرى أكثر العلماء أفضلية الإستياك بعود الأراك، وهو شجر طيب الرائحة ثم بعده، جريد النخل، ثم عود الزيتون، ثم ما له رائحة ذكية، ثم غيره من العيدان مما لم ينه عنه [180] .
وقال البعض بأفضلية الإستياك بعود الزيتون وقالوا: هو أفضل من عود الأراك؛ لأنه يطيب الفم [181] .
وقد أخرج الطبراني من حديث أبي خبرة الصباحي وله صحبة فذكر حديثاً قال فيه؛"ثم أمر لنا يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأراك فقال: "استاكوا بهذا ".
وروى الحاكم في المستدرك من حديث عائشة في دخول أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر في مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه سواك من أراك فأخذته عائشة رضي الله عنها فطيبته تم أعطته رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستن به. وقال العراقي- بعد ذكره لهذا الحديث، والحديث الذي قبله - الحديث أي حديث عائشة في الصحيح وليس فيه ذكر الأراك وفي بعض طرقه عند االبخاري؛ ومعه سواك من جريد النخل. ثم قال.. وروى أحمد في مسنده من حديث ابن مسعود "أنه يحتبي سواكاً من الأراك " [182] .
ما لا يستاك به:
ويستحب ألاّ يستاك بعود ليّن لا يقلع القلحة ولا يزيل الرائحة، ولا بعود يابس يجرح اللثة بل يستاك بعود وسط بين الليونة واليبوسة ويمكن معالجة اليابس بوضعه في الماء بعض الوقت.(17/292)
وقد حكى عن ابن عبد البر: كراهة الإستياك بالريحان والقصب لأنهما يسببان بعض الأمراض [183] .
وفي المغني: كراهة الإستياك بعود الريحان والآس والأعواد الزكية لما روى عن قبيصة بن ذؤيب؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تتحللوا بعود الريحان ولا الرمان فإنهما يحركان عرق الجذام " رواه محمد بن الحسين الأزدي الحافظ بإسناده، وقيل السواك يضر بلحم الفم [184] .
وأضاف بعض العلماء كراهة الإستياك بأعواد التبن والقصب والأشنان- أحد المواد المنظفة- والحلفة وكل ما جهل أصله من الأعواد وقد نظم بعض أهل العلم في ذلك بيتين من الرجز تسهيلاً للحفظ حيث قال:
تجنب من الأشياء سبعاً فلا تكن
بها أبداً تستاك تنجو من العطب
بحلفة أو رمّان أو ما جهلته
وريحان أو أشنان أو تبن أو قصب [185]
وحكى ابن عبد البر عن بعض أهل العلم كراهة السواك بشيء يغير الفم ويصبغه بأي لون لما فيه من التشبه بزينة النساء [186] .
كيفية الإستياك:
استحب العلماء: أن يبدأ المسلم الإستياك من الجانب الأيمن من فمه لما ثبت من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم للتيامن في كل شيء. وأن يكون الإستياك عرضاً في الأسنان حتى لا يدمي لحم لثة وقد وردت بعض الآثار في جعل الإستياك عرضاً في الأسنان منها ما رواه البيهقي في سننه عن ربيعة بن أكثم قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك عرضاً ويشرب مصّاً ويقول: "هو أهنأ وأمرأ " [187] .
قال العراقي: إن ربيعة بن أكثم استشهد بخيبر، فعلى هذا يكون الحديث منقطعاً؛ لأنه من رواية ابن المسيب عنه [188] .
كما روى أبو داود في المراسيل وذكره البيهقي عن عطاء بن أبي رباح قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا شربتم فاشربوا مصّاً وإذا استكتم فاستاكوا عرضاً " [189] .(17/293)
وعند أبي نعيم من كتاب له في السواك عن عائشة رضي الله عنها قالت:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يستاك عرضاً ولا يستاك طولاً " قال العراقي إسناده ضعيف [190] إلى غير ذلك من الأحاديث التي لم يخل أحدها من مقال ولكن يستأنس بها مع الفوائد المترتبة على الإستياك عرضاً؛ للقول بأفضليته.
وأن يكون الإستياك طولاً في اللسان لما جاء في البخاري ومسلم وأبي داود واللفظ له؛ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:"أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نستحمله فرأيته يستاك على لسانه". وقال سليمان، قال:"دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يستاك وقد وضع السواك على طرف لسانه وهو يقول: "إه إه " [191] وإه: بهمزه مكسورة بعدها هاء ساكنة وفي رواية البخاري: "يقول أعْ أعْ والسواك في فيه كأنه يتهوع " [192] أي كأنه يتقيأ. وعند ابن خزيمة:"عا عا " وفي صحيح الجوزي "إح إح " بكسر الهمز وبالحاء المهملة. وفي مسند أحمد:"واضع طرف السواك على لسانه يستن إلى فوق " ووصفه غيلان بأنه يستن طولاً. وكل هذه الروايات؛ تفيد أنه صلى الله عليه وسلم كان يبلغ بالسواك إلى أقصى الحلق. وإنما اختلف الرواة في حكاية الصوت الذي كان يخرج من فمه صلى الله عليه وسلم حينما كان يستاك لتقارب مخارج هذه الأحرف [193] .
وقد حكى النووي عن بعض أهل العلم كيفية الإستياك؛ قال:"يستحب أن يستاك عرضاً في ظاهر الأسنان وباطنها ويمر السواك على أطراف أسنانه وكراسي أضراسه ويمره على سقف حلقه إمراراً خفيفاً ".
قال:"وأما جلاء الأسنان بالحديد وبردها بالمبرد فمكروه لأنه يضعف الأسنان ويفضي إلى انكسارها، ولأنه يخشنها فتتراكم الصفرة عليها والله أعلم " [194] .(17/294)
ويستحب غسل السواك بعد الإستعمال لتطييبه وتنظيفه مما علق به من الفم لئلا ينفر الطبع منه بعد ذلك، ولما أخرجه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:"كان النبي صلى الله عليه وسلم يستاك فيعطيني السواك لأغسله، فأبدأ به فأستاك، ثم أغسله وأدفعه إليه " [195] والمراد بقول عائشة رضي الله عنها:"فأبدأ به "؛ أي باستعماله في فمي قبل الغسل لتصل بركة فم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليّ.
ولا بأس من استعمال السواك الواحد لأكثر من شخص لحديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستن وعنده رجلان أحدهما أكبر من الآخر فأوصى إليه في فضل السواك أن كبّر، أعط السواك أكبرهما " [196] قال صاحب العون في تفسير هذه العبارة: أي أوحى إليه أن فضل السواك وحقه أن يقدم من هو أكبر [197] ولعل المعنى المراد هو - والله أعلم - أن الله سبحانه وتعالى بعد أن أوصى إليه ما للسواك من فضل أعلمه بأن من أحكامه: أن يقدم الأكبر فالأكبر إذا اجتمع عدة أشخاص على الإستياك بسواك واحد.
ولا خلاف بين أهل العلم في أفضلية البداءة بالجانب الأيمن من الفم ولكنه قد اختلف هل يباشر المرء الإستياك بيده اليمنى أو اليسرى؟ فنقل عن بعض أهل العلم من متأخري الحنابلة: أن الإستياك يكون باليد اليمنى: لأنه ورد في بعض طرق حديث عائشة المشهور؛ "كان يعجبه التيمن في ترجله وتنعله وتطهره وسواكه " [198] ولأن السواك من باب التطيب وهو يكون باليد اليمنى. وقد نص صاحب المغني على استحباب التيامن في الإستياك. ولكنه لم يفصل مراده منه؛ هل التيامن المستحب هو البداءة بالجانب الأيمن من الفم أو الإستياك باليد اليمنى [199] .(17/295)
وقال بعض الشافعية: الظاهر أنه يكون باليد اليسرى لأنه من باب إزالة الأذى كالإمتخاط ونحوه وقوى هذا الفريق رأيه هذا بما نقل عن أبي العباس القرطبي من المالكية حيث قال في المفهم:" حكاية عن مالك أنه لا يتسوك في المساجد لأنه من باب إزالة القذر والله أعلم ". وقد أجابوا عن استدلال الفريق الأول: بأن المراد منه: البداءة بالشق الأيمن في الترجل والبداءة بلبس النعل والبداءة بالأعضاء اليمنى في التطهر، والبداءة بالجانب الأيمن من الفم في الإستياك [200] .
وبهد أن تبين لنا أن كلا الرأيين يخلو من دليل قوي، وأنه من الناحية العملية: نجد أنه من العسير حمل فائدة السواك على أحد الأمرين: التطيب، أو إزالة القذر بصفة قاطعة؛ لأنه يقوم بالأمرين معاً وإن كان إلى الثاني أقرب. كما أن قيام اليدين بتسويك جانب الفم والأسنان، ظاهراً وباطناً. أمر شاق إن لم يكن متعذراً لذلك ينبغي أن يستاك بما يستطيعه سواء باليد اليمنى أو اليسرى أو هما معاً.
لا بأس من الإستياك أمام الناس:
نقل عن القاضي عياض بأن ذا المروءة لا ينبغي له فعل السواك أمام الناس [201] . وهذا محمول على أنه من باب إزالة القذر وربما كان هذا الرأي مستنداً إلى ما تقدم نقله عن الإمام مالك من عدم الإستياك بالمساجد ... وقد رد ابن دقيق العيد هذا القول بأمرين:
الأول: ما ورد من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال:"أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يستاك وطرف السواك على لسانه يقول:"أعْ أعْ "والسواك في فيه كأنه يتهوع. وقال: إن بعضهم ترجم على هذا الحديث باستياك الإمام بحضرة رعيته ".
الثاني: أن السواك من باب العبادات والقرب فلا يطلب إخفاؤه. والله أعلم [202] .
وقد أجيب عن هذين الأمرين بما يلي:(17/296)
بالنسبة للأمر الأول: فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبدأ الإستياك بحضرة أبي موسى بل كان متلبساً به قبل مجيئه. كما أن أبا موسى واحد لا جماعة وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم يستشفى بجميع فضلاته فلا يستقذر ذلك منه بخلاف غيره [203] .
أما بخصوص ترجمة النسائي للحديث بقوله: (هل يستاك الإمام بحضرة رعيته) فقد قال العلامة السندي- تعليقاً على هذه الترجمة - إنها تشير إلى أن الإستياك بحضرة الغير ينبغي أن يكون مخصوصاً بما لا يكون ذلك مستقذراً منه لكونه إماماً ونحوه. والله تعالى أعلم [204] اهـ.
وأما بالنسبة للأمر الثاني فقد أجيب عنه بأن كونه من باب العبادات والقرب لا يدل على فعله بحضرة الناس؛ ألا ترى أن الإستبراء واجب ونتف الإبط مندوب ومع ذلك ينبغي إخفاؤهما [205] وأرى أنه لا بأس من الإستياك بحضرة الناس لثبوت استياكه صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى أمام الناس. ولم يكن أبا موسى وحده بل كان معه غيره فقد جاء عن النسائي: عن أبي موسى قال أقبلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم معي رجلان من الأشعريين، أحدهما عن يميني والآخر عن يساري ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك.." الحديث [206] .
كما ثبت ذلك عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاء في سنن الترمذي: كان زيد ابن خالد يشهد الصلوات في المسجد وسواكه على أذنه "موضع القلم من أذن الكاتب لا يقوم إلى الصلاة إلا استنّ ثم ردّه إلى موضعه " [207] .
وثالثاً لم يرد نهي عن الرسول عليه الصلاة والسلام لأحد من الصحابة عن الإستياك بالمسجد أمام الناس بالرغم من كثرة المستعملين له وإدامتهم عليه. والله أعلم.
فوائد السواك:(17/297)
الأصل في هذا الباب حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" السواك مِطْهَرةٌ للفم مَرضاة للرب " [208] . . قال النووي: حديث صحيح رواه أبو بكر محمد بن إسحاق ابن خزيمة إمام الأئمة في صحيحه والنسائي والبيهقي في سنتهما وآخرون بأسانيد صحيحة، وذكرهم البخاري في صحيحه في باب الصيام - تعليقاً- بصيغة لجزم [209] .
وقد نقل العراقي ما رواه البيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"عليك بالسواك فإنه مطهرة للفم مرضاة للرب، مفرحة للملائكة، يزيد في الحسنات " وهو من السنة يجلو البصر ويذهب الحضرة ويشد اللثة. ويذهب البلغم ويطيب الفم. وزاد البيهقي في رواية أخرى "ويصح المعدة " وفي بعض طرقه عند غير البيهقي "ويزيد في الفصاحة " قال البيهقي: تفرد به خليل ابن مرة وليس بالقوى. وقد قال فيه أبو زرعة:"شيخ صالح.."وقال ابن عدي:"يكتب حديثه " [210] وقد نظم الحافظ بن حجر قصيدة في بيان فضائل السواك ذكر فيها نحواً من ثلاث وثلاثين فائدة، دينية وصحية واجتماعية من فوائد السواك من شاء فليرجع إليها [211] .
حكم الإستياك:
ذهب بعض الفقهاء إلى وجوب السواك ونقل هذا عن داود الظاهري وإسحاق بن راهويه. كما نقل أيضاً عن داود؛ أنه يقول بوجوبه مع عدم بطلان الصلاة بتركه. أما ما نقل عن إسحاق؛ فإنه يذهب إلى بطلان الصلاة لو ترك عمداً [212] وقد استدل لهما بما أخرجه أبو داود بسنده إلى عبد الله بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال:"أرأيت توضِئَ (تَوضُّؤَ) ابن عمر لكل صلاة طاهر أو غير طاهر عم ذاك؟ فقال: حدَّثنيه أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر حدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُمِرَ بالوضوء لكل صلاة طاهراً وغير طاهر فلما شق ذلك عليه، أُمِرَ بالسواك لكل صلاة " [213] .(17/298)
وجه الدلالة في الحديث قوله:"أمر بالسواك لكل صلاة ". والأمر يقتضي الوجوب والأمر له أمر لأمته حتى يقوم الدليل على التخصص.
وأيضاً است دل لهما: بالأحاديث التي جاءت في السواك بصيغة الأمر كحديث أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"تسوكوا فإن السواك مطهرة للفم.. الحديث" [214] .
وكذلك بما رواه البزار في مسنده من حديث العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"تدخلون عليّ قلحاً استاكوا " ورواه أحمد في مسنده من حديث تمام بن العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما لي أراكم تأتوني قلحاً استاكوا " وما رواه البيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عباس مرفوعاً:" عليك بالسواك فإنه مطهرة للفم.. الحديث " [215] .
ويجاب عن حديث ابن أبي عامر بأنه قد تكلم فيه بأن في إسناده محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن وبأنه على فرض صحته فإنه يفيد الوجوب في حقه صلى الله عليه وسلم دون أمته - وإن كان هذا محل نظر سنعرض له قريباً.
أما الإستدلال بالأحاديث الأخرى التي جاءت بصيغة الأمر فقد قال: العراقي:"لم يصح منها شيء "أما حديث أبي أمامة ففيه علي بن زيد الألهاني وهو ضعيف جداً، وأما حديث أبي العباس وحديث تمام ففيهما أبو علي الصقلي وهو مجهول. وأما حديث ابن عباس فتفرد به الخليل بن مرة وهو منكر الحديث وقد سبق ما قيل فيه قريباً.
والمعتمد عند المالكية والحنفية أنه مندوب عند كل وضوء أما الشافعية والحنابلة وعدد من كبار المالكية بأنه سنة وقد صرح الشافعية والحنابلة بأنه سنة عند كل صلاة.
وقد علل الحنفية عدم القول بالنسبة عند كل وضوء: بأنه ليس هناك ما يدل على مواظبته صلى الله عليه وسلم عند كل وضوء. ثم ذكروا الأحاديث الواردة في ذلك وقالوا: غاية ما تفيده الندب فقط [216] .(17/299)
أما المالكية: فقد عللوا ذلك بما جاء في حديث "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " وفي بعض الروايات "عند كل وضوء " وبما أن الأمر المنفي في الحديث؛ هو الأمر المقتضي للوجوب لا غير، فبقي الأمر المفيد للندب. إذ هو لا مشقة فيه. أو كما قال الباجي: فالمراد هنا - أي المنفي -:الوجوب واللزوم دون الندب فقد ندب صلى الله عليه وسلم إلى السواك وليس في الندب إليه مشقة لأنه إعلام بفضيلته واستدعاء لفضله لما فيه من جزيل الثواب [217] .
أما الشافعية والحنابلة: فقد استدلوا على القول بالسنة، بحثه صلى الله عليه وسلم ومواظبته عليه وترغيبه فيه وندبه إليه وتسميته إياه بالفطرة [218] .
والواقع أنه ليس هناك فرق كبير بين القولين: بالسنية والندبة - إذ يعرّف كل من السنة والمندوب عند الفقهاء: بأنه ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه. غاية ما في الأمر أن البعض يشترط لإطلاق الحكم بالنسبة حصول المواظبة عليه من النبي صلى الله عليه وسلم والبعض الآخر لا يشترط ذلك بل يكفي عنده حصول الفعل منه صلى الله عليه وسلم ولو مرة أو صدور الأمر به لا على سبيل الحتم والإلزام، بل على سبيل الترغيب والإرشاد.
وعلى أية حال: فإن التفرقة بين الأمرين، من اصطلاحات الفقهاء، وكما قيل: لا مشاحة في الإصطلاح لكن ما ينبغي التعويل عليه. أن جميع الفقهاء بما فيهم ابن حزم [219]- ما عدا ما نقل عن داود وإسحاق - متفقون على أن السواك ليس بواجب. والعمدة في الإستدلال على ذلك؛ بالحديث المخرج في الصحيحين؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لولا أن أشق على المؤمنين - وفي حديث زهير: على أمتي - لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " [220] .(17/300)
وفي الموطأ من حديث ابن شهاب الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة: " لولا أن يشق على أمته لأمرهم بالسواك مع كل وضوء " [221] كما أخرج البخاري رواية "مع كل وضوء" تعليقاً. وأسندها ابن خزيمة في صحيحه والحاكم وصححها.
وبما أن "لولا "حرف امتناع لوجود؛ أي لولا وجود المشقة من وجوب استعمال السواك عند كل صلاة أو عند كل وضوء؛ لحصل الأمر بذلك، وبما أن المشقة حاصلة فقد امتنع الأمر المقتضى للوجوب وبقي حال السواك على ما كان عليه من الندب إليه والحث والترغيب فيه.
وقد استند علماء الحنابلة والشافعية ومعهم ابن حزم على الرواية الأولى التي جاءت بلفظ "عند كل صلاة " في قولهم بمشروعية السواك عند كل صلاة. كما اعتمد المالكية والحنفية وبعض الشافعية على الرواية الثانية التي جاءت بلفظ " مع كل وضوء " في القول؛ بأن السواك مشروع عند كل وضوء وقد تأول بعض علماء الفريق الثاني الحديث الأول، وقالوا: إنه على تقدير عند وضوء كل صلاة.
وقد أكثر الفريقان من إيراد الحجج المؤيدة لدعوى كل منهما ودفع الإعتراضات الواردة عليها. إلا أنه يمكن القول بأن الإستياك عند كل صلاة وإن كان أقوى سنداً لذكر دليله في الصحيحين وغيرهما فإن القول الثاني أنسب عملاً؛ لما علمنا أن السواك يندب غسله قبل الإستعمال أو بعده وقد قالت عائشة رضي الله عنها:"كنا نعدُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة آنية مخمرة من الليل؛ إناء لطهوره وإناء لسواكه وإناء لشرابه "رواه ابن ماجه [222] وهذا لا يتوافر غالباً في موطن الصلاة.
كما سبقت الإشارة إلى أن بعض العلماء قد كره الإستياك في المسجد بدعوى أن الإستياك من باب إزالة القذر والمساجد منزهة عن ذلك.(17/301)
وقد حاول بعض علماء الفريق الأول إيجاد مخرج لذلك حيث قالوا: وهذا - أي فعله عند كل صلاة - لا يقتضي ألاّ يعمل إلا في المسجد حتى يتمشى هذا التعليل، بل يجوز أن يستاك ثم يدخل المسجد للصلاة وقد روى الطبراني في معجمه عن صالح بن أبي صالح عن زيد بن خالد الجهني قال:"ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من بيته لشيء من الصلوات حتى يستاك. ومن كان في المسجد وأراد أن يصلي جاز أن يخرج من المسجد ثم يستاك ثم يدخل ويصلي ". ثم ذكر هذا البعض أيضاً:"أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يروحون إلى المسجد والسُوك خلف آذانهم " [223] .
بذلك كله نقول: بأنه يستحب الإستياك عند كل من الوضوء والصلاة إذا كان هناك فارق في الزمن بينهما. أما لو كانت الصلاة عقب الوضوء فالسواك عند المضمضة في الوضوء كاف عند إعادته مرة أخرى مع الصلاة لأنه يطلق عليه حينئذ أنه تسوك عند الصلاة أو مع الصلاة والله أعلم.
الحكمة من مشروعية السواك عند الصلاة:
ذكر الحافظ العراقي أنه قد ورد مرفوعاً عند البزار في مسنده من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن العبد إذا تسوك ثم قام يصلي قام الملك خلفه يتسمع لقراءته فيدنو منه أو كلمة نحوها – حتى يضع فاه على فيه فما يخرج من فيه شيء إلا صار في جوف الملك فطهروا أفواهكم للقرآن " ثم قال: رجاله رجال الصحيح إلاّ أن فيه فضيل بن سليمان النميري وهو وإن أخرج له البخاري ووثقه ابن حبان؛ فقد ضعفه الجمهور، وآخر الحديث عند ابن ماجه، من قول علي - إن أفواهكم طرق للقرآن فطيبوها بالسواك، وفيه بحر بن كثير السقا؛ ضعيف جداً وقد رفعه أبو نعيم في الحلية من هذا الوجه [224] .(17/302)
أقول قد ذكره البيهقي في السنن الكبرى، عن أبي عبد الرحمن السلمي موقوفاً على عليّ رضي الله عنه بلفظ:"أمرنا بالسواك " وقال:"إن العبد إذا قام يصلي أتاه الملك فقام خلفه يسمع القرآن ويدنو فلا يزال يستمع ويدنو، حتى يضع فاه على فيه فلا يقرأ آية إلا كانت في جوف الملك " [225] زاد صاحب كنز العمال بعد هذا: "فطيبوا ما هنالك " [226] .
وذكر صاحب التحفة - نقلاً عن المنذري في الترغيب - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لأن أصلي ركعتين بسواك أحب إليّ من أن أصلي سبعين ركعة بغير سواك " رواه أبو نعيم في كتاب السواك بإسناد جيد [227] .
كما روى عن جابر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ركعتان بالسواك أفضل من سبعين ركعة بغير سواك " رواه أبو نعيم أيضاً بإسناد صحيح [228] .
وقد ذكر البيهقي في السنن عدداً من الأحاديث بهذا المعنى عن عائشة رضي الله عنها ولم يخل واحد منها من مقال في إسناده [229] .
مدى مشروعية السواك في حقه صلى الله عليه وسلم:
ذهب بعض أهل العلم إلى أن السواك كان واجباً في حقه صلى الله عليه وسلم واستدل بذلك بما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء.. الحديث وقد تقدم. وفيه "أمر بالسواك لكل صلاة " قال العراقي: في إسناده محمد بن إسحاق وقد رواه بالعنعنة وهو مدلس. فلا يصلح للإحتجاج به [230] .
وقد دلّ على نفي الوجوب في حقه صلى الله عليه وسلم ما رواه أحمد في مسنده من حديث واثلة ابن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب عليّ " قال العراقي: وإسناده حسن. ومعلوم أن الخصائص لا تثبت إلا بدليل صحيح [231] .
الأوقات التي تتأكد فيها مشروعية السواك:(17/303)
مشروعية السواك عامة؛ بمعنى أنه يستحب فعله في كل وقت تظهر الحاجة فيه إليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب " الحديث. والأحاديث الأخرى التي وردت في الأمر به والحث عليه بصيغة عامة. إلا أنه يتأكد استحبابه في عدة أوقات من أهمها ما يلي:
أ- مشروعيته عند الوضوء وعند الصلاة وقد تقدم بيان ذلك.
ب- عند قراءة القرآن. نظراً لأن الفم طريق للقرآن فينبغي أن ينظف مما به من قذر أو كراهية رائحة كما أنه يقطع البلغم ويزيد في الفصاحة ويساعد على النطق الصحيح للحروف. ويشهد بذلك الحديث السابق: "السواك مطهرة للفهم.. الحديث" [232] .
جـ- عند دخول المنزل لأنه سيتعامل مع أهله ويقترب منهم وربما تأذوا من رائحة فمه وقد أخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل بيته بدأ بالسواك " [233] . ولأبي داود بلفظ "قلت لعائشة: بأي شيء كان يبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك " [234] .
د- عند الإستيقاظ من النوم سواء كان ذلك بالليل أم بالنهار؛ نظراً لما يطرأ على الفم من التغير في المدة التي يكون فيها الشخص نائماً بسبب ما يتصاعد من الأمعاء من الأبخرة وبقايا الفضلات المترسبة بين الأسنان. ويتأكد السواك إذا كان القيام بالليل للتهجد لحديث حذيفة عند مسلم قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام ليتهجد يشوص فاه بالسواك"وفي رواية أخرى له:"كان إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك " [235] .
ولأبي داود من حديث عائشة رضي الله عنها:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرقد من ليل أو نهار فيستيقظ إلا يتسوك قبل أن يتوضأ " [236] .
وقد سكت عنه أبو داود. وقال المنذري: في إسناده علي بن زيد بن جدعان ولا يحتج به. ولكن هذا من فضائل الأعمال التي جوز العلماء العمل فيها بالحديث الضعيف.(17/304)
هـ - عند الإنصراف من صلاة الليل. لما رواه ابن ماجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بإسناد صحيح قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بالليل ركعتين ركعتين ثم ينصرف فيستاك " [237] .
أقول: ربما كان هذا عند إرادته النوم بعد الصلاة لأن كثرة القراءة والحديث تغير رائحة الفم، فإذا أراد أن ينام أحب أن يطهر الفم من الرائحة المتغيرة ومما تجمع على الأسنان من اصفرار أو تغير أو غير ذلك ويشهد لذلك حديث ابن عباس عند أبي داود ومسلم والنسائي. واللفظ لأبي داود قال:"بت ليلة عند النبي صلى الله عليه وسلم فلما استيقظ من منامه أتى طهوره فأخذ سواكه فاستاك ثم تلا هذه الآيات {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [238] حتى قارب أن يختم السورة أو ختمها ثم توضأ فأتى مصلاه وصلى ركعتين ثم رجع إلى فراشه فنام ثم استيقظ ففعل مثل ذلك كل ذلك يستاك ويلي ركعتين ثم أوتر " [239] .
وقد جاء ذلك صريحاً في حديث جابر عند ابن عدي في الكامل:"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستاك إذا أخذ مضجعه "قال العراقي - بعد ذكره لهذا الحديث - في إسناده؛ حرام بن عثمان وهو متروك [240] .
وبالجملة فإن السواك يتأكد عند تغير في رائحة الفم أو تلون الأسنان بالإصفرار. فإذا شعر المرء بتغير في لون أسنانه أو رائحة فمه فإنه يستحب له الإستياك وقد ذكر العلماء عدداً من الحالات التي يكثر فيها التغير المذكور منها؛ الأكل، وعدم الأكل لمدة طويلة وبعد شراب حلو. وبعد كثرة قراءة أو حديث وعدم الكلام لمدة طويلة وقد استحب بعضهم بين كل ركعتين من صلاة الليل، ويوم الجمعة، وقبل النوم وبعد الوتر، وعند الأكل، وعند الإستيقاظ من النوم، وقد وردت أكثر هذه الحالات في السنة وقد أشرنا إلى بعضها فيما تقدم [241] والله أعلم.
مدى مشروعية السواك للصائم:(17/305)
قال جمهور أهل العلم بمشروعية السواك لكل صلاة، أو عند كل وضوء حسبما بينا سابقاً سواءً كان المرء مفطراً أو صائماً.
والمشهور من مذهب الشافعية: أنه يكره للصائم الإستياك من بعد الزوال إلى غروب الشمس وقال الحنابلة بنفي استحبابه للصائم من بعد الزوال إلى غروب الشمس كذلك. وهل يكره عندهم؛ فيه روايتان بالكراهة وعدمها، كما نفى استحبابه للصائم بعد الزوال كل من إسحاق وأبي ثور.
وقد استدل الجمهور أولاً: بعموم الأحاديث الصحيحة الواردة في الحث على السواك عند كل صلاة، وعند كل وضوء، وكلما دخل بيته.. إلى غير ذلك.
وثانياً: بقوله صلى الله عليه وسلم - عند ابن ماجه - "من خير خصال الصائم السواك "، وبما قاله عامر بن ربيعة:"رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يتسوك وهو صائم "، قال الترمذي عنه: هذا حديث حسن [242] .
وثالثاً: نقل هذا القول عن عدد من الصحابة والتابعين منهم: عمر وعائشة وابن عباس وعروة وابن سيرين والنخعي [243] .
أما الفريق الآخر فقد استدل أولاً بحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " قال الترمذي: هذا حديث حسن [244] وإزالة المستطاب مكروه كدم الشهيد وشعث الإحرام [245] .
وثانياً: بما نقل عن عمر رضي الله عنه من قوله:"يستاك ما بينه وبين الظهر ولا يستاك بعد ذلك"، ونقل هذا القول أيضاً عن عطاء ومجاهد [246] وللفريقين أدلة أخرى غير ما ذكرناه ولكنها ضعيفة.
والمختار هو مشروعية السواك للصائم والمفطر أول النهار وآخره لأن بعض أدلتهم نص في الموضوع بخلاف حديث أبي هريرة فإنه ليس نصاً فيه بل غاية ما يفيده استحباب عدم تغير رائحة فم الصائم المستطابة عند الله تعالى. والواقع أن رائحة المنبعثة من فم الصائم لا يزيلها السواك؛ لأنها ناتجة عن خلو المعدة وعمل السواك مقصور على إزالة الرائحة الطارئة على الفم.(17/306)
وقد نقل صاحب التحفة ما رواه الطبراني عن عبد الرحمن بن غنم قال:"سألت معاذ بن جبل: أتسوك وأنا صائم؟ قال: نعم. قلت: أي النهار أتسوك؟ قال: أي النهار شئت غدوة وعشية. قلت: إن الناس يكرهون عشية ويقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك "؟ فقال سبحان الله. لقد أمرهم بالسواك وهو يعلم أنه لا بد بقي للصائم خلوف وإن استاك. وما خار [247] الذي يأمرهم أن ينتنوا أفواههم عمداً، ما في ذلك من الخير شيء بل فيه شرّ إلا من ابتلى ببلاء منه بداً انتهى.."ثم نقل عن الحافظ في التلخيص الحبير: أن إسناد هذا الأثر جيد [248] .
الخصلة الخامسة من خصال الفطرة: المضمضة:
المضمضة: إدخال الماء في الفم وإدارته فيه وطرحه. وقد أكثر الفقهاء: إن سنة المضمضة تتحقق بمجرد إدخال الماء في الفم أما إدارة الماء في الفم فهي سنة المبالغة في المضمضة وعلى هذا يكون المراد من المضمضة - إذا أطلقت في الوضوء - أمرين: إدخال الماء في الفم، ومجه فيه. وقال البعض: إن المضمضة هي إدخال الماء في الفم ومجه ولا تتحقق المضمضة إلا بذلك وعلى أي حال فالخلاف لفظي بين الفريقين [249] .
حكم المضمضة:
يرى الحنابلة: أن المضمضة واجبة لأنها تابعة للوجه وغسل الوجه واجب وذلك في الوضوء والغسل. وحكى هذا القول عن ابن المبارك وابن أبي ليلى وإسحاق.
وقال مالك والشافعي:"المضمضة سنة في كل من الوضوء والغسل "وروى هذا عن الحسن والحكم وحماد وقتادة وهناك رواية عن أحمد بن حنبل بأن المضمضة سنة في الوضوء واجبة في الغسل.
وقال الحنفية والثوري:" المضمضة سنة في الوضوء واجبة في الغسل " [250] وقد استدل من ذلك قال بسنية المضمضة بعدد من الأدلة من أهمها ما يلي:(17/307)
1- ثبوت مواظبته صلى الله عليه وسلم عليها برواية اثنين وعشرين صحابياً وقد عدد صاحب فتح القدير أسماء الصحابة الذين رووا هذه الأحاديث والكتب التي أخرجتها [251] .
2- قال تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية [252] والوجه عند العرب ما حصلت به المواجهة، وداخل الفم عضو باطن لأنه لم تحصل به المواجهة.
3- كما احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: "توضأ كما أمرك الله ". وموضع الدلالة أن الذي أمر الله به غسل الوجه - وهو ما حصلت به المواجهة دون باطن الفم كما أشرنا لذلك فيما سبق.
قال النووي:"هذا الدليل - مشيراً إلى هذا الحديث - من أحسن الأدلة.. لأن هذا الأعرابي صلى ثلاث مرات فلم يحسنها فعلم النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ أنه لا يعرف الصلاة التي تفعل بحضرة الناس وتشاهد أعمالها. فعلّمه واجباتها وواجبات الوضوء؛ فقال له:"توضأ كما أمرك الله " ولم يذكر سنن الصلاة والوضوء لئلا يكثر عليه فلا يضبطها، فلو كانت المضمضة واجبة لأعلمه بها فإنه مما يخفى، لاسيما في حق هذا الرجل الذي خفيت عليه الصلاة التي تشاهد فكيف الوضوء الذي يخفى [253] .
أما الحنابلة ومن معهم فقد احتجوا على وجوب المضمضة بعدد من الأدلة أهمها ما يلي:
1- إن الفم من الوجه والوجه غسله واجب [254] .
وقد نوقش هذا الإستدلال: بأن الفم وإن كان جزءاً من الوجه إلا أنه جزء باطن منفصل عنه بدليل أن له عبادة مستقلة وهي المضمضة ولم يشترك مع الوجه في آداب العبادة الخاصة به.
2- كما احتجوا أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم المضمضة والإستنشاق من الوضوء الذي لا بد منه من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها وأخرجه الدارقطني في سننه [255] .
والوجه الثاني: إنه لو صح فإنه يحمل على كمال الوضوء [256] للجمع بين الأدلة.(17/308)
3- كل من وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر فيه المضمضة ومداومته صلى الله عليه وسلم عليها دليل على وجوبها لأن فعله يصلح أن يكون بياناً وتفصيلاً للوضوء المأمور به في كتاب الله تعالى [257] .
ونوقش هذا الإستدلال بأن مجرد المواظبة لا تصلح دليلاً على الوجوب إلا إذا حفّت بها قرائن تفيد أن هذا الفعل مطلوب على سبيل الحتم والإلزام وقد واظب صلى الله عليه وسلم على غسل الكفين في ابتداء الوضوء ولم يقل أحد إن غسلهما واجب [258] .
كما احتج للحنفية ومن معهم على وجوب المضمضة في الغسل دون الوضوء بعدد من الأدلة من أهمها ما يلي:
1- حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " تحت كل شعرة جنابة؛ فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة " وبما أن للفم بشرة فيجب غسله [259] .
وقد أجيب عن هذا الإستدلال: أولاً: بأن هذا الحديث ضعيف لأنه من رواية الحارث بن وجيه وهو ضعيف منكر الحديث. ويجاب عنه ثانياً: بما قاله الخطابي:"من أن البشرة عند أهل اللغة ظاهر الجلد.. وداخل الفم ليس من البشرة كما يجاب "ثالثاً: بأنه على فرض صحته، فإنه يحمل على الإستحباب جمعاً بين الأدلة [260] .
2- كما احتج لهم أيضاً بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه جعل المضمضة والإستنشاق ثلاثاً للجنب فريضة " [261] .
وقد أجيب عنه: بأنه ضعيف وعلى فرض صحته فإنه يحمل على الإستحباب جمعاً بين الأدلة.
3- كما احتج لهم ثالثاً: بحديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك موضع شعرة من الجنابة لم يغسلها فعل به كذا وكذا من النار "، قال علي رضي الله عنه: فمن ثم عاديت رأسي وكان يجز شعره ".. حديث حسن. رواه أبو داود وغيره بإسناد حسن [262] فترك جزء ولو يسير ولو كان بمقدار موضع شعرة استحق هذا الوعيد الشديد.(17/309)
وقد أجيب عنه بأنه محمول على الشعر الظاهر جمعاً بين الأدلة ويدل قول عليّ رضي الله عنه: "فمن ثم عاديت رأسي " [263] .
لذلك ترجح القول بأن المضمضة سنة مؤكدة في الوضوء والغسل.
ويستحب أخذ الماء للمضمضة باليد اليمنى لما جاء في حديث عثمان رضي الله عنه، في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنه أخذ الماء للمضمضة بيمينه "رواه البخاري ومسلم [264] .
الجمع بين المضمضة والإستنشاق:
ذهب عدد من أهل العلم إلى الجمع بين المضمضة والإستنشاق من كف واحدة وقالوا: إنه السنة وينبغي المصير إليه. واستندوا في ذلك إلى جملة من الأحاديث: من بينها ما يلي:
أ- حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل وجهه ثم أخذ غرفة من ماء فمضمض بها واستنشق " [265] .
ب- حديث عبد الله بن زيد:"رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مضمض واستنشق من كف واحد فعل ذلك ثلاثاً " [266] .
ونوقش هذا ال إستدلال: بأنه يحتمل أنه تمضمض واستنشق بكف واحد بماء واحد ويحتمل أنه فعل ذلك بكف واحدة بمياه. والمحتمل لا تقوم به حجة.
ويعقب على هذه المناقشة: بأن هذا الإحتمال قد يرد على حديث عبد الله بن زيد لكن يبعد وروده على حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وذهب فريق آخر إلى الفصل بين المضمضة والإستنشاق لأنه أبلغ في التنظيف. واستدل بعدد من الأحاديث من بينها ما يلي:
أ- حديث طلحة عن أبيه عن جده قال:" دخلت يعني على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ والماء يسيل من وجهه ولحيته على صدره. فرأيته يفصل بين المضمضة والإستنشاق ". أخرجه أبو داود وسكت عنه [267] .
وقد اختلف المحدثون في جد طلحة: هل كانت له صحبة أم لا. قال يحي ابن معين:"المحدثون يقولون قد رآه، وأهل بيت طلحة يقولون ليست له صحبة "، وأنكره يحي القطان وابن عيينة [268] .(17/310)
ب- ولأبي داود أيضاً عن طريق ابن أبي مليكة عن عثمان، أنه رآه دعا بماء بميْضأة فأصفاها على يده اليمنى ثم أدخلها في الماء فتمضمض ثلاثاً واستنثر ثلاثاً - الحديث - ثم قال:"أين السائلون عن الوضوء؟ هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ " [269] .
جـ- وللترمذي عن أبي حية قال:" رأيت علياً توضأ فغسل كفيه حتى أنقاهما ثم مضمض ثلاثاً واستنشق ثلاثاً.. وقال في نهايته: أحببت أن أريكم كيف كان طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال الترمذي:"هذا حديث حسن صحيح " [270] .
وقد نوقشت كل هذه الإستدلالات، بأنها وإن كانت قوية لكن أحاديث الجمع أقوى منها فهي أولى بالإتباع.
والواقع أن هذا الخلاف ليس وارداً في بيان الجواز؛ فالمضمضة والإستنشاق يصحان سواء بالجمع بينهما في كف واحدة بالفصل بينهما. ولكن الخلاف حاصل في الأفضلية.
واختار عدد من العلماء أن التعدد في الكيفية محمول على الخيار بين الأمرين قال البدر العيني: "الأحسن أن يقال: إن كل ما روى من ذلك، في هذا الباب محمول على الجواز " [271] وهو المختار.. والله أعلم.
ويسن تثليث المضمضة؛ لأن أكثر الأحاديث الواردة في وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت بالتثليث. وقد وردت قليلاً بمرّة أو مرتين لبيان الجواز. كما تستحب المضمضة بعد تناول أي شيء يترك أثراً في الفم لحديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب لبناً فدعا بماء فمضمض، وقال: "إن له دسماً " [272] .
الخصلتان السادسة والسابعة: الإستنشاق والإستنثار:
وقد ورد كل من الإستنشاق والإستنثار في كثير من الأحاديث التي حكت وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما جاء الأمر بها في عدد آخر:(17/311)
من ذلك في مسلم من حديث عبد الله بن زيد: "فمضمض واستنشق واستنثر من ثلاث غرفات" [273] . ومنها حديث أبي هريرة عند مسلم أيضاً: "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر" [274] .
معنى الإستنشاق والإستنثار لغة:
جاء في لسان العرب: يستنشق في وضوئه: أي يبلغ الماء خياشيمه وهو من استنشاق لريح إذا شممتها مع قوة وانتشق الماء في أنفه واستنشقه: صبّه فيه.
وأما الإستنثار: فقد حكى عن ابن الأعرابي:"أنه الإستنشاق ". وقال ابن الأثير:" نثر ينثر بالكسر: إذا امتخط. واستنثر: استفعل منه: أي استنشق الماء ثم استخرج ما في الأنف بالنفس " [275] .
وقد نقل العراقي عن ابن عبد البر قوله في التمهيد:"إن الإنتثار: دفع الماء بريح الأنف ثم قال: وقد روى ابن القيم وابن وهب عن مالك: قال: الإستنثار أن يجعل يده على أنفه ويستنثر. قيل لمالك: أيستنثر من غير أن يضع يده على أنفه؟ فأنكر ذلك وقال: إنما يفعل ذلك الحمار" [276] .
وإذا علم أن وضع اليد على الأنف في حالة الإنتثار مطلوب للمساعدة على كمال الفعل؛ فالأفضل أن تستعمل اليد اليسرى في ذلك. وقد جاء في الحديث الصحيح "كانت يده صلى الله عليه وسلم اليسرى لخلائه وما كان من أذى " [277] كما روى البيهقي بإسناده الصحيح عن عليّ رضي الله عنه في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ".. فأدخل يده في الإناء فملأ فمه فتمضمض واستنشق ونثر بيده اليسرى يفعل ذلك ثلاثا " [278] .
وقد ترجم النسائي لذلك فقال: بأي اليدين يستنثر؟ ثم ذكر حديث علي السابق مختصراً. وقال في آخره:"هذا طهور نبي الله صلى الله عليه وسلم " [279] .
أما الإستنشاق فيكون باليد اليمنى كالمضمضة؛ فقد جاء في حديث عثمان رصي الله عنه: ".. ثم أدخل يمينه في الوضوء فتمضمض واستنشق.. ثم قال في آخره: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا " [280] .(17/312)
حكم الإستنشاق والإستنثار:
الإستنشاق والإستنثار كل منهما سنة عند جمهور الفقهاء محتجين بنفس الأدلة السابقة لهم في المضمضة.
وذهب أحمد بن حنبل إلى أن الإستنشاق فرض في الوضوء والغسل للأحاديث الصحيحة الواردة فيهما بصيغة الأمر: من ذلك: حديث أبي هريرة عند البخاري: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه الماء ثم لينثر.." الحديث [281] .. وعند مسلم من حديث أبي هريرة: " إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخريه من الماء ثم لينتثر" [282] والأمر يقتضي الوجوب. هذا من جهة ومن جهة أخرى: فإن الأنف يستمر مفتوحاً وليس له غطاء يستره بخلاف الفم. لذلك كان القول بوجوب الإستنشاق والإستنثار دون المضمضة هذا على إحدى الروايتين عند الحنابلة أما الرواية الأخرى فهي على وجوب كل من المضمضة والإستنشاق والإستنثار. وقد تقدم الكلام على المضمضة [283] .
وذهب الظاهرية إلى أن الإستنشاق والإستنثار: فرضان في الوضوء وليسا كذلك في غسل الجنابة. وقد نسب ابن حزم هذا الرأي لأحمد بن حنبل. وليس كذلك، فمذهب أحمد - كما أسلفنا- يذهب إلى الوجوب في الوضوء والغسل. وقد اتفق مع أحمد بن حنبل في ذلك: أبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر وابن أبي ليلى وإسحاق [284] .(17/313)
وقد حكى ابن حزم الأمر بوجوب الإستنشاق والإستنثار عن جماعة من السلف: فروى عن علي بن أبي طالب قوله:"إذا توضأت فانتثر فأذهب ما في المنخرين من الخبث ". وعن شعبة:"قال حماد بن أبي سليمان فيمن نسي أن يمضمض أو يستنشق؟ قال: يستقبل ". وعن شعبة أيضاً عن الحكم بن عتيبة فيمن صلى وقد نسي أن يمضمض يستنشق؟ قال:"أحب إليّ أن يعيد - يعنى الصلاة- "وعن وكيع عن سفيان الثوري عن مجاهد:"الإستنشاق شطر الوضوء ". وروى عن حماد بن أبي سليمان وبن أبي ليلى قالا جميعاً:"إذا نسي المضمضة والإستنشاق في الوضوء أعاد "- يعنون الصلاة- وعن الزهري:"من نسي المضمضة والإستنشاق في الوضوء أعاد "- يعني الصلاة. ثم قال:"وشغب قوم: بأن الإستنشاق والإستنثار ليسا مذكورين في القرآن وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتم صلاة أحدكم حتى يتوضأ كما أمره الله تعالى؟.. "ثم رد على ذلك بقوله: وهذا لا حجة لهم فيه؛ لأن الله تعالى يقول: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} الآية [285] . فكلما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله تعالى أمر به " [286] .
وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري إلى أن الإستنشاق واجب في الطهارة الكبرى دون الصغرى.(17/314)
وقد تقدمت أدلة القائلين بالوجوب كما تقدمت مناقشتها. ويمكن تلخيصها فيما يلي: أن الأمر الوارد فيها يحمل على الندب لحديث الترمذي الذي رواه محسناً والحاكم مصححاً من قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي:"توضأ كما أمرك الله تعالى ". فأحاله على الآية وليس فيها ذكر الإستنشاق، ولأنه قد ورد الأمر بالإستنثار ومع ذلك لم يقل أحد بوجوبه غير الظاهرية.، رواية عن أحمد ولا يعتد برأيهم في القول بوجوبه لمخالفتهم الإجماع. أما الاحتجاج بمواظبته صلى الله عليه وسلم على الاستنشاق فلا يصلح دليلا على وجوبه لأنه صلى الله عليه وسلم قد واظب على غسل الكفين قبل إدخالهما في الإناء في الوضوء وعلى الإستنثار ومع ذلك فهما من سنن الوضوء عند غالبية الفقهاء. وأما ما نقل عن الفقهاء في طلب إعادة الصلاة ممن نسي المضمضة والإستنشاق، فيحمل على إعادتها ندباً ويؤيده التعبير بلفظ: أحبّ إلى.
أما تفرقة أبي حنيفة ومن معه بين الوضوء والغسل في حكم الإستنشاق: فقد تم بيان أدلتهم؟ مناقشتها في مناسبة الكلام على المضمضة فلا داعي لإعادتها [287] .
الحكمة من الإستنشاق والإستنثار:
أ- إزالة آثار الشيطان الذي يبيت على خياشيم المرء لما جاء في مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات. فإن الشيطان يبيت على خياشيمه " [288] .
وقد حمل بعض العلماء الحديث على الحقيقة: بمعنى أن الشيطان يبيت حقيقة على الخياشيم، والخياشيم جمع خيشوم وهو أعلى الأنف.
وحمله آخرون على الإستعارة: لأن ما ينعقد من الغبار ورطوبة الخياشيم: قذارة توافق الشيطان. قال صاحب المفهم:"وهذا على عادة العرب في نسبتهم المستخبث والمستبشع إلى الشيطان.."(17/315)
وحمله فريق ثالث: على الأثر المرتب على مبيت الشيطان.. وهو تكسيله عن القيام للصلاة فيكون معناه متوافقاً مع معنى الحديث الآخر:"يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ثلاث عقد.. الحديث" [289]
ب- تنظيف الأنف مما يعلق به ليساعد على حسن القراءة ولتنقية مجرى النفس الذي تكون به التلاوة وتصح معه مخارج الحروف.
جـ- فيهما فائدة صحية هامة: فإنما يفرزه الأنف من مادة لزجة مع الغبار الذي يتجمع على شعيرات الأنف يعتبر تربة خصبة لتكاثر الجراثيم التي ما تفتأ تفتك بصحة المرء. فالمواظبة على تنظيفه عدة مرات في اليوم- يعتبر وقاية له.
د- قال بعض العلماء: الحكمة من المضمضة والإستنشاق وتقديمهما مع غسل الكفين على الأفعال الواجبة في الوضوء: حتى يعرف المتوضئ بذلك أوصاف الماء الثلاثة: هي الرائحة والطعم واللون. وهل هو متغير أم لا. قال العراقي: بعد حكاية هذا القول:"هذا وإن كان محتملاً فإنه لا دليل عليه، والعلة المنصوصة في الإستنشاق- يشير بذلك إلى الحكمة الأولى الواردة في حديث أبي هريرة- أولى " [290] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ج1 ص152، 153: دار التحرير بالقاهرة، ورواه البخاري في صحيحه ج12 ص458 من فتح الباري: مصطفى الحلبي بالقاهرة وأبي داود ج1 ص79 من عون المعبود: المجد بالقاهرة، وابن ماجه ج1 ص125 الطبعة الثانية دار الفكر، والترمذي ج8 ص38 من تحفة الأحوذي؛ المدني بالقاهرة.
[2] صحيح مسلم ج1 ص153 وسنن الترمذي ج8 ص38 من التحفة وسنن أبي داود ج1 ص81 من العون وابن ماجه ج1 ص126.
[3] انظر عون المعبود ج1 ص81، 82.
[4] انظر سنن ابن ماجه ج1 ص126
[5] فتح الباري ج12 ص456.
[6] طرح التثريب شرح التقريب ج2 ص72 وانظر أيضاً تحفة الأحوذي ج8 ص33 والنسائي ج1 ص17 مطبعة الحلبي.(17/316)
[7] سنن النسائي ج8 ص110، ص111 طبعة مصطفى الحلبي.
[8] تحفة الأحوذي ج8 ص38 وترجمة: مصعب بن شيبة بن ج بير بن شيبة بن عفان ابن أبي طلحة.. العبدري المكي الحجي في تهذيب التهذيب ج1 ص162 وانظر أيضاً سنن النسائي ج8 ص110، ص111 مطبعة الحلبي.
[9] النسائي ج8 ص111 مطبعة مصطفى الحلبي.
[10] المرجع السابق.
[11] انظر عون المعبود ج1 ص82 وسنن ابن ماجه ج1 ص126.
[12] انظر زهر الربى على المجتبى – سنن النسائي ج8 ص113 مطبعة مصطفى الحلبي.
[13] انظر المرجع السابق.
[14] انظر مسند الترمذي ج8 ص38 من تحفة الأحوذي.
[15] انظر تحفة الأحوذي ج8 ص38 وتهذيب التهذيب ج10 ص162.
[16] عون المعبود ج1 ص82 وابن ماجه ج1 ص126 وتحفة الأحوذي ج10 ص38.
[17] عون المعبود ج1 ص82.
[18] طرح التثريب ج2 ص84 والتاريخ الكبير للبخاري ج4 ص77.
[19] انظر عون المعبود ج1 ص285، 286.
[20] المرجع السابق.
[21] مجمع الزوائد للهيثمى ج1 ص241، 242 الطبعة الثانية
[22] سنن ابن ماجه ج1 ص172.
[23] ابن ماجه ج1 ص33 وتحفة الأحوذي ج1 ص168.
[24] بسنن الترمذي ج1 ص169 من تحفة الأحوذي.
[25] سنن ابن ماجه ج1 ص173.
[26] من تعليق السندي على سنن ابن ماجه ج1 ص173.
[27] عون المعبود ج1 ص287.
[28] سورة البقرة الآية رقم 124.
[29] عون المعبود ج1 ص83.
[30] فتح الباري ج12 ص456.
[31] صحيح البخاري ج7 ص209 طبعة ص ب يح بالقاهرة والنسائي ج8 ص184 إحياء التراث وابن ماجه ج2 ص383.
[32] النسائي ج8 ص160 وابن ماجه ج2 ص383.
[33] انظر سنن ابن ماجه ج2 ص383. بتصرف
[34] صحيح البخاري ج7 ص209 مطبعة صبيح بالقاهرة.
[35] صحيح مسلم ج3 ص3 طبعة دار التحرير بالقاهرة.
[36] صحيح البخاري ج2 ص3 طبعة صبيح بالقاهرة.(17/317)
[37] صحيح مسلم ج3 ص3 والبخاري ج2 ص3.
[38] صحيح البخاري ج1 ص58 مطبعة صبيح بالقاهرة.
[39] صحيح مسلم ج1 ص146.
[40] صحيح مسلم ج1 ص146.
[41] المرجع السابق ج1 ص 7 14
[42] فتح الب اري ج12 ص456 وشرح الزرقاني على الموطأ ج4 ص285.
[43] فتح الباري ج12 ص458.
[44] طرح التثريب ج2 ص74.
[45] فتح الباري ج2 ص456.
[46] المرجع السابق ج12 ص456.
[47] صحيح البخاري ج12 ص470 من فتح الباري والنسائي ج1 ص15 إحياء التراث.
[48] المرجع السابق وطرح التثريب ج2 ص74.
[49] طرح التثريب ج2 ص74 وفتح الباري ج2 ص470.
[50] ج1 ص210 والسنة: الصورة يقال: ما أحسن سنة وجهه. وقيل: سنة الخد صفحته.. والقمة: شخص الإنسان قائما ً أو راكباً. يقال: إنه لحسن القمة على الر ح ل. ونظر أعرابي إلى دينار فقال: ما أصغر قيمتك وأكبر همتك. والجملاء: وهي فعلاء التي لا أفعل لها. كريمة هطلاء. انظر نفس المرجع.
[51] الحديث في مسند أحمد ج19 ص 71 من ترتيب المسند للساعاتي.
[52] مجمع الزوائد للهيثمي ج1 ص178 الطبعة الثانية.
[53] الموافقات ج4 ص74 المكتبة التجارية بأول شارع محمد علي بالقاهرة.
[54] أنظر المسألة بطولها في الموافقات للشاطبي ج4 من ص74 إلى ص80، والحديثان عند أبي داود. الأول ج12 ص360 من عون المعبود والثاني ج12 ص340 ولفظه عنده.. " وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " وليس فيه قوله "كلها.."الخ، وفي لفظ آخر عنده من رواية معاوية ابن أبي سفيان "وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة.. " الحديث ج12 ص342.
[55] الموطأ ج1 ص92 قال ابن عبد البر: لا أعلم هذا الحديث مسنداً ولا مقطوعاً من غير هذا الوجه.. ومعناه صحيح في الأصول انظر تنوير الحوالك على موطأ مالك ج1 ص92 الطبعة الأخيرة مطبعة مصطفى الحلبي.(17/318)
[56] سورة الأحزاب الآية رقم 62.
[57] لسان العرب لابن منظور مادة سنة بتصرف والفائق غريب الحديث. مادة سنة.
[58] سورة الأنعام الآية رقم 79.
[59] سورة تبارك الذي بيده الملك: الآية رقم3.
[60] نيل الأوطار ج4 ص202.
[61] سورة الزخرف الآية 27.
[62] سورة يس الآية 22.
[63] لسان العرب مادة فطر.
[64] النهاية في غريب الحديث ج3 ص457 مادة فطر.
[65] لسان العرب. مادة فطر.
[66] سورة فاطر الآية رقم 1.
[67] انظر المرجع السابق وانظر أيضاً القاموس للفيروز أبادي ج2 ص114 مادة فطر.
[68] سورة الأنعام الآية رقم 90.
[69] سورة البقرة الآية 124.
[70] سورة البقرة الآية رقم 124.
[71] سورة النحل الآية رقم 123.
[72] عون المعبود ج1 ص79، 80.
[73] طرح التثريب ج1 ص72.
[74] المرجع السابق.
[75] فتح الباري ج12 ص459.
[76] فتح الباري ج12 ص460.
[77] سورة الشورى الآية رقم 13.
[78] فتح الباري ج12 ص456.
[79] طرح التثريب ج2 ص72، 73.
[80] المرجع السابق.
[81] فتح الباري ج12 ص456.
[82] سورة الأنعام الآية رقم 90.
[83] سورة التغابن الآية رقم 3.
[84] قد أشار كل من الحافظ العراقي والحافظ بن حجر إلى بعض هذه المعاني. طرح التثريب ج2 ص73 والفتح ج12 ص458.
[85] صحيح مسلم ج1 ص152.
[86] سنن ابن ماجه ج1 ص126.
[87] عمدة القارئ ج22 ص45.
[88] لسان العرب ج8 ص369 حرف الصاد فصل النون.
[89] عمدة القارئ ج22 ص45 والنهاية لابن الأثير ج5 ص97 مادة: نقص.
[90] عمدة القارئ ج1 ص716 طبعة قديمة غير مؤرخة وغير مشار إلى الجهة التي تولت الطبع.
[91] لسان العرب ج2 ص178 حرف الياء فصل النون.
[92] النهاية ج5 ص178 مادة نجا.(17/319)
[93] لسان العرب ج20 ص 8 17 حرف الياء فصل النون.
[94] الشرح الصغير ج1 ص96 وفتح القدير ج1 ص212 والمجموع للنووي ج2 ص98 والمراد بالغير: الحصى والدود ونحوهما إذا خرجا من السبيلين.
[95] صحيح مسلم ج1 ص156 وصحيح البخاري ج2 ص292.
[96] صحيح مسلم ج1 ص156. والسدرة: الشجرة.
[97] انظر العيني – عمدة القارئ ج1 ص287.
[98] العيني – عمدة القارئ ج1 ص 287.
[99] فقه الإمام سعيد مطبوعات ديوان أوقاف العراق ج1 ص49.
[100] تحفة الأحوذي ج1 ص95.
[101] فتح الباري ج1 ص261. وهذا القول منسوب إلى الأصيلي حيث تعقب البخاري استدلالا ً له بهذا الحديث على الإ ستنجاء بالماء وقال: لأن قوله: يستنجي به ليست التيمم..
[102] فتح الباري ج1 ص262.
[103] المغنى ج1 ص119.
[104] المدونة الكبرى ج1 ص8.
[105] المرجع السابق ج1 ص8.
[106] الشرح الصغير ج1 ص97.
[107] المنتقى شرح الموطأ ج1 ص73.
[108] فقه الإمام سعيد ج1 ص50.
[109] فتح الباري ج1 ص261، 262.
[110] تحفة الأحوذي ج1 ص93.
[111] سورة التوبة الآية رقم 108.
[112] مجمع الزوائد ج1 ص212.
[113] التاريخ الكبير ل لبخاري ج1 ص 0 4.
[114] ج2 ص396.
[115] ميزان الإ عتدال للذهبي ج3 ص468.
[116] مجمع الزوائد ج1 ص212.
[117] المجموع ج2 ص103.
[118] الموطأ ج1 ص33.
[119] عون المعبود ج1 ص 61، 62.
[120] عمدة القارئ ج2 ص301.
[121] عمدة القارئ ج2 ص300 فتح القدير ص212 مصطفى الحلبي.
[122] المجموع ج2 ص103.
[123] المرجع السابق.
[124] المجموع ج2 ص103.
[125] في لسان العرب: الثلط هو سلح الفيل ونحوه من كل شيء إذا كان رقيقاً.(17/320)
[126] أقرب المسالك على مذهب مالك ج1 ص98 – المغني ج1 ص114، 115 – وفتح القدير ج1 ص215.
[127] أقرب المسالك ج1 ص98.
[128] عمدة القارئ ج3 ص245 وأبي داود ج1 ص372 من عون المعبود.
[129] عمدة القارئ ج3 ص245.
[130] عمدة القارئ ج3 ص245.
[131] أقرب المسالك ج1 ص98.
[132] المرجع السابق ج1 ص98 والمغني ج1 ص118.
[133] تحفة الأحوذي ج1 ص372.
[134] عون المعبود ج1 ص360.
[135] عون المعبود ج1 ص360.
[136] المرجع السابق.
[137] فتح القدير ج1 ص192 ص215.
[138] سورة المائدة الآية رقم 6.
[139] انظر أدلة المخالفين والرد عليهم ج1 ص120، ص121.
[140] أقرب المسالك ج1 ص97، فتح القدير ج1 ص213، المغني ج1 ص119.
[141] عمدة القارئ ج2 ص291، ص292.
[142] المرجع السابق ج2 ص 290.
[143] عون المعبود ج1 ص55.
[144] فتح القدير ج1 ص215 ومغني المحتاج ج1 ص41، وأقرب المسالك ص1 ج91.
[145] عمدة القارئ ج2 ص294.
[146] أبو داود انظر عون المعبود ج1 ص54.
[147] عمدة القارئ ج2 ص296 والمحلى ج1 ص125.
[148] نيل الأوطار ج1 ص 110.
[149] مغني المحتاج ج1 ص42، أقرب المسالك ج1 ص96.
[150] أقرب المسالك ج1 ص96.
[151] المرجع السابق.
[152] عون المعبود ج1 ص68 وابن ماجه ج1 ص147.
[153] الترمذي ج1 ص168 تحفة الأحوذي.
[154] تحفة الأحوذي ج1 ص168.
[155] المرجع السابق ج1 ص196.
[156] عون المعبود ج1 ص285.
[157] تحفة الأحوذي ج1 ص169.
[158] السنن الكبرى للبيهقي ج1 ص162 طبعة دار الفكر.
[159] النهاية في غريب الحديث والأثر ج5 ص69 مادة نضح.
[160] لسان العرب ج3 ص459 مادة نضح طبعة مصورة عن طبعة بولاق.(17/321)
[161] مغني المحتاج ج1 ص46، فتح القدير ج1 ص213، المغني ج1 ص115.
[162] فتح الباري ج12 ص457، وطرح التثريب ج2 ص84.
[163] المرجعين السابقين.
[164] المرجعين السابقين.
[165] النهاية لابن الأثير ج1 ص113 مادة برجم لسان العرب ج4 ص312 وانظر معهما فتح الباري ج12 ص458.
[166] حاشية الرهوني عل ى الزرقاني ج1 ص114 تصوير على طبعة المطبعة الأميرية ببولاق 1306. والمصور دار الفكر بيروت.
[167] المجوع ج1 ص344.
[168] فتح الباري ج12 ص457.
[169] تحفة الأحوذي ج8 ص37 المجموع ج1 ص320 دار النصر للطباعة القاهرة.
[170] المجموع ج1 ص347 مطبعة العاصمة.
[171] لسان العرب ج12 ص330 صرف الكاف فصل السين.
[172] السنن الكبرى للبيهقي ج1 ص41 دار الفكر.
[173] المرجع السابق ج1 ص41.
[174] السنن الكبرى للبيهقي ج1 ص41.
[175] التقريب ج1 ص445 الطبعة الثانية.
[176] المجموع ج1 ص341 مطبعة العاصمة. وحاشية الرهوني على الزرقاني ج1 ص147.
[177] المجموع ج1 ص341 مطبعة العاصمة.
[178] المغني ج1 ص72 مطبعة الفجالة.
[179] المجموع ج1 ص341 مطبعة العاصمة.
[180] حاشية الرهوني ج1 ص147.
[181] المرجع السابق.
[182] طرح التثريب ج2 ص68.
[183] المرجع السابق.
[184] المغني ج1 ص72.
[185] انظر هامش حاشية الرهوني ج1 ص147.
[186] طرح التثريب ج2 ص68.
[187] السنن الكبرى للبيهقي ج1 ص40.
[188] طرح التثريب ج2 ص69.
[189] السنن الكبرى للبيهقي ج1 ص40.
[190] طرح التثريب ج2 ص69.
[191] الجزء الأول في الحديث من رواية مسدد والجزء الثاني منه من رواية سليمان، عون المعبود ج1 ص76.
[192]
[193]
[194] المجموع ج1 ص340 مطبعة العاصمة.
[195] عون المعبود ج1 ص78.(17/322)
[196] عون المعبود ج1 ص77.
[197] المرجع السابق.
[198] طرح التثريب ج2 ص71.
[199] المغني ج1 ص71.
[200] طرح التثريب ج2 ص71.
[201] حاشية الرهوني ص147.
[202] هامش حاشية الرهوني ج1 ص147 وهو من تعليق المدني على كنون وهما من علماء المالكية.
[203] المرجع السابق.
[204] حاشية السندي على شرح السيوطي على سنن النسائي ج1 ص9 دار إحياء التراث بيروت.
[205] هامش حاشية الرهوني ج1 ص147.
[206] سنن النسائي ج1 ص10 دار التراث بيروت.
[207] تحفة الأحوذي ج1 ص108.
[208] سنن النسائي ج1 ص10 دار إحياء التراث وسنن البيهقي ج1 ص34.
[209] المجموع ج1 ص330 مطبعة العاصمة.
[210] طرح التثريب ج2 ص67.
[211] هامش حاشية الرهوني ج1 ص148.
[212] المنتقى ج1 ص130 المجموع ج1 ص333 مطبعة العاصمة والمغني ج1 ص71.
[213] عون المعبود ج1 ص73، ص74.
[214] ابن ماجه ج1 ص124.
[215] طرح التثريب ج1 ص63.
[216] فتح القدير ج1 ص16.
[217] المغني ج1 ص71.
[218] المنتقى ج1 ص130.
[219] المحلى ج2 ص297.
[220] صحيح مسلم ج1 ص151.
[221] المنتقى ج1 ص130.
[222] المغني ج1 ص72 وابن ماجه ج2 ص335.
[223] تحفة الأحوذي ج1 ص104.
[224] طرح التثريب ج1 ص66 وسنن ابن ماجه ج1 ص125.
[225] السنن الكبرى ج1 ص38.
[226] هامش المرجع السابق.
[227] تحفة الأحوذي ج1 ص105.
[228] المرجع السابق.
[229] السنن الكبرى ج1 ص38.
[230] طرح التثريب ج2 ص7.
[231] طرح التثريب ج2 ص70.
[232] المجموع ج1 ص334 مطبعة العاصمة وطرح التثريب ج1 ص66.
[233] صحيح مسلم ج1 ص152.
[234] عون المعبود ج1 ص86.
[235] صحيح مسلم ج1 ص152.
[236] عون المعبود ج1 ص84.(17/323)
[237] ابن ماجه ج1 ص124.
[238] سورة آل عمران الآية رقم 190.
[239] عون المعبود ج1 ص85.
[240] طرح التثريب ج2 ص66.
[241] عمدة القارئ ج6 ص182 والمجموع ج1 ص334 مطبعة العاصمة وطرح التثريب ج2 ص66.
[242] المغني ج1 ص73 تحفة الأحوذي ج3 ص 4 18.
[243] المغني ج1 ص72، 73.
[244] وابن ماجه أيضاً ج1 ص502.
[245] المغني ج1 ص72.
[246] المغني ج1 ص72 والمجموع ج1 ص334، 335 مطبعة العاصمة.
[247] في التحفة - وما كار - وليس لها معنى ظاهر وغلب على ظني أنها تحريف من لقط - وما خار - الذي أثبته والله أعلم.
[248] تحفة الأحوذي ج3 ص419.
[249] المنتقى ج1 ص34 المجموع ج1 ص404، 405 فتح القدير ج1 ص16.
[250] المغني ج1 ص85 وفتح القدير ج1 ص16 وحاشية الرهوني ج1 ص124.
[251] فتح القدير ج1 ص16، 17.
[252] سورة المائدة الآية رقم 6.
[253] المجموع ج1 ص411 طبعة العاصمة.
[254] المغني ج1 ص 88.
[255] المغني ج1 ص88.
[256] المجموع ج1 ص411 مطبعة العاصمة. والسنن الكبرى للبيهقي ج1 ص52.
[257] المغني ج1 ص89.
[258] المجموع ج1 ص412 مطبعة العاصمة.
[259] المرجع السابق ج1 ص410.
[260] المرجع السابق ج1 ص413.
[261] المرجع السابق ج1 ص410.
[262] المرجع السابق ج1 ص410 وأيضاً السنن الكبرى ج1 ص175 وعون المعبود ج1 ص412.
[263] المرجع السابق ج1 ص413.
[264] صحيح البخاري ج1 ص5 طبعة صبيح بالقاهرة وصحيح مسلم ج1 ص141.
[265] صحيح البخاري ج1 ص46 طبعة صبيح.
[266] الترمذي ج1 ص122 ومسلم ص145.
[267] عون المعبود ج1 ص233 السنن الكبرى للبيهقي ج1 ص51.
[268] السنن الكبرى للبيهقي ج1 ص51.
[269] عون المعبود ج1 ص184.
[270] تحفة الأحوذي ج1 ص164، 165، 166.(17/324)
[271] عمدة القارئ ج3 ص9.
[272] سنن الترمذي ج1 ص296 من تحفة الأحوذي قال الترمذي بعد ذكره هذا حديث حسن صحيح.
[273] صحيح مسلم ج1 ص145.
[274] المرجع السابق ج1 ص146.
[275] لسان العرب ج12 ص231 مادة تشق النهاية ج5 ص15 مادة نثر.
[276] طرح التثريب ج2 ص54.
[277] المجموع ج1 ص406 مطبعة العاصمة.
[278] السنن الكبرى ج1 ص48.
[279] سنن النسائي ج1 ص67 دار إحياء التراث – بيروت.
[280] المرجع السابق ج1 ص65.
[281] عمدة القارئ ج3 ص16 والسنن الكبرى ج1 ص49.
[282] صحيح مسلم ج1 ص146 والسنن الكبرى ج1 ص49.
[283] المغني ج1 ص88.
[284] طرح التثريب ج2 ص53 والمغني ج1 ص88 والمحلى ج2 ص69، 70.
[285] سورة النساء الآية رقم 80
[286] المحلى ج2 ص70، 71 دار الإتحاد العربي للطباعة القاهرة.
[287] فتح القدير ج1 ص16، 17 عمدة القارئ ج1 ص15 وطرح التثريب ج2 ص53.
[288] صحيح مسلم ج1 ص147.
[289] الموطأ ج1 ص146 الطبعة الأخيرة مصطفى الحلبي.
[290] طرح التثريب ج2 ص53 وعمدة القارئ ج1 ص16.(17/325)
قبسات من أخلاق النبوة
الشيخ محمد المجذوب
سئلت عائشة عن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:" كان خلقه القرآن "وتريد بذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان في مسلكه الخلقي محققاً لأدب القرآن في كل ما أحبه الله من الصفات العليا، وكمثل من ذلك نذكر أن الله تعالى أمر بالوفاء بالعهد فكان صلى الله عليه وسلم أوفى الناس بعهد، وأمر بالتواضع فكان أكرم الخلق تواضعاً، وأمر بالعبادة فكان أكثر العباد إقبالاً على العبادة، وحث على الشجاعة في الحق فكان أشجع البشر، وحبب للمؤمنين الصفح والعفو فكان صلى الله عليه وسلم أعفى الخلق وأصفحهم، وحض على الرحمة والبر فلا يعرف من يدانيه رحمة وبراً..
وهكذا نعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يمثل سلوكه الكامل أكرم الأخلاق التي رغب الله فيها عباده الصالحين.. حتى كان صلى الله عليه وسلم يقول:"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "فهنا يجعل تثبيت الفضائل الخلقية بمثابة الهدف الأعلى لرسالته صلوات الله وسلامه عليه.
لمحة عن شجاعته:(17/326)
كان صلى الله عليه وسلم مثلاً أعلى في الشجاعة، قد تجلت شجاعته في الناحيتين المعنوية والحسية على السواء، ولكي ندرك مبلغ شجاعته المعنوية نتذكر أنه قد وقف بدعوته الربانية في وجه العالم، إذ كان العالم قد انصرف كله عن طريق الله وغرق في بحر من المعاصي والآثام والشرك، فثبت على دعوته يحتمل في سبيلها أشد ألوان الأذى والبلاء. وقد حاولت قريش معه مختلف الوسائل حتى الإغراء بالملك والمال فلم يزدد إلا ثباتاً وتصميماً، حتى كتب الله له الفلاح، وأظهر دينه على الدين كله.. أما شجاعته الحسية فلا مثيل لها في ما عرف في تاريخ الناس، يستوي في ذلك عهده السابق للبعثة وعهده النبوي.. وقد تجلت شجاعته لعهده الأول في جهره بالكره لآلهة قريش على ملأ من عُبَّادها إذ أقسم بأنه لا يبغض شيئاً بغضه لها. وذات مرة خرج في قافلة بعض أعمامه إلى اليمن وكان في سن الحداثة. وفي أحد الأودية واجههم فحل من الإبل مستوحش جامح فلم يجرؤ على الدنو منه أحد سواه فتغلب عليه وكبح جماحه.. أما شجاعته بعد البعثة فعجب من العجب لقد ثبت يوم حنين في وجه الآلات من هوازن. بعد أن تفرق عنه الناس خوفاً من الكمين المفاجئ وهو يهتف بالأعداء:"أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب "وحسبنا في ذلك ما روى عن علي رضي الله عنه:"إنا كنا إذا حمى البأس واحمرَّت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه "وطبيعي أن يكون ذلك منه صلى الله عليه وسلم تعبيراً عن ثقته التامة بربه وتحقيقاً للتوجيه الآلهي الحكيم في قوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} .
لمحة عن وفائه:(17/327)
إن الحديث عن وفاء محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها طويل لا يقوم به الإيجاز بالغاً ما بلغ وحسبنا من أمثلته بعض الحوادث يقول عبد الله بن أبي الحماء:"بايعت محمداً ووعدته أن آتيه فنسيت فذكرته بعد ثلاثة أيام فإذا هو في مكانه ولما رآني لم يزد على أن قال:"لقد شققتَ علي، أنا هنا منذ ثلاثة أيام أنتظر.."هذا وفاؤه في الجاهلية أما في الإسلام فلنذكر من أمثلته الكثيرة موقفه يوم الحديبية من أبي جندل بن سهيل بن عمرو، فقد جاء يرسف في قيود المشركين طالباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحماية.
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد اتفق مع سهيل أبيه أن يسلم إلى قريش من لجأ إليه من المسلمين دون إذن وليه، فرد أبا جندل وفاء بعهده الذي لم يكن قد كتب بعد.
وفتح مكة نفسه إنما حدث بسبب وفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لحلفائه من خزاعة، ذلك لأن قريشاً نقضت عهدها اعتدت على خزاعة فجاء كبيرها سالم الخزاعي يطالب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعهد، فلم يتردد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلبث إلا ريثما جمع جنوده وزحف على مكة ففتحها الله عليه.
ولا عجب في ذلك فمحمد صلى الله عليه وسلم إنما يطبق بذلك أمر الله الذي يقول كتابه الحكيم {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} .
تواضعه وسماحته:
كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس تواضعاً، وأكثرهم لطفاً وسماحة وبعداً عن التكليف يعامل بذلك أبعد الناس وأقربهم على السواء.
زار رسول الله صلى الله عليه وسلم منزل أحد الصحابة ذات يوم فسلم فرد صاحبه رداً خفياً. وحين لم يسمع رد الرجل عاد من حيث أتى فأتبعه الرجل قائلاً: يا رسول الله إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك رداً خفياً لتكثر علينا من السلام فانصرف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم..(17/328)
لقد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ظن أن صاحبه لا يأذن له بالدخول ثم عاد فدخل حين علم برغبته في دخوله، وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يعاقب مع رفاقه على مطيته فيركب حيناً ويمشى حيناً، وكان يردف عليها ويروي جابر أنه صلى الله عليه وسلم كان يتخلف في السير فيزجي الضعيف ويردف ويدعو لهم. وذات يوم كان في سفر أصحابه ولما أرادوا إعداد الطعام تقاسموا العمل بينهم فقام صلى الله عليه وسلم يجمع الحطب وأبى أن يقوم أحد عنه بذلك.
ومن صفاته الأخلاقية صلى الله عليه وسلم أنه كان يبدأ الناس بالسلام وإذا تحدث إلى أحد انصرف إليه بكله، وإذا صافح أحدهم لم يبدأ بسحب يده. يجلس حيث ينتهي به المجلس، يرفع ثوبه ويخصف نعله ويخدم نفسه وأهله: ويجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين.
ولا غرابة في شيء من ذلك فهو قدوة المؤمنين والمثل الأعلى للأخلاق التي يحب الله أن يتحلى بها المجتمع الإسلامي. وهو الذي يقول:"إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً " ويقول:"لا يدخل الجنة من كان في قلبه ذرة من كبر " وحسبه مدح ربه له بقوله الحكيم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} ، {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} .
رحمته صلى الله عليه وسلم:(17/329)
وصف الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} وأنه {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} فكان صلى الله عليه وسلم يقول:" ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء "، "لا تنزع الرحمة إلا من شقي "وقد وصف نفسه فقال صلى الله عليه وسلم:"إنما أنا رحمة مهداة " وقد تجلت هذه الميزة في أفعاله صلى الله عليه وسلم جميعاً لم يعامل بها أصحابه وأقرباءه وحدهم، بل شمل بها الصديق والعدو والحيوان والإنسان، وهو بذلك يخالف عادة العرب الذين نشأ فيهم وعاصروه، إذ كانت الجفوة والقسوة أبرز أخلاقهم حتى إن أحدهم رأى ذات مرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الحسين فاستغرب ذلك وقال: إن لي عشرة أولاد ما قبلت أحداً منهم. وقال له أعرابي آخر أتقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم فقال صلى الله عليه وسلم:"أَو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة " ورأى صلى الله عليه وسلم مرة حُمَّرةً ترفرف.. فقال:" من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها ".
ومن رأفته بالحيوان قوله صلى الله عليه وسلم:"دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض " وسئل مرة يا رسول الله: وإن لنا في البهائم لأجراً؟ فقال:"في كل كبد رطبة أجر "..
وقد كان صلى الله عليه وسلم شديد الحفاوة بالمساكين ومن قوله فيهم:"ابغوني ضعفاءكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم ". ولذلك أحبه الضعفاء والأرقاء حباً عجيباً، حتى أن مملوكه زيد بن حارثة آثره على والده، وقد روى عن أنس رضي الله عنه أنه قال:"خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أفٍ قط ".(17/330)
وسئل مرة أن يلعن أعداءه فقال:" ما جئت لَعَّاناً بل رحمة " وقد أصيب أعداؤه في مكة بعض السنين بضيق وجدب فأرسل إليهم بمعونة كريمة، وهم الذين أخرجوه وآذوه وعذبوا أصحابه، وما كانوا ليدخَّروا وسعاً في سبيل إيذائه.. وبعد فهذه أمثلة يسيرة من أخلاق سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم.
وهي قطرات من بحر لا سبيل إلى استيعابه في صفحات قليلة.. وهى على غرابتها بالنسبة إلى المألوف، لا تُستغرب من إنسان اصطفاه الله ليكون رحمة للعالمين، وأسوة للمتقين، والأنموذج الأمثل للعبد الرباني الذي يمثل بسلوكه الأعلى أخلاق القرآن العظيم.
ونحن حين نعرض هذه الأمثلة من أخلاق المصطفى صلى الله عليه وسلم لا ننسى أن أول واجباتنا نحوها هو التقرب منها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، واتخاذها القدوة المثلى لسلوكنا أفراداً وجماعات، في وقت أصبحت الأخلاق الفاضلة فيه غريبة مستغربة، وبذلك نعيد لمجتمع الإسلامي ميزاته الفضلى وصفاته المثلى، التي بها جعل الله المسلمين الأولين {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ..} ويومئذ نكون قد حققنا في أنفسنا ما أحبه الله لنا، وما دعانا لتطبيقه في قوله الخالد: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} 33، 21.(17/331)
الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي
لفضيلة الدكتور عبد الرحمن العدوي / مستشار الجامعة الإسلامية
شيخ جليل مهيب، أخلص لله في تعليم المسلمين أمور دينهم، ونشر عقيدة الإسلام وأحكامه بينهم، وهو من أهالي بلدة عنيزة من أعمال القصيم في شمال نجد عاش فيها حياته وكان فيها مقره الأخير.
كنا في عام 1373هـ الموافق 1953م اثنين من علماء الأزهر الشريف مبعوثين للتدريس في المملكة العربية السعودية وكانت إدارة المعارف حينذاك في مكة في مواجهة المسجد الحرام وكان على رئاستها الشيخ محمد بن مانع رحمه الله، وقد رأى أن أسافر مع زميلي الشيخ محمد الجبة للتدريس في المدرسة الثانوية بعنيزة، وسافرنا وبدأنا عملنا في المدرسة التي كان بها فصلان في السنة الأولى فقط، ولم يمض شهر حتى صدر الأمر الملكي بنقلنا إلى المعاهد العلمية التابعة لآل الشيخ.
وكانت هذه هي الطريقة التي تستكمل بها المعاهد العلمية حاجتها من المدرسين، ولم يكن المعهد العلمي موجوداً بعد، فطلب منا أن نعلن عن افتتاحه ونستقبل طلبات الراغبين في الإلتحاق به ونحدد مستواهم العلمي ونوزعهم على السنوات الدراسية وقد تم كل ذلك في فترة وجيزة وبدأت الدراسة في المعهد العلمي بعنيزة في شهر ربيع الثاني من عام 1373هـ، وفي الوقت بلغنا أن الشيخ عبد الرحمن السعدي قد عين مشرفاً على المعهد من الناحية العلمية وكان تعيينه براتب شهري قدره ألف ريال، ولكن الشيخ رحمه الله تعالى أرسل إلى رئاسة المعاهد العلمية أنه على استعداد للإشراف على المعهد حسبة لوجه الله تعالى وأنه لا يريد أن يكون له على ذلك أجر مادي وقبلت الرئاسة شاكرة له هذا الصنيع الذي لا يصدر إلا من عالم زاهد يبتغي وجه الله.(17/332)
وبدأت صلتنا بالشيخ عبد الرحمن السعدي في المعهد أولاً ثم التقينا به كثيراً في المسجد الجامع فقد كان شيخاً له، وفي منزله المتواضع الذي رفع قدره وأعلى صرحه سلوك صاحبه وسيرته في الناس.
كان رحمه الله يأتي إلى المعهد بانتظام يوم الثلاثاء من كل أسبوع وكان يخلع نعليه عند دخول الفصل أثناء الدرس مع أن في نجد لا يخلعون نعالهم عند دخول المسجد ولا عند الصلاة ولكنه الأدب الراقي واحترام العلم ومجلسه، ثم يدخل آخر صف ويجلس فيه وكأنه أحد طلاب هذا الفصل، ويكرر هذا العمل في أكثر من فصل ويستمع إلى أكثر من مدرس ولم يكن في المعهد من المدرسين المصريين سواي وزميلي أما بقية المدرسين فكانوا من أبناء الشيخ علمهم في المسجد الجامع إلى درجة تسمح لهم بالقيام بتدريس المواد التي تعلموها على يديه.
وكان منهم حمد البسام، وسليمان البسام، وعبد الله البربكان، ومحمد بن عثيمين. ومضت فترة بعد وصولنا عنيزة أحسسنا فيها بالغربة والوحشة وكنا نتأثر بجفاء بعض الناس في التعامل واللقاء وعدم رد التحية لا بأحسن منها ولا بمثلها، وكان يحدث أحياناً ونحن وقوف للصلاة أن يأتي أحد البدو ولعله من غير أهل عنيزة فيقف بجوار أحدنا وينظر إليه نظرة استغراب ثم يخط بعصاه خطاً فاصلاً في الرمال يفصل بينه وبين من يجاوره منا ثم يقول بصوت مسموع (أعوذ بالله) وبعدها يكبر للصلاة وقال لي صاحبي: لماذا يتعوذ هؤلاء؟ فقلت لعلهم يعتقدون أننا لسنا من بلاد الإسلام، وما علينا إلا أن نزيل هذا الظن الخاطئ فتقسيم الأمور وتصح المعاملة، قال: ولكن كيف السبيل إلى ذلك ونحن مدرسون في المعهد لطلاب قد يتحدثون مع ذويهم عنا وقد لا يتحدثون؟ قلت: السبيل في رأيي أن نعطي الناس دروساً في التفسير والحديث والفقه بين المغرب والعشاء في المسجد الذي نصلي فيه، وبها نؤدي واجبنا ونزيل التباساً.(17/333)
وعرضنا الفكرة على الشيخ عبد الرحمن السعدي فاستحسن ذلك أيما استحسان وشجعنا وأوصانا بألا تضيق صدورنا فإن من خلق العلماء الصبر والإحتمال والحرص على تبليغ رسالة الله في كل الظروف وبدأنا التدريس في مسجد (السويطي) بين المغرب والعشاء وزاد عدد الحاضرين يوماً بعد يوم حتى كاد المسجد على سعته أن تملئ بالمصلين، وبعد أسبوعين تقريباً حدث أمر شرح صدورنا وأحسسنا معه بالود والمحبة، فقد تقدم إلينا شيخ كبير وأشار بيده إلى سجادتين مفروشتين خلف الإمام وقال: هذا مكان صلاتكما فأنتم أهل العلم والفضل وعلينا أن نكرم العلماء، وكان لهذه اللفتة أثرها الطيب الحميد فقد أحسسنا صفاء قلوب القوم وزالت العوارض التي كانت تؤثر تأثيراً متعباً فما كانت إلا تصرفاً شخصياً من بعض الجهال لا يعبر عن السلوك العام، ثم زادت الصلة بيننا وبين الناس وتوثقت فدعينا إلى شرب القهوة بالعبارة النجدية الحلوة "نبغى نقاهويك يا أستاذ "وتكرر ذلك والموعد بعد صلاة العشاء الآخرة وكان معنا في المعهد سكرتير من أهل عنيزة اسمه (عبد الله) فكان يتولى تدوين المواعيد ويرشدنا إلى منازل، وفي كل ليلة نجد صاحب المنزل قد دعا أكثر من عشرين شخصاً مبالغة منه في الإحتفاء بنا ثم يدور الحديث حول مسائل من الدين والأخلاق وعادات الناس وتصير الجلسة ندوة علم وأدب وحديث نافع وتعبير عن المحبة والود والأخوة كما ارتضاها الله لعباده المؤمنين.(17/334)
وكنا نزور الشيخ بين الحين والحين ويكاد يكون لقاؤنا معه يوم الجمعة بانتظام نذهب إلى بيته قبل الصلاة بساعات ونجلس معه ثم ننزل معاً عندما تقرب موعد الصلاة، وذات لقاء قلت له: يا فضيلة الشيخ، لماذا لا تستخدم مكبر الصوت (الميكروفون) في الخطبة فإن أكثر الناس لا يسمعون صوتك ولا يستفيدون مما تلقيه عليهم من المواعظ والأحكام، فابتسم الشيخ وكان له بسمة خفيفة جميلة تنم عن الرضا والسرور وقال: إن مكبر الصوت لم يدخل المساجد في بلاد نجد ولا أحب أن أكون أول من يستخدمه. قلت: ولماذا؟ ألست الشيخ العلم القدوة إذا لم تفعل أنت ما تراه نافعاً فمن يفعله؟ أليس في استعماله خير وهو نشر تعاليم الدين وآدابه وإسماع أكبر عدد ممكن بواسطته، والنساء في بيوتهن حول المسجد يستمعن الخطبة عن طريق مكبر الصوت فيكون الخير قد تجاوز حدود المسجد، ومن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. ذلك لأنه سيتعرض لجهل الجاهلين، ونقد الناقدين وسيصيبه من أقوال الناس وإيذائهم واستنكارهم لما لم يألفوه شيء كثير فيكون له من أجل ذلك الأجر الكثير، ثم إنك يا فضيلة الشيخ إذا لم تستخدم مكبر الصوت في خطبة الجمعة فلن يجرؤ أحد على استخدامه من بعدك، وسيقول الناس: لو كان فيه خير لاستقدمه الشيخ السعدي، فتكون قد منعت استخدامه مستقبلاً من حيث لا تدري ولا تريد. فاتسعت الإبتسامة على شفتي الشيخ وقد استمع لكلامي كله مصغياً ومتأملاً، وهز رأسه يميناً وشمالاً في هدوء رتيب وقال: ما شاء الله لقد حدثني في ذلك غيرك، وما شرح الله صدري لذلك مثل ما شرحه الآن، وأعدك أن يكون في المسجد (مكبر صوت) في الجمعة القادمة إن شاء الله وبر الشيخ بوعده وأمر بإحضار مكبر للصوت ذي ثلاث سماعات يعمل بواسطة البطارية فلم تكن عنيزة قد عرفت الكهرباء بعد وفرح الناس وتحدثوا عن استماعهم للخطبة في غير جهد، وحرصت على أن أسمع رأيهم فلم أجد معارضاً وما سمعت إلا كلمات(17/335)
الإستحسان والسرور، وذهبت إلى الشيخ في بيته لأنقل إليه استحسان الناس وسرورهم فإذا به ينقل إلى بشرى سارة مؤداها أن الشيخ عبد الله السليمان كان يصلي هذه الجمعة في مسجد عنيزة وقد أعجبه أن يكون في المسجد مكبر للصوت فقابل الشيخ بعد الصلاة وأبلغه أنه تبرع.. بماكينة كهرباء للمسجد تضئ خمسين لمبة (مصباحاً كهربائياً) ويشتغل عليها مكبر الصوت. فقلت: الحمد لله. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
لقد كان الشيخ عبد الرحمن السعدي من الناحية الدينية هو كل شيء في عنيزة فقد كان العالم والمعلم والإمام والخطيب والمفتي والواعظ والقاضي وصاحب مدرسة دينية له فيها تلاميذ منتظمون.
كان يصلي الفجر بالناس ثم يجلس لأداء الدرس حتى تطلع الشمس ويذهب بعد ذلك إلى بيته حتى الضحوة الكبرى فيعود إلى المسجد يعلم أبناه الفقه والتفسير والحديث والعقيدة والنحو والصرف في دروس منتظمة وكتب اختارها لطلابه ويستمر معهم حتى صلاة الظهر فيصلي بالناس ويعود إلى بيته يستريح فيه إلى صلاة العصر ثم يذهب إلى المسجد فيصلي العصر بالناس ويعطيهم عقب الصلاة وهم جلوس بعض الأحكام الفقهية في دقائق لا تؤخرهم عن الإنصراف سعياً وراء أرزاقهم وعندما تغرب الشمس يصلي بالناس المغرب ويجلس للدرس حتى يصلي العشاء. ويتكرر ذلك في كل يوم.
وطلاب الشيخ الذين علمهم في المسجد هم الذين تولوا التدريس في المدارس والمعاهد التي فتحتها الدولة في بلدتهم، فكان الشيخ يكتب بيده شهادة يقول فيها إن فلاناً درس علوم كذا وكذا في كتب كذا وكذا وهو يصلح لتدريس هذه المواد في المستوى الإبتدائي أو الإعدادي أو الثانوي، وتأخذ الدولة بشهادات الشيخ التي أثبتت التجربة فيما بعد أنها معبرة عن الحقيقة أصدق تعبير.(17/336)
وكان من سيرته - عليه رحمة الله - أنه في موسم الحصاد تأتي إليه ثمار النخيل والبساتين التي وقفها أصحابها على المسجد الجامع ليؤدي رسالته الإسلامية العظيمة، فكان الشيخ يجمع كل هذه الثمار في المسجد ويوزعها على الفقراء والمساكين ولا يأخذ تمرة واحدة يدخلها فاه أو ينقلها إلى بيته. وسألت أحد الأبناء المقربين إليه: من أين ينفق الشيخ على حاجات معيشته؟ فأخبرني أن له ابنين يعملان بالتجارة في الرياض ويرسلان إليه ما يحتاج من النفقة ولا مورد له غير هذا؟ فقلت: سبحان الله: إن خير ما يأكل المرء ما كان من كسب يده، وإن ولد الإنسان من كسبه، وهكذا تكون سيرة العلماء في الإكتفاء بالقليل والزهد فيما يزيد على ذلك مع الإجتهاد في أداء الواجب والإخلاص فيه.
ومرت الأيام.. وفي نهاية عام 1375هـ الموافق 1956م بدأ العدوان الثلاثي على مصر وهاجمت فرنسا وإنجلترا وإسرائيل أرض مصر ولكل دولة منهم دوافعها الخاصة فقد كانت فرنسا تريد أن تعاقب مصر على مساندة ثورة الجزائر ضدها. هذه المساندة التي وصلت إلى درجة تهريب الأسلحة والذخائر للثوار المسلمين في الجزائر وقد وقعت الباخرة (عايدة) المصرية في يد الفرنسيين وهي تحمل الأسلحة إلى ثوار الجزائر ضد الإستعمار الفرنسي فأضمرت لذلك شراً وكان هجومها على مصر، أما إنجلترا فكان هجومها من أجل أسهمها في قناة السويس التي أممتها مصر وأعادتها إلى الشعب المصري الذي حفر القناة بجهود أبنائه ودمائهم، وكانت مع ذلك تراودها الرغبة في إعادة سيطرتها مرة أخرى على مصر ولم يكن جلاء قواتها عن الأراضي المصرية قد جاوز العامين بعد، وانتهزت إسرائيل رغبة الدولتين الكبيرتين في الهجوم على مصر واتفقت معهما لخدمة أغراضها التوسعية العدوانية ولضرب القوة العربية الإسلامية على أرض مصر.(17/337)
وعرف الشيخ السعدي هذه الأبعاد كلها وخطب الناس الجمعة في هذا الموضوع ورفع الناس معه أكف الضراعة إلى الله أن يحمي القوة الإسلامية وأن ينصر المسلمين ويرد كيد الكافرين، وقد استجاب الله دعاء، فخطب الشيخ في جمعة تالية مهنئاً ومبشراً ومذكراً بقول الله تعالى: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} .
وقد كان للشيخ اهتمامات ظاهرة بأحوال المسلمين في كل بلادهم وكانت مقالاته في الصحف والمجلات في داخل المملكة وخارجها تظهر هذه الإهتمامات وكان يسألنا كثيراً عن أخبار مصر وأحوال المسلمين فيها وجهود علمائها في إقامة السنة وإزالة البدعة مع دعاء حار وأمل كبير في أن يصلح الله أحوال المسلمين.
ومع هذه الجهود المضنية التي كان يبذلها الشيخ كان كثير الكتابة والتأليف فقد كتب تفسيراً للقرآن الكريم كله سماه (منحة اللطيف المنان في تفسير القرآن) وله كتاب في الخطب المنبرية ورسائل في العقيدة وسؤال وجواب وفي بعض الموضوعات والقضايا الإسلامية وقد تبرع بكتبه كلها وطبعها أهل الخير المحبون للشيخ وعلمه ووزعوها بالمجان على أهل العلم وطلبته.
وفي شهر ربيع الثاني من عام 1376هـ توفي الشيخ عبد الرحمن السعدي عليه رحمة الله ورضوانه وحملت مع الناس نعشه وكانوا يعرفون صلتي الوثيقة به فكانوا يفسحون لي كلما رغبت واقتربت قائلين إنه كان يحبك. وإني لا أجد ما أصف به فضل هذا الشيخ وجهاده ومنزلته بين العلماء أحسن مما سمعته من عجوز جالسة على طريق الجنازة فقد قالت ونحن نمر عليها نحمل نعشه قالت العجوز في صدق وحرارة: "نجم هوى ".
رحم الله الشيخ عبد الرحمن السعدي وجعل سيرته الطيبة وأعماله الصالحة في موازين حسناته وأكثر من أمثاله الذين يزهدون في الدنيا ويبتغون ما عند الله.(17/338)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا "
رواه مسلم.(17/339)
نماذج [1] من الدعاة الصالحين
(الحلقة الأولى)
الشيخ أبو بكر الجزائري
بسم الله، والحمد لله.. والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فإن دعاة الإسلام في كل زمان ومكان هم دعاة الحق والخير الناهون عن الباطل والشر.
الإسلام: ونعني بالإسلام: دين الله الذي جاءت به كل الرسل عليهم السلام.
دعاة الإسلام: نعني بدعاة الإسلام: أولئك المصطفين الأخيار من أنبياء الله تعالى ورسله نوحاً عليه السلام فمن بعده إلى خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، وحوارييهم وأنصارهم ممن يتبعون سنتهم ويهدون بهديهم.
الحق: ونعني بالحق: الإيمان بالله تعالى وعبادته وحده بما شرع لعباده أن يعبدوه به من كل أعمال القلوب، والألسن وسائر الجوارح، ليعدهم به للكمال والسعادة في الحياتين.
الخير: ونعني بالخير كل الفضائل النفسية والخلقية مما ينجم عنه طيبة النفس وطمأنينتها، وهدوء الخاطر، وصلاح البال، مما تتحقق به سعادة الإنسان في هذه الحياة، ويهيئ به للسعادة في الدار الآخرة.
الباطل: ونعني بالباطل: الإيمان بالطاغوت وعبادته دون الله تعالى، أو مع عبادته عز وجل من كل ألوان الكفر وضروب الشرك، وما يستتبع ذلك من البدع والأهواء المنافية للشرع والعقل معاً.
الشر: ونعني بالشر كل الرذائل والخطايا مما يفقد الإنسان طهارة نفسه، وفضائلها، ويحرمه السعادة في الدنيا والآخرة.(17/340)
وهذه أمثلة حق صادقة، ونماذج حية ناطقة تمثل مواقف شتى للدعاة الصالحين، وهم يدعون إلى الحق والخير، وينهون عن الباطل والشر ولنبتدئ بأول أولئك الرسل نوح عليه السلام فنستعرض جوانب من حياة هذا الداعية الكبير، ليكون نموذجاً صالحاً للداعية المسلم اليوم يأخذ به، وينسج على منواله فيكمل في دعوته، ويشرف بها، ويبلغ الغاية المنشودة عليها، وهي هداية وإصلاح من أراد الله تعالى هدايتهم وإصلاحهم من الناس.
أ – نوح عليه السلام:
فمن هو نوح عليه السلام؟ وما هي الجوانب الهامة في حياته الدعوية التي يمكن للداعية المسلم الإ ستفادة منها في مجال الدعوة الإسلامية؟
إن نوحاً هو عبد الله ورسوله نوح بن لامك بن متوسلخ بن اخنوخ (إدريس) بن برد بن مَهْلايِيل بن قبْنَس بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام، هكذا يقول النسابون وي قولون: إن بينه وبين آدم عشرة قرون أي ألف سنة. هذا هو نوح عليه السلام.
وأما الجوانب الهامة في حياته الدعوية فهي تتمثل في الأرقام التالية:
(1) طول صبره.
(2) صدق لهجته.
(3) تلوينه أسلوب دعوته.
(4) شجاعته وعظم توكله على ربه عز وجل.
(5) صدق لجأه إلى ربه سبحانه وتعالى.
1- صبره الطويل:
وعن صبره الطويل نقول: إن نوحاً عليه السلام قد قضى في الدعوة إلى ربه تعالى من أجل أن يؤمن به، ويعبده وحده دون سواه، قضى دهراً طويلا ً، دعا فيه قومه إلى عبادة الله وحده، وإلى تقواه، وإلى طاعته هو بوصفه رسول الله والمبلغ عنه فقال: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُون يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} .(17/341)
ولاق ى في ذلك من الأذى ما لم يلقه كثير من الداعين إلى الله تعالى، فقد كذبه قومه ووصفوه بالجنون، ووصفوا اتباعه من المؤمنين با لإ سترذال، ولم يعترفوا لهم بأي فضل عليهم. فقالوا: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا [2] بَادِيَ الرَّأْيِ [3] وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} . ولم يقفوا عند حد التكذيب والعيب بل تجاوزه إلى التهديد بالموت، فقالوا: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} والرجم عندهم بالحجارة وسيلة من وسائل الإعدام، كرجم الزناة المحصنين في الإسلام.
ولما أنذرهم عاقبة شركهم وتكذيبهم وإجرامهم، وخوفهم بعذاب الله تعالى سخروا منه، وطالبوه بالعذاب متحديين له في ذلك. فقالوا: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} .
قضى نوح عليه السلام في دعوته دهراً طويلا ً فلم يكل خلاله ولم يمل حتى أوفى على تسعمائة وخمسين عاما ً. وبعدها رفع شكواه إلى ربه عز وجل فقال: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . وقال: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} .(17/342)
وبعد أن سبر غور القوم. حلل نفسياتهم، وعرف مركب طباعهم، وأيقن أنهم لا يؤمنون، بناء على وحي الله تعالى له بذلك: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ} .. وعلى ما شاهده من حال أجيالهم المتلاحقة وهم يتواصون بالكفر به وبتكذيبه في دعوته. دعا عليهم قائلا ً: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِراً كَفَّاراً} . ولم يكن هذا عن قلة صبر منه عليه السلام، وإنما كان خوفاً منه على الجماعة المؤمنة أن يفتنها أولئك الكفار الفجار فيحولوها عن معتقداتها، ويضلوها عن سبيل ربها {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} فلذا دعا ربه بهلاك الكافرين وتدميرهم قطعاً لدابر الكفر والكافرين وإنهاء لفتنة الشرك في الأرض والمشركين.
2- صدق لهجته:
وعن صدق لهجته نقول: إنه كان عليه السلام صادق اللهجة، واضح البيان وافي النصيحة، ظهر ذلك من أقواله وهو يخاطب قومه في شتى المواقف، والعديد من المجالات. فلنستمع إليه وهو يخاطب قومه آمراً إياهم بعبادة الله وحده، إذ لا إله لهم غيره، معللا ً لهم أمره بعبادة الله وحده بخوفه عليهم عذاب يوم عظيم. فيقول: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} .(17/343)
ولما رد عليه ملأهم قائلين: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ، قال: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ. أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . وقال في بداية دعوته وهو يبلغها قومه لأول مرة: {أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} . ولما ردوا عليه دعوته قائلين: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} ؟. رد عليهم قائلا ً: {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ، وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ} .
ومن خلال هذا الحوار القصير في هذه الجمل التي جاءت في القرآن الكريم وسمعناها عنه عليه السلام وهو يدعو إلى الإيمان بالله وعبادته وحده دون من سواه تظهر الحقيقة التي لقينا إليها وقررناها وهي صدق لهجته عليه السلام في دعوته، وصدق لهجته [4] في الدعوة عامل من عوامل نجاحها، والبلوغ بها إلى غاياتها.
3- تلوينه أسلوب دعوته:(17/344)
وعن تلوينه أسلوب دعوته نقول: إن نوحاً عليه السلام لم يدخر وسعاً، ولم يدخر يأل جهداً في سبيل إبلاغ دعوته، ونشرها بين قومه، حتى ملوا ذلك منه، وضجروا له فكانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم حتى لا يسمعوا ما يقول لهم، وما يدعوهم إليه من عبادة الله تعالى وحده وترك عبادة ما سواه، ويستغشون ثيابهم فيغطون بها رؤوسهم حتى لا يروه ولا ينظروا إليه من شدة كراهيتهم له وبغضهم إياه.
ولم يمنعه ذلك من مواصلة دعوته فيهم متذرعا ً بكل الوسائل الممكنة، فلم يترك بابا ً لإبلاغ دعوته إلا طرقه، ولا سبيلا ً إلا سلكها وكان لحكمته في دعوته يراعي حال مدعويه، فيسر القول إلى بعضهم، ويجهر به إلى بعض آخر بحسب ما تتطلبه حال الأشخاص المدعوين، إذ من الناس من يكون ذا أنفة وحسية وكبر لا يرضى أن يجهر له بالقول، أو يدعي إلى الحق والخير، أو التوبة وا لإ ستغفار علانية بين الناس، ومنهم السهل الطبع اللين العريكة، الذي لا يشمئز من دعوته جهراً، ولا ينقبض أو يغضب إذا دعي إلى الحق والخير بين الناس.(17/345)
وهذا من نوح عليه السلام تلوين لدعوته، وبحث لها عن كل ما يمكنها من الذيوع وا لإ نتشار، ثم الفوز وا لإ نتصار، ولنستمع إليه وهو يعرض شكاته ويرفعها إلى ربه تعالى ليعذره وينصره: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلا فِرَاراً وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً [5] وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} . فمن خلال هذه الشكاة التي رفعها نوح إلى ربه تتجلى حقيقة دعوة نوح عليه السلام وأنه كان ذا بصيرة في دعوته وعلم بها، يلون أساليبها، ويتحين الفرص لإبلاغها وإنجاحها يعتمد في دعوته على أسلوب الترغيب طورا ً والترهيب طوراً آخر، ليأخذ النفوس بالحكمة ويحذو بها إلى محيط الدعوة بالرغبة أو الرهبة، هذا شأن الداعية الحكيم في دعوته العليم بها البصير بمتطلبات نجاحها.
4- شجاعته وعظم توكله:(17/346)
وعن شجاعته وعظم توكله أقول: إن نوحا ً عليه السلام كأن ذا شجاعة عظيمة شأنه شأن سائر الأنبياء والمرسلين، وإن تفاوتوا في ذلك قوة وضعفا ً. أما توكله على ربه تعالى فقد ك ان مضرب المثل بحق، وتتجلى هاتان الصفتان: قوة الشجاعة، وعظم التوكل في الموقف التالي: جاء من سورة يونس عليه السلام قوله الله تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} .
وبتدبر هذه الآية الكريمة على النحو التالي:
نوح عليه السلام يشعر بأن قومه قد استثقلوا ظله وسئموا الحياة معه، وما أصبحوا لا يطيقون سماع كلامه، ولا رؤية وجهه كل ذلك كأن نتيجة لدعوته إياهم إلى عبادة الله تعالى وتقواه، وهم يصرون على الشرك والفسق ولا يريدون تركهما ولا التحول عنهما بحال.
كما يشعر أن قومه يهددونه بالقتل ويتوعدونه به في غير موطن: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} . فيعلمهم في وضوح أنه لا يخاف الموت ولا يرهبه وأنه قد توكل على ربه عز وجل فلذا هو لا يخاف سواه، ولا يعتمد على غيره بحال من الأحوال ويدلل على عدم خوفه من الموت، وع ل ى عظم توكله على ربه فيرشدهم إلى طريقة قتله والتخلص منه إن كانوا يعتزمون ذلك حقا ً ويريدون هـ ويبالغ في التدليل على شجاعته وعظم توكله على ربه، فينبههم إلى أنهم عندما يجمعون أمرهم على قتله ينبغي لهم أن لا يترددوا في ذلك، حتى لا يفشلوا في مهمتهم ولا يكون أمرهم غمة عليهم.
بهذا التدبر للآية يتضح أن نوحا ً عليه السلام ك ان من أقوى الناس شجاعة ومن أعظمهم توكلا ً على ربه تعالى.(17/347)
وقوة الشجاعة، وعظم الوثوق في الله والتوكل عليه من أخص صفات الدعاة الصالحين وبدونهما لا يقوى الداعي على تحمل رسالة الدعوة إلى الله تعالى، وإبلاغها إلى الناس.
5 - صدق لجئه إلى ربه:
وعن صدق نوح في لجئه إلى ربه تعالى نقو ل: إن نوحا ً عليه السلام ك ان صادق اللجئ إلى الله تعالى منيبا ً إلى ربه مسلما ً إليه متوكلا ً في كل شأنه عليه يظهر بوضوح في مثل قوله: {إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} . وفي قوله وقد ازدجره قومه بعد صراع مرير تجاوزت مدته مئات السنين: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} . قال تعالى في الإخبار عن حاله مع قومه في تكذيبهم له، وزجرهم إياه: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} أن انتصر يا ربي، فانتصر الله تعالى له فأنجاه وأغرق أعداءه ولما هدده قومه توعدوه، وقالوا: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} لجأ في صدق إلى ربه يطلب نصرته وأن يخلصه من قومه العتاة الطغاة الفاسقين فقال: {رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . كما قال تعالى عنه: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} .(17/348)
وأخيراً فنبي الله تعالى نوح عليه السلام اجتمع له من صفات الكمال في الداعية ما كان به أول الدعاة فقد جمع بين طول الصبر، وصدق اللهجة، وكمال البيان، وتلوين الأسلوب مراعاة لحال من يدعوهم بعد معرفته لنفسياتهم، وعظم الشجاعة وقوة التوكل وكمال الوثوق، وصدق اللجأ، وهي صفات ما اجتمعت لداع من دعاة الحق والخير، والناهين عن الباطل والشر إلا كان مثالا ً يحتذى به وكانت حياته نموذجا ً صالحا ً يتمثل بها في حياة الدعوات الإصلاحية بين بني الناس.
فعلى أبنائنا النابهين الذين اختاروا لأنفسهم أن يكونوا دعاة حق وخير وأئمة هداية وإصلاح أن يتحلوا أولا ً بالصبر واليقين إذ بهما تنال الإمامة في الدين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} .
وثانيا ً أن يترسموا خطى الدعاة الصالحين وينسجوا على منوالهم وقد قدمنا لهم أصدق نموذج للداعية الصالح عرفته البشرية بعد سيد الدعاة محمد صلى الله عليه وسلم ألا وهو أبو البشر الثاني نوح أحد أولي العزم من الرسل، فليذكروا منه طول صبره، وصدق لهجته، وكمال بيانه، وتلوينه لأسلوب دعوته وعظم شجاعته وقوة توكله وصدق لجئه إلى ربه، فإنهم بذلك يكسبون من صفات الكمال في الدعاة ما يعينهم على أداء مهمتهم وإبلاغ رسالتهم. حقق الله تعالى لهم ذلك.
وسلام على نوح في العالمين وعلى محمد في المرسلين.. والحمد لله رب العالمين.
ب- إبراهيم عليه السلام.
من هو إبراهيم؟ ..
إنه أبو الأنبياء والضيفان إبراهيم بن آزر (تارخ) بن ناحور بن ساروغ بن راعو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخش ذ بن سام بن نوح عليه السلام.(17/349)
هذا هو إبراهيم في نسبه اسما ً وكنية. أما إبراهيم في كمالاته النفسية، فإنه أمة كاملة، وليس فردا ً واحداً. كما قال عنه ربه تعالى في كتابه الكريم القرآن العظيم {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
وذلك لما جمع الله تعالى فيه الكمالات البشرية التي لا يجمع إلا في الأمة من الناس (العدد الكثير) فقد طفحت حياة الخليل بصنوف الإبتلاءات، وضروب البطولات ما أصبح به مثالا ً صالحا ً، وأسوة حسنة لكل راغب في الكمال البشري يفوز به بين العالمين. هذا وإن المرء ليحار عندما يريد أن يستعرض حياة كريمة شريفة، نادرة في خصائصها فذة في نعومتها وشمائلها كحياة إبراهيم الخليل، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، إذ تزدحم أمامه جحافل الكمالات الإبراهيمية فلا يدري ماذا يستعرض منها، وقد تشاكلت في الحسن، وتسامت في الجلال والجمال، وهذه كواكبها في سماء الحياة الإبراهيمية أنها: الدعوة، والحجة، والبلوى، والهجرة، والخلة، والقدرة، والرحمة والأمة وزاد في إشراق هذه الكواكب أن الأرض يومها كانت مقفرة من الحق والخير، مظلمة لا ضوء فيها ولا نور. ساد فيها الظلم وتحكمت في أهلها الأوثان. وانحرفت فيها الفطر البشرية، وتحجرت منها العقول الآدمية، فعبد الناس الأصنام وخنعوا للظلم واستكانوا للطغيان. والآن قد أظلمت سماء الحياة البشرية، وتغشت أرضها، وحل بها ما كان بأرض بابل والكلدانيين من سائر أنواع الكفر والظلم والشر والفساد والطغيان.
فهل لنا أن نستعير لها من كواكب الحياة الإبراهيمية ما تستنير به وتشرق من جديد. ولم لا..؟ وما المانع لنا..؟(17/350)
وعليه فبسم الله، وعلى بركته نستعرض تلك الصفات الثمانية التي عددناها كواكب زهرا ً في حياة إبراهيم الخليل، صفة بعد أخرى، وما منها إلا وتمثل جانبا ً هاما ً من حياة إبراهيم المفعمة بجلائل الأعمال وعظائم مثل الكمال، فلنستعرضها ع َ لنا ًَ نكتسب من أبي الأنبياء وإمام الموحدين إبراهيم الخليل ما يساعدنا على النهوض بأعباء ما أنيط بنا - بوصفنا مسلمين - من واجب الدعوة إلى الله تعالى ليعبد وحده بما شرع أن يعبد به فيكمل بذلك العابدون في دنياهم ويسعدوا في أخراهم.
1- إبراهيم الدعوة:
عند التأمل لا يرى أن هناك مبالغة في نسبة إبراهيم إلى الدعوة وإضافته إليه في قولنا إبراهيم الدعوة أو في كل ما ننسبه إليه من صفاته الكمالية التي امتاز عليه السلام، وذلك لأن إبراهيم عليه السلام غلبت عليه صفات فأصبحت كل صفة تمثل شخصية مستقلة، وذاتا ً متميزة فإبراهيم يمثلها وهي تمثله فقولك دعوة إبراهيم، كقولك إبراهيم الدعوة، سواء بسواء. فعن إبراهيم الدعوة نقول: إن إبراهيم عليه السلام قد أضطلع بأمر الدعوة إلى الله تعالى في سن مبكرة جدا ً ولعل في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} دلالة واضحة على أنه ابتدأ الدعوة إلى الله في حداثة سنه. ويرجع هذا أيضاً أنه بدأ بدعوته أباه قبل قومه وذلك لكونه في حجره وكفالته.(17/351)
وفي دعوة إبراهيم أباه إلى عبادة الله تعالى وحده، جعل عبادة الأصنام قبل دعوة غيره من أهل بلاده دلالة قوية على رشد إبراهيم وحكمته. فقد أمر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن ينذر عشيرته الأقربين في قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} ف جمعهم ودعاهم كما جاء ذلك مبينا ً في سيرته صلى الله عليه وسلم حيث ناداهم فعم وخص حتى قال:" يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت فإني لا أغنى عنك من الله شيئا ً. أنقذي نفسك من النار " والآيات القرآنية التي عرضت دعوة إبراهيم عليه السلام لأبيه هي آيات سورة مريم عليها السلام فلنوردها ولنقف على مواطن العبرة والهداية منها.
قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً , إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} . ففي نهيه عليه السلام أباه عبادة الأصنام بأسلوب الإ ستفهام الذي هو أخف على النفس من صيغة النهي لا تفعل مظهر من مظاهر الحكمة وفي الدعوة، لأن آزر بحكم أنه والد كبير السن له حق التبجيل الإ حترام يتنافى معه مخاطبته بصيغة الأمر الدالة على العلو والقهر. وفي وصفة إله آزر الذي يعبده بأنه لا يسمع ولا يبصر، ولا يغن ي عنه شيئا ً متى أراد الله تعالى أن يعذبه إن هو استمر على الكفر به وعبادة غيره. مع أنه إخبار بالواقع الذي لا ينكره آزر عليه لعائن الله، إلا أنه أسلوب دعوى عال لا يرقي إليه إلا ذو القدم الراسخة في الدعوة، لان آزر كان غافلا ً تم اما ً عن كون آلهته لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع، وإنما يعبدها تقليدا ً لغيره من أهل بلاده، فليسلب إبراهيم عنها أخص صفات الألوهية كان قد أماتها قلبه وهيأه بذلك الإيمان بالله السميع البصير الذي هو على كل شيء قدير.(17/352)
وقوله له: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} . فإنه عليه السلام تحاشى أن يصم والده بوصمة الجهل التي يأباها الإنسان حتى ولو كان جاهلا ً حقا ً كما أنه لم يصف نفسه بالعلم تمدحا ً وتعاليا ً على والده، وإنما أخبره أنه جاءه من العلم ما لم يأته هو وأو أتاه ما أتي إبراهيم من العلم لما طلب إليه أن يقوده الهدى، ولكان هو القائد له ولنفسه أيضا ً وهو أسلوب عظيم لا يشعر معه المدعو بأدنى غضاضة، أو أية إهانة، أو انتقاص كرامة، فلا يتعقد نفسيا ً، ولا يتحطم شخصيا ً، ومتى بقيت للمدعو كرامته وشخصيته أمكنه أن يأخذ مع الداعي له ويعطى، وهو طريق الوصول إلى معرفة الحق. وبالتالي إلى الهداية المطلوبة لمن شاءها الله تعالى له.
وقوله له: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً. يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً} .
فإنه بعد إقناعه والده أن ما يعبده لا يسمع ولا يبصر ومن كان كذلك لا يعبد عقلا ً ولا شرعا ً مع استمرار آزر على عبادته أعلمه في هذه الجملة الكلامية أنه إنما يعبد الشيطان، ونهاه عن ذلك معللا ً له النهي بأن الشيطان كان ومازال للرحمن عز وجل عصيا ً، وطاعة العاصي تعرض المطيع للعذاب الذي ينال العاصي، إذ طاعة العاصي للسلطان تعتبر معصية للسلطان نفسه وبذا ينالهما جزاء المعصية معا ً، ولهذا قال له في إشفاق عليه ورحمة به: يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ً، إذ يجمعه وإياه صعيد العذاب، بعد اليم والتوبيخ والعتاب فتتم الولاية بينهما بسبب القرب الذي حصل لهما.(17/353)
وقوله له: {سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} . بعد غضب والده عليه وتهديده له بعذاب الرجم بالقول أو الفعل ومطالبته بالبعد عنه وهجرته له دهرا ً طويلا ً. إذ قال له: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} . أقول إن قوله له سلام عليك سأستغفر لك ربي، لقول من أسد الأقوال لا يقوله إلا من أوتي رباطه الجأش، ورحمة القلب، وهما من ضروريات الداعي الناجح، ولذا كان الخليل إمام الدعوة وقدوتهم في الحياة.
وبعد هذا العرض والسماع لدعوة إبراهيم لأبيه وأقرب الناس إليه نستعرض دعوة إبراهيم وهو يوجهها إلى قومه وأهل بلده لنقف ع لى مظاهر كماله في دعوته العامة بعد الخاصة. ولنطلب ذلك من سورة العنكبوت إذ جاء فيها قول الله تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} .
ففئ هذه الجمل الكلامية التي وجهها إبراهيم عليه السلام إلى قومه الوثن ي ين، وحكاها عنه القرآن الكريم، لتكون حافزاً كبراً للمنزل عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على إبلاغ دعوته إلى قومه، وثباته عليها، ائتساء بإبراهيم إمام الموحدين واقتداء به في مجال الدعوة والبلاغ المبين.(17/354)
كما تكون درساً نافعا ً لكفار قريش، ولكل مشركي العرب، إذ يتعلمون من خلالها بطلان الشرك الذي هم عليه، وأحقية التوحيد الذي يدعون إليه.
ففي قوله: يا قوم اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، إنما تعبدون من دون الله أوثانا ً وتخلقون إفكا ً. إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا ً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون، وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين.
في هذا القول الكريم من مظاهر العلم والحكمة وسلامة التوجيه، وحسن الدعوة ما لا يقادر قدره، الأ مر الذي يجعل إبراهيم أحد نماذج الدعاة الصالحين، الذين يؤتسى بهم ويقتدى باتباعهم.
وإن أمعنا النظر وأعملنا الفكر في هذه الكلمات التي ألقاها إبراهيم في قومه دعوة لهم إلى الحق، وإرشادا ً لهم إلى سبيله تجلت لنا ينابيع الحكمة، وعناصر العلم الغزير الواسع وأساليب البيان الفتان.
إن في قوله: {يا ق َ وم} بدل (أيها المشركون) من استمالة قلوب القوم، واستهواء نفوسهم ما يجعلهم لا ينفرون من سماع دعوته، والتأمل فيها، لأن القومي عادة لا يريد ما يضرهم أو يسئ إليهم ولكن يريد لهم ما ينفعهم ويرفعهم.
وفي قوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ} تقرير منه بالإيمان بوجود الله تعالى، ونفي للتعطيل الذي هو مذهب الملاحدة الدهريين، لأن أمرهم بطاعة الله تعالى مستلزم للإيمان به عز وجل.
وفي قوله: {واتقوه} بعد أمرهم بعبادة الله تعالى نه ى لهم عن الشرك في عبادته سبحانه وتعالى لأن التقوى لله تعالى مستلزمة لعدم قطع عبادته ولإفراده تعالى بها، وعدم إشراك غيره فيها، فيكون قوله هذا كقوله الله تعالى في القرآن الكريم من سورة النساء {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} .(17/355)
وفي قوله {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} ما يجذبهم إلى التعقل والتفكر فيما يدعوهم إليه من الهدي والخير، حيث أشعرهم بأن ما يدعوهم إليه من عبادة الله وتقواه بنفي الشرك عنه، والإ ستمرار في عبادته، خير لهم في الحال والمآل من الكفر والشرك لما يثمره الإيمان والطاعة والتوحيد من الكمال النفسي، وا لإ ستقامة في الحياة وما يستتبع من سعادة الدنيا والآخرة، ولما يعقبه الكفر والشرك والعصيان من آثار سيئه في النفس والسلوك، وما يستلزم ذلك من الردى والشقاء والهلاك في الحياتين.
وفي قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، دعوة لهم إلى الإ رتفاع بنفوسهم عن منحدر التقليد والجمود إلى مستوى العلم والتفكير، فإن من يعلم الخير والشر، والحق والباطل ويقدر على التمييز بينهما يدرك أن عاقبة الحق والخير أحمد من عاقبة الباطل والشر وأن عبادة الله وتقواه خير من الكفر والشرك ومعصية الله.
وفي قوله: {تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} قصر لهم على الحقيقة التي يتجاهلونها وهي أنهم ليسوا على شيء في عبادتهم لأوثانهم، لأن الأوثان من صنيع أيديهم وبذلك لم تكن أبدأً أهلا ً لأن تعبد مع الله الخالق لكل شيء إنها في الواقع لم تعد أن تكون إفكاً ائتفكوه، وكذباً اختلقوه فلا يصح عقلا ً أن تعبد بحال من الأحوال، وهي مفتقرة في وجودها إلى من صنعها، ولو حكم العقل في القضية لحكم بعبادة الصانع، وبطلان عبادة المصنوع.(17/356)
وفي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} برهنة منه عليه السلام على بطلان عبادة تلك الأوثان، لأنها لا تملك لعابديها رزقا ً، والإله يعبد ويتوسل إليه بالطاعة وشتى القرب ليهب الرزق والخير والبركة والعافية، فإن كان لا يملك ذلك فهو لا يهبه، ولذا فلا حق في عبادته وطاعته وهكذا قرر إبراهيم بطلان آلهة قومه بهذا المنطق من الكلام، لحكمته وعليه السلام.
وفي قوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} بناء لصرح التوحيد على أساس بطلان الشرك وتهاويه، فإن الآلهة التي لا تملك الرزق يجب أن ترفض عبادتها، وأن يتجه المفتقرون إلى الرزق إلى الذي يملكه ويعطيه فليعبدوه ليهبهم الرزق، وليشكروا له ذلك ليحفظه عليهم ويزيدهم منه، فإن شكر النعم يحفظ العبد ويستوجب المزيد.
وفي قوله: {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تذكير لهم بالمعاد والحياة الآخرة، ليربي في نفوسهم ملكة التقوى لله تعالى ويحي في قلوبهم عقيدة البعث والجزاء التي قد تكون الوثنية أتت عليها وأماتتها في نفوسهم.
وفي قوله: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} إعلان منه عليه السلام أنه يتكلم من مركز القوة وأنه ليس براغب ولا راهب فهو يقول قولته، وتنفذ دعوته فإن استجابوا وآمنوا ووعدوا واستقاموا نجوا من العذاب وفازوا بالنعيم، وإن كذبوا فليس ذلك بضائرة شيئا ً، فقد كذب الذين من قبلهم رسلهم كهود وصالح، ونوح من قبل، وما ضر ذلك رسل الله في شيء بل أنجاهم الله وأهلك المكذبين وليس هناك ما يخافه الدعاة إلى الله تعالى من عدم استجابة الأقوام لهم إذ ما عليهم إلا البلاغ المبين وقد بلغوا وبينوا.
2- إبراهيم الحجة:(17/357)
وعن إبراهيم الحجة نقول: لقد أخبر الرب تبارك وتعالى أنه آتى خليله إبراهيم حجته التي تفوق كل حجة، وتعظم سائر الحجج، إنها حجة خالق العقول والحجى يمنحها من يشاء وقد وهبها إبراهيم ليتغلب بها على من يحاجه، ويريد أن يحجه، قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} .
ولما كانت قوة الحجة من أسباب النصر على الخصوم، وكان الداعية المسلم يعتمد على قوة الحجة في دعوته لأن ذلك من أسباب نجاحها فإنا نستعرض هنا موقفين عظيمين لإبراهيم عليه السلام قارع فيهما الحجة وانتصر فيهما على خصوم التوحيد من قومه، ليشاهد من خلال الإ ستعراض كيف كان الخليل عليه السلام يرد حجج المبطلين، وينتصر على الظالمين والمشركين بما آتاه الله من العلم والحكمة وقوة الحجة لعل من يقتدي به عليه السلام في أساليب دعوته وكيفية استخدام حجة ربه ليظهر على خصومه وينتصر على أعداء دعوته.
- الموقف الأول:
كان له مع الطاغية النمرود البابلي الذي ادعى الربوبية أول من ادعاها من الخلق. وقد عرض هذا الموقف القرآن الكريم عرضاً موجزاً في عدة جمل لا تتجاوز العشر حيث قال تعالى من سورة البقرة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .(17/358)
وعرض هذا الموقف يكون كالتالي بابل من بلاد العراق ملك جبار يقال له النمرود بن كنعان بن كوشى بن سام بن نوح عليه السلام امتد ملكه حتى شمل كل المعمورة يومئذ ودام زمن ملكه نحوا ً من أربعمائة سنة فغره طول العمر وسعة الملك وقوة السلطان فادعى الربوبية كما ادعاها من بعده فرعون مصر على عهد موسى عليه السلام، فحضر مجلسه إبراهيم عليه السلام بعد حادثة إلقائه في النار ونجاته منها فدعاه إلى الإيمان بالرب تبارك وتعالى فأنكر الطاغية أن يكون هناك رب غيره، وأخذ يناظر إبراهيم في شأن وجود الله تعالى وربوبيته لكل شيء وما حمله على ذلك إلا كبرياؤه واغتراره بسعة ملكه وطول عمره.(17/359)
وحاول الطاغية أن يقنع إبراهيم بأنه لا رب إلا هو، وأنه هو الرب لا غير فأنكر عليه ذلك إبراهيم ورده وكان الطاغية قد سأل إبراهيم عن ربه فقال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت. فعرفه له بصفاته الخاصة به وهي الإحياء والإماتة وهما من مظاهر وجود الله تعالى وعلمه وقدرته، وتدبيره للكون والحياة. لأن من قدر على إعطاء الحياة وسلبها قادر على كل شيء ممكن وعلمه وقدرته، وتدبيره للكون والحياة. لأن من قدر على إعطاء الحياة وسلبها قادر على كل شيء ممكن في هذه الحياة هو الرب الحق الذي يستحق عبادة الخلق. أما من لا يحيي ولا يميت ولا يرزق الأحياء ولا يدر حياتهم فليس أهلا ً للربوبية بحال من الأحوال، وعرف الطاغية أنه مهزوم أمام هذه الحجة الباهرة وقال من أجل الحفاظ على مركزه والبقاء على ما وجهه وصيانة لموافقة المنهار أمام قوة الحق: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} ، بهذا قد اعترف ضمنا ً أن هنا ربا ً غيره، كل ما في الأمر أنه هو أيضا ً رب يحيي ويميت كما يحيي رب إبراهيم يميت، وتقول الأخبار أنه عمد إلى جانيين في السجن قد استوجبا القتل فدعاهما إلى مجلسه فنفذ حكم الإعدام في أحدهما وعفا عن الآخر. بذلك خدع عقول الحاضرين من أهل بطانته ورجال مجلسه، وأنه فعلا ً يحيي ويميت، إلا أن إبراهيم تفطن للخدعة وعرف المغالطة وقال له إنك أحييت حيا ً ولم تحيي الميت والرب الحق يحيي الميت ويميت الحي وإن بقيت على مغالطتك فإن الله يأتي بالشمس صباح كل يوم من المشرق فأت بها أنت من المغرب. ولم يجد الطاغية في هذا مجالا ً للمغالطة والتضليل كما وجد ذلك في الأولى كما أنه لم يجد ما يقدمه حجة تدحض حجة إبراهيم فانقطع الطاغية وبهت وبان زيف حجته وبطلت دعواه، وقامت الحجة عليه لله.
نتائج هذه المناظرة:
نلخص ثمرة هذا الموقف في النقاط الست التالية:
1- قوة السلطان وسعة الملك وطول العمر من موجبات الغرور والطغيان للإنسان.(17/360)
2- الدعاة يغشون مجالس الملوك لنصحهم ووعظهم وإرشادهم، أو لدعوتهم إلى ربهم. ولا ينقص ذلك من شرفهم ولا يمس بكرامتهم.
3- صاحب الرسالة يبلغها ولا يهاب في ذلك سلطانا ً ولا يخاف بطشاً ولا عدواناً.
4- الإدلاء بالحجة يكون بعد الإنكار أو ظهور علاماته.
5- الإ ن ك ار بالحجة من القوي ة إلى الأقوى لإفحام الخصم وإقامة الحجة عليه.
6 - النصر والغلبة لدعاة الحق وناصريه، والهزيمة وا لإ نكسار لدعاة الظلم والقائمين عليه.
وأخيرا ً أن السر في هذا الإ نتصار الباهر الذي حققه إبراهيم على خصمه النمرود عليه لعائن الله تعالى هو موالاة الله تعالى لإبراهيم فإن من والاه الله تعالى أخرجه من كل ظلمه، وأمده بكل نور وبه ينتصر ويظهر إذ ذكرت هذه القصة تدليلا ً على قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
الموقف الثاني:
جاء هذا الموقف في قول الله تعالى من سورة الأنعام، {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
ولنستعرض أحداث هذا الموقف على النحو التالي:(17/361)
أنه بعد أن ألان إبراهيم جانبه لوالده وعرض عليه دعوة الله تعالى في لطف وظرف وأدب ازداد ع ت وآزر وظهر إصراره على كفره، وعدم تراجعه عن موقفه العدائي لإبراهيم داعي الله تعالى الأمين. هنا تغير موقف إبراهيم إزاء آزر فاتسم بنوع من الشدة والصرامة فقال ما قصه الله تعالى في كتابه من سورة الأنعام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وفي هذا تصريح كامل بتضليل آزر وقومه خالٍ من كل مواربة أو مجاملة.
ورأى إبراهيم عليه السلام أن يسلك في هداية قومه طريق الوقوف بهم على مظاهر الكون وآيات الله فيه ليريهم خطأهم في عبادة غير الله تعالى من تلك الأصنام التي لا تخلق شيئا ً ولا تنفع ولا تضر أحداً علهم يثبون إلى رشدهم ويعودون إلى عبادة ربهم الحق الذي خلقهم ورزقهم ويميتهم ثم يحييهم وهو على كل شيء قدير.(17/362)
فلما أظلم الليل بغروب شمس النهار وطلع كوكب من الكواكب المنيرة ونظر إليه وقال في أسلوب استفهامي إنكاري: هذا ربي أي أهذا ربي؟ كما يزعمون؟ فلما أفل الكوكب وغاب بغروبه في الأفق قال: لا أحب الآفلين. وبذلك قرر عدم صلاحية الكوكب للألوهية لذهابه، وطلب غيره مما يصلح لذلك. فلما رأى القمر بازغا ً قال هذا ربي فلما أفل القمر، قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الظالمين. فأرى إبراهيم قومه وأسمعهم أنه باحث عن آية طالب له متطلع إلى يوم يعرف فيه ربه الذي خلقه ورزقه وخالق كل العالمين حتى رأى الشمس بازغة وهي أعظم كوكب في السماء وأكثر الكواكب إشراقا ً ونوراً وضياء ً. فلما رآها قال هذا ربي هذا أكبر. فلما أفلت بغروبها وذهاب جرمها واختفائه عن أعين الناس واجه قومه بالحقيقة التي ينشدها لهم يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ً وما أنا من المشركين. وهنا حاجه قومه في توحيد ربه فأنكروا عليه ذلك كما أنكروا عليه براءته من آلهته فانبرى لهم قائلا ً: {أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} ، فكيف يصح عقلا ً أن أتنكر لربي رب السماوات والأرض فأنكر وجوده وأنكر توحيده، والحال أنه قد هداني لمعرفته فعرفته وإلى صراطه المستقيم فسلكته، أبعد كل هذا تحاجوني في ربي أما ترعون، أم أنكم قوم لا تعقلون؟. ولما رأوا من إبراهيم الإصرار على التوحيد، وإبطال الشرك والتنديد به، وشاهدوا استخفافه التام بآلهتهم المدعاة الباطلة خوّفوه بآلهتهم، وأنها ستنتقم لنفسها ولعابديها منه إن هو بقي على معاداتها وا لإ ستخفاف بها والسخرية منها.(17/363)
فرد عليهم إبراهيم قائلا ً: سأبقى على توحيد الله، وعلى الدعوة إليه، منددا ً بشرككم ساخرا ً من آلهة باطلكم، ولا أخاف تلك الآلهة التي تشركون بها إن تصيبني بشيء، إذ أنها لا تنفع ولا تضر لضعفها وحقارتها إن هي إلا أصنام نحتموها بأيديكم، وعبدتموها بأهوائكم، فكيف تضر، أو يخاف منه ضر أو شر، اللهم إلا إذا أراد ربي أن يصيبني بشيء عقوبة لي على تقصير مني في عبادته، أو ابتلاء لي في طريق دعوته للصبر عليها، أو أتخلى عنها فإن ذلك من مقتضيات حكمة الله وعلمه، فقد وسع ربي كل شيء علماً.
ثم بعد إقامة الحجة عليهم في بطلان آلهتهم وعجزها عن إصابته بأي أذى أو سوء لم يرده الله تعالى له. أقبل عليهم يوبخهم بجهلهم وغفلتهم وعدم تذكرهم إذ لو علموا بطلان ما هم عليه، ولم يجهلوا الحق الذي يدعون إليه، ولم يغفلوا عن واقع الحياة التي يعيشون وتذكروا في أنفسهم أن ما يخوفون به إبراهيم إنما هو جماد لا حياة فيه، ولا سمع ولا بصر له فكيف يمكنه أن يضر إبراهيم، أو يناله بأدنى سوء، لما خوفوه عليه السلام بما اتخذوا من أصنام آلهة ولكنهم جهلاء غافلون فاقدون لكل تدبر أو تذكر.
وبعد أن وبخهم على جهلهم وغفلتهم، وعدم تذكرهم، عاد لحجاجهم عله يكسر من أغلال تقليدهم ويمزق غفلتهم، ويخفف من تبلد حسهم فيتبينوا الحق ويرجعوا إليه فتتم هدايتهم وينجو من غوايتهم. فقال لهم في أسلوب الإ ستفهام التعجبي المثير للنفس، المحرك للضمير: وكيف أخاف أنا من أشركتم من آلهة لا سمع لها ولا بصر، ولا قدرة لها على نفع أو ضر، ولا تخافون أنتم أنكم أشركتم في ربوبية الله تعالى وعبادته ما لم ينزل به سلطانا ً من هذه الأوثان التي تعبدون، والآلهة التي تزعمون، مع أن الشرك ظلم عظيم يستوجب فاعله العقوبة الشديدة، والعذاب الأليم.(17/364)
وختم حجاجه عليه السلام بقوله: فأي الفريقين أحق بالأمن من الخوف إن كنتم تعلمون. فريق الإيمان والتوحيد والطاعة وهو أنا، أم فريق الكفر والشرك والمعصية وهو أنتم. أجيبوا عن سؤالي هذا إن كان لديكم علم تجيبون به. وإلا فاعترفوا بجهلكم، وضعف مسلككم في حجاجكم. فإن ذلك أولى بكم، وأليق بمثلكم أيها المحجوجون المغلوبون.
وإلى هنا انتهى الحجاج بين إبراهيم وقومه بانتصار إبراهيم وغلبته وانكسار قومه وهزيمتهم. والنتائج التي تستخلص من هذا الحجاج قد تلخص فيما يلي:
1- مراعاة الأدب في الدعوة والمناظرة بعدم استعمال الكلمة الخشنة النابية، إلا إذا خرج الخصم المجادل عن تلك الحدود من الآداب المرعية في الجدال والمناظرة.
2- مراعاة حال المدعو، وتقديم البيان والهد ي إليه شيئا ً فشيئا ً والأخذ بيده تدريجا ً تدريجاً إلى أن يوصل به إلى محيط الهدى ودائرة النجاة إن قدر له ذلك، وإلا فقد أعذر إليه وبرئت ذمة الداعي.
3- من واجب منكر الباطل على غيره أن يتبرأ منه كما ت برأ إبراهيم من الشرك والمشركين، وا لإ زدراء منه بتناقضه، إذ كان ينهى عن الشيء ويفعله أو يرضى به.
4- تخويف المشركين إبراهيم من آلهتهم أن تمسه بسوء، سنة باقية في الناس إلى اليوم، فكثيرا ً ما يخوف القبوريون اليوم المصلحين من الأولياء والصالحين الأموات إذا المصلح الداعي أنكر على الناس دعاءهم وا لإ ستغاثة بهم والذبح لهم.(17/365)
5- صاحب الحق أولى بالدفاع عن حقه وتحمل الأذى في ذلك من صاحب الباطل، غير أن الناس اليوم على خلاف ذلك فإنا نرى أصحاب الباطل يبذلون الكثير من الجهد والمال في سبيل نصرة باطلهم ويتحملون في سبيل ذلك الكثير من الأتعاب، ونرى على العكس من ذلك أصحاب الحق فإنهم في الغالب لا يبذلون لنصرة حقهم نفسا ً ولا مالا ً، ولا يتحملون تعبا ً كبيراً ولا صغيراً.
6- الحق وإن ظهر لا بد له من تأييد بقوة الحجة، أو سلطان، وإلا لما سلم أهل الباطل له، ولا ما أذعنوا له، واعترفوا به.
والح ـ ق وإن ع ـ لا ليس بم ـ ؤيد
حتى يحوط بج ـ انبيه حس ـ ام
خط الرس ـ ول بيدي ـ هـ خندق ـ ا ً
وم ـ شى تحوله قنى وس ـ هام
3- إبراهيم البلوى:
وعن إبراهيم البلوى نقول: إن ما ابتلي به إبراهيم عليه السلام من صنوف البلوى، وضورب الإ متحان ليعد وحيدا ً في بابه، فريداً في حياة الإ بتلاء وا لإ ختبار. إنه لم يعرف في تاريخ البشرية الطويل وخاصة بين أصحاب الرسالات من ابتلي ابتلاء إبراهيم الخليل، كل ذلك ليعد لمنصب الإمامة التي لم يتسمه ولم يرق إليه سوى إبراهيم عليه السلام. قال تعالى في ذلك: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} .
إن ما ابتلي به إبراهيم فصبر له وفاز بحسن عقباه لكثير جداً، ونحن نذكر طرفاً منه:(17/366)
1- إرساله وحده إلى أمة غارقة في الوثنية، ضاربة في الضلال، على رأسها ملك جبار طال عمره واتسع ملكه فغره ذلك فادعى الربوبية، فهو لا يرى رباً سواه، ولا ملكاً حاكماً غيره إلى مثل هذه الأمة وهذا الملك يُبعث إبراهيم ليندد بالشرك والوثنية، ويصرخ في وجه الظالم والطغيان. فيحمل رسالته بكفه وينادي بأعلى صوته: ماذا تعبدون أئفكا ً آلهة دون الله تريدون، فما ظنكم برب العالمين؟ ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون.. ما تعبدون؟ قالوا نعبد أصناما ً فنظل لها عاكفين. هل يسمعونكم إذ تدعون، أو ينفعونكم أو يضرون. قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون. قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين. تالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذا ً إلا كبيرا ً لهم لعلهم إليه يرجعون.
2- إلقاؤه في النار:
ورأى المشركون آلهتهم متساقطة مبعثرة متناثرة فثارت ثائرتهم، وتأججت نار الحمية في قلوبهم، وتساءلوا عمن فعل بآلهتهم الخراب والدمار، والحق بها الخزي والعار وعلموا أنه الفتى الساخط عليها الناقم منها إبراهيم أحضروه وناظروه فكبتهم وأذلهم وألحق المهانة بهم وبآلهتهم فحاكموه وظلما ً حكموا عليه فبنوا تنوراً أعظم تنور وأحرقوا فيه النار حتى كانت جحيماً لا تطاق القوة فيها فكان هذا كذلك امتحانا ً من أقسى الإ متحانات وابتلاء نادرا ً في باب الإ بتلاءات.
3- هجرته إلى الشام:(17/367)
وثالث الإ بتلاءات أن يهاجر إبراهيم فيترك أهله وبلاده، ويقول إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم. إنه بعد أن أنجاه الله من النار بكلمة الله تعالى {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} فكانت كما أراد الله برداً وسلاماً على إبراهيم، فخرج منها ولم يمسه سوء ولم ينله مكروه. قرر إبراهيم الهجرة فخرج مهاجراً يؤم أرض الشام وبلاد كنعان. فخروجه من بلاده عليه السلام تاركاً كل شيء وراءه وهو يتجه إلى مجهول من البلاد ليس له فيه صديق أو حميم يعتبر ابتلاء من أعظم أنواع الإ بتلاءات.
4 - إسكانه امرأته وولده بوادي مكة:
بأمر الله تعالى أسكن إبراهيم أم إسماعيل وولدها وادي مكة حيث لا زرع ولا ضرع والمرأة شقيقة الرجل، والولد فلذة كبده. فليس من غير الإ بتلاء القاسي الشديد أن يضع الرجل زوجه وولده في مكان بعيد ليس فيه ماء ولا مرعى، ولا جار ولا دار، ويقفل راجعاً فتقول له امرأته: لمن تتركنا هنا؟ .. آلله أمرك، فيقول: نعم، فتقول إذاً فاذهب فإنه لا يضيعنا. يذهب ويترك امرأته وولده امتثالا ً لأمر ربه تعالى.
5 - رؤياه ذبح ولده:(17/368)
ومن أعظم البلايا التي ابتلي بها إبراهيم وحي الله تعالى إليه أن يذبح ولده إسماعيل قربانا ً لله تعالى إنه بعد أن كبر إسماعيل وبلغ حد السعي والعمل رأى إبراهيم عليه السلام رؤياه العظيمة التي توحي بذبح إسماعيل قربانا ً لله تعالى فقال لإسماعيل يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، فأجابه إسماعيل قائلا ً: يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين، وخرج إبراهيم بإسماعيل إلى منى ليذبحه هناك، وفعلا ً تله للجبين، وأمر مديته على رقبة الابن الصابر وإذا الحديد لم يقطع، وإذا بمناد يقول خذ الكبش واترك الغلام، وفداه الله بذبح عظيم فذبحه ونجا إسماعيل وقال الله تعالى يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء العظيم.
6 - بناء البيت:
إذا كان التكليف من الإ بتلاء فإن تكليف إبراهيم ربه ببناء بيت له بوادي مكة حيث لا رجال ولا ماء ولا عدة ولا عتاد فيقوم إبراهيم بمساعدة ولده إسماعيل بإنشاء بيت عظيم عجزت قريش وهي أمة عن إتمامه عند تجديد بنائه، لتكليف جد شاق ابتلي به إبراهيم إعدادا ً له ليصبح إمام الناس، وخليل رب العالمين {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .
ونهض إبراهيم بهذا التكليف وبنى البيت الذي أمر ببنائه، فكان هذا نوعا ً من الإ بتلاء الذي ابتلي به إبراهيم فصبر عليه، فكان بذلك إبراهيم البلوى والوفاء..
7- ختانه نفسه:(17/369)
وآخر هذه البلايا التي ابتلي بها إبراهيم فصبر لحكم ربه برضا مولاه الذي ابتلاه أمر الله تعالى له أن يختن بعد أن بلغ سن ثمانين من السنين، فاختتن إبراهيم بقدوم. كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في صحيح الأحاديث.
إنه بهذه السلسلة ذات الحلقات السبع من الإ بتلاءات العظيمة أصبح بها إبراهيم بحق إبراهيم البلوى وإبراهيم الوفاء، وفاز بلقبين عظيمين لم يفز بهما غير إبراهيم وهما الإمامة، والخلة، فكان إبراهيم إمام الموحدين، وخليل رب العالمين.
فسلام عليه في العالمين، وسلام عليه في المرسلين.
4 - إبراهيم الهجرة:
إن للهجرة في دين الله تعالى شأنا ً ناهيك بها أنها تعدل الجهاد في ذات الله تعالى كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} .
ومن هنا كان العالمون من سلف هذه الأمة يقول أحدهم: " لا أبالي أكنت في قبر مجاهد، أو مهاجر ".
وما ذاك إلا أن الإ بتلاء بهما متساو في المشقة، متعادل في المثوبة والأجر.(17/370)
وإبراهيم عليه السلام أول من سن الهجرة في ذات الله فقال بعد أن نجاه الله من النار: إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم، فهاجر من بابل العراق إلى الأرض المباركة من الشام وترك وراءه الوطن والأهل والمال. واتجه إلى أرض مجهولة لديه، وبلاد بعدت عليه، فرارا ً بدينه، وهجراً لقومه وأهله وما يعبدون من دون الله. فخرج إبراهيم ومن آمن معه وهو ابن أخيه لوط عليه السلام، واتخذ من أرض الشام دار هجرة، فكانت الشام تعرف بعد ذلك (بمهاجر إبراهيم) . وسر هذه الهجرة كغيرها من الهجر في ذات الله: أن يتمكن المهاجر من عبادة الله تعالى بعد أن عجز عنها في بلاده، وبين قومه وأن لا يرى المنكر أمامه وهو عاجز عن تغييره وأن يطلب من الأسباب ما يمكنه من الجهاد نصرة للحق وأهله، وإرغاما ً للباطل وحزبه.
5 - إبراهيم الخلة:
وعن إبراهيم الخلة [6] نقول: إن إبراهيم عليه السلام بذل كل شيء في سبيل حب الله تعالى فغلب عليه ذلك حتى كان لا يطعم الكافر طعاما ً ولا يسقيه شرابا ً، وإلى ذلك الإشارة في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} فقط طلب الرزق من الثمرات لمن آمن فقط دون من كفر.. فرد الله تعالى ذلك بقوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .(17/371)
وفي هذا تقول آثار: إن كافرا ً استقرى إبراهيم يوما ً فسأله طعاماً فقال له:" إن تؤمن بربي أطعمتك؟ فقال الكافر: لا أترك ديني من أجل لقمة طعامك وانصرف، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى إبراهيم: عبدي أطعمه منذ سبعين سنة وهو كافر بي ولم أمنعه الطعام لكفره، وأنت استطعمك يوما ً فاشترطت عليه أن يترك دينه الذي هو عليه منذ سبعين. فلحقه إبراهيم وا عتذر إليه وأطعمه فقال له الكافر: ما بدا لك يا إبراهيم؟ قال: لقد أوحى الله إلي بكذا وكذا.. فقال الكافر: أو قد وقع هذا، مثل هذا ينبغي أن يؤمن به ويعبد فأسلم الكافر ".
وتقول الآثار: " إن جبريل وميكائيل وإسرافيل لما نزلوا ضيفا ً على إبراهيم وهم في طريقهم إلى قرى لوط، وقدم لهم الطعام وامتنعوا أن يأكلوا. فقال لهم: ألا تأكلون؟ فقالوا: إنا نأكل طعاما ً إلا بحقه فقال: كلوا بحقه قالوا: وما حقه؟ قال: إن تسموا الله في أوله وتحمدوا لله في آخره. فالتفت جبريل إلى ميكائيل وقال: حق للرجل أن يتخذه ربه خليلا ً".
ومهما يكن فإن الخلة قالها إبراهيم - كما قال تعالى واتخذ الله إبراهيم خليلا ً - قالها بتوحيده وصبره وصدقه وحبه ووفائه ورحمته وهجرته وطاعته ونصيحته ومن أعظمها أن يطلب إليه الحبيب أن يقدم له فلذة كبده فلم يتردد إبراهيم وقدم إسماعيل قربانا ً لله تعالى فأي ابتلاء أعظم من هذا الإ بتلاء؟ وكيف والله تعالى يقول فيه: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ , وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} .
6- إبراهيم القدوة:(17/372)
وعن إبراهيم القدوة نقول: إن إبراهيم بمواقفه البطولية المشرفة تأهل لأن يكون قدوة لمن جاء بعده من أهل الإيمان والصلاح. وحسبنا في ذلك أن يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَه} .
فقد جعل الله تعالى إبراهيم قدوة لأهل الإيمان يقتدون به في شتى مواقفه التي نجملها فيما يلي: في توحيد الله، في البراءة من الشرك وأهله، في الهجرة في ذات الله، في الصبر على طاعة الله، في الوفاء بكل التزام لله.
ضرب إبراهيم المثل في كل هذه الجوانب من حياة الإيمان والإسلام والإحسان فأصبح مثالا ً يحتذى، وقدوة صالحة بها يقتدى.
7- إبراهيم الرحمة:
وعن إبراهيم الرحمة نقول: إنه لا أدل على رحمة إبراهيم التي غلب وصفها عليه حتى أصبح يعرف بها من أن يبتليه ربه تعالى بذبح ولده إسماعيل، لأنه ابتلاء يرفع المبتلى إلى درجة الخلة يكون أقسى أنواع الإ بتلاء، وأ شده. فالأمر بذبح فلذة الكبد امتحانا ً لرجل عرف بالرحمة القلبية حتى كان ينادى بالأب - الرحيم، دال على رحمة إبراهيم وشاهد صدق عليها.
ومن مظاهر رحمة إبراهيم قوله وهو يناجي ربه: فمن تبعني فإنه منى، - ومن عصاني فإنك غفور رحيم. فإن في قوله: فأنت غفور رحيم تلويحا ً أشبه بتصريح بأن يقول ومن عصاني فيما هو غير الشرك والكفر فاغفر له وأرحمه، فإنك غفور رحيم.
8- إبراهيم الأمة:(17/373)
وعن إبراهيم الأمة نقول: إن وصف إبراهيم بلفظ الأمة كان من وصف الله تعالى له بذلك في قوله من سورة النحل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} شاكراً لأنعمه.
ووصف الله تعالى هذا له بأنه أمة يعتبر شهادة من الله تعالى له بذلك وكفى بالله شهيداً.
ومعنى أمة أنه جامع للكمالات والفضائل التي لا توجد مجتمعة إلا في أم ة من الناس وهو العدد الكبير. كما أن معنى أمة دال على أن ما تقوم به الجماعة من الناس يقوم به الفرد الموسوم بأنه أمة، وعلى سبيل المثال نقدم رسول الله لهذه الأمة محمد صلى الله عليه وسلم. فنجده فداء أبي وأمي كان قائما ً بما تقوم به أمة من الناس وتعجز عنه، فالرسالة، والإمامة والقضاء، والقيادة فهذه المهام من المناصب لا ي قوم بها عادة إلا أفراد عديدون فإذا قام بها فرد كان بذلك أمة وصح وصفه بأنه وحده أمة.
وهكذا كان إبراهيم أمة فإنه عاش دهراً طويلا ً لا يعبد الله ويوحده في الأرض إلا هو، ولا يأمر بمعروف وينهى عن منكر في الأرض سواه، ثم قد جمع من الفضائل النفسية والكمالية البشرية ما لا يجتمع عادة إلا في العدد الكثير من الناس.
والعبرة من هذه الصفات الكمالية التي استعرضناها لإبراهيم عليه السلام هي أن يجد فيها الداعية المسلم القدوة الصالحة والأسوة الحسنة فيتمثلها في حياته وهو قائم برسالة الحق والخير يعرضها على الناس ويدعوهم إلى الأخذ بها والتمسك بما فيها من الإصلاح والهدى ليكملوا ويسعدوا. فتساعده على حمل رسالته والوصل بها إلى حيث يريد أن يصل بها من إصلاح الناس وهدايتهم ليكملوا ويسعدوا في الحياتين، وسلام على إبراهيم في المرسلين والحمد لله رب العالمين.
ج ـ - موسى الكليم:
من نماذج الدعاة إلى الله تعالى، وإلى الحق والخير، موسى النجي الكليم عليه الصلاة والتسليم.
ترجمته:(17/374)
فمن هو موسى الكليم؟ إنه موسى بن عمران بن قاهث بن عازر بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام. لقب بالكليم وهو لقب تشريف عظيم، إذ كلمه ربه تعالى كفاحا ً أي مواجهة بدون واسطة ملك أو غيره، كما يلقب بالنجي لمناجاة الله تعالى له، وتم له الكلام والمناجاة بطور سيناء، قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً، وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً، وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} .
كانت حياة هذا الرسول الكريم والداعية المخلص العظيم مليئة بالبطولات والتضحيات موحية بمعاني القوة والكمال، والخير والجمال. وإنه لمن غير المتيسر استعراض كل تلك الحياة، والوقوف منها على كل مواطن العظة والعبرة فلذا حسبنا منها لقطات قليلة، ونظرات عابرة يسيرة. تعود على من يقف عليها، وينظر فيها بفوائد روحية، وطوائلة خلقية لم يتوفر على مثلها لو درس حياة أمم وأجيال، من غير أمثال هؤلاء الرجال.
هذا وما سنلقي عليه نظرة خاطفة من حياة موسى النجي الكليم وهي كما تقدم مليئة بالعبر والعظات، زاخرة بالبطولات والتضحيات. هو الكمالات النفسية التالية:
بلاؤه وصبره. نجدته وعفته. قوته وأمانته. شجاعته وقوة حجته. صدقه ووفاؤه. إخلاصه وتوكله. علمه وتواضعه.
بلاؤه وصبره:
فعن بلائه وصبره نقول: إن البلاء الذي اكتنف حياة النجي الكريم موسى عليه السلام من لدن ولادته إلى وفاته، لبلاء عظيم، وفي قوله تعالى من سورة طه: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} إشارة واضحة صنوف البلأ الذي لازم حياة موسى الكليم من المهد إلى اللحد فسلام عليه في المبتلين، سلام عليه في الصابرين.
وها هي ذي نقاط سوداء نشير بها إلى صور عدة من ذلك البلاء:
وفي ذلك عبرة للمعتبرين، وذكرى للذاكرين.(17/375)
- خوف أمه عليه، وهي حامل به، من أن يطلع عليه مجرموا آل فرعون ساعة وضعه، فيذبحوه تنفيذا ً لقرار فرعون بذبح المواليد الذكور في ذلك العام.
- وضعه في صندوق خشبي وإلقاؤه في اليم كلما أحست أمه بحركة، أو سمعت صوتا ً عند باب منزلها خوفا ً عليه من آل فرعون أن يقتلوه. حتى كان يوم انقطع فيه الحبل وذهب الماء بالتابوت إلى قصر آل فرعون للناقمين عليه الطالبين له، فكان هذا فتونا ً أي فتون.
- تحريم الله المراضع عليه، فلم يرضع منهن واحدة وهو يت ض ور جوعا ً، ويتألم عطشا ً فترة من الزمن، حتى رد إلى أمه فأرضعته، وأخذت أجرة عليه. فكان هذا بلاء، وكان فتونا ً أي فتون.
- هم فرعون بقتله لما تشاءم منه، حتى شفعت آسيا له بقولها: قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً. فكان هذا بلاء به وفتونا ً أي فتون.
- قتله القبطي (خطأً) وما لحقه من جراء ذلك من الهم والغم، وما أصابه من الخوف نتيجة ائتمار الملأ به ليقتلوه، بالنفس التي قتلها، فقضى أياما ً خائفا ً يترقب، فكان هذا بلاء ً عظيما ً صبر موسى عليه.
- هجرته وحده من أرض مصر إلى مدين بلا زاد يأكله ولا ظهر يركبه فناله من الجوع والأعباء ما هو بلاء أو شد من البلاء.
- رعيه الغنم بالصحراء وهو الذي عاش في قصور الأمراء حتى قضى عشرا ً من السنين في أرض الغربية بعيداً عن والدة وأخته وأخيه. فكان هذا من البلاء الذي نزل به وصبر عليه.
- تكليفه وإن كان فيه تشريفه بحمل الرسالة إلى فرعون الطاغية الجبار، مدعي الربوبية وزاعم الألوهية، مضمونها: أن يتجلى عن دعوى الربوبية والألوهية لله ويعبد الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه. وأن يرسل مع موسى بني إسرائيل عباد الله إلى الأرض المقدسة التي كتب الله، فكان في هذا من البلاء ما فيه، فصبر موسى عليه.(17/376)
- خوضه المعركة الفاصلة بينه وبين السحرة تلك المعركة التي أوجس فيها موسى خيفة حتى قال له ربه تعالى: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} .. فكان هذا من البلاء.
- حجاجه لفرعون وآله عدة سنين يقارع فيها الحجة بالحجة ويقابل فيها البرهان بالبرهان، ويسمع فيها من التهديد والوعيد، ما هو بلاء أو أعظم من البلاء.
- ردة بعض بني إسرائيل في غيبته بعبادتهم العجل، وما ناله في ذلك من هم وما أصابه من حزن وغم وما تملكه من جراء ذلك من غضب حتى ألق ى الألواح فتكسرت وأخذ برأس هارون أخيه يجره إليه عاتبا ً عليه مؤنبا ً إياه. أليس هذا من البلاء، فصبر عليه موسى.
