وقد جاءت هذه الآية وما قبلها وما بعدها في سورة البقرة إقراراً للمنهج الإلهي في تعهد الأمة المسلمة بالتربية والرعاية والتوجيه، فقد ذكر لنا ربنا قبل هذه الآية صفات الإنسان البار ونادى الأمة المؤمنة ففرض عليها القصاص في القتلى، وبين لها بعض أحكام الوصية وأحكام الصيام، كما نهى عن أكل أموال الناس بالباطل، وبين أن الأهلة مواقيت للناس والحج، كما دعا إلى الجهاد في سبيل الله وأمرنا أن نقاتل المشركين حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله، ووضع الركيزة القوية للجهاد في سبيل الله حين أمر بالإنفاق وحث عليه، فإن إعداد المجاهدين ليس بالأمر السهل ولا الهين إنما يحتاج إلى البذل والتضحية والعطاء. يحتاج إلى المال الوفير، وإذا شح الناس بأموالهم هلكت الأمة وتعرضت للدمار، ولهذا قال: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ..
فالإحسان مطلب أهل الإيمان، إنهم يبذلون غاية وسعهم لتأتي هذه الأحكام التي أمرهم الله بها على خير ما يحب ربهم ويرضى، إنهم يجعلون من إحسانهم في أداء عملهم وسيلة ينالون به رضا مولاهم الذي أخبرهم بأنه يحب المحسنين. وعلى طريق هذا الإحسان يأمرهم الإله الكريم العظيم ويوضح لهم ما يجب عليهم أن يلتزموا به إذا ما أرادوا الحج والعمرة، ويبين لهم بعض أحكام الحج ومعاييره فيقول: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ..} الآيات..
فلنتابع هذه الأحكام وتلك المعايير كما نطق بها الوحي الإلهي وأوضحتها ألفاظ القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة المشرفة.
1- وأتموا الحج والعمرة لله..
بدأت هذه الأحكام بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ..} فما هو المقصود بإتمام الحج والعمرة؟ وما معنى أن يكون هذا الإتمام لله..؟؟(16/31)
إن الأمر لا يرد بإتمام شيء إلا إذا كان قد بدىء فيه، ولهذا اتفق العلماء على وجوب إتمام مناسك الحج والعمرة إذا ما أحرم بها المسلم. بدليل قوله بعد هذا الأمر {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ..
يقول ابن عباس:"من أحرم بحج أو بعمرة فليس له أن يحل حتى يتمهما: تمام الحج يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة وطاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حل "وعنه أيضاً أنه قال:"الحج عرفة " [1] .
أما قبل الشروع فيها فليس في الآية دليل على وجوب الحج والعمرة، فإذا ما أردنا أن نعرف حكم كل منهما فعلينا أن نبحث عن أدلة أخرى ليتضح لنا أن الحج ركن من أركان الإسلام، وأن العمرة واجبة، وأن وجوب الحج ليس موضع خلاف، إنما موضع الخلاف هو العمرة: هل هي واجبة أو مندوبة؟
وقد قال بالوجوب جمع من الصحابة والتابعين منهم: علي وابن عباس وابن عمر وعائشة وزين العابدين وطاووس والحسن البصري وابن سيرين، وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء، وهو المشهور عن الشافعي وأحمد، وحجتهم في هذا حديث أبي رزين العقيلى أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن (أي السفر) فقال: "حج عن أبيك واعتمر" [2] .
وفي هذا يقول الإمام أحمد:"لا أعلم في إيجاب العمرة حديثاً أجود من هذا ولا أصح منه ".
ومن أدلتهم على الوجوب أيضاً حديث عائشة رضي الله عنها قالت:"قلت يا رسول الله: هل على النساء من جهاد؟؟ قال: "نعم، عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة ... " [3] .
أما من قال بأنها سنة مؤكدة تؤدى مرة واحدة في العمر: فهم الحنفية والمالكية، وحجتهم في هذا اقتصاره صلى الله عليه وسلم على الحج في بيانه لأركان الإسلام الخمس، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فقد اقتصر على الحج أيضاً ولم يذكر العمرة.(16/32)
يقول الإمام الشوكاني بعد أن ساق كثيراً من أدلة الفريقين:"والحق عدم وجوب العمرة لأن البراءة الأصلية لا ينتقل عنها إلا بدليل يثبت به التكليف ولا دليل يصلح لذلك، لا سيما مع اعتضادها بما تقدم من الأحاديث القاضية بعدم الوجوب ". [4]
وإذا كان معنى إتمام الحج والعمرة إتمام أفعالها بعد الشروع فيهما، فما معنى أن يكون هذا الإتمام لله؟ ؟ .
إن هذا تأصيل لقاعدة إسلامية تنبني عليها حياة الإنسان المسلم، تلك القاعدة هي الإخلاص لله في السر والعلن، وطلب مرضاته في كل قول وفعل، وفي كل حركة وسكون، وتفسيراً لهذا الإخلاص في أداء الحج والعمرة نجد كثيراً من عبارات أئمة السلف منها قول مقاتل:"إتمامهما ألا يستحلوا فيهما مالا ينبغي"ومنها قول بعض أهل العلم:"إتمامهما: إنفاق الحلال الطيب في سفرهما"ومنها ما روي عن علي وابن عباس وسعيد بن جبير وطاووس أنهم قالوا:"إتمامهما أن تحرم من دويرة أهلك"، وقريباً من هذا ما روي عن سفيان الثوري أنه قال:"إتمامهما أن تحرم من أهلك لا تريد إلا الحج والعمرة، وتهل من الميقات، ليس أن تخرج لتجارة ولا لحاجة حتى إذا كنت قريباً من مكة قلت: لو حججت أو اعتمرت".
يقول ابن كثير عليه رحمة الله:"وذلك يجزي ولكن التمام أن تخرج له لا تخرج لغيره" [5] .(16/33)
وكان عمر- رضي الله عنه- ينهى عن الاعتمار في أشهر الحج ويرى أن هذا من تمامهما، وذلك ليكثر الوافدون لبيت الله الحرام على امتداد العام، وهذا ما روي عن القاسم بن محمد، وقتادة، فهما يقولان:"إن العمرة في أشهر الحج ليست بتامة ولكن هذا مردود بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد اعتمر أربع عمر كلها في ذي القعدة: عمرة بالحدييبة في ذي القعدة سنة ست، وعمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع، وعمرة الجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان، وعمرته التي مع حجته أحرم بهما معاً في ذي القعدة سنة عشر، وما اعتمر في غير ذلك بعد هجرته، ولكن قال لأم هانىء:"عمرة في رمضان تعدل حجة معي ". وما ذاك إلا لأنها قد عزمت على الحج معه- عليه السلام- فعوقت عن ذلك بسبب الطهر كما هو مبسوط في الحديث عند البخاري.
2- {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} :
هذا هو الحكم الثاني في الآية وهو الإحصار.. فما هو الإحصار؟ وماذا يفعل المحصر؟؟.
الإحصار هو: المنع، فهل كل ما يمنع الوصول لمكة يوجب الفداء والقضاء؟ وهل يمكن أن نقول: إن من تمكن من الوصول وأدى بعض المناسك ومنع من البعض يعتبر محصراً؟ وماذا سمى الفقهاء من يدرك وقت الوقوف بعرفة: سواء كان ذلك بعذر أم بغير عذر؟ وماذا يفعل هذا وذاك؟؟.
يرى الحنفية أن الحصر يتحقق بالمنع من الوصول إلى مكة بعد الإحرام: بعدو أو مرض أو غيرهما، ودليلهم في هذا قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} فقد قالوا:"هناك فرق بين الإحصار والحصر. الإحصار يكون بالمرض ونحوه والحصر يكون بالعدو والذي في الآية هو الإحصار، وإنما يدخل فيه حصر العدو لأن العذر بالعدو في المنع أقوى "، وما رآه الحنفية هو الموافق لما قال أهل اللغة، فقد قال ابن العربي:"هذا رأي أكثر أهل اللغة "، وقال الزجاج:"إنه كذلك عند جميع أهل اللغة "، وقال أبو جعفر النحاس:"على ذلك جميع أهل اللغة ".(16/34)
ويؤيد الحنفية في ذلك ما أخرجه أصحاب السنن الأربعة بأسانيد صحيحة عن عكرمة قال سمعت الحجاج بن عمرو الأنصاري يقول:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل" قال عكرمة سألت ابن عباس وأبا هريرة فقالا:"صدق ".
ويرى الشافية وأهل المدينة:"أن المراد بالحصر في الآية هو المنع بالعدو، بدليل قوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} والأمن يكون من العدو، أما الأمن من المرض ونحو فبعيد، كما أن الآية نزلت عام ست في الحديبية حين منع المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من دخول مكة لأداء العمرة، فيكون الحصر بالعدو هو المقصود لا غير ولا يلحق به غيره ".
وفي هذا يقول ابن عباس:" لا حصر إلا حصر العدو، فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلال فليس عليه شيء، إنما قال تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} فليس الأمر حصراً [6] .
وإنما يتحقق الإحصار بالمنع من الوقوف بعرفة والطواف، وهذا عند الحنفية، وأما عند الشافعية فيتحقق بالمنع بالعدو من الوقوف أو الوقوف أو الطواف أو السعي.
وإذا كان هذا هو الإحصار فإن هناك الفوات أيضاً، وهو قريب من الإحصار وذلك بأن يطلع فجر يوم النحر ولم يقف المحرم بعرفة سواء كان ذلك بعذر أو بغير عذر، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الحج عرفة " [7] .
فمن لم يحضر وقت الوقوف فاته الحج.
فماذا يفعل المحصر؟ وماذا يفعل من فاته الوقوف بعرفة؟؟(16/35)
أما بالنسبة للمحصر فقد قال تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} أي فما تيسر من الهدي، فعليه أن يذبح شاة في موضع إحصاره كما قال الشافعية أو يبعثها للحرم لتذبح عنده أو يبعث بثمنها لتشترى به ثم تذبح هناك كما قال الحنفية، على ألا يتحلل إلا بعد مرور وقت كاف يمكن للهدي أن يصل فيه للحرم ويذبح، تحقيقاً لقوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} .
وبذبح الهدي يتحلل من إحرامه. وقال الشافعية: لا يتحلل إلا بعد الذبح والحلق أو التقصير، بدليل فعله صلى الله عليه وسلم لذلك يوم الحديبية، وبفعله اقتدى أصحابه رضي الله عنهم.
وإذا كان المحصر قد تحلل من إحرام واجب وجب عليه القضاء، ومن فاته الوقوف بعرفة: عليه أن يتحلل بعمرة بأن يطوف ويسعى ثم يحلق أو يقصر وعليه الحج من قابل، أما النفل فعند الأئمة الأربعة يجب عليه القضاء لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ..} وذلك عام في الحج والعمرة: فرضاً أو نفلاً، وفي رواية عن مالك وأحمد أن النفل لا قضاء فيه.
ومع التحلل بالعمرة والقضاء: هل يجب عليه هدي؟ ؟ عند الحنفية: لا هدي عليه، وعند الأئمة الثلاثة: يجب عليه هدي يذبحه في حج القضاء وذلك لما رواه مالك في موطئه بسند صحيح أن أبا أيوب الأنصاري خرج حاجاً حتى إذا كان بالنازية من طريق مكة أضل رواحله وأنه قدم على عمر بن الخطاب يوم النحر فذكر ذلك له فقال عمر:"اصنع كما يصنع المعتمر ثم قد حللت، فإذا أدركك الحج قابلاً فاحجج واهد ما استيسر من الهدي ".
3- {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}
وهذا هو الحكم الثالث في الآية، فما صلته بالحكمين السابقين؟ ؟ هل هو تابع لقوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ؟ أو لقوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ؟ ؟(16/36)
جمهور العلماء يرى أن هذا النهي تابع لقوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ، لا لقوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} لأن المحصر يذبح هديه في موضع الإحصار ولا يجب عليه أن يبعث بهدية إلى الحرم، هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أحصر في الحديبية.
وقد رأى الحنفية - كما سبق أن بينا - أن المحصر يجب عليه أن يبعث شاة تذبح عنه في الحرم، أو يبعث بثمنها لتشترى به ثم تذبح هناك، ولا يتحلل إلا بعد أن يمضي وقت يتمكن فيه من يأخذ الشاة أو يشتريها من الوصول للحرم وذبحها عنده.
وقد أجاب الحنفية على نحره - صلى الله عليه وسلم- في الحديبية بأن طرق الحديبية من الحرم فالرسول- صلى الله عليه وسلم – ذبح الهدي في الحرم.
وأما من قال: إن هذا النهي تابع لقوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فقد رأى أن الحلق يأتي بعد إتمام أفعال الحج والعمرة لمن كان قارناً، أو بعد الفراغ من أحدهما لمن كان مفرداً أو متمتعاً، فقد ثبت في الصحيحين عن حفصة أنها قالت:"يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟. فقال: "إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر ".
ومحل نحر الهدي كما قال تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وعلى هذا نستطيع أن نفهم حكم الترتيب بين الحلق والذبح، ومن الواضح أن هذا الترتيب واجب ويؤيده فعله صلى الله عليه وسلم وقد قال: "خذوا عني مناسككم" كما يؤيده قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [8] .(16/37)
فقضاء التفث هو إزالة الشعر وقد جاء بعد الذبح فدل على وجوب الترتيب وهذا رأي الحنفية فمن قدم الحلق على الذبح وجب عليه دم تأخير. وقد ذهب الشافعي وصاحبا أبي حنيفة إلى أن هذا الترتيب سنة، ومن ترك السنة فقد أساء ولكن ليس عليه فداء ودليلهم في هذا ما روي عن عبد الله بن عمرو قال:"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل يوم النحر وهو واقف عند الجمرة فقال: يا رسول الله حلقت قبل أن أرمي قال: "ارم ولا حرج"، وأتاه آخر فقال إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي فقال: "ارم ولا حرج "، وقال في رواية عنه "أنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم النحر فقام إليه رجل فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا ثم قام آخر فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا: حلقت قبل أن أنحر، نحرت قبل أن أرمى وأشباه ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "افعل ولا حرج.. "لهن كلهن، فما سئل يومئذ عن شيء إلا قال: "افعل ولا حرج " [9] وعن ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال:"لا حرج ". [10] .
وهذا أيضاً رأي المالكية فقد رأوا أن الترتيب بين الحلق والذبح غير واجب فلو فعل واحداً منهما قبل الآخر جاز وليس عليه شيء، وبالحلق يحصل التحلل الأول فيحل له ما كان محظوراً عليه إلا الجماع فإنه لا يجوز له إلا بعد طواف الإفاضة، وبه يتحلل التحلل الثاني.
4- {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} هذا حكم من حلق رأسه بعد إحرامه وقبل أن يأتي الوقت المعلوم لإزالة شعره، وهو في هذه الحالة عليه فدية يخير فيها بين أمور ثلاثة: صيام ثلاثة أيام، أو الصدقة بثلاثة آصع لستة مساكين، أو النسك: بشاة.(16/38)
وفي هذا حديث البخاري بسنده إلى كعب بن عجرة إذ قال لمن سأله عن الفدية من صيام:"حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي فقال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا، ما تجد شاة، قلت: لا، قال: "صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك.."
يقول كعب:"فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة ".
وهذا الفدية لمن كان مريضاً مرضاً يضطره إلى حلق رأسه أو من كان برأسه أذى كما رأينا من حال كعب بن عجرة، أما العامد الذي لا عذر له، وأما المعذور بغير المرض والأذى كالناسي والجاهل بالحكم والمكره، فقد اختلفت فيه أقوال الأئمة:
فالحنفية: يرون أن الواجب على هؤلاء الدم عينا أو الصدقة عيناً على حسب جنايتهم إلا أنهم قالوا بسقوط الإثم عن المعذور بغير المرض والأذى، وإن وجب عليه الفداء والأئمة الثلاثة: جعلوا العامد كالمعذور: مخيراً بين الأمور الثلاثة، أما المعذور بغير المرض والأذى: فعليه الفداء: مخيراً عند المالكية، وعليه الفداء مخيراً عند الشافعية والحنابلة، إن كانت الجناية فيها إتلاف كالحلق والتقصير وتقليم الأظافر، وليس عليه شيء فيما ليس فيه إتلاف كاللبس وتغطية الرأس والطيب.
وهذه الفقرة من الآية هي القاعدة التي بنى عليها الأئمة آراءهم فيما يجب على المحرم من الفداء إذا ما لبس شيئا ًغير ملابس الإحرام أو غطى رأسه أو حلقها أو قصرها أو قلم أظافره، أو تطيب أو دهن فخالف بذلك ما يجب عليه حال الإحرام.
وتفصيل القول في هذا مرجعه إلى كتب الفقه [11] ، وحسبنا هذا القدر في بيان معنى قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} . وإن كان قد بقي علينا أن نعرف المكان الذي يؤدى فيه الفداء؟ ؟.(16/39)
ويقول الشوكاني في ذلك:" اختلفوا في مكان هذا الفدية: فقال عطاء: ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام أو صيام فحيث شاء، وبه قال أصحاب الرأي. وقال طاووس والشافعي: الإطعام والدم لا يكونان إلا بمكة، والصوم حيث شاء. وقال مالك ومجاهد: حيث شاء في الجميع. وهو الحق لعدم الدليل على تعيين المكان [12] "
5- التمتع والقران
قال تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ..} .
حين نقرأ قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} نتساءل: مم يكون الأمن؟ هل هو الأمن من العدو خاصة، أو منه ومن غيره كالمرض ونحوه؟؟
المتبادر من سياق الآية ومن معنى الأمن أن الأمن لا يكون إلا من العدو خاصة وهذا ما يؤيد رأى الشافعية وأهل المدينة الذين قالوا:"إن الإحصار لا يكون إلا من العدو، أما المرض وغيره فالمنع به لا يسمى إحصاراً ".(16/40)
وبعد الأمان وزوال الخوف، على المحرم أن يتم نسكه.. فما هي الصورة التي أحرم بها؟ هل أحرم بالحج فقط (وهذا هو الإفراد) أو أحرم بالحج والعمرة معا (وهذا هو القران) أو أحرم بالعمرة في أشهر الحج، وبعد أن طاف وسعى حلق وتحلل، وانتظر إلى يوم التروية في مكة (وهو اليوم الثامن من ذي الحجة) فأحرم بالحج (وهذا هو التمتع) وهو التمتع الخاص، والمشهور من كلام الفقهاء. والقران هو التمتع العام، لأن المحرم استفاد عمرة مع حج في سفرة واحدة، كما أن من أحرم بالعمرة فأداها وتحلل بما كان محظوراً عليه أثناء إحرامه، ولما جاء يوم التروية أحرم بالحج فاستفاد- أيضاً- حجاً وعمرة، ولذلك لا يحج على المفرد هدى. إنما يجب الهدى على القارن والمتمتع بأن يذبح كل منهما ما استيسر من الهدى وأقله شاة، وله أن يذبح البقر لأن النبي صلى الله عليه وسلم- ذبح عن نسائه البقر وكن متمتعات [13] ووقت ذبحه يوم النحر بمنى وقبل الحلق [14] .
فإذا لم يجد الهدى. إما لعدم المال أو لعدم الحيوان فيصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله فمتى يصوم هذه الأيام الثلاثة؟ وإلام يكون الرجوع؟ هل هو رجوع إلى رحله وأمتعته؟ أو رجوع إلى أهله ودياره؟؟.
قال العلماء:"الأولى أن يصوم الأيام الثلاثة قبل يوم عرفة في العشر "، وقال ابن عباس:"يجوز له أن يصومها من حين إحرامه "، والأفضل كما رأى جلة من الصحابة منهم ابن عباس وابن عمر وعلي- " أن يصوم يوماً قبل يوم التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة أما يوم العيد فلا يجوز صيامه، وذلك لما ورد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:"أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صيام يومين. يوم الفطر، ويوم النحر " [15] ،كذلك أيام التشريق لا يجوز صيامها، لما رواه مسلم عن نبيشة الهذلى رضي الله عنه قال:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله ".(16/41)
ومن فاته الصيام قبل العيد تحلل ووجب عليه دمان: دم التمتع، ودم التحلل قبل نحر الهدى عند الحنفية ولا يلزمه سوى قضاء صومها عند الشافعية.
وإذا كان قد صام الأيام الثلاثة فقد بقى عليه صيام سبعة أيام، فمتى يصومها؟ يقول الله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} فلم يذكر إلى أي شيء يكون الرجوع هل هو رجوع إلى الرحال، أو رجوع إلى الأهل والديار والأوطان؟؟
بالأول: قال مجاهد وعطاء، وبالثاني قال جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم حتى حكى ابن جرير الإجماع على ذلك، ويؤيدهم في هذا ما رواه البخاري بسنده عن عبد الله ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للناس حين قدم مكة في حجة الوداع:"من كان منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحل ثم ليهل بالحج، فمن لم يجد هديا ليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله".
وبصيام الثلاثة والسبعة تكمل العشرة، ولذلك قال: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} وهذا من باب التأكيد كما تقول:"كتبت بيدي، وسمعت بأذني، وكما قال تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [16] ..وكما قال: {وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [17] .."
وقال الزجاج: إنما قال سبحانه: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} مع أن كل أحد يعلم أن الثلاثة والسبعة عشرة: لدفع أن يتوهم متوهم التخيير بين الثلاثة الأيام في الحج والسبعة إذا رجع.
وقال المبرد:"ذكر ذلك ليدل على انقضاء العدد لئلا يتوهم متوهم أنه قد بقى منه شيء بعد ذكر السبعة [18] "..
وهذا التمتع وما فيه لغير أهل الحرم أما أهل الحرم فلا تمتع لهم. قال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} .
يقول ابن عباس:"يا أهل مكة لا متعة لكم، أحلت لأهل الآفاق وحرمت عليكم إنما يقطع أحدكم وادياً، أو قال: يجعل بينه وبين الحرم وادياً ثم يهل بعمرة [19] .."(16/42)
وقد اتفق العلماء على أن أهل الحرم لا متعة لهم، ولكن هذا خص بأهل الحرم أو يلحق بهم من في حكمهم؟ كمن هم دون المواقيت؟ كما قال عطاء ومكحول أو من كان من الحرم على مسافة لا يقصر فيها الصلاة؟ كما قال الشافعية. لكل وجهة [20] وختاماً لهذه الآية يقول سبحانه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
وتقوى الله والخوف منه لهما هنا أهميتهما: إذ لا تؤدى أعمال الحج على وجه التمام والكمال إلا إذا قام بها المؤمن منبعثاً من إيمان عظيم بالله، وما له من صفات الجلال. والكمال وأي سلطة، وأي قوة في الأرض غير سلطان الله وقوته لا يمكن لها أن تدفع الإنسان إلى أداء تلك الأعمال في إخلاص وحب مهما أوتيت هذه السلطة وتلك القوة من مال وجاه وسلاح.
ومن لا يتقى الله ولا يخشاه؟ ومن يجرؤ على مخلفة أمر مولاه؟ إن الذي لا يتقى ربه ولا يخشاه والذي يتعدى حدود خالقه ومولاه: جاهل، غافل أحمق، وعليه أن يتبصر مواضع أقدامه قبل أن يخطو خطوة واحدة في طريق معصية الله، وعليه أن يعرف قدر الإله الذي سيقدم عليه لا محالة. لابد أن يعلم هذه الحقيقة قبل أن يخالف أوامر ربه، ولهذا قال سبحانه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ..} ومن ذا الذي يطبق هذا العقاب؟ ومن ذا الذي لا يحسب له ألف حساب، إلا إذا كان من الغافلين، وهل تغنى الغفلة عن أهلها في مواقف الندامة والحسرات؟ وهل ينفع هؤلاء يوم اللقاء ما يسكبون من العبرات؟ ؟
نعوذ بالله من قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع ومن بطن لا يشبع ومن دعاء لا يستجاب.. ونسأله عز وجل أن يجنبنا العثرات وأن يكشف عن أمتنا الكربات وأن يهدينا سواء السبيل.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] تفسير ابن كثير جـ1 ص 230.
[2] رواه الخمسة وصححه الترمذي.(16/43)
[3] رواه أحمد وابن ماجة وإسناده صحيح.
[4] نيل الأوطار جـ 4 ص 314 ط مصطفى اليابي الحلبي بمصر- المطبعة الأخيرة سنة 1971م
بل الحق مع القائلين بوجوب العمرة لحديث أبي رزين العقيلى المذكور في صلب المقال وحديث عائشة رضي الله عنها وقد علمت ما قال الإمام أحمد في حديث رزين من أنه أجود وأصح ما رأى في وجوب العمرة. أما الاحتجاج باقتصار النبي صلى الله عليه وسلم على ذكر الحج في بيان أركان الإسلام فلا ينفي وجوب العمرة بل يقال إنها واجبة وليست ركناً من أركان الإسلام. والواجبات في الإسلام كثيرة وليس من أركانه إذ لا تلازم بين الركنية والوجوب.. (المجلة) .
[5] انظر تفسير ابن كثير جـ 1 ص 230.
[6] تفسير ابن كثير جـ 1 ص 231.
[7] رواه البخاري.
[8] سورة الحج 22-23.
[9] متفق عليه.
[10] متفق عليه.
الصحيح في هذه المسألة أن الترتيب بين أعمال يوم النحر هو الأفضل بأن يرمى ثم يذبح ثم يحلق ثم يطوف طواف الإفاضة تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم وأما من قدم ومن أخر وخرج عن هذا الترتيب لظروف ما كنسيان مثلاً أو عدم معرفة أو أي عذر آخر فلا حرج عليه عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم في جواب من سألوه عن التقديم والتأخير "أفعل ولا حرج ".. (المجلة) .
[11] بل المرجع الصحيح في تفصيل ما أجمل في القرآن هو السنة النبوية لأنها هي المفسرة للقرآن المفصلة لما أجمل فيه (المجلة) ..
[12] فتح القدير جـ1 ص 196 ط الثانية 1964م مصطفى البابي الحلبي - مصر
[13] المقصود أن البقرة عن سبعة أشخاص لأنها نوع من البدن.. (المجلة)
[14] إذا راعى الترتيب تأسياً بالرسول صلى الله عليه وسلم وهو الأفضل (المجلة)
[15] متفق عليه.
[16] سورة الأنعام 6/38.
[17] سورة العنكبوت 29/48.
[18] فتح القدير للشوكاني جـ1 ص 197.
[19] تفسير ابن كثير حـ1 ص 235.(16/44)
[20] الذي يفهم من ظاهر الآية أن غير أهل الحرم لا يدخل تحت هذا الحكم ولو كان قريباً من الحرم- حتى يثبت دليل بذلك (المجلة) .(16/45)
الذبائح في مناسك الحج مصادرها ومصارفها
للدكتور أحمد علي طه ريان
من أعظم النعم التي تفضل الله بها خلقه - ونعمه تعالى عليهم لا تحصى- توفيقه إياهم لفعل الخيرات- بلا سابقة إحسان منهم إليه بل بمحض منه وكرمه ثم قبول تلك الخيرات منهم - من غير حاجة إليها -، بل ليثيبهم عليها بعدله ورحمته، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف أو يزيد {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [1] .
ومن أجل تلك النعم وأبعدها أثراً في حياة المجتمع المسلم- والتي يجب أن تذكر فتشكر- جعله تعالى المال- وهو العرض الزائل- وسيلة من أهم الوسائل التي يتقرب بها إليه، ويتوصل بها إلى محبته ورضاه، قال تعالى: {لن لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [2] .. الآية.
كما أنه إلى جانب ذلك: يعتبر من الروابط القوية والدعامات الراسخة التي تصلح لقيام المجتمع المسلم المتكافل المتراحم الذي يسع غنيه فقيره، من غير شعور بالمنة أو رغبة في الاستعلاء، لأن ما يدفعه إليه حق ثابت مقدر في ماله قال تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [3] .
ومن أهم عناصر التكافل الاجتماعي بين المسلمين: ما شرعه الله سبحانه وتعالى من النسك في موسم الحج، حيث أوجب على طوائف من الحجيج، تقديم أنواع من النعم: إبلاً أو بقراً أو غنماً- لأسباب متعددة: نذكر أهمها مع أدلتها من الكتاب والسنة فيما يلي:
1- التمتع بالعمرة إلى الحج، وذلك بأن يقصد العمرة ثم بعد أن يتحلل منها يحرم بالحج بحيث تقع كل من العمرة والحج في أشهر الحج. قال تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي} [4] .(16/46)
2- القران: بأن يجمع بين الحج والعمرة في إحرام واحد أو يدخل الحج على العمرة قبل إتمامها. وذلك لما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فسمعته يقول:"لبيك عمرة وحجة ".
قال السندي في حاشيته على سنن ابن ماجه: عقب ذكر الحديث السابق: "هذا من أقوى الأدلة على أنه صلى الله عليه وسلم كان قارناً.. وهو ما عليه المحققون من العلماء " [5] .
ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم ساق معه في حجة الوداع مائة بدنة نحر منها ثلاثاً وستين بيده الشريفة ووكل عليّاً في نحر باقيها [6] .
3- الاحصار وهو عدم التمكن من إتمام ما قصده المسلم من حج أو عمرة بسبب تربص عدو، أو مرض ألم به أو غير ذلك: قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي} الآية [7] .
4- أن يصاب الحجج بمرض أو أذى برأسه فيضطر إلى لبس المخيط أو حلق شعره مما ينافي مع الإحرام.. فإن ذلك يوجب عليه الفدية قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُك} [8] .
5- قتل المحرم لشيء من الحيوانات والطيور البرية.. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} [9] .(16/47)
وسيتثنى من ذلك ما ورد الترخيص بقتله في الحل والحرم فقد روى عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحل والحرم: الحدأة والغراب والفأرة والعقرب والكلب العقور" وفي رواية "الكلب الأسود" [10] .
كما يستثنى أيضاً قتل الحية إذ ورد الترخيص بقتلها في الحديث الصحيح [11] . فمن قتل شيئاً مما وردت الرخصة بقتله فلا جزاء عليه.
6- إفساد الحج أو العمرة بحدوث مناف لهما قبل إتمام أركانهما، جاء في الموطأ عن مالك رحمه الله، أنه بلغه "أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبا هريرة رضي الله تعالى عنهم، سألوا عن رجل أصاب أهله وهو محرم بالحج: فقالوا: ينقذان يمضيان لوجههما حتى يقضيا حجهما ثم عليهما حج قابل والهدي.." [12] .
7- من فاته الوقوف بعرفة بسبب خطأ في الحساب: جاء في الموطأ عن مالك عن نافع عن سليمان بن يسار:"أن هبار بن الأسود جاء يوم النحر وعمر بن الخطاب ينحر هديه، فقال: يا أمير المؤمنين: أخطأنا العدة، كنا نرى أن هذا اليوم يوم عرفة. فقال عمر: اذهب إلى مكة فطف أنت ومن معك وانحر هدياً إن كان معكم ثم احلقوا أو قصروا وارجعوا فإذا كان عام كامل فحجوا واهدوا فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع " [13] .
ويعطى هذا الحكم من تعطلت به سيارته أو ضلت راحلته لما رواه مالك أيضاً عن يحي بن سعيد أنه قال: أخبرني سليمان بن يسار:"أن أبا أيوب الأنصاري خرج حاجاً حتى إذا كان بالتازية من طريق مكة أضل رواحله، وإنه قدم على عمر بن الخطاب يوم النحر فذكر ذلك له فقال عمر: اصنع كما يصنع المعتمر ثم قد حللت فإذا أدركك الحج قابلاً فاحجج واهد ما استيسر من الهدي" [14] .
هذه هي أسباب الدماء في الحج إجمالاً كما وردت بها نصوص الكتاب والسنة وهناك أسبب أخرى: منها هدي التطوع ونذر المساكين [15] .
بم يثبت الهدى:(16/48)
يثبت الهدي في جميع الحالات السابقة بمعرفة الحاج أو المعتمر ما وقع منه بلا حاجة إلى شهود أو حاكم، هذا إذا كان من أهل الفقه في الدين وإن لم يكن كذلك فيجب عليه أن يرجع إلى أهل العلم بذلك ويعمل بمقتضى ما يشيرون به عليه.
(وهنا تجدر بنا الإشارة إلى ما يقع على عاتق المؤسسات العلمية والهيئات الدينية من واجب نحو نشر الوعي الدين المتعلق بأحكام الحج عن طريق وسائل الإعلام المختلفة من مسموعة ومقروءة ومرئية طوال موسم الحج وعن طريق عقد الندوات وإلقاء المحاضرات وتوزيع الكتيبات الصغيرة التي تحتوي على أهم أحكام الحج بأسلوب مبسط يفهمه كل من يعرف القراءة والكتابة) .
ويستثنى مما سبق ثبوت الهدى في جزاء الصيد فإنه لا بد فيه من حكمين عدلين فقيهين في أحكام الحج. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} الآية [16] .
ولعل الحكمة في هذا الاستثناء: أن قتل الصيد من الجنايات الظاهرة والتي غالباً ما يراها غير القاتل، يستطيع أن يقدر الشيء المقتول حق قدره بخلاف بقية المخالفات فهي غالباً لا يطلع عليها إلى الشخص نفسه لذلك وكل الإثبات إليه. والله أعلم.
وهناك أمر آخر، وهو أن الهدى المحكوم به في جزاء الصيد يختلف باختلاف الحيوان المقتول لذلك وجب أن يحكون الحكم فيه بالعدلين ليستطيعا إجراء المماثلة المطلوبة بين الحيوان المقتول والحيوان المجزى به.(16/49)
ومن أطرف ما يروى في هذا الموضوع ما ذكره الأمام مالك في الموطأ بسنده.. إلى محمد بن سيرين:"أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية فأصبنا ظبياً ونحن محرمان فما ترى؟
فقال عمر لرجل إلى جنبه: تعال حتى أحكم أنا وأنت قال: فحكما عليه بعنز. فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي حتى دعا رجلاً يحكم معه. فسمع عمر قول الرجل فدعاه فسأله: هل تقرأ سورة المائدة؟ قال: لا، فقال: لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضرباً. ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وهذا عبد الرحمن ابن عوف" [17] يشير عمر رضي الله عنه إلى الرجل الذي اشترك معه في الحكم.
مكان النحر وزمانه:
قال تعالى في شأن المكان الذي يجب أن تنتهي إليه الهدايا {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [18] . وقال عز من قائل المكان الذي يجب أن ينتهي إليه جزاء الصيد {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} . فصارت الآية الأولى أصلاً في كل هدي. والثانية أصلاً في كل دم وجب كفارة.
وقد جاءت السنة فأوضحت ما أجملته الآيتان السابقتان: فقد ورد في صحيح البخاري عن نافع رحمه الله "أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يبعث بهديه من جمع من آخر الليل حتى يدخل به منحر النبي صلى الله عليه وسلم مع حجاج فيهم الحر والمملوك " [19] .
وفي سنن ابن ماجه عن جابر رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: منى كلها منحر وكل فجاج مكة طريق ومنحر.." [20] ..
وفي الموطأ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بمنى: "هذا المنحر وكل منى منحر" وقال في العمرة: "هذا المنحر" يعنى: المروة وكل فجاج مكة وطرقها منحر" [21] .
يتضح من هذا النصوص مجتمعة عدة أمور:(16/50)
الأول: أن النحر يختص بالحرم ولا يجزىء إذا تم خارجه سواء في نسك الحج أو العمرة.
ويستثنى من ذلك الهدى للمحصر إذا كان إحصاره قبل الوصول إلى الحرم كما يستثنى أيضاً الهدي إذا عطب في الحل. فإن النحر في الحالين يتم في المكان الذي حدث به الاحصار أو العطب.
الثاني: أن أي جزء من مكة أو من منى يصلح مكاناً للنحر سواء كان الهدي مسوقاً في الحج أو العمرة.
الثالث: الأفضل أن يكون النحر في الهدايا التي تساق في الحج: بمنى. أما الهدايا التي تكون لمخالفة ارتكبها المحرم في أثناء أداء العمرة، فالأفضل أن تكون بمكة [22] .
ويرى بعض العلماء: أن هذا التخصيص واجب وليس فضيلة فقط [23] .
أما زمان النحر: فيبدأ من وقت طلوع الفجر من يوم النحر، وهذا على رأي بعض العلماء الذين تمسكوا بمدلول قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَام} [24] حيث أضاف سبحانه النحر المذكور عليه اسم الله إلى الأيام. واليوم يبدأ من طلوع الفجر على أحد القولين. والقول الآخر أنه يبدأ بطلوع الشمس [25] .
ويرى فريق آخر من العلماء أن وقت نحر الهدايا مثل وقت الأضاحي: أي أنه يبدأ بعد طلوع الشمس بمقدار وقت صلاة العيد وذلك لعموم حديث: ".. من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين " [26] . والأخذ بالرأي الثاني: عمل بالأحوط: للخروج من الخلاف.
وهناك عدة آراء في الوقت الذي يمتد إليه النحر، وأقواها رأيان؟(16/51)
الأول: أنه ينتهي بغروب الشمس من اليوم الرابع من أيام النحر وذلك لما رواه سليمان بن موسى عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل أيام التشريق ذبح " رواه أحمد وهو للدارقطني من حديث سليمان بن موسى عن عمرو بن دينار [27] فهذا الحديث وإن أعله بعض العلماء بانقطاع سنده [28] لكن روى من وجه آخر أنه صلى الله عليه وسلم: قال: " كل منى منحر وكل أيام التشريق ذبح "والحديث المروي من وجهين مختلفين من شأنهما أن يقوي أحدهما الآخر كما أنه جاء من حديث أسامة بن زيد عن عطاء عن جابر. قال يعقوب بن سفيان: "أسامة بن زيد عند أهل المدينة ثقة مأمون " [29] .
وقد نقل ابن القيم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله: "أيام النحر: يوم الأضحى وثلاثة أيام بعده". ثم قال:"وهو مذهب إمام أهل البصرة: الحسن وإمام أهل مكة عطاء بن أبي رباح وإمام أهل الشام الأوزاعي وإمام فقهاء أهل الحديث الشافعي رحمه الله واختاره ابن المنذر، ولأن الثلاثة تختص بكونها أيام منى وأيام الرمي وأيام التشريق ويحرم صيامها فهي أخوة في هذه الأحكام فكيف تفترق في جواز الذبح بغير نص ولا إجماع" [30] .
القول الثاني: ينتهي بغروب الشمس من اليوم الثالث من أيام النحر وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل وروي ذلك عن أبي هريرة وأنس بن مالك رضي الله عنهما من غير اختلاف عنهما واستدل هذا الفريق بمدلول قوله تعالى: {فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَات} الآية. وهذا جمع قلة لكن المتيقن منه الثلاثة وما بعد الثلاثة غير متيقن فلا يعمل به [31] .
وأقول: العمل بالأول: أيسر إذا يمنح الناس فرصة أوسع للحصول على الهدى لمن لم يكن لديه هدى- وللعثور على الجزار الذي يقول بالذبح بالإنابة لمن لم تكن لديه المعرفة به.(16/52)
قال ابن عبد البر:"ولا يصح عندي في هذا – إشارة إلى أقوال العلماء في نهاية النحر- إلا قولان: أحدهما: قول مالك والكوفيين والآخر: قول الشافعي والشاميين، وهذان القولان، مرويان عن الصحابة فلا معنى للاشتغال بما خالفهما.."
هل يجزئ الذبح ليلاً:
يرى بعض العلماء أن الذبح بالليل لا يجوز لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} فذكر الأيام. وذكر الأيام دليل على أن الذبح في الليل لا يجوز.
ويرى أكثر أهل العلم جوازه لأن الليالي داخلة في الأيام ونقول في هذين الرأيين. ما قلناه في المسألة السابقة.
كيفية النحر المشروع:
كان هديه صلى الله عليه وسلم في إراقة الدماء: نحر الإبل قياماً مقيدة معقولة اليسرى على ثلاث وكان يسمي الله عند النحر ويكبر ويقول: لا إله إلا الله: اللهم منك ولك، وكان إذ ذبح البقر والغنم وضع قدمه على صفائحها ثم سمى وكبر.
وكان صلى الله عليه وسلم يذبح نسكه بيده وربما وكّل في بعضها كما ورد أنه صلى الله عليه وسلم وكّل علياً رضي الله عنه في ذبح ما بقي من المائة بدنة.
ويسن في حق الأمة الإقتداء به صلى الله عليه وسلم في الكيفية السابقة لكن إن ضعف إنسان أو تخوف أن تنفلت بدنته فلا بأس أن ينحرها معقولة وفي هذه الحالة يكون نحرها باركة أفضل له من أن تعرقب [32] قوائمها.
مصارف الدماء في المناسك:
الأصل في هذا قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [33] .
وقوله جل علاه: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [34] .
وقد تراق في المناسك هاتان الآيتان بجلاء عن المصارف التي ينبغي أن تتجه إليها الدماء التي تراق في المناسك أو بسببها، وقد انحصرت هذه المصارف إجمالاً في جهتين:
الجهة الأولى: أكل صاحب النسك من نسكه. تأسياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم.(16/53)
الجهة الأخرى: إطعام البائسين: من ذوي الفاقة والحاجة ... وسنحاول فيما يلي بيان الأحكام المتعلقة بكل جهة، ثم نعقب ذلك بالبحث عن الطريقة المثلي في كيفية وصول هذه الذبائح إلى مستحقيها الحقيقيين.
مدى حق صاحب النسك في الأكل من نسكه:
أقول بادئ ذي بدء: إن هناك اتفاقاً بين العلماء على أن الأمر بالأكل في الآيتين السابقتين ناسخ لما كان عليه أهل الجاهلية من الامتناع عن أكل شيء من نسكهم فأمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته، من خلال هاتين الآيتين بمخالفتهم وقد بدأ صلى الله عليه وسلم تنفيذ هذا الأمر بنفسه حيث أمر- صلى الله عليه وسلم- من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها [35] .
الدماء التي لا يجوز لصاحبها الأكل منها:
1- هدي التطوع الذي يعطب قبل وصوله إلى المحل الذي سيق إليه وهو البيت الحرام، لما رواه أبو قبيصة: ذؤيب بن حلحلة قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث معه بالبدن ثم يقول: وإن عطب منها شيء فخشيت عليها موتاً فانحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب به صفحتها ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك" رواه أحمد ومسلم وابن ماجه [36] .
فهذا الحديث واضح في إفادة عدم جواز أكل صاحب الهدي أو من يرافق سائق الهدي منه، إذا نحر أو ذبح قبل محله بسبب عطبه.
وهل يمنع أيضاً إذا كان الهدي الذي عطب قبل محله هدي فرض كدم المتعة أو القران؟.
يرى بعض العلماء: أن المنع عام: أي في التطوع والفرض لعموم حديث قبيصة وما ورد في معناه. إذ ليس فيه ما يشير إلى أن هذا الحكم خاص بهدي التطوع دون الفرض.(16/54)
ويرى فريق آخر: أن المنع خاص بهدى التطوع لأن الهدايا التي ورد بشأنها الحديث كانت للتطوع فيقتصر الحكم المستفاد منها على ما يماثلها. أما هدى الفرض وكذلك جزاء الصيد وفدية الأذى ونذر المساكين، فهو مضمون من صاحبه أي يلزمه بدله إذا عطب قبل محله لذلك يجوز له الأكل منه وأن يطعم الأغنياء والفقراء ومن أحب [37] .
وهذا هو المختار: لأن الهدايا التي ورد بشأنها حديث قبيصة وما في معناه لم تكن كلها للتطوع بل منها ما هو فرض لأنه صلى الله عليه وسلم كان قارناً في أرجح الأقوال.
ولأن صاحب الهدى العاطب لما أغرم بدله صار الحيوان العاطب كأن لم يخرج عن ملكه. وبناء عليه: فإنه يجوز له أن يتصرف فيه تصرف المالك في ملكه من الأكل أو إطعام الغير. إلا أنه منع من البيع منه لما فيه من معنى العبادة والله أعلم..
كما أن الظاهر من قوله: لا تطعمها أنت ولا أحد من رفقتك ليس خاصاً بصاحب الهدى وسائقه بل عموم الرفقة الذي يرافقون الهدايا سواء كانوا من أتباع صاحب الهدايا أو لا لظاهر النهي، ولأن الحكمة من هذا النهي هو سد الذريعة حتى يجتهد الرفقة في المحافظة على الهدايا ولا يتركوها حتى تشرف على العطب لعلمهم أنهم لن يستفيدوا منها شيئاً إذا أشرفت على العطب ونحروها، بل سيستفيد بها غيرهم من الناس.
2- دماء النذر. فإذا نذر الحاج شيئاً للمساكين وعينه بلفظ أو نية بأنه قال بلسانه: هذا نذر للمساكين، أو نواه بقلبه، فلا يحل له تناول شيء منه وهو ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [38] ، إذ معنى الأمر بوفاء النذر: هو إخراجه كاملاً سواء كان هدياً أو غيره والأكل منه يتنافى مع الكمال المطلوب في وفاء النذر [39] .
3- جزاء الصيد لأن الله سبحانه وتعالى جعله للمساكين بقوله عز وجل: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [40] وهذا على قراءة طعام بكسر الميم على قراءة نافع [41] .(16/55)
ويستدل على هذا وما قبله أيضاً بما أخرجه البخاري عن عبيد الله ابن عمر العمري عن نافع ابن عمر انه قال: "لا يؤكل من جزاء الصيد والنذر ويؤكل مما سوى ذلك" [42] .
4- فدية الأذى: لأن المطلوب أن يأتي بها كاملة من غير نقص سواء كانت لحماً أو غيره [43] . وقد روى سعيد بن منصور في سنته عن عطاء "لا يؤكل من جزاء الصيد ولا مما يجعل للمساكين من النذر غير ذلك ولا من الفدية ويؤكل مما سوى ذلك" [44] .
وإذا حدث تعد من صاحب الهدي فأكل من الهدايا التي منع من الأكل منها، فهل يغرم هدياً كاملاً، أو يغرم قيمة ما أكل، رجح ابن العربي القول الثاني، لأن النحر قد وقع، والتعدي إنما حدث على اللحم فقط فيغرم قدر ما تعدى [45] .
أما هدايا المتعة والقران والتطوع فيجوز لأصحابها الأكل منها لأنهما دماء نسك فهي بمنزلة الأضاحي، وقد أشرنا فيما سبق إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل من لحمها وحسا من مرقها، كما أنها باقية على العموم المستفاد من قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [46] . وكذلك الآثار المروية عن السلف فيما سبق تدل على بقاء حلها لأصحابها ودخولها في عموم الآية السابقة وقد جاء في آخرها {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} .
حكم أكل صاحب الهدي من هديه:
الأمر الموجه لصاحب الهدي بالأكل من هديه المستفاد من قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} الآية: هو للندب عند جمهور العلماء خلافاً لمن أوجب ذلك منهم، لظاهر قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} وأيضاً لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم "كلوا وتزودوا" [47] .
ويرد عليهم بأن أسلوب الأمر كما يأتي للطلب المقتضى للوجوب قد يأتي للندب بل قد يأتي للإباحة كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [48] . ومعلوم أن الصيد بعد انتهاء الإحرام مباح وليس واجباً.(16/56)
قال ابن جرير الطبري: تعليقاً على الأمر بالأكل في قوله تعالى: " {فَكُلُوا مِنْهَا} وهذا الأمر من الله جل ثناؤه أمر إباحة لا أمر إيجاب وذلك أنه لا خلاف بين جميع الأئمة: أن ذابح هديه أو بدنته هنالك إن لم يأكل من هدية أو بدنته أنه لم يضيع له فرضاً كان واجباً عليه فكان معلوماً بذلك أنه غير واجب " [49] .
ثم نقل بسنده عن عطاء ومجاهد أنهما قالا:"إن الأكل رخصة إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل، وهي كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} . وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} " [50] ..
هل لصاحب الهدي، الذي يندب له الأكل من هدية مقدار معين يلتزم بأكله كثلث الهدي أو نصفه مثلاً بحيث لا يحوز له الزيادة عليه أو النقص منه؟.
ليس هناك نص صريح من الكتاب أو السنة يلزم صاحب الهدي بأكل مقدار معين من هدية.
أما ما قيل من أنه يأكل النصف ويتصدق بالنصف تمسكاً بظاهر قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} فإنه يرد عليه بأن هذه الآية أفادت أفضلية الجمع بين الأمرين: الأكل والإطعام بدون تحديد لمقدار ما يخص كل واحد منها.
وهذا يقال أيضاً في الرد على من قال: يأكل الثلث ويهدي الثلث ويتصدق بالثلث لظاهر قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرّ} .
نعم يستحب له أن يجمع بين الثلاثة ولكن ليس بلازم، لأن هذا الالتزام يتعارض مع النصوص الصحيحة الواردة في هذا الموضوع فقد ورد أن الرسول عليه الصلاة والسلام ضحى بشاة ثم قال: "يا ثوبان أصلح لي لحم هذه. قال فما زلت أطعمه منه حتى قدم المدينة ".. رواه أحمد ومسلم [51] .
وقد سلفت الإشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام أمر بأخذ جزء غير محدد من كل بدنة فطبخت له فأكل منها وشرب من مرقها., ومعلوم أن هذا الجزء كان يسيراً جداً بالنسبة لعدد البدن التي نحرت.(16/57)
كما ورد أيضاً أنه نحر هدياً وتركه نهبة للناس دون أن يأكل منه شيئاً؟ فقد ورد في حديث عبد الله بن قرط: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعد أن نحر خمس أو ست بدنات..: "من شاء ليقتطع" [52] .
مدى حق الفقراء في الأكل من الهدايا:
المراد بالبائس الفقير: في قوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} : من واقع أقوال السلف رضي الله تعالى عنهم:
نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما:"أنه الزمن الفقير" [53] .
وقال مجاهد:"البائس: الذي يمد إليك يديه " [54] .
وقال عكرمة:"البائس المضطر الذي عليه البؤس، والفقير المتعفف " [55] .
وقال ابن جرير:"البائس: هو الذي به ضر الجوع والزمانة والحاجة والفقير الذي لا شيء له" [56] .
فابن جرير رحمه الله:" لا يرى مانعاً من أن تكون هذه المعاني كلها مرادة من قوله تعالى: {الْبَائِسَ} كما يرى: أن البائس غير الفقير وإن كان مشتركاً معه في الحاجة، لكن مع وجود التفاوت في المدى بين المحتاجين فالزمن المحتاج أولى من غيره، والمتعفف أولى من السائل والذي أضربه الجوع أولى من غيره ممن لم تصل به الحاجة إلى ذلك وهكذا.."
وعلى ذلك فينبغي أن يراعي هذا التفاوت الظاهر في مدى الحاجة من جهة صاحب الهدي، أو الذي يتولى الإطعام، أو تقسيم اللحم أو توزيعه، بحيث يعطي كلاً بقدر حاجته.
وأما المراد بقوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَر} : فأكثر الأقوال على أن القانع: هو السائل. والمعتر الذي يأتيك معتراً بك يعنى عارضاً لك نفسه- لتعطيه وتطعمه [57] .
والوصفان وإن كانا يشتركان في وصف الحاجة لكن ينبغي أن يراعي حال كل منهما بحيث يعطى قدر حاجته.
هو لحوم الهدايا من حق فقراء عامة المسلمين في كل أرض؟
هل المراد بالمحتاجين في الآيتين: هم محتاجو الحرم خاصة أم هم المحتاجون من عامة المسلمين في جميع أمصارهم؟(16/58)
يرى الحنابلة: أن الهدايا توزع على المساكين من أهل الحرم خاصة والمراد بأهل الحرم هنا: كل من كان بالحرم وقت الذبح سواء كان مقيماً به أم لا [58] .
ولم أجد أحداً غيرهم من الفقهاء قد خص أهل الحرم بالهدايا دون بقية المسلمين. بل ظاهر النصوص يفيد العموم. دون تفرقة بين مساكين الحرم وغيرهم. من ذلك ما يلي:
1- جاء في حديث عبد الله بن أرقط المتقدم وفيه "من شاء اقتطع".
2- ما جاء في حديث ناجية الخزاعي وكان صاحب بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: "قلت: كيف أصنع بما عطب من البدن قال: انحره واغمس نعله في دمه واضرب صفحته [59] وخل بين الناس وبينه فليأكلوه.." رواه الخمسة إلا النسائي [60] . ومعلوم أن العطب قد يكون بالحرم وقد يكون في الحل، وفيه إباحة لكل موجود في ذلك الموضع أن يأكل منه.
3- جاء في حديث عمرة الحديبية والصلح: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قضية الكتاب قال لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا.." رواه أحمد والبخاري وأبو داود [61] قال الإمام البخاري في صحيحه: "والحديبية خارج من الحرم " [62] .
هذه الأحاديث وما ورد في معناها، بالإضافة إلى صيغة العموم المستفادة من الآيتين في قوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} وقوله عز شأنه: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرّ} كلها تفيد: أن الهدايا ليست قاصرة على مساكين الحرم وحدهم بل هي من حق المساكين من عامة المسلمين سواء كانوا في الحرم أو خارجه.
نعم: أهل الحرم إن كانوا في حاجة إليها فهم أولى من غيرهم ممن هم خارج الحرم. وحتى على رأى من يرى أنها خاصة بأهل الحرم فإنها تتعداهم إلى غيرهم إذا عدم المستحقون لها داخل الحرم.(16/59)
وإذا كانت النصوص من الكتاب والسنة تفيد أن هذه اللحوم من حق فقراء المسلمين، في كل أرض، فإن الواقع اليوم يحتم علينا العمل بموجب هذه النصوص بحيث تصل هذه المستحقات إلى أصحابها الحقيقيين ممن هم في حاجة إليها فعلاً. وأنه يجب على الحكومات الإسلامية أن تتعاون مع المسئولين في المملكة العربية السعودية في البحث عن الطريقة المثلى التي يمكن سلوكها لتوصيل هذه الحقوق إلى مستحقيها. إن تحقيق هذا الأمر لم يكن ملحاً وعاجلاً في يوم من الأيام منذ أن فرض الله الحج على الناس، مثل ما هو ملح وعاجل اليوم وذلك بسبب الظروف الطارئة الآتية:
1- ازدياد عدد المسلمين الذين يؤدون فريضة الحج أو العمرة كل عام في السنوات الأخيرة زيادة كبيرة، مما أدى إلى زيادة الذبائح التي تذبح كل عام بكميات تفوق كثيراً حاجة الحجيج في أيام التشريق.
2- التطور الكبير الذي حدث في وسائل المواصلات في العصر الحديث أدى إلى اختصار الوقت الذي كان يقضيه الحجاج في الأماكن المقدسة وبالتالي قلت حاجتهم إلى التزود مما يذبح في أيام التشريق.
3- ارتفاع نفقات الحج والعمرة في السنوات الأخيرة - تبعاً لموجات التضخم العالمي - أدى إلى احتجاب الفقراء نسبياً - عن أداء هذه الشعائر وكان هذا العنصر يكاد يعتمد اعتماداً كلياً على ما يتزود به من لحوم أيام التشريق، في إعاشته حتى يقضي بقية أيامه في مكة وبهذا السبب نفسه صار الأداء لهذه الشعائر قاصراً على الطبقات القادرة وهذه لديها إمكانات الإعاشة التي تعتمد عليها أثناء إقامتها في موسم الحج مما يجعلها لا تفكر في الاستفادة بلحوم الهدايا التي تتوفر في المجازر أيام التشريق.
4- تعاون بعض الحكومات الإسلامية مع حجاجها في تحمل بعض النفقات وتنظيمها لإقامتهم وتوفيرها لوسائل إعاشتهم مسبقاً، أدى إلى انصراف تفكير كثير من الأفراد عن الذهاب إلى المجازر وحمل بعض لحوم الهدايا منها.(16/60)
5- يضاف إلى هذه الأسباب سبب هام كان له أثر كبير في ظهور هذه المشكلة وتفاقمها في السنوات الأخيرة. هذا السبب هو تحسن الأحوال الاقتصادية في المملكة العربية السعودية تحسناً كبيراً في السنوات الأخيرة، مما أدى إلى زيادة دخول الأفراد فيها زيادة كبيرة جعلتهم لا يقبلون على الاستفادة مما يذبح في المناسك كما كان عليه الحال من قبل.
هذه الأسباب مجتمعة - إلى جانب بعض أساب أخرى أقل أهمية أدت إلى كثرة ما ينحر في المناسك في الوقت الذي ضاقت فيه أوجه تصريفها نظراً لانصراف الأفراد عنها من جهة ولقلة وجود مستحقين بالقرب منها من جهة أخرى.