- خروجه بخيار قومه إلى الطور ليطلب لبني إسرائيل التوبة ويسأل لهم العفو والمغفرة، وتعنت أولئك المختارين معه، وطلبهم رؤية الله جهرة، حتى أماتهم الله وأحياهم بأخذ الصاعقة لهم وهم ينظرون. وعدم أخذهم التوراة وتمردهم على موسى في ذلك حتى شق الله الجبل فوق رؤوسهم فأخذوها مكرهين خائفين. أليس هذا من البلاء المبين؟ لموسى الكليم؟ وقد صبر عليه.
- اشتراط الله تعالى لقبول توبتهم أن يقتل بعضهم بعضاً ففعلوا حتى بكى موسى وهارون خوفاً من فناء بني إسرائيل، وس ألا الله تعالى أن يرفع منهم القتل فاستجاب الله تعالى لهم وتاب على بني إسرائيل إنه هو التواب الرحيم، أليس هذا من البلاء المبين الذي صبر عليه موسى الكليم؟
- خروجه بني إسرائيل لقتال العمالقة بأرض القدس، ونكول قومه عن قتالهم، وإظهارهم الجبن والخوف منهم بقولهم إن فيها قوما ً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها. وإساءتهم الأدب معه عليه السلام إذ قالوا له: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} . أليس هذا من البلاء المبين؟(17/377)
- ما قضاه في التيه مع بني إسرائيل من حياة طويلة تعرض فيها لألوان من تعنت بني إسرائيل وسوء آدابهم، وقبح سلوكهم الأمر الذي لا يطيقه الأمثل موسى الكليم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. أليس هذا من البلاء المبين الصبر العظيم الذي جعل موسى في عداد أولي العزم الصابرين؟ لاقى موسى عليه السلام كل هذه الضروب من البلاء، فصبر عليها، فكان بذلك أحد أولي العزم الصابرين الذي أمر إمام الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم بأن يصبر كما صبروا في قول الله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم عليهم السلام.
نجدته وعفته:
وعن نجدة موسى وعفته المثاليتين نقول: ومن كمالات موسى الكليم النفسية والخلقية نجدته وعفته، وهما خلتان كريمتان يتنافس في اكتسابهما وا لإ تصاف بهما أعاظم الرجال. وبما أن هاتين الخلتين تغلبان على حياة الكليم الروحية والخلقية فإنا نكتفي بذكر حادثتين وعرض موقفين تتجلى لنا فيهما خلتا النجدة والعفة عند موسى النبي النجي عليه السلام.
إن الحادثة الأولى وحياة موسى كلها أحداث مروره بالقبطي والإسرائيلي وهما يقتتلان، واستغاثة الثاني به ليخلصه من الشدة التي أنزلها الأول به، وما تردد موسى في نجدته وإغاثته حيث وكز القبطي وكزة قضى فيها عليه، فكانت هذه مظهراً من أجل المظاهر لنجدة موسى وقوته.
والثانية كانت عند ما جلس تحت الشجرة يستظل بظلها قريبا ً من ماء مدين والرعاة يسقون ويصدرون، وامرأتان تذودان غنمهما حتى لا تختلطا بالرعاء حفاظا ً على شرفهما، وإظهارا ً لكمال عفتهما، فيتقدم الكليم مدفوعاً بخلة النجدة المتأصلة في نفسه، وكأنه أسد هصور وعلى ما هو عليه من وعثاء السفر وغلبة الجوع، فيسقى لهما غنمها ويتولى إلى الظل الذي كان به، كأسد يعود إلى عرينه، فاخر موسى بنجدته المتقدم وقدم المتأخر، وكذلك أهل النجدة يفعلون.(17/378)
فهذان هما الحادثان وقد تجلت لنا في كل منهما خلة النجدة لدى موسى عليه السلام. أما الموقفان فأولهما كان عند ما تقدمته الفتاة المرسلة إليه لتأتي به إلى والدها ليجزيه على معروفه الذي أهدى وجميله الذي أسدى، وقد عبثت الريح بدرع الفتاة فانكشف منها بعض ساقها فأبت عفة موسى عليه أن ينظر منها إلى ما كشف الريح عنها، فقال لها: " يا فتاة الطهر، امشي وراء الظهر، وأرشديني إلى الطريق بحصى تقذفين بها ".
فكان هذا موقفا ًَ رائعا ً لموسى تجلت فيه عفته أكبر التجلي، وثانيهما كان في استئجاره نفسه من والد المرأتين يرعى له غنمه أتم أجلين وأوفهما "عشر حجج كاملة "مقابل شبع بطنه وإحصان فرجه، إن عملا ً كهذا من شاب في مقتبل العمر، وقوة الفتوة ليعد نادرة النوادر، في حياة الشباب وما كان ذلك إلا لشرف أصل موسى، وكرم محتده وزكاة روحه وعفة نفسه. إن هذه المواقف المشرفة التي وقفها موسى وهو يهيئ لحمل الرسالة ويعد للإمامة والقيادة، لما ينبغي أن يكون نصب أعين الدعاة في كل بلاد الله. أن النجدة والعفة متى خلت النفس منهما خف وزنها، ورق حبل كمالها، وأصبحت نفسا ً لا عبرة بها، ولا وزن لها وأنى لها يومئذ أن تقود أو تسود.
قوة وأمانته:(17/379)
وعن قوة موسى وأمانته نقول: أن القوة والأمانة في الرجل من مؤهلاته الكبرى لتسنم المراتب العالية، وا لإ رتقاء إلى المناصب الشريفة السامية، وأن حمل رسالة الحق والخير والإصلاح إلى الناس لمنصب شريف، ومرتبة عالية فلا يرشح لهما إلا من توفر لديه مؤهل القوة والأمانة، وقد جمع الله تعالى لعبده ورسوله موسى عليه السلام بين القوة والأمانة: قوة البدن وقوة العزم وقوة الروح، وأمانة النفس وأمانة القول وأمانة العمل، فكان قويا ً أمينا ً، وكان أهلا ً لحمل أعظم رسالة في تاريخ بني إسرائيل. وإن أردنا أن نشير إلى بعض الأحداث التاريخية في حياة موسى التي ظهرت فيها قوته وأمانته، زيادة على شهادة بنت شعيب له ذلك وهي ترشحه للعمل في مال أبيها، إذ قالت: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} .
فإنا نذكر حادثة قتله القبطي بضربة واحدة مالها ثانية فكانت هي القاضية. قال تعالى فيها: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} .
كما نذكر أنه على ما أصابه من جهد، وما مسه من جوع ونصب في رحلته الشاقة وسفره الطويل (والسفر قطعة من العذاب) استطاع أن يرفع غطاء البئر، وقد كان صخرة كبيرة لا يضعها ولا يرفعها بحال إلا عصبة من الرجال وهو المنظر الذي شهدته فتاته فعرفت به قوته، وشهدت بها له عند أبيها ساعة ما رشحته للعمل فقالت: يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين. هذا عن قوة موسى أما عن أمانته فحدث ولا حرج وحسبه أن يقرر وصفه بالأمين القرآن الكريم في قوله تعالى: {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [7] .(17/380)
والأمانة وصف لازم لكل أرباب الرسالات، وحاملي شرف النبوات وموسى نبي الله، ورسول الله، ولهذا نكتفي من جانبنا في إثبات أمانة موسى وتقريرها، بإعادة استعراض الحادثة التي سبق إن استعرضناها مستدلين بها على خلة العفة النفسية لموسى، وهي حادثة بنت العبد الصالح لما صحبته من منزله قريبا ً من الماء، إلى منزل والدها حيث جمعت الطريق بينهما في خلوة كاملة. فقد روى أنه عندما بدا له بعض جسمها عاريا ً مكشوفا ً لم تسمح له أمانته أن ينظر إليها فاضطر إلى أن يمشي إمامها وهي دليله، كل ذلك من أجل أن لا يخون أمانته بنظرة يلقيها على جسم لا يحل له النظر إليه، كأن موسى قرأ ما قرأناه في كتاب الله، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} .
إن موسى لم يقرأ هذا الذي قرأناه، ولكنه كان أمينا ً بالفطرة التي فطره عليها الله جل جلاله. فسلام عليه ذا نجدة وعفة. وسلام عليه قويا ً أمينا ً.
شجاعته وقوة حجته:
وعن شجاعة موسى وقوة حجته نقول: إن الشجاعة في اعتقاد الحق وقوله والعمل به تعتبر من أنبل الخلائق، وأسمى الفضائل، وأكرم الشمائل، وفي الحديث الشريف سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله. وإن كانت الشجاعة على نوعين: شجاعة قلوب، وشجاعة عقول، والأخيرة قليلة، والأولى كثيرة.
إن الشج ـ اعة في القلوب كثيرة
وأرى شجع ـ ان العق ـ ول قليلا [8]
وكلا نوع ي الشجاعة محمود محبوب، وإن كانت شجاعة العقول أكثر حمدا ً لاختصاصها بالنوع الإنساني دون شجاعة القلوب حيث يشارك فيها الإنسان الحيوان ومن أشجع من ذي اللبدة ملك السباع الأسد!!؟(17/381)
ونبي الله موسى عليه السلام أوتي من الشجاعة بنوعيها حظا ً كبيرا ً وقسطا ً وفيرا ً. ولنستعرض بعض الجوانب من حياته لنشاهد المواقف الشجاعة التي وقفها عليه السلام، وبها تتجلى لنا شجاعة موسى القلبية والعقلية معا ً وعلنا ً نأتس ى به في شجاعته فنكتسب خلة شريفة: الدعاة أحوج ما يكونون إلى مثلها في حياة الدعوة التي هي حياة العمل والجهاد.
تقدم موسى عليه السلام برسالته إلى فرعون وهي رسالة مزدوجة جانب منها يطالب فرعون بالإيمان بالله تعالى ومعرفته وخشيته: إذ أمر الله تعالى موسى أن يقول لفرعون: هل لك إلى، أن تزكى، وأهديك إلى ربك فتخشى. وجانب يطالبه بالسماح لشعب بنى إسرائيل أن يذهبوا مع موسى إلى الأرض المقدسة من بلاد الشام (فلسطين) إذ أمر الله تعالى موسى وهارون أن يقولا لفرعون {إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} .(17/382)
ولما عرف فرعون مضمون الرسالة وما تحمله من دعوة صريحة إلى الإيمان بالله وحده والكفر بكل الطواغيت التي تعبد من دون الله، ما تردد فرعون اللعين في تهدد موسى بالسجن مرة وبالقتل أخرى، إذ قال: لئن اتخذت إلها ً غيري لأجعلنك من المسجونين. وقال لرجال دولته: ذروني أقتل موسى وليدع ربه.... فمثل هذا التهديد والوعيد من طاغية كفرعون من شأنه أن يرهب ويخيف ويجعل المطالب بالحق يتخلى عن مطالبة بعذر الضعف والعجز لكن موسى الشجاع لم يفت ذلك من عضده، ولم يفل من قوة عزمه فقابل تهديد فرعون ووعيده بشجاعة لا نظير لها، إذ لم يزد أن قال إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب. فقرر التوحيد وأبطل الشرك وذم الكبر والكفر وأهلهما. فهذا موقف بطولي نادر قد وقفه موسى يسمع فيه رعد التهديد ويرى برق الوعيد، فلم يضعف لدلك ولم يهن فكان مظهرا ً من مظاهر شجاعة موسى النادرة الفذة.
وموقف آخر يتجلى في تقديمه عليه والسلام السحرة عليه في إلقاء حبالهم وعصيهم التي استحالت في اللحظة الأولى إلى حيات وثعابين تملأ ساحة العرض الأمر الذي أوجس منه خوفه في نفسه. فأن تقديم موسى لخصمه عليه في إظهار قوته والضرب بها أمامه لمظهر عظيم من مظاهر الشجاعة القلبية والعقلية معا ً.
وموقف ثالث وإن ذكرنا له فيه جانبين عظيمين فيهما نجدته عليه السلام وقوته، فإن اندفاعته القوية نحو الجبار القبطي وهو يصاول الإسرائيلي الضعيف المستضعف، وأخذه إياه بتلك القوة وبدون تردد ولا تهيب حتى أزهق روحه لمظهر جلي لشجاعة موسى القلبية التي هي زينة الرجال وحلية الأبطال.(17/383)
هذا عن شجاعته أما عن قوة حجته فحسبنا في تجلية ذلك وبيانه أن نسمع لهذا الحوار الكبير الذي دار بين موسى النبي الكليم وبين خصمه فرعون الجبار العنيد أرسل الله تعالى موسى وأخاه هارون عليهما السلام برسالة الحق إلى فرعون وم لا ئه، فقا لا: إنا رسول رب العالمين: أن أرسل معنا بني إسرائيل، فرد فرعون على هذا الطلب بقوله: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ، وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} ؟؟؟ يريد اللعين بهذا الخطاب: القدح في رسالة موسى واستبعاد أن يكون رسولا ً حيث ذكر بفضله عليه في قصره، وبقتله القبطي وهي جناية قتل تقعد بصاحبها عن شرف الرسالة فرد موسى على الفور وفي شجاعة نادرة قائلا ً: {فَعَلْتُهَا إِذاً} - أي إذ ذلك وأنا ذلك من الظالمين أي الجاهلين , {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} .
وواصل فرعون رده على قول موسى وهارون أنا رسول رب العالمين قائلا ً ُ: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، فأجاب موسى بقوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} . فالتفت فرعون إلى رجاله قائلا ً: كالمتعجب المستخف المكذب لقوله الحق: {أَلا تَسْتَمِعُونَ} ؟ وشعر موسى بمكر فرعون واستهتار بمو قف هـ منه ورسالته فقال: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} . ولما خاف فرعون على رجاله أن يكون قول موسى الحق قد زلزلهم، وحرك كامن الفطرة في نفوسهم فيكفروا به ويؤمنوا بالله وحده قال في أسلوب ماكر مضلل تنفيرا ً لقلوب م لا ئه من قول موسى حتى لا يعتبروه ويعتدوا به: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} .(17/384)
وأراد اللعين بهذا الجواب أن يرمي برجاله في الخصومة ليتحملوا معه عبء المعركة فقال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} .فأثار بذلك غضبهم وأجج النار حميتهم، بعد أن أظهر نفسه في مظهر المترفع في مستوى لا يصل إليه أحد فيرسل إليه أو يخاطبه بغير إجلاله وإكباره. وعرف موسى هذا فرد عليهم بقوله الأول الذي أزعجهم وزلزل الأرض من تحت أقدامهم: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} . فأعلمهم أن الذي أرسله هو رب كل شيء وليس ورب آبائهم الأولين فقط، ولوح لهم بأن هذه الحقيقة يدركها كل من يعقل، إذ كل الكون حادث مفتقر إلى محدث له، فرب العالمين ورب السماوات والأرض وما بينهما أي خالق ذلك ومالكه والمدبر له هو الذي أرسل موسى وهارون إلى فرعون وملئه برسالة الحق.
وأدرك فرعون قوة الحجة التي أدلى بها موسى، وأنها لا تقاوم بحال فلاذ العين بالتهديد والوعيد حفاظا ً على موقفه المنهار، وإبقاء على سلطانه الذي أخذ يتداعى تحت ضربات الحق الموسوية فقال في صفاقة وعدم حياء لئن اتخذت إلها ً غيري لأجعلنك من المسجونين. ظانا ً أن موسى سيخيفه التهديد والوعيد فيتخلى عن حجاجه قبل أن يفضحه ويهزمه. وعرف موسى هذا فأبى إلا أن يضطره إلى الحوار ليجلله بالخزي والعار فقال له: أولو جئتك بشيء مبين؟ فقال اللعين مضطرا ً إلى ترك الإ نسحاب من الميدان: {فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} .
علمه وتواضعه:(17/385)
وعن علم الكليم وتواضعه في طلبه نقول: إن موسى عليه السلام آتاه الله حكما ً وعلما ً كما قال تعالى {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} شأنه في ذلك شأن سائر الأنبياء المرسلين يعلمهم ربهم علوما ًً، ويؤتيهم مع ارف ما يصبحون بها أهلا ً لهداية الناس وإصلاحهم. بيد أن لموسى عليه السلام ميزة خاصة به في رغبته في العلم وا لإ ستزادة منه، يدلك على ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في صحيحي الحاكم وابن حبان: " قال موسى يا رب علمني شيئا ً أذكرك وأدعوك به. قال: قل لا إله إلا الله، قال يا رب كل عبادك يقولون هذا الحديث ... " ففي هذه الرواية الصحيحة تطلع كبير من موسى عليه السلام إلى المزيد من العلم والمعرفة، ورغبة أكيدة في طلب العلم والتقوى فيه، وقد بلغ موسى من العلم مبلغا ً جعله لا يرى بين الناس من هو أعلم منه يدل لذلك رواية البخاري، والتي فيها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال: أتعلم أحدا ً أعلم منك؟ قال موسى: لا. فأوحى الله عز وجل إلى موسى: بلى، عبدنا خضر، فسأل السبيل إلى لقياه ".(17/386)
ويدل على علم موسى عليه السلام وتبريزه فيه كراهيته للجهل أيضا ً وتنديده بالجاهلين. فإنه لما قال لبني إسرائيل قومه {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة} وردوا عليه قائلين: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} ؟ قال: َ {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ، إذ لا يقف مثل هذا الموقف إلا جاهل، كما أنه لما طلب إليه قومه [9] أن يجعل لهم إلها ً يعبدونه، رد عليهم فورا ً قائلا ً: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} . ففي الأولى استعاذ موسى من الجهل، وفي الثانية ندد به ونسب إليه كل انحراف في العقيدة وهو كذلك فإن سائر المعاصي والذنوب التي يغشاها الناس ناجمة عن الجهل بالله تعالى وقواعد دينه وأحكام شرعيه، ويشهد لهذه الحقيقة قول الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فقد خص تعالى العلماء بخشيته ولم يرها لأ هل الجهل به وبشرائعه وأحكام دينه.(17/387)
هذا عن علم موسى الواسع، ومعارفه الكبيرة أما عن تواضعه في طلب العلم فحدث لا حرج إذ لولا تواضعه عليه السلام عند الطلب لما حاز قصب السبق في باب العلم، إذ العلم لا يناله إلا المتواضعون في طلبه والحصول عليه ويشهد لهذا قول مجاهد رحمه الله تعالى لا يتعلم العلم مستح ولا متكبر ويشهد لتواضع موسى عليه السلام في طلب العلم حادثتان جليلتان. الأولى إقامته مع شعيب عليه السلام عشر سنين، إن ظاهر القضية يبدوا أن موسى ما أقام لدى شعيب يرعى غنمه إلا لعفة نفسه وإشباع بطنه: ولكن القضية في باطنها: إنها إقامة طلب علم وتربية روحية تخرج بعد هـ اموسى أهلا ً لحمل رسالة الحق والخير، فإن العيش في كنف عبد صالح يوجه ويرشده ويعلم ويحلم لأ كبر مدرسة يتعلم فيها المتعلمون ويتخرج فيها المتخرجون. إن رضا موسى برعي غنم شعيب ليعيش بجواره ويتلقى العلم منه لضرب من ضروب التواضع في طلب العلم. هذه الأولى والثانية أنه لما قام خطيبا ً في بني إسرائيل وأعجب به أحد الشباب فسأله قائلا ً: أتعلم أحدا ً أعلم منك يا موسى؟ فقال: لا، وأوحى الله تعالى إليه قوله: بلى، عبدنا خضر. طلب الرحلة إليه وسأل ربه السبيل إلى لقيه. فجعل الله تعالى له آية له تدله عليه، وترشده إلى مكان لقيه. وفعلا ً رحل موسى في طلب عبد الله ووليه خضر ووجده، ومن خلال ما دار بينهما من حديث تتجلى لنا حقيقة تواضع موسى في طلبه العلم، إذا قال له موسى عليه السلام وهو نبي ورسول وقائد أمة وإ مامها: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} ؟ فمن سؤاله هذا وهو سؤال تلطف كبير، تظهر حقيقة تواضع موسى في طلب العلم. وإجابة خضر قائلا ً: َ {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} . لأني على علم مما علمني الله، وأنت على علم مما علمك الله، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ً، أجاب موسى في تواضع تام: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً(17/388)
وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} . ففي قوله عليه السلام ستجدني إن شاء الله من الصابرين تلطف كبير واستعطاف عظيم لعبد الله خضر في أن يسمح له بالسير معه والطلب عنه وفي قوله: {وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} من التواضع في طلب العلم مالا يقادر قد ر هـ، ولا يعرف كنه حقيقة إلا ذو البصيرة في هذا الشأن.
ونزيد حقيقة تواضع موسى في طلب العلم وضوحا ً فنقول: إن نبيا ً نجيا ً مكلما ً قائدا ً مسؤولا ً عن أمة بكاملها يذكر له أن عبدا ً من عباد الله أعلم منه فيتخلى على الفور عن كل مهامه وشرف منصبه، ويطلب الرحلة إلى من هو أعلم منه ليتعلم عن هـ، ويتحمل المشاق الصعاب في سبيل لقيه فإذا لقيه تواضع له إلى حد أن قال لي: إني لا أعصي لك أمرا ً، إذ لازم هذا القول أنه لو أمره بأعظم الأمور وأشقها على النفس لما تردد في القيام بها طاعة لأستاذه وتواضعا ً منه في طلب العلم وهكذا يكون طلب العلم وهكذا يكون طلابه....
إخلاصه وتوكله:(17/389)
وعن إخلاص الكليم وتوكله نقول: إن الإخلاص وهو إرادة الله تعالى بكل النيات والأقوال والأعمال بحيث لا يلتفت العبد في نيته أو قوله، أو عمله إلى أحد من الناس، هذا الإخلاص هو أساس الدين، وقوامه قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . قال: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} . وأجدر الناس بهذا وأحقهم به أنبياء الله ورسله، وذلك لكمال معرفتهم بالله تعالى وقوة صلتهم به عز وجل. وأنبياء الله تعالى ورسله قد يتفاوتون في صفات الكمال الذي آتاهم ربهم، فيكون لأحد هم صفة يشاركه فيها كل الأنبياء والرسل غير أنه يكون فيها أكمل من غيره فتغلب تلك الصفة عليه فيعرف بها، وليس معنى ذلك أن إخوانه من الأنبياء والمرسلين ليسوا موصوفين بها وإنما برزوا فيها فقط فغلبت عليه فذكر بها، ومن ذلك صفة الإخلاص فقد وصف الله تعالى بها نبيه موسى بقوله من سورة مريم {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} [10] .فوصفه بالإخلاص وهو وصف لم يذكره لغيره من سائر المرسلين إلا ما كان من يوسف عليه السلام إذ قالت فيه: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} وذلك لتجلى هذه الصفة في موسى وغلبتها عليه في سائر إراداته وأقواله وأعماله، ولنا أن نلحظ ذلك بوضوح في مثل قوله تعالى حكاية عنه عليه السلام: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} . فان دعاؤه ربه تعالى على فرعون وآله بالطمس على أموالهم، وا ل شد على قلوبهم، والمراد من الطمس على أموالهم إما أن تكون حجارة، وإما أن تذهب في الأرض- وتغور فيها فلا يعثر عليها، والمعنى الأول وارد عن السلف، إذ قيل عثر في ديارهم على كيس فيه حمص وبيض قد حول حجاره. وأما الشد على قلوبهم فأنه الطبع(17/390)
عليها والختم لأنها ما أصبحت مرجوة ل لإ يمان، وهذا كقول نوح عليه السلام {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِراً كَفَّاراً} .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: " وهذه الدعوة كانت من موسى عليه السلام غضبا ً لله ولدينه على فرعون وملئه ". أقول ومثل هذا لا يكون إلا من قوة الإخلاص الذي عرف به الكليم عليه السلام.
وفي مثل قوله: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} . قال هذا لقومه بعد أن طلبوا إليه أن يجعل لهم صنما ً يعبدونه، إذ مروا بقوم يعكفون على أصنام لهم، فاستهواهم ذلك المنظر، وأثر في نفوسهم المريضة فطلبوا بأن يكون لهم إلها ً كما لأولئك المشركين آلهة، ونسوا الله تعالى وقد نجاهم من عدوهم، فلما قالوا ذلك غضب موسى عليهم وصاح في وجوههم قائلا ً: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} ، إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون قال أغير الله أبغيكم إلها ً وهو فضلكم على العالمين، فغضبه عليه السلام وشدة إنكاره على قومه ما أرادوه من الشرك مظهر كبير من مظاهر إخلاص موسى وقوته في ذلك.
هذا وتوكل موسى على الله تعالى في كل شأنه ظاهرة قوية في حياة موسى عليه السلام، وصفة بارز ة في حياته غالية عليها: إن خروجه من أرض مصر وحيدا ً وهو شاب عاش في الترف وترب ى في النعيم فلولا توكله على ربه لما هاجر تلك الهجرة التي لم يتوفر لها سبب واحد من أسبابها سوى توكله على ربه عز وجل وتعاقده مع شعيب في ديار الغربة يقيم عشر حج ج يرعى فيها الغنم ويطلب العلم، ويتربى فيها على الكمالات النفسية مظهر من مظاهر التوكل القو ي عند موسى عليه السلام.(17/391)
وخروجه بأسرته من أرض مدين عائدا ً إلى مصر حيث خرج منها خائفا ً من آل فرعون وهم يطلبونه بالنفس التي قتلها مظهر عظيم من مظاهر توكل الكليم، وإلا كيف يعود إلى بلاد أهلها يطالبونه بدم لهم عليه يريدون أن يقتلوه به لولا التوكل الذي غلب على النفس فحجب منها كل ما عداه.
ولا يقولن قائل: إن طلب موسى من ربه أن يزوده بما يكون له عونا ً على أداء رسالته إلى فرعون وملئه حيث طلب من ربه أن يشرح له صدره وييسر له أمره ويحلل عقدة من لسانه وأن يجعل له وزيرا ً من أهله وهو هارون عليه السلام، لا يقولن قائل أن هذا قادح في كمال التوكل عند موسى، لأن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل ولا يكون قادحا ً فيه بحال، كما أن الخوف مما من شأنه أنه يخاف منه لا يقدح في شجاعة المرء وبطولة ال ب طل، هذا أمر معلوم لدى العالمين، لا يرتاب فيه ولا يخاصم عليه ومما يحكى لنا صفة التوكل القوية لدى موسى عليه السلام. مطالبته قومه بالتوكل على الله تعالى في غير موطن. من ذلك قوله: يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين، فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين، فإنه عليه السلام لغلبة هذا الوصف عليه ولكثرة ما انتفع به أصبح يراه خير معين لقومه على اقتحام المشاق، وتحمل الصعاب، كما لا يرى إيمانا ً وإسلاما ً بدون توكل على الله تعالى وحده، وهو كذلك ف إ ن من آمن بالله تعالى ربا ً كافيا ً وإلها ً حقا ً أسلم له وجهه وقلبه لا يسعه أن لا يتوكل عليه بحال من الأحوال.(17/392)
إذ التوكل: الإ عتماد على ذي الكفاية من العلم والقدرة والحكمة وتفويض الأمر إليه، وسكون النفس إلى كفايته، وعدم تغلب القلب فيما هو فاعله. هذا هو التوكل مع قيد أن ما كان من الأمور المتوكل فيها مما وضع الله تعالى له الأسباب لتحصله، أو للنجاة منه، فان التوكل لا يتم إلا إذا أحضر العبد تلك الأسباب ووفرها إن كان ذلك في استطاعته. وما لم يكن منها مستطاعا ً له فلا يكلف به ولا يسأل عنه أو يحاسب عليه.
وأخيرا ً فإن صفات الكمال التي ذكرنا لموسى عليه السلام من البلاء والصبر، والنجدة والعفة والقوة والأ مانة، والشجاعة وقوة الحجة والعلم والتواضع فيه والإخلاص والتوكل ليس المراد أنا نثبتها له عليه السلام، لأن من الناس من شك في ثبوتها له، أو حاول نفيها عنه فذكرناها نحن مقررين لها يعد إقامة الدليل على ثبوتها، وإنما القصد من ذكرنا أن يأتسي به فيها دعاة الإصلاح اليوم فتكمل لشخصيتهم كما لا تصبح به ذات تأثير على من يدعونهم إلى الله تعالى ليوحدوه ويطيعوه فيتهيئوا بذلك لسعادة الدارين، بعد النجاة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
ومن هنا وجب على الداعي أن يستعرض هذه الصفات ويوطن النفس على محاولة الإ تصاف بها، فيكون له خلق الشجاعة والنجدة والعفة والصبر والتوكل والتواضع في طلب العلم، وذلك برياضة نفسه عل ى ذلك وأخذها به شيئا ً فشيئا ً حتى تصبح هذه الفضائل صفات ثابتة لها فان أغلب الفضائل النفسية مكتسبة يحصل عليها المرء بالرياضة وا لإ جتهاد، ولكل مجتهد نصيب. هذا وسلام على محمد في المرسلين وسلام على موسى في العالمين. والحمد لله رب العالمين.
عيسى ابن مريم عليه السلام:(17/393)
من نماذج الدعاة الصالحين في معارض الكمال البشر ي عبد الله ورسوله عيسى بن مريم عليه السلام وهو رابع أولي العزم من الرسل، وخاتمة سلسلة النبوة في بني إسرائيل، وطلبنا لوجوه الإ ئتساء وصالح القدوة في عظماء الرجال من دعاة الحق الصالحين نستعرض حياة هذا النبي الكريم والرسول الظاهر الرحيم علنا ً نكتسب من ذلك الكمال الذي أوتيه عليه السلام بعض ما نكمل في أخلاقنا وأرواحنا، لنقوى على أداء واجب الدعوة التي حملناها على ضعفنا وقلة مؤهلاتنا العلمية والنفسية.
وقبل استعراضنا لمظاهر الكمال في حياة هذا الرسول الكريم نترجم له بالجمل الآتية: فنقول: عيسى عليه السلام هو عبد الله ورسوله وكلمة الله التي ألقاها إلى مريم، واسم عيسى معرب عن ايشع ومعناه السيد أو المبارك ووالدته مريم بنت عمران من صلحاء بني إسرائيل ومعنى مر يم بالعبرية الخادم أو خادمة الله. ويحمل هذا الإ سم معنى المرأة التي لا تقدر على مقابلة الرجال وا لإ ختلاط بهم كما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل فاطمة رضي الله عنها عن أحب شيء إلى المرأة. فقالت: أن لا ترى الرجال وأن لا يراها الرجال. فرد عليها صلى الله عليه وسلم قائلا ً - وقد ضمها إلى صدره: " ذرية بعضها من بعض ". وهي إشارة إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .(17/394)
حملت به والدته بنفخة من روح القدس. نفخها في كمها فسرت إلى فرجها، فكان عيسى عليه السلام بكلمة التكوين كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . فلذا لقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمة الله في قوله:" من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا ً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها [11] إلى مريم وروح منه، والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ". كما كان يلقب بروح الله فيناد ى بذلك فيجيب، وذلك لأن النفخة كانت من جبريل بأمر الله تعالى، ويشهد له قوله تعالى: {الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} . وقوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} .(17/395)
ول دته الصديقة أمه البتول بقرية ب يت لحم من فلسطين. وحفت ولادته آيات عجيبة أظهرها تكلمه في المهد حيث قال: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً , وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً , وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً , وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} . وقد أعلمت بهذا والدته عليها السلام ساعة أن بشرها الملك بذلك إذ قالت الملائكة: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ , وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ} . وعاش عيسى عليه السلام بين بني إسرائيل مع والدته ولاق ى هو ووالدته من صنوف الأذى ما صرح به القرآن في غير آية منه: فقد بهتوا والدته ورموها بما هي منه براء واتهموه عليه السلام بالسحر، وكذبوه في رسالته إليهم، وآخر الأمر عزموا على قتله وطوقوا منزله بشرطهم واقتحموا عليه المنزل غير أن الله تعالى خيب أملهم وأضل سعيهم فألقى الشبه على رجل منهم فظنوه هو فصلبوه، وما قتلوا عيسى وما صلبوه بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا ً حكيما ً ورفع عليه السلام إلى السماء وعمره ثلاث وثلاثون سنة وسينزل في آخر أيام هذه الحياة ويتمم بقية عمره على هذه الأرض فيعيش أربعين سنة يقضيها إماما ً عدلا ً يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية كما جاء ذلك في صحاح الأحاديث. فسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويم يبعث حيا ً.
هذا ومظاهر الكمال التي نريد استعراضها في حياته عليه السلام هي: الطهارة، والزهد، والحكمة وكمال اليقين.
طهارته عليه السلام:(17/396)
وعن طهارة المسيح عيسى بن مريم نقول: إن الطهارة الروحية ضرورية لتلقى الوحي الإلهي من الواسطة في ذلك وهم الملائكة عليهم السلام، ومن هنا كان كل الأنبياء إظهار الأرواح أزكياء النفوس معصومين من فعل كل ما يلوث الروح ويخبث النفس. بيد أن ابن مريم عليه السلام قد بلغ في هذا الش أن مستوى رفيعا ً جدا ً تميز به بين إخوانه الأنبياء والمرسلين. ويشهد لذلك ثلاثة أمور:
الأول: إن الشيطان لم يقربه أبدا ً، ذلك لاستجابة الله تعالى لجدته حنة في دعائها، إذ قالت لما ولدت مريم: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} فاستجاب الرب تبارك وتعالى لها، وحفظ مريم وولدها عيسى عليه السلام من الشيطان. وفي هذا المعنى يقول الرسول الكريم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: " ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا ً من مسه إياه. إلا مريم وابنها "، تم يقول أبو هريرة راوي الخبر: اقرءوا إن شئتم: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} . أخرجه الشيخان البخاري ومسلم وإذا حفظ وهو صبى فحفظه وهو كبير يستعيذ بر ب هـ من الشيطان ويقدر على لعن الشيطان ومخالفته فيما يدعوه إليه أولى وآكد. رو ي أنه عليه السلام نام يوما ً على الأرض بدون فراش وتوسد حجرا ً ونام فوجد لذة النوم. فجاءه إبليس عليه لعائن الله وقال له: يا عيسى ألست تزعم أنك لا تريد شيئا ً من عرض الدنيا، فهذا الحجر من عرض الدنيا، فقام فأخذ الحجر ورمى به إليه، وقال: هذا لك مع الدنيا.(17/397)
الثاني: أنه عليه السلام لما انتهت إليه البشرية تطلب إليه أن يشفع لها عند الله عز وجل ليفصل بها في عرصات القيامة وقد طال بها الموقف، واشتد بها الحال، وغضب الرب عز وجل غضبا ً لم يغضب قبله ولا بعده مثله، فلم يذكر عيسى عليه السلام عند اعتذاره لها ذنبا ً، كما ذكر ذلك آدم، ونوح وإبراهيم وموسى عليهم السلام وعلى نبينا الصلاة والسلام أثبت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة في صحيح مسلم. وبهذا علم أن عيسى عليه السلام كان من أطهر الناس روحا ً وأزكاهم نفسا ً، وأكثرهم زهدا ً وأقواهم يقينا ً، وسنذكو شواهد لذلك فيها يلي.
الثالث: أن الله تعالى أيده بروح القدس يسدده ويعينه ويدفع عنه فكان جبريل عليه السلام لا يكاد يفارقه فترة حياته كلها حتى رفعه الله تعالى إليه. فمصاحبة جبريل عليه السلام له في أغلب أحواله من شأنها أن تزيد في صفاء روحه عليه السلام وزكاة نفسه لما في ذلك من البركة والعصمة، إذ ما زالت مجالسة الصالحين والحياة معهم حصنا ً منيعا ً للع ب د لا يقربه معه شيطان ولا يغشى فيه إثما ً أو قطيعة.
ويشهد لهذه الحقيقة وهي أن مجالسة الصالحين من الملائكة ومن الناس من شأنها أن تزيد في طهارة الروح وزكاة النفس ما ثبت عن النبي صلى الله عليه كان أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل عليه السلام - وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرضه عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن. فإذا لقيه عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة.(17/398)
ووجه الإ ئتساء في هذا الضرب من الكمال الروحي هو أن يعمل الداعي الناشئ على تزكية نفسه وتطهير روحه بفعل ما يزك ي النفس ويطهرها من الإيمان والعمل الصالح. وبإبعادها عن كل ما يدنسها ويلوثها من الشرك والمعاصي مستعينا ً في ذلك بالله تعالى ثم بمجالسة الصالحين من عباد الله المؤمنين، إذ طهارة روح- الداعي ضرورية للتأثير على نفوس المدعوين إلى الله تعالى وحملهم على طاعته والإنابة إليه والتوكل عليه.
زهده عليه السلام:
وعن زهد عيسى عبد الله ورسوله نقول: إذا كان هو احتقار الدنيا وعدم الرغبة في حطامها، والتقليل من متاعها إلا بقدر البلاغ، والعزوف عما يتكالب عليه أبناء الدنيا من جمع المال وا لإ نغماس في الملاذ والشهوات الجثمانية البهيمية، مع الرغبة الملحة فيما عند الله تعالى، والسعي الحثيث المتواصل إلى ذلك باليقين والعبادة والتوكل. إذا كان هذا هو الزهد المطلوب للكمال البشري والمتعين لأن يكون وصفا ً لازما ً لدعاة الحق والخير من كمال البشر وسادات الناس، فان المسيح عيسى بن مريم عليه السلام كان مضرب المثل في هذا الباب، بحيث لم يزهد زهده أحد ممن سبقه أو تأخر عنه باستثناء خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم. وها هي ذي آثار مروية في زهد المسيح عليه السلام في الدنيا نوردها شواهد حق على زهده عليه السلام، ونماذج كمال ل لإ قتداء به عليه السلام فيها، وموعظة وذكرى للذاكرين ومن هذه الآثار ما رو ي أنه قال للحواريين: " يا معشر الحواريين ارضوا بدني الدنيا مع سلامة الدين، كما رضي أهل الدنيا بدني الدين مع سلامة الدنيا ". وصاغ هذا المعنى أحد الحكماء في بيتين من الشعر فقال:
أرى رجالا ً بأدنى الدين قد قنعوا
ولا أراهم رضوا في العيش بالدون
فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما
استغنى الملوك بدنياهم عن الدين(17/399)
كما رو ي أنه قال لحوارييه:" وبحق أقول لكم من طلب الفردوس فخبز الشعير والنوم في المزابل مع الكلاب كثير ". وقال:" يا معشر الحواريين اجعلوا كنوزكم في السماء، فإن قلب الرجل حيث كنزه ". ورو ي أنه عليه السلام خرج على أصحابه وعليه جبة صوف، كساء وتبان حافيا ً باكيا ً شعئا ً مصفر اللون من الجوع، يابس الشفتين من العطش فقال: " السلام عليكم يا بني إسرائيل أنا الذي أنزلت الدنيا منزلتها بإذن الله، ولا عجب ولا فخر، أتدرون أين بيتي؟ قالوا: أين بيتك يا روح الله؟ قال: بيتي المساجد، وطيبي الماء، وأدامي الجوع، وسراجي القمر بالليل.... وشعاري خوف رب العزة، وجلسائي الزمن ى والمساكين، أصبح وليس لي شيء، وأمسى وليس لي شيء، وأنا طيب النفس غير مكترث، فمن أغنى مني وأربح؟ ". [12]
وثمرة معرفة هذا الجانب من حيا ة عيسى عليه السلام هي أن يحرص الداعي الناشئ على اكتساب خلق الزهد والتحلي به بين الناس فان الداعي متى زهد في الدنيا ورغب في الآخرة، ورأى الناس ذلك منه مالوا إليه، وأقبلوا عليه، وبذلك يسهل عليه تعليمهم وهدايتهم وإصلاحهم.
حكمته عليه السلام:(17/400)
وعن حكمة عيسى ن ب ي الله ورسوله عليه السلام نقول: إذا كانت الحكمة هي السداد والإصابة في الأمور، أو هي وضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها، كما هي الحلم والعلم والفقه في دين الله تعالى ومعرفة أسرار لشرعه فإن عيسى عليه السلام كان عالما ً حليما ً ذا أصاب ة وسداد فيما يقول ويعمل، ينطق بالحكمة ويعلمها، رو ي أن امرأة من عجائز بيت لحم بعثت إليه بطفلها يقول له: إن أمي تطلب منك إبرة. فكأنه عليه السلام استهجن هذه الطلبة ولم يكن يملك الإبرة فقال للغلام: أطلب تجد، فعاد الغلام إلى أمه وأخبرها بما قال له السيد المسيح فجأته تعتب عليه ردها خائبا ً، فقال لها عليه السلام: إني أعطيت ولدك حكمة وهي خير من إ بر ة، فقلت له أطلب تجد. ولم يكن لدي إبرة فأعطيها إياه فسكت غضب المرأة، وندمت على عتابها!!!
ورو ي أنه كان ي ق ول للحواريين: " كما ترك لحم الملوك الحكمة فاتركوا لهم الدنيا ". كأنه يعني بالحكمة علم الشرع والعمل به، الإ هتداء بهديه.
ورو ي أنه قال للحواريين:" لا تحدثوا بالحكمة غير أهلها فتظلموا، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم. والأمور ثلاثة، أمر بين رشده فاتبعوه، وأمر بين غيه فاجتنبوه وأمر اختلف عليكم فيه فردوا علمه إلى الله عز وجل ". وقال لأصحابه يوما ً: " أنتم ملح الأرض فإذا فسدتم فلا دواء لكم وأن فيكم خصلتين من الجهل: الضحك من غير عجب والصبحة من غير سهر ". يريد بالصبحة النوم بعد صلاة الصبح.(17/401)
ومن حكمه عليه السلام قوله: " حب الدنيا رأس كل خطيئة، والنظر يزرع في القلب الشهوة، ورب ش هوة أورثت صاحبها حزنا ً طويلا ً ". وكان يقول: " طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر كلما ازداد شربا ً ازداد عطشا ً حتى يقتله "، وكان يقول: " لا يستقيم حب الدنيا وحب الآخرة في قلب مؤمن، كما لا يستقيم الماء والنار في إناء ". وقالت له امرأة يوما ً:" طوبى لحجر حملك ولئدى أرضعك !!. فقال: طوبى لمن قرأ كتاب الله واتبعه ". [13]
هذه بعض ما أثرى من حكمه عليه السلام، والقصد من إيرادها الإشارة إلى ك م ال عيسى عليه السلام في هذا الباب، وندب الداعي إلى الله تعالى إلى أن- يتعلم الحكمة ويعمل بها حتى يصبح من أهلها.
ويورث الحكمة شيئان: العمل بالكتاب والسنة، وكثرة الصمت، لأن العمل بالكتاب والسنة يعصم من الخطأ في العمل والحكم، وكثرة الصمت يعصم من الخطأ في القول والتقدير. وقديما ً قال لقمان عليه السلام: " الصمت حكمة وق ل يل فاعله ".
كمال يقينه عليه السلام:
وعن كمال يقين عيسى عليه السلام نقول فقد رو ي " أن الحواريين فقدوا يوما ً نبيهم عيسى عليه السلام فسألوا عنه، فقيل لهم أنه توجه نحو البحر، فانطلقوا يطلبونه هناك، فلما انتهوا إلى البحر، وجدوه عليه السلام على الماء يرفعه الموج مرة ويضعه أخرى وعليه كساء قد ارتدى بنصفه، واتزر بنصفه الآخر. فلما قرب منهم قال له بعضهم ولعله أفضلهم: أجيء إليك يا نبي الله؟ فقال بلى، فوضع الرجل إحدى رجليه في الماء، ثم ذهب ليضع الأخرى، فقال: أؤه، غرقت يا نبي الله، فقال له عيسى عليه السلام: أرني يدك يا قصير الإيمان، لو أن لابن آدم من اليقين قدر شعيرة مشى على الماء ".(17/402)
وقيل له عليه السلام يوما ً " بأي شيء تمشي على الماء؟ فقال: بالإيمان واليقين، فقالوا: أنا آمنا كما آمنت وأيقنا كما أيقنت، قال: فامشوا إذا ً، فمشوا معه في الموج فغرقوا، فقال لهم: مالكم؟ فقالوا: خفنا الموج، قال: ألا خفتم رب الموج! فأخرجهم، ثم ضرب بيده إلى الأرض فقبض بها، ثم بسطها، فإذا في إحدى يديه ذهب، وفي الأخرى مدر أو حصى، فقال: أيهما أحلى في قلوبكم؟ قالوا: هذا الذهب. قال: فإنهما عندي سواء ".
هذه صورة واضحة من كمال يقين عيسى عليه السلام أبرزناها للداعي الناشئ ليتصورها دائما ً في نفسه ويتمثلها في حياته فتكون عونا ً له على تقوية صبره وكمال يقينه، إذ حاجته إلى الصبر واليقين في باب الدعوة أشد من حاجته إلى غيرهما من أسباب نجاح الدعوة، وعوامل فوزه فيها، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} . ومن هنا قيل بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ...
--------------------------------------------------------------------------------
[1] النماذج: جمع نموذج. والنموذج مثله وقال صاحب القاموس في الأخير لحن ومعناه: المثال "معرب ". والجمع: نموذجات وأنموذجات. وقول صاحب القاموس لحن خطأ فيه كثيرون. وقالوا: إنها دعوة لا تصح وسمى الزمخشري: الأنموذج.
[2] الأراذل: جمع الأرذل أي الأكثر رذالة، وهو المحتقر الذي لا فضيلة له.
[3] بادئ: أي ابتداء من غير تفكر فيك، ولو فكروا فيك لما اتبعوك.
[4] اللهجة: اللسان، ولغة الإنسان التي جبل عليها واعتادها. يقال فلان فصيح اللهجة، وصادق اللهجة. (منجد) .(17/403)
[5] ترجون بمعنى تأملون من الله تعالى وقاراً لكم إن أنتم آمنتم به وعبدتموه وحده دون سواه. أو ترجون بمعنى تعتقدون أي ما لكم تعتقدون وقار الله وتعظيمه بأن تعبدوه وحده وتتركوا عبادة غيره وهو قد خلقكم أطواراً ... الخ.
[6] الخلة أقصى المحبة وفي وجه اشتقاقها أقول كثيرة أشهرها وأقربها أنها من تخلل الحب كل مسالك النفس وتعلقه بكل جزئيات البدن. وعليه قول القائل: قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمى خليلاً.
[7] الآية في سورة الدخان ونصها: {ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم. أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين} .
[8] عجز البيت مكسور ولعله: وار ى الشجاعة في العقول قليلا.
[9] كان ذلك لما مروا بأهل قرية يعكفون على أصنام لهم يعبدونها. فقالوا لموسى {اجعل لنا إلها ً كما لهم آلهة} رد عليهم قائلاً: {إنكم قوم تجهلون} ..
[10] قرء في السبع مخلصا ً بفتح اللام أيضاً ً، وهو من الإ صطفاء لا من الإخلاص.
[11] متفق عليه.
[12] كل ما أوردناه من الآثار المتعلقة بحياة نبي الله تعالى عيسى عليه السلام هو من البداية لابن كثير.
[13] هذه الرواية لم تكن من البداية.(17/404)
ترجمة البيهقي
لفضيلة الشيخ نايف هاشم الدعيس
المحاضر بكلية الشريعة
ولد أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله [1] بن موسى البيهقي في شعبان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة [2] بقرية – خسرو جرد [3]- وعاش أربعاً وسبعين سنة وتوفي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة في نيسابور [4] وحمل [5] منها إلى (بيهق) [6] فدفن بها.
وقد عاش في زمن عاصف بالفتن التي ضربت أمواجها بلاد الإسلام فابتلى المسلمون بلاءًا عظيماً وصاروا طوائف وأحزاباً يطعن بعضهم في بعض حتى طمع فيهم أعداؤهم وهاجم [7] ملك الروم بلاد الشام بجيوشه الجرارة على حين غفلة من المسلمين.
ولولا ما قدر في كتاب لجاز البلاد والأموال وصدّع الصرح الشامخ الذي بناه رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
وفي الوقت الذي يهاجم الروم فيه الشام تحاصر مدينة البصرة ويباع [8] نصف مدينة (الرها) بعشرين ألف دينار، ويدخل طغرلبك مدينة نيسابور وخراسان وما جاورها، وتتجدد الفتن في كل وقت وحين بين أهل السنة من جهة والشيعة والرافضة من جهة أخرى عمّ الذعر قلوب الناس وتخلخل الأمن ونهب [9] الأتراك كل من ورد إلى بغداد فشاع الغلاء وقلّ المورد، ولعن الخطباء الرافضة والأشاعرة على المنابر ونحي عن المناصب الشافعية فضج أهل خراسان وأرسل [10] البيهقي رسالته إلى عميد عبد الملك الكندري التي دافع فيها عن أهل السنة عامة وعن الأشعري وما نسب إليه خاصة دفاعاً قوياً لم يترك في نفس الوزير الكندري إلا أثراً عكسياً فتمادى في ظلمه وعد وأنه ولم يأبه بكل ما كتب إليه حتى مات (طغرلبك) وانتقل الأمر من بعده إلى ابن أخيه (ألب أرسلان) الذي نقم على الكندري أعماله فقبض عليه وقتله وأسند أمر الوزارة إلى (نظام الملك) الذي انتصر للشافعية وأبطل ما كان من سب الأشعرية.(17/405)
وليس مهمّاً أن تُعدد الحوادث بقدر الإهتمام بمعرفة مدى تأثيرها على نفسه المملؤة إيماناً وورعاً ونزاهة وحباً للسنة، التي نصب نفسه للدفاع عنها والتمسك بها فجمع كل ما تحصل عليه ليجعل منه منهجاً يتسم بالتمسك بعرى وثيقة تستمد الهدي من مشكاة النبوة فتكشف الظلام الكثيف الذي هيمن على ربوع الأرض وأحاطها من كل جانب بسبب المطاحنة المذهبية والتعصبات الجاهلية.
وهكذا نراه يمضي قُدماً في ترسيخ الأسس التي قام عليها صرح الإسلام فألف الكتب وجمع فيها ما لم يتهيأ لغيره جمعه فاستوعب الكثير مما يتعلق بالعقائد والسنة والفقه. وكان جل اهتمامه متابعة ما أثر عن الشافعي بعد أن ثبت له تمسكه بالكتاب والسنة وأنه فاق غيره في ذلك.
ولم يكن البيهقي بالرجل الذي يطوع النصوص لمذهبه كما فعل غيره وإنما غرضه منها أسمى من أن يتحدث عنه بمثل ذلك.
وليس غريباً أن يسلك هذا السبيل وهو يتبع إماماً تمسك بالسنة وأوصى بها [11] ما بلغه منها وما لم يبلغه، حتى علق قوله بثبوت ما خفي عليه منها.
أضف إلى ذلك تلقيه العلم عن أئمة برزوا في مناحي الإجتهاد فكان كل واحد منهم جبلا شامخاً تتحطم عنده أمواج التعصب.(17/406)
وقد انعكس ذلك على مؤلفاته فجاءت صورة صادقة للتعبير عما ينطوي عليه نفسه من حب وإيثار للسنة على غيرها وميول نحو الحق وإن أدى إلى مخالفة الإمام الذي [12] تولى الدفاع عنه، واشتهر بحبه له، فصنف التصانيف لنصرة [13] مذهبه حتى اشتهر عن إمام الحرمين قولته المشهورة "ما من شافعي المذهب إلا وللشافعي عليه منه، إلا أحمد البيهقي فإن له على الشافعي منه " [14] . وقال الذهبي:"إن البيهقي أول من جمع نصوص الشافعي " [15] ، وردّ عليه السبكي [16] ورجح أنه آخر من جمع نصوصه، وأيده السيد أحمد صقر [17] بما نقله عن البيهقي نفسه وأنه ذكر ثلاثة كتب [18] سبقه مؤلفوها إلى جمع نصوص الشافعي فيها والظاهر أن الذهبي قال ذلك في حقه باعتبار استيعابه في مصنفاته أكثر - أو كل - ما في كتب السابقين، وبهذا تجتمع الأقوال التي اتفقت على تفوق البيهقي في هذا المضمار على كل من شارك فيه.
(صفاته)
قال السبكي [19] :"كان الإمام البيهقي أحد أئمة المسلمين وهداة المؤمنين والدعاة إلى حبل الله المتين، فقيه جليل، حافظ كبير، أصولي نحوي زاهد ورع، قانت لله، قائم بنصرة المذهب أصولاً وفروعاً جبلاً [20] من جبال العلم، أخذ الفقه عن ناصر العمري وقرأ علم الكلام على مذهب الأشعري ثم اشتغل بالتصنيف بعد أن صار أوحد زمانه وفارس ميدانه، وأحذق المحدثين وأحدهم ذهناً، وأسرعهم فهماً، وأجودهم قريحة ". هـ.
وقال ابن ناصر الدين:"كان واحد زمانه، وفرد أقرانه حفظاً واتقاناً، وثقة، وعمدة " [21] .هـ
وقال [22] ابن خلكان:"كان قانعاً من الدنيا بالقليل " [23] . هـ.
(علمه)(17/407)
لم تذكر كتب التراجم كيف بدأ البيهقي حياته العلمية كما لم تعطنا فكرة واضحة المعالم عن أسرته وطفولته وكيف نشأ، لكنها لم تغفل اهتمامه وشغفه بالبحث والإطلاع الذي جازبه حدود قريته إلى العراق والجبال [24] والحجاز فتلقى من علمائها الكثير وقد ربي عددهم على المائة [25] .
فأخذ عن شيخه أبي عبد الله الحاكم علم الحديث، وأخذ الفقه [26] عن أبي الفتح ناصر بن محمد العمري المروزي [27] . (ت 444هـ) .
وقال عبد الغافر [28] :"جمع بين علم الحديث والفقه، وبيان علل الحديث ".
وقال السمعاني [29] :"جمع بين معرفة الحديث والفقه ". هـ.
ومن الغريب أن يقول الذهبي عنه:"دائرته في الحديث ليست كبيرة لكن بورك له في مروياته" [30] .
على رغم ما لمسناه في كتبه من الإطلاع الواسع والمعرفة التامة بالأحاديث وما يتعلق بها.
ورغم ما تقدم من أقوال العلماء وشهاداتهم له وتقديمه في معرفة الحديث ورغم ما أثر عنه من أقوال [31] تفيد مدى اهتمامه واشتغاله بهذا العلم منذ حداثته ونعومة أظافره.
وكما استغربنا كلام الذهبي عنه نقف حائرين أمام تفسير عدم تمكنه من الإطلاع على (سنن النسائي) و (سنن ابن ماجه) و (جامع الترمذي) [32] ، وقد علمنا مدى حرصه واهتمامه بكتب السنة وما قام به من رحلات عديدة للتحصيل وجمع المعلومات.
(مصنفاته)
بعد أن جاب البيهقي أقطار الأرض طلباً للعلم والتقى بالكثير من العلماء ونهل من مواردهم المختلفة حتى فاق الكثير منهم عاد إلى بلده [33] وأخذ يكتب الرسائل ويؤلف الكتب حتى بلغت - فيما قيل - ألف جزء، منها ما هو في الحديث، ومنها ما جمع بين الفقه والحديث ومنها ما انفرد بالعقائد، ولقد بورك له في مؤلفاته حتى لا يكاد يستغني عنها مسلم فنشر منها الكثير وما لم تزغ عنه أعين الباحثين يترقبون له الفرص لنشره وبثه ليستقى من نهله العذب.(17/408)
ولقد عدّد المترجمون عنه الكثير من كتبه لاسيما ما كتبه السيد أحمد صقر فقد ذكر من مؤلفاته واحداً وثلاثين مؤلفاً لكنه اقتصر في التعريف بها على ما كتبه السبكي عنها، وهي عبارات وجيزة مختصرة ولهذا سنذكر أهم تلك المؤلفات مع التعريف بها:-
1- السنن الكبرى.
وهو أهم مؤلفاته وشهد له السبكي بقوله:"ما صنف في علم الحديث مثله تهذيباً وترتيباً وجودة" فأقر قول شيخه الذهبي "ليس لأحد مثله " [34] وذكره [35] السخاوي ضمن كتب السنن وقال:"فلا تعد عنه لاستيعابه لأكثر أحاديث الأحكام، بل لا تعلم - كما قال ابن الصلاح- في بابه مثله ولذا كان حقه التقديم على سائر كتب السنن ولكن قدمت تلك لتقديم مصنفيها في الوفاة ومزيد جلالتهم".
وقال الفاداني [36] المكي:"لم يصنف في الإسلام مثلهما " ويعني السنن الكبرى والسنن الصغرى".
وقال أبو عبد الله محمد الأمير الكبير في تفسير كلام السخاوي المتقدم - أي لا تتجاوز أنت عن كتاب السنن الكبرى ولا حاجة لك في طلب غيره " [37] وقد جمع في مؤلفه السنن من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وموقوفات الصحابة وما أرسله التابعون فكان موسوعة كبرى في الحديث وقد رتبه على أبواب الفقه [38] ، واشتغل به بعض العلماء فاختصره كل من إبراهيم بن علي المعروف بابن عبد الخالق الدمشقي (ت 744هـ) في خمس مجلدات [39] والحافظ الذهبي (ت 748 هـ) والشيخ عبد الوهاب بن أحمد الشعراني (ت 974 هـ) وصنف الشيخ علاء الدين علي بن عثمان المعروف بابن التركماني (ت 750 هـ) كتاباً سماه (الجوهر النقي في الرد على البيهقي) وهو مطبوع في حاشية كتاب (السنن الكبرى) وأكثره اعتراضات [40] عليه ومناقشات له ومباحثات معه.
ولخص كتاب (الجوهر النقي) [41] زين الدين قاسم بن قطلوبغا الحنفي (ت 879 هـ) في كتاب سماه (ترجيح الجوهر النقي) وقد رتبه على حروف المعجم وبلغ فيه إلى حرف الميم.(17/409)
2- (معرفة السنن والآثار) :
قال السبكي [42] :"وأما المعرفة- معرفة السنن والآثار- فلا يستغني عنه فقيه شافعي، وسمعت الشيخ الإمام رحمه الله يقول: مراده معرفة الشافعي بالسنن والآثار ". هـ.
والحق أنه لا غنى لفقيه شافعي وغيره عنه لما جمع فيه من أحكام يستدل عليها بما في الكتاب والسنة، ويوازن فيه بين أقوال الفقهاء ويذكر أدلتهم ويبين الصحيح منها والضعيف.
فهو بدون ريب من موسوعات كتب الفقه المقارن قل أن تجد مثله وقد ضمنه الرد على أبي جعفر أحمد بن سلامه الطحاوي الحنفي الذي شن [43] الغارة على الشافعي وأصحابه.
ويأتي ضمن البحوث تعريف كامل بكتاب (معرفة السنن والآثار) نشير فيه إلى نسخه ومواضعها.
وقد خرج فيه مؤلفه ما احتج به الشافعي من الأحاديث في الأصول والفروع بأسانيدها التي رواها بها مع ما رواه مستأنساً به غير معتمد عليه أو حكاه لغيره مجيباً عنه.
وقد تكلم البيهقي على تلك الأحاديث والأخبار بالجرح والتعديل والتصحيح والتعديل وأضاف إلى بعض ما أجمله الشافعي ما يفسره من كلام غيره وإلى بعض ما رواه ما يقويه من رواية غيره.
وبين فيه أن الشافعي لم يصدر باباً برواية مجهولة ولم يبن حكماً على حديث معلول وأنه قد يورده في الباب على رسم أول الحديث بإيراد ما عندهم من الأسانيد واعتماده على الحديث الثابت أو غيره من الحجج.
وأنه قد يئق ببعض من هو مختلف في عدالته على ما يؤدي إليه اجتهاده كما يفعل غيره.
وأنه لم يدع سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بلغته وثبتت عنده حتى قادها، وهكذا نرى مقصده من تأليف (معرفة السنن) يتجلى في مقدمته الطويلة التي صدرها كتابه.
3- كتاب (المبسوط) :(17/410)
قال السبكي [44] :" وأما المبسوط في نصوص الشافعي فما صنف في نوعه مثله ". وألفه البيهقي ليجمع كلام الشافعي ونصوصه مضبوطة بعد ما ضاق صدره مما وجده في الكتب [45] من الإختلاف في نصوص الشافعي وإيراد الحكايات عنه دون تثبت، فحمله ذلك على نقل مبسوط ما اختصره المزني من كلام الشافعي وأدلته على ترتيب المختصر [46] .
4- كتاب (الأسماء والصفات) :
قال السبكي:"وأما كتاب الأسماء والصفات فلا أعرف له نظيراً ".هـ. وألفه البيهقي لبيان أسماء الله تعالى وأدلتها من الكتاب أو السنة أو الإجماع.
وبدأه بالثناء على الله ثم ذكر أسماء الله تعالى التي من أحصاها دخل الجنة وربط معاني تلك الأسماء بخمسة أبواب، وذكر أن هناك أسماء غير هذه لله تعالى [47] .
5- كتاب (الإعتقاد) :
قال السبكي [48] : "وأما- كتاب الإعتقاد- وكتاب دلائل النبوة- وكتاب شعب الإيمان- وكتاب مناقب الشافعي- وكتاب الدعوات الكبير- فأقسم ما لواحد منها نظير ".
وكتاب الإعتقاد كتبه البيهقي ليبين فيه ما يجب على المكلف اعتقاده والإعتراف به مع الإشارة إلى أطراف أدلته.
وقال المؤلف نفسه:" هذا الذي أودعناه هذا الكتاب اعتقاد أهل السنة والجماعة وأقوالهم ".
وهو لاشك كتاب نفيس في موضوعه يتسم بسلاسة الأسلوب والنقاش الهادئ وقوة الأدلة. وقد جمعه من تواليفه مما كتبه فيما يجب على المكلف اعتقاده والإعتراف به ملتزماً ما فيه الإختصار [49] .
6- كتاب [50] (دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة) :
تكلم فيه عن مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ونشأته وشرف أصله ووفاة أبيه وأمه وجده.
وذكر فيه صفاته الخلقية والخلقية وزهده في الدنيا وسيرة حياته منذ ولادته حتى وفاته، تباشير بعثته والمعجزات التي ظهرت على يديه.
وركز في مباحثه على المعجزات وخوارق العادات فذكر فيها أحاديث جلها صحيحة وبعضها فيه مقال [51] .(17/411)
وهو كتاب من أجمع تصانيف، مؤلفه لما أورده فيه وعنى به وقد اعتمد فيه على كتب السابقين له.
7- كتاب (شعب الإيمان) [52] :
وهو كتاب كبير في ست مجلدات، كتبه البيهقي على نمط (كتاب) [53] أبي عبد الله الحسين بن الحسن الحليمي (ت 403هـ) في بيان شعب الإيمان المشار إليها في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها لا إله إلا الله وأوضعها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان" [54] ولم يجمع تلك الشعب ثم يكلم عليها واحدة تلو الأخرى وإنما أورد كلامه مفصلاً عن كل واحدة منها مستوفياً أدلتها وشارحاً لها في جميع الكتاب وقد زاد على (كتاب) الحليمي ذكر الأسانيد التي عليها مدار الروايات.
8- كتاب (مناقب الشافعي) [55] :
وهو أجمع ما رأيت من كتب مناقب الإمام الشافعي، وقد نقل فيه مؤلفه عمن كتب قبله في ترجمة الإمام-كابن أبي حاتم (ت 327 هـ) ، وأبي الحسن محمد بن عبد الله الرازي (ت 454 هـ) .
ويتضح فيه تحمسه الشديد للشافعي ومذهبه أن دون المساس بأحد وكأن مرجع ذلك اقتناع البيهقي بتمسك الشافعي بالكتاب والسنة وأنه أقرب الأئمة منهما.
وبدأ كتابه بذكر ما لقريش من الخصائص لا سيما بني هاشم وبني المطلب ليدلل على مكانة الشافعي ونسبه.
وقد ذكر فيه مولده ونسبه وتعلمه وتعليمه وتصرفه في العلم وتصانيفه واعتراف علماء دهره بفضله، ومما يستدل به على كمال عقله وزهده في الدنيا وورعه واشتهاره بخصال الخير، ومكارم الأخلاق.
وقد أورد فيه أحاديث صحيحة وأخرى لا تخلوا من مقال [56] .
وقد نقل كثير من المؤلفين عن كتاب (مناقب الشافعي) بل كان جل كتاباتهم مستقاة منه لأن البيهقي لم يترك شيئاً مما له أدنى علاقة بالشافعي إلا وذكره إلى جانب التثبت من الروايات.
9- كتاب (الدعوات الكبير) [57] :(17/412)
ألفه البيهقي إجابة لسؤال أحد، إخوانه في أن يجمع له ما ورد من الأخبار في الأدعية المرجوة التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أو علّمها أحداً من أصحابه، وقد ذكرها بأسانيدها وقد رتبه على ترتيب كتاب المختصر المأثور لأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة وأضاف إليه زيادات لم يعرض لها ابن خزيمة.
بدأ كتابه بذكر ما للدعاء والذكر من الأجر والثواب.
10- كتاب (الدعوات الصغير) :
ولم أقف عليه.
11- كتاب (الزهد الكبير) [58] :
ذكر فيه أقوال السلف والخلف رضي الله عنهم في فضيلة الزهد وكيفيته وأنه في قصر الأمل والمبادرة بالعمل الصالح.
12- كتاب (إثبات عذاب القبر وسؤال الملكين) [59] :
أورد فيه الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وأقاويل السلف لإثبات عذاب القبر وسؤال الملكين، وقد بين أن ذلك جائز عقلاً كما جاز شرعاً.
13- كتاب (أحكام القرآن) [60] :
جمع البيهقي فيه من نصوص الشافعي ما يدل على مبلغ- علمه- بالمعاني الدقيقية في القرآن.
ومقصد الكتاب ظاهر من عنوانه وهو مثل كتاب (أحكام القرآن) لأبى بكر أحمد بن علي الرازي- الجصاص-، وكتاب (أحكام القرآن) لأبي بكر بن العربي.
14- كتاب (المدخل) [61] :
وهو من سماع عبيد الله بن عمر يحي بن عمر الكجي وخط تقي الدين أبي عمر وعثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى أبي نصر النصري الشهروزري.
وعلى الكتاب بعض السماعات وفي آخره ذكر السند إلى البيهقي. وخط النسخة دقيق متداخل بعضه في بعض، وعليها سماعات ابن الصلاح والحافظ المزي وسماعات أخرى.
15- كتاب (البعث والنشور) [62] :
وهو بخط محمد بن عبد العزيز بن محمد في خيزان في سنة أربع وأربعين وثمانمائة وعليه بعض السماعات.
16- كتاب (تخريج أحاديث الأم) [63] :(17/413)
وقد خرج فيه أحاديث كتاب (الأم) حديثاً حديثاً مع سنده والتعليق عليه.
17- كتاب (الخلافيات بين الشافعي وأبي حنيفة) [64] :
ذكر فيه ما اختلف فيه أبو حنيفة والشافعي في الأحكام، وقد رتبه على أبواب الفقه.
18- كتاب (بيان خطأ من أخطأ على الشافعي) :
(علمه بمصطلح الحديث)
من الإطلاع على ما كتبه البيهقي تدرك معرفته بعلم مصطلح الحديث وهو يتفق في جميع القواعد التي قعدها علماء المصطلح مع جمهورهم والكثرة الغالبة منهم.
وقد يخرج عن قواعدهم أحياناً لكنه لا يفتأ أن يعود إلى الإلتزام بمنهجهم حتى فيما خالفهم فيه أحياناً أخرى.
وأصدق مثال على هذا ما اتفق عليه جمهورهم من الإختصار على الرمز (ثنا) الدال على الفعل (حدثنا) وقد تزاد (الدال) على الرمز (ثنا) فتكون العبارة (دثنا) .
وقد تحذف الثاء فتكون العبارة (نا) .
وما اتفقوا عليه أيضاً من استعمال الرمز (أنا) الدال على الفعل (أخبرنا) وقد تزاد الراء بعد الألف فتكون العبارة (أرنا) .
وفي كل ما تقدم من الإصطلاحات يختلف البيهقي عن الجمهور ويستعمل رموزاً أخرى مشتقة من مبنى الأفعال المرموز لها فيقول في حدثنا (دثنا) يعني بزيادة حرف (الدال) على اصطلاح الجمهور.
وكذلك فإنه يزيد (الباء) على الرمز (أنا) فيقول (أبنا) بتقديم الباء على النون.
وقد وجدناه في مؤلفاته يستعمل الرمز الأخير بكثرة بينما لم يستعمل الرمز الأول إلا نادراً، مع أنه لم يخرج عن استعمال الجمهور لهذين الرمزين بالكلية وإنما يرجع إليهما في غالب رواياته لاسيما رمز (ثنا) فإنه لم يستعمل غيره في النسخة التي بين يدي ولا في غالب كتبه إلا في بعض المواضع. أما رمز (أبنا) ولم يستعمله في باقي كتبه كما استعمله هنا بل غالب ما هنالك ما اتفق عليه جمهورهم.(17/414)
ولا يقبل البيهقي الرواية المرسلة إلا أن يأتي ما يعضدها ويقويها وقد نص على ذلك في كتابه [65] المعرفة بقوله:"ونحن إنما لا نقول بالمنقطع إذا كان مفرداً فإذا انضم إليه غيره وانضم إليه قول بعض الصحابة، أو ما يتأكد [66] به المراسيل ولم يعارضه ما هو أقوى منه فإنا نقول به، وقد مضى بيان ذلك في أول الكتاب ".
--------------------------------------------------------------------------------
[1] جاء في كتاب الأنساب للسمعاني تسميته - أحمد بن الحسين بن علي بن موسى بن عبد الله - فقدم وأخر، وهو خطأ ظاهر. انظر (الأنساب ص101) .
[2] انظر (طبقات الشافعية الكبرى 3/3) .
[3] (خسرو جرد) بضم الخاء المعجمة وسكون السين المهملة وفتح الراء وسكون الواو وكسر الجيم وسكون الراء وفي آخرها الدال المهملة قرية من ناحية (بيهق) ذكره السبكي في (طبقات الشافعية الكبرى 3/3) .
[4] (نيسابور) بفتح النون وسكون الياء وفتح السين المهملة وسكون الألف وضم الباء الموحدة.
قال ابن الأثير:"هي أحسن مدن خراسان وأجمعها للخيرات ".
وقال ياقوت:" (نيسابور) والعامة يسمونها (نشاور) وهي مدينة عظيمة ذات فضائل جسيمة معدن الفضلاء ومنبع العلماء ... وكان المسلمون فتحوها في أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه ... وقيل أنها فتحت في أيام عمر رضي الله عنه على يد الأحنف بن قيس ". انظر (اللباب 3/341) و (معجم البلدان 5/331) .
[5] انظر (تذكرة الحفاظ 3/1143) .
[6] قال ياقوت:" (بيهق) ناحية كبيرة وكسورة واسعة، كثيرة البلدان والعمارة من نواحي نيسابور، تشتمل على ثلاثمائة وعشرين قرية، وكانت قصبتها أولاً (خسرو جرد) وقد أخرجت هذه الكورة من لا يحصى من الفضلاء والعلماء والفقهاء والأدباء ". (معجم البلدان 2/346) .
[7] انظر (الكامل في التاريخ 7/349) .(17/415)
[8] (المرجع السابق 7/353) .
[9] انظر (الكامل في التاريخ 8/67) ، (8/97 من نفس المرجع) .
[10] انظر (مقدمة السيد صقر على كتاب معرفة السنن والآثار 1/18) .
[11] هو الإمام محمد بن إدريس الشافعي عليه رحمة الله.
[12] ومن ذلك ما ذكره البيهقي عن الشافعي رحمه الله أنه كان ينكر قضاء شريح لعمر ولا يثبته. وأشار إلى اختلاف العلماء في المسألة وأتى بخبرين فيهما دلالة على أن شريحاً تولى القضاء لعمر. (انظر مناقب الشافعية للبيهقي 1/546)
[13] انظر (شذرات الذهب 3/305) .
[14] انظر (وفيات الأعيان 1/58) وغيره ممن ترجموا عن البيهقي.
[15] انظر (تذكرة الحفاظ 3/1133) وكذلك قال ابن خلكان مثل قول الذهبي انظر (وفيات الأعيان 1/76) .
[16] انظر (طبقات الشافعية للسبكي 3/4) .
[17] في مقدمته على كتاب (معرفة السنن والآثار 1/25) .
[18] الكتب الثلاثة هي، كتاب (التقريب) للقاسم بن محمد بن علي الشاشي (ت في حدود الأربعمائة هـ) وكتاب (جمع الجوامع) لأبي سهل بن العفريس الزوزني تلميذ الأصم.
وكتاب (عيون المسائل) لأبي بكر أحمد بن أحمد بن الحسن بن سهل الفارسي ابن سريج. (المرجع السابق 1/25، 26) .
[19] في (طبقات الشافعية الكبرى 3/3) بتصرف.
[20] هكذا بالنصب على تقدير (كان) أو يكون حالاً من الضمير في قائم.
[21] ابن العماد (شذرات الذهب 3/304) .
[22] (وفيات الأعيان 1/85) .
[23] نقل الذهبي عن عبد الغافر بن إسماعيل قوله "كان البيهقي على سيرة العلماء قانعاً باليسير متجملاً في زهده وورعه"انظر (سير أعلام 11/184 ورقة) .(17/416)
[24] قال ياقوت:"الجبال جمع جبل، اسم علم للبلاد المعروفة اليوم باصطلاح العجم بالعراق وتسمية العجم له بالعراق غلط لا أعرف سببه وهو اصطلاح محدث لا يعرف في القديم، وقد حددنا العراق في موضعه " (معجم البلدان 2/99) .
وظاهر كلامه رحمه الله أن الجبال على البلاد التي في شرق العراق وغرب إيران. فلم نرد الإطالة بنقل كلامه.
[25] عدد الأستاذ السيد أحمد صقر جماعة من مشايخ البيهقي في مقدمته على كتاب (معرفة السنن 1/2-9) .
[26] صرح بذلك البيهقي في كتابه (معرفة السنن والآثار 1/143) وانظر (طبقات الشافعية الكبرى 3/4) و (وفيات الأعيان 1/76) .
[27] انظر ترجمته في كتاب (العبر 3/208) ، (شذرات الذهب لابن العماد 3/273) .
[28] عبد الغافر صاحب كتاب (السياق) وهو ذيل على تاريخ نيسابور، ونقل الحافظ الذهبي كلامه في كتاب (تذكرة الحفاظ 3/1133) ، (سير أعلام النبلاء 11/185) وفيه قوله: "كتب الحديث وحفظه من صباه ".
[29] (الأنساب ص 101) .
[30] طبقات الشافعية للسبكي 3/3. ولم أقف على قول الذهبي:"دائرته في الحديث ليست كثيرة "في مؤلفاته إلا أن يكون في كتابه (تاريخ الإسلام) وقد وقفت على صورته التي في الجامعة الإسلامية ولم تبلغ ترجمة البيهقي.
[31] من ذلك قوله "وهو أني منذ نشأ وابتدأت في طلب العلم أكتب أخبار سيدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين وأجمع آثار الصحابة الذين كانوا أعلام الدين، وأسمعها ممن حملها، وأتعرف أحوال رواتها من حفاظها، وأجتهد في تمييز صحيحها من سقيمها ومرفوعها من موقوفها وموصولها من مرسلها ". (معرفة السنن 1/140 ط) .(17/417)
وجاء في رسالته لأبي محمد الجويني "وقد علم الشيخ اشتغالي بالحديث واجتهادي في طلبه ومعظم مقصودي منه في الإبتداء التمييز بين ما يصح الإحتجاج به من الأخبار وبين ما لا يصح ". (المرجع السابق 1/20 مقدمة) . وانظر (طبقات الشافعية الكبرى 3/210 – 217) .
[32] قال الذهبي:"لم يكن عنده (سنن النسائي) ولا (جامع الترمذي) ولا (سنن ابن ماجه) "انظر (تذكرة الحفاظ 3/1132) و (طبقات الشافعية الكبرى 3/3) ، وكذلك (سير أعلام النبلاء 11/184) .
[33] انظر طبقات الشافعية لابن هداية ص159 – 160.
[34] انظر (طبقات الشافعية الكبرى 3/4) ، (سير أعلام النبلاء 11/184) .
[35] (فتح المغيث 2/333) .
[36] (سد الأرب من علوم الإسناد والأدب، حاشية ص115)
[37] (سد الأرب من علوم الإسناد والأدب، حاشية 115)
[38] والحق أن كتاب السنن الكبرى غني عن التعريف فهو مطبوع بين أيدي الناس يتداولونه في عشر مجلدات، وقد طبع مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية الكائنة في الهند سنة 1344هـ.
[39] انظر (كشف الظنون 2/1007) .
[40] ومن تلك الإعتراضات ما نقلناه عنه في موضوع (العقيقة) في النسخة التي بين يدي.
[41] انظر (كشف الظنون 2/1007) .
[42] (طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 3/4) .
[43] هاجم أبو جعفر الطحاوي الشافعي وأتباعه هجوماً عنيفاً في كتابه (شرح معاني الآثار) .
[44] (طبقات الشافعية الكبرى 3/4) .
[45] سبق البيهقي جماعة إلى جمع نصوص الشافعي في كتب مستقلة ذكرناهم في أول البحث وأشرنا إلى كتبهم.
[46] انظر (طبقات الشافعية الكبرى 3/215) .
[47] طبع الكتاب في دار إحياء التراث العربي بلبنان باعتناء وتعليق الشيخ محمد زاهد الكوثري.
[48] (طبقات الشافعية الكبرى 3/4) .(17/418)
[49] وقد نشر الكتاب بتحقيق أحمد محمد موسى عام 1380 هو لم يذكر اسم المطبعة ولا مكان الطبع.
[50] الكتاب طبع منه الجزء الأول بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية سنة 1390هـ ذكره السيد أحمد صقر (مقدمة معرفة السنن والآثار 1/10) . وقد طبع الجزء الأول والثاني منه بتحقيق عبد الرحمن محمد عثمان - ومنشورات محمد عبد المحسن الكتبي- صاحب الكتبة السلفية بالمدينة المنورة- عام 1389 هـ وكأن السيد أحمد صقر لم يقف على هذه الطبعة أو غفل عنه.
[51] قال البيهقي:" فاستخرت الله تعالى في الإبتداء بما أردته واستعنت به في إتمام ما قصدته ... وعلى نحو ما شرطته في مصنفاتي من الإكتفاء بالصحيح من السقيم، والإجتزاء من المعروف بالغريب إلا فيما لا يتضح المراد من الصحيح أو المعروف دونه فأورده والإعتماد على جملة ما نقدمه من الصحيح أو المعروف عند أهل المغازي والتواريخ وبالله التوفيق ". (دلائل النبوة 1/63) .(17/419)
[52] وقفت على صورة الكتاب في أربع عشرة مجلدة في مكتبة السيد حبيب أحمد بالمدينة المنورة وصورة أخرى للنسخة الآصفية في مكتبة السيخ عبد الرحيم صديق بمكة المكرمة واختصر الكتاب المذكور الشيخ الإمام أبو جعفر عمر القزويني (ت 699هـ) في كتاب (مختصر شعب الإيمان) إجابة على سؤال محمد بن القاسم المزي له عن عدد شعب الإيمان وكان قد تكرر منه هذا السؤال وذلك بسبب الخلاف في عدد شعب الإيمان، إذ جاء في بعض الروايات "الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة " وفي بعضها "ست وسبعون أو سبع وسبعون " وفي "بعضها أربع وستون "وقد ذكر المصنف في الكتاب سبعة وسبعين شعبة جمعها من متفرق ما كتبه البيهقي في كتابه الذي نحن بصدده فاختصرها على شكل رؤوس المسائل واقتنع باستدلال آية من كتاب الله تعالى أو بحديث من أصح ما روي فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال مؤلفه رحمه الله "وربما زدت في بعض الشعب آية أو آيات أو حديثاً أو كلمات، أو حكاية أو حكايات أو بيتاً أو أبيات لم يذكرها البيهقي"وكتاب (مختصر الشعب) مطبوع بتحقيق محمد منير الدمشقي في إدارة الطباعة المنيرية عام 1355هـ.
[53] وهو كتاب (منهاج الدين في شعب الإيمان) قال عمر رضا كحالة: وهو في نحو ثلاث مجلدات (معجم المؤلفين 4/3) .
[54] الحديث أخرجه جمع من الأئمة منهم البخاري ومسلم والترمذي والنسائي واللفظ له. انظر (سنن النسائي 8/110) .
[55] طبع الكتاب في جزئين نشراً بتحقيق السيد أحمد صقر عام 1391هـ، في مكتبة دار التراث وقد ذكر السيد صقر أن الكتاب طبع منه الجزء الأول عام 1390، بدار التراث وهو يخالف ما نقلناه من كتاب (مناقب الشافعي) وانظر (معرفة السنن 1/10) .(17/420)
[56] مثل حديث "عالم قريش يملأ الأرض علماء " أخرجه في المناقب 1/45 وحديث "لا تسبوا قريشاً فإن عالمها يملأ الأرض علماً، اللهم أذقت أولها نكالاً فأذق آخرها نوالاً " أخرجه في (المناقب 1/26) وغيرها.
[57] رأيت صور من الكتاب في مكتبة الشيخ عبد الرحيم صديق بمكة عن نسخة المكتبة السعدية بالهند.
[58] لا يزال الكتاب مخطوطاً وقفت على صورته في مكتبة السيد حبيب. وتبلغ أوراقه تسع عشرة ومائة ورقة من الحجم المتوسط. ورأيت صورة أخرى للكتاب في مكتبة الشيخ عبد الرحيم صديق خطها واضح وحديث يرجع إلى عام 1319 هـ وهي مصورة من نسخة المكتبة الآصفية.
[59] الكتاب لا يزال مخطوطاً ويقوم بتحقيقه زميلنا الشيخ مصطفى سعيد خالد قطاني.
[60] طبع الكتاب بدار الكتب العلمية في بيروت عام 1359 هـ بتحقيق الشيخ عبد الغني عبد الخالق.
[61] الكتاب في مجلدين وقفت على صورة الثاني منهما في مكتبة الشيخ عبد الرحيم صديق والنسخة مصورة من مكتبة الجمعية الأسيوية بكلكتا.
[62] وقفت على صورة الكتاب في مكتبة الشيخ عبد الرحيم صديق بمكة وعليها ختم مكتبة السلطان أحمد.
[63] ويرجع تاريخ نسخ هذا الكتاب إلى حوالي القرن الثامن، وهو موجود في مكتبة دار الكتب المصرية التي رأيت صورتها ناقصة في مكتبة الشيخ عبد الرحيم صديق ويبدأ الجزء الموجود من كتاب الإستسقاء وينتهي إلى حكم الطفل مع أبويه في الدين. وقد أشار كاتبه إلى أنه يتلوه الجزء الثالث وأوله كتاب الفرائض، وهناك أيضاً كتاب آخر أكبر من هذا الكتاب وهو (تخريج أحاديث مؤلفات الشافعي) وقد وقفت عليه أيضاً في مكان نفسه.
[64] الكتاب موجود في مكتبة السلطان أحمد الثالث وقد وقفت عل صورة منه في مكتبة الشيخ عبد الرحيم صديق.
[65] (معرفة السنن والآثار 1/129)(17/421)
[66] ذكر السخاوي عن البيهقي ما رواه عن الشافعي وشرطه في قبول المرسل حيث ذكر من شرطه أن يأتي ما يعضده سواء كان حديثاً مسنداً أو قول صحابي أو مرسل تابعي آخر، أو أن يوجد جماعة من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً.
وكذلك من شرط قبول المرسل أن يكون من أرسله ضابطاً وأن لا يسمى مجهولاً ولا مرغوباً عن الرواية عنه إن سئل عن تسميته. هـ. بتصرف (فتح المغيث 1/141) .(17/422)
الأفعال الملازمة للمجهُول
بين النحويين واللغويين
لفضيلة الدكتور مصطفى أحمد النماس
الأستاذ المشارك بكلية اللغة العربية
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف خلقه وأفضل رسله سيدنا محمد الذي اصطفاه مولاه بلسان عربي مبين وجعل فصاحته في ربوة ذات قرار ومعين وعلى آله المفوهين وصحابته الغر الميامين بعد:
مقدمة:
فالأفعال من الأبنية التي عنى بها العلماء، لأنها جذبت أنظار الباحثين أولاً لكثرة تصرفاتها والتغيرات التي تعتريها ومشقة العلم بها ويؤيد ذلك قول ابن القوطية في مقدمة كتابه (الأفعال) : اعلم أن الأفعال أصول مباني أكثر الكلام، وبذلك سماها العلماء الأبنية ولذلك بدأ التأليف فيها وألف فيها من العلماء (قطرب سنة 206) ، والفراء سنة 207 هـ، وأبو عبيده سنة 210، والأصمعي سنة 213 هـ، وأبو زيد الأنصاري سنة 215 وأبو عبيد القاسم ابن سلام سنة 224 هـ وأبو محمد عبد الله التوزى سنة 233 هـ ويعقوب بن السكيت سنة246هـ والسجستاني سنة 255 هـ وابن قتيبة سنة 276 هـ وثعلب سنة 291هـ وألف فيه من أهل القرن الرابع الزجاج سنة 311 هـ، وابن دريد سنة 321 هـ، وابن درستويه سنة347 هـ، وأبو على القالي سنة 356هـ، وأبو بكر محمد بن عمر المعروف بابن القرطبة سنة 317 هـ ثم ألف فيه أبو بكر بن الأنباري سنة 577هـ ثم القاسم بن القاسم سنة 626 هـ وأبو عثمان سعيد بن محمد المعافري السرقسطي سنة 400 هـ، وعلي بن جعفر السعدي المعروف بابن القطاع سنة 515هـ وابن سيدة سنة 458 هـ في المخصص السفر الخامس عشر والرابع عشر.(17/423)
واللغة العربية من اللغات الإشتقاقية التي تصوغ للمعاني المختلفة أبنية متنوعة من المادة الواحدة وقد عني النحويون والصرفيون بهذه الأبنية ودلالاتها وتصرفاتها منذ أمد مبكر وألفوا فيها الرسائل الصغيرة والكتب الكبيرة التي تبلغ مبلغ المعاجم، وأفرد لها بعض العلماء كثيراً من الأبواب الخاصة وأحاول في هذا البحث أن ألقي نظرة سريعة على جهود اللغويين في صنف معيّن من الأفعال، وهو الفعل الذي وضعه علماء تحت قائمة الأفعال التي جاءت على صورة الفعل المبني للمجهول وأطلقوا عليه اسم (الفعل الذي لم يسم فاعله) وقد فهم بعض النحاة أن المراد من هذه التسمية هو عدم استعمالها في معانيها السالفة مبنية للمعلوم وصرّح بعضهم بذلك في كتابه الفصيح وهو أبو العباس أحمد بين يحيى ثعلب المتوفى (291هـ) فهذه الأفعال حرمت البناء للمعلوم كما يقول البعض وها أنا ذا أحاول وضع هذه الأفعال تحت بساط البحث لنرى هل كان وضعها تحت هذا العنوان مفضياً لهذا الفهم أو يصح أن تكون مبنية للمعلوم تارة وتارة أخرى تكون مبنية للمجهول… وهي الصورة المسموعة عن أكثر قبائل العرب. سأحاول الرجوع إلى أمهات كتب اللغة بكل فعل من هذه الأفعال لأعالج ما يصادفه الباحث من عناء في فهم المراد من هذه الأفعال والآثار التي تترتب على هذا الفهم، والله أسأل أن يسدد خطانا لمعرفة أسرار اللغة العربية التي هي وعاء للقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف.(17/424)
الأصل في وضع الفعل أن يكون مبنياً للمعلوم؛ لأن كلّ فعل لا بدّ له من فاعل غالباً هذا بغض النظر عن الأفعال التي تتصل بها (ما) مثل: قلّما، وكثرما، وطالما، فالأخيرة لا تتطلب فاعلاً؛ لأن الفعل لقد كف عن العمل بناء على مذهب سيبويه وعلى هذا لا يليها إلاّ جملة فعلية، ومن العلماء من يزعم أن (ما) في نحو (طالما شكرتك) مصدرية سابكة لما بعدها بمصدر هو فاعل طال والتقدير: طال شكري إيّاك، وهذا يوافق الأصل العام الذي يقتضي بأن يكون لكل فعل أصلي فاعل، فلا داعي لإخراج هذه الأفعال من نطاق الأصل، وكذلك كان الزائدة لا تحتاج إلى مرفوع مثل قول الشاعر:
لله درّ أنو شرون من رجل
ما كان أعرفه بالدون والسفل
فالراجح عند المحققين من العلماء أن (كان) الزائدة لا فاعل لها، وكذلك قول بعضهم وهو قيس ابن غالب في فاطمة بنت الخرشب من بني أنمار من بني غطفان:
ولّت فاطمة بنت الخرشب الأنمارية الكملية من بني عبس لم يوجد كان أفضل منهم، وقال سيبويه:" وقال الخليل: إن من أفضلهم كان زيداً على إلغاء (كان) "، وشبهه بقول الشاعر وهو الفرزدق:
فكيف إذا مررت بدار قوم
وجيران لنا كانوا كرام
وكقول الشاعرة وهي أم عقيل بن أبي طالب:
أنت تكون ماجد نبيل
إذا تهب شمأل بليل
فهذه لا تحتاج إلى مرفوع [1]
فكل فعل لا بد له من فاعل إما أن يكون ظاهراً أو ضميراً بارزاً أو مستتراً كما قال ابن مالك في ألفيته:
وبعد فعل فاعل فإن ظهر
فهو وإلا فضمير استتر(17/425)
ولا يستغني الفعل الأصلي عن الفاعل إلا إذا غيّر وبني للمجهول فيحذف الفاعل ويسند الفعل للمفعول فيبنى الفعل لهذا المفعول، والملحوظ أن البناء للمجهول يجيء عرضاً لا أصلاً؛ بدليل أن الفعل المفتوح الفاعل تضم فأوه فالفاعل جزء أساسي في جملته لا بد منه لذا فهو عمدة يبنى الفعل الأصلي له وهو الذي فعل الفعل أو قام به الفعل.
فإذا غير أول الفعل وبني للمفعول الحقيقي فهذا أمر أقره النحاة والصرفيون؛ لأن الفعل إذا أسند إلى المفعول فإذا جاء الفعل على صورة المبني للمجهول، وبني للفاعل فهل يصح لنا أن نطلق عليه بأنه أسلوب المبني للمجهول؟ وهل نضع الفعل في أبواب معينة تحت (الأفعال الملازمة للبناء للمجهول) خاصة كما قلت وأن الاسم الذي بعدها هو الذي فعل الفعل أو قام به هذا ما أحببت أن أعالجه لنرى كيف نظر العلماء إلى الفعل الذي جاء على صورة المبني للمجهول ناطوا به بعض البحوث كالبحث في التعجب وأفعل التفضيل، وشذوذ بعض الأبنية على اسم المفعول من غير الثلاثي على وزن مفعول.(17/426)
نتيجة أنهم نظروا للفعل نظرة المبني للمجهول حقيقة؛ فشذ بذلك نظرهم في مجموعة كبيرة من الأساليب، ولو حققنا هذه الأساليب تبعاً لأفعالها لوجدناها سائغة وقياسية وأنها وردت عن كثير من شعراء وأدباء العرب قديماً ولكنها من الأمور التي ترجع إلى اللغات مثل تعدد صور المضارع واختلاف الصيغ في الماضي من فعل، وفعل، وفعل بفتح الفاء والعين، وفتحها مع كسر العين، وضمها مع كسر العين مع اتفاق المعنى واختلافه في المادة الواحدة، ومن الملحوظ أن اللغويين قد أفردوا باباً لما جاء من الأفعال على صيغة ما لم يسم فاعله، فابن سيدة [2] المتوفى سنة 458هـ في السفر- 15 (باب ما جاء من الأفعال على صيغة ما لم يسم فاعله) يقول: وهذا الباب على ضربين فمنه ما لا يستعمل إلا على تلك الصيغة (كـ عنيت بحاجتك، ونفست المرأة) ومنه ما تكون على هذه الصيغة أغلب، وقد يستعمل بصيغة ما سمي فاعله (كـ زهيت علينا) فإن ابن السكيت حكى زهوت، وإنما أفرد ما لم يسم فاعله أفعال (ما) على صيغة (ما) ؛ لأن ما لم يسم فاعله نائب مناب الفاعل فافردوه بمثال لا يكون لغيره كما أن للفاعل أفعالاً على صيغة خص بها نحو (فعل) وانفعل فمن هذا الباب: عنيت بحاجتك ووعك الرجل، وحم، وقحطت الأرض، وقد أولعت بالشيء وقد بهت الرجل، وقد وثئت يده وقد شغلت عنك وقد شهر في الناس، وطلّ دمه، وهدر دمه، ووقص الرجل إذا سقط عن دابته فاندقت عنقه، ووضع الرجل في التجارة، ووكس وغبن في البيع غبناً وغبن رأيه إذا كان ضعيف الرأي، وهزل الرجل والدابة ونكب الرجل، ورهصت الدابة ونتجت، وعقمت المرأة (إذا لم تحبل) وفلج الرجل من الفالج، وقد غم الهلال على الناس، وأغمي المريض وغشي عليه، وقد أهل الهلال على الناس، واستهل، وقد شدهت: وقد برّ حجك وثلج فؤادك إذا كان بليداً، وثلج بخير أتاه إذا سر به وقد امتقع لونه (تغير) ، وكذلك انتقع والتمع واهتقع وانشف وانتشف كله بمعنى، وانقطع بالرجل وهذا كله حكاية(17/427)
كقولك: لتعن بحاجتي، ولتوضع في تجارتك، ولتزه علينا، وقعصت الدابة أصابها القعاص وقد يقال بالسين، وهقع بسؤة رمى بها، وعجز الرجل وثمد، ألح عليه في ماله، وعضد الرجل شكا عضده، ويطرد على هذا باب في جميع الأعضاء، وعدس الرجل أصابته عدسة وهي بثرة قاتلة كالطاعون، وسدع الرجل نكب يمانية وسعر الرجل ضربته السموم، وسعف الرجل- أصابته سعفة وهى قرحة ورمع الرجل ورمع أصابه الرماع وهو داء في البطن يصغر منه الوجه، وأوزعت به، وأولعت وحنش الرجل - غمز حسبه ورحض الرجل - عرق، وأرق الزرع - أصابه الأرقان وكذلك جميع آفات النبات، وفقئت الأرض - مطرت وفقيها نبت فحمل عليه فأفسده وضنك الرجل (أصابه الضناك وهو الزكام) ونكس في المرض كظن الرجل- سكت، وكلب أصابه الكلاب وهو ذهاب العقل من الكلب، وأكمت الأرض- أكل جميع ما فيها، وأشب لي الرجل إذا رفعت طرفك فرأيته، وأشرب حب فلا نه- أي خالط قلبه وحنبث به، ضرب وضمئد الرجل- زكم، كذلك أرض وفضم جانب البيت- انهدم، وسل الرجل من السلّ وسلس- ذهب عقله، وسرفت الشجرة - أصابتها السرفة، وأسر بوله - احتبس، ونسئت المرأة- تأخر حيضها، ووطب البعير- احتبس نجوه، وأطلف الرجل ذهب ماله ودمه هدراً، ولبط الرجل أصابه زكام وسعال وبدى جدر أو حصب، وافتلت- مات فلتة وأهتر عدم لبه من الكبر، وهبت- عدم عقله وشخص به - أتي إليه أمر بقلقه ونشعت به أو لعت- وأغرب الرجل- لجّ في الضحك.
جولة في كتب اللغة مع هذه الأفعال:
وعك: قال في اللسان - ورد في الحديث ذكر الوعك وهو الحمى وقيل: المها وقد وعكه المرض وعكا، ووعك فهو موعوك. وقد وعكته الحمى تعكه.
حم: حم هذا الأمر حماً إذا قضى، وحم له ذلك قدر فأما ما أنشده ثعلب من قول جميل:
فليت رجالاً فيك قد نذروا دمي
وحمّوا لقائي يابثين لقوني(17/428)
فإنه لم يفسر حموا لقائي.. قال ابن سيده:"والتقدير عندي للقائي فحذف أي حم لهم لقائي "ثم يقول في اللسان:
وحم (بفتح الحاء) الله له كذا وأحمه قضاه قال عمر وذو الكلب الهذلي:
أحم الله ذلك من لقاء
أحاد أحاد في الشهر الحلال
وحم الشيء وأحم أي قدر فهو محموم أنشد ابن برى لخباب بن غزّي:
وأرمى بنفسي في فروج كثيرة
وليس لأمر حمّه الله صارف
وحمّه (بفتح الحاء) .
وقال البعيث:
ألا يا لقوم كل ما حم واقع
وللطير مجرى والجنوب مصارع
قحطت الأرض: قال في اللسان: القحط احتباس المطر وقد قحط بفتح الحاء والقاف وقحط (بكسر القاف والحاء) والفتح أعلى قحطاً وقحطوطاً، وقحط الناس (بضم الأول وكسر الثاني) على ما لم يسم فاعله لا غير قحطاً وأقحطوا وكرهها بعضهم وقال ابن سيدة:
لا يقال: قحطوا (بضم القاف وكسر الحاء) ولا اقحطوا.
وحكى أبو حنيفة:"قحط المطر (ضم القاف) على صيغة ما لم يسم فاعله واقحط على فعل الفاعل، وقحطت الأرض على صيغة ما لم يسم فاعله فهي مقحوطة "قال ابن برى:"قال بعضهم: قحط المطر (بفتح القاف والحاء) وقحط المكان (بفتح القاف وكسر الحاء) هو الصواب "ويقال أيضاً قحط القطر (بضم القاف وكسر الحاء) .
قال الأعشى:
وهم يطعمون إن قحط القطر
هبت بشمأل وضريب
وقال ابن سيدة:"وقد يشتق القحط في كل شيء قلة خيره والأصل للمطر ".
وفي الحديث:" إذا أتى الرجل القوم فقالوا قحطاً قحطاً له يوم يلقى ربه "أي أنه إذا كان ممن يقال له عند قدومه على الناس هذا القول فإنه يقال له مثل ذلك يوم القيامة، وهو دعاء بالجدب فاستعاره لانقطاع الخير عنه وجدبه من الأعمال الصالحة.(17/429)
بهت الرجل: بهت الرجل يبهته بهتاً وبهتاناً فهو بهّات أي قال عليه ما لم يفعله فهو مبهوت، وبهته بهتاً، أخذه بغتة؛ وفي النزيل: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ} أما قول ابن النجم: (سبّي الحماة وابهتى عليها) فان على مقحمة لا يقال بهت عليه إنما الكلام بهته.
ثم يقول: وقد بهت وبهت (بفتح فضم، ثم فتح فكسر) وبهت الخصم استولت عليه الحجة، في التنزيل: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} .
تأيله: انقطع سكت متحيراً عنها، ابن جني:"قرأه السميفع فبهت الذي كفر (بفتح الباء والهاء) ؛ أي: فبهت إبراهيم الكافر"، قرأه ابن حيوة (فبهت) بفتح الباء وضم الهاء) لغة في بهت (بفتح وكسر) قال:" قد يجوز أن يكون بهت (بالفتح فيهما) لغة في بهت (بفتح وكسر) ".
ثم يقول: وأفصح منهما (بهت) (بضم فكسر) كما قال عزّ وجلّ: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} ؛ لأنه يقال: رجل مبهوت ولا يقال باهت ولا بهيت.
شغل به: قال في القاموس: شغله كمنعه شغلاً، وأشغله لغة جيدة أو قليلة أو رديئة، اشتغل به وشغل كـ عني ويقال منه ما أشغله وهو شاذ لأنه لا يتعجب من المجهول.
وثئت يده: قال في القاموس: الوثاء، والوثأة وصم يصيب اللحم لا يبلغ العظم، أو توجع في العظم بلا كسر، أو هو الفك ووثئت يده كفرح تثأ وثأ ووثأ (بسكون الثاء وفتحها) فهي وثئة كفرحة، ووثئت كعني فهي موثوأة ووثيئة وهذه ضربة قد أوثأت اللحم.
شهر في الناس: قال في القاموس: شهره كمنعه وشهّره والشهير والمشهور: المكان المعروف.
طل دمه: قال في القاموس: وطلّ دمه (بفتح الطاء) يطلّ كيزلّ ويملّ، وأطل بالضم فهو مطل، وطله حقه كمدّه: نقصه إيّاه وأبطله، وغريمه مطله هدر دمه: قال في القاموس: الهدر محركة ما يبطل من دم وغيره هدر يهدر (كضرب يضرب) ويهدر (كنصر ينصر) هدراً وهدرته لازم متعد وأهدرته فعل وأفعل بمعنى.(17/430)
وقص الرجل: قال في القاموس: وقص عنقه كوعد: كسرها فوقصت لازم متعد، ووقص كعني فهو موقوص، وقصت به راحلته تقصه والفرس الآكام دقها.
ووضع الرجل في التجارة: قال في القاموس: ووضع في تجارته ضيعة ووضيعة كعني خسر، وكوجل يوجل، وأوضع بالضم خسر فيها.
وكس في البيع: قال في القاموس: الوكس كالوعد النقصان لازم متعد والتنقيص، ووكس الرجل في تجارته وأوكس مجهولين، كوكس كوعد، وأوكس ماله ذهب لازم.
غبن في البيع - قال في القاموس: غبنه في البيع يغبنه غبناً (بضم الغين) ويحرك أو بالتسكين في البيع، وبالتحريك في الرأي خدعه. وقد غبن كعني فهو مغبون. ومنه: غبن رأيه غبناً (بالتحريك) إذا كان ضعيف الرأي.
هزل الرجل والدابة: قال في القاموس: الهزل نقيض الجدّ، هزل كضرب وفرح، وهازل ورجل هزل ككتف كثيرة، وأهزله وجده لعّاباً، والهزالة الفكاهة، والهزال (بالضم) نقيض السمن، وهزل كعني هزالاً، وهزل كنصر هزلاً (بسكون الزاي) .
أولع به: قال في تاج العروس: وأولع به (بالضم) إيلاعاً وولوعاً فهو مولع به (بالفتح) ، أي: بفتح اللام أي: أغريته وغرى به فهو مغرٍ به، وولع به كوجل يولع ولعاً محركة وولوعاً بالفتح أي: ألح في أمره وحرص على إيذائه.
وقال في المصباح المنير: أولع بالشيء بالبناء للمفعول يولع به ولوعاً بفتح الواو علق به. وفي لغة: ولع (بفتح اللام وكسرها) يلع (بفتحها منهما مع سقوط الواو) .
نكب الرجل: قال في تاج العروس للزبيدي: نكبه الدهر ينكبه نكباً ونكباً بلغ منه أو أصابه بنكبة، ويقال نكبته حوادث الدهر فأصابته نكبة، ونكب فلان فهو منكوب وهو ما يصيب الإنسان من الحوادث. وفي الحديث: أنه نكبت أصدمه أي: نالتها الحجارة، ونكب به على الأرض طرحه وألقاه.(17/431)
رهصت الدابة: قال في تاج العروس: ورهص الفرس كعني عن ثعلب وفرح عن الكسائي وأبي زيد والأول أفصح قاله ثعلب وأباه الكسائي فهو رهيص- ومرهوص: أي أصابته الرهصة وهي وقرة تصيب باطن حافره.
نتجت الدابة: قال في تاج العروس للزبيدى:
نتجت الناقة والفرس كعني صرح به ثعلب والجوهري نتجاً ونتاجاً بالكسر وبعضهم يقول نتجت الفرس والناقة: ولدت وأنتجت دنا ولادهما، كلاهما فعل لم يسمّ فاعله، وقال: ولم أسمع نتجت ولا أنتجت على صيغة فعل الفاعل.
فلج الرجل من الفالج وقال في تاج العروس: الفالج مرضه من الأمراض يتكون من استرخاء أحد شقي البدن طولاً هذا نص الزمخشري في الأساس وزاد في شرح الفصيح: فيبطل إحساسه وحركته وربما كان في عضو واحد، وفي اللسان هو ريح يأخذ الإنسان فيذهب بشقه، ومثله قول الخليل في كتاب العين: وفي حديث أبي هريرة "الفالج داء الأنبياء "، وقال التدمري في شرح الفصيح:"هو داء يصيب الإنسان عند امتلاء بطون الدماغ من بعض- الرطوبات فيبطل منه الحس وحركات الأعضاء ويبقى العليل كالميت لا يعقل شيئاً، والمفلوج صاحب الفالج ".
وقد فلج كعني اقتصر عليه ثعلب في الفصيح وتبعه المشاهير من الأئمة زاد شيخنا: وبقي على المصنف أن يقال: فلج بالكسر كعلم حكاها ابن القطاع والسرقسطى وغيرهما، فهو مفلوج، قال ابن دريد:"لأنه ذهب نصفه "، وقال ابن سيده:"فلج فالجاً أحد ما جاء من المصادر على مثال فاعل".
غم الهلال على الناس قال في اللسان:
غم عليه الخبر: على ما لم يسم فاعله أي استعجم مثال أغمي وغمّ الهلال على الناس غما ستره الغيم وغيره فلم يرها وفي الحديث " صوموا..الخ ".(17/432)
قال شمر:"يقال غمّ علينا الهلال غما فهو مغموم إذا حال دون رؤية الهلال غيم رقيق من غممت الشيء إذا غطيته، وفي غم ضمير الهلال، قال: ويجوز أن يكون غم مسنداً إلى الظرف أي فإن كنتم مغموماً فأكملوا وترك ذكر الهلال للإستغناء عنه. وغم القمر النجوم (بفتح الغين) بهرها وكاد يستر ضوءها، وغم يومنا بالفتح، يغم (بفتح فضم) غماً وغموماً من الغيم ورجل مغموم مغتم من قولهم: غم علينا الهلال فهو مغموم إذا التبس ".
أغمي على المريض: قال في اللسان وفي التهذيب أغمي على فلان إذا ظن أنه مات ثم يرجع حياً، وغمي عليه فهو مغمى عليه على مفعول ثم يقول: ومنه أغمي على المريض إذا أغشي عليه كأن المرض ستر عقله وغطاه.
غشي عليه: قال في اللسان: وغشي عليه غشية وغشياً وغشياناً أغمي فهو مغشي عليه وهي الغشية وكذلك غشية الموت وغشي غشياناً أتاه وأغشاه إيّاه غيره.
برّ حجك: قال في القاموس: ويقال برّ حجك وبر (بفتح الباء وضمها) فهو مبرور.
ثلج فؤادك: قال في القاموس. ثلج بخير أتاه إذا سرّ به.
ثلجتنا السماء وأثلجتنا، وثلجت نفس (بفتح الثاء) كنصر وفرح ثلوجاً وثلجاً اطمأنت، والمثلوج الفؤاد البليد، وثلج كخجل فرح.
اهتقع لونه: قال في القاموس:
هقعت الناقة كفرح فهي هقعة وهي التي إذا أرادت الفحل وقعت من شدة الضبعة، واهتقعه عرق سوء، أقعده عن بلوغ الشرف والخير، واهتقع فلاناً صده ومنعه، والحمى فلاناً تركته يوماً فعاودته وأثخنته وكل ما عاودك فقد اهتقعك، واهتقع لونه مجهولاً: تغير (وهقع بسوءة رمى بها) .
وانتشف لونه، وانتسف لونه: قال في القاموس:
أنشفت الناقة ولدت ذكراً بعد أنثى، وانتشف لونه للمفعول تغير.(17/433)
قعصت الدابة: القعاص داء في الغنم لا يلبثها أن تموت وداء في الصدر كأنه يكسر العنق، قعصت بالضم فهي معقوصة، وقعصت كفرح ما كانت كذلك. وقعصه كمنعه قتله مكانه كأقعصه، وانقعص مات والشيء انثنى.
عضد الرجل: قال في القاموس:
عضده، يعضده قطعه، وكنصره أعانه ونصره، وأصاب عضده وكعني شكا عضده.
عدس الرجل: قال في القاموس:
عدس يعدس خدم، وفي الأرض عدساً وعدساناً وعداساً ذهب، والمال عدساً رعاه، والعدس الحدس وشدة الوطء وقد عدس كعني فهو معدوس أي أصابته العدسة وهي بثرة تخرج بالبدن فتقتل.
سعف الرجل: قال في القاموس: السعفة قروح تخرج على رأس الصبي- ووجهه سعف كعني وهو مسعوف، وسعف بحاجته كمنع، وأسعف قضاها له، وأسعف دنا وله الصيد أمكنه وبأهله ألم.
رمع الرجل، ورمّع: قال في القاموس:
رمع أنفه كمنع رمعاناً محركة تحرك وبيديه أومأ وبالصبي ولدته وعينه بالبكاء سالت، ورأسه نفضة والرماعة وجع يعترض في ظهر الساقي حتى يمنعه من السقي، وقد رمع كعني واصفرار وتغير في وجه المرأة من داء يصيب بظرها وقد رمعت كفرح ورمعت بالضم مشددة.
أوزعت به: قال في القاموس، وزعته كوضع كففته فاتزع هو كف وأوزعه بالشيء أغراه، فأوزع به بالضم فهو موزع مغرى.
رحض الرجل: قال في القاموس: رحضه كمنعه غسله فأرحضه فهو رحيض ومرحوض، والرخضاء كالخشناء العرق أثر الحمى، أو عرق يغسل الجلد كثره، وقد رحض المحموم كعني أي عرق.
أرق الزرع: قال في القاموس- أرق كفرح فهو أرق، وأرق والأرقان بالكسر شجر أحمر والحناء والزعفران، وآفة تصيب الزرع والناس كالأرقان.
أطلف الرجل: قال في القاموس- الطلف الهدر، والعطاء، وأطلفه وهبه وأهدره، والطليف: المأخوذ والهدر والباطل.
سرفت الشجرة: قال في القاموس- سرفة كفرح أغفله وجهله، وسرفت السرفة الشجرة أكلت ورقها.
وأرض سرفة كفرحة كثيرتها.(17/434)
وأهتر الرجل- قال في القاموس: الهتر مزق العرض، وهتره يهتره، وهتره وبالكسر الكذب والداهية، وبالضم ذهاب العقل من كبر أو مرض أو حزن، وقد أهتر فهو مهتر بفتح التاء، شاذ، وقد قيل: أهتر بالضم ولم يذكر الجوهري غيره، وأهتر بالضم فهو مهتر أولع القول في الشيء، وهتره الكبر يهتره كنصر ينصر، وقد استهتر بكذا على ما لم يسم فاعله.
هبت الرجل- قال في القاموس: الهبيت: الجبان الذاهب العقل كالمهبوت وقد هبت كعني، وهبته يهبته (كنصر) ضربه وحطه، والهبتة الضعف.
نشعت به: قال في القاموس:
نشعه كمنعه نشعاً انتزعه بعنف، والصبي أوجره، وفلاناً الكلام لقنه إيّاه، وفلان نشوعاً قرب من الموت ثم نجا، ونشع بكذا كعني فهو منشوع أولع.
أغرب الرجل: قال في القاموس- أغرب بالفتح بالغ في الضحك وأغرب بالضمّ اشتدّ وجعه، وعليه صنع به صنيع قبيح.
افتلت: قال في القاموس: افتلت الكلام ارتجله، وافتلت على بناء المفعول مات فجأة، وبأمر كذا فوجئ به قبل أن يستعد له.
أشرب فلان حب فلانة: قال في القاموس- خالط قلبه وأشرب به كذب عليه، وأشرب أبله جعل لكل جمل قريناً، والخيل جعل الحبال في أعناقها.
فصم جانب البيت: قال في القاموس- فصمه يفصمه كسره فانفصم، وأفصم الحمى أو المطر أقلع، وفصم جانب البيت كعني انهدم.
ونظرة فاحصة في هذه الأفعال التي لم يسم فاعلها نجد أن أغلبها يدل على الأدواء والمرض والآفات التي لا دخل للإنسان فيها فالفاعل فيها غالباً هو الله تعالى، ولم يستعمل لأنه من المعلوم عادة فهذه الأفعال ليست من أفعال الآدميين. ولهذا يعتبرها بعض اللغويين مبنية للمجهول في الصورة اللفظية لا في الحقيقة المعنوية لأن الإسم معها في أغلبها هو الذي فعل الفعل أو قام به، وهذا ما ينطبق على تصريف الفاعل وحده ولذلك يعرب بعضهم ما بعدها على أنه فاعل وبعضهم يعربه على أنه نائب عن الفاعل تبعاً لصورة الفعل.(17/435)
وعلى المثال: مجد الدين الفيروزآبادي المتوفى سنة 816-817هـ نبه في مقدمة القاموس المحيط [3] إلى أن الرأي الأول صريحاً قال:"المقصد في بيان الأمور التي اختص بها القاموس عند قوله: مسألة الأفعال المبنية للمفعول صورة وما بعدها فاعل لا نائب فاعل، مثل: هزل، ونتج، وعني، ودهش، وشده بمعناه، وشفف، وأولع، وأهتر به، وأغري، وأغرم، (وأهرع) "ويقول في أثناء شرحه للمواد:"ما يفسر لنا معنى هذه الأفعال للمجهول فكثيراً ما يقول: كعني يريد به: المجهول من الثلاثي المجرد سواء لم يستعمل إلا مبيناً للمجهول أو كان بناؤه للمجهول كثير الإستعمال ولا يريد به أنه لا يستعمل إلا مبنياً للمجهول كما وهم بعضهم بدليل قوله: وعني بالضم عناية وكرضى قليل، وملئ كسمع وملأ كمنع وملئ كعني (المعنى مختلف) وكثير من الأفعال أوردتها من المخصص أوردها الفيروزآبادي متعددة الصورة تبعاً للماضي مع المضارع مما يرجع إلى لغات القبائل التي استعملت المادة من باب ضرب وقبيلة أخرى من باب منع وثالثة على صورة المبني للمجهول، والآن أحاول عرض أراء الكثير من العلماء الذين تعرضوا لهذه المجموعة من الأفعال التي جاءت على صورة المبني للمجهول:-
أما أبو العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب المتوفى سنة 291 صرح في كتاب الفصيح:"بأنها لا تبنى للمعلوم وجاء بعده كثير من النحاة الذين حذوا حذوه، فيقولون: المقصود بملازمتها للمجهول هو أنها لا تستعمل مبنية للمعلوم، ولا يكون الفعل إلا مضموم الأول، فلا يصح أن نقول في هذا الفعل وأضربه شدهني الأمر، أو عناني أمرك إلخ.."
ويقول الخضري:"في باب أبنية المصادر عند الكلام على مصدر (فعل) إلا إذا كان المبني للمجهول لزوماً غير رافع الاسم بعده نحو سقط في يد المتسرع بمعنى ندم فشبه الجملة نائب الفاعل وليس بفاعل؛ لأن الفاعل لا يكون شبه جملة.(17/436)
أما ابن درستوريه المتوفى سنة 347هـ فيقول في الرسالة المشتملة على انتقاد ابن الخشاب البغدادي على العلامة أبي محمد الحريري في مقاماته ثم انتصار ابن بري للإمام الحريري في الرد على ابن الخشاب قال ابن الخشاب معترض على الحريري في المقامة السادسة عند قوله:"ومتى اخترع خرع وإن بده شده ".
قال ابن الخشاب:" (شده) من الأفعال التي جاءت في كلامهم مقصورة على بناء الذي لم يسم فاعله. كقوله: شدهت وأنا مشدوه أي شغلت وهو يقارب دهش ولا يكادون يقولون: شدهني كذا، ولا شدهت زيداً في كلام فصيح وقد بينوا ذلك في المختصرات من كتب اللغة فضلاً عن غيرها، قال ابن بري المتوفى سنة 582 هـ:" إنما قطع ابن الخشاب على ابن الحريري بالغلط في قوله (شده) ثقة بقول ثعلب في الفصيح (وقد شدهت، وأنا مشدوه) .
ألا تراه يقول: وقد بينوا ذلك في كتب المختصرات يعني كتاب الفصح ولم يعلم بأن ابن دستوريه أنكر ما قاله ثعلب وغيره من أهل اللغة وهذه حكاية لفظه- قال ابن درستويه:"عامة أهل اللغة يزعمون أن هذا الباب لا يكون إلا مضموم الأول، ولم يقولوا إنه إذا سمي فاعله جاز بغير ضم وهذا غلط منهم لأن الأفعال كلها مفتوحة الأوائل في الماضي فإذا لم يسم فاعلها فهي كلها مضمومة الأوائل ولم يخصّ بذلك بعضها دون بعض وقد بينا ذلك بعلته وقياسه "، وذكر أنه يجوز: عنيت بأمرك، وعناني أمرك، وشغلت بأمرك وشغلني أمرك، وشدهت بأمرك وشدهني أمرك فهذا الذي ذكره ابن درستوريه تصحيح لقول ابن الحريري وإبطال لقول غيره وفي ذلك كفاية تغني عن زيادة إيضاح وبيان ".
ومما يتصل بهذا ما جاء في المقامة السابعة والثلاثين:
(فسقط الفتى في يده ولاذ بحقو والده)
قال ابن الخشاب:"أخطأ في قوله: (سقط الفتى في يده) .
ولم يعلم حقيقة هذا الكلام كيف تستعمله العرب.
وبيانه: يقال: (سقط في يد فلان) إذا ندم، ولا يقال (سقط فلان في يده) .(17/437)
قال الله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} ولم يقل (سقطوا في أيديهم) وهذا كلام جار مجرى المثل، وفاعل (سقط) مضمر لا يظهر، معناه الندم فكأنه والله أعلم (سقط الندم في يد فلان) وليس المعنى (سقط فلان في يد نفسه) هذا محال لا يجوز عليه ولا يعطيه لفظ هذا الكلام ولا معناه، وهذا الغلط من أفحش غلط الحريري في مقاماته، ويدل عليه دلالة قاطعة قوله تعالى: {وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا} أي في الثاني وهو ضلوا وهو ضمير المذكورين في أول الآيات ولم يأت به في الأول وهو سقط لأن فاعله غيرهم وهو ضمير الندم على ما بيّن أهل اللغة العربية وهو الصواب والله أعلم ".
قال (ابن برى) :"قول ابن الخشاب: إن قي سقط من قولهم: (سقط قي يده) وفي قوله تعالى: {سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} فضمير لا يظهر، معناه: الندم غلط فيه لأن (سقط) فعل غير متعد إنما ذلك في قراءة من قرأ (سقط في أيديهم) وهى قراءة حكاها الأخفش وقال: تقريره: (ولما سقط الندم في أيديهم) وإذا ثبت أن الندم فاعل لسقط لم يجز أن يكون مرفوعاً لسقط، لأن الفاعل لا يكون مفعولاً لم يسم فاعله وإنما يكون غيره وهو قوله (في أيديهم) وكذلك (سقط في يده) الجار والمجرور في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله ".
وظاهر كلام ابن الخشاب يقتضي أن القراءة المشهورة: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِم} بفتح السين وذلك غلط على أن القراء كلهم مجمعون على (سقط) بضم السين وكسر القاف وهو من الأفعال المبنية لما لم يسم فاعله، مثل: جنّ وزكم.(17/438)
ولم يقرأ أحد (سقط في أيديهم) إلا أبو السميفع في الشواذ من القراءات وذلك غير معروف عند أهل اللغة وكذلك ذكره ابن الحريري (فسقط الفتى في يده) (ولاذ بحقو والده) ولم يرو أحد عنه فسقط الفتى بفتح السين ولا يصح كلام ابن الخشاب إلا على (سقط) بفتح السين وهو خلاف ما روي عن ابن الحريري في مقاماته إلا أن ابن الحريري غلط بذكر الفتى وصوابه (فسقط في يده) من غير ذكر (الفتى) أو يقول: فإذا الفتى ساقط في يده ولا يكون في سقط ضمير الفتى.
لأنه فعل غير متعد والمجرور في موضع رفع به.
فإذا قال قائل: فلعل هذا من غلط الكاتب على ابن الخشاب أن مثل هذا لا يخفى عليه أعني القراءة المجمع عليها {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِم} على ما لم يسم فاعله:
قيل له كلام ابن الخشاب يقتضي أنه إنما قال (سقط) بفتح السين ألا تراه قال:"وفاعل سقط المضمر لا يظهر " [4] .
ومعناه: الندم ثم قال بعد هذا، ويدل عليه دلالة قاطعة أي على أن الندم مضمر في (سقط) ، قوله تعالى: {وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا} وهو ضمير المذكورين في أول الآيات، ولم يأت به في الأول وهو (سقط) لأن فاعله غيرهم وهو ضمير على ما بيّن أهل اللغة العربية وهو الصواب، انقضى كلام ابن الخشاب.
وقد أثبت أن القراءة (سقط) بفتح السين وأن الفاعل لم يظهر في (سقط) كما ظهر في (ضلوا) ، ولك فاعل (سقط) عين فاعل (ضلوا) وهو الندم، وقد ثبت بهذا غلطة في القراءة، اللهم إلا أن يكون الناقل عنه قد غير الكلام عليه، وأن الذي قال: إن (سقط في يده) فعل مبني للمفعول، وكان الفعل قبل أن يبنى للمفعول (سقط في يده) بفتح السين أي سقط الندم في يده ثمّ حذف الفاعل وأقيم الجار والمجرور مقامه، والدليل على صحة ذلك (سقط في أيديهم) فحينئذ يكون الكلام مستقيماً والردّ صحيحاً.(17/439)
قال السيوطي [5] :" في شرح المقامات للمطرزي: قال الزجاجي: (سقط في أيديهم) نظم لم يسمع قبل القرآن، ولا عرفته العرب ولم يوجد ذلك في أشعارهم، والذي يدلّ على هذا أن شعراء الإسلام لما سمعوه، واستعملوه في كلامهم خفي عليهم وجه الإستعمال؛ لأن عادتهم لم تجربه، فقال أبو نواس:
(ونشوة سقطت منها في يدي وهو العالم النحرير، فأخطأه في استعماله، وكان ينبغي أن يقول (سقط) وذكر أبو حاتم:" (سقط) فلان في يده وهذا مثل قول أبي نواس، وكذلك قول الحريري (سقط الفتى في يده) وكله بفتح السين، نعرف أن الفاعل هو الذي قام به الفعل، وأوقع منه والمفعول به الذي وقع عليه الفعل ".
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر: مواضع زيادة كان في شرح الأشموني وغيره.
[2] انظر: المخصص السفر 15ص72
[3] أنظر: القاموس المحيط – المقدمة (مسألة) ص10
أنظر هذه الرسالة – بذيل مقامات الحريري 16.
[4] أن قول ابن الخشاب هذا لا يعني أنه أراد سقط بفتح السين وقد فات ابن بري أيضا ً أن الفعال التي جاءت ملازمة للبناء للمجهول لا يقال ونائب فاعلها وإنما يعرب فاعلا ً مع هذه الصيغة فلا دليل لابن بري في ذلك. انتهى المرصفي.
[5] انظر المزهر ج2 ص235 خاتمة.(17/440)
مراجعة القول في مواضع في كتب النحو
لفضيلة الدكتور بابكر بدوي دشين
كلية الحديث الشريف
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه، والصلاة والسلام على رسوله الأمين محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،
فهذه كلمة مُشعثةٌ حوت مراجعة القول في مواضع في كتب النحو على أنها لا تعدم ما يَلمُّ شعثها.
الموضع الأول
يذكر النحاة جواز تشديد النون من (هذين) و (هاتين) و (اللذين) و (اللتين) في حالتي النصب والجر، كما يدل عليه قول ابن مالك في الألفية:
بل ما تليه أوله العلامة
والنون إن تشدد فلا ملامه
والنون من ذين وتين شددا
أيضاً وتعويض بذاك قصدا
والظاهر أن الياء حينئذ تبقى على سكونها كما سنبينه بعد، غير أننا وجدنا الأستاذ عباس حسن ينص على تحريكه الياء بالفتح حين تشديد النون في موضعين من كتاب الوافي؛
الموضع الأول حيث يقول [1] :" ويجوز تشديد النون وعدم تشديدها في (ذان وتان) وكذلك في (ذين وتين) ، لكن عند تشديدها في الأخيرتين تتحرك الياء بالفتحة، أي أنها تتحرك بالفتحة في حالتي نصبهما وجرّهما إذا شددت النون ".
والموضع الثاني حيث يقول [2] :" ويجوز أن تكون (يعني النون) مكسورة أيضاً مع التشديد ولكنها في حالة النصب والجر تقتضي فتح الياء قبلها؛ تقول: (اللذانِّ اللذينِّ…) فتكون في التشديد وعدمه كنون (ذان) و (تان) إسمي الإشارة حيث يصح فيهما الأمران كما أسلفنا - في رقم 3 من هامش 323- تقول في حالة الرفع: ذان - تان أو ذانِّ وتانّ وفي حلتي النصب والجر ذيْنِ وتيْنِ أو: ذَينِّ وتَينِّ فالنون في كل الأمثلة السابقة من أسماء الإشارة والموصول صالحة للتشديد وعدمه، لكنها عند النصب والجر تستلزم عند التشديد فتح الياء قبلها "انتهى كلام الأستاذ عباس حسن.(17/441)
ولقد نلاحظ عليه أننا لا نجد في كتب النحو القديمة حسب إطلاعنا ذكراً أو إشارة إلى تحريك الياء بلهَ فتحها، وما فيها إلا الإكتفاء بذكر التشديد النون من هذه الأحرف مقرونًا بذكر قراءة بعض القرّاء لها في القرآن الكريم كما فعل هذا الأشموني في شرحه على ألفية بن مالك عند كلامه عن ذينك البيتين حيث يقول عن تشديد النون في اللذين [3] :" وهو (يعني تشديد النون) في الرفع متفق على جوازه فقد قرئ {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} وأما في النصب فمنعه البصري وأجازه الكوفي وهو الصحيح فقد قرئ في السبع {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا} ".
ويقول في موضع آخر عن تشديد النون من ذان وذين [4] :" مع الألف باتفاق ومع الياء على الصحيح، وقد قرئ {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ} و {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} بالتشديد فيهما." اهـ.(17/442)
ليس هنا إشارة إلى تحريك الياء من هذه الأحرف بله فتحها كما قلنا ونضيف إليه هنا أنه ليس في حاشية الصبان على الشرح المذكور شيء من هذا. وصنيع النحاة عندئذ يدل على بقاء سكون الياء من هذه الأحرف - (هذين وهاتين واللذين واللتين) - في حالتي النصب والجر عند تشديد النون فيها بآية ما يقرنون ذكر تشديد النون فيها بذكر إحدى القراءات السبعية كما رأينا فيما نقلناه عن الأشموني، والقراءة المذكورة هنا قراءة ابن كثير المكي وفيها المحافظة على سكون الياء من هذه الأحرف عند تشديد النون فيها مع طرق له في أدائها كما يدل على ذلك ما ذكره الصفاقسي عنها عند الحديث عن قوله الله تبارك وتعالى في سورة القصص: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} الآية، فقال [5] : " (هاتين) قرأ المكي بتشديد النون والباقون بالتخفيف ويجوز للمخفف والمشدد لدى الوقف عليه المدّ، والتوسط، والقصر؛ ويجوز الثلاثة للمكيّ حالة الوصل؛ والقصر هو مذهب الجمهور." وكذلك ما ذكره عند الحديث عن قول الله تبارك وتعالى في سورة (فصلت) : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا} الآية فقال:" {أَرِنَا الَّذَيْنِ} قرأ المكي الذينِّ بتشديد النون وله فيها المدّ، والتوسط والقصر الخ ".
هذه هي قراءة ابن كثير لهذه الأحرف كما وصفت لنا حافظ فيها على سكون الياء مع شيء من المدّ والتمكين في هذه الياء الساكنة أو التوسط فيها أو القصر دون أن يخرج بها عن حاقِّ السكون إلى الحركة.
وإذ كانت قراءة ابن كثير لهذه الأحرف عند تشديد النون، كذلك؛ وإذ ما في كتب النحو ما يخافها تصريحاً أو تلميحاً فالظاهر عندنا أن يكون حكم النحوي حينئذٍ وجوب المحافظة على إسكان الياء عند تشديد النون من هذه الأحرف لا تحريكها بَلهَ فتحها. والله تعالى أعلم.
الموضع الثاني(17/443)
ورد في شرح شواهد العيني عند حديثه على هذا الشاهد:
ليس ينفك ذا غنى واعتزاز
كل ذي عفة مقلٍّ قنوع
ما يلي [6] :" قوله (مقل قنوع) مجروران على الوصفية، وضبط الشيخ أبو حيان (مقل قنوع) برفع (قنوع) على الإبتداء و (مقل) مقدماً خبره والمقل بضم القاف وتشديد اللام بمعنى القليل دخلت عليه باء الجر "اهـ.
ولقد نلاحظ على هذا النص ما يلي:
أولاً: قلاقة سياق الضبط إلى الشيخ أبي حيان من حيث ضم القاف في كلمة المقل فإنه لم يسمع فيها ومن حيث كون المقل بمعنى قليل، فإنه لم يرد في معاجم اللغة؛ ومن حيث دخول باء الجر على المقل فإنه غير موجودة في البيت برواية السابقة ولا محل لها فيه لانكسار وزنه بها. وقد رأيت بأخرة طبعة أخرى للأشموني وشرح شواهد العيني استبدل فيها قوله [7] : (بضم الميم) بقوله في سياقنا السابق (بضم القاف) وهذا هو الإختلاف الفذ بين الطبعتين وباقي السياق متفق فيها ولا يبعد أن يكون هذا من عمل بعض النساخ، كأنه أراد أن يصلح به ضبط الكلمة على فرض أنها المقل دون أن يلتفت إلى بقية السياق؛ ولهذا ما كتب ناشرون في الهامش عند قوله: " دخلت عليه باء الجر "ما يلي: " هكذا نص العبارة في النسخة التي عندنا ".
فهذا يقوي ما ذهبنا إليه إن شاء الله تعالى.
ثانياً: الإعراب المنسوب إلى شيخ أبي حيان بهذه الرواية المثبتة غريب إذ فيه رفع (قنوع) على الإبتداء و (مقل) مقدماً خبره، ومحط الغرابة فيه أنه لا يتمشى مع المعروف المشهور عند النحاة في منع تقديم الخبر على المبتدأ حين يستويان في التعريف والتنكير بغير قرينة معينة كما ذكره ابن مالك في الألفية بقوله:
فامنعه حين يستوي الجزآن
عرفاً ونكراً عادمي بيان(17/444)
إذ استوت كلمتا (مقل وقنوع) هنا في التنكير بل في الإشتقاق مع عدم وجود قرينة تعين خبرية المقدم وابتدائية المؤخر، أضف إلى ذلك أن رفع كلمة (قنوع) الذي أراده الشيخ أبو حيان يمكن تحققه أيضاً بإعراب (مقل) مبتدأ و (قنوع) خبره إن كانت كلمة مقل باقية على مالها في ضبط الشيخ أبي حيان بحب ما في هذا السياق القلق.
لكل ما ذكرنا نقترح أن السياق المنسوب إلى شيخ أبي حيان في هذا النص فيه ما لا تستقيم معه الرواية ولا يسوغ معه الإعراب. وليس معنا الآن من كتب الشيخ أبي حيان ما نلتمس فيه تقويم هذه الرواية. ومما يشار إليه هنا أن محقق وشارح (همع الهوامع في شرح جمع الجوامع للإمام السيوطي) نقل أول هذا النص في هامشه حيث قال [8] :"وفي العيني: وضبط الشيخ أبو حيان مقل قنوع برفع قنوع على الإبتداء ومقل خبره مقدماً "هذا والأقرب عندنا أن تكون رواية الشيخ أبي حيان للبيت السابق هكذا:
ليس ينفك ذا غنى واعتزاز
كل ذي عفة بقلٍّ قنوع
كما تستشف من النص الذي صدرنا به هذا الجزء إذ معها يستقيم السياق لوجود باء الجر في كلمة (بِقلٍّ) ولاستقامة ضبط الكلمة ومعناها فهي بضم القاف وتشديد اللام بمعنى القليل، وهذا ما ورد عن كلمة (قلّ) في معاجم اللغة مادة [9] قلّ؛ وفوق هذا عسى الإعراب الذي اقترحه الشيخ أبو حيان أن يتلئب معها والله تعلى أعلم.
الموضع الثالث
ورد الحديث عن الشاهد [10] من شواهد ابن عقيل:
خالي لأنت ومن جرير خاله
ينل العلا ويكرم الأخوالا
قول الشيخ محمد محيي الدين رحمه الله تعالى [11] :
" (الأخوالا) قال العيني: هو مفعول به وهو بعيد كل البعد، ولا يسوغ إلا على أن يكون يكرم مضارع أكرم مبنيّاً للمجهول، والأوْلى أن يكون قوله (يكرم) مضارع كرم ويكون قوله (الأخوالا) تمييزاً الخ ".
ولقد نلاحظ على هذا الكلام ما يلي:(17/445)
أولاً: الظاهر أن نسبة إعراب كلمة الأخوالا هنا للعيني وَهْمٌ لأن الناقل، يعني الإشارة إلى شرح الشواهد للعيني؛ إذ ورد هذا البيت غير أن العينيَّ لم يعرب كاملة الأخوال عند كلامه على هذا الشاهد كما في طبعات شرح شواهده المتعددة التي بأيدينا [12] .
والذي أعرب كلمة الأخوال في هذا الشاهد هو الصَّبَّان في حاشيته على الأشموني وهذا شأنه أن يوقع في هذا الوهم لنشر شرح شواهد العيني مع حاشية الصبان على شرح الأشموني.
ثانياً: قوله هنا " ولا يسوغ إلاّ أن يكون يكرم مضارع أكرم مبنياً للمجهول "لا يستقيم معه إعراب كلمة الأخوال مفعولاً به بله أن يسوغ به لأن بناء الفعل للمجهول. حينئذ يقتضي رفع كلمة الأخوال نائب فاعل إذ لا نائب فاعل غيرها في البيت.
هذا والظاهر أن العبارة السابقة تلخيص غير واف وتعقيب غير كاف لإعراب الصبان لكلمة الأخوال هنا حيث قال رحمه الله تعالى [13] :" والأخوال مفعول يكرم إن بني للفاعل ومنصوب بنزع الخافض إن بني للمجهول أي للأخوال هذا ما ظهر "اهـ.
إذًا فالصبان هو السابق الهادي إلى التنبيه على احتمال بناء الفعل (يكرم) هنا للفاعل وبنائه للمجهول، والله تعالى أعلم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] النحو الوافي الطبعة الرابعة دار المعارف بمصر ج1 ص323 هامش 3.
[2] نفسه ص344 هامش 2.
[3] ج1 ص147 ط دار إحياء الكتب العربية.
[4] نفسه ص148
[5] (غيث النفع في القراءة السبع) المطبوع بهامش سراج القارئ المبتدئ بمطبعة البابي الحلبي بمصر ص316
[6] المطبوع مع شرح الأشموني ط دار إحياء الكتب العربية ج1 ص228.
[7] شرح الأشموني ومعه شرح الشواهد للعيني الناشرون أصحاب دار إحياء الكتب العربية ج1 ص180.(17/446)
[8] همع الهوامع للإمام السيوطي تحقيق الدكتور عبد العال سالم مكرم ط دار البحوث العلمية بالكويت ج2 ص65
[9] انظر قاموس المحيط
[10] شرح ابن عقيل تحقيق الشيخ محمد محيي الدين الطبعة الخامسة عشرة ج1 ص237
[11] ويلاحظ أنه قدم وأخر في كلام الصيني
[12] راجع شرح شواهد العيني المطبوع مع شرح الأشموني ج1 ص211 ط دار إحياء الكتب
[13] نفسه ص211(17/447)
إليك مددت الكف
لفضيلة الدكتور / عز الدين علي السيد
كلية اللغة العربية
إلهي أريد الخير فاربط على فكري
ليبقى مصُونَ الطهر من فاتنٍ يغري
مُضِل. . يماريني بتزويق باطلٍ
عرفت به ضُري.. فزاد له حذري
إذا ما ذكرتُ الفقر فاحتلتُ للغنى
ذكرتُ هوانَ النفس فاحتلتُ للفقر
وهل في احتيال المرء للرزق حيلةٌ
تُغَيرُ مقدوراً. . وترفعُ مِن ذِكرِ
و"نحن قسمنا" حدَّدَتْ رزقَ لاهثٍ
ورزقَ وديع الخطو من سالفِ الدهر؟
ألا إنَّ ما لم يقضيه الله باطل
إذا طرْتُ في الآفاق أو غصت في البحر!
وما هو مقدور أتاك وإن بدأ
على قمة العيُّوق. . أو في فم النسر!
فردى عليك الحلمَ يا نفسُ واقنعي
وثُوبي إلى التقوى تعد لك في يسر!
فما غير تقوى الله يا نفس هالكٌ
ومُهلَكُ مفتونٍ. . ومجلبةُ العسر!
فلا عُسرَ إلا عُسرُ مَنْ جاء ربه
كريهاً.. بلا زادٍ.. بغيضًا.. بلا أجرِ
ولا يُسرَ إلا يُسرُ مَنْ جاء ربه
كريمًا.. بلا جرم.. حبيبًا بلا وزرٍ!
أيارب ألهمني السداد فإنني
بعيدٌ عن التقوى. . فقيرٌ إلى الصبر
وما بسوى التقوى تُرجَى مَسَرَّةٌ
ويُفرجُ من ضيقٍ. . ويُنجي من الضرّ
إليك مددت الكف ألتمس الهدى
فشدّ به أزري. . وأصلحْ به أمري
ووثق به عهدي.. وكن لي.. ولا تكن
عليَّ. . إذا مالت بي النفسُ للشر!
فإن عدوي كاشر الوجه كاشح
دءوبٌ بلا يأسٍ. . حريص على أسري
ونفسي نهب الغي مثل فراشة
إلى النار تهوي للحريق وما تدري!
وليس لها - رباه - دونك عاصِمٌ(17/448)
من النار. . فاعصمها من الكيد والغدر
يحاك لها حوّك الخبير. . فما يَبنىِ
فم الفاتن الغدَّارِ ينفخ في الجمر!
وكم توبةٍ من غفلة غبّ يقظة
وكم غفلةٍ عن توبةٍ. . كالفتى الغمر!
وكم نظرة في الشّعر للقبر أيقظت
وكم نظرةٍ للزهر أغفت عن القبر!
وذلك عمري باد إلا ثمالةً
تُرَنِّقُ كأسي. . ما بها بلَّة الصدر!
وكان ثمالى لو دريتُ ومخلدي
بدارٍ بها الأنهار من تحتهم تجري!
إلهي فباركْ ذلك السؤْرَ بالهدى
يُبَاركْ. . كما باركتَ في ليلة القدر
فلحظةُ ذل في مقام ضراعة
تُبَدِّدُ أوزارًا وتَعتق مِنْ كُفرِ
وأنت رحيمٌ يا ودودُ. . وإنني
ببابك.. أرجو العفو فاجبر به كسرى!(17/449)
تنبيه وتحذير
لسماحة الرئيس العام لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه - أما بعد:-
فقد اطلعت على نشرة يوزعها الكثير من الناس عن جهل أو قصد سيئ قد بدأها صاحبها بقول الله تعالى {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} وذكر بعدها آيات ثم قال ما نصه: "اهتم بإرسال هذه الآيات لتكون مجلبة خير ويمن ومال وفلاح ثم ذكر بعد ذلك أنه تم توزيعها حول العالم وأن من اعتنى بها ربح ربحاً كثيراً ومن أغفلها أصيب بأنواع من الحوادث وذكر أنها تمنع المضرات وتجلب الفلاح والخير بعد أربعة أيام..".
ونظراً إلى أن هذه النشرة لا أساس لها من الصحة بل هي كذب وافتراء وقول بغير علم واعتقاد أنها تجلب الخيرات وتدفع المضرات وأن من اعتنى بها ربح ومن أهملها أصيب بالحوادث اعتقاد باطل يخل بالعقيدة ويدعو إلى تعلق القلوب بهذه النشرة وانصرافها عن الله عز وجل.
فلهذا رأيت تحذير المسلمين منها ووصيتهم بإتلافهما أينما وجدت وتنبيه إخوانهم على بطلانها وأن اعتقاد ما فيها يخالف شريعة الله ويقدح في العقيدة لأنه اعتقاد فاسد ليس له أساس من الصحة بل هو من الكذب على الله ودعوى باطلة وهي من جنس الوصية المنسوبة إلى خادم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم وقد سبق أن نبهنا على بطلانها وأنها كذب لا أساس لها من الصحة ولا لما أعاده صاحبها فهاتان النشرتان كلتاهما من أبطل الباطل فالواجب على كل مسلم أن يحذرهما وأن يحذر منهما غيره عملاً بقول الله سبحانه {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وقوله سبحانه {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} الآية.(17/450)
ولا شك أن هاتين النشرتين من المنكر الذي يجب النهي عنه ويجب على ولاة الأمور البحث عن مروجهما وعقابه بما يردعه وأمثاله.. ونسأل الله أن يوفقنا والمسلمين للفقه في الدين والثبات عليه وإنكار ما خالفه وأن يعيذنا جميعاً من مضلات الفتن ونزغات الشيطان كما نسأله سبحانه أن يكبت أعداء الإسلام أينما كانوا ويبطل كيدهم أنه سميع قريب. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.(17/451)
في رحاب القرآن الكريم تفسير آية من سورة النساء
لفضيلة الشيخ أبو بكر الجزائري
رئيس قسم التفسير بالجامعة
{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً}
الآية: 4 من سورة النساء
مبحث الألفاظ الآية:
الإيتاء: الإعطاء يقال آتاه كذا إذاً أعطاه، فمعنى لا تؤتوا: لا تعطوا.
السفهاء: جمع سفيه وهو في اللغة الضعيف العقل لجهله وعدم بصرته. وفي الشرع هو من لا يحسن التصرف في المال لضعف إدراكه وجهله بالتصرفات المالية أو لغلبة الشهوة وهوى النفس على عقله. وهو عام في كل من لا يحسن التصرف في المال بإتلافه وإضاعته، أو بإفساده بالإنفاق فيما يضر، أو لا ينفع وسواء كان السفيه رجلاً أو امرأة، أو ولداً.
والأموال: جمع مال وهو كل ما يتموّل به من صامت كالذهب والفضة والحبوب والثمار والعقارات من أراضي ودور ومصانع، أو ناطق كالحيوان وخاصة بهيمة الأنعام من إبل وبقر وغنم، والخيل والبغال والحمير.
والقيام: وقرئ في السبع قيماً جمع قيمة وهي ما تقوم بها الأمتعة والقيام ما به يقوم الشيء ويصلح، فالأموال قوام حياة الفرد والجماعة إذ تقيم الحياة وتصلحها.
والقول المعروف: الوعد الجميل والقول اللين الحسن كان يقول الولي أو الوصيّ للمحجور عليه لسفهه: إن هذا المال مالك وما أنا إلا حافظ له من أجلك وإذا كبرت أو رشدت سوف يعود إليك وتتصرف فيه، لأنك مالكه وصاحبه.(17/452)
معنى الآية:
ينهي الله سبحانه وتعالى جماعة المسلمين الذين هم ما بين زوج أو أب، أو وليّ أو وصيّ أو حاكم مسئول ينهاهم أن يعطوا السفهاء من الرجال والنساء والأولاد أموالهم التي هي ملك لسفهائهم في الواقع ينهاهم أن يُطلقوا أيدي سفهائهم في تلك الأموال فيضيّعوها أو يفسدوها ويتلفوها بإنفاقها في غير حاجة، أو بإنفاقها في معصية الله ورسوله كأن ينفقوها في شرْب وأكل ولبس ما هو حرام على المسلمين.
وأمرهم تعالى أن ينفقوا عليهم منها ما هم في حاجة إليه من طعام وشراب ومسكن ولباس. وأن يلينوا لهم الكلام، ويطيبوا خواطرهم بالعدة الجميلة، بأنهم إذا رشدوا ردوا عليهم أموالهم، بعدما تكون قد نمت لهم وكثرت …
مناسبة الآية لما قبلها:
لما أمر الله تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم بقوله {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} ، وأمر بإيتاء الزوجات مهورهن بقوله: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} ، عقب على ذلك بهذه الآية مبيّناً أن السفهاء من الرجال والنساء والأولاد لا يحق لهم أن يعطوا المال وإن كان مالهم ثبت لهم بالحق الشرعي- وذلك خشية أن يضيّعوها لخفّة عقولهم، وضعف إدراكهم، جهلهم بالتصرفات المالية فقال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ.. الخ} .
ما اشتملت عليه الآية من أحكام:
قد اشتملت هذه الآية على أحكام منها:
ا - الحجر على السفيه وهو منعه من التصرف في ماله إلا بقدر محدود لا يتجاوز بنفقته الضرورية اليومية من طعام وشراب، وكسوة ...
2- حرمة المال واعتباره قوام الحياة وعصبها التي تقوم وتصلح عليه، ولذا حرم تعالى إتلافه، وتبذيره، وإنفاقه فيما يضر أو لا ينفع.
3- وجوب النفقة على السفيه من رجل وامرأة وولد حتى يرشد وترد إليه أمواله.
4- وجوب المعرفة بأوجه التصرفات المالية لمن بيده مال يريد التصرف فيه.(17/453)
5- المال قوام حياة الجماعة المسلمة؛ فلا يجوز إعطاؤه لمن يفسده بالتبذير والإنفاق في معصية الله تعالى كائناً من كان ... إذ الملكية الخاصة لا تخول لصاحب المال أن يفسده بأيّ وجه من أوجه الفساد، لأن المال قوام حياة الناس كلهم فيحرم على الفرد منهم إتلافه وإفساده بحال من الأحوال.
هداية الآية:
إن هذه الآية الكريمة هي أولى ثلاث آيات جاءت في كتاب الله تعالى، لتكون قانوناً عاماً لكيفية إنفاق المال، والتصرف فيه بحيث لو اتبع هذا القانون أحد من الناس لما افتقر في حياته ولا احتاج إلى ما يقيم به أوده أبداً، وفي الحديث الصحيح:" ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار، ولا عال من اقتصد "، يعني ولا افتقر من اتبع قانون الإنفاق العام الذي وضعته هذه الآيات الثلاث.
ا- {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} .
2- {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} .
3- {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} .
وبيان ذلك: أن طلب المال بإنتاجه والحصول عليه من مصادره كالتجارة والصناعة والفلاحة والاكتساب بالاستخدام ليس مشكلاً؟ إذ حب المال فطريّ في الإنسان يشهد له قول الله تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} . والخير هنا هو المال. كما يشهد له الواقع إذ العالم الإنساني اليوم قد أصبح يؤله المال تأليه الشرك لوثنه الذي يعبد دون الله تعالى. حتى أصبح الأفراد كالجماعات لا تعتبر ولا تقوم إلا باقتصادياتها، وأموالها، لا بآدابها وأخلاقها، وذلك باستثناء قلة من المؤمنين.(17/454)
وعليه فليس حب المال واكتسابه والحصول عليه هو المشكل في حياة الناس وإنما هو إنفاق المال والمحافظة عليه، إذ من الناس من يطغى على نفسه حب المال فيركب أفدح الخصال وأقبح الوسائل لجمعه والمحافظة عليه كبيع عرضه ودينه، أو منعه والشح به حتى يمنع كل حق ماليّ عليه والعياذ بالله تعالى، ومن الناس من يجهل قيمة المال فلا يقدره قدره فيبذره حتى ينفقه في أخبث الأشياء، ويسرف فيه حتى يخرجه من يده ولو كان مال قارون كما يقولون. ولا سبيل إلى قانون ضابط يعصم المال وصاحبه من الفساد إلا ما وضعته هذه الآيات الثلاث التي ذكرنا؛ إذ الأولى تقرر مبدأ احترام المال واعتباره عصب الحياة وقوامها فتحرم إطلاق يد السفهاء فيه حتى لا يضيع ويتلف. والثانية تقرر مبدأ الاقتصاد في النفقة فتنهى صاحب المال عن البخل به، والشح في إنفاقه حيث تتعيّن النفقة ويجب البذل والعطاء، ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك وهذا اللفظ كناية عن منتهى الشح والبخل فاليد المربوطة بالعنق لا يمكنها أن تنفق. كما تنهاه عن الإسراف والتبذير وهما الإنفاق لغير حاجة ضرورية، أو في المعصية ولا تبسطها كل البسط، وهذا اللفظ كناية عن الإسراف المالي، والتبذير في النفقة المشروعة وغير المشروعة، فاليد المبسوطة كل البسط لا تمسك شيئاً فلا يبقى بها دينار ولا درهم. وتعلل للحال الأولى {ِفَتَقْعُدَ مَلُوما} إذ الذي يمنع إنفاق المال حيث يجب أن ينفق يلومه الناس، لأنه منعهم حقوقهم، وحال دون بقاء حياتهم كريمة صالحة، وللثانية {مَحْسُوراً} والمحسور هو المنقطع عن مواصلة السير كلاً وتعباً.
فالذي يبدد ماله ويخرجه من يده عن مواصلة حياته إذ قوامها المال وقد بدده وأفسده فيقعد حينئذ عن الحياة عنه، وهذا هو الموت المعنوي القائد إلى الموت الحسي.
والثالثة: وتقرر مبدأ الاعتدال في الإنفاق فتحرم الإسراف، والتقتير معاً.(17/455)
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} : أي بين التبذير والإسراف المحرمين وبين الشح والبخل المذمومين سبيل وسط وهو الاعتدال والاقتصاد في إنفاق الأموال والتصرف فيها. فهذا هو القانون القرآني لإنفاق المال والتصرف فيه من أخذ به نجا، وسعد، ومن أعرض عنه هلك وشقي ولا يلومن إلا نفسه.
والسؤال الآن هو: ما مدى فهم المسلمين لهذا القانون المالي وأخذهم به؟
والجواب أما المسلمون الأولون فقد فهموه حق فهمه، وعملوا به وآية ذلك ما بلغوا إليه من مستوى حضاري لم يصل إليه غيرهم في دنيا الناس يومئذ. ويدل على فهمهم له وأخذهم به سؤال عبد الملك الخليفة الأموي ابنته فاطمة وقد زوجها من ابن أخيه عمر بن عبد العزيز حين زارها وقال لها: "كيف معيشتكم "؟ فقالت:"الحسنة بين سيئتين ": تعني بالحسنة الاعتدال في النفقة، وبالسيئتين الإسراف والتقتير الذي هو التضييق في النفقة.
وأما المسلمون اليوم فقد جهلوا كل شيء حتى أنفسهم فأنى لهم أن يفهموا مثل هذا القانون القرآني المالي كما عجزوا عن الأخذ بأي قانون من قوانين الإصلاح في الحياة، وذلك لأنهم ماتوا موتاً معنوياً، والميت لا يسمع ولا يبصر، ولا يقبل ولا يدبر. فاللهم يا محيي الأموات أحيهم، ويا مجيب الدعوات أجب دعواتنا فيهم. فارددهم إلى الإسلام، وأعزهم به، وكمّلهم عليه فأنك على كل شيء قدير.(17/456)
بيان من الرئاسة العامة للمجلس الأعلى العالمي للمساجد
رابطة العالم الإسلامي
قام وفد من الأمانة العامة للمجلس المذكور برئاسة فضيلة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان عضو مجلس القضاء الأعلى بالمملكة العربية السعودية وعضوية كل من فضيلة الشيخ أبي بكر محمود جومي كبير قضاة نيجيريا وعضو الرابطة ومجلس المساجد وفضيلة الشيخ أحمد الحماني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر وعضو الرابطة ومجلس المساجد وفضيلة الشيخ علي مختار الأمين العام المساعد للمجالس الأعلى العالمي للمساجد بزيارة الجماهيرية العربية الليبية بناء على ما دار بين الأمانة والجماهيرية للبحث مع فخامة العقيد معمر القذافي حول ما تناقلته الصحف والأنباء من إنكاره للسنة النبوية أن تكون مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي. وقد تم بالفعل اجتماع الوفد بفخامته في الساعة السابعة والنصف من مساء يوم الأربعاء الثاني عشر من شهر صفر 1399هـ. في مدينة بني غازي بليبيا وتبادل الجميع وجهات النظر وبين الوفد لفخامته الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على عظم منزلة السنة في الإسلام وأنها الأصل الثاني في إثبات الأحكام وأن العلماء قد عنوا بها وعرفوا صحيحها من سقيمها ووضعوا لذلك قواعد وأصولاً يعرف بها الصحيح الأحاديث من ضعيفها وأجمعوا على اعتماد ما صحت به الأحاديث فأظهر اقتناعه بأكثر ما قاله الوفد وأوضح فخامته للوفد موقفه من الكتاب والسنة والحديث وأنكر بشدة ما نسب إليه من أنه حذف كلمة {قُلْ} من {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أو أنه صلى العصر ركعتين حضراً كما أوضح للوفد بأنه يعترف بالسنة الفعلية فقط كالصلاة والحج أما الأحاديث القولية فإن ما يصح عنده منها يعمل به ووعد بأنه سيعلن ذلك على الملأ.(17/457)
هذا ملخص قرار الوفد وقد سرنا كثيراً رجوع فخامة العقيد إلى الصواب في الأخذ بالسنة الصحيحة وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة وإجماع أهل العلم على أن السنة الصحيحة القولية والفعلية والتقريرات أصل عظيم من أصول الإسلام وهي الأصل الثاني في إثبات الأحكام الشرعية وبيان الحلال والحرام وهي الوحي الثاني كما أجمع العلماء أيضاً على أن من جحد كون السنة أصلاً معتبراً يرجع إليه في الأحكام وزعم أنه يكتفي بالقرآن عنها فهو كافر مرتد عن الإسلام وقد صنف في ذلك الحافظ السيوطي رسالة سماها مفتاح الجنة في الإحتجاج بالسنة ذكر فيها الأدلة من الكتاب والسنة والآثار على وجوب تعظيم السنة والأخذ بها وأنها الأصل الثاني من أصول الإسلام كما ذكر فيها إجماع العلماء على كفر من أنكر السنة وزعم أنه لا يحتج إلا بالقرآن ولا شك أن من أنكر السنة فقد أنكر القرآن وكذبه لأن القرآن الكريم قد أمر في مواضع كثيرة بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه وعلق الرحمة والهداية ودخول الجنة والنجاة من النار على ذلك وقد كتبنا في هذا المقام مقالاً أبسط من هذا البيان ننشره قريباً إن شاء الله [1] فالواجب على فخامة العقيد أن يعلن توبته إلى الله سبحانه من إنكاره ما أنكر من السنة وأن يعلن التزامه بما صح منها عند أهل العلم كأحاديث الصحيحين وغيرهما مما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً أو تقريراً وهنا أمر عظيم يهم القراء والمسلمين ويتعلق بفخامة العقيد ويجب علينا التنبيه عليه وبيان حكمه وهو أن الكتابة الإيطالية (ميريلا بيانكو) قد ذكرت في كتابها (القذافي رسول الصحراء) ص241 عن فخامة العقيد ما يدل على أنه يدعي أنه رسول من رسل الله وقد خاطبته في الصفحة المذكورة بقولها له:"يا رسول الله أكنت راعي غنم " فأجابها بقوله:"بلى فلم يكن هناك نبي لم يفعل ذلك" وهذا الجواب يقتضي إقراره لها على أنه رسول الله لأنه لم ينكر عليها ولم(17/458)
يقل لست برسول ومعلوم أن دعوى الرسالة أو النبوة بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كفر أكبر وضلال عظيم وردة عن الإسلام بإجماع المسلمين لأن ذلك تكذيب لقول الله عز وجل {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} وتكذيب لما تواترت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدالة على أنه خاتم النبيين والمرسلين لا نبي بعده ولا رسول وقد قاتل الصحابة رضي الله عنهم من ادعى النبوة بعده واعتبره كافراً حلال الدم والمال كالأسود العنسي ومسيلمة الكذاب والمختار بن أبي عبيد الثقفي وقد أجمع علماء الأمة إجماعاً قطعياً على أن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين والمرسلين لا نبي بعده ولا رسول وقد كفّر العلماء في عصرنا وقبل عصرنا مرزا غلام القادياني لما ادعى النبوة وكفّروا من صدقه في ذلك فالواجب على فخامة العقيد أن يعلن في وسائل الإعلام تكذيبه لما زعمته هذه الإيطالية وأنه يبرأ إلى الله من ذلك إن كان ذلك لم يقع منه، فإن كان قد وقع منه فالواجب عليه إعلان التوبة النصوح من ذلك ومن تاب تاب الله عليه كما دل على ذلك كتاب الله المجيد وسنة رسوله الكريم عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم ومن ذلك قول الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} فبين سبحانه أنه لا بد من إعلان التوبة وبيان ما كتم من الحق. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"التوبة تهدم ما كان قبلها ". والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ونسأل الله أن يهدينا وإياه سواء السبيل وأن يمن علينا وعليه وعلى سائر المسلمين(17/459)
بالتوبة النصوح من جميع الذنوب، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله، وأصحابه وأتباعه بإحسان.
--------------------------------------------------------------------------------
راجع في العدد بالبحث الخاص بمنزلة السنة في التشريع الإسلامي
[1](17/460)
تعقيب لا تثريب
السفينة الأولى
بقلم: الشيخ محمد المجذوب
1- يا قبرص العزيزة..
أحقاً أنت هي الجزيرة التي طالما تشوقت إلى لقائها!..
إني لأخطو فوق ثراك الرطب الخصب
وأجوب أرجائك علواً وسفلاً..