الحل:
سنحاول فيما يلي البحث عن أفضل الطرق لاستفادة المسلمين بهذه الثروة الحيوانية تجنب الأخطار المترتبة على استمرار الوضع الحالي: عن طريق عرض بعض الأفكار التي لها أصل في الدين وارتباط بمصلحة المسلمين.
البدائل الثلاث:
الفكرة الأولى. أو البديل الأول: هل يمكن الاستعاضة عن ذبحها في الحرم: بدفع قيمتها نقداً لجهة معينة تتخصص لهذا الغرض ثم بعد نهاية الموسم ترسل هذه المبالغ إلى الجهات التي تكون في حاجة ماسة إليها من جهات المسلمين. توزع عليهم نقداً أو يعمل لها مشروعات خيرية علاجية أو تعليمية.
وهذه الفكرة وإن لم تكن لها أصل في باب الهدايا لكن يمكن قياسها على الزكاة حينما لا يوجد لها مستحقون في موضع الوجوب فيرى كثير من الفقهاء أنه يمكن الاستعاضة بالقيمة وترسل هذه القيمة إلى الجهات التي تكون في حاجة إليها وقد استند هذا الفريق لما أخرجه البخاري عن طريق طاووس:"قال معاذ رضي الله عنه لأهل اليمن: ائتوني بقرض: ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة: أهون عليكم وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة " [63] .(16/61)
ولما أخرجه البخاري أيضاً بسنده عن ثمامة أن أنساً رضي الله عنه حدثه أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له:"التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم: ومن بلغت صدقته بنت مخاض وليست عنده، وعنده بنت لبون فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين، فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها وعنده ابن لبون فإنه يقبل منه وليس معه شيء " [64] .
الفكرة الثانية: أو البديل الثاني:
أن تذبح الهدايا في مواضعها التي شرعت للذبح فيها ثم تباع هذه الذبائح عن طريق هيئة خاصة تتولى تسويقها ثم بعد انتهاء الموسم ترسل هذه المبالغ إلى الجهات التي تكون في حاجة ماسة إليها من جهات المسلمين.
وقد أجاز عدد من الفقهاء كالإمام الأوزاعي والإمام أحمد وإسحاق وأبو ثور:"بيع جلود النعم وجلالها التي تذبح في الهدايا وهو وجه عند الشافعية، وقالوا: تصرف الثمن في مصرف الأضحية " [65] .
أي أن مبدأ البيع نفسه وارد عند فقهاء الشريعة في وقت لم تكن هناك حاجة للبيع. أما الآن ووسط الظروف المحيطة بالموقف في منى وبحاجة المسلمين في الخارج فإن هذا المبدأ يجب أن يأخذ طريقه إلى البحث الجاد من قبل علماء الشريعة والقائمين على تنفيذها وأن يجدوا مجالاً للتوفيق بين بعض النصوص التي وردت في النهي عن البيع وبين هذا الموقف الذي يزداد خطورة عاماً بعد عام.
الفكرة الثالثة: أو البديل الثالث:
إنشاء مصنع لحفظ اللحوم وتعليبها ثم توزيعها على الجهات التي تكون في حاجة إليها.
قد يثار إشكال: وهو أن هذا المصنع لن يعمل أكثر من ثلاثة أشهر ثم يتوقف عن العمل بقية السنة مما يعرض آلاته للتلف.
أقول: إن بعض مصانع السكر في مصر تعمل مثل هذه المدة من السنة، وهناك مصانع تعمل أقل منها، ومصانع تعمل أكثر منها. وجميع هذه المصانع تتوقف بقية العام ولم يقل أحد: إن هذا المصانع قد تلفت أو معرضة للتلف.(16/62)
وعلى أي حال، يمكن حل هذا الإشكال- على فرض وجوده - وهو أن يعمل المصنع بعد انتهائه من حفظ وتعليب لحوم الهدايا، في حفظ وتعليب لحوم الحيوانات التي يمكن أن تستوردها الحكومة أو المؤسسات أو الأفراد بقية العام.
وهذا المبدأ موجود في كثير من البلدان الأجنبية، وهو أن تقوم الدولة بإنشاء المصانع على أن تستورد خاماتها من الخارج وتصنعها، ثم تقوم بإعادة تصديرها إلى الخارج مواد مصنعة.
وأقول في نهاية حديثي إن هذا الموقف يجب أن يعالج بسرعة وبحسم وأن تشترك في علاجه كل الحكومات الإسلامية مع المملكة العربية السعودية، لأن فائدته ستعم معظم بلاد المسلمين، كما أن أضراره ليست قاصرة على رعايا المملكة وحدهم.
وأقول أيضاً: إن هذه الأفكار التي عرضتها ليست هي كل الحلول التي يمكن تنفيذها، بل هي مجرد نماذج يمكن وضعها على بساط البحث والمناقشة. ومن خلال ذلك سيتوصل العلماء إلى وضع حلول مناسبة. ترعى لهذه الأماكن قدسيتها ولهذه المشاعر تعظيمها ولفقراء المسلمين حاجتهم. والله ولي التوفيق..
د. أحمد علي طه ريان
أستاذ مساعد بكلية الحديث الشريف
والدراسات الإسلامية
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة البقرة من الآية رقم 261.
[2] سورة الحج من الآية 37.
[3] سورة الذاريات.
[4] سورة البقرة من الآية رقم 196.
[5] حاشية السندى على سنن ابن ماجه جـ2 ص 226، ص 227 الطبعة الثانية وانظر أيضاً سنن الدارمي جـ 2 ص 70 طبعة مصطفى الحلبي الأخيرة.
[6] فتح الباري جـ4 ص 303 وزاد المعاد جـ1 ص229.(16/63)
[7] سورة البقرة من الآية رقم 196.
[8] سورة البقرة من الآية 196.
[9] سورة المائدة الآية رقم 95.
[10] سنن الدارمي جـ2 ص36 والبخاري جـ4 ص 407 من فتح الباري.
[11] انظر صحيح البخاري ج4 ص412 من فتح الباري.
[12] الموطأ ج1 ص 272.
[13] المرجع السابق جـ1 ص273.
[14] الموطأ جـ1 ص273.
[15] ينظر في تفصيل الأشياء السابقة والأسباب الأخرى التي هي محل خلاف بين العلماء في المراجع الآتية: فتح القديرة للكمال بن الهمام جـ3 من ص 3 حتى ص 178 مطبعة مصطفى الحلبي بالقاهرة- وحاشية الدسوقي جـ2 ص 54 إلى ص89 والمغني لابن قدامة جـ3 ص260 إلى 330 مكتبة القاهرة.
[16] سورة المائدة من الآية رقم 95.
[17] الموطأ جـ1 ص 287، ص288.
[18] سورة الحج الآية 33.
[19] صحيح البخاري جـ2 ص200 طبعة صبيح- القاهرة.
[20] جـ2 ص236.
[21] جـ1 ص278 طبعة مصطفى الحلبي الأخيرة والإشارة في قوله عليه الصلاة والسلام بمنى "هذا المنحر ": إيماء إلى المكان الذي اتخذه صلى الله عليه وسلم منحراً لهداياه في حجة الوداع: وهو عند الجمرة الأولى التي تلي مسجد منى. انظر نيل الأوطار جـ5 ص69.
[22] فتح القدير جـ3 ص163. زاد المعاد جـ1 ص246. القرطبي جـ12 ص63 طبعة دار الكتب المصرية.
[23] حاشية الدسوقي جـ2 ص86.
[24] سورة الحج من الآية رقم 28.
[25] تفسير القرطبي جـ12 ص63 والموطأ جـ1 ص278.
[26] نيل الأوطار جـ5 ص140.
[27] نيل الأوطار جـ5 ص142.
[28] زاد المعاد جـ1 ص 246.
[29] نيل الأوطار جـ5 ص142.
[30] زاد المعاد جـ1 ص246.
[31] تفسير القرطبي جـ12 ص 43.
[32] الجامع لأحكام القرآن جـ12 ص63.
[33] سورة الحج من الآية رقم 28.
[34] سورة الحج من الآية رقم: 36.
[35] نيل الأوطار جـ5 ص119.
[36] المرجع السابق جـ5 ص118.(16/64)
[37] انظر نيل الأوطار جـ5ص119. وتفسير القرطبي جـ12 ص45.
[38] سورة الحج من الآية رقم 29.
[39] تفسر القرطبي جـ12 ص45.
[40] سورة المائدة الآية 95.
[41] تفسير القرطبي جـ12 ص 46.
[42] انظر فتح الباري جـ4 ص305.
[43] تفسير القرطبي جـ12 ص45.
[44] انظر فتح الباري جـ4 ص 305.
[45] تفسير القرطبى جـ12 ص 305.
[46] سورة الحج الآية رقم 36.
[47] نيل الأوطار جـ5 ص 144.
[48] سورة المائدة رقم 2.
[49] جامع البيان في تفسير القرآن للطبري جـ17 ص 109 دار المعرفة- بيروت- لبنان.
[50] سورة الجمعة الآية رقم 10.
[51] نيل الأوطار جـ5 ص114.
[52] نيل الأوطار جـ5 ص114.
[53] جامع البيان جـ17ت ص109.
[54] المرجع السابق.
[55] المرجع السابق.
[56] المرجع السابق جـ 17 ص 121.
[57] المرجع السابق.
[58] المغني جـ3 ص385.
[59] أي صفحة سنامه ليعلم أنه هدى.
[60] نيل الأوطار جـ5 ص118.
[61] المرجع السابق.
[62] جـ3 ص11 طبعة صبيح.
[63] فتح الباري جـ4 ص54 والخميص ثوب طوله خمسة أذرع.
[64] المرجع السابق جـ4ص55.
[65] نيل الأوطار جـ5 ص147.(16/65)
تأملات في فريضة الحج
بقلم محمد السيد الوكيل
مدرس التاريخ الإسلامي بكلية الحديث والدراسات الإسلامية
الحج هو الفريضة الخامسة من فرائض الإسلام، والركن الذي يجمع خصائص الأركان كلها، فهو يجتمع مع الصلاة في الإعراض عن الدنيا والترفع عن اللغو، والصلة الدائمة بالله عز جل..
ويشارك الصيام في الخشية والتقوى والمساواة، ويأخذ من الزكاة البذل والتضحية والإنفاق، فهو إذن عبادة روحية وجسمية ومالية، وهو فوق هذا مؤتمر عام، ومعسكر سنوي، ورياضة روحية.. هو مؤتمر عام لأن جميع طبقات المسلمين ممثلة فيه، بعد أن تزال الفوارق بين هذه الطبقات، حيث المساواة في الزي والمسكن والمناخ والتقارب في المطعم والمشرب.
وهو معسكر سنوي لأنه يعلم المسلمين الجندية الصادقة، فالحج يعلم المسلمين طاعة القيادة، وخفة الحركة، وإقامة المخيمات والانتقال بها من مكان إلى مكان في ساعات معدودات، ومنه يتعلمون الصبر على المشقات.
وهو رياضة روحية، لأنه يطلق الروح ويكبل الجسد ويكبح الشهوة ويحرم كثيراً مما كان حلالاً قبل الإحرام للإنسان.
ولأجل أن نقف على هذه الحقيقة ونستجلى معانيها يجب أن نعيش مع هذه الأيام التي يقضيها الحجاج عند أداء الفريضة.
اليوم الأول:
وهو يوم التروية - اليوم الثامن من ذي الحجة - وفيه يتجرد الحاج من ملابسه، ويرتدي إزاراً ورداءً هما أشبه بالكفن منهما بملابس الإنسان وفي هذا إعلان صريح باطراح مظاهر الحياة ومباهجها، وإعراض عن متاعها وزخارفها، وتذكير بيوم لا بد للإنسان أن يلاقيه.
هذه الجموع الغفيرة تقبل على الله بكل جهدها، ولسان حالها يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} ولسان مقالها يترجم هذا المعنى فيقول:"لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ".(16/66)
إن الله- عز وجل- قد دعاهم إلى ضيافته، فنبذوا الدنيا وراء ظهورهم وجعلوها دبر آذانهم، وأسرعوا متلهفين يرجون رحمته ويخافون عذابه.
اليوم الثاني:
وهو يوم عرفات يقف الجميع بهذا الزي، الملك والسوقة، والغني والفقير يأبى الله أن يكونوا في هذا الموقف إلا على هذا النحو، لأن الله- عز وجل- لا يمنح رحمته ورضوانه إلا لمن استجاب نداءه، واتقى شح نفسه، وجعل الدنيا وسيلة للغاية الكبرى يوم يلقى الله.
وعلى عرفات يقف الحجاج جميعاً، ولابد أن يتواجدوا في وقت واحد يبتهلون خاشعين، ويمدون أكف الضراعة متذللين، تنبح الحناجر ملحة في الدعاء، وتفيض العيون بالدمع خشية الفضيحة يوم اللقاء، وفي هذه اللحظات ينخلع الإنسان تماماً من الدنيا، ويتعلق قلبه بالملأ الأعلى ويتجلى الله على أهل الموقف، ويباهي بهم ملائكته فيقول:
"انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً ضاحين من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم، فتقول الملائكة إن فيهم فلاناً مرهقاً وفلاناً، فيقول الله- عز وجل- قد غفرت لهم" [1] .
ولا يزال أهل عرفات في دعاء وابتهال، وتضرع وسؤال، يحلقون بأرواحهم في ملكوت السماء، ويحيون قلوبهم بالذكر والدعاء، وحتى إذا أوشكت الشمس على المغيب، وأخذ النهار يتوارى خلف الكثبان التي بللتها دموع الأوابين ووفق الليل بالأعتاب يدق بظلامه الرهيب أغلال الأبواب، ومؤذناً بالنفرة العظمى عندئذ تطوى الخيام، وترفع أدوات الشراب والطعام، ويثب الحجاج إلى السيارات في خفة نادرة وسرعة باهرة فإذا اختفت الشمس تماماً عن الأنظار، كان ذلك إيذاناً بالمغادرة فيتحرك هذا الجمع الغفير ليضرب في الأرض ويقضي ليله في جمع.(16/67)
لله ما أبرع تلك الحركة العسكرية الرائعة هذه الآلاف المؤلفة من البشر تتحرك في ساعة واحدة، وتنتقل من مكان إلى مكان في ساعات. أرأيت مدينة بأكملها تنتقل في لحظات؟ أرأيت جيشاً يقارب المليون يؤدي هذه الحركة البارعة في ساعات؟؟..
إنه الحج المعسكر السنوي للمسلمين، ولله ما تحمل القوم من المشقات كم عانوا من لفح الشمس المحرقة وكم لاقوا من نصب الخيام وطيها، وتحميلها وتنزيلها، ولو رأيت الحافلات، وهي تتزاحم في الطرقات المحيطة بالحبال الشاهقة، وتكاد تلتحم حتى ترى كأنها خيط مد على سمت واحد إنك لتعجز أن تجد في الطرقات مع تعددها واتساعها موضع قدم وهناً تتلاحق أنفاس الحجاج، وتجف حلوقهم، وتيبس ألسنتهم ويجدون من العنت والإرهاق ما لم يخطر لهم على بال، حتى ليخيل إلى من يراهم على تلك الحال أنه لن يعود أحد منهم إلى الحج مرة ثانية.
كل ذلك وهم صابرون محتسبون، يطمعون في الأجر العظيم من الرب الرحيم، ولم تلبث الشهور تنطوي، والأيام أن تنقضي، وتعود على المسلمين أيام الحج بنفحاتها وخيراتها، حتى تجد أشد الناس تلهفاً على الحج هم حجاج السنوات الماضية. لقد نسوا كل هذه المشقات، وأحسوا أن شيئاً خفياً يلح عليهم من داخل نفوسهم، أن هيئوا وشدوا رحالكم لتسعدوا بنفحات ربكم. حول الكعبة، وعلى عرفات، وعند المشعر الحرام وأمام الجمرات.
أنهم يحسون أن الدوافع قوية، لا يستطيعون مقاومتها، ويشعرون أن الرغبة ملحة لا قبل لهم بالتخلص منها، ويعرض لهم الشيطان، فيذكرهم بما سيبذلون من جهد ومال، وما سيتحملون من مشقة وعنت، ولكن ذلك لا يضعف الدوافع، ولا يطفىء إلحاح الرغبة.(16/68)
نعم، ما المال؟ ما الجهد؟ ما الأولاد؟ وما الأهل؟؟ إن هذا كله لا يساوي لحظة ينعم فيها الإنسان برحمة الله، فيشعر بنشوة القرب، ويحظى بلذة الأنس، إنهم ليذكرون هذه اللحظات المباركات التي يتجلى فيها الله على أهل عرفات فينسون كل المشقات ويقبلون على الله مضحين بكل غال ونفيس.
وبعد النفرة العظمى، وبعد هذا العناء المتواصل، يصل الحجيج إلى مزدلفة، فيصلون المغرب والعشاء جمع تأخير بأذان واحد وإقامتين، ثم ينامون ولم يكن هذا النوم المبكر إلا استعداداً لاستيقاظ مبكر وتأهباً لتحمل أعباء اليوم الثالث، وتلك سنة أبي القاسم- صلى الله عليه وسلم- فلم يرو عنه أنه أحيا ليلة المزدلفة، روى جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- أنه - صلى الله عليه وسلم - لما أتى المزدلفة صلى المغرب والعشاء، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، فصلى الفجر، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، ولم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، ثم دفع قبل طلوع الشمس [2] .
اليوم الثالث:
وهو يوم الحج الأكبر- يوم النحر [3]- ويبدؤه الحجاج بالوقوف عند المشعر الحرام، وهناك تسكب العبرات، وتزداد الحسرات، وترفع إلى الله أكف الضراعة، وتلهج الألسن بالذكر والطاعة، تلبية لأمر الله {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [4] .
ومن هناك ينطلق الركب قاصدين جمرة العقبة بمنى، فيرمونها بسبع حصيات، وهذا الرمي رمز لانتصار الخير على الشر، وتأصل للفطرة على النحو الذي فطرها الله عليه، أليس الرمي إرغاماً للشيطان وطاعة للرحمن؟.
ثم يذبحون هديهم شكراً لله على فضله، وجزيل نعمه، وفي ذبح الهدي وقاية من الشح، وتمرد على البخل، وإعلان للطاعة المطلقة {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [5] .(16/69)
ثم يحلقون رءوسهم، ويتوجهون شطر المسجد الحرام ليؤدوا طواف الركن ثم يعودون إلى منى، وتنتهي بذلك أعمال يوم النحر.
اليومان الرابع والخامس:
ونحن نلاحظ في هذين اليومين أن الحاج ليس عليه إلا أن يهىء نفسه للمبيت بمنى ويستعد لرمي الجمرات الثلاث.
وإني لألمح من خلال إقامة الناس بمنى يومين أو ثلاثة بعد يوم النحر اهتمام الإسلام في أداء هذه الفريضة بتربية النفس الإنسانية على الطاعة، وتعويدها على التقشف، وأخذها بالعزائم من الأمور، أليس الإسلام دين كفاح وجهاد؟ ألم يحث الرسول - صلى الله عليه وسلم- على أن يكون الإنسان المسلم على أهبة الاستعداد للنفير؟؟
فكيف تبقى في نفوس المسلمين هذه المعاني إذا ألفوا الدعة وأخلدوا إلى الراحة، وقضوا حياتهم في ترف ونعيم؟؟.
لابد إذن من المبيت في الخيام وعلى الأرض، والاستغناء عن الفرش الوثير والسرر الموضونة، ولا بد من تهيئة النفس لمثل ذلك اليوم إذا اقتضت الضرورة، ودعا داعي الجهاد.
ولابد كذلك من ترويض النفس على السير في موكب المؤمنين وهم في طريقهم إلى الجمرات ليثبتوا ذاتياتهم، ويوثقوا عهدهم مع الله على السير في طريق الخير وإعلان الحرب على الشر مهما كانت دوافعه ومهما تعددت وسائله.
ونستطيع أن نؤكد بعد ذلك أن الحج دورة تدريبية للمؤمن يحضرها كل عام عشرات الآلاف من المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم، ويتدربوا فيه على التقشف وطرح الدنيا خلف ظهورهم حتى يكونوا على استعداد لتلبية نداء الحق- تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [6] .(16/70)
هذه هي الأيام الخمسة، وهي أيام الحج، كلها تجرد وعزوف، وابتهال وتضرع، وذكر ودعاء، وخوف ورجاء، هل تجدون في منهج الإنسانية الطويل، ومسيرتها الحائرة برنامجاً هو أكثر احتفاء بالروح، وأعظم اهتماماً بالإنسان من هذا البرنامج الذي وضعه الإسلام في هذه الأيام الخمسة.
محمد السيد الوكيل
مدرس التاريخ الإسلامي
بكلية الحديث والدراسات الإسلامية
--------------------------------------------------------------------------------
[1] رواه ابن حبان في صحيحه.
[2] رواه مسلم.
[3] قال بذلك ابن جرير ورجحه وكذلك الشوكاني وغيرهما.
[4] البقرة 198.
[5] الحج الآية: 27.
[6] الصف الآية: 10-11.
برنامج كلمة فارسية معناها الحطة التي يضعها الإنسان لشيء يريده، وعربيتها المنهاج.(16/71)
ما أدخلته الشيعة في التاريخ الإسلامي
بقلم فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله المحيسن
عميد كلية الدعوة وأصول الدين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.. من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد:-
فإن التاريخ لأي أمة من الأمم هو الصورة الواضحة لحياتها وتقاليدها ودياناتها وعلومها وثقافتها. وصفحاته هي المعبرة عن آمالها وأهدافها وتصوراتها ...
وإن التاريخ الإسلامي أعظم مثال للتعبير عما ذكرنا فهو لم يسبق له نظير في تاريخ أمة من الأمم لا في كمه ولا في كيفه.
فهو من جهة الكم أوسع تاريخ عرفته البشرية حتى اليوم. وذلك لما حواه من أخبار الخلفاء والولاة والعلماء والقضاة والقادة.
وكل ذلك بوضوح تام ودقة متناهية. ولما سطره حول الفتوحات العظيمة التي قام بها المسلمون شرقاً وغرباً والتي تتجدد وتتقدم من حين لآخر.
بالإضافة إلى ما حواه من العلوم والمعارف والسيرة الحميدة والأعمال الصالحة لصالحي هذه الأمة.
وأما من جهة الكيف فإنه يعتمد على الرواية والنقل عن العدول والثقات والموثوق بروايتهم ولا مجال فيه للاختراع والخرص وهذا لم يحصل لتاريخ أمة من الأمم.
هذا وقد حظي التاريخ الإسلامي بالرواية والتسجيل والحفظ فأقبل العلماء والرواة على روايته وتدينه وتنافسوا في ذلك مما جعل المكتبة الإسلامية تغص بكتب التاريخ لكل عصر وحيل عبر تاريخ هذه الأمة.
هذا وقد ذهل أعداء الإسلام من قوة هذا الدين ونفوذ سلطانه وتقدم انتشاره فوقفوا قلقين حيارى.
ولما لم يكن لهم أي قوة لمقاومته بالسيف علناً لجأوا إلى شتى الطرق والوسائل للكيد له والنيل منه.(16/72)
وبدعة التشيع هي أول بدعة أسست لها الغرض وأول مكيدة دبرت تحت هذا الستار هي الفتنة الكبرى التي دبرت ضد عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو ثالث الخلفاء الراشدين وأحد العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم أجمعين.
فإن هذه الفتنة بدأت بإشاعة وتلفيق الأخبار المكذوبة أو المروية على غير وجهها الصحيح وذلك لتأليب الجهال وغوغاء الناس عليه ومما أدى إلى قتله بعد ذلك رضي الله عنه كما هو مبسوط في كتب الحديث والتاريخ.
والذي خطط ونفذ هذه الفتنة هو عبد الله بن سبأ اليهودي كما ستأتي الإشارة إليه فيما بعد.
ثم بعد مقتل عثمان وجد الرفض فرصته المناسبة في الفتن التي جرت بعد ذلك وذلك لإشاعة والاختلاق الروايات المكذوبة في مثالب الصحابة وفيما جرى بينهم من الاختلاف وتصويره على غير وجهه الصحيح وسنذكر أمثلة لذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ولا أريد أن اعترض هنا لما شحنته الشيعة في كتبهم من البهتان والزور على تاريخ الإسلام وذلك نتيجة لما تكنه صدورهم من الحقد والبغض لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولقادة المسلمين وولاتهم فإن كتبهم مشحونة بالسب والشتم لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ولخير القرون بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ومثل هذا واضح البطلان ولا يستغرب من شرذمة أظهرت الرفض وأبطنت الكفر. ولا تحل قراءة هذه الكتب إلا على سبيل الإطلاع على الباطل للرد عليه والتحذير منه.
أما ما أقصده بهذا البحث فهو ما تسرب من ذلك إلى كتب التاريخ الإسلامي. إما عن طريق راو يظهر عليه التقى والعدالة ويبطن الرفض أو عن طريق خفيف التشيع يجيز الرواية عن مثله جمهور أهل العلم بالحديث إذا لم يكن متعصباً وداعية لبدعة.
وقد يروى مثل ابن جرير عن بعض المشهورين بالتشيع ولكنه يذكر سنده في الرواية ليحيل العهدة على الرواة كما سيأتي أمثلة لذلك فيما بعد.(16/73)
وليس في هذا عيب على ابن جرير ما دام نقلها بأسانيدها وترك للقارىء الحاذق نقدها وتمحيصها فقد قال رحمه الله في مقدمة تاريخه [1] :" وليعلم الناظر في كتابنا هذا إن اعتقادي في كل ما أحضرت ذكره فيه مما شرطت إني أرسمه فيه إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه.
والآثار التي أنا مسندها إلى روايتها فيه.. إلى أن قال رحمه الله: فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه ويستبشعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة ولا معنى في الحقيقة فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا. وإنما أتى من بعض ناقليه إلينا.
ونحن إنما أدينا ذلك على نحو ما أدى إلينا.."ولكن جاء من بعد ابن جرير من حذف هذه الأسانيد وضم الروايات بعضها إلى بعض طلباً للاختصار ثم جاء من بعدهم خصوصاً في هذا العصر من ينقل هذا الروايات وينسبها إلى كتب التاريخ من غير تفريق بين ما يرويه الثقات وبين ما يرويه أهل التشيع والرفض ولا بين ما ظاهره الصحة مما تظاهرت فيه أخبار الثقات العدول من جهات متعددة. وبين ما ظاهره البطلان مما يروى في مثالب الصحابة وما جرى بينهم من الفتن مما يجمع على بطلانه عامة أهل العلم بالحديث من أهل السنة.
وزاد الطين بلة في العصور المتأخرة أنه ظهر سابئة جديدة بثوب جديد وهؤلاء ما يسمون بالمستشرقين من اليهود والنصارى وهؤلاء وجدوا في روايات الرافضة المدسوسة في التاريخ مرتعاً خصباً لتشويه التاريخ الإسلامي المجيد.(16/74)
وهؤلاء يموهون على الناس أنهم من أهل التحقيق العلمي الدقيق وفي الحقيقة أنهم من أهل التزوير والتلفيق فغاية ما عندهم من التحقيق أن يعمد أحدهم إلى بعض روايات الرافضة يصوغها بصورة بشعة ويزيد فيها وينقص حسب ما يخدم غرضه الخبيث ثم في الأخير يقول لك مثلاً: انظر ابن جرير الطبري أو ابن الأثير. هذا وقد اغتر بتمويههم وتزويرهم كثير من الكتاب وأساتذة التاريخ في هذا العصر. وفي الحقيقة إنه لمن الخيانة لهذا الدين أن يؤخذ تاريخه من أعدائه من اليهود والصليبيين وهم ما يسمون بالمستشرقين.
ولا يفوتني في هذا المقام أن أنوه بتلك الجهود التي قام بها كثير من علماء الإسلام الأعلام من تصد لتلك المرويات في هذا الباب سواء كان بكتابة التاريخ كتابة تعتمد على الروايات الموثوق بها مع الاحترام والتقدير والاعتراف بالفضل لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. أو على سبيل مؤلف خاص بتلك الروايات.
أولفته نظر عابرة في طيات مؤلف في موضوع ما..ومثل هذا كثير جداً منها ما هو مطبوع ومنها ما هو مخطوط وهو الكثير الغالب ومثال النوع الأول من التأليف مما هو مطبوع كتاب البداية والنهاية لابن كثير رحمه الله ذلكم الرجل الذي تصدى للرفض بتحقيقه العلمي الدقيق ونقد العالم المطلع البصير. بالإضافة إلى إبرازه من مناقب وفضائل الصحابة رغم أنوف أهل الرفض ومثال النوع الثاني كتاب العواصم من القواصم لأبي بكر بن العربي ومثال النوع الثالث ما هو متناثر في كتب ابن تيمية وابن القيم والذهبي وابن حجر وغيرهم من العلماء تلك الجهود على اختلاف أنواعها مهمة جبارة متكاملة. قام بها علماء الإسلام سلفاً وخلفاً وخير قيام.(16/75)
والذي بقي الآن وهو مهمة أهل العلم والغيورين على هذا الدين في هذا العصر إن الذي عليهم الآن هو مواصلة المسيرة نحو الجبهة الحامية الوطيس وقد بين لنا علماء الإسلام زيف وكذب روايات الرافضة فلم يبق بعد ذلك إلا طردهم نهائياً من صفحات التاريخ.
إنه إن لذ وطاب لمستشرق يهودي أو نصراني أو لفرخ واحد منهما أن يبقى تداول تلك الروايات المظلمة تسود صفحات التاريخ البيضاء فلا يجوز لمسلم أبداً أن يرضى بهذا الدنس لتاريخ أمته ودينه.
وإنه لمن الواجب على المؤسسات المعنية في العالم الإسلامي أن تقيم محاجر علمية دقيقة لعزل الروايات التي أصيبت بالوباء ولتقديم تاريخنا الإسلامي بصورته المشرقة بعد تطهيره وتعقيمه من جراثيم الشيعة القذرة.
كما يجب عليها الحجر الشرعي على سفه كل من يرسل لسانه في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وذلك انتصاراً لله ولرسوله ولدينه. وقياماً بالواجب نحو خير هذه الأمة وأفضلها في الدنيا والآخرة.
ما أدخلته الشيعة في التاريخ الإسلامي
يدور فلك الغارة الشعواء التي شنتها الشيعة على التاريخ الإسلامي في الغالب حول أمرين هما:-
الأمر الأول: سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوير الروايات وتلفيق الحكايات في مثالبهم رضي الله عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين. ويقصد من وراء ذلك الوصول إلى الإسلام نفسه لأن الصحابة هم رواته وهم خير هذه الأمة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم.. بل هم أفضل من مشت قدماه على الأرض من بني آدم بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.(16/76)
قال ابن تيمية رحمه الله بعد أن ذكر فضل الصحابة وأن القدح فيهم قدح في الإسلام نفسه قال ما نصه:"وهذا هو أصل مذهب الرافضة فإن الذي ابتدع الرفض (يقصد عبد الله بن سبأ) كان يهودياً أظهر الإسلام نفاقاً.. ودس إلى الجهال دسائس يقدح بها في أصل الإيمان ولهذا كان الرفض أعظم أبواب النفاق والزندقة ".
إلى أن قال رحمه الله:"فإن القدح في خير القرون الذين صحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم قدح في الرسول عليه الصلاة والسلام كما قال مالك وغيره من أئمة العلم.."انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.
وتركز أساطير الرافضة على خيرهم وأفضلهم أبي بكر وعمر وعثمان ثم تنطلق بوقاحة إلى أجلاء الصحابة وأعيانهم من السابقين الأولين إلى الإسلام وممن حضر بدراً وأحداً وبيعة الرضوان وآزر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصره في السراء والضراء.
وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض كطلحة والزبير وغيرهما من بقية العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم أجمعين.
ولا يقفون عند هذا الحد بل يتناولون بألسنتهم القبيحة أمهات المؤمنين وزوجات النبي صلى الله عليه وسلم ويخصون الصديقة بنت الصديق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها.. وفي نهاية المطاف يتناولون كافة بني أمية بالسب والشتم والكلام القبيح.
الأمر الثاني: الغلو في أهل البيت ويخصون منهم علياً وفاطمة وذريتهما رضي الله عنهم أجمعين فيفترون ويلفقون الروايات الكاذبة في مدح أهل البيت وإطرائهم حتى يصلى بهم الحد إلى وصفهم بما لا يليق بهم من الأوصاف ويسندون إليهم مواقف وأعمال لا تتفق مع فضلهم وعلو قدرهم.
بعض الأمثلة على ما أدخلته الشيعة في التاريخ
نذكر هنا بعض الروايات التي دستها الشيعة في التاريخ ونبين بطلانها ونذكر بإزائها الروايات الصحيحة المعارضة لها.(16/77)
1) زعمت الشيعة أن علياً رضي الله عنه لم يبايع عثمان وبعضهم قال: بايع كرهاً ولفقوا عدة روايات لتأييد زعمهم هذا وقبل أن نذكر الروايات التي لفقوها وقبل أن نذكر خلاصة بيعة عثمان وأمر الشورى على الوجه الذي رواه الثقات العدول فنقول: لما طعن عمر رضي الله عنه جعل الأمر بعده شورى فيمن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم وهم علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف فجعل الأمر في هؤلاء الستة يختارون واحداً منهم وتم ذلك لعثمان رضي الله عنه وبايعه بقية أهل الشورى ومنهم علي وجميع المهاجرين والأنصار دون أي خلاف أو تردد صح ذلك من وجوه متعددة مشهورة في كتب التاريخ المعتمدة ومروية في الصحيحين وغيرهما مثل ما رواه البخاري [2] في صحيحه عن عمرو بن ميمون وذكر القصة بطولها وقال فيها:"فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين استخلف قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر- أو الرهط- الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض. فسمى علياً وعثمان والزبير وطلحة وسعداً وعبد الرحمن. وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء- كهيئة التعزية له. وساق بعد ذلك وصية عمر برعيته وقصة دفنه إلى أن قال:"فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط فقال عبد الرحمن: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم فقال الزبير: قد جعلت أمري إلى علي فقال طلحة: قد جعلت أمري إلى عثمان وقال سعد: قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف فقال عبد الرحمن بن عوف: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله فيه والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه فأسكت الشيخان.(16/78)
فقال عبد الرحمن: أفتجعلونه إلي والله على لا آلو عن أفضلكم. قالا: نعم فأخذ يبد أحدهما فقال: لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت. فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن. ثم خلا بالآخر فقال مثل ذلك فلما أخذ الميثاق قال: ارفع يدك يا عثمان فبايعه فبايع له علي وولج أهل الدار فبايعوه ".
وهذا الذي رواه البخاري من بيعة علي لعثمان مع جماعة المسلمين هو الذي صحت به الأخبار في كتب السنة المعتمدة وذكره عامة من يوثق به من المؤرخين. ولكن الروافض أشاعوا عدة إشاعات منها أن علياً تلكأ أو أنه تكلم كلاماً شنيعاً على عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما وذكرت هذه الروايات في بعض كتب التاريخ من ما رواه أبو جعفر محمد بن جرير [3] بسنده إلى عمر بن ميمون الأودى وذكر ما جرى في أمر الشورى والبيعة ومما ذكر فيهما:"أن علياً قال لعبد الرحمن ابن عوف لما بايع عثمان: حبوته حبو دهر ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا.."إلى آخر ما ذكر من القول الشنيع.
والسند الذي ذكره بن جرير فيه عدة علل ولا يحتج بمثله عند أهل العلم بالحديث ومن رواة هذا السند في أحد طرقه عند ابن جرير.
أبو مخنق واسمه لوط بن يحيى وهذا شيعي قال فيه الذهبي في الميزان:"أخبارى تألف لا يوثق به"وقال بن عدي:"شيعي محترف صاحب أخبارهم".(16/79)
ثم يروي ابن جرير بعد ذلك بسنده إلى المسور بن مخرمة وذكر أمر الشورى وبيعة عثمان وقال فيها:"فجعل الناس يبايعونه (أي عثمان) وتلكأ علي فقال عبد الرحمن {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِه} الآية.. فجعل علي يشق الناس حتى بايع وهو يقول: خدعة وأيما خدعة ". وفي سند هذه الرواية عند ابن جرير عن عبد العزيز بن أبي ثابت. قال فيه الذهبي [4] في الميزان:"قال البخاري: لا يكتب حديثه "وقال النسائي وغيره:" متروك "وقال عثمان بن سعيد:"قلت ليحي: فإن أبي ثابت عبد العزيز بن عمران ما حاله قال: ليس بثقة إنما كان صاحب شعر وهو من ولد عبد الرحمن بن عوف "1هـ.
وذكر الحافظ [5] بن حجر في التهذيب وقال فيه الحسيني بن حبان عن يحيى:"قد رأيته ببغداد كان يشتم الناس ويطعن في أحسابهم ليس حديثه بشيء "1 هـ.
قلت: وقد ذكر ابن جرير عن عبد العزيز هذا بعد أن ساق الرواية السابقة. طامة أخرى وهي أنه فسر قول علي رضي الله عنه في الرواية السابقة الذكر خدعة أيما خدعة. أي أنها خدعة من عمرو بن العاص وذكر وجه الخدعة بما عدلنا عن ذكره لبشاعته.. والله المستعان.
فهذه الروايات وما شابهها غالبها من دس الرافضة على التاريخ وأحببنا التنبيه عليها لأن كثيراً يكتب التاريخ في هذا العصر قد اغتر بها وذكرها من دون تحقيق. ولله در الحافظ بن كثبر فإنه ذكر في كتابه البداية والنهاية أمر الشورى والبيعة بطولها ولم يلتفت إلى شيء من هذه الروايات بل قال بعد أن ساق الروايات الصحيحة:"وما يذكره كثير من المؤرخين كابن جرير وغيره من رجال لا يعرفون أن علياً قال لعبد الرحمن: خدعتني. وأنك إنما وليته لأنه صهرك ويشاورك كل يوم في شأنه. وأنه تلكأ حتى قال له عبد الرحمن {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِه} الآية. إلى غير ذلك من الأخبار المخالفة لما ثبت في الصحاح فهي مردودة على قائليها وناقليها والله أعلم ".(16/80)
ثم قال بعد ذلك رحمه الله:"والمظنون بالصحابة خلاف ما يتوهم كثير من الرافضة وأغبياء القصاص الذين لا تمييز عندهم بين صحيح الأخبار ووضعيها ومستقيمها وسقيمها.."انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.
وقد نقل الروايات المذكورة غير واحد من المؤرخين تبعاً لابن جرير في ذلك دون تمحيص كابن الأثير رحمه الله.
روايات الرافضة حول موقعة الجمل
وحينما ننتقل إلى موقعة الجمل نجد الرافضة قد غطوا الجو تغطية كاملة فلا تكاد ترى الحقيقة من التغطية التي أثارتها الرافضة فحينما تنظر إلى بعض كتب التاريخ لا تجد في صفحات هذه الموقعة إلا السب والشتم والقتال والطعن والكلام القبيح وما ادخلوه في هذه الموقعة لا يعد ولا يحصى ويطول الكلام بذكره وتشمئز الفطر السليمة من سماعه ولكننا نذكر هنا بعض الحقائق التاريخية التي نطق بها التاريخ بالروايات الصحيحة رغم أنوف الرافضة والتي يأبى كتاب التاريخ المتفرنجون أن يذكروها فنقول:
الحقيقة الأولى:
ذكرت الروايات الصحيحة ما يدل دلالة واضحة أن طلحة والزبير ومن معهما إنما خرجوا لطلب الإصلاح وقطع دابر المفسدين الذين قتلوا عثمان ولم يخرجوا لطلب ملك أو لغرض من أغراض الدنيا بل لم يكن مقصودهم قتال علي ولا من معه من المسلمين ويدل على ذلك ما ذكره ابن كثير وغيره [6] .
"إن علياً رضي الله عنه بعث القعقاع رسولاً إلى طلحة والزبير يدعوهما إلى الألفة والجماعة ويعظم عليهما الفرقة والاختلاف.(16/81)
فذهب القعقاع إلى البصرة فبدأ بعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقال: أي أماه ما أقدمك هذا البلد؟ فقالت: أي بني الإصلاح بين الناس. فسألها أن تبعث إلى طلحة والزبير ليحضرا عندها فحضرا فقال القعقاع: إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها فقالت إنما جئت للإصلاح بين الناس فقالا ونحن كذلك". فأنت ترى أن طلحة والزبير وعائشة قالوا جميعاً ما جئنا إلا للإصلاح ببن الناس وقد صدقوا رضي الله عنهم وكذبت الرافضة يدل على ذلك أنه تم الصلح بعد ذلك كما سيأتي بيانه ومما يدل على ذلك أيضاً ما ذكره ابن كثير عن علي رضي الله عنه لما سأله أبو سلام الدلائي فقال:"هل لهؤلاء القوم حجة فيما طلبوا من هذا الدم (يقصد دم عثمان) إن كانوا أرادوا الله في ذلك.. قال: نعم قال: فهل لك من حجة في تأخيرك ذلك قال: نعم.."وهذا الذي قاله علي رضي الله عنه هو معتنق أهل السنة فيما جرى بين الصحابة فهم يعتقدون أن كلاً منهم مجتهد إن أصاب له أجران وإن أخطأ فله أجر واحد.
الحقيقة الثانية:
إن القوم اصطلحوا واتفقوا على أن يكف كل واحد منهم عن الآخر ولم يخطر ببالهم إلا أن الأمر انتهى وليس هناك قتال فأبي ذلك السابئة قتلة عثمان ودبروا المكيدة فأنشبوا الحرب وحصل ما حصل في موقعة الجمل.(16/82)
يدل على ذلك ما ذكره ابن كثير وغيره أن القعقاع لما أرسله علي إلى طلحة والزبير وعائشة وعرض عليهم الصلح قالوا له:"قد أصبت وأحسنت، فارجع فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح الأمر. قال: فرجع إلى علي فأخبره فأعجبه ذلك وأشرف القوم على الصلح، كره ذلك من كرهه ورضيه من رضيه وأرسلت عائشة إلى علي تعلمه أنها إنما جاءت للصلح ففرح هؤلاء وهؤلاء ... إلى أن قال: ثم بعث علي إلى طلحة والزبير يقول: إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا حتى ننزل فننظر في هذا الأمر فأرسلوا إليه في جواب رسالته: إنا على ما فارقنا القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس. فاطمأنت النفوس وسكنت واجتمع كل فريق بأصحابه من الجيشين فلما أمسوا بعث علي عبد الله بن عباس إليهم وبعثوا إليه طليحة السجاد وبات الناس بخير ليلة, وبات قتلة عثمان بشر ليلة وباتوا يتشاورون وأجمعوا على أن يثيروا الحرب من الغلس فنهضوا من قبل طلوع الفجر وهم قريب من ألفي رجل فانصرف كل فريق إلى قراباتهم فهجموا عليهم بالسيوف فثارت كل طائفة إلى قومهم ليمنعوهم وقام الناس من منامهم إلى السلاح. فقالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلاً. وبيتونا وغدروا بنا وظنوا أن هذا من ملأ من أصحاب علي فبلغ الأمر علياً فقال: ما للناس فقالوا: بيتنا أهل البصرة. فثار كل فريق إلى سلاحه ولبسوا اللأمة وركبوا الخيول ولا يشعر أحد منهم بما وقع الأمر عليه في نفس الأمر وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
صالح بن عبد الله المحيسن
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ص (857) جـ (1) .
[2] ص (60) جـ (7) صحيح البخاري مع فتح الباري.
[3] جـ 2 ص (632) .
[4] جـ (6) ص (632) .
[5] جـ (6) ص (150) .
[6] جـ (7) ص (232) .(16/83)
مسئولية التعليم
المنهج بين الماضي والحاضر
بقلم عبد الله قادري
عميد كلية اللغة العربية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} .
أما بعد فإن الله تعالى خلق الإنسان في الأرض ليكون خليفة فيها يقوم بعمارتها وإصلاحها على أساس واحد، وهو عبادة الله تعالى التي تشمل نشاط ابن آدم كله - روحياً أم عقلياً أم جسمياً - كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}
والحصر المذكور في الآية حقيقي وليس إضافياً ولا ينافي هذا ما هو واقع من بعض البشر من أنهم لا يعبدون الله العبادة الاختيارية الشرعية كالوثنيين واليهود والنصارى والشيوعيين.(16/84)
كما أنه لا ينافي وجود عصاة من المسلمين يخرجون عن عبادة الله في بعض تصرفاتهم وما يقع من المسلمين من الأعمال التي لا يقصدون بها وجه الله من المباحات، لأن الله تعالى أراد من عباده - شرعاً - أن يكون نشاطهم كله مبتغي به وجهه، سواء كان فعلاً - كالواجب والمندوب والمباح - أو تركاً- كترك المحرم والمكروه - وهي الأحكام الخمسة المذكورة في كتب أصول الفقه، ولا تخرج أفعال الإنسان وتروكه عن هذه الأحكام.
فإذا ابتغى الإنسان بذلك كله وجه الله فقد حقق معنى قول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} تحقيقاً كاملاً وإن قصر في شيء من ذلك فقد قصر في شيء خلقه الله من أجله.
والتقصير الحاصل من المخلوق لا يؤثر في الحصر الحقيقي الذي أراده الخالق سبحانه وتعالى من عبده شرعاً.
والنصوص الدالة على أن الله أراد من عبده أن يكون عابداً له في كل لحظة لا تحصى كثرة، ومنها قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} .(16/85)
وبدلاً من سوق النصوص في وقت لا يتسع لذكرها أنبه على قاعدة يمكن لمن عرفها - وما أقل العارفين لها - أن يفتح أي صفحة من صفحات كتاب الله ليجد أن الله تعالى يربط أصول الإسلام وفروعه به سبحانه فيقول في العبادة مثلاً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم} وإذا أمر بالاستعانة بالصبر والصلاة كما في قوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} جعل نفسه مع من استجاب لأمره فقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} وإذا أباح لعباده المؤمنين الطيبات من رزقه أمرهم بشكره كما قال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون} ورد على مبيحي الربا قياساً على البيع بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} ثم قال بعد ذلك: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} .
وهكذا لا يأمر الله بأمر أو ينهى عن شيء أو يمدح صفة أو يذم أخرى إلى ربط سبحانه ذلك به بأساليب متنوعة، وعلى قارئي القرآن أن يتدبروا ذلك ويتأملوا في كثرة اسم الجلالة، والرب أو غيرهما من أسماء الله ليعلم حق العلم أن كل حركة يتحركها العبد أو سكنة يسكنها في عمره كله ينبغي أن يقصد بها وجه الله تعالى ليحقق العبادة في عمره كله.(16/86)
ومن الأمثلة الواضحة في ذلك من السنة النبوية إن الكلمة الطيبة صدقة، والابتسام في وجه المؤمن صدقة، وإتيان الرجل زوجته له فيه أجر، وترك المعصية لله بعد الهم بها حسنة، ومنها أنا أمرنا أن نذكر الله في كل حالاتنا.. {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} "لا يزال لسانك رطباً بذكر الله"، وإذا بدأنا تناول الطعام، أو فرغنا من تناوله، وعند دخول المسجد والخروج منه، وعند دخول المرحاض وعند الخروج منه، وعند النوم والاستيقاظ منه، وعند بدء السفر وعند العودة منه، وعند لقاء الكفار في الحرب، وفي إدبار الصلوات، وغير ذلك مما لا يحصيه العد.
ولقد فهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم من سلفنا الصالح هذا المعنى فكانوا يحتسبون عند الله كل أعمالهم، كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: "والله إني لأحتسب نومتى كما أحتسب قومتى "أي إني أرجو أن يكتب الله لي ثواباً على نومي لأني ابتغي به وجهه، كما أرجو أن يكتب لي الأجر على قيام الليل كذلك.
وهذا الفهم الكامل هو ما دعا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن يعرف العبادة بقوله:"العبادة اسم جامع لكم ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة ".
ويرتبط بهذا المعنى ارتباطاً كاملاً أن يسعى العبد- الذي فهم هذا الفهم وطبقه في نفسه- حثيثاً لدعوة غيره إلى ذلك حتى يكون ممن اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم:
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} وليخرج الناس من عبادة المخلوقين إلى عبادة الله وحده.
هذا المعنى الذي سبق الكلام عنه باختصار هو المحور الذي يجب أن تدور حوله جميع تصرفات المسلمين ومنها:
التعليم:(16/87)
ولا مجد للأمة الإسلامية إن لم يكن هذا المعنى هو محور أعمالها كلها {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} .
منطلق التعليم
إذا عرفنا ما تقدم فإن التعليم يجب أن ينطلق لتحقيق ذلك الهدف العظيم وأن تصطبغ جميع مواده بالعقيدة الإسلامية والخلق الإسلامية، وأن يكون المسؤلون عن التعليم من أكبر موظف إلى أصغر موظف ممن تحقق فيهم معاني: "لا إله إلا الله محمد رسول الله ".
ولقد ربط الله أعظم مفتاحين للمعرفة- القراءة أو الكتابة- باسمه الكريم في أول الآيات نزولاً على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، إيذاناً بوجوب الالتحام بين المعارف والعلوم التي يستطيع الإنسان أن يبلغها وبين عبادة الله سبحانه، بل وامتن على الإنسان بأن ما يعلمه إنما هو من فضله تعالى وكرمه لا من عند نفسه وذلك يستوجب شكر الله تعالى، قال عز وجل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
والحديد الذي ملأ الأرض ببأسه ومنافعه- في هذا العصر بما لم يعهد له نظير في التاريخ – فيما نعلم- ربطه الله بكتبه ورسله ونصر دينه، كما قال تعالى:
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} .(16/88)
وقد كان يمثل لمنافع الحديد عند نزول الآية الكريمة بالقصعة والإبرة والفأس ونحوهما، أما الآن فيصعب حصر أدوات منافعه، كما كان يمثل لبأسه بالسيف والدرع ونحوهما وأين ذلك من بأس الحديد الآن.
وفي الآية الكريمة فوق كونها من أصرح الآيات دلالة على ربط العلوم والمؤسسات والمصانع بألوهية الله تعالى فيها فوق ذلك معجزة عظيمة من معجزات القرآن الكريم لهذه الإشارة بكلمات قليلة مشتملة على كل ما يمكن أن يخطر بالبال من منافع الحديد وبأسه.
وقد أثبت الرسول صلى الله عليه وسلم الأجر لصانع السلاح والممد به كما أثبته لمن يباشر القتال به.
ومن هذا يتضح بأنه ينبغي أن تكون مدارس المسلمين ومعاهدهم وجامعاتهم محققة لهذا المعنى منجبة علماء مسلمين هدفهم الأول تحقيق العبودية للإله الواحد في ذات أنفسهم، ثم دعوة غيرهم إلى تحقيقها، لا فرق بين متخصص وغير متخصص كلهم رجال دين وإن لم يكونوا كلهم علماء دين بالمفهوم التخصصي، كل منهم راسخ العقيدة ثابت الإيمان زكي الخلق عالم بما يحب عليه من عمل، عضو عامل مجاهد داع إلى الله، لا فرق- في الأصل- بين مدرس وقاض وطبيب وسياسي واقتصادي وصانع. كل منهم يشعر وهو يؤدي عمله أنه يعبد الله ويحقق مع إخوانه الخلافة التي أراد الله منهم تحقيقها في الأرض. لا انفصام ولا تنافر ولا خلاف بل التحام وتعاون واعتصام يجسدون في الواقع معنى الأخوة:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ومعنى التعاون: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
واقع البشرية قبل المنهج الأقوم(16/89)
ولقد كانت أمم العالم قل البعثة المحمدية- التي حملت أقوم منهج للبشرية كلها إلى يوم القيامة- في تيه وضياع. كانت كما وصفها الأستاذ الندوي في كتابه القيم "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين". بعث محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم والعالم بناء أصيب بزلزال شديد هزه هزاً عنيفاً فإذا كل شيء فيه في غير محله، نظر إلى العالم فرأى إنساناً هانت عليه إنسانيته، رآه يسجد للحجر والنهر وكل ما لا يملك لنفسه النفع والضرر.
رأى إنساناً معكوساً قد فسدت عقليته فلم تعد تستسيغ البديهيات وتعقل الجليات وفسد نظام فكره فإذا النظري عنده بديهي وبالعكس. يستريب في موضع الحزم ويؤمن في موضع الشك.
وفسد ذوقه فصار يستحلى المر ويستطيب الخبيث ويستمرىء الوخيم، وبطل حسه فأصبح لا يبغض العدو الظالم ولا يحب الصديق الناصح.
أرى مجتمعاً هو الصورة المصغرة للعالم، كل شيء فيه في غير شكله أو في غير محله، قد أصبح فيه الذئب راعياً، والخصم الجائر قاضياً وأصبح المجرم فيه سعيداً والصالح محروماً شقياً، لا أنكر في هذا المجتمع من المعروف، ولا أعرف من المنكر.
ورأى عادات فاسدة تستعجل فناء البشرية وتسوقها إلى هوة الهلاك، رأى معاقرة الخمر إلى حد الإدمان، والخلاعة والفجور إلى حد الاستهتار، وتعاطي الربا إلى حد الاغتصاب واستلاب الأموال، ورأى الطمع وشهوة المال إلى حد الجشع والنهامة، ورأى القسوة والظلم إلى حد وأد وقتل الأولاد.(16/90)
رأى ملوكاً اتخذوا بلاد الله دولاً وعباد الله خولاً، ورأى أحباراً ورهباناً أصبحوا أرباباً من دون الله يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله، رأى المواهب البشرية ضائعة أو زائفة لم ينتفع بها ولم توجه التوجيه الصحيح فعادت وبالاً على أصحابها وعلى الإنسانية. فقد تحولت الشجاعة فتكاً وهمجية والجود تبذيراً وإسرافاً، والأنفة حمية جاهلية والذكاء خديعة، والعقل وسيلة لارتكاب الجنايات والإبداع في إرضاء الشهوات.
رأى أفراد البشر والهيئات البشرية كخامات لم تحظ بصانع حاذق ينتفع بها في هيكل الحضارة، وكألواح خشب لم تسعد بنجار يركب منها سفينة تشق بحر الحياة رأى الأمم قطعاناً من الغنم ليس لها راع. والسياسة كجمل هائج على غاربه، والسلطات كسيف في يد سكران يجرح به نفسه ويجرح به أولاده واخواته.
قلت: وإذا كان الأستاذ الندوي نقل هذه الصورة الصادقة عن المصادر العلمية والتاريخية فإن صورة العالم اليوم لا تختلف عن تلك الصورة إلا في أن صورة عالم اليوم ابتكرت لشره وبلائه وتحطيمه وسائل أكثر هدماً وأسرع فتكاً وأشد بريقاً ولمعاناً تزخرف وتنفذ بسرعة هائلة يصعب على المرء متابعتها حيث ينسى بلاء اليوم محنة الأمس.
ومصادرها الحس والمشاهدة، ودليلها النتائج المدمرة..
وأصبحت الذبابة نحلة
هل رأي أحد يوما الذبابة القذرة التي لا تعيش إلا على العفن والأوساخ والتي تنقل الأمراض المعدية الفتاكة المؤذية، هل رأى أحد تلك الذبابة تحولت بذاتها إلى نحلة تنتقل من زهرة إلى أخرى تقطف من أكثرها طراوة وأحسنها رائحة ما تحوله في معملها العجيب إلى عسل مصفى فيه شفاء للناس.(16/91)
نعم والله لقد تحولت ذبابة قذرة مؤذية، هي الجاهلية الكافرة النتنة إلى نحلة معطاءة إلى أمة إسلامية، عمر بن الخطاب نفسه تحول إلى عمر الفاروق الذي ما سلك فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غيره. سمية الضعيفة تحولت إلى جبل أشم يقف أمام أبي جهل. مجتمع قريش الجاهل، بل مجتمع الجزيرة العربية، بل مجتمع العالم كله تحول من مجتمع خرافة إلى مجتمع إيمان، من مجتمع فوضى إلى مجتمع نظام من مجتمع ظلم إلى مجتمع عدل، من مجتمع تائه ضائع بلا غاية إلى مجتمع هدفه رضا الله وإخراج الناس من الظلمات إلى النور بذلك السر العجيب منهج الإسلام الخالد: كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبتلك القدوة الحسنة التي كان خلقها القرآن.