ألماغوسة.. التي تعانق الأبيض المتوسط بذراع والأخضر المنبسط بالذراع الآخر.. ولفقوسا التي تعيش على مرمى ومرأى من العدو المتربص ومع ذلك تضحك وتتمطى وتبعث.. وكْرنا.. كِرنا.. التي توقد في قلوب المؤمنين لفحات الحنين إلى جنة الله..
هأنذا أطل عليها من أعالي (سانت هيلاريون) الحصن البزنطي القابع كالعجوز يتذكر ماضيه العبيد.. فأشاهد روائعها الساحرة تنشر في كل اتجاه..
ما أروع منظرها بعيدة وهي تغسل أطرافها بهذا الرقراق الأزرق الممتد إلى أقصى أقاصي الآفاق كأنها الغادة البتول تتوضأ استعداداً للوقوف الخاشع بين يدي الخلاق الرازق..
ولكن.. ما أقبحها قريبة.. تعرض لحوم البشر في عريها الكافر.. كأنها حديقة للكلاب والخنازير.. أشبع ما فيها عوراتها المثيرة للإشمئزاز والغثيان..
2- يا قبرص العزيزة..
ما الذي يربط قلبي بترابك.. الذي طالما جننت إلى رمسّه..
أجمال طبيعتك هذه.. التي تذكرني بروائع الفيلبين..
أغاباتك البهيجة المترنحة على السفوح والقمم..
تتبادل الحوار الهامس مع أمواج الأبيض المترنمة أبداً..
أشواطئك الجذابة المغرية؟!..
أنسميك الناعش المخالط للقلوب.. الحامل خلاصة الأريج..
الأريج الذي ترسله ضفاف الأبيض المتوسط كلها!!
أم ثمارك الشهية من الأعناب والتفاح والخروب..
لا.. وألف لا.. ففي لبنان المجاور لك ...
الكثير من ذلك المتاع الزائل.. واللاذقية الشاخصة إليك ... الزائل.. مهما طال الأمد..
إنما هي الذكريات يا قبرص..(17/461)
الذكريات المقدسة.. التي لا تنفك تشد قلبي إليك..
ذكريات السفينة الأولى.. التي أبحرت من سواحل الشام..
تحمل إليك أكرم وأعظم ,اسعد هدية..
تحمل إلى أرضك الحائرة التائهة راية محمد صلى الله عليه وسلم..
أتذكرين تلك الراية يا قبرص العزيزة؟..
تلك التي شرف بها فضاءك أصحاب البشير النذير..
الذي أرسله الله رحمة للعالمين..
فهداك الله بهم بعد ضلال..
وأمتعك بالأمن الذي حُرمتِهِ أجيالاً إثر أجيال..
3- أجل يا قبرص العزيزة..
إنما نحبك بهذه الروح..
وبهذه الروح نتلقى نفحات ترابك..
التي تحمل إلى رئاتنا أشذاء أولئك المصطفين الأخيار.. من تلاميذ المدرسة الربانية المباركة التي..
ربى بها الوحي جيلاً لا كفاء له
على البسيطة من عُجم ومن عرب..
بهذه الروح أحببناك..
وبهذه الروح بكيناك.. وشاطرناك أوجاعك عندما أقدم متعصبة (أيوكا) ..
وورثة الوثنية الفاجرة..
من سلالة (مارس) رمز الفتك والقتل..
ومن عُبّاد (فينوس) تمثال الدعارة والخيانة..
عندما أقدم هؤلاء البغاة على ترويعك.. وتدمير مساجدك التي يذكر فيها اسم الله..
تجريدك من بركات تلك الراية المقدسة..
وردك إلى المتاهات القديمات من ظلمات الجاهليات..
4- بلى.. أيتها العزيزة
يا قبرص الإسلام..
بهذه الروح المحبة الباكية قدمنا لزيارتك اليوم..
ولكن.. أيتها الأرض الجميلة الخصبة الغافلة..
أين الإسلام الذي أحببناك به وقصدنا إليك من أجله؟..
أين معالم التراث العظيم الذي نترقب رؤيته عندك؟!
أكل ما بقي لك من الإسلام هذه المساجد..
المساجد.. التي تكاد تخلو من المصلين..
لولا تلك البقية من الشيوخ..
الذين يتلاشون في غمار الموت شيئاً بعد شيء!..(17/462)
وتلك القلة التي لا تعد وأصابع اليدين من أبنائهم..
الذين أغفلهم الشيطان إلى حين؟!..
5- حتى مساجدك الحزينة.. يا قبرص..
لقد بدأت تخوى.. وتنزوي مغمورة مهجورة..
وها هو ذا بعضها، وأجملها، يستحيل مراكز لبعض مصالح الحكومة..
لأن ناسك قد استغنوا عنها، فلا يرون حاجة لزيارتها..
لا.. بل قد تجاوزوا هجرها إلى احتقارها وروادها..
فهم يدخنون ويشربون ويتسامرون على أبوابها..
كل ذلك والصلاة قائمة.. وفي رمضان. بل في كل نهار من رمضان..
وا أسفاه!..
وهل أذكرك بنسائك.. اللواتي انسلخن من الإسلام..
وهل أذكرك بنسائك.. اللواتي انسلخن من الإسلام.. إلا من رحم الله..
من المحذرات اللاتي أثرن القرار في بيوتهن..
ومن القواعد المتخلفات عن الماضي اللائي لا يرجون نكاحاً..
في كل مكان.. في كل شارع.. في كل زقاق..
نماذج لا تحصى من الكاسيات العاريات..
وكأنهن تواصين ألاّ يبقى عليهن أثر من معالم الدين الحق..
لذلك تركن أنصافهن العليا عارية من كل شيء..
وغير قليلات اللواتي أتممن سمة الهبوط من تعرية كل ما دون المقدرين..
فتجردن من الحياء الذي أكرم الله به الأنثى من كل المخلوقات..
ولهذا هُنّ عام الرجل فلا يفكر بالواحدة منهن إلا على قدر ما تملكه من مهر..
ذلك المهر الذي فرضه الله على المسلم تكرمة للمسلمة..
فجعلن بزيفهن ضريبة الذل والهوان..
6- يا قبرصَ عُبَادةَ وأم حِرام وأبي ذر
هل فارقت كل مسكة من الرشد حتى استبدلت كل ما هو أدنى بكل ما هو خير؟!
هل سألت.. هل فكرت.. هل تصورت..؟ أين تسيرين..؟!
وفي أي ظلمة تخبطين؟!.. وبأي هاوية تنزلقين؟!
أي فرق بينك وبين أعدائك المتربصين بك الدوائر على خطوات؟!..(17/463)
ما أحسب ظاهرة من كفر أولئك العُداة الغواة إلا وهي بارزة فيك.. الخمور.. والسفور..
ودواعي الفجور.. وما وراءها من عبادة المادة.. والغفلة الصارفة عن الله..
وحتى (اليوجا) ، عبادة مجوس الهند، قد أصبح لها عندك أتباع!..
كل أولئك بعض ما شهدته على أرضك..
لقد أصبح الإسلام غريباً بل يتيماً لديك..
اللهم إلا هذه المآذن الشاكية أبناءك إلى رب العالمين..
وإلا أن يموت فيك ميت فيدفن في مقابر المسلمين..
دون أن تشيع جنازته بالصلاة من أهله..
لأنهم لم يجربوا ذلك من قبل.. فلا يعلمون كيف يصلون..
حتى تحية الإسلام باتت فيك مستغربة بل مستهجنة..
فنادراً ما تُسمع فتردّ..
ورب محيا بها يكون رده عليها: (أهنا يقال السلام عليكم؟) ..
7- وا حسرتا عليك.. يا قبرص العزيزة الشاردة..
كل هذا ولما ينقض على مجزرتك بسكاكين الصليبية سوى لحظات من عمر الزمن؟!..
فكيف إذا غبرت على ذلك الأيام والشهور فالسنون؟..
بالأمس قرحت استفافاتك أكباد المسلمين في كل صوب.. فتوجعوا.. وتضرعوا.. وتبرعوا.. واستجاب ربهم البر الرحيم لدعواتهم لخاشعة..
وحرك صفوة من جنوده المؤمنين.. فزرعوا ثراك بالجديد من شهداء الإسلام
تحت راية (الله أكبر) ..
حتى أتم الله نعمته عليك بإنقاذك من السفاحين.. الإنقاذ الذي كان أكبر من الحلم..
وأورثك أرضهم وديارهم وأموالهم.. وأرضاً لم تطئوها..
فما بالك نسيت ذلك كله ورجعت..
رجعت إلى اللهو.. والعبث.. والركُض وراء الدنيا؟..
ألا تخافين أن تعود المأساة لاستكمال فصولها الدامية؟
ألم تسمعي قط بذلك الإنذار الإلهي القائل: {وإن عدتم عدنا} ؟..
حسرتين عليك لا حسرة واحدة يا قبرص..
حسرة لشططك الذي صدك عن سبيل الله..
وحسرة لفقدانك الهادين الجادين الداعين إلى الله..(17/464)
المذكرين أولي الغفلة من أمثالك بأيام الله..
ولا حول ولا قوة إلا بالله..
لفقوشا - قبرص 7/10/1399 هـ(17/465)
وقفة مع طب العيون وعظمة الخالق
لفضيلة الدكتور فكري السيد عوض
أخصائي العيون بالجامعة
لقد وصل العلم الحديث إلى مرحلة بعيدة من التقدم جعلت الفرد لا يملك إلا أن يؤمن بالله إيماناً يقينياً مبنياًَ على الواقع وليس هناك علم صحيح يقال عنه إن الإسلام يخالفه.. فلا شيء يقوم على الفوضى ولا شيء يوجد من تلقاء نفسه.. إنه الإتزان المحكم والدقة الرائعة مؤكداً أن العلم يخدم القضية الإيمانية ويثبتها ولذلك ينادينا ربنا عز وجل في القرآن قائلاً: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} وحينما نتأمل آخر سورة فصلت ونقرأ قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ..} ..
نجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته الكرام قرءوها {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا} وكذلك التابعين قرءوها {سَنُرِيهِمْ} ونحن نقرأها {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا} ومن بعدنا أيضاً سيقرأوها {سَنُرِيهِمْ} .. إنه التعبير عن المستقبل الذي سيكشف لهم كل يوم عن عجز البشرية أمام آيات الخالق عز وجل مبيناً لهم أن هذه الآيات لا فائدة منها إلا للمتفكر والمتأمل فيها: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} .
وصدق الله.. فمازالت الآيات كل يوم تكتشف مؤكدة أن مزيداً من العلم مع تأمل وتفكر يعطي مزيداً من الإيمان ورسوخها للعقيدة ولذلك يجب ألا نخالف من زيادة العلم بل يجب أن نفرح به لأنه سيخدم القضية الإيمانية من جميع جوانبها.. وتعالوا معي على سبيل المثال في هذا العالم الإنساني العجيب الذي قيل عنه:
وتزعم أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر(17/466)
لنقف على نقطة واحدة وجزء صغير في جسدنا طالما ذكر في القرآن في مواضع شتى لنرى هذه الدقة العظيمة والروعة الكافية وصنع الله الذي أحسن كل شيء خلقه ثم تنظر هل سيتعمق الإيمان أم سيتزعزع وتحكم هل يرق القلب أم سيزداد قساوة أشد من الحجارة.
إن محور الحديث سيدور بإذن الله حول حاسة الإبصار التي لو قضينا الدهر كله شاكرين لله عز وجل هذه النعمة ما وفيناه حقه:
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .. من سورة النحل: 38.
فماذا كان موقف الإنسانية تجاه تلك النعم:
{وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} من سورة السجدة: الآية: 9..
والحديث في هذا المجال يطول ويطول فهو متعدد الجهات متشعب الجوانب فمن وظائف مختلفة للعين وكيف تعمل.. وكيف ركبت العين في مكان أمين.. وكيف تحمى نفسها داخلياً وخارجياً.. وكيف ترطب نفسها مهما كانت درجات الحرارة العالية.. وكيف تحتفظ بالبريق الخاص بها.. وكيف تتحرك.. وكيف قسمت إلى طبقات مستقلة متخصصة فترى واحدة للتغذية وأخرى للحماية وثالثة للإبصار.. وكيف؟ وكيف؟..
وسنقتصر بإذن الله تعالى على جزء بسيط من هذا العالم العجيب الدقيق وليكن كيفية الإبصار؟..
ونقول وبالله التوفيق: يسقط الضوء فيجتاز أوساطاً متعددة في العين حتى يصل إلى آخر طبقة فيها والتي تسمى بالشبكية حيث يبلغ سمكها أقل من نصف مليمتر وتتركب من عشر طبقات فوق بعضها البعض في رقة متناهية، وإحدى هذه الطبقات العشر تقوم باستقبال الضوء حيث يبلغ عدد الخلايا فيها ما يقرب من 140 مليون (مائة وأربعين مليوناً) خلية مستقبلة للضوء!! كيف ركبت؟! كيف نظمت؟! إنه صنع الله العليم الخبير.(17/467)
ثم تخرج من هذه الشبكية أليافاً عصبية يبلغ عددها نصف مليون ليف عصبي مكوناً العصب البصري الذي ينقل الصورة واضحة دقيقة ملونة طبيعية إلى المخ.. ولكي ترى العين الأشياء لا بد من توافر أربعة شروط:
أولاً: الضوء الكافي:
ثانياً: طول الموجة الكافية:
وحتى يتضح ذلك نستشهد بتجربة العالم نيوتن حينما سلط نوراً أبيضاً على منشور زجاجي مائل فوجد أن الضوء الأبيض تحلل إلى سبعة ألوان (قوس قزح) تبدأ بالأحمر وتنتهي باللون البنفسجي.
وكل لون له طول موجة معينة.
فأطولها موجة هو اللون الأحمر، وأقصرها موجة هو اللون البنفسجي.
فإذا زاد طول الموجة على ذلك كما في الأشعة تحت الحمراء فإن العين لا تراها مع أنها موجودة ولها آثارها الحرارية.
وإذا نقص طول الموجة الضوئية عن ذلك كما في الأشعة فوق البنفسجية أيضاً لا تبصرها العين مع أنها موجودة ولهذا آثارها الكيميائية.
وهذا الشيء يحدث في جميع الحواس فمثلاً في حاسة السمع تجد أن الإنسان يسمع الأصوات التي تتراوح ذبذبتها ما بين 16 إلى 20 ألف هزة في الثانية وإذا تجاوز ذلك لا يسمع صوتاً وفي بعض الحيوانات مثل القطط تجد أن قوة سماعها يفوق الإنسان فتصل إلى 50 ألف في الثانية. وأعجب الحيوانات هو الخفاش تصل حدة السمع إلى 120 ألف هزة في الثانية ونفس الشيء في العين نجد أنها ليس بمقدورها رؤية كل شيء في الكون وهنا نستشعر الإيحاءات التي قصها الله علينا في القرآن الكريم عندما طلب موسى عليه السلام رؤية ربه عز وجل:
{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} سورة الأعراف 143 لماذا؟.. لأنه {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} .(17/468)
وعلى هذا فهناك العوالم الغير مرئية كالجن والملائكة ليس في مقدورنا أن نراها لأن هذا فوق مقدرة العين البشرية.. {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} .. أفلا يحق لأولئك المستكبرين أن يتدبروا ذلك حتى يؤمنوا..
وعلى نفس المقياس هناك إشعاعات لا نبصرهما بخلاف الأشعة تحت الحمراء والأشعة فوق البنفسجية وهي أشعة ألفا وييتا وجاما، وكذلك توجد قوى نشعر بآثارها دون أن نراها منها القوة الكهربية والقوة المغنطيسية والجاذبية الأرضية.
ثالثاً: طول كافي للرؤية:
فإذا تناهى الشيء في الصغر عجزت العين عن رؤيته. والإنسان الذي ركب المجهر الذي يكبر الأشياء 300 آلف مرة لم يستطع أن يرى الذرة ويسلم بأنها موجودة. وهنا نجد عظمة الخالق في قوله {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ..
رابعاً: المدة الكافية:
وهو ما يقوم عليه مبدأ عرض الدور المتحركة المتتابعة على شاشات العروض المختلفة مثل التليفزيون حيث أصبح في استطاعة الإنسان أن يتحكم في المناظر الساكنة المنفصلة عن بعضها البعض ليجعل المشاهد يراها وكأن الحياة تدب فيها..
ماذا يحدث؟.. تحكم العلماء في سرعة العرض للمناظر المتتابعة بما يكفي لرسم منظر على شبكة العين وبعده بمدة كافية محددة يلحقه منظر آخر.. وهكذا فيشعر المشاهد أن الأحداث متلاحقة ومتحركة لكنها في حقيقة الأمر خلاف ذلك بحيث أنك في مقدورك أن تحمل في جيبك الشريط الذي يحتوي على كل هذه الأشياء حيث لا حركة فيها ولا انفعالات وعندما تضعه على شاشة العرض تجد الحركة والصخب والصوت والبكاء والكر والفر وكأنها الحياة العادية.
وهذا ما نفهمه من قصة موسى مع السحرة:(17/469)
{وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ. قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ. قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ. وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ. فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ..} من سورة الأعراف 113-118.
وكذلك في المستشفيات فإنه يوجد في عيادة العيون أشياء من هذا القبيل تقوم على أسس علمية فتقف مثلاً أمام جهاز معين فترى الشيء الحقيقي واضحاً ثم بتجربة بسيطة تجد أنه اختفى تماماً مع أنه موجود وبتجربة أخرى تجد أنه أصبح اثنين مع أنه واحد فقط.. وكل هذا له أسسه وقواعده العلمية. التي تؤثر على العين لا على الشيء لأن الذي في قدرته تغيير طبائع الأشياء هو الله عز وجل. فتبارك الله رب العالمين.
نعود مرة أخرى إلى العين لندرك كيف تتحكم هي في كمية الضوء الداخل إليها: لأنه إذا دخلت كمية كبيرة زائدة من الضوء إلى العين فمعناه فساد الصورة. ولذلك إذا كان النور شديداً تضيق حدقة العين لتقلل من حدته وإذا كان الضوء ضعيفاً تتسع حدقة العين ويحدث هذا دون تدخل من الإنسان {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} .(17/470)
والعجيب أن هذا التفاعل الإلهي وجد أنه لا يحدث في أشخاص خالفوا أمر ربهم واتبعوا أهواءهم حينما قال لهم {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} فأصابهم الميكروب الذي لا ينقل إلا عن طريق الجنس (ميكروب الزهري) حيث يترك آثاره على حدقة العين فلا تتأثر بالضوء بل تبقى كما هي ضيقة كما ضاقت بصيرة صاحبها ولا تتفاعل مع الضوء كما لم يتفاعل صاحبها مع منهج خالقه ومصوره علاوة على ذلك يترك هذا الميكروب بصمة أخرى على الحدقة لها شكل معين يعلمها المتخصصون في طب العيون.
العصب البصري:
وهناك نقطة أخرى تتعلق بالعصب البصري الذي كما قلنا أنه يسير فيه حوالي نصف مليون ليف عصبي لنقل الصورة واضحة ملونة ويقول العلماء أنه في مقدور العين أن تميز حوالي 128 لوناً أساسياً.
وبعقد مقارنة بسيطة في بعض الحيوانات نجد أن:
أولاً: حيوانات نهارية مثل الدجاج والحمام: ترى بالنهار فقط.
ثانياً: حيوانات ليلية مثل البوم والخفاش: ترى بالليل فقط.
لكن الإنسان الذي كرمه الله عز وجل ركب فيه ما يؤهله لأن يرى في الضوء الساطع والضوء الخافت بخلايا متخصصة يصل عددها إلى 140 مليون خلية.. {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ}
ثالثاً: حيوانات مثل الكلاب والقطط والماشية: لا ترى الألوان مطلقاً. فكل الأشياء التي تراها إما لونها أبيض أو أسود.(17/471)
لكن الإنسان الذي نفخ الله فيه من روحه ركب فيه ما يجعله يرى كل شيء على طبيعته وتخيل لو أن الإنسان خلق مثل الحيوانات السابقة ماذا يحدث؟!.. تزول البهجة والسرور.. {لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} .. النمل 60.. {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} .. الحج 5.
{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} .. البقرة 69
إنها نعمة من الله على عباده {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} ..
والشيء اللافت للنظر أنك تجد أن هناك أسباباً تسبب عمى الألوان ومن جملة هذه الأسباب هو (التسسم المزمن بالتبغ والخمر) .
{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} المائدة 90
أشهر مرض يصيب العصب البصري:(17/472)
وهذا العصب المعقد التركيب قد يصيبه التهابات معينة تؤثر عليه وعلى وظيفته ووجد أن أشهر مرض يسبب التهاب العصب البصري سببه الزنا حيث يدخل ميكروب الزهري إلى الجسم عن طريق الإتصال الجنسي ويكمن الميكروب في الجسم فترة طويلة تصل إلى ربع قرن وبعد ذلك تظهر آثاره السيئة المفجعة على شكل شلل في الأعضاء - وعدم المقدرة على السير في الظلام (بعد أن كان يفعل جريمته مستتراً في الظلام) - ويفقد قدرته الجنسية (التي استعملها في الحرام فحرمه الله منها) - ويبول على نفسه وتصبح رائحته منتنة لدرجة أنه يتمنى الموت.. ويترك أثراً واضحاً على قزحية العين كدليل وشاهد على ذلك. وصدق الله الذي أمرنا فقال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى..} {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ..
وهذا الميكروب عندما تصاب به المرأة يحدث لها إسقاطات متكررة في أشهر الحمل والأدهى من ذلك أن هذا الميكروب ينتقل خلال الدم إلى الطفل إلى الذرية إما أن يكون على هيئة أجنة ميتة.. أو تشوهات جنينية.. أو تشوهات جلدية أو تخريب في الأسنان.. وعتامة في القرنية.. وصمم في الآذان.. {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ..
دور المخ:(17/473)
تنتقل الصورة إلى المخ بعد أن تكون قطعت طريقها الدقيق حيث تصل إلى خلايا خاصة بالرؤية تتركز في مؤخرة الدماغ فيقوم المخ بترجمتها وإصدار أوامره لجميع أجزاء الجسم لاتخاذ التدابير الخاصة بذلك فمثلاً إذا ركبت سيارتك وفجأة رأيت النور الأحمر ما الذي يحدث؟.. النور يصل إلى العين ثم إلى الشبكية حيث الخلايا المستقبلة للضوء التي تنقل النور الأحمر خلال ألياف العصب البصري الذي يوصله إلى المخ حيث يتولى تفسيره وهو أنه لا بد أن تقف فتستجيب خلايا خاصة في الفص الجبهي من المخ فتأمر خلايا معينة بإرسال إشارات إلى عضلات في القدمين والرجلين لتقوم بالحركة اللازمة لوقف السيارة. وهذا الأمر يتم في ثواني. فكيف صمم وكيف ركب.
{يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} ..
وليكن معلوماً كما قرر علماء التشريح أن عدد الخلايا العصبية التي يحتويها المخ تبلغ 14 مليار خلية موزعة في 14 منطقة من مناطق الدماغ.
فسبحان من خلق وقدر كل شيء ووضع الميزان، إنه {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} النمل..
وقال علماء التشريح أن كل خلية تتفاعل مع باقي الخلايا حتى وجد أن بعض الخلايا تتصل بما يقرب من 1800 خلية أخرى في ترابط تام فإذا حاولت أن تتصور كم طريقاً ينشأ من خلال هذا الإتصال من 14 مليار خلية عصبية بالتأكيد أن الرقم الناتج لا يمكن أن تستطيع قراءته وهذا هو واقع الدماغ المعقد المحير وهذا هو خلق الله عز وجل.. {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ..
بقيت هناك مواضيع كثيرة تدور حول هذا المجال الغريب العجيب لكننا نقف عند هذا الحد لنكمل ما بدأناه في مقالات أخرى إن شاء الله تعالى وقدر.(17/474)
وفي الختام هذه الكلمة القصيرة أصبح واضحاً أنه في الإمكان أن نوجه سؤالاً لهؤلاء الذين يمرون على هذه الآيات وهم معرضون عنها لكي نسمع إجابتهم عن هذه الدقة البالغة وهذا الإتقان العظيم ونقول لهم إننا نفرح بتقدم العلم لأنه يزيدنا يقيناً وإيماناً وعدم ارتياب: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} ..
وأمام هذه النعمة - نعمة الإبصار - وتجاه تلك الأمانة الغالية.. هل رعيناها حق رعايتها وحافظنا عليها واستعملناها فيما يرضي خالقها عز وجل؟.. هل نفذنا تعاليمه حينما أمرنا بقوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ..} النور 30.. وهل وجهنا تلك النعمة العزيزة كما قال ربنا عز وجل:
{فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ..} الطارق 5.
{فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} .. عبس 24-32
{انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} .. الأنعام 99.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} ..
نسأل الله أن يبصرنا بأمور ديننا ويرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه إنه نعم المولى ونعم النصير..(17/475)
الأسنان ووظيفتها
الدكتور أحمد كرات
الأسنان وظيفتها هامة، وتوجد بالتجويف الفمي، وفي مدخل الجهاز الهضمي ولها أهميتها بالنسبة لصحة الإنسان وهي نوعان لبنية ودائمة.. فاللبنية هي التي يبدأ ظهورها في الطفولة في سن 6 شهور، وتبدأ بالقواطع السفلية، ومجموع عددها 20 سناً وضرساً ينتهي ظهورها وتكتمل في سنتين وهي ناصعة البياض- صغير الحجم- وحيث أنها غير دائمة فيبدأ سقوطها في سن 6 سنوات لتستبدل بها الأسنان الدائمة وعددها 32 سناً وضرساً وتنتهي بظهور ضرس العقل الطاحون الثالث في سن 18- 25 عاماً.. والأسنان الدائمة كبيرة الحجم ولونها يميل إلى الإصفرار بالنسبة للبنية.
والأسنان الطبيعية يجب المحافظة عليها لأنها لا تُعَوَّض ومهما بلغت الدقة في الأسنان الصناعية وصناعتها فلن توازي أبداً الأسنان الطبيعية، فسبحان الذي خلق فأبدع. لذا فإن الدين الإسلامي وهو دين النظافة والطهارة والرسول عليه الصلاة والسلام في حديثه الشريف يقول "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ". صلاة وسلاماً عليك يا رسول الله وضعت لنا منذ أربعة عشر قرناً من الزمان أسساً في علوم الطب الحديث لو اتبعناها وسرنا على نهجها لسلمنا من كثير من الأمراض الفتاكة. إن عدم نظافة الفم والأسنان ينتج عنه أمراض كثيرة تصيب الجسم كله. فتراكم فضلات الطعام بين الأسنان مرتع خصب للميكروبات التي تجد من الفم المناخ المناسب لها من وجود درجة الحرارة المناسبة والرطوبة لوجود اللعاب والغذاء على فضلات الطعام فتتكاثر.(17/476)
وأنواع هذه الميكروبات كثيرة منها ما يتعدى ويتفاعل مع المواد النشوية والسكرية وينتج مادة حمضية تؤثر على ميناء الأسنان التي تتكون بنسبة عالية من أملاح الكالسيوم فتذيبها وتذهب ببريقها وتكون حفرة أكثر ملاءمة لمعيشة الميكروبات التي تشتد فاعليتها بازديار عمق الحفرة وتراكم الفضلات ثم التأثير على مادة العاج التي تلي الميناء ونتيجة لتعفن المواد الغذائية الموجودة في الحفرة وينتج عن أكل السكريات وتناول الأشياء الساخنة والمثلجات لأن أعصاب السن تتخلل منطقة العاج، وإذا أهمل المريض العلاج فإن الحفر والتسوس يزداد عمقاً حتى يصل إلى لب السن وفي هذه الحالة تحدث آلام شديدة نتيجة لأن اللب يحتوي على العصب وأي ضغط عليه كذلك البرودة والسخونة تؤثر فيه تأثيراً كبيراً وفي هذه الحالة يتمتع المريض عن الأكل والضغط على المكان المصاب ونتيجة لوصول الميكروب إلى منطقة اللب فإنها تحدث به التهابات قد تكون حادة وتتحول إلى مزمنة بحيث ينتشر الإلتهاب بقناة اللب فإنها تحدث به التهابات بقناة اللب حتى تصل إلى أسفل الجذر تحت التهاب فمي في السن ويكون من نتائجه أن يحدث (خراجات) تحت السن تظهر في صوره ورم بالفك العلوي أو السفلي حسب منطقة السن المصاب إذا كان الإلتهاب حاداً ويصحب هذا الورم ألم شديد وارتفاع في درجة الحرارة وأحياناً ينشر الإلتهاب ويمتد إلى جزء كبير من الفك مما يعوق حركة المفصل الفكي ويجعل المضغ مستحيلاً نظراً لصعوبة فتح الفم ونتيجة ذلك فإن الغدد الليمفاوية الموجودة تحت الفك تتورم وتؤلم ونظراً لتواجدها على مقربة من اللوز فيشتكي المريض وكأنه مصاب بالتهاب اللوزتين وفي كثير من الأحوال يتحول الإلتهاب الحاد إلى مزمن فيحث تحت السن كيس يطل منه الميكروب كامناً إذا ضعفت مقاومة الجسم لأي سبب من الأسباب كالإرهاق أو نزلة برد ينشط الميكروب ويحدث خراجاً حاداً ومن مضاعفاته تسويس بعظام الفك نتيجة إهمال المريض للعلاج.(17/477)
لذلك فنظافة الفم والأسنان ورعايتها واجبة وضرورية ولو اتبعنا تعاليم ديننا القويم وسنة نبينا العظيم وحافظنا على نظافة الأسنان ونحن في كل يوم نؤدي خمس صلوات لله تعالى وفي كل وضوء لو استعملنا السواك وجعلناه يتحلل بين أسناننا ليزيل آثار الطعام لتجنبنا تسوس الأسنان وتغير رائحة الفم. كذلك فلقد ثبت علمياً بأن السواك به مواد طيبة تساعد على تطهير اللثة وتقويتها وسلامة أسناننا لذلك وجب علينا المحافظة على أسناننا بإتباع النصائح الآتية:
1- نظافة الأسنان بالسواك في كل صلاة.
2- نظافة الفم باستعمال الفرشاة والمعجون عقب كل وجبة طعام.
3- زيارة طبيب الأسنان على الأقل مرة كل ستة شهور.. زيارتك للطبيب سوف تكشف أي مرض مبكراً وبذلك يسهل العلاج.
اهتمامنا بصحة الفم والأسنان مهم لعملية مضغ الطعام وطحنه يحتاج لأسنان سليمة فبداية عمليات الهضم تبدأ في الفم فاللعاب يحتوي على انزيم يحول المواد النشوية إلى سكرية وطحن الطعام واختلاطه باللعاب ومضغه جيداً.. بواسطة الأسنان ليسهل عليه ويسهل عملية الهضم بالمعدة والأمعاء وكثير من أسباب سوء الهضم عدم مضغ الطعام جيداً نظراً لتلف الأسنان أو فقدانها. كذلك فالأسنان تساعد على النطق السليم بمخارج الألفاظ.
الأسنان مثبتة في عظام الفك بواسطة نسيج يتكون من أربطة تربط جذر السن وهي منطقة تسمى بالسمنت بعظام الفك. واللثة نسيج قرنفلي اللون يحيط بعنق السن ويجب الإهتمام باللثة فسلامة اللثة هامة لسلامة الأسنان حفاظاً عليها من الأمراض واستعمال السواك وأيضاً الفرشاة والمعجون بالطريقة الصحيحة يحافظ على سلامة اللثة ومن أخطر الأمراض التي تصيب اللثة هي مرض البيوريا والإهمال في علاجه يؤدي إلى فقد الأسنان ويعرض الصحة العامة للخطر.(17/478)
التسويس والبيوريا هما بمثابة بؤرة صديدية عفنة تنتقل منها الجراثيم والسميات إلى باقي أجزاء القسم.
البيوريا هي وجود جيوب صديدية حول الأسنان وهذه الجيوب التي تفرز الصديد ويبتلعها المريض مع طعامه وتصل للمعدة والجهاز الهضمي وتعرضه لأخطار شديدة منها قرحة المعدة. كذلك فأثناء عملية مضغ الطعام يكون على الأسنان المصابة بالجيوب بمثابة مضخة تدفع الميكروبات الموجودة بالجيوب والتي تصحب مرض البيوريا إلى مجرى الدم ووصول هذه الميكروبات داخل مجرى الدم له خطورته الشديدة خاصة على المصابين بأمراض في صمامات القلب أو تشوهات خلقية فيه لأنه ميكروب البيوريا له جاذبية خاصة بأمراض صمامات القلب وتشوهات خلقية وهذا يسبب روماتيزم القلب وأحياناً لا يحتاج الميكروب وسمومه الناتجة من البيوريا لضغط المضغ للوصول إلى مجرى الدم فمن الممكن أن يمتص سموم البيوريا في بطء شديد من حول الأسنان المصابة وتصل للدم وهذا يحدث طيلة النهار والليل ويعرض المريض للخطر. وأيضاً تؤثر هذه السموم على المفاصل كما أنها تؤثر على العينين وبعضها يسبب أنواعاً من الحساسية في الجسم وكثيراً ما وجدنا معظم المصابين بالآم المفاصل السبب هو إهمالهم اللثة والأسنان. كذلك ثبت أن الصديد الناتج من البيوريا يؤثر كثيراً على نسبة السكر في الدم ولذلك فإن علاج اللثة والأسنان كان في كثير من الأحوال سبباً وعاملاً من عوامل التحسن في التهاب المفاصل وآلامها وخفض نسبة السكر في مرض البول السكري.(17/479)
والبيوريا أنواع منها النوع الذي ذكرناه سابقاً وسببه موضعي وهو عدم العناية بالفم والأسنان واللثة والإهمال في العلاج ونوع آخر نادر ويصيب الإنسان في سنوات الشباب ويحدث من أسنان عامة تصيب الجسم كله. إن المصابين بالسكر ونقص الفيتامينات وأمراض الدم كالأنيميا والكيمياء والتهابات الكلي كثيراً ما يتعرض لمثل هذا النوع من البيوريا. كذلك الإضطرابات الهرمونية التي تحدث في فترة نمو الجسم وكذلك أثناء الحمل وعند بلوغ سن اليأس. فقد يكون الشخص مهتماً بأسنانه وفي هذه سليماً دائماً وعند الإصابة بأي مرض من تلك التي ذكرناها والتي تصيب الجسم تتآكل العظام المحيطة تآكلاً شديداً وبذلك يحدث تخلخل في الأنسجة الرقيقة للرباط الذي يربط تلك العظام بمادة السمنت الموجودة في جذر السن ويؤدي ذلك إلى أن تفقد الأسنان تماسكها وتبدأ في التحرك من مكانها وذلك يكون ظاهراً وواضحاً في الأسنان الأمامية. إن فقدان الأسنان للعظم المحيط بها يجعلها في حالة خلخلة ومن العجب في تلك الأمراض العامة التي تؤثر على الأسنان أن المريض لا يشعر بأي ألم أو التهاب باللثة ولا يشتكي من شيء سوى أن أسنانه بدأت تتحرك من مكانها وتتباعد عن بعضها البعض ويشتكي المريض من عدم القدرة على المضغ الجيد وأن الأسنان أصبحت حساسية للضغط نظراً لتحركها أو اللمس نظراً لانكشاف جذورها سبب طول السن. وحيث أن الجيوب في هذا النوع من البيوريا لا تتكون إلا في الأدوار الأخيرة من المرض وبعد مضي وقت طويل وهذا فعندما تبدأ الجيوب تكون سريعة جداً في عمقها لدرجة يصعب فيها العلاج وأحياناً يشكو المريض من أن أسنانه بدأت تتساقط بنفسها.(17/480)
فالعناية بصحة الجسم والإهتمام بالأسنان شيء هام لسلامة أبداننا فالمرض يسبب الكثير من المضاعفات وفقد الأسنان كذلك فإن الإهتمام والعناية والطب في استطاعتهما أن يزيل تلك المآسي وتمحوها محواً كاملاً زياراتك المبكرة لطبيب الأسنان سوف تكشف أي مرض في أسنانك وسوف يرشدك الطبيب ويفحصك ويكشف ما يراه ويفحصك بالأشعة إن لزم الأمر ذلك ويقوم بعلاج اللثة أو تنظيف التسويس واستعاضة الحفر بالحشو الملائم والمناسب لكل سن قبل أن يستحفل المرض ويزيد ويصبح خلع السن أو الأسنان لا محالة. كذلك فإن استعاضة الأسنان بدلاً من التالف مهم جداً وكثيراً ما يصاب الإنسان بالبيوريا نتيجة للإهمال وعدم عمل الإستعاضات الصناعية اللازمة ويجب أن تكون الأسنان الصناعة جيدة الصنع مناسبة لحالة المريض حتى لا تكون أيضاً سبباً في أمراض أخرى. التركيبات الصناعية تساعد على تكامل الأسنان وبذلك لا تكون هناك فرضه للأسنان المجاورة للأضراس المخلوعة في التحرك من مكانها لأن الأسنان عادة تتحرك في جهة المكان الحالي من الأسنان كذلك بالنسبة للأسنان المقابلة للأسنان المخلوعة بأنها أيضاً تتحرك نحوها فضلاً على أن هذه العملية تسبب الجيوب الصديدية لخلع الأضراس وعدم استعاضتها يلقى حملاً ثقيلاً على الأسنان الأخرى لقيامها بعمل أكثر. أيضاً هناك ملاحظة إنه في حالة عدم استعمال جانب من الفك فالأسنان الموجودة على هذا الجانب تتراكم عليها الرواسب الجيرية وعرضة للإصابة بالأمراض أكثر من الجانب المستعمل. فلنبحث عن الدواء وكل داء له دواء ولا بد أن نعالج أي مرض عام يصيب الجسم كالسكر مثلاً أو أمراض سوء التغذية ونقص الكالسيوم لأن هذه الأمراض تؤثر على جميع أعضاء الجسم بما فيها الأسنان وعلاجها وقاية من أمراض الأسنان أو على الأقل تخفف من شدة المرض..
أسأل الله لي ولكم وللمسلمين الصحة والخير والعافية..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..(17/481)
التدخين وأمراض القلب
لفضيلة الدكتور محمد علي البار
عضو الكلية الملكية للأطباء بلندن
يعتقد كثير من الناس أن تدخين السجائر يؤثر على الرئتين فحسب.. فلقد أصبح من المعلوم لدى العامة والخاصة أن السجائر تسبب سرطان الرئة.. ولكن قليلين هم الذين يعرفون تأثير السجائر على القلب والجهاز الدوري.
إن تأثير السجائر على القلب والجهاز الدوري يرجع إلى وجود مادتين سامتين في السجائر هما: النيكوتين وأول أكسيد الكربون.
فأما المادة الأولى وهي النيكوتين فهي مادة شديدة السمية. إذ تكفي الكمية الموجودة منه في سيجار واحد لقتل إنسان في أوج صحته إذا أعطيت له هذه الكمية بالوريد.. ومع هذا فإن أي مدخن يأخذ أضعاف هذه الكمية يومياً دون أن تقتله مباشرة.. فكيف يا ترى يتمكن الجسم من مواجهة هذه المواد الشديدة السمية. يستطيع الجسم بواسطة الإنزيمات أن يحول هذه المواد السمية إذا أخذت بالتدريج إلى مواد أقل سمية وأبطأ فاعلية.
يؤثر النيكوتين على القلب والجهاز الدوري عن طريق زيادة ضربات القلب كما تزداد الكمية التي يضخها القلب في كل ضربة. وهذا أحد أسباب وجيب القلب وخفقانه التي يعاني منها كثير من المدخنين.. والسبب في ذلك أن مادة النيكوتين تزيد من إفراز مادة الأدرينالين ومادة النور أدرينالين ... وهما المادتان المسئولتان عن زيادة ضربات القلب وانقباض الأوعية الدموية..
وهكذا يضطر القلب إلى زيادة عمله عند تدخين كل سيجارة وفي نفس الوقت تفل كمية الدم التي تغذي عضلة القلب وذلك لانقباض الشرايين التاجية التي تغذي عضلة القلب بالدم.. فالنيكوتين يسبب انقباضه هذه الشرايين التاجية كما يسبب أيضاً انقباض الأوعية الدموية في كافة أنحاء الجسم..(17/482)
وليس هذا فحسب وإنما يساعد - النيكوتين على تكوين الجلطات بتأثير مباشر على المواد التي تسبب تخثر الدم.. وفي نفخ انح على أن تلتصق ببعضها مكونة جلطة تسد مجرى الدم.. وتعتمد الإعراض على الوعاء الدموي الذي انسد بالجلطة فإذا كانت الأوعية الدموية للرجل هي التي انسدت فإن ذلك يسبب ألماً شديداً في الساق ثم ينتهي بالغرغرينا وبتر الساق أو الفخذ. وأما إذا كان الإنسداد في أحد الشرايين التاجية فإن ذلك يؤدي إلى جلطة القلب التي كثيراً ما تنتهي بالوفاة.
هذا باختصار تأثير مادة النيكوتين على القلب والأوعية الدموية فما هو تأثير أول أكسيد الكربون..؟
إن أول أكسيد الكربون هو غاز ينتج عن الإحتراق عندما تكون كمية الأكسجين قليلة.. واحتراق السجائر يؤدي إلى تكون غاز أول أكسيد الكربون بنسبة واحد إلى خمسة في المائة.. وخطورة هذا الغاز أنه شديد القابلية للإتحاد بالهيموجلوبين. (صبغة الدم الحمراء) والتي تحمل الأكسجين.. فينتج عن ذلك أن جزءاً كبيراً من الهيموجلوبين يتحد بأول أكسيد الكربون.. ويبقى جزء بسيط لحمل الأكسجين (غاز الحياة) . في الأنسجة والخلايا..وذلك يؤدي إلى الذبحة الصدرية وخاصة عند المصابين يتصلب الشرايين.. أو عند القيام بمجهود عضلي شديد.. أو حتى عند هيجان العواصف واشتعال الغضب.
إن تدخين عشرين سيجارة يومياً يؤدي إلى حرمان الجسم من خمسة عشر في المائة من الهيموجلوبين.. إذ تصبح هذه الكمية متحدة مع أول أكسيد الكربون ولا يمكن الإستفادة منها في حمل الأكسجين.
ولقد اكتشف أن لهذا الغاز تأثير في زيادة ترسيب الكوليسترول على جدر الأوعية الدموية مما يساعد على سرعة تكون تصلب الشرايين وبالتالي الجلطات..(17/483)
هكذا يتبين لك باختصار ما تفعله السجائر بالقلب والأوعية الدموية وفي آخر تقرير للكلية الملكية للأطباء الذي نشر قبل بضعة أسابيع في لندن ذكر أن 000ر31 رجل و8000 امرأة قد لاقوا حتفهم نتيجة جلطة القلب في عام 1974.. وجميع هؤلاء ما بين الخامسة والثلاثين والرابعة والستين ويرجع التقرير وفاة 9500 شخص من هؤلاء إلى التدخين مباشرة.. أما عدد الذين ظلوا على قيد الحياة ولكن حياة ملؤها الأسقام والأدواء فقد بلغوا مئات الألوف.
ويبلغ عدد الذين أصيبوا بجلطات المخ عشرات الآلاف سنوياً وكثير منهم يلاقي حتفه في الحال ولكن من يبقى يكون أشد تعاسة ممن مضى إلى العالم الآخر فذلك قد أراح واستراح. أما من بقي فهو للعذاب والآلام والعناء لا يكاد يرفع يده إلا بمعونة ولا يخطو خطوة إلا بالإستناد إلى غيره. فهو في عنت ومشقة هو ومن معه..
وأهون عليه من كل هذا العذاب أن يبادر إلى هذه الأفعال التي بين يديه فيقذفها بعيداً عنه.. ليتمتع بصحته وشبابه.. فقد أثبت الطب أن كل عشر سجائر تفقدك ساعة من عمرك كل يوم وتضيف لك عشرات الساعات والأيام والشهور والسنين في التعاسة والأمراض والأسقام. ولا بديل لك إلا أن تحزم أمرك وتعزم عزمك أكيدة على ترك هذه السجائر دون رجعة. وأسأل ربك العون والتوفيق فإنه جدير بأن يهبك العون إذا لجأت إليه صادقاً. والله يتولاني وإياكم.(17/484)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمته، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جرئ! .. فقد قيل، ثم أمر به، فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ! فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ .. قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: هو جواداً! .. فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار ". (رواه مسلم)(17/485)
ليس كل ما في النهج من أمير المؤمنين
عباس محجوب
أورد الرضى في نهج البلاغة وصف الرجل الكامل ونسبه إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بتحريف وزيادة والزيادة قوله:"وكان يفعل ما يقول ولا يقول ما لا يفعل، وكان إن غلب على الكلام لم يغلب على السكوت وكان على أن يسمع أحرص منه على أن يتكلم وكان إذا بدهه أمران نظر أيهما أقرب إلى الهوى فخالفه وهذه المعاني وردت في مكان آخر من كلام ابن المقفع. وأورد ابن قتيبة في عيون الأخبار وصف الرجل الكامل مقتضباً من كلام ابن المقفع، ونسبه للحسن بن علي مع تحريف. ولكن بألفاظ ابن المقفع وأضاف إلى قوله: "وكان إذا غلب على الكلام لم يغلب على السكوت. وكان إذا عرض له أمران لا يدري أيهما أقرب إلى الحق نظر أقربهما إلى هواه فخالفه "وهذه الجملة وردت في اليتيمة بحسب روايتنا هكذا: "وإذا بدهك أمران لا تدري أيهما أصوب فانظر أيهما أقرب إلى هواك فخالفه فإن أكثر الصواب في خلاف الهوى".
وترجح أن عزو هذا الكلام إلى علي بن أبي طالب أو إلى الحسن بن علي هو من فعل من أضافوا على كلام أمير المؤمنين ما ليس منه سامحهم الله، فإن نص عبارة ابن المقفع معلنة عن نفسها بأنه عرف رجلاً هذه صفاته الحسنة فوصفه، ولا يعقل أن يأخذ كلاماً لغيره ويستحل نسبته إليه خصوصاً إذا كان من الكلام المأثور المعروف صاحبه، ثم إن اليتيمة اشتهرت قبل أن يؤلف نهج البلاغة بنحو قرنين ونصف. ويؤيد قولنا هذا ظهور التصنع ماثلاً للعيان، ومن التصنع إدماج سجعات في هذه الجملة الجميلة، حاشا أمير المؤمنين أن يسف في كلامه إلى مثلها، وهو من أكبر الفصحاء.(17/486)
لا جرم أن نهج البلاغة زيدت فيه زيادات كثيرة بعد عهد الرضى أيضاً، وهو الذي قال إنه جمعه من كلام علي، والحال أن أكثره من كلام فصحاء الشيعة وغيرهم بدليل الإختلاف العظيم في نسخه. وقد اعترف ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة بأن ما عزى إلى أمير المؤمنين هو من كلام غيره من الحكماء لكنه (كالنظير لكلامه والمضارع لحكمته!) قال:"وإن الغرض بالكتاب الأدب والحكمة فإذا وجد ما يناسب كلامه ذكره على قاعدته في ذكر النظير "وإن الرضي قال:"إن روايات كلامه - أي كلام أمير المؤمنين - تختلف اختلافاً شديداً ". إذا عرفنا هذا ساغ لنا أن نقول إن صفة الرجل الكامل الذي عرفة ابن المقفع قد استحسنها بعض المتأخرين فأدمجوها في الكتاب الذي كسروه على كلام الخليفة الرابع. وقد وقعت لصاحب النهج حكم جوز ضمها إلى كلام أمير المؤمنين وهي أشبه بأن تكون لغيره. ومن ذلك ما نسبه لعلي وهو لابن المقفع "للمؤمن ثلاث ساعات، ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يرم فيها معايشه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذتها مما يحل ويجمل، وليس للعاقل أن يكون شاخصاً إلا في ثلاث: مرمة لمعاش، أو خطوة في معاد، أو لذة في غير محرم "، فإن هذه الحكمة وردت في الأدب الصغير لابن المقفع وعلى صورة أجمع وأوسع. من كتاب (أمراء البيان) ج2 لمحمد كرد علي رئيس المجمع العلمي بدمشق.
الأمور التي تتنازع فيها الأمة، في الأصول والفروع، إذا لم ترد إلى الله والرسول لم يتبين فيها الحق، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينة من أمرهم، فإن رحمهم الله، أقر بعضهم بعضاً، ولم يبغ بعضهم على بعض، كما كان الصحابة في خلافة عمر وعثمان يتنازعون في بعض المسائل الإجتهادية، فيقر بعضهم بعضاً، ولا يتعدى ولا تعتدي عليه، فإن لم يرحمهم وقع بينهم الإختلاف المذموم، فبغى بعضهم على بعض، إما بالقول، مثل تكفيره وتفسيقه، وإما بالفعل مثل حبه وضربه وقتله.(17/487)
والذين امتحنوا الناس بخلق القرآن كانوا من هؤلاء، ابتدعوا يدعه، وكفروا من خالفهم فيها، واستحلوا منعه حقه وعفويته.
شرح الطحاوية ص579.
إن المسلم يرفض - بحكم إيمانه بالله وعلمه بأن ما أنزل على محمد هو الحق - كل منهج للحياة غير منهج الله، وكل مذهب اجتماعي أو اقتصادي، وكل وضع كذلك سياسي، غير المنهج الوحيد، والمذهب الوحيد. والشرع الوحيد الذي سنة الله وارتضاه للصالحين من عباده ومجرد الإعتراف بشرعية منهج أو وضع أو حكم من صنع غير الله، هو بذاته خروج من دائرة الإسلام لله فالإسلام لله هو توحيد الدينونة له دون سواه.
إن هذا الإعتراف فوق أنه يخالف بالضرورة مفهوم الإسلام الأساسي فهو في الوقت ذاته يسلم الخلافة في الأرض (للعمى) الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض.
في ظلال القرآن سورة الرعد ص2076.
النتيجة
أيها الأمراء ورؤساء الدول ويا علماء الإسلام:
أما حان الوقت لكي تتعرفوا على حقيقة الوضع في العالم الإسلامي، إن الملايين من المسلمين الآن يعانون من الجهل والفقر والقهر يحتاجون إلى المساعدة، وإلى الدواء.. ثم إنهم يحتاجون إلى من يخلصهم من التشنج الفكري.
إن هذه السماء تظلل إلى جوار الجماعات الإسلامية المثقفة الواعية، جماعات أخرى شريرة تسعى إلى تشوية التراث والمبادئ المشتركة وتحاول النيل من شعار إعلاء كلمة الله. إلى متى سوف تسمحون لهذه القوة الشريرة أن تمارس أعمالها؟ إن أكثر هؤلاء المساكين قد ضلوا الطريق لأنهم لم يجدوا من يرشدهم إلى جادة الصواب.(17/488)
إن الذي يعرف الشمس لا يستغني عنها بضوء الشموع. إني أتهم الدول التي يحجب نور شمس التعليم عن أبنائهم وتسلمهم إلى الأيدي الأجنبية لتعلمهم وتنشئهم وفق هواها. على البلاد الإسلامية أن تتحمل مسؤولية عقول وقلوب أبنائها وأن تضع حولها درعاً من القيم يحجبها عن سهام الأعداء.
فيما أمراء المسلمين ورؤساء دولهم وعلماء دينهم. إن الشباب المسلم ينتظر منكم أن تمدوا أياديكم بالدواء، بالمعرفة والحكمة.. وبالإخلاص في سبيل إعلاء كلمة الله. عليكم أن تهزوا هذه الكتل من أشباه النيام وأن توقظوهم من سباتهم العميق هذا، افعلوا هذا بعيداً عن كل اعتبارات السياسة والتنافس على السلطة. هذه الكتل من البشر التي تتميز بالإخلاص والصدق تنتظركم.
عليكم أن تولوا للأخوة الإسلامية مكانة فوق كل حسابات السياسة وأن تعلموا أن هذه الأخوة إذا كانت صادقة فإنها سوف تعم بالخير العميم على كل الدول الإسلامية ولكن لا يعزبن عن أذهانكم أن قوى الشر العمياء والأهواء الشخصية والمنافع الطائفية سوف تعمل من أجل الوقوف أمام هذه الأخوة.
لقد سيطر الغرب بغزوه الفكري وتقدمه التكنولوجي على العالم الشرقي واسترقه من الناحية الإجتماعية والفكرية. ولكن يجب أن لا ننسى أن شعلة المعرفة التي يحملها الغرب الآن كانت في أيدينا من قبل.
لا توجد في أوروبا حضارة فرنسية أو ألمانية أو نمساوية، ولكن توجد هناك حضارة واحدة الحضارة الأوروبية المسيحية. كذلك فان الحضارة الإسلامية بغض النظر عن الخصائص القومية لشعوبها كانت تعتبر ذات صبغة واحدة متوحدة.(17/489)
وكما ذكرت منذ البداية، فإن على العالم الإسلامي أن يدرك أن دعاوى الإستقلال السياسي والحدود الجغرافية يجب أن لا تتحول إلى معاول هدم في صرح الأخوة الإسلامية. ولكن علينا أن نؤمن بهذا إيماناً صادقاً يشبه إيمان أولئك المجاهدين الأوائل الذين كان الإخلاص هو شعارهم الوحيد في عهد البعثة النبوية. لو فعلنا هذا لأصبحنا كالقلعة الصامدة الراسخة التي تنكسر عليها أعتى هجمات الأعداء.
فيا أمراء المسلمين وحكامهم ومثقفيهم:
هذه هي أيام قلائل ويقتر بالعام 1400 ها هي الفرصة تواتيكم لتحقيق هذا الهدف الذي يصبوا إليه العالم الإسلامي. لماذا لا نستقبل هذا العام باحتفالات مشتركة تكون أول خطوة تشييد صرح الأخوة الإسلامية.
على مر قرون طوال تغافلت كنيسة روما الغربية الكاثوليكية عن ضعف الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية ولم تحرك ساكناً أيام انهيارها ولم تسارع بمعاونتها حين استصرختها بسبب الخلاف المذهبي الذي كان قائماً بين الكنيستين. ولكن بعد مرور 500 عام على انهيار الكنيسة البيزنطية نجد كنيسة روما تسعى إلى رأب الصدع القديم وأن تجمع شمل النصارى في العام أجمع. ونجد البابا بولص السادس يزور استانبول في عام 1967 ويصلى في آياصوفيا التي كانت كنيسة في العهد البيزنطي.
إن هذا التظاهر بالتقدير الذي تظهره الكنيسة الكاثوليكية للأرثوذكسية بعد مضي قرون طويلة من الخلاف والشقاق لجدير بأن يكون موضع اهتمام المسلمين وأن يفهموا أنه خطر عليهم.
إن آياصوفيا هذه التي زارها البابا بولص السادس وصلى فيها كانت كنيسة في عهد البيزنطيين ولما فتح الأتراك القسطنطينية صلى السلطان محمد الفاتح أول صلاة جمعة في هذا المكان بعد أن حوله إلى مسجد. وهكذا يثأر العالم الصليبي من عالم التوحيد بعد مضي خمسة قرون.
كتاب (من الرق إلى السيادة)
لمؤلفته سامحه أبي ويردى
تعليق(17/490)
الواقع أن الخلاف بين الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية استمر ما يقارب تسعة قرون منذ عام 1054م عندما خرجت الكنيسة البيزنطية عن طاعة الكرسي البابوي في روما.
وتعنى كلمة (كاثوليك) في اليونانية القديمة (الجامعة) لتغطية الكنيسة لأماكن عدة في العالم بينما تعنى كلمة (أرثوذكس) مستقيم الرأي..
والخلاف الأساسي بينهما يرجع إلى رفض الأرثوذكس الإعتراف بالبابا رئيساً للكنيسة وعدم اعترافهم بعصمة البابا عن الخطأ.
وبالرغم مما ذكر من الأسباب الداعية لزيارة البابا في الشهور الماضية لتركيا المسلمة وأهمها ما تواجهه الكنيسة الأرثوذكسية من صعوبات نتيجة انتمائها وولائها إلى اليونان الدولة المتحاربة مع تركيا في قبرص، وتناقص أتباع الكنيسة في تركيا حيث كان عددهم عام 1940 في القسطنطينية (اسطنبول) 166 ألفاً وتناقص إلى أقل من ستة آلاف بالرغم من هذه الأسباب المعلنة فإن السبب الأول هو مواجهة المسيحية الصليبية للمد الإسلامي والصحوة الإسلامية الناجحة في العالم بعامة وتركيا بخاصة والإتفاق على السبل والوسائل الكفيلة بإيقاف هذا الزحف ونشر المسيحية في العالم الإسلامي خاصة البلاد التي تسمح حكوماتها بذلك مثل السودان ومصر وغيرهما.(17/491)
مختارات من الصحف
أفكار لزوجة دايان
زوجة دايان السابقة روث دايان تعيش الآن في واشنطون وعمرها 61 سنة، وقد تخلى عنها دايان، وتقول أنها لن تعود إلى إسرائيل أبداً وتعتقد أن إسرائيل اسم تاريخي ليس له وجود واقعي، وأن إسرائيل تنقصها الأسس الحقيقية لقيام دولة، وأن العرب مهما طال الزمن سيستطردون فلسطين، وقد فضلت ألا يعيش أحفادها السبعة داخل إسرائيل حتى لا يتشبعوا بأفكار التوسع الصهيوني في أراضي الغير.
الفرق بين العرب والإنجليز
يقول ناحوم غوّلدمان في كتابه (التناقض اليهودي) :"أن من سوء حظ إسرائيل أن يكون أعداءها العرب وليس الإنجليز فإن الإنجليز شعب ينسى بسرعة فرغم أنهم فقدوا في مدى جيل واحد إمبراطورية ضخمة إلا أنهم سرعان ما نسوا تلك المأساة ولم يعودوا يفكرون فيها.
أما العرب: فإن من السذاجة أن نعترف بأنهم سينسون اغتصابنا لأراضهم في فلسطين أو الجولان وسيناء ولقد أثبتوا خلال عقود طويلة أنهم سيظلون يحاربون حتى يستعيدوا أرضهم ".
(الداعي) الهندية
غطرسة مناحيم بيغن
صرح مناحيم رئيس وزراء إسرائيل في مقابلة صحيفة إن الذي ستبحث من خلاله مشكلة الضفة الغربية سيشير إلى الفلسطينيين بالكلمات العبرية "عرب أرض إسرائيل "
وأضاف أنه تلقى وعداً من الرئيس كارتر بموافقة على هذا الإصطلاح وأعلن إذا لم نستعمل ولن نستعمل اصطلاح الشعب الفلسطيني حتى ولو كان هذا الإصطلاح مكتوباً في النص الإنجليزي.
(الداعي) الهندية
الإيمان والوعي(17/492)
ولا يصح الإقتصار على تحريك الإيمان، وإثارة العاطفة الدينية في نفوس الشعوب والجماهير، بل يجب أن تضم إليه تنمية الوعي الصحيح وتربيته والفهم للحقائق والقضايا، والتمييز بين الصديق والعدو، وعدم الإنخداع بالشعارات والمظاهر، فقد رأينا أن الشعوب التي يضعف فيها هذا الوعي أو تحرمه بتسلط عليها - رغم تمسكها بالإسلام وحبها له - قائد منافق، أو زعيم ماكر أو عدو جبار، فيصفق له الشعب بكل حرارة ويسير في ركابه، فيسوقها بالعصا سوق الراعي لقطعان من الغنم، لا تعقل ولا تملك من أمرها شيئاً، ولا يمنعها تمسكها بالإسلام وحبها له من أن تكون فريسة سهلة أو لقمة سائغة للقيادات اللادينية أو المؤامرات ضد الإسلام.
(الرائد) الهندية.
مآسي المسلمين في الهند
كان حزب المؤتمر الوطني يملك مقاليد الحكم مدة طويلة فتخطت الإضطرابات الطائفية خلالها الأرقام القياسية ولم يتغير الوضع منذ أن تربع على العرش زعماء حزب جاناتا، وحدثت مأسى مماثلة محزنة، وأحداث دامية في وارانسى، وسنبهل، وبرنام بت، وما حدث على جراه منا بعبد الذي تسبب في مقتل عدد كبير، وإصابة آخرين بجروح، وترك مئات من العائلات دون مأوى والذي يزيد الطين بلة هو اشترك. رجال الشرطة في قتل المسلمين وإبادتهم، وبتغيير أدق رعايتهم لمثل هذه الأعمال والأحداث وتشجيع الطائفتين الإرهابيين على ممارسة مثل هذه الأعمال المشبوهة وأحداث مثل هذه المعارك الدامية.
فإلام تنزل هذه النكبات بالمسلمين؟ وحتام تبقى الأيدي الفاتكة الأثيمة تفتك بالأبرياء المعصومين؟ على الحكومة المركزية أن تتخذ موقفاً جدياً بالنسبة إلى هذه الأعمال وإلا فتنتظر مصيرها المحتوم. ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
جريدة (الداعي) الهندية
احتفال اليهود(17/493)
احتفل اليهود بمرور مائة عام على بعث لغتهم العبرية من موتها على يد ابن يهوذا، وقد نادى ابن يهوذا بتعلم اللغة العبرية وإحيائها والتكلم بها وتطهيرها من الكلمات الأجنبية.
وفي الإحتفال نعى أحد المسئولين اليهود على أجهزة الإعلام الإسرائيلية استعمالها لكلمات أجنبية كما دعا الشعب اليهودي إلى التكلف بالعبرية الفصحى وعدم استعمال آية لغة أو كلمات أجنبية.
تعليق: يفعل اليهود هذا بلغتهم الميتة التي لا تحوى شيئاً من التراث سوى توراتهم المحرفة ولكنهم يريدونها رابطة تقوى الصلة بين أبناء اليهودية بينما يتساهل العرب بلغتهم التي شرفها الله بكتابه الكريم ووعت تراث الشعوب الإسلامية وحضارتها فنجد كثيراً من الناس يميل إلى إدخال الكلمات الأجنبية فيها، وكثير من الحكومات لا تتخذها لغة للتعليم في المراحل الجامعية، وبعضهم يسعى إلى وأدها ليمحو العلاقة بين المسلمين ودينهم. فجل من صحوة جديدة.
الدعوة- الرياض.
مخترع قنبلة النيوترون اليهودي يقول
"لا يهمني أن يموت الناس جميعاً! "
فنبلة النيوترون: هي أبشع أشكال الأسلحة المدمرة التي توصل إليها علماء الشر، فهي عند ما تنفجر تتحرر طاقتها النووية وتتحول إلى نيوترونات مشعة تنتشر في الهواء وتقضي على كل كائن حي حولهما بشراً كان أم حيوانات أم نباتاً. دون أن تلحق أذى بالأبنية والمنشآت.
ومخترع هذه القنبلة التي أعلنت وزارة الدفاع الأمريكي عن امتلاكها لأسرار صنعنها، هو صهيوني يهودي يحمل الجنسية الأمريكية يدعى (صموئيل كوهين) ، وكان كرمين هذا قد ساهم في صنع أول قبلة ذرية أمريكية.
ومن ميزات قنبلة النيوترون أن تأثيرها ينقشع بعد وقت قصير بعد أن تكون قد قضت تماماً على أي شكل من أشكال الحياة في المناطق التي يراد مهاجمتها، مما ييسر احتلال تلك المناطق بدون التعرض لأية مقاومة.(17/494)
وبعد هذه المقدمة المبسطة عن قنبلة (النيوترون) ، ننتقل إلى الحديث عن مخترعها الصهيوني اليهودي الحاقد (صموئيل كوهين) .
عندما سئل هذا المجرم اليهودي في مقابلة صحفية نشرت في الولايات المتحدة وسببت (إحراجاً شديداً) ، للإدارة الأمريكية عن شعوره إزاء قتل ملاين البشر والحيوان والنباتات بسبب قنبلته، أجاب وهو يضحك بصوت عال:
"لماذا أشعر بالرثاء لهؤلاء الناس الذين ستقتلهم قنبلتي، لا تنسى أني يهودي، ولقد قاسينا نحن اليهود الكثير من العذاب، ولم نر أحداً من هؤلاء البشر الذين تريدني أن أحزن عليهم، من يسارع إلى الدفاع عنا نحن اليهود، أو إنقاذنا من الموت والعذاب والإضطهاد. فكيف تريدني أن أفكر بإنقاذ هؤلاء الناس من الموت. إني لن أهتم لو مات الناس جميعاً ما دمت أنا على قيد الحياة ".
ويتابع اليهودي المجرم قائلاً:" أن مهمتي هي قتل الناس وإبادتهم كلياً، وسأتابع القيام بها، ولن أكترث لاحتجاجات الناس وصياحهم، لأنهم لم يكونوا يكترثون بما أصابنا نحن اليهود من إبادة واضطهاد. ولقد سمحت لي الفرصة الآن للإنتقام من كل هؤلاء الناس ".
وهذا دليل جديد، يؤكد ما ورد في قرآننا العظيم من أن هؤلاء اليهود هم أحقد شعوب الدنيا وأشدهم قسوة وإفساداً، في الأرض.
بسم الله الرحمن الرحيم:
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} المائدة 78، 79.
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} البقرة 74.
{وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} . المائدة 64.
(الرائد) الهندية
عودة إلى الإسلام(17/495)
ولا بد من عودة الإسلام كله إذا أردنا أن نحيا أن ونرشد، عودة عملية وعلمية نظرية وتطبيقية، لا نفرط في ذرة من ديننا لا نتنازل عن شعبة من شعب الإيمان ولا عن كلمة من القرآن..
إن الأديان القديمة اضمحلت وتلاشت بسبب هذا التفريط العارض، ولعله بدا يسيراً ثم تفاحش مع الزمن حتى أتى على هذه الأديان من القواعد.
ولن نسمح أبدا أن يرد ديننا هذا المصير، ويترك هذا شيئاً وذلك شيئاً، ويتعلل هذا بالتطور، وذاك بالمصلحة، ولا تزال الأعذار تتوالى والتعاليم تتهاوى حتى يسير الإسلام أثراً بعد عين!!
لن نقبل أبداً أن يتعرض الإسلام لهذا المسلك الكفور في الأخذ والرد، فأجزاء الدين كعناصر الدواء لا يتم الشفاء إلا بها كلها ومن ثم فلا تنازل عن شيء منها..
أن تحريف الكلم عن مواضعه آفة تصيب الأديان على امتداد الزمان.. ولهذا التحريف مظاهر ثلاثة..
1- التدخل في الوحي الإلهي بالحذف والزيادة، اتباعاً للهوى أو غلواً في الدين.
2- التأويلات الفاسدة والتفاسير الباطلة لما ورد من نصوص.
3- تعطيل العمل بطائفة من الأوامر والنواهي وتوارث هذا العطل من جيل إلى جيل حتى تنشأ خلوف قاصرة تظن ما أهمل قد نسخ وباد..
ومن حسن حظنا نحن المسلمين أن كتابنا محفوظ بعناية الله، فالأصل الذي نحتكم إليه قائم دائم، ومن حسن حظنا أن الإجماع منعقد على أركان الإسلام والأجهزة الرئيسية أي تتفرغ عنها شعبه وقوانينه هنا وهناك.
وإنه لسهل على المصلحين بعد ذلك أن يقاوموا المعطلين لحدود الله والمنحرفين عن صراطه المستقيم، وأن يتمسكوا بالدين كله علماً وتطبيقاً، دراسة وسلوكاً، نهج حياة خاصة وعامة.(17/496)
الإسلام نظام شامل مظاهر الحياة جميعاً، فهو دولة ووطن، أو حكومة وأمة، هو خلق وقوة، أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء.
(الدعوة) القاهرية.
الشريعة الإسلامية هي الملاذ
وكان مما أعلنته - وهو كثير - عن مجال الإجرام والجريمة ما يلي:
أن معدل الجريمة في بلد واحد يطبق الشريعة الإسلامية وهو المملكة العربية السعودية بالمقارنة بمثله في البلاد الغربية التي لا تطبق هذه الشريعة كان على النحو التالي:
من بين كل مليون نسمة من السكان يرتكب الجريمة:
- في السعودية 22 شخصاً فقط.
- في فرنسا 32 ألف شخص.
- في ألمانيا الغربية 42 ألف شخص.
- في فنلندا 63 ألف شخص.
- في كندا 75 ألف شخص.
وإحصائية المنطقة الدولية هذه تدل قاطعة على ما تقوم به الشريعة الإسلامية في تهذيب النفوس وتطويع البشر بما يحقق الأمن والإستقرار للعباد والبلاد.
ولعل هذا هو السبب الرئيسي الذي حدا بباكستان أن تسرع الخطى على درب تطبيق الشريعة الإسلامية ومن بعدها جاء دور مصر والسودان.. على أن يكون (تقنين) أحكام الشريعة الإسلامية - أي وضعها في صيغة مواد وقوانين - في المسائل المدنية والجنائية والأحوال الشخصية مكتملاً في شهر ربيع الثاني من هذا العام إن شاء الله وأن يعرض على المؤتمر الثاني لوزراء العدل العرب الذي يعقد مؤتمره الثاني في هذا التاريخ بسلطنة عمان..(17/497)
ولعل هذا العدل الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه هو ما حدا بعلماء القانون من ست عشرة دولة أجنبية اشتركوا في ندوة التشريع الإسلامي التي عقدت بالرياض في العام الماضي إلى أن يعلنوا على الملأ صيحتهم ونداءهم لكل شعوب العالم بالدعوة إلى الأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية لإنقاذ المجتمعات من دوامة الجريمة والإنحراف.
فيا أيها المسلمون اعتصموا بحبل الله المتين الذي تحسدنا عليه أمم لم تهتد إلى الإسلام.. واعلموا أن {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم} .
الدعوة - الرياض
أطفال الولايات المتحدة مهددون بأمراض القلب
قال تقرير طبي صدر في نيويورك أخيراً أن أطفال الولايات المتحدة يمرون بأصعب أزمة صحية عرفتها البلاد حتى الآن.
وأشار التقرير الذي أعده فريق من الأطباء في جامعة ميتشغان إلى أن الأطفال ربما كانوا معرضين للإصابة بأمراض القلب وهم في السادسة من أعمارهم، وأن هناك احتمالاً كبيراً بأن يصاب عدد كبير منهم بذبحات قلبية وهم في هذا السن.
وقال البروفسور توماس جيليان الذي أشرف على وضع التقرير:"أن على الأهل مسئولية كبيرة في منع حدوث مثل هذه الكارثة. وأن المطلوب منهم العمل على رعاية الأطفال بطريقة أفضل ".
وذكر البروفسور:"أن أحد الأسباب الرئيسية التي قد تؤدي إلى إصابة البلاد بهذه الكارثة يعود إلى أن أطفال هذه الأيام أكثر جموداً من أي وقت مضى، فهم لا يذهبون إلى مدارسهم إلا بالسيارات أو الباصات، ولا يركضون ولا يمارسون الرياضة إلا في أوقات قليلة جداً، وبالتالي لا يمارسون الدور المرسوم في الأساس لطفولتهم ".
وأشار التقرير إلى أن الجلوس في البيت والتفرج على التلفزيون بهذا القدر من الوقت له نتائج سلبية أيضاً، إضافة إلى الإكثار من تناول الحلويات وكل ما يروق لهم.(17/498)
وذكر التقرير أن مثل هذه الأمور تؤدي إلى ارتفاع نسبة الكولسترول عند الأطفال إلى جانب ارتفاع آخر في ضغط الدم، وأن المستقبل يبدو غامضاً إذا ما استمر الوضع على حاله.
(الشرق الأوسط)
وشدد التقرير على وجوب ممارسة كل أنواع الرياضة لأنها تحمي الجسم من كل الأمراض المحتملة.
وقال البروفسور جيليان في التقرير أنه أجرى سلسلة اختبارات على 400 طفل، فأثبتت النتائج أن أكثر من 200 طفل منهم معرضون للإصابة بذبحات قلبية خلال أي وقت.
وعلم أمس أن التقرير نقل إلى وزارة الصحة لإجراء دراسة شاملة حوله وإقرار الخطوات المناسبة بشأنه.
(المجلة) ..
هذه طرائق الغرب التي خدع بها الكثيرون من المسلمين حتى أصبحوا لا يرون خيراً منها لتربية أطفالهم.. فهل يسمعون هذه الشكوى فيصححوا سلوكهم مع صغارهم، ويبعدوهم عن مخاطر السهر على التلفاز إلى الساعات الأخيرة من الليل؟....
وأخيراً: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ..} فيربوا أطفالهم على الأصول التي شرعها الله؟(17/499)
التبشير في أفريقيا
تخطط المؤسسات الكنسية في العالم أن يكون عدد النصارى في إفريقيا 344 مليون نسمة عام 2000م مقابل 322 مليون مسلم وفي عام 1978م تم إنشاء مركز رئيسي لشمال إفريقيا باسم (معهد تنصير المسلمين للبحث والتدريب) والغاية الرئيسية لهذا المعهد إيصال تعاليم يسوع إلى المسلمين.
وسائل الدعوة إلى الباطل:
اتجه التبشير المسيحي إلى استعمال الإذاعة في الفترة الأخيرة لسببين هامين:
1- الإتصال بأعداد كبيرة من الناس مدة الإرسال.
2- اختراق موجات الإذاعة لكل الحواجز والحدود ووصولها إلى الآذان مما جعل الإذاعة الكنسية أداة فعالة في العالم الإسلامي.
وقد بدأ البث الإذاعي للبرامج التنصيرية عام 1920م في الولايات المتحدة، وعدد الإذاعات التنصيرية بلغت اليوم خمسين إذاعة منها إذاعات تخصص إرسالها إلى المناطق الإسلامية وعلى رأسها محطتي دبليو آر (التي بدأ بثها من طنجة ثم انتقلت إلى (مونت كارلو) عام 1960م وتوجد اليوم محطات تابعة لها في البحر الكاريبي وقبرص وسوار بلاند وغوام وسرلانكا كما توجد في كثير من البلاد الإفريقية الإسلامية ومن ضمنها السودان المسلم. والمسلمون لا زالوا يستعملون الوسائل البدائية ويعتمدون على الجهود الفردية.
اليهود والإسلام(17/500)
كتب حاييم هيرتزوغ السفير اليهودي السابق لدى الأمم المتحدة في صحيفة (الجروساليم بوست) مقالاً جاء فيه أن معلومات كثيرة عن طبيعة الإسلام وعن القوى الإسلامية الفعالة النشطة كانت متوفرة لدى زعماء الغرب وخاصة أولئك المسؤولون عن الأمن في واشنطن وأن جهوداً كثيرة بذلت لكبت نشاط الحركات الإسلامية المتعصبة ولكن الأحداث الأخيرة في إيران وتركيا وأفغانستان، وعودة الإتجاه الإسلامي ليمارس نشاطه على نطاق واسع في مصر قد أظهرت أن جميع الأساليب التي اتبعت لكبت الحركات الإسلامية كانت أساليب فاشلة على المدى البعيد رغم ما حققته من نجاح لفترات قصيرة.. وقال:
"إننا نشهد اليوم ظاهرة غريبة ومثيرة للإهتمام وتحمل في ثناياها الشر للمجتمع الغربي بأسره وهذه الظاهرة هي عودة الحركات الإسلامية التي تعتبر نفسها عدوة طبيعية لكل ما هو غربي ".
مذابح المسلمين في الهند:
ناشد المجلس الأعلى للمساجد الدول الإسلامية أن تضع حداً للأعمال العدوانية التي يتعرض لها المسلمون في الهند. وقال بيان إذاعة راديو الرياض. إن الهجمات على المسلمين وممتلكاتهم في بعض أجزاء الهند تشكل انتهاكاً لحقوق الإنسان والقيم الإسلامية وضرب البيان مثلاً بما حدث في مدينة (جمشيد بور) الواقعة جنوب شرق الهند حيث قتل 500 مسلم وجرح ألف آخرون فيما أحرقت منازل أربعة آلاف مسلم وطرد 40 ألف مسلم من منازلهم، واتهم البيان السلطات الهندية بتدمير مسجد في المدينة.
في الصومال:
ما زالت حكومة سياد برى تناصب الإسلاميين العداء، فيوم كان مع الشيوعيين أحرق العلماء المسلمين ويوم صار مع الأمريكان زاد بطشه بالشباب الإسلامي الذي تكاثر بصورة ملحوظة في المدارس والمعاهد الصومالية. وفي سياق الإجراءات التي اتخذها فقد منع الطلاب من قراءة تفسير القرآن، وأمر بطرد كل طالبة محجبة، وكذلك طرد كل طالب تثبت ممارسته للشعائر الإسلامية.(18/1)
(جريدة النور)
المجلة:
ويشن سيادته حرباً شعواء على لغة القرآن وحرفها العربي الذي يربط بين المسلمين، ومع ذلك لا يزال عضواً في جامعة الدول العربية.
في المغرب:
شهدت بلادنا خلال الشهور الماضية محاكمات كان غالبية المتهمين فيها من رجال الشرطة والدرك وغيرهم من الذين تضع الحكومة في أيديهم أمر الحفاظ على الأمن والنظام في وطننا.
وقد أشار وكيل الحق العام في مرافعته أثناء محاكمة ضباط شرطة القنيطرة إلى ذلك فقال: "المحكمة تحاكم نخبة من موظفي الأمن، منهم عميدان وضابط ممتازون ومفتشون، هذه النخبة التي أعطاها المشروع واجب صيانة حقوق المواطنين نرى أن عناصر تحال على المحكمة من أجل جرائم هم أنفسهم مكلفون بمحاربتها.."
(جريدة العلم)
وتعقب جريدة النور على ذلك بقولها: السبب الأول في هذا الإنحراف هو غياب شرع الله.. أما السبب الثاني فهو عدم التقليد أثناء التوظيف بالإستقامة والخلق الإسلامي. إن علينا أن نراجع أمر تقلد الأمانة فلا تسند المهمات إلا للمتمسك بدينه..
في سورية:
تنفيذاً لتوجيهات حزب البعث نقلت الحكومة أعداداً كبيرة من مدرسي الدين الإسلامي إلى أعمال أخرى لا تمت إلى اختصاصاتهم، وذلك تمشياً مع مخططات الحزب لإبعاد الإسلام عن ميدان التربية والتعليم.. وكانت الخطوات الأولى في هذا السبيل تكوين ما يسمى (طلائع البعث) , (شبيبة الثورة) و (الإتحاد النسائي) ثم ما يسمى بتأنيث التعليم ويراد به تكليف المدرسات تعليم الذكور الذين هم في طور المراهقة.. وقد بدأت ثمرات هذا التدبير مزيداً من انحدار في مستوى التعليم الذي وصل إلى أدنى ما عرف حتى الآن.
وطبعي أن النتيجة هي: إنشاء الجيل الذي لا صلة له بقيم الإسلام.
في العراق:(18/2)
نقلت وكالات الأنباء أن حكومة العراق ستقدم للنظام الماركسي القائم في أفغانستان مبلغ خمسة ملايين دولار مساعدة له من أجل التغلب على مصاعبه الإقتصادية، ولمواجهة الثورات الإسلامية التي يقوم بها المجاهدون لاستنقاذ دينهم ووطنهم من مخالب الشيوعية الباغية.
في وطننا المغتصب:
صرح مسئول إسرائيلي بأن هناك مداً إسلامياً بين عرب (إسرائيل) الذين يبلغون نصف مليون.
ويقول المسئول المذكور:" إن التحول من القومية إلى الدعوة الدينية التي يمثلها علماء شباب يثير قلقاً، ولا يستبعد أن يكون لهم ارتباطات بحركات إسلامية متعصبة ".
تعزية غريبة:
بعث السيد ياسر عرفات ببرقية إلى كميل شمعون - صاحب الآثار المشورة في تخريب لبنان- وتقتيل اللاجئين يعزيه فيها بشقيقه فؤاد فيها يقول:"عز علينا فقد أخيكم الغالي.. تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته ".
وما ندري أي جنة يريد، والله سبحانه يقول: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ..} .
(جريدة النور)(18/3)
المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية
بالمدينة المنورة يعقد دورته السابعة
بناء على موافقة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية عقد المجلس الأعلى للجامعة دورته السابعة في المدة من 1 إلى 3 ربيع الآخر 1399هـ برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز نيابة عن صاحب السمو الملكي الرئيس الأعلى للجامعة وحضر الإجتماع أعضاء المجلس الأعلى:
1- فضيلة الشيخ أبو بكر جومى
رئيس قضاة شمال نيجيريا
2- معالي الدكتور إسحاق الفرحان
رئيس الجامعة الأردنية سابقاً
3- فضيلة الدكتور أكرم ضياء العمري
رئيس قسم الدراسات العليا بالجامعة
4- معالي الدكتور بكر عبد الله بكر
مدير جامعة البترول والمعادن
5- سعادة الدكتور سعود الجماز
وكيل وزارة المعارف
6- معالي الشيخ صالح الحصين
7- سعادة الدكتور عبد السلام الهراس
رئيس قسم اللغة العربية في جامعة محمد بن عبد الله بفاس المغرب
8- معالي الدكتور عبد الله التركي
رئيس جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
9- فضيلة الدكتور محمد أديب صالح
رئيس قسم الحديث في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
10- فضيلة الدكتور محمد بن حمود الوائلي
عميد كلية الشريعة بالجامعة
11- معالي الشيخ محمد بن علي الحركان
الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي
12- فضيلة الشيخ محمد قطب
الأستاذ بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة المكرمة
13- فضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي
مدير الشعائر الدينية بتونس
14- سعادة الأستاذ منذور المهدي
عميد كلية التربية بجامعة الخرطوم
15- فضيلة الشيخ يوسف جاسم الحجي
وزير الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت(18/4)
16- فضيلة الشيخ عمر بن محمد فلاته
الأمين العام
17- عبد المحسن بن حمد العباد
نائب رئيس الجامعة
وقد وافق المجلس على إحداث شعب جديدة في قسم الدراسات العليا. كما وافق على ترحيل كل طالب من خارج المملكة في العطلة الصيفية إلى بلاده ذهاباً وإياباً على حساب الجامعة مع استمرار صرف مكافأة العطلة. وأيد اقتراح فتح كلية الشريعة تابعة للجامعة في مدينة لاهور في باكستان. ووافق على المخطط العلمي للجامعة ليبنى عليه المخطط العام للجامعة والخطة الخمسية الثالثة للجامعة وعلى ميزانية الجامعة للعام المالي القادم 99/1400هـ. وأقر التقرير السنوي للعام الدراسي الماضي. كما اعتمد لائحة تشجيع النشاط العلمي بالجامعة.(18/5)
مع الهدي النّبوي
منزلة السنة في التشريع الإسلامي
فضيلة الشيخ محمد أمان بن على الجامي
الرسالات السماوية التي كلف الله بها رسله المختارين من البشر، هي الرابطة بين السماء والأرض؛ ولقد كانت تلك الرسالات متحدة في أصولها، إذ كانت كلها تنادي أول ما تنادي {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [1] ، ولكنها كانت متنوعة أو مختلفة في الشرائع والمناهج إذ كان كل رسول يُبعث إلى قومه، وبلسان قومه، على ضوء منهج معين، وتشريع خاص محدود واستمر الوضع هكذا، لحكمة يعلمها ربنا سبحانه، فترة طويلة من الزمن.(18/6)
ولما أراد الله أن يختم رسالته إلى أهل الأرض، اختار من بين عباده نبيه المصطفى، ورسوله المرتضى، محمد بن عبد الله، النبيّ العربي الهاشمي، ليرسله إلى الناس كافة، وقد خلقه الله لهذا الغرض، وربّاه تربية خاصة، وأولاه عنايته، وأدّبه فأحسن تأديبه، وبعد تمهيدات وإرهاصات مرّت عليه في طفولته وصباه، بعثه الله إلى الناس كافة، وأنزل عليه كتابه الأخير الذي ليس بعده كتاب (القرآن الكريم) ، وهو كتاب الله المهيمن على الكتب التي قبله، ووصفه بأنه كتاب {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرج به الناس من الظلمات إلى النور {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ؛ وقد تكفل الله بحفظ هذا الكتاب {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [2] ؛ ووكل تبيانه إلى رسوله الأمين محمد عليه الصلاة والسلام {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [3] ، وشهد له أنه في بيانه هذا، وأداء أمانة الرسالة {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} ولما كان هذا شأنه، وهذه مكانته، أوجب الله طاعته، وحرّم معصيته، إذ يقول عز من قائل: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [4] ، ويقول سبحانه، وهو ينفي عمن لا يحكمونه، أو يرون في أنفسهم حرجاً وغضاضة أو توقفاً عن حكمه، ولا يسلمون تسليماً كاملاً عن اقتناع، وانشراح نفس، يقول الله في حق هؤلاء: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [5] ؛ هكذا تكشف هذه الآية الكريمة دعاة الإيمان – بالرسول، دون عمل بسنته، أو رضىً بحكمه؛ فالآية – كما ترون – تنفي عنهم الإيمان، وتعريهم أمام الناس، لئلا ينخدع ويظن،(18/7)
أن الإيمان بالرسول يتم بمجرد دعوى الإيمان، والقول باللسان؛ وتأتي في هذا المعنى آية أخرى، تهدد أولئك المدعين المخالفين عن أمره بالفتنة والعذاب الأليم: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [6] ، وقد فسر بعض أهل العلم الفتنة هنا، بالزيغ والإلحاد، لقاء رده لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، إذا تكرر منه ذلك، والله أعلم؛ وبهذه الأساليب المتنوعة يدعو القرآن الناس إلى الإيمان بالسنة، والعمل بها، وأنها هي والقرآن، هما الأساس حقاً لهذا الدين. وإذا كان الإيمان بالرسول أصلاً من أصول الإيمان، فإن الإيمان بسنته، جزء لا يتجزأ عن الإيمان به، عليه الصلاة والسلام، لأنه صاحب السنة، ولأن الإيمان – كما يعرفه الإمام ابن القيم:"هو حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام علماً، والتصديق به عقداً، والإقرار به نطقاً، والانقياد له، محبةً وخضوعاً، والعمل به ظاهراً أو باطناً، وتنفيذه، والدعوة إليه بحسب الإمكان ".
وكما له في الحب في الله والبغض في الله، والعطاء لله والمنع لله، وأن يكون الله وحده معبوده؛ والطريق إليه، تجريد متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، وتغميض عين القلب عن الإلتفات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالله التوفيق.
وبعد: فأنت ترى أن الإمام ابن القيم رحمه الله، يجعل تجريد متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام، طريقاً إلى حقيقة الإيمان.(18/8)
ولا غرابة في ذلك، بل هو أمر منطقي، كما ترى؛ ولو أنك زعمت بأنك تحب العالم الفلاني وتقدره، وله في نفسك كل تقدير احترام، ومع ذلك كنت لا تقدر كلامه، ولا تعيره اهتماماً، ولا ترفع رأساً لحديثه، فطبيعي أن يصارحك إنسان ما مالي أراك – يا فلان – تدعي محبة – العالم الفلاني – بل التفاني في حبه، ومع ذلك لا تعير أدنى اهتمام لكلامه وحديثه وعلمه؟!! هذا تساؤل لابد منه، عقلاً ومنطقاً، ولست أدري ماذا يكون جوابك؟!! هل تقول في الجواب: إنني في الواقع لا أكنّ له محبة، وإنما هي مجرد إدعاء لظروف ما، ولا أعني بالمحبة أكثر من ذلك! !
أو تقول: إنني أحبه وأقدره حقاً، ولكن الهوى والشيطان، ولكن القرناء، ولكن الجفاء الذي أصاب قلبي. كل ذلك حال دون الانتباه لكلامه، والانتفاع بحديثه، والتأسي له؛ ولابد لك من أحد الجوابين فأي ذين تقدم وتختار؟!! فأحلاهما مرّ، والله المستعان، والأمر بالنسبة للرسول وسنته أعظم وأخطر وكيف لا؟!! ، ونحن إنما عرفنا الله وآمنا به وعبدناه وحده، بدعوته التي بلغتنا في طيات سنته، التي حملها إلينا الثقات من علماء الصحابة ومن بعدهم؛ الذين قيضهم الله لها، وأكرمهم بخدمتها، فبها بينوا القرآن وفسروه، وعلى ضوئها بنوا أحكام الشريعة حكماً حكماً. وقعدوا القواعد، وضبطوا الضوابط، التي يرجع إليها عندما تنزل نازلة، وتحدث حادثة، وتجدّ الأمور..
وكل من يدعي الإيمان بالله وبرسوله، ثم يتجرّأ فينكر سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، أو ينكر حجيتها، أو إفادتها العلم اليقيني، إنما يتناقض تناقضاً، ويضطرب في كلامه إضطراباً، ويتخبط في تصرفه تخبطاً؛ فليقرأ- إن شاء- قول الحسن البصري رحمه الله: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتخلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل "، ولا عمل يقبل دون موافقة السنة "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد" [7] وسوف تنجلي الحقائق، يوم تبلى السرائر، والله المستعان.(18/9)
سوف ترى إذا انجلى الغُبار
أفرس تحتك أم حمار
وبعد هذه المقدمة القصيرة، نأخذ في الحديث في صلب الموضوع، مستعينين بالله وحده فنقول:
المنزلة هي المكانة والمرتبة، والمراد بها هنا: المرتبة التي تشغلها السنة النبوية في باب التشريع، حيث لا يستغني عنها بوجه من الوجوه، إما مستقلة أو مبنية للكتاب، إذ لابد من عرض كثير من آيات الأحكام عليها، لتفسير المجمل، وتقيد المطلق، وتخص العام، إلى غير ذلك من الأغراض التي تحققها السنة، والدور الذي تمثله – إن صح مثل هذا التعبير.
السنة في اللغة
السنة في اللغة: هي الطريقة: سواء كانت محمودة أو سيئة، ويشهد لهذا المعنى، حديث جرير بن عبد الله البجلي: "من سنّ سنة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. ومن سنّ سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " [8] رواه مسلم في صحيحه؛ ومعنى الحديث: أي من أتى بخصلة حسنة، فله أجرها وأجر من تأسى به وعمل مثل عمله، لأنه الفاتح لباب الخير، والدال عليه بعمله؛ وكذلك الحال بالنسبة للسيئة، لأن من أتى بخصلة سيئة، وتأسى به غيره، فعليه وزرها ووزر كل من تأسى به بعده، لأنه فاتح لباب الشر، وداعٍ إلى الشر بفعله ومبادرته.
ويقول أهل اللغة: السنة: السيرة، حسنة كانت أو قبيحة.
السنة في لسان علماء الشريعة
يختلف علماء الشريعة في معنى السنة اختلافاً لفظياً لا جوهرياً:
فيطلق علماء الأصول لفظ السنة على أقوال الرسول عليه الصلاة والسلام وأفعاله وتقريره - وربما أطلقوها على أعمال الصحابة، كعمل أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما في جمع القرآن، وعمل عمر رضي الله عنه في تدوين الدواوين، ونحو ذلك، وهو مذهب جماعة من أهل الحديث.(18/10)
وقد يطلق الفقهاء السنة على الطريق المسلوكة في الدين. في غير وجوب أو لزوم، ومن عباراتهم المعروفة في تعريف السنة: أن السنة ما يُثاب فاعله ولا يعاقب تاركه.
ويطلق جمهور علماء الحديث، السنة على ما يقابل البدعة، فيقال: فلان على السنة، إذا كان عمله وتصرفاته الدينية، وفق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يقال: فلان على بدعة، إذا كان مخالفاً لهديه وسنته عليه الصلاة والسلام؛ ومن إطلاقات السنة عندهم أيضاً: أنها قد تشمل صفاته الحميدة، وأخلاقه الكريمة، وسيرته العطرة، ويمكن أن يشهد لهم على هذا الإطلاق، قول أم المؤمنين خديجة- رضي الله عنها "كلا والله، لا يخزيك الله أبداً: إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق " [9] .
وكذلك ما كان عليه الصلاة والسلام، معروفاً بين قومه، حتى قبل مبعثه من الصدق والأمانة، لأن كل [10] ذلك يستفاد منه في إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام، ورسالته، وهي مرادفة للحديث، كما ترى بهذا الاعتبار.
حاجة الإنسان إلى الرسول والرسالة
الإنسان، ذلك الحيوان المختار، ولكنه تحفه الشهوات، وتكتنفه متطلبات الغرائز، وتجتاحه الأهواء، وهو أشبه ما يكون بالمريض مثلاً، لا يجد سبيلاً للخلاص مما حل به من مرض، والفوز بالبرء والعافية، إلا بطبيب ناصح؛ فإن ائتمر بأمره فعزف عما تميل إليه نفسه، وامتنع عن الشهوات، ومتع ولذّات، سلم من الهلاك، وإلا فقد ألقى بنفسه إلى التهلكة، وهذا يعني: أن حاجة الإنسان إلى الرسول ورسالته، وما تشتمل عليه سنته أمسّ من حاجته إلى الطبيب والدواء - ويتضح ذلك بإجراء مقارنة ملموسة، بعيدة عن الفلسفة.(18/11)
وذلك أن غاية ما يصيب الإنسان، إن أعرض عن الطبيب، ولم يحيى قلبه بما فيها من الوحي الإلهي، كتاباً وسنة، فتعتريه الأسقام والآفات التي لا برء منها، ويموت قلبه ولا يرجى بعده الحياة، وتنضب ينابيع السعادة، وتغشاه أمواج غامرة متلاطمة من الشقاء والتعاسة، ويغادره اليقين، ولا تعود الحياة والسعادة إليه إلا بالعودة إلى نور الوحي والاستضاءة بنوره، والله المستعان.
السنة صنو القرآن
ويتضح مما تقدم، أن ملخص معنى السنة، ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير ... وأن السنة من الوحي الإلهي: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [11] . كما يدل على ذلك من السنة قوله عليه الصلاة والسلام: " ألا، وإني أوتيت القرآن، ومثله معه " [12] . فالسنة إذاً صنو القرآن، وهي وحي مثله، وملازمة له، ولا تكاد تفارقه، ولا يكاد القرآن يُفهم كما يجب أن يفهم، إلا بالرجوع إلى السنة في كثير من آياته، ولا سيما آيات الأحكام.
معنى الوحي
الوحي: هو الإعلام الخفي والسريع، ولذلك يطلقون على الرموز والإشارات الخفية أنها من الوحي، عند أهل اللغة! ومنه الإلهام: "وهو إلقاء المعاني الخاصة في النفس؛ والوحي إلى غير الأنبياء من هذا القبيل، كالوحي إلى النحل: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [13] ، وأما في لسان الشرع: إعلام الله لأنبيائه بطريق خفية أخبار السماء، وما يريد أن يبلغه من التعليمات والتوجيهات والتشريع، بحيث يحصل لديهم علم، قطعي، لا يتطرق إليه أدنى شك، بأن ذلك من عند الله سبحانه، فيكون مصدر الوحي: هو الله وحده، فلا وحي إلا من الله؛ ومورد الوحي هم الأنبياء، فلا يكون الموحى إليه إلا نبياً، وهكذا يتضح أن المعنى الشرعي أخص من المعنى اللغوي كما ترى.
أقسام الوحي(18/12)
إعلام الله لأنبيائه ما يريد إعلامهم، يكون بطرق ثلاثة، وقد أشار القرآن إلى هذه الطرق، حيث يقول عز وجل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [14] .
أولاً
: المراد بقوله تعالى {إِلاَّ وَحْياً} : الإعلام، الذي هو الإلهام: وهو إلقاء المعنى المراد في قلب نبي من أنبيائه، حتى يفهمه جيداً، ويقطع بأنه من عند الله.
ثانياً
: الكلام من وراء حجاب، كلاماً حقيقياً، يقطع بأنه سمع كلام ربه الذي كلمه كيف شاء، دون أن يراه، كما حصل لنبي الله وكليمه موسى عليه السلام في أول بدء الوحي، حيث قال: {نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [15] ، حتى سمع سماعاً حقيقياً، ولكن دون رؤية؛ وكذلك عند مجيئه للميقات، حيث يقول الله سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [16] ؛ وقد حصل هذا النوع لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ليلة المعراج، عندما فرض الله عليه وعلى أمته الصلوات الخمس، والقصة معروفة ولا حاجة لسردها.
ثالثاً
: إعلام الله لنبي من أنبيائه ما يريد تبليغه بواسطة الملك "جبريل "، وهذا النوع هو الغالب والأكثر وقوعاً، وقد كان جبريل يأتي النبي عليه الصلاة والسلام بأشكال وصور مختلفة، إذ كان يأتيه أحياناً، متمثلاً بصورة الصحابي الجليل (دحية الكلبي) ، وربما جاء بصورة أعرابي، وقد رآه مرتين على صورته الحقيقية: مرة عند غار حراء، حيث كان يتحنّث قبل الوحي، ومرة عند سدرة المنتهى في ليلة الإسراء والمعراج؛ وقد لا يرى النبي عليه الصلاة والسلام الملك أحياناً، وإنما يسمع عند قدومه دوياً كدوي النحل، وصلصلة شديدة، فتعتريه حالة روحية غير عادية.(18/13)
تؤخذ هذه المعاني كلها أو بعضها، من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها، ذكره البخاري في صحيحه: "أن الحارث بن هشام، سأل رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام:" أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليّ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال؛ وأحياناً يتمثل لي الملك فيكلمني فأعي ما يقول "، قالت عائشة رضي الله عنها:" ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقاً ".
ومما لا يختلف فيه اثنان دارسان للإسلام: أن ديننا مبني على أصلين اثنين:
الأصل الأول: أن يعبد الله وحده دون أن يشرك به غيره بجميع أنواع العبادات، وقبل أن يصرف شيء منها لغير الله؛ وذلك معنى قول المؤمن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.(18/14)
الأصل الثاني: أن يعبد الله بما شرعه على لسان رسوله وخليله محمد عليه الصلاة والسلام، وهو معنى قول المؤمن: وأشهد أن محمداً رسول الله، وصحة الأصل الأول تتوقف على تحقيق الأصل الثاني، ومعنى تحقيقه نوجزه في صدق متابعة رسول الله عليه الصلاة والسلام لأن إتباعه دليل محبة الله عز وجل، الذي محبته ومراقبته والأُنس به، غاية سعي العبد وكده، وهي أيضاً جالبة لمحبة الرب عبده ومغفرته له، إذ يقول عز من قائل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [17] . وذلك لأنه رسوله المختار ليبلغ دينه الذي شرعه لعباده، وهو المبلغ عنه أمره ونهيه وتحليله وتحريمه، فالحلال ما حلله، والحرام ما حرّمه والدين ما شرعه وارتضاه، والرسول صلى الله عليه وسلم واسطة بين الله وبين عباده في بيان التشريع، وما يترتب عليه من وعده ووعيده، وتبليغ وحيه الذي اشتمل على ذلك كله قرآناً وسنة، وقد كلف بذلك تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [18] . وبقوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [19] .
وقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِم} ، وقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [20] .
إن هذه الآية من الذكر الحكيم، تبين بوضوح وظيفة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي القيام بواجب التبليغ، والبيان والدعوة إلى دين الله وإلى شرعه الذي شرعه الله تعالى لعباده وارتضاه لهم.(18/15)
وهذه الأوامر الربانية الثلاثة، التي تقدم ذكرها في طي الآيات السابقة، تحقق غرضاً واحداً، وهو دلالة الخلْق على الطريق الموصلة إلى الخالق سبحانه، وهو راض عنهم، حتى يكرمهم في دار كرامته، لقاء ما قاموا به من أداء ما أوجبه الله عليهم في هذه الدار، من تحقيق العبودية، ليصدق في حقه عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [21] ، حقاً إنه رحمة مهداة، ونعمة مسداة للبشرية جميعاً، ولكن الشأن أن يرفع أتباعه رؤوسهم لدراسة سنته كما يجب، مكتفين بها، ليفهم كتاب الله على ضوئها، متجردين لها؛ تلك السنة التي هي ذلكم البيان، وذلكم البلاغ، وتلكم الدعوة.
وبعد: فلا يشك مسلم مهما انحطت منزلته العلمية، وضعفت ثقافته، وضحلت معرفته أن الرسول الكريم، محمداً عليه الصلاة والسلام، بلغ ما نزل إليه من ربه، وهو القرآن الكريم، ذلك لأن الإيمان بأن الله نزّل القرآن على رسوله الذي اصطفاه محمد عليه الصلاة والسلام، وأنه بلّغ ما نزل إليه، كما نزل، وأنه بين للناس ما احتاج إلى بيان، وأجاب على أسئلتهم واستفساراتهم في موضوعات كثيرة، ودعاهم إلى الأخذ بما جاء به من ربه من الوحي، ولم يفْتُر عن الدعوة إلى ذلك حتى التحق بالرفيق الأعلى إن هذا المقدار من الإيمان، أصل هذا الدين، وأساسه الذي ينبني عليه كل ما بعده من واجبات الدين وفرائضه، وإذا كنا نؤمن هذا الإيمان – ويجب أن نؤمن – فأين نجد بيانه الذي يتحقق به، امتثاله عليه الصلاة والسلام لتلك الأوامر الربانية {بَلِّغْ} {لِتُبَيِّنَ} {ادْعُ} الجواب: نجد ذلك في سنته المطهرة، ولا نجد في غيرها، تلك التي قيض الله لها من شاء من عبادة، وهم جهابذة علماء المسلمين، فحفظوها وصانوها من كل مختلف، وكل معنى مزيّف ليصدق قوله تعالى:(18/16)
وقوله الحق وخبره المصدق: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [22] ، والذكر المنزل المحفوظ: هو القرآن بالدرجة الأولى، وقد حفظه الله بما شاء، وتدخل السنة في عموم الذكر في الدرجة الثانية عند التحقيق وإمعان النظر، وقد حفظها الله تعالى بأولئك الجهابذة العلماء، كما قلنا آنفاً، والسنة التي يتم بها ذلك البيان المطلوب: هي أقواله وأفعاله وتقريراته [23] .
السنة هي الحكمة
وقد ذكر الله الحكمة في عديد من آيات الكتاب العزيز، مقرونة بالكتاب، ومما لا شك فيه أن المراد بالحكمة في تلك الآيات المشار إليها كلها: السنة النبوية.
ومن تلكم الآيات قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [24] ، وقوله تعالى: س {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة} [25] ، {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [26] ، وقوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [27] ، وقوله سبحانه: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} [28] ، والآيات في هذا المعنى كلها تعطف الحكمة على الكتاب عطفاً يدل على المغايرة طبعاً.(18/17)
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: فرض الله على الناس اتباع وحيه وسنن رسوله عليه الصلاة والسلام. وقال رحمه الله في رسالته المشهورة:"فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت من أرضاه من أهل العلم بالقرآن يقول:"الحكمة سنة رسوله "ثم قال الإمام رحمه الله معلقاً على هذا القول:"وهذا أشبه ما قال والله أعلم "ثم علل ذلك قائلاً:"لأن القرآن ذكر وتبعته الحكمة، وذكر الله منَّتَهُ على خلقه، بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز- والله أعلم- أن يقال: الحكمة هاهنا غير سنة رسول الله، وذلك أنها مقرونة مع كتاب الله، وأنه افتراض طاعة رسوله، وحتم على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول فرض، إلا لكتاب الله، ثم سنة رسوله عليه الصلاة والسلام "، إلى أن قال: "وذلك لما وصفنا من أن الله جعل الإيمان برسوله مقروناً بالإيمان بالله وسنة رسوله، مبينة عن الله معنى ما أراد ثم قرن الحكمة بكتابه، واتبعها إياه، ولم يجعل لأحد من خلقه غير رسوله عليه الصلاة والسلام " [29] .
وقد نقل البيهقي عن الإمام الشافعي عدة نقول في هذا الصدد نختار منها الآتي:
نبذة من كلام أهل العلم في مكانة السنة وثبوت حجيتها
1- قال البيهقي: قال الإمام الشافعي رحمه الله: "وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أوجه:
أحدها
: ما أنزل الله فيه نص كتاب، فشرح رسول الله عليه الصلاة والسلام بمثل نص الكتاب.
الثاني
: ما أنزل فيه جملة كتاب، فبين رسول الله عن الله معنى ما أراد بالجملة، وأوضح كيف فرضها عاماً أو خاصاً، وكيف أراد أن يأتي به العباد.
الثالث(18/18)
: ما سنّ رسول الله عليه الصلاة والسلام مما ليس فيه نص كتاب، فمنهم من قال جعله الله له بما افتراض من طاعته، وسبق علمه من توفيقه لهن ورضاه أن يسنّ فيما ليس فيه نص كتاب، ومنهم من قال: لم يسنّ سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب كتبيين عدد الصلاة وعملها على أصل جملة فرض الصلاة وكذلك ما سنّ في البيوع وغيرها من الشرائع، لأن الله تعالى ذكره قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [30] وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [31] ، فما أحل وحرم، فإنما بين فيه عن الله، كما بين في الصلاة؛ ومنهم من قال: بل جاءته به رسالة الله، فأثبتت سنته بفرض الله تعالى؛ ومنهم من قال: كل ما سنَّ، وسنته هي الحكمة التي ألقيت في روعه من الله تعالى ". انتهى كلام الشافعي.
وقال الشافعي في موضع آخر:"كل ما سنّ فقد ألزمنا الله تعالى اتباعه، وجعل اتباعه طاعته، والعدول عن اتباعه معصيته، التي لم يعذر بها خلقاً، ولم يجعل له من أتباع سنن نبيه مخرجاً ".(18/19)
قال البيهقي:"باب ما أمر الله به من طاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، والبيان أن طاعته طاعته "، ثم ساق الآيات التالية: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [32] ، قال عز من قائل: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [33] إلى غيرها من الآيات البينات التي مضمونها أن طاعة رسوله هي طاعة له تعالى، وأن معصيته معصية له تعالى، ثم أورد البيهقي حديث أبي رافع قال: قال رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا ألقينّ أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه يقول: لا أدري؟!!! ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه " أخرجه أبو داود والحاكم، ومن حديث القدام بن معدي كرب قال: إن النبي عليه الصلاة والسلام حرّم أشياء يوم خيبر منها الحمار الأهلي وغيره، ثم قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: " يوشك أن يقعد رجل على أريكته، يتحدث بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال إستحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرّم رسول الله مثل ما حرم اللِّه " [34] ، ثم قال البيهقي،: "وهذا خبر من رسول الله عليه الصلاة والسلام، عما يكون بعده من ردّ المبتدعة حديثه، فوجد تصديقه فيما بعد "؛ ويقول الإمام البيهقي في هذا الصدد:"ولولا ثبوت الحجة بالسنة، لما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام في خطبته بعد تعليم من شهده أمر دينهم: "ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع ".(18/20)
ثم أخرج البيهقي بسنده عن شبيب بن أبي فضالة المكي:"أن عمران بن حصين رضي الله عنه ذكر الشفاعة، فقال رجل من القوم: يا أبا نجيد، إنكم تحدثوننا بأحاديث لم نجد لها أصلاً في القرآن!! فغضب عمران فقال للرجل: قرأت القرآن كله؟!! قال: نعم. قال: هل وجدت فيه صلاة العشاء أربعاً، ووجدت المغرب ثلاثاً، والغداة ركعتين، والظهر أربعاً، والعصر أربعاً؟!! قال: لا. قال: عمن أخذتم ذلك؟!! ألستم عنا أخذتموه؟ وأخذناه عن النبي عليه الصلاة والسلام؟!! ثم قال: أوجدتم في القرآن من كل أربعين شاة، شاة؟!! وفي كل كذا بعير، كذا، وفي كل درهم كذا؟!! "إلى آخر ذلك الحوار الحاد الذي أفحم فيه الصحابي الجليل ذلك السائل، الذي تجرأ فسأل ما ليس له، فاستحق التوبيخ والتأديب وفي الوقت نفسه، يدل على مدى ما يكنه سلفنا الصالح، من تقديرهم للسنة النبوية، والذود عنها، ومحبتها، وما من شك أن محبة سننه من محبته عليه الصلاة والسلام، ومحبته من أسس الإيمان، كما لا يخفى؛ والمحبة الصادقة، إنما تتمثل في الاهتمام بسنته علماً وعملاً، وتقديرها والإحتجاج بها، والذود عنها بكل سلاح ممكن ومتيسر.
مكانة السنة عند الخلفاء(18/21)
السنة النبوية بعد ثبوتها وصحتها، تتمتع عند المسلمين، قديماً وحديثاً، بما يتمتع به القرآن الكريم من حيث وجوب العمل بها، والرجوع إليها عند التنازع، وترك الرأي من أجلها، فلنستمع قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا المعنى: إذ أخرج البيهقي بسنده عن عمر رضي الله عنه قوله وهو على المنبر:"يا أيها الناس: إن الرأي إنما كان من رسول الله مصيباً، لأن الله تعالى كان يريه، وإنما هو منا الظن والتكلف ". لهذا نرى عمر رجاعاً في كل ما يبلغه حديث رسول الله في حادثة ما، ونازلة علمية جديدة، لا علم له فيها بسنة ثابتة، وإذا ثبتت السنة بادر، دون أدنى توقف، إلى العمل بالسنة والرجوع إليها ومن شواهد ما ذكرنا ما يرويه ابن المسيب، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان يقول:"الدية للعاقلة – ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً، حتى أخبره الضحاك بن سفيان: أن رسول الله عليه الصلاة والسلام، كتب إليه أن يورث امرأة أُشيْم الضبابي، فرجع إليه عمر "أخرجه أبو داود [35] .
ومنها ما أخرجه البيهقي عن طاووس، أن عمر قال:"أذكر الله امرءاً سمع عن النبي عليه الصلاة والسلام في الجنين شيئاً؟ فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال:"كنت بين جاريتين لي – يعني ضرتين – فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، فألقت جنيناً ميتاً، فقضى فيه رسول الله عليه الصلاة والسلام بغرة "، فقال عمر: لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا، إن كدنا نقضي فيه برأينا ". يقول الإمام الشافعي وهو يعلق على هذه الأخبار، وموقف عمر من السنة: قد رجع عمر عما كان يقضي فيه، لحديث الضحاك بن سفيان، فخالف حكم نفسه، وقال في الجنين، إنه لولم يسمع هذه السنّة، لقضى فيه لغيرها، وقال:"إن كدنا نقضي فيه برأينا ".(18/22)
ومنها، ما أخرجه الشيخان من طريق ابن شهاب عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، أن عمر خرج إلى الشام، فلما جاء "سَرْعْ " [36] ، بلغه أن الوباء قد وقع بالشام، فأخبره عبد الرحمن بن عوف، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:"إذا سمعتم به بأرضٍ، فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرضٍ، وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً "، فرجع عمر من "سرع "قال ابن شهاب:"وأخبرني سالم بن عبد الله بن عمر، أن عمر إنما انصرف بالناس من حديث عبد الرحمن بن عوف ".
ومنها ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت:" لم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس، حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله أخذها من مجوس هجر ".
هذا بعض ما أثر عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وله مواقف أخرى كثيرة ومماثلة، وهو موقف كل صحابي من الخلفاء وغيرهم، وهاك بعض مواقف الخليفة الأول، أبي بكر الصديق، رضي الله عنه:
عن قبيصة بن ذؤيب قال:"جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، لتسأله عن ميراثها، فقال لها أبو بكر: ما لك في كتاب الله شيء، وما أعلم لك في سنة نبي الله شيئاً، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال له المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله عليه الصلاة والسلام، فأعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال، فأنفذه لها أبو بكر ".(18/23)
هكذا نتبين من هذا الإستعراض السريع لنصوص أهل العلم ومواقفهم في مختلف العصور، تلك النصوص التي لم نستوعب حتى ثلامَّها؛ نتبين أن الأمة مازالت، ولن تزال متفقة على أن السنة النبوية يجب أن تكون لها مقام معلوم في بيان الأحكام، وأنها حجة قائمة بنفسها، وأنه يجب الرجوع إليها، إذا ثبتت، ولا يجوز الحكم بالاجتهاد والرأي مع ثبوتها، وأنه قد ثبتت بها الأحكام، لولم يرد بها الكتاب، هذه من ناحية، ومن ناحية أخرى، أنها بيان للقرآن، وتفسير له، ومفصّلة ما أجمل فيه، وهذه المعاني كلها محل إجماع عند من يعتد بأقوالهم، ولا نعلم أحداً خالف هذه القاعدة إلا الزنادقة وغلاة الرافضة الذين لا يتأثر الإجماع بمخالفتهم، بل لا يستشارون إن حضروا، ولا يُسأل عنهم إذا غابوا، لأنهم فارقوا جماعة المسلمين ونابذوهم، واتبعوا غير سبيل المؤمنين، بمواقفهم العدائية لأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ذلك الموقف الذي أدى إلى رد أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام - المصدر الثاني للتشريع الإسلامي- بدعوى أنها رواية قوم كافرين؛ ومن باب ذر الرماد في العيون- عيون السذّج طبعاً- قالوا: نحن نعمل بالقرآن، ونقتصر عليه، وهذا كلام لا ينطلي على أولى النُهى من طلاب العلم، وأهل الإيمان، والله الموفق.
لابد من الرجوع إلى السنة لفهم عديد من الأحكام
إن الدارس لكتاب الله والسنة النبوية، ولا سيما آيات الأحكام، وأحاديث الأحكام، ليدرك تمام الإدراك أن للسنة دوراً هاماً، لا يستهان به في بيان الأحكام المجملة في القرآن الكريم، وهي التي تقيد المطلق، وتخصص العام، وتبين الناسخ والمنسوخ.
الأمثلة
إذا أردنا أن نسوق أمثلة للأحكام التي أجملت في القرآن، وبينتها السنة وفصلتها، وأمثلة أخرى للأحكام التي انفردت بها السنة ولا وجود لها في القرآن، لوجدنا الشيء الكثير في مختلف أبواب العبادات والمعاملات والحدود وغيرها.(18/24)
أولاً: باب الطهارة
من الأحكام التي وردت في القرآن مجملة، وزادتها السنة بياناً وتوضيحاً، الوضوء والتيمم: ذكر الوضوء والتيمم في القرآن بنوع من التفصيل، إذ يقول الله تعالى، مخاطباً المؤمنين، الذين يريدون القيام إلى الصلاة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [37] .
في هذه الآية الكريمة من سورة المائدة، بيّن الله تعالى صفة الوضوء، بنوع من التفصيل، إذ بيّن المغسول والممسوح من أعضاء الوضوء كما بين حد اليدين والرجلين، ثم ذكر التيمم، وأنه في الوجه واليدين دون سائر أعضاء الوضوء، كالرجلين والرأس مثلاً، إلا أن الحاجة إلى بيان السنة لا تزال قائمة، حتى مع هذا البيان الذي ترى:
توضيح ذلك
جاءت السنة بالبيان التالي:
أ- إذا أخذ المتوضئ في الوضوء، يغسل كفيه ثلاث مرات، ثم يستنشق، ويستنثر، ويتمضمض ثلاث مرات.
ب - بينت السنة بأنه يجوز للمتوضئ أن يغسل الأعضاء المغسولة مرةً مرةً، أو مرتين مرتين، أو ثلاث مرات، وهو الأكمل، كما يجوز له أن يغسل بعضها مرة وبعضها مرتين وبعضها الآخر ثلاثاً.(18/25)
ج - بنيت السنة الفعلية أن الرأس يمسح مرةً واحدة بكيفية معينة، وموضحة في السنة، بأن يبدأ من مقدم رأسه بيديه، ثم يذهب بهما إلى قفاه، ثم يردهما إلى حيث بدأ مرة واحدة، ولا يكرر مسح الرأس، وكذلك الأذنان لا يكرر مسحهما على الصحيح وبينت السنة أيضاً أنه لا يجب أن يأخذ لأذنيه ماءً جديداً، بل يمسحهما مع الرأس، وبالماء الذي أخذه للرأس، هذه صفة الوضوء على ضوء الكتاب والسنة معاً [38] .
أما التيمم: فقد بين القرآن الكريم أن التيمم إنما هو في الوجه واليدين كما تقدم فيبقى أن نعرف حد اليد هنا، هل هي في التيمم مثلها في الوضوء، فيمسحهما إلى المرفقين؟!! وهل التيمم بضربة واحدة أو بضربتين؟ تجيب السنة الصحيحة على هذين السؤالين، ولا جواب إلا في السنة!! إذ ثبتت فيها أن التيمم بضربة واحدة [39] .
كما ثبت فيها أن حد اليدين هنا إلى مفصل الكف، هذا، وقد استطردت الآية الكريمة التي تحدثت عن الوضوء والتيمم، إلى حكم آخر بالمناسبة، وهو الطهارة من الجنابة حيث قالت: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} هكذا أجملت الآية هذه الطهارة، فبينت السنة أنها طهارة بالماء إذا تيسر على الوجه التالي: يغسل أطرافه وما أصابه من القذر، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، فيغسل رأسه ثم يعمم بدنه بالماء، مع تخليل الشعر الكثيف، ليصل الماء إلى أصول الشعر، هذا إذا كان الماء متيسراً، أما إذا تعذر الماء، أو عند العجز عن استعماله، فيكفيه الصعيد الطيب، بأن يضرب الأرض بيديه، ويمسح وجهه وكفيه مرة واحدة، وكفى؛ هذا هو البيان الذي سجلته السنة، في هذه المسألة، رويناه بالمعنى، طبعاً، وهو مجمل في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} .(18/26)
هكذا ننتهي من حديثنا عن الطهارة بإيجاز، وأرجو ألا يكون مخلاً، لننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن الصلاة، وما قامت به السنة من البيان والإيضاح والتفصيل، تفصيلاً لم يرد مثله في الكتاب فهاك البيان:
إن الصلاة هي الركن الثاني من أركان الإسلام، ورد ذكرها في القرآن هكذا: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} فكيف إقامتها يا ترى؟!! فالسنة وحدها هي التي تجيب على هذا السؤال الهام، وقد علمنا في دراسة السنة أن الله أوجب الصلاة على رسوله وأتباعه، ليلة الإسراء والمعراج، حين عرج به عليه الصلاة والسلام، إلى حيث يسمع صريف الأقلام، أقلام الملائكة، وهم يكتبون ما أمروا بكتابته، فهناك خوطب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من قبل ربه ومولاه سبحانه، فأسمعه كلامه سبحانه، إلا أنه لم يمكنه من رؤيته، بل احتجب عنه بنوره سبحانه: "نور أنّى أراه "، "حجابه النور " في تلك اللحظة العظيمة، أوجب الله عليه خمسين صلاة، فقبلها رسول الله، عليه الصلاة والسلام – فانصرف لينزل، إلا أن بعض إخوانه من أولى العزم (موسى) عليه السلام أوقفه، ونصحه ليراجع ربه ويسأله التخفيف، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حيث كان عندما خاطبه ربه أولاً، فسأله التخفيف لأمته، فخفف الله عنهم بعض التخفيف، فتكرر السؤال والشفاعة، وتكرر التخفيف، إلى أن خفضت الصلاة من خمسين إلى خمس صلوات، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاد إلى مكة بذلك الإيجاب الإجمالي، فبعث الله إليه رسوله جبرائيل فعلمه أفعال الصلاة، وعدد الركعات، وموضع السر والجهر في القراءة، كما علمه كيف يتطهر لها، هكذا بينت السنّة صفة الصلاة بالإختصار.
الزكاة(18/27)
رابعاً: الزكاة: ولقد ورد في الكتاب العزيز الأمر بالزكاة إجمالاً دون تفصيل، شأن الصلاة، بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ، {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} فتولت السنة بيان الأموال التي تجب فيها الزكاة وبيان الأنصبة، والمقدار المأخوذ من كل نصاب، إلى آخر البيان الشامل بأطراف هذا الركن العظيم، كما بينت السنة نوعاً من الزكاة يسمى زكاة الفطر أو صدقة الفطر، تؤدى في نهاية رمضان للمستحقين، وهي صاع من تمر أو صاع من شعير أو صاع من طعام، أو صاع من إقط. إلخ.
الصيام
خامساً: الصيام؛ وقد تناول القرآن الكريم هذا الركن بنوع من التفصيل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} إلى أن قال {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقال في البيان نفسه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ، وبعد هذا التفصيل القرآني، الذي سمعت، تبقى هناك أحكام وردت بها السنة، وانفردت بها منها حكم من واقع امرأته في نهار رمضان وهو صائم، ما الذي عليه؟!!
منها من أكل وشرب ناسياً في نهار رمضان ماذا يفعل؟!!(18/28)
ومنها حكم من لا يدع قول الزور والعمل به، وهو صائم، ما حجم ذنبه وهل صيامه صحيح أم باطل.
وقد بينت السنة، كفارة الذي واقع امرأته في رمضان، كما بينت أن الذي أكل أو شرب ناسياً في رمضان فعليه أن يتم صيامه فإن الله هو الذي أطعمه وسقاه، وتصدق عليه صدقة لا تضر صيامه!! والسنة تنص على الذي لا يدع قول الزور والعمل به، وتنادي عليه، بأنه ليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، وقد قالت طائفة من أهل العلم، لا يستهان بها: أن الكذب وما في معناه، يفسد الصيام أخذاً من ظاهر الحديث المشار إليه، وهو حديث متفق على صحته؛ وإن خالفهم في ذلك جمهور أهل العلم، وتفصيل ذلك معروف في موضعه في كتب الفقه، وكل الذي نريد أن نقوله هنا، أن السنة ساهمت في بيان الأحكام حتى في هذا الموضوع الذي فصل فيه القرآن ذلك التفصيل، وهي ما يوضحه قوله عليه الصلاة والسلام:"أوتيت القرآن ومثله معه "، وهي السنة المطهرة، وقوله عليه الصلاة والسلام:" إن ما حرم رسول الله، كما حرم الله، وما أحله رسول الله، كما أحله الله " أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
الحج(18/29)
سادسا ً: الحج، ولو تركنا بحث الصيام لننتقل إلى الحج، لوجدنا القرآن الكريم، يعلن بوجوب الحج بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} ، وهي الآية التي نزل بها وجوب الحج، على الصحيح عند أهل العلم، ولم يكتف القرآن بإعلان وجوب الحج فقط، بل قد ذكرت عدة أحكام من أحكام الحج في سورة البقرة؛ كالإفاضة من عرفة، وذكر الله عند المشعر الحرام، وحكم من تعجل في يومين ومن تأخر إلى اليوم الثالث، والطواف بالبيت العتيق، وغير ذلك، فتولت السنة بيان بقية الأحكام التي لم يرد ذكرها في القرآن، وهي أحكام كثيرة جداً، وردت في أحاديث صحاح في مقدمتها حديث جابر بن عبد الله المعروف لدى طلاب العلم، ذلك الحديث الذي شرح بوضوح صفة حجة النبي عليه الصلاة والسلام، وقد ألف كثير من أهل العلم على ضوئه رسائل وكتابات في مناسك الحج بعد أن ضموا إليه أحاديث أخرى، اشتملت على أحكام، لا يستغني عنها، وهذا الباب من الأبواب التي استفاضت فيها السنة بالبيان والتوضيح، قولية أو فعلية، كما لا يخفى على طلاب العلم – فبالسنة عرفنا كيف نحرم؟ وما الذي يحرم علينا بالإحرام؟، وبها عرفنا كيف نطوف، وبها عرفنا السعي، وكيف نسعى: من أين نبدأ وإلى أين ننتهي؟ وأين نقف يوم عرفة، وكيف ومتى؟ إلى آخر أعمال الحج، ولست أدري كيف يحج (الهوائيون) الذين سموا أنفسهم (بالقرآنيين) ما أضلهم! وما أبعدهم عن الصواب!! وسيأتي الحديث معهم إن شاء الله.
البيوع(18/30)
سابعا ً: البيوع: إن السُنن التي وردت لبيان الأحكام المجملة في القرآن، أو التي انفردت بأحكام لم ترد في القرآن، ليست تنحصر في أبواب العبادات فحسب، بل للسنة دورها المعروف في جميع المباحث الفقهية من المعاملات والجنايات والحدود؛ ففي البيوع نجد الآية الكريمة تقول: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} فإذا راجعنا السنة الصحيحة، نجد أنواعاً من البيوع المنهي عنها بالسنة المطهرة:
1 - منها البيع على بيع أخيه والسوم على سوم أخيه المسلم.
2 - منها النجش [40] .
3 - منها بيع الملامسة.
4 - منها بيع المنابذة.
5 - وبيع الحصاة.
6 - وبيع المزابنة، كما في حديث أنس عند البخاري.
7 - منها حكم بيع الشاة المصرّاة وما يترتب عليه.
8 - منها تلقي الركبان.
9 - ومنها بيع حاضر لبادي. وغيرها كثيرة، ومعروفة في مواضعها.
من كتب السنة وكتب الفقه، من البيوع المشتملة على الغرر والجهالة، وكلها محرمة بالسنة، كما وردت في السنة في هذا الباب أحكام أخرى كثيرة، مثل خيار المجلس، وخيار الشرط وغيرهما من الأحكام.
الحدود
ثامناً: الحدود: أما في هذه الأبواب، فحدث دون تحفظ أو حرج عن السنن التي وردت بأحكام على وجه الانفراد، قبل أن يكون لها ذكر في القرآن، فلنأخذ مثالاً واحداً لنكتفي به، وهو حد السرقة: يقول الله تعالى في بيان هذا الحد في كتابه العزيز: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فلإقامة هذا الحد الذي أمرنا بإقامته، نحتاج إلى معرفة أمرين اثنين:
أ – ما هو المقدار الذي إذا أخذه السارق تقطع يده؟ أي ما هو نصاب السرقة؟ فبينت السنة ذلك؟ إذ يقول الرسول عليه الصلاة والسلام:"لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً ".(18/31)
ب – ما حد اليد هنا؟ هل هي من المنكب؟ هل هي من المرفق؟ أو هي من مفصل الكف؟ والسنة الفعلية هي التي تجيب على هذه التساؤلات، إذ كانوا يقطعون من مفصل الكف هذا، ولو أردنا أن نسرد الأحكام التي أجملت في القرآن، وبينتها السنة – أو الأحكام التي انفردت بها السنة في جميع الأبواب الفقهية، لاحتاج المقام إلى سِفْر، فلنكتف بهذه الإشارة، وهي كافية لمعرفة مكانة السنة، ومنزلتها في التشريع الإسلامي، وهو ما أردناه والله ولي التوفيق.
من هم أعداء السنة؟!!
على الرغم مما ذكر، ومما لم يذكر من الأدلة القطعية من الآيات الصريحة، والأحاديث الصحيحة، وآثار الصحابة، ومن بعدهم من أهل العلم.
على الرغم من تلك الأدلة التي تصرخ بأعلى صوتها، بأن السنة صنو الكتاب، وأن السنة هي الحكمة المذكورة في القرآن في غير ما آية، وأنها من وحي الله، وأن ديننا يؤخذ من الكتاب والسنة معاً لا من كتاب وحده، على الرغم من كل ذلك، لم تسلم السنة من تهجم جهله المتفقهة، وعداء غلاة الرافضة والزنادقة، حيث زعمت الرافضة، وجوب الإستغناء بالقرآن عن السنة في أصول الدين وفروعه والأحكام الشرعية، لأن الأحاديث في زعمهم رواية قوم كفار، وذلك لأنهم كانوا يعتقدون أن النبوة إنما كانت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأن جبريل عليه السلام، أخطأ فنزل بها إلى محمد عليه الصلاة والسلام بدل أن ينزل بها إلى علي. وهذا الزعم يعني: أن أمر الوحي كان مضطرباً، ولا يصدر من تنظيم محكم من قبل رب حكيم سبحانه، وإنما يتخبط فيه ملك الوحي (جبريل) ، وأن ملك الوحي نفسه ليس بمعصوم تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.(18/32)
ومنهم من يقر للنبي - عليه الصلاة والسلام – بالنبوة، ولكنه يقول: إن الخلافة كانت حقاً لعلي – رضي الله عنه – فلما عدل بها الصحابة إلى أبي بكر رضي الله عنه، كفروا بذلك – في زعمهم – حيث جاروا وظلموا- في زعمهم- بعدولهم بالحق عن مستحقه، وبالتالي كفروا علياً، لعدم طلبه حقه، فبنوا على ذلك رد الأحاديث كلها، لأنها- عندهم في زعمهم - رواية قوم كفار، كما تقدم وهذه القاعدة الكفرية الواهية في نفس الوقت، هي أساسهم في رد أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأخيراً أطلق أتباع هؤلاء من المتأخرين على أنفسهم بأنهم (القرآنيون) أي العاملون بالقرآن، المستغنون به عن السنة، هذا تفسير كلمة (القرآنيون) حسب (رغبتهم) ، ولكن التفسير المطابق لواقعهم، أنهم المخالفون للقرآن، المتبعون للهوى، وهذا أشبه بإطلاق كلمة (القدرية) على نفاة القدر، لأنهم في الواقع مخالفون للقرآن، خارجون عليه، كما خرجوا على السنة، لأن القرآن يدعوا الناس إلى الأخذ بالسنة إيجاباً وسلباً، إذ يقول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، ولا يتم الإيمان بالقرآن، إلا بالإيمان الصادق بمن أنزل عليه القرآن، والإيمان به إنما يعني تصديقه في أخباره إتباع أمره ونهيه. وقد ذكر الإمام السيوطي في رسالته اللطيفة (مفتاح الجنة في الإحتجاج بالسنة) ، قاعدتهم هذه ثم قال مستهجناً ومستقبحاً:"ما كنت أستحل حكايتها لولا ما دعت إليه الضرورة من بيان أصل هذا المذهب الفاسد، الذي كان الناس في راحة منه من إعصار "إلى أن قال:"وقد كان أهل هذا الرأي موجودين بكثرة في زمن الأئمة الأربعة، وتصدى الأئمة وأصحابهم للرد عليهم في دروسهم ومناظراتهم وتصنيفاتهم " [41] ، ثم ساق من نصوص كلامهم الشيء الكثير، وقد سبق أن نقلنا من كلام أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم، ما يكفي لمعرفة موقف أهل السنة من أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام،(18/33)
وهو يتضمن تزييف كلام أهل البدع والهوى، ومن أراد المزيد فعليه بالرسالة المشار إليها، وقبلها رسالة الإمام الشافعي المعروفة، وغيرهما من المراجع المعتبرة في هذا الباب ولو أخذنا نستعرض الأبواب الفقهية التي تقوم بتنظيم حياة الناس في معاشهم مثل أبواب البيوع التي مررنا بها مراً سريعاً، بذكر بعض الأمثلة منها، ومثل باب التفليس والحجر، وباب الصلح والحوالة والضمان، وبحوث الشركات والوكالة والشفعة والقرض، ومبحث المساقاة والإجارة والهبة والعارية وغيرها، من أبواب الفقه، لو استعرضنا السنن التي تنبني عليها هذه الأبواب ومسائلها، لوجدنا أن السنة هي التي تنظم للناس حياتهم اليومية، لأن جميع المسائل الفقهية التي يتعامل بها الناس في معاشهم، ويرجعون إليها في محاكمهم، فمستندها إنما يكون إلى الكتاب أو السنة معاً، ولا يصح حكم أو قضاء لا مستند له منهما. أما الكتاب، فأكثر الأحكام التي وردت فيه من الأبواب المشار إليها، إنما كانت مجملة، وفصلتها السنة، وقد تكون أكثر تلك الأحكام لم يرد بها نص في الكتاب، وإنها انفردت بها السنة، كما أوضحنا فيما سبق، فكيف يزعم زاعم بعد هذا كله، الإستغناء عن السنة؟ !! ودعوى الإستغناء عن السنة هي في واقعها محاولة للإستغناء عن الإسلام، بأسلوب ملتوٍ، غير صريح، ويؤكد هذا ما سبق أن ذكرنا من أن أصل هذه المحاولة من الزنادقة، وغلاة الرافضة، الذين صرحوا بتكفير الصحابة، الذين هم سند هذا الدين، والذين نطق بهم القرآن وأثنى عليهم، من المهاجرين والأنصار؛ وتكفير هؤلاء السادة، إنما يعني تكذيب الله سبحانه في إخباره أنه رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأنههم اتبعوا رسوله، النبي الأمي في ساعة العسرة.(18/34)
كما يتضمن تكذيب خبر الرسول عليه الصلاة والسلام في ثنائه عليهم، وشهادته لمجموعة كبير منهم أنهم من أهل الجنة، ومن تجرأ على مثل هذا التصرف، ووصل إلى هذه الدرجة، فعليه أن يراجع الإسلام من جديد، لأنه قطع علاقته بالإسلام بهذا التصرف، الذي يعتبر ردة عن الإسلام، والله المستعان.
وقد حاول هؤلاء الزنادقة، إزالة السنة من الوجود، والقضاء عليها لو استطاعوا، أن يجعلوا وجودها وجوداً شكلياً فاقداً للقيمة، إلا أنهم لم يستطيعوا أن ينالوا منها شيئاً، وانقلبوا خاسرين ومهزومين، مثلهم كمثل الذي يحاول قلع جبل أحد مثلاً، فيحوم حوله، وفي سفحه، وينقل من أحجاره حجراً حجراً، ظناً منه أنه بصنيعه هذا يستطيع قلع الجبل وإزالته من مكانه، أو كالذي يغترف من البحر اغترافاً بيده أو بدلوه، محاولاً بذلك أن ينفد البحر أو ينقص؛ وما من شك أن هذا المسكين سوف تنتهي أوقاته ويحل أجله المحدود، والجبل جبل، والبحر بحر بل يبقى البحر ثابتاً في مكانه، يغوصه الغواصون من رجال هذا الشأن، ليخرجوا للناس اللآلئ والدرر من المسائل العلمية النافعة، كما يبقى الجبل ثابتاً وشامخاً، يصعده أصحاب الخبرة، ويترددون بين شعابه، ليعثروا على ما قد يخفى على غيرهم بين تلك الشعاب المتنوعة، التي لا يسلكها إلا الخواص، ليخرجوا بالمسائل الدقيقة، التي لا يفطن لها غيرهم – إذ لكل ميدان رجال.
هذه نهاية محاولة الرافضة ومن يشابههم ويسير في ركابهم، وقد أراد المنكرون لأخبار الرسول عليه الصلاة والسلام، بناء على القاعدة الكفرية السابقة، أن يجدوا ما يتعلقون به أمام خصومهم من أهل السنة، وذهبوا يبحثون عن الأخبار والأحاديث التي تؤيد ما ذهبوا إليه، من قريب أو بعيد، وفي أثناء بحثهم، عثروا على كلام باطل بطلان مذهبهم ونصّه هكذا:"ما جاءكم عني فاعرضوه على الكتاب فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فأني لم أقله ".(18/35)
وطاروا به فرحاً، ولكنهم لم يستطيعوا أن ينفلتوا بحديثهم هذا من أيدي حراس السنة ولم تنم عنهم تلكم العيون الساهرة، حفظاً على السنة، بل عثروا على حديثهم ذاك، فأعلنوا أنه من أباطيلهم ودسائسهم، حتى عرفه الناس، فسجلوه في كتبهم، وأجروا له عمليتهم الخاصة، وفندوه وجرحوه، وعرّوه، حتى انكشف حاله، فلله الحمد والمنة.
قال السيوطي في رسالته اللطيفة (مفتاح الجنة) : ثم قال البيهقي:" باب بيان بطلان ما يحتج به بعض من رد السنة، من الأخبار التي رواها بعض الضعفاء، في عرض السنة على القرآن – قال الشافعي – رحمه الله: احتج عليّ بعض من ردّ الأخبار، بما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:"ما جاءكم عني فاعرضوه على الكتاب، فما وافقه فأنا قلته، وما خالفه فأنا لم أقله " فقلت له: ما روى هذا أحد يثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير، وإنما هي رواية منقطعة عن رجل مجهول، ونحن لا نقبل مثل هذه الرواية في شيء "ا. هـ.
قال البيهقي:"أشار الإمام الشافعي إلى ما رواه خالد بن أبي كريمة، عن أبي جعفر عن النبي عليه الصلاة والسلام، أنه عاد اليهود فسألهم، فحدثوه حتى كذبوا على عيسى عليه السلام، فصعد النبي المنبر، فخطب الناس: فقال:"إن الحديث، سيفشوا عني، فما أتاكم يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم يخالف القرآن فليس عني " قال البيهقي: خالد مجهول، وأبو جعفر ليس بصحابي، فالحديث منقطع "؛ وقال الشافعي:"ليس يخالف الحديث القرآن، ولكن حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام يبين معنى ما أراد خاصاً أو عاماً، وناسخاً ومنسوخاً، ثم يلتزم الناس ما سن بفرض الله، ممن قيل عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فعن الله قبل "، ثم ذكر السيوطي بقية كلام البيهقي حول الحديث، والله أعلم.
تقديس الآراء أدى إلى الإعراض عن السنة(18/36)
وإذا كان الحامل للرافضة، والمخدوعين بهم على ذلك الموقف العدائي، هو ما تكتنفه نفوسهم الخبيثة من الأحقاد على أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، والظن السيئ برسول الله عليه الصلاة والسلام، وعدم الإيمان به، الإيمان الصادق واعتقادهم في الملائكة عدم العصمة، وأخيراً عدم تقديرهم لرب العالمين حق قدره، إذ كان الحامل لهم هو هذه المعاني – فيا ترى ما الذي حمل بعض المتفقهة على هذا الجفاء والإعراض عن السنة، والوقوف منها موقف المستغني عنها؟!!
الجواب: الذي يبدو لي أن الذي حمل القوم على ذلك هو الغلو في تقديس آراء الرجال، واعتبارها ديناً يدان به لرب العالمين، وقد أدى بهم هذا الغلو إلى إساءة الظن بنصوص الكتاب والسنة، فزعموا أنها إنما تقرأ وتسمع لأجل التبرك بألفاظها فقط، لا للإهتداء بها بتطبيق الأحكام التي اشتملت عليها!!
صحيح أنها نصوص مباركة حقاً، فكتاب الله كتاب مبارك {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [42] .(18/37)
وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، مباركة أيضاً، وإذا ما تعلم المسلمون كتاب ربهم وسنة نبيهم، وعملوا بهما، محللين حلالهما، محرمين حرامهما، ومطبقين أحكامهما على حياتهم العامة والخاصة حصلت لهم بركة لا يتوقعونها، وقد حصلت لسلفهم يوم كانوا مؤمنين بهما حق الإيمان، أجل لو فَعَل المسلمون اليوم ذلك، لتغيرت حياتهم الجاهلية هذه، إلى حياة إسلامية مباركة، حياة الأمن والرفاهية، حياة الرحمة، يتمتعون فيها بالهيبة والمنعة والكرامة، يستردون فيها كل ما سلبوا من حقوقهم، المادية والمعنوية وتعود إليهم وحدة الصف، وينالون فيها النصر والغلبة، هذه هي البركة التي تتوقع من الإيمان بالكتاب والسنة، أما البركة التي معناها حصول الرزق الواسع للمنزل الذي يقرأ فيه القرآن الكريم، وصحيح البخاري، وأن ذلك المنزل سوف يسلم من الحريق، وتسلط العدو، ومفاجآت الثعابين وغير ذلك من حوادث الأيام، فتقول لهم: إن القرآن لم ينزل لهذا الغرض، ولا السنة أوحت إلى النبي بهذا الغرض، وعلى رسلكم – أيها القوم -!! وفي زعم هؤلاء (البركيِّين) : إن النصوص معزولة عن حياة المسلمين العامة والخاصة، وأن مصادر الأحكام هي آراء الرجال، وإليها المرجع، فعلى أهل كل مذهب أن يراجعوا آراء علماء مذهبهم، وإذا أرادوا معرفة حكم ما، وأن الدين كله هو ما في الكتب، التي هي عبارة عن (مجمع) آراء الرجال واجتهاداتهم واستحساناتهم وأقيستهم، وقد تقرأ بعض تلك الكتب، التي قد يعتبرها بعضهم (موسوعة علمية) من ألفها إلى يائها، ولا تكاد تمر بحديث واحد أو آية واحدة يستشهد بها المؤلف على حكم من الأحكام.(18/38)
قد يتهمني البعض بالمبالغة، إذا قلت إن هذا التعصب للمذاهب، هو الذي حال بين كثير من المسلمين وبين فهم السنة، كما يجب، وهو من أسباب تفوق المسلمين وتشتتهم، وبالتالي فهو من أسباب تخلف المسلمين، وتسلط أعدائهم عليهم، لأنهم خالفوا كتاب ربهم، الذي هو عزهم، وهو يناديهم بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [43] حتى أصبحت الأمة الواحدة، كأصحاب ملل مختلفة، كل حزب بما لديهم فرحون، وقد صار لهذا التفرق الديني – إن صحّ التعبير – أثره السيئ في حياة الأمة الإجتماعية والسياسية، وإن ما تعيشه أمتنا – اليوم – من هذا التشتت الذي لم يسبق له مثيل، ومن التخاذل أمام أعدائهم، والهزائم المتلاحقة، والفجر عن إيجاد وحدة إسلامية، تجمع شتات هذه الأمة، كل ذلك من شؤم التعصب المذموم، الممزق للأمة، والله المستعان.
وقد تحدث غير واحد من أئمة المسلمين، عن أضرار التعصب المذهبي، وأعراض كثير من الناس بسببه، عن الكتاب والسنة، والإستغناء عنهما بالآراء، واخترت لحديثي هذا نبذة من كلام الإمام ابن قيم الجوزية، ثم اتبعه إن شاء الله بكلام شيخه، شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله.(18/39)
قال الإمام ابن القيم في بعض كتبه:"لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة، والمحاكمة إليهما، واعتقدوا عدم الإكتفاء بهما وعدلوا إلى الآراء، والقياس، والإستحسان وأقوال المشايخ، عرض لهم من ذلك، فساد في فطرهم، وظلمة في قلوبهم، وكدر في أفهامهم، ومحق في عقولهم، وعمتهم هذه الأمور، وغلبت عليهم، حتى ربى فيها الصغير، وهرم عليها الكبير، فلم يروها منكراً، فجاءتهم دولة أخرى قامت فيها البدع مقام السنن، والنفس مقام العقل، والهوى مقام الرشد، والضلال مقام الهدى؛ والمنكر مقام المعروف، والجهل مقام العلم، والرياء مقام الإخلاص والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقام النصيحة، والظلم مقام العدل، فصارت الدولة والغلبة لهذه الأمور، وأهلها هم المشار إليهم، وكانت قبل ذلك لأضدادها ". ثم قال رحمه الله:"فإذا رأيت دولة هؤلاء قد أقبلت، ورايتها قد نصبت، وجيوشها قد ركبت، فبطن الأرض – والله – خير من ظهرها، وقلل الجبال خير من السهول، ومخالطة الوحوش أسلم من مخالطة الناس ". ثم قال وهو ينصح لمن وقع في هذا الأمر: "اشتر نفسك اليوم، فإن السوق قائمة، والثمن موجود، والبضائع رخيصة، وسيأتي على تلك السوق والبضائع يوم لا تصل فيه إلى قليل ولا كثير، ذلك يوم التغابن: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً} " [44] ثم أردف قائلاً:"العامل بغير إخلاص، ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملاً يثقله ولا ينفعه"ثم قال: في رصف المتعصبين:" وأكثر ما عندهم كلام وآراء خرص، والعلم وراء الكلام، كما قال حماد بن زيد: قلت لأيوب: العلم اليوم أكثر أو فيما تقدم؟!! فقال: الكلام اليوم أكثر، والعلم فيما تقدم أكثر ففرّق هذا الراسخ بين العلم وبين الكلام، فالكتب كثيرة جداً، والكلام والجدال والمقدرات الذهنية كثيرة، والعلم بمعزل عن أكثرها، وهو ما جاء به الرسول عن الله، قال الله(18/40)
تعالى: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [45] وقال: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [46] وقال في القرآن: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [47] أي ومعه علمه "؛ ثم واصل الإمام كلامه قائلاً:"ولما بعد العهد بهذا العلم، آل الأمر بكثير من الناس إلى أن اتخذوا هواجس الأفكار، وسوانح الخواطر والآراء، علماً، ووضعوا فيها الكتب، واتفقوا فيها الأنفاس، فضيعوا فيها الزمان، وملؤوا بها الصحف مداداً، والقلوب سواداً، حتى صرح كثير منهم، أنه ليس في القرآن والسنة علم، وأن أدلتهما لفظية لا تفيد يقيناً ولا علماً، وصرخ الشيطان بهذه الكلمة فيهم، وأذن بها بين أظهرهم، حتى أسمعها دانيهم لقاصيهم، فانسلخت بها القلوب من العلم والإيمان كانسلاخ الحية من قشرتها، والثوب من لابسه " إلى أن قال:"وقال لي بعض أئمة هؤلاء: إنما نسمع الحديث لأجل البركة، لا نستفيد منه العلم، لأن غيرنا قد كفانا هذه المؤونة، فعمدتنا على ما فهموه وقرروه، ولا شك أن من كان هذا مبلغه من العلم فهو كما قال القائل:
نزلوا بمكة في قبائل هاشم
ونزلت بالبطحاء أبعد منزل(18/41)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في وصف هؤلاء:" إنهم طافوا على أبواب المذاهب، ففازوا بأخس المطلب، ويكفيك دليلاً على أن هذا الذي عندهم ليس من عند الله ما ترى من التناقض والإختلاف، ومصادمة بعضه لبعض؛ قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [48] وهذا يدل على أن ما كان من عنده سبحانه لا يختلف، وأن ما اختلف وتناقض، فليس من عنده، وكيف تكون الآراء والخيالات، وسوانح الأفكار ديناً يدان به، ويحكم به على الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، سبحانه هذا بهتان عظيم وقد كان علم الصحابة الذي يتذاكرون فيه، غير علوم هؤلاء المختلفين الخراصين كما حكى الحاكم في ترجمة أبي عبد الله البخاري قال:"كان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا اجتمعوا إنما يتذاكرون كتاب ربهم وسنة نبيهم، ليس بينهم رأي ولا قياس ا. هـ."كلام شيخ الإسلام.
وهذا لا يعني إنكار القياس كلياً، فمثل قياس العلة أمر لا مفر منه، والبحث معروف في موضعه.
وبعد؛ هذا ما استحسنت أن أسجله في هذا المقام من كلام أهل العلم، للإستدلال على أهمية المقام وهو مقام جد خطير، كما ترى إذا انشغل جمهور المسلمين اليوم بتلكم الآراء تاركين نصوص الكتاب والسنة وراءهم مهجورة، وكأني بقائل يقول: إن المسلمين لم يهجروا كتاب ربهم ولم يهملوه، بل قد انتشرت في الآونة الأخيرة إذاعة القرآن الكريم في عواصم المسلمين، كما انتشرت مدارس تحفيظ القرآن في أكثر المدن، بل خصصت الجامعة الإسلامية، بالمدينة المنورة كلية للقرآن وعلومه المتنوعة، فكيف يقال: إن المسلمين قد هجروا القرآن، والحالة هذه؟!!(18/42)
الجواب: إن ما ذكر واقع وهو عمل نافع جليل إن شاء الله، إلا أن المقدار ليس هو كل ما يجب على المسلمين نحو القرآن، بل كل ما ذكر إنما هي وسائل، ولا ينبغي الوقوف عند الوسائل، قبل الوصول إلى الغاية، لأن الغرض من إذاعة القرآن وحفظه ودراسة علومه هو المحافظة عليه كدستور للأمة يجب الحفاظ عليه، كما يجب الرجوع إليه في جميع مجالات الحياة، ولا يكفي أبداً أن يحفظ ويذاع فقط دون أن يتحاكم إليه في أي شيء، بل يجب أن يكون هو الحكم في كل شيء. واعتقاد خلاف هذا خطأ أو مغالطة، لأن عدم الإحتكام إليه مع الإحتكام غير ما أنزل الله يعتبر كفراً بالقرآن، وهجراً له؛ وهجر القرآن أنواع كثيرة، مع التفاوت بينها، يقول ابن القيم [49] :"هجر القرآن أنواع خمسة:
أحدهما
: هجر سماعه، والإيمان به، والإصغاء إليه.
والثاني
: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه إن قرأه وآمن به.
والثالث
: هجر التحكيم والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد العلم اليقيني وأن أدلته لفظية لا يحصل لها العلم.
والرابع
: هجر تدبره وتفهمه، ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
والخامس
: هجر الإستشفاء به والتداوي به في جميع أمراض القلوب، وأدرانها فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به.
وكل هذا داخل في قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [50] ، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض "ا. هـ.(18/43)
هذا ما عنيناه بهجر المسلمين كتاب ربهم وإهمالهم إياه، وكلام ابن القيم واضح شامل، ولا شك أن أخطر أنواع هجر القرآن، هو هجر تحكيمه والإستغناء بغيره، واعتقاد أنه غير صالح لحل مشكلات العصر، وما في هذا المعنى من العبارات الإلحادية التي يطلقها بعض الملحدين اليوم والتي تبني عن عدم الإيمان بالقرآن، وعدم الإعتبار به، إلا أنه آيات تتلى في بعض المناسبات وتأكيداً لما ذكرت، أنقل لكم ما قاله عن شريعة الإسلام مسئول عربي بدرجة (وزير) عندما سئل السؤال الآتي:
"ما هو موقف حزب البعث من المنطق ذي الروح الإسلامية الذي تعرضه بعض الدول العربية المحافظة في نظرها للمشكلات العربية اليوم؟!! أما زال الحزب محافظاً على نظرته العلمانية تجاهها؟!! ".
هكذا نص السؤال.
قال المسئول جواباً على هذا السؤال:"نحن نختلف مع الذين يظنون أن في الإسلام الخلاص من المآزق التي تقع فيها الأمة العربية، أما أولئك الذين يعملون على تنشيطه للحركات الإسلامية، والشريعة القرآنية فهم يحملون نظرة لا تتوافق معنا، ونحنُ لا نعتقد بهذه الأشياء ونحن بالتأكيد حزب علماني " إلى أن قال:"وفي هذه المرحلة التاريخية التي نعيشها، فنحن نعتقد أنه يجب علينا إيجاد طرق علمية للتطبيق أكثر من الأديان " [51] وبعد.(18/44)
هذا ما آلت إليه قيادات الأمة الإسلامية في كثير من البلدان، وهو يحتم على طلاب العلم أن يكرسوا جهودهم في دراسة الكتاب السنة، ليسلحوا أنفسهم بسلاح العلم والمعرفة، ويؤهلوا بذلك أنفسهم للقيادة، بعد إتمام دراستهم، هادفين إصلاح ما فسد من أمر هذه الأمة المسكينة، التي وقعت فريسة الإلحاد الشيوعي، الذي أخذ يحلق بها من جميع الجهات، ليفسد عليها أمر دينها ويبعدها عن إسلامها وقرآنها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، كما يجب عليهم أن يهدفوا إلى تغيير ذلك المفهوم السائد لدى كثير من الأوساط من أن دراسة شريعة القرآن، لا تؤهل الإنسان للقيادة والإصلاح، وحل مشكلات العصر وأن الذي يتولى القيادة، يشترط فيه أن يكون (واشنطونيّ) الفكر أو (لندنيه) ، وأن يكون (باريسيّ) ، الأخلاق أو (رومانيّها) وأخيراً أن يكون (موسكوي) العقيدة أو (بكينيّها) ، وعلى طلاب العلم الديني أن يغيروا هذا التصور الملحد، ليبينوا للناس أن الدارس للإسلام وشريعة القرآن صالح للقيادة، بل يشترط فيمن يتولى قيادة الأمة الإسلامية أن يكون بعيداً من تلك المواصفات السابقة الذكر، بل يجب أن يؤمن بالله ربّاً ومعبوداً وبالإسلام ديناً ومنهجاً، وبالقرآن دستوراً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً وإماماً وأُسوة، وأن يكون ذا بصيرة وفقه في الدين، محمديّ الأخلاق والسلوك والعقيدة، وبالله التوفيق.(18/45)
إذا درسنا الكتاب والسنة بهذه الهمة، وعلم الله منا الصدق والإخلاص في ذلك سوف يوفقنا الله، ويكلل عملنا بالنجاح بإذنه، لأن الأمر كله له، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وهذا الضرب من الدراسة، نوع من الجهاد، فلير الله منكم الإخلاص، والصدق في جهادكم أيها الطلبة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [52] ؛ وكل الذي أريد أن أصل إليه أن تعلموا أن هدف الأهداف من دراسة هذا المنهج الذي تدرسونه في جامعتكم هذه، أن تخرجوا إلى العالم بعد إتمام دراستكم، لتساهموا في حركة البناء والإصلاح، لإيجاد مجمع مبني على أسس ثابتة، مأخوذة من دراسة الإسلام العظيم، وهي:
1- الرضى بالله رباً ومعبوداً، وحده الذي له الحكم وحده، والحكم حكمه، والأمر أمره، والخلق خلقه.
2- الرضى بالإسلام ديناً ومنهجاً وطريقاً إلى العزة والكرامة، وهو الذي فيه الخلاص من جميع المشكلات المعاصرة، رغم أنوف أولئك الذين زعموا أن الإسلام ليس فيه الخلاص من المشكلات، والخروج من المآزق: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [53] .
3- والرضى بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً وقدوة وأُسوة وإماماً للمتقين، وهم المتبعون له.
4- والرضى بالقرآن الكريم دستوراً ومنهجاً للحياة الكريمة، حياة العز والشرف.
5- والرضي بالسنة النبوية كمصدر ثان من مصادر التشريع الإسلامي، يتوقف المصدر الأول على بيانه، في كثير من مواده وأحكامه.
إن المجتمع الذي هذه أسس بنائه، هو المجتمع الإسلامي، وكل مجتمع يتخلف في بنائه مادة من هذه المواد وتغيب، فهو مجتمع جاهلي، رضي أو أبى؛ والله الهادي وحده.
والله ولي التوفيق.(18/46)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الأعراف، آية: (59) .
[2] الحجر، آية: (9) .
[3] النحل، آية: (44) .
[4] محمد، آية: (33) .
[5] النساء، آية: (65) .
[6] النور، آية (63) .
[7] رواه الإمام أحمد، ومسلم عن عائشة رضي الله عنها.
[8] رواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه عن جرير.
[9] رواه الإمام البخاري.
[10] الحديث والمحدثون – بتصرف.
[11] النجم، آية: (3، 4) .
[12] أبو داود، والترمذي، وغيرهما.
[13] النحل، آية: (68) .
[14] الشورى، آية: (51) .
[15] طه، آية: (12،11) .
[16] الأعراف، آية: (143) .
[17] آل عمران، آية: (31) .
[18] المائدة، آية: (67) .
[19] النور، آية: (54) .
[20] النحل، آية: (125) .
[21] الأنبياء، آية: (107) .
[22] الحجر، آية: (9) .
[23] من تصحيح المفاهيم: محمد أمان.
[24] البقرة، آية: (29) .
[25] آل عمران، آية: (164) .
[26] النساء، آية: (113) .
[27] البقرة، آية: (231) .
[28] الأحزاب، آية: (34) .
[29] مفتاح الجنة للسيوطي.
[30] النساء، آية: (29) .
[31] البقرة، آية: (27) .
[32] الفتح، آية: (10) .
[33] النساء، آية: (80) .
[34] رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن المقدام.
[35] مفتاح الجنة للسيوطي.
[36] قرية كانت بوادي تبوك في طريق الشام (مفتاح الجنة للسيوطي) .
[37] سورة المائدة الآية 6.
[38] صفة الوضوء في البخاري.
[39] قصة عمر بن الخطاب وعمار رضي الله عنهما.(18/47)
[40] هو أن تزيد في السلعة لتوقع غيرك، وليس لك حاجة في الشراء.
[41] مفتاح الجنة للسيوطي.
[42] الأنعام، آية (92) .
[43] آل عمران، آية: (103) .
[44] الفرقان، آية: (27) .
[45] آل عمران، آية: (61) .
[46] البقرة، آية: (145) .
[47] النساء، آية: (166) .
[48] النساء، آية: (82) .
[49] الفوائد.
[50] الفرقان، آية: (30) .
[51] مجلة الجامعة الإسلامية – العدد الأول – العام 11.
[52] العنكبوت، آية: (69) .
[53] الكهف، آية: (5) .(18/48)
في ظلال العقيدة الإسلاميّة
مفهوم الربوبية
(الحلقة الرابعة والأخيرة)
لفضيلة الشيخ سعد ندا
المدرس بالجامعة الإسلامية
طرحت فيما أسلفت جانباً من الأدلة العقلية التي تثبت الخالق العظيم لهذا الكون، على هذا النسق البديع المحكم، الذي تعجز أي قوة أن تبلغه مما سمى الجاحدون من أسماء كالطبيعة والصدقة أو غير ذلك مما سول لهم الشيطان وأملى لهم.
ثم إنني لأعيد صفْعَهم بعنفٍ بمزيدٍ من الأدلة العقلية التي تدحض باطلهم، مما في آفاق هذا الكون ومما في أنفسهم، حتى يتبين لهم أن الخلاّق القدير العظيم هو وحده الحق الذي خلق هذا الكون بالحق ويقوم وحده على تدبير أمره، وصدق ربنا القدير الحكيم حين يقول:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت) .
وإليكم أيها الجاحدون للذي خلقكم وخلق هذا الكون – رغم أنوفكم – سواء أقررتم أم لم تُقرُّوا – مزيداً من الأدلة العقلية، مادامت عقولكم الخربة تأبى أن تؤمن إلا بالمحسوسات المشاهدة:
أولاً
: لقد اجتمع طائفة من الملاحدة الجاحدين للخالق سبحانه وتوجهوا إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله، وسألوه:"ما الدليل على وجود الصانع لهذا الكون"؟(18/49)
فقال لهم:"دعوني فخاطري مشغول بأمر غريب "، فقالوا له:"ما هو "؟ ، قال: "بلغني أن في دجلة سفينةً عظيمةً مملوءةً بأصناف الأمتعة العجيبة، وهي ذاهبةٌ وراجعةٌ من غير أن يحركها أو يقوم عليها أحد"فقالوا له:"أمجنون أنت "؟ قال:"وما ذاك "؟ قالوا: "إن هذا لا يصدقه عاقل "، فقال لهم:"فكيف صدَّقَتْ عقولهم أن هذا العالم بما فيه من الأنواع والأصناف والحوادث العجيبة،وهذا الفلك الدوار السيّار يجري، وتحدث هذه الحوادث بغير مُحْدِث، وتتحرك هذه المتحركات بغير محرك "؟ فبهت الذين كفروا.
ثانياً
: إذا نظرنا إلى فروع العلم كافة وجدنا أنها تثبت أن هناك نظاماً معجزاً يسود هذا الكون، أساسه السنن الكونية الثابتة التي لا تتغير لا تتبدل، والذي يعمل العلماء جاحدين على كشفها والإحاطة بها، وبلغت كشوفهم من الدقة قدراً يمكن من النتبؤ بالكسوف والخسوف، وغيرهما من الظواهر قبل وقوعها بمئات السنين.
فمن الذي سنّ هذه السنن، وأودعها كل ذرة من ذرات الوجود؟ بل في كل ما هو دون الذرة؟ عند نشأتها الأولى؟ ومن الذي خلق كل ذلك النظام والتوافق والإنسجام؟ من الذي صور فأبدع؟ وقدر فأحسن التقدير؟ لا يمكن أن يكون هذا الكون نتيجة الصدفة أبداً.
إن هذا الإبداع الرائع يدل على أن لهذا الكون بداية، ومن ثم فلابد له من مبدأ يكون من صفاته: الأزلية والأبدية، والعلم المحيط، التدبير، والإدارة، والقدرة، والرحمة، وكل صفات الكمال. أبعد هذا يزعم أولئك الجاحدون أن هذا الكون قد وجه نتيجة الصدفة؟ إن هذا الزعم لا شك ساقط، ونوضح أدلة تسقطه فيما يلي:
ا- الأرض:(18/50)
وهي – على ما قرره المتخصصون – معلقة في الفضاء تشمل الماء بنسبة ثلاثة أخماس مساحتها، واليابس بنسبة خمس مساحتها ويحيط بها غلاف غازي يشمل على الغازات اللازمة للحياة، ويمتد حولها إلى ارتفاع كبير يزيد على 500 ميل، يشتمل هذا الغلاف الغازي من الكثافة درجة تحول دون وصول ملايين الشهب القاتلة إلينا التي تنقض بسرعة ثلاثين ميلاً في الثانية. والغلاف الجوي المحيط بالأرض يحفظ درجة حرارتها في الحدود المناسبة للحياة، ويحمل بخار الماء من المحيطات إلى مسافات بعيدة داخل القارات حيث يمكن أن يتكاثف مطراً يحيي به الله الأرض بعد موتها، والمطر مصدر الماء العذب، ولولا تفضل الله بإنزاله لأصبحت الأرض صحراء جرداء خالية من كل أثر للحياة. وقد اختص الله تعالى الماء بخواص هامة تعمل على صيانة الحياة في المحيطات والبحيرات والأنهار خاصة عندما يكون الشتاء قارساً وطويلاً، فإن الماء يمتص كميات كبيرة من الأكسجين عندما تكون درجة حرارته منخفضة. وتبلغ كثافة الماء أقصاها في درجة 4 مئوية، والثلج أقل كثافة من الماء مما يجعل الجليد المتكون في البحيرات والأنهار يطفو على سطح الماء لخفته النسبية، فيهيئ بذلك الفرصة لاستمرار حياة الكائنات التي تعيش في الماء في المناطق الباردة. وعندما يتجمد الماء تنطلق منه كميات كبيرة من الحرارة تساعد على صيانة حياة الأحياء التي تعيش في البحار.
أما الأرض اليابسة فهي بيئة لحياة كثير من الكائنات الأرضية. فالتربة تحتوي على العناصر التي يمتصها النبات، ويمثلها، ويحولها إلى أنواع مختلفة من الطعام يفتقر إليها الإنسان والحيوان. كما يوجد كثير من المعادن قريباً من سطح الأرض، مما هيأ السبيل لقيام الحضارة. وعلى هذا فالأرض مهيأة على أحسن صورة للحياة.(18/51)
ثم إن هناك أمراً هاماً كذلك، يستلفت النظر، هو حجم الأرض بالنسبة لما حولها من فراغ لا نهائي. فهذا الحجم كما قرر المتخصصون- مناسب جداً بحيث لو كان أصغر أو أكبر لما أمكنت الحياة على الأرض.
فلو كانت الأرض مثلاً صغيرة كالقمر؟ أو لو كان قطرها ربع قطرها الحالي لعجزت كما يقرر العلماء عن الإحتفاظ بالغلافين الجوي والمائي اللذين يحيطان بها، ولصارت درجة الحرارة فيها بالغة حد الموت.
ولو كان قطرها مثلاً ضعف قطرها الحالي، لتضاعفت كما يذكر العلماء- مساحة سطحها أربعة أضعاف، وأصبحت جاذبيتها للأجسام ضعف ما هي عليه، وانخفض تبعاً لذلك ارتفاع غلافها الهوائي وزاد الضغط الجوي من كيلو جرام واحد إلى كيلو جرامين على السنتيمتر المربع، وهذا له أبلغ الأثر في الحياة على سطح الأرض، فتتسع مساحة المناطق الباردة اتساعاً كبيراً، وتنقص مساحة الأراضي الصالحة للسكنى نقصاً عظيماً، ومن ثم تعيش الجماعات الإنسانية منفصلة، أو في أماكن متنائية، فتزداد العزلة بينها، ويتعذر السفر والإتصال، بل قد يصير ضرباً من ضروب الخيال.
ولو كانت الأرض مثلاً في حجم الشمس مع احتفاظها بكثافتها، لتضاعفت - كما يقول العلماء- جاذبيتها للأجسام التي عليها مائة وخمسين ضعفاً؟ ولنقص ارتفاع الغلاف الجوي إلى أربعة أميال، ولأصبح تبخر الماء مستحيلاً، ولارتفع الضغط الجوي إلى ما يزيد على مائة وخمسين كيلو جراماً على السنتيمتر المربع، ولوصل وزن الحيوان الذي يزن حالياً رطلاً واحداً إلى مائة وخمسين رطلاً، ولتضاءل حجم الإنسان حتى صار في حجم القط أو الفأر تقريباً ولتعذرت الحياة الفكرية لمثل هذه المخلوقات.
ولو زاد بُعد الأرض مثلاً إلى ضعف بعدها الحالي عن الشمس، لنقصت- كما يذكر العلماء- كمية الحرارة التي تتلقاها من الشمس إلى ربع كميتها الحالية- وهذا يضر المخلوقات على وجه الأرض ضرراً بليغاً.(18/52)
ولو نقصت المسافة مثلاً بين الأرض والشمس إلى نصف ما هي عليه الآن لبلغت الحرارة التي تتلقاها الأرض- كما يقرر العلماء- أربعة أمثال حرارتها الحالية، وأصبحت الحياة على سطح الأرض من شدة الحرارة أمراً غير ممكن.
وعلى ذلك فإن الأرض بحجمها الحالي، وبعدها الذي حدده الخالق سبحانه، تهييء للإنسان أسباب الحياة والإستمتاع بها في صورها الفكرية والروحية على النحو الذي نشاهده اليوم في حياتنا.
إن خلق الأرض بهذه الحكمة، والإبداع، والتصميم، لا يمكن أن يكون بمحض الصدفة لا تعي ولا تدبر وإنما تخبط خبط عشواء، ومن ثم أن يكون الذي خلقها خالق قدير عليم مدبر حكيم.
2- البروتينات:
هي من المركبات الأساسية في جميع الخلايا. وهي تتكون من خمسة عناصر هي: الكربون، والإيدروجين، والنيتروجين، والأوكسجين، والكبريت. ويبلغ عدد الذرات في الجزء البروتيني الواحد 40000 ذرة. وإذا قيل أن هذا الكون قد كونته الصدفة، فإن الفرصة التي تتهيأ عن طريق الصدفة لتكوين جزئ بروتيني واحد، لا تكون إلا بنسبة 1: 10 160، أي بنسبة 1 إلى رقم 10 مضروباً في 160 مرة، وهو رقم لا يمكن النطق به أو التعبير عنه بكلمات. وينبغي أن تكون كمية المادة التي تلزم لحدوث هذا التفاعل بالصدفة بحيث ينتج جزء واحد أكثر مما يتسع له كل هذا الكون بملايين المرات. ويتطلب هذا الجزء على سطح الأرض وحدها عن طريق الصدفة بلايين لا تحصى من السنوات قدرها 10 243 سنة، أي عشرة مضروبة في نفسها 243 مرة من السنين. وهذا ما قرره بالتجربة العالم السويسري تشارلز يوجين جاى وأن البروتينات تتكون من سلاسل طويلة من الأحماض الأمينية – فكيف تتآلف ذرات هذه الجزئيات؟ إنها إذا تآلفت بطريقة أخرى غير التي تتآلف بها، تصير غير صالحة للحياة، بل تصير سموماً في بعض الأحيان.(18/53)
وقد حسب العالم الإنجليزي ح. ب. لينز الطرق التي يمكن أن تتآلف بها الذرات في أحد الجزئيات البسيطة من البروتينات، فوجد أن عددها يبلغ البلايين (10 48) ، وعلى ذلك فإنه من المحال عقلاً أن تتآلف المصادفات كلها لكي تبني جزئياً بروتينياً، كيف إذن تركب الصدفة أجسام الكائنات الحية وغيرها في الكون كله إذا كان الجزئي الواحد شيئاً لا يذكر؟؟؟
3- تركيب عبارات من حروف:
إذا كان لدينا صندوق كبير مليء بآلاف من الحروف الأبجدية، وأخذنا حروفاً من الصندوق لنركب منها بالصدفة عبارات معينة لها معنى كرسالة أو قصيدة شعرية، فإن احتمال تنظيم هذه الحروف بطريق الصدفة على ما نريد يكون ضئيلاً جداً إن لم يكن مستحيلاً.
ومن ثم فإن الصدفة من المحال أن تخلق هذا الخلق المبدع، ولابد أن يكون قد خلقه، العليم، اللطيف الخبير، القدير الذي إذا أراد شيئاً، فإنما يقول له كن فيكون.
4- عجز المادة عن خلق وتنظم نفسها:
إذا نظرنا إلى العناصر الكيماوية المعروفة التي يبلغ عددها 102 عنصراً، ولاحظنا ما بينها من أَوجه التشابه والإختلاف العجيبة، وجدنا أن بعضها ملون وغير ملون، وبعضها غاز يصعب تحويله إلى سائل أو صلب، وبعضها سائل وآخر صلب يصعب تحويله إلى سائل أو غاز، وبعضها هش وآخر شديد الصلابة، وبعضها خفيف وآخر ثقيل، وبعضها موصل جيد وآخر رديء التوصل، وبعضها مغناطيسي وآخر غير مغناطيسي، وبعضها نشيط وآخر خامل، وبعضها يكون أحماضاً وآخر يكون قواعد، وبعضها معمر وآخر يبقى لفترة محدودة من الزمان.(18/54)
وهذه العناصر جميعاً تخضع لسنن معينة، وليست وليدة المصادفة، بحيث تركب هي نفسها، وتنشئ أنظمة ثم تنظم بها نفسها – إن المصادفة لا تقوى على هذا البتة – وهذا يؤكد على وجه القطع أن العالم المادي عاجز عجزاً كاملاً عن أن يخلق نفسه أو يحدد الأنظمة التي ينظم نفسه بها، ومن ثم فلابد أن يكون الخلق قد تم خلقه، ونظم بقدرة خالقٍ قادرٍ مدبرٍ حكيمٍ.
ثالثاً: الكون له بداية وليس أزلياً:
لقد ثبت علمياً من قوانين الديناميكا الحرارية أن هناك انتقالاً حرارياً مستمراً من الأجسام الحارة إلى الأجسام الباردة، وأنه لا يمكن أن يحدث العكس بقوة ذاتية بحيث تعود الحرارة فترتد من الأجسام الباردة إلى الأجسام الحارة. ومعنى ذلك أن الكون يتجه إلى درجة تتساوى فيها حرارة الأجسام وينصب فيها معين الطاقة. ويومئذ لن تكون هناك عمليات كيماوية أو فيزيقية، ولن يكون هناك أثر للحياة نفسها في هذا الكون، ولما كانت الحياة لا تزال قائمة، ولا تزال العمليات الكيماوية والفيزيقية تسير في طريقها، فإننا نستطيع أن نستنتج أن هذا الكون لا يمكن أن يكون أزلياً، وإلا لاستهلكت طاقته منذ زمن بعيد، وتوقف كل نشاط في الوجود. وهكذا توصلت العلوم إلى أن لهذا الكون بداية، وأنه ليس أزلياً. وهي بهذا تثبت وجود الله، لأن ما له بداية لا يمكن أن يكون بدأ نفسه: ولا بد له من مبدئ، خالق، هو ربنا الخلاق العظيم.
رابعاً: عجز العلوم عن تبين مصدر مادة وطاقة هذا الكون:
رغم تقدم العلوم، وتطورها، وكشفها لنا معلومات كثيرة عن المجرات والنجوم والذرات وغير ذلك مما في الكون، فإنها قد عجزت تماماً عن أن تبين لنا مصدر المادة والطاقة التي استخدمت في بناء هذا الكون! فضلاً عن سبب اتخاذ الكون صورته الحالية ونظامه الحالي. إن هذا العجز التام عن البيان يفرض علينا التسليم بوجود إله خالق قادر مدبر حكيم.(18/55)
خامساً: تصميم المخ الإلكتروني يؤكد وجود خالق هذا الكون:
أثبت لنا باحث يسمى كلود م. هاثاواى، وهو مصمم العقل الإلكتروني للجمعية العلمية لدراسة الملاحة الجوية بمدينة لانجلي فيلد بالولايات المتحدة أنه اشتغل منذ عدد سنوات بتصميم (مخ إلكتروني) يستطيع أن يحل بسرعة بعض المعادلات المعقدة المتعلقة بنظرية (الشد في اتجاهين) . وقد حقق هدفه باستخدام مئات من الأنابيب المفرغة والأدوات الكهربية والميكانيكية والدوائر المعقدة، ووضعها داخل صندوق بلغ حجمه - كما يقول - ثلاثة أضعاف حجم أكبر بيانو، وهذا المخ الإلكتروني لا تزال الجمعية الإستشارية العلمية في لانجلى فيلد تستخدمه حتى الآن. وبعد اشتغاله باختراع هذا الجهاز سنة أو سنتين، وبعد أن واجه كثيراً من المشكلات التي تطلبها تصميمه ووصل إلى حلها، صار من المستحيلات بالنسبة له أن يتصور أن مثل هذا الجهاز يمكن عمله بأية طريقة أخرى غير استخدام العقل والذكاء والتصميم والعالم من حولنا ما هو إلا مجموعة هائلة من التصميم الإبداع والتنظيم، وبرغم استقلال بعضها عن بعض، فإنها متشابكة متداخلة، كل منها أكثر تعقيداً في كل ذرة من ذرات تركيبها من ذلك المخ الإلكتروني الذي صنعه ذلك الباحث هاثاواي، وقد ذكر هذا الباحث أنه إذا كان هذا الجهاز يحتاج إلى تصميم، أفلا يحتاج ذلك الجهاز الفسيولوجي الكيمي البيولوجي – الذي هو جسم الإنسان – والذي ليس بدوره إلا ذرة بسيطة من ذرات هذا الكون العظيم – إلى مصمم يصممه ومبدع يبدعه؟ إن ذلك لآكد دليل على وجود خالق هذا الكون ومدبر أمره.
سادساً: تجربة على الروح تثبت وجود الخالق العظيم:(18/56)
أجرى الباحث العلمي (علاء حامد) بمصر تجربة خلص منها إلى نتيجة. مذهلة: لقد أحضر أنبوبة تجارب، ووضع داخلها نطفة سلالة من الفئران في مواد وتركيبات وأحماض أمينية، ودرجة حرارة رحم الفأرة، كما وضع كذلك فأر التجارب الذي استخلص من جسده الحيوان المنوي وأودعهما معاً وعاء زجاجياً محكماً قام بتجهيزه كسفينة الفضاء بما يكفي الحيوان من طعام وأكسوجين. وعندما تأكد له نمو الحيوان المنوي داخل أنبوبة الإختبار قام بإرسال شحنة من الكهرباء في قطبين من الأسلاك إلى جسد الفأر فقتله.
وكان هدفه من ذلك مزدوجاً: أولا أن يعرف هل يحد الروح جدران مكان مغلق؟ وثانياً: كان يأمل – إذا تحقق ذلك – أن لا تجد الروح الصاعدة مناصباً من الإندماج في مشروع الجنين أودعه أنبوبة الإختبار. ولكنه وجد ظاهرة غريبة أفزعته، وقف أمامها مبهوراً وعاجزاً، ذلك أنه لاحظ بعد ثوان من قتل فأر التجارب تشقق زجاج الوعاء، فأبدله بزجاج سميك، ثم بزجاج غير قابل للشرخ، ولكنه وقف من جديد مبهوراً حائراً، إذ رأى بعينه الزجاج وهو ينشرخ من عدة أماكن.
وحاول أن يستخلص أي نتائج جديدة عن حركة الجنين – وقد أوصله من الداخل بجهاز حساس يقيس ما يطرأ من اهتزازات على مشروع الجنين – ولكنه لم يستخلص سوى نتيجة واحدة، وهي أن سبب الشرخ والتشقق في زجاج الوعاء الزجاجي إنما هو هروب الروح، وانتهى إلى أن الروح لا يمكن أن يحدها ولا يستطيع مكان حصرها. ورغم كل ذلك فقد أعاد تجربته من جديد على وعاء من الصلب محكم، ولكنه ذهل يرى وعاء الصلب يتهشم تماماً. فتأكد أن داخل كل مخلوق قوة خفية عظيمة لا يحدها مكان - هي سر هذا الوجود - إنها تؤكد على وجه لا شك فيه أن لهذا الكون خالقاً مبدعاً عظيماً لا تدرك كنهه العقول.
سابعاً: ثم إن هناك دليلاً عقلياً أسوقه لأولئك المارقين الجاحدين للخالق سبحانه، وهذا الدليل في أنفسهم:(18/57)
إني لأسأل أحدهم أولاً: هل أنت حي أو ميت؟ فإن أجاب جدلاً بأنه ميت، فقد أراحنا الله منه بموته، وإنك لا تسمع الموتى.
وإن أجاب بأنه حي؟ فإنني لأسأله ثانياً: ما علامة حياتك؟ أليست الروح التي تحيا بها هي تسري في بدنك جميعه فتملأه حياة وحركة؟ فسوف يجيب لا شك بالإثبات.
ومن ثم فسوف أسأله ثالثاً: أنت لا شك مؤمن بأن الروح تملأ جسدك، ولكن هل ترى تلك الروح وتحسها وتشاهدها بعينيك؟ إن كنت تراها، فما شكلها؟ وما لونها وما كيفها؟ إنه سيعجز عن أن يجيب – فأسأله رابعاً: إذا كنت تؤمن بالروح وهي أمر مغيب عنك يستحيل أن تراها؟ وتحس بآثارها وأنت لا تشاهدها محسة ملموسة، فكيف لا تؤمن بخالق الروح، وخالقك، وخالق هذا الكون كله، بحجة أنه مغيب عنك؟ لا تشاهده ولا تحسه؟
ثامناً: كذلك أسوق دليلاً آخر لهؤلاء الجاحدين هو في أنفسهم:
فأسأل أحدهم أولاً: هل أنت عاقل أو مجنون؟ فإن أجاب جدلاً بأنه مجنون، فقد أراحنا الله منه، ولا مجال لنا لأن نضيع أوقاتنا مع المجانين.
وإن أجاب بأنه عاقل، فإنني لأسأله ثانياً: ما علامة أنك عاقل؟ هل ترى عقلك؟ وهل تحسه وتشاهده بعينك؟ وإن كنت تراه فما شكله؟ وما لونه؟ وما كيفه؟ إنه سيعجز حتماً عن أن يجيب. فأسأله ثالثاً: إذا كنت تؤمن بأن فيك عقلاً – مغيباً عنك – تدرك به وتميز، يستحيل أن تراه؟ وتحس بآثاره وأنت لا تشاهده محساً ملموساً؟ فكيف لا تؤمن بخالق عقلك؟ وخالقك؟ وخالق هذا الكون كله؟ بحجة أنه مغيب عنك؟ لا تشاهده ولا تحسه – إن أولئك الجاحدين الذين يمارون في الخلاق العظيم لفي شقاق بعيد.
أيها الجاحدون- عسى الله أن يكون قد شرح صدوركم للإيمان بتلك الأدلة العقلية- وما سقت إلا بعضاً من كثير – فآمنتم بالخالق سبحانه – ومن ثم أسوق إليكم بعضاً من الأدلة النقلية التي تؤكد إثبات خالقكم وخالق هذا الكون- عسى الله أن يربط بها على قلوبكم، ويهديكم بها سواء السبيل.(18/58)
الأدلة النقلية:
ذكرت فيما سبق بعض الأدلة العقلية التي أثبتُّ بها الخالق سبحانه وتعالى، وأعرج على بيان الأدلة النقلية التي ورد النص بها، وهي كثيرة جداً، ومتفرقة في طيات الكتاب والسنة، لذا أسوق بعضاً منها تكملة لبحث هذا الموضوع فيما يلي:
أولاً: أدلة من الكتاب:
1- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} البقرة 21 – 22.
2- قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} البقرة الآية 28.
3- قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} آل عمران 190.
4- قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمّىً عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ، وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} الأنعام 1 – 3.(18/59)
5- قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ. قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} الأنعام 46 – 47.
6- قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} الأنعام 60 – 65.
7- وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} الأنعام 73.(18/60)
8- وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} الأنعام 95 – 99.
9- وقوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ، لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} الأنعام 101 – 103.(18/61)
10 – وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} الأعراف 54.
11- وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} الأعراف 57.
12- وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} التوبة 116.
13- وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} يونس 3 – 5.(18/62)
14- وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} يونس 22 – 23.
15- وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} يونس 31 – 35.
16- وقوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} يوسف 39.(18/63)
17- وقوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} يوسف 40.
18- وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ. وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} الرعد 2 – 4.
19- وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} الرعد 12.(18/64)
20- وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ، وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ، إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ. وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ. وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ. وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ. وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ. وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ. وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ. وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} الحجر 16 – 27.
21- وقوله تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ. وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} النحل 5- 8.(18/65)
22- وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} النحل 14 – 17.
23- وقوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ. وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} النحل 66 – 70.(18/66)
24- وقوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} النحل 80 – 81.
25- وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُورا} الإسراء 99.
26- وقوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} طه 49 – 50.
27- وقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} الأنبياء 22.(18/67)
28- وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} الحج 5 – 7.
29- وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} المؤمنون 78.
30- وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} النور 45.(18/68)
31- وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً، لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} الفرقان 45 – 49.
32- وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً. وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} الفرقان 53- 54.
33- وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} الروم 22.
34- وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ. ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} السجدة 5 - 9.
35- وقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} يس 80.(18/69)
36- وقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} الزمر 62 – 63.
37- وقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} غافر 57.
38- وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} فصلت 37.
39- وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} الشورى 29.
40- وقوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} الشورى 49 – 50.
41- وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} الزخرف 84.
42- وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الحجرات 13.
43- وقوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} الطور 35 – 36.
44- وقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} القمر 49.(18/70)
45- وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} الواقعة 58 – 61.
46- وقوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} الحديد 3.
47- وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} الملك 19.
48- وقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ. أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً، ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً، وَعِنَباً وَقَضْباً، وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً، وَحَدَائِقَ غُلْباً، وَفَاكِهَةً وَأَبّاً، مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} عبس 24 – 32.
49- وقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ولساناً وشفتين وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} البلد 8 – 10.
50- وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} الإخلاص.
إلى غير ذلك من الآيات العديدة المتفرقة في كتاب الله عز وجل التي تثبت ربوبيته على وجه لا يداخله أدنى شك في أسلوب يتقلب بين صور الروعة والإحكام والإعجاز.
ثانياً: أدلة من السنة:
1- عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان " رواه البخاري مسلم.(18/71)
2- عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:"حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق:"إن أحد كم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يُرسَل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بكتب أربع كلمات: بِكَتْبِ رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد. فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الحنة فيدخلها "رواه البخاري ومسلم.
3- عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى " رواه البخاري ومسلم.
4- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحا} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثم ذكر الرجل يطيل الشعر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له " رواه مسلم.(18/72)
5- عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال:"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلا نفسه "رواه مسلم.
إلى غير ذلك من عديد الأحاديث التي تثبت على وجه القطع ربوبية الخالق عز وجل.
وبهذه الحلقة أختتم بحثي في بيان مفهوم الربوبية في إيجاز اقتضاه المقام. وأسأل الله ربي أن يهيئ لي الفرصة لأعيد كتابة وتنقيح ما عرضت في هذا البحث. كما أسأله أن يوفقني إلى إتمام ما قصدت من خدمة قضايا العقيدة، في بيان مفهوم الأسماء والصفات، ثم مفهوم الألوهية والعبادة، ثم مفهوم الحكم بتشريع الله تبارك وتعالى، إن ربي قريب مجيب، وهو نعم المولى ونعم النصير. صلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله الأمين محمد وعلى آله وصحبه.(18/73)
مرتكزات التربية الإسلامية
لفضيلة الدكتور عباس محجوب
كلية الدعوة
هناك علاقة وثيقة بين التربية والفلسفة نشأت هذه العلاقة من أن التربية قد ولدت من الفلسفة نتيجة اختلاف المذاهب الفلسفية وتطورها، إذ أننا عندما ندرس التربية بعامة نجد أن الفلاسفة من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو والغزالي وابن سينا وابن خلدون من المسلمين، وجون ديوي وروسو وغيرهم من المحدثين - نجد أن هؤلاء هم الذين تناولوا المشكلات التربوية ووضعوا أسس كثير من نظريات التربية مما يدل على الصلة بين التربية والفلسفة باعتبار التربية هي الترجمة العملية الواقعية للفلسفة والناقلة للفلسفة من مرحلة النظرية والفكرة إلى الواقع والممارسة والتربية علم مبني أيضاً على علم الأحياء وعلم النفس وعلم الإجتماع مما يجعلها كثيرة الإعتماد على هذه العلوم.
ولما كان للإسلام فلسفته المميزة وآراؤه الواضحة عن الله والكون والوجود ونظرياته ومفاهيمه عن الحياة فإن التربية الإسلامية تعتمد على نظرة الإسلام للوجود والكون وعلى أساس نظرة الإسلام للحقائق المادية والروحية في الكون والإنسان والمهمة التي استحق بها الإنسان الخلافة في الأرض وعلى أساس تحقيق التوازن بين الجانب الروحي في الإنسان والجانب المادي فيه.(18/74)
وعلى هذا فإن المقصود بفلسفة التربية هو الإطار الذي يحرك العمل التربوي بوسائل مختلفة ولأهداف معينة فمن فلسفة التربية الإسلامية أن تعمل التربية لتحقيق الهدف من وجود الإنسان على الأرض وهو عبادة الله وتزكية النفوس وجعل مستوى العبادة في مستوى الإستحقاق إلى جانب تحقيق معنى الأخوة والمودة والمحبة بين المسلمين والعمل على تكوين أجيال مؤمنة بالله متمسكة بقيم الإسلام وتعاليمه مسايرة لروح العصر صامدة للتحديات التي تواجه المجتمعات، ولأن التربية الإسلامية تربية مستمرة في حياة الإنسان فإنها تعتبر التعليم حقاً وواجباً في حياة الإنسان يأخذ منه ما يستطيع دون قيد إلا قيد القدرات والإمكانيات.
وهي تعتبر التعليم استثماراً إنسانياً واقتصادياً واجتماعيًا مرتبطاً بحركة المجتمع وموجهاً للموارد البشرية عن طريق تكوين وتدريب الكفايات القيادية والفنية والفكرية في مختلف الميادين، كما أنها تعمل على إيجاد الإنسان المسلم المتكامل الذي يجمع بجانب قدرته الفنية التزامه الإسلامي داخل مجتمعه الذي يقوم على أخوة الإسلام ويرفض النزعات العنصرية والقومية والقبلية واللغوية والإقليمية والذي يعزز ويربط الأمة بتراثها الثقافي الإسلامي أولا ثم العالمي حتى يمكن لجيل الإسلام أن يتفاعل مع الثقافات العالمية ويتمكن من القيام بواجب تبليغ الدعوة وحمل الرسالة، والتربية الإسلامية تعمل إلى جعل التربية أداة التغيير والتطور ومواجهة تحديات الواقع المختلف {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُون قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [1] .(18/75)
فالتربية الإسلامية تعمل لبناء الإنسان الذي يرفض الجمود والتخلف في أي شكل من أشكاله والإسلام يجعل التربية أوسع معنى وأشمل مدلولاً لأنه نتيجة التربية وأثرها. ولأن التربية تشمل الإنسان كله عقله ونفسيته وروحه وجسده وأفكاره وسلوكه وتفكيره ومفاهيمه وهي لا تكون في المدرسة فحسب بل في المسجد والشارع والنادي ووسائل الإعلام المختلفة - إنها تشمل الإنسان كله والحياة كلها.
أما التعليم فهو جزء من التربية ونوع من أنواعها ولم يعد التعليم كما كان في الماضي وسيلة تلقين للمعلومات والأفكار وحفظهما وترديدها بل أصبح وسيلة من وسائل التربية في تكيف الإنسان مع الواقع المراد له والموجه إليه، فالإسلام يهتم بالتعليم باعتباره وسيلة من وسائل التربية في تحقيق أهدافها وحمل محتواها. فحق لكل مسلم أن يتربى ويتعلم قدر استطاعته وفي حدود إمكانياته فالأمم ترقى بالعلم وتسمو بالمعرفة وتتهذب بالتربية لأنها وسيلة الأخلاق القويمة والتدين الصحيح وبالتربية تدبر الأمة أمور معائشها وتنظم حياتها ويشعر أفرادها بأنفسهم ويدركوا واجبهم ويحسنوا عبادة ربهم، ومن هنا كان واجب الدولة المسلمة في تربية رعاياها وتأهيل أفرادها وإعداد الوسائل الميسرة للتربية حتى يكونوا أفراداً صالحين مؤمنين مؤهلين لمهمات الخلافة وحمل الأمانة. ويتساءل البعض: لماذا لم نجد في العلوم الإسلامية القديمة علماً يسمى علم التربية؟ .(18/76)
والحقيقة أن المسلمين لم يعرفوا في تاريخهم علماً معيناً يسمى علم التربية لحداثة هذا الإصطلاح وحداثة العلم نفسه، والمسلمون لم يكونوا بحاجة إلى وجود هذا العلم لأنهم تمثلوا التربية عملياً في حياتهم وسلوكهم ومارسوه واقعاً في بيوتهم ومجتمعاتهم، ولم يكن عندهم التناقض الذي نحس به بين حركة التعليم وحركة المجتمع ونظام الدولة، فالمجتمع الإسلامي ينطلق نظامه في التعليم والسياسة والإقتصاد والحرب والإعلام من جوهر الإسلام ونظامه وتعاليمه فلم تكن حاجتهم لهذا العلم كحاجتهم لعلوم اقتضتها الحاجة لحفظ كتاب الله ومعرفته وتدوين حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ووضع الضوابط له وإرساء قواعد المجتمع الجديد وحفظ لغة القرآن فالنحو جاء نتيجة ظهور اللحن في اللغة والفقه نشأ لتلبية حاجة المجتمع إلى رأي الدين في المشكلات الناجمة من حركة المجتمع واضطرابه وتطوره، وهكذا نجد لكل علم دافعاً لظهوره، وهو دافع ملح أو مكمل لحاجة من حاجات المجتمع الإسلامي ولم تتوفر للتربية كعلم أحد هذين الدافعين ليظهر في الوجود.
وليس معنى هذا أن المسلمين لم يعرفوا التربية فالقرآن والسنة يمثلان المرجعين الأساسيين لأسس التربية وأهدافها ووسائلها وخصائصها ونماذجها بل إن كثيراً من النظريات التربوية والنفسية التي يظن اكتشافها حديثاً لها جذور عند المسلمين والتربية الإسلامية تربية متميزة لها نظرياتها الخاصة وسماتها المتميزة التي تجعلها تتباين عن غيرها ولا يمنع هذا أن تكون هناك بعض الحقائق التربوية أو النظريات المشتركة بينها وبين غيرها من النظريات التربوية الحديثة.(18/77)
والتربية الإسلامية تقوم على تقرير وجود حقائق مادية وحقائق روحية في الوجود وفي طبيعة الإنسان مما جعل هذه التربية مبنية على أساس من الواقعين المادي والروحي للإنسان، تنتظم حياته على أساسهما لأن الإنسان ليس ملكاً يعيش في السماء بروحه وليس مادياً للدرجة التي تجعله منغمساً في الحياة الأرضية لأن له عالمه الروحي الواسع المتعمق في كيانه، فالتربية الإسلامية تقوم على تحقيق التوازن بين الجانبين الروحي والمادي في الحياة الدنيا أولاً والحياة الآخرة ثانياً، وهنا نجد اختلاف التربية الإسلامية عن غيرها من النظم التربوية في إعدادها للإنسان لا للحياة الدنيا فحسب بل للحياة الأخرى أيضاً.
فالتربية تعمل على تكوين أجيال مهذبة راقية قوية صادقة تقوم بواجبها في الحياة وتتحمل مسئوليتها الإنسانية وتعمل على تسخير علمها وحياتها في الفضيلة والخير وتتجنب الرذيلة وتراقب الله في السر والعلانية حتى تظفر بالسعادة والأمن والإستقرار في الحياة الدنيا والثواب والجنة في الحياة الأخرى يقول الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى، وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى، جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} . [2]
معنى التربية(18/78)
تدور كلمة التربية حول تنشئة الطفل مادياً بتغذيته ورعايته جسمياً، وعقلياً بتزويده بما يناسبه من ضروب المعرفة الإنسانية والثقافة البشرية، وروحياً بتزويده بما يزكي نفسه ويسمو بها. فالكلمة لغوياً ترد بمعنى الرعاية والزيادة والإصلاح والنشأة والنماء وقد تكون الكلمة مشتقة من ربا الشيء ربواً ورباءً أي زاد ونما أو من رب كما جاء في القاموس المحيط "فربها نماها وأصلحها وربرب الرجل إذا ربى يتيماً وربربت الأمر أصلحته وجعلته متيناً قوياً والربيبة الحاضنة لأنها تصلح الشيء وتقوم به تجمعه " [3] فالكلمة تدل على معنى الإصلاح والجمع وقد تستعمل مجازاً بمعنى علو المنزلة والتهذيب فيقال: فلان في رباوة قومه أي في أشرافهم.
يختلف مفهوم التربية باختلاف المنطلقات الفلسفية التي تخضع لها النظريات التربوية وباختلاف الطرق والوسائل التي تسلكها الجماعات الإنسانية في تدريب أجيالها وإرساء قيمها ومعتقداتها وباختلاف الآراء حول مفهوم العملية التربوية نفسها وطرقها ووسائلها فالتربية عند أفلاطون عملية توجيه وجذب الأطفال إلى الطريق الذي رسمته القوانين وأكدت عدالته خبرات ذوي العقول المفكرة ويرى أن التربية والسياسة تهدفان لتحقيق النظام الأسمى في الحياة ويجب أن تكون التربية في مراحلها الأولى أدنى إلى التسلية منها إلى الجد لأنها وسيلة الكبار لمعرفة ميول الأطفال الطبيعية والتربية مرتبطة عنده بالأخلاق التي يقصد بها العلاقات الإنسانية وطرائق العمل وأهمية ربط التربية بالأخلاق أن الأخلاق تؤدي إلى كبح جماح الشهوات عند الإنسان وتدفعه لطريق الحق والخير فتنعدم المنازعات بين الناس. وركيزة الأخلاق عنده إيمان الناس بإله وبدين يهديهم سواء السبيل فيه من الثواب ما يشجع على الخير ومن أساليب الشر ما ينهى الضال عن شروره ويعضد الثواب والعقاب بحتمية الخلود النفسي حتى يطمئن المثيب إلى أعماله ويخاف المذنب شر أفعاله.(18/79)
ويتفق أرسطو مع أستاذه أفلاطون في كثير من آرائه التربوية ويتفقان في أن التربية من وظائف الدولة وأنها تعتمد في تربية الرجل على عاملين هما: الجسم الصحيح السليم وتكوين عادات جسمية مناسبة، ويرى أرسطو أن التربية عن طريق تكوين العادات - الصالحة يجب أن تسبق تربية العقل فكلاهما يهتم بتنمية العقل إلى جانب الجسم باعتبارهما انعكاساً للقوة الإلهية لأن سعادة الإنسان في إيمانه ووحدته مع القوة العليا والإيمان البشري بقوة الإله كفيل بتمكين الإنسان من اتخاذ القرارات الحكيمة في سبل الحياة المختلفة فالتربية عند أرسطو تعني النمو النفسي الجسمي السليم للفرد.
وأهمية آراء أرسطو التربوية أنها كانت نبعاً ثرياً للفكر التربوي الحديث وأساساً بنيت عليه مناهج التعليم بل إن تقسيم أرسطو للمعرفة كان الأساس في المعاهد القديمة إلى القرن الثالث عشر وليس معنى هذا أن آراءه قد نفذت كلها فقد اهتزت كثير من آرائه في عصر النهضة وبعد ظهور التجريب والبحث العلمي وواجهت آراؤه خاصة في الطبيعة نقداً كثيراً وإن ظلت آراؤه في المنطق محوراً للمناقشات.
ويرى (مارتن لوثر) أن معنى التربية وهدفها "هو مساعدة الفرد على فهم التزاماته الإجتماعية التي تجعل في الإمكان تحقيق مجتمع مسيحي سليم، ويتحقق مثل هذا المجتمع إذا عرف المواطنون الله وأطاعوه وإذا قدروا واحترموا الكرامة البشرية سواء بالنسبة لأنفسهم ولغيرهم "، كما يرى أن وظيفة التربية أكبر من مجرد الإهتمام بالناحيتين الدينية والعقلية فعليها أن تهتم بالفرد في نموه الجسمي والإنفعالي.(18/80)
ومع ارتباط مفهوم التربية بالدين وتأسيسها على أسس دينية إلا أن اضطهاد الكنيسة للعلماء وتسلطها قد أدى إلى ثورة عامة على الكنيسة ودينها وازدهار العقلية العلمية وانعكس ذلك على تجريد المفهوم التربوي من عنصر الدين وتهكم فرنسيس بيكون (1501-1556) على الآراء القديمة وبناء المعرفة على الغيبيات ومطالبته بتربية الإنسان بطريقة علمية باعتبار أن العلم جدير بإسعاد البشر وتحسين ظروفهم المادية ورفاهيتهم ومع أنه لا يرفض الإلهام الإلهي إلا أنه يرفض أن يلعب ذلك أي دور في التربية التي تقوم على الأسس العلمية فقط وقد تأثر بهذه الآراء عدد من المربين.
أما ج. هـ. بستالوتزي (1740-1827) فإن التربية عنده: هي نمو جميع قوى الإنسان وملكاته نمواً طبيعياً في اتساق وانسجام كما يرى أن القدرات العلمية تعتمد على العادات التي تكونت من تكرار قوى المتعلم وتدريبه أكثر من الإعتماد على المعرفة البحتة، ويرى الفيلسوف الإنجليزي (هربرت سبنسر) (1820-1903) أن التربية إعداد للحياة الكاملة ويجب أن تكون المواد الدراسية والطرق التي تدرس بها مما يوصل إلى الحياة الكاملة وهو يهتم كغيره من المربين بالجانب الأخلاقي [4] .
أما (سير برس تن) فيقول عن التربية:"لقد سلك الناس مسالك مختلفة في التعريف بالتربية ولكن الفكرة الأساسية التي تسيطر عليها جميعاً: أن التربية هي الجهد الذي يقوم به آباء شعب ومربوه لإنشاء الأجيال القادمة على أساس نظرية الحياة التي يؤمنون بها. إن وظيفة المدرسة أن تمنح للقوى الروحية فرصة التأثير في التلميذ تلك القوى الروحية التي تتصل بنظرية الحياة، وتربي التلميذ تربية تمكن من الإحتفاظ بحياة الشعب وتمد يدها إلى الأمام " [5] .(18/81)
إن المفاهيم التربوية كلها تتفق في وظيفة التربية ودورها في تدعيم عقيدة الأمة وتراثها الروحي بصرف النظر عن صحة العقيدة وصلاحها لبناء الحياة والحضارة وأن الأمم جميعاً تستهدي في تربيتها بدينها وعقيدتها يقول برفيسر كلارك:"مهما قيل في تفسير التربية فمما لا محيص عنه أنها سعي للإحتفاظ بنظرية سبق الإيمان بها وعليها تقوم حياة الأمة وجهاد في سبيل تخليدها ونقلها إلى الأجيال القادمة " [6] .
ويرى (جون ديوي) من أكبر علماء التربية في العصر الحديث أن التربية وسيلة راقية مهذبة لدعم العقيدة التي يؤمن بها شعب أو بلد وتغذيتها بالإقتناع الفكري القائم على الثقة والإعتزاز وتسليمها بالدلائل العلمية إذا احتيج لها، ووسيلة كريمة لتخليد هذه العقيدة ونقلها سليمة إلى الأجيال القادمة وأن أفضل تفسير لنظام التربية هي أنها السعي الحثيث المتواصل يقوم به الآباء والمربون لإنشاء أبنائهم على الإيمان بالعقيدة التي يؤمنون بها والنظرة التي ينظرون بها إلى الحياة والكون وتربيتهم تربية تمكنهم من أن يكونوا ورثة صالحين للتراث الذي ورثه هؤلاء الآباء عن أجدادهم مع الصلاحية الكافية للتقدم والتوسع في هذه الثروة [7] كما تعني التربية أيضاً "كل المؤثرات الموجهة التي يراد منها أن تصوغ كيان الإنسان وتهدي سلوكه في كل نواحي الحياة جسدية كانت أم عاطفية أم اجتماعية أم فكرية أم فنية أم أخلاقية أم روحية، فالتربية تشمل كل المنظمات والعوامل والأساليب والطرق التي تدخل في نطاق الفعاليات التهذيبية " [8] .(18/82)
فالتربية هي وسيلة المجتمع لأداء وظيفة نقل الثقافة ودعم العقيدة وإرساء المثل والقيم التي يراد غرسها في النشء والمبادئ التي يراد توجيههم إليها، وعن طريق التربية تصوغ الجماعة أفرادها والدول شعوبها وتوجه سلوكهم وأخلاقهم وفق الأهداف التي يسعى المجتمع إليها، ولأن الطفل هو محور العملية التربوية فإن ذهنه وحياته لا بد أن تتشكل بالقالب الذي وضع له وبالعلوم والمعارف التي يزود بها فتهيمن على أفكاره حتى لا يجد في الحياة منظاراًًً غير المنظار الذي أريد له استخدامه في ملاحظاته وتجاربه، فالتربية لذلك تعني "كل عملية أو مجهود أو نشاط يؤثر في قوى الطفل وتكوينه بالزيادة أو النقص أو الترقية أو الإنحطاط سواء أكان مصدر هذه العملية الطفل نفسه أم البيئة الطبيعية أم الإجتماعية بمعناها العام، أو بمعناها الضيق المحدود فالطفل خاضع باستمرار لعمليات تغيير في تكوينه الجسمي والعقلي والخلقي وهذه العمليات هي التربية " [9] .(18/83)
فالطرق التربوية والأساليب والحقائق العلمية التي تساعد على تربية الطفل وتحقيق نموه العقلي والنفسي والأخلاقي والجسمي، تستخدم كلها للوصول إلى النمو الذي يؤدي إلى وجود الإنسان الكامل الذي يحقق أهداف الفلسفة التربوية التي تسلكها التربية وتعمل لها. فالتربية تهتم إذن ببناء الفرد من ساعة وجوده على الأرض ليؤدي دوره المرسوم له في الحياة وليكون قادراً على التغلب على العقبات تعترضه والأحداث التي تواجهه ولأن التربية تهتم بالناحية الخاصة بالنمو ولأنها تعمل لتحقيق النمو الكامل للإنسان عقلياً وجسمياً ونفسياً وخلقياً واجتماعياً لهذا كان من تعريفات التربية أنها عملية التكيف بين المتعلم وبيئته، فالإنسان في سبيل وظيفته يعمل على بقائه أولاً ولا يكون ذلك إلا بتوجيه السلوك وتعديله وتكوين العادات الطيبة والإستفادة منها وتنمية القدرات وصقلها. والتربية تعمل على تشغيل أو تحديد هذه الملاءمة بين الكائن الحي برغباته وأهدافه وبين العالم الخارجي بعقباته ومشاكله، وبعبارة أخرى أن هدف التربية كعملية ملاءمة، هو تكييف الكائن الحي مع مشاكل البيئة.
وأياً كانت هذه التعريفات فإنها كما قلنا لم تخرج عن المفهوم الذي تعارفت الأجيال عليه من أنها العمل على بناء الإنسان منذ طفولته ليكون إنساناً سوياً في جوانبه العقلية والروحية والصحية والنفسية والجسدية في ضوء الديانة أو الفلسفة التربوية التي تؤمن بها أمة ما والعقيدة التي تحيا بها بصرف النظر عن صحة تلك العقيدة أو فسادها وهي عندنا تقوم على عقيدة الإسلام التي جاء بها أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم ليربي الإنسان وفق استعداداته وقدراته التي أودعها الله فيه ووفق منهج الله ونظامه وهديه وتربيته التي جعلت القرآن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم، وسلوكه وحياته.
مرتكزات التربية الإسلامية(18/84)
إننا نستمد بطبيعة انتمائنا الإسلامي مرتكزات وأسس التربية الإسلامية من المصدرين الأساسيين للعلوم الإسلامية كلها وهما: الكتاب والسنة لأن أصول التربية الإسلامية ومرتكزاتها وأهدافها موضحة ومفسرة في هذين المصدرين الأساسيين، أما النظريات التربوية الإسلامية فهي وإن كانت مستمدة من الكتاب والسنة إلا أنها في مجملها تمثل آراء علماء المسلمين ومفكريهم خلال تاريخ الإسلام الطويل وهذه النظريات تختلف عن الأسس والأهداف في أنها تمثل آراء البشر القابلة للتطور والتعديل والزيادة والنقصان والنجاح والإخفاق، وقد اجتهد علماء المسلمين في آرائهم التربوية داخل إطار الإسلام وبثوا آراءهم التي تمثل النظرية التربوية في الإسلام من خلال كتب الفقه والحديث والأدب والتصوف وعلم الكلام والأخلاق.
وارتبطت التربية الإسلامية بفلسفة الإسلام ونظرته إلى الإنس والكون لأن اتصال التربية بالفلسفة وثيقة، فإذا كانت الفلسفة تعمل لبناء المجتمع وتكونه فإن وسيلته لذلك هي التربية القائمة على نظرة الفلسفة للإنسان والكون، فالنظرية التربوية منبثقة من الفلسفة التي استمدت منها والتربية هي أداة الفلسفة لبناء الأفراد والمجتمعات ونقلها من المرحلة النظرية إلى مرحلة التطبيق، ومن هنا فإن التفرقة بين الأصول والأهداف والنظرية التربوية الإسلامية أمر ضروري بالنسبة لدراسة مرتكزات التربية الإسلامية. تقوم التربية الإسلامية على ركائز تمثل الأساس بالنسبة لها وهذه المرتكزات هي:
أولاً: مرتكز العقيدة الإسلامية:
تمثل العقيدة المرتكز الأساسي للتربية الإسلامية إذ أن الإيمان بالله هو الموجه لسلوك الإنسان والدافع له إلى اتجاه الخير والنصير له من حيث العناية والرعاية والتوفيق كما أنه الذي يصرفه عن طريق الشر ويجعله متحلياً بالفضائل وحسن الخلق. ونقصد بالإيمان أركان الإيمان التي في حديث أبي هريرة:(18/85)
"قال ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث. قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان. قال: والإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه وإن لم تكن تراه فإنه يراك " [10] .
ولأن هذا الإيمان هو الموجه للسلوك والضابط له والمتصل اتصالاً وثيقاً بالأعمال الصادرة من الإنسان فإن التربية الإسلامية تربط دائماً بين العمل والسلوك ثم بين العمل الصادر من هذا الإيمان وبين الجزاء قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} [11] ويقول: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} والقرآن مليء بالآيات التي تقرن الإيمان بالعمل فالإيمان الحق هو الذي يصدر عنه السلوك وينبع منه العمل الصالح ويخرج منه الخلق الكريم فحسن الخلق والإخاء المودة واجتناب الكبائر والتمسك بالفضائل يجب أن تصدر كلها عن هذه العقيدة والرسول صلى الله عليه وسلم يقول مبيناً عملية الربط بين الإيمان والسلوك الصادر من المؤمن في التربية الإسلامية: "لا إيمان لمن لا أمان له ولا دين لمن لا عهد له " ويقول في سلوك المؤمن نحو جاره ونحو نفسه: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت" [12] .
"ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع بجنبه " [13] . كما يتحدث عن أثر الإيمان في تجنب الرذائل وارتباط الإيمان بالسلوك ساعة فعل العمل.(18/86)
" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن "، "ولا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "، إن التربية الإسلامية في ربطها المحكم بين العقيدة السلوك وجعل العمل نابعاً من العقيدة والعقيدة أساساً لكل فعل، إنما تؤكد أهمية ربط التربية بمعتقدات الأمة، وكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ترتكز على هذا الجانب وتؤكد عليه وهو: أهمية ربط الأمة بعقيدة الأمة، وقد بينا في تعريفنا للتربية عند (جون ديوي) الذي يرى التربية وسيلة لتدعيم عقيدة الأمة كما أن التربية في نظر البروتستانتيين تعمل على تنمية المعتقدات الدينية وزيادة ميل الطفل وحبه للكنيسة لأن على ذلك ستترتب سعادته الأبدية.
ولأن التربية الإسلامية تربط بين العقيدة والعمل باعتبار العمل مظهراً للإيمان وترجمة له فإن الله سبحانه وتعالى جعل العمل معياراً حقيقياً لصدق الإيمان فربط دائماً بين الإيمان والعمل وذم الذين لا يربطون بينهما {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [14] {الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} .
والعقيدة التي هي أساس من أسس التربية لا بد أن ترتكز على دعائم أهمها:(18/87)
الإيمان بالله الذي لا إله غيره وبملائكته ورسله وتوحيد الله في الألوهية باعتبار ذلك القاعدة الأساسية لكل دين أنزله الله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} ويترتب على الإيمان بلا إله إلا الله الإيمان بأنه خالق الكون وخالق البشر وخالق الحياة والموت أنه العليم بكل ما يقع في الكون وما يدور في النفس الإنسانية من الخير والشر {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [15] {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [16] وكل صغير وكبير من صنع الله سبحانه وتعالى {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [17] والله سبحانه وتعالى خالق هذا الكون هو الذي سخر هذا الكون لينعم به الإنسان وأعد له من أسباب الحياة ونعمها ما ييسر له سر وجوده في الأرض {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [18] .(18/88)
وقد ذكرنا أن العقيدة لابد أن تنعكس على الإنسان وسلوكه فإذا ما آمن المسلم إيماناً يقينياً بالله سبحانه وبعلمه ومرافقته الدائمة لعبده كان هذا الإيمان محدداً لسلوك المسلم كفرد وسلوك الجماعة كأمة مسلمة فالعقيدة لابد أن تترجم في حياة الفرد الذي يعلم بأن الله مطلع على سره ونجواه وأن أفعاله مكتوبة وهو محاسب عليها، ولابد أن تترجم في حياة الجماعة فتبني نظام حياتها وفق هذه العقيدة التي آمنت بها.
إذ أن شهادة لا إله إلا الله تعني كما يقول الشهيد سيد قطب:
"إفراد الله سبحانه - بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان - والحاكمية.. إفراده بها اعتقاداً في الضمير وعبادة في الشعائر وشريعة في واقع الحياة فشهادة لا إله إلا الله لا توجد فعلاً ولا تعتبر موجودة شرعاً إلا في هذه الصورة المتكاملة التي تعطيها وجوداً جدياً حقيقياً يقوم عليه اعتبار قائلها مسلماً أو غير مسلم.
ومعنى تقرير هذه القاعدة من الناحية النظرية.. أن تعود حياة البشر بجملتها إلى الله. لا يقضون هم في أي شأن من شؤونها، ولا في أي جانب من جوانبها، من عند أنفسهم - بل لابد لهم أن يرجعوا إلى حكم الله فيها ليتبعوه.. وحكم الله هذا يجب أن يعرفوه من مصدر واحد يبلغهم إياه وهو رسول الله وهذا يتمثل في شطر الشهادة الثاني من ركن الإسلام الأول: شهادة أن محمداً رسول الله " [19] .
إن عنصر الإيمان بالله خالق الكون والحياة والإنسان عنصر فعال في توجيه سلوك الإنسان نحو الخير والعبودية الكاملة لله ونبذ ما عدا الله من طواغيت وأصنام تستعبد الإنسان وتنحرف بسلوكه في الحياة.(18/89)
والذي يؤمن بالله غيباً يؤمن بالكتب بعامة والقرآن الكريم بخاصة لأنه كما ذكر الله كتاب هداية ونور وطريق إلى الله {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [20] ، والإيمان بالكتاب الذي هو نور للناس يقتضي الإيمان بكل ما فيه من أحكام وقوانين باعتبار أن هذه الأحكام والقوانين إنما جاءت لتحقيق العبور بالإنسان من ظلمات الكفر الإلحاد والأساطير والأوهام والخرافات والأرباب والطواغيت إلى نور الإيمان بالله الذي ينير الطريق القويم ونور العدل والحرية والطمأنينة والمساواة. واتباع ما جاء في الكتاب أمر من الله سبحانه {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [21] . واتباع من جاء بالكتاب أمر منه أيضاً {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول} [22] . {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [23] . والكتاب هو الفاصل في أمور الحياة صغيرها وكبيرها حقيرها وعظيمها طيبها وخبيثها. {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [24] ، فالذي يؤمن بالله وبكتابه وبرسله وما جاءوا به من عند الله هدياً ونوراً وأحكاماً وقوانين هم المفلحون في الدنيا والآخرة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ(18/90)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [25] .
والجانب السلوكي الذي يجب أن يتمخض عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره واليوم الآخر يأتي في مقدمته أن تكون الطاعة لله ثم لرسوله لأن في طاعته طاعة لله فطاعة الكافرين والمنافقين والشياطين والمبتدعين والفسقة ليس من الإيمان بل إن طاعة ولي الأمر لا تجب إذا لم يكن عاملاً بكتاب الله منهجاً للحياة وسلوكاً للبشر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} ويقول: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} ومظهر هذه الطاعة أن يحكم المسلمون بما أنزل الله وأن لا يتحاكموا إلى الطاغوت والشيطان والكفرة والملحدين وقوانين البشر وأنظمتهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} .
إن أهم الوسائل التي تمارسها التربية الإسلامية في سبيل غرس الإيمان في القلوب والذي يدفع السلوك للعمل هو الإهتمام ببعض الجوانب العملية منها:(18/91)
1- حاجة البشر الفطرية لهذا الإيمان لأن الإيمان بالله هو الذي يمنح الطمأنينة والإستقرار ويحرر الإنسان من الخوف والأوهام والخرافات {فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} [26] وحاجة البشرية إلى الله سبحانه وتعالى والإيمان به الإحساس الدائم بوجود أمر ملازم للوجود البشري ويقول في ذلك كريس موريس: "أن كون الإنسان في كل مكان ومنذ بدء الخليقة حتى الآن، قد يشعر بحافز يحفزه إلى أن يستنجد بمن هو أسمى منه وأقوى وأعظم، يدل على أن الدين فطري فيه ويجب أن يقر العلم بذلك وسواء أحاط الإنسان صورة محفورة بشعوره بأن هناك قوة خارجية للخير أو الشر أم لم يفعل فإن ذلك ليس هو الأمر المهم بل الحقيقة هي اعترافه بوجود الله والذين أتيح لهم العلم بالعالم لا يحق لهم أن ينظروا نظرة الإزدراء إلى فجاجة أولئك الذين سبقوهم أو الذين لا يعرفون الآن الحق كما نراه. بل إننا بالعكس يجب أن تأخذنا الروعة والدهشة والإجلال لاتفاق البشر في جميع نواحي العالم على البحث عن الخالق والإيمان بوجوده. أو ليست روح الإنسان هي التي تشعر باتصالها بالله؟ أم نخشى أن نقول بأن الحافز الديني الذي لا يملكه إلا الإنسان هو جزء من الكائن الواعي كأية صفة أخرى من الخصائص؟ إن وجود الحافز هو برهان على قصد العناية الإلهية " [27] .
2- إيجاد الرغبة للإيمان والطلب للهداية قبل الإعتماد على الأدلة النظرية لأن خلو الرغبة من قلب الإنسان لا يجعله مؤمناً مهما ذكر له من الأدلة والبراهين وفي ذلك يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [28] .(18/92)
ويقول على لسان سيدنا نوح: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} فهم لا رغبة لهم في الإيمان بالرغم من الأدلة المادية المتعلقة بحياتهم والدافعة للإيمان التي ذكرها الله لهم {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [29] . {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} [30] .
ويمكن إيجاد هذه الرغبة بالترغيب والترهيب والجزاء والعقاب والآيات في ذلك كثيرة منها: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [31] .
ولا يتم الترغيب في الإيمان إلا إذا تخلص الإنسان من ربقة التقليد والتعصب لعقيدة الآباء والتكبر والتعالي واتهام الناس بالجهل والفساد في العقائد {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [32] .(18/93)
3- ربط الإيمان بالله بحياة الفرد وإشعاره بقرب الله منه والمراقبة الدائمة له حتى يكون هذا الشعور ضابطاً للسلوك وموجهاً له {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [33] . وربط الإيمان بحياة الفرد يتدرج من وضع يده على المحسات إلى ما لا يحس بدءاً بالإنسان نفسه وما بينه وبين الطبيعة الإلهية من توافق وانسجام {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [34] .
ثم التدرج إلى صورة أكبر من نعم الله على الإنسان {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [35] .(18/94)
4- بيان التوافق بين الإيمان والعلم لأنهما يكملان بعضهما لأن العلم الذي تؤمن به هو العلم الذي مصدره الله سبحانه وتعالى الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم والذي خلق الإنسان وعلمه البيان فبالعلم والإيمان يوجه السلوك ويقوم وتعتقد القلوب وتفهم {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ} [36] . إن القرآن يحدثنا أن التأمل والتفكير في الظواهر الطبيعية واستعمال الحس والمشاهدة هي وسيلة المعرفة لله والدالة على وجوده وبديع خلقه وإحكام صنعه ثم هي الوسيلة لتقوية الصلة العقلية بالله {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [37] . والتربية الإسلامية تدعو إلى كشف حقائق الوجود لمن تربيهم وتدعو إلى استخدام الحواس والقدرات التي أودعها الله في الإنسان ليدرك عجائب صنع الله فيكون نابعاً من إدراك وفهم وراسخاً لا يتزعزع ولا ينقص بل يزيد وينمو.
ثانياً: مرتكز الإنسان والفطرة:
اختلف العلماء حول الطبيعة الإنسانية بين من يرون الإنسان مادة أولية تطورت وتعقدت ومن يرونه عقلاً وروحاً ومن يرونه مكوناً من الروح والمادة واختلفت تبعاً لذلك تفسيراتهم لطبيعة الإنسان هل هي طبيعة حيوانية أم طبيعة روحية أم متوسطة بينهما.(18/95)
أما الإسلام فله رأيه في طبيعة خلقه فالقرآن يحدد خلق الإنسان فيقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [38] . فالقرآن يبين أن الإنسان خلق في أطوار {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [39] . والأطوار هي انتقال الإنسان من مرحلة الطين إلى مرحلة الإنسان ولا اهتمام لنا بالسل وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً سلة التي بين هذين الطورين إذ أن التحديد العلمي لذلك قد يكون صحيحاً وقد لا يكون والنفخة الروحية التي ذكرها القرآن هي التي جعلت من الطين إنساناً مكرماً، أما التفاصيل الموجودة في الآية فهي تتناول أطوار نشأت الفرد الإنساني بعد أن صار إنساناً ويقول أيضاً: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} . ويقول: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ فإذا فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} .(18/96)
من تفسير هذه الآية يقول سيد قطب رحمه الله:" ولقد كان خلق الإنسان من عناصر هذا الطين اللزج المتحول إلى صلصال ثم من النفخة العلوية التي فرقت بينه وبين سائر الأحياء، ومنحته خصائص الإنسانية وأولها القدرة على الإرتقاء في سلم المدارك العليا الخاصة بعالم الإنسان، هذه النفخة التي تصله بالملأ الأعلى: وتجعله: أهلاً للإتصال بالله وللتلقي عنه ولتجاوز النطاق المادي الذي تتعامل فيه العضلات والحواس، إلى النطاق التجريدي الذي تتعامل فيه القلوب والعقول والتي تمنحه ذلك السر الخفي الذي يسري به وراء الزمان والمكان ووراء طاقة العضلات والحواس إلى ألوان من المدركات وألوان من التصورات غير محدودة في بعض الأحيان.
ذلك كله مع ثقلة الطين في طبعه ومع خضوعه لضرورات الطين وحاجته من طعام وشراب ولباس وشهوات ونزوات، ومن ضعف وقصور وما ينشئه الضعف والقصور من تصورات ونزعات وحركات.
والتوازن بين خصائص العناصر الطينية فيه والعناصر العلوية هو الأفق الأعلى الذي يطلب إليه أن يبلغه وهو الكمال البشري المقدر له. فليس مطلوباً منه أن يتخلى عن أحد عنصريه ومطلبه ليكون ملكاً أو يكون حيواناً " [40] .(18/97)
إن وجود خصائص مادية وخصائص روحية في الإنسان جعلت التركيب الإنساني جامعاً لصفات ترجع بعضها إلى الناحية المادية وبعضها إلى الناحية الروحية فيه وبعضها إلى امتزاح الناحيتين في الإنسان وهذا ما يسمى بالميول والدوافع والغرائز، أو ما يسمى بالفطرة التي تشمل الثلاثة وكل واحدة من الثلاثة لها دلالتها وتفريعاتها فالغرائز هي الإستعدادات النفسية العضوية فطرية أو موروثة تجعل المرء يحدد مواقفه سلباً أو إيجاباً إزاء مواضيع معينة بعد إدراكه لها مباشرة أما الدوافع فهي كل أمر يدفع الإنسان إلى سلوك معين أو تغير داخلي معين سواء كان الدافع داخلياً من الإنسان أو خارجياً من بيئته التي يعيش فيها. والدافع يشمل كل الدوافع كالميول والرغبات والحوافز والحاجات وذلك كله يعبر عنه الإسلام بالفطرة باعتبارها قوة دافعة تدفع الإنسان إلى القيام بأفعال معينة نتيجة مواجهة مواقف معينة في الحياة، ولا نود أن نفصل الدوافع كلها ولكننا سنعرض لبعضها، فحب التملك دافع فطري في الإنسان عالجه القرآن مراراً {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} وقد ترتبت بعض الصفات على غريزة حب التملك في الإنسان مثل التدافع في الدنيا وحب الشهوات والنساء والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والأنعام والحرث وهو مع ذلك هلوع جزوع إذا أصابه شر ومنوع وناس إذا أدركه الخير.(18/98)
يقول الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [41] .
فهذه الآيات تصور النفس الإنسانية التي تتحكم فيها الإنفعالات حين لا تستند إلى عقيدة ثابتة وقيم دائمة فهي تلجأ إلى الله في ساعات الشدة فإذا صرف الله عنهم الشدة نسوه بل كفروا بما آتاهم من فضله ورحمته وقد يفرح الإنسان برحمة الله ونعمه وتنسيه الفرحة شكر النعمة والرحمة بل قد يجبر ويتكبر ويبطر فإذا ابتلاه الله في نعمته جزاء عمله تملكه اليأس والقنوط من رحمة الله. وهذه الحالات هي للنفس البشرية التي لا تستقيم على منهج الله ولا تثبت على قيمه.
هذه الدوافع الفطرية والغرائز المادية كلها خير إذا وجهت إلى الخير وشر إذا وجهت إلى الشر واسيء استعمالها.(18/99)
أما الدوافع الفطرية الروحية فإن الإسلام قد قررها ومنها نزعة التدين في الإنسان واستعداده الفطري في الإلتجاء إلى الله ومعرفته والركون إليه والإطمئنان عنده بصرف النظر عن صحة التدين أو انحرافه فالبشرية في تاريخها لم تخل من الآلهة التي عبدتها باطلاً من دون الله من الأشجار والأحجار والنيران والأبقار بل والبشر أنفسهم ولكن الفطرة السليمة هي التي عاهد الله عليها بني الإنسان وأخذ منهم العهد عليه {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [42] .
وعن الآية روي عن ابن عباس قوله:"إن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وتكفل لهم بالأرزاق ثم أعادهم في صلبه فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطى الميثاق يومئذ فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به نفعه الميثاق الأول ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يقر به لم ينفعه الميثاق الأول ومن مات صغيراً قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول على الفطرة " [43] .
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه ". ويقول الحديث القدسي: "إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً " [44] .(18/100)
وقد سبق أن ذكرنا الطبيعة الإنسانية في آراء الفلاسفة والإسلام وقد ذكرنا أن الإسلام يرى في الإنسان طاقات ضخمة يمكن توجيهها إلى الخير إذا وجهت توجيهاً صحيحاً وإلى الشر أو لم يحسن استخدامها فالإسلام يرى أن الدوافع والغرائز والميول يمكن أن توجه إلى الخير لتسمو بالإنسان وترقى به وتخلصه من الخلود إلى الأرض والركون إلى الشهوات وطاعة الشيطان وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: "إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ثم قرأ {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء} ".
والإسلام يقرر أن الإنسان كثيراً ما ينحرف عن فطرته ولكن التربية هي الوسيلة لإرجاع الإنسان إلى فطرته وتوافقه معها وإرسال الله الرسل للناس مع إشهاده لهم على أنفسهم إنما هي الوسيلة لهداية الإنسان إلى فطرته وتوجيهه إليها ومع أن القرآن يذكر أن الله ألهم النفس تقواها وفجورها وأن الإنسان قد يفلح بتزكيتها ويخيب بدسها فإن سيدنا إبراهيم يدعو الله قائلاً: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [45] .
فالرسل جاءوا معلمين للكتاب ومزكين للنفوس وموجهين للدوافع والفطرة {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [46] .(18/101)
وهكذا نجد أن الإسلام يقرر أن التربية تقوم على أساس من تقرير وجود غرائز وميول ودوافع تسير سلوك الإنسان وأن مهمة التربية هي توجيه هذه الطاقات الطبيعية إلى الخير وإلى وجهتها التي خلقت من أجلها وعلى دور التربية وواجبها يترتب الجزاء الأخروي {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [47] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الأحزاب 23-24
[2] طه 74-76.
[3] القاموس المحيط 389-390.
[4] راجع د. سعد مرسي - تطور الفكر التربوي ص 425 وما بعده الفصل الثالث العصور الحديثة.
[5] أبو الحسن الندوي- التربية الإسلامية الحرة ص 75 ط2.
[6] المصدر السابق ص 76.
[7] جون ديوي نقلاً عن أبي الحسن الندوي - أهمية نظام التربية والتعليم ص 12-13.
[8] محمد فاضل الجمالي - آفاق التربية الحديثة في البلاد النامية ص 127.
[9] التربية وطرق التدريس ص11.
[10] فتح الباري ص114 كتاب الإيمان ج1.
[11] الكهف 107.
[12] رياض الصالحين 153.
[13] فتح الباري ص 56/57 كتاب الإيمان.
[14] الصف آية 3.
[15] ق 16.
[16] لقمان 16.
[17] يس 36.
[18] إبراهيم 32- 34.
[19] معالم في القرآن 17- 18.
[20] سورة إبراهيم الآية 1.
[21] الأعراف آية 3.
[22] محمد 33.
[23] النساء 80.
[24] سورة الأعراف الآية 157.
[25] سورة النساء الآية 174- 175.
[26] سورة الجن آية 13.
[27] العلم يدعو للإيمان ص202-203.
[28] البقرة الآية 6- 7.
[29] نوح الآيات 7- 12.
[30] الأنعام 25.
[31] الطلاق الآية 11.
[32] الأعراف الآية 179.(18/102)
[33] ق الآية 16.
[34] سورة عبس 24- 32.
[35] إبراهيم الآيات 32- 34.
[36] الروم الآية 56.
[37] آل عمران 191-190.
[38] سورة المؤمنون 12- 14.
[39] نوح 14.
[40] في ظلال القرآن ص 21- 22 ح14 م5.
[41] سورة الروم 33/36
[42] الأعراف 172-173
[43] تفسير ابن كثير ص262 ج2
[44] رواه مسلم
[45] البقرة 151.
[46] البقرة
[47] النازعات 40-41.(18/103)
من مشاهد الإعجاز النفسي في القرآن الكريم
لفضيلة الدكتور علي البدري
الأستاذ المشارك بكلية اللغة العربية
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً. والصلاة والسلام على خاتم المرسلين الذي أوتي الكتاب ومثله معه. وبعد ...
فإن القرآن الكريم كتاب الله تعالى. كتاب خالد. وحجة دامغة. وحكمة بالغة. ومعجزة متجددة. ما بقي الجديدان. تعهد الله تعالى بحفظه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [1] على حين أن التوراة والإنجيل لم يحظيا بمثل هذه الرعاية الإلهية وترك شأنهما لأمانة أهل الكتاب.
فخانوهما. وحرفوهما. قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [2] . والقرآن الكريم كتاب أنزله الله تعالى. ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد [3] .
ودعا أهل الكتاب إلى الحق فقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [4] .
هذا ولا يختلف منصفان اثنان سواء منهم في ذلك من شرح الله صدره للإسلام. ومن جعل على بصره غشاوة. في هذه الحقيقة الواقعة "إعجاز القرآن " [5] .(18/104)
والقرآن الكريم منذ أربعة عشر قرناً. يعرض على دنيا الناس آيات التحدي. في قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [6] .
وقوله جل في علاه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [7] .
وقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [8] .
وقال عز شأنه: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [9] . ثم أعلن القرآن الكريم للناس هذه الآية الكريمة: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [10] .(18/105)
هذه آيات التحدي. يتلوها الناس منذ فجر الإسلام. لقد قرعت آذان الجاحدين مرات ومرات. وعجزوا وما يزالون وسيظلون عاجزين عن الإتيان بمثل القرآن الكريم. أو بمثل عشر سور فقط. أو بمثل سورة واحدة. ودون ذلك خرط القتاد. وذلك أمل بعيد المنال والسورة القصيرة الواحدة ونحوها من الآيات فوق طاقة البشر مهما بذلوا في ذلك من حيلة.
ومما ينبغي أن يعرفه الناس. أن إعجاز القرآن الكريم ليس في ألفاظ أو معانيه فحسب. وإنما جوهر الإعجاز في خصائص في نظم القرآن وراء ألفاظه ومعانيه [11] . وذلك فوق طاقة الإنس والجن مجتمعين أو متفرقين. ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.
وعلى الرغم من أن جوانب إعجاز القرآن الكريم كثيرة أوضحها نظمه الفريد. الذي يقول عنه الزمخشري: "وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من اللطف والخفاء حداً يدق عن تفطن العالم ويزل عن تبصره " [12] .
فإن هناك جانباً هاماً في الإعجاز وهو صنيعه النفوس المستعدة لمعرفة الحكمة وفصل الخطاب. فلا يسمع المرء كلاماً. يخلص إلى النفس كما يخلص القرآن الكريم إليها. فتحس بروعته وحلاوته. وعظمته ومهابته. وتأمل قوله تعالى:
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [13] . وإذا تأملت النفس المؤمنة آيات من كتاب الله تعالى. ازدادت إيماناً. وتأمل قوله تعالى:
س ِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [14] .(18/106)
والقرآن الكريم تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [15] .
وإذا تحدث عن الوعيد. عادت النفوس من مرتاعة قد علاها الوجيب وتغشاها القلق والفرق.!! لقد حال القرآن الكريم بين كثير من النفوس ومضمراتها أيام الجهالة والجحود. فكم من عدو لرسول الله صلى الله عليه وسلم. من صعاليك العرب وفتاكها. أقبلوا يريدون اغتياله! فإذا بهم يسمعون آيات من الذكر الحكيم فيقول قائلهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا رسول الله لقد كان وجهك أبغض الوجوه إليّ. وكان دينك أبغض الأديان إليّ. فوالله لقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ. وأضحى دينك أحب الدين إليّ ". [16] (من حديث ثمامة بن أثان) .
وهكذا تصبح عداوتهم موالاة. ويضحي كفرهم إيماناً. إنه صنيع الوحي الإلهي في نفوس البشر. وذلك مالا يتوفر لأي كتاب سوى القرآن الكريم ونظمه الفريد [17] ، وتلك دلائل شاهدات على الإعجاز النفسي في القرآن الكريم.
وإذا أمكن أن نشير بإيجاز إلى بعض الذين ملك القرآن عليهم أقطار نفوسهم. وذلك على سبيل المثال لا الحصر – فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
لقد خرج يريد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتصل إلى قلبه آيات من سورة طه فتحييه بعد موات. وتضيئه بعد إظلام. فلا يلبث أن يشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويضحي الفاروق رضي الله عنه أعظم نفسية إنسانية يقتدي المسلمون بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد الصديق رضي الله عنه. إنه صنيع القرآن الكريم في النفوس الطّاهرة. وإنه الإعجاز النفسي في القرآن الكريم.(18/107)
وأنيس الغفاري شقيق أبي ذر رضي الله عنهما يقول:"إن الناس يتهمون محمداً صلى الله عليه وسلم بالكهانة والسحر والشعر والجنون.!! وتالله لو وضعت القرآن الكريم على أقراء الشعر (قوافيه) فما التأم على إحداها. وهو ليس من أقاويل الكهنة. وإنه لصادق وإنهم لكاذبون ".
وتلك شهادة نفسية بما للقرآن الكريم من تأثير على النفوس التي شرح الله صدرها للإسلام.
وهذا الوليد بن عقبة يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يتلو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [18] . فيقول:" إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أسفله لمعرق وإن أعلاه لمثمر ثم أتبع هذا بقوله: وما يقول هذا بشر" [19] .
ومثل هذا القول لا يقوله إلا رجل خالط القرآن الكريم أعماق نفسه وذلك من شواهد الإعجاز النفسي في القرآن الكريم. أما تأثر الذين ختم الله على قلوبهم ... فقد كان واضحاً أيضاً.
فهذا عتبة بن ربيعة يستقدم سلاح الإغراء ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيذهب إليه متحدثاً بلسان قريش كلها. وقبله قال له عمه أبو طالب:"يا ابن أخي أبق عليّ وعلى نفسك. ولا تحملني من الأمر مالا أطيق "!!
فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر، ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ".(18/108)
وفي موقف آخر يقبل النبي صلى الله عليه وسلم مباهلة النصارى لأنه يحمل نفساً كريمة واثقة من نصر الله تعالى. ولكنهم يتراجعون [20] . ومع هذا الاطمئنان النفسي بنجاح الدعوة الإسلامية في مكة أو في المدينة. فلقد جاء عتبة هذا في مكة يقول للنبي صلى الله عليه وسلم:"يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت. وقد أتيت قومك بدين جديد فرقت به وحدتهم وشتَّت به ألفتهم. وسفهت أحلامهم وعبت آباءهم. فاسمع مني أعرض عليك أموراً لعلك تقبل بعضها ... !!
إن كنت تريد بهذا الأمر (الإسلام) مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفاً سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا؛ وإن كان هذا الذي لديك رئياً من الجن بذلنا لك الطب حتى يبرأ، أو لعل شعر جاش في صدرك فإنكم يا بني عبد المطلب تقدرون من ذلك على ما لا نقدر عليه " [21] .
وهكذا يكون الإغراء بالمال والجاه والسيادة. {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [22] ولكن عتبة هذا لم يلبث إلا قليلاً حتى سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم من صدر سورة فصلت إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [23] . وإذا بالرجل يلقي يديه خلف ظهره ويصفر لونه. وتأخذ الآيات عقله ولبه فيصيبه الأعيان. ويذهب إلى جماعة الكفر متثاقلاً. لا يستطيع المشي. فيقول لهم:
"يا معشر قريش. أطيعوني هذه المرة واعصوني فيما سواها. خلوا بين الرجل وما هو فيه. فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم. وإن ظهر عليكم. فهو منكم. وملكه ملككم. وكنتم أسعد الناس. لقد سمعت من كلامه ما ليس شعراً ولا سحراً ولا كهانة. ثم قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم ".(18/109)
ولم يلبث القوم أن اتهموه بالوقوع في سحر محمد (صلى الله عليه وسلم) ولكنهم قالوا: لقد عاد عتبة بغير الوجه الذي ذهب به إلى محمد (صلى الله عليه وسلم) .
إنه التأثير النفسي بالقرآن الكريم. وذلك من سمات الإعجاز النفسي في كتاب الله عز وجل.
وفي بيعتي العقبة الأولى والثانية. سمع الأنصار آيات من كتاب الله تعالى فأشرقت بها نفوسهم - بعد ظلام – فعادوا إلى المدينة المنورة (يثرب آنئذ) فنشروا فيها الإيمان حتى قال الكثيرون: فتحت الأمصار بالسيوف وفتحت المدينة المنورة بالقرآن.
وذلك من أوضح الدلائل على الإعجاز النفسي في القرآن الكريم.
وهذا هو الوليد بن المغيرة، يسمع القرآن الكريم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول:"لقد سمعت من محمد (صلى الله عليه وسلم) كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه ليعلو وما يعلى عليه ". إن هذا الوصف الجيد ليدل دلالة بالغة على مدى إحساسه النفسي بروعة القرآن الكريم. وهذا لا يتنافى مع كفره لأنه قد كفر عن علم. قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [24] .
إن الوليد بن المغيرة على الرغم من إحساسه النفسي بوحي السماء، اتهم النبي صلى الله عليه وسلم بالسحر. وقال عنه:"هو شيء يكون ببابل من حذقه فرق به بين الرجل وامرأته وبين الرجل وأخيه ... وهكذا فرق محمد (صلى الله عليه وسلم) بين فلان وزوجته وبين فلان وأقاربه ". وراح يعدد ... ببصيرة عمياء. وقد رد الله تعالى هذا الكفور بأن يصليه سقر التي لا تبقي ولا تذر [25] .(18/110)
ومهما يكن من شيء، فتأثر الوليد بالقرآن الكريم لا شك فيه. وهو أثر من الإعجاز النفسي للقرآن الكريم والفضل ما شهدت به الأعداء.
إن الوليد قال للناس:"يا معشر قريش، ما رجل منكم أعلم بالشعر ولا برجزه ولا بقصيدة. والله ما يشبه كلام محمد شيئاً من هذا. وأنتم تزعمون أنه شاعر مجنون. فهل رأيتموه يخنق؟ وتزعمون أنه كاهن!! فهل جربتم عليه كهانة قط "؟ لقد عاش بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وخمسين عاماً أربعون منها قبل النبوة وثلاثة عشر عاماً بعدها.
فكيف يتأتى لأمثال هؤلاء المعتوهين أن يقولوا فيه ما قالوا؟!! إنه الحقد وعمى البصيرة.
{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [26] . وهذا الرجلان هما الوليد بن المغيرة، وعروة بن مسعود الثقفي والقريتان مكة والطائف [27] إن تأثر الوليد هذا من أوضح دلائل الإعجاز النفسي في القرآن الكريم.
وإن الجن حينما سمعوا القرآن الكريم لم يلبثوا أن قالوا: ما حكاه عنهم القرآن الكريم: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً. وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} [28] .(18/111)
إن القرآن الكريم يضيء ظلمات القلوب. ما لم يكن أصحابها من المغضوب عليهم أو من الضالين [29] فهؤلاء قد بين الله تعالى شأنهم بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} . وإذا سألت عن سر استواء الإيمان وعدمه عندهم؟ فالجواب قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . وإذا سألت عن سر هذا الختم المهلك للدنيا وللآخرة معاً؟ فالجواب قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [30] . وتلك حال النفوس العمياء الصماء. وهي نفوس أكثر أهل الأرض قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [31] أما النفوس السوية فإن القرآن الكريم يحييها بعد أن كانت متينة ويضيئها بعد أن كانت مظلمة. قال تعالى:
{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [32] . وقال عز شأنه: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِم} .(18/112)
ولقد أشار القرآن الكريم إلى آثاره في نفوس بعض رهبان النصارى، وقسيسيهم في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [33] . وهذا لسماعهم بضع آيات من كتاب الله عز وجل. ولك أن تتأمل الآيات الكريمة الآتية:
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [34] .
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [35] .
{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [36] .
ويستطيع كل مسلم إذا تأمل القرآن الكريم أن يشعر بطمأنينة النفس قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [37] .(18/113)
إن القرآن الكريم يشعر النفس بنعمة الرضا بقضاء الله وقدره [38] ويملؤها بكل معاني الخير [39] وهو علاج نفسي يغني عن جميع عقاقير الأطباء، الذين يسمون أنفسهم أطباء نفسيين وهم أحوج الناس إلى علاج نفوسهم. ومن عاش مع القرآن الكريم، عاش هادئ النفس مطمئن السريرة [40] . عاش في كنف الله تعالى يستشعر إيجابية صفات الله تعالى، وفاعليتها في الكون والحياة. فإذا أصابه سوء، واضطرته ظروفه إلى الضيق لجأ إلى ربه الذي يتولاه. وتذكر قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [41] وقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [42] وقوله تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [43] وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء} [44] وقوله جل علاه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [45] وقوله عز وجل: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [46] وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [47] وقوله تعالى: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [48] وقوله عز شأنه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [49] وقوله سبحانه: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [50] وقوله تعالى: {وَمَنْ(18/114)
يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} .
ومن هالة الصراع المستمر منذ فجر التاريخ إلى اليوم وإلى الأبد بين الحق والباطل فعليه أن يتذكر قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [51] .
وبهذا تستريح نفسه ويوطن نفسه على استمرار هذا الصراع فيسعى إلى الجهاد بنفسه أو بماله أو بما يستطيع! إن التفكر في معاني القرآن يشفي النفوس من أوجاعها وأسقامها. قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} [52] ومن تعرض للفتن فعليه أن يسلك سبيل القرآن الكريم قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [53] . ولهذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن هذا القرآن مأدبة الله. فتعلموا من مأدبته ما استطعتم " [54] . ويقول جعفر الصادق:"عجبت لأربع كيف يغفلون عن أربع (أي من الدعوات القرآنية) :
عجبت لمن مسه الضر. كيف يغفل عن قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} دعا بها أيوب فقال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [55] .
وعجبت لمن يمكر به الناس. كيف يغفل عن قوله تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} والله تعالى يقول عقيبه: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [56] .(18/115)
وعجبت لمن تكاثر أعداؤه كيف يغفل عن قوله تعالى: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} . دعا بها المسلمون حين قال لهم الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} فقال عز وجل: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ} [57] .
وعجبت لمن أصابه محزن. كيف يغفل عن قوله تعالى: {لا إِلَهَ إِلاَّأَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} . وقد دعا بها ذو النون عليه السلام فاستجاب الله له. كما قال تعالى في كتابه الكريم: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} ولم يكن ذلك له خاصة. لأن الله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [58] . وهكذا يتجلى لنا أن القرآن الكريم جوهر الطب النفسي، وأنه معجز إعجازاً نفسياً لا يماثله في هذا المجال أي كتاب في علم النفس أو في غيره. قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} إن للقرآن الكريم تأثيراً جوهرياً في النفوس الطاهرة المطمئنة [59] . ولقد صور الشاعر الراحل هاشم الرفاعي كيف يكون القرآن الكريم راحة للنفس. لا ينفع غيره شيئاً على الإطلاق! وحتى في أحلك اللحظات. لحظات الإعدام. فيقول على لسان مظلوم حكم عليه بالإعدام فبعث برسالة إلى أبيه في ليلة التنفيذ منها قوله:
الليل من حولي هدوء قاتل
والذكريات تمور في وجداني
ويشدني ألمي فأنشد راحتي
في بضع آيات من القرآن
والنفس بين جوانحي شفافة
دب الخشوع بها فهد كياني
قد عشت أؤمن بالإله ولم أذق
إلا أخيراً لذة الإيمان
ثم يعود إلى التركيز على ما يريح النفوس ويعزيها عن فقد الحياة. على حبل المشنقة. فيولي وجهه جهة عدالة القرآن فيقول لأبيه:(18/116)
هذا الذي سطرته لك يا أبي
بعض الذي يجري بفكر عان
لكن إذا انتصر الضياء ومزقت
بيد الجموع شريعة القرصان
فلسوف يذكرني ويكبر همتي
من كان في بلدي حليف هوان
وإلى لقاء تحت ظل عدالة
قدسية الأحكام والميزان
إن القرآن الكريم علاج للثكالى والمفجوعين والمرضى والمحرومين والبؤساء والمظلومين يفرون إلى ربهم بتلاوة كلماته فتكون عليهم برداً وسلاماً. والله بهم بر رحيم. يعيشون في كنفه راضين مطمئنين. شاكرين الله تعالى أن جعل لهم ألسنة رطبة بذكره على الدوام.
لقد قال بعض هؤلاء الراضين:"لو علم رجال الدنيا اللذة التي نحن فيها مع ربنا، لقاتلونا عليها بالسيوف. وما ذلك إلا بسبب الرضا النفسي الذي أسبغه عليهم كتاب الله الكريم: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [60] أما المفتونون فيقول الله تعالى عنهم: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [61] .
إن تربية المرء على هدي كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم تورثه سكينة في قلبه وطمأنينة في نفسه يشعر بحلاوتهما مادام على صلة بالقرآن [62] ولقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن بأنه:"لا يخلق عن كثرة الرد. ولا تنقضي عبره. ولا تغنى عجائبه. هو الجد ليس بالهزل. لا يشبع منه العلماء. ولا تزيع به الأهواء. ولا تلتبس به الألسنة. هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا:(18/117)
{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} . من قال به صدق. ومن حكم به عدل. ومن خاصم به فلج. ومن قسم به أقسط. ومن عمل به أجر. ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم!! ومن طلب الهدى في غيره أضله الله. ومن حكم بغيره قصمه الله. هو الذكر المبين. والصراط المستقيم. وحبل الله المتين. والشفاء النافع. عصمة لمن تمسك به. ونجاة لمن اتبعه. ولا يعوج فيقوم ولا يزيع فيستعتب " ا. هـ[63] .
هذا وصف نبوي كريم للقرآن الكريم – {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [64] . وإن هذا الكتاب الخالد. هو مصدر هداية المسلمين فرداً فرداً وهو سبيل إصلاح نفوس البشرية صلح أول هذه الأمة. ولن يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها. به ألف الله تعالى بين قلوب المؤمنين فقال عز شأنه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [65] .
وبه أنزل الله تعالى السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً، وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [66] ، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} .(18/118)
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [67] .
إن تأثيره في النفوس لمن أوضح سمات الإعجاز النفسي في القرآن الكريم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة الحجر آية 9.
[2] سورة البقرة آية 79.
[3] سورة إبراهيم آية 1.
[4] سورة المائدة الآيتان 5، 16.
[5] التصوير الفني في القرآن للأستاذ سيد قطب ص11.
[6] سورة الطور الآيتان 3، 34.
[7] سورة هود الآيتان 3، 14.
[8] سورة يونس الآيتان 38، 39.
[9] سورة البقرة الآيتان 23، 24.
[10] سورة الإسراء آية 88.
[11] أنظر إعجاز القرآن والبلاغة النبوية للرافعي ص 238 وما بعدها – وانظر أيضاً البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن للزملكاني تحقيق د. أحمد مطلوب ود. خديجة الحديثي ط بغداد ص53 – وانظر معاني القرآن للفراء ط دار الكتب المصرية ص19.
[12] الكشاف جـ2 ص473 وانظر إعجاز القرآن بين المعتزلة والأشاعرة منير سلطان ط الأسكندرية سنة 1397هـ/ 1977م ص176.
[13] سورة الزمر آية 23.
[14] سورة الأنفال آية 2.
[15] سورة فصلت آية 42.
[16] من هدي النبوة للأستاذ الشرباصي الحسنين ط القاهرة ص76.
[17] إعجاز القرآن ... لعبد الكريم الخطيب ص234 ط سنة 1394هـ وانظر فكرة النظم بين وجوه الإعجاز ... للدكتور فتحي أحمد عامر ط المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.
[18] سورة النحل آية 90.(18/119)
[19] الرسالة الشافية للإمام عبد الظاهر ص125 من ثلاث رسائل في إعجاز القرآن (دار المعارف) .
[20] مدخل إلى القرآن الكريم عرض تاريخي وتحليل مقارن للدكتور محمد عبد الله دراز ترجمة الأستاذ محمد عبد العظيم علي ص 172.
[21] بيان إعجاز القرآن للخطابي تحقيق عبد الله الصديق ط 1372هـ/ 1953م ط القاهرة ص 94.
[22] سورة النساء آية 77.
[23] سورة فصلت آية 1 – 13.
[24] سورة الجاثية آية 23.
[25] راجع سورة المدثر الآيات من 11 – 30.
[26] سورة الزخرف آية 31.
[27] المصحف المفسر لمحمد فريد وجدي ص 650.
[28] سورة الجن الآيات من 1 – 3.
[29] الأشباه والنظائر لمقاتل بن سليمان البلحي تحقيق د. عبد الله شحاتة ط سنة 1395هـ/1975م ص101.
[30] سورة البقرة الآيات من 6 - 10.
[31] سورة الأنعام آية 116.
[32] سورة الحشر آية 21.
[33] سورة المائدة الآيات 82، 83.
[34] سورة ق آية 37.
[35] سورة الكهف آية 1.
[36] سورة النساء آية 82.
[37] سورة الرعد آية 28.
[38] نعمة القرآن للسيدة نعمت صدقي ص217 مكتبة عالم الكتب بالقاهرة.
[39] الدستور القرآني ... في شئون الحياة للأستاذ محمد عزه دروزه ص485 – وانظر القرآن والمبشرون للأستاذ دروزه أيضاً ص462 طبعة المكتب الإسلامي دمشق – سوريا.
[40] دستور الأخلاق في القرآن للدكتور محمد عبد الله دراز تعريب د. عبد الصبور شاهين ط. الرسالة ص725-745.
[41] سورة النمل آية 62.
[42] سورة الأنعام آية 18.
[43] سورة يوسف آية 21.
[44] سورة آل عمران آية 6.
[45] سورة الأنفال آية 24.
[46] سورة البروج الآيات من 12-16.
[47] سورة الطلاق الآيتان 2، 3.
[48] سورة هود آية 56.
[49] سورة الزمر آية 36.(18/120)
[50] سورة الحج 18.
[51] سورة الرعد آية 17.
[52] سورة الإسراء آية 82.
[53] سورة الإسراء آية 9.
[54] دليل الحيران في آيات من القرآن للأستاذ خلف محمد الحسيني ص12.
[55] سورة الأنبياء آية 84.
[56] سورة غافر الآيتان 44، 45.
[57] سورة آل عمران الآيتان 173، 174.
[58] سورة الأنبياء الآيتان 87، 88.
[59] أنظر القرآن وإعجازه العلمي للأستاذ محمد إسماعيل إبراهيم ط دار الفكر القاهرة ص 46 وانظر القرآن يتحدى. للأستاذ أحمد عز الدين خلف الله ط سنة 1397 هـ 1977 م مطبعة السعادة بالقاهرة ص 276.
[60] سورة الرعد آية 8.
[61] سورة المائدة آية 41.
[62] تجربة التربية الإسلامية في ميزان البحث للأستاذ محمد سعيد رمضان البوطي ط المكتبة الأموية دمشق ص 52:72.
[63] معترك الأقران في إعجاز القرآن للحافظ جلال الدين السيوطي تحقيق علي البجاوي القسم الأول ص 244، 245 ط دار الفكر القاهرة.
[64] سورة الإسراء آية 9.
[65] سورة الأنفال آية 63.
[66] سورة الفتح من الآيات 18.
[67] سورة الشورى الآيتان 52، 53.(18/121)
الدعوة الإسلامية في الهند
لفضيلة الدكتور محيي الدين الألوائي
المدرس بالجامعة الإسلامية
إن الدعوة الإسلامية وتطورها في الهند لم تكن إلا حلقة من حلقات سلسلة هذه الدعوة الكريمة الممتدة عبر التاريخ الأمة الإسلامية، وأن التاريخ حافل بالجهود المتلاحقة التي بذلها الدعاة العاملون لهذا الدين في كل بقعة من بقاع الأرض، فما دامت طائفة من العلماء المخلصين تقوم بالدعوة إلى الله وتعمل بجد واجتهاد وإخلاص لإعلاء كلمته ونشر تعاليم كتابه وسنة رسوله، تكون الأمة بخير وعزة وسؤدد. وإلى هذه الحقيقة يشير الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم بقوله: "وأن العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ".
وللبحث عن الإسلام في الهند جانبان مستقلان، يختلف كل منهما عن الآخر، فبينما يتناول الأول دخول الإسلام فيها كدعوة وفكرة، والجهود التي بذلها الدعاة المسلمون في سبيل نشرها في أوساط الأمة الهندية بطريق الموعظة والإرشاد والقدوة الحسنة، يتناول الجانب الآخر حكم المسلمين فيها والفتوحات العسكرية التي قام بها الملوك والأباطرة المسلمون. وأما الجانب الإسلامي كدعوة خالصة وعقيدة وعمل فهو أعمق أثراً في تاريخ الإسلام والمسلمين في شبه القارة الهندية وأوسع نطاقاً من حيث البحث العلمي.(18/122)
ويرجع فضل انتشار الدعوة الإسلامية في هذه البقعة الواسعة الأرجاء، إلى دعاة من المسلمين العرب والهنود الذين تشبعوا بروح الإسلام السمح، وبذلوا جهوداً جبارة في سبيل نشر دين الله الحنيف في كل بقعة نزلوا فيها، وكان رائدهم في ذلك قول الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... } وبدأت هذه الجهود الفردية في الهند قبل الفتح الإسلامي الأول الذي قام به (محمد بن القاسم الثقفي) في نحو عام 91 من الهجرة النبوية، في شمال القارة الهندية، فلا يرجع فضل انتشار الدعوة الإسلامية فيها إلى الملوك والأباطرة المسلمين الذين قاموا بفتوحات عسكرية في شبه القارة الهندية وشيدوا إمبراطورياتهم فيها، بيد أنهم تركوا بعض الآثار الإسلامية القيمة من المساجد الفخمة والقلاع الضخمة وأسدوا خدمات لإحياء بعض الفنون والآداب، وأضافوا بابتكارات علمية وفنية في تاريخ الهند المجيد.
يشير التاريخ إلى أن صوت الإسلام قد وصل لأول مرة إلى الهند بأيدي العرب، وكانوا هم طليعة المسلمين الذين أناروا الطريق لنشر الدعوة الإسلامية في ربوعها، عقب أن انبثق فجرها في بلاد العرب، فوجدت أرضاً خصبة من أرجاء الهند وتفتحت زهورها في أنحائها وأثمرت ثمارها اليانعة في جو من الحرية والسلام.
دخل الإسلام الهند من طرق ثلاث، من الناحية الجغرافية، ومن أهمها: شواطئ الهند الغربية الواقعة في بحر العرب التي كانت مركز ارتياد لتجار والرحل العرب منذ أقدم العصور، في البلاد الهندية وفي طريقهم إلى جزيرة سيلان وإلى الصين وجاوة وغيرها من بلدان الشرق الأقصى.(18/123)
والطريق الثاني الذي دخل منه الإسلام إلى الهند، مناطق السند الواقعة على شاطئ الهند الشمالي الغربي، حيث دخل (محمد بن القاسم الثقفي) فاتحاً في عهد حكم (الحجاج بن يوسف الثقفي) وذلك في نحو عام 91 هـ. والطريق الثالث الحدود الشمالية الغربية المتاخمة لأفغانستان وإيران، وأول من دخل الهند فاتحاً من هذا الطريق الجبلي الوعر (محمد الغزنوي) فيما بين عامي 388-421هـ.
ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم، في العامين السابع والثامن الهجريين، الوفود إلى التخوم للدعوة إلى الإسلام، يحملون رسائله عليه الصلاة والسلام إلى أصحاب الأمور والسلطان في أقطار جزيرة العرب وخارجها، يدعوهم إلى حظيرة الدين الحنيف، عرفت الدعوة الإسلامية طريقها إلى الثغور الشرقية والجنوبية، وأخذت تنشر بين العجم، ومنهم الهنود المستوطنون الساكنون في هذه المناطق، فلبى عدد منهم نداء الدعوة الجديدة.
ومن ناحية أخرى، فإنه من الطبيعي أن يحاول التاجر العربي المسلم التحدث عن الدعوة الجديدة التي ظهرت في بلده إلى أصدقائه ومعارفه في موانئ الهند ومراكزها التجارية التي يرتادها لأغراض تجارية بل ويحاول نشرها بين أهل الهند الذين شاهد نزعتهم الدينية وحبهم للعرب. ويشير التاريخ أيضاً إلى أن بعض حكام الهند، حينما سمعوا عن ظهور نبي جديد في جزيرة العرب ودعوته، حاولوا إنشاء رابطة بينهم وبين النبي العربي مباشرة ليروه وليستمعوا إليه وليفهموا رسالته وتعاليمه.(18/124)
وذكر بعض المؤرخين - مع وجود احتمال تاريخي وطبيعي كبيرين- أن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، قد بعث رسالة - من ضمن الرسائل التي بعثها إلى ملوك وحكام آسيا وأفريقيا إلى ملك (مليبار) (في مقاطعة كيرالا بجنوب الهند) الواقعة في ساحل بحر العرب المواجهة لجزيرة العرب، كما قالوا إن ملكاً من ملوك هذه المناطق وهو (جيرمان برومال) ملك (كرانغنور) قد سافر إلى جزيرة العرب لمقابلة النبي عليه الصلاة والسلام، هذا في السابع والخمسين من عمره صلى الله عليه وسلم.
والذي يفهم من هذا البيان أن تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند مر عليه حتى الآن 14 قرناً من الزمن، بينما مر 13 قرناً على قيام أول دولة عربية في السند، وظلت الهند كلها تحت حكم المسلمين أكثر من ثمانية قرون ونصف القرن، أي من قيام الدولة الغزنوية في سنة 392 هـ 1274 هـ. (1001م - 1857م) . ثم استمر حكم الإنجليزي في شبه القارة الهندية لمدة قرن من الزمان.
طوال هذه الفترات الممتدة، من تاريخ الإسلام والمسلمين في الهند لم تقم هيئة أو منظمة تستهدف نشر الدعوة الإسلامية وتبلغها حسب خطة مرسومة ومنهج مدروس بل وتعرضت الدعوة ودعاتها لاضطهادات جمة من جانب الحكام الإنجليز- ومما هو جدير بالذكر أيضاً، مع الأسف الشديد، أن بعض الحكام المسلمين المستبدين قد وضعوا العراقيل أمام الدعاة المصلحين.
ومن بواعث الدهشة والإعجاب للعقول العادية - إن صح التعبير - أن الدعوة الإسلامية قد فاتت في انتشارها في أوساط الشعب الهندي - برغم هذا كله - جميع الدعوات الأخرى، وتركت ملامح واضحة عديدة تشير إلى المدى الواسع الذي حققته هذه الدعوة في شبه القارة الهندية.(18/125)
وكانت شبه القارة الهندية، وقت استقلالها عن حكم الإنجليز سنة 1947م أولى دول العالم في عدد المسلمين، حيث كانت تضم أكثر من 120 مليون مسلم، ثم قام تقسيم شبه القارة إلى دولتين - الهند وباكستان - وصارت الهند دولة مستقلة ذات أغلبية هندوكية وأقلية مسلمة وصارت الباكستان دولة مستقلة ذات أغلبية مسلمة وأقلية هندوكية وكان عدد المسلمين في الباكستان وقت التقسيم - حوالي 80 مليوناً وعدد المسلمين في الهند نحو 40 مليوناً.
واليوم تعتبر الهند وحدها ثانية دول العالم في عدد المسلمين، حيث تضم أكبر جالية إسلامية، بعد إندونيسيا، إذ يبلغ عدد المسلمين فيها أكثر من مائة مليون نسمة. وتليها بنجلاديش فباكستان. وهم يشكلون أكبر طائفة في الهند بعد طائفة الهندوس. ومن ثم لا تزال الهند جزءاً حياً هاماً من جسم العالم الإسلامي الكبير الواسع الذي يربط بين أجزائه رباط وثيق من الرابطة الروحية والأخوة الإسلامية. فإذا ألقينا نظرة على شبه القارة الهندية فلا نجد فيها، مع اتساع رقعتها وتعدد مقاطعاتها ومناخها بقعة إلا ودخلها صوت الإسلام ووطئتها أقدام الدعاة وظلت الدعوة الإسلامية متمكنة في هذا البلد المترامي الأطراف، على رغم تقلبات الزمن وتطورات العصر. ولم تستطع التيارات الخارجية أو الداخلية أن تحد من تقدمها وتطورها كما لم تفلح المحاولات العديدة التي بذلها مناهضو الدعوة الإسلامية لمنع استمرارها واستقرارها وتطورها.
ويمكن أن نلخص الأسباب الرئيسية التي ساعدت على هذا الإنتشار الواسع السريع الذي أحرزه الإسلام في أرجاء الهند في النقاط التالية:
1- النزعة الدينية لأهل الهند:(18/126)
لقد أشار الإمام (الشهرستاني) في كتابه (الملل والنحل) إلى مدى النزعة الدينية لأهل الهند، في معرض الكلام عن أمم الدنيا وتقسيمهم حسب المذاهب والنزعات، حيث قال:"وإن العرب والهند يتقاربان مع مذهب واحد وأكثر ميلها إلى تقرير خواص الأشياء، واستعمال الأمور الروحانية ".
وأصاب الإمام (الشهرستاني) في تعميم حكمه على جميع أهل الهند في كل زمان ومكان، إذ نجد جميع الديانات الهندية القديمة تلتقي مع الأديان السماوية، في نقطة الإيمان بوجود الخالق، وخلود الروح وحسابها في الحياة الأخرى، وإن اختلفت معها في التفاصيل. ويرجع سر حصول الأديان والثقافات العديدة التي أتت إلى الهند في مختلف العصور، على الترحيب الذي ساعدها على الإنتشار في أنحاء هذه البلاد المترامية الأطراف، إلى الروح المتسمة بالتسامح السائدة بين حكام الهند وقتئذ، وإلى نزعة أهلها إلى ترحيبهم بكل ما يرد إليها من الخارج من دعوات وثقافات وأفكار.
وقد رحبت الهند في العصر القديم بالآراء المصرية واليونانية، ثم رحبت بالمسيحية في قرنها الأول ثم بالدعوة الإسلامية حيث وجدت نوافذها مفتوحة عندما طرقها الدعاة المسلمون في عهدها الأول.
2- صفات الدعاة المسلمين ووسائلهم:
والدعوة الإسلامية الحقة، هي الدعوة إلى الله وإلى الأخوة الإنسانية والعدالة الإجتماعية والتسامح والبساطة في جميع مرافق الحياة. وكان الدعاة الأوائل بعيدين كل البعد عن التعصب الديني والعنف والإكراه في كل خطوة يخطونها في سبيل أهدافهم النبيلة. وكانوا قدوة عملية للآخرين. وقد اتخذوا رائدهم في ذلك إرشاد القرآن الكريم: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين} . وقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة} .(18/127)
وكان الدعاة المسلمون في شبه القارة الهندية سواء العرب أو الهنود الذين تشبعوا بروح الإسلامية السمح مظهراً حياً يدعون إليه من الخلق القويم والأعمال الصالحة، حيث تأثر المدعوون بالقدوة الشخصية الحسنة، حتى أصبح الداعون محل احترام وتقدير لدى كل طوائف الأمة وكان هؤلاء الدعاة فاتحي القلوب، لا فاتحي البلاد. وكانت زوايا وتكايا هؤلاء الدعاة مراكز للزائرين الذين يترددون إليها للتزود بالإشعاع الروحي والخلقي، كما كانت الزوايا مظهراً للإنسجام الطائفي والأخوة الوطنية بين شتى الطوائف التي يتكون منها المجتمع الهندي الكبير ذو التاريخ العريق.
3- نظرة الإسلام إلى الأديان الأخرى:
يقرر الإسلام مبدأ التسامح الديني والأخوة الإنسانية وعدم العنف والتعصب في الشئون الدينية بأي شكل من الأشكال بالآيات القرآنية الآتية:
1-
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} 99 يونس.
2-
{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّين} 256 البقرة.
3-
{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} 100 يونس.
ومما لا شك فيه أن بعض الحكام المسلمين استخدموا التشدد باسم الدين نحو اتباع الأديان الأخرى، أحياناً بمقتضيات أمن الدولة واستقرارها، وأخرى بدافع من المآرب الشخصية. وفي كلتا الحالتين فإن التعاليم الإسلامية والإرشادات القرآنية الصريحة كانت بريئة كل البراءة من أعمال هؤلاء، لأنهم استغلوا الدين للأغراض السياسية - عمداً أو جهلاً - فأصبحوا وصمة عار في تاريخ الدعوة الإسلامية التي لم تكتف بالدعوة إلى حرية العقيدة وحرية العبادة، بل دعت إلى التسامح في الدين والسياسة، وحرمت على المسلمين التعرض لدين الغير وحريته العقائدية.
4- الأوضاع العقائدية السائدة:(18/128)
وكانت عامة الناس تئن تحت وطأة آفتين اجتماعيتين هما: النظام الطبقي المتطرف الذي فرق شعباً واحداً إلى طبقات، وكذلك آفة الكهنة الذين انحدروا إلى أعمال الشعوذة والخرافات التي يرفضها العقل السليم. فلما وصل الإسلام إلى الهند لأول مرة، يدعو إلى العدالة الإجتماعية والمساواة الإنسانية والقوانين الفطرية التي هي الدعائم الثلاث لصرح الإسلام، وجد عامة الشعب الهندي فيها مخرجاً من الكابوس الإجتماعي البالي، فدخلوا في الإسلام أفواجاً.
وهذه هي الأسباب الرئيسية التي يرجع إليها الفضل الأكبر لانتشار الإسلام في الهند بسرعة وكثرة واستقرار جذوره في أرضها الخصبة وأصبح تاريخه جزءاً لا يتجزأ من تاريخ الهند المديد.
ومن الوسائل الرئيسية التي اتبعها الدعاة المسلمون في الهند في سبيل نشر الدعوة الإسلامية في جميع المراحل:
أولاً:
القدوة الشخصية: اتخذ الدعاة، القدوة الحسنة الشخصية كوسيلة رئيسية في أداء رسالتهم نحو نشر التعاليم القرآنية والإرشادات النبوية في أفراد الأمة الهندية وجماعاتها. وتمسكوا بهذه الوسيلة اعتقاداً راسخاً منهم بأن إسداء النصح والأوامر بدون أن يكونوا هم القدوة الأولى لا يؤثر في القلوب ولا يؤدي إلى الهدف المطلوب. وهذه هي إحدى الميزات التي امتاز بها الدعاة المسلمون في شبه القارة الهندية. وكانوا دائماً مظهراً حياً لما يدعون إليه من الخلق القويم والأعمال الصالحة حتى يتأثر بها المدعوون بالقدوة الشخصية والسلوك الشخصي.
وثانياً:(18/129)
: الموعظة الحسنة: وهي الكلام اللين المشتمل على العظات التي يستحسنها السامع ويندفع للإستماع إليها وتقبلها. وكانوا يتمسكون في ذلك بإرشاد قوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت 34) فانجذب سكان البلاد إلى حظيرة الإسلام مقتنعين بصدق الدعوة وصدق الدعاة ومتأثرين بدين العدل والمساواة. نعم وقد وجدوا في هؤلاء الدعاة أخلاقاً بعيدة عن شوائب المآرب الشخصية أو المطالب الذاتية.
وثالثاً:
ابتعادهم عن المآرب السياسية: وكان الدعاة المسلمون الحقيقيون في الهند، في بعد تام عن ساحة الملوك وأصحاب السلطان كما كانوا يتبعون حياة الزهد والقناعة ولقنوا مبادئ الدين الحق للناس وعلموهم آداب الإسلام وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وقد أدركوا جيداً أن الإهتمام بالسياسة والإختلاط بأصحابها يلهمهم عن مهمة الدعوة الخالصة وجذبهم إلى الحزازات الطائفية والإختلافات الداخلية فكرسوا جهودهم وأوقاتهم وطاقاتهم في أمر الدعوة، ولذا ارتفعت مكانتهم في قلوب الشعب وأصبحوا بعيدين عن نطاق التهم والشكوك.
رابعاً:
جهودهم الفردية: فكان الدعاة المسلمون يقومون بإرشاد الناس إلى طريق الحق وتلقينهم مبادئه بالإتصال الشخصي، حيث يخالطون الجماهير ويعاشرونهم ويجالسونهم، فيتأثر سكان البلاد بأخلاقهم الزكية وآدابهم العالية فاختاروا سبيل هؤلاء الدعاة المرشدين عن انشراح صدر وطيب نفس وأن ابتعاد هؤلاء المرشدين عن ساحات الملوك والحكام وأصحاب السلطان، قد أكد للشعب إخلاصهم في دعوتهم وبراءتهم عن أي مأرب سياسي أو مادي.
خامساً:(18/130)
مخاطبتهم الناس بلغتهم وبقدر عقولهم: فكان هؤلاء الدعاة ينتمون إلى قسمين، قسم هاجروا إلى الهند واتخذوها مقراً لهم للدعوة إلى الله ونشر مبادئهم الروحية، وقبل أن يبدأوا مهمتهم تعلموا لغات القوم ودرسوا ظروفهم البيئية واتجاهاتهم النفسية وانحرافاتهم الخلقية، لكي يخاطبوهم بلسانهم وتصل دعوتهم إلى قلوب المخاطبين ومشاعرهم، حتى تعالج الإنحرافات التي وقعوا فيها، سواء أكانت خلقية أو اجتماعية أو دينية.
والقسم الثاني، هم الدعاة الهنود الذين تشبعوا بدعوة الإسلام وأحسنوا لغة البلاد ودرسوا طبيعة قومها وبيئتها.
وهكذا اجتمعت في هؤلاء الدعاة شروط نجاحهم والصفات التي يجب أن تتحقق فيهم من نظرة الإسلام وقدوة الأنبياء والرسل، فتوفر فيهم الخلق القويم والصبر الجميل والعزم الأكيد والإيثار والفهم الواعي للبيئات والظروف، وكذلك امتازوا بميزة لابد أن يتجلى بها كل داع لهم النجاح والنصر في دعوته، وهي القدرة على التبليغ بلغة المخاطب بكل إتقان ولباقة وثقة.
وأن حاضر الدعوة الإسلامية في الهند يعتمد اليوم على الدعائم الثلاث الآتية:
أولاها: المعاهد الإسلامية المنتشرة في مدن الهند وقراها، وهي بمثابة مراكز كبرى للإشعاع الديني لمسلمي الهند اليوم، ولها فضل كبير في نشر العلوم الإسلامية واللغة العربية ويجري معظم هذه المعاهد بطريق المساعدات الفردية والتبرعات الأهلية وفيها عدد من المدارس والكليات التي تتلقى مساعدات من الجامعات الحكومية والجهات الرسمية.(18/131)
وثانيتها: المساجد والتكايا التي تجري فيها الحلقات الدراسية الإسلامية حسب النظم القديمة. وتعيد المساجد في الهند اليوم دورها الذي كانت تلعبه في الماضي في نشر الإشعاع الديني والثقافي للمجتمع الإسلامي وكانت محط آمال طلاب النور والعرفان في كل ركن من أركان العالم الإسلامي. وتضم الهند آلاف المساجد التي تجري فيها الحلقات الدراسية النظامية، تدرس فيها العلوم الإسلامية واللغة العربية، كما أن خطباء هذه المساجد يلقون دروساً دينية صباح مساء، إلى جانب دروس وخطب أيام الجمع. وفوق هذا وذاك فإن وجود هذا العدد الكبير من المساجد العظيمة التاريخية، التي تضاهي أفخم وأجمل المساجد الكبرى في العالم، في أنحاء الهند ليعيد إلى أذهان مسلميها مجد ماضيهم فيها ويذكرهم بمسئوليتهم على حفاظ هذا التراث الضخم، ولا يتأتى ذلك إلا بالمحافظة على شعائر الإسلام والتمسك بمبادئه والعمل على نشر دعوته.
وثالثتها: الجماعات والهيئات الإسلامية التي تقوم بواجب الدعوة والتبليغ. ولم نر في تاريخ الدعوة الإسلامية الطويل في شبه القارة الهندية جماعة أو هيئة رسمية أو غير رسمية، أنشئت لغرض الدعوة والتبليغ حسب منهج تبليغي منظم. وكل ما رأيناه في مجال الدعوة هو الجهود الفردية من الدعاة المخلصين من العلماء والوعاظ الذين اتخذوا من مجالسهم العلمية - إما في منازلهم أو في التكايا أو في المساجد - مراكز لبيان محاسن الإسلام وإبرازها ناصعة واضحة أمام الناس كما كانوا يقومون برحلات وجولات في سبيل نشر دعوة الحق بطريق الموعظة والإرشاد، وفي جميع الأحوال كانوا قدوة حسنة وحية في حياتهم الخاصة والعامة للتحلي بالأخلاق الفاضلة وحسن المعاملة والإخلاص والوفاء. كما كانوا يهتمون بتربية الناس على الطباع المستقيمة التي يدعوا إليها الدين الحنيف.(18/132)
ولم يحدث تطور يذكر في الوسائل المذكورة للدعوة الإسلامية في شبه القارة إلا في القرن العشرين، حيث ظهرت بعض الجماعات الإسلامية تهدف إلى نشر الدعوة في أنحاء البلاد. فيمكن لنا أن نقسم هذه الجماعات، الهادفة إلى نشر الدعوة الإسلامية، إلى أنواع حسب المنهج الذي تسير عليه في تحقيق مهمتها، فمنها جماعة تقوم بنشر الدعوة بين الناس عملياً، بالإتصال المباشر بالناس وخاصتهم ويلقنونهم مبادئ الإسلام ويحثونهم على العمل بها.
ومنها جماعات تركز اهتمامها بنشر الدعوة الإسلامية علمياً فأصحابها يوجهون نشاطهم إلى الطبقة المتعلمة أكثر منه إلى عامة الناس، وذلك بنشر فكرة الإسلام، بطريق الكتب والمجلات في مختلف اللغات المحلية، بأسلوب علمي ومنطقي يجذب أنظار المتعلمين إلى مبادئ الدعوة الإسلامية وقواعد شريعتها في مختلف مرافق الحياة البشرية [1] .
إن هذه الدعائم الثلاثة الرئيسية تقف كمشاعل تنير الطريق أمام الجيل الحاضر، وكذلك ستظل الأجيال القادمة بإذن الله تعالى، وكما أن مجرى الدعوة الإسلامية منوطة بهذه الركائز في مرحلتها الحاضرة في الهند اليوم، منوط بها أيضاً مستقبل هذه الدعوة في تلك البلاد.
ويتقرر مستقبل الدعوة الإسلامية في جمهورية الهند بعاملين رئيسيين:
العامل الأول: إحساس المسلمين في الهند بواجبهم في نشر دعوة الإسلام في هذه البقعة وفي تنمية الميراث الإسلامي الضخم، وإحساسهم أيضاً بمسئولية حراسة هذا الميراث وبها يؤدون أعظم الأمانات التي حملوها من آبائهم وأجدادهم إلى أبنائهم وأحفادهم.(18/133)
العامل الثاني: إن جمهورية الهند قد اتخذت لنفسها دستوراً علمانياً لا يقوم على أساس ديني رسمي ويخول الحرية لجميع المواطنين في الإحتفاظ بعقيدتهم والدعوة إلى مبادئهم ونشر ثقافتهم، ففي وسع المسلمين نشر الدعوة الإسلامية وتنوير قلوب الملايين بها بذلوا في سبيلها من جهود واتخذوا لها من وسائل مدروسة ومناهج سليمة وطرق مشروعة بإخلاص وصدق نية مع أداء ما عليهم من واجبات نحو وطنهم كمواطنين صالحين.
وأيضاً فإن مستقبل الدعوة الإسلامية في الهند المرتبط بماضيها فيها فقد عرفنا أن هذه لم تنتشر في هذه البقاع بفضل حكومات المسلمين التي قامت فيها، ولا بواسطة منظمات وهيئات قامت بنشرها أو وضعت خططه أو أنفقت فيه الأموال، بل يعود الفضل فيه إلى أسباب أخرى عديدة، ومنها: يتعلق بطبيعة هذه الدعوة من فطريتها وملاءمتها لكل زمان وظروف، وكذلك خصائص أنظمتها الإجتماعية حيث يجد فيها كل مجتمع متنوع الأجناس ومتفرق الطبقات، عناصر صالحة منقذة من المضار الكامنة في نظام الطبقات والعصبيات المناوئة للفطرة الإنسانية السليمة. ومنها: ما يتعلق بطبيعة الأمة الهندية كالنزعة الدينية المتأصلة فيها وروح التسامح التي اتسعت بها الثقافة الهندية منذ القدم، وكذلك حضارتها العريقة القائمة على الروحانيات. ومنها أيضاً ما يتعلق بصفات الدعاة ووسائلهم في نشر الدعوة، من الوعظ والإرشاد والقدوة الحسنة والسلوك السليم وابتعادهم عن المآرب السياسية والمطالب الشخصية.(18/134)
وأن هذه الأسباب التي ارتبط بها انتشار الدعوة الإسلامية في الهند طوال العصور الماضية لم تتغير بعد، وأما تغير الدول الحاكمة أو أنظمة الحكم فيها، فليس له دخل في تلك الأسباب فما دام القائمون على مهمة الدعوة متمسكين بهذه الأسباب فسيجدون في الهند أرضاً خصبة لتترعرع فيها الدعوة الإسلامية ويستطيعون أن يؤدوا واجبهم في حراسة أثمن وأقدس ما يعتز به المسلمون في كل مكان، وهو المحافظة على دينهم وتعليمه لأبنائهم وصيانته في قلوبهم وبيان محاسنه لبني وطنهم جميعاً.
وأول ما نستفيده من العبرة من تاريخ انتشار الدعوة الإسلامية في الهند، أن الإسلام دين الفطرة التي فطر الناس عليها، وأن تعاليمه تتمشى مع جميع البيئات والظروف، ومبادئه صالحة لكل زمان ومكان، فإن عناصر الخلود متوفرة في أصوله وقواعده، وأن فطرة الإنسان ونواميس الطبيعة لا تتغير ولا تتبدل مهما حاول المزيفون وسعى المخرفون ليبعد الناس عن فطرتهم. وهذا هو السر الكامن وراء الإنسياق الفطري الذي رآه تاريخ الدعوة الإسلامية في مختلف البلدان المتأصلة في الوثنية والشرك والإلحاد أو في الخرافات والخزعبلات، وكل هذا وذاك إلى جانب محاولات جمة بذلت لصد تيار هذه الحركة الإلهية العالمية وتشويه أهدافها ومقاصدها، أو تزييف كتابها.
والعبرة الثانية من تاريخ هذه الدعوة في تلك البقعة من الأرض، هو دور العلماء الصادقين في سبيل نشرها ومدى أثر جهودهم في توطيد دعائم العالم الإسلامي وتوحيد صفوف المسلمين وإزالة الوهن والضعف من قلوبهم. ونستفيد أيضاً أن حلقات سلسلة الدعوة الإسلامية لن تنقطع إلى يوم القيامة وهي تستمر في مد وجزر حسب تقلبات الزمن وتطورات العصر، فهي خير مصداق لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .(18/135)
ويتجلى مدى انتشار الدعوة الإسلامية في الهند وتوطد أركانها في أرجائها من الملامح الخالدة التي نراها في هذه البلاد. ومنها:
1- انتشار مراكز الثقافة الإسلامية والعربية في أرجائها، ولا تزال هذه المركز تتدفق حماساً ونشاطاً للمحافظة على مسلمي الهند في نشر الدعوة الإسلامية وتطويرها، التي ورثها منذ أن استنارت الهند بنورها عقب انبثاق فجرها وتحمسوا لخدمتها بعدين عن مآرب الحكم السياسي أو الفتح العسكري أو جاه أو مال.
2- انتشار اللغة العربية وأثرها في اللغات الهندية وآدابها وكذلك التراث العلمي والإسلامي الخالد لعلماء الهند المسلمين. ويبدو أثر هذا الإنتشار في حركة التأليف والنشر باللغة العربية التي قام بها هؤلاء العلماء في فترات التاريخ وفي شتى فروع العلوم الإسلامية والعربية. وكان شعار المسلمين في الهند منذ العهد الأول الإعتناء باللغة العربية والتمسك بها لكونها لغة القرآن الكريم وعلوم الدين الحنيف، وفضلاً عن أنها كانت من العوامل الرئيسية التي ساعدت على توثيق عرى التعارف والتفاهم بين الأمتين العظيمتين الهندية والعربية.
وجدير بالذكر أن كثيراً من المؤلفات العلماء الهنود قد تخطت شهرتها جدود الهند واحتفي بها علماء العرب والعجم واعترفوا لها بالدقة والإتقان وغزارة المادة والنفع العام. ونرى علماء الهند في بعض فترات التاريخ في مقدمة المؤلفين في العلوم الدينية وانتهت إليهم رئاسة التدريس والتأليف في فنون الحديث وشروحه وكذلك في السيرة النبوية وحكم التشريع الإسلامي.
3- انتشار معالم الحضارة الإسلامية في جميع أرجاء الهند المتمثلة في الآلاف المؤلفة من المساجد والقلاع الفخمة التي بناها المسلمون والتي تنطق بروعة الفنون العربية الإسلامية وبراعتها.(18/136)
4- أثر الفن العربي الإسلامي، فمن أبرز الملامح لنفوذ المسلمين في الهند الأثر الذي تركوه في ميادين الفنون المختلفة، وأما الفن المعماري فهو من أعظم مميزات عهود الحكام المسلمين فيها، ونرى الآن في شتى أنحائها قلاعاً شامخة ومساجد فخمة وأبنية ضخمة من القصور والمنائر التي تمثل النبوغ الفني العربي الإسلامي.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] لم يتطرق الكاتب للجماعة الثالثة ومنهجها كما وعد. المجلة.(18/137)
النفاق وَأضرَاره
لفضيلة الشيخ علي الحذيفي
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أما بعد ...
فإن العلم بالأعمال التي تقرب إلى الخالق سبحانه هو ما يحرص عليه المسلم الصادق، حتى يفعل من صالح الأعمال ما يحبه مولاه، ولا يستعظم المؤمن ما يقدمه لربه من نفس أو مال فإن النفس إلى موت والمال إلى فوت ويشفق قلبه من كل عائق يحول بينه وبين الله تعالى، ويخاف من كل قاطع يقطع عليه الصراط المستقيم الذي بدايته الطاعة، ونهايته الجنة.(18/138)
وإن أكبر المصائب، وأعظم المعوقات عن الله تعالى استيلاء النفاق على القلب، أو مخالطته للأعمال، كيف لا وقد كان سلف الأمة رضي الله عنهم يخافون من النفاق أشد الخوف، لما يعلمون من خطره، ولما تبين لهم من ضرره، فقد قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: وقال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه"، ويذكر عن الحسن البصري رحمه الله قال:"ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق "انتهى. وقال عمر رضي الله عنه لحذيفة رضي الله عنه:"يا حذيفة نش دتك بالله هل ذكرني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين"قال:" لا ولا أزكى بعدك أحداً "، ومعنى هذا أن حذيفة أراد أن يسد باب السؤال على نفسه حتى لا يسأل غير عمر رضي الله عنه، فيزكيه وهو لا يستحق، لا أن غير عمر رضي الله عنه منافق. وسئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى ما تقول فيمن لا يخاف على نفسه النفاق قال:"ومن يأمن على نفسه النفاق "؟. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قيل له: إنا ندخل على سلطاننا فنقول له بخلاف ما نتكلم به إذا خرجنا من عنده قال:"كنا نعد هذا نفاقاً ".
وفي المسند عن حذيفة رضي الله عنه قال:"إنكم لتكلمون كلاماً إن كنا لنعده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم النفاق "، وفي رواية قال:"إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصير منافقاً، وإني لأسمعها من أحدكم في اليوم أو في المجلس عشر مرات ".
فهذه حال القوم من الخوف من النفاق، والإشفاق من التلوث به، مع امتلاء قلوبهم إيماناً ويقيناً، وسبقهم في الخيرات، ونصرتهم لدين الله تعالى، فأين الحال من الحال، اللهم طهر قلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء وأعيننا من الخيانة.
النفاق:(18/139)
قال في القاموس: نافق في الدين ستر كفره وأظهر إيمانه وقال الجوهري في صحاحه:"والنفاق عمل المنافق " وقال الراغب الأصفهاني في غريب القرآن:"ومنه النفاق وهو الدخول في الشرع من باب والخروج عنه من باب واشتقاقه من النافقاء وهو حجر اليربوع الذي يحفره فيجعل له بابين باباً ظاهراً يرى وباباً آخر رقيقاً لا يرى حتى إذا طلبه الصائد دفع برأسه مارق من الجانب الآخر ونجا ".
والنفاق في الشرع نفاق اعتقاد ونفاق عمل، فنفاق الإعتقاد أن يظهر الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وهو في الباطن مكذب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو مكذب لبعض ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مبغض له عليه الصلاة والسلام، أو مبغض لبعض ما جاء به صلى الله عليه وسلم، أو كاره لانتصار الإسلام، أو يفرح بانهزام الإسلام والمسلمين فصاحب هذا النفاق في الدرك الأسفل من النار قد خلع الإسلام من عنقه قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} .
وأما نفاق العمل فهو: أن يكذب في الحديث أو يخون في الأمانة أو يفجر في الخصومة أو يخلف الوعد من غير كفر بالله تعالى ولا تبغض ولا تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم قال الحسن البصري رحمه الله تعالى:"من النفاق اختلاف القلب واللسان، واختلاف السر والعلانية، واختلاف الدخول والخروج ".
ظهور النفاق:(18/140)
لقد كان العهد المكي خالياً من النفاق لأن المسلمين كانوا مستضعفين فلا دولة ولا مغانم فما كان يدخل في الإسلام إلا من أخلص لله تعالى لا يخشى قوة فيصانعها، ولا يرجو منافع لينالها، بل إن الدعوة في مكة مطاردة، وأتباعها مضطهدون يعذبون بأنواع التعذيب من المشركين لذلك لم يكن إلا إيمان خالص أو كفر صريح، أما بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد تغير الحال وأصبح الإسلام قوة تخشى واشتبك المسلمون مع عدوهم في قتال كان لهم النصر من الله تعالى في بدر وما بعد بدر، فدخل المنافقون في الإسلام ظاهراً لمصالح عاجلة. قدروها في أنفسهم تفوت في نظرهم لو لم يتظاهروا بالإسلام، حتى قال عبد الله ابن أُبي بعد بدر:"هنا أمر قد توجه "، فبايع وأسلم هو ومن معه من المشركين، ومن ثم نشأ النفاق في المدينة، ووجدت هذه الطائفة ظاهرها مع الإسلام والمسلمين وباطنها مع الكافرين.
صفات المنافقين:
لقد هتك الله أستار المنافقين، وكشف أسرارهم، وأظهر مخبوء صدورهم، وأخرج أضغانهم وجلى أمرهم لعباده المؤمنين لعظم ضررهم وشدة البلية بهم ليحذروهم، ولألا يتلبسوا ببعض صفاتهم وأنزل فيهم قرآناً يتلى، حتى لتكاد الأصابع أن تشير إلى هذا النموذج المكرور {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} وفي سورة التوبة من صفاتهم العجب حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما:" مازالت تنزل وصفهم حتى ظننا أنه لا يبقى منا أحد إلا ذكر فيها "رواه أبو عبيد وابن المنذر وأبو الشيخ.
الكذب:(18/141)
الكذب هو السمة الظاهرة، والميزة الغلبة على أعمال المنافقين، وهذا الخلق الذميم اختلط باللحم والدم والعصب منهم، وحل في سويداء قلوبهم، فهو شعار أعمالهم ودثارها وهو الذي جرهم إلى الفجور والآثام، فهم كاذبون مع ربهم، وكاذبون مع المؤمنين وكاذبون في الدنيا والآخرة، وكاذبون مع الكافرين وكاذبون مع أنفسهم. أما كذبهم مع ربهم فهو أنهم يعاملون الله تعالى معاملة المخادع لا معاملة المخلص، معاملة الكاذب لا معاملة الصادق، يعملون العمل والشك يأكل قلوبهم، ويقومون بأفعال الخير والمرض مستول على أفئدتهم، يسيرون إلى الله تعالى على حرف الطريق فما أن تقع أرجلهم على حرف الطريق حتى تخرج قال الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} أي يظهرون الإيمان بألسنتهم ويعتقدون الكفر بقلوبهم ظانين أن ذلك هو الكياسة والفطنة، وأن عملهم هذا نافعهم عند الله، وأنه يروج عليه كما يروج على بعض المؤمنين، ولو علموا أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً وأنه يعلم السر وأخفى لو علموا ذلك لكان هذا مزدجراً لهم عن مخادعة الله عز وجل، فإن العاقل يأنف أن يخادع مخلوقاً مثله إذا علم أن لديه من العلم ما يعرف به خداعه، ولكن المنافقين لجهلهم وقلة، فقههم وعلمهم وعزوب عقولهم يظنون أن أمرهم على السداد، وأنهم سالكون سبيل الرشاد، فهذه الصلاة أشرف الأعمال وأفضلها إذا قاموا إليها قاموا كسالى متثاقلين كارهين، متباطئين، لأنهم كذبة في معاملة ربهم لا رغبة لهم فيها، ولا خشوع ولا يعقلون معناها، فلا أثر للصلاة عليهم بالبعد عن الفحشاء والمنكر، لا يقومون بأفعال الصلاة إلا كما يقومون بالتمارين الرياضية المحضة، ولذلك كانت صلاة المنافقين جسداً بلا روح، ميتة بلا معنى قال الله تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} هذه صفة ظاهرهم، وصفة باطنهم(18/142)
{يُرَاؤُونَ النَّاس} أي لا إخلاص لهم، وإنما يشهدون الناس تقية ومصانعة، فالصلاة عليهم ثقيلة، وفي الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً " وقوله تعالى: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي في صلاتهم لا يخشون، ولا يدرون ما يقولون، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون غافلون، وإذا كان ذكرهم في الصلاة قليلاً وهي موطن استحضار القلب وكثرة الذكر ففي غير الصلاة لا يذكرون الله تعالى إلا نادراً كأن تصيبهم مصيبة أو يقعوا في هلكة، وقد روى مسلم وغيره عن انس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً " وإذا كان هذا فعله في صلاة العصر أو الصبح فغيرها من باب أولى.
وحال المنافقين في الصلاة تبعث الوجل في القلب، والإشفاق من لوثة النفاق أن يكون المسلم مفرطاً في صلاته أو ساهياً غافلاً، فمن أراد النجاة والقبول فليحاسب نفسه، وليزن عمله قبل أن يحصل ما في الصدور، وتبلى السرائر.(18/143)
والزكاة قرينة الصلاة، لا يبذلها المنافقون بسخاوة نفس، وسماحة عطاء، بل يؤدونها بتثاقل وكراهة، وانقباض قال تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} وهذا حالهم في ركنين عظيمين من الإسلام فما بالك بغير ذلك، ألا ما أكذب معاملتهم لربهم، وجدير بالقلب أن يكون فعله كاذباً، وحق للقلب المريض أن يكون عمله مريضاً قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} في قلوبهم مرض أي شك ونفاق {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاًً} أي ضلالاً إلى ضلالهم، وشكاً إلى شكهم كما قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} والجزاء من جنس العمل شرعاً وقدراً فالمؤمنون لاهتدائهم واستقامتهم يزيدهم الله هدى كما قال تعالى: {َالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} والمنافقون يخادعون الله تعالى وهو خادعهم ومن أثر خداع الله أن يستدرجهم في طغيانهم وضلالهم ويخذلهم عن الوصول إلى الحق ويكلهم إلى أنفسهم، حتى يتردوا في الهلكات في الدنيا والآخرة. ولكذبهم مع ربهم تراهم جبناء في النزال، قاعدين عن القتال، قد خلع الجبن قلوبهم فتلمسوا المعاذير في تخلفهم عن الجهاد، ونكصوا عن نصرة الإسلام، واجتذبوا من أصغى إليهم وثبطوه عن حماية الدين، كما قال تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ(18/144)
الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} فأنت ترى من هذه الآية أنهم يثبطون المؤمنين عن القتال ويدعونهم لترك الإشتراك في الجهاد، وأنهم لا يباشرون القتال إن حضروه إلا قليلاً خشية الذم والتعبير، وأنهم يبخلون بمعاونة المؤمنين بالنفس أو المال وأنه إذا جاءت الحب خفتت منهم الأصوات، وحفزتهم الأنفاس ودارت منهم الحدقات، كمن نزل به الموت فهو منه في غشية بعد غشية، فإذا علموا أن الخوف ارتفع والشدة زالت انطلقت منهم الألسن السليطة تفتك بأعراض المؤمنين ويقول تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} ولا ينتظر من كاذب مع ربه أن يقدم نفسه أو ماله لنصرة دين الله تعالى، إنما يكون بذل النفس والمال من صادق مع ربه، مخلص في إيمانه ولهذا قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا(18/145)
وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} وقد جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق ".
وأما كذبهم مع المؤمنين فهو إظهارهم محبتهم ومودتهم، وهم في الباطن عدو لهم، وحرب عليهم يتربصون بهم الدوائر، ويبلغونهم الغوائل، يشجون عليهم أن ينفقوا معهم قبضة، أو يضربوا معهم بسوط، لأنهم لا يريدون للإسلام نصرة، ولا لحزب الله رفعة، قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وقوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} يفيد أنهم كانوا يتجنبون مجالسة المؤمنين كثيراً، لأنهم لا يأنسون بهم، ولكن إذا جمعهم مكان أو التقوا في طريق على وجه الندرة، قَالُوا آمَنَّا} {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} يفيد أنهم مدفوعون بالرغبة إلى مجالسة شياطينهم وهم اليهود، وأن الأنس والفرح قد تملك قلوبهم، فالإنسان لا يخلو إلا بمن يأنس به وفي غمرة الأنس يبوحون بمخبوء ضمائرهم {إِنَّا مَعَكُمْ} في الباطل والحقيقة {ِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} بهؤلاء السفهاء، لنقف على أخبارهم، ونقضي ما عسى أن يكون من شرهم، وكما إن يحكي القرآن الكريم فعلهم وقولهم حتى يصب عليهم الوعيد المخيف {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وما أشقى من استهزأ الله به، إنه لا يفلت من العقوبة ولا ينجو من الأخذ والهلكة. وقد روى الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه ".(18/146)
رضوا بهذه الحال المهينة، وهذه الصفة الوضيعة، رضوا بالذبذبة والإضطراب بين حزب المؤمنين، وحزب الكافرين، ليسوا مع أحد الفريقين ظاهراً وباطناً، قال تعالى: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} أي متحيرين بين الإيمان والكفر فلا هم مع المؤمنين ظاهراً وباطناً، ولا مع الكافرين ظاهراً وباطناً، بل ظواهرهم مع المؤمنين، وبواطنهم مع الكافرين، فلا يستقر لهم حال، أعاذنا الله من النفاق. وقد روى مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:"مثل المنافق كمثل الشاة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة، ولا تدري أيهما تتبع " والعائرة المترددة من عارت الشاة بين الفحلين إذا ترددت لا تدري أيهما ينزو عليها، وروى الإمام أحمد بعض لفظه ومعناه من حديث ابن عمر، وما دفعهم إلى هذا الطريق المظلم، وهذا المسلك الوضيع إلا مصلحتهم الذاتية ومآربهم الدنية، ومرض قلوبهم فكروا وقدروا أنهم إن اتبعوا داعي الإيمان ظاهراً وباطناً فقد يكون حظه الفشل والخذلان، وإن اتبعوا أعداء الإسلام ظاهراً وباطناً فقد تكون العاقبة لأهل الإيمان، فاتخذوا صفة المراوغة والمخاتلة والغدر والدس، شأن النفس الضعيفة الحقيرة قال تعالى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا} أي انتهكوا في الفتنة والضلالة وأوغلوا فيها، ويقول تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وقوله تعالى: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} أي توليناكم(18/147)
وناصرناكم وخذلنا المؤمنين عن قتالكم فإذا انكشف بعض أمرهم وظهر شيء، من خداعهم ومكرهم، وتناقلت الألسن بعض عوار كلامهم لجوا في الأيمان الكاذبة، وفزعوا إلى الحلف المتتابع ليدفعوا عن أنفسهم ما به يفتضحون وما به تحل بهم العقوبة كما قال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} فهم يكثرون الحلف لأنهم فقدوا الثقة في أنفسهم فعلموا أنهم كاذبون فأرادوا أن يعوضوا تلك الثقة المفقودة، ويغطوا كذبهم بالأيمان الكاذبة، ويلبسوا على الناس هذا الكذب.(18/148)
إن شأن اليمين كبير، فهي تعظيم لله تعالى، لا تكون إلا لأغراض عالية كقطع النزاع بين المتخاصمين وتأكيد الأخبار الصحيحة، ولكن المنافقين اتخذوها وقاية لهم من انكشاف حالهم، وفضيحة أمرهم فهان عليهم اسم الله تعالى، ونزع خوف الله وتعظيمه من قلوبهم كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} والعجب كل العجب أن الوقت الذي تبعثر فيه القبور، ويقوم الناس لرب العالمين، تتجلى للكافرين الحقائق لا يمترون فيها فيقولون فيما ذكر الله عنهم {قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} ويقول تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} أما المنافقون فإنهم في هذا الوقت لا يزالون في ريبهم يترددون ويحلفون لله تعالى كذباً أنهم كانوا طائعين ظانين أن ذلك نافعهم كما كان الحال في الدنيا قال تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فهم كاذبون في الدنيا والآخرة. وهم كاذبون حتى مع أوليائهم الكافرين إن وعدوهم لم يفوا، وإن ضاقت بهم الأمور تخلوا عنهم كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ(18/149)
وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} وهم يعلمون من أنفسهم أنهم كاذبون قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} أي كاذبون في اعتقادهم وفي أنفسهم. وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أربع من كن فيه كان منافقاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر وإذا عاهد غدر "، وخرجاه في الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان "وفي رواية لمسلم "وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم ".
خلف الوع د
هذا فرع من الكذب لكنه من أخطر أنواع الكذب وأضرها بمصالح الناس، فإن الموعود يترك مصالحة الحقيقية للمصالح المظنونة فتفوته مصالحه كلها، ويذهب وقته بلا عوض وتضيع حقوق العباد المنوطة بالموعود، وخلف الوعد يزرع العداوة والبغضاء والحقد، ويؤدي إلى الإنتقام وإثارة الفتن، وينزع الثقة والصدق من صاحبه وما أكثر هذا الخلق البغيض من الكثرة الكاثرة من أرباب الوظائف المتولين أمور الناس، فهم يعدون ولا يوفون، ويقولون ولا يفعلون، فالمواعيد عندهم لا تنتهي حتى تبدأ، وقد يموت من يبتلى بهم وحاجته في صدره فتموت معه، وخلف الوعد على نوعين أحدهما أن يعد ومن نيته ألا يفي بوعده وهذا أشر الخلق ولو قال أفعل كذا إن شاء الله تعالى ومن نيته ألا يفعل كان كذباً وخلفاً.(18/150)
الثاني أن يعد ومن نيته أن يبدو له فيخلف من غير عذر له وكلا الأمرين من كبائر الإثم، وخلق من أخلاق النفاق قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لنصدقكن وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} .
ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: " وإذا خاصم فجر " أي خرج عن الحق عامداً، وفي سنن أبي داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع " وفي رواية له أيضاً: "ومن أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله " ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: "وإذا عاهد غدر " أي نقض العهد والعقد والمواثيق التي تراضى عليها العباد واشتملت على مصالحهم والله تعالى وصف المؤمنين بأنهم لأماناتهم وعهدهم راعون، والمنافق لا هم له إلا مصلحته الذاتية فإذا لاحت له نقض للوصول إليها العهود، والمواثيق، وداس الأخلاق وتخطى الحواجز والموانع، هذه معاملتهم للخلق وتلك معاملتهم للخالق سبحانه.
نبذهم اوحي(18/151)
لقد وصف الله المؤمنين بأنهم يخضعون باطناً وظاهراً لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأنهم يستجيبون لما دعاهم إليه ربهم قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} لأن الله تعالى أمرهم بذلك في قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} فعند التنازع والإختلاف توزن الأمور بميزان الوحي الذي لا يخيس شعيرة، ومن ثم يرضى المؤمنون ويظهر الحق، وتستبين الجادة، وحال المنافق بخلاف هذه الحال إذا دعوا إلى الله ورسوله ليفصل بينهم في المنازعات، ويهديهم من الضلالات، ويخرجهم من الظلمات أعرضوا إعراض المستكبرين وإن كان له نفع وحق طلبوه بحكم الله وأقبلوا خاضعين كما قال تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} فلن يضر الله إعراضهم ولن ينفعهم ما وافق أهوائهم، وقد نفى الله الإيمان عمن هذه صفته في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ(18/152)
إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} فهذه الآيات تبين صفة المنافقين في التحاكم، وفي تقاضي الحقوق، وفي مرجعهم في التنازع فأنت ترى أن طريقتهم مزدوجة مرة إلى الطاغوت، ومرة إلى الوحي، ولكنّ تحاكمهم كثيراً ما يكون إلى الطاغوت وهو الباطل من الكهان أو يهود أو حكم الجاهلية، وقليلاً ما يكون تحاكمهم إلى الوحي كما ذكر الله ذلك بإن الدالة على التقليل في قوله: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} وكما ذكر الله تعالى في قوله: {إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} فهذا يفيد أنهم يقدمون التحاكم إلى الطاغوت، ولا يتحاكمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا عضتهم الشدائد، وأحاطت بهم المصائب وفي أثناء الحكومة يعتذرون من سوء صنيعهم وعدولهم عن كتاب الله وسنة رسوله بالحلف إننا ما أردنا إلا الخير والمداراة والمصانعة هذا حالهم في التحاكم وتلك حالهم في الولاء، والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض أي متشابهون وإن تراخى الزمان وبعدت المسافة، فمنافقوا زماننا أغلظ نفاقاً من المنافقين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنافقوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يرجعون إلى حكم الله في المصائب، ويتحاكمون إلى الوحي في بعض الأوقات، ومنافقوا زماننا لا يتحاكمون إلى الوحي لا في المصيبة ولا في العافية فيا مسلم سلم فالمنافقون متشابهون إذا قال مؤمن: شريعة الله هي أولى بعباد الله في حكم ما بينهم وفصل خصوماتهم، وإصلاح حياتهم قال المنافقون: هذا إذا كان المواطنون مسلمين أما الآن فإن تحكيم الشريعة يثير حساسية الأقليات غير المسلمة ويعرض البلاد للإنقسام الطائفي، ولكن نوفق بين الشريعة والقانون الوضعي فيكون هناك محاكم شرعية ومحاكم قانونية وضعية {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} ونسوا أن الأقليات(18/153)
غير المسلمة لم تتفيأ ظلال العدل إلا في حكم الإسلام ولم تعرف الحياة الآمنة إلا في عهده. وإذا قيل تعالوا لمذهب سلف الأمة من سادات العارفين واسمعوا ما قال الله تعالى وقال رسوله صلى الله عليه وسلم قال المنافقون: هذه ظواهر لفظية لا تفيد اليقين وهذه أحاديث آحاد لا تثمر القطع ولا يعمل بها في العقيدة، والسلف لم يكونوا متبحرين في العلوم، ولم يحرروا المسائل الكلامية، ويؤصلوا القواعد، ويدققوا النظر فقد كانوا مشتغلين بالأوامر تاركين النواهي، ونحن نريد أن نوفق بين القواعد العقلية والنصوص الشرعية، وإذا قيل: المسلم مأمور بترك التعصب المذهبي والرجوع عند اختلاف الأئمة رحمهم الله تعالى إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. فما شهد له الدليل يؤخذ به ويعمل به وما لا دليل عليه يطرح إذا قيل هذا رأيت الصدود والإعراض والرجوع إلى ما أنزل الله هو كتاب الله والرجوع إلى الرسول هو الرجوع إلى سنته بعد وفاته.
موالاتهم للكافرين:(18/154)
أصل الولاء هو المحبة وأصل العداوة البغض والمنافقون يحبون الكفار ويبغضون المؤمنين ولذلك يتخذونهم أولياء من دون المؤمنين، فيعاشرون الكفار ويصادقونهم ويصافونهم ويودونهم، مرة لأنهم يريدون ارتفاع المنزلة والمكانة، وتعزيز أمرهم أمام الناس، فهم يلوذون بالكافرين ظانين أنهم يملكون شيئاً من الرفع والخفض بما عندهم من مال وأسباب، ولو كانت قلوبهم سليمة من المرض لعلموا أن مالك العزة رب العزة وأنها لا تنال إلا بطاعته قال تعالى: {بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعاً} وحيناً يوادون الكفار طمعاً وأملاً في أن يصرفوا عنهم المكاره، وأن يكونوا في صفهم عندما تدور الدوائر، وتختلف الأحوال قال تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} فهم عندما يرون حال الإسلام في ضعف والكفر ظاهر في الأرض يقفون مع شهود الأسباب الظاهرة ويظنون بالله ظن السوء، يظنون إن إدالة الكفر إدالة مستقرة، وأن أمر الإسلام مضمحل ولذلك يسارعون في تولي الكافرين فرد عليهم ظن السوء الذي أسروه بقوله: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} وعسى من الله تعالى وعد لا يتخلف والفتح ظهور المسلمين على الكافرين، وأمر الله تعالى كل ما يندفع به شر الكافرين لصالح الإسلام والمسلمين مما لا صنع فيه وهناك يندم المنافقون على ما في أنفسهم، تتغير الموازين، وتبطل الأسباب التي تخيلوها قال تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} .(18/155)
أخرج ابن جرير والبيهقي في الدلائل وغيرهما عن عبادة بن الصامت أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني أبرأ إلى الله ورسوله من بني قينقاع" وذلك بعد غدرهم وأخرج بن مردويه عن ابن عباس أن عبد الله بن أبي قال:" إني أخاف الدوائر.."فهذا هو المسارعة في توليهم.
قول المنافق وعمله:
المنافق يعجبك قوله، ويسوؤك عمله، قوله قول الصالحين وعمله عمل المفسدين قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} فإذا تكلم أظهر الفصاحة وأكد كلامه بأن الله يشهد أنه صادق كأن يقول: ربي يطلع على الضمائر والخفايا وأن ما أقوله حق فيغير سامعه بمعسول قوله، وهو أبعد الناس عن العمل بما يقول، {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} شد الخصومة من لجوج في الباطل، وإذا ذكر بالله تعالى ليكف عن فعله وإفساده حملته الأنفة والحمية على الإثم ضراراً وتمادياً {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} قال ابن القيم رحمه الله تعالى:"أحسن الناس أجساماً وأخلبهم لساناً، وألطفهم بياناً، وأخنثهم قلوباً، وأضعفهم جناناً، فهم كالخشب المسندة التي لا ثمر لها قد قلعت من مغارسها فتساندت إلى حائط يقيمها لألا يطأها السالكون " {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} ؟
تشابه المنافقين:(18/156)
المنافقون متشابهون في الباطل فأفعالهم متماثلة في السعي بالفساد والصد عن سبيل الله وإن تراخى الزمان وبعدت المسافة قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} ومعنى قوله تعالى: {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} متفقون في الفعل يشبه آخرهم أولهم ويماثل بعضهم بعضاً يحسبون المنكر حتى يصوروه بصورة المعروف فيقولون عن الخمر إنها المشروب الروحي، وإنها تشحذ الذهن وتكسب القوة، وتحدث نشوة وفرحاً. وعن الدخان: إنه يزيل الهم، ويدخل السرور على القلب، ويجلب صفاء الذهن ويعين على السهو، وعن الربا إنه ضرورة اقتصادية، ومعاملة عالمية، وعن السكوت عن المنكر إنه مصانعة ومداراة للناس وحسن خلق وعن من يخالط الفجار والأبرار بلا إنكار للمنكر إنه أحبى، وينهون عن المعروف فيقولون عن الجهاد في سبيل الله إنه يصم المسلمين بالتعصب ويؤلب عليهم الدول الكبرى، ويهدد مصالح البلاد، وعن الإسلام عامة: إنه قيود ثقيلة وتكاليف شاقة على الإنسان تولد فيه العقد النفسية فهم يحسنون المعصية ويقبحون الطاعة قاتلهم الله أنى يؤفكون؟.
ولعلك قائل: إن صفات المنافقين قد زادت على ما صح عن رسول الله من أن خصال النفاق الكذبُ وخلف الوعد والفجور في الخصومة والغدر فيقال لك إن ما ظننته زائداً داخل في الكذب فإن الكذب هو الذي جرهم إلى الفجور كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ".(18/157)
وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إنه يجر على القائم به معاداة الناس وكراهيتهم، ويجلب الأذية لصاحبه، وخير منه المجاملة والمداهنة وهلم جراً.
اجتماع النفاق والإيمان:
قد يجتمع الإيمان والنفاق العملي في العبد فيكون مؤمناً بما معه من حقيقة الإيمان منافقاً بما فعل من الأعمال فقد روى الإمام أحمد بسند جيد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"القلوب أربعة قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر وقلب أغلف مربوط على غلافه وقلب منكوس،وقلب مصفح فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن فسراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب الخالص عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه " وقوله أجرد متجرد مما سوى الله ورسوله فأحب الحق وآثره والقلب الأغلف الداخل في غلافه وغشائه والقلب المنكوس المنكب كالإناء المنكوس على وجهه فلا يصل داخله هدى، والقلب المصفح المائل فيه إيمان ونفاق.(18/158)
المثالية والواقعية في الإسلام
لفضيلة الدكتور جمعة علي الخولى
رئيس قسم الدعوة بالجامعة الإسلامية
تفردت الدعوة الإسلامية عن غيرها من شتى الدعوات والأديان الأخرى بخصائص كفلت لها البقاء والدوام.
خصائص أعوزت ديانات سابقة فذهبت معالمها، وتلاشت في الحياة سدى، حتى أصبحت كأمس الذاهب.
أجل. . لقد اجتمع لهذه الدعوة من الخصائص ما لم يجتمع لدين قبلها، ولن يجتمع لنظام بعدها ذلك أن الله اختتم بها رسالاته، وأكمل بها دينه، وأتم بها نعمته على البشر، فلابد أن يكون فيها من عناصر البقاء والحفظ ما يجعلها إلى قيام الساعة.
من هذه الخصائص التي انفردت بها الدعوة الإسلامية (الجمع بين المثالية والواقعية في شكل محكم رائع) .
فما هي المثالية والواقعية؟ وكيف جمع الإسلام بينهما؟
لا نعني بالمثالية أن الإسلام يحلق بتعاليمه في مثالية خيالية لا وجود لها إلا في عالم الأحلام. أو أنه يبني شرائعه وأحكامه في مملكة الخيال حتى إذا اصطدم بالواقع أصبح سراباً.
كلا. . فتلك مثالية خيالية يعرفها دارسو الفلسفة وعيبها أنها بعيدة عن واقع الإنسان وما ركب فيه من غرائز نزعات، وما يعتوره من نقص وقصور، والإسلام دين واقعي أبعد ما يكون عن خيال الفلاسفة وأحلام الحالمين..
وإنما نعني بالمثالية أن الإسلام يحرص على إبلاغ الإنسان أعلى أفق ممكن من المستوى العالي الرفيع، في يسر وراحة وطمأنينة، كالشمس تراها عالية أمام العيون، لكنها تلتقي مع واقع الناس ومع أقل المخلوقات وأضعف الكائنات وأبسطها، تمد الجميع بما لديها من خير وتشمله بالحرارة والنور، وهي محتفظة بسنائها وسموها ومكانتها ومكانها.(18/159)
إن الإسلام ينشد لمعتنقه الكمال والمثل العليا دائماً، لكنه يطلب بأسبابه ويسعى إليه من بابه، ولا يكلف الناس شططاً، ولذلك كان من الصعب فصل المثالية عن الواقعية في الإسلام، وإنما هما شرعة للبشر متكاملة تنير لهم سبل الخير وترسم له قواعد السلوك وقوانين المعاملات.
كذلك لا نعني بالواقعية الرضا بالواقع أياً كان وضعه أو صورته، أو أن الإسلام يطوع مبادئه لتوافق الحياة على أي لون، أو لتساير الواقع على أي شكل كلا.. فالإسلام لم يجيء ليربت على شهوات الناس وأنظمتهم. أو ليرضى بأوضاعهم المختلة، وتقاليدهم المعوجة، وإنما جاء ليلغي كل أشكال الجاهلية ونظمها، ولينشئ من ذات نفسه نظاماً خاصاً به، كونه يتشابه في جزئيات مع واقع الناس أو لا تتشابه، هذا أمر عارض، والمهم هو في الأصل الذي يشرع ويقنن ويحلل ويحرم، أما سائر الأنظمة الأخرى فهي تقوم على أساس أن البشر هم الذين يشرعون لأنفسهم بمعزل عن شرع الله ووحيه، وتوجيهه وأمره، فهما منهجان متناقضان.
كذلك لا نعني بالواقعية الإعتماد على الواقع الذي تدركه الحواس فقط، ونبذ كل ما لا تؤيده التجربة.
لا نعني بالواقعية هذا ولا ذاك.. وإنما نعني بها مراعاة ظروف الإنسان وفطرته وحدود طاقته، وطبيعة تكوينه، وواقع حياته، وذلك من حيث:
-
أنه مخلوق من مادة وروح وللروح أشواقها، وللمادة مطالبها.
-
ومن حيث أنه يعيش على الأرض، ويأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويتناسل، ويحب ويكره، ويصح ويمرض.
-
ومن حيث أنه ذكر وأنثى تختلف حاجات وميول كل منها وطبيعته الفسيولوجية.
-
ومن حيث أنه فرد مستقل في نفسه، أو فرد مشترك مع غيره.
كل هذه الأمور - وكثير غيرها - راعاها الإسلام وكيف أحكامه الفرعية تبعاً لها حتى تنطلق مسيرة الحياة في توازن مستقر، ولا تتعطل أو تتهدد مصالح العباد..(18/160)
وفي ضوء ذلك التعريف لكل من المثالية والواقعية، جعل الإسلام حداً أدنى أو مستوى أدنى من الكمال لا يجوز الهبوط عنه، لأن هذا المستوى ضروري لتكوين شخصية المسلم على نحو معقول، ولأنه أقل ما يمكن قبوله من المسلم ليكون في عداد المسلمين، وقد شرع هذا المستوى على نحو يستطيع بلوغه وأداؤه أقل الناس استعداداً لفعل الخير وابتعاداً عن الشر، وهذا المستوى يتكون من الفرائض الواجبة، والمحرمات المنهي عنها [1] ، وهذا الفرائض والمحرمات جعلت بحيث يستطيع كل واحد الوفاء بمقتضاها، وعند الضرورات تراعيها الشريعة وتقدرها قدرها..
وبجانب هذا المستوى الإلزامي الواجب بلوغه على كل مسلم وضعت الشريعة مستوى آخر أرفع منه وأوسع، ورغبت فيه الناس وحببت إليهم بلوغه.
وهذا المستوى العالي يشمل المندوبات وأنواع القربات التي ترغب الشريعة في القيام بها، ويشمل كذلك المكروهات والمشتبهات التي ينبغي تنزه المسلم وابتعاده عنها [2] ، لكن الوصول إلى ذلك المثل أو المستوى الأعلى يحتاج إلى جهد ضخم لا يتيسر لكل الناس، بل هو رهين بمواهب خاصة، واستعداد خاص يتميز به القلة النادرة من الناس.
لذلك لا يفرض الإسلام هذا المثل الأعلى على الجميع فرضاً، لا يلزمهم جميعاً به، بل يرسمه أمامهم، ثم يتركهم لطاقاتهم، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [3] ، ويتقبل من كل ما يتقدم به على قدر جهده {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [4] .