قال الأستاذ الندوي في كتابه السالف الذكر:
"بهذا الإيمان الواسع العميق، والتعليم النبوي المتقن، وبهذه التربية الحكيمة الدقيقة، وبشخصيته الفذة، وبفضل هذا الكتاب السماوي المعجز الذي لا تنقضي عجائبه ولا تخلق جدته، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإنسانية المتحضرة حياة جديدة.
عمد إلى الذخائر البشرية وهي أكداس من المواد الخام لا يعرف أحد غناءها ولا يعرف محلها وقد أضاعتها الجاهلية والكفر والإخلاد إلى الأرض فأوجد فيها بإذن الله الإيمان والعقيدة. وبث فيها الروح الجديدة وأثار من دفائنها، وأشعل مواهبها، ثم وضع كل واحد في محله فكأنما خلق له، وكأنما كان المكان شاغراً لم يزل ينتظر ويتطلع إليه، وكأنما كان جماداً فتحول جسماً نامياً وإنساناً متصرفاً، وكأنما كان ميتاً لا يتحرك فعاد حياً يملي على العالم إرادته، وكأنما كان أعمى لا يبصر الطريق فأصبح قائداً بصيراً يقود الأمم {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} .."اهـ.(16/92)
إن السعي لتحقيق هذه القمة الرفيقة فرض على الأمة الإسلامية لتأخذ زمام البشرية مرة أخرى وتقودها إلى شاطىء السلامة والأمان بنور هذا الدين الحنيف ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بالتزام المنهج الذي التزم به الجيل الرائد وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبالقدوة المربية المقتدية بذلك الإمام الخاتم عليه الصلاة والسلام.
أنواع العلوم وحكمها من حيث المنهج
تنقسم العلوم كلها إلى قسمين رئيسيين:
- علوم إنسانية: تتعلق بالإنسان نفسه- باعتقاده وخلقه ونظام حياته وصلته بخالقه وبالكون من حوله، وبمعاده.
وهذا العلم يجب أن ينبثق منهجه من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأن الله تعالى أعلم بخلقه وبالمنهج الذي يصلح لهم فدروب النفس ومنحنياتها لا يعلمها إلا بارئها، إذ الإنسان الذي يفتخر بعلمه المادي في هذا القرن ما زالت معرفته بنفسه بدائية (كما يقول القسيس كاريل أحد علماء الغرب البارزين) .
ولعلم الله تعالى بما يصلح للنفس يأمرها بالأقدام على ما تكره ويأمرها بالاستسلام له، لأن ما يأمرها به فيه الخير وإن بدا لها في الظاهر أنه شر مكروه، كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . وهو المبرأ سبحانه وتعالى من الظلم فلا يخشى أحد أن يظلم بسبب منهجه تعالى بخلاف البشر "يا عبادي إني حرمت على نفسي الظلم وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ".(16/93)
كما يجب ألا يتلقى المسلم هذا العلم إلا من عالم مسلم، والأصل في المسلم أن يكون أميناً مستوعباً لما يلقيه على طلبته خوفاً من المسئولية أمام ربه كما قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} .
وينقسم هذا العلم أيضاً إلى قسمين:
فرض عين وهو الذي يجب على كل فرد تحصيله ليصح تصوره لما أراد الله منه، كالعلم بالله، وبالرسول صلى الله عليه وسلم وبأركان الإسلام، وبتفاصيل العبادات التي يجب أن يتقرب بها إلى الله تعالى، وأمور الحلال والحرام في المعاملات التي يزاولها في أسرته ومع جيرانه ونحو ذلك.
وفرض كفاية وهو العلم الذي لا يطلب من جميع أفراد المسلمين بل يجب أن يكون فيهم من يعلمه فإذا وجد العدد الكافي الذي علم هذا العلم سقط عن باقيهم كالقضاء والإفتاء ونحوهما.
- النوع الثاني من العلوم:(16/94)
-العلوم الكونية، كالصناعة والزراعة والتجارة والطب والكيمياء والفيزياء وغيرها من المهن المختلفة التي تعتبر ضرورية أو محتاجاً إليها وهذه العلوم فرض كفاية يجب أن يوجد من أفراد المسلمين من يجيدها ليتمكنوا من الاستغناء بهم عن أعدائهم وليعدوا للعدو العدة المأمور بها كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} لأن الحاجة إلى العدو تفتح عليهم أبواباً من الضرر لا تحصى من إفساد عقيدتهم وأخلاقهم وجعلهم أذلاء للأعداء لا يقدرون على تصريف شئونهم الدينية والدنيوية كما هو واقع المسلمين في هذا الزمان، وهذا ما حرص عليه أهل الغرب - أي أن يبقى المسلمين محتاجين إلى علوم الغرب وصناعاتهم، ولذلك أغرقونا بصناعاتهم لا سيما الكمالية منها حتى لا نفكر في اشتغالنا بالصناعة فيكون ذلك هدماً لحضارتهم إذ أن المسلمين يملكون ركيزة الحضارة الحقة وهي الدين الذي لم يبق دين حق سواه، فإذا اجتمع الحديد والكتاب حق على الكفر الذل والدمار وفات عليهم أن يسودوا العالم وإن يستغلوا ثرواته.
ولنستمع في هذا المعنى إلى ما قاله أحد الساسة الفرنسيين في منتصف هذا القرن:"إن العالم الإسلامي يقعد اليوم فوق ثروة خيالية من الذهب الأسود والمواد الأولية الضرورية للصناعة الحديثة ولكنه في حاجة إلى الاستقلال في استغلال هذه الإمكانيات الضخمة الكامنة في بطون سهوله وجباله وصحاريه، إنه - يعني العالم الإسلامي- في عين التاريخ عملاق مقيد لم يكتشف نفسه بعد اكتشافاً تاماً فهو حائر قلق كاره لماضيه في عصر الانحطاط راغب رغبة يخالطها شيء من الكسل أو بعبارة أخرى من الفوضى في مستقبل أحسن وحرية أوفر.(16/95)
فلنعط هذا العالم ما يشاء ولنقو في نفسه عدم الرغبة في الإنتاج الصناعي والفني، فإذا عجزنا عن تحقيق هذه الخلطة وتحرر العملاق من قيود جهله وعقدة الشعور بعجزه عن مجازاة الغرب في الإنتاج فقد بؤنا بالإخفاق الذريع وأصبح خطر العالم العربي وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة خطراً داهماً يتعرض به التراث الحضاري الغربي لكارثة تاريخية ينتهي بها الغرب وتنتهي معه وظيفته القيادية ". اهـ.
والأصل أن يتلقى المسلم العلوم الكونية من مسلم ارتبط علمه بعقيدته، فإذا لم يوجد العالم المسلم الذي يغني المسلمين عن التلقي على أيدي الكافرين فإن أخذ العلم عنهم عندئذ متعين ولكن ليس لكل فرد من أفراد المسلمين أن يكون ذلك المتلقي بل الواجب أن يختار الأفراد الذين لا يخشى عليهم من دسائس الكافرين وشبهاتهم ممن أعدوا إعداداً خاصاً في تصورهم الصحيح للإسلام وربوا تربية إيمانية ثابتة ودربوا على السلوك الإسلامي حتى أصبح يسري في أرواحهم ودمائهم ويجب أن يتلقوا فقط العلوم الكونية البحتة وألا يتلقوا شيئاً من الجوانب الاعتقادية أو الأخلاقية أو التشريعية أو الاجتماعية، وأن يكونوا عالمين أن تلقيهم عن هؤلاء الأعداء إنما هو من باب الاضطرار كأكل الميتة يقدر بقدره فإذا أصبح في استطاعة المسلمين الاستغناء بعلمائهم كان لزاماً عليهم بذل جهودهم لتعليم أبنائهم تعليماً يفوقون به أعداءهم حتى يحققوا أمر الله عز وجل:
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} .
وهذا هو السبيل الذي سلكه المسلمون في العصور الفاضلة عصور الفتح والعلم والقيادة التي كانت أوروبا في حينها في عصورها المظلمة المسماة بالعصور الوسطى التي يخطىء بعض الكتاب من المسلمين بل الراجح أنهم يتعمدون أن يطلقوها على تلك العصور النيرة للمسلمين زوراً وبهتاناً.(16/96)
أقول: لقد سلك السلمون هذا المسلك العظيم فاطلعوا على العلوم الموجودة في عهدهم وكانت مطوية في الكتب التي تدرس نظرياً وتشرح وتترجم وتختصر فقط فحولها المسلمون إلى علوم تجريبية تطبيقية في فترة يسيرة من الزمن فأصبحوا أساتذة العالم وموجهيه يفد إليهم طالبو المعرفة من كل مكان، والسر في ذلك ما سبق من اعتبارهم كل عمل يعملونه عبادة تقربهم إلى الله. ولقد عرف أعداء الإسلام هذا السر الذي قفز بالمسلمين في فترة قصيرة من رعاة إبل حفاة جهال متباغضين إلى قادة للعالم حكماء كأنهم جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
ولنستمع إلى المستشرقة الألمانية زغريد هونكه - إذ تقول في كتابها المشهور (شمس العرب تسطع على الغرب) : "وهكذا فإن لعلم الفلك لدى المسلم معنى دينياً عميقاً فالنجوم ومدارها والشمس وعظمتها والقمر وسيره لبرهان ساطع على عظمة الله وقوته، الخالق الذي جاء باسمه النبي العربي مبشراً به خالق السموات والأرض وجاعل الظلمات والنور العليم بما في الصدور"اهـ.(16/97)
وقالت في الصفحة التالية: "ولن ننسى في هذا المجال أن نذكر عامل الزمن وتحديد أوقات الصلاة والصوم إذ أن كل مؤذن كان يحكم مهنته عالماً فلكياً صغيراً له معرفة علمية بعلم تحديد الأوقات، فهو مضطر أن يفهم كيف يدير الأشعة ليتمكن من تحديد موعد الأذان خمس مرات يومياُ وهو مسوق أيضاً للقيام بحسابات دقيقة لمعرفة أوقات ظهور القمر أول شهر رمضان وفي نهايته، وعليه كذلك أن يحسب مواعيد غروب الشمس وشروقها لتحديد مدة الصيام وموعد الإفطار وليس هذا كل شيء فحسب بل إن كسوف الشمس وخسوف القمر كان يجري حسابها نظراً لما لهاتين الظاهرتين.. من تأثير خارجي على بعض الفروض الدينية بالإضافة إلى تعيين اتجاه مكة المكرمة حيث القبلة التي يولي المؤمن وجهه قبالتها كلما أراد أن يصلي، إذن فقد كان اهتمام المسلمين بمظاهر السماء ضرورياً للغاية، بل قل أكثر ضرورة من الغذاء اليومي نفسه، لذلك تهافتوا- كالأطفال (هكذا) - إلى كل ما يمكن أن يزيدهم علماً ومعرفة ولم يمض وقت طويل حتى أصبح علم الفلك أقرب حقل علمي إلى نفوسهم"اهـ.
واقع المسلمين اليوم
تلك كانت حالة المسلمين عندما كان المنبع الذي يرتوون منه صافياً لم تشبه شائبة، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعندما كان المسلم يتلقى العلم للعمل والتطبيق لا لمجرد الشهرة أو المباهاة وعندما كان الداخل في الإسلام لا يلج بابه إلا بعد خلع الجاهلية في قوله وفعله واعتقاده فكان المحافظ على الصف الأول في الصلاة هو المحافظ على الصف الأول في المعركة، وكان حامل المصحف ليقرىء الناس هو حامل اللواء ليقود الناس.
ثم ماذا..(16/98)
ثم طرأ بعد ذلك ما طرأ على منهج التلقي، فاقتحمت عقائد اليونان أبواب الدولة الإسلامية في فلسفاتهم التي دخلت على أساليب علماء المسلمين ومصطلحاتهم، وخرافات الهند وفارس وطقوس النصارى التي علقت بعبادة الصوفيين ثم استحكم التقليد المذهبي قي الفقه الإسلامي وركود في مكانه.
ودب الخلاف بين المسلمين في الأصول والفروع وتفضيل هذا المذهب على ذاك حتى ابتعد الناس عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فانطفأت جذوة العاطفة وخيم الجحود.
ومن الجدير بالذكر أن هذا الجمود لم يطرأ على المسلمين إلا عندما توقف الفتح الإسلامي الذي كان قد وصل إلى حدود الصين شرقاً وإلى المحيط الأطلسي غرباً وإلى حدود فرنسا في أوروبا، والذي كان الفقه الإسلامي يتصاعد بتصاعده.
وتبع ذلك خلود إلى الأرض وكسل في العمل وقعود عن معالي الأمور فانحط العلم الإسلامي انحطاطاً اختلت به الموازين وتقدم ركب البشرية غير قائده فسلك بها دروب الهلاك وأوقعها في شباك الردى.
نقلت أوربا علوم المسلمين في معاهدهم وجامعاتهم بالأندلس، ونقلتها كذلك عندما اصطدمت بهم في الحروب المسماة بالصليبية لمدة قرنين من الزمان، وقد كان أهل أوربا بعيدين كل البعد عن العلوم التجريبية إذ كانوا يدرسون العلوم دراسة نظرية تشككهم في معلوماتهم الكنيسة في كل ما يخالف تعاليمها المنسوبة إلى الله زوراً وبهتاناً ولكنهم بعد أن تتلمذوا على يد المسلمين وجنوا بعض ثمار تلك العلوم لم يعودوا يأبهون بمزاعم الكنيسة أو يقبلونها بل صمدوا ضدها رغم القهر والاعتساف والتهديد حتى هزموها في نهاية المطاف ولم تعد منح الدنيا والآخرة معاً أو منعها من أحد.(16/99)
وبنقل أوربا تلك العلوم من جامعات المسلمين نبتت نواة حضارتها المادية وكانت قبل ذلك تغط في نوم عميق من التأخر والوحشية، ولنستمع إلى شهادة أحد أبنائها من أعداء الإسلام قال: غوستاف لوبون في كتابه- (حضارة العرب) :"ظهر مما تقدم أن تأثير الشرق في تمدين الغرب كان عظيماً جداً بفعل الحروب الصليبية وأن ذلك التأثير كان في الفنون والصناعات والتجارة أشد منه في العلوم والآداب وإذا ما نظرنا إلى تقدم العلاقات التجارية العظيم باطراد بين الغرب والشرق وإلى ما نشأ من تحاك الصليبيين والشرقيين من النمو في الفنون والصناعة تجلى لنا أن الشرقيين هم الذين أخرجوا من التوحش وأعدوا النفوس إلى التقدم بفضل علوم- العرب وآدابهم التي أخذت جامعات أوربا تعول عليها فانبثق عصر النهضة منها ذات يوم "اهـ.
وبهذا الانبثاق المبني على عداء الكنيسة لتلك العلوم بدأت أوروبا نهضتها على أساس فصل الدين عن العلم، فلا يعمل في المصنع ما يعمل في الكنيسة ولا يفكر المتعبد في الكنيسة بأمور المصنع، أي إما علم بلا دين وإما دين بلا علم؛ فابتعدوا عن الله ابتعاداً سبب الفساد المنتشر في الأرض، وهو ينذر بالدمار والهلاك.
قال سيد قطب رحمه الله في كتابه: (في ظلال القرآن) :"والعلم الذي يبعد القلب عن ربه علم فاسد زائغ عن مصدره وعن هدفه لا يثمر سعادة لصاحبه، ولا للناس إنما يثمر الشقاء والخوف والقلق والدمار؛ لأنه انقطع عن مصدره وانحرف عن وجهه وضل طريقه إلى الله. ولقد انتهت البشرية اليوم إلى رحلة جيدة من مراحل العلم بتحطيم الذرة واستخدامها، ولكن ماذا جنت البشرية اليوم من مثل هذا العلم الذي لا يذكر أصحابه الله ولا يخشونه ولا يحمدون له: ولا يتوجهون بعلمهم إليه؟ ماذا جنت غير الضحايا الوحشية في قنبلتي هيروشيما وناجازاكي وغير الخوف والقلق الذي يؤرق جفون الشرق والغرب معاً ويتهددهم بالتحطيم والدمار والفناء".(16/100)
وعلى هذا الأساس جد الغربيون في الاكتشاف والتجربة وظهرت ثمار جدهم المادية بسرعة هائلة أذهلت المسلمين الذين كانوا هم يغطون في نوم عميق هذه المرة، ففتحوا أعينهم على مصانع الأرض وهي توزع على العالم إنتاجها وآلاتها النافعة في السلم والحرب. كما فتحوا أعينهم على أنظمة إدارية متقنة تقل فيها الفوضى، وأنظمة سياسية يتقلص فيها الاستبداد وتجسم فيها الديمقراطية التي فيها نوع من الشبه بالشورى في الإسلام، فانبهروا لما رأوا وندموا على ما أضاعوا من الوقت وانجلى أمام أعينهم ما هم فيه من التأخر عن ركب التقدم المادي الذي أحرزه الغرب فتاقت نفوسهم للحاق بالركب الحضاري المادي فتعالت الصرخات للحث على الأخذ من تلك العلوم التي أحرز الغرب تقدماً فيها. فنادت فئة بأخذ ما عند القوم على علاته ما يتصل بالجانب الإنساني من عقيدة وقانون وأخلاق، وما يتصل بالجانب الكوني. وعارضتها فئة أخرى معارضة كاملة تدعو إلى الابتعاد عن الغرب وعلومه خشية من انحراف المسلمين إلى عقائد الكفار وأخلاقهم ونادت فئة أخرى إلى أخذ الصالح النافع الذي لا يعارض الإسلام، وهو الجانب الكوني فقط مع الحذر من عقائدهم وسلوكهم وليت هذه الفئة انتصرت على الفئتين الأخريين إلا أن الأولى متطرفة تدعو إلى فتح الباب على مصراعيه لكل شر وبلاء والثانية- تدعو إلى غلقه مطلقاً، وهو أمر غير ممكن وخير الأمور أوسطها.(16/101)
ولقد أراد الله أن يكون الصوت المسموع هو صوت الداعين إلى التغريب المطلق، لأن العوامل والسنن كانت في جانب هذا الصوت المشئوم، إذ تفشي الجهل في الشرق الإسلامي، وانتشرت الأمراض والأوبئة، وخيم الفقر المدقع وهذا ثالوث خطير لا تطيق البشرية عليه صبراً وأي داع يرفع صوته للقضاء على هذا الثالوث يعتبر منقذاً عند جماهير الناس في مثل هذه الحال خصوصاً إذا كانت ثمار دعوته قد أينعت وقطفت بعض أزهارها وذاق الناس طعمها كما هو الحال في الغرب آنذاك، إذ انتشرت المدارس والمعاهد والجامعات وأسست المستشفيات ودور الأيتام، وطارت أسراب الحديد في السماء تنهب الجو نهباً، ومخرت الفلك العملاقة عباب المحيطات وشقت الطرقات المعبدة التي تعاونت مع السيارات على طي المسافات البعيدة في وقت قصيرة وطاولت القصور الشاهقة السحاب في السماء، وتلألأت الأنوار الكاشفة في المنازل والشوارع فأصبح الليل كالنهار، وغير ذلك مما لا يحصيه العد.
فانطلقت جموع أبناء المسلمين إلى مدارس الغرب التي أنشأها المستعمرون في البلاد المستعمرة، كمصر ودول شمال أفريقيا، ولبنان وسوريا والعراق واندونيسيا والهند وغيرها، كما هرعوا إلى جامعات الغرب في أوروبا وأمريكا، وكانت قلوبهم خاوية من عقيدة الإيمان وعقولهم خالية من علوم الإسلام، وصلتهم بالله مبتوتة فتلقتهم تلك المدارس والجامعات بمناهج معدة إعداداً يحقق أهداف الكفر، وهي اقتلاع ما بقي من أثر للعقيدة الإسلامية في قلوبهم بالشبهات وإفساد سلوكهم بالشهوات، كالزنا والخمر والنوادي الفاسدة والمسارح والأفلام السينمائية وغيرها.(16/102)
وملء قلوبهم بالعقائد الفاسدة وعقولهم بالأفكار المنحرفة، ثم شغل أوقاتهم في غير ما وفدوا من أجله من تعلم العلوم والمعارف حتى يتخرجوا جهالاً بالعلم الذي تخصصوا فيه في صورة علماء به حتى لا تستغني بهم بلادهم بل تبقى دائماً في حاجة إلى المستعمرين فيعود الدارس ممسوخ العقيدة والسلوك والتخصص.
وإذا حصل شذوذ في هذه القاعدة فبرز أحدهم في تخصصه أغروه بشتى المغريات ليبقى في بلادهم وما أكثر العقول التي حالوا بينها وبين العودة إلى بلادها وإذا أفلت منهم أحد هؤلاء النوابغ فرجع إلى بلاده لم يجد فيها الإمكانيات المناسبة لاختصاصه فيعود ميمماً شطر المغرب، وقد يجازى في بلاده جزاء سنمار فيودع في المعتقل أو يوضع في وظيفة تعتبر إهانة له ولتخصصه.
لهذا بقيت الشعوب الإسلامية مفتقرة لاستيراد الإبرة كالطائرة مع أن كثيراً من أبنائها يحملون أرقى الشهادات الغربية التي يعتبرونها مفخرة من مفاخر التاريخ.
والقليل الذي يبذل جهده في اختصاصه حسب الإمكانيات المتاحة يعتبر نفسه من ذوي العلم الذي لا ينبغي أن يمت إلى الدين بصلة كما هي طبيعة أساتذته في الغرب الذين فصلوا العلم المادي عن الدين لأن دينهم المحرف لم يقبل الانسجام مع العلم بل لم يقبل المصالحة معه فسووا بين الدين المسيحي المحرف وبين الدين الإسلامي الذي نزلت أول آياته بأعظم مفتاحين للمعرفة وهما القراءة والكتابة، كما قال تعالى:: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وهو تقليد أعمى يفوق تقليد القرود، وظلم عظيم يسوي بين النور والظلام.(16/103)
لذلك ابتليت الأمم الإسلامية بسرطان الغرب في أبنائها الذين رجعوا حرباً على كل قيمة وخلق. ابتليت بمن حارب العقيدة الإسلامية والخلافة الإسلامية ولغة القرآن فأحلوا العقائد الكافرة محل الإيمان والقوميات والشعوبية الممزقة محل الخلافة الجامعة وولي المسلمين ساسة من تلاميذ الغرب جروا شعوبهم بالقوة إلى الإلحاد والكفر وصرح كثير منهم بكفره دون خجل.
كما ابتليت الأمم الإسلامية بموجهين وضعوا مناهج للتعليم مشتملة على نظريات الكفر والتحلل منفذين تعاليم أسيادهم من اليهود والنصارى والشيوعيين, وحاربوا أي منهج نابع من عقيدة المسلمين، وأقصوا كل من شموا منه رائحة التوجيه إلى هذه العقيدة.
كما وضعوا لأجهزة الإعلام مناهج قصد منها مسخ أبناء الإسلام مسخاً يصعب معه تربيتهم على الهدى والخلق الكريم وإن ساعة واحدة من بعض هذه الأجهزة الموجهة ضد العقيدة والأخلاق لجديرة بتحطيم أخلاق شعب بأكمله أو أضعافها لا فرق بين مدني وبدوي لأنها في متناول الجميع.
كما ابتلى المسلمون بأفواج من حملة الشهادات القانونية متخرجين في كليات الحقوق من قضاة ومحامين تعلقت قلوبهم بالتشريع البشري وأصبح عندهم أفضل من تشريع الله صاغوا للشعوب قوانين الغرب بل صاغوها في الحقيقة لحماية حكام تلك الشعوب وتحت ضغط توجيههم فكانوا وبالاً على العدل.
كما أخرجت لنا المدارس والمعاهد والجامعات طوابير من نوع آخر هم المغنون والمغنيات والراقصون والراقصات والممثلون والممثلات أفسدوا الشعوب إفساداً وكأن تلك الشعوب في حاجة إلى أمثال هؤلاء ليحرروا بهم بلادهم من العدو الدخيل.(16/104)
ومن العجيب حقاً- وعجائب الشاردين عن الله لا تنقضي أن يعلو قدر هؤلاء الساقطين لدى أكثر كبار قادة الشعوب الإسلامية فيغدقون عليهم الجوائز ويسخرون لهم أجهزة الإعلام لبث عارهم وفسادهم في أغلب الأوقات. وإذا مات أحد هؤلاء السفلة جندت لإشهار موته أجهزة الدولة للمشاركة في موكب جنازته الذي يوحي لمن رآه وقد تقدم الموكب كبار رجال الدولة من السياسيين والعسكريين أن هذا موكب بطل من الأبطال الذين سجلوا في صحائف التاريخ طول حياتهم أروع البطولات. مع أنهم كانوا السبب في القضاء على البطولة والجد في الشباب.
هذا في حال أنك ترى البطل الشجاع الذي نذر حياته لإنقاذ شعبه من الظلم والمذلة يوارى جثمانه في ظلمة الليل في قطعة من الأرض مجهولة قد لا يراه أقرب المقربين إليه.
وإذا ذكر في أجهزة الإعلام فإنما يذكر بصفات منفرة وألقاب قذرة توحي للسامع أو القارىء أنه عدو لشعب يسعى إلى إفساده جرياً على قاعدة فرعون وإخوانه {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} .
وبذلك يعمق في نفوس الشباب حب الهزل والميوعة لأنهما أعلى درجة وأذكر في الناس من الاتصاف بصفات المجاهدين المغمورين المشوهة سمعتهم بين الناس على مستوى الدولة وعلى أوسع نطاق.
وعلى هذا المنوال صارت المحاضن التي أشرف على مناهجها المستعمرون في بلاد المسلمين، بله المحاضن الغربية نفسها فإنها لم تخرج في الغالب إلا أعداء للدين الإسلامي على اختلاف تخصصاتهم وأعمالهم الوظيفية. وقليل من نجا منهم. فانقلبت بذلك الموازين والقيم حتى صار الحق باطلاً والباطل حقاً.(16/105)
قبس من بلاغة الفاروق رضي الله عنه
بقلم الدكتور علي البدري
الأستاذ المشارك بالجامعة الإسلامية – كلية اللغة العربية والآداب
الفاروق عمر بن الخطاب بن نفيل.. من بنى عدي بن كعب بن لؤي.
كناني قرشي يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجد الثامن (كعب بن لؤي) .. وهو خطيب قريش في الجاهلية..
أمه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة. فهي ابنة عم كل من أبي جهل. وخالد بن الوليد رضي الله عنه.. وشارك عمر خاله المشرك أبا جهل في هيبة قرشية دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو ربه أن يعز الإسلام بأحد العمرين.
واستجيبت دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكان الفاروق رضي الله عنه ثاني رجلين هما أحب الناس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
كان الفاروق طويلاً مهيباً. كأنه راكب والناس يمشون. ولونه يميل إلى الأدمة والشقرة، كما وصفه بذلك أولاده. وكانت سنه أصغر من سن الرسول صلى الله عليه وسلم بستة عشر عاماً كان قوي الحجة محباً للحق. مرهف الحس رائع البيان.
أسلم في السنة السادسة للبعثة بعد أربعين مسلماً تقريباً. وضربه المشركون لإسلامه وضربهم ورد على أبي جهل جواره.
وفرق الله تعالى بإسلام عمر بين الحق والباطل. وكان الجهر بالدعوة. ثم هاجر علناً. يقول علي:"لما هم عمر بالهجرة تقلد سيفه ومضى قبل الكعبة والملأ من قريش بفنائها. فطاف بالبيت سبعاً. ثم أتى المقام فصلى متمكناً. ثم مر على الملأ، وقال: شاهت الوجوه لا يرغم الله إلا هذه المعاطس. من أراد أن تثكله أمه، ويؤتم ولده وترمل زوجه فليلقني وراء هذا الوادي.! ! [1] .
قال: فما لقيه أحد منهم ". ويقول ابن مسعود رضي الله عنه:
"كان إسلام عمر فتحاً. وكانت هجرته نصراً. وكانت إمارته رحمة. ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي في البيت حتى أسلم عمر.."وقال حذيفة رضي الله عنه:(16/106)
"لما أسلم عمر. كان الإسلام كالرجل المقبل لا يزداد إلا قرباً. فلما قتل كان الإسلام كالرجل المدبر لا يزداد إلا بعداً " [2] .
وشهد الفاروق جميع الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكثيراً ما نزل القرآن برأيه. ونشير إلى ذلك على سبيل المثال لا الحصر.
من ذلك إشارته على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقتل المشركين أسرى بدر وشبهه النبي يومئذ بنوح إذ قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} [3] ثم نزل آيات سورة الأنفال برأي عمر وذلك قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [4] .
وعمر رضي الله عنه هو الذي أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم. بأن يأمر نساءه بالاحتجاب عن الناس جميعاً ونزل بعد ذلك قوله تعالى ... {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَاب} [5] .
ويوم وفاة ابن أبي. قال الفاروق للنبي صلى الله عليه وسلم:" أتصلي عليه وقد قال يوم كذا: كذا وكذا وكذا يشير إلى قوله: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلّ} ، وما نحن وهؤلاء إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك ".
ثم نزل قوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [6] .(16/107)
ولما اختلفت عائشة وحفصة رضي الله عنهما نزلت آية {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} [7] .
مؤيدة لرأي عمر رضي الله عنه.
ويوم حديث الإفك قال للنبي صلى الله عليه وسلم:"يا رسول الله أترى ربك قد دلس عليك في زواجها! ! ثم قال:"سبحانك هذا بهتان عظيم". ونزلت آيات سورة النور ببراءة عائشة رضي الله عنها.
ولما سمع قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ..} الخ الآيات.
قال عمر بعدها:"فتبارك الله أحسن الخالقين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكاتب الوحي: يومئذ هكذا نزلت فاكتبها ".
وهكذا نرى القرآن الكريم كثيراً ما ينزل برأي عمر رضي الله عنه.
هذا وقد ندبه رسول الله صلى الله عليه وسلم للرد على المشركين يوم أحد وقد قال أبو سفيان:"يوم بيوم بدر والحرب سجال: أعل هبل.
فرد عليه عمر: الله أعلى وأجل. لا سواء. قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
ثم سأله أبو سفيان: هل قتل محمد صلى الله عليه وسلم. فلما أجابه قال:"أنت أصدق عندي من ابن قميئة وأبر " [8] .
وكان دور الفاروق واضحاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد وفاته قال للصديق رضي الله عنهما:"أما علمت أن الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة. قصداً إلى تولية هذا الأمر سعد بن عبادة وأحسنهم مقالة من يقول: منا أمير ومنكم أمير.
وجاء الشيخان ومعهما أمين هذه الأمة أبو عبيدة. فتكلموا يومئذ. وقال عمر: بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه: هيهات لا يجتمع اثنان في قرن. والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيهاً من غيركم، والعرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم ".(16/108)
وهكذا يقطع الفاروق رضي الله عنه الشك باليقين. في أسلوب يفيض بلاغة وبياناً وبايع الناس أبا بكر رضي الله عنهم جميعاً.
وبعد وفاة الصديق سمع الفاروق أناسا يفضلونه عنه. فأبى ذلك ثم قال: لولا موقف أبين بكر يوم الردة ومنع الزكاة، لردت إلى التاريخ دولة المسلمين.
وعندما تولى الخلافة رضي الله عنه قال في بلاغة وتواضع:
ما كان الله ليراني أرى نفس أهلا لمجلس أبي بكر ثم نزل عن مجلسه مرقاة ثم قال:.. أيها الناس إني قد وليت عليكم. ولولا رجاء أن أكون خيركم لكم. وأقواكم عليكم وأشدكم استضلاعاً بما ينوب من مهم أموركم. ما توليت ذلك منكم. ولكفى عمر مهما محزنا انتظار موقف الحساب بأخذ حقوقكم ووضعها في مكانها. فربي المستعان فإن عمر أصبح لا يثق بقوة ولا حيلة إن لم يتداركه الله عز وجل برحمته وعونه وتأييده.
وهذا أسلوب سهل مطبوع لا التواء فيه ولا غموض. ولا هو بالمتكلف الممجوج.
وقديما قال النقاد: إن خبر القول ما كان معناه إلى قلبك أسرع من لفظه إلى سمعك [9] .
ويقول الحاحظ: أحسن الكلام. ما أغناك قليله عن كثيره. وما كان معناه في ظاهر لفظه. فهو الذي يصنع في القلوب صنيع الغيث في التربة.
وعلى هذا النمط رأينا عمر يقول لقواد المسلمين: اسمعوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشركوهم في الأمر ولا تجهدوا مسرعا فإنها الحرب والحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة والكف.(16/109)
وقال لسعد بن أبي وقاص: ترفق بالمسلمين في مسيرهم. ولا تجشمهم سيرا يتعبهم.. حتى يبلغوا عدوهم والسفر لم ينقص قوتهم. وإذا وطئت أرض العدو فأذك العيون بينك وبينهم. ولا يخف عليك أمرهم. وليكن عندك من تطمئن إلى نصحه وصدقه. فإن الكذوب لا ينفع خبره وإن صدقك في بعضه. والناس عين عليك وليس عينا لك. ولا تبعثن سرية ولا طليعة في وجه تتخوف منه غلبة أو ضيعة أو نكاية. فإذا عاينت العدو فاضمم إليك أقاصيك وطلائعك وسراياك. واجمع إليك مكيدتك وقوتك. ثم لا تعاجلهم المناجزة ما لم يكرهك قتال حتى تبصر عورة عدوك ومقاتله. وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها فتصنع بعدوك كصنعه بك.
وآمرك ومن معك أن تكنوا أشد احترسا من المعاصي منكم من عدوكم. فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم. ولا تستنصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح.. فإن لهم حرمة وذمة ابتليتم بالوفاء بها. كما ابتلوا بالصبر عليها. فما صبروا لكم فتولوهم خيرا. 1 هـ.
وكان يقول للمجاهدين. قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. ولا تمثلوا عند القدرة ولا تجبنوا عند اللقاء. ولا تقتلوا هرما ولا امرأة ولا وليدا، وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان وعند شن الغارات.
وبهذه الدراية الواسعة بالحرب فتح الفاروق العراق والشام ومصر وأرمينية وكل امبراطورية فارس حتى قيل أن الرقعة التي فتحها لو تمت لعشرة خلفاء في عشرة أمثال خلافته لعدوا من الفاتحين. وكانت توجيهاته مصوغة بعبارات مسبوكة محبوكة ملؤها البالغة وسحر البيان.
وفي صيانته للأسرة المسلمة نراه يقول لرجل أزمع الطلاق لأنه لا يحب زوجته: ويحك ألم تبن البيوت إلا على الحب فأين الرعاية وأين التذمم [10] .
وهكذا تبدو توجيهاته السديدة في الأمور الصغيرة والكبيرة.(16/110)
وكان جزاؤه على الله تعالى. فقد كان راتبه اليومى درهما وربع درهم. فقالت له أمرأته يوما إنها ادخرت ربع الدرهم ثم اشترت قميصا. فصادر ثمن القميص وخفض راتبه اليومي إلى درهم فقط.
كان الفاروق رضي الله عنه يقول للمسلمين منتهزاً فرصة الحج.. يا معشر المسلمين: إنا لم نبعث عمالنا إليكم ليضربوا أبشاركم. ويأخذوا أموالكم. ولكن بعثناهم ليعلموكم ويخدموكم فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلى. فوالذي نفس عمر بيده لأقصنه منه فقال ابن العاص: حتى وإن أدب رعيته؟ فقال الفاروق: إي والله لأقصنه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه. ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم. ولا تجمروهم فتفتنوهم. ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم.
وقال لعمرو في موطن آخر.. متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا [11] .
وهكذا شفى الفاروق رعيته من كثير من عيوبها.
وعندما اعترضت عليه امرأة بحق. قال على ملأ من الناس: أصابت امرأة وأخطأ عمر..
وهذا لا يكاد يصدر عن مسئول في دنيا الناس. إلا متأدبا بأجدب الإسلام.
وقال في عبارات أخاذة بالألباب: لو أن جملا هلك ضياعا بالعراق لخشيت أن يسألني عنه ربي ...
وكان الفاروق رضي الله عنه فطنا كيسا واعيا لأسرار الله في كونه. فقد ظل أكثر من عشرة أعوام خليفة للمسلمين يخطب الجمع والأعياد وغيرهما.
وكانت رسائله الصادرة في دولة مترامية الأطراف تفيض بالحكم والأمثال جارية بين طرفي الإيجاز والإطناب. وكانت بلاغته واضحة لا لف فيها ولا دوران وكان لا يجنح إلى الإطناب إلى إذا اقتضاه المقام. ومن ذلك رسالته في القضاء التي قال فيها للقاضي.(16/111)
آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك. حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على من ادعى واليمين على من أنكر.. ومراجعة الحق خير من التمادى في الباطل.. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد. أو مجربا عليه شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو نسب.
وإياك والضجر والتأفف بالخصوم والتنكر عند الخصومات.. ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانه الله فما ظنك بثواب الله عز وجل في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام [12] .
وكتب إلى معاوية في القضاء يقول له:
.. أدن الضعيف حتى يشتد قلبه وينبسط لسانه. وتعهد الغريب. فإنك إن لم تتعهده ترك حقه ورجع إلى أهله. وإنما ضيع حقه من لم يرفق به..
كتب إلى شريح يقول له:.. لا تشار ولا تمار ولا تبع ولا تبتع في مجلس القضاء ولا تقضين بين اثنين وأنت غضبان [13] .
وهكذا ترى أسلوبه رضي الله عنه مترددا بين الإيجاز والإطناب والمساواة. وأساليبه فطرية مطبوعة وإن أردت المزيد فتأمل كتابه أهل إيلياء (بيت المقدس) والذي منه:
أنه أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم.. ولا يسكن معهم أحد من اليهود.
وعليهم أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن. وعليهم أن يخرجوا منها الروم.
ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم.. فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم حتى يبلغوا مأمنهم.
وفي موطن آخر نراه يحذر قراء القرآن الكريم فيقول: أريدوا الله بقراءتكم وأريدوه بأعمالكم فإنما كنا نعرفكم إذ الوحي ينزل وإذ النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا فقد رفع الوحي وذهب النبي صلى الله عليه وسلم.
.. فمن أظهر لنا خيرا ظننا به خيرا وأثنينا به عليه. ومن أظهر لنا شرا ظننا به شرا وأبغضناه عليه. ويقول.. وترك الخطيئة خير من معالجة التوبة. ورب نظرة زرعت شهوة، وشهوه ساعة أورثت حزنا طويلا [14] .(16/112)
ويقول: إن بعض الطمع فقر. وإن بعض اليأس غنى. وإن بعض الشح شعبة من النفاق. ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون.
هذا وكان الفاروق ببيانه الرائع المعهود لا يخشى في دين الله لومة لائم. نفذ هذا بكل دقة وأوصى به الخلفاء من بعده، أوصاهم بالمهاجرين والأنصار والمسلمين عامة. وأوصى بأهل الذمة أيضا إذا ما أدوا ما عليهم طوعا أو عن يد وهم صاغرون.
وأوصى الأمراء. ألا يغلقوا أبوابهم دون المسلمين وإلا أكل قويهم ضعيفهم.
أما حكمته المأثورة فلك أن تعرف منها هذه الأقوال العمرية.. الكريمة:
أعقل الناس أعذرهم للناس- لا تؤخر عمل يومك لغدك- لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له- كفى بالمرء غيا أن يكون فيه خصلة من ثلاث.
أنه يعيب شيئا ثم يأتي مثله- أو يبدو له من أخيه شيء يخفى عليه من نفسه- أو يؤذى جليسه فيما لا يعنيه- وقوله: ثلاث يبقين لمك الود في صدر أخيك. أن تبدأه بالسلام وتوسع له في المجلس. وتدعوه بأحب الأسماء إليه.
ومن أقواله الجامعة. لست خبا. والخب لا يخذعنى.
ومن تذوقه المرهف. أنه مر على قوم لا يعرفهم وكانوا يصطلون فقال لهم السلام عليكم يا أهل الضوء ولم يقل يا أهل النار.
وسأل رجلا ما اسمك؟ قال: ظالم بن سارق. فقال له تظلم أنت ويسرق أبوك.
وسأل غلاما مخطئا فقال: نحن متعلمين. فقال له: لخطؤك في كلامك أشد علينا من خطئك في نضالك.
وكان يشجع الناس على تعلم الشعر فيقول: أفضل صناعات الرجل الأبيات من الشعر يقدمها في حاجته يستعطف بها الكريم ويستميل بها اللئيم. وكان يوصى بما قيل من الشعر في الإسلام. ورأى يوما حسان بن ثابت يقول الشعر في المسجد فقال له: أرغاء كرغاء البكر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حسان إليك عنى فإنك تعلم أنني كنت أنشد في هذا المكان من هو خير منك فما يغير على شيئاً. فقال الفاروق: صدقت. وصدقت. وتركه ينشد.(16/113)
ووصف حالته الجاهلية بأن أباه كان فظا يقول عنه. يدئبني إذا عملت ويضربني إذا فصرت ثم يتمثل يقول ورقة أو غيره.
يبقى الآله ويودى المال والولد
لا شيء مما ترى تبقى بشاشته
والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
لم تغن عن هرمز يوما خزائنه
والإنس والجن فيما بينها ترد
ولا سليمان إذ تجرى الرياح له
من كل أوب إليه راكب يفد
أين الملوك التي كانت نوافها
لابد من ورده يوما كما وردوا
حوض هنالك مورود بلا كذب
هذا وقد نسب إلى الفاروق شعر قليل كقوله:
أبر وأوفي ذمة من محمد
وما حملت ناقة فوق رحلها
وأعطى لرأس السابق المتجرد
وأكسى لبرد الخال قبل ايتذاله
وكان الفاروق رضي الله عنه ناقدا مرهف الإحساس. إلا أنه كان كثيرا ما يحاول تطييب خوطر النهجوين ولو كان الهجاء بينا. ثم يأخذ لهم حقهم ممن تقول عليهم. من ذلك حديثه مع بني العجلان عندما شكوا إليه هجاء النجاشى. ومن هذا الهجاء قوله:
وتأكل من كعب بن عوف ونهشل
تعاف الكلاب الضاريات لحومهم
فقال الفاروق كفى ضياعا من تأكل الكلاب لحمه فقالوا إنه قال:
ولا يظلمون الناس حبة خردل
قبيلة لا يغدرون يذمة
فقال فاروق ليت آل الخطاب كذلك.. فقالوا هجانا، قال ما أسمع ذلك قالوا فاسأل حسان. فأجاب حسان. ما هجاهم ولكن سلح عليهم [15] .
فالفاروق كان يعرف أنه هجاء جلى ولكنه حاول أن يستل الآلام من صدورهم فلما تمسكوا بحقهم عاقب لهم شاعرهم وحقا فقد كان الفاروق رضي الله عنه فضلا عما نسب إليه من الشعر ومن تشجيعه له. من أنقد أهل زمانه ومن أبلغ الناس.
قال ابن عباس
بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبعض أصحابه يتذاكرون الشعر.. إذا أقبلت، فقال عمر. قد جاءكم أعلم الناس به ثم قال: من شاعر الشعراء؟(16/114)
قال ابن عباس: فقلت: زهير بن أبي سلمى. فقال هلم من شعره ما تستدل به على ما ذكرت فقلت: امتدح قوما من بني عبد الله بن غطفان فقال:
قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم
طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
قوم أبوهم سنان حين تندبهم
مرزءون بها ليل إذا حشدوا
إنس إذا أمنوا جن إذا فزعوا
لا ينزع الله منهم ما له حسدوا
محسدون على ما كان من نعم
فقال الفاروق: أحسن. وما أعلم أحداً أولى بهذا الشعر من هذا الحي من بين هاشم بفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: فقلت: وفقت يا أمير المؤمنين. ولم تزل موفقا.
وبهذا كان يقول عمر عن زهير: أشعر الشعراء من لا يعاظل في كلامه ولا يمدح الرجل إلا بما فيه. ولقد سأل كعب بن زهير يوما: هل بليت الحلل التي كساها هرم أباك. فقال له: بليت فقال عمر: ولكن الحلل التي كساها أبوك هرما. لم تبل. يشير على شعر زهير في مدح هرم بن سنان نحو قوله
يلق السماحة منه والندى خلقا
من يلق يوما على علاته هرما
وكان الفاروق ذواقة مرهف الأحساس. أبكاه متمم بن نويرة حين أنشد الصديق عينيته التي رثى بها أخاه مالك بن نويرة الذي قتل مع مانعي الزكاة والمرتدين ومنها:
من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
وكنا كندماني جذيمة حقبة
لطول اجتماع لم نبت ليلة م
فلما تفرقنا كأني ومالكا عا
ورق الفاروق لصبية الحطيئة إذ استشفع بهم إليه من حبسه وهو الذي لا يقبل شفاعة مخلوق مهما كان شأنه. والحق في دين عمر أحق أن يتبع.. إنها تعاليم الإسلام ولكنه رق لأطفال الحطيئة حين قال له:
زغب الحواصل لا ماء ولا ثمر
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ
فاغفر عليك سلام الله يا عمر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة
ألقى إليك مقاليد النهي البشر
أنت الأمام الذي من بعد صاحبه
لكن لأنفسهم كانت بك الأثر
لم يؤثروك بها إذ قدموك لها(16/115)
بين الأباطح تغشاهم بها القرر
فامنن على صبية بالرمل مسكنهم
من عرض داوية يعمى بها الخبر [16]
أهلى فداؤك كم بيني وتبنهم
فأطلقه وأخذ عليه ألا يهجو مسلما بعد ذلك. واستطاع الفاروق أن يضرب بيد من حديد على يد كل عابث أو مستهتر. وبهذا فلم يتقول زنديق أي شعر يشيح بوجهه نحو الإسلام وفي عهده كله لم تقم لغير الشعر الإسلامي قائمة وكفاه بهذا أجرا وثوابا.
وظل الفاروق رضي عنه طوال مدة خلافته حاكما عادلا لا تأخذه في الله لومة لائم. مما يجعلنا نوقن أن الفاروق لا نظير له على الإطلاق في حكام الدنيا كلها قديمها وحديثها باستثناء أنبياء الله وباستثناء الصديق رضي الله عنه.
ولأمر فضي الله جل في علاه. استشهد الفاروق رضي الله في صلاة الفجر على يد المجرم الأثيم أبي لؤلؤة فيروز المجوسي. يبدو أن وراءه بعض اليهود والمجوس.
وقال عمر عندما علم بنفاذ الطعنة المجوسية اليهودية:
الحمد لله الذي جعل نهايتي على يد رجل لم يسجد لله سجدة واحدة. وتوفي رضي الله عنه لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين للهجرة.
ودفن صبيحة أن ما في بيت عائشة بعد أن أمر ولده عبد الله أن يستأذن عائشة (وعمر في نعشه) ويقول لها عبد الله: عمر بن الخطاب بالباب يستأذن في أن يدفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن أذنت فبها والحمد لله. وإلا فادفني بالبقيع مع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأذنت عائشة بعد أن كانت تتمنى أن تدفن هي بجانب رسول الله صلى الله عليه وسلم وبجانب أبيها رضي الله عنه. وكان سن الفاروق يوم استشهاده دون الستين بثلاث سنوات كما قيل [17] .
وفي الختام نذكر وصف ابن عباس للفاروق حين سأله عنه معاوية فقال:
رحم الله أبا حفص كان والله حليف الإسلام ومأوى الأيتام ومنتهي الإحسان. ومحل الإيمان وكهف الضعفاء ومعقل الحلفاء.(16/116)
قام بحق الله عز وجل صابرا محتسبا حتى أوضح الدين وفتح البلاد وأمن العباد. فأعقب الله على من يتنقصه اللعنة إلى يوم الدين.
.. رحم الله الفاروق وجزاه عن الإسلام والمسلمين أتم الجزاء وأوفاه.
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} ..
د/ على البدرى
الأستاذ المشارك بالجامعة الإسلامية- كلية اللغة العربية والآداب.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الفاروق عمر للدكتور محمد حسين هيكل ص 23.
[2] تراجم أدبية للأستاذ السباعي بيومي ص 6، 7.
[3] سورة نوح الآيتان 26، 27.
[4] الأنفال آية 67. وما بعدها.
[5] سورة الأحزاب آية 53.
[6] سورة التوبة آية 84.
[7] سورة التحريم آية 5.
[8] السيرة الحلبية على بن برهان الدين الحلبي جـ 3 ص 495.
[9] العمدة لابن رشيق ط 19025 ص 23 جـ 1.
[10] في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب جـ 2 ص 621 ط دار الشروق.
[11] المصدر السابق جـ 2 ص 641 وعبقرية محمد للعقاد ص 87.
[12] راجع النص كاملا في البيان والنبين للجاحظ تحقيق هارون جـ ص 48، 19 وراحعه أيضا في إعجاز القرآن للباقلاني تحقيق السيد صقر ص 140-142.
[13] لانشار.. لا تسخر. لا نمار.. لا تشك. ولا تبتع.. ولا تشتر.
[14] الفاروق عم للدكتور محمد هيك ص 79 وما بعدها (2) .
[15] العمدة لابن رشيق جـ1 ص 29 ط 1925.
[16] الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ص 371 وما بعدها.
[17] تراجم أدبية للأستاذ السباعي بيومي ص 34 طبعة القاهرة سنة 1935م.(16/117)
من قيم الإسلام
"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" حديث شريف
بقلم الدكتور عز الدين على السيد
كلية اللغة العربية والآداب
إن طبت منقلباً أو سؤت منقلبا
فتش عن النفس تعرف عندها السببا
به المسالك يخشى بينها العطبا
فمن حتى خطه عن دربه اضطربت
عن استقامتها تستوجب الأدبا
والنفس أعدى عدو المرء إن صدفت
عدو آدم.. إن يظفر بها لعبا
فلا تدعها وما شاءت.. فيملكها
سلطان عقلك.. للأخلاق منتهبا
يساور النفس في الأضلاع مختلساً
يزلزل العقل أو يعدوه مكتئبا
وقد يفلسف للعقل الذنوب بما
أنزل على رأسه من دينك الشهبا
فلا تدعه له يغتاله شرهاً
تمرق حروفك في أضلاعه لهباً
واذكر- إذا شمت وهن العقل- خالفه
لا تغل في كبتها شكراً لمن وهبا
أعل الغرائز بالإيمان.. معتدلا
خوض المهالك.. مهما تدعه ذهبا
ولا تطأطىء لها عبداً تجشمه
وشقوة المرء في الإفراط إن غلبا
فالقصد دين.. وفي التفريط مضيعة
نور من الله في أفق الهدى انسكبا
ميزان دينك لا قانون يعدله
تقيم من حولك الضوضاء واللجبا
حكمه في الأمر تسلم من مخالفة
يكنها مارد في غاسق وقبا
أضيء به القلب تأمن غيلة عظمت
سلب المتاع.. وما أحرزته صعبا
فظلمة البيت تغرى السارقين على
يعلى.. وإن نلت في إعلائه تعبا
وشد بتقواك سدا حول نفسك لا
أن يظهروه وما اسطاعوا له طلبا
كسد يأجوج يغشاهم فما قدروا
فمن يخف تعبا لا يملك الذهبا
تنس المتاعب بالأمن الطويل غداً
تدعوه في الأمر مما عز أو صلبا
والحيأ إلى الله في أدني الأمور كما
ففرقت قلبنا في درئها شعبا
فكم صغير غدت ناراً مغبته
أخذ الأمور وأن لا تحكم السببا
حسن التوكل لا يعنى التواكل في
وليخش عبد الهوى والشر ما اكتسبا(16/118)
لكل نفس من الخيرات ما كسبت
فكل شيء عدا أوضاعه اضطربا
والعدل وضعك شيئاً حق موضعه
أعلى من العدل في كسب العلا نسبا
إلا إذا اجتزت للإحسان منزلة
إن جاوز البغى. والإسراف والغضبا
فأخذك الحق عدل لا تعاب به
شم الأنوف فتنسى كبرها عجبا
لكن عفوك إحسان تقود به
ولا تسمى به من عاقل ذنبا
وليس معناه عجزاً مؤاخذة
عن نفسك الحلم.. فاجنب نفسك اللغبا
فالشر مجلبة للشر يفثؤه
من يذكر الأصل من أرحامه اقتربا
الناس مهما نسوا الأعراق من رجل
يعمى البصير.. به نور الهدى احتجبا
ما فرق الإخوة الأنجاب مثل هوى
أجل من حفظنا أنسابنا أربا!
وليس من مطيع مهما يشد بنا
نحميه بالحب من أرواحنا حدبا؟
فكيف نجني على بند السلام فلا
أو صالنا بالهوى قد مزقت أربا!
صلاتنا قد غدت زيفاً ومنقصه!
لما بكى الحظ مظلوم ولا ندبا
لو كل فرد تولي نفسه أدياً
أمناً يعيد لشمل الدين ما انشعبا
فلنسلك الدرب عل الله يرزقنا
ومن أماط الأذى لله محتسبا!
لا يستوى من رمى دون الخطى حجراً
وقاه ربك يوم الحسرة السغبا!
فمن وقى ساغباً في يوم مسغبة
أضناه لذع الصدى إذ ماؤه نصبا
ومن سقى صادياً بالبر منعطفاً
رب على نفسه الإحسان قد كتيا!
رواه في الهول والأكباد ظامئة
ومن يكذبه من هذا الورى كذبا!
فالبئر والكلب مصدوق حديثهما
فمن جفاها- ولو في أهله- اغتربا
وروضة الدين مازالت لنا وطناً
وصانع السوء يجني غبه نصبا
ما ضاع خير ووجه الله باعثه
حامي العباد إذ ما قلبه وجبا
فمن حمى الفزع الملهوف أنقذه
جان على عرضه المظلوم قد وثبا
ومن رأي مسلماً يغتابه سفهاً
ستائر الله تعالى حوله الطنبا
فذب عن عرضه ستراً عليه رأي
من شاء إحصائها يستند الكتبا
وأنعم الله لا تدرى دقائقها(16/119)
تعش على الحمد للنعماء مصطحباً
فكن على حفظها بالشكر حارسها
باغ.. على رأسه نحو الردى ركبا
زوالها جحدها.. لا رده سفر
شرا على الدين واحذر مقته دأبا
والكبرياء رداء الله فاخش به
كمن بغى ثوبك المختص مجتذيا
فمن تعالى بغى في حق بارئه
تمنح من القوم في دار الردى لقبا
إياك والزهو إن تعط المناصب أو
وإن حلا مرها في الحلق أو عذبا!
فإنها فتنة في حملها نصب
وهي التي ذبت من عصيانها رهبا!
أشكو إلى الله نفسى في مواعظها
حتى أطيب بها في الحشر منقلبا!
يا رب رد على الإسلام تويتها
عز الدين على السيد
كلية اللغة العربية والآداب
الجامعة الإسلامية بالدينة المنورة(16/120)
آيات الله في الكون
لفضيلة الشيخ أحمد عبد الرحيم السايح
ـل أقلها هو ما إليه هداكا
لله في الآفاق آيات لعـ
عجب عجاب لو ترى عيناكا
ولعل ما في النفس من آياته
حاولت تفسيراً لها أعياكا
والكون مشحون بأسرار إذا
يا شافي الأمراض من أرداكا
قل للطبيب تخطفته يد الردى
عجزت فنون الطب من عافاكا
قل للمريض نجا وعوفي بعد ما
فهوى بها من ذا الذي أهواكا
قل للبصير وكان يحفر حفرة
بلا اصطدام من يقود خطاكا
بل سائل الأعمى خطا بين الزحام
راع ومرعى. ما الذي يرعاكا
قل للجنين يعيش معزولا بلا
لدى الولادة. ما الذي أبكاكا
قل للوليد بكى وأجهش بالبكا
فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه
تحيا وهذا السم يملأ فاكا
واسأله كيف تعيش ياثعبان أو
شهدا وقل للشهد من حلاكا
واسأل بطون النحل كيف تقاطرت
ـن دم وفرث ما الذي صفاكا
بل سائل اللبن المصفى كان بيـ
يا ميت فاسأله. من أحياكا
وإذا رأيت الحى يخرج من حنا
فاسأله من أين البياض أتاكا
وإذا ترى ابن السود أبيض ناصعا
فاسأله من ذا بالسواد طلاكا
وإذا ترى ابن البيض أسود فاحما
عن عيون الناس من أخفاكا
قل للهواء تحسه الأيدى ويخفى
ورعاية. من بالجفاف رماكا
قل للنبات يجف بعد تعهد
بو وحده فاسأله من أرباكا
وإذا رأيت النبت في الصحراء ير
أنواره فاسأله: من أسراكا
وإذا رأيت البدر يسرى ناشراً
أبعد كل شيء ما الذي أدناكا
واسأل شعاع الشمس يدنو وهي
بالمر من دون الثمار غذاكا
قل للمرير من الثمار من الذي
فاسأله: من يا نخل شق نواكا
وإذا رأيت النخل مشقوق النوى
فاسأل لهيب النار. من أوراكا
وإذا رأيت النار شب لهيبها
قمم السحاب. فسله من أرساكا(16/121)
وإذا ترى الجبل الأشم مناطحاً
فسله: من بالماء شق صفاكا
وإذا ترى صخرا تفجر بالمياه
ل جرى. فسله: من الذي أجراكا
وإذا رأيت النهر بالعذب الزلا
فاسأله: من ياليل حاك دجاكا
وإذا رأيت الليل يغشى داجيا
فاسأله: من يا صبح صاغ ضحاكا
وإذا رأيت الصبح يسفر ضاحكا
عيناك وانفتحت بها أذناكا
هذى عجائب طالما أخذت بها
إن لم تكن لتراه فهو يراكا
والله في كل العجائب ما ثل
الشيخ أحمد عبد الرحيم السايح(16/122)
من منافع الحج وفوائده
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه..
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى شرع الحج لحكم كثيرة وأسرار عظيمة ومنافع جمة أشار إليها سبحانه في قوله عز وجل {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ليشهدوا لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فأوضح سبحانه في هذه الآيات أنه دعا عباده للحج ليشهدوا منافع لهم، ثم ذكر سبحانه منها أربع منافع:-
الأولى: ذكره عز وجل في الأيام المعلومات وهي عشر ذي الحجة وأيام التشريق. الثانية، والثالثة، والرابعة: أخبر عنها سبحانه بقوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ..(16/123)
وأعظم هذه المنافع وأكبرها شأناً ما يشهده الحاج من توجه القلوب إلى الله سبحانه والإقبال عليه والإكثار من ذكره بالتلبية وغيرها من أنواع الذكر، وهذا يتضمن الإخلاص لله في العبادة وتعظيم حرماته والتفكير في كل ما يقرب لديه ويباعد من غضبه، ومعلوم أن أصل الدين وأساسه وقاعدته التي عليها مدار أعمال العباد هو تحقيق معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله قولاً وعملاً وعقيدة، فالشهادة الأولى توجب تجريد العبادة لله وحده وتخصيصه بها من دعاء وخوف ورجاء وتوكل وصلاة وصوم وذبح ونذر وغير ذلك من أنواع العبادة، لأن هذا كله حق لله وحده له شريك في ذلك لا ملك مقرب ولا نبي مرسل كما قال عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا َّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلا َّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} وقال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} والدين هنا معناه العبادة وهي طاعته وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام بفعل الأوامر وترك النواهي عن إيمان بالله ورسله وإخلاص له في العبادة وتصديق بكل ما أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم رغبة في الثواب وحذراً من العقاب وهذا هو معنى "لا إله إلا الله"فإن معناها لا معبود حق إلا الله فهي تنفي العبادة وهي الألوهية بجميع معانيها عن غير الله سبحانه وتثبتها بجميع معانيها لله وحده على وجه الاستحقاق، وجميع ما عبده الناس من دونه من أنبياء أو ملائكة أو جن أو غير ذلك فكله معبود بالباطل كما قال الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} . ولهذا الأمر العظيم خلق الله الجن والإنس وأمرهم بذلك فقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْس َ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي(16/124)
خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وعبادته سبحانه هي توحيده في ربوبيته والهيته وأسمائه وصفاته وطاعة أوامره وترك نواهيه عن إيمان وتصديق ورغبة ورهبة كما سبق بيان ذلك، وسمى الله سبحانه دينه عبادة لأن العباد يؤدونه بخضوع وذل لله سبحانه، ومن ذلك قول العرب: طريق معبد أي مذلل قد وطئته الأقدام وبعير معبد أي مذلل قد شد عليه حتى صار ذلولاً، وهذه المسألة أعني مسألة التوحيد والإخلاص لله وتخصيصه بالعبادة دون كل ما سواه- هي أهم المسائل وأعظمها وهي أهم المسائل وأعظمها وهي التي وقعت فيها الخصومة بين الرسل والأمم حتى قالت عاد لهود عليه السلام: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم لما أمرهم بالتوحيد: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} وقالوا أيضاً فيما ذكر الله عنهم في سورة الصافات: {أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} بعد قوله سبحانه: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} فعلم بهذه الآيات وما جاء في معناها أن أهل الشرك يستنكرون دعوة التوحيد ويستكبرون عن التزامها لكونهم اعتادوا ما ورثوه عن آبائهم من الشرك بالله وعبادة غيره..(16/125)
فالواجب على أهل العلم والإيمان وعلى أهل الدعوة إلى الله سبحانه أن يهتموا بهذا الأمر وأن يوضحوا حقيقة التوحيد والشرك للناس أكمل توضيح وأن يبينوه أكمل تبيين لأنه الأصل الأصيل الذي عليه المدار في صلاح الأعمال وفسادها وقبولها وردها كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وقال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .(16/126)
أما الشهادة الثانية. وهى شهادة أن محمداً رسول الله، فهي الأصل الثاني في قبول الأعمال وصحتها وهي تقتضي المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته وتصديق أخباره وطاعة أوامره وترك نواهيه وأن لا يعبد الله إلا بشريعته عليه الصلاة والسلام كما قال الله عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وقال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ولا هداية للصراط المستقيم إلا باتباعه والتمسك بهداه كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} ، وقال عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلى من أبى.. قيل: يا رسول الله ومن يأبى، قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى".. رواه البخاري في صحيحه، يدل على هذا المعنى قول الله سبحانه وتعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} .(16/127)
والآيات في هذا المعنى كثيرة، ومن منافع الحج وفوائده العظيمة أنه يذكر بالآخرة ووقوف العباد بين يدي الله يوم القيامة، لأن المشاعر تجميع الناس في زي واحد مكشوفي الرؤوس من سائر الأجناس يذكرون الله سبحانه ويلبون دعوته وهذا المشهد يشبه وقوفهم بين يدي الله يوم القيامة في صعيد واحد حفاة عراة غرلاً خائفين وجلين مشفقين، وذلك مما يبعث في نفس الحاج خوف الله ومراقبته والإخلاص له في العمل كما يدعوه إلى التفقه في الدين والسؤال عما أشكل عليه حتى يعبد ربه على بصيرة وينتج عن ذلك توجيهه من تحت يده إلى طاعة الله ورسوله وإلزامهم بالحق، فيرجع إلى بلاده وقد تزود خيراً كثيراً واستفاد علماً جماً، ولا ريب أن هذا من أعظم المنافع وأكملها لاسيما في حق من يشهد حلقات العلم في المسجد الحرام والمسجد النبوي والمشاعر ويصغى إلى الدعاة إلى الله سبحانه ويحرص على الاستفادة من نصائحهم وتوجيههم، وفي الحج فوائد أخرى ومنافع متنوعة خاصة وعامة يطول الكلام بتعدادها، ومن ذلك الطواف بالبيت العتيق والسعي بين الصفا والمروة والصلاة في المسجد الحرام ورمي الجمار والوقوف بعرفة ومزدلفة والإكثار من ذكر الله ودعائه واستغفاره في هذه المشاعر، ففي ذلك من المنافع والفوائد والحسنات الكثيرة والأجر العظيم وتكفير السيئات ما لا يحصيه إلا الله لمن أخلص لله في العمل وصدق في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم والاهتداء بهديه والسير على سنته وقد جاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله".
وأسأل الله عز وجل أن يصلح أحوال المسلمين جميعاً وأن يمنحهم الفقه في دينه ويتقبل منا ومنهم وأن يولى عليهم خيارهم ويصلح قلوبهم وأعمالهم وينصر دينه ويخذل أعداءه إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه..
الرئيس العام(16/128)
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(16/129)
مولد رمضان
للشاعر السوري محمد منذر لطفي
-1-
يا هلالا.. نشر اليوم على الدنيا وشاحه
فصحا الكون على ميلاده.. ينهل راحه
أيها الزائر.. يا شهرا سماوي الملاحه
مرحبا.. تغمر وجه الشرق أنسا وسماحه
دمت للإسلام ذخرا يعشق الصبح صباحه
_2_
يا رعي الله لياليك.. وأياما ظليله
يا رعي الله التسابيح وألحان الفضيله
ونسيمات من الفردوس.. تنهل عليله
هي في ثغري دعاء وبأعماقي خميله
سوف أحياها شبابا مستقيما.. وكهوله
_3_
يا إلهي.. أرفع الدعوة من قلبي حرى
لتصون الشرق.. شرق العرب والإسلام حرا
مكرما.. حتى إذا ما زفت الآفاق بشرى
لهلال.. سوف تنضو بعد عام عنه سترا
تزهر الأمة تاريخا وأمجادا ونصرا(16/130)
صحيح المقال في مسألة شد الرحال
بقلم حمود بن عبد الله التوريجرى
اطلعت على مقال لأبي هاشم نشر في الصفحة الخامسة من جريدة الندوة الصادرة في يوم السب 14 محرم 1397هـ عنوانه (مسجد الخندق بالمدينة المنورة) .
قال الكاتب ما نصه (سمي هذا المسجد بمسجد الأحزاب لأن غزوة الأحزاب وقعت عنده كما سمي أيضاً باسم مسجد الخندق لأن الخندق كان يمر بجانب المسجد وهو الخندق الذي اقتراحه سلمان الفارسي رضي الله عنه على الرسول عليه الصلاة والسلام فكان أن حفره المسلمون ويبدأ من أسفل جبل ذباب أو ذوباب والذي أطلق عليه بعد ذلك جبل الراية لأن راية الرسول صلى الله عليه وسلم نصبت عليه.
ويسمى هذا المسجد أيضاً بمسجد الفتح وهو الاسم الخالد في كتب السيرة والتاريخ الإسلامي لأن الآية الكريمة {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في موضع عليه. ويقع المسجد على قطعة صغيرة من جبل سلع الكبير والذي كان يسمى من قبل جبل ثواب. وإلى جانب المسجد تقوم خمسة مساجد أخرى. فالمسجد الذي تحته رأساً هو مسجد الصديق ومن وراء مسجد الصديق مسجد الفاروق وبجانبه من جهة الغرب مسجد عثمان. ثم مسجد صغير هو مسجد علي بن أبي طالب. ثم مسجد سلمان الفارسي. والمساجد الستة هذه تقع وسط وادى بطحان الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم إنه من أودية الجنة وهذه المساجد هي مصلى الصحابة الخمسة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسلمان الفارسي رضي الله عنهم بالليل حيث كانوا يتهجدون في مواضعها طول الليل. انتهي كلام الكاتب.(16/131)
وأقول لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أسس في المدينة مسجداً سوى مسجده ومسجده قباء. ومن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى في المدينة مسجداً غير هذين المسجدين فقوله بعيد من الصحة وكذلك لم يثبت عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسلمان رضي الله عنهم أنهم بنوا مساجد عند الخندق أو أنهم كانوا يتهجدون في مواضعها طوال الليل ومن زعم ذلك فقوله بعيد من الصحة.
والذي يظهر والله أعلم أن هذه المساجد كانت من إنشاء المفتونين بالآثار ونسبتها إلى الأكابر ليكون لذلك موقع عند الجهال.
وأما قول الكاتب ويسمى هذا المسجد مسجد الفتح وهو الاسم الخالد في كتب السيرة والتاريخ الإسلامي لأن الآية الكريمة {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} نزلت على رسول الله صلى الله عليه وهو في موضع عليه.
فجوبه أن يقال إن الفتح المذكور في الآية من سورة الأنفال لم يكن بالمدينة كما قد توهم ذلك كاتب المقال. وإنما كان ببدر حين التقى الجمعان كما ذكر ذلك المفسرون وأهل السير والأخبار. قال محمد بن إسحاق حدثني الزهري عن عبد الله بن ثعلبة أن أبا جهل قال يوم بدر اللهم أينا كان أقطع للرحم وأتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة وكان استفتاحاً منه فنزلت {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} إلى آخر الآية. وقد رواه الإمام أحمد والنسائي وابن جرير والحاكم في مستدركه من طريق محمد بن إسحاق وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه. وفي رواية لابن جرير عن ابن شهاب الزهري قال أخبرني عبد الله بن ثعلبة بن صغيرة العدوي حليف بني زهرة أن المستفتح يومئذ أبو جهل وأنه قال حين التقى القوم: أينا أقطع للرحم وأتانا بما لا يعرف فأحنه الغدوة فكان ذلك استفتاحه فأنزل الله في ذلك {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} الآية.(16/132)
قال ابن كثير وروى نحو هذا عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة ويزيد بن رومان وغير واحد وأما قول الكاتب أن الرسول صلى الله عليه قال في وادى بطحان إنه من أودية الجنة.
فجوابه أن يقال هذا الحديث لا أصل له فلا يغتر به. وقد ورد في حديث ضعيف جداً أن بطحان على بركة من برك الجنة. رواه البزار من حديث عائشة رضي الله عنها وفيه راولم يسم وما كان كذلك فلا يعمد عليه ولا يثبت به شيء. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
حمود بن عبد الله التويجرى(16/133)
أحكام يرفضها التحقيق
حول إبراهيم عليه السلام والبيت العتيق
لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
كلية الدعوة وأصول الدين
في العدد المزدوج 10-11 لعام 1398هـ من (المجلة العربية) بحث حار بقلم الأستاذ حسن ظاظا- أستاذ اللغات السامية في جامعة الأسكندرية- يتقصى فيه مؤامرات اليهود التاريخية على فلسطين، وقد وفق في عرضه مجهودات مفكريهم الشيطانية لزرع ما يريدونه من تلك السموم في أذهان أجيالهم، حتى استحالت الأفكار أخيراً واقعاً يتمثل في الشجرة الخبيثة (إسرائيل) .
على أن البحث على حرارته وكثافته، لم يخل من عثرات صرفته عن الجادة إلى منعطفات كان خيراً له لو لم يعرج عليها.. ولعل الحافز له على ذلك هو حصره مجال الرؤية في نطاق التصور القومي، فهو يتحدث عن اليهود كجنس يقابل جنساً، وكان الأولى به محاكمة النفسية اليهودية في حدود القيم العليا التي يعتبر اليهود أكابر خصومها على مدى التاريخ، ولو فعل ذلك لتدفقت عليه الأدلة الشاهدة من كل بقعة عبر بها اليهود، ومن كل مجتمع تسلل إليه الفساد اليهودى في الشرق والغرب، ومن القديم والحديث، على السواء.
وكانت النية في كتابة (تعقيب) اليوم متجهة إلى عدد من الأغاليط تعرض لها عدد من المشتغلين في العلم، ولكن شاء الله أن أقع على مقال الدكتور ظاظا هذا في العدد المزدوج، ثم عن تتمته في العدد التالي له، فلا أملك إلا الانصراف إليه، وارجاء ما سواه إلى مناسبة أخرى.
وها أنذا مورد تلك العثرات مع ملاحظاتنا حولها واحدة إثر الأخرى:(16/134)
أ - أول ما يواجه القارئ في ذلك البحث ما يحسه من تركيز الكاتب على تفنيد الزعم الذي يريد أن يلحق أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام بالنسب اليهودي إذ راح يستنبط من نشأته في أطراف بادية البصرة، الدليل الحاسم على انقاء العبرية والبابلية عنه نهائياً.. فإذا ما ثبت له هذا الانتقاء لم يبق إلا الحكم بعروبته، وإذن فليس إبراهيم عبرياً ولا بابلياً ولكن عربي عرقاً ودماً ولساناً.. ونحن لا يعنينا هنا أن نجادل في هوية الأرض التي درج عليها خليل الله (ع) فما ذلك مما يتصل بغرضنا في هاذ التعقيب، وإنما نذكر الدكتور الفاضل بأن أفحم رد على مزاعم يهود، في شأن هوية إبراهيم، إنما هو في شهادة الذكر الحكيم، الذي يقول لأهل الكتاب جميعاً: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وكيف يكون عبرياً ولم تكن العبرية قد وجدت بعد، وأين هو من النصرانية وقد سبقها بألفي سنة؟.
أما العروبة من حيث هي هوية لجنس، فما كان لها من ذكر في أيام إبراهيم ولم يحدث لها تجمع قومي قط يستحق اسم الأمة إلا بعد توحيد الإسلام للجزيرة العربية.. فيبقى النسب اللساني وهو الحقيقة الحاسمة، لأن لغة سام بن نوح عليه السلام ظلت في هذا الموطن قروناً محافظة على أصولها، فلم تحتك بها الألسنة إلا عقيب تباعد أصحابها وتفرقهم في أكناف الجزيرة.. كما تختلف لهجات العرب اليوم حتى لا يفهم جزائرى شامياً ولا يماني مغربياً إلا أن يرجعوا إلى لغتهم الأم.
فلغة إبراهيم عليه السلام هي لغة سام، وهي لغة العرب التي بها نزل كتاب الله على قلب محمد صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك فما نسميه عربياً، لأن اللغة لم تكن قد اكتسبت هوية الجنس في أيامه، ولن نجد لأبي الأنبياء نسباً أكرم وأجل وأشرف من كونه حنيفاً مسلماً، كما سماه الله.(16/135)
على أن ثمة فجوة في تتبعه جرائر أولئك الشياطين ما كان ينبغي أن يغفلها كما فعل، وأريد بها تسلل أولئك المفسدين إلى الفكر العالمي عن طريق المؤسسات السرية التي خدعوا بها (العميان) من مختلف الشعوب، حتى جروهم مخدرين إلى الكدح لتنفيذ ما خططوا له من اغتصاب فلسطين، ومثل الدكتور الظاظا في تخصصه وبعد نظره لا يتوقع أن يجهل دور الماسونية وعصائب النور والروتاري وما إليهن من فخاخ اليهود في قيام إسرائيل.. ولا سيما بعد الخطاب الذي تلقاه أخيراً مجلس الأوقاف الإسلامية في القدس من كبير محافل الماسونية في الولايات المتحدة والذي يعرض على المجلس مئة مليون دولار، مقابل التخلي عن المسجد الأقصى، ليعيدوا كمانه هيكل سليمان. وقد فضح أمر هذا الخطاب في بعض الصحف فضيلة الشيخ عبد الحميد السائح أيام كان وزيراً للأوقاف والمقدسات الإسلامية في الأردن [1] .
ب- ويتوسع الكاتب في الاستدلال على ما ذهب إليه من عربية أبي الأنبياء عليه السلام فيقول في المقطع نفسه: (والدليل على هذا أنه اختار موضعاً عربياً آخر لإقامة أول بيت وضع للناس، وكان اختياره هذا في قلب بلاد العرب وفي مكة المكرمة [2] .
إن ههنا لدعوى خطيرة لا يملك الكاتب عليها من دليل سوى الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً.. فإبراهيم في هذا الادعاء صاحب الفكرة في إقامة البيت العتيق، وهو الذي اختار مكة لتكون محج الناس إليه!.. ولن يجد القارىء عذراً لمفكر مسلم يسمح لنفسه بارسال مثل هذه الأحكام وأمامه كتاب الله ينطق بالحق، فيقرأ فيه قوله سبحانه وتعالى {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} .(16/136)
أجل يا سيادة الدكتور إن الذي أمر إبراهيم بإقامة البيت وحدد له مكانه في قلب بلاد العرب، بل في سرة الدنيا كلها، كما ثبت بالكشف العلمي إنما هو الله الذي جعل من الحج إلى هذا البيت معجزة الأيد، يتلاقي حوله البشر من كل فج عميق، ليتذكروا في ظله أصلهم الذي حجبته العصبيات ويستعيدوا في رحابه وحدتهم التي مزقتها الشهوات، وما كان إبراهيم سوى منفذ لمخطط وضع للناس من فوق سبع سموات.
جـ ـ فإذا ما انتهى البحث إلى ذكر المسيح عليه السلام فاجأنا الكاتب المفضال بادعاء آخر لا يقل غرابة عن سالفه.
يقول الدكتور تحت عنوان (موقف اليهود من المسيحية) بعد هذا تظهر أكبر هزة في تاريخ اليهودية مع ظهور السيد المسيح. والعمل الذي عمله المسيح، وجربه على نفسه كراهية اليهود جميعاً هو أنه أمر حوارييه أن يبشروا بشريعة الله بين الأمم الأخرى ... وكانت هذه أول مرة يكسر بها عيسى بن مريم الإتفاق الذي تم بين كهنتهم على احتكار الدين [3] .
ويريد الدكتور باحتكار الدين قصر رسالة موسى على بني إسرائيل وحدهم وهو أمر يبرىء منه موسى لأنه يعتبر دعوته عالمية، بدليل (أنه قام في وجه فرعون، ودعاه إلى الإيمان بالله الواحد [4] .
ومن أجل ذلك يرى الدكتور في عمل السيد المسيح خروجاً بالدعوة من نطاق بني إسرائيل الاحتكاري إلى المنطلق العالمي.
وأقل ما يقال في مثل هذه الآراء أنه لم يرجع فيها إلى وحي ولا علم، وكان أحرى بمثله أن يتذكر بالأقل أن الموضوع فوق مستوى التظني، لأنه من متعلقات الرسالات الإلهية، فلا علم لأحد بها إلا عن طريق الخبر المعصوم.
والمعلوم بالضرورة لدى أهل التحقيق أن كل رسول إنما كان يبعث في قومه مقصوراً عليهم، يستوى في ذلك موسى وعيسى وسائر إخوانهما النبيين لم يستثن من هذه القاعدة سوى خاتمهم محمد عليه وعليهم صلوات الله وسلامه أجمعين..(16/137)
فالله تبارك اسمه يقول: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} [5] وهذا موسى عليه السلام يقول لقومه {لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} وعيسى عليه السلام يقول {يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} فلما بعث خاتم النبيين، صلى الله عليه وسلم، أعلمه ربه بعالمية رسالنه قائلاك {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاس} وأمره أن يقول للبشرية كلها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} وفي الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ... وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة" وهو واحد من أحاديث كثيرة في هذا المعنى.
وهكذا ظلت البشرية موزعة على قيادات النبيين حتى جاء خاتمهم الأعظم صلى الله عليه وسلم، فوجب عليها أن تنضوي بأسرها تحت لوائه، فكان منها فسم سعد بالإيمان به فهم أمة الإجابة، وكان منهم مخلفون رفضوا نور الله الذي جاءهم به فضلوا فهم لا يهتدون سبيلا.
وليس معنى تخصيص الرسل بأقوامهم أن ثمة تعداداً في جوهر الدين، بحيث يكون لكل نبي دين مباين للآخر، كما يزعم أعداء الحق، فدين الله واحد هو الإسلام له سبحانه {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلام} {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} والدين الخاتم ليس سوى جماع الدين الحق، الذي أرسل به تعالى رسله جميعاً {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} .(16/138)
وإنما اقتضت مشيئة الحكيم العليم جل جلاله أن يراعي في رسالاته أحوال عباده، فكان كل نبي يبعث في قومه مصدقاً رسالة السابقين والمعاصرين واللاحقين من إخوانه، لا تختلف رسالة أحدهم عن رسالة الآخر إلا بما يخص به الله الأقوام من تشريعات تيسر لهم سبيل الخير، وتضعهم على المحجة التي تحميهم منن بغي بعضهم على بعض، وبذلك يقتربون تدريجياً من الصيرورة إلى التعارف الذي يضيق مسافة الخلف، حتى إذا أظل عهد الرسالة الخاتمة كانت البشرية قد أصبحت مؤهلة للتلاقي على الوحدة العالمية.
ولو رجع الدكتور الفاضل إلى أسفار أهل الكتاب عتيقها وجديدها- لرأى هذا الحقيقة ماثلة في العديد من النصوص، وليقرا هناك في إنعام تصريح السيد المسيح بأنه إنما بعث لخراف بني إسرائيل الضالة. فهو إذن إليها أرسل وإياها يدعو..
على أن هذا لا ينافي أن يقوم النبي بتبليغ بعض الأقوام من غير أمته إذا رأي فيهم بعداً عن مهيع أنبيائهم السابقين، وبخاصة في ما يتصل بأصول الدين التي بعث الله بها أنبياءه جميعاً. لأن إهمال مثل هؤلاء مؤد إلى شيوع مفاسدهم في المجاورين لهم.. ومن هذا القبيل قصة الرسل المذكورة في سورة ياسين على مذهب من المفسرين بأنهم موفدون من قبل المسيح بن مريم عليه السلام.
وأما الاستدلال بدعوة موسى عليه السلام فرعون على عالمية رسالته فليس بشيء، لأن موسى مواطن في بلد فرعون، فكل سكان ذلك البلد قومه، وقد رأينا يوسف عليه السلام من قبله يعرض الإسلام على نزلاء سجنه لأنه موجود بين ظهرانيهم، فلا عذر له في السكوت على هدايتهم.(16/139)
ويبقى هنا ما ذهب إليه الكاتب الفاضل من القول بأن كراهية اليهود للسيد المسيح إنما تفجرت من تجاوزه بالدعوة حدود قومه إلى الأمم الأخرى.. والحق أن كراهيتهم للمسيح ليست بدعاً في تاريخ قوم آذوا موسى، واتخذوا العجل إلهاً، ونبيهم بين أظهرهم وبلغوا من الطغيان إلى حد استباحة دماء الأنبياء، وكادوا يفعلون ذلك بخاتمهم يوم بني النضير، لو لم يحفظه الله من غدرهم، حتى كان فتح خيبر، فدست ابنة الحارث- زوجة سلام بن مشكم- له السم في ذراع الشاة، فلم يزل يحمل أثره حتى أتم الله به الرسالة للثقلين، فأذن آنذاك لسم اليهودي بأن يعمل عمله في أبهره الشريف، بأبي هو وأمي، وبذلك كتب الله له الشهادة فكان كإخوانه من النبيين الذين قتلهم غدر اليهود.
د- وأخيراً لقد وقف الكاتب الفاضل القسم الكبير من مقاله على إبراز آثار الثقافة الإسلامية والعربية في الفكر اليهودى وما إليه من الفنون، ولما أراد الحديث عن الشعر بدأ بمزامير نبي الله داود عليه السلام فقال: "حتى الشعر فإنهم يقولون: برع اليهود في الشعر قديما براعة لم يكن يدانيهم أحد فيها. واشتهرت من ذلك (مزامير داود) التي كانت مجموعة من التسابيح لله سبحانه، وكانت شعراً.(16/140)
هكذا يعرض الدكتور فكرته دون تحفظ ولا فصل، حتى ليحس القارىء أنه يصدر حكماً على هذه المزامير بأنها عمل داود.. ونحن لا نجادله في صياغة المزامير سواء كانت شعراً أو نثراً.. وإن كنا نرجح لها صفة النثر، لعموم قوله تعالى في القرآن العظيم في حق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي} فكما أن الشعر لا ينبغي لمحمد صلى الله عليه وسلم، فهو بالعلة نفسها لا ينبغي لأي نبي غيره. وما في ذلك مهانة للشعر، بل لأن الشعر مجالات للتعبير لا تهتم بالموضوعية الثابتة بقدر ما تهتم بالتصوير الوجداني المتموج، وبذلك يقع من الشاعر مالا يقع من النبي والعالم من تبدل المواقف تبعاً لتبدل الأحوال النفسية.
أجل نحن لا نجادل الكاتب في نوعية الصياغة لأسلوب المزامير، وإنما ننافشه في ما يفهم من كلامه أنها من عمل داود، لا من وحى الله إلى داود، وهذا ما يتنافي كلياً مع الحقيقة التي تطالعنا في قول ربنا تبارك وتعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} نقول هذا بغض النظر عن كتاب المزامير المنسوب إلى داود في مجموعة العهد القديم، إذ هون كغيره من وثائق أهل الكتاب خاضع للنقد ورد كل مالا يقوم على صحته الدليل.
والله حسبنا ونعم الوكيل.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر مجلة (الوعي الإسلامي) عدد رجب 1385 هـ.
[2] ص 140 عمود 3.
[3] ،
[4] ص 141.
[5] سورة الأعراف.(16/141)
تعقيب على تعقيب
للشيخ محمدالمجذوب
سيدي الأستاذ الكبير..
السلام عليكم ورحمة الله وبعد: قرأت في العدد الثالث السنة العاشرة من مجلة "الجامعة الإسلامية"تأملاتكم المضيئة في كتابي "الله أو الدمار"وقد سعدت أيما سعادة بالتفاتكم إلى جهدي الضعيف، وتحفيكم به، وتأنيكم في دراسته ونقده. والله أسأل أن ينفع بكم ويحسن إليكم قدر إفادتي من تصويباتكم التي تلقيتها بأدب الطالب المجتهد أمام أستاذه القدير.
غير أني أرجو أن يتسع صدركم لنقطة، وأخرى، بدا لي أن أدفع إليكم برأيي فيهما رغبة في الاستفادة إن شاء الله:
أما الأولى: فمسألة الحديث "اختلاف أمتي رحمة": فقد جعلت ولدي - منذ ألقى الله سبحانه نور الإيمان في صدري - تبصير أجيالنا الناشئة بأن خلاص هذه الأمة منوط بالرجوع إلى أصلها.. وإن في مقدمة تلك الأصول الدعوة إلى العلم. إذ هو طلبة المؤمن أخذه حيث وجده لأنه نتاج تراكمات حضارية تاريخية مستمرة لا تختص به أمة بعينها. وغاية ما يجب أن نسعى فيه الجمع بين نور الإيمان وهدي العقل.. بين الأصالة والمعاصرة، على نسق متناغم مطرد في إطار الفكر الديني الإسلامي. والأستاذ الجليل أكثر مني علما وأوسع اطلاعا في أن مصيبة هذه الأمة أتتها من انغلاق باب الاجتهاد في المتغيرات والفروع مع التمسك بالثوابت والأصول، مدة تزيد على ستة قرون، انطوى فيها ألق الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه وانصرافهم إلى اجترار اجتهادات السلف، وما طرأ على اجتهاداتهم من دخل وتزييف دون إعمال العقل فيما انتهى إلينا بروح العصر.. وبذل الوسع - كما قلتم فضيلتكم - في إصابة الحق حسب توجيهات الكتاب المجيد، ولا بأس بعد ذلك في تباين الفهوم. ففي هذا متسع للمواهب غير محدود..(16/142)
أما الثانية فهي: "قضية الجن".. وهي قضية غيبية علمها عند ربي، نؤمن بها ولا نفهمها لأنها ككل القضايا الغيبية الأخرى تفوق ذرع عقولنا وتعدو قدرات حواسنا وقد أمرنا ربنا أن لا نخوض فيما لا علم لنا به، ولعل فتح باب النقاش في كيفية "الاتيان والتلقي، وتبلغ الدعوة أو تبليغها"في هذه الظروف التي تخوض فيها أمتنا الإسلامية معركة بقائها أو فنائها، هو ترف "بيزنطي"لا يجوز أن نخوض فيه أو أن يشغلنا عن معالجة مشاكل الإنس قبل الجن! كيلا يصبح مثل هذا النقاش الذي لا يجدي من دون الله ونبيه ودينه شيئا قليلا أو كثيراً.. والإلحاح فيه، ونحن نواجه الغزو الكافر من كل حدب وصوب تعرضاً لمظان السوء، ومدخلا للشك والتشكيك.
بقيت كلمة صغيرة حول تعبير "صليب يسوع":
فيسوع يا سيدي هو عيسى بن مريم عليه السلام وصليب يسوع تعبير رمزي عن أشد أنواع المكابدة، والمعاناة في سبيل الدعوة إلى الحق..
أصلح الله لكم، وأصلح بكم، وجعلكم للحق هاديا وللخير داعيا.
المخلص-- سعد جمعه
تقدير وتذكير:
من حق الكاتب الفاضل أن نشكره على هذا التعقيب الهادئ. وما نرى داعياً لمزيد على ما قدمناه في تعقيبنا على كتابه النفيس، إلا كلمة صغيرة هي أننا لم نثر موضوع الجن ابتداء، بل رأينا الحديث يثار حوله بطريقة لا تتفق مع الثابت من حقائق الوحي، فكان من موجبات الأمانة أن نقول فيه مالا عذر في كتمانه.(16/143)
أما (صليب يسوع) فهو واحد من مصطلحات دخيلة لا ينبغي أن نسمح لها بالتسلل إلى الأدب الإسلامي.. وما أكثر هذه الدخائل التي تهاجم اليوم أقلام المؤمنين وألسنتهم تحت مظلة (التقدم) و (التجديد) ! وأقرب الأمثلة على ذلك نسبة (الفعل) إلى الطبيعة، حتى لنرى من يقول (الطبيعة عملت) و (الطبيعة زودت) و (الطبيعة وجهت) ولا نغالي إذا قلنا إن هذا الشذوذ قد تسرب حتى إلى أقلام بعض الطيبين، دون أن يفطنوا إلى أنهم بذلك يؤلهون الطبيعة من حيث لا يعلمون.
ومثل الأستاذ سعد جمعه من أحق المفكرين بسد الباب في وجه هذه الذرائع المريبة والله الموفق..
محمد المجذوب(16/144)
سؤال وجواب
لفضيلة الشيخ عبد العزيز الربيعان
سأل سائل:
"في بلدنا خطيب يخطب في العيدين والجمعة ويأتي بهذا الألفاظ: غوثنا، وغياثنا، ومغيثنا، عوننا، ومعيننا، ومأوانا، ومنجانا، نوره من نور الله، عالم ما كان وما يكون.. يعني بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.. هل ذلك جائز؟ .. بينوا تؤجروا".
الجواب:
هذا الكلام شرك بالله تعالى حيث إن هذا الخطيب أنزل الرسول عليه الصلاة والسلام منزلة لا تليق إلا بالله فوصفه بالصفات التي لا يوصف بها سواه سبحانه وتعالى، أما النبي عليه الصلاة والسلام فهو مخلوق لا يتميز عن غيره من الخلق إلا بما ميزه الله به من كونه رسوله إلى جميع أهل الأرض يبلغهم عن ربه ويدعوهم إليه ويرشدهم إلى سبيله وأسباب مرضاته وقد منَّ الله عليه فشرفه على جميع الخلق بما فيهم رسل الله الذين هم أفضل خلقه، وهو صلى الله عليه وسلم لا يملك غوث أحد ولا نفعه ولا دفع الضرر عنه حتى ولا عن نفسه، وهو أيضا لا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله ولم يعلمه الله كل شيء كان وكل شيء سيكون وإنما اختص هو سبحانه وتعالى بعلم ما كان وعلم ما سيكون، ومن نسب ذلك إلى أحد من الخلق فهو جاهل بالله وجاهل بدين الإسلام الذي أصله وأساسه توحيد الله بربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته، وجاهل أيضا بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه الذي ما كان يكره شيئا من المعاصي كبيرها وصغيرها مثل كراهيته للشرك ولو كان شركا صغيرا لا يخرج الإنسان من الملة الإسلامية قال تعالى مخاطبا نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} أي ولا نفعا - وقال تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ(16/145)
وَاحِدٌ} الآية.. وهذا الخطيب فوق كونه يصف الرسول عليه الصلاة والسلام بصفات لا يجوز أن يوصف بها غير الله هو أيضا يدعو الرسول ويستغيث به ويسأله ويستعين به وكل واحدة من هذه المسائل شرك أكبر بدليل أن الله يقول: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وهذا عام في جميع من دعا أحدا دون الله، وقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يعنى نعبدك وحدك ونستعين بك وحدك فخص الاستعانة بالذكر مع أنها داخلة في العبادة، ولما بلغ الرسول عليه السلام أن أحد الصحابة قال: قوموا بنا نستغيث برسول الله: "من هذا المنافق"- يعنى عبد الله بن أبي بن سلول - قال عليه الصلاة والسلام: "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله", مع أن الصحابي يقصد الاستغاثة بالرسول لأمر يملكه الرسول ويستطيع القيام به وهو أيضا حينذاك حي، فما بالك إذا كان هذا الخطيب أو غيره يستغيث بالرسول عليه السلام لأمر لا يملكه إلا الله بل يستغيث بمخلوق ميت، وأما قوله: نوره من نور الله فهذا من كلام الخرافيين المبتدعة الذين يقولون على الله بلا علم ويحسبون أن إطراء الرسول عليه السلام ووصفه بالأوصاف التي لا مستند لها من كتاب الله ولا من سنة رسول الله هو سبيل النجاة هو دليل حبه عليه السلام ولو فقهوا في دين الله ووفقوا لمعرفة الحق لعلموا أن دليل حب الرسول متابعته والسير على سنته والتزام منهجه بالقول والعمل والاعتقاد والسلوك ولعلموا أنه قال عليه السلام: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"، وقال: "كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار"، فهل قال القرآن أن محمدا من نور الله؟.. أو قال ذلك الرسول نفسه؟.. الجواب لا،(16/146)
إذاً من أين لهؤلاء مثل هذا الكلام؟.. إنه من عند أنفسهم وما ورثوه عمن صار سببا في ضلالهم.
يالها من عقول أفسدتها الخرافة وضللها التقليد الأعمى {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} .
وإن تعلق هذا الجاهل وأمثاله بما ورد في مصنف عبد الرازق من الحديث الذي مفاده أن أول المخلوقات نور محمد صلى الله عليه وسلم وأن المخلوقات الأخرى خلقت من ذلك النور ... الخ، فهو حديث موضوع مكذوب وقد تكلم عليه العلماء قديماً وحديثاً وبينوا أنه حديث باطل لا أصل له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخر من علمته تكلم عن هذا الحديث وبين بطلانه الشيخ أحمد عبد القادر الشنقيطي المدني، فقد ألف رسالة حول هذا الحديث وبيان بطلانه سماها (تنبيه الحذاق على بطلان ما شاع بين الأنام من حديث النور المنسوب لمصنف عبد الرزاق) .
وقدم لهذه الرسالة وأثنى عليها فضيلة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة (سابقاً) ورئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد (حالياً) .
اللهم وفق المسلمين لاتباع هدي نبيك والسير على نهجه وهداه..(16/147)
الأنفلونزا والكوليرا
بقلم الدكتور حسين كامل طه
أخصائي الصدر بمستشفى الجامعة
هذه كلمة ونصيحة أقدمها بالنيابة عن نفسي وزملائي بالإدارة الطبية للجامعة إلى أبنائها الطلبة وأساتذتهم الأجلاء وزملائنا العاملين بالجامعة بغية النصيحة المفيدة خصوصا أن هناك أمراضا سارية في هذه الأيام وخلال الأيام القادمة، ولنبدأ أولا بمرض الأنفلونزا.
ينتشر هذا المرض بسرعة كبيرة وتبدأ أعراضه بفتور شديد مع آلام بالعضلات والمفاصل وترتفع درجة الحرارة، وقد يصاحبها احتقان شديد بالحلق.
ويجب على المصاب أن يستريح تماما بالفراش وأنصح أبناءها الطلبة أن يتوجهوا للعلاج بمستشفى الجامعة، ويراعى عدم ازدحام غرفة الطالب المريض منعاً لانتشار العدوى وأن يكثر المريض من شرب السوائل.
المرض الثاني هو مرض الكوليرا وهو مرض من الأمراض المعدية السريعة الانتشار ويتميز بإسهال وقيء شديدين مما يؤدى إلى فقدان كمية كبيرة من السوائل بالجسم وهذا يؤدى إلى هبوط حاد بالدورة الدموية للجسم وإذا لم يسعف المصاب على الفور فقد يؤدى به إلى الوفاة وفي هذه الحالة الوقاية خير من العلاج والإدارة الطبية بالجامعة تقوم بحملة تطعيم واسعة مرتين سنويا، والتطعيم يعطى مناعة المدة تتراوح بين ثلاثة وستة شهور. وحتى إذا أصيب الشخص تكون الأعراض مخففة ولكن لا تنس مع ذلك مراعاة الشروط الصحية وأهمها:
النظافة التامة- مراعاة غسل الأكل الطازج مثل الخضروات والفاكهة جيداً- عزل الحالات المصابة وعدم الاختلاط- وتطعيم الحالات المعرضة لخطر الإصابة- مراعاة عدم تناول أي طعام من الباعة المتجولين لأن أغلبهم لا يخضع للاشتراطات الصحية.
كلمة أخيرة أوجهها لأبنائنا الطلبة راجيا لهم التوفيق والسداد بإذن الله:
تذكر أيها الطالب أن لبدنك عليك حقا. وأن العقل السليم في الجسم السليم، وإليك بضع الإرشادات الصحية:(16/148)
1- الوقاية خير لك من العلاج وعليك أن تبادر إلى مستشفى الجامعة فور حدوث أي أعراض فهو في خدمتك ليلا ونهاراً.
- عليك أن تتجنب مخالطة المرضى.
2- بادر بالتطعيم ضد الأمراض المعدية في مستشفى الجامعة.
3- عليك مراعاة النظافة التامة وعدم تناول أي طعام من الباعة الجائلين.
4- عدم الإسراف في تناول أي أدوية إلا بإشراف الطبيب. وقد لاحظنا أن عددا كثيرا من أبنائنا الطلبة يسرفون في أخذ المقويات والفيتامينات، ولكن أعلم أن الجسم لا يحتاج من هذه المواد إلا كميات بسيطة والزيادة عن حاجة الجسم تخرج مع الإفرازات، كما أن هناك أنواعا معينة من الفيتامينات تؤدى إلى أضرار شديدة إذا زادت كميتها.
وفقنا الله جميعا- والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
دكتور- حسين كامل طه
أخصائي الصدر بمستشفى الجامعة(16/149)
المؤتمر العالمي بلندن
عن حياة المسيح عليه السلام
ترتيب: عبد الرشيد أرشد ترجمة: محمد لقمان السلفي
يبدو أن القاديانيين قرروا أن ينقلوا مركز نشاطهم إلى لندن بعد أن غلبوا على أمرهم في باكستان. ففي يونيو 1978م ذهب المرزا ناصر أحمد خليفة المتنبئ القادياني إلى لندن مع حوالي مائتين من أتباعه وعقد فيها مؤتمرا عن وفاة المسيح. وقد بلغنا أنهم أعادوا فيه أقاويلهم الزائفة البالية عن وفاة المسيح وكونه مدفوناً في كشمير والتي ردت على وجوهم من قبل علماء المسلمين قديماً. وقد دونت تلك الردود في الكتب التي نقل بعضها إلى الإنجليزية وطبع ووزع قديماً بين المسلمين. فالقاديانيون ليس لديهم الآن إلا ترديد ما قاله آباؤهم الأولون. وقد ردت عليهم كل تلك الأقاويل مراراً وتكراراً.
ولكن الجديد في الأمر أن الذين خاطبوهم من المسلمين في ذلك المؤتمر كانوا جيلا جديدا لا يعرف عن هذا الزيغ إلا القليل ولا يدري عن تلك الردود التي قام بها علماء الإسلام على مزاعم المرزا غلام المتنبئ مستنيرين بكتاب الله وأحاديث رسوله وأقوال السلف الصالح. فظن القاديانيون أن الوقت موات للغارة الجديدة على رسالة الله الأخيرة. لذلك وجب على المسلمين أن ينهضوا مرة أخرى لمقاومة الفتنة ورد كيد الكافرين في ضوء الكتاب والسنة وأقوال الأئمة الكرام.(16/150)
ولما بلغ الشيخ منظور أحمد شينيوتي الباكستاني أخبار المؤتمر المشئوم ونشر الدعايات الواسعة عنه في بريطانيا وغيرها من البلدان، اضطرب له اضطرابا شديداً وقرر متوكلا على الله أن يقيم مؤتمرا مماثلا في لندن وأن يدعو إليه علماء الإسلام للرد على مزاعم القاديانيين. فسافر فضيلته مع وفد من العلماء إلى لندن في اليوم السادس من شهر يونيو واستقبل في مطار لندن من قبل لفيف من العلماء والعاملين في تلك البلاد. وبعد استراحة قليلة واصل السفر إلى مدينة مانشستر للاشتراك في اجتماع الأكاديمية الإسلامية فيها الذي كان مقرراً عقده في يومي الثامن والتاسع من شهر يوليو. وفيه قدم فضيلته الاقتراح عن عقد مؤتمر عن حياة المسيح الذي وافق عليه المشتركون بالإجماع وكونت لجنة في الحال لإعداد اللازم لهذا الغرض، وقد رأي فضيلته الشيخ منظور أحمد بعد هذا القرار أن يتصل بمسلمي انجلترا لمعرفة مرئياتهم في هذا الأمر فقام بأسفار طارئة إلى عدد من مدن انجلترا الهامة واتصل بالمسلمين المقيمين فيها وشرح لهم أهداف المؤتمر وأهميته كما اتصلا بفضيلة الشيخ إنعام الحسن وفضيلة الشيخ مسيح الله اللذين أيدا فكرته ودعوا له بالتوفيق وللمؤتمر بالنجاح. وبعد هذه الإجراءات الأولية أعلن فضيلته عن انعقاد المؤتمر في المسجد الجامع المركزي الكائن في حديقة ريجنت بلندن في يومي التاسع والعشرين والثلاثين من شهر يوليو. وقد صدر هذا الإعلان في جريدتي جنك وملت الصادرتين بالأردية كما وضعت لافتات بارزة كثيرة في المساجد والجامعات والمصانع التي يعمل فيها المسلمون. ووزعت كذلك بطاقات دعوة بالأردية والإنجليزية على ما يقارب ألف شخص من المسلمين البارزين. وقد أثمرت هذه الجهود المكثفة لإنجاح المؤتمر أن حضر عدد كبير جداً من المستمعين من سائر مدن انجلترا.(16/151)
وقد أبدت رابطة العالم الإسلامي اهتمامها بالمؤتمر فتلقى فضيلة الشيخ منظور أحمد برقية من معالي أمينها العام الشيخ محمد علي الحركان تمنى فيها النجاح للمؤتمر، كما عين معاليه ممثل الرابطة في باريس للاشتراك في المؤتمر, وقد اشترك في المؤتمر فضيلة الشيخ مسيح الله الأمين العام لدار العلوم في جلال آباد بالهند وهو خليفة الشيخ أشرف على شهانوي العالم الهندى المعروف رحمه الله. ومن الذين أبدوا اهتمامهم الخاص بالمؤتمر سماحة الشيخ عبد الله علي المحمود رئيس شئون الدعوة الإسلامية في الإمارات العربية المتحدة فقد عين سماحته فضيلة الشيخ عبد الله عبد العزيز المصلح عميد كلية الشريعة بأبها بالمملكة العربية السعودية ليمثل سماحته في المؤتمر. وقد دعا لنجاحه فضيلة الشيخ إنعام الحسن ووعد بأنه سوف يدعو لنجاحه في الاجتماع الذي يعقد في باريس أيام انعقاد المؤتمر.(16/152)
وكما علمتم أن الداعي إلى المؤتمر هو فضيلة الشيخ منظور أحمد شينيوتي رئيس الجامعة العربية في شينيوت والأمين العام لإدارة الدعوة المركزية فيها. وتولى الإشراف على شئون المؤتمر الأكاديمية الإسلامية في مانشستر، وترأس جلساته الأستاذ الكبير دكتور زكى البدوي مدير مركز الثقافة الإسلامية في لندن والشيخ عبد الرحمن خليفة والشيخ عبد الرحمن كيملبوري رحمه الله. كما أن الشيخ محمد موسى أمين جمعية العلماء في بريطانيا والشيخ القاري بشير أحمد الخطيب بمسجد شاه بهان بمدينة ووكنج توليا شئون أمانة المؤتمر وعاونهما الشيخ عبد الرشيد أرشد مدير مجلة "الرشيد"في باكستان ومن الذين خطبوا في المؤتمر: الشيخ تقي عثماني عضو المجلس الاستشاري الإسلامي في باكستان والشيخ عبد الله عبد العزيز المصلح والدكتور خالد محمود والشيخ المناظر منظور أحمد شينيوتي وبروفيسور إبراهيم تركي والدكتور سعيد الروشن والشيخ منير هاشم والشيخ أبو المحمود نشتر والمفتي عبد الباقي والشيخ محمد بشير والشيخ إمداد حسين. وقد صرح فضيلة الشيخ عبد الله المصلح في خطابة بأهمية المؤتمر وضرورته القصوى وطلب من مسلمي انجلترا أن ينشروا تفاصيله داخل انجلترا وخارجها.
وقد شوهد المدعو طفيل إمام الجماعة اللاهورية وكذلك مندوب القاديانيين يسجلان وقائع المؤتمر. وقد تحدث العلامة خالد محمود لمدة ساعتين وألقى الضوء الكافي على مشكلة القاديانية وفند مزاعمها الباطلة، ثم قام في الأخير فضيلة الشيخ منظور أحمد شينيوتي ودعا مرة أخرى الخليفة القادياني إلى المباهلة وقال: ولكنه لن يجرؤ لها أبداً. ثم استمر في حديثه فقال: إن صنيع الإنجليز عائد إلى أهله. فقد تأكد لدى القاديانيين أنهم لا يستطيعون إقامة مثل مؤتمرهم المشئوم في أي بلد إسلامي، لذلك اضطروا أن يعقدونه في انجلترا.(16/153)
وفي نهاية المؤتمر أعلن أن مؤتمرا مماثلا سوف يعقد في مسجد شاه بهان بمدينة ووكنج في يومي الخامس والسادس من شهر أغسطس، والمسجد الذي كان لمدة ستين سنة تحت سيطرة القاديانيين. وقد انتهى بالدعاء والشكر لله على إنجاح المؤتمر ثم للعلماء والحضور الذين جاءوا من ديار بعيدة وتحملوا المشاق والمصاريف المالية الضخمة جهاداً في سبيل الله ومشاركة في القضاء على هذه الفتنة.
ترتيب: عبد الرشيد أرشد
ترجمة: محمد لقمان السلفي(16/154)
كلا.. ليسوا مسلمين..
في النشرة الأخبارية الأولى المذاعة من محطة لندن صباح الأربعاء 2-11-98 أعلنت (أن الفرقة الأحمدية الإسلامية) قد قررت إنشاء ستة مساجد في بريطانيا.
تعليق المجلة:
الخبر عن إنشاء مساجد في الجزر البريطانية من حقه أن يبعث السرور في قلب السامع السلم، لأن ذلك محقق ولو للقليل من حاجة الجاليات الإسلامية هناك. ولكن الذي يثير الخواطر في هذا الخبر وهو وصف المذيعة للفرقة الأحمدية هذه بأنها إسلامية.. وهي واحدة من دسائس الإذاعة البريطانية على الإسلام، ذلك لأنها في مقدمة من يعلم مقررات علماء العالم الإسلامي من هذه الفرقة (القاديانية الأحمدية) بأنها خارجة عن الإسلام، وأنها إحدى وسائل الصهيونية والاستعمار لتشوية وجهه، وتغيير وجهته.
على أننا لا نلوم الإذاعة البريطانية على نصرة هذه الفرقة الضالة، فهي ربيبة الاستعمار البريطاني منذ ولادتها، وجدير به أن يحتضنها اليوم في شيخوختها.
ولكن.. على الإذاعة البريطانية أن تعلم يقينا أن مثل هذا التضليل لن يجد سبيله بعد اليوم إلى خداع المسلمين، ولن يطيل أجل عملائها الدجالين.(16/155)
أول مؤتمر يبحث عن قضايا المدارس الإسلامية في الهند حوالي 1952 من المندوبين والعلماء اشتركوا في المؤتمر
انعقد مؤتمر المدارس الإسلامية في 31 من مارس و 2،1 من إبريل 1978م في الجامعة الرحمانية بمونجير الهند - من أكبر المدارس الإسلامية في الهند وانتهى بإحراز نجاح عظيم بعدما استعرض قضايا المدارس الإسلامية العربية في جلساته العديدة، واشترك فيه حوالي 1952 من علماء المدارس والمسئولين عنها والشخصيات البارزة في الهند، وقد كان الاجتماع منقطع النظير في تاريخ الهند الإسلامي والعلمي، حيث إنه جمع كبار علماء المسلين ورؤساء الجامعات الكبرى والمؤسسات التعلمية الشهيرة والممثلين من كافة الطبقات والمنظمات الإسلامية في الهند، كوفد من الجامعة الإسلامية دار العلوم ديوبند تحت رئاسة فضيلة الشيخ محمد طيب الموقر ووفد من ندوة العلماء تحت إشراف فضيلة الداعي الكبير الشيخ أبي الحسن علي الندوي ووفد من الجامعة الإسلامية بعلى كره، كما اشترك فيه فضيلة الأستاذ حامد حسين سكرتير الجماعة الإسلامية في الهند وغيرها من الوفود من مختلف أنحاء البلاد.(16/156)
فعقدت الجلسة الأولى الافتتاحية في 31 مارس بتلاوة آي من الذكر الحكيم، ثم قدم فضيلة الشيخ مجاهد الإسلام قاضي الشرع ورئيس اللجنة الترحيبية كلمة الترحيب رحب فيها بالمندوبين الوافدين من مناطق الهند المختلفة وأوضح فيها أهداف المؤتمر، ثم تلا الأستاذ محمد ولي الرحماني سكرتير اللجنة الاستقبالية خطبة الافتتاح نيابة عن فضيلة أمير الشريعة الشيخ منة الله الرحماني المحترم الأمين العام لهيئة الأحوال الشخصية الإسلامية لعموم الهند، والخطبة كانت قيمة ذات أهمية بالغة حيث كانت تشتمل على أهمية العلوم الإسلامية والثقافة الدينية ومسئوليات علماء المسلمين ودور المدارس الدينية في مجالات الدعوة والتربية كما ألقى فيها ضوء كامل على القضايا المعقدة والمشاكل والأزمات التي تواجهها المدارس في هذا الأوان وعلى مستقبل العلوم الدينية وطرق الحفاظ عليها.
وعقدت ست جلسات خطب فيها كبار العلماء ورجال العلم والدين من المدارس والجامعات الإسلامية المختلفة ومن جماعة المسلمين الممتازة وعبروا عن أفكارهم حول القضايا المعروضة للبحث، واشترك في هذا البحث فضيلة الشيخ الفاضل محمد طيب المحترم رئيس دار العلوم ديوبند وفضيلة الداعي الشيخ أبو الحسن على الندوي المحترم والأستاذ زين العابدين سجاد رئيس القسم الديني بالجامعة الملية الإسلامية بدلهي (سابقا) والأستاذ الدكتور فضل الرحمن من جامعة كره والأستاذ حامد حسين الموقر سكرتير الجماعة الإسلامية في الهند والشيخ محمد زمان الحسيني والدكتور عطا كريم برق رئيس القسم العربي بجامعة كلكتا والشيخ الفاضل نظام الدين سكرتير الإمارة الشريعة والشيخ محمد هاشم الموقر والشيخ رحيم الدين من دار العلوم حيدر أباد والعلماء الآخرون.(16/157)
واستمرت الجلسات في اليوم الثاني والثالث، وألفت لجان مختلفة من العلماء والممثلين والمندوبين خلال المؤتمر، وناقشت كل لجنة منها حول موضوعها وأخذت مبادئ أساسية ورتبتها ثم استعرضها المجلس العام وناقش حولها حتى اتخذها بصور أربع قرارات وافق عليها المؤتمر.
القرارات
اتخذ المؤتمر قرارات وتوصيات هامة من أهمها إيجاد روح الوحدة والتعاون والتضامن وتوطيد العلاقات بين المدارس ورجالاتها، ولتحقيق هذا وافق المؤتمرون على إقامة "منظمة المدارس الإسلامية"فتم تشكيل هذه المنظمة وتكون المنظمة حرة مستقلة عن الحكومة، وهذه تنظم الامتحانات في جميع المدارس وترتب منهجا دراسيا وتحل قضايا المدارس ويكون محيطها المدارس في مناطق بيهار وأريسا وبنغال.
واتخذ القرار الثاني عن مناهج الدراسة بعد إعادة النظر في مقرراتها السابقة وجاء في هذا القرار أنه لابد من الاعتناء الكامل والاهتمام الزائد بالتفسير، والحديث وأصولهما والفقه وأصوله والعقائد والتاريخ الإسلامي وما إلى ذلك. وأنه لا بد من تغيير في المناهج المتداولة وأن يكون المنهج يشتمل على كتب تحدث في الطلبة ملكة وبصيرة في الفن سواء كانت كتب المتقدمين أو الكُتَّاب والمؤلفين العصريين, وكذلك من اللازم أن تدخل في المناهج التعليمية بعض العلوم العصرية المفيدة ليكون المتخرجون من تلك المدارس على خبرة تامة بقضايا العصر الحديث.