إنه يحبب إليهم الصعود والإرتفاع، ولكنه يدعهم يتطوعون بذلك، ثم يثيبهم بقدر ما تطوعوا جزاءً في الآخرة، فلا يظلم ربك أحداً، ولا يقسره على ما لا يقدر عليه.. ونضرب على هذا التقعيد لكل من المستويين الأعلى والأدنى بعض الأمثلة:(18/161)
ا- يأمر الإسلام المسلمين بأداء خمس صلوات في اليوم والليلة، بحيث لا يقبل من المسلم أداء بعضها أو التقصير فيها، ثم يفتح أمامهم باب النوافل والمندوبات لأصحاب الهمم العالية التي تريد التسامي إلى آفاق عليا لتقرب من الملأ الأعلى الذي يفيض عليها من بركاته ونفحاته ما تغتبط عليه وتغبط به، وفي الحديث القدسي: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه ".
2- فرض الإسلام على المسلمين صيام شهر واحد في العام ما يستثنى من ذلك إلا أصحاب الأعذار على أن يقضوه {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [5] . لكن هناك طاقات أخرى تطيق أكثر من ذلك. لذلك دعا الإسلام إلى التقرب إلى الله بمزيد من الصيام في غير شهر رمضان..
3- فرض الإسلام أيضاً الزكاة، لكنه حبب معها الإنفاق في سبيل الله {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [6] .
4- كما أباح للناس أن يأخذوا بثأرهم، ولكنه حبب إليهم العفو {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [7] {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [8] .(18/162)
5- كما يبيح لهم الإستمتاع بطيبات الحياة، ولكنه يحبب لهم أن يتخففوا منها، ويرتفعوا عليها، ويتجهوا إلى نعيم الروح {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ، قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّه} [9] .
وهكذا يفتح الإسلام باب التطوع، والإرتقاء إلى المثالية، ولكن ليس على سبيل الإلزام وإنما على سبيل الإختيار، فذلك أفعل في تربية النفس، وأدعى إلى تحقيق الغاية [10] لأن المتطوع يشعر بلذة عميقة في تطوعه، تعوضه عن المشقة التي يحتملها، وتحبب إليه الإستمرار فيه. لذة لا يستشعرها من يؤدي واجباً مفروضاً عليه، فتستجيب النفس بأقصى طاقاتها، وتصل في ارتفاعها إلى ما يشبه المعجزات.
ولقد أوجد الإسلام بمنهجه هذا في التربية جيلاً من البشر قل أن يجود الدهر ورفعهم إلى الذروة العليا من الكمال، مستوى تتطلع إليه الأبصار فيبهرها ضوءه وعظمته وسناه..
وإليك بعض النماذج التي تبين لك مثالية الإسلام.. وواقعيته في آن واحد.. نماذج تتحدث عن أشخاص مثاليين يفتخر بهم التاريخ الإسلامي لأنهم وصلوا إلى مستوى من الكمال يظنه بعض من لا يدركون ضرباً من الخيال..
-(18/163)
هذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، يتولى الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكم للولاية من مسئوليات جمة، ومشاكل مشغلة، لكن الرجل الكبير، صاحب القلب الكبير.. لا تشغله هذه المسئوليات عن خدمة نسوة الحي العجائز، فلما ولي الخلافة، قالت بنات الحي، لا يحلب لنا أبو بكر منائح دارنا، فبلغ ذلك أبا بكر الصديق، فقال:"بلى والله لأحلبنها لكم "فكان يحلبها كل يوم، ويسأل المرأة:"أأرغي، أم أصرح "أي أجعل الحلاب له رغوة، أم صافياً بدون رغوة، فأي ذلك قالته فعل [11] .
-
وعمر بن الخطاب.. الذي تأخذ على الإنسان جوانب العظمة فيه فلا يدري بأيها يأخذ وأيها يدع.. لكننا رغبة في الإيجاز نكتفي بمثال..
روى ابن الجوزي في تاريخ عمر بن الخطاب عن أنس قال:" كانت بطن عمر تقرقر عام الرماد من أكل الزيت، وكان قد حرم على نفسه السمن، قال: فكان ينقر بطنه بأصبعه ويقول قرقري أو لا تقرقري فوالله لا تأكلي السمن حتى يأكله الناس " [12] .
فانظر كيف يحس الحاكم بمشاكل شعبه، ولا يتميز عليهم في طعام أو لباس، وهو الذي لو شاء أن يتوسع فهو القائل:"والله إني لو شئت كنت من ألينكم طعاماً وأرقكم عيشاً، ولكني سمعت الله تعالى عير قوماً بأمر فعلوه فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [13] .
-(18/164)
وعثمان بن عفان يرى المسلمين وقد انقطعت مواردهم في أيام أبي بكر ووقعوا في ضائقة اقتصادية شديدة، ثم تجيئه العير محملة ببضائع كان استوردها من الشام فيسرع إليه التجار في المدينة يريدون أن يستغلوا ساعة العسرة، فيتقدمون إليه بعرض سخي أن يربحوه في الدرهم درهمين، فيردهم عثمان قائلاً:" أعطيت أكثر من ذلك، فيعرضون ثلاثة فيقول أعطيت أكثر من ذلك، فيعرضون أربعة دراهم ثم خمسة وهو يردهم في كل مرة، فقالوا: يا أبا حفص، ما سبقنا إليك أحد، نحن كل تجار المدينة، فيقول إن الله أعطاني عشرة أمثالها، ثم يقسم لأتركنها خالصة للمسلمين يرد بها عنهم غائلة الحاجة "..
ماذا كان على عثمان رضي الله عنه وهو يريد البر بالمسلمين أن يأخذ على الأقل ثمن بضاعته ويكون في ذلك نبيلاً مشكور النبل.. ولكنه مثل يفرضه على نفسه، ويتطوع لتحقيقه [14] .
-
وعلي بن أبي طالب يمكنه الله من أحد أعدائه في إحدى المواقع، حتى ليجلس على صدره ويأخذ بسيفه، وفجأة ينهض عنه، ويتركه طليقاً، ويعجب رجل من المسلمين كان يراقب الحادث، ويسأله لم تركت عدو الله، وقد أمكنك الله منه؟ فيقول:"حين هممت أن أجتز رأسه بصق في وجهي، فخشيت إن أنا فعلت أن أكون قد قتلته غضباً لنفسي لا لله "..
ماذا كان يفرض على علي هذا التصرف النبيل، الذي يقرب من الأساطير، إن هذا العدو كان حرياً أن يعود فيقتله، وعلي يعلم ذلك دون شك.. ولكنها المثالية السامية والنظافة الكاملة داخل هذا الضمير [15] .
وغير هؤلاء كثير وكثير.. وعلى امتداد التاريخ الإسلامي تجد هذه الكواكب الدرية تلمع في الآفاق وتسطع بنورها على دنيا الناس لتثبت لهم أن الإسلام قادر بمنهجه الفذ وتعاليمه العالية أن يوجد ملائكة تمشي على الأرض وتنشر الرحمة والعدل على العالمين..(18/165)
لكن الذي تجدر الإشارة إليه هنا أن هؤلاء وأمثالهم بلغوا هذا المستوى من الرفعة والكمال وهم يعيشون حياة الناس، ومشاكل الناس، ولم يكونوا يعيشون في أبراج عاجية بعيداً عن ظروف المجتمع. وواقع الجماهير..
إنهم لم يكونوا يعيشون في أديرة أو صوامع، ولم يحرموا على أنفسهم حلالاً، وإنما كانوا يحبون مشاكل أممهم الاجتماعية والسياسية والحربية.. وغيرها بالإضافة إلى نشاطهم في العبادة والقربات، وكان ارتفاعهم إلى تلك القمم السامية بالإرادة الإيمانية، والقلب الواعي المستنير.. ولا يزال الطريق الذي سلكوه، والمنهج الذي باشروه هو هو.. يهيب بطلاب الكمال أن يتقدموا..
وبعد أن طوفنا بك في عالم المثل القائمة على أساس من الواقع الحي لا الخيال المعدوم نعرض عليك الآن مظاهر ودلائل لواقعية الإسلام في عباداته وأخلاقه وشرائعه، مما يزيدك بياناً بعظمة هذا الدين، الذي لم يشتط مع الخيال، ولم يضيق على الناس واسعاً، فيجنح بهم إلى مثالية مفرطة، كما أنه لم يمل بهم إلى واقعية مفرِّطة تبعد الناس عن المثل العليا وتهونها في نفوسهم، وإنما يرسم من المثالية ما يرتفع بالبشر إلى آفاق مشرقة رحيبة تحف بها ملائكة الخير، وتقترب بهم إلى النور العلوي المقدس، وفي الوقت نفسه تأخذ من الواقعية ما تتضمنه من عزم وعدل وحزم مما يكون الذاتية الإسلامية المتميزة، وبذلك تسير الدعوة في خط متوازن لا إفراط فيه ولا تفريط، ولكن عدل واتزان، وحكمة وإتقان..
فمع شواهد الواقعية والله المستعان..
أولاً: في العبادات:
نظراً لظروف الإنسان وكثرة أعبائه في الحياة وما يتطلبه ذلك من السعي لطلب المعيشة والضرب هنا وهناك لرعاية مصالحه وتدبير شئونه..
ونظراً لما يتعرض له الشخص في حياته من مرض وملل، ومن ظروف طارئة وسفر فإن الشريعة راعت في شئون العبادة ما يأتي:
أ- قلة التكاليف:(18/166)
لم تثقل على الناس بكثرة التكاليف، ولم تكلفهم رهقاً، فالله الرحيم بعباده يعلم أن في عباده ضعفاً، وأن وراءهم شغلاً لقوم حياتهم وتحصيل أرزاقهم ومن ثم كلفهم بعبادات محدودة لا تستغرق كل الوقت، ولم يطلب منهم الانقطاع للعبادة كالرهبنة المسيحية حتى لا يؤثر ذلك على سير المصالح ودولاب الحياة..
وفي الوقت نفسه لم تجعل الشريعة ارتباط الإنسان بالعبادة ارتباطاً خفيفاً على ندرة حتى لا يتبلد حسه، ولا تهبط روحه، وإنما شرعت له من العبادات ما يكفي لتهذيب خلقه، وسمو روحه وسلوكه، بحيث يكون دائم الاتصال بالله رب العالمين فجعلت له عبادة يومية تؤدي خمس مرات كل يوم، وتتراوح بين أجزاء اليوم كله وبعضاً من الليل.
وجعلت عبادة سنوية كالصوم والزكاة، وعبادة في العمر كالحج..
ومع قلة التكاليف يسر في الأداء كذلك. فالصلاة مثلاً تستغرق حدود الساعة من يوم طوله أربع وعشرون ساعة..
والصوم شهر واحد من سنة طولها اثنا عشر شهراً، ثم إن وقت الصيام هو النهار فقط، أما الليل فللإنسان أن يتمتع فيه بكل حلال مباح..
والحج مرة واحدة للمستطيع..
والزكاة كذلك مرة واحدة في العام على الغنى الذي ملك النصاب، حال عليه الحول..
وإذا كانت تلك إشارة موجزة إلى الفرائض، لكن تأتي النوافل والقربات لمن أراد أن يترقى في ميدان الأعمال الصالحة. {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [16] .
ب- التنويع والتلوين:
عرف الإسلام طبيعة الملل في الإنسان، فغاير بين أنواع العبادات وأشكالها، ما بين عبادة بدنية كالصلاة والصيام، وأخرى مالية كالزكوات والصدقات وثالثة جامعة بينهما كالحج والعمرة، حتى لا يسأم الإنسان من عبادة واحدة رتيبة لا تتغير.
جـ- الرخص والتخفيفات:(18/167)
كما شرعت الشريعة الرخصة والتخفيفات في العبادة، وذلك حين تعرض للإنسان ظروف تقعده عن أداء العبادة في صورتها الكاملة، وذلك كظروف المرض والسفر ونحوهما.
والفقه الإسلامي يؤكد أن التكاليف شرعت على أساس واضح من قاعدتي رد الحرج والتخفيف عن الناس، وبتتبع مواطن هذا التخفيف في الشريعة تجد من مظاهره الآتي:
1- تخفيف بالإسقاط.. وذلك كإسقاط الحج والصوم والجهاد ونحوهما من العبادات كصلاة الجمعة مثلاً، كل ذلك بأعذار مفصلة في كتب الفقه الإسلامي..
2- تخفيف بالتنقيص: مثل قصر الصلاة الرباعية للمسافر إلى اثنتين.
3- تخفيف بالإبدال، كإبدال الوضوء والغسل بالتيمم عند فقد الماء، أو المرض.
4- تخفيف بالتقديم والتأخير، كتقديم صلاة العصر إلى وقت الظهر، وكتأخير صلاة المغرب إلى وقت العشاء عند حصول الأسباب المبررة لذلك..
5- تخفيف بالتغيير.. وذلك كتغيير هيئة الصلاة المعروفة وقت خوض المعركة مع العدو، أو الخوف منه، مما يسمى في الفقه بصلاة الخوف، وصلاة الالتحام.. الخ.
هذه بعض مظاهر اليسر والسماحة للشريعة في العبادات، ومراعاتها لواقع الإنسان وما يعتوره من ظروف..
لكن لابد من وقفة هنا لتوضيح أمر قد يتبادر إلى بعض الأذهان، فتتأوله أغراض وتميل به أفهام.. وهو.. أنه ليس معنى التخفيف في الإسلام أن هذا الدين لا يعود أتباعه إلا على السهل الخفيف دائماً، فيقتل في نفوسهم روح الرجولة والجد والإقدام، ويعودهم على الطراوة والمستويات الدنيا..
لا.. إن الإسلام، يأخذ أتباعه بالتكاليف التي تبني الفضائل، وتصعد إلى الكمال وتتيح للخصائص العليا في الإنسان أن تنطلق..
إنه يأخذهم بالشجاعة في ميدان القتال، والشهامة والمروءة في باب المعاملة، والكثرة في ميدان العبادة والتهذيب في ميدان الأخلاق..(18/168)
لكن الإسلام- لمعرفته لضعف الإنسان وعجزه في كثير من المواطن- يراعي هذه الظروف ويشرع ما يناسبها خفة وتيسيراً على الناس..
فتراه يقول للشخص المريض إذا لم تستطع الصلاة قائماً فصل قاعداً، فإن لم تستطع فصل راقداً، فإن لم تستطع فبالإيماء..
وتراه يقول للمسافر صل قصراً، وإن كنت صائماً افطر، لماذا؟ لمشقات السفر ومتاعبه التي يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيها:"السفر قطعة من العذاب ".
إذن فهو من باب تقدير الظروف لا أكثر.. ومع ذلك فهو يعلق أنظارهم إلى أعلا دائماً فيقول: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [17] .
ولعله من المفيد هنا أن نلقي ضوءاً على المشقة وصورتها في الشريعة الإسلامية المشقة نوعان.. نوع محتمل يتلاءم مع طاقة الإنسان وفطرته، وهذه لا يسعى الشرع إلى إسقاطها عن الإنسان أو إزالتها، لأنها نوع من المشقة العادية التي لا تكلف الإنسان رهقاً أو عنتاً، وهي وإن حدث بها نوع تعب في أدائها إلا أنه لا يوجد حرج يصعب تحمله في فعلها، وذلك كسائر الجهود العادية والمشقات المطاقة عند أداء الصوم والحج وغيرهما..
2- ومشقة خارجة عن طاقه الإنسان وقوة احتماله، وهذه رفعها الله فضلاً وكرماً عن المسلمين. وذلك كالوصال في الصوم، وفرض التهجد ليلاً، قال سبحانه {ُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [18] .
ومن أدعية القرآن الكريم التي علمها المؤمنين {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [19] .(18/169)
مع أن هناك من الشواهد ما يشير إلى أن الأمم السابقة كان فيها بعض الأصر والمشقات، لكن ذلك رفع عن الأمة الإسلامية تخفيفاً من الله وتيسيراً، وفي الحديث:" رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ". كما علمنا القرآن الكريم هذا الدعاء من خواتيم سورة البقرة {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [20] .
ومن الأمور التي كانت موجودة في سالف الأمم ما يلي:
ا- الجزء النجس من الثوب يجب قرضه.
2- تحريم الانتفاع بغنائم الحرب..
تحريم العمل يوم السبت.
4- عدم قبول الدية بدل القصاص..
5- الأمر بقتل أنفسهم على التوبة {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [21] .
6- تحريم بعض لحوم الحيوانات وشحوم بعض آخر [22] .
ومما تنبغي ملاحظته هنا أن الله أحل الأمم- ومنهم اليهود- الطيبات وحرم عليهم الخبائث لكن بني إسرائيل لما بغوا وأسفوا، حرم الله عليهم بعض الحلال عقاباً لهم كما قال سبحانه: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [23] . وفي آية أخرى بعد ذكر بعض المحرمات قال سبحانه: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [24]
ومن هذه الأمور المتشددة أيضاً ما جاء في سفر الخروج [25] .
"من ضرب أباه أو أمه يقتل قتلاً ".
"من شتم أباه أو أمه يقتل قتلاً ".
"إذا نطح ثور رجلاً أو امرأة فمات يرجم الثور، ولا يؤكل لحمه، وأما صاحب الثور فيكون بريئاً ولكن إذا كان الثور نطاحاً من قبل وقد أُشهد على صاحبه فقتل رجلاً أو امرأة فالثور يرجم وصاحبه يقتل " [26] .
وفي سفر العدد "من مس ميتة إنسان ما يكون نجساً سبعة أيام " [27] .
"إذا مات إنسان في خيمة فكل من دخل الخيمة وكل من كان في الخيمة يكون نجساً سبعة أيام".(18/170)
"وكل إناء مفتوح ليس عليه سداد بعصابة فإنه نجس " [28] .
وفي سفر التثنية "إذا كان ابن معاند ومارد ولا يسمع لقول والديه يرجم بالحجارة حتى يموت" [29] .
وفي سفر اللاويين أحكام عن الحائض، وكل من مسها يكون نجساً إلى المساء، وكل ما تضطجع عليه في طمثها يكون نجساً، وكل ما تجلس عليه يكون نجساً " [30] .
تأمل هذه الأمور لتدرك فضل الله على الأمة الإسلامية ورحمته بها، واهتف معي "سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ".
ولعله بعد هذا البيان عرفت ما يريحك عن واقعية العبادات الإسلامية وملاءمتها لفطرة الإنسان وتكوينه.. وأنها لم تكلفه شططاً، ولم تجنح به إلى خيال..
ثانياً: الأخلاق:
كان الإسلام في أخلاقه واقعياً كذلك، بمعنى أن ما دعا إليه من صفات النبل والكمال ليس فوق طاقة البشر، وإنما هو في مقدورهم وفي دائرة استطاعتهم، وذلك كالصبر على المكاره، والعفة عن الحرام، والصدق في القول، والوفاء في المعاملة ... الخ.
صحيح أن في الأخلاق الإسلامية ضوابط للسلوك الإنساني، وكف لأهواء النفس وجماحها، وإلجامها بلجام من الاستقامة والنظافة..
لكن ذلك أمر لا بد منه للحفاظ على إنسانية الإنسان التي ترتفع به عن مستوى المخلوقات الدنيا، والمشقة التي فيها إنما هي من نوع المشقة المحتملة التي مرت بك آنفاً، وإلا فإذا تفلت الإنسان من هذه الضوابط والقيود الخلقية، هبط إلى عالم الأحراش وهذه ما لا يريده الإسلام للإنسان..
والإسلام من الناحية الأخلاقية لا يتصور الإنسان ملكاً يمشي على الأرض، ولا يتلبس بمقتضيات التكوين المادي فيه..(18/171)
إنه ينظر إليه نظرة كلية، بمادته وروحه، وعقله وشهوته، وعواطفه وغرائزه فيضع له من مستوى الأخلاق ما يحرره من قيود الرذائل وأغلالها، وسفساف الأمور وأحقارها التي تقعد بالإنسان عن التصعد إلى المراتب الإنسانية الرفيعة وتربطه بحبال متينة نحو الأرض..
وإليك مثالاً مقارناً على واقعية الأخلاق في الإسلام، وملاءمتها لفطرة الإنسان وعدم تحليقها في عالم الخيال..
جاء على لسان المسيح عليه السلام في بعض الأناجيل "أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر.. من سخرك ميلاً فاذهب معه ميلين من سرق قميصك فأعطه إزارك ".
هذه دعوة حارة للعفو والسماحة التي اشتهرت بهما المسيحية، وذاك إحدى سماتها البارزة..(18/172)
لكن إذا جاز ذلك "في مرحلة محدودة ولعلاج ظرف خاص، فإنه لا يصلح توجيهاً عاماً خالداً لكل الناس في كل العصور والبيئات، فإن مطالبة الإنسان العادي بمحبة عدوه، ومباركة لاعنيه قد يكون شيئاً فوق ما يتحمله، ولهذا اكتفى الإسلام بمطالبته بالعدل مع عدوه {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [31] . كما أن إدارة الخد الأيسر لمن ضرب على الخد الأيمن أمر يشق على النفوس، بل يتعذر على كثير من الناس أن يفعلوه، وربما جرأ الفجرة الأشرار على الصالحين الأخيار، وقد يتعين في بعض الأحوال، ومع بعض الناس أن يعاقبوا بمثل ما اعتدوا، ولا يعفى عنهم فيتبجحوا ويزدادوا بغياً وطغياناً، ولهذا تجلت واقعية الإسلام حين شرع مقابلة السيئة بمثلها بلا حيف ولا عدوان فأقر بذلك مرتبة العدل، ودرء العدوان، ولكنه حث على العفو والصبر والمغفرة للمسيء، على أن يكون ذلك مكرمة يرغب فيها، لا فريضة يلزم بها [32] ، وهو واضح في مثل قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [33] ، {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [34] .
ثالثاً: الشرائع:
وشرائع الإسلام واقعية أيضاً، وحتى لا يطول بنا الحديث نكتفي بمثال واحد يتعلق بموقف الشريعة من شهوات الجسم والنفس..(18/173)
اعترف الإسلام بالواقع البشري على حقيقته، فلم يكبت نوازع الجسد، وشهوات النفس وإنما اعترف بهما من حيث المبدأ، ومن حيث أنهما شعور في النفس لا ينبغي كبته ولا مصادرته، {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [35] {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [36] .
لكن الإسلام في الوقت نفسه لا يسمح للإنسان أن ينطلق مع هذه الشهوات إلى آخر مدى حتى تستعبده، وتخرج به عن إنسانيته، فيضر بنفسه وبمجتمعه..
وإنما نظم له كيف يستمتع بلذاته في غير ما كبت ولا حرمان..
أ- فبالنسبة للشهوة الجنسية لا ينظر الإسلام إليها على أنها رجس كمن عمل الشيطان كما تذهب إلى ذلك بعض المذاهب المتزمتة، وإنما يقرر الإسلام أن هذا أمر قد زين للناس، فلا نكران له ولا مطاردة ثم يرسم له الطريق المشروع الذي يكون مباحاً في داخله محرماً فيما وراءه، وهو طريق الزواج الذي ندب إليه، وجعله سنة الإسلام، ومنع الرهبانية والإنقطاع للعبادة..
ولما عزم ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على المبالغة في العبادة، ونوى واحد منهم العزوف عن النساء، قام عليه الصلاة والسلام يصحح هذا الفهم الخاطئ ويقول:"أما إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني ".
وبهذا الطريق سلك الإسلام مسلكاً شريفاً نزيهاً، بعيداً عن إفراط المفرطين الذين أباحوا الإختلاط كعلاج للمراهقة والشباب، فشاع في بلادهم الإنحراف والشذوذ والفجور وقتلت معالم الرجولة في شبابهم، وأصبحت أمم الغرب الآن تكاد تحترق بلظى الخيانة والفسق من جراء بعدها عن هدي السماء..(18/174)
وبعيداً عن مغالاة المتشددين الذين يحاولون كبت هذا الهاجس الجنسي وقسره على عكس ما تأباه طباعه، كما تفعل البرهمية الهندية والرهبانية المسيحية.
ب- وما يفعله الإسلام بالنسبة لشهوة الجسد من حيث الإعتراف بها، تنظيم طريقة التنفيس عنها في طريق مشروع حلال..
يفعله كذلك بالنسبة لغريزة حب المال.. التي يعتبرها أمراً مفطوراً في النفس كذلك {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} [37] {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [38] ..
ومن ثم اعترف الإسلام بالملكية الفردية.. فذلك له أثره في الإبتكار والإختراع وترقية الحياة..
لكنه في الوقت نفسه لم يدع الأمر على إطلاقه فيتحول إلى رأسمالية طاغية وإنما وضع حدوداً وقيوداً على رأس المال وعلى الربح.. منها: الإرث، الزكاة، تحريم الربا، والإحتكار، وكل مصدر خبيث للربح.. وذلك من شأنه أن يفتت الثروة بين أكبر قدر من الأهل والمجتمع، ويخلق نوعاً من التكافل بين الناس..
وبعد. . فلعلك أدركت الآن معنى الواقعية في حياة هذا الدين، وأنها مطابقة منهج الإسلام لواقع الإنسان وظروفه الحقيقية المحيطة به في هذا الكون، لأن كليهما – المنهج والإنسان – صادر عن الله عز وجل، الإنسان خلقُ الله، والمنهج شرعُ الله ولا يمكن أن يتناقض شرع الله مع واقع خلق الله.
ولذلك فإن هذا المنهج الذي رسمه الله للحياة على ما فيه من سمو وارتقاء ومثالية هو في الوقت نفسه متوافق تماماً مع طاقات الإنسان الواقعية، ملتحم مع فطرته البشرية ونظام حياته، لأنه تشريع العليم الذي لا يجهل، والحليم الذي لا يعجل والحي الذي لا يموت، والخبير بشئون النفس الإنسانية ودخائلها ولا يغيب عنه سبحانه شيء من أحوالها وخباياها، مهما دق أو صغر، أو غاب أو حضر، {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [39] .(18/175)
والبشرية لن تجد الراحة والأمان، والسعادة الحقيقية والإستقرار إلا إذا التقت مع منهج ربها، كما تنزل على خاتم رسله {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [40] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أصول الدعوة د. عبد الكريم زيدان 71 ط ثالثة.
[2] المرجع السابق.
[3] سورة البقرة - 286
[4] سورة الأحقاف /19، وسورة الأنعام / 132.
[5] سورة البقرة – 184.
[6] سورة البقرة – 178.
[7] سورة البقرة - 245.
[8] سورة الشورى – 40.
[9] سورة آل عمران 14، 15.
[10] الإنسان بين المادية والإسلام، محمد قطب / 101، 102.
[11] عظماؤنا في التاريخ د. مصطفى السباعي / 71 – والإنسان بين المادية والإسلام – محمد قطب/ 103
[12] تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي 161.
[13] المرجع السابق / 159 – والآية من سورة الأحقاف 20.
[14] الإنسان بين المادية والإسلام، 104.
[15] المرجع السابق.
[16] سورة البقرة – 184.
[17] سورة البقرة 184.
[18] سورة البقرة 185.
[19] سورة البقرة 286.
[20] سورة البقرة 286.
[21] سورة البقرة 54.
[22] انظر تفسير القرطبي 3/43.
[23] سورة النساء 160.
[24] سورة الأنعام 146.
[25] الإصحاح 21.
[26] سفر الخروج، الإصحاح 21.
[27] الإصحاح 21.
[28] السابق.
[29] الإصحاح 21.
[30] الإصحاح 15.
[31] سورة المائدة 8.
[32] الخصائص للإسلام د. يوسف القرضاوي / 156.(18/176)
[33] سورة الشورى 40.
[34] سورة النحل 146.
[35] سورة آل عمران 14.
[36] سورة الكهف 46.
[37] سورة الفجر 20.
[38] سورة العاديات 8.
[39] سورة الملك 14.
[40] سورة المائدة 15، 16.(18/177)
العدد 45
فهرس المحتويات
1- كلمة التحرير
2- افتتاحية العدد: فضيلة الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد
3- فتاوى هيئة كبار العلماء في أحداث الحرم
4- حادث المسجد الحرام وأمر المهدي المنتظر: لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
5- دروس من الفتنة: فضيلة الشيخ محمد المجذوب
6- آية العدد: فضيلة الشيخ: أبو بكر الجزائري
7- حول الوحي - محاولة لفهم ومدرجة إلى درس: لفضيلة الدكتور عبد الفتاح إبراهيم سلامة
8- علم الجرح والتعديل: لفضيلة الدكتور عبد المنعم السيد نجم
9- مفهوم الأسماء والصفات (الحلقة الأولى) : فضيلة الشيخ سعد ندا
10- نماذج من الدعاة (الحلقة الثانية) : لفضيلة الشيخ أبو بكر الجزائري
11- مرتكزات التربية الإسلامية (الحلقة الثانية) : لفضيلة الدكتور عباس محجوب
12- في المشارق والمغارب: فضيلة الشيخ عبد الله بن أحمد قادري
13- الهجرة النبوية - دراسة وتحليل: لفضيلة الدكتور محمد السيد الوكيل
14- البحث عن سيف صلاح الدين: لفضيلة الدكتور عبد الرحمن بله علي
15- حقوق الإنسان في الإسلام (الحلقة الأولى) : لفضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي
16- نظم القرآن فوق مفتريات النقد والتجريح: بقلم الدكتور علي البدري
17- من أبحاث فقه السنة - سنن الفطرة بين المحدثين والفقهاء (الحلقة الثانية) : لفضيلة الدكتور أحمد علي طه ريان
18- أبو الأعلى المودودي: لفضيلة الشيخ محمد شريف الزئبق
19- عبد الله بن ياسين - واضع الأسس الأولى لدولة المرابطين في المغرب الأندلس (الحلقة الثانية) : لفضيلة الشيخ إبراهيم الجمل
20- رسائل لم يحملها البريد: بقلم الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
21- الأفعال الملازمة للمجهول (الحلقة الثالثة) : فضيلة الدكتور مصطفى أحمد النماس
22- غوثاه: لفضيلة الشيخ عبد الله بن أحمد قادري
23- قياسية المصادر: لفضية الدكتور محمد بن زين العابدين حسن سلامة
24- نظرات في التمثيل البلاغي: لفضيلة الدكتور محمود السيد شيخون
25- سهام طائشة: فضيلة الدكتور مصطفى يونس
26- الرد على من كذَّب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي: لفضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
27- بل فلنعود أنفسنا أسلوب النقد النزيه: فضيلة الدكتور صلاح الدين عبد التواب
28- كيس المرارة: للدكتور سيد أحمد عبد البر
29- الخمر والإدمان الكحولي - خطر يجتاح العالم - فاحذروه: الدكتور أبو الوفاء عبد الآخر
30- ملحق رسالة دكتوراه في التحقيق
31- نداء لمساعدة المجاهدين الأفغان: لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
32- ماذا تعرف عن أورومو!؟ : لفضيلة الشيخ محمد أمان بن علي
33- ملخص لبعض بحوث المؤتمر الثالث للسيرة والسنة النبوية الرسالة الإسلامية الأولى في مواجهة الفساد العالمي: بقلم الشيخ محمد المجذوب
34- مجتمع المدينة قبل الهجرة وبعدها: دكتور أكرم ضياء العمري
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(18/178)
كلمة التحرير
الحمد لله، وصلاة الله وسلامه وبركاته على رسول الله وعلى آله وصحبه..
وبعد: فإن حادث المسجد الحرام الذي وقع في أول المحرم عام 1400 هـ (أي في مطلع القرن الخامس عشر الهجري) أمر لا ينبغي أن يمر كما يمر أي حادث من حوادث الدهر الكثيرة، لأنه فجيعة عالمية فاجأت المسلمين في أقدس مكان حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، وفي الشهر الحرام الذي ظل محل احترام في الجاهلية والإسلام، واستبيح فيه الدم الحرام من حاضري المسجد الحرام وغيرهم من ضيوف الرحمن من الحجاج والمعتمرين، فهو حادث في غاية الغرابة، فيجب الوقوف أمامه، وقفة تأمل وتساؤل: لماذا وقع؟ وكيف وقع؟..
نعم يجب الوقوف أمامه وتقليب أمره لننظر فيه من جميع جوانبه، لنستخلص منه ما فيه من عبر، ثم لنراجع صحائف أعمالنا لنرى ما فيها من تقصير أوجب أو سبَّب هذه الفتنة العمياء المدهشة، لنمحو أثر ذلك التقصير بالإنابة إلى الله {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} ، الذي قدر ولطف فيما جرت به المقادير؛ وهو اللطيف الخبير، حيث انتهى الحادث إلى تلك الفرحة التي غمرت القلوب، قلوب المؤمنين في كل مكان، وهى فرحة تطهير المسجد الحرام للطائفين والقائمين والركع السجود، بعد أن دنسه أولئك المتهورون العصاة المتمردون، تلك الفرحة التي بردت قلوب المسلمين المفجوعة التي باتت تنتظر فترة التطوير بفارغ الصبر.
وإن أول آذان بعد الحادث يعتبر إعلانا بأن الفتنة انتهت بما حملت من أحزان وهموم وكآبة، وحل محلها الفرح والسرور، الفرح بنعمة الله، نعمة التمكين من تطهير المسجد الطاهر مما طرأ عليه من أعمال الجهيمانيين السفهاء.(18/179)
وهذا أمر له أهميته، ينبغي التنويه به، وهو أن أولئك الصبية السفهاء كانوا يطلقون على أنفسهم- فيما بلغني- أنهم (سلفيون) ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا- وإطلاقهم هذا الاسم على أنفسهم لا يخرج من أحد أمرين:
1- إما أنهم لا يعرفون المفهوم الصحيح للسلفية، فيكون إطلاقهم ذلك الاسم نتيجة جهل قد يكون مركبا.
2- وإما أنهم أرادوا المغالطة والتضليل، فيكون الإطلاق نتيجة سوء قصد لتشويه هذا الاسم الحبيب الذي يعنى الرعيل الأول في هذه الأمة ومن سلك مسلكهم.
فليعلم القارئ الكريم أن الجهيمانيين ليسوا (بسلفيين) ، وليسوا أهلا للدعوة ولكنهم (متسلفون) ومدعون السلفية، وزاعمون الدعوة إلى الإسلام، وهم بعيدون عن الإسلام ذاته فضلا عن الدعوة إليه.
هذا وإذا نظرنا إلى الحادث الأثيم بعين القدر يمكن القول: لعل الله أراد أن يفضح أولئك المتهورين المجرمين على رؤوس الأشهاد، إذ كان اقتحامهم المسجد الحرام في الوقت الذي يتواجد فيه حجاج بيت الله الحرام بأعداد كثيرة حيث استطاعوا أن ينقلوا أخبارهم وتصرفاتهم الجاهلية إلى أقطار الدنيا عن مشاهدة لا بواسطة مذياع أو.. صحف.. هذه من ناحية.. ومن ناحية أخرى فإن الشيطان زين لهم أن يقتحموا المسجد الحرام بأعداد هائلة، وكأن الشطان، وعدهم بالنصر وقال لهم: {وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} ولما تورطوا وأحاط بهم جنود الحق وحماة البلد الحرام (الجيش السعودي) تبرأ منهم، وكأني به وهو يقول لهم: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ} كعادته المعروفة، في تغرير البسطاء، وتوريطهم، ثم البراءة منهم في آخر المطاف - نعم لعل الله أراد أن يفضحهم، ثم ينتهي شرهم، وتنطفئ فتنتهم بتلك الصورة التي تم بها القضاء عليهم، والله عليم حكيم، وله الحمد والمنة وحده.(18/180)
وسوف يتحدث في هذا العدد من (مجلة الجامعة الإسلامية) - الذي يصادف صدوره انتهاء الحادث - عدد من الكتاب حول الحادث الأليم، وما انطوى عليه من الأحقاد الكمينة، حديثا يتضمن بيان حكم الإسلام في أولئك الصبية السفهاء من أنهم من المفسدين في الأرض، الذين يجب أن يقتلوا تقتيلا جزاء وفاقاً، كما يتناول حديثهم الإشارة بذلك الأسلوب الحكيم الذي وفق الله تعالى إليه حكومة جلالة الملك خالد بن عبد العزيز أثناء القضاء على الفتنة العمياء.
ومجلة الجامعة الإسلامية لتنتهز هذه الفرصة، فرصة الفرحة الكبرى بيوم التطهير لتهنئ جلالة الملك المعظم الذي شرفه الله بحماية الحرمين الشريفين والذود عندهما بالنفس والنفيس، أيده الله بنصره.
كما تهنئ المجلة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء بهذه النعمة العظيمة، وصاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني.. وكذلك تهنئ المجلة أولئك الأبطال من رجال الحرس الوطني الذين ساهموا مساهمة فعالة في تطهير المسجد الحرام.
كما تهنئ المجلة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز، وزير الدفاع، وصاحب السمو الملكي وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز، وجميع الذين اشتركوا في القضاء على تلك الفتنة من أفراد الجيش السعودي الأبطال، وأفراد الأمن العام البواسل.
وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين..
محمد أمان بن علي الجامى
رئيس تحرير المجلة(18/181)
نماذج من الدعاة
(الحلقة الثانية)
لفضيلة الشيخ أبو بكر الجزائري.
رئيس قسم التفسير بالجامعة الإسلامية.
إمام الدعاة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا كان بين عظماء الرجال نماذج من دعاة الحق والخير صالحون فإن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم هو إمامهم وقدوتهم في كل كمال كانوا عليه ودعوا الناس إليه.
فمن هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
إنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ابن كعب بن مرة بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النظير بن كنانة بن خزيمة بن مدركة ابن إلياس بن مضر بن معد بن عدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام.
ولد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بدار أبي يوسف، ولدته آمنة بنت وهب بن زهرة بن عبد مناف بن قصي بن كلاب. ولدته صبيحة يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول عام الفيل الموافق لأغسطس عام (570) ميلادية. مات والده عبد الله بن عبد المطلب وهو حمل في بطن أمه، فكفله جده عبد المطلب وماتت والدته وهو ابن ست سنين، فحضنته أم أيمن جارية أبيه، ومات جده عبد المطلب فكفله عمه أبو طالب.
مظاهر الكمال المحمدي
إن الكمال في محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأتي عليه وصف، ولا يمكن أن يوضع به كشف، فصفاء نفسه التي أشرقت بنور الله فكانت كأصفى مرآة قد انعكست عليها مظاهر الكمال البشري كله، حتى كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم مضرب الأمثال في كل كمال، وبذلك قدم لإمامة الأنبياء، وجعل قدوة للمؤمنين.
وها نحن نذكر بعض جوانب الكمال المحمدي ليورد عليه الطالب الداعي قلبه، ويحيله بخاطره فيحصل على طاقة من الكمال النفسي ما يكون عوناً له على حمل رسالته، وأداء واجب دعوته التي تحملها بإيمانه وعلمه.(18/182)
الاستعداد الروحي لتلقي الوحي:
وعن استعداد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الروحي لتلقى الوحي نقول: إن النبي الكريم محمدا صلى الله عليه وسلم كان قبل إنبائه وبعثته آية في النظافة والطهر، نظافة العرق وأصالته وطهارة الروح وسلامته، لقد اتصلت ارومته بأصل جماله وكماله إبراهيم، والذي كان محمد صلى الله عليه وسلم أشبه الناس به كما أخبر بذلك عن نفسه، وانحدر سلسبيل النقاء في أصلاب الآباء حتى انتهى إلى قرار مكين فنبع منه محمد خير الناس أجمعين. هكذا كانت نظافة العرق الكريم والنسب الشريف. وأما طهارة الروح وسلامته فحسبنا أن نلقي نظرة على ربيع حياته، فتتجلى لنا من معاني الطهر آياته، وتفصح لنا عن سلامة روحه السنة عداته.
لقد كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نبوته في شبابه وفتوته يتمتع بأفضل الأخلاق وأطيب الشمائل فلم يؤثر عنه ما يخل بمكارم الأخلاق قط. إنه لم يأت ولا مرة واحدة ما كان يأتيه بنو قومه أبدا. فلم يسجد لصنم، ولم يشرب خمرا ولم يلعب قمارا ولا ميسرا، ولم يستقسم بزلم ولم يظلم في عرض أو مال أو دم أحدا. لقد كان بشهادة أعدائه وخصوم دعوته مثاليا في أخلاقه وناهيك بإجماع قريش على إضفاء لقب الأمين عليه. هذا اللقب الذي لم يظفر به أحد في ديارها وبين شبابها ورجالها أبدا، لقد كان - فداه أبي وأمي ونفسي وإني لصادق- كان أمينا في سره وفي علنه، وفي قوله وفي عمله، أمينا في غيبه وفي مشهده، أمينا في كل شيء وعلى كل شيء.
وإذا كانت قريش قد أجمعت على منحه ذلك اللقب السامي الكريم وهو لقب الأمين فإن الله تعالى قد أقسم له في مطلع نبوته على أنه على خلق عظيم وهي شهادة لا تعدلها والله شهادة إذ قال تعالى في فاتحة سورة القلم: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ. مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ. وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ. وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .(18/183)
إن الكمال الروحي الذي عاش عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف به قبل نبوته لم يكن نتيجة تربية أم أو أب، أو أثر تعليم أستاذ أو مرب قط، وإنما كان أثر عناية الله تعالى به. فالله الذي أوجده ليكون واسطة بينه وبين عباده في تبليغ دينه وشرعه هو الذي حماه من كل ما يلوث نفسه ويعكر صفاء روحه، وكان ذلك إعدادا له لحمل رسالة الله إلى عباد الله، إذ حمل مثل تلك الرسالة يتطلب كمالا نفسيا، يكون صاحبه فيه مثلا أعلى لغيره من سائر الناس، وكذلك كان رسول الله، وها هو ذا فداه أبي وأمي ونفسي يحدث عن صيانة الله تعالى له وحفظه ليبقى طاهرا زكيا فيتأهل لما هيئ له من الوحي والنبوة، فيقول كما روى البيهقي عن علي رضي الله عنه: يقول: "ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا ليلتين كلتاهما عصمني الله عز وجل فيهما. قلت ليلة لبعض فتيان مكة جاء ونحن في رعاء غنم أهلها وقلت لصاحبي: أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة اسمر فيها كما يسمر الفتيان"، فقال: "بلى"، قال: "فدخلت حتى جئت أول دار من دور مكة فسمعت عزفا بالغرابيل والمزامير، فقلت ما هذا؟ "قالوا: "تزوج فلان فلانة""فجلست أنظر، وضرب الله على أذني، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي". فقال: "ماذا فعلت؟ "فقلت: "ما فعلت شيئا، ثم أخبرته بالذي رأيت"وذكر أنه حصل له مرة أخرى فتم له مثل الذي حصل في الأولى، ثم قال: "فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك حتى أكرمني [1] الله عز وجل بنبوته".
نزول الوحي:
إن تلك الطهارة الروحية الكاملة التي كان عليها محمد بن الله قبل نبوته وبعثته هي التي هيأته بإذن ربه تعالى للاصطفاء للنبوة والرسالة فكان بعد الوحي إليه ونزول جبريل عليه نبي الله ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.(18/184)
إنه على رأس الأربعين من عمره المبارك نبئ صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه الحق وهو بغار حراء بعد أن كان قد حبب إليه الخلاء وكان ذلك في شهر رمضان حيث نزل عليه جبريل عليه السلام وهو به فضمه إلى صدره وأرسله ثلاث مرات وهو يقول له: اقرأ، فيرد قائلا: "ما أنا بقارئ". وفي الرابعة قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق. خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . فذهب بها صلى الله عليه وسلم إلى زوجه خديجة رضي الله عنها يرجف بها بوادره، وهو خائف على نفسه. فهدأت رضي الله عنها من روعه، وسكنت من اضطراب نفسه وهي تقول له: "والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".(18/185)
وانطلقت به رضي الله عنها إلى ابن عمها ورقة بن نوفل بن أسد، وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي بصره. فقالت له خديجة: "يا ابن عم اسمع من ابن أخيك"، فقال له ورقة: "يا ابن آخي ماذا ترى؟ "فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة: "هذا الناموس [2] الذي نزل الله على موسى ليتني أكون فيها جذعا. يا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك"، فقال صلى الله عليه وسلم: "أو مخرجي هم؟ "قال: "نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا". ثم لم يلبث ورقة أن توفي فتر الوحي ... وأثناء فترة الوحي تبدى له جبريل عليه السلام في صورته الملائكة وقد سد الأفق، وله ستمائة جناح ثم أخذ يدنو منه؟ ويتدلى حتى كان منه قاب [3] قوسين أو أدنى فأوحى الله إليه ما أوحى، ونزل عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ. وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ. وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} .
الدعوة سراً:(18/186)
وبعد فترة الوحي التي فترها وكانت سنتين ونصف سنة حمي الوحي وتتابع وآمنت خديجة وورقة بن نوفل أول من آمن برسالة رسول الله، ثم آمن علي بن أبى طالب وكان صبيا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمن بعده زيد بن حارثة الكلبي وكان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا ورقة فإنه مات قبل مشروعية الصلاة، وكانت قبل الإسراء ركعتين في الصباح وركعتين في المساء لقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} ، ثم أسلم أبو بكر رضي الله عنه، وأسلم بدعوته نفر كريم كان منهم عثمان بن عفان، وعبد الرحمن ابن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله. ولما استجابوا لدعوته رضي الله عنهم أجمعين أتى بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا وصلوا. فكانت هذه فضيلة لأبي بكر تضاف إلى أخرى قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة ونظر وتردد إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة ما عكم عنه (تلبث) "قال رؤية (وأنصاع وثاب بها ولما عكم) حين ذكرته له وما تردد فيه.(18/187)
ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن الجراح، ثم الأرقم بن أبي الأرقم، الذي اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من داره مركزا للدعوة يعلم فيها من آمن من أصحابه ويصلي بهم طيلة ما كانت الدعوة سرا بمكة وبين قريش، وأسلم في هذه الفترة من النساء غير خديجة أسماء بنت عمير امرأة جعفر بن أبي طالب، وأمها هند بنت عوف بن الحارث أخت ميمونة بنت الحارث الهلالية زوج الرسول صلى الله عليه وسلم وأخت لبابة أم الفضل امرأة العباس. وهي والدة عبد الله بن جعفر جواد العرب في الإسلام وتزوجها أبو بكر الصديق بعد استشهاد جعفر بموته فولدت له محمدا، وتزوجها بعد وفاة أبي بكر علي رضي الله عنه فولدت له يحي، فما أكثر بركة هذه المؤمنة، وما أعظم يمنها رضي الله عنها وأرضاها.
واستمرت الدعوة سرا زهاء ثلاث سنوات فأنزل الله تبارك وتعالى قوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} .
الدعوة جهراً:
امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ربه فجهر بدعوته التي كانت سرا، ولما رأت قريش ذلك لا سيما بعد أن ذكر آلهتهم وعابها ناصبته العداء، وأجمعت على خلافه وعداوته ووقف أبو طالب إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم يذود عنه ويحميه، حتى اضطرت قريش إلى إرسال وفدها يفاوض أبا طالب في شأن رسول الله، ويطلب منه أن يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تسفيه أحلامهم، وسب آلهتهم، وعيب دينهم، أو يخلي بينهم وبينه لينالوا منه. وعرض أبو طالب وجهة نظر وفد قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال صلى الله عليه وسلم: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته". واستعبر رسول الله فبكى ثم قام فناداه أبو طالب، فقال: "اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبدا".(18/188)
ولما علمت قريش بعدم خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشت إلى أبي طالب تساومه في الموضوع فقدمت له شابا هو أنهد فتى في قريش وأجمله، وقالت: "خذ هذا بدل ابن أخيك فاتخذه ولدا واسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك فنقتله فإنما هو رجل برجل"، فرد أبو طالب قائلا: "والله لبئس ما تسومونني! أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه، هذا والله ما لا يكون".
ولما بلغ الأمر هذا الحد، أظهرت قريش عداءها السافر، وأخذت تشن حربا ضروسا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، وقد كثر عدد هم وتزايد أمرهم فأغرت برسول الله صلى الله عليه وسلم سفهاءها فكذبوه وأذوه، ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مظهر لأمر الله لا يستخفي به، مبادلهم بما يكرهون من عيب دينهم، واعتزال أوثانهم. وحدث أن نال أبو جهل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت حين كان أبو جهل يسب ويشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم مولاة لعبد الله بن جدعان تسمع، فلما جاء حمزة وكان في قنص أخبرته بما صنع أبو جهل إزاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتمل حمزة الغضب، وطلب أبا جهل حتى وجده فضربه ضربة عنيفة فشج رأسه وقال له: "أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول"ولما رأت قريش أن حمزة قد أسلم علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه صلى الله عليه وسلم.(18/189)
وكان أول من جهر بالقرآن وأسمعه قريشا عبد الله بن مسعود حيث اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما وقالوا: "والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه" فقال عبد الله: "أنا". فأبوا عليه ذلك غير أنه أبى إلا أن يكون هو فذهب في ضحى النهار إلى المسجد فوقف عند المقام، وقريش في أنديتها حول المسجد وقرأ بأعلى صوته: بسم الله الرحمن الرحيم {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ} ، ولما سمعت قريش قراءته تأملوها، وجعلوا يقولون: "ماذا قال ابن أم عبد؟ "ثم قالوا: "إنه يتلو بعض ما جاء به محمد". فقاموا إليه فجعلوا يضربونه في وجهه، ولما عاد عبد الله وأثر الضرب في وجهه قال له أصاحبه: "هذا الذي خشيناه عليك". فقال: "ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن، ولئن شئتم لاغادينهم بمثلها غدا". قالوا: "لا، قد أسمعتهم ما يكرهون" ولما عز المسلمون بإسلام حمزة رضي الله عنه وعظم أمرهم وكثر عددهم كسرت قريش عن نابها وضاعفت من أذاها للمؤمنين الذين ليس لهم مناعة من قومهم. ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك عرض على المستضعفين الهجرة إلى الحبشة، فقال لهم: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم مخرجا مما أنتم فيه"، فخرج عند ذلك المسلمون إلى أرض الحبشة [4] .(18/190)
وما زال أذى قريش منصبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من أصحابه بحيث لا يستطيع أحد من المؤمنين أن يصلي في المسجد الحرام حتى أسلم عمر رضي الله عنه وقاتل قريش حتى صلى حول الكعبة وعندها عز المسلمون بعمر ابن الخطاب وأصبحوا يصلون حول الكعبة جهارا نهارا كما قال عبد الله بن مسعود: "إن إسلام عمر كان فتحا، وإن هجرته كانت نصرا، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا لا نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه". بيد أن قريشا لما رأت انتصار المؤمنين بعمر رضي الله عنه جنت جنونها وركبت رأسها وطالبت من أبي طالب وبني هاشم تسليم الرسول صلى الله عليه وسلم للقتل. ولما فشلت في ذلك أمرت بمقاطعة بني هاشم مقاطعة تامة فلا يباعون ولا يبتاع منهم ولا يكلمون، ولا يقدم لهم أدنى مساعدة ولا تقضى لهم أية حاجة وحاصرتهم في شعب أبي طالب، وكتبت بذلك صحيفة وعلقتها بالكعبة ودام حصارها للرسول صلى الله عليه وسلم وبني هاشم ثلاث سنوات جاع فيها بنو هاشم حتى أكلوا ورق الشجر، وقيض الله تعالى رجالا من قريش منهم هشام بن عمرو بن الحارث، وزهير بن أمية بن المغيرة والمطعم ابن عدي فأتوا على الناس وهم حول الكعبة وقالوا: "يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى، لا يباعون ولا يباع منهم، والله لا نقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة"، وانتهى الأمر بنقض الصحيفة وخروج بني هاشم والحمد لله، وعلى أثرها توفي أبو طالب وتوفيت خديجة رضي الله عنها فاشتد الكرب برسول الله صلى الله عليه وسلم وعظم ألمه وحزنه.(18/191)
ومن سجل التاريخ أنهم عذبوا في ذات الله تعالى من المؤمنين في مكة سمية أم عمار ابن ياسر وولدها وزوجها فقد ماتت سمية تحت العذاب قتلها أبو جهل بحربة طعن بها في فرجها، فكانت أول شهيدة في الإسلام، كما عذب بلال إذ كان مولاه أمية بن خلف الطاغية الجمحي يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: "لا والله لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى"فيقول وهو في ذلك البلاء: "أحد.. أحد". وكان بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه وكانوا أهل بيت إسلام إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء [5] مكة فيمر بهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: "صبرا آل ياسر موعدكم الجنة".
الدعوة في دار الهجرة:
إنه بعد موت أبي طالب اشتد أذى قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إلى الطائف يطلب نصرة رجال من ثقيف فعمد إلى ثلاثة نفر من سادة ثقيف وهم عبد ياليل ابن عمرو، ومسعود بن عمرو، وأخوهما حبيب بن عمرو فكلمهم في شأن نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قريش بعد أن دعاهم إلى الله سبحانه وتعالى فأسمعوه ما ألمه، وألم كل مؤمن إذ قال له الأول: "هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك"، وقال الثاني: "أما وجد الله أحدا يرسله غيرك". وقال الثالث: "والله لا أكلمك أبدا، لئن كنت رسولا من الله كما تقول، لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليكَ الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك". فقام رسول الله من عندهم وقد يئس من خبر ثقيف.
وواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض نفسه على القبائل العربية في أسواقها وعلى مياهها، يدعون إلى الله تعالى ويطلب النصرة على قومه الذين أذوه وبالغوا في أذاه.(18/192)
ولما أراد الله تعالى أن يعز رسوله وينصر دينه، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على سابق عادته إلى موسم الحج يدعو إلى ربه ويطلب نصرته على قومه فشاء الله تعالى أن يلقى نفرا من الخزرج عند العقبة فدعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم ما شاء الله من القرآن فآمنوا وأسلموا وكانوا ستة نفر منهم أسعد بن زرارة من بني النجار، فلما عادوا إلى المدينة نشروا الدعوة حتى لم يبق بيت إلا فيه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام.
ولما كان الموسم من العالم المقبل، وأتى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة وبايعوه على الإسلام بأن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا. ولما لم يكن في نصوص البيعة ذكر الحرب قيل فيها بيعة النساء وذلك لعدم فرض القتال يومئذ. ونصوص البيعة هي الواردة في قوله تعالى من سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ} الآية.(18/193)
ولما أرادوا العودة إلى المدينة بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب ابن عمير رضي الله عنه يقرئهم القرآن ويعلمهم شرائع الإسلام ويفقههم في دين الله، فذهب معهم ونزل على أسعد بن زرارة رضي الله عنهما، وكان يؤمهم في الصلاة. (خرج يوما أسعد بن زرارة بمصعب بن عمير إلى حائط لبني الأشهل فاجتمع عليهما ناس من المسلمين فسمع بذلك سعد بن معاذ، فقال لأسيد بن حضير، وكل منهما كان سيدا في قومه: "لا أبالك انطلق إلى هذين الرجلين اللذين أتيا دارينا ليسفها ضعافناءنا فأزجرهما وأنههما أن يأتيا دارينا بعد. ولولا أن سعد منا من حيث علمت لكفيتك ذلك". فذهب أسيد بعد أن أخذ حربته، فلما رآه سعد، قال: "يا مصعب هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه". فقال: "مصعب إن يجلس أكلمه". فجاء أسيد ووقف عليهما وقال: "ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا، اعتزلا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة"، فقال له مصعب: "أو تجلس، فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره؟ " قال: "أنصفت"ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن.. فقال: "أسيد ما أحسن هذا الكلام وأجمله. كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين"قالا له: "تغتسل فتطهر، وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ففعل أسيد ذلك"، ودعا أسيد سعد بن معاذ فحضر مجلس مصعب فأسلم وهكذا انتشر الإسلام بالمدينة بإسلام أسعد بن زرارة ووجود مصعب بن عمير وبدخول أسيد بن حضير وسعد بن معاذ في الإسلام فلم تكن إلا أيام قلائل وما في المدينة بيت إلا وفيه إسلام ومسلمون إلا ما قل وندر..(18/194)
وما إن دارت السنة دورتها وخرج حجاج المدينة من المسلمين والمشركين إلى موسم الحج، وخرج معهم مصعب بن عمير رضي الله عنه واتصل مصعب برسول الله صلى الله عليه وسلم مع رجال من أهل المدينة بمكة وواعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (العقبة) أيام التشريق، وحج الجميع وقضي الحج، ولما كانت ليلة الميعاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا في نصف الليل يتسللون من رحالهم حتى نزلوا بالشعب عند العقبة ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما هي إلا ساعة وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، حضر وهو مشرك يومئذ ليطمئن على ابن أخيه ويستوثق له من مسلمي المدينة فيما عاهدوه عليه. وتمت بيعة العقبة الثانية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين نحو من ثلاثة وسبعين رجلا من الخزرج والأوس وكانت البيعة بعد أن تكلم العباس أول متكلم فقال: "يا معشر الخزرج: إن محمدا منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلاده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه". فقال الخزرج: "قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.."(18/195)
فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله تعالى ورغب في الإسلام، ثم قال: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون به نساءكم وأبناءكم" وإلى هنا قام البراء بن معرور رضي الله عنه فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا" [6] وقاطعه أبو الهيثم بن التيهان قائلا: "يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الّله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟؟ "فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: "بل الدم [7] الدم الهدم الهدم. أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم". ثم خطب العباس بن عبادة الأنصاري فكرر ما قاله ابن عبد المطلب تقريبا. فقال أهل المدينة: "إنا نأخذه - رسول الله - على مصيبة المال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك يا رسول الله؟ قال: "الجنة".
عندئذ قالوا أبسط يدك يا رسول الله نبايعك فبسط صلى الله عليه وسلم يده فبايعوه، واختار منهم أثني عشر نقيبا وهم: أسعد بن زرارة وسعد بن الربيع، وعبد الله بن رواحة، ورابع بن مالك، والبراء بن مرور، وعبد الله بن عمرو بن خزام، وعبادة بن الصامت ابن قيس، وعبادة بن الصامت بن دليم بن حارثة، والمنذر بن عمرو بن خنيس. وهؤلاء من الخزرج.
ومن الأوس: أسيد بن حضير بن سماك، وسعد بن خيثمة بن الحارث، ورفاعة بن عبد المنذر بن زبير.
وعاد أهل البيعة إلى المدينة ولم يتخلف منهم إلا سعد بن عبادة حيث أسرته قريش، وذلك أن قريشا لما بلغها بيعة أهل المدينة للرسول صلى الله عليه وسلم على حربها طلبت أهل البيعة فلم تدركهم حتى تحملوا راحلين فنجوا إلا سعدا أدركته فأسرته فهو في أسرها حتى أطلقه الله تعالى من أسرها بواسطة جبير بن مطعم بن عدي بعد أن عذبته قريش العذاب الشديد.(18/196)
وما أن وصل المبايعون المدينة حتى انتشر خبر البيعة في ربوع المدينة وتحولت فعلا المدينة إلى دار إسلام وقلعة من قلاعه، وعندئذ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يهاجروا إليها فهاجروا إرسالا، ولحق بهم مهاجروا الحبشة كذلك وانتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ربه بالهجرة حين جاء الإذن فخرج مع أبي بكر الصديق مهاجرا إلى المدينة، وكان في هجرته آيات منها ما كان في غار ثور ومنها في شاة أم معبد، ومنها مع سراقة بن جعشم.
أما غار ثور فقد أعمى الله تعالى المشركين عن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه فيه. وهم يقلبون الحجارة حجرا حجرا بحثا عنه صلى الله عليه وسلم ولم يروه، إذ العناكب نسجت [8] على فم الغار والحمامة عششت وبيضت في الحال مما جعل المشركين لا يشكون أن بالغار أحدا وهم يمرون به في كل لحظة متتبعين الآثار، حتى قال أبو بكر: "لو أن أحدا نظر إلى قدمه لرآنا"، فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا: "ما ظنك [9] باثنين الله ثالثهما يا أبا بكر"، وفي القرآن الكريم: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا..} .(18/197)
وأما شاة أم معبد فالآية فيها أنها كانت في درها بعد أن كانت لا تحلب لما أصابها من جهد السنة الشهباء، إذ مر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بخيمة أم معبد الخزاعية، وكانت امرأة جلدة برزة تختبئ بفناء بيتها وتطعم وتسقي من يمر بها. فسألها: "هل عندها شيء يشترونه منها؟ " فقالت: "والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى، والشاة عازب". فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر البيت. فقال: "ما هذه الشاة يا أم معبد؟ " فقالت: هذه شاة خلفها الجهد عن الغنم، فقال: "هل بها من لبن؟ " فقالت: "هي أجهد من ذلك"، قال: "أفتأذنين لي بحلبها؟ " قالت: "قم بأبي وأمي، إن رأيت بها حليبا فأحلبها"، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاة فمسح ضرعها، وذكر اسم الله، وقال: "اللهم بارك لها في شاتها"، فتفاجت ودرت واجترت، فدعا بإناء لها يربض [10] الرهط فحلب فيه حتى علته الرغوة، فسقاها فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا وشرب صلى الله عليه وسلم آخرهم فشربوا جميعا عللا بعد نهل، ثم حلب فيه آنية حتى ملأ الإناء فغادره عندها ثم ارتحلوا عنها. وجاء زوجها فوجد عندها اللبن فعجب وقال: "من أين لك هذا؟ والشاة عازب ولا لحلوبة بالبيت"، فقالت: "إنه مر بنا رجل [11] مبارك كان حديثه كيت وكيت". فقال زوجها أبو معبد: "والله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلبه، صفيه لي يا أم معبد"فوصفته له، فقال: "هذا والله صاحب قريش، ولو كنت وافقته لالتمست أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا".(18/198)
أما سراقة فالآية فيه أنه لما بلغه أن قريشا جعلت مائة بعير لمن يرد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً أو ميتا ركب فرسه وحمل سلاحه وخرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أن سار وجدَ به السير حتى أخذ فرسه يعثر في الأرض وكلما عثر الفرس سقط سراقة على الأرض. وهكذا عدة مرات فلما رأى أنه دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفاقه عثر الفرس وذهبت يداه في الأرض وسقط سراقة عنه، ورأى دخانا كالإعصار فعرف حين رأى ذلك أنه الرسول صلى الله عليه وسلم قد منع منه وأنه ظاهر لا محالة. فنادى: "أنا سراقة بن جعشم أنظروني أكلمكم، فوالله لا أريبكم، ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه". ولما عاد سراقة خائبا لامه أبو جهل فأنشده الأبيات التالية:
لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
أبا حكم والله لو كنت شاهدا
رسول ببرهان فمن ذا يقاومه؟
علمت ولم تشكك بأن محمد
بأن جميع الناس طرا يسالمه
بأمر يود الناس فيه بأسرهم
ومن أولى آيات الهجرة أنه لما خرج رسول الله وصاحبه من الغار ولم يعرف أين كان اتجاههما جاء رجل من الجن من أسفل مكة وأخذ يتغنى بالأبيات التالية من الشعر، والناس يتبعونه يسمعون صوته وما يرونه حتى خرج من أعلى مكة:
فيقين حلا خيمتي أم معبد
جزى الله رب الناس خير جزائه
فأفلح من أمسى رفيق محمد
هما نزلا بالبر حيث تروحا [12]
ومقعدها للمؤمنين بمرصد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم
فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها
به من فعال لا يجازى وسؤدد
فيا لقصي ما زوى الله عنكم
أبر وأوفى ذمة من محمد
فما حملت من ناقة فوق رحلها(18/199)
ووصل الرسول صلى الله عليه وسلم مع صاحبه أبي بكر الصديق المدينة ودخلها من جنوبها حيث نزل بديار بني عمرو بن عوف بضاحية قباء وكان ذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول فأقام بها خمسة أيام دعا فيها إلى الله تعالى وتلا القرآن وعلم المؤمنين دين الله تعالى وصلى بالناس، وبنى مسجد قباء فكان أول مسجد بني في الإسلام وترك منازل بني عمرو بن عوف قاصدا المدينة فأدركته صلاة الجمعة فصلاها في حي بني سالم بن عوف بالمسجد الذي يعرف الآن بمسجد الجمعة بواد يقال له (رانوناء) فكانت أول جمعة تصلى في دار الهجرة وعرضت له رجالات أحياء الأوس والخزرج كل يطلب النزول إليه ويقول: أقم عندنا في العدد والعدة والمتعة، والرسول صلى الله عليه وسلم يأبى عليهم ذلك، وكلما اعترضوا ناقته لينيخوها بأحيائهم يقول لهم: "دعوها فإنها مأمورة" حتى وصل إلى حي بني النجار من أخواله [13] فبركت الناقة وألقت بجرانها [14] في المكان الذي بني فيه المسجد النبوي الشريف على مقربة من دار أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه والذي نزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيفا وبقي بمنزله حتى بنيت الحجرات الشريفة فسكنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان أول عمل قام به الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة بناء مسجده الشريف والذي شارك في حمل حجارته وهو يرتجز يقول: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة.. فاغفر للأنصار والمهاجرة.."
وعمار بن ياسر يرتجز ويقول:
يدأب فيه قائما وقاعدا
لا يستوي من يعمر المساجدا
ومن يرى عن الغبار حائدا
ففهم أحد الصحابة أنه يعترض به فهدده بالضرب فغضب لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "مالهم ولعمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار".(18/200)
ودخل عمار بن ياسر وقد أثقلوه بحمل اللبن فقال: "يا رسول الله قتلونى يحملون علي مالا يحملون"فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفض وفرته بيده وهو يقول: "ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك: إنما تقتلك الفئة الباغية".
ولم تدر السنة حتى استجمع للرسول صلى الله عليه وسلم إسلام الأنصار فلم يبق دار من دور الأنصار إلا أسلم أهله إلا ما كان من ثلاث أو أربع بيوتات من الأوس فإنهم بقوا على شركهم، وتم بناء المسجد والحجرات في خلال تلك السنة، وأول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تلك التي رويت عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ونصها: "أنه قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال أما بعد ... أيها الناس فقدموا لأنفسكم. تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه، وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي فبلغك؟ وآتيتك مالا وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك؟ فلينظرن يمينا وشمالا ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف. والسلام عليكم ورحمة الله وبركا ته.."(18/201)
وخطب مرة أخرى أيضا فقال: "إن الحمد لله ... أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. إن أحسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا ما أحب الله، أحبوا الله من كل قلوبكم، ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقس عنه قلوبكم فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي، قد سماه الله خيرته من الأعمال ومصطفاه من العباد والصالح من الحديث، ومن كل ما أًوتى الناس من الحلال والحرام؛ فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتقوه حق تقاته، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله بينكم إن الله يغضب أن ينكث عهده. والسلام عليكم".
ومن أجل ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعمال في مجال الدعوة بالمدينة بعد بناء المسجد وجمع المؤمنين فيه للصلاة والتربية والتعليم هو كتابه الذي كتبه بين المهاجرين والأنصار، وقد ضمنه موادعه يهود المدينة، ومعاهدتهم وإقراره لهم على دينهم وأموالهم، وما شرط لهم واشترط عليهم وهو كتاب يقع في أكثر من ثلاث صفحات تضمن خطوطا سياسية إصلاحية حربية وسلمية لا نظير لها في معاهدات الناس وكتاباتهم في هذا الشأن بحال من الأحوال، وهو في كتاب السيرة لابن هشام.(18/202)
ومن أجل الأعمال كذلك مؤاخاته صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار حيث قال في مجمع حاشد من المهاجرين والأنصار: "تآخوا في الله أخوين أخوين، ثم أخذ بيد علي بن أبى طالب فقال هذا أخي ... " فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ابن أبي طالب أخوين، وكان حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة أخوين وهكذا حتى لم يبق أحد من المهاجرين والأنصار إلا آخى أحدا وآخاه، والله أكبر ماذا نتج عن هذه المؤاخاة من الخير والبركة الأمر الذي لا نظير له ولم تعرف الدنيا له مثيلا. كل ذلك في نطاق الدعوة إلى الله تعالى التي يجب أن يتخذ لها كل الأسباب الكفيلة ببلوغها وانتشارها وانتصارها وإسعاده للناس عليها في الدنيا والآخرة.
وبعد هذه الخطوات الجبارة التي خطاها الرسول صلى الله عليه وسلم في مضمار الدعوة بدار الهجرة اتسع الطريق أمامه فداه أبي وأمي، فضاعف الجهود، إذ نجم النفاق بين سكان المدينة من عرب مشركين ويهود على حد سواء، وأخذت التجمعات والتكتلات ضد الرسول والمؤمنين تظهر هنا وهناك وتبعتها الاتصالات بالعدو بمكة، وعظم الأمر، واشتد الخطب، ووقف الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون وقفة البناء الشامخ والجبال الراسية فلا تزعزع ولا تضعضع. ولكن الجهاد بالسيف والمال والقال والحال حتى نصر الله أولياءه وخذل أعداءه ولكن ما بين ذلك من الأحداث الجسام والأعمال العظام مالا يأتي عليه وصف!! وليراجع له كتب السير والمغازي فإنه كان العجب العجاب في حياة الدعوة بالمدينة وحياة سيد الدعاة بها صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه تسليما كثيرا.
الصورة المثالية في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم:(18/203)
إن الصورة المثالية الكاملة في شخصية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم تتجلى في خلقه وفي خُلُقِه معا وهي بالغة في كل منهما منتهى الكمال، والحمد لله واهبه والمتفضل به. أما في خلقه صلى الله عليه وسلم فإن أصحاب السير وجميع كتب من كتب في السيرة المحمدية مجمعون على أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكمل الناس ذاتا، وأجملهم وجها، وأحسنهم قدا واعتدالا، ولنترك الرواة الصادقين يصفون لنا الذات المحمدية كما رأوها وعرفوها. فقد روى مسلم عن البراء أنه قال:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا مربوعا بعيد ما بين المنكبين، عظيم الجمة إلى شحمة أذنيه، عليه حلة حمراء ما رأيت شيئا قط أحسن منه صلى الله عليه وسلم".
كما روى مسلم عن أنس رضي الله عنه أنه قال:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون كأن عرفه اللؤلؤ، إذا مشى تكفأ، ولا مسست ديباجة ولا حريرة ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكة ولا عنبرة أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما: "سألت هند بن أبي هالة عن حلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان وصافا، وأنا أرجو أن يصف لي منها شيئا أتعلق به فقال:(18/204)
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر، أطول من المربوع وأقصر من المشذب (البائن الطول) عظيم الهامة رجل الشعر أزهر اللون، واسع الجبين، أزج الحواجب، سوابغ من غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرينين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشم، كث اللحية، أدعج، سهل الخدين، ضليع الفم، مفلج الأسنان، دقيق المسربة، كان عنقه جيد دميه في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادنا متماسكا، سواء البطن والصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس (رؤوس العظام) أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، سائل الأطراف، عبل الذراعين (غليظهما) خمصا الأخمصين ينبوعهما الماء، إذا زال زال تقلعا، ويخطو تكفؤا، ويمشي هوناً، إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت جميعا، خافض الطرف نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، ويبدأ من لقيه بالسلام".
وأما في خلقه العظيم فإنه بأبي هو وأمي كان مثالا من أمثلة الكمال البشري، فلا يسامى في أخلاقه ولا يدانى بحال فهو فريد دهر الدنيا ووحيد عصرها.
حنثت يمينك يا زمان فكفري
حلف الزمان ليأتين بمثله
وها نحن نستعرض شذرات [15] من ذهب كماله في كل مجالات حياته الأخلاقية والنفسية والعقلية لنقف على عين الحقيقة، ونعرف الكمال المحمدي الذي كان به سيد الدعاة الصالحين وإمامهم أجمعين.
في عفوه وحلمه:
إن العفو كالحلم كلاهما من الأخلاق الإنسانية الفاضلة. وإن الاستقصاء للشمائل المحمدية غير محتمل أصيلا، ولقد أحسن من قال:
كما مثل النجوم الماء
إنما مثلوا أصفائك للناس
ولذا فإننا نكتفي دائما بنماذج لذلك الكمال المحمدي في كل مظهر من مظاهره. ومن شمائل الحلم والعفو عنده صلى الله عليه وسلم نذكر الأمثلة الثلاثة الآتية:(18/205)
1- صح أنه كان صلى الله عليه وسلم في غزاة فأعطى رجاله فرصة للاستراحة فيها فانشروا في واد يسّتريحون تحت ظلال أشجاره، وأتى هو شجرة فعلق صلى الله عليه وسلم سيفه في أحد أغصانها ونام فجاء أعرابي من المشركين فاخترط السيف وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: "من يمنعك اليوم مني يا محمد؟ "فرفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه وقال: "الله.." فارتاع الرجل وسقط السيف منه، فتناوله الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: "من يمنعك أنت الآن مني"فقال الأعرابي: "لا أحد ... "فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف. إن هذا لهو العفو بعد المقدرة الذي يستحق صاحبه الإجلال والإكبار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ذاك.
2- قسم صلى الله عليه وسلم مالا بين أصحابه فجاءه أعرابي فجذبه من طرف ردائه وقال: "هذه قسمة ما أريد بها وجه الله"، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زاد على أن قال: "ويحك من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر".
3- دخل أعرابي المسجد، واضطرته الحاجة إلى التبول فانحنى ناحية من المسجد وأخذ يبول، فانتهره أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، وصاحوا فيه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوه لا تزرموه" (أي لا تقطعوا عليه بوله) فتركوه حتى قضى بوله، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلو من ماء فصبه عليه. فحلم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا أنطق الأعرابي فقال: "اللهم ارحمني وارحم محمدا ولا ترحم معنا أحدا". فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لقد تحجرت واسعا يا أخا العرب".
رجاحة عقله:(18/206)
من الكمالات المحمدية رجاحة عقله صلى الله عليه وسلم، ولنورد برهانا على ذلك أربعة مواقف كانت له صلى الله عليه وسلم اثنان منها في عهد ما قبل الإسلام، واثنان في عهد الإسلام وهي أربعة مواقف من عشرات أو مئات المواقف كل موقف منها دال على ما أوتي صلى الله عليه وسلم من رجاحة العقل وكمال الإدراك.
فالأول:
هو حضوره صلى الله عليه وسلم حلف الفضول وقوله فيه: "لقد حضرت حلف الفضول بدار عبد الله بن جدعان. وما أحب أن لي بحلف حضرته في دار عبد الله ابن جدعان حمر النعم ولو دعيت به لأجبت" [16] إن هذا الحلف عقد على أساس نصرة المظلوم والوقوف إلى جنبه حتى يؤخذ له الحق ممن ظلمه، فحضور النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحلف مؤيداَ له مغتبطا به، حتى قال: "ما أحب أن لي به حمر النعم"، دال على كمال عقله صلى الله عليه وسلم ورجاحته..
والثاني:
حكمه صلى الله عليه وسلم بأن يوضع الحجر الأسود في ثوب، ثم تأخذ بأطرافه القبائل القرشية حتى إذا بلغ الحجر مكانه من جدار البيت تناوله هو ووضعه في موضعه، وكذلك فعل حتى قضى بذلك على فتنة متوقعة وخصومة قائمة من أشد الخصومات أوشكت أن تزهق فيها الأرواح، فدل تصرفه الحكيم هذا على رجاحة عقله وكماله الذي أهله لأن يكون أكمل الناس عقلا بلا منازع.
والثالث:
أنه لما دخل مكة يوم الفتح منتصرا ووجد رجالات قريش قد تجمعوا حول الكعبة ينتظرون حكم الفاتح المنتصر عليهم ماذا يفعل بهم، ناداهم قائلا: "يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ " قالوا: "أخ كريم وابن أخ كريم". فقال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء.."
إن هذا الموقف المثالي في تاريخ العظماء ينم فعلا على ما أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجحان العقل وكماله، الأمر الذي أصبح به مثلا عاليا في هذا الشأن.
الرابع:(18/207)
أنه تنازل لقريش عن كتابة لفظ الرحمن الرحيم، وعن لفظ رسول الله في كتابة وثيقة المعاهدة التي أبرمها مع قريش عام صلح الحديبية، إذ أمر الكاتب أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال ممثل قريش الدبلوماسي سهيل بن عمرو: "أمسك. لا أعرف الرحمن الرحيم، بل أكتب باسمك اللهم"، فتنازل عن ذلك وكتب باسمك اللهم. ولما قال للكاتب: "أكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله" قال ممثل قريش: "أمسك لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن أكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله"، فتنازل عن ذلك وكتب، في حين أن أصحابه وعلى رأسهم عمر وعلي رضي الله عنهم قد كرهوا ذلك وأبوا أن يفعلوه، ورأوا أنه إعطاء للدنية في دينهم، غير أن النتائج الطيبة التي عقبت ذلك التنازل دلت على قصر نظر القوم، وبعد نظر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكمال عقله ورجاحته، الأمر الذي كان به مضرب المثل في كمال العقل وحسن السياسة وكمال التدبير.
رحمته:
إن الرحمة التي كان يحملها قلب محمد صلى الله عليه وسلم كانت رحمة مثالية لم يحظ بها أحد من الناس، ولم تكن وصفا في كمالها لغيره صلى الله عليه وسلم وها نحن نعرض لبعض مظاهرها التي تجلت فيها فنقول: رفع إليه ولده إبراهيم وهو مريض يجود بنفسه فوضعه بين يديه وبكى صلى الله عليه وسلم وقال: "إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون".
وزار مرة قبر أمه فوقف عليه وبكى طويلاً وانصرف وهو يقول: "استأذنت ربي في أن استغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي".(18/208)
ولما فتح صلى الله عليه وسلم حصن بني أبي حقيق من خيبر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حيي بن اخطب وبامرأة أخرى، فمر بهما بلال على قتلى يهود، فلما رأتهم الجارية التي مع صفية صاحت وصكت وجهها، وحثت التراب على رأسها، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الجارية ما رأى قال: "أنزعت منك الرحمة يا بلال تمر بالمرأتين على قتل رجالهما؟ ".
هذا ولم تكن رحمته صلى الله عليه وسلم قاصرة على بني الناس مؤمنهم وكافرهم فحسب بل دعت ذلك إلى الحيوانات، فقد قال وهو يقرر الرحمة ويحض عليها ويورثها في القلوب: "في كل ذات كبد رطبة أجر"، ويقول: "عذبت امرأة في هرة أوثقتها فلم تطعمها ولم تسقها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت" وقال: "بينما كان كلب يطيف بركيه كاد يقتله العطش إذ رأته امرأة بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها فسقته فغفر الله لها به".
كرمه:
إن الكرم النفسي الذي يتحلى به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأتي عليه الوصف، وكيف يوصف كرم من لم يسأل شيئاً طول حياته وهو في حوزته فقال لا أبدا. خرج يوما وعليه حلة من أجمل الحلل وأبهاها فرآه أحد أصحابه، فقال: "يا رسول الله أعاينها"فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته فخلعها وأتاه بها فأعطاه إياها. ولم يسأله له؟ وكان قصد الرجل السائل أن تمس جلده بعد أن مست بشرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يره في ذلك من البركة.
وجاءه مرة رجل يسأل مالا، فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع الرجل إلى قومه وقال: "يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخاف الفقر أو قال من لا يخشى الفاقة".(18/209)
وبايع مرة جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في جمل له، قد كل من السفر فباعه إياه بكذا مائة درهم، ولما جاء يتقاضاه الثمن أعطاه الثمن والجمل معا الله أكبر فماذا عسانا أن نذكر.. هذا من كرم محمد صلى الله عليه وسلم، إنه بحق أكرم من على الأرض بلا نزاع ...
عدله:
إن المثالية في عدل محمد صلى الله عليه وسلم والعدل خلق من أخلاق النفس الكاملة، تتجلى في مواقف عديدة كانت له صلى الله عليه وسلم وإنا لنكتفي منها بذكر موقفين فقط الأول: أنه لما سرقت المخزومية وجاء أسامة بن زيد حب رسول الله وابن حبه جاء مدفوعاً برجالات قريش ليشفع لها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسقط عنها حد السرقة وهو قطع يدها. قال له الرسول صلى الله عليه وسلم وهو غضبان: "أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة، والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها".
وثانيهما: أنه صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه المجاهدين في وقعة بدر، وكان بيده قدح من القداح يعدل به الصفوف للقتال، فرأى سواد بن غزية حليف بني عدي بني النجار متقدماً على الصف فطعن في بطنه بالقدح الذي بيده وقال: "استو يا سواد"، فقال: "يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فاقدني من نفسك"، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال استقد.
إن في هذين الموقفين من مظاهر العدالة مالا يقادر قدره.
شجاعته:
إن شجاعة قلب النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن أقل من شجاعة عقله، إنه قد بلغ فيها بحق المثالية التي لا توصف، وناهيك في إثبات هذا الخلق العظيم أن يقول أفذاذ الأبطال كعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام وخالد بن الوليد وغيرهم ممن عرفوا بالبطولات النادرة، والشجاعات الفذة أن يقولوا: "كنا إذا حمى الوطيس واشتد البأس نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم نتقي به".(18/210)
وشاهد آخر، قد انهزم الجيش الإسلامي يوم حنين هزيمة منكرة وتفرق رجاله هاربين في كل واد، ويثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم كالجبل الأشم في الميدان يقاتل وحده وينادي أصحابه فثابوا إليه وقاتلوا معه حتى انتصروا وهزموا أعداءهم شر هزيمة.
وشاهد آخر على شجاعته صلى الله عليه وسلم هو شهادة أنس بن مالك بقوله كما روى ذلك مسلم: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وكان أجود الناس وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا، وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس أبي طلحة عري في عنقه السيف وهو يقول: "لم تراعو لم تراعوا".
وحسبنا دليلاً على شجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} ، فلولا علم الله تعالى بما وهب رسوله من الشجاعة التي لا توجد عند غيره لما كلفه بأن يقاتل وحده ...
إن شخصا يكلف بالقتال وحده، وقتال من؟ إنه قتال كل أهل الكفر على الأرض، وما على الأرض يومها إلا كافرا باستثناء تلك الحفنة المؤمنة من أصحابه رضي الله عنهم لشخص هو من أشجع من طلعت عليه الشمس وغربت في دنيا الناس. ذلك هو محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.(18/211)
وأخيراً: إن هذا الكمال الخلقي الذي أصبح به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل إنسان وأفضله وأعظمه على الإطلاق، الأمر الذي أهله بحق لأن يكون مثالاً أكمل للدعاة الصالحين ونموذجاً نادراً بين كل دعاة الحق والخير في دنيا الدعوة والدعاة، إنما هو مستمد من مصدر كل كمال، ونابع من فيض رباني لا يعرف النضوب ولا يغيض، ولكنه سلسبيل متدفق لا يقف ولا ينتهي ذلكم هو القرآن الكريم الذي استمد منه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم كماله النفسي والخلقي فكان مثالاً للكمال البشري في هذه الحياة، ولقد صدقت أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله عنها وقد سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان خلقه القرآن".
وها هي ذي أوصافه صلى الله عليه وسلم في القرآن، تلك الأوصاف التي استحق بها أن يكون خير الدعاة بل سيدهم وأمامهم ولا فخر، فلنورد ما ذكرا ولنورد الخاطر عليها وردا.
وصفه ربه تعالى بكمال الخلق وعظمته فقال من سورة القلم: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ. مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ. وَإِنَّ لَكَ لأجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ. وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .
ووصفه بكامل الرأفة وعظيم الرحمة بما لم يصف به غيره من صالحي عباده فقال تعالى من سورة التوبة: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .
ووصفه بكمال العدالة، وحمل شرف الرسالة، وقوة الهداية فقال تعالى من سورة الأحزاب: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} .(18/212)
ووصفه بالمزكي للنفوس المهذب للأخلاق والمثقف للعقول المطهر للأرواح فقال من سورة الجمعة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} .
ووصفه بأنه برهان على نفسه في إثبات رسالته وتقرير نبوته وكمال هدايته لخلقه قال الله تعالى من سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} .
ووصفه بكمال الشجاعة وقوة الاعتصام بالله والتوكل عليه فقال من سورة النساء والأعراف: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} . وقال: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ. إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} .
ووصفه بكمال العبودية له وشرفه باختصاصه به دون سواه من سائر عباده الصالحين فقال تعالى من سورة الجن: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} وقال من سورة الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} .
ووصفه بأنه الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر المحل للطيبات المحرم للخبائث وهي صفات عظيمة وكمالات عديدة مازه بها وفضله بمثلها تعظيما له وتكريما فقال تعالى من سورة الأعراف: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} .(18/213)
هذه بعض صفات الكمال المحمدي في القرآن الكريم وغيرها كثير اكتفينا بهَا إشارة إلى أن الكمال المحمدي في النفس والخلق إنما هو مستقى من فيض القرآن الذي هو ينبوع الكمالات وبحر الفيوضات، وها نحن نذكر طرفا آخر مما أدب الله تعالى رسوله فكمله وللمعالي أهله ورفعه فجعله أسوة للمؤمنين وقدوة للصالحين، ولنعرف بذلك سر الكمال المحمدي الذي أصبح به أنموذج للدعاة الصالحين، وأفضل الخلق أجمعين.
قال تعالى له وهو يؤدبه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأعراف) .
وقال له: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم} .
وقال له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} .
وقال له: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى. وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى. وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا..} .
وقال له: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً. إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} .(18/214)
وقال له: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً. فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً. وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} .
وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} .
وقال له: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} .
وقال له: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ذكر هذه الحادثة ابن كثير في تاريخه. وقال فيها هذا حديث غريب جدا وقد يكون عن علي نفسه. وقد يكون قوله في آخره حتى أكرمني الله بنبوته. والله أعلم. أهـ
[2] صاحب سر الملك. الجاسوس في الخير والجاسوس في الشر.
[3] كناية عن القرب. والقاب: ما بين وتر القوس وطرفه وهو مقلوب الأصل قابا قوس.
[4] كان عدد المهاجرين 83 رجلا ما عدا أطفالهم الذين هاجروا معهم ومن ولد في الهجرة.
[5] الرمضاء: الرمل الحار من شدة حرارة الشمس.
[6] أزرنا: كناية عن النساء، إذ الازار يكنى به عن المرأة.(18/215)
[7] الهدم كناية عن الحرمة فمعنى الحديث: ذمتي ذمتكم وحرمتي حرمتكم أهل الهدم الدار تهدم وقد كانت تحوي الحرمات وتحوطها ...
[8] خبر نسج العنكبوت وتعشش الحمامة ذكره البزار ومسنده.
[9] أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد.
[10] يشبع الجماعة.
[11] أصبح آل أبي معبد يؤرخون به فيقولون بعد أن جاءنا الرجل المبارك أو بعد رأينا الرجل المبارك.
[12] وردت رحلا من الرحيل.
[13] لأن أم عبد المطلب والد عبد الله أبي الرسول صلى الله عليه وسلم أمه سلمى بنت عمرو من بني عدي بن النجار.
[14] الجران ما يصيب الأرض من صدر البعير وبطنه.
[15] الشذرة والجمع شذرات بالتحريك وشذور قطع الذهب تلتقط من معدنه.
[16] عبارة ابن هشام: لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب لي به حمر النعم. ولو أدعى به في الإسلام لأجبت.(18/216)
مرتكزات التربية الإسلامية
(الحلقة الثانية)
لفضيلة الدكتور عباس محجوب (كلية الدعوة)
ثالثاً: مرتكز العلم
يقول الله تعالى في محكم التنزيل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [1] .
فالقرآن هو كتاب الهداية والتربية وهي هداية وتربية لا تختص بجيل دون جيل أو قوم
دون قوم ولا بزمان ومكان معينين ولكنها هداية أجيال من البشر، وأقوام من الناس باختلاف الأزمنة والأمكنة - على منهج الخير ومنهج الله لذا كان استعمال الفعل المضارع (يهدي) الدال على الحال والمستمر في المستقبل، وهداية الله وتربيته لا تتأثران بالرأي ولا تنقادان مع الهوى ولا تميلان مع المودة والشنآن ولا تخضعان للمصالح والأغراض لأنها هداية وتربية خالق الكون وفاطر السموات. وتشمل هذه التربية عدة مجالات هي:
أولاً: مجال العقيدة: فهي تهدي إلى عقيدة واضحة بسيطة لا غموض فيها ولا التواء، تحرر الروح من الأوهام والأساطير والخرافات وتحرر طاقات البشر للعمل والبناء وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق.
ثانيا: مجال الإنسان: تهدي الإنسان إلى التناسق بين مظهره ومخبره وسلوكه ودوافعه وبين النظرية في الإيمان والتطبيق في الواقع الأمر الذي يجعل الإنسان يسمو بنفسه إلى عالم أفضل وأحسن ويترجم أعماله كلها إلى عبادات حتى ولو كانت من متع الحياة مادام المقصود بها وجه الله تعالى.(18/217)
ثالثا: مجال العبادة: هي هداية وتربية إلى عبادات سهلة بسيطة تتوازن فيها طاقات الإنسان والتكاليف التي أمره الله بها. بحيث لا تتعارض التكاليف مع طاقة الإنسان وقدراته وبحيث يكون التوازن بينهما محفوظا بنسبة ثابتة {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ، ثم {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} .
والموازنة الدقيقة بين التكاليف والواجبات هي التي تجعل هذه التكاليف سهلة معقولة لا مشقة فيها فتملها النفس وتيأس منها الروح ولا سهولة فيها بالدرجة التي تجعل المرء يستهونها ويستهزئ بها فهي وسط لا تتجاوز حدود الطاقة والاحتمال، والقصد والاعتدال.
رابعا: في مجال الجماعة والدولة:
للإسلام هدايته وتربيته للدولة من القاعدة ممثلة في الأمة الإسلامية إلى القمة ممثلا في الحاكم أو الراعي وتوجيهه في نظامه الأساسي الذي يشمل:
1- نظام الحكم.
2- نظام الاقتصاد والمال.
3- النظام الاجتماعي.
4- نظام التعامل الدولي.
أما تربيته للجماعة فتشمل علاقة الناس بعضهم ببعض والضوابط الاجتماعية التي تحكم الأفراد والأسر والدول والأجناس والآباء والأبناء وغير ذلك من مجال العلاقات [2] .
وقد ذكرنا أن العقيدة الإسلامية لا تتعارض مع القوانين العلمية والنواميس، الكونية ولابد لهذا أن تكون الناحية العلمية أساسا من الأسس، التي تقوم عليها التربية الإسلامية.(18/218)
إن القوانين العلمية التي بنيت عليها التربية الإسلامية ليست هي قوانين علم من العلوم النفسية أو الاجتماعية أو الطبيعية أو غيرها فحسب وإنما هي مبنية على مجموع العلوم والحقائق وأهمها نظرة الإسلام لقوانين الكون والحياة ولكننا سندرسها من خلال تحديد الدكتور الكسيس كاريل الذي يرى أن القوانين الأساسية التي تقوم عليها الحياة الإنسانية تنحصر في ثلاثة قوانين هي قانون المحافظة على الحياة، وقانون تكاثر النوع، وقانون الارتقاء العقلي والروحي [3] .
أما بالنسبة لقانون المحافظة على الحياة فإن الإسلام يدعو إلى المحافظة على حياة إذ البشر ويذم كل أمر يؤدي إلى إبادة هذه الحياة أو قتلها ومن هنا كان تحريم الإسلام للقتل والزنا والسرقة وشرب الخمر والكذب والزور والربا وما إلى ذلك لأنها إذا نظرنا إليها جميعها وجدناها وسائل هدم للحياة وقتل لها كما أن الإسلام يدعو إلى ما يثري هذه الحياة ويقويها ويحقق للإنسان الأمن والاستقرار والهدوء فينصرف إلى أداء رسالته في الحياة وعلى قمة هذه الإيمان بالله وعدم الشرك به في أي مظهر من مظاهره وطاعة لوالدين والإحسان إلى الناس وترجمة ذلك كله في المعاملة والسلوك والاقتصاد والتوسط في أمور الحياة والعدل والوفاء بالعهد وحفظ المواثيق وما إلى ذلك من كل أمر دعا الإسلام إليه للمحافظة على الحياة وإنمائها وازدهارها.(18/219)
إن الإيمان بالله وحده وعدم الإشراك به يمثل أول عنصر في عناصر المحافظة على الحياة إذ أن الإيمان هو الذي يعطي الإنسان الأمن والاستقرار والسكون الأمر الذي يدفعه إلى العمل والإنتاج وإثراء الحياة وتعمير الأرض والتعايش بسلام مع الآخرين جماعات أو دولا، ونقيضه الإشراك بالله واتخاذ الآلهة دونه باعتبار الإشراك بالله العنصر الأول في إبادة الحياة وقتلها إذ أن العقل لا يقبل ولا يستقر على الاستسلام بأن لهذا الكون بنظامه الدقيق من تعاقب الليل والنهار والمد والجزر في البحار والتوافق بين العناصر التي يتألف منها جسم الإنسان والعناصر التي تكون التربة الزراعية وغيرها لا يقبل العقل إلا أن يكون الموجد واحدا والمنظم واحدا والقوانين التي أودعها الكون واحدة كما أنه لا يقبل الشريك إذ أن الشراكة في الخلق تعني التنافس والتطاحن والتباين والاختلاف والعجز والفساد ثم يترتب على ذلك اضطراب الحياة وفقدان الطمأنينة والاستقرار والأمن والنظام، وإذا فقد الإنسان ما يؤمن به حقا ويحتاج إليه دوما ويستنجد به متى أراد ويدعو متى احتاج وهو متيقن من النجدة والإجابة- فقد الطمأنينة والأمن وفقد الدافع للحياة فضلا عن المحافظة عليها وفقدان الدافع والداعي يؤديان إلى قتل الحياة وتدميرها {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الانبياء) 22(18/220)
يقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} .
فالوجود كله وما فيه من حركة وسكون لم يترك للصدفة فالليل والنهار آيتان من آيات الله المتجددة الدقيقة والليل جعله الله للهدوء والراحة والنوم والنهار للجد والكدح والسعي ومن تعاقب الليل والنهار علم الناس حساب الساعات والأيام والشهور والفصول، وبهذا الناموس الإلهي ارتبط العمل وما يترتب عليه من ثواب وعقاب ومسئولية فردية جعلت الإنسان يختار بين الهدى والضلال والطاعة والمعصية ولا يتحمل أحد وزر أخيه لأنها مسؤولية فردية كما ذكرنا.
أما المبادئ التربوية التي تبين طرق الهداية وتربط قواعد السلوك والتكاليف الفردية بالعقيدة فإنها تتمثل في الأحكام والنظم والقيم التي دعا الإسلام المسلم إلى التمسك بها حتى تتحقق له الهداية واقعا ويرقى بآدميته في الخلق والسلوك وهذا ما تضمنته الآية {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} فما هي النظم التي دعا إليها مما يهدي للتي هي أقوم؟.(18/221)
يقول الله تعالى: {لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا(18/222)
بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [4] .
ويقول تعالى أيضا: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [5] .
الآيات السابقة من سورتي الأنعام والإسراء تبين تكاليف الهداية والأوامر والنواهي التي يربي بها الله عباده ونلاحظ أن هذه الآيات قد اتفقت في عدد من التكاليف الفردية والاجتماعية التي تؤدي إلى حفظ الحياة وسلامتها وقوتها سواء في النواحي الإيجابية أو النواحي السلبية وهى:(18/223)
عدم الإشراك بالله باتخاذ الآلهة معه لأن هذا يمثل محور العقيدة التي يقوم عليها منهج الله في التربية فالقرآن في كثير من سوره وقصصه يركز على الحقيقة الكبرى وهي عبادة الله وحده والنهي عن عبادة غيره فقضية الألوهية والعبودية هي قضية الإنسان الأولى والأخيرة في هذا الوجود لذا كانت وصية الله الخالدة لعباده والتي حملتها رسله إليهم هي {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . الأعراف آية 59- 65- 73- و85.
ولأن العقيدة مسألة خاصة بالإنسان يحاسب على أساسها فإن الله يوجه الخطاب للفرد مع عمومية الأمر فقال: {لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَر} . {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} والنهي عن الشرك يقتضي توحيد المعبود الواحد الأحد لذلك قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} وهذه الصيغ نجدها كثيرة في القرآن الكريم إذ نجد الأمر بعبادة الله ثم النهي عن عبادة غيره أو الشرك به وكلا المعنيين واحد إلا أن أحدهما منطوق والآخر مفهوم {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} ألا تعبدوا إلا الله و {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} الخ.
ثم الإحسان إلى الوالدين: ونجد في الآيتين استعمالا لكلمة (الإحسان) للربط بين حسن المعاملة للوالدين وتقوى الله ومراقبته إذ الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وسنفصل هذا المعنى في الحديث عن تربية القرآن في مجال العلاقة بين الأبناء والآباء.(18/224)
أما عن قتل الأولاد الذي حكاه القرآن عن الجاهليين والذي لا زال مستمرا فإن القرآن يحدثنا أن العقيدة الصحيحة تؤدي إلى توافق الإنسان مع فطرته وصحة مشاعره وسلامته كفرد وكعضو في المجتمع، وكما أن العقائد الصحيحة تنعكس آثارها على المجتمع فكذلك العقائد المنحرفة تنعكس على المجتمع لأن المجتمع في حركته لا يصدر إلا عن عقائد فالعقيدة هي الحياة، والقرآن يحدثنا عن انعكاس المعتقدات على المجتمع بما كان يفعله الجاهليون من قتل الأولاد خشية الفقر والإملاق ولو كانوا يعتقدون اعتقادا صحيحا بأن الأرزاق بيد الله لما وجدوا علاقة بين كثرة الأولاد والفقر فالدافع إلى ذلك التفكير هو فساد هذه العقيدة التي لا تترك الأمر بيد الله خالق الكون ورازق الأحياء ونجد اختلافا في التعبير بين الآيات باختلاف مقتضى الحال فلما كان قتل الأولاد بسبب فقر الآباء قدم رزق الآباء على الأبناء في سورة الأنعام {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} ولما كان القتل لاعتقاد أن سبب الفقر هم الأبناء قدم رزقهم على رزق آبائهم في الإسراء.. {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} إننا نجد الصورة تتكرر في الجاهلية التي نعيشها فقد نشأ عن انحراف عقائد المسلمين وإبعادهم لتولي الله الأرزاق من تفكيرهم أن ربطوا بين ظروفهم المادية وكثرة النسل فظهر في واقعهم العملي والنظري حركة تحديد النسل بادعاء صعوبة الحياة وارتفاع تكاليف المعيشة وتحسين التربية بالإقلال من عدد الأولاد وهى فكرة يهودية قصد منها إضعاف الجنس البشري بعامة والإسلامي بخاصة ليسهل لهم السيطرة على البشر وهى فكرة تتمشى مع اعتقادهم في أنهم الجنس الأسمى والشعب المختار الذي يجب أن يحكم ويسود العالم.(18/225)
ومع ذلك فإننا نلحظ في الدول التي أخذت بنظام تحديد النسل كثيرا من المشكلات الاقتصادية والتفكك الأسري والحيرة في أوساط الشباب بل إن دولا إسلامية أخذت بهذا النظام وجندت له الأموال والإمكانيات المختلفة وجعلت لها مصالح قائمة بهذا الأمر إلا أنها فشلت في ذلك لتعارض الفكرة مع الفطرة السليمة بله المسلمة وارتفعت فيها نسبة المواليد بنسب عالية وكبيرة، وتطالب التربية القرآنية للفرد من الإنسان البعد عن الفواحش خاصة الزنا ففي سورة الأنعام {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} وفي سورة الإسراء تحديد الزنا باعتباره فاحشة وفي السورتين ربط بين ثلاثة أنواع من القتل، قتل الأولاد خشية الفقر وقتل ناشئ عن الزنا ثم قتل النفس التي حرمها الله.
وعن القتل الناشئ عن الزنا يقول المرحوم سيد قطب: "إن في الزنا قتلا من نواحي شتى، إنه قتل ابتداء لأنه إراقة لمادة الحياة في موضعها، يتبعه غالبا الرغبة في التخلص من آثاره بقتل الجنين قبل أن يتخلق أو بعد أن يتخلق قبل مولده أو بعد مولده. فإذا ترك الجنين للحياة ترك في الغالب لحياة شريرة أو حياة مهينة فهي حياة مضيعة في المجتمع على نحو من الإنحاء وهو قتل في صورة أخرى للجماعة التي يفشو فيها فتضيع الأنساب وتختلط الدماء وتذهب الثقة في العرض والولد وتتخلل الجماعة وتتفكك روابطها فتنتهي إلى ما يشبه الموت بين الجماعات.(18/226)
وهو قتل للجماعة من جانب آخر إذ أن سهولة قضاء الشهوة عن طريقه يجعل الحياة الزوجية نافلة، ضرورة لها، ويجعل الأسرة تبعة لا داعي لها والأسرة هي المحضن الصالح للفراخ الناشئة لا تصح فطرتها ولا تسلم تربيتها إلا فيه [6] . وقد حرم الإسلام قتل النفس التي حرمها الله إلا بالحق وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحق الذي يقتل به النفس المسلمة في حديثه صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس والزاني المحصن والتارك لدينه المفارق للجماعة". رواه البخاري ومسلم.(18/227)
فالذي يقتل مسلما يقتل به حفاظا لدماء المسلمين على أن لا تعم الفوضى وتراق الدماء وتكثر الثأرات ببن الناس فلا بد من القصاص حتى لا تمتد يد على نفس بريئة إذا علمت بأن القصاص لا يلحقها وفي القصاص حياة لنفوس أخرى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَاب} وقد رأينا مدى انتشار الجرائم في الدول التي ألغت عقوبة الإعدام والتي يطالب فيها الناس بإعادة هذه العقوبة حتى تحد عدد الجرائم المتزايدة لاطمئنان المجرم على أن حياته لن تزهق. أما الزاني المحصن ففي قتله وقاية للمجتمع من انتشار جرثومة الفساد واختلاط الأنساب وما يترتب على جريمة الزنا من جرائم القتل والإجهاض ومحاولات إخفاء الحمل غير المشروع وأبناء السفاح ونظرة المجتمع لهم وموقفهم من المجتمع وما إلى ذلك، أما الخارج عن جماعة المسلمين ففي قتله حماية للنظام من الفوضى الدينية والجماعة من التفكك والضعف فالدين لا إكراه في اعتناقه أما من اعتنقه وآمن به فليس مخيرا في الخروج منه فقد كانت له الحرية الكاملة قبل أن يسلم ويؤمن، أما بعد ذلك فالأمر مختلف وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من فارق الجماعة قدر شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.."رواه الترمذي والنسائي. وقد أخذت الجماعات العلنية والسرية حتى العصابات والمنظمات الإرهابية بهذا المبدأ من الإسلام، فالجماعات تقتل كل من خرج عليها حتى لا يفضح أسرارها ويكشف خططها ويطلع الأعداء على أسرار جماعته فإذا كانت مبادئ البشر تحمى بهذا المبدأ في عالمنا فكيف بمبادئ خالق البشر؟ ونظامه ودينه؟.(18/228)
إن جماعة المسلمين مطالبون بتوفير الأسباب التي تحفظ حياة البشر الأسوياء الذين يعيشون في ظروف عادية وغير الأسوياء الذين يعيشون في ظروف غير عادية كاليتامى، وبالرغم من أنهم ينطبق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه" رواه الترمذي. إلا أن الجماعة المسلمة مطالبة برعاية مال اليتيم وحفظه وتنميته بما يعود بالفائدة إليه فاليتيم ضعيف محتاج إلى غيره حتى يبلغ أشده والوفاء بحقوقه من الوفاء بالعهد وعندما تسهر الجماعة المسلمة على شئون الأيتام والأرامل والمساكين والفقراء فإنها تحفظ حياتهم وتجعلهم أناسا صالحين في المجتمع.
أما عن تربية القرآن في مجال المعاملات والبيع والشراء فواضح أن الجماعة المسلمة تتحرك وتتعامل فيما بينها، والمجتمع المستقر المزدهر هو الذي يقوم فيه التعامل على أسس من العدل والأمانة والاستقامة والنظافة في القلب والضمير ولذلك ذم الله سبحانه المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون إذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون وذلك استعجالا للكسب الفاني والقليل الذي يذهب الثقة ويهدر الكرامة.
والأوامر التي تدعو إلى سلامة الحياة ونقائها كثيرة كالوفاء بالعهد وقول الحق ولو على ذوي القربى وإتباع هدى الله والاقتصاد في الإنفاق والنهي عن التبذير وإلقاء النفس في التهلكة وغير ذلك من الأوامر والنواهي التي يحفل بها كتاب الله وسنة نبيه وكلها تؤدي إلى توفير حياة هانئة سعيدة خالية من القلق والإضراب والفوضى.
أما عن قانون تكاثر النوع:(18/229)
فإن هذا القانون مرتبط بسابقه فالحياة التي يطالب الإنسان بحفظها وصيانتها هي الحياة التي ينشئها المجتمع النظيف الطاهر بين الرجل والمرأة وهما عماد الأسرة التي تكون الحياة المشتركة بين الجنسين الذكر والأنثى، والله سبحانه شرع الزواج الذي يحقق السكينة والمودةْ والرحمة وتكاثر النوع من آياته: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [7] . لذلك شرع الإسلام الزواج وحض عليه ليبتغي الناس ما كتب الله لهم من الذرية وإنشاء الأجيال ولذلك حض الرسول عليه الصلاة والسلام الشباب على الزواج "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" [8] .
فالزواج هو العلاقة الشرعية الوحيدة التي عن طريقها يحفظ النسل ويستمر، فالشخص القادر على الزواج والمستطيع تحمل أعبائه الاقتصادية والاجتماعية والتربوية عليه أن يؤدي واجبه ودوره في استمرار الحياة وتكاثر النوع ولهذا جعل الإسلام للأسرة نظاما كاملا فالمرأة مساوية للرجل في الحقوق والواجبات والرجل هو رب الأسرة ورئيسها ومديرها لذلك كانت له القوامة وعليه التكاليف المترتبة على هذا الامتياز، والعلاقة في الأسرة قائمه على السكينة والمودة والرحمة والعطاء والبذل والطاعة والتفاهم، كما أرسى الإسلام الضوابط والنظم التي تحفظ هذه العلاقة في الظروف العادية كما وضع الحلول للمشكلات التي قد تنجم بين الرجل والمرأة وتدرج في خطوات العلاج حتى لا تنهار هذه العلاقة بمجرد الخلافات الناتجة من حركة الحياة بين الزوجين.(18/230)
ولأن الزواج هو الوسيلة الشرعية لتكاثر النوع زيادة على أنه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل بمعنى الانقطاع عن النساء عبادة لله فعن انس رضي الله عنه انه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالباءة وينهى عن التبتل نهيا شديدا ويقول: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة".
وقد سبق أن ذكرنا أن الإسلام يحرم كل أمر يعوق الحياة ويعطلها ويهدمها ويحبذ كل أمر يدعو إلى إثرائها ونمائها وزيادتها ومن هنا كان تحريمه للتناسل الذي لا يقوم على أساس شرعي لأنه ضد المحافظة على الحياة وتشجيعه التناسل الشرعي وتحريمه كل أمر يعوق حفظ النوع واستمراره وتكاثره لذلك حرم الإجهاض إلا للضرورة ومنع الإخصاء لما رواه الصحابة من قولهم: "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا شيء فقلنا: ألا نستخص فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب". ثم قرأ علينا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} رواه البخاري.(18/231)
إن حركة تحديد النسل التي ظهرت في أواخر القرن الثامن عشر في أوربا حركة مناقضة لقوانين الحياة في زيادة النسل الإنساني وتكاثره وقد استحدث المجتمع المعاصر وسائل كثيرة للحيلولة دون زيادة النسل كان من أخطر نتائجها حسب الإحصاءات انتشار الفواحش والأمراض الخبيثة المزمنة، وقد كان من نتائج انتشار الزنا وسهولة ارتكابه أنه يولد في كل عام 80 ألف طفل غير شرعي أما في أمريكا فنسبة أولاد الحلال هي 1: 5 أما عن الأمراض الخبيثة المترتبة على الزنا مثل السيلان والزهري فإنها كثيرة وأخطارها مدمرة للعالم. (ففي مدن أمريكا كلها تقريبا نجد أن الزهري والسيلان في انتشار وتقدم بسرعة لا توصف وأن أكثر من يفشو فيهم هذان المرضان هم الأحداث من الفتيان والفتيات الذين سنهم أقل من عشرين سنة بل الحقيقة أن نصف المصابين بهذين المرضين هم هؤلاء الأحداث [9] وهناك إحصاءات مذهلة عن انتشار الأمراض الخبيثة في العالم يمكن الرجوع إليها في كتاب (حركة تحديد النسل) للشيخ أبو الأعلى المودودي) .
وترتب على حركة تحديد النسل أيضا ضعف العلاقات الزوجية وانتشار نسب الطلاق والهجر بين االأزواج وحرمان الأطفال من رعاية أسرهم وآبائهم وتشرد الشباب الناشئ في هذه البيئات، وذلك لما للأبناء من أهمية في استمرار العلاقات وازدياد الروابط الأسرية ولما لانعدامهم من فتور في العلاقات وكآبة ووحشة يشعر بها الزوجان، كما ترتب على هذه الحركة انخفاض نسبة المواليد مع استعمال الموانع وارتفاع نسبة الإجهاض وقد كان رد الفعل في أمم الغرب واضحا وأصبحت نسبة المواليد المنخفضة مدعاة للقلق مما حدا بكثير من الدول إلى البحث عن طريق لجان متخصصة لدراسة تلك الظاهرة ووضع الحلول المناسب لها فأوصت اللجنة التي شكلت في إنجلترا بما يأتي:
1- أن تمنح كل أسرة مكافأة مالية على قدر ما يكون لديها من الأطفال.
2- تخفيف وطأة الضرائب على من لديهم عدد من الأطفال.(18/232)
3- زيادة عدد حجرات النوم في البيوت.
4- معالجة مشاكل قلة السكان بواسطة جمعيات.
5- العمل على رفاه الأسرة الكبيرة ورخائها الاقتصادي عن طريق مشاريع المحافظة على الصحة والأعمال الخيرية.
وقد أيدت مقترحات اللجان بما يحفظ الحياة الاجتماعية والعائلية وأعطيت للمقترحات صفتها القانونية ورصدت مكافآت مالية للأطفال وأمهاتهم وإجازات للعاملات وتوفير فرص التعليم والعلاج والسكن للمتزوجين من أصحاب الأطفال حتى يزيلوا كل عائق مادي أو تربوي يمنع إنجاب الأطفال أو يحتج به المؤيدون [10] .
أما فرنسا فقد "أصدرت فيها الحكومة قانونا يحرم تعليم منع الحمل ونشر المعلومات عن طرق ووسائله خطابة أو كتابة أو إشارة بالسر أو العلانية حتى أن الأطباء أنفسهم ملزمون بموجب هذا القانون أن لا يقوموا سرا أو علانية بشيء قد ينتج عنه منع الحمل، ولحمل السكان على كثرة التناسل قد وضعت فيها أكثر من عشرة قوانين بموجبها تمنح الأسرة ذات العدد الكبير من الأطفال مكافآت مالية وتعفيها من بعض الضرائب، وتوفر لها تسهيلات متعددة في الرواتب والأجر والمعايش وفي أجور السفر في القطار بل هي تمنحها الجوائز والوسائل وعلى العكس من ذلك تفرض فيها الضرائب الإضافية على الذين لا يتزوجون أو يتزوجون ولكن لا ينجبون ذرية" [11] وكذلك فعلت إيطاليا في عهد (موسليني) الذي وضع عقوبات مالية وبالسجن لمن يفعل أمرا يؤدي إلى منع الحمل وكذلك فعلت السويد التي انخفضت فيها المواليد بصورة خطيرة.(18/233)
أما عن موقف الإسلام فيقول المودودي: "إن قوانين الإسلام للحياة الاجتماعية والاقتصادية، مع تعاليمه الخلقية وتربيته الروحانية قد محت كل سبب أو داعية من تلك الأسباب والدواعي التي لأجلها نشأت ثم تقدمت وانتشرت حركة تحديد النسل في المدنية الغربية، فالإنسان إذا كان مؤمنا بالإسلام مصدقا لتعاليمه وقوانينه من الوجهة الفكرية والعملية فإنه من المحال أن تنشأ في نفسه رغبة في تحديد النسل أو تعرض له في حياته ظروف ترغمه على الانحراف عن طريق الفطرة المستقيم" [12] .(18/234)
ويرى المودودي أن امتناع الرجل والمرأة عن الوفاء بالتزاماتهما في الإنجاب وزيادة النسل هو المقصود من قوله تعالى: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّه} والقرآن يقول: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُم} ويقول أيضا: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} فغرض القرآن من إقامة العلاقة الزوجية واللذة التي يجدانها في الاتصال إنما هي للإبقاء على النوع البشري وتكاثره وزيادته وهى المناسبة مع فطرة الإنسان فإذا لم يتحقق هذا الغرض من الزواج وكانت المتعة هي المقصودة فإنهما يرتكبان جريمة قتل النفس وتغيير خلق الله وفطرته وفي ذلك يقول الدكتور ازوالد شوارز "من الحقيقة التي لا غبار عليها أن هذه الغريزة إنما هي لإنجاب الذرية وتخليد النسل إذ من القوانين الثابتة في علم الأحياء أن كل عضو في جسد الإنسان يجب أن يؤدي وظيفته الخاصة المستقلة حتى يحقق بذلك المهمة التي قد أسندتها إليه الفطرة، وعلى هذا إذا منع هذا العضو من أداء وظيفته الخاصة فلابد أن تتعرض حياة الإنسان لمشاكل مرهقة متعددة - ومما يتعلق بهذا البحث أن جسد المرأة لم يخلق في معظمه إلا لوظيفة الحمل والتوليد فهي إذا منعت أن تعمل لتحقيق هذه الوظيفة الأساسية لنظامها الجسدي والعقلي، فلابد أن تذهب ضحية الاضمحلال والتذمر والعقد النفسية المتعددة وعلى خلاف هذا فإنها عندما تصبح أما، تجد جمالا جديدا وبهاء روحيا يتغلب على ما قد يعتريها من الضعف والاضمحلال بسبب وضع الطفل وإرضاعه".(18/235)
إن خطورة هذه الحركة هي في دخولها وانتشارها بين المسلمين وترويج أجهزة الإعلام والحكومات لها وقد استغل دعاة التحديد ما يعانيه المسلمون من فقر وسوء ترشيد لتوزيع ثرواتهم التي من الله عليهم بها استغلوا فقرهم وروجوا لهذه الحركة وربطوها بصعوبة التربية والتعليم لعدد من الأولاد وقلة الدخول ومحدوديتها وارتفاع تكاليف المعيشة وقلة الموارد وصعوبة الرقي والتحضر مع كثرة الأولاد، وقد وجدت هذه الأسباب مع ضعف العقائد والإيمان بالله الخالق الرازق المدبر المعطي المانع - وجدت قبولاً ورواجاً وانتشاراً تحت ظل الأنظمة البعيدة عن منهج الله وشريعته ونظامه الاجتماعي والاقتصادي كما أنهم وجدوا من يذكرون بعض الأحاديث الخاصة بالعزل والتي لو درست ووضعت أمام الأحاديث التي تنفر من العزل لما وجدوا إباحة لذلك إلا في ظروف خاصة وحاجات ضرورية لا ترقى إلى مستوى الدعوة الجماعية.(18/236)
إن تكاثر النوع وزيادته من الوسائل الحقيقية لزيادة الإنتاج وارتفاع مستوى دخل الفرد والاكتفاء الذاتي في القوى البشرية المؤثرة في زيادة الدخل، والأمة الإسلامية أمة حضارة وبناء ودعوة وجهاد وهذه الصفات تستلزم الدعوة إلى تكاثر النسل وتدريب الكوادر المؤهلة الجيدة لميادين الاقتصاد والدعوة والجهاد والبناء وفي ذلك يرى المؤرخ ويل درانت أن كثرة السكان من أهم أسباب التقدم المدني كما يرى المؤرخ المعروف الإنجليزي - أرنولد توينبى- أن على زيادة السكان يتوقف تقدم أي حضارة إنسانية ويقول أورجابنسكي: "أن التضخم العظيم، مطلق العنان، لعدد من السكان كان له الأثر القوي والقول الفيصل في الارتفاع بأوروبا وجعلها قوة من الدرجة الأولى في العالم، إنه لم يكن من نتائج انفجار عدد السكان في أوروبا بعد أن تهيأت الأيدي العاملة لتيسير حياتها الاقتصادية الصناعية من جانب ومن جانب آخر ظل يتهيأ لها المهاجرون والجنود والعمال للانتشار في العالم وتسيير مختلف دولها المنتشرة في أصقاعه البعيدة المترامية الأطراف حيث كان قد دخل في حوزته السياسية نصف مساحة الكرة الأرضية وثلث عدد سكانها" [13] .(18/237)
إن الأمة المسلمة عليها أن تكرر هذا الدور وهذا الانتشار في العالم لأن واجبها أن تقدم للعالم منهج الله ونظامه لأن في ذلك سعادته الدنيوية والأخروية، وما قوة الصين الشعبية ونظرة العالم لها إلا من خلال العدد الهائل لسكانها وتوجس العالم منهم، وإن أعداء الإسلام لا يهابون إلا تزايد عدد المسلمين الذي سيؤدي إلى قوتهم وعن ذلك تقول مجلة التايم الأمريكية في عددها بتاريخ 11/ 1/1961م: "الحقيقة أن سيادة أوروبا السياسية تتوجس خطرا سياسيا شديدا من تزايد السكان في آسيا والعالم الإسلامي في النصف الثاني من القرن الجاري". [14] إن قوى الشرك والصليبية والاستعمار والشيوعية والصهيونية العالمية كلها أعداء يتربصون بالعالم الإسلامي ويحيكون الدسائس والمؤامرات التي تعطله عن بناء قوته الاقتصادية والسياسية والعسكرية ومن أهم المعوقات التي يركزون عليها الدعوة إلى تحديد النسل في الوقت الذي تحرم الصليبية واليهودية على اتباعها تحديد نسلهم بل تطالب فيها إسرائيل من دول العالم مدها بالرجال لتزيد من قوتها العسكرية والسكانية والعالم لا يعترف اليوم إلا بمنطق الأقوى والأشد ولا شدة ولا قوة بعد الله إلا بزيادة الكفاءة السياسية والقتالية للعالم الإسلامي ولا سبيل إلى ذلك كله إلا بتكاثر النوع وزيادة السكان.(18/238)
أما بالنسبة لقانون الارتقاء الروحي والعقلي فإن الإسلام يدعو الإنسان إلى المحافظة على عقله الذي كرمه الله به وميزه عن الحيوانات الأخرى لذلك حرم عليه كل شيء يؤدي إلى فقدانه لهذه الخاصية المميزة له فحرم عليه المسكرات والمخدرات باعتبارها عوامل هدم للمجتمع وقتل لمواهب الإنسان وصرف للطاقات البشرية في غير الوجهة التي يجب أن توجه إليها وهي تتنافى مع مطالبة الإنسان بالسمو الروحي الذي هو من مميزات الإنسان وهي التي تمنحه السكينة والطمأنينة {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} وهي التي ترفعه عن الخلود إلى الأرض واتباع الشهوات والانغماس في الحياة المادية {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [15] .
إن فقدان التربية الروحية للإنسان يؤدي به إلى الانحلال والفوضى وسيطرة الشهوات وانتشار الأدواء الاجتماعية مثل الحسد والبغضاء والكذب والنفاق الخ. إذ أن الجانب الروحي في حياة الإنسان يمثل إحدى حاجاته الطبيعية التي تبعده عن كثير من الأمراض المادة وتحقق له السعادة في الدنيا والآخرة وتسمو نفسه إلى درجات الكمال والنماء والرقي والعبادات التي فرضها الإسلام من صلاة وصوم وزكاة وحج وخضوع كامل لله هي الطريق إلى السمو الروحي والكمال العقلي ووسيلة إلى السعادة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [16] .(18/239)
إن الإسلام قد كلف الإنسان بتكاليف وواجبات تتناسب مع طاقته وتميزه عن الحيوان وغير الحيوان ممن عجزت طاقاتهم عن القيام بواجب تلك التكاليف وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [17] .
والإنسان بتحمله عبء التكاليف والقيام بها قد ميز نفسه عن الحيوان فهذه التكاليف والواجبات ما هي إلا تمييز لإنسانية الإنسان وإعزاز لمكانته وتأكيد لتكريم الله له عن سائر المخلوقات والذي ميز الإنسان وجعله له هذه الخاصية هو تميزه من الناحية العقلية والروحية والأخلاقية فإذا تخلى الإنسان عن حمل هذه التكاليف غلب صفات الحيوان في شخصه وأصبح كما وصفه القرآن من الأنعام أو الدواب {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [18] . بل إنهم قد يكونون في منزلة أقل من الأنعام {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [19] وأهم مظاهر هذا الرقي هو التحلي بحسن الخلق ولين الجانب وتزكية النفس وإصلاحها وتطهيرها باعتبارها أهم الحاجات التي اقتضت إرسال الله الرسل للناس إذ يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [20] ويقول: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [21] .(18/240)
فالله سبحانه وتعالى يذكر عباده ما أنعم به عليهم من إرسال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ليتلو عليهم آيات الله المختلفة وبمدلولاتها ومظاهرها المتباينة "ليطهرهم من رذائل الأخلاق ودنس النفوس وأفعال الجاهلية ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويعلمهم الكتاب وهو القرآن والحكمة وهي السنة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون فكانوا في الجاهلية الجهلاء يسفهون بالعقول الغراء فانتقلوا ببركة رسالته ويمن سفارته إلى حال الأولياء وسجايا العلماء فصاروا أعمق الناس علما وأبرهم قلوبا وأقلهم تكلفا وأصدقهم لهجة". وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم} ولمن يعرف قدر هذه النعمة ويقدرها يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} قال ابن عباس: "يعني بنعمة الله محمدا صلى الله عليه وسلم) [22] ولأن الله سبحانه ذكر هذه النعمة نعمة إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم طلب الله مقابلة تلك النعمة بما يجب له من شكر وذكر فقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [23] . وحين نتدبر اللفظ يزكيهم نجد أن المقصود بالتزكية انتزاع ما هو غير مرغوب فيه، وتعزيز ما هو مرغوب به فهي إذن تعديل للسلوك بلغة التربية الحديثة.
والقرآن يقدم التزكية على التعليم كما هو واضح من ترتيب السياق ويجعلها مقدمة له تسهل التعليم وتعززه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} وجاء أيضا: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} .(18/241)
وفي ميدان التزكية هذه تشدد التطبيقات النبوية على الابتعاد بالفرد عن البيئات التي تتنكر للقيم الإسلامية وعن مؤسساتها الثقافية والتوجيهية والوظيفية ابتعادا يستهدف توفير نوع من الحمية الفكرية والروحية والسلوكية، ويمكن التربية الإسلامية من الانفراد بإعادة تشكيل سلوكه [24] .
وفي سبيل هذه التزكية اتخذت التطبيقات التربوية الإسلامية ثلاث خطوات أولها تعديل السلوك بإبعاد المسلم عن المنابع الدينية الأخرى وتوحيد المنبع الذي يستقي منه المسلم وهو القرآن ومخالفة المظاهر الحياتية لغير المسلمين، وثانيها إبعاد المؤثرات الثقافية الخارجية من أنماط التفكير والقيم والعادات والتقاليد والتصورات ثم الخطوة الثالثة وهي: "الشروع بتعديل السلوك غير المرغوب به وتعزيز ما هو مرغوب به، ويلاحظ أن القرآن الكريم والسنة الشريفة قد حددا للنفس ثلاثة مراتب يتدرج الفرد خلالها حتى يبلغ السلوك العاطفي والعقلي والعملي منتهاه المرغوب به. وهذه المراتب هي: مرتبة الإسلام وتستهدف تعديل السلوك الظاهر ثم مرتبة الإيمان حيث يتدعم السلوك الظاهر بالإيمان الباطن ثم مرتبة الإحسان حيث تتناسق مهارات التفكير مع تطبيقات الجوارح وانفعالات الشعور وتتضافر جميعها لإخلاص العبودية لله وإصابة الحق في كل ميدان من ميادين العبادة أو العمل وبذلك تتضافر جميع أنماط السلوك لتعزيز الموقف الذي تحدده أهداف التربية الإسلامية" [25] .
ومرحلة الإيمان التي ذكرها الأستاذ ماجد عرسان والتي يطلب فيها مطابقة المخبر للمظهر هي التي عبر عنها القرآن الكريم في الآية: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [26] .(18/242)
أما المرحلة الثالثة فهي التي عبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه، يراك" [27] أو التي قال فيها: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذرا مما به بأس" [28] .
ولو استعرضنا التكاليف والأوامر التي أمرنا الله بها لوجدناها في نهاية الأمر كمال السلوك وقمة الاستقامة وغاية الرقي الروحي والعقلي وصلاح الفرد والأمة فالصلاة والصيام والزكاة والحج ومراعاة حقوق الله كلها من إيمان بذاته وصفاته وأفعاله ورسله وملائكته وكتبه وبعثه وحسابه وجنته وناره وحلاله وحرامه ونصر شريعته والجهاد لإقامة حكمه وإعلاء كلمته، ومراعاة أوامر الله في طاعة الوالدين وحقوقهما وبرهما والدعاء لهما وتفقد أمورهما ما داما على قيد الحياة ثم مراعاة حقوق الزوجة والأولاد من إحسان وبر ونفقة وتربية وهداية ثم حقوق الأقارب والجيران والمسلمين عامة ثم حقوق الدولة الإسلامية والجماعات كل هذه الأشياء هي التي تؤدي إلى الإنسان الكامل الخلق الموجه لطاقاته التي أودعها الله فيه في اتجاهها الصحيح وكلها في النهاية تؤدي بالإنسان إلى تحقيق سر وجوده على هذا الكون وهو عبادة الله وحده خالق هذا الكون الذي سخره لعباده ليكونوا سادة الكون وعبيد الله..(18/243)
إن الرقي الكامل لا يتم بمجرد الجهود التي يبذلها الفرد لإصلاح نفسه والسمو بها والترفع بها عما يهين آدميته ويذهب عقله ولكن جهود الأمة والدولة كلها يجب أن تتجه إلى ذلك فإذا كان العلم المجرد يرى ضررا كبيرا على إنسانية الإنسان من إباحة الخمور وأنواع الدخان والانقياد وراء الشهوات بلا رابط فإن أنظمة الحكم وقوانين الجماعات يجب أن تحرم ذلك صيانة لعقل الإنسان وكرامته وإنسانيته، وإذا كان التفكير الحر المعقول حقا يميز آدمية الإنسان فإن الأنظمة التي تحجر التفكير وتمنع النقد والمناقشة والتأمل كالمجتمعات الشيوعية والاشتراكية وتوابعها والأنظمة التي تبيح التفكير بلا قيود ولا ضوابط كلها تحط من قدر العقل وإنسانية الإنسان.
والقرآن قد جاء بدعوة لتحرير العقل البشري من قيود الحجر كلها قديمة وحديثة وأنكر على الذين يعطلون هذه الخاصية خاصية التفكير في أنفسهم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [29] . وقوله: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [30] .(18/244)
ويحدثنا القرآن أن ضلال البشرية راجع إلى تعطيلها لعقلها وتقديسها لتقاليد وديانات سابقيها ولو كانوا على غير الهدى وهذا سر رفضهم لكل دين جديد جاء لتحرير عقولهم والسمو بأرواحهم وربطهم بالله سبحانه وتعالى خالق الكون {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} . {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [31] .(18/245)
لذلك كله دعا القرآن إلى تحرير العقل البشري والتأمل في ملكوت الله والكون بنظامه وتنسيقه وآياته وحقائق الوجود الدالة على عظمة الخالق المدبر المنسق {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [32] . والنظر في الكون والتأمل في ملكوت الله جعل كثيرا من علماء الغرب فضلا عن المسلمين يؤمنون بأن لهذا الكون خالقا ولنظامه مدبرا يقول (أوبختون) : "إن من وراء هذا الكون عقلا مدبرا حكيما، هذا العقل هو الروح الأعظم، هو الله سبحانه وتعالى"ويقول العالم (بليغن) في كتابه (العلم ينظر إلى السماء) : "إن الكون كله بنجومه المختلفة الأحجام التي لا حصر لها، والتي تندفع في جميع الاتجاهات كأنها شظايا قنبلة متفجرة، صورة لا يكاد المرء يتخيلها حتى يدركه البهر وتنقطع أنفاسه، ولكن يبدو أن الأجدر بأن يبهر ويقطع الأنفاس، هو رؤية هذا الحيوان البشري الضئيل الذي يعيش على شظية من شظايا نجم صغير، في زاوية صغيرة من زوايا مجرة لا تختلف شيئا عن الملايين من أمثالها، هذا الحيوان يجرؤ على أن يسمو ببصره إلى إطراق الفضاء، يجرؤ فيتحدى ثم يجرؤ فيحاول أن يعرف سر الكون" [33] .
وهذا هو معنى قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [34] .(18/246)
إن ارتقاء الإنسان عقليا وروحيا هو الوسيلة لسعادته في الدنيا والآخرة لأن الإنسان في حاجة إلى الحياة الروحية كحاجته للمتطلبات المادية والعقل والروح هما المميزان للإنسان عن بقية المخلوقات إذ أن معرفة الله سبحانه والمداومة على ذكره والامتثال للواجبات الروحية التي فرضها على عباده هي التي تفضي على حياة المرء البهجة والمسرة والرضا والإطمئنان في الدنيا والنجاة والفلاح في الآخرة وفي ذلك يقول تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} . هذا في الدنيا أما في الآخرة {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [35] .
رابعا: مرتكز المسؤولية والجزاء:
تربية الإحساس والشعور بالمسئولية من الأمور التي بنت التربية الإسلامية ركائزها عليها وذلك لما للإحساس بالمسئولية وغرسها في النفوس وممارستها في الواقع من أثر كبير في تربية الأفراد والمجتمعات، والمسؤول هو الشخص الذي يتحمل نتيجة أعماله وتصرفاته أمام الله سبحانه وتعالى وأمام نفسه ومجتمعه وعلى مدى الالتزام بهذه المسؤولية أو عدم الالتزام بها يكون الجزاء خيرا أو شرا والمسؤول في الإسلام هو الراعي كما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية ومسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته" [36] .(18/247)
فالمسؤوليات تتدرج لتشمل الفرد والأسرة والجماعة والحاكم والعامل مما يدل على أن الراعي هو كل شخص في موقع المسؤولية أيا كانت المسؤولية المناطة به، والمسؤولية بهذا المعنى تشمل كل فرد من أفراد الأمة توفرت فيه الأهلية للتكاليف والوعي بنفسه وسلوكه وواجباته في الحياة.
والعرب يطلقون كلمة (الراعي) على من ينظر إلى الأشياء بعين المصلحة والخير والقرآن استعمل الكلمة في دلالتها الحقيقية {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [37] والمعنوية {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [38] . وارتباط المسؤولية بالأمانة كثير في القرآن باعتبار أن الأمانة تشمل كل الواجبات المناطة بالإنسان في الحياة إزاء ربه أولاً ثم إزاء نفسه وأسرته ومجتمعه ولذلك يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [39] ، والأمانة هنا كما يقول ابن عباس: "الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد من فرائض وغيرها" [40] .(18/248)
ولذلك يشترط الإسلام في الشخص المسئول شروطا تبين الأهلية كشرط العقل والبلوغ والحرية في الإرادة والاختيار والقبول والرفض والقدرة على التحمل، فالمجنون غير مطالب بالمسؤوليات وكذلك الصغير والذي لا يملك إرادة نفسه أولا يستطيع تنفيذ اختياراته ولذلك أخرج الإسلام من دائرة المسؤولية المجنون والنائم والناسي والمضطر {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وكذلك {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [41] كما أخرج ما تتحدث به نفس الإنسان من هواجس ووساوس إلا إذا ترجمت أحاديث النفس إلى أفعال فعندما نزل قول الله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [42] اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهرعوا إليه يتساءلون عن مؤاخذتهم على حديث نفوسهم وهواجس قلوبهم فطلب منهم أن يسمعوا ويطيعوا فنزلت الآيات التالية لها قال ابن عباس: "فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها وصار الأمر إلى أن قضى الله عز وجل أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القول والفعل" [43] ، فالمسؤولية على قدر طاقة الإنسان وقدرته {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} ، وتكاليف الإسلام كلها من واجبات وفرائض وسنن وغيرها لا تجد فيها أمرا خارجا عن طاقة الإنسان فهي تكاليف ليست شاقة ومتعبة بحيث يعجز عنها الإنسان وليست سهلة وبسيطة بحيث يستهتر بها الإنسان ويستهزئ وهو مع مسؤوليته غير مخاطب على النسيان والخطأ {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا(18/249)
تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [44] .
بل إن الإسلام جعل مسؤولية الإنسان عما تحدثه به نفسه من معصية في صالحه إذا تخلى عن ذلك خشية للَه وتذكرا له ففي الحديث القدسي يقول الله عز وجل:"إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها سيئة وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة فإن عملها فاكتبوها عشرا" والأحاديث حول هذا المعنى كثيرة وكلها تدل على ربط المسؤولية بالسلوك العملي ولكن الإسلام يوضح فرقا بين ما تقدم وبين نوع من أحاديث النفس المرتبطة بالإرادة وسبق الإصرار كما يقولون وهو نوع من السلوك يؤاخذ عليه الإنسان في الإسلام سواء ارتبط بالعمل أم لم يرتبط وهو الذي قال فيه الله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أو قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} وقوله عليه الصلاة والسلام:"إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" والمقتول مؤاخذ لأنه دخل تحت طائلة الشروع في القتل وسبق العزم والإصرار على القتل إلا إذا كان دفاعا من المقتول أو القاتل عن نفسه.
وحديث المسؤولية السابق يوضح أن الإنسان في الإسلام لا تقتصر مسئولياته على نفسه وإنما تتدرج هذه المسئوليات من الفرد إلى الأسرة إلى الجماعة إلى الحاكم أو الراعي ففي مسئولية الفرد نحو أسرته يقول الله تعالى {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [45] ، {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [46] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [47] . ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع حتى يسأل الرجل عن أهل بيته" [48] .(18/250)
وبما أن أقل عدد يتكون منه الأسرة فردان هما الزوج والزوجة فإن لكل واحد منهما مسئولياته وكذلك الأبناء والأقارب إن كانت الأسرة كبيرة، وقد وضع الإسلام المسئولية الكبرى، في الأسرة على عاتق الزوج باعتباره المتولي لزمام القيادة والنظام والتوجيه للأسرة والمسئولية عنها أمام الله والمجتمع وعلى عظم المسئوليات والتكاليف تكون الامتيازات الممنوحة للرجل ومنها امتياز القوامة ومقابل هذا الامتياز الامتياز الذي منح للمرأة هو إطلاق صفة الصلاح عليها إن قامت بواجبها وأعانت زوجها على مسئولياته والله تعالى يقول: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [49] .
وهذه القوامة قد حددها الله تعالى من خلال الوظائف والخصائص النفسية والعضوية والعقلية لكل من الرجل والمرأة وهما يمثلان نفسا واحدة واختصت كل واحد من شطري النفس بتكاليف وأعباء حسب استعداداته الفطرية وخصائصه العقلية والعاطفية، لأن الرجل والمرأة يكونان مؤسسة تسمى بالأسرة فإن رئاسة هذه المؤسسة هي القوامة والقوامة بهذا "وظيفة، داخل كيان الأسرة، ولإدارة هذه المؤسسة الخطيرة، وصيانتها وحمايتها ووجود القيم في مؤسسة ما، لا يلغي وجود ولا شخصية ولا حقوق الشركاء فيها والعاملين في وظائفها" [50] .(18/251)
وقد حدد الرسول صلى الله عليه وسلم مسئوليات كل من الزوجين في خطبة الوداع حيث يقول: "أما بعد: أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقا ولهن عليكم حقا ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف واستوصوا بالنساء خيرا فإهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله فاعقلوا أيها الناس قولي فإني قد بلغت" [51] . فمسئوليات الزوج تتمثل في حسن الخلق والمعاشرة والتحمل وضبط النفس والمودة والملاطفة وحسن الظن والإنفاق بحسب الاستطاعة {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} . وكذلك العدل إذا عدد الزوجات وهو العدل فيما يملك مثل العدل في النفقة وفي المبيت دون العاطفة والحب، أما الزوجة فمسئولياتها واضحة في الخطبة وهي طاعة الزوج إلا في معصية وعدم مخالفته في حدود قدرتها وإمكانياتها والمحافظة على بيته وماله وعرضه وتوفير سبل الراحة المادية والمعنوية له وعونه على الدنيا والآخرة وتحبيب نفسها إليه وإحسان عشرته وإطراء معروفه فهي راعية ومسئولة أمام الله عن رعيتها.(18/252)
أما مسؤولية الآباء نحو الأبناء فكثيرة أهمها اختيار الاسم الصالح المعبر عن أمله فيهم، وتغذية أجسامهم بالغذاء وأرواحهم وعقولهم بالعلم والمعرفة والفضائل والقيم والأخلاق الحسنة والتربية الشاملة القائمة على حسن العقيدة وسلامة الضمير والخوف من الله، أما مسئولية الأبناء فعظيمة وجسيمة والقرآن قد أكثر من وصاية الأبناء بالآباء ولم يوص الآباء بالأبناء لأن إحساس الآباء فطري وعطاؤهم مطلق وحبهم غريزي لذا كان وصية القرآن للأبناء أما الآباء فقد وصوا مرتين في مشكلة قتل الأبناء {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [52] .
وفي حديث ابن مسعود يقول: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله تعالى فقال: "الصلاة على وقتها"، قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين"، قلت: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" [53] .
فرب الأسرة مسئول عن كل فرد من أفراد أسرته رعاية وعناية وتربية وتعليما وتوجيها في حدود طاقته وقدراته حتى يخلي بذلك مسئوليته أمام الله سبحانه وتعالى.(18/253)
أما المسئولية الجماعية فإن الفرد مسئول عن تصرفات أعضائها وسلوكهم باعتبار الجماعة وحدة واحدة لهما شخصيتها الاعتبارية ولأن الأمة الإسلامية أمة دعوة ورسالة فإن أولى المسئوليات المناطة بها هي القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يقول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} [54] ، {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [55] .
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [56] ويقول عن بني إسرائيل {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [57] .(18/254)
ولأن انحراف الأفراد يؤدي إلى فساد المجتمع فقد عقب الرسول صلى الله عليه وسلم على الآية السابقة بقوله: "كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنَه على الحق أطر ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم" [58] ، وفي هذا المعنى قول الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [59] ، ولأن المسلمين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر فإن الرسول صلى الله عليه وسلم شبه الجماعة بالجسد لتضامنها في مسئولياتها وشبهها بالسفينة وبمسئولية الجماعة عنها بصفتهم الجماعية لا الفردية فقال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعا" [60] .
وقد أخذت كل النظريات الحديثة في الأخلاق بما قرره الإسلام من أن حرية الأفراد ليست مطلقة بل مقيدة بقيود كما أخذ بها في (إعلان حقوق الإنسان) وعرفت الحرية فيها بأنها "القدرة على عمل كل شيء لا يضر بالغير"، وحقوق الغير في الإسلام تشمل حق الله أولا ثم المجتمع أفرادا وجماعات، وإزالة المنكر أمر جعله الرسول صلى الله عليه وسلم من مسئوليات الأفراد في الجماعة وواجباتهم بالطرق المتاحة لهم "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" [61] .(18/255)
ومجاهدة الخارجين عن الإسلام والمنحرفين في السلوك دليل على الإيمان فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" [62] والمسئوليات الجماعية كثيرة في الإسلام وفي القرآن والسنة المزيد لمن أراد ذلك.
أما المسئولية الفردية فإن الفرد المسئول هو من توافرت فيه صفات الأهلية للقيام بمسئولياته، والمسئوليات المناطة بالفرد المسلم تتميز بالوسطية بين الصعوبة والسهولة كما أسلفنا ولم يكلف الله عباده بمسئوليات تفوق إمكاناتهم وقدراتهم الجسدية والعقلية والنفسية لأن الله يريد لعباده اليسر ولا يكلف نفسا فوق طاقتها والرسول صلى الله عليه وسلم يطلب من المسلمين أن يمتثلوا وينفذوا الأمور التي نها عنها وأن يؤتوا من أوامره ما يستطيعون والإنسان مسئول أمام الله سبحانه عن نفسه وهو وإن كان مسئولا عن تصرفات الآخرين وسلوكهم من حيث التوجيه والإنكار والأخذ بيدهم إلا أنه غير مسئول عما وقع من أعمالهم، فالله يقول: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [63] .
ويقول: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [64] .(18/256)
أما مسئولية الراعي أو الحاكم أو الدولة فتتمثل أساسا في تنفيذ شريعة الله ومنهجه في الحياة وإقامة حدوده وأحكامه وصيانة حقوق المسلمين والسهر على مصالحهم ودرء الفساد في كل أنواعه ويتمخض عن المسئوليات السابقة نوع الجزاء الذي يترتب على العمل الذي قام به الفرد باختياره وإرادته ومارس فيه الحرية التي أعطاها الله له لأن الفرد المسلم تقوم تربيته على أساس مراقبة الله سبحانه وتعالى الدائمة للإنسان في سره وعلانيته خيره وشره وأنه مثاب على الخير ومعاقب على الشر وهذا الإحساس هو ضابط السلوك بالنسبة للفرد الذي يعلم أن الله مطلع على كل صغيرة وكبيرة {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [65] . ولذلك صور القرآن حال المجرمين يوم القيامة وشفقتهم وخوفهم من ذلك الإحصاء الدقيق المتناهي في الدقة والذي يحصى عمر الإنسان بالثواني إن عمل مثقال ذرة من خير وجده وإن عمل مثقال ذرة من شر وجده {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [66] لأن المحصي والمحاسب هو الله سبحانه وتعالى الذي أحاط علمه بدقائق الأمور ولطائفها محسة وغير محسة {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [67] كيف لا يكون ذلك وهو الذي يقول عن ذاته العلية {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [68] .(18/257)
إن العقل الإنساني لا يقبل الظلم ولا يرضي به، والعدالة تقتضي إثابة المحسن وعقاب المسيء والله قد حرم الظلم على نفسه وجعله محرما بين الناس ووعد بالجنة وهو لا يخلف وعده، ولأن العدالة تقتضي انتفاء المساواة بين الخبيث والطيب والمحسن والمسيء والصالح والطالح والمؤمن والكافر يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَاب وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [69] . ويقول: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [70] .(18/258)
والفرد الذي وعده الله بالثواب أو العقاب يأتي يوم القيامة وحده {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [71] . {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [72] . فإذا وجد خيرا حسب ما قدم كان مصيره الجنة والنعيم المقيم وإذا قدم شرا كان مصيره ما يستحقه من عقاب الله، والقرآن قد فصل ذلك كثيرا وبين جزاء المحسن والمثيب إلا أن الله سبحانه وتعالى لا يثيب إلا بمضاعفتها لمن يريد والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يعلم قدره إلا الله وقد يغفر الله لمن يشاء من عباده الذنوب دون الكفر فإنه لا يغفره {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [73] ولأن الشركَ بالله ليس من الذنوب فإنه يقول: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [74] .
والجزاء قد يكون في الدنيا أو الآخرة أو فيهما معا كما أنه قد يكون قصاصا يقوم به ولي الأمر وقد يكون مباشرة من الله في الدنيا بالهلاك كما حدث لعاد وثمود وغيرهم من الأمم التي قص القرآن أخبارها وقد يكون بالأمراض والأوبئة أو الذل والاستكانة والضلال أو الابتلاء بفقدان السكينة والأمن والاستقرار والانحلال الخلقي من حسد وبغض ونفاق وشقاق ومجانة وخيانة ورشوة ومحسوبية.(18/259)
إن السعادة والشقاء في الدنيا والآخرة تتوقفان على مدى التزام المسلم والمسلمين بمنهج الله وتربيته ونظامه وأحكامه وأوامره ونواهيه مراعاة ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [75] .
ولأهمية الجزاء في سلوك الإنسان فإن الله سبحانه وتعالى رغب في الخير وحث عليه وربط مصير الإنسان في حياته الدنيا والآخرة بمدى التزامه بالعمل والسلوك المرغوب فيه أو غير المرغوب فيه إذ أن العقل البشري لا يتصور عدم الجزاء على ما يعم الحياة من خير ورحمة ومودة وإخاء أو ما يكدرها من ظلم وشر وفرقة واستعباد وبعد عن الله.(18/260)
أما بالنسبة للجزاء الدنيوي فالقرآن يقرر أن في القصاص حياة للناس وقد قسم بعض الباحثين العقوبات إلى مؤيدات فطرية تتمثل بالعقوبة التلقائية التي تترتب على مخالفة أمر الله وربانيته هي عقوبة القهر الإلهي في الدنيا أو الثواب والعقاب في الآخرة ففيه يقول الأستاذ سعيد حوى: "إن أي انحراف عن أي جزء من أجزاء الإسلام يحمل في طياته عقوبته التي تحيق بالمنحرفين عنه، فمن رفض العبودية لله عاقبته سنن الله بأن تجعله عبدا للإنسان ومن غش ليربح عاقبته سنن الله بأن يفقد الثقة ويخسر ومن فرط في واجب اليوم عاقبته سنن الله بمضاعفة التعب في يوم آخر، وهكذا فما من انحراف عن أي جانب من الإسلام إلا تقابله عقوبة تليق به في الدنيا لأن الانحراف عن قوانين الله في الكون والإنسان والاجتماع دائما ليس لصالح الإنسان بل هو تدمير له أو تعذيب" [76] .(18/261)
ثم ضرب الباحث عشرة أمثلة من عقوبات الفطرة على أمثلة من الانحراف عن أمر الله يوضح هذا المؤيد القوي من مؤيدات الإسلام وهذا عين ما يقصد إليه الدكتور الكسيس كارل في كتابه تأملات في سلوك الإنسان إذ يقول: "وليس من العسير أن الخطيئة انتهاك إرادي أو غير إرادي لقوانين الحياة، وقوانين الحياة صارمة صرامة قوانين اختلاط الغازات وسقوط الأجسام ولما كان انتهاك هذه القوانين لا يعاقب عليه إلا بعد مضي زمن من وقوعه وبطريقة خفية فإن الإنسان لم يدرك بعد فداحة النتائج التي تترتب على الخطيئة فكل خطيئة تؤدي إلى اضطرابات عضوية أو عقلية أو اجتماعية وهى اضطرابات لا يمكن علاجها على وجه العموم، وإذا كانت التوبة لا تشفي تليف الأنسجة لدى السكير أو الأمراض العصبية لدى أولاده فإنها تعجز أيضا عن إصلاح الاضطرابات الناجمة عن الحسد والإسراف الجنسي والغيبة والنميمة والبغضاء كما أنها كذلك لا تبعد االشقاء عن الشواذ الذين يولدون لأبوين مصابين بالعيوب، فالخطيئة تؤدي إن عاجلا أو آجلا إلى التدهور والموت، التدهور للجاني نفسه أو للوطن أو للنوع ولهذا يجب على كل فرد أن يكون قادرا على التمييز بين الخير والشر" [77] .
إن التربية الإسلامية وقد وضعت كل فرد من الأمة في موقع المسئولية التي يترتب عليها المحاسبة والجزاء يتناسب مع القوانين الطبيعية في الكون والنزعات الفطرية في الإنسان إذ أن الإنسان يريد أن يرى نتيجة أعماله وثمار جهده لأن العمل يكون على قدر الثواب في الدنيا، فكيف بالآخرة..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلا في الجنة كلما غدا أو راح".
وقال:(18/262)
"من تطهر في بيته ثم خرج إلى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة، فإذا دخل المسجد لم يزل في صلاة ما انتظر الصلاة والملائكة تصلي عليه وتقول: (اللهم اغفر له اللهم ارحمه) ".
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الإسراء 9.
[2] راجع سيد قطب في ظلال القرآن ص 16 ج 15 وما بعدها المجلد الخامس.
[3] تأملات في سلوك الإنسان ص 47.
[4] الإسراء 22- 28.
[5] سورة الأنعام 151-153.
[6] سيد القطب في ظلال القرآن ص 29 المجلد الخامس جزء 15.
[7] سورة الروم آية 21.
[8] كتاب النكاح سبل السلام 109 ج الأول وكتب السنة.
[9] كتاب (مشاكل السكان) نقلا عن المودودي حركة تحديد النسل ص 31.
[10] المصدر السابق59.
[11] المصدر السابق ص 6970.
[12] ازوالد سوارز نفسية الجنس ص 17 نقلا عن حركة تحديد النسل للمودودي ص 7677.
[13] حركة تحديد النسل ص 179.
[14] حركة تحديد النسل ص 183.
[15] العنكبوت:45.
[16] البقرة: 277.
[17] الأحزاب:72.
[18] الأنفال:23.
[19] الفرقان:44.
[20] آل عمران:164.
[21] البقرة: 151.
[22] تفسير ابن كثير ص 195196 ج 1.
[23] البقرة: 152.
[24] ماجد عرسان الكيلاني تطور مفهوم النظرية التربوية الإسلامية ص 41.
[25] المصدر السابق.
[26] الحجرات:14.
[27] رواه مسلم.
[28] رياض الصالحين: 279.
[29] البقرة: 170.
[30] الأعراف: 70.
[31] الزخرف: 2124.
[32] البقرة: 164.
[33] نقلا عن محمد شديد منهج القرآن في التربية ص 94.
[34] الذاريات: 21.
[35] سورة طه: 124 125، 126.(18/263)
[36] رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر مرفوعا.
[37] سورة طه:54.
[38] سورة المعراج: 32.
[39] الأنفال:27.
[40] ابن كثير ص 301 ج 2.
[41] البقرة: 173
[42] ابن كثير ص 239
[43] ابن كثير ص239
[44] البقرة:286
[45] طه:.132
[46] مريم: 55.
[47] التحريم: 3
[48] ابن حبان
[49] النساء: 34
[50] سيد قطب في ظلال القرآن ص 61 ج 5 م 2.
[51] سيرة ابن هشام ج 2 ص 604.
[52] الإسراء: 23.
[53] رواه البخاري ج 8 ص 163.
[54] آل عمران: 110.
[55] آل عمران: 104.
[56] التوبة:71.
[57] المائدة:78.
[58] رواه أبو داود والترمذي رياض الصالحين ص 105.
[59] الأنفال:25
[60] أحمد أمين /الأخلاق.
[61] رياض الصالحين ص 100101.
[62] رواه مسلم المصدر السابق ص 101.
[63] الأنعام: 164.
[64] الإسراء: 1314.
[65] غافر: 19.
[66] الكهف: 49.
[67] لقمان: 16.
[68] المجادلة: 7.
[69] ص: 2628.
[70] الجاثية: 21.
[71] مريم: 95.
[72] الأنعام: 94.
[73] النساء: 48.
[74] الزمر: 53.
[75] هود: 105،108.
[76] سعيد حوى الإسلام ص 7 ج 4.
[77] راجع سعيد حوى الإسلام المؤيدات الفطرية ص 7 62.(18/264)
في المشارق والمغارب
فضيلة الشيخ عبد الله بن أحمد قادري
عميد كلية اللغة العربية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أما بعد:
سبب الكتابة:
فقد رأيت أن أسجل في هذه الصفحات ما تذكرته أو دونته في رحلتي التي أتاحت لي أن أعبر الكرة الأرضية من شرقها إلى غربها، وأن ألتقي في هذه الرحلة بأجناس العالم المختلفة، إما لقاء مقصودا أو لقاء غير مقصود، ولكنه لا يخلو من فائدة يسجل من أجلها. وفي السير في أرض الله عبر لمن اعتبر، وفيه الجديد الإيجابي المفيد، والسلبي الذي يجب أن يجتنب. وهذا هو السبب الذي جعلني أقدم على التسجيل. أسأل الله أن يكون فيه لي أولاً، ثم لشعبي المسلم- في كل أنحاء الأرض- ثانياً ما ينفعنا في ديننا ودنيانا.
وها أنا أروي القصة من أولها:
تردد وترجيح. وسبب:
عرض علي فضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في الربع الأخير من السنة الدراسية الماضية السفر إلى أمريكا لحضور مؤتمر علماء المسلمين الاجتماعيين في أنديانا.
فطلبت إمهالي لأيام قلائل لأدرس أموري الخاصة وأقرر ما إذا كانت تسمح لي بالسفر أم لا؟ وكانت الرغبة في السفر شديدة، لأني أود أن أرى إخواني المسلمين في البلدان الأجنبية، وكيف يعيشون مطبقين تعاليم دينهم هناك في جو كله عقبات في طريق ذلك التطبيق وأرى أيضاً المجتمعات الغربية وحياتها التي أسمع عنها من أفواه الزوار، وعلى صفحات بعض المجلات والجرائد الإسلامية وغير الإسلامية، وكذلك بعض الكتب التي تتضمن بعض المعلومات عن المجتمعات الغربية قديماً- أيام انحطاطها مادياً ومعنوياً - وحديثاً- في عنفوان رقيها المادي.
لا بد من رفيق:(18/265)
وبعد يومين أو ثلاثة قررت أن ألبي رغبة فضيلة نائب رئيس الجامعة ورغبتي معا. وكان فضيلة الدكتور أحمد الأحمد مرشحاً لنفس المهمة وأنا شديد الرغبة في أن يوافق كما وافقت، ولكنه اعتذر لظروف خاصة.
وعندئذ ألححت على فضيلة نائب الرئيس في أن يرشح شخصا آخر يجيد اللغة الإنجليزية، إذ من الصعب على مثلي وأنا لا أقدر على التفاهم مع القوم أن أسافر وحدي لما أتصوره من صعوبة العيش في المأكل والمشرب والمسكن دون تفاهم مع الناس، لا سيما مع علمي بأن أغلب مأكولهم ومشروبهم لا يخلو من حرام عليّ في ديني. فقال لي فضيلته رشح من ترى، فرشحت الأخ الدكتور محمد بيلو أحمد أبو بكر السوداني أحد مدرسي كلية اللغة العربية لأنه قام بتدريس اللغة الإنجليزية لطلبة السنة الأولى في الكلية [1] عندما تعذر الحصول على مدرس آخر، لأنه لابد أن يكون في مقدوره التفاهم مع الناس ولو بصعوبة فوجود شيء خير من لا شيء. وافق فضيلة نائب رئيس الجامعة على الترشيح وطلب مني أن أبلغ فضيلة الدكتور بذلك فبلغته فطلب مني إمهاله ليفكر في أمره، فإذا سنحت له ظروفه فإنه لا مانع عنده. فقلت له لا بأس ولكن أرجو أن يكون ذلك في أسرع وقت ممكن للحاجة إلى أخذ تأشيرات دخول من الدول التي نريد السفر إليها من قبل سفاراتها والوقت قد اقترب.
يوم السفر في مطار المدينة:
وفي اليوم التالي جاء الدكتور بجوازه موافقاً على السفر وبدأ كل منا يستعد لذلك.(18/266)
وقبل ظهر يوم السبت الموافق 19/ 7/ 1398 هـ تحركنا إلى مطار المدينة المنورة. وبعد انتهاء الإجراءات ودعنا إخواننا الذين رافقونا إلى المطار، وودعت أنا أبنائي الخمسة الذين كانوا معي، وذكرتهم بالله وأوصيتهم بتقواه. وفي داخل قاعة الانتظار قعدنا أنا وزميلي على مقعدين متجاورين فجاءت مناسبة لا أذكرها الآن. فذكرت له بيتاً من الشعر يقال فيمن لا يضبط الأمور، وكان يردده لنا فضيلة شيخنا العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في دروسه:
ويكتبه عمرا ويقرؤه بكرا
أقول له زيدا فيسمع خالدا
وبعد ذلك بقليل أخذ الزميل ينظر إلى أرقام الرحلات التي تظهر على الجهاز في القاعة ليتأكد من موعد إقلاع طائرتنا وبدلاً من قراءة رقم الإقلاع قرأ رقم الوصول، فاستغرب فقلت له: عد مرة أخرى فاقرأ.. فقرأ فعرف الخطأ، فقلت له: لقد طبقنا بيت الشعر ولا زال رطبا على ألسنتنا وفي مذكرتك، وكان قد أعجبه البيت فكتبه في مذكرته عندما سمعه مني، فضحكنا جميعا، وجاء الموعد فخرجنا إلى الطائرة وأقلعت بنا في موعدها المحدد والحمد لله إلى جدة.