اتخذ القرار الثالث عن تنشيط دور المدارس وعلمائها في حقل الدعوة الإسلامية ومجالات الحياة المختلفة وإيقاظ شعور الدعوة والتوجيه في الطلبة مع التعليم والتربية حيث إن المدارس قلاع منيعة للإسلام ولها مكانة مرموقة في أوساط المسلمين فلا بد من أن تكون بين علمائها وموظفيها وبين عامة المسلمين علاقة وثيقة وأن يسعوا لإيقاظ الوعي الإسلامي وتعميم الفكرة الإسلامية فيهم فقرر أن يقضي كل من الأساتذة والطلبة شهرا في السنة للدعوة الإسلامية.(16/158)
واتخذ القرار الرابع عن تربية الأساتذة وأكد فيه على ضرورة إقامة مخيمات تربوية لذلك، فجاء في هذا القرار أن يقام مقررات، مقرر لثلاثة شهور ومقرر لعامين ويعد لذلك منهج تربوي وجيز ليقوم الأساتذة بواجبهم نحو الدارسة والتعليم على أحسن وجه.
وتختار "منظمة المدارس الإسلامية" خطوة واضحة وتتخذ برنامجا كاملا للنجاح ولتنفيذ هذه القرارات.
المرسل: نور الحق الرحماني
أستاذ الجامعة الرحمانية - وسكرتير النشر والإعلام للمؤتمر(16/159)
من أعماق الكتب من كتاب زاد المعاد
للإمام ابن القيم
(فصل)
وقد سلك المانعون من الفسخ طريقتين أخريين نذكرهما ونبين فسادهما:
الطريقة الأولى: قالوا إذا اختلف الصحابة ومن بعدهم في جواز الفسخ فالاحتياط يقتضى المنع منه صيانة للعبادة عما لا يجوز فيها عند كثير من أهل العلم بل أكثرهم.
والطريقة الثانية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالفسخ ليبين لهم جواز العمرة في أشهر الحج لأن الجاهلية كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج وكانوا يقولون: "إذا أدبر الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر"؛ فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالفسخ ليبين لهم جواز العمرة في أشهر الحج.
وهاتان الطريقتان باطلتان:
أما الأولى: فإن الاحتياط إنما يشرع إذا لم تتبين السنة فإذا تبينت فالاحتياط هو اتباعها وترك ما خالفها فإن كان تركها لأجل الاختلاف احتياطا فترك ما خلافها واتباعها أحوط وأحوط فالاحتياط نوعان: احتياط للخروج من خلاف العلماء، واحتياط للخروج من خلاف السنة، ولا يكفي رجحان أحدهما على الآخر وأيضا فإن الاحتياط ممتنع هنا فإن الناس في الفسخ ثلاثة أقوال:
أحدهما: أنه محرم.
الثاني: أنه واجب وهو قول جماعة من السلف والخلف.
الثالث: أنه مستحب؛ فليس الاحتياط بالخروج من خلاف من حرمه أولى بالاحتياط بالخروج من خلاف من أوجبه وإذا تعذر الاحتياط بالخروج من الخلاف تعين الاحتياط بالخروج من خلاف السنة.
(فصل)
وأما الطريقة الثانية: فأظهر بطلانا من وجوه عديدة.
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر قبل ذلك عمره الثلاث في أشهر الحج في ذي القعدة كما تقدم ذلك وهو أوسط أشهر الحج فكيف يظن أن الصحابة لم يعلموا جواز الاعتمار في أشهر الحج إلا بعد أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة وقد تقدم فعله لذلك ثلاث مرات.(16/160)
الثاني: أنه قد ثبت في الصحيحين أنه قال لهم عند الميقات: "من شاء أن يهل بعمرة فليفعل ومن شاء أن يهل بحجة فليفعل ومن شاء أن يهل بحج وعمرة فليفعل" فبين لهم جواز الاعتمار في أشهر الحج عند الميقات وعامة المسلمين معه فكيف لم يعلموا جوازها إلا بالفسخ ولعمر الله إن لم يكونوا يعلمون جوازها بذلك فهم أجدر أن لا يعلموا جوازها بالفسخ.
الثالث: أنه أمر من لم يسق الهدي أن يتحلل وأمر من ساق الهدي أن يتم على إحرامه حتى يبلغ الهدى محله ففرق بين محرم ومحرم وهذا يدل على أن سوق الهدى هو المانع من التحلل لا مجرد الإحرام الأول والعلة التي ذكروها لا تختص بمحرم دون محرم فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل التأثير في الحل وعدمه للهدي وجوداً وعدما لا لغيره.(16/161)
الرابع: أن يقال إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قصد مخالفة المشركين كان هذا دليلا على أن الفسخ أفضل لهذه العلة لأنه إذا كان إنما أمرهم بذلك لمخالفة المشركين كان هذا دليلا على أن الفسخ يكون مشروعا إلى يوم القيامة إما وجوبا وإما استحبابا فإن ما فعله النبي صلى الله عليه وسم وشرعه لأمته في المناسك مخالفة لهدي المشركين هو مشروع إلى يوم القيامة إما وجوبا أو استحبابا فإن المشركين كانوا يفيضون من عرفة قبل غروب الشمس وكانوا لا يفيضون من مزدلفة حتى تطلع الشمس وكانوا يقولون: "أشرق ثبير كيما نغير"فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال خالف هدينا هدي المشركين فلم نفض من عرفة حتى غربت الشمس وهذه المخالفة إما ركن كقول مالك وإما واجب يجبره دم كقول أحمد وأبي حنيفة والشافعي رحمهم الله في أحد القولين وإما سنة كالقول الآخر له والإفاضة من مزدلفة قبل طلوع الشمس سنة باتفاق المسلمين وكذلك فقريش كانت لا تقف بعرفة بل تفيض من جمع فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم ووقف بعرفات وأفاض منها في ذلك نزل قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} وهذه المخالفة من أركان الحج باتفاق المسلمين فالأمور التي خالف فيها المشركين هي الواجب أو المستحب ليس فيها مكروه فكيف يكون فيها محرم وكيف يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بنسك يخالف نسك المشركين مع كون الذي نهاهم عنه أفضل من الذي أمرهم به أو يقال من حج كما حج المشركون فلم يتمتع فحجه أفضل من حج السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.(16/162)
الخامس: أنه قد ثبت في الصحيحين عنه أنه قال: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة"وقيل له: "عمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد". فقال: "لا بل لأبد الأبد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة". وكان سؤالهم عن عمرة الفسخ كما جاء صريحا في حديث جابر الطويل قال: "حتى إذا كان آخر طواف على المروة"قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدى ولجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة"فقام سراقة بن مالك فقال: "يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟ ". فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال: "دخلت العمرة في الحج - مرتين - لا بل لأبد الأبد"وفي لفظ: "قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم صبح رابعة مضت من ذي الحجة فأمرنا أن نحل فقلنا: "لَمَّا لَمْ يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس أمرنا أن نفضي إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني"فذكر الحديث وفيه: فقال سراقة بن مالك: "لعامنا هذا أم للأبد"وفي صحيح البخاري عنه أن سراقة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "ألكم خاصة هذه يا رسول الله؟ ". قال: "بل للأمة" فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تلك العمرة التي فسخ من فسخ منهم حجه إليها للأبد وأن العمرة دخلت في الحج إلى يوم القيامة وهذا يبين أن عمرة التمتع بعض الحج وقد اعترض بعض الناس على الاستدلال بقوله: "بل لأبد الأبد" باعتراضين. أحدهما: أن المراد أن سقوط الفرض بها لا يختص بذلك العام بل يسقطه إلى الأبد وهذا الاعتراض باطل فإنه لو أراد ذلك لم يقل للأبد فإن الأبد لا يكون في حق طائفة معينة بل إنما يكون لجميع المسلمين ولأنه قال: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة"ولأنهم لو أرادوا بذلك السؤال عن تكرار الوجوب لما اقتصروا على العمرة بل كان السؤال عن الحج ولأنهم قالوا له: "عمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد"ولو أرادوا تكرار وجوبها كل عام لقالوا له ما قالوا له في الحج: "أكل عام يا رسول(16/163)
الله"ولأجابهم بما أجابهم به في الحج بقوله: "ذروني ما تركتكم لو قلت نعم لوجب" ولأنهم قالوا له: "هذه لكم خاصة"فقال: "بل لأبد الأبد". هذا السؤال والجواب صريحان في عدم الاختصاص. الثاني: قوله: إن ذلك إنما يريد به جواز الاعتمار في أشهر الحج وهذا الاعتراض أبطل من الذي قبله فإن السائل إنما سأل النبي صلى الله عليه وسلم فيه عن المتعة التي هي فسخ الحج لا عن جواز العمرة في أشهر الحج لأنه إنما سأله عقب أمره من لا هدي معه بفسخ الحج فقال له حينئذ: "هذا لعامنا أم للأبد"فأجابه صلى الله عليه وسلم عن نفس ما سأله عنه لا عما لم يسأله عنه وفي قوله: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" عقب أمره من لا هدي معه بالإحلال بيان جلي أن ذلك مستمر إلى يوم القيامة فبطل دعوى الخصوص وبالله التوفيق.
السادس: أن هذه العلة التي ذكرتموها ليست في الحديث ولا فيه إشارة إليها فإن كانت باطلة بطل اعتراضكم بها وإن كانت صحيحة فإنها لا تلزم الاختصاص بالصحابة بوجه من الوجوه بل إن صحت اقتضت دوام معلومها واستمراره كما أن الرمل شرع ليرى المشركين قوته وقوة أصحابه واستمرت مشروعيته إلى يوم القيامة فبطل الاحتجاج بتلك العلة على الاختصاص بهم على كل تقدير.
السابع: أن الصحابة رضي الله عنهم إذا لم يكتفوا بالعلم بجواز العمرة في أشهر الحج على فعلهم لها معه ثلاثة أعوام ولا بإذنه لهم عند الميقات حتى يأمر بفسخ الحج إلى العمرة فمن بعدهم أحرى أن لا يكتفي بذلك حتى يفسخ الحج إلى العمرة إتباعا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وإقتداء بالصحابة إلا أن يقول قائل إنا نحن نكتفي من ذلك بدون ما اكتفى به الصحابة ولا نحتاج في الجواز إلى ما احتاجوا هم إليه وهذا جهل نعوذ بالله منه.(16/164)
الثامن: أنه لا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمر أصحابه بالفسخ الذي هو حرام ليعلمهم بذلك مباحا يمكن تعليمه بغير ارتكاب هذا المحظور وبأسهل منه بيانا وأوضح دلالة وأقل كلفة فإن قيل لم يكن الفسخ حين أمرهم به حراما قيل فهو إذاً إما واجب أو مستحب وقد قال بكل واحد منهما طائفة فمن الذي حرمه بعد إيجابه أو استحبابه وأي نص أو إجماع رفع هذا الوجوب أو الاستحباب فهذه مطالبة لا محيص عنها.
التاسع: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" أفترى تجدد له صلى الله عليه وسلم عند ذلك العلم بجواز العمرة في أشهر الحج حتى يأسف على فواتها، هذا من أعظم المحال.
العاشر: أنه أمر بالفسخ إلى العمرة من كان أفرد ومن قرن ولم يسق الهدي ومعلوم أن القارن قد اعتمر في أشهر الحج مع حجته فكيف أمره بفسخ قرانه إلى عمرة ليبين جواز العمرة في أشهر الحج وقد أتي بها وضم إليها الحج.(16/165)
الحادي عشر: أن فسخ الحج إلى العمرة موافق لقياس الأصول لا مخالف لها ولو لم يرد به النص لكان القياس يقتضي جوازه، فجاء النص به على وفق القياس - قاله شيخ الإسلام - ويقرره بأن المحرم إذا التزم أكثر مما كان لزمه جاز باتفاق الأئمة؛ فلو أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج جاز بلا نزاع، وإذا أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم يجز عند الجمهور؛ وهو مذهب مالك وأحمد والشافعي رحمهم الله في ظاهر مذهبه وأبو حنيفة يجوِّز ذلك بناء على أصله في أن القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين. قال: وهذا قياس الراوية المحكية عن أحمد في القارن أنه يطوف طوافين ويسعى سعيين. وإذا كان كذلك فالمحرم بالحج لم يلتزم إلا بالحج فإذا صار متمتعا صار ملتزما لعمرة وحج فكان ما التزمه بالفسخ أكثر مما كان عليه فجاز ذلك. ولما كان أفضل كان مستحبا. وإنما أشكل هذا على من ظن أنه فسخ حجا إلى عمرة وليس كذلك؛ فإنه لو أراد أن يفسخ الحج إلى عمرة مفردة لم يجز بلا نزاع، وإنما الفسخ جائز لمن كان من نيته أن يحج بعد العمرة. والمتمتع من حين يحرم بالعمرة فهو داخل في الحج كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة". ولهذا يجوز له أن يصوم الأيام الثلاثة من حين أن يحرم بالعمرة، فدل على أنه في تلك الحال في الحج، وأما إحرامه بالحج بعد ذلك فكما يبدأ الجنب بالوضوء ثم يغتسل بعده وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل إذا اغتسل من الجنابة، وقال للنسوة في غسل ابنته: "ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها". فغسل مواضع الوضوء بعض الغسل فإن قيل هذا باطل لثلاثة أوجه؛
أحدها أنه إذا فسخ استفاد بالفسخ حلا كان ممنوعا منه بإحرامه الأول: فهو دون ما التزمه.
الثاني: أن النسك الذي كان قد التزمه أولا أكمل من النسك الذي فسخ إليه ولهذا لا يحتاج الأول إلى جبران والذي يفسخ إليه يحتاج إلى هدي جبرانا له ونسك لا جبران فيه أفضل من نسك مجبور.(16/166)
الثالث: أنه إذا لم يجز إدخال العمرة إلى الحج فلا يجوز أبداله بها وفسخه إليها بطريق الأولى والأحرى.
فالجواب عن هذه الوجوه من طريقين بمجمل ومفصل:
أما المجمل فهو أن هذه الوجوه اعتراضات على مجرد السنة والجواب عنها بالتزام تقديم الوحي على الآراء وأن كل رأي يخالف السنة فهو باطل قطعا وبيان بطلانه لمخالفة السنة الصحية الصريحة له والآراء تبع للسنة وليست السنة تبعا للآراء.
وأما المفصل وهو الذي نحن بصدده فإن التزمنا أن الفسخ على وفق القياس فلابد من الوفاء بهذا الالتزام وعلى هذا فالوجه الأول جوابه: بأن التمتع وإن تخلله الإحلال فهو أفضل من الإفراد الذي لا حل فيه لأمر النبي صلى الله عليه وسلم من لا هدي معه بالإحرام به ولأمره أصحابه بفسخ الحج إليه ولتمنيه أنه كان أحرم به ولأنه النسك المنصوص عليه في كتاب الله ولأن الأمة أجمعت على جوازه بل على استحبابه واختلفوا في غيره على قولين فإن النبي صلى الله عليه وسلم غضب حين أمرهم بالفسخ إليه بعد الإحرام بالحج فتوقفوا ولأنه من المحال قطعا أن يكون حج قط أفضل من حجة خير القرون وأفضل العالمين مع نبيهم صلى الله عليه وسلم وقد أمرهم كلهم بأن يجعلوها متعة إلا من ساق الهدي فمن المحال أن يكون غير هذا الحج أفضل منه إلا حج من قرن وساق الهدي كما اختاره الله سبحنه لنبيه فهذا هو الذي اختاره الله لنبيه واختار لأصحابه التمتع فأي حج أفضل من هذين ولأنه من المحال أن ينقلهم من النسك الفاضل إلى المفضول المرجوح ولوجوه أخر كثيرة ليس هذا موضعها فرجحان هذا النسك أفضل من البقاء على الإحرام الذين يفوته بالفسخ وقد تبين بهذا بطلان الوجه الثاني.
وأما قولكم: إنه نسك مجبور بالهدي فكلام باطل من وجوه.(16/167)
أحدها: أن الهدي في التمتع عبادة مقصودة وهو من تمام النسك وهو دم شكران لا دم جبران وهو بمنزلة الأضحية للمقيم وهو من تمام عبادة هذا اليوم فالنسك المشتمل على الدم بمنزلة العيد المشتمل على الأضحية فإنه ما تقرب إلى الله في ذلك اليوم بمثل إراقة دم سائل وقد روى الترمذي وغيره من حديث أبي بكر الصديق أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الأعمال أفضل فقال: "العج والثج" والعج رفع الصوت بالتلبية والثج إراقة دم الهدي فإن قيل يمكن المفرد أن يحصل هذه الفضيلة. قيل مشروعيتها إنما جاءت في حق القارن والمتمتع وعلى تقدير استحبابها في حقه فأين ثوابها من ثواب هدي المتمتع والقارن.
والوجه الثاني: أنه لو كان دم جيران لما جاز الأكل منه وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل من هديه فإنه أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فأكل من لحمها وشرب من مرقها وإن كان الواجب عليه سُبْعُ بدنة فإنه أكل من كل بدنة من المائة والواجب فيها مشاع لم يتعين بقسمة وأيضا إنه قد ثبت في الصحيحين أنه أطعم نساءه من الهدي الذي ذبحه عنهن وكن متمتعات احتج به الإمام أحمد فثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنه أهدى عن نسائه ثم أرسل إليهن من الهدي الذي ذبحه عنهن. وأيضا فإن الله سبحانه وتعالى قال فيما ذبح بمنى من الهدي: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} وهذا يتناول هدي التمتع والقران قطعا إن لم يختص به فإن المشروع هناك ذبح هدي المتعة والقران ومن هنا - والله أعلم - أمر النبي صلى الله عليه وسلم من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر امتثالا لأمر ربه بالأكل ليعم به جميع هدية.(16/168)
الوجه الثالث: أن سبب الجيران محظور في الأصل فلا يجوز الأقدام عليه إلا لعذر فإنه إما ترك واجب أو فعل محظور والتمتع مأمور به إما أمر إيجاب عند طائفة كابن عباس وغيره أو أمر استحباب عند الأكثرين فلو كان دمه دم جبران لم يجز الإقدام على سببه بغير عذر فبطل قولهم إنه دم جبران وعلم أنه دم نسك وهذا وسَّع الله به على عباده وأباح لهم بسببه التحلل في أثناء الإحرام لما في استمرار الإحرام عليهم من المشقة فهو بمنزلة القصر والفطر في السفر وبمنزلة المسح على الخفين وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه فعل هذا وهذا والله تعالى يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته. فمحبته لأخذ العبد بما يسره عليه وسهله له مثل كراهته منه لارتكاب ما حرمه عليه ومنعه منه والهدي وإن كان بدلا عن ترفهه بسقوط أحد السفرين فهو أفضل لمن قدم في أشهر الحج من أن يأتي بحج مفرد ويعتمر عقيبه والبدل قد يكون واجبا كالجمعة عند من جعلها بدلا وكالتيمم لعاجز عن استعمال الماء فإنه واجب عليه وهو بدل فإذا كان البدل قد يكون واجبا فكونه مستحبا أولى بالجواز وتخلل الإحلال لا يمنع أن يكون الجميع عبادة واحدة كطواف الإفاضة فإنه ركن بالاتفاق ولا يفعل إلا بعد التحلل الأول وكذلك رمي الجمار أيام منى وهو يفعل بعد الحل التام وصوم رمضان يتخلله الفطر في لياليه ولا يمنع ذلك أن يكون عبادة واحدة ولهذا قال مالك وغيره: إنه يجزئ بنية واحدة للشهر كله لأنه عبادة واحدة والله أعلم.
"من زاد المعاد للإمام ابن القيم"(16/169)
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ
فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ
وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ}
لفضيلة الشيخ أبي بكر جابر الجزائري - عضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد فهذه بعض آية من سورة البقرة وردت في سياق بيان بعض أحكام العمرة والحج رغبنا أن نستجلي بعض معانيها مع قراء مجلة الجامعة الإسلامية الكرام سائلين الله تعالى أن يرزقنا هدايتها، والعمل بما فيها إنه على كل شيء قدير..
الحج: إن هذا اللفظ القرآني له مدلولان: لغوي، وشرعي، فالمدلول اللغوي هو المشي على المحجة (جادة الطريق) لأي غرض كان يقصده الماشي على المحجة وأكثر ما يطلق هذا اللفظ "الحج" إذا تكرر المشي إلى الشيء المرة بعد المرة.
وأما المدلول الشرعي: فالحج هو قصد بيت الله الحرام بمكة المكرمة لزيارته وأداء مناسك حوله.
وآل: فيه للتعريف العهدي فالمراد من قوله تعالى الحج أشهر معلومات: أنه الحج الشرعي الذي فرضه الله تعالى على عباده المؤمنين: من استطاع منهم سبيلاً، والسبيل هي الزاد والراحلة مع أمن الطريق ووجود محرم بالنسبة إلى المؤمنة.
وأركانه التي لا يتم إلا بها أربعة: الإحرام - وكونه من الميقات الذي حدده الشارع واجب، والطواف - وهو طواف الإفاضة، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة ساعة من بعد ظهر يوم التاسع من شهر ذي الحجة إلى قبيل طلوع الفجر من ليلة العاشر منه.
وهو فرض مرة في العمر، وما زاد فهو نافلة مرغب فيها وتطوع محمود محبوب.
أشهر: الأشهر: جمع شهر وهو عدة أيام وليالي لا تزيد على الثلاثين يوماً ولا ننقص عن التسعة والعشرين.(16/170)
والمراد من الأشهر هنا: شهور الحج الثلاثة وهي: شوال، وذو القعدة وعشر ليال من أول شهر ذي الحجة. ومعنى كونها أشهر الحج: أن الإحرام بالحج لا يكون إلا فيها. فلو أحرم أحد بالحج قبلها أو بعدها كأن يحرم بالحج في شعبان أو رمضان، أو في المحرم أو صفر لما صح إحرامه ولتعين عليه أن يجعله عمرة. أما أشهر الحج فله أن يحرم في أي يوم منها ويستمر على إحرامه إن شاء إلى أن يحج، وله أن يفسخ حجه إلى عمرة.
معلومات: معروفات لدى سائر العدنانيين من أولاد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، إذ جدهم إسماعيل بنى البيت مع والده إبراهيم وحجه معه، وتعلم أداء المناسك وعرف كيفيتها من والده إبراهيم الذي أوحى الله تعالى إليه بها وعلمه إياها، استجابة من تعالى له لما دعاه بقوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وكان هذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان قواعد البيت كما حكى القرآن ذلك عنهما في قوله من سورة البقرة: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
فمن فرض فيهن الحج: لما كان للحج أشهر معلومات لا يحرم به في غيرها فعلى من فرض على نفسه الحج فيها أي ألزم نفسه به وأوجبه عليه حيث أحرم به من الميقات قائلاً: "لبيك اللهم لبيك.. لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"..
فعلى كل من أحرم بالحج أن يتجنب الرفث والفسوق والجدال لأن التلبس بها أو بواحدة منها يفسد الحج أو يخل به فيحرم الحاج القبول والثواب.(16/171)
فلا رفث: الرفث: الجماع، ومقدماته من النظر بشهوة، واللمس باليد أو المباشرة بالجسد والكلمة المريبة الدالة على الجماع، الداعية إليه المفكرة فيه.
ونفيه في هذا اللفظ القرآني {فَلا رَفَث} . منعه منعاً كلياً بحيث لا يوجد شيء منه ألبتة حتى ينهى عنه من يفعله، وهذا التوجيه للآية خير من توجيه من قال إذن النفي هنا بمعنى النهى غير أنه أبلغ منه، فيكون اللفظ خبراً ومعناه الإنشاء.
ولا فسوق: الفسوق: مصدر فسق المرء يفسق فسقاً وفسوقاً إذا خرج عن طريق الحق والصواب. والمراد به هنا: الخروج عن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بترك ما أمرا به من مناسك الحج وغيرها من سائر فرائض الدين وواجباته، وبفعل ما نهيا عنه وحظرا فعله من محظورات الحج وغيرها من كل ما حرم الله ورسوله من المعتقدات والأقوال والأفعال.
فلا ينبغي أن يوجد شيء من الفسوق في الحج، لأنه يفسده ويذهب أجره ويحرم فاعله مغفرة ذنبه ورضا ربه.
ولا جدال: الجدال: مصدر جادل يجادل جدالاً ومجادلة إذا مارى في شيء، أو خاصم فيه غيره، ليقطعه عن حقه ويثنيه عن مراده.
الجدال هنا اللجج في الخصومة والمبالغة في المماراة مما يؤدي إلى قول باطل أو فعل حرام كسب أو شتم أو انتقاص، أو إهدار حق، أو إثبات باطل.
والجدال الذي يريد به صاحبه إبطال حق، أو إحقاق باطل هو حرام على كل حال وفي أي زمان أو مكان، والجدال الذي يريد به صاحبه العكس وهو إحقاق الحق، وإبطال الباطل هو واجب على كل حال غير أنه بالنسبة للمتلبس بعبادة الحج لا يجب عليه ولا يطالب به، لأن في العبادة المتلبس بها شغلاً يمنعه من القيام بواجب إحقاق الحج أو إبطال الباطل شأنه شأن من هو في الصلاة. ولما عرف بالمشاهدة أن الجدال في أي شيء يجر إلى الخروج عن الأدب ويؤدي إلى السباب والمشاتمة وهما محرمان لا سيما في الحج.
وما تفعلوا من خير يعلمه الله:(16/172)
إن معنى هذه الجملة الشرطية هو الترغيب في فعل الخير في الحج، أي خير كان يريد به فاعله وجه الله تعالى فإن الله تعالى يجزيه به ويثيبه عليه.
والجملة وإن لم تذكر الجزاء على فعل الخير واكتفت بذكر علم الله تعالى بالخير المفعول فإن لازم علم الله تعالى بالخير الذي يفعله الحاج وهو متلبس بالحج، لازمه الجزاء عليه والمثوبة به. ولعل السر في عدم ذكر الجزاء في هذا التركيب القرآني أن الله تعالى لا يثيب على مجرد فعل الخير، وإنما على خير علم الله من فاعله أنه أراد به وجه الله تعالى وحده، لأن الله تعلى لا يقبل من الأعمال الصالحة إلا ما كان لوجهه خالصاً. ومن هنا وضع علم الله تعالى جزاء لفعل الشرط، واكتفى به عن ذكر الجزاء بالثواب. فليتأمل هذا فإنه مهم.
وهذه الجملة: {وَمَا تَفْعَلُوا} تعتبر قسيمة الجملة القرآنية التي سبقتها وهي فلا رفث ولا فسوق الخ، إذ الأولى فيها تحريم كل ما يخل بعبادة الحج فيفسدها أو يبطل أجرها، وهذه فيها الترغيب في فعل الخيرات من إطعام الطعام وإفشاء السلام، وإغاثة ملهوف، وإرشاد ضال، أو تعليم جاهل.
وباجتناب كل ما يفسد الحج أو يخل به، وفعل الخيرات يتوفر به وصف البر للحج المذكور في قول النبي صلى الله عليه وسلم "والحج المبرور ليس له جزاء إلى الجنة "(16/173)
وهذه هي هداية هذه الآية الكريمة: أن يحرم المؤمن بالحج في أشهره التي حددت للإحرام به فيها، فإذا أحرم تجنب لك ما يفسد عليه حجه أو يخل بكماله من سائر المعاصي كترك ركن من أركانه أو إسقاط واجب من واجباته، أو غيرها من فرائض الدين وواجباته أو فعل محظور من محظورات الحج أو غيرها من كل ما حرم الله ورسوله من المعتقدات والأقوال والأفعال. وأقبل مع ذلك على الصالحات يفعلها، والخيرات يسابق إليها ويسارع فيها مدة ما هو متلبس بعبادة الحج حتى يفرغ منها وقد أبرها الله تعلى له وأثابه عليها فغفر ذنوبه وهيأه لدخول جنته كما جاء ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه "، "والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة "..
هذا ولنستشف مع القراء الكرام بعض أسرار هذه العبادة فنقول:
ما أشبه الحج بدعوة رسمية وجهها أحد الملوك إلى خدمه وعبيده بواسطة أحد خواصه والمقربين عنده، ليزوروا بيته، وليحظوا منه بالنوال والعطاء.. ونظراً لتفاوت استعداد المدعوين، واختلاف ديارهم قرباً وبعداً جعل مدة الزيارة هذه شهرين وعشر ليال، ليتسنى الحضور في هذه المدة لكل المدعوين مهما تناءت ديارهم وبعدت أقطارهم.(16/174)
وأخذ المدعون يتوافدون ومن كل حدب وصوب ينسلون حتى تكامل الوفد ووجب الرفد فحدد لهم موعداً وخصص لهم مشهداً هو يوم عرفه ليتجلى لهم فيه ويمنحهم بحسب إخلاصهم في خدمته جوائز إحسانه، وعطايا أفضاله، فحسن أن يخرجوا يوم التروية في ملابسهم الرسمية التي دخلوا بها حرم مولاهم، وحمى من دعاهم فينزلوا بمنى استعداداً حتى إذا طلعت شمس يوم الموعد المحدد كانوا على أتم استعداد لحضور ذلك المشهد، فينزلوا بنمرة أول النهار وما إن تزول الشمس وتدنو ساعة الحضور، وقد طعموا وشربوا وتطهروا، ونزلوا المصلى فصلوا فرضهم معاً جمعاً وقصراً، كل ذلك تفرغاً منهم للمناجاة واستعداداً للملاقاة، واندفعوا متدفقين على ذلك الميدان الرحب الفسيح "الموقف بعرفة "ووقفوا – وكلمهم رجاء – باكين خاشعين سائلين متضرعين، ولم يزالوا كذلك حتى يتجلى لهم مولاهم ويعطيهم سؤالهم ومناهم فيكرم المحسنين منهم ويعفو عن المسيئين، وقد باهى بهم ملائكة السماء، وأشهدهم على ما منحهم وأعطى.
ولما تتقض تلك الساعات التي تزن الدهور بغروب شمس ذلك اليوم الذي يفضل العصور يأذن لهم مولاهم بالإنصراف وقد أرشدهم إلى محل النزول (مزدلفة) ليبيتوا ليلتهم في بهجة وسرور حتى إذا أصبحوا وقفوا بالمشعر الحرام ذاكرين لمولاهم رفده وإحسانه شاكرين له أفضاله وإنعامه.
{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} .. وبعد أن يسفروا يخفون عائدين إلى بيت مولاهم ومكان تجمعهم ولقياهم، وفي طريقهم يشفون صدورهم ويذهبون غيظ قلوبهم من عدوهم فيرمونه بمنى بسبع حصيات.(16/175)
وهناك بمنى وقبل زيارة بيت مولاهم يلقون تفثهم، ثم يقبلون على البيت زائرين ولإنعام مولاهم شاكرين، فيطوفون ببيته ويسبحون بحمده، وبذلك يكونون قد أشهدوا على أنهم حضروا الحفل المشهود ونالوا الرفد الموعود. وهاهم أولاء قد عادوا ليسجلوا أسماءهم في سجل الحضور وليعلنوا أنهم من أكرم الزوار.
ومن المعلوم أنه ما تم لهم حضور المشهد المفضل الذي شهدوا ولا تمكنوا من إجابة الدعوة التي أجابوا إلا بعد جهد جهيد وعناء شديد لبعد ديارهم، ولخروجهم عما اعتادوا من ملبس ومسكن ومأكل ومشرب فما أحوجهم والحال هذه إلى أيام راحة واستجمام في مكان هادئ ومنزل طيب مريح فسيح حتى إذا استراحوا واستردوا من قواهم ما فقدوا ودعوا بيت مولاهم وانصرفوا
وما أكرم مولاهم وما أعظم حفاوته بهم إذ أعد لهم فجاج منى الفسيحة ورحابها الطيبة المريحة وعزمهم لإقامة ثلاثة أيام ومن تعجل في يومين فلا إثم عليه فيقضونها في متع كثيرة بين ترويح للروح وغذاء للبدن فيهللون ويكبرون ويأكلون ويشربون حتى إذا قضوا أيامهم وأراحوا أرواحهم وأبدانهم عادوا إلى البيت فودعوا وانصرفوا والكل يضرب في طريق بلاده عائداً إلى وطنه وموضع ميلاده.
فيا رب ردهم سالمين
وسلام عليهم في العالمين(16/176)
من كتاب دور المساجد التاريخي في التثقيف العلمي
تأليف محمد الشاذلي الخولي
صورة طبق الأصل عن كتاب جورج الثاني ملك انكلترا والفال- فرنسا والسويد والنرويج إلى خليفة المسلمين في مملكة الأندلس هشام الثالث..
صاحب العظمة هشام الثالث الجليل المقام..
بعد التعظيم والتوقير فقد سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة، فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر نور العلم في بلادنا التي يجتاحها الجهل من أركانها الأربعة. وقد وضعنا ابنة شقيقتنا لأميرة "دوبانت"على رأس بعثة من بنات أشراف الإنكليز لتتشرف بلثم أهداب العرش والتماس العطف ولتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم وحماية الحاشية الكريمة وحدب من لدن اللواتي سيتوفرن على تعليمهن وقد أرفقت الأميرة الصغيرة بهدية متواضعة لمقامكم الجليل.. أرجون التكرم بقبولها مع التعظيم والحب الخالص..
من خادمكم جورج
من كتاب (دور المساجد التاريخي في التثقيف العلمي) تأليف محمد الشاذلي الخولي.
إذا جمعتنا يا أخي المجامع
أولئك أبائي فجئني بمثلهم
المجلة:(16/177)
الفتاوى
السؤال الأول: ما هو الأفضل أن يكون بين العمرة والعمرة للرجال والنساء؟
والجواب: لا نعلم في ذلك حدا محدودا بل تشرع في كل وقت لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة "متفق على صحته فكلما تيسر للرجل والمرأة أداء العمرة فذلك خير وعلم صالح وثبت عن أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:العمرة في كل شهر. وهذا كله في حق من يقدم إلى مكة من خارجها أما من كان في مكة فالأفضل له الاشتغال بالطواف والصلاة وسائر القربات وعدم الخروج على خارج الحرم لأداء العمرة في الأوقات الفاضلة كرمضان لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"عمرة رمضان تعدل حجة "ولكن يجب أن يراعى في حق النساء عنايتهن بالحجاب والبعد عن أسباب الفتنة وطوافهن من وراء الناس وعدم مزاحمة الرجال على الحجر الأسود فإن كن لا يتقيدون بهذا الأمور الشرعية فينبغي عدم ذهابهن إلى العمرة لأنه يترتب على اعتمارهن مفاسد تضرهن وتضر المجتمع وتربو على مصلحة أدائهن العمرة إذا كن قد أدين عمرة الإسلام والله سبحانه وتعالى أعلم..
الثاني: دخول المرأة مكة للطواف في ليالي الجمع وغيرها مع ما تعلمون من الازدحام؟
والجواب:
تقدم في جواب السؤال الأول ما يدل على أن عدم دخول النساء إلى مكة من أجل الطواف أفضل من دخولهن لأنهن في الأغلب لا يحصل منهن التحجب المشروع ولا يحصل منهن التحرز من مزاحمة الرجال عند الحجر وغيره وبذلك يعلم أن عدم دخولهن أولى وأفضل من دخولهن لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح لا سيما والمصلحة في دخولهن تخصهن والمضرة الحاصلة بذلك تضرهن وغيرهن كما هو ظاهر من حال النساء اليوم إلا من رحم الله.(16/178)
السؤال الثالث: تكرار الحج مع ما يحصل فيه من الزحام واختلاط الرجال بالنساء فهل الأفضل للمرأة ترك الحج إذا كانت قد قضت فرضها وربما تكون قد حجت مرتين أو أكثر؟
الجواب: لا شك أن تكرار الحج فيه فضل عظيم للرجال والنساء ولكن بالنظر إلى الزحام الكثير في هذه السنين الأخيرة بسبب تيسر المواصلات واتساع الدنيا على الناس واختلاط الرجال بالنساء في الطواف وأماكن العبادة وعدم تحرز الكثير منهن عن أسباب الفتنة، نرى أن عدم تكرارهن الحج أفضل لهن وأسلم لدينهن وأبعد عن المضرة على المجتمع الذي قد يفتن ببعضهن، وقد سبق في جواب السؤال الأول والثاني ما يؤيد ما ذكرنا وهكذا الرجال إذا أمكن ترك الاستكثار من الحج لقصد التوسعة على الحجاج وتخفيف الزحام عنهم. فنرجو أن يكون أجره في الترك أعظم من أجره في الحج إذا كان تركه له بسبب هذا القصد الطيب ولا سيما إذا كان حجه يترتب عليه حج إتباع له قد يحصل بحجهم ضرر كثير على بعض الحجاج لجهلهم أو عدم رفقهم وقت الطواف والرمي وغيرهما من العبادات التي يكون فيها ازدحام والشريعة الإسلامية الكاملة مبنية على أصلين عظيمين أحدهما العناية بتحصيل المصالح الإسلامية وتكميلها ورعايتها حسب الأمكان.
والثاني: العناية بدرء المفاسد كلها أو تقليلها وأعمال المصلحين والدعاة إلى الحق وعلى رأسهم الرسل عليهم الصلاة والسلام تدور بين هذين الأصلين وعلى حسب علم العبد بشريعة الله سبحانه وإسرارها ومقاصدها وتحريه لما يرضى الله ويقرب لديه واجتهاده في ذلك يكون توفيق الله له سبحانه وتسديده إياه في أقواله وأعماله. وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين لكل ما في رضاه وصلاح أمر الدين والدنيا أنه سميع قريب.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء الدعوة والإرشاد(16/179)
مختارات من الصحف
- يستفاد مما نشر في جريدة العرب القطرية الصادرة بتاريخ 30 يوليو 1978، أن هناك اتجاها لتنفيذ مشروع المدارس المختلطة، حيث يجلس الطالب إلى جانب الطالبة في مدرسة واحدة، وذلك في العام الدارسى الجديد.
ومما تجدر الإشارة إليه أن المجلس التأسيسى لرابطة العالم الإسلامي أصدر قراراً موجها لجميع ملوك ورؤساء الدول الإسلامية يمنع الاختلاط بين الذكور والإناث في جميع المراحل التعليمية.. و المجتمع- تأمل أن تستجيب حكومة قطر الشقيق إلى هذا النداء وتعمل على إلغاء المشروع الاختلاطى، الذي تروج له الصحف العميلة.
وليتعظ الإخوة بما سببه هذا النظام الدراسى من مآسى ومفاسد، فالتجربة الغربية ماثلة أمامكم، وتجربة جامعة الكويت.. لا بد وأن تردع كل من تهمه مصلحة الأمة وأخلاق جيل المستقبل. (المجتمع الكويتية) ..
- فرغت لجنة تعديل القوانين السودانية. من وضع قانون خاص بحظر الخمر.. القانون يحظر استيرادها وتصنيعها ويحدد عقوبة شاربها وبائعها.. ويضع تدرجا زمنيا لتطبيق العقوبات.. وقدمت اللجنة توصيات بشأن الفئات التي لا ينطبق عليها القانون من اللادينيين.. والمجوس.. وكذلك بالنسبة للمصانع القائمة وتحويلها إلى مصنوعات أخرى مفيدة.. هذا القانون سيقدم لمجلس الشعب في أكتوبر القادم.(16/180)
- اشتبكت كتيبة من المجاهدين مع القوت المسلحة الحكومية في قرية تكلام المدمرة بمحافظة كنرها. فقتل وجرح حدد كبير نحو ألف ومائتين من الجنود الحكميين بسبب إطلاق النيران عليهم من قبل المجاهدين وإنفجار شحنات كبيره من المتفجرات التي كانت تحملها سيارات النقل الحكومية لتدمير فرى المجاهدين. وقد ترك الجنود مواقعهم نتيجة لضغط المجاهدين عليهم وآثرو الفر على الكر وتركوا وراءهم كميات من الأسلحة استولى عليها المجاهدون. فأرسلت الحكومة الظالمة سربا من الطائرات لضرب مواقع المجاهدين. ولكن العملية فشلت حيث إن خمسة من الطيارين التجأوا بطائراتهم إلى باكستان ورجعت الطائرات الأخرى بلا جدوى.
واستقطت طائرة هليكوبتر برشاشة أحد المجاهدين.
هذا- وقد اغتيل أربعة عشر شخصا من الخبراء الروس من قبل أشخاص مجهولين في مدينة كابل ونكرهار وبكتيا.
وطلبت عصابة تركى من الاتحاد السوفيتي أن تبعث إلى أفغانستان ألفين وستمائة من الفتيات العاهرات لنشر الرذيلة بين الشباب الأفغان.
- فشلت محاولة انقلابية قامت بها كتيبة من القوات المدرعة في 26 من شهر شعبان بكابل للإطاحة بعصابة تركى. (الرائد الهندية) .
- أجرت مجلة "الميديل ايست"مقابلة مع طه الجزراوى عضو مجلس قيادة الثورة العراقي وذلك عندما رأس الوفد العراقي إلى مؤتمر دول الرفض الذي عقد في طرابلس في ديسمبر الماضى ويعتبر طه الجزراوى واحدا من ذوي النفوذ في القيادتين القطرية والقومية لحزب البعث العراقي ويشغل اليوم منصب وزير الإسكان في الحكومة الحالية.
- ما هو موقف حزب البعث من المنطق ذي الروح الإسلامية الذي تعرضه بعض الدول العربية المحافظة في نظرها للمشكلات العربية اليوم؟ أما زال الحزب محافظا على نظرته العلمانية تجاهها؟! الجواب(16/181)
- نحن نختلف مع الذين يظنون أن في الإسلام الخلاص من المآزق التي تقع فيها الأمة العربية اليوم.. أما أولئك الذين يعملون على تنشيط الحركات الإسلامية والشريعة القرآنية فهم يحملون نظرة لا تتوافق معنا..ونحن لا نعتقد بهذه الأشياء ونحن بالتأكيد حزب علماني وإن كان هذا لا يعني بالضرورة أننا ضد الدين!! فنحن نحترم الأديان كلها!! ونحترم حريتها أيضا!! إلا أننا وفي هذه المرحلة التاريخية التي نعيشها فتحن نعتقد أنه يجب علينا إيجاد طرق علمية وعملية للتطبيق أكثر من الأديان.
(جريدة النور المغربية)
المجلة:
{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} ..(16/182)
لائحة الامتحانا في كليات الجامعة الاسلامية
أقر المجلس الأعلى للجامعة لائحة الامتحانات في كليات الجامعة وتم تطبيقها ابتداء من العام الدراسى 98-1399هـ وبموجب هذه اللائحة تجرى الامتحانات بنظام الدورين:
1- الدور الأول ويكون على مرحلتين إحداهما في نهاية الفصل الدراسى الأول والثانية في نهاية الفصل الدراسى الثاني وفي كل مرحلة منهما يكحون الامتحان في نصف المنهج المقرر لكل مادة ويكون للامتحان في الفصل الأول أربعون درجة في الفصل الثاني ستون درجة منها عشر درجات تخصص الفصل الدراسى الأول.
2- الدول الثاني، ويكون الامتحان في المنهج المقرر كاملا لكل مادة وجاء في المادة الثالثة عشرة منها ما يلي:
يحسب التقدير العام لنجاح الطالب في كل امتحان وفقا لمجموع الدرجات التي يحصل عليها الطالب منسوبا إلى المجموع الكلي للنهاية الكبرى لجميع المواد ويحسب التقدير العام لنيل الشهادة العالية على أساس مجموع الدرجات التي يحصل عليها الطالب في جميع السنوات الأربع منسوبا إلى المجموع الكلي للنهاية الكبرى لجميع المواد في السنوات الأربع وفي كل تقدير بجبر الكسر في مجموع الدرجات لصالح الطالب إذا كان نصفا فأكثر ويحذف إذا كان أقل من الصف.
مطبعة الجامعة
أعلنت الجامعة في مناقصة عن تأمين مطابع للجامعة وتمت ترسيتها على عدد من الشركات وسيتم تركيبها وتشغيلها بمشيئة الله خلال العام الدراسى 98-1399هـ.