فندق الإخاء واللقاء المفيد:(18/267)
وصلنا مطار جدة، وكان بعض الإخوان في انتظارنا في المطار، وكنا نظن أن نزولنا في جدة سيكون في فندق الشركة - أي إقامة ترانزيت وعندما سألنا المختص في علاقات الركاب. ذكر لنا أنه لا يحق لنا ذلك لأنا حجزنا على رحلة في اليوم التالي، وفي نفس اليوم رحلات إلى لندن، فقال صاحبنا الذي كان ينتظرنا في المطار الحمد لله الذي حال بينكم وبين فندق الشركة، فبيتنا فندق للإخوان فحياكم الله، وفعلا نزلنا ضيوفا على أخينا واجتمعنا ببعض الأحبة الذين جاءوا يودعوننا عندما علموا بوجودنا وسفرنا إلى الخارج. ومن هؤلاء الأخ الشاب الصالح حامد البار، أحد الطلبة السعوديين الذين يتلقون تعليمهم في أمريكا وكان قد عاد منها قريبا، وكان لقاؤنا به فرصة للاستفسار عن بعض الأمور التي يهمنا معرفتها، كالحصول على الأكل الحلال، وقائمة بالأطعمة التي يجب اجتنابها، وكذلك أرقام هواتف بعض الأشخاص في بعض المدن الأمريكية للاتصال بهم لمساعدتنا عند الحاجة، ولقد كان ذلك مفيدا جدا لمسنا فائدته في أوقات الحاجة.
وبهذه المناسبة فإني أوصي كل مسلم يريد السفر إلى بلاد الغرب أو الشرق من البلدان غير الإسلامية أن يسجل أي عنوان أو رقم هاتف لمن يمكنه مساعدته شخصيا أو في أمور الدعوة إلى اللَه.
وفي يوم الأحد الموافق 20/ 7 أقلعت بنا الطائرة السعودية من مطار جدة الدولي إلى لندن في الساعة العاشرة والدقيقة العشرين صباحاً، وكان وصولنا إلى مطار لندن في الساعة الرابعة والدقيقة العشرين، أي كانت مدة الطيران الفعلي ست ساعات.
تمتع وتكدير:(18/268)
وكان الجو في هذا اليوم صحوا، وكنت أنظر من النافذة إلى الأرض لأتمتع بالمناظر الطبيعية، فكنت تارة أرى الصحاري الغبراء وتارة ماء البحر، وأخرى التواءات نهر جار، ومرة خضرة غابات أو بساتين، وأخرى بعض السحب المتراكمة أو المتفرقة، كما كنت أرى بعض المدن ذات التخطيط الجميل والشوارع المستقيمة، وهكذا مرت الساعات الست وأنا لا أشعر بأني مسافر لما كنت أتمتع به من جمال خلق الله.
ولكن مضيفي الطائرة عكروا علي ذلك الجو الممتع عندما أخذوا يغلقون النوافذ وطلبوا مني إغلاق نافذتي التي كنت أطل منها على خلق الله لماذا؟ لأن فيلما سينمائيا سيعرض ليشاهده الركاب ويستمتعوا به ألا ما أحقره من فيلم وإنه لاستبدال الذي هو أدنى بالذي هو أعلى.
ولقد تحملت مشقة فراق ذلك الأعلى دون أن أحفل بالأدنى وكنت أختلس رفع غطاء النافذة بين حين وآخر لألمح شيئا من ذلك الجمال وكان الفيلم ثقيل الظل علي، لأني أريد أن أفتح النافذة بمجرد انتهائه.
وبالقرب من مضيق دوفر انتهى الفيلم فرفعت ستارة النافذة لأرى مضيق سباق السباحة.
وعندما قطعنا المضيق حال السحاب بيننا وبين الأرض فما كنت أرى منها قطعة إلا ليغطي السحاب أختها، ولي مع السحاب حوار، سيأتي عندما تعبر بنا الطائرة فوق المحيط الهادي، في رحلتنا من لوس انجلوس إلى طوكيو. وهبطت بنا الطائرة في مطار لندن عاصمة الدولة العجوز التي لم تكن الشمس تغيب عنها.
في مطار لندن:(18/269)
وعندما نزلنا من الطائرة كنت أقول في نفسي: متى تنتهي إجراءاتنا في مطار لندن الدولي الذي تهوي إليه الطائرات المليئة بالركاب من كل حدب وصوب؟ وما إن دخلنا قاعة الإجراءات حتى تبددت تلك المخاوف فلكل رحلة جناح خاص، وفي كل جناح موظفون ينقسم القادمون إلى مجموعات صغيرة فلا تمضي ربع ساعة إلا وقد انتهى كل الركاب من إجراءات الجوازات، ونذهب إلى مكان تسلم العفش، فإذا عفشنا قد وضع بجانب الساحب الموزع. وهكذا كنا نتسابق نحن وأثاثنا في مطارات الغرب كلها وفي اليابان، لسرعة المعاملة والإجراءات.
فندق لندن:
هكذا سميته فندق لندن، أما اسمه الحقيقي فقد أنسانيه كرهه الشديد عندي- أي كره الفندق- لسوء مناظره وخبث روائحه وكثرة أوساخه، وكثرة المرضى من نزلائه، هل تصدق أن فندقا هذه أوصافه يوجد في لندن عاصمة المملكة المتحدة؟ أي وربي صدق فالكاتب كان من نزلائه. وله قصة أرويها هنا ليحذر نزلاء لندن الجدد من العرب، وخاصة من يصر على ارتداء زيه العربي هناك.
قصة الفندق والناصحون المتسولون:
فلقد قابلتنا فتاة لابسة زي موظفي المطارات، وبيدها جهاز لاسلكي وسألتني سؤالا لا
أدري ما هو فأحلتها لفضيلة زميلي الدكتور فإذا هي تسأل: أتريدون مساعدة مني؟ فأجاب نعم. نريد أثاثنا - كان ذلك قبل وصولنا إلى قاعة تسلم الأثاث - ونريد موظفي الخطوط السعودية لنتفاهم معهم، فرافقتنا إلى مكان الأثاث ودلتنا على عربة النقل الصغيرة وأوصلتنا إلى موظفي الخطوط السعودية. وهنالك سلمتنا لموظف في علاقات الركاب - وأظنه مدير العلاقات - واستلمنا منها بابتسامات وترحيب واهتمام إنها محسنة سلمتنا إلى محسن وبدون أي مقابل مادي ظهر لنا إلى الآن.(18/270)
وأخذ زميلي يتفاهم معه ومع بعض زملائه عن السكن الملائم وعن وسيلة المواصلات. فبدءوا يحدثونه عن الفندق الفذ في لندن الذي لا يوجد الأمان إلا فيه، وكل الفنادق سواه لا يأمن الإنسان فيها على نفسه ولا على ماله. الذي يجمع بين الأكل الإفرنجي والطعام العربي. الذي ينزل به السعوديون وغيرهم من الشرقيين.
والمواصالات؟ أشار إلى سائق بجانبنا وقال: هذا سائق الملحق العسكري السعودي، وهو الذي يوصلكم إلى الفندق فظننا أن السفارة السعودية وصلت إلى حد استقبال كل وافد سعودي إلى هذه البلاد لمساعدته عندما يصل لعدم معرفته بالبلد ولغة أهل البلد، الحمد لله رب العالمين. وبعد قليل سأل زميلي الموظف المبتسم المعني بنا: ما اسمك ومن أين أنت؟ فذكر اسمه المسيحي ولا أذكره الآن، إنه فلسطيني، فوقع الشك في نفسي وبدأت أحافظ بشدة على الحقائب ولا سيما التي فيها الجوازات وخرجنا مع السائق فوجدنا حافلة صغيرة تنتظرنا فرفعنا أثاثنا وركبنا فوجدنا شخصاً آخر يرافقنا في السيارة، ومعه زوجته المشلولة والظاهر أنه قد وصف له هذا الفندق كما وصف لنا. وبعد أن أخذ السائق طريقه بدأ يذم فنادق لندن كلها التي لا يأمن الإنسان فيها على نفسه وماله. وأن هذا الفندق الذي ستنزلون به هو الفندق الوحيد الذي يطمئن فيه النزلاء. ودخل في نفسي الشك ورأيت فندقاًَ على يميني فسألته كيف هذا الفندق - عن طريق زميلي- فأجاب: الليلة في هذا الفندق بعشرين جنيهاً أتريد أن أنزلك فيه وهو غال وغير مؤتمن وكان الجواب لا وفي نفسي أن نعم خير من لا ولكن دون جزم وعندما وصلنا بجوار تلك العمارة القديمة أخذنا نساعد صاحبنا زوج المرأة، منا من يأخذ له المظلة ومنا من يأخذ له حقيبة اليد وهو يحاول بجهد إسناد زوجته حتى تدخل إلى إدارة الفندق، وسلم السائق ركابه بالعدد لأحد العاملين في الفندق. وذهب دون أن يستلم منا الأجرة.(18/271)
وأخذت أقلب النظر في ممرات الفندق الفذ، وفي مكاتبه وفي بعض الحجر المجاورة، وبدأت أشم الروائح الكريهة، وأرى بعض النزلاء الذين قد لا يقدرون على استئجار مكان آخر غيره لفقرهم وطول إقامتهم للعلاج وأرى أشخاصاً آخرين ينظرون كما أنظر وهم متقززون من هذا النزل الكريم.
إيثار الخداع:
وبعد قليل اصطحبنا العامل الذي استلمنا من القائد بالعدد إلى إحدى الحجر التي وصفها بأنها خير حجر الفندق، وأنه آثرنا بها لأنا مشايخ علم كما قال: وكان لباسنا يوحي بذلك، فأنا سعودي ألبس الثوب والغترة ولبست العقال لأول مرة في حياتي حفاظاًَ على غترتي لشدة الهواء. وزميلي سوداني، وله عمة كالبرج وأكمام كالخرج وعلمنا عند الله. وعندما رأينا الحجرة الطويلة العريضة ذات الأسرة الأربعة قلنا للرجل إنا نريد حجرة بسريرين فقال: لا يهم إننا نحسبها لكم بسريرين. أي والله لقد وصلت الفريسة إلى الفم ولا يمكن لجائع إفلات فريسته. تركنا وذهب.
نظرات اشمئزاز:
فأخذ كل منا ينظر إلى البسط والأغطية ويقلبها وينظر إلى الوسائد وأكياسها، وإلى أرجاء الحجرة وما تحتوي عليه جدرانها من بقع تتقزز منها النفوس، ثم أخذنا نفتش لنجد بيت الماء خارج الغرفة وهو مشترك وعندما دخلته أسرعت بالخروج منه، فسألني الزميل أتوضأت بهذه السرعة؟ فقلت له: أدخل وتوضأ قبلي لأعد نفسي للدخول مرة أخرى.
وبعد إجبار أنفسنا على الوضوء صلينا المغرب والعشاء حتى لا نتوضأ مرة أخرى، وأخذنا نفكر ماذا نفعل؟ أننام في هذه الحجرة؟ وهل يا ترى يأتينا النوم فيها، ومن أين نأكل؟ ونظرنا من بعيد إلى المطعم فوجدنا حجرة كبيرة، يطبخ النزلاء فيها لأنفسهم ويلتمسون الأكواب للشرب فلا يجدونها.
لا بد من مخرج:(18/272)
فقلت لزميلي: عندي صديق يسكن في ضواحي لندن، وقد أعطاني بعض إخوانه رقم هاتفه قبل مغادرتنا المملكة، وما كنت أريد إزعاجه في الليل ويسكن خارج المدينة ولا أدري كيف ظروفه ولكن لابد من حل ولا نعرف غير الاتصال بصديقنا لينقذنا من هذه الورطة.
اتصل الزميل بالصديق: محمد أشرف حياه وأخبره أن صديقك- فلاناًَ- موجود في المكان الفلاني، فتردد الصديق في معرفة المكان ولكنه كان ذكياً فطلب رقم هاتف الفندق وقيده عنده.
بجانب الشارع:
وخرجت أنا من الفندق لأقف بجوار بابه على الرصيف والهواء البارد شديد وأحس بالتعب والبرد ولكني أشم هواء لا أوساخ فيه وأنظر إلى الشارع لعل الصديق يصل بين لحظة وأخرى، وكنت مع الشارع كما قال الشاعر:
وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها
نعم: الشارع نظيف والفندق قذر، في الشارع هواء طلق، وفي الفندق روائح منتنة، فالصبر على البرد والقيام خير، وكنت كلما رأيت شخصاً قادماًَ إلى الفندق فيه بعض القسمات التي أتخيلها في صديقي ظننته إياه، وطال الانتظار والصديق صهري ولكن لم التق به من قبل، وعندما تعبت جلست على مقعد أكل عليه الدهر وشرب في أقرب ممر إلى الباب، وتعب صديقنا في التماس الفندق الفذ الذي لا يدري أهل لندن عنه شيئا، ولما لم يستطع الاستدلال عليه ذهب إلى موظفي الهاتف فأعطاهم رقم الهاتف وطلب منهم عنوان الفندق فدلوه عليه إنه يقع في قلب لندن، وفي مكان مشهور جدا إنه قرب حديقة: هايدبارك.
فرج بعد استبطاء:(18/273)
وبعد انتظار طويل قريب من اليأس وصل محمد أشرف إلى الفندق، قال: أيوجد هنا عبد الله القادري فلم أتمالك أن أعتنقته قبل أن يجيبه أحد وكان ينظر إلى نواحي الفندق القريبة منه نظر استغراب، وكنت أقرأ في نظراته العبارة التالية: صهري عبد الله القادري، القادم من بلاد غنية، كالمملكة العربية السعودية، ذو الوظيفة الجيدة، عميد كلية اللغة العربية ينزل في هذا المكان الذي لا يصلح مأوى إلا للمعدمين ولكنه لذكائه لم يفصح عما في نفسه فطلب منا أن نصعد إلى الحجرة ليكون حديثنا مقصوراً علينا.
إنه لم يقدر على الاستمرار في الترحيب، كما هي عادة الأصدقاء والأحبة الذين يستقبلون صديقا حبيبا، فبدأ يسأل كيف نزلتم في هذا المكان؟ فأخبرناه بقصتنا، وكان الوقت تقريباً الساعة الثانية عشرة بتوقيت بريطانيا الصيفي.
قصة العشاء وفرش الملابس:
فسألنا هل تعشيتما؟ فقلنا: لا ونحن في أمس الحاجة إلى الطعام ولم نقدر أن نذهب إلى أي مطعم خشية أن نصادف حراماً والثقة في أعدائنا غير متوافرة، وكنا مشغولين بالوضع الذي كنا فيه، فاتفق مع زميلي على أن يذهبا للبحث عن طعام حلال، وأن يدعاني أرتاح في الحجرة، وحقا لقد كنت مضطرا للراحة، فأبعدت الغطاء الذي كان على أحد الأسرة وفرشت بعض الغتر وبعض الثياب الخاصة بي على البساط والوسادة، واضطجعت بعد تردد شديد وجسمي يكاد يقفز من على السرير ولكن لشدة التعب وعدم النوم في ذلك اليوم الطويل أغاثني الله بالنوم فكان كما قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} أي راحة.(18/274)
وبعد زمن غير قصير نسبياً سمعت طرقاًَ بالباب ففتحت فإذا الصديق والزميل قد جاءا فنظرت إلى الساعة فإذا هي الثالثة صباحا، فسألت أهذه المدة كلها كنتما في بحث عن الطعام فذكرا أنهما ركبا قطارا وذهبا إلى مكان بعيد فيه شخص يبيع الطعام الحلال، وكان عبارة عن خبز محشو باللحم (سندوتش) فأكلنا ونام صديقنا معنا بدلاً من مطالبته الملحة قبل ذلك بمرافقته لننام في منزله، لأن منزله بعيد عن المدينة ولم يبق على الفجر إلا قليل.
واتضح لنا بعد ذلك أن أهل الفندق مع موظفي الخطوط السعودية الذين هم مسئولون عن علاقات الركاب وهم فلسطينيون وغيرهم يكونون شركة خداع وغش لأمثالي ممن لا خبرة له بالبلاد، وأن المغنم يقسم بين الجميع.
لا عودة بعد اليوم إن شاء الله:
وفي صباح يوم الاثنين الموافق 21/ 7 حزمنا حقائبنا ونزلنا إلى إدارة الفندق لنحاسبه ونودع الفندق إلى غير رجعة إن شاء الله، وفي الإدارة اتفقنا على الاتصال بالحاج أحمد بابا السوداني هاتفياً إذ كان اسمه ضمن الأسماء التي سجلناها مع رقم هاتفه، وهو في أنديانا بلس، وكان الاتصال تقريبا في الساعة التاسعة، فلم نجد الحاج وإنما أجابتنا زوجته وذكرت أنه مسافر وكان أهل أنديانا لا زالوا نائمين في الليل، فذكرنا لها أننا سنصل إلى نيويورك غداً الثلاثاء ولا نعرف هناك أحداً ونحب أن يقابلنا أحد الأصدقاء فقالت إنها ستعمل جهدها هي ولقد وفت بوعدها كما سيأتي الكلام عند وصولنا إلى نيويورك.
واتفقنا على أن نتجول هذا اليوم في لندن لنزور بعض المراكز الإسلامية، فقال لنا أخونا محمد أشرف: نذهب أولاً إلى محطة القطار الرئيسية لإيداع الأثاث هناك، ثم إلى الأماكن التي تريدون زيارتها.
إلى أين يجري الناس ولماذا؟(18/275)
فذهبنا إلى المحطة المذكورة ونزلنا في الطوابق السفلى لنرى عالم الذر الكبار يموج في كل اتجاه. لقد رأينا الناس يجرون جرياً غير عادي. عندنا كل طائفة تيمم جهة وبعضهم يقف ويتأمل في كتابات الجدران ثم ينطلق مهرولا، فقلت في نفسي لعل حربا عالميا قامت، أو حرائق نشبت، ولكن رأيت صاحبنا محمد أشرف يعمل مثلهم يقف ويتأمل في كتابة الجدران ثم ينطلق ونحن مضطرون أن نتبعه وعرفنا بعد ذلك أن الناس منطلقون إلى أعمالهم وإذا لم يجروا فإن القطار يفوتهم- ويأتي قطار آخر ولكن بعد أن تمضي بعض الدقائق التي تعتبر فائتة من وقتهم، ويقف الناس في طوابير ليأخذوا تذاكر الركوب، ولكن ينتهي الطابور بسرعة دون ازدحام أو محاولة المتأخر أن يتقدم على من قبله كما هو الحال عندنا.
وهناك آلات خاصة لمن هو أكثر عجلة لا يريد الوقوف بالطابور يستطيع أن يرمي فيها قروشه المطلوبة ويضغط على الزر فتعطيه البطاقة ولكنها أغلى من البطاقة التي تؤخذ من البشر.
والسلالم صاعدة وهابطة بعشرات الناس تسعى بهم سعياً حثيثاً ولكنهم لا يكتفون بسرعة تلك السلالم فيجرون هم أيضا عليها إنهم يسابقونها لأنها بطيئة في نظرهم وذلك من أجل أن يدركوا ما هو أسرع منها وهو القطار، ولا يقف على درجات تلك السلالم إلا العجزة ومن لا ارتباط لهم بالوقت وكنا من هذا الصنف الأخير وكنت أخشى في أول الأمر أن تلحق إحدى السلالم الأخرى فتطحن رجلي ولكن الله سلم.
زحام وهدوء:
وكل تلك الجموع الكثيرة وتلك الحركات السريعة والهدوء يسود الناس والنظام يسير معهم، لا تسمع صوتا ولا ضوضاء، بل لا يلتفت أحد لأحد ولا يسأل أحد أحدا، وإنما يسيرون على حسب التعليمات المكتوبة على اللوحات في الجدران.(18/276)
وذهب بنا محمد أشرف إلى مكان إيداع الأثاث لقاء أجر قليل من القروش وأخذ بطاقة استلام بذلك. ثم نزلنا فوقفنا لحظات جاء بعده القطار فركبنا. وأخذت أنظر إلى الناس فإذا هو ما بين قارئ في جريدة أو كتاب أو متحفز للنزول في المحطة القادمة. وهناك أماكن في القطار يحظر فيها التدخين وأخرى يباح فيها، كل راكب يستطيع أن يكون في المكان الذي يناسبه.
إلى دار الرعاية الاجتماعية:
وكنا متوجهين إلى زيارة دار الرعاية الاجتماعية في لندن فخرجنا من أنفاق القطار من الطوابق السفلى إلى ظهر الأرض فوقفنا لحظات، فإذا الحافلة ذات الطابقين واقفة فركبناها ونزلنا في المكان الذي يظن أن المقر قريب منه فدلنا بعض أهل الحارة على منزل فطرقنا بابه فخرجت امرأة سورية محتشمة تخاطب زميلي وصديقي باللغة الإنجليزية فلما رأتني ألبس اللباس العربي انطلقت عقدة لسانها ورحبت بنا فسألنا عن المسئول عن الدار فقالت: إن هذا المنزل تابع لها (أي للدار) ولكن فيه تعليم بعض الأطفال وأشارت لنا إلى مكان الدار في الجهة التي أتينا منها فرجعنا أدراجنا نلتمس الدار، فإذا أنا أرى مكتبة تجارية تحتوي على كتب عربية كثيرة فقلت للأخوين ندخل هذه المكتبة لعلنا نجد من يدلنا على الدار، فدخلنا وسألنا مدير المكتبة فقال إنكم الآن في الدار. فتفضلوا على الرحب والسعة.(18/277)
واتصل بالأخ المسئول عن الدار فجاءنا فورا، وكان على خلق فاضل وسمت المسلم الفاضل- ولا أزكي على الله أحدا - فتعرف علينا ورحب بنا وطلب منا أن نبقى حتى نتناول طعام الغداء فاعتذرنا لضيق وقتنا وقد وعدنا بعض الجهات بالزيارة، فتوضأنا وصلينا معهم الظهر وشربنا الشاي، ثم تجولنا في المكتبة التي تحتوي على كتب إسلامية كثيرة، ومنها كتيبات صغيرة للأطفال والمبتدئين في اللغة العربية، وأشرطة لتعليم اللغة الإنجليزية، ومصاحف مسجلة في أشرطة ويشتمل المركز على مسجد وبجانبه دورة مياه كاملة للوضوء، وقاعة لبعض الألعاب الرياضية الخفيفة ومكان للاستقبال، ويفد إليهم بعض الطلبة المغتربين للصلاة معهم والمذاكرة والقراءة وهم يقومون بمجهود يشكرون عليه على رغم قلة الإمكانات.
بعد ذلك ودعناهم وذهبنا إلى منطقة (وستئند) ذات المباني القديمة، المزدحمة بالسكان والسائحين الأجانب والمشهورة بالمراقص والمسارح ودور السينما والفساد الذي لا ينبغي وصفه بالتفصيل.
تائهون لفقدهم ذكر الله:(18/278)
وقبل وصولنا إلى المنطقة المذكورة وجدنا في طريقنا طائفة من البشر مختلطة من الرجال والنساء لا يعرف الفرق بينهم إلا بلحا الرجال أطلقوا شعورهم ولبسوا ملابس رثة، وتبدو القذارة على ثيابهم والحسرة على وجوههم، وهم يحملون أدوات الموسيقى ويوقعون عليها ويضربون الدفوف ويرقصون ويغنون، وكنت لا أفهم من كلامهم إلا هوم هوم فسألت ماذا يريدون من ذكر المنزل فقيل لي إنهم يقولون في أغنيتهم كيف السبيل إلى عودتنا إلى منازلنا والناس مجتمعون حولهم، منهم من يسمع صامتاً، ومنهم من يضحك، ثم شرح لنا محمد أشرف حالهم، فقال: إن هؤلاء كانوا من أولاد الأغنياء ذوي الأموال الطائلة والقصور العالية والسيارات الفخمة تعبوا من عيشتهم المادية وخرجوا يلتمسون في الشوارع وعلى الأرصفة وفي الحدائق العامة وغيرها شيئاً يريحهم فلم يجدوا ذلك أيضا ويريدون أن يعودوا إلى البيوت ولكنهم قد جربوها فهم يسألون عن السبيل إلى بيوتهم مع وجود الطمأنينة والرضا فقلت لزميلي الدكتور- وهو الذي يترجم بيني وبين محمد أشرف قل له يدعوهم إلي فعندي بإذن الله السبيل الذي يعيدهم إلى منازلهم مع وجود الرضا والطمأنينة. وكنت جادا في ذلك ومتيقنا أنهم لو سمعوا مني شرح كلمة التوحيد وبعض ما تقتضيه من طاعة الله والصلة به لتحولوا من ضائعين إلى مرشدين ولكن أخانا محمد أشرف أجاب بأن هؤلاء وصلوا إلى درجة من القناعة التي لا تسمح لهم بأن يسمعوا من أحد من المجتمع أي نصيحة لأنهم لم يخرجوا إلى هذه الحال إلا بعد أن يئسوا من إصلاح هذا المجتمع وهم ذوو عنف فقد يضربون من يحثهم فحوقلت ودمعت عيناي حسرة على انحطاط المسلمين الذي خسر به العالم كما قال الأستاذ الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟، وبدأت أتأمل عنوان هذا الكتاب من جديد مع أني قد قرأت الكتاب مرارا وبدأت أشعر بعاطفة المؤلف وتخيلت أنه أسال دمع عينيه مع حبر قلمه عندما كتب هذا العنوان.
مستنقع اسن:(18/279)
واصلنا السير إلى منطقة (وستئند) فرأيناها فعلا تختلف عن الأماكن الأخرى التي مررنا بها في المدينة.
وكان أشرف يقرأ بعض الإعلانات المكتوبة على بعض المباني ويخبرنا بمعناها وأنها لا حظ من أن أسجلها هنا بقلمي وكان يقول لنا أن أموال الأثرياء في الشرق الأوسط تنفق بين هذه الجدران وأن هذا المكان من أهم الأماكن التي ينطلق منها تحطيم أخلاق المسلمين في كل مكان وأن اليهود هم الذين يسيطرون عليه، ولقد ضقنا ذرعا بالمناظر القذرة والمشكلة أني كنت أرتدي اللباس العربي، والعرب الساقطون معروفون بالتردد على هذا المكان، لذلك أشعرت الأخ محمد أشرف أننا في حاجة إلى الذهاب إلى المركز الإسلامي.
وفي هذا المكان القذر رأينا بعض المطاعم التي كتب عليها أنها تقدم الطعام الإسلامي فتعجبت وسألت أشرف أحقا هذا أم أنها مصيدة لمن بقي عندهم شيء من الصلاح يترددون على مثل هذا المطعم فتصطادهم حبائل الشيطان فأجاب أن هذا هو الصحيح.
المركز الثقافي الإسلامي:(18/280)
ثم ذهبنا إلى المركز الثقافي الإسلامي الذي يحتوي على مسجد كبير بطابقين: أحدهما للرجال والآخر للنساء، وبه دورات مياه واسعة ونظيفة ومجهزة، ومكتبة، وبه مكاتب إدارية. وتعجبنا عندما رأينا بعض الفتيات يعملن في مكاتب المركز الإسلامي فقيل لنا إنهن مسلمات بريطانيات ولابد لهن من عمل وعملهن في مكاتب المركز أولى من عملهن في أماكن أخرى، هكذا قيل وأرى أن مثل هؤلاء الفتيات إذا لم يوجد من يعيلهن شرعا أن تفتح لهن أبواب عمل أخرى ينفعن فيها أكثر مثل دار الحضانة لأبناء المسلمين وروضة أطفال وما شابه ذلك وهناك بقينا فترة ننتظر حتى جاء أخونا الكريم الدكتور سيد متولي الدرش إمام المسجد، وعندما رآنا رحب بنا وأدخلنا معه إلى مكتبه، وبدأنا التعارف كما زرنا الأخ مدير المركز الدكتور زكي بدوي وكانت الجلسة مع الأخ الدكتور سيد طويلة عرفنا من خلالها بعض أعمال المركز، والحقيقة أنها في نظري محدودة جداً على رغم أن منظر المسجد والمكاتب الإدارية يعطي انطباعا بأعمال أكثر، وذكر لنا الأخ سيد أن الجاليات الإسلامية في بريطانيا كثيرة وأعدادها كثيرة، وأنها في أمس الحاجة إلى مديد من العون لها بفتح مدارس لأبنائهم وبناء مساجد وأئمة ومدرسين ودعاة.
وذكر أن هناك من يقوم بشيء من الدعوة والتبليغ، كالباكستانيين الذين يبذلون جهودا طيبة، ولكنهم ليسوا على المستوى المطلوب في فهم المشكلات المعاصرة والأحزاب المعادية للإسلام وشبهاتها، وفي نفس الوقت عندهم تعصب للمذهب الحنفي ولا يتعاونون مع من يخالفهم في آرائهم وطلب منا الدكتور سيد أن نبلغ المسئولين في المملكة العربية السعودية أنه ينبغي أن تبذل جهودا أكثر في الدعوة إلى الله، ومن أهم وسائلها: المدارس والمدرسون والأئمة المزودون بالعلم والمربون على أساليب الدعوة، فوعدناهم بأننا سننقل ذلك.
جولة سريعة في بعض معالم لندن:(18/281)
بعد ذلك اتصل أخونا محمد أشرف حياة بأحد أصدقائه، المدعو شيهان حسين الذي يدير إحدى محطات القطار في لندن وأخبره بوجودنا، والظاهر أنه كان علم عني في الجملة بمصاهرتي الأخ أشرف فقال له شيهان: انتظروني سآتيكم بعد قليل، وجاءنا فعلا بسيارته، وأخذنا للتجول في بعض الأماكن المشهورة في لندن.
وكان مرورنا سريعا، وقد لا ننزل من السيارة في بعض الأماكن فمررنا بحديقة هايدبارك التي خصص جزء منها لحرية الكلمة والنقد، إذ يأتي إليه من يريد ويلقي ما يشاء من الكلام حتى يفرغ كل ما في جعبته دون أن يمس بأذى ولو كان كلامه في الملكة أو رئيس الوزراء أو أعضاء البرلمان أو غيرهم وليس له كل ذلك خارج هذا الجزء من الحديقة- وبالمناسبة فقد كان فندق لندن قريبا منها.
ثم ذهبنا إلى مبنى مجلس الوزراء وتجولنا حوله، وكذلك مباني البرلمان ثم مقر الملكة الذي لا يوجد في باب حائطه حراس، وإنما حارس أو حارسان في باب القصر والناس يحومون حوله ويصورون (والظاهر أنه لابد من حراس غير ظاهرين) وهناك وقفنا على جسر ووترلو.
ومررنا بالبرج الذي أقيم عليه تمثال نلسن تخليدا لذكراه وتحيط به تماثيل أخرى لبعض زعماء بريطانيا، كما تحيط به تماثيل الأسود، والمياه تتدفق من كل جانب.
ولا أدرى متى يسمع صوت المسلم الذي يحطم تلك التماثيل وهو يقول: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم عندما فتح مكة؟
إلى منزل أشرف:
وبعد جولة في شوارع لندن اصطحبنا الأخ محمد أشرف إلى منزله في مدينة لوتن- إحدى ضواحي لندن في الشمال منها- وتبعد عنها بثمانين كيلو مترا وكان قائدنا الأخ شيهان حسين الذي بلغت سرعة قيادته في بعض الأماكن أكثر من مائة وأربعين كيلو في الساعة.(18/282)
وهناك نزلنا ببيته الصغير ذي الطابقين: الطابق الأول فيه غرفة الاستقبال والمطبخ، والثاني فيه غرف النوم وبيت الماء والحمام وأخذ يقدم لنا أبناءه عمر وإخوانه وأخواته فسلموا علينا كأنهم يعرفوننا من قبل وتحلقوا حولنا فذكروني أنا وزميلي الدكتور بأبنائنا الذين تركناهم قبل يومين، وسنغيب عنهم أكثر من شهر، وكأن الأولاد أحسوا بعواطفنا فلم ينفضوا عنا، لاسيما عندما عرف الكبار منهم صلة الرحم والمصاهرة بيننا، وبدأنا المذاكرة مع الإخوة في أمور الإسلام ووجوب التمسك به وحفظ الأبناء من تيار الكفر الجارف، وأن العمر الحقيقي للمسلم هو الذي يقضيه في طاعة الله.
على من تقع المسئولية؟
فاعترف الإخوة بذلك، ولكنهم قالوا: نحن رجال أعمال لا نعرف الإسلام معرفة تمكننا من تعليم أبنائنا، وليس عندنا الأوقات الكافية لنكون معهم فلابد من مساعدة الجاليات الإسلامية هنا بالمدرسين وأئمة المساجد والكتب التي تشرح مبادئ الدين الإسلامي. ولابد من تكرار الزيارات لنا من العلماء لتذكيرنا ودلالتنا على ما يمكن القيام به، وإنا نحملكم المسئولية هذه لتنقلوها إلى المسئولين في المملكة العربية السعودية التي لم تبق دولة في العالم مثلها في التمسك بالإسلام والدعوة إليه، وقد أغناها الله بالإمكانات التي تستطيع بها أن تغزو العالم كله بالإسلام، فوعدناهم بأننا سننقل رغبتهم ولكنهم يجب أن يعملوا شيئا بأنفسهم، وإن كان من الواجب مساعدتهم.
وقدم لنا أخونا طعام العشاء الذي أعد في المنزل، وهو يذهب على دراجته النارية إلى مكان بعيد لشراء اللحم الحلال الذي ذبحت دابته على الطريقة الإسلامية، فكنا نتناول طعاما لا نفرق بينه وبين طعام بيوتنا.(18/283)
وبعد مذاكرة ونقاش حول الأمور الإسلامية استأذن الأخ شيهان حسين ليعود إلى لندن ويدعنا ننام في بيت محمد أشرف، وكنا قد تعبنا في نهار ذلك المساء حيث كنا نجري كما يجري البريطانيون أو أقل قليلا وتنقلنا بالقطار لجهات متعددة ولم نذق النوم بعد أن صلينا الفجر، بل إننا في اليوم السابق كله لم ننم، وفي الليلة الماضية نمنا قليلا جدا لذلك كله كان نومنا عميقا طول الليل.
وداع الصغار:
وفي يوم الثلاثاء الموافق 22/ 7 نهضنا من النوم متأخرين فصلينا الفجر وكان قد أعد لنا طعام الإفطار فأفطرنا، ومر بنا أولاد محمد أشرف الصغار يودعوننا للذهاب إلى المدرسة.
من دخل بلادنا حمر:
وكأننا تأخرنا قليلاً عن موعد الحافلة التي تقف عند باب المنزل لتوصلنا إلى محطة القطار الدنيا، فخرج محمد أشرف يجري قبلنا ونحن نجري أيضا والناس يجرون من كل جانب رجالا ونساء وأطفالاً لإدراك الحافلة في شارع مجاور لمنزل أشرف. لقد ألفنا الجري مع البريطانيين، وإنها لعادة طيبة أن يحافظ الإنسان على وقته.
عمارة وخسارة:
ولكن هل ترى هؤلاء المهرولين للحفظ على أوقاتهم، حقا يحافظون على أوقاتهم؟
نعم: إنهم لا يفوتون أوقات الأعمال، ولا الأوقات المعدة للطعام، ولا الأوقات المعدة للنوم، ولا الأوقات المعدة للقراءة في غيرها، بل كل عمل يعطونه وقته، ولذلك ترى ثمارا جبارة مادية لأعمالهم ونكران ذلك يعتبر حماقة وظلما.(18/284)
ولكن القوم- وهذه حقيقة كسابقتها- بدون أعمار في نظر الإسلام لأن العمر الحقيقي هو الذي يفنى في طاعة الله- ومن طاعة الله تلك العمارة المادية الضخمة للدنيا، من شق شوارع وبناء جسور وتيسير مواصلات تحت الأرض وفوقها على ظهرها وفي أجواء السماء، وفي أعماق البحار ومن دقة في المواعيد، وسرعة في المعاملة، وغير ذلك مما يشهد به الواقع- ولكن هذه الأمور كلها لا تكون طاعة لله إلا على أساس الإيمان به وطاعته في أمره ونهيه، وإقامة العدل في الأرض، ومحبة الخير للبشرية ودعوتها إلى ما ينفعها أي الإسلام الكامل لله، وهذا ما يفقده القوم، لذلك أقول إنهم محافظون على أوقاتهم، ولكنهم ضيعوا أعمارهم.
لوعة الفراق:
وكان الأخ محمد أشرف يحس بلوعة الفراق لاقترابه، وكنا نرى ذلك على وجهه، وفعلا ودعنا وودعناه، وعيناه تغرورقان وأوصانا بالحذر على نقودنا وجوازاتنا وتذاكر سفرنا في الغرب لأنه يعج بالمجرمين فشكرناه على ذلك ودخلنا إلى البوابة، وكنا نظن أننا سنخرج إلى باحة المطار لتستقبلنا حافلة تنقلنا إلى الطائرة، ولكنا فوجئنا بوجودنا في مقدمة الطائرة والمضيفة تنظر في بطاقات الدخول وتشير إلى مقعدينا، فعرفنا أن الطائرة تقف بجانب ممر مصنوع بدل السلم لا يسمح للشمس أن تلفح الراكب ولا للمطر، -وهو هناك كثير- أن يبلله. ولعلنا نجدها قريبا في مطاراتنا.
دلتنا المضيفة على مقعدينا أنا وزميلي، وقد وضعوا بطاقة وراءنا بمقعدين أو ثلاثة كتب عليها: ممنوع التدخين، وفاء بالشرط الذي اشترطناه.
عناية المضيفين بالركاب:
وكان إقلاع الطائرة من مطار لندن الدولي في الساعة الثانية عشرة والدقيقة الثلاثين، وكان الاتجاه إلى الغرب مع ميل قليل إلى الجنوب، والرحلة كلها كانت فوق المحيط الأطلسي: (بحر الظلمات سابقا) .(18/285)
وبدأ المضيفون يقدمون للركاب الهدايا التذكارية وهي عبارة عن محفظة من البلاستيك بها قارورة عطر وجوارب متينة يلبسها الراكب بدلاً من النعلين لطول المسافة وأشياء أخرى وعندما بدأت أتصفح الجريدة فوجئت بأن زعيم اليمن الجنوبية سالم ربيع قد قتل وأن معارك تدور رحاها بين أعضاء الحزب الشيوعي الحاكم في عدن فذكرت بيت الشعر المشهور:
حقا وكل كاسر مكسور
حجج تهفات كالزجاج تخالها
وبدءوا يسألوننا بصفة خاصة عن الطعام الذي نريد، لأنا قد طلبنا من قبل طعاماً حلالاً، وأخذ زميلي يشرح ما نريد وما لا نريد والمضيفة تصغي وتفهم منه كلمات وتشكل عليها أخرى فتستفسر عنها إذا ظنت أنها فهمت منه ذهبت وجاء المضيف الآخر ليتأكد من صحة ما نقل ويؤكد اهتمامهم بتقديم ما نريد. وإنهم ليتفاهمون معنا وهم يستغربون من خوفنا وشكوكنا في أطعمتهم وأشربتهم وكنت أقول لزميلي أخبرهم أنا مسلمون وأن ديننا يحرم علينا ما فيه ضرر بأجسامنا أو عقولنا كالخنزير والخمر وكانوا إذا ذكر الإسلام أبدوا اهتماماً بنا وهزوا رؤوسهم تعجبا.
كرماء بالخمر بخلاء بالسكر:
وقدم الطعام، وجاء دور الشراب، فكانت قوارير الخمر وكؤوسها تحدث رنيناً والمضيفون والمضيفات يترددون على الزبائن كلما رأوا كأسا فارغة ملأوها لصاحبها ليشرب مرة أخرى وهم يقدمون للراكب أجود أنواع الخمر في مثل هذه الرحلات الطويلة، لا سيما ركاب الدرجة الأولى كما أنهم يسقونهم حتى لا تبقى بهم حاجة للسقي.(18/286)
أما نحن فقدموا لنا كوبي ماء وكوبي شاي، وانتهى الأمر فبقي المضيفون متضايقين من الحالة التي نحن عليها، وهي أن الركاب أخذوا حقوقهم وزيادة، أما نحن فشرابنا ماء وشاي فقط، فكانوا يترددون علينا ويقولون ماذا نفعل لكم، هل تحبون أن نعطيكم شيئا؟ فيجيب- زميلي ثنكيو، أي شكرا، وهنا وقعت نكتة بين الزميل وبين المضيف: الغربيون لا يكثرون من السكر في الشاي، وزميلي سوداني - أصلا- مصري - مهاجرا ومصاهرة، يحب أن يكون السكر كثيرا، فجاء المضيف بكوب الشاي ومعه علبة فيها أكياس السكر فأعطى الزميل كيسا فقال له: أعطني آخر فأعطاه فقال: وآخر فأعطاه، وما كان موجودا غير الآخر فأعطاه وقال له: المطعم قد أقفل فلا تطلب كيسا آخر، مع استغرابه لأخذ هذه الكمية الكبيرة في نظره لأنه لم يزر مصر ولا السودان كما يبدو.
إنعام وكفران:
وبعد تناول طعام الغداء وإكثار الركاب من الشرب أخذت الصيحات تتعالى والأصوات ترتفع فخشينا أن يقوم هؤلاء الناس كلهم يتضاربون فيما بينهم وقد لا نسلم منهم إذا غابت عقولهم ولكن الله صرفهم عنا فذهبوا إلى الدور الثاني وتركوا لنا المكان.
ثم أخذت المضيفة تنزل أغطية النوافذ لعرض فيلم الرحلة، وأنا من طبيعتي أحب أن أرى مناظر خلق الله على طبيعتها فأسرعت بقفل نصف النافذة الأعلى وأبقيت نصفها الأسفل وعندما مرت بقربى خشيت أن تحرمني تلك الفتحة فقلت لزميلي أخبرها أني أحب أن أتمتع بمنظر البحر والسحاب والجزر إن وجدت فأخبرها فتركتني وشأني.
البوصلة أخافت المضيف:
وكانت بيدي بوصلة أعرف بها الاتجاه وبها مفاتيح الزميل ورآها المضيف وأظنه من رجال الأمن، فلما رآني أنظر إليها بين آونة وأخرى شك في أمرها ولعله ظنها من المفرقعات الموقوتة فجاء إلى زميلي يسأله ما هذا الذي بيد رفيقك فأجابه الدكتور فاطمأن وسكت.(18/287)
وعندما بدأنا نقترب من مدينة نيويورك بدت بعض الجزر ذات الأشكال الهندسية العجيبة، وبدت بها مرتفعات ووديان وكانت كلها خضراء.
في مطار نيويورك:
وهبطت الطائرة في مطار نيويورك الدولي في الساعة السابعة والدقيقة الخامسة بتوقيت بريطانيا، فكانت مدة الطيران على المحيط الأطلسي ست ساعات وخمسا وثلاثين دقيقة، والفرق الزمني بين لندن ونيويورك خمس ساعات، إذ كانت الساعة في نيويورك وقت هبوط الطائرة الثانية والدقيقة الخامسة والثلاثين.
ودخلنا قاعة تسلم الأثاث فأخذنا أثاثنا ومررنا في صف بالجمرك الذي لم يمض عليه إلا قليلا وقد انتهى من التفتيش وكان يفتش أثاث الركاب بدقة ولكنه لم يفتح حقائبنا إلا الحقيبة اليدوية التي كانت بيد الزميل، ونظر في الجوازات فوجد البطاقة التي كتبت في الطائرة ثم خرجنا فوجدنا الأخ ضاحي الحكيم في انتظارنا وهو شاب فلسطيني يحمل الجنسية الأمريكية ويعمل نهارا وما كان يعرفنا ولا نعرفه. ولكن زوجة الحاج أحمد بابا السوداني التي اتصلنا بها من لندن يوم الاثنين 21/ 7 وهي في أنديانا قد اتصلت بصديقة لها في نيويورك وطلبت منها تكليف من يستقبلنا ممن يجيد اللغة العربية فجزاها الله خيرا على اهتمامها وكثر من النساء أمثالها، فإن وجود شخص من أهل البلد يدل النازل الجديد من أهم الأمور، وإذا تذكرنا فندق لندن عرفنا نعمة وجود الأخ ضاحي في استقبالنا.
وكان الأخ ضاحي قد حجز لنا حجرة.. في فندق تودر الذي يقع قرب مبنى هيئة الأمم المتحدة، وبعد أن نزلنا في الفندق ودعنا وأعطانا رقم هاتف منزله لنتصل به إذا دعت الحاجة، وفهمنا منه أن والده موظف في الأمم المتحدة وأن أخته إحدى الدليلات في هيئة الأمم المتحدة إلا أن أباه في جنيف.
في مكتب رابطة العالم الإسلامي:(18/288)
وفي يوم الأربعاء 23/ 7 اتصلنا بمكتب رابطة العالم الإسلامي في نيويورك فوجدنا شقيق الأخ مدير المكتب أحمد صقر وأخبرناه أننا في الفندق المذكور وأنا نريد زيارة المكتب ولكنا لا نعلمه فقال: إن المكتب قريب منكم جداً ولكن انتظروا دقائق في نفس الفندق، فانتظرنا خمس دقائق تقريباً فجاءنا وسلم علينا واصطحبنا معه إلى المكتب.
وهناك تم اللقاء بالأخ الدكتور عثمان أحمد الذي جلس معنا طويلا وشرح لنا أحوال المسلمين في أمريكا وذكر لنا بعض ما يقوم به المكتب من الأعمال في هيئة الأمم المتحدة، ومساعدة بعض المسلمين في الحدود المتاحة له، وأن المكتب في حاجة إلى دعم أكثر وصلاحيات أوسع، لأن المشاكل التي تتطلب الحلول للمسلمين في أمريكا كثيرة لا يفي بها المكتب ولا المراكز الإسلامية الأخرى بوضعها الحالي.
وضرب لنا أمثلة بالمسلمين الذين يدخلون السجون ويتصلون بالمكتب يطلبون العون، كما أن المشاكل الأسرية التي تحدث للمسلمين تستدعي تقديم بعض العون والمكتب لا يستطيع أن يقدم إلا في حدود ضيقة جدا بعد زمن طويل من الكتابات والمعاملات الرسمية.
وليت المسئولين عن المراكز الإسلامية يعلمون ما تقدمه المراكز المسيحية وغيرها من المعونات لأتباعهم ويتعظون بذلك وهم أهل الحق وغيرهم أهل الباطل.
في مبنى هيئة الأمم:
كما التقينا ببعض أعضاء المكتب وحصل التعارف بيننا وبينهم. واصطحبنا الأخ أحمد أسعد وهو من موظفي المكتب فلسطيني الأصل هاجر إلى أمريكا بعد معركة دير ياسين بعد أن ذاق البطش اليهودي في غياهب السجون وهو الآن أمريكي الجنسية، اصطحبنا إلى مبنى هيئة الأمم المتحدة، وهو بناء ضخم وبه مكتبة فيها كتب باللغات المختلفة وبها وثائق حكومية وثائق جماعات وأقليات ومشردين ولكن هذه الوثائق لا يمكن الإطلاع عليها إلا بترخيص وشروط.(18/289)
وعند مرورنا ببعض طوابق المبنى رأينا صورا لبعض زعماء العالم ومفكريه وفلاسفته، كما رأينا صورا للمشردين من الأقليات كالفلبينيين والإرتريين وغيرهم وتظهر في صورهم حالة البؤس والتشرد والجوع والعري والمرض يعلق هذه الصور هناك الجمعيات المضطهدة لاستجلاب العطف العالمي الوهمي الذي يضم هذا المبنى الكبير.
ومن الأماكن التي زرناها في هذا المبنى: مجلس الأمن الذي يتلاعب بأمن العالم ما عدا دول النقض. وهناك رأينا قاعة كبيرة ذات مدرجات وفي وسط صحن القاعة وضعت مقاعد الأعضاء الدائمين وتحيط بها مقاعد من أستطيع أن أسميهم بالمتفرجين من دول العالم.
فتأملت في القاعة قليلا لآخذ في نفسي صورة عن المكان الذي تدير منه دولتان العالم كله ويتلاعبان بأمنه واستقراره، ثم ذهبنا لنرى مجلس هيئة الأمم المتحدة فوجدنا في الباب الخارجي جنديا يعتذر لأن الهيئة مجتمعة في القاعة وأصر الأخ أحمد أسعد علينا لتناول وجبة الغذاء في مطعم المبنى فتناولنا الطعام وعدنا إلى المكتب.(18/290)
وكنا قبل أن يذهب إلى مبنى هيئة الأمم المتحدة عرفنا أن الأخ الشيخ أحمد شيت الرفاعي النيجيري الذي تخرج في الجامعة الإسلامية قبل ثلاث سنوات موجود في نيويورك يدعو إلى الله على نفقة رابطة العالم الإسلامي ويعمل مع البلاليين فاتصلنا به في الهاتف وعندما عرف أن الذي يكلمه عبد الله القادري صاح بأعلى صوته قائلاَ الله أكبر ووعد بسرعة المجيء إلى المكتب، وعندما عدنا إلى المكتب وجدناه ينتظرنا وهنا شرح لنا الأخ الدكتور عثمان أحمد قضية المرأة النيجيرية المسلمة الأصل والتي اضطرت للزواج برجل مسيحي في أمريكا لعدم وجود معيل لها وجهلها بدينها، وأن زوجها أصطحبها معه للعمل في بعض الشركات الأمريكية في أفريقيا وأنجبت له أربعة أولاد، وأنها اتصلت ببعض علماء المسلمين وعندما عرف أنها كانت مسلمة الأصل ذكرها بأهمية دينها ووجوب رجوعها إليه والحرص على أن يكون أبناؤها مسلمين بدلاً من تنصيرهم.
وهنا بدأ النزاع بينها وبين الزوج وبعض أهله، إذ كان يطلب منها أن تأخذ أولادها كل يوم أحد إلى الكنيسة، وهي تأبى وتصر على دينها وعلى جعل أبنائها مسلمين، ثم اضطرت للهرب إلى أمريكا بأولادها، لأنها تحمل الجنسية الأمريكية، وهو يهدد بجعل الأولاد نصارى بالتعاون مع بعض أهله.
وأن المرأة تستصرخ ضمائر المسلمين في الجامعات الإسلامية لتخصيص منح دراسية لأبنائها حتى ينجوا من دنس العقيدة النصرانية الفاسدة.
وقد وعدت الأخ عثمان أحمد أن أنقل للجامعات في المملكة هذا الأمر وأسعى في إنقاذ هؤلاء الأولاد، إضافة إلى السعي في مساعدتها مادياً من بعض أهل الخير، إذ أنها الآن تعاني من ضغط النصارى عليها بلقمة عيشها.(18/291)
كما رأيت امرأة تحمل طفلها تطلب المساعدة بقيمة تذاكر سفر لها ولابنها لتسافر إلى زوجها الذي يواصل دراسته في السودان على منحه - لعلها في جامعة أم درمان الإسلامية - وقال لي الأخ عثمان أحمد: إن مشاكل المسلمين هنا لا حدَ لها، وهم يلجأون إلى المراكز الإسلامية باسم الإسلام يطلبون المساعدة، كما يلجأ المسيحيون إلى المراكز المسيحية إلا أن المراكز المسيحية عندها من إمكانات المساعدة المادية ما لا يوجد عند المراكز الإسلامية أقل نسبة منه ولذلك نقع في حرج، فلم يسعني إلا أن أحوقل، لأني لا أقدر أنا أن أعمل شيئا أيضا.
جولة في مدينة نيويورك:
بعد ذلك اصطحبنا الأخ أحمد الرفاعي في سيارته للتعرف على بعض مناطق نيويورك، وأنى لنا أن نمر بمثل هذه المدينة الكبيرة التي تعتبر العاصمة التجارية للولايات المتحدة الأمريكية، ونحن لم يبق أمامنا إلا مساء هذا اليوم في هذه المدينة.
في عمارة:
ولكن الأخ أحمد اختار لنا زيارة ثلاثة أماكن: مكان سياحي تجاري عالمي مشهور، وهو العمارة العالية الثانية في الارتفاع التي تبلغ طوابقها اثنين ومائة طابق، فذهبنا إليها واشترينا التذاكر اللازمة للصعود، وهنا رأينا مئات من الناس صاعدين وهابطين، والمصعد الواحد يتسع لما لا يقل عن خمسين شخصاً وهو في غاية من السرعة، فصعدنا إلى أعلى العمارة هذه وأخذنا ننظر من كل جانب إلى أنحاء مدينة نيويورك، وكنا نرى الناس، والناس هناك ذو أجسام ضخمة مثل البهم أولاد الغنم الصغار أو أصغر، ولكن المصيبة كانت في قوة الهواء الذي كاد يأخذ الملابس الساترة، فما بالك بغيرها؟.
في حي هارلم:(18/292)
ثم نزلنا لنذهب إلى المكان الثاني الذي اختاره لنا الأخ أحمد ألا وهو (هارلم) التي يسكنها الزنوج فقط. وكانت مباني هذه المنطقة مساكن لليهود وملكاً لهم، ولكنهم غادروها عندما جاء مشروع إسكان الزنوج فيها. لماذا اختار لنا الأخ أحمد هذه المنطقة بعد أن كنا في منطقة تجارية وسكنية راقية، يرى بريق عماراتها ولمعانها وهي في غاية من النظافة والنظام والهدوء على رغم كثرة الناس بها. إنه أراد أن يرينا كيف يعيش هؤلاء السود المساكين في مدينة نيويورك فماذا رأينا؟ لقد رأينا بيوتا محطمة النوافذ والأبواب، قد اشتعلت فيها الحرائق ورأينا الزنوج وهم يتسكعون في الشوارع مثل المجانين منهم السكران ومنهم الشبيه بالسكران.
رأينا أناسا لا أظن أن يجد السائح أشباههم في أدغال أفريقيا من البؤس والحرمان والشقاء، إنهم يتجمعون على أبواب البارات ويتراقصون وهم قيام أو قعود، ومنهم من يضرب الدفوف المكسرة ويرقص عليها.
ولا أستطيع أن أصف ما رأيت إلا بالبؤس والجهل والحرمان، ولقد كان الأخ أحمد لا يقف بسيارته إلا ريثما يتحرك، لأن المنطقة منطقة إجرام وكان يخشى علينا من أجل لباسنا.
عندئذ قلت: هل حقا أنا في أمريكا؟ هل حقا أنا في نيويورك؟ هل حقا أنا بجانب مكرفون كارتر المنادي بحقوق الإنسان في العالم؟، هل حقا أنا بقرب هيئة الأمم المتحدة التي كنت في مبناها صباحا؟ كل تلك الأسئلة دارت بخاطري وأنا أعبر تلك الشوارع المخيفة.
منبع الإجرام:
ألا إنها منطقة إجرام مشهورة فعلا، ولكن إجرام من؟ أهو إجرام السود؟ أم أن الأصل هو الإجرام الأبيض الذي يقتل الإنسان وينادي بحقوقه؟
لقد شبهت إجرام السود وإجرام البيض بالتشبيهين التاليين:
إجرام البيض هو بحيرة من الأقذار: عذرة الناس وأبوالهم، وإجرام السود على الرغم أنهم هم المباشرون - ريح ينقل تلك الروائح إلى أنوف الناس، فأي الإجرامين أشد عند أولي الألباب؟.(18/293)
قارن:
ثم مر بنا الأخ أحمد ونحن في طريقنا إلى منزله في منطقة سكنية سماها لنا، ولكني لم أحفظ اسمها، ذات عمارات متناسقة وشوارع غاية في التنظيم وهدوء عجيب، وهي تبعد قليلا عن منطقة الزنوج وذكر أن هذه المنطقة يسكنها الأغنياء والأسر الراقية وعلق الأخ أحمد على ذلك فقال: قارنوا بين هذه المنطقة وبين منطقة (هارلم) ، وهذه المنطقة لا توجد بها بارات. أما منطقة (هارلم) فإن أغلب عماراتها المتهدمة توجد بها بارات. وهل خلق هؤلاء المساكين عند الرجل الأبيض الذي أفني عمره للدعوة إلى حقوق الإنسان لغير البارات والتسكع؟
كل شيء هناك بالدولار حتى الأمن وموقف السيارة:
وصلنا إلى جانب العمارة التي يسكنها الأخ أحمد فإذا هو يخرج مفتاحا ويدخله في قفل بجانب الجدار، وهو في سيارته فانفتح باب كبير أمامه يبعد عن موقع السيارة بمقدار عشرة أمتار فسألنا: ما هذا؟ فأجاب هذه مظلة السيارات لسكان العمارة يدفع صاحب السيارة أربعين دولارا ويستلم مفتاحا يدخل سيارته ويخرجها متى شاء حفظا لها من الشمس ومن الثلج أيام الشتاء وكذلك من السرقة وبعد دخوله ينغلق الباب بنفسه. وهكذا..
دخلنا منزله وصلينا المغرب وتحدثنا معه قليلا وسألناه عن مدى كفاية راتبه له فقال:
المنزل أجرته ثلاثمائة دولار والهاتف والكهرباء تكلف تقريبا مائة دولار وموقف السيارة يكلف أربعين دولار، ومواقفها في الشوارع كما رأيتم والذي رأيناه أن المواقف في الشوارع كلها بالأجرة فوقوف السيارة ساعة بثلاثة دولارات وقد تزيد وقد تنقص حسب المكان. ولا يجد موقفا لسيارته بدون أجرة، وهذا قد يفسر جزءا من الرأسمالية.
مقارنة مخجلة:(18/294)
وقفنا خمس دقائق تقريبا ولا يزال نفسنا في شدته من الجري فإذا الحافلة تقف بجانبنا فصعدنا وأخذنا مقاعدنا، وإنهم على سرعتهم تلك لا تجدهم يتزاحمون مطلقا في جميع معاملاتهم فالأول يأخذ مكانه ولا يتقدم عليه أحد، وهكذا الذي يليه دون أن يمس اللاحق السابق، أو يكلمه كلمة واحدة، بخلاف الحال عندنا فإنك تجد العدد القليل يتزاحم ويدفع كل واحد الآخر ويكذب بأنه أسبق من غيره، لذلك تجد الصف الطويل في بلاد الغرب ينتهي بسرعة مذهلة، وترى أقل من ذلك بكثير في الشرق يضيعون وقتهم في التدافع والخصام وتحطيم أبواب الحافلات والكذب.
سارت الحافلة، وأخونا أحمد سعد يشرح لنا بعض المعالم على يمين الطريق وشمالها: هذا مصنع كذا، وهذا مبنى كذا، وهذا مرقص، وهذا بار، والأرض كلها خضراء ما عدا الطريق والحيوانات تنتشر في المزارع.
محطات القطار:
وعندما وصلت الحافلة إلى المحطة أخذ الناس في الخروج منها والدخول إلى محطة القطار مسرعين، فما هي إلا لحظات حتى قطعنا التذاكر ووقفنا على جانب خط القطار، فإذا هو مقبل يجر عرباته الكثيرة فوقف ودخل الناس من كل باب وكل واحد أخذ مكانه، إن شاء أن يرتاح من رائحة التدخين فلكارهي التدخين أجنحة أخرى وهكذا نجد مواصلات الغرب في القطار وفي الطائرة وفي الباخرة وفي السيارة يخصصون أماكن منها لغير المدخنين. إنهم يحترمون - على الأقل- المال الذي قدمته من أجل راحتك فعيب عليهم أن يقلبوا لك ظهر المجن فيزعجوك.
في قاعات المطار إلى نيويورك:(18/295)
وصلنا إلى المحطة الرئيسية للقطار التي كنا بالأمس أودعنا فيها حقائبنا فاستلمنا الحقائب بمجرد إبراز البطاقة، وذهبنا إلى المطار إلى الشركة التي تم الحجز فيها من المدينة المنورة قبل سفرنا بأسابيع فضغطت الموظفة على زر آلتها فأعطتها المعلومات الكافية عنا فأخذوا العفش، والعفش لا يوزن في جميع دول الغرب إلا إذا كان كثيراً للشحن. وذهبنا نتجول في أسواق المطار فاشترينا بطاقات تذكارية وكتبنا رسائل بها إلى الأولاد، ثم ذهبنا نلتمس لعلنا نجد بعض الصحف العربية لنتابع أخبار اليمن الشمالية التي اغتيل رئيسها يوم سفرنا من المدينة إلى جدة يوم السبت الموافق 19/ 7. فلمحت جريدة عربية، فأخذتها دون أن أنظر إلى عناوينها لأننا كنا على وشك التوجه إلى بوابة خروجنا.
ذكر أن التأمين الصحي له مبلغ، والتأمين على السيارة إجباري هذا عدا الطوري والنفقات اليومية والملابس والمحروقات الخاصة بالسيارة، والغلاء هناك فاحش جداً.
شكوى متكررة جديرة بالاهتمام:
وعندئذ بث الأخ أحمد ما عنده فشكا من الدين وعدم كفاية الراتب الذي يتسلمه من الرابطة، مع العلم أنه في بعض الأوقات يتأخر كثيراً عن موعده فيزيد الطين بله، وهذه الشكوى تكررت من جميع الإخوان الذين تعاقدت معهم رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، ورابطة العالم الإسلامي لا سيما الذين عندهم عوائل.(18/296)
وقد ضمنت ذلك التقرير الذي قدمته للجامعة عند رجوعي من هذه الرحلة، وإن من أهم ما يجب أن تعمله المؤسسات الإسلامية المسئولة سواء كانت في المملكة العربية السعودية أو غيرها كوزارة الأوقاف الكويتية أن تعيد النظر في رواتب الذين تتعاقد معهم وتبعثهم إلى بلدان الغرب أو اليابان لغلاء المعيشة هناك، ولا ينبغي أن يظهر الداعية المسلم بمظهر المستجدي حالاً، وإن لم يكن مستجديا بقوله، فالمبشرون يمنحون من الإمكانيات المادية ما لا يكفي راتب الداعي المسلم لعشر معشار راتب الفرد من المبشرين. وأيهما أحق بالإكرام والظهور بمظهر الغني عن الناس دعاة الحق أم دعاة الباطل؟ ألا هل بلغت؟
صوتك مسموع وحركتك منظورة وأنت في داخل منزلك:
وعند خروجنا من منزل الأخ أحمد اطلعنا على سر غلاء أجرة منزله فقال إن الساكنين هنا يتمتعون بالهدوء والحراسة الكاملة وأرانا صفة الحراسة.
الحارس يقعد في مكان خاص خارج العمارة داخل سورها وأمامه تليفزيون، وهو يرى على الشاشة كل سكان العمارة في داخل شققهم كيف؟ ركبت كاميرات في كل شقة، وهي تنقل الصورة إلى الحارس باستمرار والحارس مسلح، إذا ارتاب في شقة من الشقق عمل ما يجب عليه، فقلت للأخ أحمد: معنى هذا أنه يكشف عليكم في كل وقت، وأنتم عندكم عوائل فكيف تعملون؟
فأجاب أن في استطاعة صاحب كل شقة أن يغطي الكمرة التي في شقته فلا يستطيع الحارس أن يرى شيئا في الشقة.
واستطرد الأخ أحمد في موضوع الراتب فقال: إن السفير النيجيري عرض علي وظيفة في هيئة الأمم المتحدة براتب يكفيني ويزيد ويكون إيجار البيت والهاتف ومحروقات السيارة والتأمين الصحي وتذاكر السفر إلى البلاد كل ذلك على حسابهم، وزارني في البيت وألح علي كثيرا ولكني رفضت، لأني لا أريد أن أترك مجالا فضلته منذ بدأت أطلب العلم، وهو مجال الدعوة إلى الله.(18/297)
أوصلنا الأخ أحمد إلى الفندق وودعنا على أن يعود إلينا صباح يوم الخميس الذي سنسافر فيه إلى أنديانا.
إلى المطار ثم إلى أنديانا بلس:
رتبنا أثاثنا ونمنا إلى الصباح، وبعد صلاة الفجر بقليل جاءنا الأخ أحمد فأنزلنا الأثاث وحاسبنا إدارة الفندق وسرنا إلى مطار نيويورك- مطار داخلي- عندما وصلنا إلى الباب الخارجي في المطار وجدنا من يتسلم منا الأثاث ويعطينا البطاقات ولم ندخل إلى موظفي الخطوط إلا بحقائب اليد.
وأخذ الموظف المختص التذكرة وعمل اللازم وناولنا بطاقة الدخول، وتجولنا قليلا في أسواق المطار. وكان زميلي الدكتور مغرما بمناظر كل بلد وهي متوافرة في المطارات، وغرامه بذلك انتقل إلي أيضا بحكم المجاورة، كما يقول علماء النحو، فاشترى لنا صورا مناظر نيويورك (إلى انديانا) وصعدنا بعد ذلك إلى الطائرة التي أقلعت صباحاً وكانت مدة الطيران ساعتين تقريبا بين نيويورك وأنديانا بلس. وكنت أنظر خلال زمن الطيران إلى الأرض، فلا أرى بقعة غبراء لا فرق بين جبال ووديان وسهول ومرتفعات. كل الأرض خضراء وبين كل مسافة وأخرى أرى قرية ذات شوارع منظمة وأرى أنهاراً جارية. فقلت: سبحان الذي فتح لهم أبواب الرزق، وسبحان الحليم الذي فتح لعباده هذه الأبواب وهم يجاهرونه بالمعصية في العقيدة والسلوك والشريعة.
في مطار أنديانا أمر غريب ولكن بعذر:
وعندما وصلنا إلى مطار أنديانا بلس كنا نتوقع أن نجد من يستقبلنا مباشرة عند نزولنا، لأن سفرنا أصلا إلى هذه المدينة من أجل المؤتمر وقد جاءت برقية خاصة من بعض المسئولين عن المؤتمر طلب فيها رقم الرحلة وزمن الوصول من أجل استقبالنا وأجيبوا على ذلك رسمياً من الجامعة الإسلامية برقيا وتم الاتصال بهم من لندن من دار الرعاية الاجتماعية هاتفيا.(18/298)
فلم نكن نتوقع أن ننزل ولا نجد من يستقبلنا، فلما استلمنا الأثاث وأخذنا نلتفت هنا وهناك ولم نر أحداً انتظرنا ما يزيد عن ساعة إلا ربعاً، ثم اتصل الزميل بالهاتف فقيل له الذي يستقبلكم في الطريق وجاء فعلاً أحد شباب أعضاء اتحاد الطلبة المسلمين (وفيق العطار) حيث اصطحبنا إلى فندق في شمال غرب المدينة يسمى: رمادا.
صلاة الجمعة وافتتاح المؤتمر:
بقينا في الفندق بقية يوم الخميس وليلة الجمعة ويومها إلى قبيل صلاة الجمعة حيث جاءنا الدكتور منذر قحف ليصطحبنا لصلاة الجمعة، ويعتذر عن تأخرهم في استقبالنا بالمطار والفندق لأنهم في حالة إعداد للمؤتمر ولا يوجد أحد متفرغ للاستقبال لقلتهم.
كانوا قد فرشوا قاعة كبيرة في أسفل إحدى العمارات للصلاة فيها، كما استأجروا بعض قاعات كلية مجاورة للأْعمال الخاصة بالمؤتمر. خطب وصلى بنا الجمعة رئيس اتحاد الطلبة المسلمين، وهو طالب سوداني، وكانت الخطبة باللغة الإنجليزية، وبدأت أشعر بالضيق لجلوسي في مكان عبادة أسمع كلاماً لا أفهمه، وهو عبادة يجب الإنصات له، إلا أنني كنت أتخيل معاني الخطبة عندما يذكر الخطيب بعض الأعلام الإسلامية، من أشخاص وأماكن، كذكره: غار حراء وشعب أبى طالب وآل ياسر والحبشة ثم المدينة فعرفت أن الخطبة كانت تدور حول الدعوة ومحنة الدعاة وصبرهم ونجاحهم في النهاية.(18/299)
وبعد الانتهاء من صلاة الجمعة ذهبنا إلى قاعة الاجتماعات العامة لافتتاح المؤتمر، فبدأ بتلاوة بعض آي القران الكريم. ثم كلمه الدكتور التيجاني عبد الرحمن أبو جديري السوداني الذي يعتبر من كبار أعضاء الاتحاد، بل كان يرأسه رسميا قبل ذلك ولا زال له حركته الفعالة في الاتحاد، ثم كلمة للدكتور منذر قحف الذي هو رئيس المؤتمر وقد انتخب مرة أخرى لرئاسته، وهو الذي تلا على الحاضرين منهاج سير المؤتمر وأسماء المتحدثين وعناوين البحوث التي ستلقى ملخصاتها. ثم دعينا لتناول طعام الغداء، وبعده رجعنا لمواصلة الاستماع إلى البحوث والمناقشات، وقد أسعفوني بمترجم، بعد أن هددت مداعباً بترك القاعة والعودة إلى الفندق لعدم استفادتي. فجلس بجانبي الأخ عمر الصوباني، وهو طالب أردني يحضر الماجستير في ولاية ديترويت، فكنت أتمتع بسماع الكلمات المقتضبة منه لسرعة تلاوة البحوث.
أما زميلي الذي كان يعتبر قائد السفر في اللغة فكان يجاهد ليدرك بعض المعاني بسماعه لنفسه، وليس في إمكانه أن ينقلها إلى غيره، لأنه إذا بدأ يترجم كلمة فسيفوت عليه ربع البحث، فتركته يجاهد لنفسه.
استمر الاجتماع والمناقشة إلى صلاة المغرب حيث ذهبنا لأداء الصلاة ثم رجعنا مرة أخرى لمواصلة العمل إلى أن صلينا العشاء، وتناولنا طعام العشاء وبعد ذلك سمح لنا بالعودة بعد جلسات طويلة لا سيما إذا تذكرنا طول النهار هناك الذي لا يقل عن خمسة عشرة ساعة في تلك الفترة.
وفي يوم السبت 26/ 7/ 98 بدأ الاجتماع من الساعة الثامنة صباحا واستمر إلى الساعة الثانية بعد الظهر تقريبا، ثم استؤنفت في الساعة الرابعة واستمر إلى الساعة العاشرة مساء، وهكذا كل يوم الأحد 27/ 7/ 98 الذي تم فيه اختتام الجلسات، قبل قراءة التوصيات والقرارات إلا أنه تم فيه انتخاب رئيس المؤتمر ومساعده..(18/300)
وكنت من خلال الترجمة التي تعاقب عليها أربعة أشخاص أجد بعض المطبات التي أحتاج إلى الاستفسار والسؤال فيها، وكلما وجدت مطباً طلبت إزالته من الطريق. وهكذا.
مفتاح قفل البشرية الشهادتان:
وفي ختام المؤتمر طلبت فرصة لإلقاء كلمة ولم يسمح لي إلا بخمس دقائق، وكنت آسفا على هذا الضغط الشديد للوقت الذي سمح لي فيه بالكلام، فقد صبرت ثلاثة أيام متوالية على سماع كلام لا أفهم منه إلا النتف التي يلقى المترجم إلى كلماتها ثم يحال بيني وبين ثلاثين دقيقة على أكثر تقدير؟
ولكني استعنت بالله تعالى ووجهت للحاضرين كلمتي وخلاصتها أن جميع العلوم لو طوعت في إصلاح الإنسان الفرد والأسرة والمجتمع لا يسعها أن تصل إلى تلك الغاية ما لم يكن الإصلاح الأول بكلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه الإصلاح بهذه الكلمة يجعل الإنسان عبدا وحده، ولا يتلقى إلا من رسوله صلى الله عليه وسلم فيكون صلاحه نابعا من داخل نفسه والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
ولذلكَ يجب أن يكون علم الاجتماع وعلم النفس وغيرها من العلوم التي يراد بها إصلاح الإنسان، وهي ما تسمى بالعلوم الإنسانية، أن تكون كلها مستمدة من هذا الأصل الأصيل ثم مقتضياته التي فصلها الكتاب والسنة وإلا فإننا سنبقى نحاول عبثاً إصلاح هذا الإنسان كما هو حاله الآن.
مع الطلبة المبتعثين:(18/301)
وكنا خلال هذه الأيام التي قضيناها في المؤتمر بأنديانا نلتقي ببعض الطلبة المسلمين الصالحين من المملكة العربية السعودية وغيرها فنجد فيهم روح الشباب المسلم الغيور على دينه المحب لتقدم بلاده على أساس الإسلام الذي لا تقدم لأي بلد بدونه، وإن ظهرت بعض الثمار لجهود مادية بذلها الناس في بعض الشعوب، فإن ذلك في الحقيقة ليس تقدما إلا في ميزان الإنسان الذي خرج عن فطرته التي فطره الله عليها لما يشاهد من ويلات وآثار سيئة في حياة هذه الشعوب التي تسمى المتقدمة، وليس الخبر كالعيان كما يقال.
لقد كان هؤلاء الطلاب يبثون شكواهم من حالة أكثر زملائهم الذين ابتعثوا لتلقي العلوم النافعة ليعودوا إلى بلادهم روادا متفانين في رفع مستواها العمراني- مادية ومعنوية- ولكنهم ذابوا في المجتمع الغربي وخلعوا ثياب شخصية الآباء والأجداد وانغمسوا في الشهوات والملذات القذرة ففقدوا شخصية المسلم المعتز بدينه وعقيدته ولم يصلوا إلى شخصية الغربي المبدعة في العلوم المادية، بل تسيبوا وأصبحوا وصمة عار على بلادهم، ومنهم من جمع مع ذلك الانخراط في صفوف منظمات الحادية أو ماسونية أو قومية حاقدة على الإسلام والمسلمين.
وطلب منا هؤلاء الأخوة الغيورون أن ننقل هذه الشكوى إلى من يعنيهم الأمر في هذه البلاد التي لم يبق للمسلمين أمل واضح إلا فيها وهكذا تكررت شكوى الصالحين في كل مدينة زرناها في الولايات المتحدة.
لسعات عقارب منفرة ولدغات ثعابين قاتلة:(18/302)
وإنني لأتساءل، كما يتساءل غيري: ماذا سيكون مصير بلدان المسلمين عندما يتربع على كراسي إداراتها ذوو أدمغة أفرغت من كل معاني الإسلام التي بفقدها يصير الفرد أجنبياً عن بلاده وبني قومه وشحنت بمعاني أخرى غير إسلامية تكسب الفرد عداء لدينه فيعود وقد وضع لنفسه أو وضع له أساتذته الذين أفرغوا دماغه وملؤه منهاجا يقضي به على كل مظهر للإسلام، ويحقق به أهداف الكفر وأوليائه أقول: ماذا سيكون غير الويلات والمصائب التي حدثت فعلا في كل شعوب العالم الإسلامي العربية منها وغير العربية إلا ما شاء الله.
أليست الانقلابات العسكرية التي لم تهدأ في تلك الدول نتيجة لهذا الجيش الذي رباه الغرب على ما يريد؟
أليس المسخ التعليمي في بلدان المسلمين نتيجة للمناهج الجاهزة التي نقلها هؤلاء من بيئة غير بيئتهم وقسروا أبناء شعوبهم قسراً عليها، وهو لم تفصل على قدهم؟
أليس وبال أجهزة الإعلام الذي هد أركان العقيدة من قلوب المسلمين وأوقعهم في شباك المسخ الخلقي والفكري من آثار مسخ شبابنا الذي رباه الغرب؟
أليس فقدان الغيرة على الدين والعرض والوطن ثمرة من ثمار فقد العقيدة والأخلاق الإسلامية في نفوس شبابنا الذين أخرجهم لنا الغرب؟ أليس التناحر السياسي والقلق النفسي والتنافر الاجتماعي من عطاء شبابنا الذي وجهه أساتذة الغرب؟
ألا إن في ارتداد كثير من زعماء الشعوب الإسلامية ممن طعنوا في القران الكريم والسنة النبوية وسخروا من رسول الإسلام ودين الإسلام لعبرة لمن أراد أن يعتبر.
عبر لم نتعظ بها:(18/303)
وإن في عدن والصومال وأفغانستان وغيرها لعظة لمن أراد أن يتعظ ولا أريد أن أطيل في ضرب الأمثال، ولكن أريد أن أقول: لقد ارتفعت أصوات حداة الخير منذرة بهذا الخطر في أول أمره، ولقد ارتفع صوت العبد الضعيف قبل سبع أو ثماني سنوات مع تلك الأصوات وإذا لم يسمع العقلاء تلك الأصوات فسيسمعون غيرها ويندمون يوم لا ينفع الندم.
وسأعود لهذا الموضوع مرة أخرى، إن شاء الله، عند الحديث على النتائج في نهاية هذا البحث.
آمال وأعمال:
وفي يوم الاثنين 28/ 7/ 1398 هـ اصطحبنا بعض أعضاء اتحاد الطلبة المسلمين في أنديانا، وعلى رأسهم الأخ الدكتور محمود رشدان إلى المزرعة التي اشتراها الاتحاد لإقامة مشاريعه فيها، وهي تتكون من مائة وعشرين فداناً، كما قال الأخ محمود، وبها بعض المرافق التي تستعمل مؤقتا ريثما يتيسر لهم تعميرها حسب المخطط النهائي.
فيها مكاتب إدارية وغرف نوم تستعمل لضيوف الاتحاد من أعضائه ومن غيرهم ومطابخ، وقاعات للاجتماعات، ومسجد تؤدى فيه الصلاة وهي مفروشة ومؤثثة تأثيثاً طيباً.
وبها أيضا مستودع للكتب المتنوعة باللغة العربية والإنجليزية، وبها موظفون يستقبلون الكتب التي ترد للاتحاد من أمريكا ومن خارجها من بعض الدول العربية عن طريق المؤسسات الإسلامية، ويرتبونها كما يعدون الكتب التي تبعث إلى أنحاء العالم- الولايات المتحدة، ودول أوربا وأفريقيا وغيرها في طرود، ويكتبون عليها العناوين وهكذا ...
وتنقسم هذه الكتب إلى قسمين: قسم يأتي للاتحاد منحة من بعض المؤسسات الإسلامية، وهذه توزع بدون مقابل، وكتب يشتريها الاتحاد، وهذه تباع بثمن رمزي، وقد يوزعون بعضها لبعض المستحقين بدون مقابل.(18/304)
وتحيط الأشجار بالمزرعة من كل جانب، بل إن في ناحية منها غابة كثيفة، وبحيرة من الماء المتجمع من مسايل الأمطار وذكر الأخ محمود أنه يوجد بها الصيد، وقد بلغ مقدار قيمتها نصف مليون دولار. وإنها لفي غاية الرخص.
بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه:
ويعمل في المزرعة أحد المزارعين الأمريكيين على طريقة المزارعة الإسلامية بنسبة معينة من الغلة، وكانت عندئذ مزروعة بالذرة. وفي باب المزرعة رأينا اللافتة التي كتب عليها اسم الاتحاد قد كسر عمودها الذي نصبت عليه، فسألنا الأخ محمود عن السبب فأفاد أن بعض النصارى المتعصبين من الجيران يضايقونهم بعض المضايقات وأنهم قدموا شكوى في المحكمة يبدون تضررهم من شراء الاتحاد لهذه الحديقة بحجة أنهم لم يشتروها لمجرد إقامة شعائر دينية، وإنما للتجارة، قال الأخ محمود: وقد كسبنا الجولة الأولى في المحكمة وسنكسب الثانية إن شاء الله. والحق دائماً دامغ للباطل يقهر العقول قهرا على الإقرار به والحكم به- ولو في داخل النفس إذا كان صاحبها متبعا لهواه. وتحدث الأخ محمود عن بعض المشاريع التي ينوون إقامتها على هذه الأرض، فذكر أنهم سيبنون عليها مسجدا كبيرا وقاعة محاضرات ومدرسة تكون نواة لكلية إسلامية (كلية شريعة) تجمع المدرسة بين الدراسات الإسلامية والمواد المطلوبة في مدارس الولايات المتحدة الأمريكية حتى يتمكن الطالب من حمل مؤهل للجامعات الأمريكية.
كما ذكر أن جميع المكاتب الإدارية للاتحاد سيضمها مجمع واحد، وستبنى بها مكتبة تضم الكتب الإسلامية باللغات المختلفة، كما ستبنى منازل لأسر المتفرغين للعمل، ومنازل لأسر الضيوف من أعضاء الاتحاد وغيرهم.(18/305)
وذكر الأخ محمود مشاريع غيرها كثيرة، وأرانا مخططها الهندسي وإنها في الحقيقة لآمال إسلامية طموحة تستوجب الشكر لهؤلاء الفتية الذين أقاموا ولا يزالون يقيمون مشاريع إسلامية بجودهم الخاصة واشتراكاتهم التي يقتطعونها من أرزاقهم من أجل الدعوة إلى الله وتقتضي أن يبذل أغنياء الأمة الإسلامية من حكومات وشعوب الإعانة المادية لهؤلاء الذين رأينا نفعهم في كل مكان حللنا به.
اتق الله يا رجل:
وكان معنا في هذا اليوم الدكتور محمد عبد الرؤوف، رئيس المركز الإسلامي في واشنطن الذي كان حضر المؤتمر، وكذلك الأخ عمر الصوباني الأردني الذي يحضر الدكتوراه في ولاية ديترويت، وقد جرى بينهما نقاش حول موضوع استعمال بعض المسلمين للقاعات التابعة للمساجد للاحتفالات التي تقام في الأعياد، أو للزواج أو غير ذلك من المناسبات، فكان الأخ عمر ينتقد ذلك انتقادا شديداً ويقول: إن المساجد لم تبن إلا لذكر الله واستعمالها في هذه الأمور يعتبر معصية لا تليق ببيوت الله.
ولم يرق هذا الرأي للدكتور فبدأ يناقش أن ذلك لا شيء فيه، ويستدل بعمل الأحباش في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن الأخ عمر اشتد في نقاشه وقال له: اتق الله يا رجل إن هؤلاء الذين يعملون الاحتفالات الآن يرتكبون فيها معاصي بعري النساء واختلاطهن مع الرجال والرقص واستعمال أدوات الموسيقى والدفوف وغير ذلك من الفحش وكان الدكتور لطيفاً في نقاشه لكبر سنه واهتزاز موقفه بالنسبة لموقف الأخ عمر.
متابعة مريبة:
كما كان يلازمنا أحد المسيحيين الذي حضر أيضا المؤتمر وكان يتصنت لكل كلمة تقال، غير أن الكلام انقلب إلى اللغة العربية التي لا أظنه يفهمها، والرجل متهم بأنه يهودي يتستر بالنصرانية وهو يدرس الأديان في إحدى كليات اللاهوت، وإن وجهه لوجه متجهم للإسلام والمسلمين، وإن كان يحاول أن يظهر بغير ذلك، ولكن حسبنا الله ونعم الوكيل.(18/306)
شاب أمريكي مسلم طموح:
وكان من ضمن المشتركين معنا شاب أمريكي لا يتجاوز عمره الخامسة والعشرين، في تقديري اسمه عثمان لو لن يحضر رسالة الماجستير في جامعة بنسلفانيا، لا أذكر عنوان رسالته الآن، ولكن موضوعها يدور حول مقاصد الشريعة الإسلامية في التخطيط المعماري أي كيفية بناء العمارة الإسلامية الشرعية، والشوارع وغير ذلك والأخ عثمان شاب مسلم متحمس يتكلم باللغة العربية، وإن كان ذلك بصعوبة، ويكتب بها أيضاً وقد قرأ بعض الكتب الإسلامية المهمة مثل كتاب الموافقات للشاطبي وكتاب إعلام الموقعين لابن القيم وغيرهما كثير، وهو يفهم فهماً جيداً إلا أنه يبدو عليه نوع من التكلف الذي يدفعه إلى الاستشهاد بنصوص إسلامية من الكتاب والسنة ومن أقوال العلماء قد لا تكون في محلها، لذلك ناقشته كثيراً حتى فهمت مراده ونصحته بألا يقحم نصاً من النصوص في أي موضوع إلا بعد فهمه فهما جيدا أنه في محله، وهو في الحقيقة طالب علم يريد الحق، ولذلك لم يتردد في قبول نصيحتي..
وعندما سألت الأخ عثمان عن أسرته وموقفها من الإسلام أجاب أنه يحاول بجد إقناع أبويه بالدخول في الإسلام، وأنهما راضيان عن إسلامه ولكنهما لا يحبان الالتزام بأحكام الإسلام.
العقول المهاجرة:
تناولنا بعد ذلك طعام الغداء وعاد بنا الأخ محمود إلى الفندق وفي يوم الثلاثاء 29/ 7/ 1398 هـ كنا على موعد مع الطبيب الباكستاني المسلم الذي يحمل الجنسية الأمريكية، إنه من العقول المهاجرة، (شهيد أطهر) من أجل الكشف الطبي العام، نقلنا إلى المستشفى الأخ السوداني عز الدين يوسف علي وهو طبيب أيضاً ضويق في بلاده فهاجر إلى بلاد الكفر التي تتلهف لاقتناص أي إنسان نافع، بخلاف كثير من بلدان العالم الإسلامي. وقد ذكر لي الأخ عز الدين أنه قد تم تعاقده مع جامعة الرياض ليكون مدرساً في كلية التربية: الطب النفساني.(18/307)
وكان الكشف عند الدكتور شاملا لتحليل الدم والكشف على القلب، ثم حولني إلى الأشعة للكشف العام، وكنت قد تناولت طعام الإفطار الذي لم يكن في ذلك اليوم ضعيفاً كالمعتاد، فطلب مني أن أعود غدا الأربعاء صائماً ففعلت- المقصود بالصوم هنا الصوم اللغوي- إلا أنه تم الكشف على الأعصاب.
وفي يوم الأربعاء30/ 7/ 98 نقلنا الأخ السوداني عوض عثمان بسيارته إلى المستشفى لأن الأخ عز الدين يوسف الطبيب الذي نقلنا بالأمس كان على موعد لدخول المستشفى لإجراء عملية جراحية خفيفة (وقد اتصلنا به من ديترويت وفهمنا أن العملية كانت ناجحة فحمدنا الله على شفائه) .
أتعبوني:
وبعد انتظار قليل نادت الممرضة المختصة في بعض أقسام الأشعة ذاكرة لقبي: قادري، ولكن بنطق لم يفهمه إلا زميلي الدكتور فقمت ودخلت غرفة صغيرة فخلعت ملابسي ولبست اللباس الرسمي الذي كدت أفر من المستشفى لنفوري منه، ولكني وقد وقعت لابد من إتمام المشوار، فعزمت على زميلي الدكتور أن يدخل معي بحجة أني لا أقدر على التفاهم مع هؤلاء الناس (وكان ذلك خوفاً من الخلوة بأجنبية) فكان لي ما أردت.
كنت أظن أن الزمن إذا طال بي هو ربع ساعة، وكان في أول الأمر ربع ساعة فعلا وظننت أن الأمر انتهى، ولكن الممرضة قالت لزميلي انتظر ربع ساعة خارج الحجرة، ثم عودا وعند تمام خمس عشرة دقيقة تماماً قبل أن نتحرك خرجت وتنادينا للدخول وهكذا تكرر الأمر لمدة لا تقل عن خمس ساعات، كانوا يطلبون مني أن أنقلب على جنبي الأيمن فيكشفون على الجنب الأيسر ثم العكس ويحركون الآلة فتقف وأقف أنا معها شئت أم أبيت، ثم يضغطون عليها لتنام فتنيمني معها كذلك وكانوا في كل مرة يطلبون مني أن أكتم أنفاسي فأكتمها حتى تكاد نفسي تخرج لولا أن الأجل لم ينته بعد، وهم يسرعون في إجراء الكشف فأستعيد نفسي.(18/308)
وكانوا يسقونني باستمرار سوائل ملونة مرة ملء كوب الشرب أشرب بنفسي الكوب، ومرة في كأس صغير بواسطة أنبوب صغير من البلاستيك مثل أنبوب شراب الليمون ونحوه، وكان مذاق تلك السوائل صعباً علي فكنت أشربه وأكاد أتقيأ، وزاد الطين بلَة أن بطني امتلأ فلم أقدر على أن أزيده ولكنهم صمموا على المزيد حتى أنقذني الله منهم فخرجت ولبست ثيابي وقلت للدكتور اذهب بنا قبل أن يتذكروا شيئاً فينادوننا مرة أخرى.
ومررنا بالطبيب الدكتور (شهيد أطهر) وأخبرنا ببعض النتائج الأولية من الكشف الذي حصل عنده، وكتب لنا بعض الأدوية، ووعد ببعث النتيجة النهائية إلينا في المدينة لذلك أخذ العنوان عنده.
ألا يعلم من خلق؟
وكنا ننتظر أن يعود إلينا الأخ عوض عثمان لنقلنا في سيارته ولكنه اضطر لمرافقة الأخ الدكتور مالك بدر رئيس قسم علم النفس بجامعة الخرطوم والذي كان من المشتركين في المؤتمر، وهو رجل متحمس للإسلام ومقبل على استخراج قواعد علم النفس من الكتاب والسنة، مقتنع بأن القرآن كله ما نزل إلا لإصلاح النفس الإنسانية، وكل من التمس إصلاح هذه النفس من خارج كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن مآله إلى الفشل لأن الخالق أعلم بخلقه وقد أنزل لهم ما يصلحهم. وقد نبهت الأخ مالكا إلى نهج ابن القيم رحمه الله في استخراج المعاني النفسية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. كان الأخ عوض يرافقه في بعض أسواق المدينة ولكنه لم يتركنا بدون أن يعمل على مساعدتنا لكوننا كنا في انتظاره، فأخبر بعض المسئولين عن الاتحاد فبعثوا لنا شابا لبنانياً لا يزيد عمره في الغالب عن سبع وعشرين سنة، واسمه ناظم محمد سعيد منقاره. نال شهادة الليسانس من الجامعة اللبنانية في بيروت، حاز الأولية في دفعته. كما نال الماجستير بامتياز في الفيزيا من إحدى الجامعات الأمريكية وشهادة الماجستير في الكمبيوتر أيضاً، وقدم رسالتين فيهما.(18/309)
وهو يعمل الآن مع اتحاد الطلبة المسلمين في الكومبيوتر وله زوجة لم يرض بخروجها للعمل، كما أنها كما يقول راضية ببقائها في البيت على الرغم من أن الجو هناك يدعو المرأة والرجل معا إلى الخروج ولا تبقى في المنزل إلا المرأة الشريفة، وعلى الرغم من أن عملها سيدر عليه دخلاً ماديا يساعده على العيش هناك للغلاء الفاحش في الأسعار وأجور المنازل والمحروقات وغيرها. ويبدو على الأخ ناظم الصلاح والحماس لدينه، ويشكو من سوء معاملة النصارى له في لبنان، حيث حرموه من الابتعاث مع أنه كان الأولى به لأنه الأول في دفعته، فقدموا عليه بعض زملائه النصارى الذين هم أقل درجات منه، وصدق الله العظيم القائل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} ومع ذلك فإننا نجد أكثر المسلمين يجاملون اليهود والنصارى وهم لا يجاملوننا إلا بألسنتهم في أوقات حاجتهم إلى المجاملة، كما قال الله تعالى: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} .
تسخير واستغلال:
ركبنا مع الأخ ناظم وبدأت أسأله أنا عن دراسته وبلده وعمله فذكر لي هذه المعلومات، وسألته عن الكومبيوتر الذي يعمل فيه الآن فذكر أنه يعمل فيه مهندساً هو وشاب آخر معه، وأن هذا الكومبيوتر يختزن الآن المعلومات كاملة عن اتحاد الطلبة المسلمين وأعضائه من الطلبة وغيرهم وكذلك معلومات عن زوارهم، وهو ميسر لهم الأعمال الإدارية.(18/310)
كما أن هناك مشروعاً لتزويده بمعلومات الحديث النبوي الشريف- الأمهات الست وغيرها بحيث يكون مستعداً لإعطاء أي معلومات تستدعى منه عن الحديث ورواته وتراجمهم باختصار ودرجة الحديث وهو الآن في دور التجارب، وهو يعمل بالحروف العربية والحروف الإنجليزية. وكان من ضمن الأماكن التي زرناها هو مقر الكومبيوتر المذكور الذي تلقى معلومات عن زيارتنا قبل الوصول إليه، وعندما وصلنا رحب بنا بأسمائنا ووظائفنا بالخط العربي الواضح، وأبدى استعداده للإجابة عن أسئلتنا في حدود طاقته فسألناه بعض الأسئلة التي أجاب عليها واعتذر عن بعضها لعدم توافر المعلومات عنده.
وإنه لمشروع يشكر عليه المسئولون في الاتحاد، وكان على الجامعات الإسلامية في العالم العربي أن تمنح الاتحاد بعالم من علماء الحديث على الأقل يساعدهم بخبرته في إعطاء المعلومات لهذه الآلة السريعة الفائدة والتي يجب ألا تعطى إلا معلومات صحيحة دقيقة من ذوي الخبرة والاختصاص.
كما أنه ينبغي للجامعات الإسلامية أن تحرص على استجلاب هذه الآلة على أوسع نطاق للاستفادة منها في الإدارة والعلوم الإسلامية على اختلاف تخصصاتها، وأن تبتعث بعض طلبتها الصالحين الذين تثق فيهم من الآن للتدرب والتخصص في هذا المجال، حتى لا تضطر إلى التعاقد مع من هب ودب رغماً عليها.
ألسنا أولى بعقولنا:
ولقد أبدى الأخ ناظم رغبته في الانتقال من أمريكا إلى بعض الدول العربية للعمل فيها، لا سيما المملكة العربية السعودية التي تهفو نفسه إلى الاستقرار فيها، ووعدته أن أبذل جهدي في الاتصال ببعض الجهات التي يمكنها الاستفادة منه للتعاقد معه، وقد تم الاتصال فعلا ببعض الجهات وأن العالم الإسلامي لأحق بهذه العقول الإسلامية المفيدة من أعداء الإسلام الذين يقتنصون عقول أبنائنا بكل الوسائل.(18/311)
تجول بنا الأخ ناظم في مدينة أنديانا بلس وفي بعض أسواقها دون أن ننزل من السيارة إلا قليلا لأن الوقت لا يتسع للتجول مشيا على الأقدام.
طاقة صامتة:
كما كنا على موعد مع الدكتور أحمد العسال الذي أعارته جامعة الرياض لاتحاد الطلبة المسلمين لمدة ستة أشهر وله نشاط مفيد جداً هناك والرجل يعمل في صمت ورزانة ويحاول جمع كلمة المسلمين ما استطاع إلى ذلك سبيلا، كنا على موعد معه لتناول طعام العشاء، كما تناولنا العشاء في الليلة السابقة في بيت الدكتور محمود رشدان، وصلنا إلى بيت الدكتور العسال وصلينا هناك المغرب والعشاء، وكان معنا الأخ الدكتور مالك بدر ذو النكات السودانية الطريفة التي كان يتحفنا بها كلما التقينا به وغيره من الأخوة.
ومن منزل الدكتور العسال تم اتصالنا بالأخ الشيخ عبد الغفور البركاني الذي يعمل في مدينة ديترويت الصناعية في صفوف العمال والجاليات الإسلامية ولا سيما العمال اليمنيين الذين يشكلون الكثرة هناك وهو مبتعث من الرئاسة العامة للبحوث والدعوة والإرشاد في المملكة، أخبرناه بموعد وصولنا غدا الخميس وطلبنا منه أن يحجز لنا في أحد الفنادق هناك.
نبذة عن اتحاد الطلبة المسلمين:
وقبل الانتقال إلى الكلام عن ديترويت رأيت أن ألخص تعريفاً باتحاد الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة وكندا ليكون القارئ على بصيرة ومعرفة بنشاط إخوانه في الله من أجل رفع كلمة الله:
- أسس الاتحاد نخبة من الطلبة المسلمين في عام 1383 هـ. وتزيد فروعه الآن على مائة وسبعين فرعا، ونشاطه يتركز في الجامعات لأهميتها وله نشاط في الجاليات الإسلامية.
- يضم الاتحاد في عضويته الطلاب والعلماء والمهندسين ويزيد عدد أعضائه على ستة آلاف عضو (كان هذا الإحصاء في رمضان سنة 1397 هـ) .(18/312)
الاتحاد مسجل لدى السلطات الرسمية في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، ويعتبر جمعية ثقافية علمية دينية وهو منظمة مستقلة عن أي هيئة أو حكومة أو حزب سياسي.
أهداف الاتحاد:
. إعانة وتنظيم الطلبة المسلمين ليسهل عليهم التحصيل العلمي الرفيع مقروناً بالعقيدة الصحيحة والخلق القويم وتهيئة الوسائل والبرامج التي تمكنهم من ممارسة شعائرهم الدينية والارتباط الوثيق بقضايا بلادهم والعمل الواعي على نصرتها.
. تعريف المجتمع الأمريكي بتعاليم الإسلام ودعوتهم إليه بالحكمة والموعظة الحسنة (وتصحيح مفاهيمهم عن الأمة الإسلامية والعربية) .
. تيسير تعليم الإسلام وممارسة تعاليمه للمسلمين الجدد وربطهم بعقيدة التوحيد وتجنبهم مواطن الانحراف والزلل في العقيدة والسلوك.
. تجهيز المكتبات والمؤسسات العلمية والجامعات بالمصادر الإسلامية حول العالم الإسلامي وقضاياه لتيسير مراجعتها على الباحث الأمريكي والطالب المسلم بحيث تكون بديلاً لكتب المستشرقين.
. إنشاء المؤسسات الإسلامية اللازمة لمستقبل المسلمين والإسلام في القارة الأمريكية كالمدارس والمعاهد ومخيمات الشباب وبيوت الطلبة والمستشفيات وغيرها.
. العمل على وحدة المسلمين في أمريكا الشمالية وزيادة التعارف والتآلف فيما بينهم.
. هذا وقد أنجز الاتحاد إنجازات طيبة ني حدود طاقته: كبيوت الطلبة ومخيمات الشباب.
أنشأ بعض المؤسسات المتخصصة النافعة:
1- كهيئة الوقف الإسلامي التي كان من نتائجها: مطابع الاتحاد ودور الثقافة والنشر، ومركز بيع الكتب الإسلامية، ومشروع استعمال الطاقة الشمسية، ومشروع الكشف عن الفطريات المرضية..
2- مركز التعليم الإسلامي.
3- الجمعيات العلمية المتخصصة: كجمعية الأطباء المسلمين، ورابطة علماء الاجتماعيات المسلمين، وجمعية العلماء والمهندسين المسلمين.(18/313)
4- الأمانة العامة الدائمة التي أسست سنة 1395 هـ وللاتحاد منجزات أخرى يستطيع القارئ أن يعود إلى الكتيب العربي الذي نشر باسم: اتحاد الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة وكندا والذي اقتطفت منه هذه النقاط.
أما إلى هؤلاء وإما أولئك:
والذي أود أن أختم به الكلام عن هذا الاتحاد وفروعه أن أنادي أغنياء الأمة الإسلامية أن يبذلوا من أموالهم ما يعينون به هؤلاء العاملين وغيرهم ممن يقومون بواجب ليس عليهم وحدهم بل هو واجبنا جميعاً، والذي لا يقدر أولاً يحاول المشاركة بنفسه وهو قادر على المشاركة بماله في سبيل الله ثم لا يشارك فليخف على نفسه من أن يكون فيه شيء من صفات غير المؤمنين.
إن هؤلاء القوم - اتحاد الطلبة المسلمين وغيرهم - ذوو اختصاصات علمية متنوعة، وذوو مقدرة إدارية وعمل دؤوب، في وسعهم أن يوسعوا دائرة دعوتهم إلى إنشاء مدارس وكليات ومساجد ومراكز متنوعة الأعمال، والذي ينقصهم المال ألا فلينتظر الأغنياء وبال غناهم الذي يبطر أكثرهم فينفقون أموالهم في غير طاعة الله، ونداء الواجب يدعوهم فلا يستجيبون.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] كلية اللغة التي كلفت عمادتها.(18/314)
الهجرة النبوية
دراسة وتحليل
لفضيلة الدكتور محمد السيد الوكيل: وكيل كلية الحديث الشريف
ليست الهجرة في عرف الدعاة والمصلحين وسيلة راحة، ولا حيلة للاستجمام من عناء طال صبرهم عليه، ولا هي فرصة للترويح عن النفس بالسير في الأرض، والإطلاع على عوالم جديدة لم تتح لهم فرصة الإطلاع عليها، ولكنها في الحقيقة عناء يضاف إلى عنائهم وجهد يتحملونه فوق طاقاتهم، ووحشة تضاف إلى ما هم فيه من غربة في بلادهم.
أليست الهجرة انتقالا من الوطن إلى أرض جديدة؟ ومن يضمن للمهاجر السعادة والأمن في تلك الأرض الجديدة؟ أليس في الهجرة مفارقة الأحباب والخلان؟ ومن يكفل للمهاجر من يعوضه عن أحبابه وخلانه في مهاجرة؟
أو ليس في الهجرة قلق للنفس بعد استقرارها، ووحشتها بعد أنسها؟ وأنى للمهاجر الاستقرار والأنس وهو غريب شريد؟.
إن حب الوطن غريزة فطر عليها كل مخلوق، ومفارقة الوطن تترك في النفس اضطرابا مهما كانت الغاية من مفارقته، والإنسان عندما يفارق وطنه على أمل العودة يعلل نفسه بسرعة الأيام، ويمنيها بأنس اللقاء بعد الفراق، أما إذا لم يكن أمل في العودة، وانقطعت آمال المهاجر في لقاء من فارق، وأصبح اللقاء أمنية عزيزة بعد أن كان حقيقة واقعة، فإن المهاجر يرى كل شيء بعين اليائس، ويسمع كل لحن بأذن الأصم، فهو لا يستلذ بعيش، ولا يهنأ براحة، ولا يأنس بجليس.
على أننا يجب أن نفرق بين التضحية والتغلب على نزعات النفس من أجل القيام بالواجب، وبين شعور الإنسان باللوعة وإحساسه بالألم عند القيام بعمل يخالف الفطرة، ويتعارض مع الجبلة.
وليس هذا الشعور وذلك الإحساس مما يلام عليه الإنسان لأنه جبلة خلق الإنسان بها، وإنما يلام عليه إذا أقعده عن واجب، وحال بينه وبين معالي الأمور.(18/315)
ولعل هذا الشعور هو الذي خالط نفس بلال بن رباح - رضي الله عنه - بعد هجرته إلى المدينة حينما كان ينظر إلى السماء ويقول: "لا شك أن سماء مكة أجمل من هذه السماء، وأن هواء مكة أنقى من هذا الهواء" [1] .
ويزداد حنينه إلى الوطن، فيضطجع في فناء البيت، ويرفع عقيرته قائلا بعد أن تفارقه الحمى:
بفخ وحولي إذخر وجليل
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
وهل يبدون لي شامة وطفيل [2]
وهل أردن يوما مياه مجنة
إن حب الوطن قد أدى ببلال أن يعود بخياله إلى مكة، وأن يشعر بحنين زائد إلى أحيائها التي تربى بينها، وقضى شبابه بين ربوعها، فتمنى أن يقضي فيها ولو ليلة، ويمتع ناظريه برؤية جبالها ونباتاتها.
ويعلم الرسول- صلى الله عليه وسلم- بذلك فلم يلم بلالا على ما قال، ولكنه يرق لحال المهاجرين، ويقدر عواطفهم، ويدعو الله- عز وجل- أن يثبتهم على هجرتهم وأن يحبب إليه المدينة كحبهم مكة أو أشد [3] .
أفبعد هذا يقول قائل إن الهجرة فرصة للراحة من عناء التعذيب، أو وسيلة ترويح عن المضطهدين؟
مكة البلد الأمين:
ولد الرسول في مكة، وقضى شبابه في ربوعها، وتزوج سيدة نسائها، وكان فيها محبوبا أثيرا، كل أهلها يقدره ويجله، ويرون فيه جميعا أنموذجا للشباب الطموح، حيث كان يترفع عن التافه من الأمور، ويربأ بنفسه عن سفسافها.
وكانت مكة تتميز عن قرى الجزيرة كلها بقدسية لم تطمع فيها قرى تفوقها جمالا وخصوبة، وتمتاز بنسيمها العليل، وحدائقها الغناء.
إن قرى الجزيرة مهما تفوقت في الخصائص المادية لن تبلغ مبلغ مكة في منزلتها الروحية، فقد اختارها الله - تبارك وتعالى- لتكون محل بيته العتيق، وجعلها حرما آمنا، ليس للإنسان فقط ولكن الإنسان والحيوان والطيور والنبات، ففي رحابها يأمن الخائف، وفي كنفها يأنس المستوحش، وبين جنبيها يجد الحائر السكينة.(18/316)
عرف العرب لأم القرى تلك المكانة فقدسوها، وأدركوا أنها لا يبغي فيها ظالم إلا قصمه الله فتجنبوا الظلم، عاش أهلها في ظل بيت الله آمنين في وقت كان الناس يتخطفون من حولهم وقد ذكرهم الله - عز وجل- بتلك النعمة فقال- جل من قائل-: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [4] .
ولما استحلت جرهم حرمة البيت، وأكلوا ما كان يهدى إليه، وظلموا فيه سلط الله عليهم خزاعة فقاتلوهم حتى أخرجوهم من مكة.
"وكانت مكة في الجاهلية لا يقر فيها ظلم ولا بغي، ولا يبغي فيها أحد إلا أخرجه الله منها، ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك مكانه، فيقال: ما سميت بكة إلا لأنها تبك أعناق الجبابرة إذا أحدثوا فيها" [5] .
وبلغ من احترام العرب لمكة أنهم كانوا لا يبنون بها بيتا إلى جوار بيت الله، وأنهم كانوا لا يبيتون فيها ولا يستحلون الجنابة بها تعظيما لشأنها [6] .
وظل هذا البلد الأمين يتمتع بتلك القدسية، لا يستحله إلا فاجر، وكان العرب يستحلون أحيانا الشهر الحرام، ولكنهم لا يستحلون مكة، وقد وجد بعضهم مخرجا من حرمة الأشهر الحرم بالنسيء، فكانوا يقدمون ويؤخرون ليواطئوا عدة ما حرم الله.
وقد رأينا في حرب الفجار أن هوازن قاتلت قريشا قتالا شديدا حتى إذا دخلت قريش الحرم أمسكت هوازن عنهم [7] ، وأنذرتهم الحرب بعكاظ من العام المقبل [8] .
ولم يرو لنا التاريخ أن أحدا انتهك حرمة البيت وأفلت من الهلاك في الدنيا قبل الآخرة، ولعل أبرهة كان أول المعتدين عليه بعد جرهم، وقد أثارت محاولة أبرهة حمية العرب فهبوا يدافعون عن البيت الحرام.
فخرج ذو نفر في قومه من أشراف اليمن وهزمهم أبرهة، وأخذ ذو نفر أسيرا، ثم تصدى له نفيل الخثعمي في قومه فتغلب عليهم أبرهة وأخذ نفيلا أسيرا، ولما رأت ثقيف قوة جيش أبرهة هادنته وأرسلت معه أبارغال ليدله على طريق مكة.(18/317)
واعتقد أبرهة أنه خالص لا محالة إلى البيت، فأرسل رجلا من جيشه فاستولى على أموال أهل مكة، وساقها إلى أبرهة، وزادت ثقة أبرهة في قدرته على تحقيق أمله، وتهيأ لدخول مكة، وعبأ جيشه ولكن الله كان له بالمرصاد.
لم يكن هناك من يحمي البيت فحماه الله، ولم تستطع قوة صد جيش أبرهة فسلط الله عليه من صده وأهلكه {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [9] .
وزادت تلك الحادثة من مكانة مكة في نفوس العرب إذ ثبت لهم بما ليس فيه ريب حفظ الله لبيته وإهلاكه من أراده بسوء، كان ذلك في الجاهلية قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأما بعد البعثة فقد حدث أن اعتدت بكر على خزاعة وألجأتهم إلى دخول الحرم ولم تحترم بكر حرمة البيت، وإن هابت اقتحامه بادئ الأمر، ونبهوا قائدهم نوفل ابن معاوية الديلي، وقالوا له: "يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك"، ولكن نوفل كان قد صمم على الأخذ بثأره، ولم يعبأ بتحذير قومه، وقال: "لا إله اليوم، إنكم تسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم فيه؟ " [10] .
وعلم رسول الله بما ارتكبت بكر من انتهاك حرمة البيت ونقض العهد والاعتداء على حلفائه الخزاعين فهب لإنقاذهم، وفتح مكة وأذل الله قريشا وحلفاءهم بكرا، ولكن الرسول منّ عليهم وأطلق سراحهم، فعرفوا بالطلقاء.
وفي سنة ثلاثمائة وسبع عشرة من الهجرة كانت فتنة القرامطة في مكة حيث سفكوا دماء الحجاج وعطلوا الشعائر واعتدوا على بيت الله الحرام، وانتزعوا الحجر الأسود وأخفوه اثنتين وعشرين سنة.
وصال أبو طاهر القرمطي وجال بفرسه حول الكعبة، وكان مخمورا على رواية بعض المؤرخين، واخذ يصيح:
يخلق الخلق وأفنيهم أنا [11]
أنالله وبالله أنا(18/318)
ويقول الإسفرائيني عن أبي طاهر سليمان بن الحسن القرمطي: "أنه قتل ثلاثة آلاف مسلم، وأخرج سبعمائة بكر من خدورهن، واقتلع الحجر" [12] .
فماذا كان مصير هذا المعتدي الأثيم، المنتهك لحرمات بيت الله؟ يقول الإسفرائيني: "في عام ثلاثمائة وثمانية عشر قصد سليمان بن الحسن بغداد، فلما بلغ هيت رمته امرأة من سطحها بلبنة فقتلته" [13] .
هذا الجبار الذي تحدى أهل مكة واستباح حرمة البيت تقتله امرأة ليكون أحقر قتيل، وأهون فقيد، وهكذا يدافع رب البيت عن بيته.
وعادت للبيت حرمته، وعاد الأمن إلى أهله، وعاش الناس في جواره آمنين لا يروعهم أحد، ولا يعتدي عليهم معتد قرابة ألف وثلاثة وثمانين عاما حتى روعتهم تلك الفتنة العمياء التي غامر بها شباب - أغلب ظني أنهم مخدوعون - لم يتبصروا الأمور، ولم يفكروا في العواقب، خدعتهم فكرة ظهور المهدي، فحسبوا أن هذا أوانه، فلووا أعناق الأحاديث ليا، ليخضعوها لهواهم، وينزلوها على رغبتهم.
ونسي هؤلاء أن المهدي سيكون بين يدي الساعة، وأنه هو المنقذ الذي سيلجأ إليه الناس، ويكرهونه على قبول البيعة، وليس هو الذي يطلب البيعة لنفسه، ونسوا كذلك أن المهدي لن يبايع بقهر السلاح، ونسوا فوق ذلكَ كله أن حرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة، وأن قطرة دم من مسلم تراق بغير حق أعظم جرما من أية جريمة مهما كانت.(18/319)
وإن الإنسان ليقف أمام تلك الفتنة مذعورا من هولها، حائرا من تدبيرها، على من ينحي باللائمة؟ أعلى هؤلاء الذين علموهم التزمت المقيت وأفهموهم أن الإسلام هو هذه الشكليات، ونفخوا في رؤوسهم أنهم العلماء وحدهم ومن سواهم يجب أن يتتلمذ على أيديهم ويتلقى عنهم، أم على هؤلاء الذين أهملوهم حتى استفحل أمرهم، وعظم خطرهم. إن الإسلام يحتم علينا أن نعلم هؤلاء وأمثالهم، وأن نقرع حججهم بحجج أقوى منها وأوضح، وأن نبين الحق إذا التبس على الناس، حتى يفيق الغافلون، ويهتدي الحائرون، ولو أننا سلكنا هذا السبيل لماتت الفتنة في مهدها، ولكفينا ويلاتها.
وإننا لنحمد الله - عز وجل- أن أعاد للبلد الأمين حرمته، ورد على أهله السكينة والاطمئنان، ووفق أولي الأمر لإعادة الأمور إلى نصابها فاللهم أصلحهم وأصلح بهم، وزدهم من فضلك توفيقا وتسديدا.
الهجرة سبيل الأنبياء:
الهجرة كما قلت سابقا ليست وسيلة للراحة، وإنما هي أسلوب من أساليب نشر الدعوة، وطريقة للمحافظة عليها من بغي الباغين وعدوان الطغاة، ولهذا كانت الهجرة سبيل الأنبياء من قبل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم- يرتادون فيها الأرض الخصبة التي تحتضن الدعوة، ويبحثون أثناءها عن البذور الطيبة الصالحة للإخصاب.
فإبراهيم - عليه السلام- أبو الأنبياء يدعو قومه إلى التوحيد الخالص والعقيدة الصحيحة فيتآمرون عليه، ويكيدون له، ويتعصبون ضد دعوته، فيترك بلده الذي ضاق به، ويودع أهله الذين تآمروا عليه، ويفر من كوثى في سواد الكوفة إلى حران ثم إلى الشام، والقرآن الكريم يقص علينا ذلك فيقول: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [14] .(18/320)
ولوط - عليه السلام- لما رأى أن النار لم تحرق عمه إبراهيم، وأنه خرج منها كأنه لم يدخلها آمن لإبراهيم، وصدقه فيما جاء به، وخرج معه مهاجرا {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [15] .
وموسى يتآمر عليه فرعون، ويضايقه في دينه، فيأمره الله أن يترك هذا البلد الذي لم يستطيع فيه تبليغ دعوته، وأن يهاجر بقومه إلى حيث يمكنه عبادة ربه وأداء رسالته، قال تعالى: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ} [16] .
لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أول من هاجر من الرسل، بل سبقه بالهجرة رسل كرام على الله، خرجوا بدينهم امتثالا لأمر الله - عز وجل- فسنوا بذلك الهجرة لمن أتى بعدهم من النبيين والمصلحين حتى لا يعتذر معتذر ببغي الباغين واضطهاد الظالمين، أو يقول قائل: كنت في أرض يسيطر عليها الطغاة ولم يسمحوا لنا بنشر الدعوة ولا بقول كلمة الحق، وحينئذ يكون السؤال {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا؟} [17] .
فماذا تكون الإجابة؟؟
ولقد ثبت بالتجربة أن الهجرة من أنجح الوسائل لنشر الدعوة، وأن الدعاة إلى الله متى ما هاجروا بدينهم مخلصين لله هجرتهم، لا يبغون من ورائها إلا إرضاء الله تبارك وتعالى يجري الله على أيديهم، فتنفتح لهم القلوب، ويجتمع عليهم الناس. فيؤازرون دعوتهم وينشرون عقيدتهم، ويوسع الله لهم في أرزاقهم، ويسبغ عليهم نعمته. {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأََرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [18] .
ذكريات:(18/321)
عاش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة ذلك البلد الأمين، قضى فيه طفولته وصباه، وشبابه وكهولته وشطرا كبيرا من شيخوخته، وله فيه ذكريات عزيزة يوم كان شابا يافعا، إن حرب الفجار تركت في نفسه رغبة في مقاومة الظلم والوقوف في وجهه، وإن حلف الفضول وما يتضمنه من مكارم الشيم وعظيم الأخلاق قد ملك عليه قلبه حتى أنه قال: "ولو دعيت به في الإسلام لأجبت".
ثم هذه المروج التي كان يخرج إليها يرعى فيها الغنم، لقد أصبحت جزءا من حياته لا يستطيع مفارقتها بسهولة، وإن ذكرى زواجه بالسيدة خديجة - رضي الله عنها - وما قضاه معها من أيام طويلة وجميلة لا تزال ماثلة أمام عينيه، يرى فيها سعادته بزوجه الرءوم، وأولاده الصغار الأبرياء.
وإنه - صلى الله عليه وسلم - ليذكر يوم اشتراكه في بناء الكعبة المشرفة، ويوم رضيه المتخاصمون حكما ينهي بقضائه ما نشب بينهم من نزاع.
إنه يتذكر كل هذا فيجد نفسه مشدودا إلى مكة برباط وثيق، ويذكر حب قومه له وإعجابهم به، وتسميتهم له بالصادق الأمين فترتاح نفسه، ويطمئن قلبه، ولكن ما بالهم الآن يتآمرون عليه، أو ليس هو هو؟ ما الذي حدث حتى يحاولوا قتله؟؟ ماذا جرى حتى يتربصوا به الدوائر؟
وتدور برأسه - صلى الله عليه وسلم- كلمة ورقة بن نوفل: "ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك"ويتذكر سؤاله له "أو مخرجي هم؟ "وهو أقرب إلى الاستنكار منه إلى الاستفهام، ويجيب ورقة إجابة الواثق المتأكد: "نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا" [19] .(18/322)
هذا هو السبب الحقيقي لتآمر قومه به، وثورتهم عليه، إنه جاءهم بالحق، ولكنهم يكرهون الحق الذي جاء به، وإنه ليدلهم على طريق الخلاص، ولكنهم يتمنون أن يمطروا بحجارة من السماء ولا تكون نجاتهم على يديه، لقد أعماهم الحقد، وغشي أبصارهم الحسد. ولم يعد يدور بخلدهم إلا التفكير في التخلص من محمد وما جاء به - صلى الله عليه وسلم-
المؤامرة:
ضاق القوم ذرعا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ووجدوا أنفسهم قد فشلوا في كل محاولاتهم، فشلت وسائل التعذيب والإرهاب، كما فشلت أساليب الخداع والإغراء، كذلكَ باءت حرب الإشاعات بخيبة الأمل.
ورأى المشركون بأعينهم انتشار الإسلام في كل مكان، وعلموا بما تم بين الرسول - صلى الله عليه وسلم- وأهل المدينة من البيعة على النصرة والإيمان، فأزعجتهم تلك الأخبار، وأقلق نفوسهم ما يتوقعون من انتصار التوحيد على الوثنية التي استماتوا في الدفاع عنها، وحز في نفوسهم أن يتغلب محمد - صلى الله عليه وسلم - عليهم بعد هذا العناد الطويل.
تواعد القوم أن يلتقوا في دار الندوة، وأن يطرحوا هذا الموضوع الذي شغل بالهم على بساط البحث، وعزموا على أن يتخذوا فيه قرارا حاسما مهما كلفهم ذلك.
لقد ماتت خديجة التي كانت تقف دونه بمنزلتها ومن يؤازرها من عشيرتها، ومات أبو طالب الذي كان يفديه ويدافع عنه، لم يعد هناك ما يحول بينهم وبين الإيقاع به فلماذا يترددون؟
وبدأت الجلسة بحماس لم تعرفه دار الندوة من قبل، إن المسألة في نظرهم مسألة كرامة، لقد سفه محمد عقولهم، وعاب آلهتهم، وعرض بآبائهم فماذا بقي لهم؟، إنهم إن لم ينتصروا لآلهتهم المهانة وعقولهم المسفهة وآبائهم المجرحين فلا خير في العيش، ولا فائدة في الحياة.
قال أحدهم في انفعال شديد: "أرى أن تحبسوا محمدا في الحديد، وتغلقوا عليه بابا، ثم تتربصوا به ما أصاب الشعراء من أشباهه".(18/323)
ورفض الاقتراح من غير مناقشة طويلة حيث لا يستحق المناقشة لأنهم يعتقدون أن أصحاب محمد لا تعجزهم فرصة يختلسونها ثم يطلقون فيها سراحه.
وقال آخر: "خير لكم من ذلك أن تنفوه من بلادكم، فإذا خرج عنا فلن نبالي أين ذهب ولا حيث وقع، وحينئذ نصلح أمرنا، وتعود إلينا ألفتنا كما كانت".
ولم يكن هذا الاقتراح خيرا من سالفه، فقد رفض لأول وهلة، لقد غاب عن صاحب الاقتراح أن خوفهم من خروجه أكثر من خوفهم من بقائه، ولم يفطن إلى أنه لو خرج من بينهم يكون خطره عليهم أشد، وتهديده لعقيدتهم أقوى حيث يستطيع أن يجمع من الاتباع ما يمكنه بهم أن يجتاح عليهم ديارهم، ويغلب عليها دونهم عندئذ قام أبو جهل وقال: "إن لي رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد"، وقال الحاضرون في لفهة: "هاته يا أبا الحكم"، قال أبو جهل: "أرى أن نأخذ من كل قبيلة شابا جليدا نسبيا وسيطا فينا ثم نعطي كل واحد منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فيرضوا منا بالعقل، فنعقله" [20] .
وفرح القوم برأي أبي جهل، وأيدوه من غير نظر ولا مناقشة، وكيف لا وهم لم يجتمعوا إلا ليتخلصوا من محمد. إن اقتراح أبي جهل هذا قد كشف عن قبح الاقتراحين السابقين وسخفهما بقدر ما كشف عن حمق صاحبيهما، لا شك أن حبس محمد في الحديد سيثير عاطفة بني هاشم إن لم يحرك عاطفة كثير من الناس الذين يرونه مكبلا بالحديد من غير جرم ولا جريرة، فيتعاطف معه كثير ممن لم تربطهم به عاطفة ولا قرابة. لأن تعاطف الناس مع المظلوم حقيقة لا يماري فيها أحد.(18/324)
كما أن نفيه من البلد سلاح رهيب يستطيع - صلى الله عليه وسلم - أن يستغله ضدهم فيألب عليهم القبائل، وهم جميعا على أتم استعداد ليستمعوا إليه لولا أن قريشا تحول بينهم وببن ذلكَ، فإذا ما خلا له الجو للالتقاء بهم في حرية من غير ضغط ولا تشويش لا شك أنه سيقنعهم فيكونون معه عليهم.
لهذا رأى الجميع في رأي أبى جهل الفرصة التي ينشدونها، فيجب ألا يضيعوها، وغادروا دار الندوة وقد أجمعوا أمرهم على تنفيذ اقتراح أبي جهل.
ومكروا ومكر الله:
أوحى الله إلى نبيه ما بيت القوم له، وأمره بالهجرة، وكان الطريق قد تمهد من قبل ببيعة الأنصار، وهجرة المسلمين إلى المدينة المنورة، وقد وجدوا فيها وطنا بدلا من وطنهم، وألفوا فيها أهلا خيرا من أهلهم، وعاشوا فيها آمنين على أرواحهم وإيمانهم.
وبدأ الرسول - صلى الله عليه وسلم- يواجه الموقف الجديد في ثبات لا يزعزعه التردد، وبحزم لا يوهنه اللين، وكان عليه أن يواجه كيدهم بكيد هو أنكى منه وأشد، وكان عليه أن يقابل تخطيطهم بتخطيط هو أدق منه وأتقن.
لقد خطط القوم وفكروا، وناقشوا الأمر وقلبوه على كل وجوهه ثم أجمعوا أمرهم على ما رأوه يحقق آمالهم، فهل يجوز أن يواجه الرسول - صلى الله عليه وسلم- هذا الاهتمام بالكسل، والتخطيط بالتواكل؟
كلا، لا بد أن يولي الأمر اهتماما أكثر من اهتمامهم، لأنه متعلق بعقيدته أولا، وبشخصه ثانيا، كما لا بد أن يواجه تخطيطهم بتخطيط يفسد عليهم حيلتهم، ويحبط كيدهم.
وإننا لنعجب غاية العجب إذا وقفنا على خطة الرسول - صلى الله عليه وسلم- التي واجه بها خطة القوم، وإن المحققين ليقفون مدهوشين من روعة تلك الخطة وإحكامها، ولن أتعرض لقصة الهجرة هنا إلا بالقدر الذي أستنبط منه العبرة، وأستخلص منه الدروس التي يحتاجها المسلم في طريقه الطويل الشاق إلى غايته السامية الغالية، فالقصة برمتها مسطورة في كتب السيرة والتاريخ.(18/325)
اجتمع شباب قريش وفتيانها في الليلة التي حددوها لتنفيذ المؤامرة، وأحدقوا ببيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- والسيوف في أيديهم تخطف الأبصار ببريقها، ويترقبون خروج رسول الله لينهشوه بتلك السيوف.
وكان على رسول الله أن يخرج من بين هذه الجموع المحتشدة المترقبة، وكان عليه كذلك أن يضللهم حتى لا يفطنوا لخروجه فيتبعوه، ويفسدوا عليه خطته، عندئذ أمر عليا -رضي الله عنه - أن ينام في مكانه، وأن يتغطى ببردة الحضرمي الأخضر، فامتثل علي لأمره، ونام في مكانه مضحيا بنفسه يفدي بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وضرب علي بذلك أروع أمثلة التضحية والفداء.
نام علي على فراش الرسول، ونظر المشركون من خصاصة الباب فاطمأنوا على سلامة خطتهم، وظلوا يتحينون فرصة خروجه ليضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل.
وهم الرسول - صلى الله عليه وسلم- بالخروج من بيته، وكانت لحظة جد خطره فالمشركون على باب الرسول وسيوفهم مشرعة في أيديهم كأنها الحيات تتلمظ لتنهش فريستها، وحانت لحظة الوداع، فودع الرسول عليا وطمأنه قائلا: "لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم" [21] وأوصاه أن يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس [22] .
وخرج رسول الله على القوم وهو يعلم مكانهم وما جاءوا من أجله ولكنه خرج وكله ثقة في الله - عز وجل- وفتح باب بيته ليجد فتيان قريش يغطون في نوم عميق، وكأنهم لم يناموا منذ زمن بعيد.
ماذا دهى القوم؟ لقد كانوا منذ لحظات يسمرون، وقد حضر معهم سادة قريش: أبو جهل، والحكم بن أبي العاص، وعقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، وأمية بن خلف، وربيعة بن الأسود، وطعيمة بن عدي، وأبو لهب، وأبي بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج [23] .
لقد حضر هؤلاء السادة ليشجعوا فتيان قريش على أداء مهمتهم وليتشفوا في رسول الله، ويمتعوا أبصارهم برؤية دمه الشريف وهو يهراق أمامهم، فما بالهم يغطون في هذا النوم العميق؟(18/326)
ولقد كان أبو جهل - لعنه الله - منذ لحظات يحدث القوم ساخرا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويقول: "إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن؛ وإن لم تفعلوا
كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها" [24] .
يا سبحان الله!! لقد سمع رسول الله ذلكَ من أبي جهل وهو في طريقه إلى الباب ليخرج، فأي مصيبة حلت بهم فصرفتهم عن غايتهم؟؟
إنها إحدى المعجزات، لقد أخذ الله أبصارهم، وضرب على قلوبهم حتى خرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يروه، وسخر من أبي جهل كما كان يسخر منه قبل لحظات، وقال: "نعم، قلت ذلك، وأنت أحدهم"، وأخذ حفنة من تراب فجعلها على رؤوسهم، وهو يتلو قوله تعالى: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ... فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [25] .
فلم يبق أحد منهم إلا قد وضع على رأسه ترابا [26] .
أي سخرية هذه؟ وأي احتقار للقوم؟ شباب أقوياء وسيوفهم في أيديهم، يخرج عليهم رسول الله وحيدا، ولكنه في رعاية الله، ويضع التراب على رؤوسهم متحديا تلكَ السيوف التي ذبلت في أيديهم كأنها أغصان فصلت عن شجرتها، فلم تغن عنهم شيئا.
ويمر بالقوم رجل فينبههم، فإذا التراب على رؤوسهم، والخزي يجلل وجوههم، وينظرون من خلال الباب فيرون النائم متسجيا بالبرد الحضرمي الأخضر فيقولون: "هذا محمد نائم على فراشه"، وظلوا في حصارهم ينتظرونه، حتى أصبحوا، فقام علي - رضي الله عنه- عن الفراش فقالوا: "قد صدقنا والله من حدثنا" [27] .
وخاب أمل القوم، وضل سعيهم، ألم يكن في هذا الحدث وحده واعظ لهم ينبههم إلى أن الرسول ممنوع منهم؟ وأنهم مهما دبروا فالله من ورائهم ولكن {رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [28] .(18/327)
إلا تنصروه فقد نصره الله:
خرج الرسول - صلى الله عليه وسلم- من بيته على النحو الذي ذكرت متوجها إلى بيت أبي بكر، وكان قد أخبره بالهجرة وبالموعد الذي سيغادران فيه مكة، وأمره أن يكتم عليه، ومن أوفى من أبي بكر بعهد قطعه مع رسول الله؟
وكان أبو بكر - رضي الله عنه - ينتظر تلك الساعة بفارغ الصبر، وكان قلقا على الرسول خائفا أن يصيبه مكروه من القوم، ولكن الرسول كان محفوفا بالعناية الربانية، ولهذا خرج على القوم دون أن يتردد وإني أشهد شهادة حق أنه - صلى الله عليه وسلم- لو لم يكن رسولا حقا ما خرج في تلك الساعة مهما كانت قوته وشجاعته.
وفي بيت أبي بكر وضع الرسول خطة كاملة للهجرة، وأعد لكل شيء عدته، لأنه - صلى الله عليه وسلم- يعلم أن اتخاذ الأسباب أمر يقتضيه كمال الإيمان وحسن التوكل، وعلى هذا الأساس وضع برنامج الهجرة.
كان لابد من سلوك طريق غير مألوفة حتى لا يعترضه أحد من أعدائه، فاستأجر لذلك الدليل - عبد الله بن أريقط- وكان ماهرا يعرف الطريق معرفة جيدة، وكان عبد الله مشركا، ومع ذلكَ ائتمناه على هذا السر الخطير، ووفى الرجل بعهده فلم يخن ولم يغدر، ولو فعل لم يلم لأنه على دين قومه، ولا يهمه أمر المسلمين في شيء، ورصدت قريش مائة ناقة لمن يأتي بمحمد حيا أو ميتا [29] وأبت نفس ابن أريقط أن يربح هذه الجائزة على حساب رجل ائتمنه ورضي بأجره المتفق عليه.
وكان لابد أن يختفي رسول الله فترة عن أعين الناس حتى يهدأ الطلب وتفتر الهمم في اقتفاء أثره فيتمكن من السير وهو آمن.
فأدلج إلى غار ثور، أقام فيه ثلاثة أيام، ولم ينس رسول الله أن يدبر أمر الطعام والشراب والأخبار في تلك الفترة التي سيقضيها في الغار، فجعل أسماء بنت أبى بكر -رضي الله عنها- لإعداد الطعام والشراب تأتيهما به ليلا حتى لا يراها أحد [30] .(18/328)
وجعل على أخبار القوم عبد الله بن أبي بكر، كان يسمع ما يدور في مجالس القوم نهارا ويعيه فإذا جن الليل أتاهما بأخبار الناس وأعلمهما بما يتكلمون به، وعلى أساس هذه الأخبار يخطط للبقاء في الغار أو لمغادرته وكان -صلى الله عليه وسلم- يخشى أن يرى أحد من المشركين أثار أقدام عبد الله بن أبي بكر وأخته أسماء فيسدل بها على مكانهما فأمر عامر بن فهيرة مولى أبي بكر أن يسرح بالغنم مبكرا على آثارهما فيعفى عليها، ويزيل ما قد يكون سببا في معرفة مكانهما، كما كان يريح الغنم عليهما ليلا فيذبحان منها، ويحلبان فيشربان.
ومع كل هذه الاحتياطات، ورغم كل التخطيطات وصل القوم إلى الغار، ولكن هل على الرسول وصاحبه لوم إذا عرف القوم مكانهما بعد ذلك، كلا، فقد اتخذا كل الاحتياطات اللازمة وبذلا كل ما في وسعهما والله – سبحانه - بعد ذلك يتولى ما لم يقدرا عليه.
وصل المشركون إلى الغار، ورأى سيدنا أبو بكر - رضي الله عنه - أقدامهم فقال: "يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر تحت قدميه أبصرنا"، والرسول يهدئ من روع أبي بكر ويقول: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا" [31] .
لقد كان رسول الله في ثقة تامة بالله -عز وجل- وكيف لا وهو لم يهمل سببا من الأسباب، ولم يقصر في أمر يستطيعه، وأكثر من هذا فقد كان خروجه بأمر الله، والله - تبارك وتعالى - لا يضيع نبيه أبدا.
لهذا كان الرسول يخاطب أبا بكر وهو موقن أن الله لن يضيعهما ولابد أن يرد عنهما عدوهما، وقد كان.
وتولى الله صرف المشركين عن الغار، أما كيف؟ وبماذا؟؟ فهذا ما لم يخطر لأحد على بال. لم يرسل الله ملائكة تحرس النبي وصاحبه، ولم يسلط على القوم جيشا يردهم عن وجهتهم. ولكن أمر العنكبوت فنسجت على وجه الغار، وأرسل حمامتين فباضتا عليه [32] .(18/329)
وتنازع المشركون أمرهم بينهم، هذا القائف يقول: قد دخلا هنا، وهذا العنكبوت والحمام يوحي إليهم بكذب القائف، حتى قالوا: كيف يدخل الغار ولم يتكسر بيض الحمام، ولم يتمزق نسج العناكب، ولو صح أنهما دخلا قبل بيض الحمام ونسج العنكبوت. فهل يتمكن العنكبوت من نسج ذلكَ في تلك المدة الوجيزة، إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يغب عنهم إلا منذ يوم فقط، فكيف يستطيع العنكبوت نسج ذلك كله حتى يغطي فم الغار في يوم؟ ولو صح ببض الحمام في هذا اليوم فإن ذلك يستحيل على العنكبوت.
لقد حسب المشركون الأمر بحسابهم المادي المعتاد، ولم يدروا أن لله جنود السماوات والأرض، وأن الخوارق طوع إرادته -سبحانه - {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [33] .
وبهذا الأمر الكريم نسجت العناكب فوق ما يتصوره عقل الإنسان، وباضت الحمائم على وجه الغار، وهكذا صرف الله عن نبيه أعداءه بأوهى الأسباب، وأضعف المخلوقات، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [34] .
إلى المدينة:
مضت على الرسول الأيام الثلاثة وهو في الغار، وهدأ الطلب ويئس المشركون، واطمأن الدليل فوافاهما براحلتيهما، وغادر رسول الله الغار مع صاحبه في رعاية الله وحفظه.
وسلك الدليل بهما طريقا لا يعرفها كثير من أهل مكة إمعانا في تضليل المشركين، وضمانا لسلامة المهاجرين، وكان السائرون في هذا الدرب أربعة: رسول الله، وأبو بكر، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر صحبهما ليقوم بخدمتهما، ثم عبد الله بن أريقط دليلهما.
أخذ الدليل بهما طريق الساحل، وسار أمامهما، وجد الناس في طلبهما رغبة في الحصول على الجائزة الثمينة التي رصدتها قريش لمن يأتي بهما أو بأحدهما حيا أو ميتا.(18/330)
ورغم إمعان الدليل في التضليل، ورغم الجهد المبذول في التخفي إلا أن سراقة ابن مالك أدرك المهاجرين، وخاف أبو بكر - رضي الله عنه - مرة أخرى وقال: "هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله"، وأجاب الرسول بكل ثقة واطمئنان: "لا تحزن إن الله معنا".
لقد حاول سراقة أن يفوز بالجائزة، إنها ليست شيئا هينا بل هي مائة ناقة عن كل واحد منهما، يقول سراقة: "كنت أرجو أن أرده على قريش فآخذ المائة الناقة" [35] .
وفرح سراقة عندما رأى الرسول وصاحبه، وحدثته نفسه بالثروة العظيمة التي تنتظره، لا شك أنه سيكون من سادة قريش وأثريائهم، ومن سيكون أكثر ثراء منه فيهم إنه سيكون بعد قليل صاحب مائة ناقة إن لم يكن صاحب مائتين.
وهمز سراقة فرسه ليدرك الركب، وجد في السير، وأجهد فرسه ولكن حيل بينه وبين ما يشتهي، فكيف حصل هذا؟ ولنترك سراقة يحدثنا بما حصل له، قال سراقة:
"فلما بدا لي القوم ورأيتهم عثر بي فرسي، فذهبت يداه في الأرض، وسقطت عنه، ثم انتزع يديه من الأرض وتبعهما دخان كالإعصار، قال: فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد منع مني، وأنه ظاهر" [36] .
إن سراقة رجل قد أراد الله به الخير فهداه إلى الحق، وأدرك أنه ما دام لم يستطع الوصول إليه وهو أمامه فلا بد أن يكون له شأن، وإلا فما الذي يحول بينه وبينه؟
وأدرك سراقة سر هذه الحيلولة فأمن بالله ورسوله، وأخذ على نفسه أن يرد عن الركب كل ما يطلبه.
لم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم- دخل في رد سراقة، ولكن الله هو الذي رده، إن الرسول قد اتخذ الأسباب التي يستطيعها، فسلك طريقا غير معروفة، وأخذ الدليل ليهديه، واستخفى عند خروجه وذلك ما يستطيعه، فإذا حدث ما لم يكن في الحسبان فالله - عز وجل- يتولى دفعه، وقد كانت المعجزة التي شاهدها سراقة فعلم أن الرسول ممنوع لا محالة فآمن به.(18/331)
وقف سراقة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرض عليه الزاد والمتاع وأخبره بما يريد به الأعداء، فلم يقبل الرسول منه زادا ولا متاعا وأمره أن يخفي أمره ولا يخبر أحدا به [37] .
والتفت الرسول إلى سراقة وقال: "كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ " [38] إنها كلمة لا يقولها في مثل هذا الموقف إلا رجل عظيم تام الثقة بالله - عز وجل- إن الرسول يطارده قومه، وقد خرج من بينهم مهاجرا إلى بلد آخر مستخفيا، ثم يخبر سراقة بأنه سيلبس سواري كسرى، إنه أمل عظيم في الله - سبحانه - وثقة تامة في نصره المبين.
ويعود سراقة بهذه البشارة الطيبة وبكتاب أمان كتبه له أبو بكر بأمر الرسول، ويعود فوق ذلك بإيمان ملأ قلبه فكان ذلك عنده خيرا من ألف ناقة.
ومر الرسول وصاحبه بخيمتي أم معبد وهي امرأة من خزاعة كانت تجلس في خيمتها تطعم وتسقي من يمر بها فسألاها عن شيء يشترونه، فأجابت لو كان عندي ما أعوزكم القرى.
ورأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جانب الخيمة شاة فقال: "ما هذه الشاة يا أم معبد؟ "فقالت: "هي شاة خلفها الجهد عن الغنم".
فاستأذن منها، وحلبها فتفاجت فدرت، وملأ الرسول منها إناء يكفي الرهط فسقاها ثم سقى أصحابه ثم شرب أخرهم، ثم حلب في الإناء مرة أخرى حتى ملأه وتركه عندها وغادرها.
وهكذا يضرب الرسول المثل في حب الخير للناس لقد كان يستطيع أن يرحل عن أم معبد دون أن يحلب لها، ويكفي أنه سقاها وسقى أصحابه ولكنه - صلى الله عليه وسلم - كان حريصا على أن يصل الخير إلى الناس جميعا. ولعلها لا تجد ما تطعم منه زوجها إذا حضر فترك عندها ما تستعين به على ذلك.
وفي الطريق لقي الركب الزبير بن العوام - رضي الله عنه - قادما من الشام في تجارة له، ومعه بعض المسلمين، فكسا الرسول وأبا بكر ثيابا بيضاء مما جلبه من الشام.(18/332)
وسار الركب المبارك ميمما شطر المدينة، وعلم الأنصار بمقدمه فخرجوا لاستقباله وقد لبسوا سلاحهم وتلقوه بظهر الحرة المعروفة بحرة الوبرة - الحرة الغربية - فمال بهم - صلى الله عليه وسلم - ذات اليمين متجها إلى قباء حتى نزل في بني عمرو بن عوف وكان ذلك في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] بلال مؤذن الرسول ص 45.
[2] ابن هشام (2/169) .
[3] نفسه (2/169) .
[4] العنكبوت الآية 67.
[5] مختصر سيرة الرسول ص 18. ابن هشام (1/105) .
[6] العصامي (1/161-162) .
[7] ابن هشام (1/170) .
[8] هيكل ص 117.
[9] الفيل الآيات: 5،4،3.
[10] ابن هشام (4/23) .
[11] تاريخ مكة (1/152) .
[12] الفرق بين الفرق ص 290.
[13] نفسه.
[14] الصافات: الآية (98ـ99) .
[15] العنكبوت: الآية: 26.
[16] الدخان الآية: 23ـ24.
[17] النساء الآية: 97.
[18] النساء الآية: 100.
[19] رواه البخاري.
[20] ابن هشام (2/90ـ91) والعقل الدية.
[21] ابن هشام (2/91) .
[22] نفسه 93.
[23] مختصر ص 165.
[24] ابن هشام (2/91) .
[25] سورة يس الآيات: 1- 9.
[26] ابن هشام (2/91) .
[27] نفسه ص 92.
[28] المطففين الآية: 14.
[29] مختصر السيرة ص 169.
[30] ابن هشام (2/93) .
[31] مختصر السيرة ص 168.
[32] مسند البزار.
[33] سورة يس الآية: 82.
[34] سورة ق الآية: 37.
[35] ابن هشام (2/96) .
[36] نفسه ص 96-97.
[37] صحيح البخاري.
[38] الإصابة (2/19) .(18/333)
البحث عن سيف صلاح الدين
لفضيلة الدكتور عبد الرحمن بله علي
في عام 490 هـ الموافق 1096 م حشد الغرب الصليبي بنيه من كل جنس وهجم على الشرق الإسلامي في أعداد كموج البحر. وحتى يبرروا الهجوم العدواني لابد من استغلال العاطفة الدينية فصاحوا في الناس أن بيت المقدس أصبح في يد شعب غريب يقصدون المسلمين وما كان ذلك هو السبب وإن علقوا على صدورهم الصلبان لكنهم نظروا في واقعهم ووجدوا أنهم على حالة من الفقر والعوز لا يصلح معها عيش، أرضهم تضيق بهم وتعجز عن إمدادهم بالطعام، وأرض الشرق لا نظير لها في خيراتها.. هم في حاجة إلى ثروات وإمكانات يريدونها للنهوض بغربهم وهي لا توجد إلا في الشرق الإسلامي.
هذا إلى جانب ما هم عليه من حقد دفين على الإسلام وأهله فهم لا يألون جهدا، ولا يدخرون وسعا في حربه وطيّ راياته، والقضاء على أمته. وفي سبيل تلك الغاية يعتسفون الطرق، ويركبون الصعب والذلول.
من أجل هذا وذاك سالت بهم الوديان كل مسيل، يدفعهم حقد أسود ويسوقهم عدوان أثيم على ديار المسلمين الذين استحكمت يومئذ بينهم العدوات وضعضعت من قوتهم عميق الحزازات مما جرأ النصارى عليهم ودفعهم إلى أن يغزوهم في عقر دارهم.
وهكذا اندفعت كتائبهم، وتوالت حملاتهم، لا ينقضي منها عنيف إلا جاء بعده أعنف، وقد صور ذلك القاضي الفاضل وزير صلاح الدين الأيوبي أصدق تصوير حين قال للسلطان: "إنه لما اجتمعت كلمة الكفر من أقطار الأرض، وأطراف الدنيا، ومغرب الشمس ومزخر البحر، ما تأخر منهم متأخر ولا استبعد المسافة بينك وبينهم مستبعد وخرجوا من ذات أنفسهم الخبيثة، لا أموال تنفق فيهم، ولا ملوك تحكم عليهم ولا عصا تسوقهم، ولا سيف يزعجهم، مهطعين إلى الراعي، ساعين في أثر الساعي، وهم من كل حدب ينسلون ومن كل بر وبحر يقبلون" [1] .(18/334)
وما راع المسلمين إلا رؤيتهم النصارى يقتحمون عليهم ديارهم، ويرفعون السيوف في وجوههم، ويدفعون بالخيول في صدورهم. وأمام هذه المباغتة تنادى المسلمون والتحمت صفوفهم وواجهوا هذا العدوان بشجاعة لا نظير لها، ودارت بين الفريقين معارك عنيفة انتهت باستيلاء المسيحيين على بيت المقدس.
وعندما لعبت بعقولهم نشوة الانتصار راحو يذبحون النساء والأطفال والشيوخ وأئمة المسلمين وعبادهم وهم داخل بيت المقدس وفي رحابه.. لم تمنعهم قدسية المكان عن ارتكاب هذه الجريمة التي تنشق لها المراير، وتنفطر من هولها القلوب.
وتمكن الصليبيون من السيطرة على الشام وخاصة الجزء الساحلي من آسيا الصغرى إلى خليج العقبة. وبهذا تحكموا في منافذ الشرق الإسلامي فتفتحت لهم طرق التجارة، وسيطروا على الأسواق الشرقية فأصبحت لهم مورد كسب، وينبوع ثروة، ومصدر غنى ورخاء.
وقف المسلمون أمام هذه الهزيمة التي طعنت كرامتهم بأصمى سلاح، وتركت في حلوقهم أمر من طعم العلقم وقفوا يتطلعون بعين الأمل إلى قائد راشد الرأي قوي العزيمة مشدود الشكيمة لا يرام ما وراء ظهره، صبور في ميدان القتال، لا يستسلم مهما عظمت الخطوب، وكثرت عقبات الدروب.. إذا رأى خرقا بادر بسده، وإذا أبصر سارع برده، توحيدا للكلمة، وذوداً عن حرمات الأمة وحماية لظهرها وتمكينا لدينها..(18/335)
وجدوا ضالتهم المفقودة وأمنيتهم المنشودة في القائد الفذ صلاح الدين الأيوبي الذي ترجمت له مواقفه المشهورة وأعماله المذكورة التي جعلته يقف في تاريخ الإسلام معلما فريدا وقمة شاهقة الذرى.. وأول شيء فعله أن عمد إلى الكلمة فجمعها، وإلى الصدع فرأبه، وإلى الصف فوحده، جاعلا من مصر والشام والجزيرة العربية وديار بكر أمة واحدة، وقوة ضاربة، واستنفرهم للجهاد في سبيل الله، وانصرف يتألَفهم بشتى الوسائل ومختلف الطرق، ولقد كانت غاية وعرة الطريق صعبة المنال كثيرة العقبات، ولكنه تخطاها واحدة وواحدة، بالصبر والحكمة، وقوة العزيمة وشدة شكيمته. يقول له وزيره القاضي الفاضل: "وليس لك من المسلمين كافة مساعد إلا بدعوة، ولا مجاهد معك إلا بلسانه، ولا خارج معك إلا بهمَ، ولا خارج بين يديك إلا بأجرة، ولا قانع منك إلا بزيادة، تشتري منهم الخطوات شبرا بذراع وذراعا بباع، تدعوهم إلى الله فكأنما تدعوهم لنفسك، وتسألهم الفريضة وكأنما تكلفهم النافلة، وتعرض عليهم الجنة وكأنك تريد أن تستأثر بها دونهم" [2] .(18/336)
ولكن القائد الراشد يستطيع بعمق تفكيره وحسن تدبيره أن يجعل من الضعف قوة، ويجني من الشوك عنبا، ويصنع من الناس ذهبا. فها هو يجعل من المسلمين وهم على حالهم ذاك أمة موحدة الهدف، مسموعة الكلمة مرهوبة الجانب، متخذة من الإسلام آصرة، ومن كتاب الله إماما ومن العربية لسانا، ومن جميع المسلمين إخوانا. راجعا في هذه الوحدة إلى سالف عزها وسابق مجدها.. تلك كانت أمنيته التي ظل يعمل لها، ويهبها جهده ووقته وسيفه، لا يبتغي من وراء ذلك كسباً شخصياً، وليس أدل على ذلك من أنه بادر بعد القضاء على الدولة الفاطمية، بمصر- بادر بالانضمام إلى علم الدولة العباسية الكبرى في بغداد حتى تكتمل الوحدة، ويتم بتوحيد الكلمة والصفوف أمام الغزو الصليبي، ولا يجد أمام تماسكهم من الهزيمة خلاصا، ولا عنها مناصا. يحدثنا التاريخ بأن بعض وزراء الدولة الفاطمية بدءوا يراسلون الصليبيين سرا، يكشفون لهم عن وجهها، ويرغبونهم في غزوها، فبات السلطان مقتنعا بضرورة القضاء عليها وطي بنودها ومسح وجودها، فلما تم له ذلك لم يبادر بقطع الخطبة عن الخليفة الفاطمي ويدعو لأمير المؤمنين ببغداد، لأن الجو لم يتهيأ بعد لمثل هذه الخطوة إذ لا يزال ملبدا بالغيوم منذرا بالخطر، وبعد مشاورة من يثق في رأيه اهتدى إلى إبطال الزيادة المعروفة في آذان الشيعة:.."حي على خير العمل"جسا للنبض وتحسسا لمشاعر الناس. وتلك نظرة صادقة وسياسة راشدة، لأن الدولة الفاطمية التي حكمت مصر (297- 567) كانت تغدق المال على المصريين خاطبة ودهم، راغبة في تأييدهم وانتمائهم إلى المذهب الشيعي الذي تقوم عليه الدولة.(18/337)
والناس في كل زمان ومكان عبيد المال والإحسان. فلما تمكن واستوثق عفى على آثارها تماما فحرق كتبها، وأبطل آراءها، وحارب عقيدتها المنحرفة عن نهج الحق، ومنع أن يفسر القرآن على حسب الأهواء والميول كما يفعل الشيعة، وأمر بتدريس فقه المذاهب الأربعة، بعد أن كان ذلك ممنوعا أمام فقه الشيعة، كما أمر بقطع الخطبة عن الخليفة الفاطمي، وإعلانها لخليفة بغداد.
وهكذا طوى هذه الصفحة بكل هدوء طيا محكما، وأسدل ستاراً سميكا على تلك الحقبة من التاريخ بما عليها.
وحتى تنتظم الوحدة جميع المسلمين كتب رسالة إلى ملك المغرب يعقوب بن يوسف ابن عبد المؤمن ينهي إليه فيها أن هناك مددا متصلا يأتي الكفار من الغرب، ذلك أن فرع الكفار بالشام استصرخ بأصل الكفار من الغرب فأجابوهم رجالا وفرسانا، وشيبا وشبانا، الأمر الذي جعلهم قوة متزايدة النماء، وأخر استرجاع ما اغتصبوه، ويطلب منه النجدة وقطع الطريق أمام المدد الصليبي، وينبئه أنهم كانوا يأملون أن يصلهم هذا المدد من جانبه ليكون للمسلمين آمالا وللكافرين آجالا، فلما بطأ أرسلوا هذه الصيحة علها تحرك هذا المدد ولا غرو في ذلك، (فقد تحفل السحابة ولا تمطر إلا أن تحركها أيدي الرياح، وقد تترك النصرة فلا تظهر إلا أن تضرع إليها ألسنة الصفاح..) .
والرسالة طويلة دبجها شيخ أهل الترسل في زمانه وكاتب الديار المصرية وزير صلاح الدين- القاضي الفاضل [3] وهي وثيقة تاريخية بالغة الأهمية، وقطعة باهرة البيان- ويذكر المؤرخون أن الظروف الداخلية والقلقة للمغرب أخرت الاستجابة إليها، وتلبية ندائها.(18/338)
وعلى الصعيد الداخلي أدرك بنور بصيرته وصفاء روحه وصائب حكمته أن ما عند الله تعالى لا ينال إلا بطاعته والتزام شريعته، فعمد إلى المظالم يرفعها عن كاهل الناس، وإلى المنكرات الفاشية يزيل أسبابها، ويغلق أبوابها، ويفرض حرمة الأخلاق، ويضرب على أيدي العابثين ويؤكد حاكمية الدين. واستطاع أن يجمع الناس حول راية الجهاد، ويتجه بهم إلى ميدان القتال، وينازل بهم كتائب الأعداء، صابرا محتسبا، لا يجد اليأس إلى نفسه سبيلا، ولا ترى في مواقفه من الرياء فتيلا، فلا غرو أن نصره الله نصرا بقي على مر الحقب ذكرا طيبا في الدنيا، ووسام شرف على هامات المسلمين. فقد نازل الصليبين في كثير من المعارك انتهت بنصره، وبث الخوف في أوصالهم لما امتاز به هو وجنوده من تضحية وبذل وفداء، وكلّ قد تدجج بسلاح العقيدة والإيمان، وهو سلاح فعال إذا دخل معركة آمال كفتها، وغير نتيجتها.
وعلى مشارف (حطين) دارت رحى معركة فاصلة انتصر فيها صلاح الدين انتصارا باهرا. ورأى أن يجهز على الصليبيين قبل التقاط أنفاسهم وتجميع شتاتهم، فبادرهم بجيش عرمرم إلى (بيت المقدس) وأمام قوته الضاربة وسطوته القاهرة رأوا ألا قبل لهم به ولا طاقة، فرفعوا أكفهم طالبين الصلح رابحين حياتهم، فدخله يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب عام ثلاثة وثمانين وخمسمائة من الهجرة.(18/339)
ثم تعقبهم فأجلاهم عن كثير من الحصون والقلاع التي اغتصبوها، وسيطروا عليها فتم له استرجاع المقدسات.. وإطفاء جمرة الأعداء ورفع راية الإسلام عالية خفاقة على كثير من الأماكن واضعا الحروب الصليبية على قدم النهاية؛ وكان رحمه الله في كل معاركه معهم مثلا أعلى في المروءة والسماحة، فكان انتقامه عند المقدرة عفوا شاملا، وهو يرمي من ذلك إلى إظهار سماحة الإسلام وشكر فضل الله، إلى جانب ما جبل عليه من كرم الخلق ونبل الطبع وسماحة النفس. وفي أيامه الأخيرة كان يسر لبعض خاصته أن أملَه المنشود إعادة الأرض المغتصبة ورد خطر الصليبيين عنها، وتعيين من يثق فيه لتصريف شؤونها وحماية ثغورها، ثم يتفرغ حينئذ إلى الدعوة إلى الله تعالى فلا يدع مكانا في العالم إلا حملها إليه حتى لا يرى على وجه الأرض إلا مؤمنا بالله رب العالمين، أو معطيا الجزية للمسلمين خاضعا لهم داخلا تحت طاعتهم.
إلا أن آثار الجهاد بدأت تظهر على القائد، فقد عاش لله أكثر مما عاش لنفسه، ومكث في ميادين القتال أكثر مما مكث في حدائق القصور، وعاشر سمر الرماح وبيض الصفاح أطول مما عاشر أهله وذويه. وأخيرا أدرك الإعياء البطل فلزم الفراش في الشام وفي شهر صفر عام 589 هـ فاضت روحه إلى ربه، وتذكر بعض المراجع أنهم دفنوا معه سيفه الذي كان يجاهد به، كأنه جرى في خلدهم أن ليس هناك أحد جدير بحمل سيفه وإتمام دوره وتحقيق أمله.(18/340)
والواقع أن أمتنا قد تنهزم في بعض الأحيان حتى أن عدوها ليظن أنها أصبحت رمادا هامدا، ولكن ما هي حتى يظهر قائد عبقري التفكير عميق النظر والتدبير فيكتشف أن تحت الرماد شرارة فما يزال ينفخ فيها حتى تتأجج نارا تلتهم الأعداء ويخافها الأقوياء. وفي تاريخنا من العبر والدروس ما لو تأملناه ووعيناه لعادت هزائمنا نصرا، وخسائرنا مكسبا وربحا، خاصة في الأوقات التي نتعرض فيها للهزائم العسكرية والهزات النفسية، فيكون عونا لنا- بعد الله- على الثبات أمام العدو المتربص بنا الطامع في أرضنا. فهلا راجعنا رصيدنا التاريخي لنعرف كيف بلغت عزتنا، وركيزة مجدنا وقوتنا وإن كان التاريخ لا يعيد نفسه، فإن أوجه المماثلة في حوادثه المعادة أكثر من أوجه المخالفة، فما الحرب العالمية الأولى إلا امتداد للحروب الصليبية، وليس أدل على ذلك مما قاله (غورو) القائد الفرنسي بعد أن تم له النصر على السوريين في معركة (ميسيلون) فقد مضى هذا القائد إلى قبر صلاح الدين، وخاطبه قائلا: "ها قد عدنا يا صلاح الدين"ولولا أن الله حكم على الأموات ألا يتدخلوا في شؤون الأحياء لقام إليه القبر يلحمه السيف.
فلنأخذ لذلك أهبته، ولنعد له عتاده وقوته. والله حسبنا وهو مولانا فنعم المولى ونعم النصير.
الشريعة الإسلامية
تمتاز الشريعة الإسلامية عن القوانين الوضعية بأنها مزجت بين الدين والدنيا، وشرعت للدنيا والآخرة، وهذا هو السبب الوحيد الذي يحمل المسلمين على طاعتها في السر والعلن والسراء والضراء لأنهم يؤمنون بأن الطاعة نوع من العبادة يقربهم إلى الله.
(الشهيد عبد القادر عودة)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] كتاب الروضتين في أخبار الدولتين، أبو شامة ط 1287 هـ، جـ 2 ص 168.(18/341)
[2] مختارات من كلام القاضي الفاضل (مخطوط) بدار الكتب المصرية رقم (2882) .
[3] الكامل في التاريخ ابن الأثير ط 1 جـ 11، ص 247.(18/342)
حقوق الإنسان في الإسلام
(الحلقة الأولى)
لفضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي
المدرس بكلية الحديث الشريف
بما يلي نقدم أوَلا:
سبحان من لا أحد أصدق منه قيلا، ومن قوله عن الإنسان الذي خلقه: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} ، فالموجد يعرف سر ما أوجده {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} .
فقد راح هذا الإنسان يضع لنفسه حقوقا، فجعلها على نفسه حتوفا.
راح يضعها وكأنه وضع لنفسه شيئا عجز خالقه عن أن يصنعه له.
فعل ذلك وكأنه راحم لنفسه أكثر من الذي كتب على نفسه الرحمة، سبحانه.
فعل ذلك وهو الضعيف المصنوع، وكأنه ينبئ صانعه بما لم يعلمه عنه {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأََرْضِ} .
ذهب هذا الإنسان ينشئ لنفسه ما سماه (حقوق الإنسان) ، لا لشيء إلا أنه مع ربه كثير الجدل طويل اللسان، {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} .
وكأن القرآن العظيم والسنة السنية التي شرحته، وقد وسعا شؤون الدنيا والآخرة لم يسعا حقوقه.
وأخذ هذا القاصر (حقوقه) وقدمها إلى (هيئة الأمم المتحدة) لتقوم على هذه الحقوق وتؤديها له كاملة غير منقوصة.
فإذا بالإنسان قد استبان له بعد أن أفاق من غشيته أن هيئة الأمم المتحدة التي ائتمنها على حقوقه هي (هيئة أمم مختلفة) ، لم تتحد يوما داخل مبناها، ولم يفد وجودها شيئا لنفسها، فهل تقيم حقوقا لكل إنسان في كل أرجاء الأرض؟ هي ومجلس أمنها المعروف؟!(18/343)
إن الأرض ما ضجت بكل أصقاعها إلا من اعتداء الظلمة الجبارين والذين أوتوا من زينة الدنيا ما تربعوا به في مجلس (أمنها) فحولوه إلى مجلس (خوفها) والمسمون بالأعضاء الدائمين الناقضين لكل قرار لا يتفق وهواهم، لأن لهم من دون الدنيا حق نقض القرارات (الفيتو) ، ولو هلك بهذا الفيتو المفتئت كل عداهم، بعد أن وضعوا حقوق الإنسان التي ائتمنوا عليها تحت نعال أحذيتهم أثناء جلوسهم في مجلس (الأمن) .
فمتى أخافت هيئة الأمم ومجلس أمنها معتديا وردته عن عدوانه وطغيانه؟. إن الصراع الإنساني، والتوحش البشري، والنزيف الدموي، والضواري التي افترست صغار غابتها، والشعوب التي محيت بأكملها، والتشريد لأمم طردت من ربوعها ومهادها، ومقدسات غالية لطخها بالدنس أعداؤها، ومعتنقو الخسران من تشيع وتصهين يطاردون بني الإنسان تنكيلا وتمزيقا، أصبح هو السمت المميز والمبدأ المعتنق لحضارة إنسان القرن العشرين، كل هذا لم يحدث إلا في عهد الأمم المختلفة ومجلس خوفها، وهما القائمان على تنفيذ (المواد الثلاثين لحقوق العالمين) .
وقد أعدت هذه الهيئة العالمية بجربها هيئات إقليمية أخرى فسارت على نفس السليقة التي سارت عليها الهيئة الأم. كمجموعة (دول الكومنولث الإنجلوسكسونية) ومجموعة (دول الكومنفورم الشيوعية) ومجموعة (دول عدم الانحياز) و (المجموعة الأوروبية) و (منظمة الوحدة الإفريقية) و (منظمة الجامعة العربية) ، وسواها.
هذا غير الأحلاف العسكرية، كحلف الأطلنطي لدول أوربا الغربية، وحلف وارسو لدول أوربا الشرقية، وحلف دول شمال شرقي آسيا، والحلف المركزي المسمى بحلف بغداد سابقا، وغير ذلك كثير من المنظمات والأحلاف المنتشرة في مختلف البقاع العالم.(18/344)
وكل هذه المنظمات منقسمة على نفسها، حيث كل أعضائها ممثلون في الهيئة المختلفة الرئيسية، وهي المسماة (بهيئة الأمم المتحدة) والتي أنشأتها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية بعد توقفها ووضع أوزارها مباشرة، وذلك لتستمر لها الهيمنة السياسية بعد أن تمت لها الهيمنة العسكرية.
وليت الخلاف في الهيئة الأم وأشباهها من المنظمات الأخرى وقف عند التنابز بالألقاب فيما بينها، بل تنابزت بالمدافع والدبابات والمقاتلات في حروب متلاحقة بين أعضائها كانت وما زالت يهلك بها المشاركون في هذه المنظمات الآلاف من أبناء أممهم، فلم تربطهم المواثيق التي اتفقوا عليها إلا وهم متهالكون على المقاعد قبالة بعضهم عند عقد الاجتماعات، {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} ، وبعد الافتراق يظهر أثراً النفاق خرابا ودمارا، ولنكتف بضرب المثل بأقرب منظمتين بالنسبة لنا، منظمة الوحدة الإفريقية، ومنظمة الجامعة العربية، فلم تكد سنة تمر أو حتى بضعة أشهر منذ أنشئتا دون أن يقع قتال بين أعضائها يقتل فيه البراء، وتطفح به برك الدماء، وتؤول ديار عامرة إلى بلا بلاقع، هذا غير سباب بذيء تفضح به الأسرار، ويهتك به الأستار ينقله الأثير إلى سمع أهل الأرض، تلك هي أخوة بني الإنسان التي فج ضوءها الأزرق من (نيويورك) مقر لجنة حقوق الإنسان، والتي أفاءت من زرقتها المعتمة على الإنسان في جنبات الآفاق، بما في ذلك منظماته المتشاجرة، والتي لا تندمل لها جراحات، والذي نقول ليس بالمجهول، فالكل معنا له مثلنا أذن وعين، إلا أن بعض الحكام الموقعين على إعلان حقوق الإنسان ومنهم من هو في منطقتنا هذه أيضا، ينكلون بأبناء شعوبهم بأنواع من النكال لا أسمح لقلمي أن يسيل لها مداده، حيث لا تكاد تصدق أو تخطر ببال، فقد تعدى بعضها كل حدود الصفة البشرية، وما أظنها تقع من زواحف الأجحار، وكواسر الأحراش، حتى لا يظن التالي لكلماتي هذه أني قد قسوت في(18/345)
التعبير أو نبا القلم من يدي، إني سأكتفي بالتلميح الكافي عن التصريح، بما أنا موقن منه حق اليقين، حين سلب شرف وانتهك عرض والمعتدى عليه أو عليها مغلول بأصفاد في غيابة السجن، فقط لأنهم قالوا لحكامهم هذا حرام وهذا حلال، ولم يجد بشيء ذلك التوقيع على إعلان للإنسان في ورقة لتقرأ أو تنشر، فلم يصاحب ذلك خوف من الله بقليل أو كثير، زيادة على معظم مواد الإعلان التي وضعت لتميل حيث مال الهوى، كما سنوضح في هذا البحث إن شاء الله تعالى.
ما كان للإنسان الذي وضع أو الذي رضي بتلك، تاركا ما وضع ربه له من أجمل حقوق بلغت الغاية وأوفت الكفاية إلا أن يظل قابضا على جلد القنفذ الذي ظنه المنقذ من همومه وأنكاده، فهل يحيف الله على الإنسان لما سخر له كل ما في سمائه وأرضه، بما نرى كل يوم ونسمع، ولكنه لم يقرَ ولم يقنع، وهل أنقص سبحانه شيئا فجاء الإنسان ليتم هذا النقص قد قرأ هذا الإنسان أو سمع أو علم {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} ، ولكن لما كان الإنسان (ظلوما جهولا) اكتفى بحمل الأمانة قولا وأباها عملا، إلا الذين هم قليل ما هم.
وفي مراجعتنا لمواد حقوق الإنسان وجدناها متكررة متداخلة، وكنا عازمين قبل أن يتبين لنا ذلك جعل حديث منفرد عن كل مادة من الثلاثين، ولكننا وجدنا الكلام سيتكرر مع تكرار ما يشير إليه كثير من هذه المواد، فأثرنا أن نقسمها إلى مجموعات، كل مجموعة منها تشمل المواد المتقاربة الموضوع، فأصبحت عشر مجموعات بعشرة أبواب مرتبة هكذا:
الباب الأول عن المادتين، 1، 2
الباب الثاني عن المواد، 7، 8، 9، 11،10
الباب الثالث عن المواد، 3، 5، 12
الباب الرابع، 4، 18، 20،21
الباب الخامس عن المادة، 16(18/346)
الباب السادس عن المواد، 13، 14، 15
الباب السابع عن المادتين، 17، 23
الباب الثامن عن المواد، 22، 24، 25
الباب التاسع عن المادتين، 26، 27
الباب العاشر عن المواد، 28، 29، 30
هذا وما قصدنا المقارنة بين ما وضع الله وما وضع الإنسان معاذ الله، فنكون قد خسئنا وخسرنا. لأن المقارنة بين الكائن والمكون في حكم العقل المجرد أمر محال، وإنما قصدنا أن نظهر كيف تفعل الحجة الدامغة بالحجة الداحضة، والله يخرج من قلوبنا سخائمها حتى تكون مصفاة من كدر الرياء، آمين.
وإن يعجب القارئ فعجب أن التاريخ الذي أعلن فيه حقوق الإنسان كان نفس التاريخ الذي أعلن فيه قيام إسرائيل على جثث وعظام الأمة الفلسطينية، والفلول التي بقيت منها قطَعت في الأرض هائمة على وجهها، والتاريخ هو عام 1948م تاريخ حقوق على ورق أعلنت، وحقوق شعب بأكمله سرقت، أختطف وطن بأسره أرضا وزرعا وضرعا وديارا بعد أن أوغل فيه تذبيحا وتمزيقا، الأطفال قبل النساء والنساء قبل الرجال في قصة هي من أبشع ما حكت الدنيا من قصص التوحش اليهودي، فعل الصهيونيون ذلك عام إعلان حقوق الإنسان تماما ليفهموا كل الخليقة أنهم ليسوا من بني الإنسان حتى يتقيدوا بحقوق الإنسان، ولا زالوا ملتزمين بما طبعوا عليه من الفظاظة والقسوة {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} ، هذا وصف خالقهم لهم، وتأكيدا لوصف خالقهم هذا ازدادوا على مر الأيام قسوة وضراوة حتى مزقوا القرآن، مع يقينهم من أنه كتاب الله بما قرؤوه في توراتهم، أما عن الأمم المتحدة فقد حضرت هذه المسماة بإسرائيل هذه الهيئة بأسوأ صور التحقير، لما وضعت تحت نعلها ما يزيد عن عشرين قرارا أصدرته ضدها هي ومجلس أمنها.(18/347)
ذلك لأن السجية التكوينية لليهودي هي أنه لا يعيد ما سرقه إلا إذا جدعت أنفه، ولا يرد ما اختطفته يده إلا إذا كسرت ذراعه أو سلبته حياته، فليس داخلا في نظام دنياه لغة المحادثة أوالمفاهمة، وهل من عقل يتصور بأن هناك من يصدق القول عنهم أكثر من بارئهم، وصاحب الصنعة أدرى بسر صنعته {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} ، ثم نقل سبحانه سرهم التكويني هذا إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له هذا القول العجب: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} إذا ماذا لهم من علاج؟ {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} ، إذا وهذا إخبار الله عنهم فالتعاهد والتوادد مع اليهود ضرب من المحال، ومحاولة لا تأتي إلا بأسوأ الوبال.
ولهذا لم يكن منه صلى الله عليه وسلم بعد أن أمهلوه من الله بحلم طويل، وصابرهم عليه السلام الصبر الجميل، إلا أن ينفذ أمر الله النازل إليه فيهم، فاستأصل شأفه شرهم، ومحا وصحبه أثرهم، وأزال من أرض الجزيرة كل ما عانوه من نجس ودنس، ذلك لأن اليهودي مخلوق فاقد الحياء مع الله والرسل والناس، فما من أمة سبت ربها بأبشع وأقذع ما يقال إلا َهم، وما من أمة قتلت الأنبياء غيرهم، فماذا تنتظر منهم أن يفعلوا بمن دون ذلك؟
فلن تصفو الحياة إلا إذا اختفوا من الحياة، فهل من مدكر؟
والآن نبدأ في تفاصيل البحث، طالبين العون من المستعان وأن يجعله عملا نافعا لمن كتب ولمن قرأ، بعد أن يجري القلم بصادق القول والقصد له وحده.
الباب الأول:
المادتان الأوليتان من إعلان حقوق الإنسان.(18/348)
1- يولد جميع الناس أحرار متساوين في الكرامة، وقد وهبوا عقلا وضميرا وعليهم أن يعامل بعضهم بعضا بروح الإخاء.
2- لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون تفرقة بين الرجال والنساء، وفضلا عما تقدم فلن يكون هناك أي تمييز أساسه الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو البقعة التي ينتمي إليها الفرد، سواء كان هذا البلد أو تلك مستقلا أو تحت الوصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي أو كانت سيادته خاضعة لأي قيد من القيود. سنلاحظ أن هاتين المادتين وكثيراً من مواد الإعلان ذات كلمات جميلة أخّاذة، ظاهرها الرحمة لبني الإنسان، وتلك حقيقة إن تمت، ولكنها لم تتم لأن باطنها شغف هؤلاء الناس بإلفات النظر إليهم على أنهم الإنسانيون المتمدينون دون من عداهم، ولهذا فهم يصدرون المبادئ الصالحة والتعاليم النافعة وقد ظنوا أننا من البلاهة بحيث لا ندرك أن المفيد من إعلانهم قد أعلناه منذ أربع مائة وألف سنة، أفاء الله به علينا رحمة ظاهرة وباطنة بواسطة رسول بنا رؤوف رحيم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} فأسبغ الله علينا به نعمة ظاهرة وباطنة، لمن يسمع ويقرأ ادّعاء ورياء، وباطنها ضد ظاهرها عداء واعتداء، حتى ألفاظ الإعلان وضعوها بصورة يوهمون بها بأنهم أوجدوها ولسيوا من عندنا أخذوها.
وها نحن نبدأ حديثنا عن المادتين اللتين ذكرنا نصهما آنفا من إعلان حقوق الإنسان فنقول وبتطويل:(18/349)
لو رجعنا إلى بداية الخليقة لنسلط عليها فكر الباحث لوجدنا أن صفتي التعنصر والتميز هما من وضع أعدى عدو لله وللخلق أجمعين، ذلك هو إبليس الرجيم اللعين، في قصته مع آدم لما ميَز نفسه بعنصره، حيث توهم الفرق بين العنصر الذي خلق منه وهو النار، والعنصر الذي خلق منه آدم وهو التراب، قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} ، فأدت به هذه العنصرية إلى الطرد من رحمة الله، وعليه فالأصل في العنصرية أنها صفة إبليسية، ومن تلبس بها تأبلس، وإذا فقد يلحق به في الطرد من رحمة الله، تلك قضية واقعية لا نماري فيها.
ولكن انطواء هذه العنصرية أو انطلاقها على مدى الدهور، يكون حسب معرفة الإنسان لصانعه وأصل صنعته، فإذا ما أدرك قدرة الصانع الأعظم سبحانه، عرف ضلة نفسه باعتباره مصنوعا له، وإذا أدرك أصل صنعته وهو التراب، عرف تفاهة قدره، فلا موجب لديه يجعله يميز نفسه عن غيره فقد فهم أن الصانع واحد هو الله، وأن الأصل واحد هو التراب تدوسه النعال، كلكم لآدام وآدم من تراب، فإذا ما علم هذا وسيطر على الأفهام في أي عصر، سيطرت روح التآخي وهيمنت مشاعر التواصل، وانزوت نزوات التعالي والكبر، فقد اعتصموا بحبل الله جميعا ولم يتفرقوا.(18/350)
أما إذا أخلد الإنسان إلى الأرض واتبع هواه، ونسي ربه الذي سواه، وأصبح فكره حبيس نفس غرور، ولم يخطر بباله ذلك الطين الذي خلق منه، حتى ولو ادعى بأن له دينا، فيمسي على الفور عنصر عصيا ومفرقا غويا، فيبدأ بتمييز ذاته عن ذوات الغير، فإذا انتقل داخل وطنه ميز مسقط رأسه، فإذا تنقل خارج وطنه ميز وطنه، فإذا انتقل خارج قارته ميز قارته، ثم لا ينسى أن يميز نفسه بلونه ولنا في هذا التفصيل يأتي عند الحديث عن المواد المتصلة بذلك.. بل بلغ الأمر إلى العيب على ما يرتديه الغير من زي لأنه ليس كما يلبس هو وقومه، بل وعلى نوع الطعام لأند مخالف لطريقة ما يطهى عندهم ويطعم، بل وعلى اللهجات يسخر منها حيث لم تكن كما ينطق هو ويتكلم، وهكذا أصبح يعيش في نفس غيابة نسيت عيبها، فقد نسيت خالقها وما منه صنعت، لأن عنصريته التي قام عليها كيانه لم تفهم صيحة القرآن في الناس {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .(18/351)
وأحب أن أتناول هذه الآية بتوضيح فيه بعض التفصيل، فقد حفظت هذه الآية حتى من غير المتعلمين؟ وأصبح يدلل بها في هذا المجال بصورة عامة لم تبين الكثير من جمال الآية، فالنداء العظيم في أولها بدأ أولا من الله إلى الناس، يذكرهم بأن الأب واحد والأم، آدم وحواء، أي كلكم أشقاء، ولما تكاثرتم نشرناكم في الأرض، فأصبحتم قبائل وشعوبا هنا وهناك، لكن ذلك لا ينسيكم أصل الأبوين، فتعارفوا لتشعروا أنكم على سواء، والأشقاء في النسب شيء واحد، لكن لن يكونوا شيئا واحدا إذا ما تحول التعارف بينهم إلى معرفة موجدهم الأعز، لأن معرفته تعالى تعطي صبغة الإيمان، وهي أعلى ما يعلو به الإنسان، ومن صبغة الإيمان هذه تأتي صورة التآخي، وهي أعلى من التعارف، لأن التعارف عام بين كل الناس والتآخي خاص بين المؤمنين ولو كانوا غير أشقاء، فقد يكون في الأشقاء من استقام ومن أعوج، بل قد يكون منهم من آمن ومنهم من كفر.(18/352)
ولهذا سمت خصوصية التآخي على عمومية التعارف {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} فإنَ تنافي في هذه الجملة القرآنية المعظمة أكدت معنيين، أولهما تأكيد مكانة الأخوة، وثانيهما أن تكون فقط بين المؤمنين، ومن هو تحت ذلك فيقف أمرهم عند التعارف، وأن نبرهم ونقسط إليهم ما لم يكونوا مقاتلين أو مخرجين لنا من الديار، وعندئذ فلا برَ ولا قسط، ولكن ذراع يرفع بالسلام لا ينثني {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} ، وكمله، {أَكْرَمَكُمْ} في الآية تعطي واضح الفهم بأن المكرمات عند الله للمؤمنين الأتقياء رتب تتفاوت، وفي النهاية جعلت الآية أعلى الرتب في المكرمات لمن توقى من تقي إلى أتقى، فلم يقل سبحانه (تقيكم) وإنما قال {أَتْقَاكُمْ} لأن تقيكم مرتبه أدنى من أتقاكم، ولهذا جاءت الكلمتان {أَكْرَمَكُمْ} و {أَتْقَاكُمْ} على صيغة تفضيل واحدة، أي الأعلى منزلة في الإكرام هو الأعلى درجة في التقوى جعلنا الله منهم- أما ختام الآية {عَلِيمٌ خَبِيرٌ} فمتصل بما ذكر فيها عليم بخلقكم هذا الذي أخبرتكم بشيء منه، لكن خبرته بأتقاكم بها (هو أعلم بمن اتقى) فتصبح المعاني في الآية.. مرتبة بالخلق فالانتشار فالتعارف فعليكم تقوى من فعل وحده ذلك.؟
تلك هي الآية التي يقرؤها الكثير اليوم ولا يعيها، والله بها أعلم، فلما وعاها أهل القرآن يوما عملوا بها واتحدوا عليها، فتعاملوا مع غيرهم بنصفها الأول ومع بعضهم بنصفها الآخر، فلم يتفاضلوا فيما بينهم إلا بعمل ما يطمع أحدهم به أن يكون من الأتقى
فلما صمَت الآذان عن هذه الآية وأمثالها المنظمة للأسرة البشرية كل حسب مكانه ومكانته، أصبحت السيادة الآن في هذه الدنيا لذئاب التمييز والعنصرية، وكان الشعار هو أن يأكل الكبير الصغير، وجاء إعلان حقوق الإنسان فزادت شراسة هذا الشعار بما لم يعد معه ثقة ولا أمن ولا أمان.(18/353)
(فأيهما أنفع للإنسان؟ ما وضعه الله له؟ أم الذي وضعه هو لنفسه؟) ... ولما شاء الله تعالى أن ينزل من السماء نوره ليحمله إلى خلقه خير خلقه صلوات الله وسلامه عليه، حاولت هوام الظلام يومئذ أن تطفئ نور الله هذا، فتشعبت جوانب كيدهم منقضة جميعها على النور البازغ حديثا، في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم والقلة لا تملك من المنعة شيئا للدفاع عن نفسها وكان من أبرز جوانب هذه المعركة عنجهية الجاهلية، والتي انحدرت متعاقبة منذ القرون الأولى فكان أول اصطدامها بضدها في عصر نوح عليه السلام، وظل شرها المميز العنصري يتوارث ويظهر مع رسالة كل رسول، حتى الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم، فأرادت أن تعمل معه عملها الذي تعودته مع غيره، فكانت أن لقيت حتفها تماما على يد نبي الإسلام بما نزل عليه من وحي قاصم لكل عتل غاشم، ومادمنا قد اكتفينا بضرب المثل بأول الرسل وبآخرهم عليهم جميعا سلام الله، فلنذكر شيئا مما وقع في ذلك، بادئين بنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، لا تحيزا منا ولا تمييزا، وإنما مرسلهم سبحانه هو الذي فضلهم على بعض {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض} ، فإنه وإن كان نبينا صلوات الله عليه هو الآخر في ترتيب الأزمنة، فهو الأول في ترتيب المنزلة، فقد وضعه القرآن قبلهم جميعا في قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِه} فبدأ سبحانه الخطاب به قبل نوح {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} ، ثم ذكر بعد ذلك نوحا والنبيين من بعده، وأيضا في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} ، فالآية بالنبيين بدأت عامة؟ وعند الترتيب وضعت نبينا في أولى الدرجات قبل نوح ومن بعده {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيم} إلى آخر الآية، وشمل ذلك رسل أولي العزم، وفي القرآن أمر رسولنا أن يقول: {وَأُمِرْتُ لأَنْ(18/354)
أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} ، وأمر نوح أن يقول: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .
ولقد عمدت إلى توضيح هذا حتى لا يتوهم أحد أننا نميز رسولنا لمجرد التمييز تعصبا منا كما يفعل أهل الأديان الأخرى لأنبيائهم، فنحن نؤمن بهم جميعا ولا نفضل إلا من فضل الله {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه} ، والمقصود - والله أعلم بعدم التفريق هنا في مهمتهم الكبرى التي جاؤوا بها جميعا، وهي تعريف المخلوقين بالخالق ليوحدوه بلا ند ولا نظير، أما درجات أشخاصهم وشمول شرائعهم فهو تفضيل وليس بالتفريق، وقد عقد الله لنبينا في ذلك الأفضلية في شخصه وشريعته كما أوضحنا آنفا.
أعود فأقول إن أول ما بدأت تقاوم به دعوة الرسول الكريم كانت العنصرية، تلك الصفة التي لا يتشح بها إلا الجاهلون، وكل جاهلي في كل عصر، فقد صور الكفر للغلاظ من سادة قريش أن الفرق بينهم ومن أجابوا المنادي صلوات الله عليه من المساكن يمنع التساوي معهم بالدين الجديد، ومن هذا النوع قدم القرآن قصصا عنهم في أكثر من آية وأكثر من سورة، لكني اخترت البعض منها لأتحدث عنه اكتفاء بما نريد الوصول إليه في معرض هذا البحث.
فقصة الضعفاء التي أوردها علماء أسباب النزول في آيات سورة الأنعام البادئة بقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} وما تلاها من آيات سنذكرها بعد، أسندوا روايتها بلفظ يختلف ومعنى يتحد إلى ابن حبان وأحمد والطبراني وابن جرير الطبري وابن أبي حاتم، عن الصحابة سعد بن أبى وقاص وابن مسعود وعكرمة وخباب رضي الله عنهم أجمعين.(18/355)
تقول القصة: جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم بن عدي، والحارث ابن نوفل، في أشراف بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب فقالوا: "لو أن ابن أخيك يطرد هؤلاء الأعبد، كان أعظم في صدورنا أطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه"، فكلم أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر بن الخطاب: "لو فعلنا ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون؟ "فنزل قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ..} إلى قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} ، وكان هؤلاء الضعفاء الذين قصدوهم، هم بلال، وعمار ابن ياسر، وسالم مولى أبي حذيفة، وصالح مولى أسيد، وعبد الله بن مسعود، والمقدام بن عبد الله، وواقد بن عبد الله الحنظلي، وغيرهم، رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم، فأقبل عمر فاعتذر، فنزلت فيه الآية {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا..} إلى آخر الآية، انتهى لفظ القصة. ولنقرأ أولا الآيات كاملة، ثم نتناول بعضها بالتفصيل.
{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} ؟(18/356)
فالآية الأولى قدمت قضية الحقيقة أساسا، وهي أن الذي يخاف من يوم المحشر هو الذي يقبل دائما أن ينذر، والذين لا يخافون هذا اليوم لا تغنيهم النذر ولا ينتفعون بها {وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} ، ثم يأتي بعد ذلك في الآية موضوع الطرد ليصحح الوضع، فالذين قبلوا الإنذار خوفا من يوم الحشر دخلوا في رحمة الله، فلا يملك أحد طردهم منها ولا الرسول نفسه، فأمره سبحانه أن يبقيهم في حضرته حتى لا يحرموا من تلقي الخير الهابط من السماء يقدمه إليهم من ربه، وأخبره بأنه سيكون ظالما لو طردهم، أما المستحق حقيقة للطرد فهو الذي عصى النذير، لأنه لا يخاف أن يحشر فتكبر، فكان أن طرد من حضرة الرسول ومن جنة ربه، وهكذا سدد الإسلام وفي أول ظهوره ضربة ماحقة إلى من تحمله العجرفة على تمييز نفسه وتحقير غيره.(18/357)
ودور عمر رضي الله عنه في القصة هام، فقد استولت عليه الرهبة لما نزلت الآيات تخالف رأيه، عندما قال: "لو فعلنا ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون"فأسرع واجفا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذر إلى الله بين يديه، فتنزل الآية بقبول اعتذاره، لكن بعد أن ذكرت أن ما وقع من عمر كان سوءا، فلما علم الله أن هذا السوء غير منوي، وإنما وقع بغير عمد من صحابي ولي، شرفه في نهاية الآية بالمغفرة له وإحلال الرحمة عليه، فقد خاطب سبحانه نبيه في شأن عمر قائلا: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإَِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، فإذا كان ما أراده عمر رضي الله عنه هو استدراج المتعالين لعلهم يؤمنون، ومع ذلك أعتبر الله عمله سوءا يوجب التوبة، ولم يشفع لعمر منزلته عند الله وعند رسوله إلا التوبة مما قال، فكيف بمن يشمخون اليوم ويتميزون، ومن يمدونهم في طغيانهم بالملق والزلفى؟، أظن لهم ميعاد يوم لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون.
أما الذين قالوا لنبيهم نوح عليه السلام: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} وقالوا له: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} . رد نوح عن الأولى بشجاعة حملة الحق {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} ، ملاقوا ربهم لينتصر لهم ممن يهزأ بهم، وهو نفسه علم أنه لن يسلم من أمر يفعله الله به إذا رضخ لقومه وطرد الضعفاء {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ؟} .(18/358)
فهو عليه السلام أدرك بأن النصر مؤكد لهؤلاء الذين ازدري بهم، وأن نبوته لن تغني عنه شيئا إذا عصى الله وطردهم، ثم لكي يغيظهم بدفاعه عن الضعفاء بدَل كلمة (الأرذلين) منهم بكلمة (المؤمنين) منه لما قال: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} في آية {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} في أخرى، بل ورد الإهانة عنهم بأن وصم خصومهم المستهزئين بهم، بالجهل مرة، وبعدم الفهم والتذكر ثانية {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} ثم، {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} .
وبعد الذي قدمه القرآن عن نبينا وعن نوح صلوات الله عليهما، وهما الرسولان اللذان حصرا الدنيا بكاملها بين رسالتيهما نسأل: أيهما أرفع وأنفع، وأكرم وأدوم، ما وضعه الله للإنسان، أم ما وضعه الإنسان لنفسه.(18/359)
لقد مشت على هذا الصراط أمتنا الإسلامية سنين عديدة، لم يقم وزنا لحسب ولا عصب، اختفت في مجتمعها القومية وارتقت الربانية، إلى أن بدأ المسلمون ينسلَون من دينهم رويدا عصرا بعد عصر، وبدأ ثعبان العصبيات والقوميات يخرج من حجره، والذي حبسته في حجره طويلا تعارف الإنسان وأخوة الإسلام، إلى أن جاء عصرنا فحرص أعداء الإسلام والمستعمرون الذين احتلوا معظم رقعه الأرض الإسلامية أحقابا طوالا، ألا ينجابوا عنها إلا بعد أن يوقظوا فيها حمية القومية، فنودي على الفور بعد جلاء الخبثاء المفرقين بالقومية العربية، قبل أن يسبق أحد بنداء الإسلامية، وساد نداء القومية الجاهلية. وكان قد قدم لها بعمل ثابت وهو إنشاء الجامعة العربية في عصر احتلال الإنجليز للأرض العربية كلها تقريبا. وصرخت أصوات مسلمة مخلصة إبان ذلك تطالب بجعلها جامعة إسلامية لتوصد الباب على تحريك القوميات مستقبلا، وليجتمع فيها العالم الإسلامي كله، عسى أن يكون ذلك تمهيدا لعودة الخلافة الإسلامية لتعود بها قوة المسلمين لما وحدوا تحت الحكم بالقانون القرآني، لكن هذه الأصوات المخلصة أهملت ولم يصغ إليها، وغلبت فكرة الجامعة العربية الإسلامية، وأتى بعدها تبعا شعار القومية العربية وليست الأخوة الدينية، والآن تم للأعداء ما أرادوه من إيقاظ التفرقة والتمييز، حيث نظر بقية العالم الإسلامي إلى العرب نظرة الحذر والخيفة، فلم يشتركوا معنا نحن العرب إلا بالقرارات في المؤتمرات، ولم يطلقوا [1] معنا رصاصة واحدة لما أخذ اليهود بتلابيبنا، والحق لهم لأننا أغفلناهم وجعلنا لأنفسنا جامعة تختص بنا، وقومية نتميز بها.(18/360)
وفي ظل الجامعة العربية والقومية دخلت الشيوعية عدوة الإسلام الأولى أرض العرب وانتشرت، بل سادت وحكمت، وفي ظل ذلك أيضا اشتعلت الخصومات بين العرب، بل وتقاتلت دولهم بالجيوش، وفتك أبناء العم ببعضهم بالآلاف، في حروب شبه مستمرة مستعرة، وتتجدد هنا وهناك في عرض أرض العرب وطولها، وفي ظل الجامعة العربية والقومية العربية تجري مؤامرات العرب الصليبيين في لبنان لحصر المسلمين هناك بين فكي عبدة العجل اليهود، وعبدة الصليب النصارى، وذلك بمساعدة الدول المسيحية الصليبية.
وفي ظل القومية العربية وقعت بنا أشنع رزية، لما أصيبت أمتنا الإسلامية في أحشائها بضياع قدسها وما حوله من ملك إسلامي عريض قدمه إلينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوة زنودهم لما جمعتهم جامعة إسلامية، وأضعناه في عصر القومية العربية.
وليمشي المكر السيئ من أعدائنا بلا توقف، جعلوا قضيتنا مع اليهود إقليمية وليست عقدية، حتى لا تتحرك لها مشاعر صاحب الإسراء صلوات الله عليه، فدرجوها من قضية القدس المقدس إلى قضية فلسطين، ثم إلى أزمة الشرق الأوسط، ولأننا أصبحنا إقليميين قوميين تقبلناها منهم بسرعة، واستقر الأمر على أنها مجرد أزمة وتزول، وأصبحنا جميعا على كل مستوى نرددها، فلم تعد قضية إسلامية ولا حتى عربية، وقل أن تذكر فلسطينية، وإنما هي أزمة الشرق الأوسط، ولا زلنا وحدنا نبتلع غم هذا الكرب العظيم، وراح من أوقعنا في فخ هذه القومية ينظر ضاحكا متشفيا، فهل بعد هذه النكبات المبكية نتحد في جامعة إسلامية، وفيما نزل بنا من عقاب الله كفاية {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} .(18/361)
ولكن من المؤكد أنه سيعز دين الله، وسيطرد اليهود إن شاء الله من قدسنا مذؤومين مدحورين، ولو لينتقم سبحانه لنفسه منهم لتطاولهم عليه، وليس لأجل العرب والمسلمين الذين عاهدوهم وأعطوا الدنيئة في أنفسهم ودينهم، وما كانوا اليوم أوفى من ماضيهم الغادر، لما عاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم خانوه، فما كان لليهود يوما دولة ولن يكون، فيكم قرناء الذلة والتيه، وثلاثون عاما أو زهاء ليست شيئا في أعمار الأمم حتى يحسب بها لليهود دولة، والانتظار لن يطول بما ليس في حسبان أهل التشاؤم والوهن والخنوع إن شاء الله، وما قصه التفرق بسبب اللون؟ وهي قصة تلطخت بها مدنية المتحضرين فوق تلخطات ومخازي أهلت الأكثر في بؤر المظهر. وخاصة من الذين وضعوا إعلان حقوق الإنسان.
لقد أعطاني المدرس وأنا صغير درسا في سبب تباين ألوان البشرة، وقال لي: إن البشرة يسود لونها إذا عاش الإنسان في المناطق التي تشتد فيها حرارة الشمس، وتكون بيضاء في المناطق الباردة، فلما كبرت وكبرت معي مداركي بعض الشيء، علمت أولا أن هذه النظرية مصدرة إلينا عبر الماضي من عند غيرنا، وعلى كل حال لا مانع من أن نقبل أي مفيد من أي جهة، فلسنا متزمتين وقد يكون ذلك صحيحا فالكون لله والحر والبر هو مقلبهما، لكن سألت نفسي، إن الأوروبيين عاشوا مئات السنين وهم مستعمرون للمناطق الحارة ولم يتغير لون بشرتهم، وزنوج أمريكا عاشوا فيها قرونا طويلة ولم يتغير لون بشرتهم، والطفل الأوروبي الذي ولد تحت خط الاستواء وتلقفته الشمس الحامية وكبر تحتها لم تغير لونه، والملونون من مستوطني البلاد الثلجة لم تغير الثلوج البيضاء ألوان أطفالهم التي لونهم الله بها وهم أجنة في بطون أمهاتهم، ثم إن هؤلاء السمر ابتداء من صعيد مصر إلى آخر القارة الإفريقية هل كانوا جميعا عراة حتى غيرت الشمس لون كل أجسامهم؟..(18/362)
أم أنه لو كانت الشمس هي المغيرة للون لكان الوجه وحده هو الذي يتغير ويبقى الجسم المستور بالثياب بغير تغيير، فمعروف أن الأبيض كله أبيض، وأن الأسمر كله أسمر، وهكذا، وقد يقول قائل: إننا نلاحظ تغيير لون الوجه الأبيض إذا تعرض للشمس طويلا، ولكنه تغيير قليل لا يلبث أن يعود إلى أصل لونه عندما ينتهي التعرض لحرارة الشمس هناك، ثم هناك ألوان متعددة، فاللون الأصفر يغلب على معظم دول آسيا، فهل الشمس هناك صفراء؟ والبلاد العربية لونها بين بين، فهل لون الشمس في هذه المنطقة كذلك؟ وغير ذلك من ألوان في أنحاء الأرض متباينة وصور في تكوين الوجه مختلفة، كلنا نراها وخاصة في موسم الحج الجامع المهيب.(18/363)
وإذا من الذي لون وصور {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} ، إننا نرى الأشقاء بل التوائم يختلفون صورا ولونا وطولا وقصرا، وما خلقوا جميعا إلا من نطفة لا يتغير لونها، وكونوا في رحم واحد ما تعرضوا فيه لحرارة الشمس ولا لصقيع البرد، فجل الخالق وعز، وعفا الله عن المدرس الذي علمني وأنا صغير عكس هذا يوما، ولكنه هو الآخر معذور فقد تعلمه قبلي من غيره، والذي قبله كذلك وهكذا نسي الخالق ونسبت صنعته إلى غيره {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأََمْرُ} ويا ليتنا وقفنا عند هذا، بل رحنا نتخذ من صنعة الله هذه تفرقة تمييزا، ووقع في هذه الفتنة الوافدة مسلمون كثيرون في جهات وأماكن مختلفة، أقولها وأنا متأكد منها، ألسنا هائمين إعجابا بتقليد الأجانب في كل شيء حتى ولو عصينا بذلك ربنا وصريح ما أنزله على رسولنا؟ لما قدم إلينا سبحانه تغير ألواننا على أنه آية من آياته، لا يفعلها سواه، لنجعلها ينابيع الإيمان للنفس الفاهمة المدركة، ففي سورة (الروم) وهو اسم لأمة غير عربية، سمى الله بها سورة من سور كتابه، يقول سبحانه فيها: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} ، فالآية دليل على ما قلته آنفا من تحليل قصة اللون، وأن اختلاف اللغات والألوان بقدر لا يحصيه غيره هو خلق له مباشر، وليس بسبب كوني تقلبي من حرارة أو برودة أو تضاريس أو مناخ بيئة، فالتقدير المجمل للآية هو:(18/364)
ومن دلائل وجوده وقدرته، خلق السموات والأرض، وخلق اختلاف لهجاتكم واختلاف ألوان أجسادكم، ومع أن اللغة واللون داخلان في خلق السموات والأرض، لكن اختصتا وحدهما في الآية بعبارة منفردة ليلفت سبحانه أنظار عباده إلى عظم آياته، والعالمين منهم خاصة كما ذكرت الآية، والتي من أعجبها فقط مجرد اللغة واللون، وإنما اختلافهما، وذكر سبحانه كلمة {لآياتٍ} مرتين، في أول الآية وآخرها، ليؤكد أن ذلك من معجزات الصانع وحده، ولكن هذه الآيات لا يجني جناها ويستفيد منها إلا (العالمين) ، الذين علموا حقيقة الوجود والموجد عز وتنزه,.
فما الحال إذا قدم الله إلى خلقه ما ذكرته الآية ليميزوا بها الحقيقة الواقعة في هذا الملكوت فعكسوا الآية كما يقولون، وانطلقوا يميزون بين الناس بلون الجلد، فإن كان أهل الفكران والكفران مصرين على تسفلهم هذا، أو من تبعهم منا في هذا بما يعدّ عدم تصديق بما أنزل به القرآن، فنحن عندنا أيضا تمييز لهم يوم يقال ما سيعوه جيدا {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} ، وبلون الوجوه كذلك، فعندنا لوجوههم سواد لن يزول أبدا {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوه} ولو كانت في الدنيا بيضاء لامعة، فهي يومئذ بكفرهم سوداء حالكة. وإذا كانت اليوم سوداء فهي يومئذ بإيمانهم جميلة بيضاء.(18/365)
ثم نسمع أيضا وصفا للتمييز عندنا بلون الوجوه فنقرأ {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً} ، يا لرهبة الوصف، ولو وقف سبحانه عند كلمة (الليل) لأعطت المعنى، ولكن لأن الليل قد يضيئه قمر وتتلألؤ فيه نجوم، فحدد وجه صاحب السيئات بالليل المظلم الذي لا قمر فيه ولا نجوم عندما يغيب كلاهما في آخر الليل، ونزيد من هذه الألوان ما قال كتابنا أيضا: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} ، فوجه سواد الوجه في الآية الأولى لأنهم كفروا بربهم، وفي الثانية لأنهم كسبوا السيئات، وفي الثالثة لأنهم كذبوا على الله. بل منهم من سيميز بلون لم يسبق في الدنيا أن لون وجه أحد، وهو اللون الأزرق {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} .
هذه قاعدة التفرقة والتمييز عندنا، وحتى التفرقة بياض الوجه لها عندنا أيضا قول جميل {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وإذا كان الخلود هنا في الرحمة بمعنى الجنة، فإن ما سنسمع في الآية الآتية أحسن من الجنة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، فالنظر إلى وجه بارئ الجنة خير من كل الجنة، أما الوجود التعسة فهي {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} . باسرة: شديدة العبوس. وفاقرة: داهية تقصمهم..(18/366)
ثم نسمع من القرآن ما لا يشبع منه مسمع، لنعرف القاعدة الصحيحة للتمييز بين الوجوه، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} . مسفرة: مضيئة من الفرح {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ. تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} . قترة: ظلمة، من هم هؤلاء؟ تجيب الآية، {أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} .
هذه هي قاعدة التفريق والتمييز عندنا نحن المسلمين، قاعدة تطبع الوجوه بطابع العمل الرباني، وليس ببشرة تتلون في دنيا التلون.
وليس لغيره ننظر
ووجه الله غايتنا
لحقا وجهه مغبر
ومن عن ربه يعرض
بهذا وحده نفخر
فبالتوحيد وحدتنا
يفرق بينه المظهر [2]
ألا سحْقا لمجتمع
وفي أواخر هذا الباب نورد مجموعة وقائع تاريخنا العاطر ابتداء من عصر النبوة فما بعد لمن أراد المزيد، حيث ما مضى من حديثنا المطول كان كله قائما على أرفع الأدلة، وأيقن مقال، وهو القرآن الكريم، وأورد الآتي من غير تعليق.
1- من قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع:
"ليس لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى"، (ابن هشام) .
2- بلال الأسود جدا، رضي الله عنه، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم يوما: "يا بلال ما دخلت الجنة إلا وسمعت دف نعليك بين يدي، فما تصنع في الإسلام؟ فقال: لا شيء يا رسول الله غير أني كلما توضأت صليت ركعتين بعد الوضوء" رواه البخاري، وأصبحت ركعتا بلال سنة في الإسلام أقرها النبي صلوات الله عليه.(18/367)
3- تجادل أبو ذر رضي الله عنه مع رجل أسود، قيل هو بلال وقيل غيره، فلما برح به الغضب عند الاحتداء قال له: يا ابن السوداء، فشكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأبي ذر: "أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيكَ جاهلية، وقال: طف الصاع. طف الصاع، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى أو بعمل صالح" (البخاري) .
4- جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل جليسا له وقد مر بهما رجل: "ما رأيك في هذا؟ "فقال: "الجليس هذا رجل من أشراف الناس، هذا حري والله إن خطب أن يزوج، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع لقوله". فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما رأيك في هذا؟ ". فقال: "يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا والله حري إن خطب ألا يزوج، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا خير- يقصد الفقير- من ملء الأرض من مثل هذا" (البخاري) .
5- قال الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه: "هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟ " (البخاري) "أبغوني في ضعفائكم، إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم" (أبو داود) .
6- وأثر عن عمر رضي الله عنه قوله للمسلمين: "لوددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر، تذهب بنا شرقا وغربا، فلن يعجز الناس أن يولوا رجلا، منهم فإن استقام اتبعوه. وإن جنف قتلوه، فقال طلحة رضي الله عنه: وما عليك لو قلت، وإن تعوج عزلوه، فقال عمر: لا، القتل أنكل لمن بعده".
7- وكتب إلى أبي موسى الأشعري واليه على الكوفة يقول: "يا أبا موسى، إنما أنت واحد من الناس، غير أن الله جعلك أثقلهم حملا، إن من ولي أمر المسلمين يجب عليه ما يجب على العبد لسيده".(18/368)
8 ـ وقال للناس يوما: "ما قولكم لو أن أمير المؤمنين شاهد امرأة على معصية؟ فقال له علي رضي الله عنه: يأتي بأربعة شهداء، أو يجلد حد القذف كسائر المسلمين".
9- واشتكى يهودي عليا إلى عمر رضي الله عنهما، وكان جالسا بجانبه، فقال له عمر: "قم يا أبا الحسن، قف بجانب اليهودي موقف القضاء"، وبعد تبرئة علي باعتراف اليهودي، لا حظ عمر على وجه علي تغيرا، فقال له: "أو قد ساءك أني أوقفتك بجانب اليهودي موقف القضاء"، فقال علي: "لا وإنما خشيت ظن اليهودي محاباتي عليه لما ناديته باسمه وناديتني بيا أبا الحسن".
10- وقولته (أي عمر) رضي الله عنه لعمرو بن العاص لما ضرب ابنه واحدا من أهل مصر- في قصة مشهورة -: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، وأعطى سوطه للشاكي وأمره أن يضرب ابن عمرو".
11- قال عثمان رضي الله عنه للمسلمين أثناء خلافته: "إني أثوب، وأنزع ولا أعود لشيء عابه المسلمون، فإذا نزلت من منبري فليأتني أشرافكم فليروني رأيهم فوالله لئن ردني الحق عبد لأذلن ذل العبيد". (من تاريخ العصر الراشدي)
فاسمعوا يا واضعي حقوق الإنسان، هذه هي حقوقه في الإسلام فأيهما أفضل، ما وضعه خالق الإنسان للإنسان، أم ما وضعه الإنسان؟ الله أكبر، سبحانه من رحيم كريم، لا يضاهى ولا يمثل.
الباب الثاني
نتحدث في هذا الباب عن المواد 7، 8، 9، 10، 11 من حقوق الإنسان. ونورد نصوصها فيما يلي:
المادة السابعة: كل الناس سواسية أمام القانون، ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة منه دون أية تفرقة، كما أن لهم جميعا الحق في حماية متساوية ضد أي تمييز يخل بهذا الإعلان، وضد أي تحريض على تمييز كهذا.
المادة الثامنة: لكل شخص الحق في أن يلجأ إلى المحاكم الوطنية لإنصافه من أعمال فيها اعتداء على الحقوق الأساسية التي يمنحها إياه القانون.(18/369)
المادة التاسعة: لا يجوز القبض على أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفا.
المادة العاشرة: لكل إنسان الحق على قدم المساواة التامة مع الآخرين في أن ينظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظر عادلا علنيا للفصل في حقوقه والتزاماته وأية تهمة جنائية توجه إليه.
المادة الحادية عشرة: كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا حتى تثبت إدانته قانونا بمحاكمة علنية تؤمَن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه.
ولا يدان أي شخص من جراء أداء عمل الامتناع عن أداء عمل إلا إذا كان ذلكَ يعتبر جرما وفقا للقانون الوطني أو الدولي وقت الارتكاب، كذلك لا توقع عليه عقوبة أشد من تلك التي كان يجوز توقيعها وقت ارتكاب الجريمة.
وسأبدأ الحديث عن هذا الباب بآيات من القرآن من قانون العدل كله، نفصلها ليدرك بها الكثير دقة مواد القضاء النازل من السماء، وأقصد بالكثرة المسلمين الذين لا يعلمون كتابهم، إلا أن يفتنوا بمن يؤلفون غيره.
الآية الأولى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} .(18/370)
بدأ سبحانه الآية بتأكيد لفظي ليضفي على ما سيذكره التأكيد المعنوي، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} ، وكلمة {يَأْمُرُكُمْ} جاءت بعد اسم من أصدر الأمر، لتنشعر الهيبة والرهبة من عظمة صاحب الاسم الأمر بما سيقوله بعد، ولأن الآمر سبحانه وقد عرفتموه لا يمكن لأحد أن يأمر معه، أو ينقص من أمره قدر قطمير، ثم اختيار كلمة الأمر بعد اسمه المعظم يعطي الفهم القاطع بأن المقررات التي ستوضحها الكلمات التي في الآية لا تجيز الترك وعدمه، وإنما هي إلزام حتمي للتنفيذ، تلك هي {أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ، ولشتى أنواع الأمانة جاءت بلفظ الجمع، أعلاها الأمانة التي حملها الإنسان تجاه ربه، وهي إقامة شرائعه خالصة لذاته، وأدناها كلمة سر يؤتمن عليها، وبين الاثنين حقوق لا تحصى تتصل بالله تعالى، والكل مأمور بأدائها كاملة إلى أهلها، لكن الآكد في الآية من حيث الأمر بالأداء هو المرتبط بحقوق العباد لأن المرتبط بحقوق الله تعالى تعرضت له آيات أخرى عديدة، والقرينة التي تدل على أن حقوق الإنسان هي المعنية في هذه الآية، قوله تعالى بعد ذلك: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} ، فالحكم بالعدل لا يمكن إلا في قضية عرضت ليرد حق سلب أو اغتصب، وهذا شأن من شؤون بني الإنسان ملازم لوجوده إلى أن ينتهي وجوده بانتهاء الدنيا، فلا بد من ظالم ومظلوم وباغ ومبغي عليه، ومن هنا يأتي العدل في صورة حكم،
يصدر من حكم صفته الحكمة التي لا تنثني ولا تميل، ثم من قرائن اهتمام الآية خاصة بحديثها عن الإنسان كلمة {بَيْنَ النَّاسِ} ، فإذا ما جاء بعدها ما يدل على أن الناس حكم بينهم بالعدل، كان ذلك عملا بموعظة جليلة الخطر عظيمة الأثر، مدحها الله بقوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} نعم ما يفيدكم به، ذلك أنه ما من شيء يذهب الغيظ ويجمع الشتات ويقيم المجتمعات على التآخي أكثر من العدل.(18/371)
ولهذا كان الإمام العادل ضمن أنواع سبعة فقط من عباد ممتازين، لا يلفح وجوههم اللهب يوم الحر الأكبر، حيث استظلوا ببرد الظل الأعظم دون سواهم، ثم يختم سبحانه آيته الكريمة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} ، فهذه الكينونة الملازمة له سبحانه أزلا ودواما، كينونة اتصاف بكل كمال، وتنزيه عن كل نقص، ومنها ما ذكره هنا بصيغة المبالغة {سَمِيعاً بَصِيراً} ، فهو سميع لما يقال سرا أو علنا، بصير بما يعمل جهرا أو خفاء، وعلى قاعدة أن نهايات الآيات لا بد من ارتباطها بما يذكر فيها، فإن رد العباد على الذي أمرهم به في الآية سيكون قولا يدل على الاستعداد للعدل أو عكسه، وهذا القول إما بصوت أو بهمس، وهو في الحالين سميع، ثم ينتقل الأمر من القول إلى العمل، فإن كان القول طاعة تبعه العمل بالعدل، وإن كان القول معصية فلا عدل وكان الظلم، ثم المثوبة أو العقوبة، فمستحيل أن يأمر الله بشيء ثم يترك أثره هملا، هذا هو العدل الذي يقتضي بحفظ الحقوق ونزاهة إصدار الأحكام، بصورة ما ترامى إلى الآذان شبيه لها، ذلك لأنها من الحكم العدل العظيم أحكم الحاكمين.
فأيهما أنفع للإنسان، حقوق وضعها لنفسه هو طامع أن يسلبها من غيره، أم حقوق من خالقه لا طمع له فيها لأنه المنزه عن الاحتياج لغيره؟.
تحليل لآية ثانية: يقول الحق المبين:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأََقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} .
بدأت الآية بنداء، فمن المنادي؟، ومن المنادون؟، وما هو المطلوب من النداء؟(18/372)
المنادي هو أحكام الحاكمين، والمنادون هم المؤمنون به المطيعون له، ولن يكون ردهم على راحمهم وقد آمنوا به إلا لبيك خير المنادين، فلن يكون نداؤك إلا الخير لنا أجمعين.
وما هو المطلوب من النداء؟ آمركم أن تكونوا ملازمين قائمين أبدا بالعدل، ولهذا بالغت في صورة اللفظ {قَوَّامِينَ} فالعدل أمر قائم لا ينقطع، وهكذا اجعلوه بينكم لا يخل ميزانه ولا يختل أركانه، والعدل من أهم ما يظهره ويقيمه إذا ما أريد حجبه من المتخاصمين، بالإنكار أو بليِّ اللسان بزخرف الكلام، هو الشهادة بالواقع الصحيح الذي رئي أو سمع، {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} ، وكلمة شهداء أتت بعدها كلمة {لِلَّهِ} لتؤدي معنيين، أولهما، وأنت تشهد سواء كنت مدعوا أو متطوعا، أن تؤديها وأنت مراقب لله، فاستحضارك مراقبة الله أثناء الشهادة سيجعلك تقول الصدق الذي يظهر الحق، وثاني المعنيين أن تقصد بهذه الشهادة مثوبة الله ورضاه، وليس أجرا من أحد المتخاصمين تعطاه، أو ثناء من الحاكم أو القاضي الذي أعنته بشهادتك على إعلان الحق وخذلان الباطل فهذان المعنيان إذا حضرا الشاهد أثناء شهادته، كان العدل أصفى وأنقى عندما يستعمل لتؤدى به الحقوق، ثم تستمر الآية قائلة {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأََقْرَبِينَ} ، مراتب ثلاث، بدأ بأعلاها سبحانه وانتهى بأدناها، فليس لدى النفس، ولو كان غير النفس أبا أو أما، فإذا ما هيمن الشاهد على نفسه وقتل فيها حب الإيثار الملازم للنفوس عادة، فيصبح انتصاره في المرتبة الثانية أيسر وأسهل، ولهذا ذكرت الآية الوالدين بعد النفس {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} ، فهو مستعد أن يشهد على والديه وقد شهد على ما هو أعز منهما، فما بعد روحه (الذي فيه) روح، وبهذا يكون عند المرتبة الثالثة {وَالأََقْرَبِينَ} أولى لأداء الشهادة بيسر أكثر وسهولة أوفر، فأي الأقربين أقرب إليه من أبويه،.(18/373)
ثم تقول الآية: {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} ولأنه اختلف إن كان هذا تشريعا محضا أو تشريعا مسببا، فقد رأينا أن نترك هذا الأمر ونستمر في التحليل المتصل بهذا البحث، فالغنى مظهر قد يرغب أو يرهب، والفقر مظهر قد يدعوا إلى ازدراء الفقير أو العطف عليه، وكلا النوعين إما ظالم أو مظلوم، وعندئذ يكون الشاهد ناظرا من أعلى إلى هذا كله، لأنه سيؤدي الشهادة ومعه الحليتان اللتان ذكرناهما آنفا، مراقبة الله والرغبة في رضاه، إذا فيترك أمر الكل إلى من هو بالكل أرحم، فلا ينحني أمام رهبة، ولا يميل أمام رغبة، فالله أولى وأحق بعباده من أن يتفضل عليهم سواه {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} ، {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} ، فالهوى هو الغالب وجوده عند الشهادة أو الإقرار بالحق على النفس، والغالب وجوده أيضا عند الشهادة أو الإقرار بالحق على الوالدين، ونفس الأمر عند الشهادة أو الإقرار بالحق على الأقربين، ونفس الأمر عندما نرهب غنيا أو نستضعف فقيرا ولم يزد هذا الهوى خوف من الله ولا رجاء ما عنده، يكون الهوى قد اتبع، وتبعا لذلك يكون العدل قد غاب، ويكون الظلم قد حضر، والحق قد أهدر، وهل يكون إتباع الخاطف من العواطف إلا هذا هوى- متبعا وعدلا ضائعا، لهذا كان النهي القوي في كلام الآية المقدر بهذا المعنى: احذروا أن تتبعوا الهوى فإن يؤدي بكم إلى أن لا تعدلوا.
{تَلْوُو أَوْ تُعْرِضُوا} ، فالألتواء وهو الميل مع الهوى عن الحق، من شاهد أو قاض، أو الإعراض وهو أبعد خطرا وأضر أثرا، يقع أيضا من شاهد أو قاض، إن وقع أحدهما أو هما معا من الشهود أو القضاة {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} .(18/374)
فهو عند أهل المعاني قبل أهل التأويل ليس ختام الآية هذا خبرا لمجرد العلم به، وإنما يحمل إنذارا مخيفا لمن لم يطع ما في الآية، فلوى وأعرض حتى أظهر باطلا وأمات حقا، لأن صفة الخبرة بالنسبة لله تعالى ليست في حاجة إلى أن تقدم للمؤمنين ليعرفوها فما اعتبروا مؤمنين وما استحقوا أن يناديهم الله بها في أول الآية إلا لأن مستلزمات الإيمان جعلتهم عرفوا فيما عرفوا خبرة الله بكل ملكوته وما يجري فيه {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} ، وإنما نهاية الآية تقول للمؤمنين: إذا اتبعتم هواكم بعد أن علمتم أني خبير لا يخفى علي شيء، فقد استوجبتم عقاب فاعلي ذلك، ومبلغ علمي إن شاء الله أن مفسرا واحدا لم يشذ عن معنى ما ذكرناه.
إذا فأسال: أيهما أنفع للإنسان، هذه الحقوق التي وضعها له خالقه، وأولاها حراسة قوية تولاها بنفسه سبحانه، أم تلك التي سماها الإنسان حقوقا وحتى لم يحقها لنفسه وإنما أتبعها هواه؟، الله أكبر، ومن أحسن من الله حكما؟.
وعن آية ثالثة نتحدث:(18/375)
فمن عظمة القرآن الذي أنزله الله على خير إنسان صلى الله عليه وسلم نقدم قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} .
الآية الكريمة: بدأت بتقديم ما فيها من رواسخ الدعائم القضائية، لتثبت حقوق الإنسان على الأرض إلى أن تنتهي الأرض وإنسانها، دون السماح لكائن أن يغير مما أحق الله ورسم، ولو كان رسولا نبيا كداود أو غيره، فبدأت بالترغيب للإصغاء، وهل أتاك
يا رسولنا محمدا، خبر قصة أخيك داود لما امتحناه بقضية حقوقية ليفصل فيها. ثم يمشي القارئ معي ليجد أن حديثي عن الآية لن يتناول القصة من حيث السرد وحكاية الوقائع، وما قيل في ذلك من كلام طويل تعرض فيه الكثير للقول المؤلف والرأي المختلف، وسأفضل الظاهر من ألفاظ الآية لأربط ذلك بموضوع حقوق الإنسان الذي نحن بصدده، وحتى الحديث في قصة داود عليه السلام بالظاهر الكلامي هو أسلم وأبرأ إلى الله من الشطح والغلو الأسطوري المهلك، فقد أنذر علي رضي الله عنه من يخوص في أمر داود بما يحلى القصاص من التزويق الحديثي، بأن يجلده ستين ومائة جلدة.(18/376)
إذا فما يعنيني من هذه الواقعة الحقوقية في الآية، أنها بدأت بقفز المتقاضين من فوق الحائط وهو منظر شاذ جدا لا يفعله إلا من يريد أمرا جللا من قتل أو سرقة، وهذا ما دعا داود عليه السلام إلى الفزع لما رآهم يهبطون عليه من سور مسجده وهو في خلوته مع الله، وأن الفزع هو من تصور شر قد يقع له منهم، فالمسالم لا يقتحم الأسوار وإنما يأتي من باب الدار، لكن الذي تأكد بعد ذلك أنهم من مسالمون، بل هم لداود وحكمته وعدله طالبون، ولهذا كانوا مسرعين إلى طمأنة داود وإزالة ما لاحظوا عليه من فزع {قَالُوا لا تَخَفْ} وقدموا أنفسهم إليه زيادة في تهدئة روعه {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} .(18/377)
تحدثت الآية عن الخصمين بالجمع لأن كلا منهما معه مناصر له- إذا فالخصومة وطلب الحقوق شيء لا صبر معه، وأن الخصومات إذا طالت دون فصل، والحقوق إذا ضاعت دون رد، فسيتولد منها مخاطر تدمر المجتمعات وتأتي عليها من القواعد، فالمظلوم لا يصبر طويلا وعلقم الظلم يملأ فمه بالمرارة، فإما أن ينصف سريعا ممن تولوا أمر مجتمعه أو يتولى بنفسه رفع الظلم عن نفسه ورد حقه إليه ولو بصورة ليس فيها نازع ولا رادع، وهذا ما جعلنا نأخذ هذا المعنى من تسور المحراب، ولم ينتظر حتى يزول المانع من الدخول من الباب. حيث كان في هذا اليوم ممنوعا لأكثر من سبب ذكرها المفسرون، فهل قدر الظالمون ما يموج في ضلوع المظلومين؟ ، ثم بدأ عرض القضية على داود من المتسورين سواء كانوا ملائكة أو بشرا حسبما اختلف المؤولون، لأن القصد من الواقعة كلها إقرار حق وتثبيت عدل يبقى إلى يوم الساعة، وبدأ العرض من الطرفين بالطريقة المؤدبة التي تليق بتقديم القضايا للقضاة، حيث قالوا مقيمين الاحترام لداود دون أن يرجح أحدهم كفة الحق لنفسه، حتى يسمعوا الحكم ممن احتكموا إليه {بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} ولم يقل أحد الخصمين احكم لي فالحق لي، وكل ما قالوه {وَلا تُشْطِطْ} ، ذكروه بعدم الميل بعاطفة، فقد يكون في أمر أحد المتخاصمين ما يرقق القلب دون الحق، فيقع الحكم بالتعجل وليس بالتدقق، وهذا ما يرجح بأن المتسورين للحائط ملائكة، موجهون بهذه الكلمات الشرعة من الذي أرسلهم سبحانه، ثم زادوا {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} ، أي احكم بيننا بالحل بالوسط المرضي لقواعد الحق ولو لم يرض المحكوم له أو المحكوم عليه، وهذا مبدأ رائع لعرض الأمور من غير تهور ولا رعونة، والقضية هي {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} .(18/378)
فهنا ترك داود عليه السلام بداية الكلام للشاكي، لأنه الأحق بسبب ما يعانيه من ضياع حقه - وهذا مبدأ أخذ منا حتى اليوم- ثم على الشاكي ألا يبدأ شكواه بالغضب والسب لشاكيه، ولهذا قال رغم تألمه من خصمه {إِنَّ هَذَا أَخِي} ، ذلك بأن الحقوق بعد أن ترد يجب أن يبقى الود - وهذا مبدأ قرره القرآن أيضا وقد انعدم أو كاد - فالتقاضي الآن أصبح يولد أحقادا قد يتقاذفها الورثة ليبقى عداء بعيد الأمد سيء الأثر.
وعريضة الدعوى المقدمة إلى القاضي داود عليه السلام، وهي- فيما أعلم- قضية تدريب له كيف يتعلم الفصل في القضايا على أنها أول قضيه تعرض عليه، هي غاية في الغرابة وأشد ما تكون شدا للعاطفة وتأثيرا مجنحا إلى الميل، أحد الخصمين يملكَ مائة شاة إلا واحدة، وبلغ به طمعه أن يجعلها تكمل المائة، والشاة المكملة للمائة لأجير فقير يعمل عنده يقوم بأمر غنمه مقابل أن تتربى شاته تطعم من طعام غنمه، ويبدو أن الشاة بورك فيها وأصبحت بحال طيب لفت نظر الغني صاحب التسعة والتسعين، فأراد أن يضمها إلى غنمه، ويجعل صاحب الشاة مجرد أجير، يعوض عنها بشيء ولا يكون له في الغنم شيء، ومكنه وضعه أن يضغط على صاحب الشاة ترغيبا أو ترهيبا، {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} ، أي خاطبني بما تأكدت به من إصراره على ما يريد، وأنا أريد أن تبقى شاتي لي.
وسواء كانت صورة الدعوى هكذا حدثت في الواقع، أو وضعت لضرب المثل للقضايا الصعبة السريعة التأثير في نفس القاضي- الله أعلم- فإنها قد أخذت الشكل المتوقع، خصوصا لدى القلوب الحانية التي تستقر بين جنوب الأنبياء صلوات الله عليهم {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .(18/379)
ومن هنا كان النطق بالحكم من داود عاجلا وسريعا بسرعة نسبة واحدة إلى تسعة وتسعين {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} ، والعجب أن حنو داود قد فاض بالحكم لذي النعجة مع أنها لا زالت في حوزته ولم تنزع منه بعد، وألصق جناية الظلم بخصمه لمجرد أن سأله نعجته {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} ، فكيف لو اتبع السؤال بالاستيلاء؟، إنها من حيث الأساس رأفة تليق بنبي صفي، ولكن في هذا الموضع وهو مقام تمحيص الحقوق، لا بد أن تقترن الرأفة بالتروي والتأني، حتى تدرس القضية بكل المتخاصمين وبكل الشاهدين، وهذا لم يفعله داود عليه السلام، ومع أنه قدم حيثيات الحكم الصحيحة لما قال: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} ، فهذا تقرير لأمر يلابس الناس دواما، خاصة شركاء المادة، لغلبة سوء الظن على حسنه، بأن شريكه ليس كفئا له، أو يحتوي على حظ أكثر من حقه، ومن هنا يأتي بغي بعض على بعض، ويستمر القرآن في تقدير الأمر يجريه الأمر سبحانه على لسان هذا النبي الكريم، حيث لم يدخل في الكثرة التي تبغي على بعضها أولئك الذين آمنوا بربهم، فراقبوه متبعين ما أحل مجتنبين ما حرم، ولما كان الوصف الكمي للباغين هو الكثرة، فلابد أن يكون العكس هو القلة {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} .(18/380)
بيد أن هذا القول الحق لم يعف داود عليه السلام من نتائج حكمه غير المسدد وسبب عدم تسديده أمران، أولهما مطاوعته لرقة قلبه لوضع ذي النعجة الواحدة، خاصة أنه الشاكي، ولا يغلب على الشعور إلا أن الشاكي هو المعتدى عليه في أي الاحتكام يقع بين خصمين، فتعجل عليه السلام بإصدار الحكم لصالح الشاكي قبل أن يسمع دفاع لمشكو تجاه شاكيه وهذا أمر لا يمكن أن يبيحه الله الذي شدد فرضية العدل في ملكوته،.
والأمر الثاني الذي جعل الحكم غير مسدد هو- والله أعلم- أن داود عليه السلام وهو يؤدي أول اختبار في الفصل في القضايا، دفعه الحنان أيضا إلى عدم انتظار توجيه السماء، فما كان مرسله سبحانه يدعه ليحيد، فكان عليه وهو نبي من أهل الوحي أن ينتظر حتى تهبط عليه طريقة الفصل في المنازعات لتصبح الركائز المعروضة فقط وقتئذ.
فكانت نتيجة امتحان داود في نهاية الموضوع هو قوله سبحانه {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} ، والظن هنا بمعنى الإدراك والعلم، وبالصورة التي أعلمه بها، وليس بخرافات الإسرائيليات التي أترعت بها التفاسير الغثة، عندما وقع في مصيدتها عشاق الأقاصيص، {أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} امتحناه وما جفيناه، حيث قبلنا سجدته وغفرنا هفوته وأحسنا أوبته {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} ذلك لأن الدرس أفاض عليه كامل المعرفة بأسرار القضايا وخبايا المشاكل البشرية التي سيظل الإنسان يتخبط فيها بسبب ماديته المتأصلة فيه، وبعده عن الروحية المتوادة المتسامحة.(18/381)
لقد انتفع داود بالدرس التدريبي العظيم هذا، فاستحق لما علم منه ربه ذلك بأن يجعله الخليفة العادل في الأرض، والقاضي المتحق الذي لا سبيل معه لميل الهوى {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأََرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} .
وانظر إلى نهاية الآية المنذرة بالعذاب الشديد، لمن يميل مع الهوى ويضل بتضيع الحقوق، عندما يحكم أمة أو يفصل في قضية، فويل له من ناس ليوم الحساب، عندما يكون يومها حسابا عسيرا كأعسر ما يكون الحساب، ذلك أنه أؤتمن على شيء هو من أعظم الحرمات عند الله، وما كانت كذلك - وهو أعلم - إلا لأنها خير ما يتم به الهدوء النفسي والأمان الإنساني، فإن لم يحاسب الحاكم أو القاضي نفسه ليوزع الحساب بين من لجأوا إليه أو ألوا إليه بدقة، اعتبرته الآية ضالا غاويا له العقاب الخاص بالضالين.
وبعد انتهائي من عرض العجائب الحقوقية لهذه الآية، وإنذارها من يحيد عن هذه الحقوق بلفتة بصر أن ينال جزاءه، بالشدة التي ذكرتها كلماتها الرهيبة، أكان يجوز للإنسان أن يجد لنفسه أقوى وأحكم مما جعله الله، حقا إن الإنسان لربه لكنود.(18/382)
لكن الآسى الذي يملأ القلب نكدا، يأتي من الإنسان الذي ادعى الإيمان، وراح يثق بحقوق صنعت للغرض والغاية، وترك قرآنه وقانونه {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ، ولكن بعد أن مات صلى الله عليه وسلم، ما فتنا فقط عن البعض وإنما عن الكل، فحاق بنا ما ذكرت نفس الآية {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} ، (وقد كان) وعسى ألا يقع بالبعض الباقي.
وننهي هذا الباب بنصوص من فخرنا العدلي واعتزازنا القضائي، بما نباهي به الدنيا قاطبة، نقدمها عددا ونصا بغير تعليق لمن يدخرها.
1- آية من آيات زخر بها كتاب الله العظيم: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم؟} سورة النحل، آية 76.
2- حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند أم سلمة رضي الله عنها، أن دعا وصيفة لها مرات فلم ترد عليه، فاستبان الغضب في وجهه، فخرجت أم سلمة تبحث عنها فوجدتها تلعب فقالت لها: "أراك هنا تلعبين ورسول الله يدعوك! "فأقبلت الصبية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: "والذي بعثك بالحق ما سمعتك"، وكان بيد الرسول سواك فقال لها: "لولا خشية القود لأوجعتك بهذا السواك" رواه الإمام أحمد.(18/383)
3- أتت امرأة عمر بن الخطاب رضي الله عنه تذكر زوجها عنده فقالت: "زوجي من خير أهل الدنيا، يقوم الليل حتى يصبح، ويصوم النهار حتى يمسي"، فقال لها عمر: "جزاك الله خيرا، فقد أحسنت الثناء"، فلما ذهبت قال كعب بن مسور رضي الله عنه، وكان جالسا بجانب عمر: "يا أمير المؤمنين، لقد أبلغت إليك في الشكوى"، فقال عمر: "ومن اشتكت؟ "، فقال كعب: "اشتكت زوجها"، قال عمر: "علي بها"، فعادت ومعها زوجها، فقال عمر لكعب: "أقض بينهما"، فقال كعب: "أقضي وأنت حاضر"، قال له عمر: "إنك فطنت إلى ما لم أفطن إليه"، فقال: "كعب وهو يقضي بينها: إن الله تعالى يقول: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} ، فعلى زوجها أن يصوم ثلاثة أيام ويفطر عندها يوما، ويقوم ثلاث ليال ويبيت عندها ليلة"،.. وتفصيل حكم كعب رضي الله عنه، إشارة إلى قوله تعالى: {فَانْكِحُوا} ، أي من حق الزوجة أن تباشر لتعف، ثم الإنجاب تبعا لذلك إن كان، ولا يجوز تركها في ذلك ولو بنوافل العبادات، ثم أمر كعب زوجها أن يعطيها يوما بليلة بعد كل ثلاث لتصبح هي الرابعة.
وقد بنى هذا الحكم على افتراض أنه متزوج بأقصى المباح لما قرأ {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} على أنه سيغيب عنها مع زوجاته الثلاث، كل بحقها المؤقت لها، وهي الزوجة الرابعة يعطيها الوقت الرابع، فسر عمر رضي الله عنه من فطانة كعب ومن حسن ما قضى به، وبعثه قاضيا على البصرة) من (الطرق الحكيمة) لابن القيم.
4- وكتب عمر بن الخطاب منشور للناس يقول فيه:
"إني لم أبعث عمالي- ولاتي - لا ليضربوا جلودكم، ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل به ذلك فليرفعه إلي لأقتص له"، فقال عمرو بن العاص،: "لو أن رجلا أدب بعض رعيته، أتقصه منه؟ "، فقال عمر: "إي والذي نفسي بيده لأقصنه منه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلق من نفسه". المصدر السابق.(18/384)
5- وقصة (جبلة بن الأيهم) المشهورة:
وكان من ذوي الجاه والسلطان في الجاهلية وفي الإسلام، فقد كان يطوف يوما بالكعبة ورداؤه يجره خلفه فوطئ عليه أحد الطائفين من ضعفاء المسلمين، فاستدار إليه ابن الأيهم ولطمه لطمة شديدة، وكان ذلك أيضا في خلافة عمر رضي الله عنه، فذهب المضروب إلى عمر وشكا إليه، فاستدعاه عمر وحكم بأن يضربه الرجل إلا أن يصفح، لكن الرجل أبى الصفح وأصر على أن يقتص، فقال جبلة لعمر: "كيف تسويني به وأنا ملك وهو سوقة"- أي من عامة الناس- فقال رضي الله عنه: "إن الإسلام سوى بينكما"، فطلب من عمر أن يمهله، فأمهله، فذهب ولم يرجع وإنما فر هاربا إلى بلاد الرومان، وارتد عن الإسلام إلى نصرانيته وبعد مدة أحس بالندم، وعلم بأنه ترك الحق وعاد إلى الباطل، ثم كتب قصيدة في ذلك، منها هذه الأبيات.
وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تنصرت الأشراف من عار لطمة
وبعت لها العين الصحيحة بالعور
تكنفني منها لجاج ونخوة..
رجعت إلى الأمر الذي قاله عمر
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني
6- في (الطرق الحكمية) لابن القيم رحمه الله قوله:
من له ذوق في الشريعة وإطلاع على كمالها، وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، وأن من أحاط بمقاصدها وحسن فهمه فيها، لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة، فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تستخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الشريعة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها.
وفي تاريخ إسلامنا من هذه الأمثلة الشيء الكثير ثم يأتي الإنسان ليضع لنفسه أف له ولما وضع، وهل ينبئك مثل خبير؟.(18/385)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] بل حاولوا ولم تسمح لهم الدول العربية بذلك تعميقا لمعنى القومية العنصرية.
[2] من قصيدة لنا في محاضرة ألقيناها منذ عامين في موسم الجامعة الثقافي عن التفرقة والتمييز.(18/386)
نظم القرآن فوق مفتريات النقد والتجريح
بقلم الدكتور علي البدري
الأستاذ المشارك بكلية اللغة العربية
إذا تدبرت قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [1] .
أو قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم} [2] .
أو قوله عز شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [3] .
لعرفت أن هذه الآيات الكريمة وما شاكلها فيما تهدف إليه بمثابة مصابيح ساطعة تضيء للمسلم مسالكه في دياجير الظلام.
وبهذا يعرف المسلم بجلاء أعماق ما يدور في نفوس اليهود والنصارى سواء بقوا على كفرهم أم ارتدوا عنه إلى كفر جديد كالشيوعية مثلاً.
فلا هؤلاء ولا أولئك يقبلون العيش مع المسلمين في سلام.
كلا. إنهم وطنوا أنفسهم على حرب المسلمين جيلاً بعد جيل وصمموا على ألا يقبلوا منا سوى ما لا يكون بإذن الله أبداً، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم} وهذا بالدرجة الأولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم. الذي بعثه الله تعالى ليتمم به مكارم الأخلاق فقال له: {وإنك لعلى خلق عظيم} [4] .
فإذا كان هذا موقف اليهود والنصارى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته.
فلا ينتظر منهم مع اتباعه إلا كل سوء {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} .(18/387)
ما أحلى عبارات القرآن. إن لها وقعاً في النفس أسمى من كل عبارات تشرحها وأعلى من كل بيان يجلبها. ولهذا فإني أطلب من كل مسلم أن يتدبر معاني هذه الآيات الكريمة فلعل الله تعالى أن يفتح عليه فتحاً مبينا. وهو على ما يشاء قدير.
ولقد ظهر خصوم الإسلام قديماً وفي العصر الحديث هؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم ألقابا علمية في عصرنا هذا ويظهرون للناس خداعاً رهيباً متستراً خلف البحوث العلمية والرغبة في الوصول إلى الحقيقة عن طريق البحث والاستقراء وهي صورة.. تلبس الذئاب فيها ثياب الحملان!!
وهكذا أطل على الشرق المسلم هذا الثالوث البغيض الاستعمار، والتبشير، والاستشراق، فالاستعمار حاول أن يكسر عقيدة المسلمين عسكرياً ففشل والحمد لله تعالى فراح يدرب المبشرين والمستشرقين من عتاة الصليبية واليهودية والإلحاد لكي ينالوا من المسلمين منالا في قرآنهم الكريم أو في سنة نبيهم عليه الصلاة والسلام.
وقد عادوا والحمد لله تعالى بخفي حنين بعد جهود فتاكة مدمرة نجى الله تعالى منها المسلمين. ولكن القوم لا يتخلون عن حقدهم أبداً، وستبقى حربهم الظاهرة والخفية فيما أرجح ما بقي الفرقدان وإن تقنعت بأقنعة الطب أو التعليم أو السياسة أو الاقتصاد أو غيرها مما يظنونه أقنعة يخدعون بها الناس ولم تلبث أن كشفت عن وجهها الصفيق!(18/388)
سيظل القوم يحاربون الله ورسوله إلى آخر الزمان - فعلى المسلمين أن يعرفوا ذلك جيداً!! وعليهم أن يتأكدوا من قوله عز وجل: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [5] ومن قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} [6] وقوله عز شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [7] .
لقد افترى اليهود والنصارى والمنافقون قديماً على القرآن الكريم افتراءات يرددها اليوم أحفادهم الجدد في غير حياء.
فقديماً حاولوا التشكيك في اختيار الله تعالى لمفردات قرآنه الكريم وجمال عباراته! وتناسق تراكيبه، وإعجاز نظمه الفريدة فقالوا مثلاً: إن جملة {فَأَكَلَهُ الذِّئْب} [8] أحسن منها "فافترسه الذئب"، وعللوا ذلك بأن الأكل يشارك فيه الحيوان الإنسان. ولا كذلك الافتراس.
وقالوا: إن النظم القرآني {وَانْطَلَقَ الْمَلاُّ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [9] أبلغ منه أن يكون النظم هكذا "امضوا وانطلقوا على آلهتكم"لأن المقام مقام انزعاج هكذا يهرفون بما لا يعرفون!!
وقالوا أيضاً: إن العبارة القرآنية {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} أفضل منها "ذهب عني سلطانيه"ويعللون ذلك بأن الهلاك في الأعيان والأشخاص.
ويقولون: أنت تقول: هلك زيد ولا تقول هلك جاهه أو سلطانه. وإنما تقول: ذهب سلطانه وانتهى جاهه.!! هكذا يزعم القوم اللئام.
ثم يمضون في سرد مفترياتهم على نظم القرآن فيقولون: إن الآية القرآنية {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [10] أبلغ!! منها "للزكاة مؤدون".(18/389)
ولم تقف اعتراضات الخصوم الفجرة عند حد الجمل والتراكيب بل تعدوها إلى أدوات الربط فقالوا: إن مجيء الباء في الآية القرآنية {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [11] ليس في موطنه فلو قيل: "ومن يرد فيه إلحاداً"لكان أبلغ!! هكذايتصور الجاهلون الحاقدون! !
ثم انتقلوا من هذا إلى رمي القرآن الكريم بالتناقض! وضربوا لذلك مثلاً بقوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} وزعموا أن القرآن هنا يذم المؤمنين فكيف يتفق هذا مع مديحهم قبل هذه الآية مباشرة. بالآية القرآنية: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [12] .
وهذا في نظر ذوي البصائر العمياء ضرب من التناقض والسير على غير هدى.
ولم يلبث شياطين الإنس أن تناولوا بعض الصور البيانية في القرآن الكريم بالتجريح وهي بالغة حد الروعة والإعجاز. فقالوا: إن الآية القرآنية: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [13] .
وقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ} [14]
قالوا إن أدوات التشبيه هنا قد أتبعت بالمشبه به ولم تسبق بالمشبه وهذا على حد مزاعمهم ضرب من الغموض.!! مع أن هذا من بديهيات البيان العربي!
ثم اعترضوا على حذف جواب الشرط في قوله تعالى مثلا: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأََرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [15] ونحو هذه الآية.
فزعموا أن هذا تبتير للكلام! وقطع لأجزائه.
وكما اعترضوا على الحذف فلم يسلم الذكر من اعتراضات المجرمين!! فزعموا أن الحذف وتكرار الذكر كلاهما ليس محموداً ولا معدوداً في النوع الأفضل من فنون البيان.(18/390)
وعلى هذا فقد اعترضوا على تكرار قوله تعالى في سورة الرحمن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ، واعترضوا أيضاً على تكرار قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} في سورة المرسلات.
وفات هؤلاء الضعفاء والمهازيل أن يعترضوا أيضاً على تكرار قوله تعالى: في سورة التكاثر: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} .
كما فاتهم أن يعترضوا على تكرار قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [16] وجهل شياطين الإنس أن التكرار المحمود أحد فنون الإطناب وهو فن بلاغي من علم المعاني به يطابق الكلام مقتضى الحال.
هذا وقد اعترض هؤلاء المفترون على الله الكذب. اعترضوا على ترتيب آيات القران الكريم وسوره فقالوا: لو جاء ترتيب القران الكريم بحيث تكون أخبار القرون الأولى في سورة.. والحكم والمواعظ والأمثال في سورة أخرى، وأحكام الأفراد والمجتمعات في سورة ثالثة مثلاً وهكذا.. لكان ذلك أحسن ترتيباً، وأيسر حفظاً، وأبلغ من تكرار بعض هذه الأمور في سور كثيرة، ولكان القرآن بهذا موضوعياً!! هذه مختارات من مفتريات شياطين الإنس.. وتلك ألوان من افتراءات المفترين على حروف وكلمات وجمل ونظم القرآن الكريم.
إنهم لم يتركوا شيئاً بدون افتراءات أبدا!!
ولكن مفترياتهم والحمد لله تعالى لن تصمد أمام شمس الحقيقة أبداً.
إنها والحمد لله تعالى أوهى من بيت العنكبوت قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْض} وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [17] .(18/391)
وسنتناول هذه المفتريات بالدحض والإبطال في إيجاز بإذن الله تعالى على النحو التالي:
إن تفضيلهم لعبارة: "فافترسه الذئب"على العبارة القرآنية {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} فاسد حقود ذلك لأن الفرس معناه دق العنق (الفرْس بسكون الراء) .
وإخوة يوسف لم يدعوا على أبيهم أن الذئب قد دق عنقه فقتله!! وانتهى الأمر.
وإلا لطالبهم يعقوب عليه السلام بجسد أخيهم ميتاً.
ولكن القوم أرادوا أن يقطعوا على أبيهم المطالبة بجسد يوسف حياً أو ميتاً.
فادعوا أن يوسف الآن في بطون الذئاب وهذا ما لا يؤديه سوى الجملة القرآنية {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} أما الافتراس فقد تحقق مثلاً في عتبة بن أبي لهب.
ذلكم الذي دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "اللهم سلط عليه كلباً من كلابك! "
ثم كان في تجارة قرشية إلى الشام فحذر أبوه القافلة من دعوة محمد صلى الله عليه وسلم. وطاف بهم أسد في الطريق فضرب عتبة بيده فأرداه قتيلاً. وقال الناس يومئذ قد افترسه الأسد ولم يقولوا أكله!!
وإخوة يوسف قد ادعوا على أبيهم أن الذئب قد أكل يوسف تماماً بشحمه ولحمه. فما أدق عبارة القرآن الكريم وما أحسن نظمه المعجز الأخاذ بالألباب.
فأما تفضيل المعترضين "امضوا وانطلقوا"على {امْشُوا وَاصْبِرُوا..} في سورة ص. فذلك خطأ بين. لأن المشركين قصدوا الاستمرار على دين آبائهم في غير انزعاج ولا انتقال. وهذا المعنى لا تؤديه إلا الجملة القرآنية وحدها.
لأن المعنى الذي يريدونه. استمروا على ما أنتم عليه ولا تبالوا بالقرآن الكريم. واطمئنوا ولا تنزعجوا على أنه قد قيل: إن المشي هنا يراد به كثرة العدد. فالعرب يقولون مشى الرجل إذا كثر ولده.
قال شاعرهم:
والشاة لا تمشي على الهلع ...
أي لا يكثر نتاجها إذا قربت منها الذئاب. وبهذا نرى أن خصوم القرآن يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون.(18/392)
فأما اعتراضهم على الاستعارة القرآنية في قوله تعالى: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}
فاعتراض متهافت، لأن الاستعارة هنا أبلغ من الحقيقة، ذلك لأن الشيء إذا ذهب فقد يعود أما إذا هلك استحالت عودته، والمشركون يعلمون أن سلطانهم الفاني لن يعود إليهم أبداً يوم القيامة. وبالإضافة إلى هذا فقد قيل: إن السلطان هنا بمعنى الحجة والبرهان.
فأما افتراؤهم على الجملة القرآنية {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} فساقط عديم الجدوى. لأن لفظ (فاعلون) أبلغ من (مؤتون أو مؤدون) ونحوهما.
فالجملة القرآنية تفيد المبالغة في أداء الزكاة والمواظبة عليها حتى تكون سجية لهم. وهذا مالا يؤديه إلا لفظ (فاعلون) على أنه قيل: إن الزكاة هنا تقابل كل الأعمال الصالحة. وبذا تكون الكلمة القرآنية أدق من كل كلمة سواها.
أما اعتراضهم على الباء في قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ... } فإن هذا غير خارج عن سنن العرب في كلامهم. وإلا لاعترض عليه مشركو مكة وهم أرباب الفصاحة وأئمة البيان. قال الراعي النميري:
سود المحاجر لا يقرأن بالسور
هن الحرائر لا ربات أحمرة
فأدخل الباء على المفعول وذلك غير ممنوع في اللغة.
فأما اعتراضهم على وجود المشبه به بعد كاف التشبيه دون المشبه فباطل أيضا.
ذلك لأن الله تعالى يشبه حال المسلمين في اختلافهم على الغنائم بحالهم في كراهة القتال في أول الأمر. قال تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} .
ولا تناقض بين الآية وما قبلها. لأن الثانية توضح معنى قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وطرفا التشبيه أيضاً في قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً} هما. يتم الله نعمته عليكم كما أتمهابأن أرسل فيكم رسولا من أنفسكم.(18/393)
وأما افتراؤهم على حذف جواب الشرط. فإن هذا الحذف أبلغ من الذكر. وتقدير الجواب، لكان هذا القرآن والنفس تذهب في المحذوف كل مذهب. وأما المذكور فليس له سوى هذه الصفة المذكورة.
وصاحب الذوق السليم يدرك بلاغة الحذف في قولك مثلاً لو رأيت الفاروق عمر ... بحذف الجواب فهو أبلغ من ذكره مهما قدرته. فالنفس تذهب في عظمة الفاروق رضي الله عنه كل مذهب. وهكذا الشأن دوما مع حذف جواب الشرط أو غيره.
فأما اعتراضهم على أسلوب التكرار في القرآن الكريم. فإن التكرار في اللغة قسمان محمود ومذموم، الثاني عديم القيمة والمعنى. وهو ليس موجوداً في القرآن ... إطلاقاً.
وقد بين الله تعالى لماذا كرر القصص في القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [18] . {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} [19] .
فأما ما عابه المفترون من تكرار قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . (في سورة الرحمن) .
فذلك لتكرار النعم. والخطاب للإنس والجن فالتكرار لتعدد المتعلق.
فأما تكرار قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} في سورة المرسلات. فلأن السورة قد عرضت لأهوال يوم القيامة بتفصيل ملحوظ وعقب الحديث عن كل هول من أهوالها المتعددة جاء هذا الإنذار للمكذبين بيوم الدين. فهو تكرار لتعدد المتعلق أيضاً.
ولقد يتساءل خبيث حقود أو جهول عن سر مجيء قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (في سورة الرحمن) بعد آيات التهديد والوعيد كمجيئها بعد قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ} فهي تهديد بلهيب السعير والدخان المستطير..(18/394)
والرد على هذا التساؤل الهين أن الترغيب والترهيب كلاهما من نعم الله تعالى. قال الشاعر:
فهو الذي أنباك كيف نعيمها
والحادثات وإن أصابك بؤسها
وأما دحض الافتراء الطاعن في القرآن من حيث عدم موضوعيته. فإن توزيع المسائل عن النحو الذي جاء في القرآن من الفروق بينه وبين تأليف البشر. ومن جهة أخرى فيه عظة واعتبار متكرر! وبهذا تكون استفادة الناس منه أكثر من انفراد السورة بموضوع واحد. وحتى لا تصير السور عرضة للإيمان ببعضها والكفر بالبعض الآخر.
فإن زعم ذئاب البشر أن بعض الناس قد عارضوا القرآن معارضة ناجحة ونقدوه نقداً جوهرياً أثناء نزوله. بيد أن المسلمين قد كتموا هذه المعارضات ومنعوا غيرهم من تسجيلها! فذلك إهدار للعقول.
وهذا في الحق تساؤل سخيف. فالناس في كل الأزمنة والأمكنة يهتمون بالأخبار المثيرة عامتهم وخاصتهم. فلئن كتم المسلمون هذه المعارضات المزعومة فلا يعقل أبداً ألا يسجلها المشركون وهم غالبية أهالي المشارق والمغارب.
إن ذلك التساؤل لو استسيغ، لجاز لممسوخي الضمائر أن يقولوا بوجود عدة أنبياء بعد خاتم المرسلين عليه السلام ثم يتهمون المسلمين بالقضاء عليهم سراً. ومثل هذه الأقاويل واضحة البطلان بينة الكفران- وسيبقى القرآن الكريم على مر العصور كالطود الشامخ. ولن ينال منه اليهود ولا النصارى ولا الشيوعيون منالاً أبدا بإذن الله تعالى. فهؤلاء يخادعون الله والذين آمنوا وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون. والقرآن الكريم فوق النقد والتجريح أو المعارضة وما أصدق قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} .
--------------------------------------------------------------------------------(18/395)
[1] سورة البقرة 217.
[2] سورة البقرة آية 120.
[3] سورة آل عمران آية 118.
[4] سورة ن آية 4.
[5] سورة يوسف آية 21.
[6] سورة الحجر آية 9.
[7] سورة الأنفال آية 36.
[8] سورة يوسف آية 17.
[9] سورة ص آية 29.
[10] سورة المؤمنون آية 4.
[11] سورة الحج آية 25.
[12] سورة الأنفال آية 5.
[13] سورة الحجر الآيات من 89 - 91
[14] سورة البقرة آية 151.
[15] سورة الرعد آية 31.
[16] سورة التوبة آية 73 والتحريم الآية 9.
[17] سورة العنكبوت آية 41.
[18] سورة القصص آية 51.
[19] سورة طه آية 113.(18/396)
من أبحاث فقه السنة
سنن الفطرة بين المحدثين والفقهاء
(الحلقة الثانية)
لفضيلة الدكتور أحمد علي طه ريان / الأستاذ المساعد بكلية الحديث الشريف
الخصلة الثامنة: غسل الجمعة:
هل المراد بغسل الجمعة المشار إليه في بعض أحاديث سنن الفطرة، والذي عده الحافظ ابن حجر من الخصال الخمسة عشر: هو الغسل المشروع لحضور صلاة الجمعة والذي وردت جملة من الأحاديث تحث عليه وترغب فيه، وتأمر به كحديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر فقال: "من جاء الجمعة فليغتسل" [1] أم أنه اغتسال شرع على كل مسلم سواء وجبت عليه الجمعة أو لم تجب، أراد حضور الجمعة أو لم يرد، أي أنه تشريع عام للمسلمين يضع الحد الأدنى الذي لا ينبغي على المسلم تجاوزه، وهو الاغتسال مرة كل سبعة أيام على الأقل- وهو ما يشير إليه حديث أبي هريرة: "حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً يغسل فيه رأسه وجسده" رواه مسلم والبخاري واللفظ له [2] وفي رواية أخرى له: "لله تعالى على كل مسلم حق أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً.." [3] .
وقد نقل البدر العيني عن الكرماني قوله: التحقيق: "أن الحديث الأول - أعني حديث ابن عمر- دل على أن الغسل لمن جاء إلى الجمعة خاصة.. وهذا الحديث - أعني حديث أبي هريرة - عام للمجامع وغيره ... " [4] . وذهب بعض الشراح إلى أن الغسل المأمور به في حديث أبي هريرة: إنما هو الغسل المشروع لحضور الجمعة.. واستدلوا له بما جاء عند النسائي بلفظ: "على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم وهو يوم الجمعة" [5] وصححه ابن خزيمة كما روى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة من حديث البراء بن عازب مرفوعا نحوه ولفظه "من الحق على المسلم أن يغتسل يوم الجمعة.." [6] .(18/397)
وأنا أميل إلى قول الكرماني: لأن مشروعية غسل الجمعة قد ثبتت بالأحاديث الكثيرة التي خصت الغسل بمن يحضر الجمعة..
أما حديث أبي هريرة هذا فهو من باب التشريع العام للمسلمين بضرورة مراعاة النظافة لأجسادهم بالاغتسال مرة كل أسبوع، ويعتبر هذا هو الحد الأدنى لكل مسلم لا يشرع في حقه أي اغتسال آخر.
وما جاء في بعض الروايات بتقييده بيوم الجمعة: فهو باعتباره عيد المسلمين الأسبوعي، وللمشاركة في الاغتسال مع المجامَعين في هذا اليوم.. كما أن هذا القول هو الأنسب لاعتبار غسل الجمعة من بين خصال الفطرة: لأن الملاحظ هو عمومية هذه الخصال ومشروعيتها لكل الناس وعدم تقيدها ببعض العبادات.. والقاسم المشترك بينها جميعا: أمران: النظافة والزينة.
حكم الاغتسال يوم الجمعة:
ذهب أهل الظاهر ورواية عن أحمد بن حنبل إلى أن غسل الجمعة واجب.. وقد حكي هذا القول: عن عمر وأبي هريرة وابن عباس وأبى سعيد الخدري وسعد بن أبى وقاص، وعبد الله بن مسعود وعمر بن سليم وعطاء وكعب والمسيب بن رافع [7] وقد استدل الظاهرية ومن معهم على الوجوب بعدد من الأدلة: من بينها ما يلي:
أ- حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "من جاء إلى الجمعة فليغتسل" وقد تقدم.
ب- حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه: "الغسل واجب على كل مسلم محتلم.." [8] .
ج- ما جاء في قصة عمر مع عثمان رضي الله عنهما وقد جاء فيها قول عمر لعثمان: "وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل ... " [9] .
وهناك أدلة أخرى لكنها لا تخرج في جملتها عن مضمون الأدلة السابقة..
وجه الدلالة: التصريح بالوجوب ثم طلبه بصيغة الأمر المقتضية للوجوب عند الإطلاق؛ يفيد أن غسل الجمعة واجب.
وذهب جمهور أهل العلم: إلى أن غسل الجمعة سنة، بأنه مستحب والمعنى متقارب.. وقد استدل لهذا الرأي بعدد من الأدلة من أهمها ما يلي:(18/398)
أ- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فدنا واستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام.."الحديث.. قال الترمذي: "هذا حسن صحيح.." [10] .
ب- حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل" قال الترمذي: "حديث سمرة حديث حسن" [11] .
ج- كما استدل له أيضاً بترك عثمان رضي الله عنه للغسل.. إذ لو كان واجبا لما تركه.. قال الشافعي في تقرير هذا الدليل: "ومما يدل على أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل يوم الجمعة-كان- على الاختيار لا على الوجوب: حديث عمر حيث قال لعثمان: "والوضوء أيضا وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالغسل يوم الجمعة.." فلو علما أن أمره على الوجوب لا على الاختيار لم يترك عمر عثمان حتى يردد ويقول له: ارجع فاغتسل، ولما خفي على عثمان ذلك مع علمه.. فدل هذا الحديث: على أن الغسل يوم الجمعة فيه فضل من غير وجوب" [12] وقال الباجي في شرحه على الموطأ تعليقا على هذا الحديث: "إنما أنكر عليه ما مضى من تركه الغسل ليكون ذلك تنبيهاً له على ما ينبغي أن يفعل في مثل ذلك اليوم عند سعة الوقت، ويقتضي إجماع الصحابة على أن الغسل يوم الجمعة ليس بواجب وجوبا: يعصي تاركه وإنما يوصف بالوجوب على معنى التأكيد لحكمه، ولو كان فيهم من يعتقد وجوبه لسارع إلى الإنكار على عثمان- وأمره بالقيام إلى الاغتسال.." [13] .
ونكتفي بهذا القدر من أدلة الجمهور لغنائها عن غيرها.. بعد أن اتضاح منها قوة موقف القائلين بسنية غسل الجمعة..
وقت الإغتسال للجمعة:(18/399)
يرى الإمام مالك: أن وقت الاغتسال ينبغي أن يتصل بالرواح إلى الصلاة لحديث ابن عمر المتقدم: "إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل"، أي أراد أن يجيء، ولأن الغسل شرع للنظافة وإزالة الروائح الكريهة التي تلحق بالناس من جراء العمل والمشي في يوم الجمعة: ففي حديث عائشة عند مسلم كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم من العوالي فيأتون في العباء ويصيبهم الغبار فتخرج منهم الريح، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسان منهم وهو عندي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا.." [14] ..
وقولها في الحديث الآخر "كان الناس أهل عمل ولم يكن لهم كفاه: فكانوا يكون لهم تفل فقيل لهم لو اغتسلتم يوم الجمعة" [15] . لذلك قال مالك في الموطأ: "من أغتسل يوم الجمعة أول نهاره وهو يريد بذلك غسل الجمعة، فإن ذلك الغسل لا يجزئ عنه حتى يغتسل لرواحه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عمر: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل" [16] .
وقال الشافعي وأبو حنيفة: إن وقت الاغتسال للجمعة يبدأ من بعد طلوع الفجر لأن الاغتسال لحضور الجمعة فينبغي أن يكون متقدماً عليها، لكن لا يشترط اتصاله بالرواح، وقالوا: إن حديث ابن عمر لا يفيد شرط الاتصال، لأن معنى إذا جاء أحدكم: أي أراد المجيء أو قصد الشروع في المجيء، ولأن معظم الأحاديث الواردة في الاغتسال للجمعة لم يرد فيها ما يفيد اتصال الذهاب إليها.(18/400)
وذهب الظاهرية إلى أن وقت الاغتسال يمتد من طلوع الفجر يوم الجمعة إلى نهاية عصرها فيجزئ وقوعه في أي جزء من هذا الوقت ولو بعد صلاة الجمعة. واستدلوا بالأحاديث التي أطلق فيها الاغتسال في يوم الجمعة كحديث أبي هريرة؛ وقد تقدمت الإشارة إلى بعضها وهو صادق بأي جزء من يوم الجمعة حتى يبقى من قرص الشمس مقدار ما يتم غسله قبل غروب آخره.. وأفضله أن يكون متصلا بالرواح وهو لازم للحائض والنفساء لزومه لغيرهما.. [17] .
والواقع أن رأي المالكية هو الظاهر- لمن يريد حضور الجمعة- لأن الاغتسال لإزالة الروائح الكريهة، والمقصود عدم تأذي الحاضرين المجتمعين لصلاة الجمعة، وذلك لا يتأتى بعد إقامة الجمعة.. كما أن الاغتسال في أول اليوم مع وجود الفاصل الكبير بينه وبين الصلاة يفوت الغرض الذي شرع الاغتسال لأجله.. والله أعلم [18] .
كيفية الاغتسال للجمعة وفضيلته:
الاغتسال للجمعة لا يختلف في كيفيته عن الاغتسال للجنابة في أركانه وسننه وفضائله:
أما التصريح بكونه مماثلا لغسل الجنابة، فقد جاء واضحاً في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنه، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقره، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر.." [19] .(18/401)
أما كيفية اغتسال الجنابة المشار إليه في طلب الاغتسال للجمعة في الحديث السابق: فقد ورد كاملاً في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة: يبدأ فيغسل يديه ثم يفرغ يمينه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر حتى إذا رأي أن قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض على سائر جسده ثم غسل رجليه" [20] .
الحكمة من غسل الجمعة:
يستفاد من الأحاديث الواردة في غسل الجمعة- وقد سبقت الإشارة إلى بعضها- إلى أن هذا الاغتسال ضرب هام من التشريع العملي في مجال النظافة البدنية لكل مسلم.. وهو يشير إلى ما ينبغي سلوكه على المسلمين من الاهتمام بنظافة ثيابهم ومساكنهم وأماكن عملهم وبالجملة ينبغي أن يصل أثره إلى كل مظهر من حياتهم الاجتماعية.
كما أن طلب الاغتسال في يوم الجمعة بذاته ما يشير إلى ما ينبغي أن يكون لهذا اليوم من الأهمية في حياة المسلمين باعتباره عيدهم الأسبوعي..
ومن جهة ثالثة: فإن الأمر بإزالة كل ما يتأذى به المسلمون المجتمعون في المساجد من قذر أو روائح كريهة دلالة واضحة على اهتمام الإسلام بمشاعر الناس والمحافظة على راحتهم ورفع كل ما يؤذيهم حتى تسود روح الألفة والمودة بينهم.. وبذلك يكون المسلمون قد تحققوا بقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ..} [21] ..
الخصلة التاسعة الاستحداد:(18/402)
الاستحداد: بالحاء المهملة: استفعال من الحديد والمراد: استعمال الحديد في حلق شعر العانة.. والتعبير بالاستحداد بدل التعبير بحلق: يشير إلى أنه لا مانع من التعبير بالكناية عن الأمور التي يستحى من التصريح بها.. إذا كان الغرض يفهم من الكناية، دون حاجة إلى التصريح بالشيء.. قال الحافظ ابن حجر: "قد وقع التصريح بحلق العانة في بعض طرق الحديث كما جاء عند مسلم، وهذا مما يدفع إلى الظن بأن التعبير بالاستحداد قد وقع من بعض الرواة".
والمراد بالعانة: الشعر النابت فوق ذكر الرجل وحواليه وكذلك الشعر النابت حوالي فرج المرأة.
وقال العدوي- من علماء المالكية - العانة: "هي ما فوق العسيب والفرج وما بين الدبر والأنثيين" [22] .
وحكي عن أبي العباس بن سريج: أن العانة: "هي الشعر النابت حول حلقة الدبر.."وعلى هذا يستحب حلق جميع ما على القبل والدبر وحولهما.. بل قيل: إزالة الشعر من على الدبر أولى خوفا من أن يعلق به شيء من الغائط فلا يمكن إزالته للمستنجي إلا بالماء، وقد يتعذر الحصول عليه ولا يجد لديه إلا الأحجار فيظل متلبسا بالنجاسة.(18/403)
إلا أن بعض العلماء استبعد شمول لفظ العانة للشعر النابت على الدبر كما يفهم ذلك من قول العدوي السابق، وقد نقل الحافظ ابن حجر عن ابن العربي القول بعدم مشروعية حلق ما حول الدبر.. كما نقل أيضا رأى الفاكهي في شرح العمدة: بأنه لا يجوز.. ثم قال: ولم يذكر للمنع مستنداً وأقول: إن مستنده يتلخص في أن لفظ العانة: خاص بما حول القبل ولا يتناول لما حول الدبر. والشعر المأمور بإزالته: هو شعر العانة فيكون المأمور به: هو الشعر النابت على القبل وما حوله فقط، ولا يتناول الشعر النابت حول الدبر.. ومن هنا قال ابن دقيق العيد: "كأن الذي ذهب إلى استحباب حلق ما حول الدبر ذكره بطريق القياس.."وقال الشوكاني: "ليس هناك دليل على حلق شعر الدبر من فعله صلى الله عليه وسلم ولا من فعل أحد أصحابه" [23] . ومع ذلك أقول: قد صرح بعض العلماء: بأنه لا بأس من حلق شعر الدبر إذا كان القصد من ذلك التنظيف [24] .
قال النووي: "السنة في العانة الحلق لما صرح به الحديث، فلو نتفها أو قصها أو أزالها بالنورة جاز وكان تاركا للأفضل وهو الحلق". [25] .(18/404)
أقول قول النووي: إن من أزال عانته بالنورة كان تاركاً للأفضل وهو الحلق فيه نظر؟.. فقد نقل الحافظ ابن حجر ما أخرجه ابن ماجه من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم "إذا أطلى ولى عانته بيده" ثم قال: "رجاله ثقات لكن معل بالإرسال"وأنكر أحمد صحته.. أقول إنه يتقوى بما أخرجه ابن ماجه متصلا عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان إذا أطلى بدأ بعورته فطلاها بالنورة وسائر جسده أهله" [26] قال الحافظ ابن كثير في كتابه الذي ألفه في الحمام- بعد أن ذكر هذا الحديث-: "هذا إسناد جيد" [27] وأخرج أحمد عن عائشة رضي الله عنها قولها: "أطلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنورة، فلما فرغ منها قال: "يا معشر المسلمين عليكم بالنورة فإنها طلية وطهور، وإن الله يذهب بها عنكم أوساخكم وأشعاركم" [28] .
وأيضاً روي الإطلاء بالنورة عن جماعة من الصحابة: فرواه الطبراني عن يعلى بن مرة الثقفي.. والطبراني أيضا بسند رجاله رجال الصحيح عن ابن عمر والبيهقي عن ثوبان والخرائطي عن أبي الدرداء وجماعة من الصحابة وعبد الرزاق عن عائشة.
كما وردت أحاديث قاضية بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتنور.. ولكنها ضعيفة.. قال السيوطي: والأحاديث السابقة- إشارة إلى الأحاديث المثبتة أقوى سندا وأكثر عددا، وهي أيضاً مثبتة فتقدم.
ويمكن الجمع بأنه صلى الله عليه وسلم كان يتنور تارة ويحلق تارة أخرى.. وقد أوضح القول في هذا الموضوع صاحب نيل الأوطار فمن أراد المزيد فعليه الرجوع إليه [29] .
من يتولى إزالة شعر العانة:
يتولى الشخص إزالة عانته بنفسه لما ثبت من تولي الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك بنفسه.. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك قريباً.(18/405)
فإن تعذر ذلك لمرض أو كان الشخص أقطعاً: فإن أحد الزوجين يتولى ذلك للآخر لجواز النظر واللمس من كل منهما للآخر وقد صرح بعض العلماء بكراهة تولي ذلك من أحد الزوجين لكن محله إذا كان لغير ضريرة كما أوضحت ذلك في المثال السابق.
ولا يجوز للأجنبي أن يتولى ذلك للرجل الأجنبي عنه كما لا يجوز ذلك للمرأة أن تتولى ذلك للأجنبية عنها [30] .
حكم الاستحداد:
الأصل في الاستحداد: أنه سنة باتفاق الفقهاء وقد عبر البعض عنه بأنه مستحب والخلاف في ذلك يسير وقد حكى النووي أنه قد اختلف فيه بالنسبة للمرأة إذا طلب ذلك منها زوجها على وجهين أصحهما الوجوب [31] .
أما العدوي فقال بوجوبه بالنسبة للمرأة ولو لم يطلب منها الزوج ذلك لأن في إزالته جمال للمرأة ويجب عليها إزالة كل ما في إزالته جمال لها ولو شعر اللحية إن نبتت لها لحية.. [32] .
الحكمة من الاستحداد:
يعتبر الاستحداد وسيلة من وسائل المحافظة على صحة الجسم وقوته وسلامته لأن ترك الشعر يتكاثر في هذا الجزء من الجسم يسبب كثيرا من الالتهابات الجلدية التي تضر بالجسم وتوهنه.
كما أنه من الوسائل التي تلطف العشرة بين الزوجين وتزرع الإلفة والمودة بينهما.. ومن وجهة ثالثة: فإن الاستحداد يعد وجها من أوجه النظافة البدنية التي طلبها الله من خلقه بقوله عز من قائل.. {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ..} الآية.. [33] .
المدة التي لا ينبغي تجاوزها في الاستحداد:(18/406)
ثبت عن أنس رضي الله عنه أنه قال: "وقَت في قص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة ألا نترك أكثر من أربعين يوما.." [34] .. وفي رواية أبي داود: "وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.." الحديث.. ولكن إسنادها ضعيف.. والاعتماد على رواية مسلم فإن قوله: "وقت لنا" بالبناء للمجهول هي كقول الصحابي أمرنا بكذا ونهينا عن كذا، وهو مرفوع كقوله.. قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المذهب الصحيح الذي عليه الجمهور من أهل الحديث والفقه والأصول. [35] .
وهذا هو الحد الأقصى الذي لا ينبغي تجاوزه، أما الوقت الذي ينبغي أن يفعل فيه استحباباً فنقل عن الشافعي وعلماء الشافعية: أن ذلك يكون يوم الجمعة من كل أسبوع كما نقل ذلك عن الباجي والقرطبي من المالكية، وقد رجحه السيوطي استنادا إلى حديث أبي جعفر الباقر الذي سنذكره بعد قليل.
ويرى بعض العلماء أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والضابط في ذلك الطول المتعارف عليه عادة فمن طالت عانته أو أظافره أو طال شعر إبطه فإنه ينبغي عليه إزالته بدون تحديد وقت معين لذلك، وقد اختار هذا الرأي عدد كبير من أهل العلم [36] ..
أما حديث أبي جعفر الذي رواه البيهقي في سننه الكبرى "كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب أن يأخذ من شاربه وأظافره يوم الجمعة" فقد قال العراقي عنه: "إنه مرسل.." [37] كما أن حديث علي بن أبي طالب الذي جاء فيه "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلم أظافره يوم الخميس ثم قال: يا علي قص الظفر ونتف الأنف- ولعله: الإبط- وحلق العانة يوم الخميس والغسل والطيب واللباس يوم الجمعة" فقد قال العراقي عنه: في إسناده من يحتاج إلى الكشف عنه من المتأخرين.. أما الحسين بن هارون الضبي وما بعده فثقات.... والله أعلم.. [38] ..
الخصلة العاشرة: نتف الإبط:(18/407)
الإبط: بكسر الهمزة والباء الموحدة وسكونها وهو المشهور.. ويذكر ويؤنث: يقال تأبط الشيء وضعه تحت إبطه.
قال النووي: "السنة: نتفه كما صرح به في الحديث فلو حلق جاز" [39] وعن يونس ابن عبد الأعلى قال: "دخلت على الشافعي ورجل عنده يحلق إبطه، فقال إني علمت أن السنة النتف، ولكن لا أقوى على الوجع" [40] .
قال الغزالي: "هو في الابتداء موجع ولكنه يسهل على من اعتاده"- قال: "والحلق كاف لأن المقصود النظافة".
وقد تعقب بأن الحكمة في نتفه: أنه محل للرائحة الكريهة، وإنما ينشأ ذلك من الوسخ الذي يجتمع بالعرق فيه فيتلبد ويهيج، فشرع فيه النتف الذي يضعفه فتخف الرائحة به، بخلاف الحلق فإنه يقود الشعر ويهيجه فتكثر الرائحة لذلك [41] .
قال: ابن دقيق العيد: "من نظر إلى اللفظ وقف مع النتف، ومن نظر إلى المعنى أجازه بكل مزيل.."لكنه بين أن النتف مقصود من جهة المعنى: فذكر نحو ما تقدم:- من حيث تأثير النتف في تخفيف الرائحة- ثم قال: "وهو معنى ظاهر لا يهمل فإن مورد النص إذا احتمل معنى مناسباً يحتمل أن يكون مقصودا في الحكم لا يترك، والذي يقوم مقام النتف في ذلك التنور.. لكنه يرق الجلد فقد يتأذى صاحبه به ولا سيما إن كان جلده رقيقا" [42] وفي المغني: "إن أزال الشعر بالحلق والنورة جاز ونتفه أفضل لموافقته الخبر".
قال حرب: "قلت لإسحاق: نتف الإبط أحب إليك أم بنورة؟ قال: نتفه إن قدر.." [43] .
وبالجملة نقول: إن النتف أولى للنص عليه وهذا لمن يقدر عليه أما من لم يقدر عليه فقد أجيز له الحلق أو التنور.. وقد ظهرت في هذه الأيام أنواع كثيرة من المواد المزيلة للشعر مما جعل هذه المسألة أكثر يسرا وسهولة.
ويستحب أن يبدأ بالإبط الأيمن لحديث التيامن.. وفيه "كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله..".(18/408)
ولا يجوز ترك شعر الإبط لأكثر من أربعين يوما لحديث أنس السابق "وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة ألا نترك أكثر من أربعين ليلة" وقد تقدم أنه في صحيح مسلم.
حكم نتف الإبط:
حكى النووي اتفاق الفقهاء على أن نتف الإبط سنة.. وهذا القول لا يختلف كثيرا عن قول العراقي: "إنه مستحب إجماعا" [44] لتقارب المعنى بين الحكمين؛ ولكنه يختلف كثيرا عما نقله الحافظ عن ابن العربي: من أن الخصال الخمس الواردة في حديث أبي هريرة: وهي حلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظافر وقص الشارب والختان؛ واجبة، معللا ذلك: "بأن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة الآدميين فكيف من جملة المسلمين" [45] وقد تقدم بيان ذلكَ في صدر هذا البحث.. فلو قال النووي اتفق أكثر الفقهاء على سنية نتف الإبط لكان أقرب إلى التحقيق.
ويمكن حمل قول ابن العربي بالوجوب: في حق من طال شعره وكثر حتى تفاحش بحيث صار مصدر أذى للمسلمين بما ينبعث عنه من الروائح الكريهة وخصوصا في الأجواء الحارة والأماكن المغلقة.
وعلى ذلك فيكون الأخذ من الشعر والأظافر أولا بأول في حدود الأربعين يوما مستحبا أو سنة، فإذا تركه أكثر من أربعين يوما حتى طال كثيرا وتفاحش فيكون الأخذ حينئذ واجبا في حقه والله أعلم.
على أنه يندب غسل اليدين بعد الانتهاء من نتف الإبط لإزالة ما علق بها من شعر أو رائحة كريهة [46] .
الخصلة الحادية عشرة: تقليم الأظافر:(18/409)
والتقليم: تفعيل من القلم وهو القطع. يقال قلمه: يعني قطعه واسم ما قطع منه: القلامة.. ويقال لها أيضا: المقلومة.. وقد يشدد للكثرة ووقع في بعض الروايات "وقص الأظافر" وقص الظفر: أخذ أعلاه من غير استئصال، قال الحافظ ابن حجر: "والتقليم أعم.."والأظفار جمع ظفر: بضم الظاء والفاء وسكونها.. والمراد إزالة ما يزيد على ما يلابس رأس الإصبع من الظفر لأن الوسخ يجتمع فيه فيتقذر وقد ينتهي إلى حد يمنع من وصول الماء إلى ما يجب غسله في الطهارة [47] .
وقد نقل الحافظ ابن حجر عن البيهقي في شعب الإيمان- من طريق قيس بن حازم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة فأوهم فيها فسئل فقال مالي لا أوهم ورفغ أحدكم بين ظفره وأنملته؟ " ثم قال: "رجاله ثقات مع إرساله، وقد وصله الطبراني من وجه آخر" [48] وقد رواه صاحب المغني بلفظ "مالي لا أسهو؟ وأنتم تدخلون علي قلحا ورفغ أحدكم بين ظفره وأنملته.." [49] .
والرفغ: بضم الراء وبفتحها وسكون الفاء بعدها غين معجمة: يجمع على ارفاغ وهي مغابن الجسد: كالإبط، وما بين الأنثيين، والفخذين، وكل موضع يجتمع فيه الوسخ. فهو من تسمية الشيء باسم ما جاوره، والتقدير: وسخ رفغ أحدكم.. والمعنى إنكم لا تقلمون أظافركم ثم تحكون بها أرفاغكم فيتعلق بها ما في الأرفاغ من الأوساخ المجتمعة.. قال أبو عبيد: "أنكر عليهم طول الأظفار وترك قصها".
قال الحافظ ابن حجر بعد ذكر ما تقدم: وفيه إشارة إلى الندب إلى تنظيف المغابن كلها ويستحب الاستقصاء في إزالتها إلى حد لا يدخل منه ضرر على الإصبع.. واستحب أحمد للمسافر أن يبقى منه شيئا لحاجته إلى الاستعانة بذلك غالبا.. [50] .(18/410)
وإذا تجمع وسخ تحت الأظفار فإن لم يمتنع وصول الماء إلى ما تحته لقلته صح الوضوء بلا خلاف.. وإن منع وصول الماء إلى ما تحته: فقال بعض العلماء بعدم صحة الوضوء كما لو كان الوسخ في موضع آخر من أعضاء الوضوء.. وقال البعض الآخر بصحة الوضوء والغسل وأنه يعفى عنه للحاجة وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم بتقليم الأظفار وينكر ما تحتها من الوسخ ولم يثبت أنه أمرهم بإعادة الصلاة.. [51] .
ترتيب قص الأظافر:
لم يثبت في كيفية قص الأظافر حديث يمكن الاعتماد عليه في ذلك..
وقد قال الإمام الغزالي في الإحياء: "لم أر في الكتب خبرا مرويا في ترتيب قلم الأظافر ولكن سمعت أنه روي أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بمسبحة اليمنى وختم بإبهام اليمنى، وابتدأ في اليسرى بالخنصر إلى الإبهام.."أي كان القص على الترتيب التالي:
يبدأ بمسبحة اليمنى ثم الوسطى ثم الخنصر، ثم خنصر اليسرى إلى إبهامها ثم إبهام اليمنى.. ثم قال الغزالي: "ولما تأملت هذا خطر لي من المعنى ما يدل على أن الرواية فيه صحيحة"ثم ذكر لذلكَ حكمة: قال الحافظ العراقي بعد نقله كلام الغزالي: "والذي ذكره حكمة ظاهرة فإنه لا شك أن الابتداء باليمنى أولى، ثم إن أشرف أصابع اليمنى المسبحة؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشير بها عند الدعاء وفي التهشد.. الخ ما قال" [52] .
وبالرغم من استحسان العراقي لما قاله الغزالي: فقد استهجنه الإمام المازري المالكي - وهو إمام في علم الأصول والكلام والفقه - وانتقده بشدة.. وقد عقب النووي على كلام الغزالي والمازري، بقوله: "إن الذي ذكره الغزالي لا بأس به إلا في تأخير إبهام اليمنى فلا يقبل قوله فيه، بل يقدم اليمنى بكمالها ثم يشرع في اليسرى، وأما الحديث الذي ذكره فباطل لا أصل له.." [53] .(18/411)
وأما الرجلان فيبدأ بخنصر اليمنى ثم يمرر على بقية الأصابع بالترتيب حتى يختم بخنصر اليسرى كما في تخليل الأصابع في الوضوء.. [54] .
لا بأس من تولي شخص آخر تقليم الأظافر وقص الشوارب:
يخير الشخص الذي يريد تقليم أظافره أو قص شواربه، بين أن يتولى ذلك بنفسه أو يتولاه غيره عنه إذ لا هتك حرمة في ذلك ولا ترك مروءة ولا سيما ممن لا يحسن قص أظافر يده اليمنى؛ فإن كثيرا من الناس لا يتمكن من قصها بنفسه لعسر استعمال اليسار لديه فإن الأولى في حق مثله أن يتولى ذلك غيره عنه، لئلا يؤذى يده، وقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ من شارب المغيرة بن شعبة على سواكه.. [55] .
استحباب دفن ما أخذ من الأظفار والأشعار:
استحب عدد من الفقهاء دفن ما أخذ من الأظفار والأشعار سواء من العانة أو الإبط أو الشارب أو الرأس..
وقد جاء في المغني روى الخلال بإسناده عن ميل بنت مشرح الأشعرية قالت: "رأيت أبي يقلم أظفاره ويدفنها. ويقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.." [56] كما جاء فيه أيضا: قال مهنا: "سألت أحمد عن الرجل يأخذ من شعره وأظفاره أيدفنه أم يلقيه؟ "قال: "يدفنه.."قلت: "بلغك فيه شيء؟ " قال: "كان ابن عمر يدفنه وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه أمر بدفن الشعر والأظفار وقال: "لا يتلاعب به سحرة بني آدم" [57] وقال النووي: "نقل عن ابن عمر واتفق عليه أصحابنا" [58] ..
استحباب غسل رؤوس الأصابع بعد قص الأظافر:
استحب بعض الفقهاء غسل رؤوس الأصابع بعد قلم الأظفار لما قيل: إن حك الجسم بالأظفار المقلومة قبل غسلها يضر بالجسم.. [59] ..
حكم تقليم الأظفار:
حكى النووي اتفاق العلماء على أن تقليم الأظفار سنة سواء في ذلك الرجل والمرأة واليدان والرجلان.. وحكى العراقي والمقدسي: الاستحباب [60] والفرق بين الأمرين يسير.(18/412)
لكن يعكر دعوى الاتفاق المقول بها من قبل هؤلاء الأعلام ما سبق من قول ابن العربي بالوجوب بالنسبة للخصال الواردة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.. ومن بينها تقليم الأظفار.. وقد ذكرنا فيما سبق مستنده وما قال به بعض العلماء في الرد عليه.
الحكمة من الأمر بقص الأظافر واعتبار ذلك من سنن الفطرة:
1- الظفر القصير مفيد لحك الجسم لكن إذا طال عن حده صار مصدر إيذاء للشخص وإيذاء لغيره من المتعاملين معه فيكون الأمر بإزالة الظفر الطويل أمرا بإزالة أذى عن المسلمين وهو مطلوب في كل وقت وعلى أي حال..
2- في إزالته أيضا وقاية عن كثير من الأمراض؛ لأن الأوساخ التي تتجمع بين الظفر الطويل ونهاية الإصبع تصير مأوى خصبا للجراثيم والميكروبات وهي من أسرع الوسائل فتكا بصحة الإنسان.
3- في إزالة بقايا الغائط بالاستنجاء بواسطة اليد فإنه قد يعلق بها بعض الغائط حيث يدخل بين الظفر ونهاية الإصبع ويصعب استخراجه بالغسل العادي، فإذا توضأ الشخص ولم ينتبه لذلك فإنه يصلي وهو حامل للنجاسة..
كما أن رؤوس أصابعه تكون مصدر رائحة كريهة دائما وهو ما يشير إليه الحديث.. "ورفغ أحدكم بين ظفره وأنملته.." وقد سلفت الإشارة إليه.
الخصلة الثانية عشر: قص الشارب:
الأصل في القص: تتبع الأثر، وقيده بن سيدة في المحكم: بالليل كما يطلق أيضا على إيراد الخبر تاما على من لم يحضره، كما يطلق ثالثا على قطع شيء من شيء بآلة مخصوصة، والمراد به هنا: قطع الشعر النابت على الشفة العليا من غير استئصال [61] .
أما الشارب: فهو الشعر النابت على الشفة العليا.. وقد اختلف في جانبيه وهما السبالان؛ فقيل هما من الشارب ويشرع قصهما معه، وقيل هما من جملة شعر اللحية فيعفيا..(18/413)
وقد ورد في بعض الأحاديث "قص الشوارب"؛ فقيل: هو من الواحد الذي فرق وسمي كل جزء منه باسمه من باب المبالغة والتعظيم؛ فقالوا لكل جانب منه شاربا ثم جمع على شوارب.
وحكى ابن سيده عن بعضهم: من قال: الشاربان أخطأ وإنما الشاربان ما طال من ناحية السبلة.. قال ويسمى السبلة كلها شاربا.. ويؤيده أثر عمر الذي أخرجه مالك: أنه كان إذا غضب فتل شاربه، والذي يمكن فتله من شعر الشارب؛ السبال وقد سماه شاربا.. [62] .
وقد روت أكثر الأحاديث بلفظ القص كحديث أبي هريرة عند البخاري ومسلم وحديث عائشة وحديث أنس عند مسلم وكذلك حديث ابن عمر عند البخاري.. [63] .
وقد وقع عند مسلم في رواية أبي هريرة بلفظ "جزوا الشوارب" كما وقع عنده وعند البخاري من حديث ابن عمر بلفظ "احفو الشوارب.." وقد ورد عند البخاري من رواية ابن عمر بلفظ "أنهكوا الشوارب.." [64] فانتهت مجموع هذه الروايات إلى أمرين: أحدهما: الأخذ من الشوارب بدون استئصال لها وهي الروايات التي جاءت بلفظ القص أو التقصير ... وثانيها: استئصال الشوارب وهي الروايات التي جاءت بألفاظ الاحفاء والجز والإنهاك والتعدد في الروايات المختلفة المعنى الواردة في موضوع الشوارب جعلت العلماء يختلفون في كيفية الأخذ المشروع منها.
كيفية الأخذ من الشوارب وآراء الفقهاء فيها:
ذهب الحنفية ومعهم بعض الفقهاء إلى أن كيفية الأخذ المشروع في الشوارب هو استئصالها بالحلق.. وذلك لما جاء في كثير من الأحاديث من التعبير بالاحفاء والإنهاك والجز ونحوها.. وكل هذه الألفاظ تدل على أن المطلوب المبالغة في الإزالة: إذ الاحفاء- بالحاء المهملة والفاء - الاستقصاء في الأخذ.
كما أن النهك- بالنون والكاف- يدل على المبالغة في الإزالة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم للخافضة: "أشمي ولا تنهكي" أي لا تبالغي في خفاض المرأة..(18/414)
وكذلك لفظ الجز- بالجيم والزاي الثقيلة- فإنه يدل على قص الشعر والصوف إلى أن يبلغ الجلد [65] .
كما استدل هذا الفريق أيضا: بفعل بعض الصحابة رضي الله عنهم وكذلك عدد من خيار التابعين.
فقد نقل البخاري في صحيحه عن ابن عمر أنه كان يحفي شاربه حتى ينظر إلى بياض الجلد ويأخذ هذين يعني بين الشارب واللحية.. [66] .
وعن ميمون بن مهران عن عبد الله بن عمر قال ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس فقال: "إنهم يوفرون سبالهم- جمع سبلة ومعناه الشارب- ويحلقون لحاهم فخالفوهم"، قال: "وكان ابن عمر يستعرض سبلته فجزها كما تجز الشاة ويجز البعير" [67] ..
وعن عبيد الله بن أبي رافع قال: "رأيت أبا سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وابن عمر ورافع بن خديج وأبا أسيد الأنصاري وابن الأكوع وأبا رافع ينهكون شواربهم حتى الحلق.." [68] ..
وحكى ابن حجر: عن الطبري من طرق: عن عروة وسالم والقاسم وأبي سلمة أنهم كانوا يحلقون شواربهم [69] .
وقد أخذ بهذا عدد من أهل العلم، وهو اتجاه المذهب الحنفي حيث يرى الحنفية أن الاحفاء أفضل من التقصير..
وفي مقابل هذا الفريق كان الإمام مالكَ يرى أن السنة في الشوارب هي التقصير لها وكان ينهى عن الاحفاء وينكره ويفسر الأحاديث التي جاءت بالاحفاء وما في معناه: بأخذ أسفل الشارب والمطل على الشفة العليا حتى يبدو بياض هذه الشفة قال ابن القاسم عن مالك: "احفاء الشارب عندي مثلة والمراد بالحديث المبالغة في أخذ الشارب حتى يبدو طرف الشفتين.. وقال أشهب سألت مالكا عمن يحفى شاربه، فقال: "أولى أن يوجع ضربا"، وقال لمن يحلق شاربه: "هذه بدعة ظهرت في الناس..".
وفي الموطأ: قال يحيى: "وسمعت مالكا يقول: يؤخذ من الشارب حتى يبدو طرف الشفة وهو الإطار ولا يجزه فيمثل بنفسه.." [70] .(18/415)
وقال النووي في المجموع: "ثم ضابط قص الشارب: أن يقص حتى يبدو طرف الشفة ولا يحفه من أصله، هذا مذهبنا.." [71] .
وقال العراقي: "إن التقصير هو مذهب مالك والشافعي.." [72] .. وتعبير النووي والعراقي وهما من أساطين المذهب الشافعي أكثر تحقيقا عن اتجاه المذهب من غيرهم.. بمعنى أن السنة في الشوارب في المذهب الشافعي: هي التقصير.. وهذا مخالف لما حكاه ابن خويز منداد عن الشافعي أنه كالحنفي يرى الاحفاء [73] كما يتنافى مع ما حكاه الطحاوي من أن أصحاب الشافعي كالمزني والربيع كانوا يحفون، وما أظنهم إلا أنهم أخذوا ذلك إلا عنه [74] ..
وأهم ما استند إليه هذا الفريق في القول: بأن السنة في الشوارب هي التقصير: دلالة الأحاديث الكثيرة الواردة بلفظ القص أو التقصير، والتي أشرنا إلى بعضها فيما تقدم.
وأيضا بما روى عن ابن عباس أنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقص أو يأخذ من شاربه، قال: وكان خليل الرحمن إبراهيم يفعله"أخرجه الترمذي، وقال: "هذا حديث حسن غريب.." [75] .
وكذلك حديث زيد بن أرقم عند الترمذي أيضا "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من لم يأخذ من شاربه فليس منا.." قال الترمذي عنه: "هذا حديث حسن صحيح" [76] .
وقد وضح حديث المغيرة كيفية الأخذ حيث جاء فيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا طويل الشارب فدعا بسواك وشفرة فوضع السواك تحت الشارب فقص عليه.." [77] .
كما يستدل هذا الفريق بفعل بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد ذكر البيهقي بإسناده إلى شرحبيل بن مسلم الخولاني.. قال: "رأيت خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصون شواربهم ويعفون لحاهم ويصفرونها: أبو أمامة الباهلي، وعبد الله بن بسر، وعتبة بن عبد السلمي، والحجاج بن عامر الثمالي، والمقدام ابن معد يكرب الكندي، كانوا يقصون شواربهم مع طرف الشفة.." [78] ..(18/416)
وأما الإمام أحمد بن حنبل فقد روى الأثرم عنه: أنه كان يحفي شاربه احفاء شديدا، وسمعته يسأل عن السنة في احفاء الشارب، فقال: "يحفي.."وقال حنبل:"قيل لأبي عبد الله: ترى للرجل يأخذ شاربه ويحفيه أم كيف يأخذه؟ " قال: "إن احفاه فلا بأس وإن أخذ قصا فلا بأس"، وقال أبو محمد في المغني: "هو مخير بين أن يحفيه وبين أن يقصه.." [79] ..
مناقشة وجهة الفريق الأول:
نوقشت وجهة الفريق الأول من قبل معارضيه: بأن الاحفاء المذكور في بعض الروايات ليس معناه الاستئصال، بل المراد به التقصير، غاية ما في الأمر؛ أنه يشتد في أخذ الشعر المتدلي من أسفل الشارب حتى يبدو طرف الشفة العليا حتى لا يؤذي الأكل ولا يجتمع فيه الوسخ..
وقال ابن عبد البر: "الاحفاء محتمل لأخذ الكل، والقص مفسر للمراد والمفسر مقدم على المجمل".
وقال الحافظ ابن حجر- بعد أن ذكر وجهة هذا الفريق من أحاديث الاحفاء وما ورد عن ابن عمر وغيره- قال: "إن كل ذلك محتمل لأن يراد استئصال جميع الشعر النابت على الشفة العليا ومحتمل لأن يراد استئصال ما يلاقي حمرة الشفة من أعلاها ولا يستوعب بقيتها، نظرا إلى المعنى في مشروعية ذلكَ؛ وهو مخالفة المجوس والأمن من التشويش على الأكل: وبقاء زهومة المأكول فيه، وكل ذلكَ يحصل بما ذكرنا".(18/417)
ثم ذكر الحافظ بعد ذلكَ: أن طريقته هذه تجمع مفترق الأخبار الواردة في الموضوع.. ثم يقوي وجهة نظره هذه: بأن الداودي جزم بذلك حين شرح أثر ابن عمر المذكور في الإحفاء.. كما أنه مقتضى تصرف الإمام البخاري؛ لأنه أورد أثر ابن عمر وأورد بعده حديثه وحديث أبي هريرة في قص الشارب فكأنه أشار إلى أن ذلكَ هو المراد من الحديث.. ثم ذكر عن الشعبي: أنه كان يقص شاربه حتى يظهر حرف الشفة العليا، وما قاربه من أعلاه، ويأخذ ما يزيد مما فوق ذلك وينزع ما قارب الشفة من جانبي الفم ولا يزيد على ذلك ثم قال: "وهذا أعدل ما وقفت عليه من الآثار" [80] .
مناقشة وجهة الفريق الثاني:
كما تعرضت وجهة الفريق الثاني القائل بأن السنة في الشوارب: هي التقصير وأخذ ما طال على الشفتين؛ إلى بعض المناقشات من الفريق الأول؛ ومن بينها ما يلي:
أن الاحفاء الوارد في كثير من الأحاديث: معناه الاستئصال: وليس هو ما طال على الشفتين، وتشهد لذلك كتب اللغة كالصحاح والقاموس والكشاف.. كما أن رواية القص لا تنافي الاحفاء لأن القص قد يكون على جهة الاحفاء وقد لا يكون، ورواية الاحفاء معينة للمراد وأيضا حديث "من لم يأخذ من شاربه فليس منا.."لا يعارض رواية الاحفاء لأن فيها زيادة يتعين المصير إليها ولو فرض التعارض من كل وجه لكانت رواية الاحفاء أرجح. لأنها في الصحيحين.. كما أن حديث "أن رسول الله أخذ من شارب المغيرة بن شعبة على سواكه.." محتمل وهو وإن صح فإنه لا يقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة الواردة في الاحفاء [81] وقد حاول بعض العلماء أن يجمع بين الاحفاء والقص فقال: "يقص من أعلاه ويحلق من طرفه" [82] .
المختار: بعد أن استعرضنا آراء الفقهاء، ومستند كل منهم: تبين لنا أن الاحفاء وإن كان يحتمل التقصير لكنه إلى معنى الاستئصال أقرب، وأن القص وإن احتمل أن يكون من قرب جذور الشعر لكنه إلى التقصير الوسط أقرب.(18/418)
إذا وضح هذا: علم أن كلا من التقصير والاحفاء سنة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن المرء مخير بين الأمرين من غير تفضيل أحدهما على الآخر.
وقد سبقت الإشارة إلى أن هذا هو رأي الإمام أحمد الذي أجاب به السائل حينما قال له: "ترى للرجل يأخذ شاربه ويحفيه أم كيف يأخذه؟ "قال: "إن أحفاه فلا بأس، وإن أخذ قصا فلا بأس.."
كما أن الحافظ العراقي؛ قد نقل حكاية التخيير عن القاضي عياض.. [83] كما أنه رأي الإمام الطبري: حيث نقل عنه قوله: "دلت السنة على الأمرين ولا تعارض، فإن القص يدل على أخذ البعض والإحفاء على أخذ الكل وكلاهما ثابت فيتخير فيما يشاء.." [84] .
استحباب البداءة بالجانب الأيمن:
يستحب في الأخذ من الشارب أن يبدأ الأخذ بالجانب الأيمن للحديث السابق "كان وسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في كل شيء.."
وقت الأخذ من الشارب:
أما التوقيت في الأخذ من الشارب فيجري في ما قلناه سابقا عن بعض أهل العلم: من أنه يختلف باختلاف الأشخاص، وأن البعض قد استحب فعله في يوم الجمعة من كان أسبوع، المهم ألا يتركه لأكثر من أربعين يوما: لحديث أنس السابق "وقت لنا في قص الشارب الحديث.."
التخيير بين مباشرة الأخذ بنفسه أو يوليه غيره:
يجوز في قص الشارب أن يباشر ذلكَ بنفسه أو يتولاه غيره عنه لحديث المغيرة بن شعبة المتقدم.. إذ لا هتك حرمة في ذلكَ.. ولا نقص مروءة..
هل يترك السبالان أو يؤخذ منهما؟:
اختلف أهل العلم في الأخذ من طرفي الشارب وهما المسميان بالسبالين هل يقصا مع الشارب، أم يتركا كما يفعله كثير من الناس؟..
نقل عن الغزالي في الإحياء: أنه لا بأس بترك سبالين وهما طرفا الشارب.. فعل ذلك عمر رضي الله عنه وغيره، لأن ذلك لا يستر الفم ولا يبقى فيه غمرة الطعام إذ لا يصل إليه..(18/419)
وروى أبو داود من رواية أبي الزبير عن جابر قال: "كنا نعفي السبال إلا في حج أو عمرة.."
وكره بعض العلماء بقاء السبال لما فيه من التشبه بالأعاجم بل بالمجوس وأهل الكتاب.
قال العراقي - بعد أن أحكى الرأيين السابقين -: وهذا إشارة إلى الرأي الأخير - أولى بالصواب.. لما رواه ابن حبان في صحيحه؛ من حديث ابن عمر قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس، فقال: "إنهم يوفرون سبالهم، ويحلقون لحاهم"، فكان ابن عمر يجز سباله كما تجز الشاة أو البعير.."
وروى أحمد في مسنده في أثناء حديث لأبي أمامة.. فقلنا يا رسول الله: فإن أهل الكتاب يقصون عثانينهم ويوفرون سبالهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قصوا سبالكم ووفروا عثانينكم، وخالفوا أهل الكتاب" - والعثانين - بالعين المهملة والثاء المثلثة وتكرار النون - جمع عثنون: اللحية [85] ..
حكم الأخذ من الشارب:
حكى الإمام النووي الاتفاق على أنه سنة.. وعبر الحافظ العراقي عنه بالاستحباب والأمر بينهما سهل لكن يعكر دعوى الاتفاق هذه ما سبقت الإشارة إليه من قول ابن العربي بالوجوب وما ذهب إليه ابن حزم الظاهري من أن يقص الشارب فرض: أخذاً بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر "خالفوا المشركين.." "أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى.." [86] حيث جاء الطلب بصيغة الأمر المقتضية للوجوب عند الإطلاق..(18/420)
فلو قيل: اتفق أكثر الفقهاء على السنية لكان أقرب للتحقيق وقد علل الشاطبي عدم الوجوب في الأمور التي تقتضيها الفطرة السليمة أو مكارم الأخلاق أو محاسن العادات: بأن الشارع قد اكتفى في طلبها بمقتضى الجبلة الطبيعية والوازع الباعث على الفعل..والدليل على ذلك: أنه لم يأت بنص جازم في طلب الأكل والشرب واللباس والواقي من الحر والبرد والنكاح الذي به بقاء النسل، وإنما جاء ذكر هذه الأشياء في معرض الإباحة أو الندب، ومن ثم أطلق كثير من الع يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ لماء على تلك الأمور: أنها سنن أو مندوب إليها [87] .
الحكمة من طلب الأخذ من الشارب:
1- في الأخذ من الشارب مخالفة لأهل الكتاب والمجوس وغيرهم من ملل الكفر..
2- ما أشار إليه ابن العربي: من أن الماء النازل من الأنف يتلبد به الشعر لما فيه من اللزوجة ويعسر تنقيته عند غسله في الطهارتين [88] ..
3- يعتبر الأخذ من الشارب ضربا من ضروب المحافظة على الصحة، وذلك لما يعلق بأطراف الشعر من الغبار والجراثيم السابحة في الهواء فإذا أكل الإنسان أو شرب انتقلت هذه الجراثيم إلى داخل الفم مع المأكول أو المشروب.
4- كما أن فيه أخذا بأسباب الزينة التي أمر الله بها إذ فيه تزيين لسمت المسلم وتحسين لهيئته وتجميل لمنظره.. (يتبع)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] صحيح البخاري جـ 2 ص 11 طبعة صبيح.
[2] عمدة القارئ جـ 6 ص 193.
[3] المرجع السابق.
[4] عمدة القارئ جـ 6 ص 193.
[5] سنن النسائي جـ 3 ص 93.
[6] عمدة القارئ جـ 6 ص 193 دار إحياء التراث.
[7] المحلى جـ 2 ص12،ص13، دار الاتحاد العربي الطباعة..
[8] صحيح مسلم جـ 3 ص 3. الموطأ ص 186 من المنتقى.
[9] مسلم جـ 3 ص 3.(18/421)
[10] جـ 3 ص 9 تحفة الأحوذي ومسلم جـ 3 ص 8.
[11] جـ 3 ص 6. ص 7.
[12] سنن الترمذي جـ 3 ص 8 تحفة الأحوذي.
[13] المنتقى جـ اص 185
[14] صحيح ملسم جـ 3 ص 3
[15] المرجع السابق.
[16] المنتقى جـ 1 ص 186
[17] المحلى جـ 2 ص 27. ص28.
[18] سبل السلام جـ اص 86. ص 87. ونيل الأوطار جـ ا 280 والفقه على المذاهب الأربعة جـ 1 ص 102 الطبعة الأولى سنة 1928م.
[19] صحيح مسلم جـ 3 ص 4.
[20] صحيح مسلم جـ 1ص 174.
[21] سورة الأعراف الآية رقم 31.
[22] انظر تعليق العدوي على شرح أبي الحسن علي رسالة ابن أبي زيد القيرواني جـ 2 ص 344 مطبعة السعادة بالقاهرة.
[23] نيل الأوطار جـ 1ص 155 فتح الباري جـ 12 ص 464، المجموع جـ 1ص 348 مطبعة العاصمة.
[24] حاشية العدوي على أبي الحسن جـ 2 ص 344 مطبعة السعادة.
[25] المجموع جـ 1ص 348 مطبعة العاصمة.
[26] نيل الأوطار جـ 1ص 155.
[27] نيل الأوطار جـ 1ص 155.
[28] المرجع السابق.
[29] جـ 1 ص 155.
[30] المجموع للنووي 1ص 348 مطبعة العاصمة
[31] فتح الباري جـ 12 ص 464 ونيل الأوطار جـ 1ص 155
[32] حاشية العدوي على أبي الحسن جـ 2 ص 345 مطبعة السعادة.
[33] سورة الأعراف الآية رقم 31..
[34] صحيح مسلم جـ 1 ص 154.
[35] المجموع جـ 1 ص346 مطبعة العاصمة.
[36] المجموع جـ 1ص 346 مطبعة العاصمة وطرح التثريب جـ 2 ص 83 والمنتقى جـ 1ص 186 وشرح الموطأ للزرقاني جـ 4 ص 248 طبعة 1355هـ تصوير دار الفكر.
[37] طرح التثريب جـ 1 ص 79.
[38] طرح التثريب جـ 2 ص 80.
[39] المجموع جـ اص 348 مطبعة العاصمة.
[40] المجموع جـ اص 349 مطبعة العاصمة.
[41] فتح الباري جـ 12 ص 465.(18/422)
[42] شرح الموطأ للزرقاني جـ 4 ص 285 طبعة 1355 تصوير دار الفكر.
[43] المغنى جـ اص 65.
[44] المجموع جـ اص 348 وطرح التثريب جـ 2 ص 76 والمغني جـ اص 65
[45] فتح الباري جـ 12 ص 459
[46] العدوي على أبي الحسن جـ 2 ص 344
[47] لسان العرب جـ15 ص 392 الميم فصل القاق وانظر فتح الباري جـ 12 ص 465 وطرح التثريب جـ 2 ص 77
[48] فتح الباري جـ 12 ص 465
[49] المغني جـ اص65
[50] فتح الباري جـ 12 ص 465.
[51] المجموع جـ اص 346 مطبعة العاصمة.
[52] طرح التثريب جـ 2 ص 78.
[53] المجموع جـ ا 345 مطبعة العاصمة.
[54] المرجع السابق.
[55] السنن الكبرى للبيهقي جـ اص 151.
[56] المغني جـ اص 66.
[57] المغني ج1 ص66.
[5 8] المجموع جـ اص 349 مطبعة العاصمة.
[59] المغني جـ اص 65
[60] المجموع جـ اص 345 والمغني ج1 ص65 وطرح التثريب ج2 ص77
[61] لسان العرب جـ 2 ص 341 مادة قصص النهاية لابن الأثير جـ 4 ص 70 فتح الباري جـ 12 ص 454.
[62] لسان العرب جـ اص 472 مادة شرب: فتح الباري جـ 12 ص 471.
[63] البخاري جـ 12 ص 456 على فتح الباري جـ اص 471.
[64] البخاري جـ 12 ص 456 على فتح الباري ومسلم جـ اص 153.
[65] فتح الباري جـ 12 ص 468.
[66] فتح الباري جـ 12 ص 454.
[67] السنن الكبرى للبيهقي جـ اص 151.
[68]ـ المرجع السابق.
[69]ـ فتح الباري جـ اص 469.
[70] شرح الزرقاني على الموطأ جـ4 ص 286 وسنن البيهقي جـ اص 151 فتح الباري جـ 12 ص 468
[71]ـ جـ اص 346
[72]ـ طرح التثريب جـ 2 ص 76.
[73] شرح الزرقاني على الموطأ جـ 4 ص 287
[74] فتح الباري جـ 12 ص 468
[75] تحفة الأحوذي جـ 8 ص 41.(18/423)
[76] المرجع السابق ج8 ص42 ص43.
[77] السنن الكبرى للبيهقي ج1 ص151.
[78] السنن الكبرى جـ اص 151.
[79] فتح الباري جـ 12 ص 468 نيل الأوطار جـ اص 346 مطبعة العاصمة.
[80] فتح الباري جـ 12 ص 469.
[81] نيل الأوطار جـ اص 138.
[82] العدوي على أبي الحسن جـ 2 ص 344.
[83] طرح التثريب جـ 2 ص 77.
[84] فتح الباري جـ اص 468.
[85] طرح التثريب جـ 2 ص77.
المحلى جـ 2 ص298 ص299.
[86]
[87] الموافقات جـ 3 ص 132.
[88] فتح الباري جـ 12 ص 469.(18/424)
أبو الأعلى المودودي
مؤسس الجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية
لفضيلة الشيخ محمد شريف الزئبق
المدرس بكلية الدعوة.
في يوم السبت أول ذي القعدة سنة 1399 هـ توفي الشيخ أبو الأعلى المودودي فكانت وفاته فاجعة أليمة أصابت المسلمين جميعاً في عالم عامل مجاهد، وإمام فذ، أثر في الجيل الإسلامي المعاصر تأثيرا عظيما، فقد دعا من شبه القارة الهندية إلى نهضة إسلامية على أسس علمية متينة، وأسس في الهند ثم في باكستان الجماعة الإسلامية على مبادئ الإسلام القويمة في قالب عصري سديد.
نشأته:
ولد المودودي في بلدة (أورنك أباد) بإقليم حيدر أباد الركن في الهند، وكان والده من العلماء الصالحين الذين امتهنوا مهنة المحاماة والدفاع عن المظلومين، فعني بتربية ولده وتثقيفه، فبدأ بتعليمه القرآن الكريم، واللغتين العربية والفارسية، والفقه والحديث، ولم تمض سنوات حتى كان أبو الأعلى الفتى الصغير قد حصل من العلوم في خمس سنوات ما لم يحصله نظراؤه من الأطفال في ضعف هذه المدة، وبعد أن استوى عوده، ونال من الثقافة الإسلامية حظا طيبا. ألحقه أبوه في المدرسة الحكومية وكانت سنه لا تزيد عن إحدى عشرة سنة، فأجري له اختبار للقبول، ونجح إلى الصف الثامن، واستمر في المدرسة إلى نهاية المرحلة الثانوية.
وحدث أن أصيب والده بمرض أقعده عن العمل فانقطع إلى ملازمته وخدمته، والعناية به، ولم يلبث أن توفي أبوه ولم يتجاوز السادسة عشرة فكان عليه أن يعتمد بعد الله على نفسه، فعمل في الصحافة، وهو بعد فتى غض الإهاب، واستمر في طلب العلم والمطالعة بعيدا عن الأسلوب التقليدي الذي يسير عليه طلبة العلم في زمنه، حيث كانوا ينصرفون إلى كتب المتون والشروح والتقريرات والمنظومات الفقهية واللغوية:(18/425)
وكانت هذه الفترة من تاريخ الهند تموج بأحداث خطيرة بعد الحرب العالمية الأولى وما تلاها من أحداث جسام في العالم الإسلامي، حيث كان الإنجليز يحكمون الهند حكما استعماريا غاشما، وكان المسلمون يتململون ويتألمون حين يجدون أبناءهم مجندين في الجيوش البريطانية التي كانت تتصدى لحرب إخوانهم المسلمين في الدولة العثمانية، مما كان له رد فعل شديد لدى المسلمين في الهند، فتنادى زعماؤهم إلى الدفاع عن الخلافة الإسلامية، وكان الإنجليز في الوقت نفسه يشجعون الهندوس ويؤيدون دعوتهم القومية، وبرز (غاندي) زعيما هندوسيا يقود الشعب الهندي للاستقلال، وكان قد نشأ في أحضان الإنجليز، فأظهروه زعيما خطيرا يعمل على إقامة دولة في الهند على أساس القومية العلمانية، ويحاول خداع مسلمي الهند ليسيروا في صفه باسم القومية والتحرير، ويطلب منهم تناسي تاريخ الهند الإسلامي الذي لم يكن فيه بزعمه غير الحروب والدمار، وأن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف، مستغلا قيام ملاحدة حزب الاتحاد والترقي في تركيا مصطفى كمال وأنصاره - بإلغاء الخلافة سنه 1342 هـ، فكان غاندي يصول ويجول ويدعو المسلمين في الهند إلى الانضواء تحت لواء القومية الهندوسية ونبذ دعوة الوحدة الإسلامية لإعادة الخلافة،..
وكان المودودي يسمع هذه الدعوة الفاجرة من غاندي فتثور نفسه ويغلي الإيمان في قلبه، ويكب على الكتب والمراجع ليرد افتراءات غاندي وغيره من أعداء الإسلام فألف كتابه الأول (الجهاد في سبيل الله) وطبع سنة 1347 هـ وسنه لم تتجاوز الخامسة والعشرون.
عمله في الصحافة:(18/426)
وفي سنة 1351 هـ أصدر المودودي مجلة (ترجمان القرآن) وجعلها منبرا للدعوة الإسلامية، وكان يبدؤها بتفسير القرآن العظيم بأسلوب يحافظ فيه على جوهر المعنى بأسلوب عصري يبلغ به دعوة الإسلام إلى معاصريه. وكان المودودي يشترك في تحرير مجلات أسبوعية منها مجلة (تاج) التي كان يديرها وحده ثم تحولت إلى جريدة يومية. ولما انتقل إلى العاصمة (دلهي) التقى برئيس جمعية علماء الهند الشيخ أحمد سعيد، وأصدرت هذه الجمعية سنة 1358هـ جريدة (مسلم) وعين المودودي مديرا لها، ولما أغلقتها السلطة الاستعمارية أصدرت الجمعية جريدة أخرى بإدارته.
تأسيس الجماعة الإسلامية:
لقد فطن المودودي رحمه الله وهو يبحث موضوع (الجهاد في سبيل الله) إلى حقيقة الإسلام، وأنه لابد له من دولة تقيم شرائعه وأحكامه من العدل بين الناس، ورعايته فقرائهم، وهذا يستلزم قيام جميع المؤسسات التي تحتاجها الدولة كالقضاء والجيش والشرطة والبعثات الدبلوماسية وغيرها، فهو يقول: "الحكومة الإسلامية لا تكون في الحقيقة إلا حكومة مبلغة ومرشدة، مهمتها إعلاء كلمة الله في الأرض، وغايتها من الجهاد تغليب الإسلام على الكفر".
ونظر المودودي فرأى الأغلبية من المسلمين في الهند منقسمة إلى فريقين: أحدهما يسير في موكب حزب المؤتمر الهندي تحت زعامة غاندي الذي يدعو إلى قومية هندية موحدة، ويحارب فكرة تقسيم الهند على أساس الدين، والثاني يؤيد حزب الرابطة الإسلامية بزعامة محمد علي جناح، والذي يدعو إلى إنشاء دولة باكستان منفصلة عن الهند على أساس القومية الإسلامية.(18/427)
وكان زعماء الرابطة الإسلامية جماعة مثقفة بثقافة عصرية، وليس في أذهانهم فكرة واضحة عن النظام الإسلامي الذي تقوم عليه دولة باكستان، وكان هدفهم هو إنشاء دولة مستقلة للمسلمين على أساس (القومية الإسلامية) لا (الفكرة الإسلامية) أو النظام الإسلامي؛ وقام المودودي بمجابهة هذا التيار الذي يلقى تأييد عامة المسلمين بسبب الظروف الصعبة التي كان يعيشها المسلمون في الهند والمذابح الطائفية التي يتعرضون لها في كل مكان.. وقد شرح المودودي فكرته في مجلة ترجمان القرآن، وفي المحاضرات التي كان يلقيها في مختلف البلدان عام 1358هـ كقوله: "إن المسلمين ليسوا أمة كالألمان أو الإنجليز أو الهندوك تنتمي إلى عنصر مخصوص أو تنتسب إلى أرض بعينها، وإنما المسلمون حزب ذو فكرة ومبدأ، لا ينحصرون في أرض أو سلالة، وعليهم أن يجذبوا الهنادك إلى حزبهم العالمي ذي الفكرة السامية والنظرة العالمية الشاملة كما جذبهم أسلافنا من قبل".
وليس عجيبا أن لا تستوعب الأكثرية من المسلمين هذه الفكرة، وكان من الطبيعي أن تستهويها نظرية (القومية الإسلامية) بإزاء (القومية الهندية) لأن العاملين في الدعوة الإسلامية كانوا لا يملكون الوسائل، وفي الوقت نفسه كان عددهم قليلا جدا، وفي سنة 1359هـ صادق مؤتمر الرابطة الإسلامية على تأسيس (دولة إسلامية مستقلة) وعندئذ رأى المودودي أن الوقت قد حان لينتظم الذين تأثروا بدعوته وأفكاره في سلك جماعه تستعد لمجابهة ما سيعانيه المسلمون في الهند، وما سيواجهه الإسلام في باكستان، فاجتمع على دعوته خمسة وسبعون رجلا في مدينة لاهور من مختلف أنحاء البلاد الهندية وأسسوا (الجماعة الإسلامية) وانتخبوه أميرا لها وكان ذلكَ في الثاني من شهر شعبان 1360 هـ.(18/428)
شرعت الجماعة الإسلامية في مهمتها بتعميم الدعوة ونشر فكرة الإسلام، وكان الأستاذ المودودي رحمه الله لا يزال ينشر آراءه وأفكاره في مجلته ترجمان القران، ويلقي المحاضرات في الموضوعات الإسلامية أمام طلاب الجامعات وأساتذتها، وظهر في الجماعة نخبة من المؤلفين وقفوا حياتهم ومواهبهم لاستجلاء محاسن الإسلام بأسلوب عصري متين، وحرصت الجماعة الإسلامية على تربية أعضائها على الأخلاق الإسلامية وحثهم على أداء شهادة الحق قولا وعملا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} . ولم يزد أعضاء الجماعة في مدى ست سنوات (من.136- 1366 هـ) على ستمائة وخمسة وعشرين عضوا، إذ كان على من يلتحق بعضوية الجماعة الإسلامية أن يستقيل من وظائف الحكومة الإنجليزية المستعمرة، وإن كان محاميا أن يمتنع عن المرافعة أمام المحاكم التي كانت تحكم بغير ما أنزل الله، وأن يرفضوا التعامل بالربا والعقود المحرمة الأخرى، وقد أثبت هؤلاء النفر المؤمنون الذين بايعوا المودودي أنهم جادون في عملهم للإسلام ودعوته.
جهاده وبلاؤه:
وحين انقسمت الهند إلى دولتين الهند وباكستان، ازدادت أعباء (الجماعة الإسلامية) فكان عليها إلى جانب نشر التصور الصحيح للإسلام وإعداد الفرد المسلم وإصلاح المجتمع، أن تعمل على جعل باكستان دولة إسلامه تطبق الإسلام، وذلك:
1- بمطالبة الحكومة بوضع الدستور الإسلامي وتطبيق االشريعة الإسلامية..
2- إعداد جيل متمسك بتعاليم الإسلام، مستقيم السلوك يستطيع تحمل مسئوليات النظام الإسلامي.(18/429)
وقد كان لجهاد الجماعة الإسلامية لوضع الدستور الإسلامي لدولة باكستان أن أصدرت الجمعية التأسيسية (قرار المبادئ) سنة 1368هـ الذي ينص على أن الحاكمية في باكستان ليست إلا لله عز وجل وأن كل ما تتمتع به الدولة من الصلاحيات والسلطات هي وديعة عندها لله سبحانه وتعالى، وأن الحكومة من واجبها أن تجعل المسلمين يعيشون حياة إسلامية يرتضيها الله ورسوله.
وقد كان من كيد أعداء الإسلام أن الحكومة البريطانية ورثت دولة باكستان الناشئة تحكم القاديانيين وسيطرتهم على جانب من السلطة فكان ظفر الله خان وزيرا للخارجية وبعض الضباط القاديانيين يتحكمون في سلاح الطيران.. وكانت للقاديانية دعاية واسعة خبيثة بين ظهراني المسلمين، فكتب الأستاذ المودودي (المسألة القاديانية) وبين في هذا الكتاب حقيقة القاديانية وخطرها على المسلمين، وبسبب هذا الكتاب ألقي القبض على الأستاذ المودودي سنة 1372 هـ مع عدة مئات من أعضاء الجماعة الإسلامية، وحوكم المودودي أمام محكمة عسكرية فأصدرت قرارا بإعدامه واستقبل المودودي هذا الحكم بطلاقة وجه ورحابة صدر، ولكن المحكمة عادت فخففت الحكم إلى السجن المؤبد، وبقي المودودي في السجن ثمانية عشر شهرا، ثم اضطرت الحكومة إلى إطلاق سراحه تحت ضغط جماهير الشعب المسلم في باكستان وفي العالم الإسلامي.
وفي سنه 1384 هـ قامت الحرب بين الهند وباكستان بسبب عدوان الهند على كشمير فاضطر أيوب خان رئيس الباكستان أن يذهب إلى مقر الجماعة الإسلامية في لاهور وأن يصحب المودودي في سيارته إلى دار الإذاعة ليوجه خطابا إلى الأمة وإلى الجيش كان يذاع على المقاتلين في الجبهة، وتحقق الانتصار للجيش الباكستاني رغم ضآلة عدده وعدته أمام الجيش الهندي.(18/430)
ولما وصل بوتو وحزبه إلى حكم باكستان سنة 1392 هـ لم يستطع أن ينفذ ما كان ينادى به من جعل دستور الدولة اشتراكيا علمانيا رغم أكثريتة الساحقة، لأن الجماعة الإسلامية والهيئات الدينية الأخرى استنكرت مشروعة، وأبت إلا أن يكون الدستور متفقا مع قرار المبادئ، فرضخ هذا المتغطرس وحزبه لرغبة الشعب المسلم ووضع مادة تصرح بأن دين الدولة الإسلام، ومصدر التشريع فيها هو الإسلام.