الاعداد للممؤتمر العالمي الإسلامي لمكافحة المسكرات والمخدرات
شكلت في الجامعة لجنة برئاسة الدكتور محمد بن حمود الوائلي عميد كلية الشريعة بالجامعة للإعداد لعقد المؤتمر الإسلامي العالمى لمكافحة المسكرات والمخدرات الذي ستعقده الجامعة بمشيئة الله تعالى خلال العام المالي القادم 1399-1400هـ.(16/183)
تفسير آية من كتاب الله
لفضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي المدرس بالمعهد الثانوي
بسم الله الرحمن الرحيم، ونصلي ونسلم على من نزل على قلبه الكتاب المبين، ثم بعد،.. لما كان كتاب الله لا تنتهي عجائبه في الدنيا والآخرة، ومن أعاجيب كتاب الله هذه الآية التي نريد- إن شاء الله – أن نمر بها بقدر ما يفتح الله علينا به، وليس الأمر أمر آية تفسر، أو كلمات تقال وتسمع، لأن الكلام ما أكثره حتى ولو كانت كلام خير ولكن المطلوب كله أن نسمع ونعقل ونعمل وإلا فكل كلام يكون على غير ما ذكرنا مجرد كلام وحديث طلى حلو المسمع..(16/184)
تم تعليق بعد ذلك بالرضا أو بعدمه على ما قيل وسمع، ولا يستقر شيء في القلب، ولا تتحول الأحاديث إلى العمل تطبيقاً لما سمع، ألا فلنرح أنفسنا من الآن ولنسكت، وكل يعمل على شاكلته، ثم بعد ذلك ربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً، إلا أن الجامعة الإسلامية التي ما قام بناؤها الشامخ الآن إلا على أساس التعريف بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، داخل الدولة وخارجها وما أظنني أبداً أتملق أو أرائي أحداً معاذ الله، فما بقي لي شيء بعد سني هذا أرائي من أجله، وإنما الذي بقي لي في هذه الدنيا هو أن أقول كلمة الحق لأهلها، وكلمة الباطل لأهلها أيضاً ما استطعت إذاً فالجامعة تقوم في كل مجال ترى فيه مناسبة بتبليغ كلام الله إلى الناس حيثما عن لها ذلك وأمكن، وكان موسم الحج في مخيمها على هذه الصورة التي ترونها، كتاب الله يتلى ويفسر ويبين، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تروى وتشرح وتوضح، ما يتصل منها بالحج أو بغيره فدين الله شامل لكل شيء، والحج جمع جامع يمكن أن يقال فيه أياً مما قال الله وما قال رسوله، فلا تجلسوا هنا على أساس أن تعرفوا فقط ما هو الطواف، وما هو السعي وما هو الوقوف وما هو الرمي، لا إن هذا الموسم يمكن أن يكون موسم الإسلام كله، ويجب أن يحاط يقدر الإمكان بما في دين الله قولاً وتوضيحاً في أشهر الحج المعدودات، وعلى هذا فقد أردت أن أزيد على ما تعوده الناس في موسم الحج، مما كادوا أن يملوه من الإقتصار على الحديث عن الحج وما يتصل به وكأنه لا يعيش الإنسان في الحج إلا مع هذه الكلمات أو التحركات، ولهذا اخترت أية من كتاب الله، لأفسرها بما يفتح الله به علي، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب ونقرأ الآية المعنية أولاً {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ(16/185)
وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} الآية 177 من سورة البقرة. هذه الآية التي اخترتها لأجعلها موضوعي في هذه المجلة، ولا أدعي أبداً بأنني قد أحطت علماً بكل ما في هذه الآية، ولو ادعيت ذلك أكون قد قلت شططاً، وطلبت أمراً ليس سهلاً بلوغه، ولنبدأ بغير مقدمات طويلة، سائلاً الله أن يفتح الآن القلوب قبل أن يطلق اللسان بالقول، وأن يجعلنا نأخذ بعد ذلك معناً ما سمعناه، عسى الله برحمته أن يجعل هذا الموسم موسم خير وبركة لكل حجاج بيته، وليس كما قال صلوات الله عليه:"يأتي زمان على الناس من أمتي، يحج أغنياؤهم للنزهة، وأوسطهم للتجارة، وقراؤهم للرياء، وفقراؤهم للمسألة " نعوذ بالله من أن نكون الآن كذلك، ونعوذ بالله من أن نعيش إلى هذا الزمان، إنما نسأل الله أن نكون الآن في حج خالص لوجهه، ولنبدأ في تفسير الآية. {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} ، صحيح أن هذه الآية نزلت لأكثر من سبب، فقد أفهمنا علماء أسباب النزول أنه قد يكون لنزول الآية سبب واحد، وقد تكون لأسباب عدة، ولكن لا أريد أن آخذكم معي في خلافات العلماء، وإنما القصد هو أن نأخذ شيئاً ممسوكاً ميسراً يمكن الاستفادة منه، ولا بد من مقدمة بسيطة جداً ثم بعد ذلك ندخل في تفاصيل الآية، لما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يحول القبلة إلى البيت الحرام، خاض اليهود والنصارى، وقالوا ما قالوا، فاليهود أرادوا أن يجعلوا القبلة جهة المغرب، أي جهة بيت المقدس، ودعوني الآن مع الآية، وكثيراً ما تشد الحوادث المؤلمة الإنسان بعيداً عن قصده،(16/186)
وقد يلام عندئذ أو لا يلام، فدعونا الآن من مأساة بيت المقدس، ولنكن عند كلامنا المحدد بالآية، والنصارى طلبوا أن يجعلوا القبلة جهة المشرق، والمسلمون فرحوا بالتحول الجديد، فأصبح الأمر له ثلاث دعائم، لنأخذ من هذه الدعائم الثلاث كلمة {الْبِرَّ} في النهاية بعد ذلك، اليهود يريدون المغرب والنصارى يريدون المشرق، والمسلمون سروا بالبيت الحرام، وكل اعتقد صحة وجهته، ولابد أن يكون الحق في جانب واحد من الثلاثة، ولن يكون الحق إلا ما أنزله الحق عندما حدد الوجهة، ومع ذلك خشي أن يكون الأمر مجرد اتجاه إلى مكان، وليس اتجاهاً إلى من شمل سلطانه الزمان والمكان، فقال سبحانه ليدخل الفرق الثلاثة في الآية موجهاً القول إليهم جميعاً حتى إلى أصحاب الوجهة الحقة، وجهة البيت الحرام، فقد يتجهون هم أيضاً بأجسادهم إلى بناء الكعبة ينحنون ركوعاً ويخرون سجوداً، ولكن الوجهة ليست إلى الله في علاه، والعقيدة غير مصفاة، ويصبحون بذلك يؤدون الصلاة عادة وليست عبادة، وهنا لا يصبح الفرق كبيراً بينهم وبين من اتجهوا إلى المشرق أو المغرب، فلا بد من الجهة والوجهة وهنا يكون البر وليس دون ذلك، يوجد البر، فقال عز من قائل: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} فبدأت الآية بنفي جهتي النصارى واليهود شكلاً وموضوعاً فبقيت جهة من الثلاث لم تنف إشارة إلى أنها الحقة، ولكن لينقى حقها من كل كدر، ألزمت الآية أصحبها بسمات معينة كعقد لؤلؤى رائع إلى آخر كلماتها، والبر في تفسيره العام هو كل طيب يعتقد به أو يقال به أو يعمل به، وأول طيب يعتقد به هو بداية ما ذكرته الآية من أمر أهل البر، {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} والإيمان بالله أمر طيب خفي يظهره قول طيب جلي ذكرته أكثر من آية {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} ، الآية 24 من سورة إبراهيم والكلمة(16/187)
الطيبة هي كلمة التوحيد يترجم بها الإيمان، وقوله سبحانه {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} الآية 26 من سورة الفتح، وكلمة (التقوى) هنا أيضاً هي كلمة التوحيد، لا إله إلا الله، والإيمان كله هنا، ومن هذا الكل يتفرع الجزء الذي ذكرته الآية في بقيتها، إذاً فكلمة الإيمان وهي الشهادة بالوحدانية، هي تلك التي أقام الله عليها دنياه وأخراه، وبغيرها خربت دنيا الناس وأخراهم إذاً فلابد أن تفهم ليعمر بها المؤمن ما هو فيه وما هو آتيه، ولا يكفي فيها أبداً ترديد الببغاء، كما لا يكفي فيها مجرد التعبير المحفوظ من أن معنى لا إله إلا الله لا معبود بحق سواه، وإنما يجب أن نعود بعيداً لنعرف أولاً كلمة التوحيد حتى نصل بها إلى ما حفظنا من تعاريف، فنقول إن الله لما خلق البشر لم يبدأ بترهيبهم وإنما بدأ بترغيبهم، لما عرض عليهم في صورة البشريّ الأول، فأول ما عرض عليه جنته ولم يره ناره، فوقعت المعصية فيها وتركت الجنة إلى شقاء الأرض، وأول ما حدث عليها من إنسان اختار ما يدخل النار {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الآية 33 من سورة المائدة، ولما تكونت أول مجموعة بشرية استحقت أن يرسل فيها أول رسول، ما بدأوا دنياهم إلا بيغوث ويعوق ونسراً، ومن هنا عرفنا لماذا بدأت كلمة التوحيد بالكفر قبل الإيمان (لا إله) من هذا كله، لا شيطان تعبد بطاعته عندما ينزغ، ولا للهوى تتبع حتى تقبل، ولا ليغوث تدين بالضلال المبين، أنطق أولاً بالكفر بما عدا الله، فلا إله من هذا كله، إلا الله خالق هذا كله، فأنت نظفت القلب أولاً مما عدا الله، ثم ملأته بالإيمان بالله، فلم يعد فيه فراغ لسواه، فيصبح بعد ذلك لا معبود بحق سواه، وتكون قد أدركت بوضوح معنى (لا إله إلا الله) ، فهو وحده الذي(16/188)
يجب أن يعبد من كل خلقه، {وَالْيَوْمِ الآخِرِ} ، ولم يقل: واليوم الثاني، لأن الآخر هو الذي لا ينتهي حقيقة أو ذكراً فلا شيء يخلفه، أما الثاني قد يكون بعده ثالث وهكذا، فالآخرة حياة بعد موت ليس فيها موت {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى} الآية 56 من سورة الدخان والإيمان يقتضي التصديق بالخروج من الحدث إلى حياة لا تنتهي، {وَالْمَلائِكَةِ} وهم سكان السماء المكرمون، ومنهم كثير ينزل إلى الأرض لأعمال هم بها مكلفون {وَالْكِتَابِ} يشمل هنا كل كتاب أوحى به وليس القرآن فقط {وَالنَّبِيِّينَ} سواء من نزل عليه كتاب وكلف بشريعة، أو من وقف أمره عند النبوءة، وعند هذا القدر من الآية نقول، إن البر بدأ بالإيمان بالله وهو سبحانه الغيب الأعظم، ادخر رؤيته البصرية في الآخرة لمن آمن به في الدنيا غيباً مكتفياً بعجائب صنعه ومعجزات رسله، فآمن تبعاً لذلك بكل غيب أخبر عنه، فالملائكة غيب لم يرهم الناس إلا النذر الموحى إليه، والكتب غيب لم يدرك حقيقة نزلها إلا من نزلت عليهم، والصلة بين النبيين وربهم غيب لا تلمس ولا تتصور، فالإيمان بهذا الغيب هو ملء القلب بضياء المعرفة، فتبدأ الآية عندئذ بوضع الصفات التالية من صورة البر على تلك الركائز الراسخة، والراسية رسو الجبال أو أشد في قلب الذي عرف، {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} ، فالإنسان لا شيء أعز عليه بعد روحه من المال، بل كثيراً ما كنت أسمع من يقول: المال عديل الروح، والمال هنا يشمل كل ما يميل إليه الإنسان، من ذهب وفضة وأنعام وحرث، وللمفسرين عندئذ رأيان، لأن إيتاء المال ذكر هنا، وإيتاء الزكاة سيذكر بعد في نفس الآية، فقيل عن إيتاء المال هنا هو نفس إيتاء الزكاة وإنما الذكر الأول للإيتاء هو أوجه الصرف ولمن تعطى، وقيل إن القصد هو الحق الذي في المال سوى الزكاة المفروضة، بل ورأي ثالث استنبط من "الصدقة على القريب صدقة وصلة"، {ذَوِي الْقُرْبَى}(16/189)
وتبع ذلك في الترتيب {وَالْيَتَامَى} فاليتم قطع أليم لحنو عظيم بالقلب واليد كان يمد لليتيم قبل أن يأتم بموت أبيه، ومد المال إليه بعد ذلك امتداد لجزء عظيم كان قد انقطع عنه باليتم لما مات العائل {وَالْمَسَاكِينَ} ، وكلمة المسكين تعبير عن الذي أسكنته وأذلته الحاجة، فانزوى وانطوى على همه، فيحوله الإيتاء من أهل السخاء إلى إنسان متحرك متصل بالمجتمع، يعمل معه أخذاً وعطاء بالمال الذي أوتيه {وَابْنَ السَّبِيلِ} ، سالك الطريق إلى غاية لم يبلغها لنفاد ما يبلغه، فيعينه ما أعطيه على إدراك مقصده والاجتماع بمطلوبه ليفرح ويسر بعد غربة، وانقطاع ووحشة، {وَالسَّائِلِينَ} ، ولو كانوا على جياد مسومة وتعلوهم ثياب مطرزة، ما داموا مجهولين وليسوا معروفين بالاحتراف للسؤال، فقد تكون طارئة كبرى ونازلة عظمى حلت بهم فأتربت أيديهم، وبقي عليهم أثر نعمة ذهبت، فلا يجوز تعنيف السائل على مظهر يبدو منه عدم حاجته إلى السؤال {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} آية 263 من سورة البقرة، {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} آية 10 من سورة الضحى، وما أبعد الفرق بين اليد التي أعطت واليد التي أخذت "اليد العليا خير من اليد السفلى "والخيرية هنا على لسان الصدوق صلى الله عليه وسلم تشمل الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يد اكتفت واغتنت وعزت، فامتدت لتعطى وليس لتأخذ، ويد افتقرت واحتاجت فأمدها الفقر لتأخذ لا لتعطى، وفي الآخرة أجرت اليد التي أعطت لأنها شكرت، والثانية لا أجر لها على ما أخذت، بل قد تعاقب إذا كانت امتدت متسمرئة سهولة السؤال عن السعي الحافظ لماء الوجه، أما المؤتي فهو بنيته يثاب على كل حال {وَفِي الرِّقَابِ} . وهنا تقدير تفسيري بين "في"و "الرقاب"، أي (وفي فك أو إعتاق الرقاب) المسلوبة الحرية، من عبيد وإماء وأسارى، كأن يعتق ما يملكه من عبد أو أمة تاركاً ثمنهما صدقة لله، أو يشتري الرقاب(16/190)
ويعتقها كما فعل أبو بكر رضي الله عنه، أو يفتدي الأسير ليطلق من إساره, ولكن لنا وقفة عند كلمة الرقاب، فقد جهل علينا الجاهلون لما قالوا: إن الإسلام يدعو أن يملك الإنسان أخاه الإنسان كما يملك شاة أو بعيراً، وما من وصف يليق بهم إلا أنهم أعداء جاهلون كما قلت، وها هي كلمات الآية تخزيهم وتغشي أعينهم، فهي هنا لا تأمر بفك الرقاب فقط وإنما تفهم المؤمن بالله أنه لا يتم له الإيمان ويحوز صفات البر إلا إذا كان من المخلصين للعبيد من عبوديتهم، حسية أو معنوية، ولقد أعلنها الإسلام حرباً غليظة لما جاء ووجد مصيبة الرق وتجارته تملأ فجاج الأرض كما يتاجر في الخراف والحمير، بل وجعل من ألزم الكفارات إذا وقعت المعصية من المؤمن أن يعتق رقبة إذا أحب أن يسارع إلى المغفرة ومحو الذنب، فالمظاهر من زوجته يلزم بعتق رقبة ولا يقبل منه ما دون ذلك إلا إذا كان لا يملك رقاباً، ونفس الأمر للمفطر في رمضان، وللواقع في يمينه، وهكذا، بل من غير هذا وذاك جعل الله تعالى من أعظم القربات إليه عتق الرقاب، إن المتخرصين علينا قد علموا ذلك وعموا عنه، فهي العداوة للإسلام ولا شيء غير ذلك، لقد قضينا على الرق كما أمر ديننا، وهم لا زالوا يتاجرون في الرق ويستعبدون ويستعمرون.(16/191)
لكن إتيان المال للمجموعة الآنفة من قوله تعالى {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} إلى {وَفِي الرِّقَابِ} وضع لها المفسرون شرط الحاجة من هؤلاء جميعاً إلى المال. أما من ملك المال وبخل به على نفسه فلا يعطى من مال غيره مهما كانت الصلة، {وَأَقَامَ الصَّلاةَ} ، إنه وإن كانت الصلاة هي قمة العبادات المؤداة بدنياً بعد رسوخ الإيمان قلبياً، فإن ترتيبها اللفظي في الآية لا ينقصها عن ترتيبها المعنوي الثابت لها على كل العبادات، لأن الآية ذكرت الأمور التي يتكون منها البر على صورة أقسام ثلاثة، كل قسم يضم مجموعة متحدة الغاية، فالمجموعة الأولى غايتها رسوخ اليقين في صدر المؤمن إلى قوله تعالى: {وَالنَّبِيِّينَ} ، ومجموعة القسم الثاني تنظيم المجتمع الإسلامي وإحكام صلته ببعضه ليتآخى فيستقر ويأمن وذلك من قوله سبحانه: {وآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ إلى.. وَفِي الرِّقَابِ} ، والقسم الثالث في آخر الآية غايته صقل النفس والتسامى بها لتتم لها السعادة بالعبادة الموجودة في هذه المجموعة، وبدأ سبحانه هذه المجموعة بإقامة الصلاة، ونلاحظ هنا أنه سبحانه لم يقل هنا، وصلى، أو: أدى الصلاة، لأن الذي يحرك جسده بالصورة المعروفة للصلاة، يكون قد صلى أو أدى الصلاة، ولو لم يتم ركوعها ولا سجودها، ولو جمعها جميعها آخر النهار وفعلها جملة واحدة يكون قد صلى أو أدى الصلاة، ولو صلاها في بيته وليس مع الجماعة يكون قد صلى أو أدى الصلاة، وهكذا، ولكنه في كل هذه الحالات لا يكون قد أقام الصلاة، وإقامتها شرط في قبولها، ولهذا كانت الآيات التي تحدثت عن الصلاة في القرآن من النذر ألا تذكر معها كلمة (إقامة) أو ما يشتق منها، فتجدها بالماضي (وأقام الصلاة) وبالمضارع (ويقيم الصلاة) وبالأمر (وأقم الصلاة) واسم الفاعل (والمقيمين الصلاة) ، وقد لخص تفسير الإقامة في أربع؛ أن تؤدى في أول وقتها وأن تكون مع الجماعة في المسجد، وأن تكون تامة كاملة الأركان(16/192)
قراءة وركوعاً وسجوداً وخشوعاً، وألا تصاحبها المعاصي التي تضيع ثوابها {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} هذه الأربعة هي ما تقام بها الصلاة كما أمر الله تعالى، وبغيرها تكون صلاة ولا تكون إقامة صلاة، يراه الناس يصلي وقد لا يراه الله كذلك {وَآتَى الزَّكَاةَ} ، سبق في المجموعة الثانية قوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ} ، فإيتاء المال إطلاق، وإيتاء الزكاة تقييد، وأخذ ذلك من إجبار الدابة على قيدها في مكان أمانها، وعندما يؤدى القصد من القيد حيث لا خوف على الدابة فتطلق لتزداد حركتها داخل الحظيرة وخارجها، فالزكاة قيد يلزم به المؤمن أولا حسب القدر المقرر بالشرع، فإن آتى المال على حبه بعد ذلك – كما ذكرت الآية آنفاً قبل ذلك – فهو من سمات البر ومتمماته، ولقد سبق إيتاء التطوع قبل إيتاء الفرض ليعلم والله أعلم أن الزيادة في الخير وإن لم تفرض لها عند الله قدرها العظيم، فيعطيها المؤمنون السابقون في الخيرات أهمية الفرض طمعاً فيما عند الله تعالى من جزيل الأجر وعظيم المثوبة، فمجتمع يكون على هذه الصورة وقد اتبع توجيهات السماء وسارع إلى العمل بها لا يمكن إلا أن يكون مجتمعاً سعيداً رغيداً، وهل يمكن أن يكون لكيد الملحدين وسموم الشيوعيين مغمز يشيعون أو مدخل يلجون، لكن لما منع مجتمعنا اليوم زكاة الله منعوا تبعاً لذلك من باب أولى إيتاء المال فيما سوى الزكاة، حيث أحضرت الأنفس الشح مع زيادة المال لدى الأغنياء في هذا الزمان، لقد أصبح المجتمع الإسلامي اليوم فريقين، فريق بات فيه الثراء دولة بين الأغنياء وفريق بات الثرى مأواه يتقلب عليه جوعاً ومناماً، لأن الفريق الأول قطع مدد الله المفروض عن الفريق الثاني، فانقطعت الصلة ونبت البغض وأصبح نداء المعدة لدى الجائعين الضائعين هو النداء الملبى دون النظر إلى مصدره ولو كان نداء إلحاد أو ارتداد، والمسلمون هم السبب ثم يتباكون إذا استشرى الداء، فلا(16/193)
فرض أدوه ولا مستحب فعلوه فجنوا شر مخالفة الكتاب ومجافاة السنة بما نحن غارقون فيه اليوم وبما هو معروف للكل وإلى الله المشتكى. {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} ومشكلة الوفاء بالعهود والوعود في مجتمع مسلمي اليوم أمر آخر نتج عن تركه وعدم الوفاء بما يقال أو يتعهد به على مستوى الفرد والمجموع والحكام، أننا أصبحنا نعيش في بحر متلاطم قوامه عدم الصدق وفقدان الثقة وسوء الظن وعدم اطمئنان النفس إلى غيرها، حتى الوعود والعهود المكتوبة يتلاعب بها ويتحايل على نقضها، ويدخل في ذلك مواثيق المنظمات ومعاهدات الحكومات، ذلك لأن الأصل الملزم للوفاء بالعهد لم يعد موجوداً في الصدور، وهو خشية الله وخوف عقابه إذا وقع خلف الوعد أو خيانة العهد، وإنما ديدن اليوم أن يظل الوفاء ما ظل النفع الذاتي أو الخوف من ضرر يتوقع ويصبح العهد هباء إذا لم يخش من نقضه ضرر لدنياه، ولا على باله شيء من سوء عاقبة حتى يحيق المكر السيئ بأهله، وعندها فقط يتذكر العهد بعد فوات الوقت {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ} ، قالوا عن البأساء أصلاً إنه الفقر الشديد، على أنه المذل للنفس الإنسانية والمهين للكرامة البشرية بأكثر مما عداه مما يصاب به الإنسان، ولكن يدخل في البأساء أيضاً كل ما تبتئس به النفس وتكتئب فيما بعد الفقر الذي هو أشد ما يحزن ويبئس، فلا تجوز لمن يبتئس أن ييأس، فالحياة قلب وأيامها دول، وعليه أن يعتقد والصبر الجميل ستر مسدول عليه بأن الله سيجعل بعد عسر يسراً، وأن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً، ولن يغلب عسر يسرين، لكن أقول والأسف شديد إن ضيق الصدر وضياع الصبر في مجتمعنا الحالي أصبح هو المهيمن على تصرفاتنا، وكأننا نريد أن نخضع الدنيا لهوانا وميلنا، ونسينا أن ما عسى أن نكرهه قد يكون خيراً لنا وأن العكس أيضاً قد يكون ولماذا نذهب بعيداً في التدليل بعدم الصبر، ونحن الآن في منى نعيش التجربة كاملة، أرأيتم ما يفعل(16/194)
الناس عند الجمرات أثناء الرجم، هذا يدفع هذا، وهذا يسيء إلى هذا بلسانه أو بيده، واستعملت القوة البدنية وسط هذا الزحام لزيادة آلام الناس وعنائهم، وأكثر ما وقع بهم الحيف أهل الضعف من النساء والعجزة والمرضى وكبار السن، هل هذا هو الصبر في أعظم المواقف الذي يمتحن فيه أهل الإيمان ويظهر منهم حقيقة الصبر ليعظم لهم الأجر؟ وإذا تعرضنا لما يحدث عند الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة لقلنا كثيراً مما ترونه جميعاً معي، بل إن عدم الصبر مع فريضة الصبر هذه وهي فريضة الحج يظهر جلياً على كثير من الحجاج وهم جلوس داخل خيامهم، فتراه ناقماً لأنه ما تصور وهو في بلده مرفه مدلل أنه سينام في ظل قطعة قماش وأن الرمل هو الفراش، وأنه لو استطاع أن يرسل في استدعاء قصره المشيد بفراشه الطري الرخي لفعل، وما خطر في باله أن الحج يقوم على مشقة يصبر عليها الرجال المبتغون المثوبة من الكبير المتعال، {وَالضَّرَّاءِ} والأغلب في تعريفه أنه المرض، فأكثر ما يتضرر به الإنسان الأوجاع وفقدان صحة البدن، ولكن ذلك أيضاً لا يمنع كما قلنا من التضرر بغير المرض من ابتلاءات الله كما يشاء والتي لا ترياق لها إلا الصبر المحتسب، {وَحِينَ الْبَأْسِ} . وقت القتال حينما ينادى بخيل الله لتركب، وهو رمز عسكري في الماضي، وما يشبهه اليوم ومستقبلاً مما يستنفر به الرجال لإذلال حزب الشيطان. {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} الآية 14 من سورة التوبة. والقرآن زاخر بآيات البطولة والرجولة وعزة والركض إلى حيث النداء وكرامة الشهداء، سيرة في الدنيا عطرة وفي الآخرة عظمة، هكذا كنا يوماً فخرت أعناق الطواغيت تحت نعالنا، ودانت الجبال الشم لعزائمنا، ونظرة الرضا من الله في الآخرة لجنده هؤلاء شيء مستحيل وصفه، فماذا دهانا اليوم وا أسفاه، فقنا النمل عدداً وتمزقت أوصالنا بدداً، وطمع فينا وفي قدسنا(16/195)
عدو ضربت عليه الذلة، وما سمعنا في دنيانا بقدر ما بلغنا عن خبرها منذ وجدت أن لأهل التيه مكان دائم، وأن لهم دولة وأرضاً، إلا لما أبطلنا آيات الجهاد وأوقفنا أسوة الرسول الذي سير ستين سرية وقاد بنفسه سبعة وعشرين جيشاً وقاتل بنفسه في تسع منها، نعم قامت لليهود أعداء ربهم وقتلة أنبيائه ومبغضوا أوليائه دولة، ودولة اقتطعت من أكبادنا، حدث ذلك لما نسينا الله فنسينا بتسليط أحقر خلقه وتمكينهم منا ليذيقنا وبال أمرنا، فهل من صلح مع الله وقد رأينا نذره وما أمسينا فيه، عسى أن يصلح أمرنا ويعيد إلينا عز أيامنا؟.. {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} ، والصدق هنا وعلى عمومه يشمل ثلاثة جوانب، صدق الاعتقاد وصدق القول، وصدق العمل، ونحن المخلوقين لا ندرك من غيرنا صحة الاعتقاد، فالقلوب يعلم ما بها العليم بذاتها، أو قد نتصور صدق المعتقد بقسم منه قد يصدق فيه وقد يكذب، ولكن الصدق في الآية هنا وصف من الله للذين عملوا بجوانب الخير المذكورة فلابد أنهم صادقون لما وصفهم الله بالصدق العليم بصدورهم، وصدق القول أظهر لنا من صدق الاعتقاد، حيث نستطيع مطابقة الخبر القولي للواقع العملي، ولكن ذلك يمكن أن يخالف، فقد يكون حريصاً على صدق قوله أمام الناس، وقد يكون عكس ذلك إذا غاب عنه الناس، لكن صاحب الصفات التي في الآية لما وصف بالصدق من ربه فيصبح بالتأكيد صادقاً أمام الناس أو في غيبتهم، والصادق في العمل أمامنا قد يكون قصده مراءاتنا أيضاً لنثني عليه حيث لا يرى إلا في مواضع الخير وأماكن التقوى، ولكن لا ندرى هل كان ذلك أمام الله أم لا؟ لكن في هذه الآية العظيمة، لما أصبح من أهلها ووصفه منزلها بالصدق، فهو إذاً باليقين صادق العمل، ومن هنا لما جمع جوانب الصدق الثلاثة يكون جمع الأسس الثلاثة جميعها التي في الآية (1) ، الاعتقاد القائم على الإيمان بالغيب فلا يشرك ولا يشك ولا يسأل (2) ، أخوة المجتمع الإسلامي القائمة على الترابط والتعاون(16/196)
على البر (3) ، تزكية النفس والتسامى بها ابتداء بالصلاة فما دونها من بقية العبادات وهنا نفى عن نفسه صورة البر الزائفة بوجهة المادة على المشرق أو المغرب دون جهة الروح المفصلة في الآية المجيدة، وأحلى وأجمل ما حمله معه المتصف بهذه الآية هو ختامها لما أسبغ عليه نعمة التقوى ظاهرة وباطنة، فأصبح سلوكه سلوك الربانيين وهذا أعلى منازل العباد عند الله بعد الملائكة والأنبياء.
هذا إيجاز موجز في معنى آية واحدة من كتاب الله، وقد تعرض للحديث عنها كثير من العلماء في كتيبات وكتب منفصلة حتى وصل بعضهم في الكلام عنها إلى كتاب مستقل بلغت صفحاته خمسمائة صفحة، فما بال القرآن كله إذاً؟.. سبحان من جعله كما قال عنه مخاطباً نبيه الذي أنزل عليه وجعله به خير عباده {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} .. "سورة النحل آية 89"والمقصود بقوله تعالى {لِكُلِّ شَيْءٍ} كل شيء شمل الدنيا التي ستنتهي والآخرة التي لا تنتهي، هكذا فهمه الكرام الأعلام السابقون من أهل هذا القرآن، واليوم ما أمره عند من ينتسبون أو يدعون الانتساب إليه، إنني أستطيع القول بلا أقل تحرج، إن قوله تعالى على لسان رسوله في بداية ما نزل القرآن: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} "سورة الفرقان: آية 30 ".. يمكن أن تقال هذه الآية حرفاً ومعنى، وإلا فمن يجيبني عن هذه الأسئلة؟ كم حاكم مسلم الآن ينفذ حكومة القرآن؟ كم فرد من المسلمين اليوم يحفظونه والنذر الذي حفظه كم منهم فهمه، والأكثر ندرة من الذي فهمه هل على نفسه طبقه ونفذه؟.. إن الذي بقي من القرآن الآن مقرئو المآتم والإذاعات والحفلات يتاجرون به ويشترون بآياته ثمناً قليلاً، وقراءتهم إلى الغناء والتلحين أقرب، ليشدوا أسماع الجهلاء بحسن النعم وليس بحسن المعنى، والذي بقي من القرآن الآن آلاف من النسخ المطبوعة المكدسة في المساجد وفي(16/197)
المكاتب للغبار والفئران والأرضة، والذي بقي من القرآن الآن قراءته على القبور واستعماله للاستجداء والسؤال، والذي بقي من القرآن الآن جعله للشعوذة والأحجبة خوفاً من المرض والحسد ومس الجن في اعتقاد البلهاء المستدرجين والذي بقي من القرآن الآن كتابة بعض آياته على حلى النساء وخواتم الأصابع للرجال والنساء وفي غمرة الجنابة والحيض والجماع ودخول المراحيض وإزالة البراز والبول بالأيادي المكتوب عليها اسم الله وآياته، كل هذا وأكثر منه يحدث من الذين يقولون إنهم أمة القرآن المؤمنون بمنزله سبحانه ومبلغه صلى الله عليه وسلم، يحدث منهم هذا بهذه الصورة المجرمة الوقحة ولا يستحون معها أن يقولوا إننا مسلمون ونؤمن بكتاب الإسلام، ولم لا يكون من أمتنا ذلك ولم تبال حكوماتهم في برامج تعليمها على اختلاف مراحله بكتاب الله، لا تحفيظاً ولا تفهيماً ولا علومه المتخرجة منه إلى بعض جامعات وسط هذا الخضم المتلاطم من الجهل والنعيق بما لا يسمع إلا بالانحراف والإرجاف فهل من غيورين محزونين على ما أمسى فيه كتاب الله من ترك وتجاهل وإهمال فيتعاونوا على إعادة عصر القرآن الذي كان يهيمن فيه على كل تصرفات المجتمع بأسره صغاراً وكباراً، فقد حدث أن كان الأصمعي رحمه الله يمر في طريق فوجد كما قال:"صبية خماسية أو سداسية العمر تجلس أمام بيت أهلها وهي تردد: (أستغفر الله لذنبي كله، انقضى الليل ولم أصله) ، فقال لها الأصمعي: أصغيرة لم يجر عليك قلم بعد في السماء، وتستغفرين الله بهذه الفصاحة؟ فقالت الصبية: وأين هذه الفصاحة من آية قصيرة في كتاب الله لم تزد عن السطرين، اشتملت على خبرين (تقصد الأخبار البلاغية) وأمرين، ونهيين، وبشارتين. فازداد الأصمعي غرابة وعجباً من حديث الصبية، وسألها عن هذه الآية وما تحويه من الأمور الأربعة التي ذكرتها، فقالت: الآية هي قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ(16/198)
فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} (سورة القصص رقم 7) . والخبر الأول فيها يفيد الوحي {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} والخبر الثاني يفيد الخوف {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ} والأمر الأول {أَرْضِعِيهِ} والأمر الثاني {فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} والنهي الأول {وَلا تَخَافِي} والنهي الثاني {وَلا تَحْزَنِي} والبشارة الأولى {إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ} والبشارة الثانية {وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} . فسر الأصمعي من قول الصبية أيما سرور وقال: تعلم الأصمعي الذي يدعي أنه يعلم الناس من صبية في عمر أحفاده ".
هذا أمر وقع في حقبة من أحقاب عصر من عصور أضاءت بنور القرآن شملت الصغير والكبير، واليوم لا يعرف شيئاً عن القرآن صغير ولا كبير إلا من كان في هذا الزمان كالنواة مع القطمير، فأصابتنا المذلة لما هجرنا كتاب العزة إلى خصوم هذا الكتاب {أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} سورة النساء آية 140 فهل من عودة إلى القرآن لنعود غالبين بعد أن أصبحنا مغلوبين نعم باعتقاد أكيد {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} سورة قد سمع آية 22.
وعلى الله فليتوكل المؤمنون.
عبد الفتاح عشماوي
المعهد الثانوي(16/199)
المفهوم الصحيح للتوسل على ضوء السنة
لفضيلة الأستاذ حماد بن محمد الأنصاري الأستاذ بالجامعة الإسلامية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.. فقد اطلعت على رسالة صغيرة كتبها شخص باسم عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري الحسني وسماها (اتحاد الأذكياء في التوسل بالأنبياء وغيرهم من الصالحين والأولياء) يدعو فيها إلى التوسل بذوات الصالحين مستدلاً على دعواه فيها بخمسة أحاديث مرفوعة وبخمسة آثار موقوفة، وعقب على كل واحد منها بأنه صحيح، وأنها دالة كلها على مرامه..
هذا وقد ألفت رسائل كثيرة في الرد على مثل هذه الرسالة، منها قاعدة التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام ابن تيمية، وصيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ زيني دحلان للشيخ السهسواني، وغاية الأماني في الرد على النبهاني للألوسي، ومنهاج التأسيس في الرد على ابن جرجيس للشيخ عبد اللطيف، وتأسيس التقديس في الرد على ابن جرجيس لبابطين النجدي، ومصباح الظلام في الرد على ابن منصور للشيخ عبد اللطيف وغير ذلك كثير.(16/200)
فمشاركة لهؤلاء الأعلام في الذب عن السنة المطهرة وحفاظاً على العقيدة السلفية من أن يعبث بها كل لاعب رأيت من الواجب على بيان الحق نحو الأخبار والآثار التي لبس بها الغمارى على العامة فوضعت قلمي على هذه الأوراق مستعيناً بالله وحده، فإذا تلك الأخبار والآثار على قسمين، قسم دال مرامه ولكنه ضعيف جداً أو موضوع، وقسم خارج عن الموضوع على فرض صحته، وقد قدمت الكلام على الأحاديث المرفوعة التي ساقها في رسالته الصغيرة التي تقدمت الإشارة إليها. وكذلك ما ساق في أصل رسالته هذه ثم قفيته بالكلام على ما أورده من الآثار الموقوفة، وسميت هذه الرسالة (بتحفة القاري في الرد على الغمارى) فإليك أيها القارئ أدلة الغمارى التي لا تنطلي إلا على الأغمار لأنك إذا نظرت إليها تجد أن أسانيدها كلها لا تخلو من كذاب أو متهم بالكذب متروك الحديث أو مجهوله تنقطع أعناق الإبل دون أن يعرف. إضافة إلى أنه أورد فيها حديث عمر في الصحيحين وحديث الأعمى في السنن مع أنهما خارجان عن الموضوع، كما ستقرؤه إن شاء الله في محله.(16/201)
1- الحديث الأول من أحاديث الغمارى قال: "أخرج الطبراني في معجمه الكبير والأوسط عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:"لما ماتت فاطمة بنت أسد أم علي رضي الله عنهما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عند رأسها فقال: "رحمك الله يا أمي، كنت أمي بعد أمي تجوعين وتشبعينني وتعرين وتكسينني وتمنعين نفسك طيباً وتطعمينني تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة"، ثم أمر أن تغسل ثلاثاً ثلاثاً فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خلع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه فألبسها إياه وكفنها ببرد فوقه ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاماً أسود يحفرون فحفروا قبرها فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وأخرج ترابه بيده فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع فيه وقال:" الله الذي يحيى ويميت وهو حي لا يموت اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين"، وكبر عليها أربعاً وأدخلها اللحد هو والعباس وأبو بكر رضي الله عنهما ". قال: قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح غير روح بن صلاح، وقد وثقه ابن حبان والحاكم وفيه ضعف. قال فالحديث صحيح وله طرق، منها عن ابن عباس عند أبي نعيم في المعرفة والديلمي في مسند الفردوس بإسناد حسن كما قال الحافظ السيوطي"، انتهى كلام الغمارى. قلت: قال الحافظ ابن حجر في اللسان: "إن روح بن صلاح ذكره يونس في تاريخ الغرباء وقال: هو من أهل الموصل قدم مصر وحدث بها. رويت عنه مناكير ". قال الدارقطني:"ضعيف في الحديث ". وقال ابن ماكولا:"ضعفوه، سكن مصر ". وقال ابن عدى بعد أن أخرج له حديثين:"وله أحاديث كثيرة في بعضها نكرة "، وقال الذهبي في الديوان:"روح بن صلاح عن ابن لهيعة قال ابن عدى: ضعيف ". وقال السهسواني في الصيانة:"روح ضعيف(16/202)
ضعفه ابن عدى، وهو داخل في القسم المعتدل من أقسام من تكلم في الرجال، كما في فتح المغيث للسخاوى، ولا اعتداد بذكر ابن حبان له في الثقات فإن قاعدته معروفة من الإحتجاج بمن لا يعرف كما في الميزان، وكذلك لا اعتداد بتوثيق الحاكم وتصحيحه فإنه داخل في القسم المتسمح "، قال السخاوى: وقسم متسمح كالترمذي والحاكم ". وقال السيوطى في التدريب:"وهو متساهل فما صححه ولم نجد فيه لغيره من المعتمدين تصحيحاً ولا تضعيفاً، حكمنا بأنه حسن إلا أن تظهر فيه علية توجب ضعفه ".
وقال البدر بن جماعة:"والصواب أنه يتتبع ويحكم عليه بما يليق بحاله من الحسن أو الضعف أو الصحة "، ووافقه العراقي وقال:"أن حكمه عليه بالحسن فقط تحكم ". فقول الحاكم وابن حبان عند التعارض لا يقام له وزن حتى ولو كان الجرح مبهماً لم يذكر له سبب، فكيف مع بيانه، كما هو الحال في ابن صلاح هذا، فأنت ترى أئمة الجرح قد اتفقت عباراتهم على تضعيفه، وبينوا أن السبب رواية المناكير، فمثله إذا انفرد بالحديث يكون منكراً لا يحتج به، فلا يغتر بعد هذا بتوثيق من سبق ذكره إلا جاهل أو مغرض.
فحديث أنس هذا الذي تبين أنه ضعيف أوهم الغمارى أنه صحيح بتمسكه بتوثيق ابن حبان والحاكم لروح بن صلاح، وقد بينا ضعفه وعدم اعتداد العلماء بتوثيق المذكورين فتذكر. ولم يكتف بهذا التلبيس بل قال عقبه:
ولهذا الحديث طرق منها عن ابن عباس عند أبي نعيم في المعرفة والديلمى في الفردوس بإسناد حسن كما قاله الحافظ السيوطى.
فهذا كذب منه على ابن عباس رضي الله عنهما وربما على السيوطى أيضاً فليس في حديث ابن عباس موضع الشاهد من حديث أنس وهو قوله (بحق نبيك والأنبياء الذين قبلي فإنك أرحم الراحمين) .(16/203)
قال ابن الأثير في أسد الغابة ما نصه:"أخبرنا أبو الفرج بن أبي الرجاء إجازة بإسناده عن أبي بكر بن أبي عاصم حدثنا عبد الله بن شبيب بن خالد القيس حدثنا يحيى بن إبراهيم بن هاني أخبرنا حسين بن زيد بن على عن عبد الله بن محمد بن عمر بن على عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن فاطمة بنت أسد في قميصه واضطجع في قبرها وجزاها خيراً ".
وروى عن ابن عباس نحو هذا وزاد:"فقالوا: ما رأيناك صنعت بأحد ما صنعت بهذه؟ قال: إنه لم يكن بعد أبي طالب أبر بي منها، إنما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة، واضطجعت في قبرها ليهون عليها عذاب القبر " [1] .
وقال ابن عبد البر:"روى سعدان بن الوليد السابرى عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: لما ماتت فاطمة أم على بن أبي طالب ألبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه واضطجع معها في قبرها، فقالوا: ما رأيناك صنعت ما صنعت بهذه؟ فقال: "إنه لم يكن بعد أبي طالب أبر بي منها، إنما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة واضطجعت معها ليهون عليها " [2] .
ورواه الطبراني في الأوسط أيضاً بدون هذا الشاهد مثل رواية ابن عبد البر، وقال الهيثمى:"وفيه سعدان بن الوليد ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات " [3] . ولفظه في المجمع عن ابن عباس قال:"لما ماتت فاطمة أم على بن أبي طالب خلع النبي صلى الله عليه وسلم قميصه وألبسها إياه واضطجع في قبرها، فلما سوى عليها التراب قالوا: يا رسول الله رأيناك صنعت شيئاً لم تصنعه بأحد؟ فقال:"إني ألبستها قميصي لتكسى من ثياب الجنة واضطجعت معها في قبرها ليخفف عنها من ضغطة القبر، إنما كانت أحسن خلق الله إلي صنيعاً بعد أبى طالب ". وليس في هذه الروايات عن ابن عباس ذكر للشاهد الذي تقدم في حديث أنس رضي الله عنه ".
2- وعند الطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة "أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السموات والأرض وبكل حق هو لك وبحق السائلين عليك ".(16/204)
قلت: قال الهيثمى في المجمع:"وفيه فضالة بن جبير وهو ضعيف مجمع على ضعفه ". وقال الذهبي في الميزان:"قال ابن عدى عامة أحاديثه غير محفوظة ". وقال ابن حبان:"لا يحل الاحتجاج به بحال، يروي أحاديث لا أصل لها "هكذا في الفوائد المجموعة للشوكاني رحمه الله.
3- وعن ابن عباس قال:"سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه قال: "سأل بحق محمد وعلى وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت على فتاب عليه.." انتهى. قلت: قال الدارقطني:"تفرد به عمرو بن ثابت أبو المقدام بن هرمز الكوفي يكنى أبا ثابت وقد قال يحيى: أنه لا ثقة ولا مأمون ". وقال ابن حبان:"يروي الموضوعات". وقال الذهبي في الميزان:"قال النسائي: متروك الحديث "، وقال أبو داود:" رافضي".
وقال عبد الله بن المبارك:"لا تحدثوا عن عمرو بن ثابت فإنه كان يسب السلف "وفي سؤالات الآجري أبا داود عنه أنه قال:"رافضي خبيث وهو المشئوم ليس يشبه حديثه أحاديث الشيعة "، ذكره ابن عراق في الوضاعين وقال:"عمرو بن ثابت أبي المقدام "قال ابن حبان:"روى الموضوعات عن الثقات "وذكره الفتني أيضاً في قانون الضعفاء وقال:"متروك ".
قال يحيى:"عمرو بن ثابت لا ثقة ولا ثابت، إن الله تعالى قد بين الكلمات التي تلقاها آدم من ربه، فدعا بها هو وحواء بقوله تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . وهذا أقوى رد للمتن الذي رواه هذا الوضاع المجوسي الأصل من غلاة الروافض ".
4- حديث الأعمى عند الترمذي والنسائي في عمل اليوم والليلة وابن ماجه، وهذا الحديث على القول بصحته فليس فيه متمسك على دعواه لأن الأعمى إنما توسل بدعائه صلى الله عليه وسلم كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره في قاعدة التوسل والوسيلة.(16/205)
ذكر أن العز بن عبد السلام أوقف القول بجواز التوسل به صلى الله عليه وسلم على صحة هذا الحديث، ولكنه لا يدل على التوسل بذاته الشريفة صلى الله عليه وسلم بل إنما يدل على التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم للأعمى لقوله صلى الله عليه وسلم للأعمى:"إن شئت دعوت وإن شئت صبرت" ولقول الأعمى في آخر دعائه "اللهم فشفعه في".
وسيأتي بسط الكلام على هذا الحديث عن قريب إن شاء الله عند الكلام على حديث الطبراني في توسل عثمان بن حنيف.
5- الحديث الخامس أخرج الحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان الأصبهاني المعروف بأبي الشيخ في كتابه ثواب الأعمال من طريق عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه "أن أبا بكر رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أتعلم القرآن ويتفلت مني، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول:"اللهم إني أسألك بمحمد نبيك وإبراهيم خليلك وموسى نجيك وعيسى كلمتك وروحك وبتوراة موسى وإنجيل عيسى وزبور داود وفرقان محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين " (الحديث) لم يزد الغمارى على قوله في هذا الحديث (وهو ضعيف لضعف عبد الملك، ولأن فيه انقطاعاً بين أبيه وبين أبي بكر كما قال الحافظ العراقي في المغنى) .
قلت: قصر في البحث أو أراد التلبيس كما هو عادته لأن عبد الملك بن هارون بن عنترة قال السعدي:"دجال كذاب "، وقال يحيى بن معين أيضاً:" كذاب ". وقال أبو حاتم:"متروك ذاهب الحديث "، وقال ابن حبان:"يضع الحديث وهو الذي يقال به عبد الملك بن أبي عمرو ". وقال الذهبي:"واتهم بوضع الحديث "، وكذلك ابن عراق ذكر في الكذابين ما قال السعدي وابن حبان فيه. وقال الفتني في قانون الضعفاء:"عبد الملك بن هارون الشيباني كذاب دجال يضع ".
وقال الحافظ في اللسان:"قال صالح بن محمد عامة حديثه عن أبيه كذب، وأبوه هارون ثقة ". وقال الحاكم في المدخل:"روى عن أبيه أحاديث موضوعة ".(16/206)
وقال أبو نعيم:"يروى عن أبيه مناكير وأبوه هارون بن عنترة الشيباني الكوفي فقد قال الحافظ في التقريب: لا بأس به، الدارقطني يحتج به وأبوه يعتبر به وأما ابنه عبد الملك فمتروك يكذب "- الميزان.
6- قال الطبراني في الصغير ثنا محمد بن داود بن أسلم السدفي المصري ثنا أحمد بن سعيد المدني الفهري ثنا عبد الله بن إسماعيل المدني عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أذنب آدم عليه السلام الذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى العرش فقال:"أسألك بحق محمد إلا غفرت لي " الحديث ورواه الحاكم في المستدرك أيضاً قال ثنا أبو سعيد عمرو بن محمد بن منصور العدل ثنا أبو الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ثنا أبو الحارث عبد الله بن مسلم الفهري ثنا إسماعيل بن مسلمة أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر به ففي هذا الحديث آفات كثيرة سكت عنها الغمارى لأنها لا تتلاءم مع غرضه من التلبيس. منها إن الذهبي قال في الميزان:"عبد الله بن مسلم أبو الحارث الفهري روى عن إسماعيل بن مسلمة بن قعنب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم خبراً باطلاً فيه: (يا آدم لولا محمد ما خلقتك) . قال في تلخيص المستدرك: بل هو موضوع وعبد الرحمن واه ".(16/207)
وقال أيضاً:"رواه عبد الله بن مسلم الفهري ولا أدري من ذا عن إسماعيل بن مسلمة "قال الحافظ في اللسان:"لا استبعد أن يكون هو عبد الله بن مسلم بن رشيد وقد ذكره ابن حبان من المتهمين بوضع الحديث، لا يحل كتب حديثه، وهو شيخ لا يعرفه أصحابنا وإنما ذكرته لئلا يحتج به أحد من أصحاب الرأي لأنهم كتبوا عنه فيتوهم من لم يتبحر في العلم أنه ثقة وهو الذي روى عن أبي هدبة نسخة كأنها معمولة، ضبط الخطيب أباه بالتشديد وجده بالتصغير ". قلت: وإسماعيل بن مسلمة هذا صدوق يخطئ، وفيه أيضاً مجاهيل كما قال الهيثمى في المجمع رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه من لم أعرفهم [4] .
وقال الطبراني:"لا يروى عن عمر إلا بهذا الإسناد، تفرد به أحمد بن صعيد المدني الفهري عن عبد الله به إسماعيل المدني عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده [5] . عبد الرحمن بن زيد، قال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: سأل رجل عبد الرحمن بن زيد بن أسلم حدثك أبوك عن أبيه أن سفينة نوح طافت بالبيت وصلت خلف المقام ركعتين؟ قال: نعم. قال محمد بن عبد الله: سمعت الشافعي يقول: ذكر لمالك حديث فقال: من حدثك به؟ فذكر به إسناداً منقطعاً فقال: اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يحدثك عن أبيه عن نوح عليه السلام- "انتهى.
وقال في الصارم قال الحاكم أبو عبد الله:"روى عبد الرحمن عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه ".
وأما عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فضعيف غير محتج به عند أهل الحديث. قال الفلاس:"لم أسمع عبد الرحمن بن مهدي يحدث عنه ". وقال أبو طالب عن أحمد بن حنبل:"ضعيف ".(16/208)
وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين:"ليس حديثه بشيء ". وقال البخاري وأبو حاتم الرازي:"ضعفه علي بن المديني جداً ". وقال أبو داود وأبو زرعة والنسائي والدارقطني:"ضعيف ". وقال ابن حبان:" كان يقلب الأخبار وهو لا يعلم حتى كثر ذلك في روايته من رفع المراسيل وإسناد الموقوفات فاستحق الترك ". وقال الحاكم أبو عبد الله:"روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه ". وقال ابن خزيمة:"عبد الرحمن بن زيد ليس ممن يحتج أهل الحديث بحديثه ". وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني:"حدث عن أبيه، لا شيء ".
وما ذكرناه في هذا المكان من كلام أئمة هذا الشأن في بيان حال عبد الرحمن وحال الفهري فيه كفاية لمن له أدنى معرفة بهذا الشأن فكيف يسوغ لأحد الإحتجاج بحديث في إسناده مثل هذين الضعيفين المشهورين بالضعف ومخالفة الثقات اللذين لو كان أحدهما وحده في طريق الحديث لكان محكوماً عليه بالضعف وعدم الصحة فكيف إذا كانا مجتمعين في الإسناد.(16/209)
وقال ابن عبد الهادي:"وإني لأتعجب من السبكي كيف قلد الحاكم فيما صححه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم الذي رواه في التوسل وفيه قول الله لآدم: (ولولا محمد ما خلقتك) ، مع أنه حديث غير صحيح ولا ثابت بل هو حديث ضعيف في الإسناد جداً، وقد حكم عليه بعض الأئمة بالوضع وليس إسناده من الحاكم إلى عبد الرحمن بن زيد بصحيح بل هو مفتعل على عبد الرحمن ولو كان صحيحاً إلى عبد الرحمن لكان ضعيفاً غير محتج به لأن عبد الرحمن في طريقه. وقد أخطأ الحاكم وتناقض تناقضاً فاحشاً كما عرف له ذلك في مواضع، فإنه قال في كتاب الضعفاء بعد أن ذكر عبد الرحمن منهم وقال: ما حكيت عنه فيما تقدم أنه روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه. ثم قال في آخر هذا الكتاب: فهؤلاء الذين قدمت ذكرهم قد ظهر عندي جرحهم لأن الجرح لا يثبت إلا ببينة، فهم الذين أبين جرحهم لمن طالبني به فإن الجرح لا أستحله تقليداً والذي أختار لطالب هذا الشأن أن لا يكتب حديث واحد من هؤلاء الذين سميتهم فالراوي لحديثهم داخل في قوله صلى الله عليه وسلم: "من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين "هذا كله كلام الحاكم أبي عبد الله صاحب المستدرك، وهو متضمن أن عبد الرحمن بن زيد قد ظهر جرحه بالدليل وأن الراوي لحديثه داخل في قوله صلى الله عليه وسلم:"من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين " ثم إنه رحمه الله لما جمع المستدرك على الشيخين ذكر فيه من الأحاديث الضعيفة والمنكرة بل والموضوعة جملة كثيرة وروى فيه لجماعة من المجروحين الذين ذكرهم في كتابه في الضعفاء وذكر أنه تبين له جرحهم، وقد أنكر عليه غير واحد من الأئمة هذا الفعل وذكر بعضهم أنه حصل له تغير وغفلة في آخر عمره فلذلك وقع منه ما وقع وليس ذلك ببعيد ".(16/210)
ومن جملة ما خرجه في المستدرك حديث لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في التوسل قال بعد روايته هذا حديث صحيح الإسناد، وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب، فانظر إلى ما وقع للحاكم في هذا الموضوع من الخطأ العظيم والتناقض الفاحش.
ثم إن السبكي عمد إلى هذا الذي أخطأ فيه الحاكم وتناقض فيه فقلده فيه واعتمد عليه وأخذ في التشنيع على من خالفه فقال:"والحديث المذكور لم يقف ابن تيمية عليه بهذا الإسناد ولا بلغه أن الحاكم صححه، ولو بلغه أن الحاكم صححه لما قال ذلك يعنى أنه كذب". ولنعرض للجواب عنه قال: وكأني به إن بلغه بعد ذلك يطعن في عبد الرحمن بن زيد بن أسلم راوي الحديث ونحن قد اعتمدنا في تصحيحه على الحاكم وذكر قبل ذلك بقليل أنه مما تبين له صحته.
قال في الصارم فانظر إلى هذا الخذلان البين والخطأ الفاحش كيف جاء هذا المعترض إلى حديث غير صحيح ولا ثابت بل هو حديث موضوع فصححه واعتمد عليه وقلد في ذلك الحاكم مع ظهور خطئه وتناقضه ومع معرفة هذا المعترض بضعف رواية وجرحه واطلاعه على الكلام المشهور فيه وأخذ يشنع على من رد هذا الحديث المنكر ولم يقبله ويبالغ في تخطئته وتضليله [6] .
ويقول الغمارى عن هذا الحديث الموضوع لا من أجل عبد الرحمن بن زيد وحده قال:"وفي علمي أن الذهبي تعقبه فحكم بوضع الحديث وأعله بعبد الرحمن المذكور ".(16/211)
وهذا منه غلو ومحازفة فإن عبد الرحمن من رجال الترمذي وابن ماجه وقد أخذ عنه الثقات الإثبات مثل مالك بن مغول ويونس بن عبيد وسفيان بن عيينة ووكيع وغيرهم، وهو وإن كان ضعيفاً لم يبلغ به الضعف إلى حد أن يحكم على حديثه بالوضع إذ لم يتهم بكذب له هو في نفسه صالحاً وفي الحديث واهياً، وقال في محل آخر:"هو أحب إلي من ابن أبي الرجال ". وقال ابن عدي:"له أحاديث حسان وهو ممن احتمله الناس وصدقه بعضهم وهو ممن يكتب حديثه ". وقال ابن خزيمة:"ليس هو ممن يحتج أهل العلم بحديثه لسوء حفظه هو رجل صناعته العبادة والتقشف ليس من أحلاس الحديث "، ثم قال (قلت) وكذا جميع من ضعفه مثل أحمد والنسائي وابن سعد وابن حبان، إنما ضعفوه لسوء حفظه ولغفلته مع وصف بعضهم له بالصلاح والعبادة.
فملخص ما يقال في حديثه هذا أنه ضعيف فقط ليس بصحيح كما قال الحاكم ولا بموضوع كما قال الذهبي وكيف يكون موضوعاً وقد أخرجه البيهقي في دلائل النبوة وهو ملتزم أن لا يخرج في كتبه حديثاً موضوعاً كما ذكره الحافظ السيوطي في اللآلي راداً به على ابن الجوزي إذ أورد في الموضوعات من طريق ابن شاهين حديثاً هو عند البيهقي في الأسماء والصفات وبهذا امتازت كتب البيهقي على سائر من يلتزم أصحابها الصحة، وقد طعن في الحديث ابن تيمية أيضاً كما نقله عنه التقى السبكي في شفاء السقام ولم نشتغل برد كلامه لكونه في معنى كلام الذهبي. انتهى كلام الغمارى الذي إن دل على شيء فإنما يدل على المغالطة إذ تقدم أن عبد الرحمن بن زيد يروي عن أبيه أحاديث موضوعة وهذا الحديث من جملتها.
هذه أدلته المرفوعة على جواز التوسل بذوات الصالحين مع بيان عدم صلاحيتها للاستدلال بها على ما يريد.
الآثار التي دلس بها الغماري على مطلوبه:(16/212)
1 - منها ما رواه الحاكم في المستدرك والبيهقي في الدلائل من طريق عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن جده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:"كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فلما التقوا هزمت يهود خيبر فعاذت اليهود بهذا الدعاء اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمن إلا نصرتنا عليهم، فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به فانزل الله {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني وقد كانوا يستفتحون بك يا محمد، إلى قوله {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} ثم قال الغماري تلبيساً كعادته:" هذا إسناد ضعيف لضعف عبد الملك بن هارون ".
قلت: قال الحاكم في المستدرك:"أدت الضرورة على إخراجه في التفسير وهو غريب من حديثه ". وقال الذهبي في التلخيص:"قلت لا ضرورة في ذلك فعبد الملك متروك هالك لكن للأثر طرق، فأخرج أبو نعيم في الدلائل من طريقي عطاء والضحاك عن ابن عباس قال:"كانت يهود بني قريظة والنضير من قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يستفتحون لله، يدعون على الذين كفروا، يقولون: اللهم إنا نستنصرك بحق النبي الأمي إلى نصرتنا عليهم، فينصرون، فلما جاءهم ما عرفوا - يريد محمداً صلى الله عليه وسلم- ولم يشكوا فيه كفروا به ".
وأخرج أيضاً من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال:"كان يهود المدينة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إذا قاتلوا من يليهم من مشركي العرب من أسد وغطفان وجهينة وعذرة يستفتحون عليهم ويستنصرون، يدعون عليهم باسم نبي الله فيقولون: ربنا انصرنا عليهم باسم نبيك وبكتابك الذي تنزل عليه الذي وعدتنا أنك باعثه في آخر الزمان ".(16/213)
قلت: هذا الأثر فيه الكذاب عبد الملك بن هارون بن عنترة وقد تقدم الكلام عليه في الأخبار المرفوعة. قال أبو نعيم في الدلائل: حدثنا حبيب بن الحسن حدثنا محمد بن يحيى المروزي قال حدثنا أحمد بن أيوب قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق أنه قال بلغني عن عكرمة مولى ابن عباس وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس:"أن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله عز وجل من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبسر بن البراء بن معرور أخو بني سلمة: يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا وقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد وإنا أهل الشرك وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه لنا بصفته، فقال سلام بن مشكم: ما هو بالذي كنا نذكر لكم، ما جاءنا بشيء نعرفه، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} " [7] .
قال ابن جرير: ثنا أبو كريب قال حدثنا يونس بن بكير قال حدثنا ابن إسحاق قال حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت قال حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس "أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه "، الحديث.
قال حديث عن المنجاب قال حدثنا بشر عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} قال:"كانوا يستظهرون يقولون نحن نعين محمداً عليهم وليس كذلك يكذبون ".(16/214)
قال العلائي في المراسيل:"الضحاك بن مزاحم صاحب التفسير كان شعبة ينكر أن يكون لقي ابن عباس وروى عن يونس بن عبيد أنه قال: ما رأى ابن عباس قط وعن عبد الملك بن ميسرة أنه لم يلقه، إنما لقي سعيد ابن جبير بالري فأخذ عنه التفسير، وروى شعبة عن مشاش أنه قال:"سألت الضحاك لقيت ابن عباس؟ قال: لا "، وقال الأثرم:" سمعت أحمد بن حنبل يسأل الضحاك لقي بن عباس قال: ما علمت، وقيل له فممن التفسير؟ قال: يقولون سمعه من سعيد بن جبير ".(16/215)
وأما كون اليهود كانوا ينتصرون على العرب فهذا لا يعرف بل المعروف خلافه، والله تعالى قد أخبرنا بما يدل على ذلك فقال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [8] . لم يكونوا بمجردهم ينتصرون على العرب ولا على غيرهم. وإنما كانوا يقاتلون مع حلفائهم قبل الإسلام، والذلة ضربت عليهم من حين بعث المسيح عليه السلام فكذبوه قال تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} الآية. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ} إلى آخر السورة.. وكانوا قد قتلوا يحيى بن زكريا وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. قال تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} فأنزل الله تعالى هذه الآيات {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} الآية. وروى محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري عن رجال من قومه قالوا:"مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله وهداه ما كنا نسمع من رجال يهود وكنا أهل شرك وأصحاب أوثان وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس عندنا وكان لا تزال بيننا وبينهم شرور فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: قد تقارب زمان نبي يبعث الآن فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، كثيراً ما كنا نسمع ذلك منهم، فلما بعث الله محمداً رسولاً من عند الله أجبناه حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه فآمنا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزلت هؤلاء الآيات التي في البقرة {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} الآيات ". ولم يذكر ابن أبي حاتم(16/216)
وغيره ممن جمع كلام مفسري السلف إلا هذا، وهذا لم يذكر فيه السؤال به أحد من السلف بل ذكروا الأخبار به أو سؤال الله أن يبعثه فقد روى ابن أبي حاتم عن أبي رزين عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} قال:" يستظهرون يقولون نحن نعين محمداً عليهم وليسوا كذلك يكذبون ".
وروى معمر عن قتادة في قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} قال:"كانوا يقولون إنه سيأتي نبي {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} ".
وروى بإسناده عن ابن إسحاق ثنا محمد بن أبي محمد قال أخبرني عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود ابن سلمة:"يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته، فقال سلام ابن مشكم أخو بنى النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله تعالى من قولهم {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} الآيات ".
وروى بإسناده عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال:"كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب يقولون: اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا حتى نعذب المشركين ونقتلهم، فلما بعث الله محمداً ورأوا أنه من غيرهم كفروا به، حسداً للعرب وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} ".(16/217)
وأما الحديث الذي يروى عن عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:" كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فلما التقوا هزمت اليهود فعاذت بهذا الدعاء " اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي صلى الله عليه وسلم الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، فكانوا إذا دعوا بهذا الدعاء هزموا غطفان فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كفروا به، فأنزل الله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية "وهذا الحديث رواه الحاكم في مستدركه وقال:"أدت الضرورة إلى إخراجه "، وهذا مما أنكره عليه العلماء فإن عبد الملك بن هارون من أضعف الناس وهو عند أهل العلم بالرجال متروك بل كذاب. وقد تقدم ما ذكره يحيى بن معين وغيره من الأئمة في حقه. قلت: وهذا الحديث من جملتها، وكذلك الحديث الآخر الذي يرويه عن أبي بكر كما تقدم في الأحاديث المرفوعة.
ومما يبين ذلك أن قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية إنما نزلت باتفاق أهل التفسير والسير في اليهود المجاورين للمدينة أولاً كبني فينقاع وبني قريظة والنضير، وهم الذين كانوا يحالفون الأوس والخزرج وهم الذين عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ثم لما نقضوا العهد حاربهم فحارب أولاً بني قينقاع ثم النضير وفيهم نزلت سورة الحشر. ثم بني قريظة عام الخندق فكيف يقال نزلت في يهود خيبر وغطفان فإن هذا من كذب جاهل لم يحسن كيف يكذب ومما يبين ذلك أيضاً أنه ذكر فيه انتصار اليهود على غطفان لما دعوا بهذا الدعاء، وهذا مما لم ينقله أحد غير هذا الكذاب، ولو كان هذا مما وقع لكان مما تتوفر دواعي الصادقين على نقله،.. انتهى (21 ص 86) ..(16/218)
وأما قوله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية، فكانت اليهود تقول للمشركين:"سوف يبعث هذا النبي ونقاتلكم معه فنقتلكم لم يكونوا يقسمون على الله بذاته ولا يسألون به بل يقولون اللهم ابعث هذا النبي الأمي لنتبعه ونقتل هؤلاء معه ". هذا هو النقل الثابت عند أهل التفسير وعليه يدل القرآن الكريم فإنه تعالى قال: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ} والاستفتاح الاستنصار وهو طلب الفتح والنصر، فطلب الفتح والنصر به هو أن يبعث فيقاتلون معه بهذا ينصرون، ليس هو بأقسامهم به وسؤالهم به إذ لو كان كذلك لكانوا كلما سألوا أو أقسموا به نصروا، ولم يمكن الأمر كذلك بل لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم نصر الله من آمن به وجاهد معه على من خالفه. وما ذكره بعض المفسرين من أنهم كانوا يقسمون به أو يسألون به فهو نقل مخالف للنقول الكثيرة المستفيضة المخالفة لهذا النقل وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في دلائل النبوة. وفي كتاب الاستغاثة الكبير، وكتب السيرة ودلائل النبوة والتفسير مشحونة. بمثل هذا النقول الكاذبة قال أبو العالية وغيره:"كان اليهود إذا استنصروا بمحمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب يقولون: اللهم ابعث هذا النبي صلى الله عليه وسلم الذي نجده مكتوباً عندنا حتى نغلب المشركين ونقتلهم فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، ولفظ الآية إنما فيه {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} وهذا كقوله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} والاستفتاح طلب الفتح وهو النصر، ومنه الحديث المأثور أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح بصعاليك المهاجرين أي يستنصر بهم أي بدعائهم كما قال "وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم بصلاتهم ودعائهم وإخلاصهم "، وهذا قد يكون بأن يطلبوا من الله تعالى أن ينصرهم(16/219)
بالنبي المبعوث في آخر الزمان بأن يعجل بعث ذلك النبي إليهم لينصروا به عليهم لا لأنهم أقسموا على الله وسألوه به، ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} .
فلو لم ترد الآثار التي تدل على أن هذا معنى الآية لم يجز لأحد أن يحمل الآية على ذلك المتنازع فيه بلا دليل لأنه لا دلالة فيها عليه فكيف وقد جاءت الآثار بذلك.
وأما ما ذكر عن اليهود من أنهم كانوا ينصرون لقد بينا أنه شاذ وليس هو من الآثار المعروفة في هذا الباب فإن اليهود لم يعرف أنها غلبت العرب بل كانوا مغلوبين معهم، وكانوا يحالفون العرب فيحالف كل فريق فريقاً كما كانت قريظة حلفاء الأوس وكانت بنو النضير حلفاء الخزرج. ومما ينبغي أن يعلم أن مثل هذا اللفظ لو كان مما يقتضي السؤال به والأقسام به على الله تعالى لم يكن مثل هذا مما يجوز أن يعتمد عليه في الأحكام لأنه أولاً لم يثبت وليس في الآية ما يدل عليه، ولو ثبت لم يلزم أن يكون هذا شرعاً لنا فإن الله تعالى قد أخبر عن سجود إخوة يوسف وأبويه له وأخبر عن الذين غلبوا على أهل الكهف أنهم قالوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} ونحن قد نهينا عن بناء المساجد على القبور"انتهى.(16/220)
2 - وأخرج الدارمي في مسنده في باب ما أكرم الله تعالى به نبيه بعد موته قال حدثنا أبو النعمان حدثنا سعيد بن زيد حدثنا عمرو بن مالك النكري حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبد الله قال:"قحط أهل المدينة قحطاً شديداً فشكوا إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقالت: انظروا قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف قال: ففعلوا فمطرنا مطراً حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمي عام الفتق "، وقال على بن محمد القاري في شرح المشكاة:"قيل في سبب كشف قبره أنه صلى الله عليه وسلم كان يستشفع به عند الجدب فتمطر السماء فأمرت عائشة رضي الله عنها بكشف قبره مبالغة في الاستشفاع به، فلا يبقى منه بينه وبين السماء حجاب، قال الغماري:"وإسناده لا بأس به، أبو النعمان هو محمد بن الفضل السدوسي البصري الملقب بعارم ثقة من رجال الصحيحين، وسعيد بن زيد هو أخو حماد بن زيد، قال ابن معين: ثقة. وعمرو بن مالك النكري ثقة من رجال الأربعة.