بين المودودي والندوي:
كان الأستاذ السيد أبو الحسن الندوي قد ألف كتابا في نقد بعض آراء الأستاذ أبي الأعلى المودودي التي وردت في بعض كتبه وخاصة كتاب (المصطلحات الأربعة في القرآن) ، وقد طبع منذ سنوات باللغة الأردية في السند ثم طبعت ترجمته باللغة العربية باسم (التفسير السياسي للإسلام) في عام 1399 هـ ويقول السيد الندوى أن السيد المودودى قد كتب له في رسالته الأخيرة التي تلقاها منه حين وصله كتاب المذكور الذي جاءت فيه ملاحظاته عليه. كتب له مرحبا بهذه الملاحظات وشكره عليها، ودعاه إلى مراجعة سائر كتاباته ومؤلفاته، وإبداء الملاحظات عنها وقال: "إنني لا أستطيع أن أقول إني سأوافق عليها تماما، ولكني أدرسها وأتأمل فيها"وقال: "إنني لا أعتبر نفسي فوق مستوى النقد واختلاف وجهات النظر.."(18/431)
ومما يذكر أن كلا الرجلين كانا من أعضاء رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ومن أعضاء المجلس الاستشاري للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ويشيد السيد الندوي حفظه الله بالسيد المودودي "الذي قامت دعوته على أسس علمية أعمق وأمتن من أسس تقوم عليها دعوات سياسية.. وكانت كتاباته وبحوثه موجهة إلى معرفة طبيعة هذه الحضارة الغربية وفلسفتها للحياة، وتحليلها تحليلا علميا قلما يوجد له نظير في الزمن القريب، وقد عرض الإسلام ونظام حياته، وأوضاع حضارته وحكمه، وصياغته للمجتمع والحياة، وقيادته للركب البشري والسيرة الإنسانية في أسلوب علمي رصين، وفي لغة عصرية تتفق مع نفسية الجيل المثقف ومستوى العصر العلمي ويملا الفراغ في الأدب الإسلامي المعاصر من زمن طويل، ويقضي حاجة الشباب الطموح إلى مجد الإسلام والمسلمين.."ويقول الندوي أيضا: "وقد بعثت كتاباته - المودودي - القوية ثم جهوده المتواصلة الرغبة القوية العارمة لقيام حكم إسلامي ونظام إسلامي ومجتمع أفضل في كل بلد إسلامي".
مؤلفاته:(18/432)
نقل إلى اللغة العربية من مؤلفاته بضعة وثلاثون كتابا منها: الجهاد في سبيل الله - الإسلام والجاهلية - شهادة الحق - الدين القيم - مبادئ الإسلام - المصطلحات الأربعة في القرآن - نظرية الإسلام الخلقية - الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية - تفسير سورة النور – الحجاب - موجز تجديد الدين وإحيائه - واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم - منهج جديد للتعليم والتربية - أسس الاقتصاد بين الإسلام والنظم المعاصرة - معضلات الاقتصاد وحلها في الإسلام - مسألة ملكية الأرض في الإسلام - نظرية الإسلام وهديه في السياسة والدستور والقانون - القانون الإسلامي - نظام الحياة في الإسلام - واجب الشباب المسلم اليوم - حاجة الإنسانية إلى جماعة رشيدة - البعث بعد الموت - الثبوت العقلي للرسالة المحمدية - نحن والحضارة الغربية - المسألة القاديانية - الحضارة الإسلامية: أصولها ومبادئها- حركة تحديد النسل في ميزان النقد - تذكرة دعاة الإسلام - أضواء على حركة التضامن الإسلامي - بين الدعوة القومية والرابطة الإسلامية - حدود التشريع الإسلامي ومكانة الاجتهاد فيه.- العدالة الاجتماعية: حقيقتها وسبل تحقيقها.
وقد حرصت المملكة العربية السعودية على تكريم هذا الإمام المجاهد فمنحته لجنة جائزة الملك فيصل جائزتها للعالم الماضي، فتقبلها شكرا ووضعها في خدمة الدعوة الإسلامية، رحمه الله وعوض الأمة الإسلام عنه خير العوض، وأجزل مثوبته في دار المقامة عنده.(18/433)
عبد الله بن ياسين
واضع الأسس الأولى لدولة المرابطين في المغرب الأندلس
(الحلقة الثانية)
لفضيلة الشيخ/ إبراهيم الجمل. المدرس بالعهد الثانوي التابع للجامعة الإسلامية
كان بين عبد الله وجدالة ثأر لا تزال آثاره موجودة: فهي القبيلة التي منعته من تأدية رسالته، وهددته بالقتل، بل لقد حاولت هدم بيته عليه، مما جعله يفر أمام قوة القوم، أما اليوم فيستطيع عبد الله أن يخضع قبيلة جدالة للدين الصحيح، وأن يجعلها تأتمر بأمره، معلنة الجهاد ضد كل من يخالف ما يجب أن يكون عليه الناس؛ ثم يتبعها باقي القبائل.
رجع عبد الله إلى مركز قيادته في رباط السنغال، وجمع أشياخ المرابطين، ليأخذ مشورتهم في أمر القبائل وفي مقدمتهم جدالة، وذهب إليها ليعرض عليها تعاليمه ومعه جيش المرابطين، وراحوا يرجونهم أن يعودوا إلى الصواب ويرضوا بحكم الإمام عبد الله، وأن يكونوا عوناً له على رد كيد الطغاة والمشركين وانتهز الجداليون فرصة مسالمة المرابطين، فأحدقوا بجيش المرابطين يريدون القضاء عليهم، فقد التفوا حولهم من كل جهة، وتنبه المرابطون لما سوف يقعون فيه، ورأوا أنهم أمام عدو من أعداء الدعوة يريد أن يطفئ نور الله، فسرى فيهم الحماس، ودوى صوتهم بالتكبير، وانقضوا على أعدائهم ينكلون بهم، حتى هزموا شر هزيمة، فأذعنوا للدعوة ودخلت القبيلة كلها في زمرة المجاهدين.
سار عبد الله إلى قبيلة لمتونة، وضيق على كل من تأخر منها الخناق، حتى أذعنوا، ورضوا بحكم عبد الله، وبعدها سار إلى سوقة فنهاها وحذرها ووعظها، فآمنت بما يدعو إليه، وعاهدته على الجهاد، وإعلاء كلمة الله. وحذت حذوها لمطة وجزولة وبهذا أصبحت وجهة القبائل واحدة، قائمة على مبادئ سامية، وعقيدة راسخة، وفي واع لما يدعو إليه الإمام ابن ياسين من نشر للواء العدل، ورفع لراية الإسلام الصحيح.(18/434)
إن في استطاعة عبد الله الآن أن يزحف لنصرة المظلوم والوقوف بجانب الضعيف وتهيئة القوم لإصلاح المجتمع. واتخذ لنفسه حكومة منظمة، تضم كل من استجاب للدعوة.. فرح الفقهاء فرحا كبيرا وأخذهم الزهو والفخر بنجاح أخ منهم، واعتبروا أنفسهم مشاركوه في هذا النجاح.. كذلك فقد وصلت كتبهم بالتهنئة طالبين منه الزحف إليهم لإنقاذ البلاد من الحكام الطغاة المارقين.
زحف الإمام عبد الله على المغرب..
كان في مقدمة من كتب إلى ابن ياسين إخوانه من فقهاء (سجلماسة) الغيورين على الدين، يرغبونه في الوصول إليهم لتخليص البلاد مما تعانيه من الحكام الطغاة الظلمة زناته المغراويين وأميرهم مسعود بن وانودين. ولمساعدتهم على القضاء على البدع وإقامة العدل وإظهار السنة، وكان الفقهاء قد طلبوا من الأمير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلم يأبه بهم ولم يلتفت إلى مطالبهم..
جمع عبد الله الأشياخ، وقرأ عليهم رسالة فقهاء سجلماسة، فقالوا له: (أيها الشيخ الفقيه هذا يلزمنا ويلزمك فسر بنا على بركة الله) زحفت جيوش المرابطين في حشود ضخمة، ونزلوا بوادي درعة، وكانت أخبارهم قد وصلت إلى أميرهم مسعود، فأعد جيشا قوامه أكثر من عشرة آلاف للقاء المرابطين، ففروا من أمامهم وتشتت شملهم وقتل أميرهم مسعود، وتقدم القوم وراء فلول الزناتيين متجهين نحو سجلماسة، ولم يتركهم المرابطون ليحصنوا أنفسهم بالمدينة، بل انقضوا عليهم بالسيوف حتى فرقوا شملهم وتمت الغلبة عليهم..
تركت جيوش المرابطين حامية في (سجلماسة) واتجهوا إلى الصحراء للقضاء على ثورة الزنوج، وما كانت زناته تعلم بتحركات القوم حتى انقضوا على الحامية وقتلوها عن آخرها.. وغضب عبد الله غضبا شديدا ورجع إلى رناته مرة أخرى، فألحق بهم خسائر فادحة، وقضى عليها جميعا، وثبَت أقدام المرابطين في هذه البلاد وانتشرت أخبار ما حدث في جميع أنحاء بلاد المغرب..(18/435)
أمر عبد الله بإزالة المنكرات، ورفع المكوس الجائرة، وتفريق الأخماس على المرابطين وفقهاء البلاد وتطبيق أحكام الدين، واختار عاملا من قبيلة لمتونة لحكم سجلماسة ذكر المؤرخون: (أنهم أصلحوا أحوال سجلماسة وغيروا ما فيها من المنكرات وقطعوا المزامير وأحرقوا الديار التي بها بيع الخمور) أخذ عبد الله رحمه الله الإمام والمعلم يستعد لغزو بلاد السوس وكان ذلك عام 484هـ فغزى بلاد جزولة وماسة فضمها للمرابطين ثم قصد عاصمة السوس مدينة (تارودانت) وكان بها طائفة من الشيعة يقال لها البجلية نسبة إلى مؤسسها عبد الله البجلي الرافضي وكانوا قد قدموا إلى سوس زمن أبى عبد الله الشيعي أواخر القرن الثالث الهجري، وزمن حكم الفاطميين بالمغرب، ونشروا مذهبهم، وتوارثوه جيلا بعد جيل وكان مذهبهم يتضمن كثيرا من التعاليم المثيرة التي منها أنهم لا يرون الحق إلا ما في أيديهم.
هاجم المرابطون المدينة هجوما عنيفا ثم اقتحموها وقتلوا من الشيعة كل من خالفهم، حتى إذا استسلم الباقي طلبوا منهم - كما كانت عادة الإمام - أن يسلموا إسلاما جديدا، ويبايعوا بيعة جديدة، وقضوا أيضا على تجمعات اليهود بتلك المنطقة واستولوا على سائر نواحيها، وعين عبد الله لها عاملا المرابطين، وأوصاهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأتباع ما جاء به القرآن والسنة، وإسقاط المغارم والمكوس والاكتفاء بتحصيل الزكاة والأعشار.. [1] .(18/436)
كان هذا أمرا عجيبا في وسط المغرب الأقصى، فأين تعلم هذا الرجل العجيب، إن هذه المبادئ الحقة السليمة لم يرها المغرب من قبل، وما عرف عن الإسلام الصحيح عقيدة ودستورا مطبقا إلا القليل، وما كان في الأندلس البلاد التي تعلم فيها إلا رسما للإسلام أن هذا الرجل تعلم أول ما تعلم على مائَدة الإسلام الأولى فدرس القرآن ووعاه، وحفظ السنة إلى درجة الإفتاء، وحرص على أن يعي جيدا ما كان عليه الرسول من تنفيذ للشريعة. وطريقة العمل بها، وما كان عليه الخلفاء الراشدون وبخاصة الفترة المجيدة من حياة أبي بكر وعمر رضى عنهما- لقد كان عنده من الإلهام الذي حياة الله به، والتمسك بتنفيذ أحكام الشريعة، ما وصل إلى علمه بكل طريقة حتى يطمئن إلى أن الله راض عن عمله.
لقد أراد أن ينفذ ذلك في أكبر بقعة من الأرض "لذلك فإننا نراه يسابق الريح محتسبا عمله لله وفي سبيل الله، وطاوعه المغاربة، وما أحب العمل عند المغاربة إذا تيقنوا أن هذا العمل لله ومن أجل الله.
إن البلاد العريضة التي فتحها كانت تفتح قلبها وعقلها ولسانها لعبد الله تنتظر إشارة منه لتتجه إلى الوجهة التي يريدها الإمام والمعلم.(18/437)
لم تقف الجبال سدا منيعا ضد نشر الدعوة، فلقد عبر هو ومن معه من المرابطين جبال الأطلس عازمين على فتح مدينة (أغمات) فمروا على وزده وشفشاوة فأخضعوا من فيها لحكم الإسلام، وكذلك سائر منطقة جدميوه، ثم اتجه إلى مدينة (أغمات) وأميرها لقوط بن يوسف المغزاوي فحاصرها المرابطون، ودافع عنها أميرها دفاعا شديدا، ولكنه وجد أن لا فائدة من المقاومة وخاف من بأس المرابطين، ففر مختفيا والليل، والتجأ إلى (تادلا) تحت حماية بني يفرن، ودخل المدينة المرابطون سنة 449 هـ وأزالوا ما بها من مناكير استراحوا بها نحو شهرين، قصدوا بعدها تادلا ودعوا أهلها إلى الدخول في الدعوة فأبى عليهم أمراؤهم من بني يفرن، فهاجموهم وقتلوا من خالفهم، وظفروا بأمير (أغمات) فقتل ومن معه..
الإمام ابن ياسين والبراغواطيون..
لم يكن في المغرب أخطر على الدعوة الإسلامية من البرغواطيين وكانوا أقوياء بحيث لم يستطع الحكام والأمراء المغاربة قبل عبد الله أن ينالوا مني وكلفا مرت الأيام ازدادوا قوة وبأسا واستماتة في سبيل نشر مبادئهم الهدامة ضد أصول وقواعد الإسلام، لهذا فقد كان كل هم الإمام هو القضاء على هؤلاء الخلق..
هذه القبائل التي تسمى (البرغواطية) كانت تدين بمذهب تتنافى تعاليمه مع أحكام الإسلام فقد أسه رجل يهودي يسمى طريف بن برناط من أعمال شدونة بالأندلس، كان من جماعة يهودية تقصد الإساءة إلى الإسلام بتغيير أصوله منتهزين الفرصة مهما طال الزمن لينفثوا سمومهم، يوصى بعضهم بعضا حتى إذا الوقت المناسب أعلنوا ذلك.(18/438)
ارتحل طريف هذا إلى تأمنا، وتحايل بالمكر والخداع على البربر حتى قدموه على أنفسهم فولوه أمرهم، وكان متظاهرا بالدين الإسلامي، فبقي أميرا عليهم إلى أن هلك فتولى بعده ابنه صالحا، وسمى نفسه بصالح المؤمنين، فتنبأ وشرع لهم ديانة وعهد إلى ابنه من بعده بنشر ذلك، فتناقلت الأجيال أمره إلى أن ظهر فيهم يونس وادعى النبوة انتقلت إليه من جده، واجبر البربر بالقوة حتى ضلوا واتبعوه قال الشاعر يلومهم على إطاعتهم لهذا المدعى الأفاك.
وقولي وأخبري خبرا يقينا
قفي قبل التفرق فاخبرينا
وخابوا لا سقوا ماء معينا
وهذى أمة هلكوا وضلوا
فأخزى الله أم الكاذبين
يقولون النبي أبو غفير
على آثار خيلهم رنينا
ألم تسمع ولم تر لؤم بيت
وغاوية ومسقطة جنينا
رنين الباكيات بهم ثكالى
أتوا يوم القيامة مهطعينا
سيعلم أهل تامسنا إذا ما
يوالينا البوار معظمينا
هنالك يونس وبنو أبيه
ليالي كنتم مستيسرينا [2]
فليس اليوم يومكم ولكن
أما الضلال الذي شرع لهم، فإنهم يقرون بنبوءة صالح بن طريف وأن الكلام الذي ألفه لهم هو من عند الله لا يشكون في ذلك ففرض عليهم صوم رجب وأكل شهر رمضان، وخمس صلوات بالنهار ومثلها بالليل والوضوء غسل السرة والخاصرتين وغسل الرجلين من الركبتين، ويتزوج الرجل ما استطاع من النساء، ويقتل السارق بالإقرار والبينة، والديك والبيض حرام عندهم، وأكل الدجاج مكروه، وليس عندهم آذان ولا إقامة للصلاة، وقد وضع لهم صالح قرآنهم المكون من ثمانية سور أولها سورة أيوب وآخرها يونس ومنها سورة الديك وفرعون والجراد وغير ذلك من الهراء والكذب الذي قصد به الإساءة إلى الدين الإسلامي الحنيف.(18/439)
كان في قلب عبد الله قرح، فقد مر ببلادهم، ورأى ما عليه القوم من تبديل وتغيير لمعالم الدين، واطلع على أحوالهم وألمه ما سمع، ولم يستطع في ذلك الوقت أن يفعل شيئا سوى مناقشة لم تفد ولم تنفع فهؤلاء لا يجدي القول معهم.
أما وقد اصطبح عبد الله في قوة فأكبر خدمة يؤديها للإسلام هو استئصال هذه الفئة الخارجة. ذهب إليهم وهو أكثر حماسا وأشد قوة.
كان الأمير على برغواطة في هذا الوقت أبو حفص بن أبي غفير محمد بن معاذ بن اليسع بن صالح فسار إليهم عبد الله وقاعده أبو بكر في جموع المرابطين ودارت معارك ضارية بعين الفريقين اشترك فيها عبد الله وكثيرا ما كان داعية الإسلام يشترك في المعارك ولا يرضى بأن يكون المعلم والمفقه للدين وحده، فكان ينضوي تحت لواء القيادة لينال شرف الجهاد في سبيل الله، ولا ندري لماذا كان ينسى نفسه وهو الذي ضرب الأمير والقائد يحيى بن عمر عشرين سوطا لأنه اشترك في القتال على حين كان يجب عليه أن يقف عن كثب يحرض الناس ويرسم لهم الخطة الكفيلة بتحقيق النصر.
ولكنها الغيرة الشديدة على المسلمين، فلم يرض عبد الله أن يقف مكتوف اليدين والعدو يعمل السيف في صفوف المرابطين متأسيا بما عرف عن الرعيل الأول من المسلمين، لقد نزل إلى ساحة القتال يحرض الناس ويبشرهم بالجنة والاستشهاد لتكون كلمة الله هي العليا.
كان يعمل سيفه في رقاب تلك الطائفة الضالة الباغية حتى أصيب داعية الإسلام ومحيى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بجروح بالغة قاتلة ولم تمنعه الآلام ولا قرب خروج الروح الطاهرة أن يعجل باجتماع معِ أشياخ المرابطين، ويحثهم على الثبات في القتال، ويحذرهم من عواقب التفرقة والتحاسد في طلب الرياسة قائلا رحمه الله:(18/440)
"يامعشر المرابطين أنا ميت في يومي هذا وأنتم في بلاد عدوكم، فإياكم أن تحنثوا- تجبنوا- وتفشلوا وتذهب ريحكم- كونوا ألفة على الحق، وإخوانا في الله، وإياكم والمخالفة والتحاسد على الدنيا- وإني ذاهب عنكم، فانظروا من ترضونه لأمركم يقود جيشكم ويغزو أعداءكم ويقسم ركابكم وأعشاركم"..
ولقي ربه في يومه ودفن بموضع مرتفع في مكان يعرف بكريفلة قريبا من تامسنا وهو بين الرماني وابن سليمان في طريق الرباط الدار البيضاء في الرابع والعشرين من جمادى الأولى يوم الأحد سنة 431 هجرية وبنى مسجدا لا يزال حتى الآن.
لقد أفاض المؤرخون والفقهاء والعلماء في الثناء على أبى محمد عبد الله بن ياسين في ذكر أعماله وجهاده وإخلاصه يقول الخطيب:
"وكان عبد الله رجلا ورعا سنيا ذكروا أنه غزا السودان في جيش لمتونة ففقدوا الماء وأشرفوا على الهلاك فتوجه عبد الله إلى الله ودعا وأمنوا على دعائه ثم قال:
احتفروا تحت رجلي فحفروا فألفوا الماء على مقدار شبر من الأرض، واستقوا ولم يزل صائما في بلادهم من يوم دخولها إلى أن توفي، ولم يقتت إلا من لحوم الصيد"..
ويقول المؤرخ الإسلامي د. حسن محمود:(18/441)
"على أن الجانب السياسي من شخصية عبد الله بن ياسين لم يحجب الجانب العلمي، وهو جانب الفقيه المعلم إذ لم يكف عبد الله عن أداء رسالته فظل يروي ويحدث ويعلم حتى خلق في الصحراء جوا من العلم والمعرفة لم يألفه الناس من قبل، إذ لا تثبت أركان الدين إلا بالعلم ولا إسلام صحيح إلا بدراسة حقة لكتاب الله وسنة رسوله، وقد أدى إلى خلق جيل من الفقهاء الصنهاجيين عرفوا بالورع والتقى وإنكار الذات، خلصت نياتهم وزكت نفوسهم ومن أمثلة هؤلاء الفقهاء تلاميذ ابن ياسين لمتاد بن نصير اللمتوني الذي يضرب المثل بفتياه في بلاد الصحراء ومنهم أيضا ميمون بن ياسين الصنهاجي اللمتوني الذي رحل إلى الأندلس محدثا وراويا بل إن أمراء الملثمين أنفسهم أخذوا من العلم الذي بثه عبد الله بن ياسين بنصيب وافر"..
رحمه الله ورضي عنه.
عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته والأمير راع، والرجل راع على أهل بيته والمرأة راعية على بيت زوجها وولده فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته". متفق عليه
عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " متفق عليه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] راجع إن شئت كتابنا أمير المسلمين يوسف بن تاشفين.
[2] مستيسر: من المياسرة أصحاب مير البيان المغرب لابن عذارى جـ اص 27.(18/442)
افتتاحية العدد
فضيلة الدكتور/ عبد الله بن عبد الله الزايد
نائب رئيس الجامعة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا اله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ونستفتح بالذي هو خير.
وبعد:
فقد شاء الله عز وجل أن أتولى إدارة الجامعة، وأسأله جل وعلا أن يمن بالتسديد والعون على ما حملت من هذه المسئولية الضخمة؛ وأن أكون عند حسن ظن المسئولين وظن الغيورين على العلم وطلابه؛ لأسير بركب هذه الجامعة إلى حيث تطوف أرجاء العالمين، تاركة في كل بقعة أثرا من هدي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، خلفاً لسلف كريم..
ولئن كان إنشاء الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة- مهبط الوحي ومشرق النور إلى جنبات المعمورة - مما وفق الله تعالى إليه أولي الأمر في هذه البلاد الطيبة، فما ذلك إلا لأنهم- بحمد الله - ورثة الدعوة خلفا عن سلف، يقيمون الحكم في مملكتهم على هدي الشريعة السمحة ويقيمونها بين الناس كذلك أراد الله من الحاكمين بين الناس أن يفعلوا كما قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} (الحج آية 41) .
وقد كانت الركيزة الأولى التي قامت عليها الدولة السعودية وانبنى عليها حكمهم: عقيدة التوحيد، فأعزهم الله، وأفاض عليهم من الخير والنعم والاستقرار والأمن، ومكن لهم ما لم يمكن لغيرهم من طيب العيش، وهناءة الحياة.(18/443)
ولقد أحسست منذ اللحظة بثقل العبء، وجسامة المسئولية، ذلك بأن الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة إنما تغاير الجامعات المنبثة في أنحاء العالم، فهي فريدة في نهجها، فريدة في وسائلها، فريدة في أهدافها:
أما نهجها: فهو أنها خصصت خمسة وثمانين في المائة على الأقل من مقاعد طلبة العلم الدارسين بها لأبناء العالم الإسلامي في مختلف أنحاء المعمورة، ولم تبق للطلاب السعوديين سوى 15% على الأكثر من مقاعدها، الأمر الذي وصل به عدد جنسيات من يدرسون بها من خارج المملكة مائة جنسية، ومن ثم حُق لها - وهي بهذه المثابة - أن توصف بأنها جامعة العالم الإسلامي بأسره.
وأما وسائلها: فهي أنها قد أمَّنت لكل دارس بها وسيلة قدومه من بلده إلى مقرها، كما أمَّنت - بعد قدومه - لمأواه مسكناً مؤثثا تطيب به نفسه، وأمَّنت له كتب العلم المتنوعة التي يحصلها، والعلاج القريب بمستشفى كائن بمقر الجامعة تقوم عليه نخبة من خيار الأطباء، وإضافة إلى هذا فقد خصصت الجامعة لطلابها سيارات خاصة تنقلهم يومياً من مهاجعهم بالجامعة إلى الحرم النبوي الشريف ثم تعيدهم إليها وفوق ذلك كله فإن الجامعة تمنح كل طالب فيها مكافأة شهرية مجزية.(18/444)
وأما أهدافها: فهي أنها تسعى إلى تخريج علماء يترسمون خطى السلف الصالح، فينهلون من العلوم الشرعية الصحيحة القائمة على عقيدة التوحيد والتي تدور في فلكها، بعيدة عن الزيف الذي لبس على المسلمين الحق بالباطل، ثم تعيد هؤلاء الخريجين- بعد أن وفقهم الله للفقه في دينه - إلى بلادهم ليتداركوا المسلمين الذين ذهبت بكثير منهم البدع كل مذهب، وطوَّحت بهم الخرافات في كل مشرب، وأصبح كثير منهم إمَّعات كريش تلعب به هبَّات الرياح؛ تعيدهم إلى بلادهم ليكونوا لها رسل خير، ودعاة صدق، وألسنة حق، فيصححوا ما انحرف من عقائد المسلمين، وليصدوا تلك الموجات العارمة من الزيغ، وليوقفوا - بالحجة والبيان - تلك التيارات الجارفة من الإلحاد التي ترسل معها الشياطين على الغافلين تؤزهم أزا، في محاولات عنيدة لإذابة كيان المسلمين - وبخاصة الشباب منهم - ومحو واقعه -
إن من أهداف الجامعة تكوين خريجين قادرين على التصدي لأعداء الله الظاهرين لنا والمغيبين عنا بالعلم والإيمان، تحقيقا لقول الله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون} .. (التوبة آية 122) .
ولقوله جل شأنه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} .. (الأنفال آية 60) .(18/445)
لكم سعدت حقاً بأبناء العالم الإسلامي في هذه الجامعة، فرؤيتهم - بل وقضاء معظم الوقت بينهم - بديل عن وقت طويل طويلٍ يبلغ سنين عددا كنت أحتاجها كيما أقابل والتحم بهؤلاء الذين يمثلون دولاً إسلامية شتى؛ إذ كم من الوقت كنت سأقضيه لو أنني أردت أن أطوف بمائة دولة تضم مسلمين يتفاوتون كثرةً وقلةً، فضلاً عن أن أتحدث - على الأقل- إلى ممثل كل دولة منها، وأتعرف على مشاكلهم، وأقوم على حلها.
وأرجو أن يكون ذلك نعمة من الله يعينني على شكرها وشكر سائر نعمه.. كما أسأله تعالى أن يوفقني إلى تحقيق ما حُمِّلت لأبلغ بهذه الجامعة - بعون الله تعالى وقوته - أعظم ما ينفع المسلمين في أمور دينهم ودعوتهم، وإن أنسى فلن أنسى- بحول الله- قولة سيد المرسلين، وإمام الهدى إلى العالمين، صلوات الله وسلامه عليه إلى علي بن أبى طالب رضى الله عنه حين وجهه إلى خيبر لدكِّ معاقل الكفر فيها وفتحها: "فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" (أخرجه البخاري ومسلم) .. فأسأل ربي أن يوفقني إلى أن يهدي بي من يشاء، إن ربي على ما يشاء قدير(18/446)
ولا يفوتني أن أذكر في مقامي هذا أنني خلال غمرة هذه السعادة وقعت مفاجأة مروعة عكرت صفو النفوس، وحولت الفرحة حزناً وألماً، ذلك أنه في مطلع شهر المحرم قامت فئة من الشباب الغر، الذين جهلوا أمر دينهم، وما رجوا لله وقاراً، وملأ الغرور عليهم أنفسهم فسوَّل لهم الشيطان وأملى لهم، إذ حشدوا مجموعة ضخمة من الأسلحة واقتحموا بها بيت الله الحرام- الذي جعله الله مثابة للناس وأمناً- وارتكبوا من جرائم قتل النفوس البريئة المعصومة الدم، ما أفزع الآمنين، وروَّع الطائفين والراكعين الساجدين، ونشر الذعر في بلد الله الحرام في الشهر الحرام، وصدَّ الآمين المسجد الحرام الذي جعله الله للناس سواء العاكف فيه والباد، زاعمين أن (المهدي) قد ظهر فيهم، وأرادوا حمل من بالمسجد الحرام قسراً تحت إرهاب السلاح- على مبايعة (مهديهم المزعوم) وما جر هذه الفئة الباغية إلى مثل فظائعهم إلا أنهم لم يحصلوا من العلم الصحيح المحقق ما يردهم عن مثل ما ارتكبوا من مسلك إجرامي فريد.
لكن الله تعالى- جلت قدرته- دائماً بالمرصاد لكل من يريد انتهاك حماه، وتخطي حدوده بعامة، واستباحة حمى البيت الحرام بخاصة، فقال سبحانه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج آية 25) - وتحقق ذلك فعلاً؛ إذ كان من فضل الله تبارك وتعالى أن وفق أولي الأمر في البلاد فمكنهم من قمع فتنة أولئك المارقين الذين أعماهم الجهل، وأهلكهم الغرور، وضربت الغشاوة على قلوبهم وأبصارهم جواً من الظلمة الرهيبة التي عاشوا فيها مع الشطان الرجيم.(18/447)
لقد كان فضل الله جل وعلا على هذه الأمة عظيماً حين أقدر قادتنا وفي مقدمتهم جلالة الملك وولي عهده على سحق أولئك الباغين، وأقاموا شرع الله تعالى فيهم، الذي جعله الشارع الحكيم ردعاً وزجراً، فمن ينفذ إلى قلبه الشيطان أو تميل نفسه إلى أن ينهج نهج أولئك العابثين يجد حدَّ الله تعالى الذي طبق عليهم أمام عينيه ماثلاً في قوله سبحانه: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأََرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة آية 22) .
ولقد وفق الله جنود الحق من هذا البلد الأمين، فاستبسلوا في جهاد تلك الفئة العادية حتى أحيط بها، وسقطت بين قتيل يشيِّعه مقت الناس خاصهم وعامهم، وبين ذليل مقر بما قدمت يداه، ونال كل من الجزاء ما ناسبه، ذلك بأن الله أعظم غيرة على دينه وبيته، وحرماته، وأن الله ليس بظلام للعبيد.
فشكر الله لأولي الأمر جهودهم، ومن ضرب معهم بسهم جل أو عظُم، وجعلهم خير خلف لخير سلف، ومكن لهم في الأرض لينشروا بين العالمين دعوته وأيدهم بالحق، وأيد الحق بهم؛ وجعلهم قوَّامين بالقسط شهداء لله.. إن ربنا جواد كريم، وبالإجابة جدير، وهو حسبنا ومولانا ونعم الوكيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه.
دكتور عبد الله بن عبد الله الزايد
نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة(18/448)
رسائل لم يحملها البريد
بقلم الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
أختي العزيزة (هل) :
منذ أزمان بعيدة سحيقة وأنا جد متوقة إلى أن أكتب إليك هذه الرسالة، غير أن السعي الحثيث وراء الدنيا، والحب الجم لجمع المال، قد شغلا أختك (همزة الاستفهام) عن أن تكتب إليك هذه الرسالة.
ولولا خشيتي المبالغة والتفيش لقلت إن الناس جميعا قد شغلوا بما شغلت به أختك هذه الأيام، فحب المال قد ألهى الرجال عن أزواجهم وذراريهم، وصرف العلماء عن كتبهم وقراطيسهم، وصد المدرسين عن الخلوص والإخلاص للدرس والتدريس.
وقد أكون قد ثبت إلى صوابي بعد هذا الضياع، ورجعت إلى رشدي بعد هذه الضلالة، أليس في هذه الرسالة التي أخطها إليك تباشير الصباح؟؟
أختي العزيزة:
أنت تعلمين ما بيننا من صلات رحم ووشائج قربى، فأنا وأنت أختان في الاستفهام، ولنا في هذا القبيل أخوات أخر لا ينبغي أن يهملن وينسين، لقد تبعثرنا في كتب العلم وتوزعتنا أبحاث العلماء، وأنا أخشى على صلات الرحم أن تتقطع، وعلى وشائج القربى أن تبلى، فكان لزاماً أن أتعرف أخبارك وأن أتحسس من الأخوات جميعاً، وليس هناك طريقة أجدى من هذه الرسائل نتجاذب فيها أطراف الأحاديث، ونتبادل فيها حقائق العلم والعرفان.
لقد كان كتاب الله العزيز أعظم صالة تجمعنا وأشرف نسب يضمنا وأعز مكان نقيم فيه، فحري بنا أن تتحدث كل واحدة منا عن أحوالها في هذا الكتاب العظيم، وعن مواضعها في آيات الله المعجزة.
لقد ذكرنا نحن- أدوات الاستفهام- في كتاب الله العزيز أكثر من ألف مرة، وإن شئت الدقة والتحديد فقولي ألفا وأربعاً وثلاثين، وأسأل الله تعالى أن أكون قد أصبت في هذا الحساب والإحصاء، فهو شيء قمت به بدءاً لم أجده في كتاب ولا أعلم أحداً قام به من قبل.(18/449)
وإذا نظرت إلى عدد ما ذكرنا في كتاب الله العزيز بالقياس إلى عدد آياته التي بلغت ستة آلاف ومائتين وستاً وثلاثين (1) رأيت أن لنا نصيباً موفوراً من الذكر، ومنزلة عالية بين أساليب البيان.
وهنالك ميادين أخرى كثيرة لنا فيها فضل وإحسان، ومجالات واسعة لنا فيها هيمنة وسلطان، فنحن- معاشر أدوات الاستفهام- يقوم علينا الأدب التمثيلي الذي هو من أصعب أنواع الأدب وأرقاها، وعلينا تقوم طريقة من أنجح طرق التدريس وهى طريقة الحوار، والعلماء والقضاة والمحامون والمدرسون وكبار مراسلي الصحف، هؤلاء - وغيرهم كثير- لا ينالون النجاح والفوز إلا إذا كانوا ذوى مقدرة فائقة على إنشاء الأسئلة الدقيقة العميقة وحسن الحوار، ولا أكون متجانفة عن الحق إذا قلت إن معظم ما في هذا العالم من مسائل العلم والمعرفة كان جواباً عن سؤال.
غير أن القرآن الكريم هو الذي أكسبنا هذا الشرف العظيم، ووهب لنا هذا الفضل الواسع، فكان حقاً علينا أن نذكر أحوالنا فيه، وأن نقصر الرسائل على ما أولانا إياه.
أختي العزيزة (هل) :
لقد ذكرت أنا- همزة الاستفهام- في القرآن الكريم أكثر من خمس مائة مرة، وإن شئت الدقة والتحديد قلت خمس مائة وتسع عشرة مرة، وأسأل الله تعالى ألا أكون قد أخطأت في العد والحساب.
هذا القدر الذي نلته أنا كان كثيراً جداً- والحمد لله- لم تصلي إليه أنت ولا قاربته أخت أخرى، ومعاذ الله أن أقول هذا مخيلة واستكباراً، وإنما هو تحدث بنعمة الله وفضله، وبيان لما أولانيه من رفعة وعظيم شأن.
وما ينبغي لمثلي أن تكون من هؤلاء الذين يظهرون الفقر وهم أغنياء، ويعيبون الدنيا وهم ينشقون أزهارها المخضلة، ويخضمون أوراقها الخضر.
قد تعجبين وتسألين: كيف نلت هذا المقدار من الذكر، وأنى لي هذا الغنى والوفر؟!(18/450)
أنا لا أستطيع جواباً حاسما، ولكن قد يكون وضعي على حرف واحد جعلني سهلة على اللسان، سريعة الحركة والدوران، ليس في استعمالي كلفة ولا مشقة. فكان من هذا أن جئت على أساليب كثيرة شتى، ولبست حللاً من البيان حالية مبينة.
ومن الأساليب الرائعة المحكمة التي جئت عليها أسلوب الجملة المنفية، فقد صحبت فيها أحياناً (لم) وأحياناً أخرى (لا) ، وفي قليل من الأحيان وجدتني مصاحبة (ليس) .
ولي مع (لم) هذه النافية الجازمة صور كثيرة منها {أَلَمْ تَرَ إِلَى ... } جئت على ذلك في القرآن الكريم خمس عشرة مرة، غير أني أريد أن أقول شيئا قبل أن أمضي بعيداً في تفصيل هذه المرات، ذلك الشيء هو ما قاله ابن هشام الأنصاري في كتابه (مغنى اللبيب) ، وما علقه الدسوقي على ذلك القول في حاشيته.
قال ابن هشام (2) : "لا يكون الاستفهام منه تعالى على حقيقته". وعلق الدسوقي (3) :
"لأن طلب الفهم يقتضي سبق الجهل وهو محال، فحينئذ يحمل ما ورد فيه على أنه للتقرير أو للتوبيخ أو للإنكار".
وقال الزركشي في كتابه البرهان (4) : "فإن الرب تعالى لا يستفهم خلقه عن شيء، وإنما يستفهمهم ليقررهم ويذكرهم أنهم قد علموا حق ذلك الشيء".
وأقول أنا بعد هذا: إن الاستفهام منه تعالى يجيء لما تقدم ويجيء أيضا للتنبيه والتعجيب والتعجب كما في {أَلَمْ تَرَ إِلَى ... } التي جاءت في خمس عشرة آية أذكرها لك مرتبة حسب ورودها في سور القرآن الكريم:
ففي الآية الأولى من هذه الآيات يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} . (الآية 243- البقرة) .(18/451)
ولا أخفي عليك أن للعلماء آراء متعددة في المعنى الذي جئت عليه أنا- همزة الاستفهام-في هذه الآية الكريمة:
ففي تفسير القرطبي (5) "قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ ... } والمعنى عند سيبويه تنبّه إلى أمر الذين.."
ويقول أبو حيان الأندلسي في تفسير البحر المحيط (6) : "وهذه همزة الاستفهام دخلت على حرف النفي فصار الكلام تقريراً، فيمكن أن يكون المخاطب علم بهذه القصة قبل نزول هذه الآية الكريمة، ويجوز أن يكون لم يعرفها إلا من هذه الآية ومعناه التنبيه والتعجب من هؤلاء".
وقد ذكر الزركشي في كتابه البرهان (7) أن من ضروب الاستفهام التنبيه ومثل له بآيات منها هذه الآية وقال: "والمعنى في كل ذلك أنظر بفكرك في هذه الأمور وتنبه".
وقال الزمخشري في تفسيره الكشاف (8) : " {أَلَمْ تَرَ} تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأخبار الأولين، وتعجيب من شأنهم، ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع لأن هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجب".
وفي تفسير الجلالين (9) : " {أَلَمْ تَرَ} استفهام تعجيب وتشويق إلى استماع ما بعده".
ويقول صاحب الفتوحات الإلهية (10) معلقاً على قول الجلالين المتقدم: "قوله "تعجيب"أي إيقاع المخاطب في أمر عجيب غريب أي في التعجب منه، فعلى هذا يستفاد من الآية أن المخاطب لم يسبق له علم بتلك القصة قبل نزول الآية وقبل استفهام تقرير فعليه يكون المخاطب عالماً بالقصة والمقصود تقريره بها. اهـ شيخنا".
ويقول أبو السعود في تفسيره (11) : " {أَلَمْ تَرَ} تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأرباب الأخبار وتعجيب من شأنهم البديع".
ولعلك أيتها الأخت العزيزة تسألين بعد هذا كله وتقولين: وما رأيك أنت في هذه الآراء، وما الذي تختارين وترجحين؟(18/452)
الرأي الذي أختاره وأرجحه هو ما تقدم أن قلته وهو أن الاستفهام هنا للتعجب والتعجيب والتنبيه، وأما الذين قالوا إنه للتقرير فلست معهم، فالتقرير يأتي لأحد أمرين (12) .
الأول: حمل المخاطب على الاعتراف بالأمر الذي استقر عنده من ثبوت شيء أو نفيه كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقّ ... } (الآية 116- المائدة) .
والثاني: تثبيت النسبة التي اشتمل عليها الاستفهام في الذهن، فإن كان المخاطب جاهلا بها فالأمر ظاهر، وإن كان عالما بها فلزيادة التثبيت، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى} (الآية 6- الضحى) وكما في قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} . (الآية 36- الزمر) .
ولا يبدو لي أن الاستفهام في هذه الآية الكريمة {أَلَمْ تَرَ إِلَى} جاء لأحد هذين الأمرين.
أما عدم ظهور الأمر الأول فلأن الاستفهام في هذه الآية الكريمة {أَلَمْ تَرَ إِلَى} ليس فيه حمل للمخاطب على الاعتراف بشيء، وهذا واضح يدل عليه أن ليس فيها جواب يبين المعترف به.
أما الأمر الثاني: وهو أن يكون للتقرير بمعنى تثبيت النسبة في الذهن فمبني عند من يرون الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم على أن الله تعالى قد أعلمه بهذا من قبل، أو مبني على أن الخطاب لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأرباب الأخبار، وهذا البناء على كل حال افتراض لا دليل عليه وليس من ورائه كبير فائدة.
أما من يرى أن الاستفهام هنا في {أَلَمْ تَرَ إِلَى} للتشويق فلست أرى رأيه، وقد تسألين وتقولين: ولم كان ذلك؟(18/453)
فأقول: إن هذه المعاني البلاغية التي تخرج إليها أدوات الاستفهام من تشويق وتعجيب وتقرير وإنكار وغير ذلك إنها تخضع للذوق الأدبي الشخصي وليس لها قواعد موضوعة يمكن أن يحتكم إليها، وبسبب من هذا جاءت الآراء مختلفة في معنى هذا الاستفهام وفي غيره، غير أن التشويق بخاصة مع خضوعه للذوق الشخصي يعتمد على شيء من المنطق يقتضي أن يكون استفهام التشويق في جملة تامة مستقلة يجيء بعدها المشوق إليه في جملة أو جمل مستقلة أخرى، كي تتاح للنفس فرصة الانفعال والتشويق إلى ما سيأتي بعد، وذلك كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الآيتان 10، 11 من سورة الصف) . وكما في قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} (الآيات من 1- 15 من سورة الغاشية) وكما في قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} (الآيات من 27 إلى 37 من سورة الذاريات) .
ففي هذه الآيات جاء الاستفهام التشويقي في جملة تامة مستقلة، ثم جاء المشوق إليه بعد ذلك في جملة أو في جمل أخرى.
والذي اخترته من آراء العلماء في معنى الاستفهام في هذه الآية الكريمة أن يكون للتعجب وللتعجيب، وليس بين التعجب والتعجيب منافاة ولا تعارض، فالتعجب منظور فيه إلى القائل جل جلاله، والتعجيب منظور فيه إلى المخاطب.(18/454)
ومن الناس من ينكر أن يكون الاستفهام هنا للتعجب ويقول إن الله سبحانه وتعالى لا يعجب من شيء، وهو يظن أن تعجبه سبحانه وتعالى سيكون كتعجب خلقه، ولا أدري من أين جاءه هذا الظن والله سبحانه وتعالى يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وتعجب الله تعجب يليق بكماله وجلاله، ولا يمكن أن يكون بينه وبين تعجب غيره مشابهة ما أو مماثلة.
على أن تعجب الله سبحانه وتعالى ثابت في القرآن الكريم وثابت في السنة المطهرة:
ففي القرآن الكريم يقول الله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} قرأ حمزة والكسائي {عجبتُ} بضم التاء، ورويت هذه القراءة أيضاً عن عبد الله بن مسعود وغيره. وظاهر أن المتعجب هو الله سبحانه وتعالى.
وفي السنة المطهرة روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عجب ربنا من قنوط عباده وقرب خيره ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب" حديث حسن (14) .
أما الرأي القائل إن الاستفهام في {أَلَمْ تَرَ ... } للتنبيه بالمعنى الذي تقدم عن الزركشي وهو "انظر بفكرك في هذا الأمر وتنبه"فحق فيما أراه وصواب. والتنبيه بهذا المعنى يستدعيه التعجيب ويقتضيه، لأن التعجيب يقوم على أحد أمرين:
إما على الاستحسان والاستعظام والإجلال كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} الآية (45) الفرقان.(18/455)
وإما على الإنكار والاستهجان والاستغراب كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} الآية (60- النساء) والحال في كلا الأمرين ببعث على التنبيه بمعنى التأمل والتبصر والاعتبار وهو ما دعا إليه القران الكريم في كثير من آياته.
أختي العزيزة (هل) :
والآن - قد انتهيت من الكتابة إليك بالمعاني التي جئت عليها في هذه الآية الكريمة - أريد أن أحدثك بالكلمات التي تليني في هذه الآية.
لقد دخلت على (لم) النافية الجازمة للفعل المضارع (تر) وعلامة جزم هذا الفعل حذف الألف من آخره ولعلك لم تسمعي من قبل أن هذا الفعل قد قرئ بسكون الراء على توهم أن الراء آخر الكلمة أو على إجراء الوصل مجرى الوقف (15) . و (تر) فعل مضارع مسند إلى ضمير المخاطب، ولكن من يكون هذا المخاطب؟
من المفسرين من يقول إنه الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يجوز أن يكون الخطاب له عليه الصلاة والسلام ولكل أحد، ويقول التفتازاني: الأوجه عموم الخطاب للدلالة على أن هذه القصة قد بلغت من العجب حيث ينبغي لكل أحد أن يتعجب منها (16) .
و (تر) في هذا الاستفهام علمية تتعدى إلى مفعولين ولكنها هنا لم تأخذ مفعوليها، وعديت بحرف الجر (إلى) لأنها ضمنت معنى ما يتعدى بهذا الحرف، والمعنى ألم ينته علمك إلى الذين ... (17) .
ومن العلماء من يقول إن (تر) هنا- وإن كانت علمية- قد استعملت استعمال (تنظر) فتعدت تعديتها للإشارة إلى أن هذا الأمر قد بلغ من الوضوح والظهور والتحقق مبلغ الشيء
المحسوس المشاهد الذي تبصره العينان ولا يمكن إنكاره (18) .(18/456)
و {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} هم الذين كان حالهم عجبا وعبرة، ولعلك تلاحظين- يا أخت- أن الآية الكريمة عبرت باسم الموصول ولم تسم جماعه بعينها، وقالت: {مِنْ دِيَارِهِمْ} ولم تسم مكاناً معيناً كانت فيه هذه الديار. لقد ترك ذلك كله لأنه لا عبرة فيه، وإنما العبرة فيما جاء بعد في صلة الموصول وما عطف على هذه الصلة.
لاحظي كلمة {مِنْ دِيَارِهِمْ} والدار من أعز ما يملكه إنسان الحاضرة، وخروجهم منها يدل على عظم ما كانوا فيه من فزع، وهول ما كانوا فيه من خوف.
والتعبير ب {أُلُوف} وهي من جموع الكثرة، وترك التعبير بآلاف وهي من جموع القلة، يدل على أنهم كانوا كثيرين جدا لا يعلم عدتهم إلا الله.
ثم جاءت {حَذَرَ الْمَوْتِ} - وهي مفعول لأجله- تبين سبب الخروج على ما هم عليه من كثرة كاثرة.
لقد أخرجهم {حَذَرَ الْمَوْتِ} من ديارهم: من مسارح الطفولة وملاعب الصبا، من مجالس السهر والسمر، ومن مهاجع الأمن والسكينة. أخرجهم منها كالجراد المنتشر يهيمون على وجوههم، يسوقهم الخوف ويحدوهم الفزع، وقد غفلوا أو جهلوا أن الموت والحياة بيد الله، وأن الحذر لا يدفع القدر، فقال تعالى ليبين ذلك كله: {مُوتُوا} ولعلك- يا أخت- تحسين ما في هذا الأمر {مُوتُوا} من قوة وجبروت وكبرياء، فالله هو القوي الجبار المتكبر، ولعلك تلاحظين أن الآية الكريمة لم تذكر عاقبة هذا الأمر وهي أنهم قد ماتوا، لأن هذا شيء مفهوم من قوله تعالى: {مُوتُوا} فأمر الله تعالى محقق النفاذ لا يتخلف {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
وقوله تعالى: {ثُمَّ أَحْيَاهُم} يدل بـ {ثُمَّ} على أن الإحياء لم يجيء سريعاً بعد الإماتة وإنما جاء على فترة من الموت.(18/457)
وفي صيغة {أَحْيَاهُم} وفي جرس حروفها تجد النفس معاني الرحمة والفضل والإحسان. وبعد أن بين الله سبحانه وتعالى حال هؤلاء الناس الباعثة على التعجب الداعية إلى التدبر والتبصر والاعتبار قال في ختام هذه الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} .
وأنت تلاحظين أن الجملة الأولى قد أكدت بثلاثة مؤكدات: إن، واللام، واسمية الجملة.
وجاء هذا التأكيد تعظيماً لشأن هذا الخبر وما اشتمل عليه، وقد يكون لتنزيل الناس منزلة المنكرين من أجل أن أكثرهم لم يكن من الشاكرين.
ولا تنسي أن تتذوقي ما في {ذُو فَضْلٍ} من قوة، فهذه الذال مع الواو ثم هذه الضاد مع اللام المرنان قد أعطت هذه الصفة جرساً فخماً ضخماً في اللفظ وفي السمع يناسب معناها العظيم. ويراد ب {النَّاسِ} الناس جميعاً فهي تشمل الذين أماتهم ثم أحياهم وتشمل غيرهم.
وقد يبادر إلى الذهن من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} أن الناس جميعاً يشكرون لله ذلك الفضل العظيم، فقال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} دفعاً لهذا الذي قد يبادر إلى الذهن ويسبق في الظن، وبياناً لواقع الناس القبيح المعيب الذي قل فيه الشكر والشاكرون.
وفي إعادة لفظ {النَّاسِ} مرة ثانية مع أن المقام مقام إضمار زيادة إيضاح وبيان لهؤلاء الذين لا يشكرون، فزيادة إزراء عليهم وتشنيع.
أختي العزيزة (هل) :
كنت أود أن أحدثك بما جاء في الآيات الأربع عشرة الباقية التي ورد فيها هذا الاستفهام {أَلَمْ تَرَ إِلَى ... } ولكني خشيت أن تملي من طول الحديث على الرغم من أن طول مثل هذا الحديث لا يمل. سأترك ذلك إلى رسالة قادمة أكتبها إليك إن شاء الله تعالى.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
مراجع ما ورد في هذه الرسالة مرتبة حسب ترتيب الأرقام التي جاءت فيها:(18/458)
1- الإتقان للسيوطي جـ 1 ص 67 طبعة الحلبي بمصر.
ب- قرآن كريم (بهامشه تفسير الجلالين) الناشر مكتبة الجمهورية العربية لصاحبها عبد الفتاح عبد الحميد- بجوار الأزهر/ ص 524 تحت عنوان خاتمة.
2، 3- حاشية الدسوقي على مغنى اللبيب لابن هشام الأنصاري ج 1 ص 9 الناشر مطبعة ومكتبة المشهد الحسيني- القاهرة.
4- البرهان للزركشي جـ 2 ص 327 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم- الطبعة الثانية- الناشر عيسى البابا الحلبي وشركاؤه.
5- تفسير القرطبي جـ 3 ص 230- طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية- بالقاهرة.
6- تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي- جـ 2 ص 249- طبعة مصورة عن طبعة مولاي السلطان عبد الحفيظ سلطان المغرب- الناشر دار الفكر.
7- البرهان للزركشي جـ 2 ص 340 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم- الطبعة المتقدم ذكرها
8- تفسير الكشاف للزمخشري جـ 1 ص 77 طبعة الحلبي بمصر.
9- تفسير الجلالين/ هامش الفتوحات الإلهية ب 1 ص 197- طبعة عيسى البابي الحلبي وشركاؤه بمصر.
10- الفتوحات الإلهية جـ1 ص 197 الطبعة المتقدم ذكرها.
11- تفسير أبى السعود جـ 1 ص 237 الناشر مكتبة ومطبعة عبد الرحمن محمد بالقاهرة.
12- شروح التلخيص/ حاشية الدسوقي- ب 2 ص 294 وص د 29 طبعة الحلبي بمصر.
13- تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي جـ 7 ص 354 الطبعة المتقدم ذكرها.
14- العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية/ الطبعة الثالثة- الناشر محمد عبد المحسن الكتبي بالمدينة المنورة.
15- تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي ج 2 ص 249 الطبعة المتقدم ذكرها.
16 و 17- الفتوحات الإلهية ج 1 ص 197 الطبعة المتقدم ذكرها.
18- تفسير المنار لمحمد رشيد رضا ج 2 ص 475 نسخه مصورة/ الناشر دار المعرفة.
النظام السياسي في الإسلام(18/459)
التوحيد والرسالة والخلافة هي دعائم ثلاث يقوم عليها بناء نظام الإسلام السياسي، وليس من الميسور أن نحيط بنظم السياسة الإسلامية بجميع فروعها وشعبها إلا إذا فهمنا هذه المبادئ: التوحيد والرسالة والخلافة حق الفهم.
(أبو الأعلى المودودي رحمه الله)(18/460)
الأفعال الملازمة للمجهول
(الحلقة الثالثة)
فضيلة الدكتور/ مصطفى أحمد النماس
المدرس بكلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية
الفاعل النحوي والمعنى اللغوي:
نعرف أن الفاعل هو الذي قام به الفعل أو وقع منه، والمفعول به هو الذي وقع عليه الفعل.
ومعروف كذلك الفرق بين الفاعل والمفعول به من الناحية اللفظية لدى النحاة فالفاعل مرفوع والمفعول به منصوب، وهذا الفرق اللفظي يستتبع عندهم فرقا اصطلاحيا في معنى كل جملة فمثلا إذا قلت:
"تحرك الشجر"لفظة الشجر تعرب فاعلا نحويا لكن هذا الإعراب لا يتفق مع المعنى اللغوي الواقعي لكلمة (فاعل) وهو من أوجد الفعل حقيقة وباشر بنفسه إبرازه في الوجود، لأن (الشجر) لم يفعل شيئا إذ لا دخل له في إيجاد هذا التحرك وجعله حقيقة واقعة بعد أن لم تكن، وبالاختصار ليس لكلمة (الشجر) عمل إيجابي مطلقا في إحداث التحرك وكل علاقته بالفعل أنه استجاب له فقامت الحركة به ولابسته من غير أن يكون له دخل في إيجاد الحركة، فأين الفاعل الحقيقي الذي أوجد التحرك وكان السبب الحقيقي في إبرازه للوجود، بالطبع ليس في الجملة ما يدل عليه، أو على شيء ينوب منابه.
لكنك إذا قلت حرك الهواء الشجرة تغير الأمر وظهر الفاعل الحقيقي المنشئ للتحرك الذي وقع أثره على المفعول به. وما قيل في (تحرك الشجر) يقال في (تمزقت الورقة) فإعراب الورقة فاعلاً نحوياً لا يوافق المعنى اللغوي لكلمة (فاعل) ولا يوافق الأمر الواقع، لأن الورقة في الحقيقة لم تفعل شيئاً فلم تمزق نفسها ولا دخل لها في تمزقها ولم تحدث التمزق ولكنها تأثرت بالتمزق حين أصابها، فأين الفاعل الحقيقي الذي أوجد التمزق لا النحوي؟ لا وجود له في الجملة ولا دليل يدل عليه، لكن إذا قلت مزق الطفل الورقة ظهر الفاعل الحقيقي واتضح من أوجد الفعل بمعناه اللغوي الدقيق.(18/461)
ومن خلال ما سبق يتضح أن الفاعل النحوي أحيانا لا يكون هو الفاعل الحقيقي وإنما هو المتأثر بالفعل وليس في الجملة ما يدل على الفاعل الحقيقي أو ما ينوب منابه، وليس فيها تغيير لصورة الفعل يرشد إلى أن ذلك على سبيل النيابة عن الفاعل.
فالأفعال التي وردت على صورة المبني للمجهول ما بعدها فاعل نحوي في الرأي الشائع الذي ورد صريحا في كثير من المراجع كالقاموس المحيط في مقدمة (مسألة) وإن لم يتفق على المعنى اللغوي الواقعي لكننا [1] نقول بفاعليته لأنه تأثر بالفعل وما فيه من حدث وإن كان في الواقع ونفس الأمر واقعا عليه خاصة أن بعض الأفعال الثلاثية الحدث فيها ليس من أفعال الآدميين ولا يتضح إسنادها إلا إذا أدخلت عليها همزة التعدية ولو أردت نسبتها إلى الله تعالى لكانت على (أفعل) . والثلاثي الذي ورد على صورة المبني للمجهول يدل على الأداء.
رأي ابن الحاجب المتوفى سنة 646هـ[2] :
وقد قال في شرح الكافية ما يؤيد هذا: جاء في كلامهم بعض الأفعال على ما لم يسم فاعله ولم يستعمل منه المبني للفاعل والأغلب في ذلك الأدواء، ولم يستعمل فاعلها لأنه من المعلوم في غالب العادة أنه هو الله تعالى فحذف للعلم به وتلك الأفعال نحو: جن، وسلّ، وزكم، وورد، وحم، ووعك، قال سيبويه [3] : "لو أردت نسبتها إليه تعالى لكان على أفعل نحو أجنة الله، [4] وأسله الله، وأورده أي فعل به ذلك، وذلك لأن فعل المذكور لم يأت منه (فعلته) ولعل ذلك لأنه لما لم يأت من فعل المذكور كجنّ وسلّ (فعلته) صار كألم، ووجع وعمى ونحو ذلك من الآلام التي بابها فعل (المكسور العين) فصار يعدى إلى المنصوب كما يعدى باب (فعل) وذلك بالنقل إلى (أفعل) المتعدي.."
انتهى كلام الكافية.
رأي ابن سيده المتوفى سنة 458هـ[5] :(18/462)
وقبل ابن الحاجب بمائتي سنة تقريبا نجد ابن سيده يقرر بأن هذه الأفعال منها ما لا يستعمل إلا على تلك الصيغة كعنيت بحاجتك، ومنها ما تكون عليه هذه الصيغة أغلب كزهيت علينا، فإن ابن السكيت حكى (زهوت) وابن سيده يقرر في المخصص نفسه [6] (باب ما جاء (فعل) منه على غير أفعلت) وذلك نحو جنّ وسلّّّ، وورد، (ومعنى ورد حم) وكذلك رعد ومرعود ومورد (ومحموم بمعنى واحد، وقالوا على هذا مجنون ومسلول ومحموم ومورود، وإنما جاءت هذه الحروف على (جننت) و (سللت) وإن لم يستعمل في الكلام ثم قال: وقال بعضهم رجل محبوب وكان حقه أن يقال في فعله (حببته) فهو محبوب كما يقال: وددته فهو مودود، والمستعمل (أحببته) وقد قال بعضهم (حببته) قال الشاعر وهو غيلان ابن شجاع النهشلي [7] :
ولا كان أدنى من عبيد ومشرق
فوالله لولا تمره ما حببته
وقد ذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في الكامل [8] أن أبا جار العطاردي قرأ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه..} وذكر أن فيه شيئين من المخالفة:
أحدهما: أنه فتح الياء من (يحبكم) ، والآخر أنه أدغم وذكر غير سيبويه أن هذه الأشياء [9] التي ليست من أفعال الآدميين وقد جاءت على مفعول وفعله مما لم يسم فاعله إذا نسبت الفعل إلى الله عز وجل كان على (أفعل) نحو أجنه الله وأسله وأزكم وأورده، أي فعل الله به ذلك، ومما أورده غير سيبويه من هذا النحو: محزون، ومزكوم، ومكزوز، ومقرور.
قال أبو عبيد: وإنما ذلك لأنهم يقولون في هذا كله:
قد (فعل) ثم بني مفعول على هذا، قال ولا يقولون حزنه الأمر ويقولون (يحزن) وهذا خلف من نقله وإنما أوردته للتحذير من اعتقاده، وقد قدمت من كلام سيبويه ما دل على ذلك، (وحزنه) مقولة كثيرة (أبو عبيد) وكل هذا يقال فيه: مفعول ولا يقال (مفعل) إلا حرف واحد وهو قول عنترة:
مني بمنزله المحب المكرم(18/463)
ولقد نزلت فلا تظني غيره
وقال: أزعقه فهو مزعوق على هذا القياس حكاها عن الأموي.. وقال غيره: زعقته بغير ألف فانزعق أي فزع فإذا كان هذا فمزعوق على القياس وأنشد:
لا مبطئا ولا عنيفا زاعقا
تعلّمن أن عليك سائقا
لبّا [10] بإعجاز المطي لاحقا
ثم قال وقال الفراء: "برّ حجّك" فهو مبرور فإذا قالوا: "أبر الله حجك"قالوا بالألف فهو مبرور وقالوا: المبروز من أبرزت وأنشد:
الناطق المبروز والمختوم
أو مذهب جدد على الواحنَ
وقالوا: المضعوف من أضعف قال لبيد:
جمان ومرجان يشد المفاصلا
وعالين مضعوفا ودرا سموطه
ومن هذا الباب [11] أمرضه الله فهو من المرض، أرضه من الأرض وهو الزكام، وأملاه من الملاءة، وأضأده من الضؤده وكله الزكام وكل هذا يقال فيه مفعول ولا يقال (مفعل) وكذلك مهموم من أهمه الله تعالى.
رأي ابن جني المتوفى سنة392هـ:
قال في الخصائص [12] : وعلة ما جاء من أفعلته فهو مفعول نحو: أجنه فهو مجنون، وأسله فهو مسلول وبابه أنهم إنما جاءوا به على (فعل) نحو: جن فهو مجنون، وزكم فهو مزكوم، وسل فهو مسلول وكذلك بقيته، فإن قيل لك من بعد: وما بال هذا خالف فيه الفعل مسنداً إلى الفاعل صورته مسند إلى المفعول، وعادة الاستعمال غير هذا وهو أن يجيء الضربان معاً في عدة واحدة نحو: ضربته وضرب، وأكرمته وأكرم، وكذلك مفاد هذا الباب.
قيل إن العرب لما قوي في نفسها أمر المفعول حتى كاد يلحق عندها برتبة الفاعل وحتى قال سيبويه [13] فيهما: "وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم"خصوا المفعول إذا أسند الفعل إليه بضربين من الصنعة، أحدهما تغيير صورة المثال المسند إلى المفعول عن صورته مسند إلى الفاعل والعدة واحدة وذلك نحو: ضرب زيد وضرب، وقتل وقتل، وأكرم وأكرم، وحرج ودحرج.(18/464)
والآخر أنهم لم يرضوا ولم يقتنعوا بهذا القدر من التغيير حتى تجاوزوه إلى أن غيروا عدة الحروف مع ضم أوله كما غيروا في الأول الصورة والصيغة وحدها وذلك نحو قولهم: (أحببته وحب) أزكمه وزكم وأضأده وضئد، وأملأه الله ومليء.
قال أبو علي [14] : فهذا يدلك على تمكن المفعول عندهم وتقدم حاله في أنفسهم إذ أفردوه بأن صاغوا الفعل له صيغة مخالفة لصيغته وهو للفاعل، وهذا ضرب من تدريج اللغة عندهم [15] ، ألا ترى أنهم لما غيروا الصيغة والعدة واحدة في نحو: ضرب، وضرب، وشتم وشتم تدرجوا من ذلك إلى أن غيروا الصيغة مع نقصان العدة نحو: أزكم وزكم وأرضه، وأرض.
هذا الموضع هو الذي دعا أبا العباس أحمد بن يحي في كتاب فصيحه أن أفرد له بابا فقال هذا باب (فعل) بضم الفاء نحو قولك عنيت بحاجتك وبقية الباب. إنما غرضه فيه إيراد الأفعال المسندة إلى المفعول ولا تسند إلى الفاعل في اللغة الفصيحة، ألا تراهم يقولون: "نخى زيد" من النخوة ولا يقال: نخاه كذا، ويقولون امتقع لونه، ولا يقولون امتقعه ويقولون: انقطع الرجل ولا انقطع به هكذا فلهذا جاء بهذا الباب أي ليريك أفعالا خصت بالإسناد إلى المفعول دون الفاعل كما خصمت أفعال بالإسناد إلى الفاعل دون المفعول، نحو قام زيد وقعد جعفر وذهب محمد، وأنطلق بشر، ولو كان غرضه أن يريك صورة ما لم يسم فاعله مجملا غير مفصل على ما ذكرنا لأورد فيه نحو: ضرب وركب، وطلب، وقتل، وأكل، وسمل، وأكرم، وأحسن إليه، واستقصى عليه، وهذا يكاد يكون إلى ما لا نهاية له، فاعرف هذا الغرض فإنه أشرف من حفظ مائة ورقة لغة ... انتهى.
رأي ابن درستويه المتوفى سنة 347هـ[16] :(18/465)
وسبق أن تعرضت لرأي ابن درستويه في هذا المقام حيث يقول:"عامة أهل اللغة يزعمون أن هذا الباب لا يكون إلا مضموم الأول، ولم يقولوا: إنه إذا سمي فاعله جاز بغير ضم، وهذا غلط منهم، لأن هذه الأفعال كلها مفتوحة الأوائل في الماضي، فإذا لم يسم فاعلها فهي كلها مضمومة الأوائل ولم نخص بذلك بعضها دون بعض وقد بينا ذلك بعلته وقياسه فيجوز: عنيت بأمرك وعناني أمرك، وشغلت بأمرك وشغلني أمرك، وشدهت بأمرك وشدهني أمرك".
ولا شك أن ما بعد هذه الأفعال مسند إليها على الفاعلية، سواء أكان الفعل فاعلا في الواقع وِنفس الأمر، أم كان المتأثر بالفعل وليس في الجملة ما يدل على الفاعل كالحال مع بعض الأساليب التي يكون الفعل فيها مسندا حقيقة إلى الله، ويجئ بعدها الاسم المتأثر بالفعل نظرا لعدم وجود الفاعل الحقيقي خاصة بعض الأفعال جاءت على سمت مخصوص وهو ضم الفاء في غالب استعمالها فيظن بعضهم أنها مبنية للمجهول وملازمة لهذا الشكل نظرا لغلبة استعمال العرب لهذا الشكل ولا يجوز القياس على ما قل وهو ورود الكلمة على ضبط آخركفتح الفاء مثلاً في الفعل الذي ألزم بعضهم ضم أوله يقول ابن جني: [17] .
"وإن كانت إحدى اللفظتين أكثر في كلامه من صاحبتها، فأخلق الحالين به في ذلك أن تكون القليلة في الاستعمال هي المفادة، والكثيرة هي الأولى الأصلية، نعم، وقد يمكن في هذا أن تكون القليلة منهما إنما قلت في استعماله لضعفها في نفسه، وشذوذها عند قياسه، وإن كانتا جميعا لغتين له ولقبيلته وذلك أن من مذهبهم أن يستعملوا من اللغة ما غيره أقوى في القياس منه".(18/466)
أو أن ذلك ليس لغة ولكنه صنعة في التدريج وذلك أن يشبه شيء شيئا من موضع فيمضى حكمه على حكم الأول، ثم يرقى منه إلى غيره فلما وجدوا أن الفعل بضم الفاء أجروه مجرى المبني للمجهول، ثم تدرجوا فجعلوه ملازماً للبناء للمجهول حقيقة ... ولكن هذا كما يقول ابن درستويه وابن برى وكثير من المحققين لا يخرجه عن جواز استعمال حالته الأولى..
يقول ابن جني: [18] "وهذا باب مطرد متقاود وقد كنت ذكرت طرفا منه في كتابي (شرح تصريف أبي عثمان) غير أن الطريق ما ذكرت لك فكل ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم ولهذا قال من قال في العجاج ورؤبة: أنهما قاسا اللغة وتصرفا فيها وأقدما على ما لم يؤت به قبلهما، وقد كان الفرزدق يلغز بالأبيات، ويأمر بإلقائها على ابن اسحق" [19] .
رأي ابن برّى المتوفى سنة 582هـ:
من المحققين الذين أدلوا برأيهم في هذا الموضوع العلامة ابن برّى وقد أنكر ما وضعه ثعلب في فصيحه من الأفعال الملازمة للبناء للمجهول وقد وضح هذا من خلال انتصاره للعلامة الحريري مما نسبه إليه ابن الخشاب ولقد خطأ الزجاج المتوفى سنة 310 هـ ثعلبا في فصيحه وتعقبه باعتراضات عشرة بينما كتاب الفصيح كله عشرون ورقة وقد ذكرت هذه الاعتراضات في معجم الأدباء ترجمة الزجاج، كما ذكرت أيضاً في الأشباه والنظائر للسيوطي الفن السابع، وكذلك المزهر النوع التاسع معرفة الفصيح حتى إن ثعلبا كاد ينكر نسبة الفصيح إليه، ولقد تعصب ابن خالويه لأنه كوفي النزعة فرد على اعتراضات الزجاج وردوده مبسوطة في الأشباه والنظائر الفن السابع جـ 4.
ثمرة الخلاف والبحث:(18/467)
الملحوظ أن بعض الأساليب في اللغة العربية له علاقة عند صوغه بالفعل المبني للمعلوم، فمثلاً أسلوب التعجب لا يصاغ على ما أفعله وأفعل به إلا من الفعل المبني للمعلوم، وأسلوب التفضيل يشترط لتأديته معنى المفاضلة بدون واسطة أن يكون فعله مبنيا للمعلوم.. فإذا كان الفعل مبنياً للمجهول لا يصاغ أسلوب التعجب وأسلوب التفضيل إلا بواسطة ويذكر بعدها مصدر الفعل الذي كان مبنياً للمجهول.
أما الأفعال التي عرفناها قبل وبوب لها اللغويون أنها ملازمة للمجهول سماعاً فهذه الملازمة فيها الخلاف المذكور عن العلماء سابقاً، فعلى رأي أبي العباس ثعلب ومن معه أن هذه الأفعال ملازمة للبناء للمجهول ولا يتعجب منها مباشرة بل يتعجب منها بالواسطة، وكذلك يصاغ أسلوب التفضيل منها بالواسطة ...
وترتب على هذا طرح كثير من أساليب التعجب وأساليب التفضيل من هذا النوع لأنه بدون واسطة فيكون شاذاً لا يقاس عليه فلا يصح أن تقول على مذهب بعضهم ما أزهى كذا ولا يصح أن تقول: هو أزهى من ديك ... وفي هذا تضييق على اللغة العربية.
والتحقيق أن هذه الأفعال المعروفة ببنائها للمجهول دائماً ليست كغيرها من بقية الأفعال الأخرى فهي تبنى حيناً للمعلوم وتارة أخرى تبنى للمجهول على حسب مقتضيات المعنى ودواعي الاستعمال الصحيح..
وبناء على ذلك أنه يجوز أن يصاغ من مصادر الأفعال مباشرة من غير وسيط (صيغتا التعجب) القياسي وهذه الصياغة قياسية وليست بشاذة ولا مخالفة فيها وكذلك يصاغ من مصادر تلك الأفعال مباشرة من غير واسطة (أفعل التفضيل) وفوق هذا يؤيد فريق من النحاة ومنهم ابن مالك صياغة التعجب من مصدر تلك الأفعال على فرض أنها ملازمة البناء للمجهول أما الأفعال الأخرى التي ليست ملازمة البناء للمجهول فلا يصح التعجب المباشر منها اتفاقا إذا كانت مبنية للمجهول عند الصياغة للتعجب أو التفضيل.(18/468)
ويكون قولهم: هو أزهى من ديك، وقولهم: ما أزهى كذا، وقولهم: ما أعني فلانا بحاجتك، وهو أعنى بحاجتك من الأساليب القياسية التي يصح أن تحذو حذو فعلها وتنسج على منوالها دون شذوذ كما استعمله سيبويه.
إليك آراء العلماء:
رأي ابن الحاجب [20] :
قال في مبحث أفعل التفضيل: "وقياسه للفاعل يعني يقاس لتفضيل الفاعل على غيره في الفعل كأضرب أي ضارب أكثر ضرباً من سائر الضاربين ولا يقال أضرب بمعنى مضروب أكثر مضروبية من سائر المضروبين وإنما كان القياس في الفاعل دون المفعول لأنهم لو جعلوه مشتركا بين الفاعل والمفعول لكثر الاشتباه لا طراده وأما سائر الألفاظ المشتركة فاغتفر فيها الاشتباه لقلتها لكونها سماعية وأرادوا جعله في أحدهما أظهر دون الآخر فجعلوه في الفاعل قياساً لكونه أكثر من المفعول إذ لا مفعول إلا وله فاعل في الأغلب ولا ينعكس وإنما قلنا في الأغلب احترازاً من نحو مجنون ومبهوت فلو جعلوه حقيقة في المفعول لبقي اسم الفاعل مع أنه أكثر عريا عما يطلب فيه من معنى التفضيل إلا بالقرينة لعدم اللفظ الدال عليه حقيقة وقد استعملوه في المفعول أيضاً على غير قياس نحو أغدر، وأشهر، وألوم، وأشغل أي أكثر معذورية، ومشهورية، وملومية، ومشغولية ومنه أعنى في قول سيبويه وهم بشأنه أعنى".
وقال في مبحث التعجب:(18/469)
"ولا يبنى فعل التعجب من المبني للمفعول لما مر في أفعل التفضيل ويجوز تعليل اقتناع مجيئهما للمفعول بكونهما مأخوذين من فعل المضموم العين كما ذكرنا وهو لازم وربما بني من المبني للمفعول إذا أمن التباسه بالفاعل نحو ما أجنه وما أشهره، وما أمقته إلى وما أعجبه إلى، وما أشهاه إلى فيتعدى كما ذكرنا في أفعل التفضيل إلى ما هو فاعل في المعنى بإلى أو بعند نحو أحظى عندي وذلك إذا تضمن معنى الحب والبغض. قال سيبويه: جميع ذلك مبني على فعل وإن لم يستعمل فكأن أبغضه وأعجبه وأمقته من بغض وعجب ومقت وإن لم يستعمل وأشهاه من شهو كما يقال نعمت اليد يده وقياس التعجب من المبني للمفعول أن يكون الفعل المبني له صلة لما المصدرية القائم مقام المتعجب منه بعد".
وقد يتعين أن يرفع أفعل التفضيل نائب الفاعل وذلك بقرينة تحتاج إلى توضيح فالمعروف أن أفعل التفضيل إذا كان مصدر فعل متعد بنفسه دال على الحب أو البغض أو بمعناها فإٍن تعدى باللام كانت اللام ومجرورها مفعولاً به في المعنى لا في الاصطلاح النحوي نحو المؤمن أحب للدين من الغربي وأبغض للخروج على أحكامه، فالتقدير يحب المؤمن الدين ويبغض الخروج على أحكامه، وإذا تعدى بإلى كانت إلى ومجرورها فاعلاً معنوياً لا نحوياً وما قبل أفعل هو المفعول المعنوي لا النحوي نحو العلم أحب إلى النابغ من متع الحياة فالتقدير يحب النابغ العلم أكثر من متع الحياة، وقد يرفع أفعل التفضيل الفاعل الظاهر كما في قولك: ما رأيت رجلا أكمل في وجهه الإشراق منه في وجه العابد المخلص.
فالإشراق فاعل لأفعل التفضيل والتقدير ما رأيت رجلاً يكمل في وجهه الإشراق فحيث صح إقامة الفعل مقامه صح أن يرفع الفاعل.(18/470)
فإن كان أفعل التفضيل الرافع للظاهر من مادة الحب أو البغض تعين أن يكون مرفوعه نائب فاعل كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام أحب إلى الله منها الصوم منه في عشر ذي الحجة"، وفي رواية أخرى من "أيام العشر"، فالصوم مرفوع نائب فاعل أحب لأنه بمعنى محبوب من حب الثلاثي ففيه شذوذ لبنائه من المجهول إلا عند من جوزه مع أمن اللبس وانظر حاشية الخضري جـ 2 ص 52 هـ ومثله ما ورد في الأشموني: لا يكن غيرك أحب إليه الخير منك إليه فالخير نائب فاعل، فالقرينة هنا أن أفعل من مادة الحب أو البغض قد تعدي بإلى وهي ومجرورها فاعل في المعنى فالمرفوع بعده يكون نائب فاعل قال في شرح الكافية ج 2 ص 220.
"وإن كان الفعل يفهم منه الحب أو البغض تعدى إلى ما هو فاعل في المعنى أي المحب أو المبغض بإلى نحو هو أحب إلى وأشهر إلى، وأعجب إلى وهو أبغض إليك، وأمقت إليك، وأكره إليك لأن أفعالها تتعدد إلى المحب والمبغض بإلى أيضاً كقوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} وهذه كلها بمعنى المفعول كأحمد وأشهر وأجن وقد مر أنه غير قياس".
رأي يس العيمي والشيخ خالد الأزهري:
قال وفي التصريح [21] "وبعضهم يستثني من الفعل المبني للمفعول ما كان ملازماً لصيغة (فعل) بضم أوله وكسر ثانيه نحو:
عنيت بحاجتك، وزهى علينا بمعنى تكبر، فيجيز التعجب منه لعدم اللبس فتقول: ما أعناه بحاجتك، وما أزهاه علينا وجرى على ذلك ابن مالك وولده بناء على أن علة المنع خوف الالتباس، وأما من جعل عدة المنع التشبيه بأفعال الخلق بجامع أن كلا منها لا كسب للمفعول فيه فينبغي أن لا سيتثنى شيئاً ويؤول ما ورد من ذلك على أن التعجب فيه من فعل مفعول في معنى فعل فاعل لم ينطق به".(18/471)
قال السيوطي في الأشباه والنظائر [22] قال في البسيط: "قياس التفضيل في أفعل أن يكون على الفاعل نحو: زيد فاضل وعمرو أفضل منه، لا على نحو خالد وبكر أفضل منه لأنهم لو فضلوا على الفاعل والمفعول لالتبس التفضيل على الفاعل بالتفضيل على المفعول فلما كان يفضي إلى اللبس كان التفضيل على الفاعل أولى لأنه كالجزء من الفعل والمفضول فضله فكان التفضيل على ما هو فالجزء أولى من التفضيل على الفضلة".
وقال في التصريح مبحث التفضيل [23] :
وسمع بناؤه من فعل المفعول كهو أزهى من ديك بنوه من زهى بمعنى تكبر قال في الصحاح: لا تتكلم العرب به لا مبنياً للمفعول وإن كان بمعنى الفاعل، وحكى ابن دريد زها يزهو أي تكبر، فعلى ما حكاه ابن دريد لا شذوذ فيه لأنه من المبني للفاعل، وقال الصبان [24] مثل ذلك: وسمع هو أشغل من ذات النحيين بنوه من شغل بالبناء للمفعول وسمع هو أعنى بحاجتك بنوه من عنى بالبناء للمفعول وسمع فيه عنى كرضى بالبناء للفاعل فعلى هذا لا شذوذ فيه.
وقد علق الصبان على هذا بقوله: "إنما كان مصوغا من المبني للمفعول لأن المراد أنها أكثر مشغولية لا أنها أكثر شغلا لغيرها وإنما كان يصاغ من المبني للفاعل إذا ناسب المقام، ومن مجيء فعله مبنيا للفاعل: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} فما ذكره الناظم من أن شغل مما لزم البناء غير مسلم، انتهى تعليق الصبان على المثل.."
وقال الأشموني [25] : "وبعضهم يستثني ما كان ملازما لصيغة فعل نحو عنيت بحاجتك، وزهى علينا فيجيز ما أعناه بحاجتك، وما أزهاه علينا"وقال في مبحث التفضيل: "وسمع صوغه من فعل المفعول كهو أزهى من ديك، وأشغل من ذات النحيين".(18/472)
وبالبحث في كتب اللغة وجدت أساليب كثيرة تصحح لنا أن نتوسع فيما ضيقوا حتى تنتهي إلى قياسية كثيرة مما اعتبروه شاذا ففي الأمثال الميداني وأمثال القالي وشرح الألفية والتسهيل، فقد سمع عنهم أنهم قالوا: أجن من دقة [26] (من أجن) ، أزهى من ديك [27]
وأشغل من ذات النحيين [28] , وأشهر من الحمر [29] .
وقال أبو قطيعة:
أشهى إلى القلب من أبواب جبزون
القصر فالنخل فالجماء بينهما
وأعمر من نسر (عمر) [30] .
أعني في كلام سيبويه مثل به الزمخشري في المفصل وأقصف من بردقة [31] أكسى من بصلة (من كسى) وأولع من كذا [32] ، وأشهر من كذا وردت أمثلة كثيرة منه في أمثال القالي والميداني.(18/473)
وقد حصر بعض أعضاء مجمع اللغة العربية أكثر من هذا [33] . فكثرة الأمثلة تجوز القياس عليه، وقد قال ابن مالك في التسهيل أن فعل التعجب يبنى من فعل المفعول إذا أمن اللبس، قال المرادي: وذلك مذهبه في أفعل التفضيل، ولا غرو فهو أوغل علماء العربية في هذا المسلك من قياس أحد البابين على الآخر، وقد سبق ابن مالك في هذا الزمخشري في المفصل وتبعه ابن الحاجب في الكافية وجاء بعدهما ابن مالك في كتبه كلها.. فقد حملوا كلا من بابي التعجب وأفعل التفضيل، على الآخر بحيث أنه لا يصاغ أفعل التفضيل إلا مما يصاغ منه فعلا التعجب وكل ما امتنع أن يصاغ منه فعلا التعجب امتنع أن يصاغ منه أفعل التفضيل وما لا فلا. وقد جعل الزمخشري وابن الحاجب التفضيل أصلا لهذا القياس وجعل ابن مالك التعجب أصلا لهذا القياس والتفضيل فرعا، والذي درج عليه الزمخشري وتابعوه من القياس الجاري بين أفعل التفضيل وأفعل في التعجب يكاد يكون أمرا لم يرجع إليه ليتخذ ضابطا في التعليم والتأليف لتقريب المسائل وطر القواعد وتيسير حفظ لا غير.. وليس في ذلك من أنواع القياس التي أطنب فيها أبو الفتح ابن جني في الخصائص فإنها كلها ترجع إلى إعطاء حكم إعرابي أو صيغة اشتقاقية للفظ لم يرد في كلام العرب على ذلك الحكم أو تلك الصيغة فيقرر حكم النظير المسموع للنظير غير المسموع إلحاقا به وقياسا عليه.. لأن هناك فوارق بين التعجب والتفضيل تفضي بنا إلى أن قياس أحدهما ليس له مسلك ممهد وإنما هو مجرد قياس شبه كما يقول الأصوليون وهو غير معتبر على أن التحامل بين البابين لم يتبين فيه أصل من فرع.
كثرة الاستعمال اعتمدت في كثير من أبواب العربية:(18/474)
وحيث أن الأساليب التي جاءت من الفعل المبني للمفعول للدلالة على التعجب أو أفعل التفضيل قد كشفت عن عدد كثير من الأمثلة ولست أدري كيف خفيت هذه النصوص على كثير من اللغويين والنحاة القدامى حتى رتبوا على وجود نوع وهمي من الأفعال يلازم البناء للمجهول أحكاما خاصة كمنعهم مجيء صيغتي التعجب من الثلاثي مباشرة وعدم صحته إلا بواسطة ومنعهم صوغ أفعل للتفضيل من مصادرها إلا بالواسطة كذلك، وقد عثرنا على الأساليب التي توحي بكثرة الاستعمال من هذه الأفعال، وكثرة الاستعمال قد اعتمدت في كثير من أبواب العربية وهاأنذا أسوق طرفا منها مما جاء في كتاب الأشباه والنظائر للسيوطي [34] فقد عقد بابا تحت هذا العنوان (كثرة الاستعمال اعتمدت في كثير من أبواب العربية:
1- منها حذف الخبر بعد لولا قال ابن يعيش في (شرح المفصل) حذف خبر المبتدأ من قولك: لولا زيد خرج عمرو لكثرة الاستعمال حتى رفض ظهوره ولم يجز استعماله.
2- وقال صاحب البسيط: "إنما اختصت غدوة بالنصب بعد أن دون بكرة وغيرها لكثرة استعمال غدوة معها وكثرة الاستعمال يجوز منه مالا يجوز مع غيره".
3- وقال ابن جني: "أصل (هلم) عند الخليل (ها) للتنبيه (ولم) أي لم بنا ثم كثر استعمالها فحذفت الألف تخفيفا".(18/475)
4- وفي تذكرة الفارسي: حكى أبو الحسن والفراء أنهم يقولون (أيش لك) قال والقول فيه عندنا أنه أي شيء فخفف الهمزة وألقي الحركة على الياء فتحركت الياء بالكسرة فكرهت الكسرة فيها فأسكنت فلحقها التنوين فحذفت لالتقاء الساكنين، كما أنه لما خففت (هو يرم إخوانه) فحذفت الهمزة وطرح حركتها على الياء كره تحركها بالكسرة فأسكنتها وحذفها لالتقائها مع الخاء من الإخوان فالتنوين في (أيش) مثل الخاء في إخوانه، قال: فإن قلت الاسم يبق على حرف واحد قبل إذا كان ذلك شيء في (أيش) وحسن ذلك أن الإضافة لازمة فصار لزوم الإضافة مشبها له بما في نفس الكلمة حتى حذف منها فقالوا فيم وبم ولم فكذلك (أيش) .
5- وقال ابن فلاح في المغني: "المصدر الذي يجب إضمار فعله إنما وجب إضماره لكثرة الاستعمال ومعنى كثرة الاستعمال أنه تقرر في أذهانهم أنهم لو استعملوها لكثرة استعمالها فخففوها بالحذف وجعلوا المصدر عوضا منها".
6- وقال ابن الدهان في الغرة ذهب الأخفش إلى أن ما غير لكثرة استعماله إنما تصورته العرب قبل وضعه وعلمت أنه لا بد من استعماله فابتدءوا بتغييره علما بأن لا بد من كثرة استعماله الداعية إلى تغييره كما قال:
فصير أخره أولا
رأي الأمر يفضي إلى آخر
ومن هذه النصوص يتبين أن العرب قد اعتمدت كثرة الاستعمال فلم لا نعتمد كثرة استعمال أفعل التفضيل وصيغتي التعجب من هذه الأفعال التي توهموها ملازمة للبناء للمجهول قياسا يقاس عليه؟
ففي هذا توسيع لما ضيقه بعضهم وجعله شاذا لأنهم بنوا حكمهم على وجود نوع وهمي من الأفعال يلازم البناء للمجهول.(18/476)
فهذه الأفعال التي حصرها قدماء اللغويين وحصروها في باب الأفعال الملازمة للبناء للمجهول معظمها يرجع إلى ثلاثي مبني للمعلوم وإن كان لا يلحظه البعض بسهولة أو لا يطرد فيه ذلك نتيجة للخلط بين الفاعل النحوي والمعنى اللغوي وبعضها لا يسهل تحقيق ذلك فيه لأنه من المعلوم في غالب العادة أنه هو الله تعالى فحذف للعلم به حتى قال سيبويه: "لو أردت نسبتها إليه تعالى لكان الفعل على (أفعل) نحو أجنه الله أي فعل به ذلك" وقال غير سيبويه [35] إن هذه الأفعال التي ليست من أفعال الآدميين وقد جاءت على مفعول وفعله مما لم يسم فاعله إذا نسب الفعل إلى الله عز وجل كان على (أفعل) ... فمجيء الصفة على مفعول دليل قاطع على الجذر الثلاثي للفعل وأنه مبني للمعلوم جاء على صورة المبني للمجهول ففي هذا جانب من صواب وفائدة على أن ابن جني في الخصائص [36] يعقد بابا في نقض العادة يقول: غير أن ضربا من اللغة جاءت فيه هذه القضية معكوسة مخالفة فنجد فعل فيها متعدية وأفعل غير متعد وذلك قولهم: أجفل الظليم وجفلته الريح، وأشفق البعير إذا رفع رأسه وشنقته، وأنزف البئر إذا ذهب ماؤها ونزفتها واقشع الغيم وقشعته الريح وأنسل ريش الطائر ونسلته، وأمرت الناقة ومريتها إذا در لبنها ونحو من ذلك نحو ألوت الناقة بذنبها ولوت ذنبها، وصر الفرس [37] أذنه، وأصر بأذنه وكبه الله عن وجهه، وكب هو، وعلوت الوسادة وأعليت عنها..(18/477)
فهذا نقص عادة الاستعمال لأن فعلت فيه متعد وأفعلت غير متعد، وعلة ذلك عندي أنه جعل تعدي فعلت وجمود أفعلت كالعوض لفعلت من علية أفعلت لها على التعدي نحو جلس وأجلسته ثم يقول: ونحو من ذلك ما جاء عنهم من أفعلته فهو مفعول وذلك نحو أحببته فهو محبوب وأجنه الله فهو مجنون وأزكم فهو مزكوم، وأكزه فهو مكزوز [38] ، وأقره فهو مقرور، وأرضه فهو مأروض، وأملاه فهو مملوء وأضأده فهو مضئود [39] وأحمه الله فهو محموم (من الحمى) وأهمه - من الهم - فهو مهموم وأزعقته فهو مزعوق أي مذعور ... قالوا وعلة ما جاء من أفعلته فهو مفعول نحو أجنه الله فهو مجنون وبابه أنهم إنما جاءوا به على (فعل) (بضم أو كسر ثانيه) نحو جن فهو مجنون وزكم فهو مزكوم.. الخ [40] .
فهذا النوع من الأفعال جاء على صورة المبني للمجهول لأن العرب خصوا المفعول بنوع من العناية حتى قوي في أنفسها وكأنهم أولا غيروا صورة الفعل وهو مسند إلى المفعول عن صورته وهو مسند إلى الفاعل والصورة والصيغة واحدة ثم ترقوا من ذلك وتدرجوا إلى أن غيروا الصيغة فضموا الأول مع نقصان العدد فقالوا أزكم (وزكم) بضم أوله وكسر ثانيه فهذا من باب التدريج في اللغة الذي عناه ابن جني بقوله [41] :(18/478)
"وذلك أن يشبه شيء شيئا من موضع فيمضي حكمه على حكم الأول ثم يرقى منه إلى غيره". فأنت تشاهد أن هذه الأفعال بعد هذا التدريج أصبح لها صورتان الصورة الأصلية والصورة المسموعة عن أكثر العرب نتيجة هذا التدرج في الاستعمال والذي يدل على هذا أن المعاجم العربية تشير إلى هذا الأصل الذي أصبح في عالم النسيان عند بعض اللغويين كثعلب ففي القاموس مادة (عناه) الأمر يعنيه ويعنوه عناية بالكسر وعناية بالفتح وعينا بالضم أهمه وعنى بالضم عناية كرضى قليل، وعنى الأمر ... باب (علم يعلم) نزل وحدث، وقال ابن المنظور: "وشغف بالشيء شغفا على صيغة ما لم يسم فاعله أولع به، وشغف بالشيء شغفا على صيغة الفاعل قلق"وقال: وشغفه يشغفه شغفا وشغفا بسكون الغين وفتحها ولذلك (وعك الرجل) ورجل وعك ووعك وموعوك ووعكة كوعده دكه فجاء بالمبني للمعلوم وإن كان مستعملا في معنى آخر، وهزل الرجل والدابة قال في القاموس، هزل كنصر ويضم وهزل كمنع الخ فلم ترد المادة تحت ضبط واحد وهو ضم الفاء وانظر مادة (زهى علينا) ، وبهت الرجل (وقد شهر في الناس) .(18/479)
والكثير من الأفعال التي حصرها بعض العلماء تحت عنوان الأفعال الملازمة للبناء للمجهول ترجع إلى الأمور التي ترجع إلى اللغات مثل تعدد صورة المضارع والماضي مع اختلاف الصيغ من فعل، وفعل مع اتفاق المعنى أو اختلافه، وقد تابعت أكثر هذه الأفعال التي حصرها ابن سيدة في المخصص وثعلب في الفصيح والسيوطي في المزهر في معاجم اللغة فوجدت أنها جاءت على صيغ مختلفة بعضها استعمل كثير وأصبح هو المسموع عن أكثرهم ولكن هذا لا يجعلنا نغفل بعض الأساليب الواردة عن العرب تبعا لأحكام تتعلق ببعض الصيغ كصيغتي التعجب وصيغة أفعل التفضيل، وقد بينت آراء العلماء في هذه الأساليب، والتحقيق في هذا البحث يجعلنا نضم أصواتنا إلى أصوات العلماء الذين يحاولون إيجاد صورة مبنية للمعلوم لهذه الأفعال الملازمة للبناء للمجهول كابن درستويه ومن نحا نحوه واقتدى به الذي يعتد بأصل لهذا الفعل فهي أفعال لها أصول ليست مرفوضة وحيث أنها ليست مرفوضة فيصح مراجعتها إذا احتيج إليها وقد قال السيوطي في الأشباه والنظائر قال ابن جني: "اعلم أن الأصول المنصرف عنها إلى الفرع على ضربين [42] .
أحدهما: إذا احتيج إليه أن يراجع والآخر ما لا يمكن مراجعته لأن العرب انصرفت عنه فلم تستعمله.(18/480)
وهذه الأفعال قد استعمل أصلها الذي رفضه بعض العلماء فمراجعة الأصل لهذه الأفعال قد أثبته ابن القطاع وابن دريد وبعض اللغويين مما رجعت إلى بعضه في القاموس وغيره.. ولو كان أصلها المبني للمعلوم ممنوعا لنص عليه ابن جني في مبحث مراعاة الأصول وإهمالها ثم يقول ابن جني [43] : وإذا جاز أن تراعى الفروع فمراعاة الأصول أولى وأجدر. ولا شك أن المبني للمجهول فرع عن المبني للمعلوم فهذه الأفعال ليست ملازمة للمفعول بل هي مفتوحة الأوائل في الماضي فإذا لم يسم فاعلها فهي مضمومة الأوائل بدليل أن الاسم بعدها فاعل في المعنى لأنه هو الذي وقع منه الفعل أو قام - وفي نهاية التحقيق في هذا البحث أختم قولي بما قاله ابن درستويه:
"عامة أهل اللغة يزعمون أن هذا الباب لا يكون إلا مضموم الأول، ولم يقولوا أنه إذا سمي فاعله جاز بغير ضم وهذا غلط منهم لأن هذه الأفعال كلها مفتوحة الأوائل في الماضي فإذا لم يسم فاعلها فهي كلها مضمومة الأوائل ولم يختص بذلك بعضها دون بعض"، وقال ابن خالويه المتوفى سنة 370 هـ في شرح الفصيح بعد أن ذكر هذه الأفعال "ومعناه أن الفعل من هذا الباب لا ينطق به على لفظ ما لم يسم فاعله وعليه فبعض المذكورات فيه نظر والصحيح ما قاله بعضهم أن بعضا لم يبن قط للفاعل وبعضها بني له أيضا لكن الفصيح بناؤه للمفعول" [44] وسبق أن عرفنا نزعته الكوفية ولا شك أن الأخذ بهذه الآراء يؤدي إلى إلغاء الأحكام الخاصة بهذه الأفعال ويبيح في الثلاثي التعجب المباشر وكذلك التفضيل المباشر ويرد لتلك الأفعال اعتبارها وحقها ويجعل شأنها شأن غيرها من باقي الأفعال التي يصح أن تبنى للمعلوم حينا وللمجهول حينا آخر على حسب مقتضيات المعنى.
ومن ثمرة البحث:
حكم المضارع والأمر من هذه الأفعال:(18/481)
لكن ما حكم مضارع هذه الأفعال الملازمة للبناء للمجهول وكذا الأمر منه أيكون ملازما للبناء للمجهول كالماضي؟ أم يقتصر منه على ما ورد مسموعاَ عن العرب؟
الفيروز أبادي صاحب القاموس يعطينا رأياً قاطعاً حيث يقول في مقدمة القاموس: "هل المضارع فيها يأتي كذلك وفعل الأمر كما في قوله تعالى: {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} أو أن مرجعه إلى السماع، والظاهر الثاني كما يدل له قول مترجم القاموس: "حم الأمر مبني للمفعول من باب نصر فنقول في المضارع: (يحم) ومثله (جن) ، ونتجت الناقة من باب ضرب فتقول: في المضارع: (تنتج) ، وعقرت المرأة من باب (حسن) فنقول في المضارع: (تعقر) فلينظر في حاشيته الشهاب الخفاجي في الصافات أو شرح أدب الكاتب في باب (المبني لما لم يسم فاعله صورة) وقد قال الشهاب الخفاجي في حاشيته على البيضاوي في سورة الصافات عند قوله تعالى: {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} .
الإهراع الإسراع الشديد كأنهم يزعجون على الإسراع على آثارهم وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى ذلك عن غير توقف على نظر وبحث قال الشهابي معقباً على هذا: كأنهم يزعجون أخذه من فعل الإهراع المجهول وقال أيضاً في سورة هود {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْه} .
يسرعون إليه كأنهم يدفعون دفعاً لطلب الفاحشة من أضيافه.
ثم يعقب الشهابي على هذا بقوله: ويهرعون جملة حالية والعامة على قراءته مبينا للمجهول، والإهراع الإسراع وقال الهروي هرع، وأهرع استحث، وقرأ جماعة {يَهرعُون} (بفتح الياء مبنياً للفاعل من هرع وأصله من الهرع وهو الدم الشديد السيلان كأن بعضه يدفع بعضا) َ فالمعنى على القراءتين يسوقون أو يسوق بعضهم أو يساقون بمعنى يسوقهم كبيرهم فتفسيره بيسرعون بياناً للمراد منه عليهما، وقوله كأنهم يدفعون على المجهول إشارة إلى أنه استعارة.(18/482)
ومن خلال رأي الشهابي أن المضارع من هذه الأفعال لا يخضع لصورة الماضي على البناء للمجهول فيجوز أن يبنى للفاعل.
وانظر لقوله: والعامة على قراءته مبنياً للمجهول وقراءة بعضهم بفتح الياء..
كل هذه النصوص ترشدنا إلى أن المضارع والأمر لا يكون على الصورة الملازمة للمجهول تبعا للماضي ...
والحمد لله من قبل ومن بعد فإذا وقعت علي هفوة فسبحان من انفرد بالكمال وتنزه عن الشريك والمثال، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر القاموس المحيط في مقدمة تحت عنوان: (المقصد في بيان الأمور التي اختص بها القاموس) (مصدر فعل)
[2] انظر شرح الكافية جـ 2 ص 272
[3] انظر سيبويه جـ اص 15.
[4] يقال أجنة وأجنه.. وجن عليه الليل إذا أظلم عليه وستره جنونا وجنانا وجننت الرجل وأجننته إذا وقفت (انظر كتاب فعلت وأفعلت للزجاج باب الجيم ص 135) .
[5] انظر المخصص جـ 15 ص 72 باب ما جاء من الأفعال على صيغة ما لم يسم فاعله.
[6] انظر المخصص السفر 14 ص 176.
[7] انظر اللسان (حبب) .
[8] انظر الكامل جـ اص 339 باب الرجل من بني أسد يمدح ابن حيان.
[9] الملحوظان الفعل (حب) ط معناه الحقيقي مسند لله تعالى: على قول الرسول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك" (لأنه في معرض الحديث عن الحب) .
[10] اللب: اللازم لها لا يفارقها يقال رجل لبٌّ وامرأة لبة أي نظيفة قريبة من الناس.
[11] انظر المزهر جـ 2 ص 235.
[12] انظر الخصائص جـ اص.
[13] انظر سيبويه جـ اص 15.
[14] أبو علي الفارسي إسنادا ً ابن جني توفي سنة 377هـ.
[15] لابن جني بحث في تدريج اللغة جـ اص 347 من كتاب الخصائص فانظره.(18/483)
[16] انظر شرح ابن درستويه على الفصيح 78.
[17] انظر الخصائص جـ اص 372.
[18] انظر الخصائص باب في تدريج اللغة جـ اص 347.
[19] انظر الخصائص باب في تدريج اللغة جـ اص 369.
[20] انظر الكافية جـ 2 ص 214 مبحث أفعل التفضيل.
[21] انظر: التصريح جـ 2 ص 93 مبحث التعجب.
[22] أنظر: الأشباه والنظائر ص 270 مبحث اللبس محذور.
[23] أنظر: التصريح جـ 2 ص 101.
[24] أنظر الصبان على الأشموني جـ 3 ص 33.
[25] أنظر الأشموني جـ 3 ص 17- 33.
[26] أمثال الميداني.
[27] أمثال الميداني والقالي.
[28] أمثال الميداني والقالي.
[29] أمثال الميداني.
[30] أمثال الميداني.
[31] المرجع السابق.
[32] شرح التسهيل.
[33] انظر البحوث والمحاضرات لمجمع اللغة العربية سنة 1963-1964م.
[34] انظر الأشباه والنظائر جـ اص 266ـ270 فقد اختصرت ما قاله هنا.
[35] انظر سيبويه جـ اص 15.
[36] انظر الخصائص جـ2 ص 214ـ217.
[37] سوى أذنه ونصبها للاستماع.
[38] أصلبه الكزاز وهو تشنج يصيب الإنسان من شدة البرد وتعتريه منه رعدة.
[39] أصابه بالزكام.
[40] وقد سبقت الإشارة إلى ذلك عند الحديث عن رأي ابن جني.
[41] انظر الخصائص جـ اص 347- 356. جـ 2 ص 118.
[42] أنظر: الخصائص لابن حني جـ 2 ص 347 باب فيما يراجع من الأصول مما لا يراجع.
[43] أنظر: الخصائص جـ 2 ص 304.
[44] أنظر: مقدمة القاموس.(18/484)
غوثاه
لفضيلة الشيخ عبد الله بن أحمد قادري.
عميد كلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية
فكم من الكيد - يا الله - يلقاه
غوثاه - يا رب - للإسلام غوثاه
من العدو الذي ما كلّ مسعاه
وما أقل الألى يحمون حوزته
وهم أذل عباد أوجد الله
هذى يهود طغت في الأرض عاتية
في قبلة المصطفى الأولى ومسراه
عاثوا فسادا بأرض الرسل بل فسقوا
وكلهم بالغ في الكيد أقصاه
وللنصارى على الإسلام غارتهم
يهاجمون من الإسلام أعلاه
والملحدون وأهل الزيغ ما فتئوا
فصار معبوده ما كان يهواه
قد اغرقوا الجيل في طوفان باطلهم
رضا الإله الذي ما كان أغلاه
وغاية الخلق أضحت عنده عبثا
إلى رذائل من بالكفر والاه
هانت عليه غلا أجداده فهوى
يحدوهم الخوف ثم المال والجاه
وحاملو العلم للطاغوت قد خضعوا
تهدي الحمام لمن يطغى وتهواه
لكن أسد لهذا الدين قد وقفت
مضمار سبق على الأقران وافاه
وللفقيد أبي الأعلى الإمام هنا
من كل صوب وخلق الله قد تاهوا
رأى المصائب بالإسلام نازلة
عات ومستعبد في الشعب والاه
فشام سيف الهدى في وجه مغتصب
على أذى القوم معتزا بتقواه
وقام يدعو إلى الإسلام مصطبرا
إلى العقيدة (ركن الحق) مبداه
كان انطلاق الفتى في الفكر مستندا
ما دام يوجد في الوحيين مبغاه
وليس يعدل بالوحيين غيرهما
يفيد منهم إذا أفتى فتاواه يرى الأئمة أعلاما ورمز هدى
هدى الإله الذي التقليد ناواه
لكنه يكره التقليد مقتفيا
معاصريه الأولى تاقوا لعلياه
وكان في فهمه عمق يفوق به
من الحياة فكان كالنور أنى سرت تلقاه
غاصت مداركه في كل معترك
ملامة الناس والرحمن مولاه
ولم يكن في سبيل الله تأخذه
فما انثنى بل تولى أمره الله(18/485)
كم حاولوا صده عن نشر دعوته
قالوا: اقتلوه، فقال: الله ألقاه
قالوا: اسجنوه، فزاد السجن قوته
فيها الدليل على ما الله أولاه
ربى رجالا على الإسلام تربية
كما أحاطت بيعسوب خلاياه
به أحاطوا على حب وتضحية
على الإخاء الذي الرحمن يرضاه
كل الفئات انضوت في ظل دعوته
من عاملين، ومن أغناهم الله
هذا طبيب، وذا قاض، وغيرهما
ما في الصواريخ للأتباع أشباه
وألهب الروح في الأتباع فانطلقوا
من الخمول، ومن ذل ألفناه
راحوا يرومون تغييرا لواقعنا
هم الفقيد إلى أن زار مثواه
إلى النهوض بهذا الجيل حيث غدا
يراه شيخ الزوايا في زواياه
وكان يعلن أن الدين ليس كما
لا يسعدون إذا ما عنه قد تاهوا
بل منهج لحياة الناس أجمعها
من جد فيها وللكسلان أواه
وسنة الله أن تعطى خزائنه
نظام حكم على الإسلام مبناه
وغاية السعي في الدنيا إقامته
إحدى وسائلها، والغرس عقباه
وغسل أفكار هذا الجيل من درن
فسلكهم في نظام طاب مغزاه
ثم اصطفاء لأفراد وتربية
يرضى الشريعة، لا قمع وإكراه
يليه سعي إلى إصلاح مجتمع
من الفساد الذي الحكام تهواه
والحكم إن فاته الإصلاح كان له
فبان من زيفها ما كان عراه
والجاهلية عراها بواقعها
في الشرق والغرب هذا ليس يخفاه
والعالم اليوم من عرب ومن عجم
وللرجوع لإرث ما فقدناه
وصاحب الحقد مدعو لتوبته
جيل قوي بوحي الله رواه
هذى مآثره تحكي محامده
درب الجهاد الذي كنا أضعناه
وكتبه كلها نور يضئ لنا
أن السعادة فيما يشرع الله
وقد أبانت لباكستان دعوته
للحكم بالشرع أزكى الله مسعاه وقد رأينا ضياء الحق متجهاً
بفقدك الأرض عملاقا خسرناه
لهفي عليك أبا الأعلى وقد فقدت
بالمسلم الحق تجري الدمع عيناه
لولا التأسي وأمر الصبر ما فتئت(18/486)
وأن يكون بدار الخلد مثواه
والله نسأل أن تغشاه رحمته
حتى يحقق للإسلام مرماه
وأن يواصل جيش الحق رحلته
بالصحب فوق ذرا نصر تمناه
تابع طفيل خطى العملاق مرتقيا
فتابعونا على عهد عقدناه
وقل لهم: عهدنا ما زال منعقدا
لمن تأسى، كما الصديق أبداه
وفي ممات رسول الله معتبر
بركب أمثال شيخ قد فقدناه
غوثاه يا رب للإسلام غوثاه(18/487)
قياسية المصادر
لفضية الدكتور/ محمد بن زين العابدين حسن سلامة
المدرس بكلية الدعوة بالجامعة الإسلامية
من أقسام الكلمة العربية الاسم
وهو قسمان: جامد ومشتق.
فالجامد: ما لم يؤخذ من غيره، فهو قد وضع على صورته الحالية ابتداء، فليس له أصل يرجع إليه، وهو إما ذات وإما معنى.
فالذات: ما تقوم بنفسها، أي تدل على مجسم محسوس، وذلك كأسماء الأجناس مثل: رجل- جمل - شجر- بيت- والدال على الذات هو اسم العين.
والمعنى: ما يقوم بغيره، لأنه يدل على شيء معنوي محض لا وجود له في غير الذهن ويدركه العقل، وذلك مثل: النصر- الضرب – الفتح – الفرح - والدال على المعنى هو المصدر، ومنه يكون الاشتقاق، وقد يجيء من أسماء الأجناس المحسوسة.
والمشتق: ما أخذ من غيره ودل على ذات وحدث، فهو يدل على شيئين، وله أصل ينتسب إليه يقاربه في المعنى ويشاركه في الحروف الأصلية، كالضارب والمضروب ... الخ
فالمصدر قسم من قسمي الجامد، إذ هو اسم المعنى الذي هو أحد قسمي الجامد، إذن فالمصدر جامد.
وضابطه: هو اسم دال على الحدث - إلى المعنى المجرد- جار على فعله، فلا دلالة على ذات أو زمان أو مكان أو تذكير أو تأنيث أو مثنى أو جمع أو علمية، فلا شيء أكثر من هذا المعنى المجرد، وهذا هو الغالب الأعم، لأنه قد يدل على المرة مثل جال جولة، قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [1] أو الهيئة مثل: جلسة المعتدل مريحة، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا قتلتم فأحسنوا القتلَةَ وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحةَ" [2] .(18/488)
والمراد بالحدث: الذي لا يستقل، بل يكون معنى قائما بغيره. ومعنى جريانه على الفعل: اشتماله على حروف فعله لفظا مثل: إكرام، أو تقدير بدون تعويض مثل: قتال- فإن ألف فعل هذا المصدر وهو (قاتل) وإن نقصت منه إلا أنها موجودة تقديرا، بدليل ظهورها أحيانا مقلوبة ياء لوقوعها بعد الكسرة فيقال: قيتال في نطق لبعض قبائل العرب- وهذا لغة أهل اليمن- أو تقديرا مع التعويض مثل: زنة، فالتاء عوض عن فاء الفعل وهو وزن، ومثل: تقديس، فالتاء عوض عن الدال المكررة في الفعل وهو قدّس.
والمصادر لها أبنية معروفة في علم الصرف، وهذه الأبنية هل لها قياس مطرد لا تخرج عنه ولا تحيد، أو هي سماعية المعول فيها على السماع وممنوع الخروج عليه؟.
اتفق على أن مصادر الفعل غير الثلاثي- الرباعي والخماسي والسداسي- تسير على نظام معين مستقر، لا يتغير ولا يتبدل، فلها قاعدة ثابتة قياسية لا تحيد عنها، فمثلا إذا قيل: كل فعل رباعي على (أفْعل) مصدره (الإفعال) فإنا نرى جميعها مثل: أكرم- أوعد- أفاد- أعطى- لا يخرج مصدرها عن الإفعال، مع قلب أو حذف وتعويض أو إبدال في بعضها، وكذا إذا قيل: (تفعّل) مصدره (تفعُّل) .
أما مصادر الفعل الثلاثي فقد اختلف العلماء في قياستها، وفي معنى هذا القياس على ثلاثة مذاهب.
1- يرى بعض العلماء أن مصادر الثلاثي لم تجْر على أوزان معينة، بل وردت على أوزان شتى متباينة لا ضابط لها ولا قياس يجمعها، فهي إذن سماعية نتيجة لهذا، ويجب أن نقف عند المسموع فلو وجد فعل وأردنا معرفة مصدره نقف عند نطق العرب فيه، ولو ورد فعل ولم يعلم كيف نطق العرب بمصدره فلا مصدر له، ولا يجوز النطق بمصدر له على قياس أمثاله.(18/489)
ولا يخفى ما يستلزمه هذا من التعويق والتعنت، والوقوف أما بلوغ اللغة درجة الكمال، والوفاء بحاجات الإنسان المتجددة، وتعطيل الكثير من الكلمات التي يجوز لنا أن نحصل عليها بالقياس على أمثالها، وذلك لكثرة أفعال هذا النوع كثرة يتبعها الكثير من المصادر.
2- ويرى سيبويه وتبعه الأخفش أن مصدر الثلاثي قياسي، فله ضوابط يخضع لها، ولكن هذه الضوابط لا يصح استخدامها قياسيا مطردا قبل الرجوع إلى السماع في مظانة، ويجب الاقتصار على المسموع وحده بعد البحث عنه والعثور عليه ويوقف عنده، فإن لم يوجد سمات تستخدم الضوابط والأقيسة للحصول على المصدر، بمعنى أنه إذا وَرَد فعل وسمع له مصدر أخِذ به، لأننا مقيدون بالمصدر الذي نطقت به العرب وعرفناه عنهم، ولا داعي معه لإيجاد مصدر جديد لم تنطق به نصا، أما إذا لم يعلم لهذا الفعل مصدر، فإننا نأتي بمصدره على الوزن الغالب المقرر في أمثاله، لأن كثرة استعمال بناء أي مصدر لأي فعل مصححة للقياس عليه، قال سيبويه: "ولكن الأكثر يقاس عليه" [3] .
وقال بذلك ابن مالك، وردده الشيخ خالد [4] والأشموني [5] في كتبهم، وهذا الرأي هو الذي جرى عليه علماء الصرف واعتمدوه في كتبهم.
وتطبيقا لهذا الرأي فالفعل مثلا (علم) لا يأتي مصدره على (فعْل) - بفتح الفاء وسكون العين- فيقال: (علْم) كما هو مقتضى قياس أمثاله- وهي الفعل الثلاثي المتعدي- لأنه قد سمع فيه (علْم) ، فيؤخذ بهذا المصدر في هذا الفعل، بدون قياس على الوزن الغالب وهو (فعْل) .
3- ويرى الفراء أن مصادر الأفعال الثلاثية قياسية، ومعنى القياس عنده: أنه يجوز القياس على الكثير الشائع، سواء ورد السماع به أو بخلافه، أي يسوغ لنا في كل فعل ثلاثي أن نأتي بمصدره على الوزن الغالب في أمثاله، وإن سمع له مصدره على خلاف هذا الوزن، لأن ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم، ويجوز استعمال أي المصدرين شئت، القياسي أو السماعي إن عرفته.(18/490)
فمثلا (علم) فعل ثلاثي متعد، وقياس مصدر مثله أن يكون على (فعْل) فلك أن تقول في مصدره (علْم) - بفتح العين وسكون اللام- وإن كان قد سمع له آخر هو (علم) - بكسر العين وسكون اللام- ولا يهمل المسموع بل أنت بالخيار في استعمال أحدهما.
وهنا وقفة مؤيدة لما ذهب إليه الفراء لما يأتي:
1- الفراء إمام كبير له مكانته اللغوية والنحوية، يقول ثعلب - إمام الكوفة في عصره -: "لولا الفراء ما كانت عربية، لأنه خلّصها وضبطها" [6] . وقيل فيه: "الفراء أمير المؤمنين في النحو" [7] وقيل أيضا: "لو لم يكن لأهل بغداد من علماء العربية إلا الكسائي والفراء لكان بهما الافتخار على جميع الناس" [8] وكذلك افتخر به أهل الكوفة [9] ، وكذلك قيل فيه: "كان ثقة إماما" [10] وقال فيه الفقيه محمد بن الحسن - صاحب أبي حنيفة - بعد مناقشة علمية: "ما ظننت آدميا يلد مثلك" [11] ، وأخيرا قال فيه أستاذه الكسائي - رأس المدرسة ومؤسسها: "الفراء أحسن عقلا، وأنفذ فكرا، وأعلم بما يخرج من رأسه" [12] ، وغير ذلك كثير [13] .
وأمام هذه العقلية التي أخذ صاحبها هذه النعوت، والتي ورثت علم الكسائي وأصبح إمام الكوفيين بعده لا ضير ولا تثريب إذا أخذ بمذهبه في قياسية مصدر الثلاثي، وبخاصة إذا كان في هذا الرأي إفادة اللغة.
2- ما قال به الفراء مستنبط من أكثر الكلام العربي فصاحة وصحة وشيوعا، فالعمل بما استنبطه إنما هو تطبيق صحيح على ذلك الكثير المسموع، ومجاراة سليمة للشائع الوارد عن العرب، ومحاكاة سائغة لصحيح نطقهم.(18/491)
وهذا هو معنى القاعدة، فهو حكم عام مستنبط من الكثير الوارد عن العرب، منتزع من الغالب الذي استعملوه، وعلى ذلك كيف نمتنع عن القياس على ذلك الكثير حين يوجد ما يخالفه في نطق القليل، وأن نقتصر على ذلك المخالف وحده دون استخدام القياس الذي يجري على نهج المخالف له؟ أليس من الأولى أن نعتبره شاذا خارجا عن الكثرة كما نصف الفاعل؟
3- قصر القياس على الأفعال التي لم يرد لها مصادر مسموعة، يقتضينا أن نرجع لكل المظان المختلفة ونطيل البحث، وذلك حتى نطمئن إلى عدم وجود مصدر سماعي للفعل كي نستبيح استعمال المصدر القياسي، وفي هذا من الجهد المضني والوقت الطويل ما لا يقدر عليه خاصة الناس، فكيف الحال مع الذي يطلب تعلم اللغة؟ ولو أخذنا به قبل استعمال كل مصدر لحملنا أنفسنا مالا نطيق، ودفعناها دفعا عن الانصراف إلى لغتنا، حتى مع وجود المعاجم فيه جهد ووقت وبخاصة مع المتعلم، وليس كل مبتدئ أو شاذ في اللغة يملك معاجم أو أحدها، يضاف إلى ذلك أن هذا العمل جهد ضائع وعمل مكرر، فلقد استنفد ثقات الأئمة والعلماء جهدهم في استنباط قواعدهم، وانتزاع أحكامهم من غالب كلام العرب الفصيح في دقة وأمانة، فلا مكان لإيجاب الرجوع إلى المسموع قبل استعمال الضوابط والقواعد، لأن في الرجوع إضاعة للجهد والوقت، وتعجيز لغير المتفرغين المشتغلين باللغويات، وإهمال لرأي الثقات من العلماء المتخصصين المتفرغين، إهمالا يستحيل معه أن تستقيم أمور، أو يستقر لها وضع صالح واضح.
فدفعا لهذا يؤخذ بما استنبطه ثقات العلماء ويستند إليه من غير بحث في كلام عربي، أو في مرجع لغوي أو غيره، ولو كان البحث لا يكلفنا جهدا ولا وقتا ...
وهذا ما درجنا عليه في التعليم والتعلّم، يذكر الفعل وتطبق عليه القاعدة للحصول على مصدره بدون رجوع إلى مظان السماع، تطبيقا لرأي الفراء، ولم يكن لرأي سيبويه من نصيب سوى السطور التي تكتب تبيانا لرأيه.(18/492)
4- لم يقتصر الأمر على الفرَاء بل جاء بعده غيره ممن له مكانته وقال بمثل ذلك.
كابن جني فهو القائل: "ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب" [14] والقائل: "ليس كل ما يجوز في القياس يخرج به سماع. فإذا أخذ إنسان على مثالهم وأمّ مذهبهم لم يجب عليه أن يورد في ذلك سماعا، ولا أن يرويه رواية" [15] .
وقال بقياسية مصدر الثلاثي أيضا الزمخشري. ومكانته معروفة [16] .
ونقل عن أبي حيان أنه قال: "إنما نبني المقايس العربية على وجود الكثرة" [17] .
وعلى ذلك تصاغ مصادر الفعل الثلاثي على النهج الغالب في كلام العرب، وقد يكون هذا المصدر الذي تنطق العرب بلفظه نصا غريبا على الأسماع، ولكن هذه الغرابة وتلك الوحشة تزولان بالاستعمال.
ولا يتحتم استعمال هذا القليل. بل يعتبر من النادر في كلامهم الذي لا يقاس عليه. ويسمى: مصادر سماعية- مصادر شاذة- مصادر قليلة الاستعمال- أو غير ذلك من الأسماء الدالة على قلتها وندرتها.
ولذلك نظير في مصادر الأفعال الرباعية التي قال الصرفيون بقياسيتها، فقد قالوا: فاعل مصدره-. (المفاعلة) و (الفعال) والثاني قليل بالنسبة للأول، ويتعين تركه فيما فاؤه ياء مثل (ياسر- يامن) - أخذ بيساره أو بيمينه- وتجب فيه (المفاعلة) فنقول: ميامنة ومياسرة ويمتنع أن نقول على الوزن: يمان ويسار بكسر الياء فيهما، لثقل الكسرة على الياء في أول الكلمة وشذ ياومة يواما ـ المعاملة بالأيام ـ حكاه ابن سيده وحكى مياومة على القياس [18] فنقول في مصدر الثلاثي أيضا: علم مصدر (علم) وشذ (علم) على أنه يجوز استعمال هذا المصدر المسموع مع المصدر القياسي، فمن شاء استعمال المسموع أو القياس فله ما شاء، فإن استعمال أحدهما مباح، فورود السماع لا يلغي القياس، ولا يمنع استخدام القاعدة المخالفة له.(18/493)
ولعل ما سبق كان في ذهن أعضاء مجمع اللغة العربية بالقاهرة، فلقد أصدر قرارات قياسية مصادر الثلاثي فقال: للأفعال الثلاثية مصادر تأتي على أوزان شتى، منها الكثير المشهور، ومنها القليل المهجور، فجعل بعض النحويين كثير الورود قياسيا، وجعل بعضهم جميع المصادر الثلاثية سماعية، فاختار المجمع المذهب الأول، وهو مذهب سيبويه والأخفش وابن مالك وكثير ممن تابعهم، ومنهم الفراء - وهو يجيز القياس على جميع المصادر الثلاثية القياسية ولو سمع غيرها من وزن آخر [19] .
ويقول في موطن آخر، في تكملة مادة لغوية لم تذكر بقيتها، كإذا لم تذكر من مادة لغوية في المعجمات ونحوها إلا ألفاظها، كالمصدر أو الفعل أو أحد المشتقات الأخرى.
وكل ما تقدم جائز ما لم ينص على أن الفعل مُمات أو محظور، وما لم يسمع عن العرب ما يخالفه، فإن سمع عملنا بالمسموع فقط، أو عملنا بالمسموع والقياس [20] .
ويقول الأستاذ عبد الحميد حسن في كتابه (الألفاظ اللغوية خصائصها وأنواعها) : "فماذا يمنعنا من زيادة أوزان وصيغ نرتضيها في عصرنا وفي عصور قادمة، مادامت جارية على سمت ما نطق به العرب، ومقيسة على كلامهم" [21] .
ويقول:"وإن مجمع اللغة العربية بالقاهرة، قد قطع شوطا محمودا وبذل همة مشكورة في البحث والدرس، للوصول إلى التوسع في صيغ الأفعال المزيدة، وصيغ بعض الأسماء والمشتقات، ووصل في هذا المجال إلى قرارات لها عظيم الأثر في تنمية اللغة وتوسيع آفاقها، وقد سار في ذلك على السنن اللغوي القويم، المستمد من الأشباه والنظائر، ومن الأصول اللغوية التي تساير نمو اللغة واكتمالها" [22] .
ومن هذه القرارت قرار قياسية المصادر الثلاثية على مذهب على الفراء السابق ذكره.
*. *
مراجع البحث
1- الكتاب لسيبويه.
2 - الخصائص لابن جني.
3 - التصريح للشيخ خالد الأزهري.
4 - همع الهوامع للسيوطي.(18/494)
5- شرح ألفية ابن مالك للأشموني.
6-إنباه الرواه للقفطي.
7- تصريف الأسماء للشيخ محمد طنطاوي.
8 - النحو الوافي للأستاذ عباس حسن.
9 - الألفاظ اللغوي خصائصها وأنواعها للأستاذ عبد الحميد حسن.
10 - تصريف الأسماء للدكتور محمد زين العابدين حسن سلامة.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة الحاقة 13.
[2] الترمذي - الديات 14.
[3] الكتاب 2/215.
[4] انظر التصريح 2/73.
[5] انظر حاشية الصبان 2/304.
[6] إنباه الرواة 4/ ا-17
[7] إنباه الرواة 4/ ا-17
[8] إنباه الرواة 4/ ا-17
[9] إنباه الرواة 4/ ا-17
[10] إنباه الرواة 4/ ا-17
[ٍ11] إنباه الرواة 4/ ا-17
[12] إنباه الرواة 4/ ا-17
[13] إنباه الرواة 4/ ا-17
[14] الخصائص 1/362-367.
[15] لخصائص 1/362-367.
[16] النحو الوافي 3/190.
[17] الهمع 1/217.
[18] انظر التريح 2/76.
[19] الألفاظ اللغوية خصائصها وأنواعها للأستاذ عبد الحميد حسن ص26 وما بعدها.
[20] المرجع السابق 24- 25.
[21] المرجع السابق 23.
[22] المصدر السابق 23.(18/495)
نظرات في التمثيل البلاغي
لفضيلة الدكتور/ محمود السيد شيخون
الأستاذ المشارك بالجامعة الإسلامية
تقديم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ... وبعد
فهذه نظرات في التمثيل البلاغي قصدت من ورائها أن أكشف النقاب عن حقيقة هذا اللون البياني الجميل، وأن أميط اللثام عما ينطوي عليه من اللطائف والأسرار، وأن أتعرف على الشخصيات التي كان لها أثر في نموه وازدهاره، وتجلية محاسنه وأسراره.
والله الكريم أسأل أن يجعل هذا الجهد المتواضع خالصا لوجهه الكريم، وأن يوفقنا دائما لخدمة لغة القرآن العظيم إنه سميع مجيب. وهو حسبي ونعم الوكيل.
التمثيل في اللغة:
المثل بالكسر والتحريك وكأمير الشبه وجمعه أمثال، وتمثل بالشيء ضربه مثلا، والأمثل الأفضل، والطريقة المثلى الأشبه بالحق وأمثلهم طريقة أعدلهم وأشبههم بأهل الحق وأعلمهم عند نفسه بما يقول، ومثله له تمثلا صوره له حتى كأنه ينظر إليه، وامتثله هو تصوره، وامتثل طريقته تبعها فلم يعدها [1] .
التمثيل في التقديم:
لقد كان مفهوم التمثيل عاماً عند القدماء من علماء البلاغة فقد أطلقوه على كثير من الصور البيانية كالاستعارة والمجاز والكناية والتشبيه الاصطلاحي فقدامة بن جعفر المتوفى سنة
337 هـ جعله فرعاً من ائتلاف اللفظ مع المعنى ومثل له بأمثلة تشمل كثيراً من الألوان البلاغية [2] وأبو هلال العسكري المتوفى سنة 395 هـ تحدث عنه تحت اسم المماثلة وأورد له كثيراً من الشواهد الأدبية التي تشمل كثيرا من الصور البيانية كالتشبيه الاصطلاحي والكناية والمجاز والاستعارة [3] وابن رشيق القيرواني المتوفى سنة 463 هـ جعله ضربا من الاستعارة ومثل له بأمثلة أكثرها من قبيل الكناية والتشبيه الاصطلاحي [4] .(18/496)
الفرق بين التمثيل والتشبيه الاصطلاحي:
وظل مفهوم التمثيل عاما حتى جاء الإمام عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471 هـ فحدد مفهومه.. وفرق بينه وبين التشبيه الاصطلاحي وكشف النقاب عن بلاغته ثم تلاه السكاكي المتوفى سنة 626 هـ والخطيب القزويني المتوفى سنة 739 هـ، وهؤلاء الفرسان الثلاثة كانت لهم أياد بيضاء على هذا الفن البياني الجميل فقد عنوا بدراسته وإظهار محاسنه والكشف عن لطائفه وأسراره ووضع الحواجز الحصينة بينه وبين التشبيه الاصطلاحي، وإليك أيها القارئ الكريم آراء هؤلاء الفرسان في الفرق بين التمثيل والتشبيه الاصطلاحي.
رأي الشيخ عبد القاهر الجرجاني..
قسم الشيخ عبد القاهر التشبيه من حيث وجه الشبه إلى قسمين:-
أحدهما: تشبيه غير تمثيل..
وثانيهما: تشبيه تمثيل..
ثم أقام بينهما الحواجز الحصينة حتى لا يلتبس أحدهما بالآخر وهاك موجزاً معبراً عن رأيه [5] .
التشبيه غير التمثيلي:-
هو ما كان وجه الشبه فيه أمرا بيناً بنفسه لا يحتاج فيه إلى تأول وصرف عن الظاهر لأن المشبه مشرك للمشبه به في نفس وجه الشبه وحقيقة جنسه لا في مقتضاه ولازمه.
وذلك يتحقق في أمرين اثنين:
الأول: أن يكون وجه الشبه حسيا أي مدركا بإحدى الحواس الخمس الظاهرة فيكون من المبصرات أو المسموعات أو المشمومات أو المذوقات أو الملموسات سواء أكان الوجه مفرداً أم مركبا.(18/497)
الثاني: أن يكون وجه الشبه غرزيا طبعيا (عقليا حقيقيا) فالغرائز والطباع وإن كانت عقلية لأنها لا تدرك بإحدى الحواس الخمس الظاهرة فقد ألحقها عبد القاهر بالحسيات لأنها حقائق متقررة ثابتة تعلمها في المشبه به كما تعلمها في المشبه فالشجاعة والجبن والكرم والبخل والذكاء والغباء والقوة والضعف والصبر والجزع وما إلى ذلك من الكيفيات النفسية حينما يكون واحد منها وجه شبه فالتشبيه المعقود عليه يكون كالتشبيه الذي يكون وجه الشبه فيه حسياً سواء بسواء.
التشبيه التمثيلي:
أما التشبيه التمثيلي عند عبد القاهر فهو ما لا يكون وجه الشبه فيه أمراً بيناً بنفسه بل يحتاج في تحصيله إلى تأول وصرف عن الظاهر لأن المشبه غير مشارك للمشبه به في حقيقة وجه الشبه الظاهري وجنسه بل في مقتضاه ولازمه.
فإذا قلت (ألفاظ فلان كالعسل في الحلاوة) فإن (الحلاوة وجه شبه ظاهري فقط لأن المشبه به وهو العسل) يوصف بالحلاوة على سبيل الحقيقة بخلاف المشبه وهو (الألفاظ) فإنه لا يوصف بالحلاوة على سبيل الحقيقة ولذا يحتاج إلى التأول بإرادة ما تستلزمه الحلاوة من قبول النفس للشيء وحسن وقعه فيها، ولا كذلك الحسي، فالذي يشبه الأدهم [6] بالغراب في السواد يرى السواد في المشبه كما يراه في المشبه به دون أن يحتاج إلى تأول بصرف اللفظ عن ظاهره.
والخلاصة أن التشبيه التمثيلي عند عبد القاهر محصور في كل تشبيه كان وجه الشبه فيه عقلياً غير غرزي سواء أكان مفرد أم مركباً، وأن التشبيه غير التمثيلي محصور في كل تشبيه كان وجه الشبه فيه حسياً أو غرزياً سواء أكان مفرداً أم مركباً.
رأي السكاكي:
قسم السكاكي التشبيه من حيث وجه الشبه إلى:
تشبيه تمثيلي، وتشبيه غير تمثيلي..
فالتشبيه التمثيلي عنده:
ما كان وجه الشبه فيه مركباً عقلياً غير حقيقي [7] .
والتشبيه غير التمثيلي:(18/498)
ما كان وجه الشبه فيه على خلاف ذلك، وهذا صادق بالعقلي الحقيقي (الغرزي) والشأن فيه أن يكون مفرداً، وكذلك العقلي غير الحقيقي إذا كان مفرداً، وكذا جميع الحسيات مفردة كانت أم مركبة [8] .
رأى الخطيب القزويني [9] :
قسم الخطيب القزويني التشبيه من حيث وجه الشبه إلى: تشبيه تمثيلي، وتشبيه غير تمثيلي.
فالتشبيه التمثيلي عنده:
هو ما كان وجه الشبه فيه وصفا منتزعاً من متعدد أمرين أو أمور..
وهذا يتحقق في كل تشبيه يكون وجه المشبه فيه هيئة منتزعة من متعدد سواء أكان ذلك الوجه حسياً أم عقلياً.
والتشبيه غير التمثيلي عنده:
ما كان وجه الشبه فيه على خلاف ذلك.
وهذا يتحقق في كل تشبيه يكون وجه الشبه فيه مفرداً سواء أكان الوجه حسياً أم عقلياً.
أمثلة توضح آراء الفرسان الثلاثة السابقة
قال الله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأََرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأََنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [10] . شبه الله حال الدنيا في سرعة زوالها، وانقراض نعيمها بعد إقبالها، واغترار الناس بها، وركونهم إليها بحال نبات الأرض ذهبت نضرته فجأة فجف وصار حطاماً بعدما زها، والتف وتكاثف وزين الأرض بخضرته، وعم نفعه الإنسان والحيوان، واطمأن الناس إلى دنو ثمره، وظنوا أنه قد سلم من الجوائح. ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من سرعة الزوال وانقراض النعيم بعد الإقبال وعموم النفع واغترار الناس به واعتمادهم عليه.(18/499)
وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [11] .
شبه الله حال أحبار اليهود وقد حملوا التوراة وقرأوها، وحفظوا ما فيها، ولم يعملوا بها ولا انتفعوا بآياتها بحال حمار يحمل أسفارا هي أوعية العلوم ومستودع ثمر العقول وهو جاهل بما فيها ولا حظ له منها إلا ما يكده ويتعبه.
ووجه الشبه هو شقاء كل باستصحاب ما يتضمن المنافع العظيمة والفوائد الشريفة من غير أن يحصل على شيء من تلك المنافع أو يعود عليه بعض تلك الفوائد [12] .
قال أبو تمام يمدح أحمد بن أبي داود وكان قد وشي به إليه فظهر كذب الواشي:
طويت [13] أتاح لها لسان حسود
وإذا أراد الله نشر فضيلة
ما كان يعرف طيب عرف العود
لولا اشتعال النار فيما جاورت
شبه أبو تمام فضائله التي نشرتها الوشاية من المساوئ والأضرار برائحة العود تظهر النار طيبها مع ما في النار من الإحراق والإيذاء.
ووجه الشبه الهيئة الحاصلة من ترتب النفع على محاولة الضرر.
قال المتنبي من قصيدة له يعاتب فيها الدولة ويفتخر بنفسه: [14]
ويكره الله ما تأتون والكرم
كم تطلبون لنا عيبا فيعجزكم
أنا الثريا وذان الشيب الهرم [15]
ما أبعد العيب والنقصان عن شرفي
مثل المتنبي حاله مع العيب والنقصان بحال الثريا مع الشيب والهرم فإذا كان يستحيل قيام هذين بالثريا، كذلك يستحيل قيام العيب والنقصان به.
ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من محاولة إلصاق شيء بشيء لا يناسبه.
وقال الشاعر:
من دونها للحادثات مصائد
نهاية أهواء القلوب بعيدة
ودون الذي يبغيه فخ وصائد
فنحن كطير يبتغي الحب مسرعا(18/500)
شبه الشاعر حال الناس في الدنيا يجدون ويجتهدون في الوصول إلى آمالهم وأمانيهم فتقف الخطوب والأحداث في طريقهم، وتحول بينهم وبينها بحال الطير تسرع إلى التقاط الحب فيقف الفخ والصائد في طريقها ويحولان بينها وبين الحب.
ووجه الشبه هو الطمع في الوصول إلى شيء محبوب مع وجود العوائق التي تمنع من الوصول إليه.
إذا تأملنا هذه المجموعة من الشواهد نجد أن وجه الشبه فيها مركبا عقليا غير حقيقي، وبعرضها على آراء الفرسان الثلاثة السابقة نجد أن التشبيهات التي اشتملت عليها من قبيل التمثيل عند عبد القاهر والسكاكي والخطيب القزويني.
قال ابن النبيه:
كالروض تطفو على نهر أزاهره
والليل تجرى الدراري في مجرته
شبه الشاعر هيئة الليل تسبح فيه النجوم بهيئة الروض تطفو أزاهره على النهر.
ووجه الشبه الهيئة الحاصلة من أجرام صغار بيض مستديرة متناثرة فوق شيء يميل لونه إلى السواد.
قال الفرزدق:
ليل يصيح بجانبيه نهار
والشيب ينهض في المشيب كأنه
فقد شبه هيئة ظهور الشيب في الشاب بهيئة ظهور الصبح في جوانب الليل.
ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من اختلاط البياض بالسواد.
وقال الشاعر يصف الشمس وقت طلوعها:
مرآة تبر بدت في كف مرتعش
ولاحت الشمس تحكي عند مطلعها
فقد شبه الشمس وقت طلوعها حيث تكون حمراء لامعة مضطربة بمرآة من ذهب تضطرب في كف ترتعش.
ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من وجود شيء أحمر لامع يهتز ويضطرب..
إذا تأملنا هذه المجموعة من الشواهد كما تأملنا المجموعة السابقة نجد أن وجه الشبه في كل منها هيئة حسية تدرك بالحواس الخمس الظاهرة وبعرضها على آراء الفرسان الثلاثة نجد أن ما احتوته من التشبيهات من قبيل التمثيل عند الخطيب القزويني فقط، أما عند عبد القاهر والسكاكي فهي ليست من قبيل التمثيل.(19/1)
قال بعضهم يصف حجة بالوضوح والانكشاف: "حجة كالشمس في الظهور"فشبه الحجة وهى مفرد عقلي بالشمس وهي مفرد حسي في وصف هو (الظهور) وبالنظر في هذا الوصف نجد أنه لا يصلح أن يكون وجه شبه لوجوده في المشبه به (الشمس) دون المشبه (الحجة) لأن الظهور من خواص المحسات، ووجه الشبه لابد من وجوده في الطرفين، ولذا احتيج إلى التأول بصرفه عن ظاهره وذلك بأن يراد مقتضاه ولازمه وهو (عدم المانع من الإدراك) وبذلك يكون مشتركا بين الطرفين.
رأيي:
إذا جاز لي أن أذكر رأيي في هذه المسألة فإني أرى أن هذه الآراء التي استعرضتها مع وجاهتها ورسوخ أقدام أصحابها في البلاغة العربية فيها شيء من القصور فعبد القاهر يقصر تشبيه التمثيل على ما كان الوجه فيه عقلياً غير غرزي سواء أكان مفرداً أم مركباً، وحجته في ذلك أن مثل هذا الوجه يحتاج في تحصيله إلى إعمال فكر وإلطاف رويّة وينفي التمثيل عما كان الوجه فيه حسياً مركباً مع أن هذا الوجه وإن كان مدركاً بالحواس إلا أن انتزاعه من الطرفين ونظمه في هيئة مركبة يحتاج إلى إعمال الفكر وإلطاف الروية كالوجه العقلي فينبغي أن يكون التشبيه المعقود عليه من قبيل التمثيل لكن عبد القاهر لم ينظمه في سلك التمثيل وهذا قصور منه.
والسكاكي يخص التمثيل بما كان وجه الشبه فيه مركباً عقلياً، لأن هذا المركب يحتاج في الوصول إليه إلى إعمال الفكر وإرهاف الحس، وأهمل المركب الحسي كما أهمله عبد القاهر مع أنه مشارك للمركب العقلي في احتياجه إلى بذل الجهد والمشقة حتى يمكن تحصيله والعثور عليه. والخطيب القزويني أطلق اسم التمثيل على ما كان الوجه فيه مركباً سواء أكان حسياً أم عقلياً، وأهمل ما كان الوجه فيه مفرداً عقلياً غير غرزي مع أن هذا الوجه لا يمكن تحصيله والوصول إليه إلا بعد كد الذهن وإرهاف الحس، لأنه يستلزم صرف اللفظ عن ظاهره وإرادة مقتضاه ولازمه كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق.(19/2)
وإذا تأملنا حديث هؤلاء الفرسان عن التمثيل والتشبيه فإننا نراهم يعتمدون في إيضاح الفرق بينهِما على احتياج الوجه إلى بذل الجهد والمشقة وعدم احتياجه إلى ذلك.. فإذا كان الطريق إليه سهلاً ميسوراً لوضوحه وقربه سموا التشبيه المعقود عليه (تشبيهاً غير تمثيلي) وإذا كان الطريق إليه وعراً لدقته وبعده سموا التشبيه المعقود عليه (تشبيهاً تمثيلياً) وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن يكون الفرق بينهما على النحو التالي:
التمثيل: هو ما كان الوجه فيه دقيقاً لا يدركه ولا يفطن إليه إلا أصحاب الأذواق السليمة الذين ارتفعوا عن طبقة العامة.
وهذا يتحقق في:
(أ) ما كان وجه الشبه فيه مفرداً عقليا غير غرزي.
(ب) ما كان وجه الشبه فيه مركباً عقلياً.
(ج) ما كان وجه الشبه فيه مركباً حسياً.
التشبيه: ما كان وجه الشبه فيه واضحاً بيناً لا يحتاج إلى إعمال فكر وإلطاف روية. وهذا يتحقق في:
(أ) ما كان وجه الشبه فيه مفرداً حسياً.
(ب) ما كان وجه الشبه فيه عقلياً حقيقيا [16] .
من أسرار التمثيل..
إن من يمعن النظر في أسلوب التمثيل في لغة القران العظيم يتضح له أنه ينطوي على كثير من اللطائف والأسرار التي تحرك الأحاسيس والمشاعر وتهز العواطف، فهو أسلوب قد أحسن استخدامه على أتم وجه، ومن ثم فإنه يؤدي دوره وهو متمكن من نفسه ثم من نفوس السامعين فنجده يؤثر تأثيراً قوياً في النفوس، ويبرز المعقول في صورة مجسمة، ويلبس المعنوي ثوب المحسوس، ويفصل المجمل، ويوضح المبهم، ويصيب المعنى.
ولأجل هذا التف حوله الأدباء، فأصبح الميدان الفسيح الذي يتنافسون فيه لإظهار مواهبهم، والوسيلة المثلى التي ترنو إليها أبصارهم وحولها تهفو أمانيهم، ليستعينوا بها في إبراز صدورهم الأدبية منيرة موحية معبرة في قوة ووضوح عن المعنى الذي يسيطر على المقام.(19/3)
يقول العلامة أبو السعود في تفسيره: ".. والتمثيل ألطف ذريعة إلى تسخير الوهم للعقل، واستنزاله من مقام الاستعصاء عليه، وأقوى وسيلة إلى تفهيم الجاهل الغبي، وقمع سورة الجامح الأبي، كيف لا؟ وهو رفع الحجاب عن وجوه المعقولات الخفية، وإبراز لها في معرض المحسوسات الجلية، وإبداء للمنكر في صورة المعروف وإظهار للوحشي في هيئة المألوف".
ويقول الزمخشري: "التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعاني وإدناء المتوهم من المشاهد، فإن كان المتمثل له عظيماً كان المتمثل به مثله، وإن كان صغيرا كان المتمثل به كذلك".
وقال الأصبهاني: لضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثال والنظائر شيء ليس بالخفي في إبراز خفيات الدقائق ورفع الأستار عن الحقائق تريك به المتخيل في صورة المتحقق والمتوهم في معرض المتيقن والغائب كأنه مشاهد، وفي ضرب الأمثال تبكيت للخصم الشديد الخصومة، وقمع لسورة الجامح الأبي فإنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثر وصف الشيء في نفسه..
ولذلك أكثر الله تعالى في كتابه وفي سائر كتبه الأمثال، ومن سور الإنجيل سورة تسمى سورة الأمثال، وفشت في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وفي كلام الأنبياء والحكماء.
وقال ابن المقفع: "إذا جعل الكلام مثلاً كان أوضح للمنطق، وآنق للسامع، وأوسع لشعوب الحديث.."
وقال إبراهيم النظام:
"يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام:
إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة".(19/4)
وقال عبد القاهر الجرجاني [17] : "واعلم أن مما اتفق عليه العقلاء أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني أو برزت هي باختصار في معرضه ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته، كساها أبهة وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها وشب من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفا، وقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفا.
فإن كان مدحا كان أبهى وأفخم، وأنبل في النفوس وأعظم، وأهز للعطف وأسرع للإلف، وأجلب للفرح، وأغلب على الممتدح، وأوجب شفاعة للمادح، وأقضى له بغر المواهب والمنائح، وأسير على الألسن وأذكر، وأولى بأن تعلقه القلوب وأجدر.
وإن كان ذما كان مسه من أوجع وميسمه ألذع، ووقعه أشد، وحده أحد؛ وإن كان حجاجاً كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر.
وإن كان افتخاراً كان شأوه أبعد وشرفه أجد ولسانه ألد.
وإن كان اعتذاراً كان إلى القبول أقرب، وللقبول أخلب، وللسخائم أسل، ولغرب الغضب أفل، وفي عقد العقود أنفث، وعلى حسن الرجوع أبعث وإن كان وعظا كان أشفى للصدر، وأدعى للفكر، وأبلغ في التنبيه والزجر وأجدر بأن يجلي الغيابة، ويبصر الغاية، ويبرئ العليل، ويشفى الغليل.."
وخلاصة القول أن التمثيل يشتمل على كثير من الأسرار منها:
1- قوة التأثير..
2- إبراز المعقول في صورة مجسمة.
2- إلباس المعنوي ثوب المحسوس.
4- الإيجاز..
5- الإيضاح..
6- إصابة المعنى..
7- رفع الأستار عن الحقائق..
8- تقريب المراد للعقل وعرضه في صورة مشوقة.
وهاك بعض الأمثلة التي توضح هذه الأسرار وتجليها:
قال ابن الرومي يصور وعد رجل مخلاف بشجر الخلاف:
وأبى بعد ذلك بذل العطاء
بذل الوعد للأخاء سمحا
ـن ويأبى الإثمار كل الإباء [18]
فغدا كالخلاف يورق للعيـ(19/5)
مثل حال من يبذل الوعود السخية ثم لا يتبعها بالتنفيذ، بشجر الخلاف يورق الأوراق الكثيرة، ثم يأبى أن يجود بالثمر.
ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من حسن المنظر مع سوء المخبر)
قال ابن التلميذ:
تسعفه النفس وهو يعسفها
أشكو إلى الله صاحبا شكا
تكسبه النور وهو يكسفها [19]
فنحن كالشمس والهلال معا
مثل حاله يحسن إليه فيقابل إحسانه بالإساءة بحال الشمس مع الهلال تمده بالنور وهو يكسفها، ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من مقابلة الإحسان بالإساءة) .
قال الطغرائي:
لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل [20]
وإن علاني من دوني فلا عجب
مثل حاله وقد علاه من دونه في الفضل والمنزلة بحال الشمس مع زحل يعلوها وهي أسمى منه منزلة، وأرفع مكانة.
ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من شيء يعلوه شيء آخر أقل منه نفعا وأدنى مرتبة) .
وقال ابن لنكك:
رأيت صورته من أقبح الصور
إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجا
نفر منها إذا مالت إلى الضرر
وهبك كالشمس في حسن ألم ترنا
مثل حال الإنسان البهي الطلعة إذا قبح فعله، فنفر منه الناس وتجنبوه، بحال الشمس إذا اشتد حرها فنفر منها الناس وتقوها.
ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من الشيء الحسن إذا اقترن به الأذى والضرر) .
وقال عمر بن لجا التميمي في مدح آل المهلب بن أبي صفرة:
ما حازه عربي لا، ولا كادا
آل المهلب قوم خولوا شرفا
بما احتكمت من الدنيا لما حادا
لو قيل للمجد حد عنهم وخلهم
مثل المكارم تحل في آل المهلب لا تعدل عنهم بالأرواح تحل في الأجساد، لا غنى لها عنها. ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من حلول شيء في شيء لا غنى له عنه)
وقال النابغة من قصيدة له يعتذر فيها للنعمان بن المنذر:
إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
فإنك شمس والنجوم كواكب(19/6)
مثل حاله مع الملوك في تفوقه عليهم في القوة وسعة الملك والسلطان وتغطيته عليهم بحال الشمس مع الكواكب، وأنها إذا طلعت لا يبدو من الكواكب شيء لشدة ضيائها.
ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من التفوق الظاهر للشيء على غيره) .
قال أبو إسحاق الغزي:
ما لهذا المنحني الظهر ومالي
لست أنسى قول سلمى ذات يوم
وكسوف الشمس من قرب الهلال
أنا شمس في الضحى وهو هلال
فقد مثلت حالها مع هذا المنحني الظهر يسيء إليها إذا اقترب منها بحال الشمس مع الهلال إذا اقترب منها أصابها بالكسوف..
ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من شيء إذا اقترب من شيء آخر أساء إليه) .
قال مروان بن سليمان بن يحي بن أبى حفصة يهجو قوماً من رواة الشعر بأنهم لا يميزون جيده من رديئه على كثرة استكثارهم من روايته:
بجيدها إلا كعلم الأباعر
زوامل للأشعار لا علم عندهم
بأوساقه أرواح ما في الغرائر [21] .
لعمرك ما يدرى البعير إذا غدا
مثل رواة الشعر الذين يستكثرون من حفظه، ثم لا يميزون بين الجيد منه والرديء بالأباعر التي تحمل الأوثاق والغرائر غادية ورائحة، وهي لا تدري ما في داخلها.
ووجه الشبه هو (الهيئة الحاملة من تحمل التعب في استصحاب الشيء مع جهله) .
قال بعض الشعراء:
ولا ندري متى يرد الحمام [22]
يجد بنا الزمان ونحن نلهو
يمر بنا.. كما مر الغمام
ويخدعنا الهوى في ظل عيش
تسير بهم وهم فيها نيام
كركب سفينة في لج بحر
مثل حال الناس في الدنيا يخدعهم الهوى ويلهيهم الأمل، وتغرهم الدنيا بزخرفها ومتاعها، فيعيشون في غفلة، فلا يحسون بالأيام وهي تسرع بهم إلى نهايتهم التي يجهلونها بحال أناس ركبوا سفينة، ثم ناموا فهي تسير بهم وهم لا يحسون بها.
ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من الغفلة وعدم الإحساس والجهل بالنهاية) .(19/7)
قال التهامي:
سيل طغى فطغى على النوار [23]
والصبح قد عمر النجوم كأنه
مثل هيئة الصبح وقد غطى النجوم بضيائه بهيئة سيل طغى على أزهار بيضاء فسترها وغطاها.
ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من شيء يغطي شيئا آخر ويستره) ..
قال عبد المطلب مفتخرا:
كالنوم ليس مأوى سوى المقل
لا ينزل المجد إلا في منازلنا
مثل المجد يحل في منازل قومه، لا يعدل عنها بالنوم يحل في المقل لا غنى له عنها. ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من حلول شيء في شيء لا غنى له عنه) .
قال الشاعر:
فالطير يرقص مذبوحا من الألم
لا تحسبوا أن رقصي بينكم طربا
مثل حاله يظهر السرور ويخفي الألم بحال الطير المذبوح يرقص من شدة الألم.
ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من الشيء يخالف ظاهره باطنه)
قال الشاعر:
ولا يمنع الأسلاب منكم مقاتل
رأيتكم تبدون للحرب عدة
ولا يمنع الخراف ما هو حامل [24]
فأنتم كمثل النخل يشرع شوكه
مثل حالهم وقد أعدوا العدة للحرب، ولم يمنعوا العدو من السلب بحال النخل تشرع شوكها ولا تمنع الخراف من جني ثمارها.
ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من الشيء يملك وسائل الدفاع، ولا يستعملها) .
قال الحسن بن هانئ:
له عن عدو في ثياب صديق
إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت
مثل حال الدنيا تغر وتخدع بزينتها، وتؤلم وتفجع بفعلها بحال عدو يرتدي ثياب صديق فيظهر المودة ويضمر السوء.
ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من الشيء يخالف ظاهره باطنه..) .
قال ابن طبا طبا:
نجاة من البأساء بعد وقوع
كأن انتضاء البدر من تحت غيمه
مثل هيئة البدر وهو يخرج من تحت الغيم بهيئة إنسان يخرج من شدة وقع فيها.
ووجه الشبه هو (الهيئة الحاصلة من الخروج من حالة سيئة إلى حالة حسنة) .(19/8)
إذا أمعنا النظر في التشبيهات التمثيلية التي مضت نجدها قد رفعت الأستار عن الحقائق فأرتنا المتوهم متيقنا والمتخيل متحققا، وألبست المعنوي ثوب المحسوس، وأبرزت المعقولات في صدور مجسمة، فقربتها من العقول، وجعلتها مشاهدة ملموسة، ليست موضع شك ولا ارتياب، وقد كشفت عن ملامح الخبيئات، وعبرت بكلمات قليلات عما لا يمكن التعبير عنه إلا بآلاف الكلمات، وصورت فأجادت وأبدعت، وأكسبت المعاني النبل والشرف، وفعلت في النفوس فعل السحر.
مع التمثيل في القرآن الكريم
لقد تعرضنا فيما سبق لبعض صور التمثيل في الشعر، ووضحنا ما تنطوي عليه من اللطائف والأسرا ر.
ولكننا إذا جئنا إلى التمثيل في القرآن وجدنا أسلوبا فوق طاقة البشر، ووجدنا تصويرا فنياً عجيباً يعجز عن إدراك شأوه أساطين البيان، وتسجد له البلاغة في أسمى معانيها، وإنما كان التمثيل بهذه المثابة وتلك المنزلة لاشتماله على خصائص فنية لا توجد في غيره.
خصائص التمثيل في القرآن:
من هذه الخصائص الفنية:
1- تماسك الصور التمثيلية في القرآن تماسكاً شديداً يجعلها بحيث لو حاولنا فصل أحد الأجزاء لا نفرط عقد الصورة، وانتثرت معالم الجمال فيها، ومن هنا نرى القوة البيانية متمثلة في إعطاء الفكرة عن طريق الصورة التمثيلية مركبة الأجزاء، والعجيب في ذلك أن التمثيل نفسه لم يأت عبثاً، ولكننا نراه يجيء عقب فكرة يراد توضيحها، وتمكينها في ذهن السامع، هذا لما نعلمه من أن الحجة لا تقام إلا بعد طرح الدعوى وبسط الفكرة.
تأمل قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [25] .
فقد يتوهم أن المعنى يفهم لو اقتصر في التشبيه على قوله: مثلهم كمثل الحمار الذي لا يعقل.(19/9)
ولكن الصورة تزداد قوة والتصاقاً حين يقرن بقية أجزائها إليها من حمل الأسفار، وعدم الفقه بما فيها، واعتقاد أنها كبقية الأحمال التي تثقل الكاهل وتجهد القوي، وذلك في جميع أبعاده يطابق حال اليهود وقد منحوا التوراة لتكون لهم نبعا يستقون منه الحكمة والهداية، ولكنهم يحملونها بإثقال سواعدهم بها دون أن يتدبروها، كأن على قلوبهم الأقفال [26] ..
فتمام الصورة لا يحصل إلا بتجميع كل هذه الأجزاء، وإلصاق كل تلك القيود ومن هنا تبرز الصورة قوية التعبير صادقة الأداء.
وتأمل قوله تعالى: في تصوير نفرة الكفار من الدعوة الإسلامية:
{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [27]
فقد يظن أيضا قصير النظر أنه كان يمكن الاكتفاء في تصوير حالتهم بوصفهم بالحمر، ولكن المراد غير ذلك، فالمشركون لا يريدون إعمال عقولهم في خلق السماوات والأرض ليهتدوا إلى الخالق، وهم - في الوقت نفسه - لا يستجيبون إلى الداعي، بل كلما عرض عليهم من دعوته ابتعدوا عنه مسرعين، وكأن في أعماقهم شيئا يحثهم على الهرب منه والابتعاد الخاطف من طريق دعوته.
هذه الحالة لا تكفي لها حالة الحمر، وإنما تقتضي كون هذه الحمر مستنفرة مدفوعة- من نفسها أو من غيرها- إلى العدو الجبان، ثم تزداد الصورة وضوحاً، وتمكنا من النفس عندما يلحق بها جزئية الفرار من أسد هصور يطلبها طعاما لأنيابه ومخالبه، فنجدها تتفرق في كل مكان هائمة على وجهها، والخوف الشديد يملأ صدورها.. فهذا أبلغ تصوير لإعراض الكافرين عن الدعوة، وهو في الوقت نفسه بعث للنفس العاقلة على السخرية منهم [28] .
2- انتقاء ألفاظ التمثيل في القرآن، واختيارها اختياراً مناسباً للمعنى، معطياً كل ما يتطلبه المقام ومن هنا كان التمثيل في القرآن موحياً مشعاً لا يكاد ينقر حبات القلوب حتى يؤثر فيها بطريقة فنية ونفسية عجيبة.(19/10)
أنظر إلى القرآن العظيم حينما يستخدم أسلوب التمثيل في تصوير فناء هذا العالم، ودمار تلك الحياة التي يظن أصحابها أنها باقية خالدة لا شيء بعدها.
{إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأََمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [29] .
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} [30] .
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} [31] .
فهذه آيات ثلاث ترمي إلى هدف واحد، وهو عدم الثقة في الحياة الدنيا إلى حد اعتبارها خالدة، وأنه لا حياة بعدها، ولكن الأسلوب تجده قد اختلف بعضه عن بعض في درجات متفاوتة ولكنها تمثل جميعاً قمة التعبير الأدبي عن هذا المعنى الخالد.
يقول الدكتور أحمد بدوي عن بلاغة هذه الآيات الثلاث: [32] .(19/11)
"ولجأ القرآن إلى التشبيه يصور به فناء هذا العالم الذي نراه مزدهراً أمامنا عامراً بألوان الجمال، فيخيل إلينا استمراره وخلوده، فيجد القرآن في الزرع يرتوي من الماء، فيصبح بهيجاً نضراً يعجب رائيه، ولكنه لا يلبث أن يذبل ويصفر، ويصبح هشيماًَ تذروه الرياح - يجد القرآن في ذلك شبهاً لهذه الحياة، ولقد أوجز القرآن مرة في هذا التشبيه، وأطنب أخرى ليستقر معناه في النفس، ويحدث أثره في القلب فقال مرة: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً..} وقال مرة أخرى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} وقال مرة ثالثة: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .(19/12)