وأبو الجوزاء ثقة من رجال السنة "، انتهى كلامه.
قلت: فيه أربع آفات:
(ألف) أبو النعمان عارم قد اختلط في آخر عمره.
(ب) أبو الجوزاء أوس بن عبد الله، قال البخاري: في إسناده نظر ويختلفون فيه، قال الحافظ في التهذيب: إنما قاله عقب حديث رواه له في التاريخ من رواية عمر بن مالك النكري، والنكري ضعيف عنده. وقال الحافظ في التهذيب أيضاً: وقول البخاري في إسناده نظر، يريد أن أبا الجوزاء لم يسمع من عائشة وابن مسعود وغيرهما، لا أنه ضعيف عنده. وأحاديثه مستقيمة، وحديثه عند مسلم عن عائشة في الافتتاح بالتكبير. وذكر ابن عبد البر في التمهيد أيضاً أنه لم يسمع من عائشة، قال الحافظ في التقريب: ثقة يرسل كثيراً.
(ج) وعمرو بن مالك النكري صدوق له أوهام قاله في التقريب، قال ابن حبان:"يعتبر حديثه من غير رواية ابنه يخطئ ويغرب ".(16/221)
(د) سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد صدوق له أوهام، وقال ابن حبان:"كان صدوقاً حافظاً ممن كان يخطئ في الأخبار ويهم حتى لا يحتج به إذا انفرد "، انتهى من التقريب وأصله.
3 - ذكر الغماري الحكاية التي ذكرها القاضي عياض في الشفاء فيما جرى بين مالك وأبي جعفر المنصور، وقال بعد ذكرها بسندها ما نصه:"وقد زعم ابن تيمية على عادته في التسرع إلى الإطلاقات الكاذبة أن هذا الأثر مكذوب على الإمام مالك، ورد عليه جماعة من العلماء مبينين خطأه وجهله، منهم عصريه السبكي في شفاء السقام وكذا محمد بن عبد الباقي الزرقاني قال في شرح المواهب عقب نقل صاحبها عنه ما نقلناه ما لفظه: هذا تهور عجيب فإن الحكاية رواها أبو الحسن علي بن فهر في كتابه فضائل مالك بإسناد لا بأس به، وأخرجه القاضي عياض في الشفاء من طريقه عن شيوخ عدة من ثقات مشايخه فمن أين أنها كذب، وليس في إسنادها وضاع ولا كذاب.
وقال الخفاجي في نسم الرياض بعد تخريج عياض للأثر المذكور:"وفي هذا رد على ما قاله ابن تيمية من أن استقبال القبر الشريف في الدعاء عند الزيارة أمر منكر لم يقل به أحد ولم يرو إلا في حكاية مفتراة على مالك، يعنى هذا القصة التي أوردها المصنف، ولله دره حيث أوردها بسند صحيح وذكر أنه تلقاها عن عدة من ثقات مشايخه، فقوله أنها كذب محض مجازفة من ترهاته".(16/222)
هذا كله كلام الغماري، وهو كلام رجل إمعة كل من يمشي يمشي معه وإلا فهذه الحكاية من نظر في سندها جزم بأنها مفتراة وكذب وهي كما يلي، رواها القاضي عياض في الشفاء عن غير واحد بإسناد غريب منقطع مظلم فإليك سندها، قال القاضي عياض في الشفاء: حدثنا القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن الأشعري وأبو القاسم أحمد بن بقى الحاكم وغير واحد فيما أجازونيه قالوا ثنا أبو العباس أحمد بن عمرو بن دلهاث ثنا أبو الحسن علي بن فهر ثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن الفرج ثنا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب ثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل ثنا ابن حميد قال:"ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإن الله تعالى أدب قوماً فقال: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية، ومدح قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} الآية، وذم قوماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} الآية.
وإن حرمته ميتاً كحرمته حياً فاستكان لها أبو جعفر، وقال: يا أبا عبد الله أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام، بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله فيك "، هذه هي الحكاية المكذوبة مع سندها المظلم.(16/223)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"وهذه الحكاية منقطعة فإن محمد بن حميد الرازي لم يدرك مالكاً ولا سيما في زمن أبي جعفر المنصور فإن أبا جعفر توفي سنة 158هـ وتوفي مالك سنة 179 هـ وتوفي ابن حميد سنة 248هـ ولم يخرج من بلده في طلب العلم إلا وهو كبير مع أبيه، وهو مع هذا ضعيف عند أكثر أهل الحديث، كذبه أبو زرعة وابن وارة وآخر من روى الموطأ عن مالك هو أبو مصعب الزبيري وتوفي سنة 242هـ وآخر من روى عن مالك على الإطلاق هو أبو حذيفة أحمد بن إسماعيل السهمي توفي سنة 259هـ وفي الإسناد المذكور أيضاً من لا تعرف حاله ".
قال ابن عبد الهادي في الصارم المنسكي في الرد على السبكي:"والمعروف عن مالك أنه لا يستقبل القبر عند الدعاء، وهذه الحكاية التي ذكرها القاضي عياض ورواها بإسناده عن مالك بصحيحه عنه وإسنادها مظلم منقطع مشتمل على من يهتم بالكذب وعلى من يجهل حاله، وابن حميد ضعيف كثير المناكير غير محتج بروايته ولم يسمع من مالك شيئاً ولم يلقه، بل روايته عنه منقطعة غير متصلة ".
قال إسحاق بن منصور:"أشهد على محمد بن حميد وعبيد بن إسحاق العطار بين يدي الله أنهما كذابان "، وقال أبو زرعة:"كان يكذب "، وقال ابن حبان:" ينفرد عن الثقات بالأشياء المقلوبة ولا يسما إذا حدث عن شيوخ بلده "، فإذا كانت هذه حال ابن حميد عند أئمة هذا الشأن فكيف يقول السبكي في حكاية روايتها منقطعة إسنادها جيد، مع أن في طريقها إليه من ليس بمعروف وقد قال السبكي بعد أن ذكرها وتكلم على روايتها:"فانظر هذه الحكاية وثقة رواتها وموافقتها لما رواه ابن وهب عن مالك "، هكذا قال السبكي.
والذي حمله هو ومقلدوه على ارتكاب هذا السقطة قلة علمه بهذا الشأن وارتكاب هواه، والذي ينبغي أن يقال: فانظر إلى هذه الحكاية وضعفها وانقطاعها ونكارتها وجهالة بعض رواتها ونسبة بعضهم إلى الكذب ومخالفتها لما ثبت عن مالك وغيره من العلماء.(16/224)
هذا كلام الحافظين الناقدين في هذه الحكاية المفتراة التي تدور بين متهم بالكذب وبين مجاهيل لا يمكن للغماري وغيره أن يعرفهم.
وأذكر هنا كلام الحفاظ الآخرين الذي يؤيد كلام الحافظين شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن عبد الهادي حول ابن حميد الرازي فأقول: إن ابن حميد الرازي ذكره برهان الدين الحلبي في الكشف عمن رمي بوضع الحديث وقال: قال صالح جزرة:"كنا نتهم ابن حميد في كل شيء يحدثنا به، ما رأيت أجرأ على الله منه، كان يأخذ أحاديث الناس فيقلب بعضه على بعض ". وقال أبو أحمد العسال:"سمعت فضلك الرازي يقول: دخلت على محمد بن حميد وهو يركب الأسانيد على المتون ". وقال الذهبي في الميزان:"قال أبو على النيسابوري قلت لابن خزيمة: لو أخذت الإسناد عن ابن حميد فإن أحمد بن حنبل أحسن الثناء عليه، فقال: إنه لم يعرفه ولو عرفه كما عرفناه لما أثنى عليه أصلا ". وقال صالح جزرة:"ما رأيت أحذق بالكذب من ابن حميد ومن ابن الشاذكوني ". وقد حدث عنه أحمد بن حنبل وابن معين وآخر أصحابه البغوي وابن جرير، مات سنة 248هـ.
وذكره ابن عراق أيضاً في الكذابين وقال فيه كما قال البرهان وغيره. وقال البخاري في الجزء الأول من تاريخه الكبير:"محمد بن حميد أبو عبد الله الرازي سمع يعقوب القمي وجريراً، فيه نظر، مات سنة 248هـ "، وسئل أبو عبد الله عن محمد بن حميد الرازي لماذا تكلم فيه فقال:"لأنه أكثر على نفسه ".(16/225)
وقال أبو حاتم الرازي في الجرح: قال ابن معين:"ابن حميد ثقة ليس به بأس رازي كيس، وهذا الأحاديث التي يحدث بها ليست هي من قبله، إنما هي من قبل الشيوخ الذين يحدث بها عنهم ". وقال أبو حاتم:"سألني ابن معين عن ابن حميد من قبل أن يظهر منه ما ظهر قال: أي شيء تنقمون عليه؟ فقلت: يكون في كتابه الشيء فنقول ليس هذا هكذا إنما هو كذا وكذا فيأخذ القلم فيغيره على ما نقول. قال ابن معين: لبئس هذه الخصلة، قدم علينا بغداد فأخذنا منه كتاب يعقوب القمي ففرقنا الأوراق بيننا ومعنا أحمد بن حنبل فسمعناه ولم نر إلا خيراً ". هذا قبل أن يعرفه أحمد وابن معين كما يدل عليه كلام ابن خزيمة الذي تقدم آنفاً.
4 - قال ابن ماجه: حدثنا محمد بن سعيد بن يزيد بن إبراهيم التستري حدثنا المفضل بن الموفق أبو الجهم حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خرج من بيته إلى الصلاة فقال اللهم إني أسألك حق السائلين عليك " الحديث.
ثم قال الغماري ورواه أحمد عن يزيد بن هارون والطبراني في الدعاء عن بشر ابن موسى عن عبد الله بن صالح العجلي وابن خزيمة في كتاب التوحيد عن طريق محمد بن فضيل بن غزوان. ومن طريق أبي خالد الأحمر وأبو نعيم الأصبهاني من رواية أبي نعيم الكوفي خصتهم عن فضيل بن مرزوق به، فزال ما يحشى من ضعف الفضيل بن الموفق بمتابعة هؤلاء له، ولم يبق إلا النظر في حل فضيل وشيخه، فأما فضيل فثقة كما قال ابن عيينة وابن معين وغيرهما، وروى له مسلم والأربعة، وأكبر ما عيب به تشيعه، وليس ذلك بعائبه على ما تقرر في هذا الشأن.
وأما عطية فقال ابن سعد:"كان ثقة إن شاء الله "، وقال الحافظ السيد محمد مرتضى الحسيني:"هو صدوق في نفسه "، حسن له الترمذي عدة أحاديث انفرد بها.(16/226)
وقال الغماري:" فهذا الحديث حسن كما قال الحافظ العراقي في المغني ". هذا، وللحديث طريق آخر عن بلال رضي الله عنه قال ابن السنى في عمل اليوم والليلة: حدثنا ابن منيع حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا علي بن ثابت الجزري عن الوزاع بن نافع عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله عن بلال مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى الصلاة قاله: "بسم الله آمنت بالله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك" الحديث.
ثم قال الغماري:" ولم أجد في التوسل بهم يعني الصالحين، حدثنا أصرح من هذا الحديث. وغيره من الأحاديث ليس صريحاً مثله ثم ذكر حديث الإبدال "، انتهى كلام الغماري.
قلت: هذا كله كلام الغماري حول هذا الخبر الذي حاول أن يلبس به على العامة موهماً أنه وجد ضالته وإلا ففي هذا الخبر أمران لم يتناولهما الغماري لأن تناوله لهما ينقض عليه ما يريد من التلبيس:
(1) في سنده ضعيف وهو فضيل بن مرزوق، قال الحافظ:"صدوق بهم ورمي بالتشيع ". وقال ابن حبان:"منكر الحديث جداً، كان ممن يخطيء على الثقات ويروى عن عطية الموضوعات. وقال الذهبي في الميزان:"عطية أضعف من فضيل بن مرزوق ". وقال أبو عبد الله الحاكم:"فضيل بن مرزوق ليس من شرط الصحيح، عيب على مسلم إخراجه في الصحيح ". وروى أحمد بن أبي خيثمة عن ابن معين:" ضعيف "، اختلف فيه قول ابن معين كما قال ابن شاهين في ثقاته. وقال أبو حاتم:"صالح الحديث صدوق بهم كثيراً يكتب حديثه ولا يحتج به "، كذا في التهذيب، وقال ابن عدي:"إذا وافقه الثقات يحتج به ". وفي روايته هذا الحديث لا يعلم أحد تابعه إلا من لا يعتد بمتابعته.(16/227)
(ب) الفضل بن الموفق بن أبي المتئد الكوفي فيه ضعف. قاله في التقريب وقال الذهبي في الميزان:"ضعفه أبو حاتم وكذا في الترغيب والترهيب للمنذري والكاشف للذهبي والتلخيص للحافظ ". فإن قلت قد وثقه ابن حبان كما ذكره المنذري في الترغيب والترهيب، قلت: لا اعتداد بتوثيق ابن حبان إذا تفرد به، قال الذهبي في الميزان في ترجمة عمارة بن حديد:"ولا تفرح بذكر ابن حبان له في الثفات فإن قاعدته معروفة من الإحتجاج بمن لا يعرفه "، ونص الحافظ في التهذيب، قال أبو حاتم:"كان شيخنا صالحاً ضعيف الحديث وكان قرابة لابن عيينة له عند ابن ماجة حديث أبي سعيد في القول: إذا خرج إلى الصلاة ".
(ج) عطية بن سعد العوفي صدوق يخطيء كثيراً كان شيعياً مدلساً قاله في التقريب. وقال الإمام أحمد:"بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير، كان يكنيه بأبي سعيد فيقول قال أبو سعيد: يعنى يوهم أنه الخدري فهذا تدليس أي تدليس ".
قال في توضيح الأفكار فإن: صادف شهرة راو ثقة يمكن أخذ ذلك الراوي عنه فمفسدته أشد كما وقع لعطية العوفي في تكنية محمد بن السائب الكلبي أبا سعيد فكان إذا حدث عنه يقول حدثني أبو سعيد فيوهم أنه أبو سعيد الخدري لأن عطية كان قد لقيه وروى عنه، وهذا أشد ما بلغنا من مفسدة تدليس الشيوخ، وقد اجتمع في عطية من وجوه الضعف ثلاثة: تدليس، وعدم الضبط، وكثرة الخطأ، كما صرح بذلك الحافظان ابن القيم في الهدي والحافظ بن حجر في التقريب وطبقات المدلسين. فعلى كل حال فالذين جرحوا عطية أكثر ممن وثقه، ومن المعلوم أن الجرح المبين مقدم على التعديل، فالذين جرحوه خمسة عشر من النقاد (1) أبو حاتم (2) وسالم المرادي (3) وأحمد (4) وهشيم (5) ويحيى (6) والنسائي (7) والبيهقي (8) والثوري (9) وابن عدي (10) وعبد الحق الأشبيلي (11) والذهبي (12) والمنذري (13) والحافظ ابن القيم (14) والحافظ ابن حجر (15) والدارقطني.(16/228)
وأما الموثقون فمنهم ابن معين على قول والترمذي، فابن معين قال فيه صالح كما في الميزان وهذه اللفظة في المرتبة السادسة من مراتب التوثيق فهي توثيق لين وحكمه أنه يكتب حديثه للإعتبار فهذا التوثيق لا ينافي القول بالضعف وأما الترمذي فلم يصرح بتوثيقه، نعم حسن له غير حديث، وتحسينه لا يدل على أن عطية ممن يحتج بحديثه في كل موضع فإنه ربما يحسن الحديث لمجيئه من طريق أخرى ولاحتمال أن يكون التحسين في موضع قد ثبت عند الترمذي التصريح بالتحديث فيه فإن عطية مدلس كما تقدم، وحديث المدلس إنما يقبل إذا صرح بالتحديث على أن الترمذي متساهل في التصحيح والتحسين، ولذا لم يعتمد العلماء عليه في هذا الباب وردوا على تصحيحه وتحسينه في غير موضع.
فإن قلت: إن الحافظ ابن حجر قال في تخريج الأذكار للنووي وفي كتاب الصلاة لأبي نعيم عن فضيل عن عطية قال: حدثني أبو سعيد فذكره لكن لم يرفعه فقد أمن من ذلك تدليس عطية العوفي.(16/229)
(هنا بقي) فالجواب أنه لا يحصل الأمن من تدليس عطية بهذا فإن عطية تقدم أنه يكنى محمد بن السائب الكلبي أبا سعيد فكان إذا حدث عنه يقول حدثني أبو سعيد فيوهم أنه أبو سعيد الخدري، والأشبه أن هذا الحديث موقوف. قال الذهبي في الميزان في ترجمة عبد الله بن صالح العجلي الكوفي:"وله عن فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا خرج الرجل من بيته قال اللهم بحق السائلين عليك "الحديث، قال: خالفه أبو نعيم ورواه عن فضيل فما رفعه "، قال أبو حاتم:"وقفه أشبه، والموقوف ليس بحجة عند المحققين ". وقد صدر المنذري هذا الحديث في باب الترغيب في المشي إلى المساجد بلفظ (روى) وأهمل الكلام عليه في آخره وهذا عنده دلالة للإسناد الضعيف كما قال في ديباجة الكتاب وصرح النووي في الأذكار بضعفه، فبطل قول الغماري أنه بسند صحيح، وهذا كله مع أن الحديث خارج عن الموضوع لأن الغماري ساقه مستدلاً به على التوسل بالذوات فليس في هذا الحديث توسل بالذوات بل هو توسل بحق تفضل الله به على من سأله ودعاه وحده وهو الإجابة في قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} .
وأما الشاهد الذي فرح به الغماري فهو من رواية الوازع بن نافع العقيلي قال فيه ابن معين:"ليس بثقة "، وقال البخاري:"منكر الحديث "، وقال النسائي:" متروك "، وقال أيضاً:"ليس بثقة "، قاله في الميزان.(16/230)
(5) حدثنا إبراهيم بن علي الباهلي حدثنا يحيى بن يحيى حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح السمان عن مالك قال:"أصاب الناس قحط في زمن عمر بن الخطاب فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق الله لأمتك فإنهم قد هلكوا فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال:"ائت عمر فأقرئه مني السلام وأخبرهم أنهم يسقون وقل له عليك بالكيس الكيس"، فأتى الرجل فأخبر عمر فقال: يا رب ما آلو إلا ما عجزت عنه "، قال الحافظ:" إسناده صحيح، وأخرجه البيهقي في الدلائل بإسناد صحيح ". وقال الحافظ في الفتح:"وقد روى سيف في الفتوح أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث المزني أحد الصحابة "انتهى كلام الغماري.
قلت: في هذا الأثر مالك بن عياض الداري، ذكره البخاري في التاريخ الكبير وسكت عنه (ج 4:ص 304هـ) وكذلك ابن أبي حاتم ذكره في الجرح والتعديل بما نصه:
" مالك بن عياض مولى عمر بن الخطاب روى عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما وروى عنه أبو صالح السمان سمعت أبي يقول ذلك وسكت عنه أيضاً انتهى منه " (ج 4:قسم (1) ص 213) .(16/231)
وكل من سكت عنه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل فهو مجهول، فإنه قال في الجزء الأول من الجرح والتعديل ما نصه:"وقصدنا بحكاياتنا الجرح والتعديل في كتابنا هذا إلى العارفين به العالمين له متأخراً بعد متقدم إلى أن انتهت بنا الحكاية إلى أبي وأبي زرعة رحمهم الله، ولم نحك عن قوم قد تكلموا في ذلك لقلة معرفتهم به ونسبنا كل حكاية إلى حاكيها، والجواب إلى صاحبه ونظرنا في اختلاف أقوال الأئمة في المسئولين عنهم فحذفنا تناقض قول كل واحد منهم وألحقنا بكل مسئول عنه ما لاق به وأشبهه من جوابهم على أنا قد ذكرنا أسامي كثيرة مهملة من الجرح والتعديل كتبناها ليشتمل الكتاب على كل من روى عنه العلم رجاء وجود الجرح والتعديل فيهم فنحن ملحقوها بهم من بعد إن شاء الله تعالى "، انتهى (ج1: ص 38 من الجرح والتعديل) وقد قال الأخ الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة فهذه القصة غير ثابتة وقد أوهم المؤلف صحتها محرفاً لكلام بعض الأئمة مقلداً في ذل بعض ذوي الأهواء قبله وقد وعد بتفصيل ذلك في رسالة أفردها في هذا الموضوع، انتهى من السلسلة (ج 1:ص 47) وفي هذه القصة أيضاً أن سيف بن عمر الضبي الأسدي المعروف هو الذي روى في فتوحه أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث، فعلم بهذا أن الأثر المذكور ليس فيه أن الجائى أحد الصحابة بل الذي روى أن الجائي أحد الصحابة ضعيف غاية الضعف فإن سيفاً صاحب الفتوح الذي روى هذا الكلام الأخير، قال فيه يحيى:"فليس خير منه "وقال أبو داود:"ليس بشيء "وقال أبو حاتم:"متروك "وقال ابن حبان:"أتهم بزندقة "وقال ابن عدى:"عامة حديثه منكر "هكذا في الميزان للذهبي. وقال الحافظ في التقريب:"ضعيف في الحديث عمدة في التاريخ "، أفحش ابن حبان القول فيه، وقال الخزرجي في الخلاصة:"ضعفوه ". وقال البرهان في الكشف الحثيث فيمن رمى بوضع الحديث:"سيف كالواقدي "وقال مكحول البيروتي: سمعت جعفر بن أبان قال: سمعت ابن نمير(16/232)
يقول:"سيف الضبي تميمي كان يقول حدثني رجل من بني تميم، وكان سيف يضع الحديث وقد اتهم بالزندقة ". وقال ابن عراق في الكذابين:"سيف بن عمر متهم بالزندقة ووضع الحديث ". وقال الفتني في قانون الضعفاء:"متروك اتهم بالوضع والزندقة "، فعلى هذا فهذا الأثر كما قال الأخ الألباني غير ثابت لا سيما وهو منام والمنام لا تثبت به الأحكام الشرعية إلاّ إذا كان من نبي.
وأما ما قاله ابن سعد في الطبقات من أن مالك الدار مولى عمر بن الخطاب معروف فهذه الكلمة لا تفيد شيئاً لأنه- أعني ابن سعد- لم يذكر في ترجمته من روى عنه إلا أبا صالح السمان حيث قال في الجزء الخامس ص 12 ما نصه:"مالك الدار مولى عمر بن الخطاب وقد انتموا إلى جبلان من حمير وروى مالك الدار عن أبي بكر الصديق وعمر رحمهما الله، روى عنه أبو صالح السمان وكان معروفاً، فمن المعلوم أن المعروف هو الذي روى عنه اثنان فأكثر، وإلا فهو مجهول العين والحال معاً إذا لم يوثق بحديثه في قسم الضعيف إلا إذا وثقه غير من روى عنه، وكذلك إذا وثقه من روى عنه إذا كان أهلاً لذلك على القول الأصح.(16/233)
6- ومنها ما رواه الطبراني في الكبير قال حدثنا طاهر بن عيسى بن قريش (وفي نسخة قيرس) المصري المقري حدثنا أصبغ بن الفرج حدثنا أبن وهب يعنى عبد الله عن أبي سعيد المكي يعنى شبيب بن سعيد عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الختمى المدني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف:"أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في حاجة له فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي ابن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له عثمان ابن حنيف: ائت الميضاة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك فيقضي حاجتي، وتذكر حاجتك ورح إلى حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال له ثم أتى باب عثمان بن عفان رضي الله عنه فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه معه على الطنفسة فقال: ما حاجتك، فذكر حاجته وقضاها له ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كان الساعة وقال: ما كانت لك من حاجة فاذكرها ثم أن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيراً ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلى حتى كلمته في فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أو تصبر"فقال يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق علي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ائت الميضاة فتوضأ ثم صل ركعتين ثم ادع بهذه الدعوات"، قال ابن حنيف: فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرر قط "، ورواه في المعجم الصغير من هذا الطريق بهذا اللفظ ثم قال: لم يروه عن روح بن القاسم إلا شبيب بن سعيد أبو سعيد المكي، وهو ثقة وهو الذي يروي عنه أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد الأيلي، وقد روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر الخطمي واسمه عمير بن يزيد(16/234)
وهو ثقة تفرد به عثمان بن عمر بن فارس عن شعبة والحديث صحيح.
وأقر على هذا التصحيح الحافظان زكى الدين المنذرى ونور الدين الهيثمى، انتهى كلام الغمارى. قلت: في هذا الحديث آفتان: إحداهما شبيب بن سعيد التميمى الحبطى أبو سعيد البصري، قال الذهبي في الميزان والحافظ في التهذيب:"قال ابن عدي حدث عنه ابن وهب بأحاديث مناكير وقال ولعل شبيباً لما قدم مصر في تجارته كتب عنه ابن وهب من حفظه فغلط ووهم وأرجو أن لا يتعمد الكذب"، وقال ابن المديني:"ثقة وكتابه كتاب صحيح "، وقال الحافظ في التقريب:"شبيب بن سعيد التميمى الحبطى أبو سعيد لا بأس بحديثه من رواية ابنه أحمد عنه، لا من رواية ابن وهب، وفيه أيضاً طاهر بن عيسى بن قريش أو ابن قيرس أستاذ الطبراني مجهول لا يعرف بالعدالة ". قال الشيخ سليمان صاحب كتاب تيسير العزيز الحميد شرح الكتاب التوحيد: قال الذهبي:"طاهر بن عيسى صاحب كتاب تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد: قال الذهبي: بن بكير وأصبغ بن الفرج وعنه الطبراني توفي سنة 292هـ ولم يذكر فيه الذهبي جرحاً ولا تعديلاً، فهو إذا مجهول الحال لا يجوز الاحتجاج بخبره لا سيما فيما يخالف نصوص الكتاب والسنة ". انتهى من التيسير (ص 211-212 منه) .
قال الطبراني:" تفرد به عثمان بن عمر عن شعبة وهذا من الطبراني إخبار منه بمبلغ علمه ولم تبلغه رواية روح بن عبادة عن شعبة، وذلك إسناد صحيح يبين أن عثمان لم ينفرد به وطريق ابن وهب هذه نؤيد ما ذكره ابن عدي فإنه لم يحرر لفظ الرواية كما حررها ابن شبيب بل ذكر فيها أن الأعمى دعى بمثل ما ذكره عثمان بن حنيف في هذا الأثر، وليس كذلك بل في حديث الأعمى أنه قال: اللهم فشفعه في وشفعني فيه أو قال في نفسي.. وهذه لم يذكرها ابن وهب في روايته هذه فيشبه أنه أن يكون حدث ابن وهب به من نفسه كما قال ابن عدي فلم يتقن الرواية ".(16/235)
قال ابن أبي خيثمة وأبو جعفر الذي حدث عنه حماد بن سلمة في حديث الأعمى اسمه عمير بن يزيد، وهو أبو جعفر الذي يروي عنه شعبة ثم ذكر الحديث من طريق عثمان بن عمر عن شعبة، وهذه الطريق فيها "فشفعني في نفسي "مثل طريق روح بن القاسم وفيها زيادة أخرى وهي قوله "وإن كانت لك حاجة فافعل مثل ذلك " أو قال:"فعل مثل ذلك "وهذه قد يقال إنها توافق قول عثمان بن حنيف لكن شعبة وروح بن القاسم أحفظ من حماد بن سلمة، واختلاف الألفاظ يدل على أن مثل هذه الرواية قد تكون بالمعنى وقوله:"وإن كانت حاجته فعل مثل ذلك "قد يكون مدرجاً من كلام عثمان لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لم يقل "وإن كانت لك حاجة فعلت مثل ذلك "، بل قال:"وإن كانت حاجة فعل مثل ذلك "وبالجملة فهذه الزيادة لو كانت ثابتة لم تكن فيها حجة وإنما غايتها أن يكون عثمان بن حنيف ظن أن الدعاء يدعى ببعضه دون بعض فإنه لم يأمره بادعاء المشروع بل ببعضه وظن أن هذا مشروع بعد موته صلى الله عليه وسلم على فرض صحة هذا الأثر. ولفظ الحديث المعروف يناقض ذلك فإن في الحديث أن الأعمى سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له وأنه علم الأعمى أن يدعو وأمره في الدعاء أن يقول "اللهم فشفعه في "وإنما يدعى بهذا الدعاء إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم داعياً شافعاً له بخلاف من لم يكن كذلك فهذا يناسب شفاعته ودعاءه للناس في محياه في الدنيا ويوم القيامة إذا شفع لهم وفيه أيضاً أنه قال "وشفعني فيه "وليس المراد أن يشفع للنبي صلى الله عليه وسلم في حاجة للنبي صلى الله عليه وسلم وإن كنا مأمورين بالصلاة والسلام عليه وأمرنا أن نسأل الله له الوسيلة فسؤال الأمة له الوسيلة هو دعاء له صلى الله عليه وسلم وهو معنى الشفاعة ولهذا كان الجزاء من جنس العمل فمن صلى عليه صلى الله عليه كذلك الأعمى سال منه الشفاعة فأمره أن يدعو الله بقبول هذه الشفاعة، وهو كالشفاعة في الشفاعة فلهذا قال: "اللهم(16/236)
فشفعه في وشفعني فيه"وذلك أن قبول دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا من كرامة الرسول صلى الله عليه وسلم على ربه ولهذا عد هذا من آياته ودلائل نبوته فهو كشفاعته يوم القيامة في الخلق ولهذا أمر الأعمى أن يقول:"فشفعه في وشفعني فيه "بخلاف قوله " وشفعني في نفسي "فإن هذا اللفظ لم يروه أحد إلا من طريق غريب.
وأما قوله "وشفعني فيه"فإنه رواه عن شعبة رجلان جليلان عثمان بن عمرو وروح بن عبادة وشعبة أجل من روى حديث الأعمى. ومن طريق عثمان بن عمرو عن شعبة رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة ورواه الإمام أحمد في المسند عن روح بن عبادة عن شعبة فكان هؤلاء أحفظ للفظ الحديث مع أن قوله "وشفعني فيه"إن كان محفوظاً مثل ما ذكرنا وهو أنه طلب أن يكون شفيعاً لنفسه مع دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ولو لم يدع له النبي صلى الله عليه وسلم كان سائلاً مجرداً كسائر السائلين، ولا يسمى مثل هذا شفاعة وإنما تكون الشفاعة إذا كان هناك اثنان يطلبان أمراً فيكون أحدهما شفيعاً للأخر بخلاف الطالب والواحد الذي لم يشفع غيره، فهذه الزيادة فيها عدة علل.
أولاً: انفراد راويها بها عمن أبر وأحفظ منه.(16/237)
ثانياً: إعراض أهل السنن عنها، وثالثاً اضطراب لفظها، ورابعاً أن راويها عرف له عن روح أحاديث منكرة، ومثل هذا يقتضي حصول الريب والشك في كونها ثابتة، فلا حجة فيها إذ الاعتبار بما رواه الصحابي لا بما فهمه إذا كان اللفظ الذي رواه لا يدل على ما فهمه بل على خلافه. ومن المعلوم أن الواحد بعد موته صلى الله عليه وسلم إذا قال:"اللهم شفعه في وشفعني فيه "مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع له كان هذا كلاماً باطلاً مع أن عثمان بن حنيف لم يأمر صاحب الحاجة أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ولا أن يقول (فشفعه في) ولم يأمر بالدعاء المأثور على وجهه، وإما أمره ببعضه وليس هناك من النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة ولا ما يظن أنه شفاعة، فلو قال بعد موته (فشفعه في) لكان كلاماً لا معنى له، ولهذا لم يأمر به عثمان صاحب الحجة، كما أنه لم يأمره بالدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم بل الذي أمره به ليس مأثوراً عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا لا تثبت به شريعة كسائر ما ينقل عن آحاد الصحابة في جنس العبادات أو الإباحات أو الإيجابات أو التحريمات إذا لم يوافقه غيره من الصحابة عليه، وكان ما يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم يخالفه لم يكن فعل ذلك الصحابي سنة يجب على المسلمين اتباعها، لا غايته أن يكون مما يسوغ فيه الاجتهاد ومما تنازعت فيه الأمة فيجب رده إلى الله والرسول، ولهذا نظائر كثيرة مثل ما كان ابن عمر يدخل الماء في عينيه في الوضوء ويأخذ لأذنيه ماء جديداً، وكان أبو هريرة يغسل يديه إلى العضدين في الوضوء ويقول من استطاع أن يطيل غرته فليفعل، وروى عنه أنه كان يمسح عنقه ويقول: هو موضع الغل، فإن هذا وإن استحبه طائفة من العلماء اتباعاً لهما فقد خالفهم في ذلك آخرون وقالوا: سائر الصحابة لم يكونوا يتوضؤون هكذا، والوضوء الثابت عنه صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيحين وغيرهما من غير وجه ليس فيه أخذ ماء(16/238)
جديد للأذنين، ولا غسل ما زاد على المرفقين والكعبين، ولا مع العنق، ولا قال النبي صلى الله عليه وسلم من استطاع أن يطيل غرته فليفعل، بل هذا من كلام أبي هريرة جاء مدرجاً في بعض الأحاديث، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"وأنكم تأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء" وكان صلى الله عليه وسلم يتوضأ حتى يشرع في العضد والساق، قال أبو هريرة: من استطاع أن يطيل غرته فليفعل. وظن من ظن أن غسل العضد من إطالة الغرة، وهذا لا معنى له، فإن الغرة في الوجه لا في اليد والرجل، وإنما في اليد والرجل الحجلة والغرة لا يمكن إطالتها، فإن الوجه يغسل كله لا يغسل الرأس ولا غرة في الرأس والحجلة لا يستحب إطالتها وإطالتها مثلة، وكذلك ابن عمر كان يتحرى أن يسير مواضع سير النبي صلى الله عليه وسلم وينزل مواضع منزلة ويتوضأ في السفر حيث رآه يتوضأ ويصب فضل مائه على شجرة صب عليها ونحو ذلك مما استحبه طائفة من العلماء ورأوه مستحباً ولم يستحب ذلك جمهور العلماء كما لم يستحبه ولم يفعله أكابر الصحابة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ بن جبل وغيرهم، ولم يفعلوا مثل ما فعل ابن عمر ولو رأوه مستحباً لفعلوه كما كانوا يتحرون متابعته والإقتداء به وذلك لأن المتابعة أن يفعل مثل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم على الوجه الذي فعل فإذا فعل فعلاً على وجه العبادة شرع لنا أن نفعله على وجه العبادة، وإذا قصد تخصيص مكان أو زمان بالعبادة خصصناه بذلك كما كان يقصد أن يطوف حول الكعبة وأن يلتمس الحجر الأسود وأن يصلى خلف المقام وكان يتحرى الصلاة خلف أسطوانة مسجد المدينة وقصد الصعود على الصفا والمروة والدعاء والذكر هناك وكذلك عرفة ومزدلفة وغيرهما. وأما ما فعله بحكم الاتفاق ولم يقصده مثل أن ينزل بمكان ويصلى فيه لكونه نزله لا قصداً لتخصيصه بالصلاة والنزول فيه، فإذا قصدنا تخصيص ذلك المكان بالصلاة فيه أو النزول لم نكن متبعين بل هذا(16/239)
من البدع التي كان ينهي عنها عمر بن الخطاب كما ثبت بالإسناد الصحيح من حديث شعبة عن سليمان التيمى عن المعرور بن سويد قال:"كان عمر بن الخطاب في سفر فصلى الغداة ثم أتى على مكان فجعل الناس يأتونه فيقولون صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: إنما هلك أهل الكتاب أنهم اتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعاً، فمن عرضت له الصلاة فليصل وإلا فليمض "، فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد تخصيصه بالصلاة فيه بل صلى فيه لأنه موضع نزوله رأى عمر أن مشاركته في صورة الفعل من غير موافقة له في قصده ليس متابعة بل تخصيص ذلك المكان بالصلاة من بدع أهل الكتاب التي هلكوا بها، ونهى المسلمين عن التشبه بهم في ذلك ففاعل ذلك متشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم في الصورة ومتشبه باليهود والنصارى بالقصد الذي هو عمل القلب، وهذا هو الأصل فإن المتابعة في السنة أبلغ من المتابعة في صورة العمل، ولهذا لما اشتبهت على كثير من العلماء جلسة الاستراحة هل فعلها استحباباً أو لحجة عارضة تنازعوا فيها وكذلك نزوله بالمحصب عند الخروج من منى لما اشتبه عليهم فعله لأنه كان أسمح بخروجه أو لكونه سنة تنازعوا في ذلك، ومن هذا وضع ابن عمر يده على مقعد النبي صلى الله عليه وسلم وتعريف ابن عباس بالبصرة وعمرو بن حريث بالكوفة فإن هذا لم يفعله سائر الصحابة، ولم يمكن النبي صلى الله عليه وسلم شرعه لأمته، ولم يمكن أن يقال هذا سنة مستحبة بل غايته أن يقال هذا مما ساغ فيه اجتهاد الصحابة أو مما لا ينكر على فاعله لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد لا لأنه سنة مستحبة سنها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته أو يقال في التعريف أنه لا بأس به أحياناً لعارض إذا لم يجعل سنة راتبة هكذا يقول أئمة العلم في هذا وأمثاله تارة يكرهونه وتارة يسوغون فيه الاجتهاد وتارة يرخصون فيه إذا لم يتخذ سنة ولا يقول عالم بالسنة أن هذه سنة مشروعة للمسلمين فإن ذلك إنما يقال فيما(16/240)
شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ليس لغيره أن يسن ولا أن يشرع وما سنه خلفاؤه الراشدون فإنما سنوه بأمره فهو من سننه ولا يكون في الدين واجباً إلا ما أوجبه ولا حراماً إلا ما حرمه ولا مستحباً إلا ما استحبه ولا مكروهاً إلا ما كرهه ولا مباحاً إلا ما أباحه.
وهكذا في الإباحات كما استباح أبو طلحة أكل البرد وهو صائم واستباحة حذيفة السحور بعد طهور الضوء المنتشر إلا أن الشمس لم تطلع وغيرهما من الصحابة لم يقل بذلك فوجب الرد إلى الكتاب والسنة.
وهكذا الكراهة والتحريم مثل كراهة عمر وابنه للطيب قبل الطواف بالبيت وكراهة من كره من الصحابة فسخ الحج إلى التمتع أو التمتع مطلقاً أو رأى تقدير مسافة القصر بحد حده وأنه لا يقصر بدون ذلك أو رأى أنه ليس للمسافر أن يصوم في السفر، ومن ذلك قول سلمان أن الريق نجس وقول ابن عمر في الكتابية لا يجوز نكاحها، وتوريث معاذ ومعاوية للمسلم من الكافر ومنع عمر وابن مسعود للجنب أن يتيمم وقول علي وزيد وابن عمر في المفوضة أنه لا مهر لها إذا مات الزوج وقول علي وابن عباس في المتوفى عنها الحامل أنها تعتد إلى أبعد الأجلين وقول ابن عمر لا يجوز الاشتراط في الحج وقول ابن عباس وغيره في المتوفى عنها ليس عليها لزوم المنزل وقول عمر وابن مسعود أن المبتوتة لها السكنى والنفقة وأمثال ذلك مما تنازع فيه الصحابة فإنه يجب الرد إلى الله والرسول، ونظائرها كثيرة فلا يكون شريعة للأمة إلا ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قال من العلماء إن قول الصحابي حجة، فإنما قاله إذا لم يخالفه غيره من الصحابة ولا عرف نص يخالفه، ثم إذا اشتهر ولم ينكروه كان إقراراً على قول فقد يقال "هذا إجماع إقراري"إذا عرف أنهم أقروه ولم ينكره أحد منهم وهم لا يقرون على باطل. وأما إذا لم يشتهر فهذا إن عرف أن غيره لم يخالفه فقد يقال "حجة ".(16/241)
وأما إذا عرف أن غيره خالفه فليس بحجة بالاتفاق، وأما إذا لم يعرف هل وافقه غيره أو خالفه لم يجزم بأحدهما، ومتى كانت السنة تدل على خلافه كانت الحجة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا فيما يخالفها لا ريب عند أهل العلم.
وإذا كان كذلك فمعلوم أنه إذا ثبت عن عثمان بن حنيف أو غيره أنه جعل من المشروع المستحب أن يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته من غير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم داعياً له ولا شافعاً فيه فقد علمنا أن عمر وأكابر الصحابة لن يروا هذا مشروعاً بعد مماته كما كان يشرع في حياته، بل كانوا في الاستسقاء في حياته يتوسلون به، فلما مات لم يتوسلوا به بل قال عمر في دعائه الصحيح المشهور الثابت باتفاق أهل العلم بمحضر من المهاجرين والأنصار في عام الرمادة المشهور لما اشتد بهم الجدب حتى حلف عمر لا يأكل معنا حتى يخصب الناس لما استسقى بالناس قال:"اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا "فيسقون. وهذا دعاء أقره عليه جميع الصحابة ولم ينكره أحد مع شهرته. وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية، ودعا بمثله معاوية ابن أبي سفيان في خلافته لما استسقى بالناس فلو كان توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته كتوسلهم به في حياته لقالوا كيف نتوسل بمثل العباس ويزيد بن الأسود ونحوهما؟ ونعدل عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الخلائق وهو أفضل الوسائل وأعظمها عند الله؟ فلما لم يقل ذلك أحد منهم وقد علم أنهم في حياته إنما توسلوا بدعائه وشفاعته وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره وشفاعة غيره، علم أن المشروع عندهم التوسل بدعاء المتوسل به لا بذاته.(16/242)
وحديث الأعمى حجة لعمر وعامة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فإنه إنما أمر الأعمى أن يتوسل إلى الله بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه لا بذاته، وقال له في الدعاء "اللهم شفعه في"وإذا قدر أن بعض الصحابة أمر غيره أن يتوسل بذاته لا بشفاعته ولم يأمر بالدعاء المشروع بل ببعضه وترك سائره المتضمن للتوسل بشفاعته، كان ما فعله عمر بن الخطاب هو الموافق لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان المخالف لعمر محجوجاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الحديث الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم حجة عليه لا له. والله أعلم.
وأما القسم الثالث مما يسمى توسلاً فلا يقدر أحد أن ينقل فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً يحتج به أهل العلم وهو الأقسام على الله عز وجل بالأنبياء والصالحين والسؤال بأنفسهم فإنه لا يقدر أحد أن ينقل فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ثابتاً لا في الأقسام أو السؤال به ولا في الأقسام أو السؤال بغيره من المخلوقين وإن كان في العلماء من سوغه فقد ثبت عن غير واحد من العلماء أنه نهى عنه فتكون مسألة نزاع فيرد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويبدي كل واحد حجته كما في سائر مسائل النزاع وليس هذا من مسائل العقوبات بإجماع المسلمين بل المعاقب على ذلك معتد جاهل ظالم فإن القائل بهذا قد قال ما قالت العلماء والمنكر عليه ليس معه نقل يجب اتباعه لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة.
وإتماماً للفائدة نختم هذه الرسالة بما ذكره ابن كثير في تفسيره وغيره عند قوله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} .. الآية.(16/243)
قال ابن كثبر ما نصه:"ذكر جماعة منهم الشيخ أبو منصور الصباغ في كتابه الشامل الحكاية المشهورة عن العتبي قال: كنت جالساً عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله. سمعت الله يقول {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا} الآية، وقد جئتك مستغفراً لذنبي مستشفعاً بك إلى ربي ثم أنشد يقول:
فطاب من طيبهن القاع والأكم
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
فيه العفاف وفيه الجود والكرم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه
عند الصراط إذا ما زلت القدم
أنت الرسول الذي ترجى شفاعته
ولا نجوم ولا لوح ولا قلم
لولاك ما خلقت شمس ولا قمر
فأنت أكرم من دانت له الأمم
صلى عليك إله الدهر أجمعه
ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيني فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال: "يا عتبى الحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له ".
فهذه القصة الباطلة أخرجها ابن النجار في الدرة الثمينة في تاريخ المدينة بالسند التالي، قال أخبرنا عبد الرحمن ابن أبي الحسن في كتابه أخبرنا أبو الفرج ابن أحمد أخبرنا أحمد بن نصير أخبرنا محمد بن القاسم سمعت غالب بن غالب الصوفي يقول سمعت إبراهيم بن محمد المزكي يقول سمعت أبا الحسن الفقيه يحكى عن الحسن بن محمد عن ابن فضيل النحوي عن محمد بن روح عن محمد بن حرب الهلالي قال:"حج أعربي فلما جاء على باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخ راحلته فعقلها ثم دخل المسجد حتى أتى القبر، وذكر القصة بتمامها ".(16/244)
فهذه الحكاية ذكرها أيضاً بعض الفقهاء والمحدثين، وليست بصحيحة ولا ثابتة إلى العتبي، وقد رويت عن غيره بإسناد مظلم، وبعض العلماء يرويها عن العتبي لا إسناد كما في تفسير ابن كثير عند الآية المقدمة الذكر آنفاً وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب الهلالي وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب عن أبي الحسن الزعفراني عن الأعرابي، وقد ذكرها البيهقي في كتاب شعب الإيمان بإسناد مظلم أيضاً عن محمد بن روح بن يزيد البصري حدثني أبو حرب الهلالي وقد وضع لها بعض الكذابين إسناداً آخر إلى على بن أبي طالب رضي الله عنه، روى أبو الحسن على بن إبراهيم بن عبد الله بن عبد الرحمن الكرخي عن على بن محمد بن على حدثنا أحمد بن محمد بن الهيثم الطائي قال حدثني أبي عن سلمة بن كهيل عن أبي صادق عن علي رضي الله عنه فذكر هذه الحكاية، فهذا خبر منكر موضوع وأثر مختلق مصنوع لا يصلح الاعتقاد عليه ولا يحسن المصير إليه، وإسناده ظلمات بعضها فوق بعض. والهيثم جد أحمد بن محمد بن الهيثم إن كان ابن عدى الطائي فهو متروك كذاب وإلا فهو مجهول، وقد ولد الهيثم ابن عدى بالكوفة ونشأ بها وأدرك زمان سلمة بن كهيل فيما قيل ثم انتقل إلى بغداد فسكنها: قال عباس الدوري: سمعت يحيى بن معين يقول:"الهيثم بن عدى كوفي ليس بثقة كان يكذب "، وقال العجلي وأبو داود:"كذاب "، وقال أبو حاتم الرازي والنسائي والدولابي والأزدي:"متروك الحديث ". وقال السعدي:"ساقط قد كشف قناعه "، وقال أبو زرعة:"ليس بشيء "، وقال البخاري:"سكتوا عنه أي تركوه ". وقال ابن عدي:"ما أقل ما له من المسند وإنما هو صاحب أخبار وأسمار ونسب وأشعار "، وقال ابن حبان:"كان من علماء الناس بالسير وأيام الناس وأخبار العرب إلى أنه روى عن الثقات أشياء كأنها موضوعة يسبق إلى القلب أنه كان يدلسها ". قال الحاكم أبو أحمد الكبير:"هو ذاهب الحديث "، وقال الحاكم أبو عبد الله صاحب المستدرك:"الهيثم ابن عدى الطائي في علمه ومحله(16/245)
حدث عن جماعة من الثقات أحاديث منكرة "، وقال العباس بن محمد:"سمعت بعض أصحابنا يقول قالت جارية الهيثم: كان مولاي يقوم عامة الليل يصلي فإذا أصبح جلس يكذب "، وفي الجملة فليست هذه الحكاية المذكورة عن الأعرابي مما تقوم به حجة لأن إسنادها مظلم مختلق ولفظها مختلف أيضاً، ولو كانت ثابتة لم تكن فيها حجة على مطلوب المعترض ولا يصلح الاحتجاج بمثل هذه الحكاية ولا الاعتماد على مثلها عند أهل العلم. وهي في الجملة حكاية لا يثبت بها حكم شرعي لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعاً مندوباً لكان الصحابة والتابعون أعلم به وأعمل به من غيرهم.
وأما سند ابن النجار فهو أيضاً مجاهيل غير معروفين ابتداء من شيخه إلى محمد بن حرب الهلالي، قال شيخ الإسلام في "اقتضاء الصراط المستقيم ومخالفة أصحاب الجحيم"قال ما نصه:"ولم يكن أحد من السلف يأتي إلى قبر نبي أو غير نبي لأجل الدعاء عنده، ولا كان الصحابة يقصدون الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند قبر غيره من الأنبياء، وإنما كانوا يصلون ويسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه رضي الله عنهما، واتفق الأئمة على أنه إذا دعى بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم لا يستقبل قبره، وتنازعوا عند السلام عليه فقال مالك وأحمد وغيرهما: يستقبل قبره ويسلم عليه، وقال أبو حنيفة: بل يستقبل القبلة ويسلم عليه ".
"هذا "(16/246)
وقد أغنانا الله عز وجل عما حرم من التوسلات الشركية والبدعية بما شرع لنا من التوسل المشروع وهو التوسل بأسمائه الحسنى وصفاته العلا قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} وكذلك شرع لنا التوسل إليه بالأعمال الصالحة من دعائه وطاعته واتباع رسوله عليه الصلاة والسلام وحبه والإيمان به كما في حديث أصحاب الغار الذين توسلوا إليه لما وقعوا في الشدة بأعمالهم الصالحة ففرج عليهم. قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وقد أجمع الصحابة والتابعون لهم بإحسان أن الوسيلة إليه تعالى في هذه الآية هي طاعة الله تعالى بما شرع والانتهاء عما نهى عنه ومنع. وقال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} .. الآية.
فهذا هو التوسل المشروع، وأما التوسل غير المشروع فهو قسمان:
1 - توسل شركي، كالحلف بغير الله ودعاء غير الله قال الله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} ، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} ..
وكذلك الاستغاثة والاستعاذة بغير الله وتعليق التمائم والحلقات والطِيَرَة هذه كلها من الشرك. لا يجوز لمؤمن بالله أن يصرف الاستغاثة والذبح والاستعاذة لغير الله فمن صرف شيئاً منها لغير الله فقد أشرك كما جاءت به النصوص.(16/247)
2 - التوسل البدعي، كأن يقول توسلت بجاه فلان أو بحرمته أو بحقه عليك أو بفضله أو بعمله فإن هذه الألفاظ بدعية لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في واحد منها شيء صحيح ولا حسن بل كل ما نقل في هذا الباب موضوع أو ضعيف جداً لا يصلح للاحتجاج به أو صحيح خارج عن الموضوع كما تقدم في توسل عمر رضي الله عنه بالعباس وكما في حديث الأعمى على القول بصحته.
ونسأل الله العلي القدير أن يلهمنا الصواب في القول والعمل ويجنبنا الخطأ والزلل، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، أمين..
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أسد الغابة ج 5 ص 517.
[2] الاستيعاب ج 4 ص 370.
[3] ج 9 ص 257.
[4] ج 8: ص 253.
[5] الميزان ص؟
[6] الصارم ص 31، 32.
[7] الدلائل ص 44. سورة البقرة.
[8] السورة.(16/248)
تصحيح المفاهيم في جوانب العقيدة
لفضيلة الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
عميد كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية
مقدمة:
سبق لي أن تحدثت تحت هذا العنوان في موسم المحاضرات لعام 94-95هـ وتناولت بالحديث النقاط التالية:
1- العبادة.
2- التوسل.
3- مبحث الصفات.
4- القرآن الكريم.
ووعدت بأني سوف أعود فأتحدث مرة أخرى تحت العنوان ذاته إن شاء الله فها أنا ذا أعود إلى العنوان بمشيئة الله تنفيذاً للوعد المذكور وأختار هذه المرة النقاط الآتية:
1- الأولياء والكرامات.
2- الشفاعة.
3- السنة النبوية.(16/249)
والذي دفعني إلى الحديث في تصحيح المفاهيم هذه المرة والمرة التي قبلها هو إدراكي التام ما عليه عامة المسلمين - كما يدرك غيري- من تصورات بعيدة عن حقيقة الإسلام في الموضوعات المذكورة وغيرها في جوانب الإسلام حتى صار البون شاسعاً بينهم وبين المنهج المحمدي الذي أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله:"تركتكم على بيضاء نقية لا يزيغ عنها إلا هالك " وعلى الرغم من هذا التوجيه النبوي المتضمن للإنذار فقد زاغ جمهور المسلمين عن المنهج فصاروا يعملون خارج المنهج في جوانب كثيرة، مغيرين بذلك مفاهيم وتصورات كثيرة فحياة المسلمين اليوم أقرب إلى الجاهلية التي قبل مبعث النبي منها إلى الحياة الإسلامية مما جعل حياتهم مغايرة لحياة الرعيل الأول من الصحابة والتابعين الذين أخذوا تلكم المعاني من صاحب الشريعة مباشرة أو بسند عال ولعل سر ذلك انصراف الناس عن دراسة مصادر الإسلام الأصلية وتسرب كثير من عادات وتقاليد غير إسلامية إلى صفوف المسلمين. كالهندوكية والبوذية والثقافة اليونانية. وهذا التركيب المزجي خلف في صفوف المسلمين ريبة مدللة ومضللة في الوقت ذاته أطلق عليها "الصوفية"وكنتيجة حتمية لوجودها كثر المحترفون باسم الدين بعد أن لقبوا أنفسهم برجال السلوك فسلكوا بأتباعهم غير سبيل المؤمنين وصنفوا أنفسهم كالآتي:-
العارفون بالله- والأقطاب – والأوتاد.(16/250)
أيها الأخوة لا نعلم أن المسلمين ابتلوا ببلية أو أصيبوا بمصيبة أعظم وأخطر من مصيبة الصوفية إذ من بابهم دخلت على المسلمين تصورات أجنبية ومفاهيم غربية لا عهد للمسلمين بها في ماضيهم بل هي باب لكل بدعة دخلت على عبادة المسلمين وعقائدهم التي منها هذه التصورات الطارئة على المعاني أو النقاط التي سوف أتناولها بالبحث في هذه العجالة محاولاً بيان التصور الصحيح لها والتصور غير الصحيح لعلي أكون أديت بذلك بعض ما يجب أداؤه من واجب النصح لعامة المسلمين لأني لا أريد بمحاضرتي هذه أداء واجب الموسم الثقافي للجامعة فحسب بل أرجو أن تصل هذه المحاضرة يوماً إلى أيدي من تعنيهم وتتحدث عنهم وعن سوء فهمهم فتصحح لهم تصوراتهم تلك بإذن الله في هذه الجوانب.
والله أسأل وبمحبة رسوله أتوسل أن يجعل عملي مخلصاً لوجهه الكريم أنه خير مسئول وأكرم مجيب.
وبعد هذه المقدمة التي أرجو ألاّ تكون مملة نأخذ في الحديث عن النقاط الثلاث التي اخترتها لحديثي، هذه المرة على النحو التالي:
أولاً: الأولياء:
الأولياء جمع ولي. الولي من تولى الله أمره وخصه بعنايته لصلاحه لأن الله يتولى الصالحين ويحب المؤمنين ويدافع عنهم {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} وفي الحديث القدسي:" من عادى لي وليا فقد آذنته بحرب ".
ويعتبر الصلاح والتقوى من العناصر الأساسية في الولاية ومن مستلزماتها: العلم ونعني بالعلم معرفة الله بأسمائه وصفاته وآلائه جملة وتفصيلاً ومعرفة شرعه الذي جاء به رسوله المصطفى ونبيه المرتضى عليه الصلاة والسلام. وقد تولى القرآن الكريم تعريف الأولياء بما لا يترك مجالاً للتردد أو التساؤل أو التوقف:(16/251)
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} إذ يقول الله عز وجل من قائل: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} ويقول أيضاً: {إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ} وقد حصر القرآن- كما ترى- الأولياء فيمن يتصفون بصفة التقوى. والتقوى تستلزم العلم والمعرفة - كما قلنا - لأن حقيقة التقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات خوفاً من عذاب الله وسخطه وتطلعاً إلى رضائه وجنته وكرامته ولا يتم ذلك إلا بالفقه في الدين، فالخير كله في الفقه في الذين كما أن الشر كله في الجهل بالدين والإعراض عنه. يقول الرسول الكريم في هذا المعنى:"من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" ولا يخفى على طالب العلم المفهوم المخالف للحديث. وهو أن من لن يرزق الفقه في الدين قد فاته الخير. وماذا بعد الخير إلا الشر؟..
هكذا بين الكتاب والسنة صفات أولياء الرحمن التي منها: العلم والمعرفة والصلاح والتقوى. وذلك يعني أن الأولياء هم العلماء العاملون والفقهاء المبرزون حملة كتاب الله المتبعون لسنة نبيه عليه الصلاة والسلام لنخلص إلى القول:(16/252)
بأن الله لم يتخذ ولياً جاهلاً يجهل دينه وما جاء به نبيه عليه الصلاة والسلام، لنقضي بذلك على الزعم الشائع بين كثير من الناس أن الأولياء هم أولئك الجهال المخادعون من الكهنة والمشعوذين ومن السحرة أحياناً الذين يسحرون أعين الناس ثم يتظاهرون بفعل أشياء مثيرة. وهم في الواقع لم يفعلوا شيئاً وكثير من أولئكم الكهنة يستخدمون الشياطين أو على الأصح تستخدمهم الشياطين لتوحي إليهم. وقد تأتي لهم بأموال مسروقة فتظن العامة أنهم من أولياء الرحمن وما يخبرون به أو يأتي إليهم من الأموال من قبيل الكرامات وأنى لهم الكرامة؟ بل الإهانة أولى بهم وحقاً إنهم مهانون إذ حرموا ولاية الله والأنس به ووقعوا في أسر عدو الله الشيطان فأصبحوا أولياءه {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} .
والذي أريد أن أصل إليه أنه لا تلازم بين الولاية وبين ظهور الأمور الخارقة للعادة. وفي هذا المعنى يحكى عن الإمام الشافعي رحمه الله قوله:"لو رأيتم رجلاً يسير في الهواء. أو يمشي على الماء لا تقبلوا منه دعوى الولاية حتى تعرضوا أعماله على الكتاب والسنة "أو كلام هذا معناه. يعنى الإمام الشافعي رحمه الله أن ظهور الأمور الخارقة للعادة ليس من مستلزمات الولاية بل قد لا تظهر تلك الأمور على أيدي كثير من أولياء الرحمن لأنها ليست من صنع الأولياء. وإنما هي من فعل الرب تعالى الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وقد تظهر تلك الأمور على أيدي أناس غير صالحين كما سبقت الإشارة إلى هذا المعنى وكما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله مفصلاً.(16/253)
وبالجملة من رزق الفقه في الدين يدرك تماماً إن باب الولاية أوسع مما يظنه كثير من العوام وأشباه العوام الذين ضيقوا مفهوم الولاية بل غيروه فحصروا الولاية في بيوت معينة أو أشخاص معينين. يتظاهرون بالدروشة. وخفة العقل. ومباديء الجنون أحياناً ويهذون هذياناً وربما أخبروا الناس عن مكان الضالة وعن بعض الحوادث التي تقع في أماكن بعيدة عن أماكن وجودهم بواسطة شياطينهم التي تنقل إليهم الأخبار من أماكن بعيدة صادقة أو كاذبة. هذا هو مفهوم الولاية عندهم ولا يخفى وجه خطأ هذا المفهوم. وقد استغل القوم جهل العوام فأثبتوا لأنفسهم منصباً وراثياً يرثه الأبناء عن الآباء فينتقل إلى الأبناء بطريقة أوتوماتكية (تلقائية) لأن القاعدة تقول كل من كان أبوه ولياً لا بد أن يكون ولياً ولا محالة. لأن الولاية عندهم غير مقيدة بقيود مكتسبة كالعلم والصلاح والتقوى. بل إن واقعهم على العكس من ذلك إذ يتصفون بالجهل والجرأة على الله والخروج على شرعه الابتداع في دينه وكراهة أوليائه وأهل طاعته من العلماء العاملين والدعاة الغيورين.
" أقسام الأولياء "
يتضح لنا مما تقدم أن الأولياء ينقسمون إلى قسمين:
1- أولياء الرحمن الذين تقدم الحديث عنهم وتولى القرآن تعريفهم. وهم الذين تولى الله أمرهم ووفقهم وتفضل عليهم بالكرامات التي من أعظم أنواعها: معرفة الحق واتباعه والاستقامة عليه الاستقامة التي تنتهي بالعبد إلى دار الكرامة الجنة (نسأل الله من فضله) .
2- أولياء الشيطان الذين وثقوا صلتهم بالشيطان ونظموا معه حياتهم بعد أن قطعوا صلتهم بالله أو ضعفت على الأقل إذ لا يقع العبد في ولاية الشيطان وحزبه مع قوة صلته بربه أبداً. والله المستعان.
وكما أن أولياء الرحمن تتفاوت درجاتهم عند الله. كذلك يتفاوت أولياء الشيطان في بعدهم عن الله. وذلك أمر معروف بحيث لا يحتاج إلى دليل.(16/254)
الأمور الخارقة للعادة على أيدي أولياء الشيطان
وقد أوضحنا فيما تقدم أنه لا ملازمة بين الولاية وبين الأمور الخارقة للعادة وأنها قد تظهر على أيدي غير الصالحين. وبقي أن تعرف حقيقة تلك الأمور. فهي تنقسم إلى:
1- قسم يجريه الرب سبحانه على أيديهم استدرجاً ليستدرجهم بها ليزدادوا إثماً على إثمهم عقوبة لهم على جريمتهم جريمة عبادة الشيطان وطاعته واتخاذه ولياً من دون الله. يستدرجهم من حيث لا يعلمون ويملي لهم ومن يراها أنها من الكرامات فهو إما جاهل أو متجاهل مغلط لحاجة في نفسه.
2- القسم الثاني: ما يجري على أيدي بعضهم من قبيل السحر. وقد أثبتت التجربة إن كثيراً من الدجالين مَهَرة في السحر فكثيراً ما يسحرون أعين الناس فيقوم أحدهم بأعمال غريبة ومثيرة وخارجة عن المعتاد والقانون المتبع في حياة الناس مثل أن يلقي بنفسه في النار ثم يخرج منها قبل أن تحرقه أو تصيبه بأي أذى في جسمه. ومثل أن يتناول جمرة فيأكلها كما يأكل تمرة حلوة والناس ينظرون إليه فيندهشون. أو يمشي على خيط دقيق ممدود بن عمودين مثلاً وغير ذلك من الأعمال التي يعرفها كل من يعرف القوم. وهو في واقع الأمر لم يعمل شيئاً من تلك الأعمال بل كان على حالته العادية إلا أنه سحر أعين الحاضرين فيخيل إليهم من سحره أنه يفعل شيئاً وأنه يطير أو يذبح نفسه أو يذبح ولده. وكل ذلك لم يقع ولا بعضه.(16/255)
فالطائفة الأولى المستدرجة والأخرى السحرة هم المعروفون عند السذج من عامة المسلمين أنهم أصحاب الكرامات ولما أدرك القوم أنه قد انطلى على العوام باطلهم هذا لفرط جهل العوام وبعدهم عن الثقافة الإسلامية. استغلوا فيهم هذا الجهل وتلك السذاجة فاتخذوا الولاية المزعومة مزرعة وباباً من أبواب الدخل. فكما يطور أهل العلم معلوماتهم، وأرباب المهن والصناعات مهنهم وصناعاتهم حتى ينتجوا أحدث المصنوعات كذلك يطور هؤلاء الأولياء أساليب دجلهم وخداعهم ليطير صيتهم وتزداد شهرتهم فيرتفع بذلك دخلهم وهذا الدخل هو الغاية عند القوم من دعوى الولاية والكرامة ومن الخداع المتطور.(16/256)
ومن أحد أساليبهم المتطورة في هذا العصر أن زعم بعضهم أن هذه التكاليف الشرعية من امتثال المأمورات واجتناب المنهيات. أمور مؤقتة ولها حد تنتهي إليه ثم تسقط وزعم هذا الزاعم أنه قد وصل تلك المنزلة فسقطت عنه جميع الواجبات وأبيحت له جميع المحرمات حيث لا يقال في حقه هذا حرام أو حلال. أو هذا واجب وهذا مستحب. وهو يحاول بذلك أن يقتفي أثر رئيس الملاحدة وقطب وحدة الوجود ابن عربي الطائي وشاعر تلك الملة ابن القارض ويحذو حذوهما. وتبدو الفكرة جديدة ومتطورة لدى كثير من الناس لغرابتها ولما أدخل عليها من بعض الزخرفة والزركشة حتى ظهرت الفكرة كأنها فكرة حديثة وهي في أصلها فكرة قديمة قدم كفر وحدة الوجود التي منشأها تعطيل الصفات على طريقة الجهمية المعروفة وهي فكرة يؤمن بها كل صوفي- وللأسف- ويسعى لها بأنواع من المجاهدة في زعمهم وهو سر انتقادنا للصوفية وشطحاتهم. وما يؤخذ عليهم كثير جداً لو وسعنا التعداد، ولا يشك كل من له أدنى فقه في الدين إن فكرة وحدة الوجود ملة مغايرة للإسلام وآخر التطورات التي علمناها في هذا الخصوص دعوى محمود محمد طه السوداني حيث زعم أن تلكم الفكرة الإلحادية التي يدعو إليها هي مضمون الرسالة الثانية من الرسالتين المحمديتين على حد زعمه حيث زعم أن الرسول عليه الصلاة والسلام بعث برسالتين اثنتين. أما الرسالة الأولى فقد بلغها. وأما الثانية فلم يبلغها. ويعلل ذلك بقوله: إن القوم الذين بعث فيهم رسول الله أول ما بعث ليسوا على استعداد لفهمها والعمل بها لأن مستواهم العقلي لا يؤهلهم لفهمها. أما الآن وقد نضجت العقول وتقدم الفكر البشري قد آن الآوان للدعوة إليها والعمل بها إلى آخر تلك الجعجعة - المثيرة للضحك والبكاء في وقت واحد. نعم أنها تثير الضحك إذا نظرت إليها ككلام ساقط ليس له أي قيمة علمية وإنما هو هذيان لا ينطلي على العقلاء، ومثيرة للبكاء حيث وصلنا نحن المسلمين إلى هذا المستوى من البرودة(16/257)
وضعف الغيرة على شريعة الله التي يتلاعب بها أمثال محمود ولا يجد رادعاً يوقفه عند حده بل لا توجد غضبة إسلامية يحسب لها حساب في المجالات الرسمية.. والله المستعان.
ولعل بعض الحضور يحسب أنني أتحدث عن أساطير الأولين، وليس الأمر كذلك به إن صاحب هذه الدعوة حتى يرزق بمقربة منا في السودان - كما قلت آنفاً ولا يزال يعلم جاداً لهدم الرسالة الأولى وليقيم على انقاضها الرسالة الثانية المزعومة لو استطاع إلى ذلك سبيلاً - وفي الواقع أن الرجل مدع للنبوة ولكنه لن يستطع التصريح بها خشية أن يغضب الشعب السوداني غضبة إسلامية فتكون نهاية له لكنه لدهائه ولباقته استطاع أن يتظاهر بمظهر المصلح المجدد علماً بأنه ليس لديه أي جديد بل تنحصر فكرته في عقيدة وحدة الوجود التي يرأسها ابن عربي الطائي الملقب بمحي الدين مع عاشقهم المعروف بابن الفارض ومن يدور في فلكها - كما سبق أن أشرت - مع محاولة السير مع الوادي حيث ما توجه. شرق أم غرب. كعادة المحترفين باسم الدين أو التجديد.
والمسألة في الأصل- كما قلت - نتيجة حتمية لعقيدة غلاة الجهمية الذين يعطلون جميع صفات الرب تعالى وأسمائه حتى لا يبقى هناك إلا ذات مجردة عن جميع الصفات والأسماء التي لا يتصور لها وجود في الخارج أي خارج الذهن وإنما يتصوره الذهن كما يتصور المحال والأمور الخيالية، وهذه العقيدة هي التي أفضت بالقوم إلى القول بالحلول والاتحاد ليتحقق وجود الله خارج الأذهان حالاً في مخلوقاته ومتحداً معهم هذا هو منشأ الحلول والاتحاد الذي هو آخر منزلة تنتهي إليها الصوفية ولها يسعون وفيها يتنافس المتنافسون منهم وهذه الفكرة كفر باتفاق المسلمين لأنها تجعل الرب سبحانه حالاً في مخلوقاته، بل يرى شارح الطحاوية أن فكرة الحلول والاتحاد أقبح من كفر النصارى لأن النصارى خصوا الحلول بالمسيح وهؤلاء عمموا جميع المخلوقات.
وقديماً قال زعيمهم ابن عربي:(16/258)
وما الله إلا راهب في كنيسة
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا
هذا ما تنتهي إليه ولاية أولياء الشيطان وما قبل هذه المنزلة وسائل مفضية إلى هذه الغاية ما أرخصها من غاية وما أقبحها من كفر وهو داء لا علاج له إلا آخر العلاج وآخر العلاج الكى فلا يردع هذا إلالحاد إلا قوة السلطان لأن الله يزع بالسلطان ملا لا يزع بالقرآن كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولكن أين قوة السلطان اليوم؟ ؟ ! ! إلا ما شاء الله.
الكراكات:
إذا كنا تحدثنا عن الأولياء وصفاتهم وأقسامهم واستطردنا بعض تصرفات أولياء الشيطان التي يظنها بعض الناس أنها من الكرامات وبينا أنها لا علاقة لها بالكرامة إذا كنا قد تحدثنا هذا الحديث فلنتحدث الآن عن الكرامات وعن موقف الناس منها بل قد استطردنا لمفهوم الكرامة لدى أتباع أولياء الشيطان وبينا تصورهم الخاطىء فلنحصر بحثنا هنا في كرامات أولياء الرحمن وتحقيق القول في ذلك بتوفيق الله.
" موقف المعتزلة من كرامات الأولياء "
انقسم الناس في مسألة كرامات أولياء الرحمن إلى قسمين: ناف مثبت وعرفت المعزلة من بين الطوائف المنتسبة إلى الإسلام بنفي كرامات الأولياء بدعوى أن إثباتها يوقع في لبس إذ تلتبس الكرامة بمعجزة الأنبياء. وليس لديهم أي دليل أو شبه دليل سوى هذه الدعوى وهي دعوى- كما ترى- لا تنهض لمقاومة النصوص الصريحة التي سيأتي ذكرها إن شاء الله. وقد ناقشهم كثير من أئمة الهدى الذين عرفوا بمناضلة أهل البدع والهوى وفي مقدمتهم الإمام ابن تيمية في كتابه (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) وكتاب النبوات كما ناقشهم الإمام الشوكاني في بعض رسائله مثل رسالته التي سماها (بحث في الاستدلال على ثبوت كرامات الأولياء) ومن أراد الإطلاع على شبههم ودحضها فليراجع تلك المراجع.
" موقف أهل السنة من كرامات الأولياء "(16/259)
أما أهل السنة فقد أجمعوا على إثبات كرامات الأولياء اعتماداً على النصوص التي سنذكرها الآن إن شاء الله، وفي الإمكان سرد كلامهم والوقائع التي ذكروها ولكنني أرى الاكتفاء بما جاء في كتاب ربنا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وقد نضيف إلى آيات الكتاب ما صح عنه عليه الصلاة والسلام في السنة المطهرة فنكتفي بذلك لأن فيهما الغنية لمستغن، وقد قص الله علينا في كتابه العزيز عن صالحي المؤمنين الذين لم يكونوا أنبياء وكراماتهم المتنوعة. لنستمع إلى هذا النموذج من كراماتهم:
أ- قصة أولئك الفتية الذين آمنوا بربهم وثبتوا على إيمانهم وسط تلك البيئة الكافرة بعيدين عن المداهنة وقد قص القرآن علينا قصتهم البطولية إذ يقول الله عز من قائل: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} إلى أن قال وهو يصفهم بإيمان والهدى والثبات {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} .
فطبيعي أن هذا ليس موقف أناس عاديين ولكن الله أكرمهم بالإيمان والثبات على الهدى فصارحوا جبابرة قومهم: بأنهم لا يدعون مع الله أحداً وهو إعلان بالكفر بآلهة قومهم مع الثبات على الإيمان بالله وحده وهذه كرامة وأي كرامة.
ب- قصة مريم التي حكاها القرآن إذ يقول الرب تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} على آخر الآية ويقول في موضع آخر {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} .(16/260)
جـ - قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة وهم في الغار. وقصتهم معروفة لدى جمهور الحاضرين وهم أولئكم الذين خرجوا في سفر ما ولما أدركهم الليل دخلوا غاراً في الجبل ليبيتوا فيه وفي أثناء الليل سقطت صخرة عظيمة من عل فسدت عليهم باب الغار فوقعوا في حيرة من أمرهم فتشاوروا فقرروا أنه لا ينجيهم مما هم فيه إلا الالتجاء إلى الله فيدعونه بالأعمال الصالحة التي عملوها مخلصين له فتوسل أحدهم إلى الله ببر الوالدين إذ كان له أبوان شيخان كبيران وكان يحسن إليهما ويبرهما كأحسن ولد. ومن بره لهما كان لا يتناول عشاءه هو وأولاده قبلهما وكان عشاؤهم حليب الإبل ومن عادته أن يقدم لهما عشاءهما في وقت مناسب، وفي ذات ليلة نأى به طلب الشجر لإبله. وجاء بعشائهما في وقت متأخر من الليل فوجدهما قد ناما فكره أن يوقظهما خشية أن يقطع عليهما نومهما فيعكر راحتهما كما لم يستحسن أن يتناول عشاءه قبلهما هو وأولاده فظل واقفاً على رأسهما رجاء عن يستيقظا في أثناء الليل ولم يستيقظا إلى أن أصبح الصبح وهو واقف والحليب في يده. فتذكر هذا العمل الجليل فدعا الله به فأكرمه الله وأجاب دعوته فنزلت الصخرة حتى دخل لهم الهواء فطمعوا في الخروج.(16/261)
وأما الآخر فتوسل إلى الله بعفته والخوف ومن الله وملخص قصته أنه كانت له ابنة عم وكان يحبها كأشد ما يحب الرجل امرأة. فراودها فامتنعت ورفضت طلبه إلى أن ألجأتها الحاجة إليه فقدم لها مبلغاً من المال بقدر مائة وعشرين ديناراً تقريباً مساعدة لها وسداً لحاجتها فأعاد المراودة بعد هذا الإحسان- فطالما استعبد الإحسان إنساناً وألح في طلبه طبعاً وأخيراً وافقت على تحقيق رغبته تحت الحاجة وتأثير الإحسان ونفسها غير مطمئنة بالمعصية فمكنته من نفسها فقعد منها مقعد الرجل من المرأة فصرخت في وجهه قائلة: اتق الله يا عبد الله لا تفض الخاتم إلا بحقه- تعنى- إلا بنكاح وبطريقة شرعية. هكذا ذكرته بالله فتذكر لأنه مؤمن. {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} فقام من مقعده ذلكم فوراً مالكاً نفسه قاهراً شهوته وهواه وهو موقف صعب كما ترون.
هذا ملخص قصة صاحب العفة فقال وهو في الغار اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه فأجاب الله دعوته وأكرمه بكرامته فنزلت الصخرة مرة أخرى بيد أنهم لا يقدرون على الخروج. ولكن أملهم أقوى في الخروج من ذي قبل ولا شك.
وأما الثالث: فتوسل إلى الله بحفظ الأمانة إذ عمل عنده أجراء كثيرون فأخذ كل أجير أجرته وذهب إلا واحداً منهم فترك أجرته وذهب وبعد مدة طويلة جاء فطلب أجرته فقال له: إن كل ما تراه من الإبل والبقر والغنم من أجرتك لأني نميتها لك لما طال غيابك خشية أن تضيع، ولم يصدقه بل قال لا تستهزئ بي يا عبد الله فقال له لست مستهزئاً بك وإنما الواقع ما قلته لك فسُقْ مالك فأخيراً أخذ أمانته بنمائها وزيادتها.
فقال الذي حفظ الأمانة: وهو يتوسل إلى الله بعمله هذا اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه فأجاب الله دعوته وأكرمه بإخلاصه وصدقه فنزلت الصخرة فخرجوا يمشون. هذا ملخص قصة الثلاثة.(16/262)
ومما يدل على ثبوت الكرامات من السنة- قوله عليه الصلاة والسلام؛:" رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره " وقصة أسيد بن حضير وعباد بن بشر الأنصاريين وملخصها "أنهما كانا عند النبي عليه الصلاة والسلام: في ليلة ظلماء فلما خرجا أضاءت عصا أحدهما فمشيا في ضوئها. فلما افترق بهما الطريق أضاءت عصا الآخر فمشى كل واحد منهما في ضوء عصاه حتى بلغ أهله" والقصة في صحيح البخاري في كتاب مناقب الأنصار وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة عند البخاري في فضائل الصحابة "لقد كان فيما قبلكم الأمم أناس محدثون فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر" وفي لفظ "لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمتي منهم أحد فعمر".
واكتفى بهذا المقدار من نصوص الكتاب والسنة التي تثبت دون شك كرمات الأولياء وهناك نصوص أخرى كثير مرفوعة أو موقوفة. وكلها تثبت لكثير من الصحابة رضوان الله عليهم كرامات أكرمهم الله بها. ومن راجع كتب الحديث وكتب السير يرى الشيء الكثير من الوقائع في هذا المعنى. وإذا كان ذلك كذلك فلا حاجة بنا إلى سرد قصص أو روايات لإثبات كرامات الأولياء من أقوال التابعين وتابعيهم ومن بعدهم إلى يوم الناس هذا ليقيني الذي لا يخالطه شك بأنهم أكثر تطلعاً إلى سماع النصوص منكم إلى سماع القصص والحكايات والروايات وهو موقف محمود تغبطون فيه ولله الحمد والمنة.
وبعد لعلى وصلت بهذه المحاولة إلى بيان التصور الصحيح في مسألة الأولياء وكراماتهم على ضوء الكتاب والسنة كي يتبين الحق من الباطل. والحق أبلج والباطل لجلج والحق وسط بين التفريط والإفراط.
" الموقف السليم من الأولياء "(16/263)
إذا كنا قد تحدثنا عن الأولياء والكرامات وأثبتنا الولاية بشكل واضح ودعمنا حديثنا بنصوص الكتاب والسنة. ثم أثبتنا الكرامات كذلك إثباتاً يعتمد على الكتاب والسنة، بقى أن نفهم ما هو الموقف السليم في معاملة الأولياء في نظر الإسلام؟ وقبل أن أجيب على هذا التساؤل استحسن أن أوضح السبب المثير لهذا التساؤل. وذلك هو موقف جمهور المسلمين المحزن من الأولياء وهو الغلو في الصالحين الذين يصل أحياناً إلى حد العبادة، بدعوى المحبة والتقدير، ومن يذهب إلى تلك الأضرحة المنتشرة في أكثر عواصم المسلمين ومدنهم يرى عدداً كبيراً من المسلمين معتكفين عند تلك الأضرحة ليتبركوا بها وبأصحابها وربما وصل هذا التبرك إلى حد الطواف بالضريح بل إلى حد السجود على عتبة الضريح والأدهى والأمر أن يجد هذا السادن الذي يسجد لغير الله ولا يلهج لسانه إلا بذكر صاحب الضريح من يفتى له بجواز ذلك وأنه ليس من باب الشرك وإنما هو من باب محبة الصالحين أو التوسل بهم. وهذا المفتى أو الفتان على الأصح معدود من علماء المسلمين المشار إليهم، والله المستعان وإليه المشتكى.
إنه لموقف خطير: العامي يقع في عبادة غير الله جهلاً والعالم يفتى بجواز ذلك ويجد له تفسيراً وتأويلاً وتخريجاً، وخطورته تأتي من حيث أصبح الولي نداً لله في هذا التصور وشريكاً له في استحقاق العبادة باسم المحبة أو التبرك بفتوى ممن ينتسبون إلى العلم ويجهلون حق الله على عباد الله. أعود فأقول: هذا الموقف وهذا التصور الذي يسود صفوف العوام وأشباه العوام هو الذي أثار تساؤلي:
ما هو الموقف السليم من الأولياء؟ ؟ ! !(16/264)
فأما الجواب عليه: أن الموقف السليم هو عدم الغلو فيهم مع عدم الجفاء والاستخفاف بهم وإيذائهم. بل الواجب محبتهم في الله وموالاتهم ولك أن تطلب منهم الدعاء في حياتهم ويسمى الاستشفاع بهم أو التوسل بهم. ويجب أن تفرق بين محبتهم في الله ومحبتهم مع الله. ومحبتهم في الله عمل صالح وأما محبتهم مع الله فعمل غير صالح بل هو يريد الشرك أو الشرك ذاته. ويختلف ذلك باختلاف ما يقوم بقلب العبد وسر التخبط لدى كثير من المسلمين والخلط في عباداتهم هو عدم التفريق بين الحقوق مما جعلهم سيصرفون كثيراً من حقوق الله على العباد للعباد أنفسهم.
" الحقوق الثلاثة "
إن الدارس لكتاب الله وسنة رسول الله والفاهم لمعنى كلمة التوحيد حق فهمها يستطيع أن يستنتج الحقوق الثلاثة التي يأتي شرحها، ومعرفة تلكم الحقوق تحدد للعبد طريق السير إلى الله والدعوة إليه على بصيرة قبل أن يخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، ويخرج عن الصراط المستقيم ويتخبط في بنيات الطريق.
1- حق الله على عباده وهو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً في عبادته. وذلك بعد تصور مفهوم العبادة بأوسع نطاقها. وقد وجه النبي عليه الصلاة والسلام سؤالاً إلى معاذ ذات مرة هكذا:"يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ " ولم يسع معاذاً إلا أن يقول: الله ورسوله أعلم فقال النبي عليه الصلاة والسلام- بعد أن أثار انتباهه ولعل ذلك هو المقصود من السؤال قال:"حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً "الحديث، وهو معنى قولنا أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له.
2- حق الرسول على أتباعه الذي يؤخذ من قولهم أشهد أن محمداً رسول الله وحقيقة ذلك محبة رسول الله عليه الصلاة والسلام المحبة الصادقة التي تثمر الطاعة والإتباع وعبادة الله بما جاء به فقط. وهو المعنى الذي يشير إليه الحديث الشريف "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده والناس أجمعين".(16/265)
3- حقوق عباد الله الصالحين تلك الحقوق التي نستطيع أن نستنتجها من قوله عليه الصلاة والسلام:"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه "وقوله عليه الصلاة والسلام "لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا".الحديث وقوله عليه والصلاة والسلام "من عادى لي ولياً فقد آذنته بحرب". وغير ذلك من النصوص الكثيرة.
فمعرفة هذه الحقوق، ثم إعطاء كل ذي حق حقه أمر له أهميته ولا سيما حق الله على عباده، تجب العناية به علماً وعملاً لأنه الغاية التي من أجلها خلق الإنسان والتقصير في هذه الغاية ذنب لا يغتفر إلا لمن تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً.
وهذا التقصير واقع من كثير من المسلمين- مع الأسف الشديد- وهو سر اختيارنا لهذه النقطة ضمن النقاط الثلاث. رجاء أن ننبه إلى هذا الخلط الشائع بين جمهور المسلمين من إدخال بعض الحقوق في بعض، وصرف كثير من حقوق رب العالمين لعباد الله الصالحين بدعوى محبتهم كنتيجة لهذا التقصير.
والله المستعان..
النقطة الثانية: الشفاعة:
فلفظ الشفاعة من الألفاظ التي تغير مفهومها عما كان عليه في عرف الصحابة ولغتهم: استشفع أو توسل بفلان أي طلب منه الدعاء لتقضى حاجته عند الله من إنزال المطر أو دفع الضر أو جلب المنفعة، فالإستشفاع بالنبي عليه الصلاة والسلام في حياته أو التوسل به هو طلب الدعاء منه، وهذا أمر لا نزاع فيه لدى الصحابة وأتباعهم. وقد كان الصحابة يستشفعون به في عدة مناسبات، مثل مناسبة القحط ليغيثهم الله بدعائه عليه الصلاة والسلام، وقد يأتي إليه من فقد بصره فيطلب منه الدعاء ليرد الله له بصره فيدعو له النبي عليه الصلاة والسلام ويأمر الأعمى أن يدعو الله ليجيب الله دعاء نبيه فيفعل الأعمى ما أمر به فيرد الله له بصره بدعائه عليه الصلاة والسلام وشفاعته وشفاعة الأعمى معاً. وقصة الأعمى معروفة لدى طلاب العلم.(16/266)
وقد كان الأعرابي يأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو يخطب خطبة الجمعة فيقول: يا رسول الله انقطعت السبل وهلكت الأموال ادع الله يغيثنا، فيرفع رسول الرحمة يديه إلى السماء فيدعو الله تعالى فيغيثهم الله، هذا وغيره يسمى شفاعة ويسمى توسلاً.
وقد تغير هذا المفهوم لدى كثير من الناس فترى أحدهم يدعو رسول الله عليه الصلاة والسلام أو يدعو عبداً صالحاً يطلب منه مالا يطلب إلا من الحي القيوم يطلب منه شفاء مريضه.. يطلب منه نزول المطر.. يطلب الولد إلى غير ذلك من المطالب.
وإذا قيل له في ذلك قال: هذا استشفاع أو توسل أو هذه محبة الصالحين فلنقارن بين المفهومين: الأعرابي يذهب إلى رسول الله في مسجده فيطلب منه الدعاء، فيقول في طلبه ادع الله يغيثنا والأعمى يتكلف الذهاب إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيطلب منه الدعاء ليرد الله له بصره.
أما اليوم: قد نرى من يجلس في منزله أينما كان منزله فيطلب نزول المطر أو رد الضالة أو غلبة العدو وما إلى ذلك من المطالب فيقول في طلبه أغثني يا رسول الله أغثنا يا جيلان. المدد يا حسين إلى غير ذلك من العبارات الوثنية التي صارت مألوفة لدى جماهير المسلمين وللأسف الشديد.
أولاً: لا يكلف نفسه بالذهاب إلى من يستشفع به أو يتوسل به.
ثانياً: يوجه الطلب للمخلوق دون الخالق ثم يسمى هذا الطلب توسلا أو استشفاعاً ولو حاولت توجيهه اتهمت بأنك لا تحب الصالحين وتنكر التوسل بهم بل ولا تحب رسول الله إلى أخر تلك العبارات التقليدية التي يرددها علماء السوء ومقلدوهم الذين حالوا بينهم وبين المفهوم الصحيح في كثير من المعاني الإسلامية عاملهم الله بما يستحقون. كم استغلوا جهل الناس وسذاجتهم وطيبة نفوسهم فصاروا لهم حجر عثرة في سبيل فهم الإسلام.
" المفهوم الصحيح للشفاعة "(16/267)
نعود فنقول: لا نزاع بين جمهور الأئمة من أهل السنة أنه يجوز أن يستشفع بالنبي عليه الصلاة والسلام في الدنيا في حياته كما سبق أن أشرنا إلى قصة الأعرابي وهي في صحيح مسلم. وقصة الأعمى المعروفة عند أهل السنن كما يشفع عليه الصلاة والسلام يوم القيامة لأهل الكبائر من أمته الذين استوجبوا النار ليدخلوا الجنة بشفاعته عليه الصلاة والسلام ولم ينكر هذه الشفاعة إلا الخوارج والمعتزلة بناء على أصلهم المعروف من أن صاحب الكبيرة مخلد في النار مع الكفار. وهو أصل باطل مصادم للنصوص كما لا يخفى، ومن أعظم الشفاعة لرسول الله عليه الصلاة والسلام شفاعته لأهل المحشر حين يعتذر أبو البشر وجميع أولي العزم من الرسل ويقول كل واحد منهم نفسي إن الله قد غضب اليوم غضباً لم يغضب من قبله مثله ولن يغضب بعده مثله: نفسي نفسي، في ذلك الموقف الرهيب يتقدم أهل المحشر إلى سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام فيطلبون منه الشفاعة عند الله، فيقول عليه الصلاة السلام أنا لها فيسجد تحت عرش الرحمن سجدة طويلة يثني فيها على الله ثناء ويحمده حمداً كثيراً ويفتح الله عليه من الثناء مالا يعلمه قبل ذلك كما صح عنه عليه الصلاة والسلام في أحاديث الشفاعة ثم يقال له يا محمد ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع فيرفع رأسه فيحد الله له حداً ويتكرر منه ذلك عدة مرات. وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام عند مسلم وأبي داود قوله:"أنا أول شافع وأول مشفع وأول من ينشق عنه القبر".(16/268)
وله صلى الله عليه وسلم: أنواع من الشفاعات في الآخرة كما ذكرنا أن له أنواعاً من الشفاعات في الدنيا ومعنى الشفاعة في كلتا الدارين لا يخرج عما ذكرنا من أنه طلب الدعاء ويلتقي معنى التوسل والشفاعة عند هذا المعنى بالذات كما اتضح مما تقدم. ومما يؤيد ما ذكرنا أن أصحاب رسول الله الذين رأيناهم يستشفعون برسول الله في حياته: رأيناهم مرة أخرى قد عدلوا عن التوسل والاستشفاع به عليه الصلاة والسلام بعد وفاته فجعلوا يتوسل بعضهم ببعض ويستشفع بعضهم ببعض:"ففي عام الرمادة أصيب أهل المدينة بجفاف فجمع عمر بن الخطاب المسلمين في صعيد واحد في المدينة فقال: اللهم إنا كنا إذا أجدينا نتوسل إليك بنبيك فتسقينا والآن نتوسل إليك بعم نبيك فاسقنا فطلب من العباس عم النبي الدعاء فدعا الله فأغاثهم الله ".
وهكذا فعل معاوية بن أبي سفيان مع الأسود بن اليزيد عندما أصيب المسلمون في الشام بالقحط جمع الناس فطلب من الأسود بن اليزيد أن يدعو الله تعالى فدعا الله تعالى فأجاب دعاءه فأغاثهم الله تعالى ولو كان معنى التوسل عندهم كما يظن هؤلاء العوام وأشباههم من الذهاب إلى قبور الصاحين أو المراد بالتوسل بالصالحين هو التوسل بذواتهم لما عدلوا عنه عليه الصلاة والسلام بل لذهبوا إلى قبره فدعوا الله عند قبره أو توسلوا بذاته لأن جسده الطاهر لا يزال في قبره لأن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسام الأنبياء كما صح ذلك عنه عليه الصلاة والسلام.(16/269)
فعدولهم رضوان الله عليهم عنه واستشفاع بعضهم ببعض يؤيد ما قررنا من أن معنى الاستشفاع أو التوسل هو طلب الدعاء من الحي الصالح. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في صدد حديثه في هذا المعنى: "يقول العلماء يستحب أن يستسقى بأهل الدين والصلاح. وإذا كان بأهل بيت الرسول فهو أحسن"كأن شيخ الإسلام يشير على صنيع عمر مع العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام حيث استسقى به لأنه عم النبي عليه الصلاة والسلام كان سر اختياره كونه من أهل بيت الرسول.
" وبعد "
فلو درس المسلمون حياة الصحابة وعرفهم واصطلاحاتهم بل ولغتهم ثم حاولوا أن يطبقوا حياتهم على حياة أولئك السادة لساعدهم ذلك على تصور هذه المعاني التي ساءت فيها مفاهيمهم وأخذوا يخلطون عملاً صالحاً وآخر سيئاً ويتخبطون في عباداتهم وجميع أعمالهم لأن القوم قد باشروا الوحي وأخذوا الإسلام غضاً طرياً عن صاحب الرسالة محمد عليه الصلاة والسلام.
ولا يخالطنا أدنى شك في أن الصحابة فهموا هذا الدين فهماً لا مزيد عليه وانحصر الحق فيما فهموه ثم لا يخالطنا أدنى شك بأنهم بلغوه لمن بعدهم كما فهموا وهكذا الذين يلونهم ثم الذين يلونهم بالجملة إلى آخر القرون المفضلة الذين شهد لهم بالخيرية الصادق المصدوق محمد عليه الصلاة والسلام حيث يقول:"خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" الحديث. وأخيراً طرأ على المفاهيم والتصورات ما طرأ فساءت المفاهيم وتغيرت التصورات وحدثت تصورات لا وجود لها عند المسلمين الأولين في عهد الوحي وفي الذين يلونهم ليصدق قوله عليه الصلاة والسلام "ما من عام إلا والذي بعده شر منه".. والله المستعان.(16/270)
ولعل المستمع الكريم استطاع أن يسايرني فيما أردت من بيان المفهوم الصحيح والمفهوم الخاطىء في باب الشفاعة والتوسل، وأنهما بمعنى واحد- ولا يعدوا معناهما طلب الدعاء من الحي الذي يدعو، وأن الخروج بهما عن هذا الإطار إلى دعوة غير الله وما في معناها من أنواع العبادة فمفهوم غير سليم، هذا ملخص ما أردنا أن نقوله في هذه النقطة وإلى النقطة الثالثة والأخيرة بعون الله تعالى.
" السنة النبوية "
أيها الإخوة هكذا نصل إلى النقطة الثالثة من النقاط الثلاث المختارة لحديثنا هذه المرة وهي السنة النبوية. مما لا يختلف فيه اثنان إن ديننا الإسلامي مبني على أصلين اثنين:
الأصل الأول: أن يعبد الله وحده دون أن يشرك به غيره. وهو معنى قولنا أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له.
والأصل الثاني: أن يعبد الله بما شرعه على لسان رسوله وخليله محمد عليه الصلاة والسلام وهو معنى قولنا: أشهد أن محمداً رسول الله.(16/271)
وصحة الأصل الأول تتوقف على تحقيق الأصل الثاني. ويمكن أن نوجز معنى تحقيقه في صدق متابعة رسول الله عليه الصلاة السلام لأن اتبعاه دليل محبة الله عز وجل الذي محبته والأنس به ومراقبته غاية سعي العبد وكده وهي أيضاً جالبة لمحبة الرب عبده ومغفرته له إذ يقول الرب تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ذلك لأنه رسوله المختار ليبلغ عنه دينه الذي شرعه لعباده، وهو المبلغ عنه أمره ونهيه وتحليله وتحريمه، فالحلال ما حلله، والحرام ما حرمه والدين ما شرعه. والرسول واسطة بين الله وبين عباده في بيان التشريع وما يترتب عليه من وعده ووعيده. وتبليغ وحيه الذي اشتمل على ذلك كله. قرآناً وسنة. وقد كلف بذلك بقوله تعالى {بَلِّغْ} وبقوله {لِتُبَيِّنَ} وبقوله {ادْعُ} إذ يقول الرب عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} .. {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ} .. {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} .. {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} الآية.
إن هذه الآي من الذكر الحكيم تعلن بوضوح وظيفة الرسول عليه الصلاة والسلام وهي التبليغ والبيان والدعوة إلى الله إلى دينه وشريعته، وهذه الأوامر الربانية الثلاثة تحقق غرضاً واحداً وهو دلالة الخلق على الطريق الموصل إلى الخالق وهو راض عنهم حتى يكرمهم في دار كرامته لقاء ما قاموا به من أداء التكاليف في هذه الدار حتى يصدق في حقه عليه الصلاة والسلام {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} .(16/272)
إنه والله رحمة مهداة ونعمة مسداة ولكن الشأن كل الشأن هل رفع أتباعه رؤوسهم لدراسة سنته كما يجب - مكتفين بها ومتجردين لها- تلك السنة التي هي ذلكم البيان وذلك البلاغ وتلكم الدعوة؟.
هذا هو موضع بحثنا من هذه النقطة؟ ! ولا يشك مسلم ما مهما انحطت منزلته العلمية وضعفت ثقافته وضحلت معرفته أن الرسول الكريم بلغ ما نزل إليه وهو القرآن وذلك لأن الإيمان بأن الله نزل القرآن على محمد عليه الصلاة والسلام. وأنه بلغه كما نزل وأنه بين للناس ما يحتاج إلى البيان وأنه دعا الناس إلى سبيل الله ولم يفتر عن الدعوة إلى الله حتى التحق بالرفيق الأعلى.
إن هذا المقدار من الإيمان من أصول هذا الدين وأساسه الذي ينبني عليه كل ما بعده. إذا كنا نؤمن هذا الإيمان - ويجب أن نؤمن - فأين نجد بيانه الذي به يتحقق امتثاله عليه الصلاة والسلام لتلك الأوامر {بَلِّغْ} {لِتُبَيِّنَ} {ادْعُ} الجواب نجد ذلك في سنته المطهرة التي قيض الله لها من شاء من عبادة فصانوها وحفظوها من كل قول مختلق وكل معنى مزيف، ليصدق قوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} والذكر المنزل المحفوظ هو القرآن في الدرجة الأولى وتدخل السنة في الدرجة الثانية عند التحقيق وإمعان النظر! !
وهذه السنة التي يتم بها البيان المطلوب هي أقواله وأفعاله وتقريراته.
" الآحاد والمتواتر "(16/273)
في أثناء الفتوحات الإسلامية الواسعة دخلت على المسلمين اصطلاحات أجنبية بواسطة الكتب اليونانية التي ترجمت إلى اللغة العربية في عدة علوم ومن أخطرها علم المنطق والفلسفة، فدخلت تلكم البحوث والاصطلاحات في الإلهيات، فأفسدت على الناس جوانب خطيرة من عقيدتهم لأنها وجدت تشجيعاً رسمياً ودعماً قوياً من الخلفاء المعاصرين وفي مقدمتهم المأمون العباسي الذي تعرفون موقفه من كبار علماء المسلمين والأئمة البارزين كالإمام أحمد بن حنبل، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في صدد حديثه عن موقف المأمون:"ما أظن الله غافلاً عما فعل المأمون بعقيدة المسلمين ".
ومن تلكم الاصطلاحات الغربية والدخيلة تقسيم الأحاديث النبوية إلى ظنية وقطعية كخطوة أولى في سحب ثقة المسلمين من أحاديث نبيهم.(16/274)
فزعموا أن الآحاد من الأحاديث لا تقيد العلم ولا يجوز الاستدلال بها في باب العقيدة، وإنما يستدل في هذا الباب بالأدلة القطعية، وهي الأحاديث المتواترة أو الآيات القرآنية، وقد انطلى- وللأسف الشديد- على علماء الكلام هذا القول المزخرف لضعف بضاعتهم في علوم السنة وانشغالهم بالاصطلاحات الكلامية عن الكتاب والسنة، ثم جعل المتأخرون من علماء الأصول يتناقلون فيما بينهم هذا الاصطلاح وهذه الدعوى مما جعل جمهور الخلف يعتقد هذا الاعتقاد، وظن الناس أن هذا هو معتقد المسلمين سلفاً وخلفاً. وخشية أن يفطن بعض الحذاق لهذا الخداع المقنع خطوا خطوة أخرى كذر للرماد في العيون. فقالوا قولة حق أرادوا بها الباطل وهي قولتهم المشهورة "أن طريقة السلف أسلم"وأوهموا الناس أن طريقة السلف مجرد سرد النصوص دون فهم لمعانيها حتى أطلق عليها بعضهم "أنها طريقة العوام"وأما الطريقة المثلي التي فيها التحقيق والتدقيق هي طريقة الخلف، ولما هدأوا الجمهور بعباراتهم تلك مضوا في طريقهم في إفساد عقيدة المسلمين وإبعادهم عن سنة نبيهم ولم يقف القوم عند هذا الحد بل خطوا خطوة أخرى أخطر من التي قبلها إذ قالوا: إن باب العقيدة باب خطير ومبحث هذا الباب أساس في الإسلام فلا ينبغي أن يستدل فيه إلا بدليل قطعي لا يتطرق إليه النسخ ولا يخضع للتخصيص أو التقييد. ألا وهو الدليل العقلي هذه هي الغاية في تدرجهم، وأنت ترى أن مفهوم الدليل القطعي قد تغير، فبينما كان المراد به في الخطوة الأولى الأحاديث المتواترة أو الآيات القرآنية فإذا يراد به هنا الدليل العقلي فقط. وأما الأدلة اللفظية أو النقلية قرآناً وسنة فلا تنهض للاستدلال بها استقلالاً في هذا الباب. وإنما يستأنس بها إن وافقت الأدلة العقلية القطعية. هكذا تدرج القوم في أسلوبهم إلى أن عزلوا نصوص الكتاب والسنة عن وظيفتها وهي هداية الناس {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} والسنة مثل(16/275)
القرآن في الهداية "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما. كتاب الله وسنتي"، "لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: لا أدري!! ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" رواه الترمذي، وفي لفظ "ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا وإن ما حرمه الرسول مثل ما حرمه الله" أو كما قال..
وعلى الرغم من هذا النصوص وغيرها من النصوص التي تصرخ بأعلى صوتها بأن الهداية كل الهداية والخير كل الخير في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وفي سنة رسوله المبينة للقرآن المفصلة ما أجمل فيه المقيدة لإطلاقه على الرغم من ذلك كله قد التمس القوم الهدى في غير وحي الله فأضلهم الله عقوبة لإعراضهم عنه واستخفافهم بشرعه. وفي حديث على بن أبي طالب عند الترمذي في وصف القرآن "من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله".
وإذا ما عزلت النصوص كما رأينا. ولم تعد تصلح للاستدلال بها على سبيل الاستقلال فلم يبق إلا أن يرجع الناس إلى ما كانوا عليه قبل الوحي وهو التحاكم إلى العقول فنتيجة لذلك خاضوا بعقولهم في المطالب الإلهية فتكلموا في صفات الله فاختلفت العقول وتنازعت- ولا بد أن تتنازع- فافترقوا فرقاً مختلفة يضلل بعضهم بعضاً بل ربما كفر بعضهم بعضاً وكلهم على غير هدى طبعاً على تفاوت في ضلالهم.
1- فريق يثبت بعض الصفات وينفى البعض الآخر بدعوى أن ذلك مقتضى العقل وبعبارة صريحة: إن عقول الأشاعرة والماتريدية تثبت صفات الذات كالقدرة والإرادة والعلم مثلا. وترى وجوب تأويل صفات الأفعال كالرحمة والمحبة والغضب والاستواء على العرش وغيرها من صفات الأفعال. هذا مقتضى عقول الأشاعرة وأتباعهم.(16/276)
2- أما المعتزلة فقد انقسموا على أنفسهم فافترقوا عدة فرق فأقربهم من يثبت الأسماء مع نفي الصفات مع ملاحظة أن أسماء الله عندهم كالأسماء الجامدة التي لا تدل على المعاني ومن غلاتهم من ينفى الصفات والأسماء معاً ولا يثبتون إلا ذاتاً مجردة من الأسماء والصفات حتى أصبح وجود الله عندهم وجوداً ذهنياً فقط، ولا يتصور وجوده في الخارج.
هذا ما نتج من ذلك التصرف والتلاعب بالنصوص بل عزلها عن وظائفها كما قلنا سابقاً وفي النهاية استولت عليهم الحيرة واستوحشوا مع أنفسهم بعد أن فقدوا الأنس بالله، ومهما تستر القوم بما أبدوا من تعظيم مبحث العقيدة بتلكم العبارات المعسولة التي سبق ذكرها والتي لا تنطلي إلا على من يجهل القوم على صورتهم الحقيقية، فقد انجلى لكم دارس فاهم ما انتهى إليه أمرهم فاسمعوا معي ما قال بعض فطاحلتهم متندمين في آخر جولاتهم في علم الكلام والفلسفة ولعل الله ختم لهم بالتوبة النصوح وحسن الخاتمة يقول الرازي متندماً وواصفاً لحياة علماء الكلام:
وغاية سعي العالمين ضلال
1- نهاية أقدام العقول عقال
وحاصل دنيانا أذى ووبال
2- وأرواحنا في وحشة من جسومنا
سوى أن جمعنا فيه: قيل وقالوا
3- ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
إلى أن قال:"لقد تأملت الطرق الكلامية والمفاهيم الفلسفية، ما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّب} وأقرأ في النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} ، ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي ". ويقول الشهرستاني هو الآخر:"إنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم حيث يقول:
وسيرت طرفي بين تلك المعالم
لعمري لقد طفت المعاهد كلها(16/277)
على ذقن أو قارعاً سن نادم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر
وثالثهم أبو المعالي الجويني يقول:"يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به. وقال عند موته: لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني وهأناذا أموت على عقيدة أمي أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور" (يعنى الفطرة) .
ويحكى عن بعض تلامذة فخر الدين الرازي:"واسمه شمس الدين الخسر وشاهي يحكى عنه أنه قال لبعض الفضلاء وقد دخل عليه يوماً: ما تعتقد؟ قال: ما يعتقده المسلمون فقال الخسر وشاهي: وأنت منشرح الصدر لذلك ومستيقن به؟ فقال: نعم فقال: اشكر الله على هذه النعمة، ولكني والله ما أدري ما أعتقد. والله ما أدري ما أعتقد. والله ما أدري ما أعتقد ثلاث مرات وبكى حتى أخضل لحيته"، ثم لنسمع الأبيات الآتية: لابن أبي الحديد الفاضل المعروف بالعراقي وهو يذم علم الفلسفة ويرى أن تسميتهم إياه بالنظر غير صحيحة فلنسمع نص كلامه:
حار أمري وانقضى عمري
فيك يا أغلوطة الفكر
ربحت إلا أذى السفر
سافرت فيك العقول فما
أنك المعروف بالنظر
فلا حيا الله الأولى زعموا
خارج عن قوة البشر
كذبوا أن الذي ذكروا
ونختتم هذه النقول بحكايتين قصيرتين ولكنهما خطيرتان:(16/278)
إحداهما يروى عن بعضهم: وهو (الخوفجي) أنه قال عند موته:"ما عرفت مما حصلت شيئاً سوى أن الممكن يفتقر إلى المرجح. ثم قال: الافتقار وصف سلبي أموت وما عرفت شيئاً"هكذا نتركها دون تعليق لننقل لكم الحكاية الثانية والأخيرة، وقد تحاشى الرواة ذكر اسم هذا الأخير لأمر ما وهو يقول:"أضطجع على فراشي وأضع اللحفة على وجهي، وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ولم يترجح عندي منها شيء" ويقول شارح الطحاوية:"وهو يعلق على أصحاب هذه النقول بصفة عامة والأخيرتين بصفة خاصة: يقول:"ومن وصل إلى مثل هذه الحال إن لم يتداركه الله برحمته وإلا تزندق، كما قال أبو يوسف: من طلب الدين بالكلام تزندق ".
ومسك الختام لهذه النقول: كلام لإمام من أئمة الهدى الإمام الشافعي عرف القوم وعرف فيهم ما لا يظن وجوده عندهم فلنسمع ماذا يقول الإمام:"لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلماً يقوله، ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله- خير له من أن يبتلى بالكلام " [1] .
وبعد: لعلي لست بحاجة إلى التعليق على هذه النقول المختلفة، بعد أن أعلن علماء الكلام أنفسهم ممثلين في أئمتهم الذين يحتجون بكلامهم بأنهم ليسوا على شيء وأنهم فضوا أعمارهم فيما لا طائل تحته بل في كلام بعيد عن علوم المسلمين ثم توج إعلانهم ذلك كلام الإمام الشافعي الذي سمعناه ولكن الذي يهمنا في المقام أن ندرك أن تلك المحاولة الجهمية الجهنمية التي قام بها علماء الكلام والتي سبق أن تحدثنا عنها والتي قدمت للمسلمين السذج بأسلوب خداع أظهر تعظيم شأن العقيدة أن تلك المحاولة هي التي نجحت - وللأسف وانتجت هذا الموقف الخطير على عقيدة المسلمين.
"ما هو الموقف السليم "
إذا أثبتنا أن ما ذهب إليه علماء الكلام وتبعهم فيه قوم آخرون أنه غير سليم لابد أن يطرح هنا هذا السؤال: ما هو الموقف السليم إذاً؟ ؟ !..(16/279)
الجواب: بديهي أن الموقف السليم هو ذلك الذي كان عليه الرعيل الأول قبل أن يوجد علم الكلام بفروعه المتعددة.
وتوضيح ذلك أن السنة مثل القرآن في الاستدلال بها فيستدل بالسنة في كل مقام يستدل فيه بالقرآن، ولا يشترط لذلك إلا صحة الثبوت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام ولا فرق بين متواترها وآحادها من حيث الاستدلال بالجملة وكل ما في الأمر أنه يقدم المتواتر على الآحاد في حالة التعارض كما يقدم الصحيح على الحسن عند التعارض وهذا معروف لدى طلاب العلم.
أما القول بأنه لا يستدل بالآحاد في باب العقيدة أو لا يستدل بالأدلة النقلية على وجه الاستقلال في هذا الباب فقول مبتدع في الإسلام.
ولنبرهن على صحة ما قررنا نذكر ما كان عليه الرسول عليه الصلاة والسلام وخلفاؤه من عدم اعتبار هذه الاعتبارات المحدثة التي أحدثها من أحدثها ليلبسوا بها على المسلمين السذج الذين لا يفرقون بين الشحم والورم وبين التمرة والجمرة.
1- بعث رسول الله معاذ بن جبل إلى اليمن ليدعوهم إلى الله ويبلغهم عن رسول الله وكان باليمن جماعة من أهل الكتاب: اليهود فأرشده النبي عليه الصلاة والسلام كيف يعاملهم: وأمره أن يكون أول ما يدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله فإن هم أطاعوه في ذلك يخبرهم بأن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة الحديث:(16/280)
ومما يلاحظ أن معاذاً كلف ليدعوهم إلى أصول الدين وفروعه معاً وهذا يعنى أن الإسلام لا يفرق بين باب العقيدة والأحكام فكما يجوز أن يبلغ فرد واحد الأحكام الشرعية كذلك يجوز أن يبلغ فرد واحد العقيدة الإسلامية فحيث تقبل أخبار الجماعة يقبل خبر الواحد العدل هذا ما درج عليه سلف هذه الأمة فرسل رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى اليمن كأبي موسى الأشعري وعلي بن أبي طالب ورسله إلى غير اليمن وجميع دعاة الإسلام من يزوغ فجر الإسلام إلى يومنا هذا كانوا يدعون إلى الله أفراداً وجماعات ويبلغ بعضهم عن بعض ولا يعلم لهذا الاصطلاح ذكر في الأوساط الإسلامية فيما نعلم وإذا كان كذلك فلا يكون اليوم ديناً ما لم يكن ديناً في عهد الوحي وما لم يعرفه أولئك السادة من الصحابة والتابعين الذين نقلوا الدين إلى من بعدهم ممثلاً في القرآن والسنة المطهرة. ليتضح أن هذا التصرف باطل من القول وما ترتب عليه من الأحكام التي منها التفريق بين الصفات الثابتة بالآحاد والثابتة بالمتواتر أو القرآن. والقول أن المعول عليه هو الدليل العقلي. وأما النقلي فتابع له إن وافق قبل وإلا رد كل ذلك تصرف محدث في الدين وقول في شريعة الله بلا هدى ولا دليل منير. وكل ما كان كذلك يجب رده صوناً للشريعة وحفظاً للعقيدة..(16/281)
وبعد: فليس بعجب أن يصاب هؤلاء العلماء الذين تحدثنا عنهم بذلك المرض- مرض علم الكلام- في تلك العصور الخالية. ثم يتوب الله عليهم فيتوبوا لأن المرض الغريب المعدي الطارىء قد ينتشر بين الناس قبل أن تعرف أعراضه لجهل الناس بحقيقته حتى يقابل بالوقاية أولاً ثم بالعلاج إذا نزل، ولكن العجيب المثير أن يعرف المرض ويصاب به من شاء الله من عباده. ثم ينزل الله الشفاء على من شاء منهم فيزول البأس فيصف أولئك المرضى- بعد أن عافاهم الله- خطورة ذلك المرض وسوء حالهم ووحشتهم عند ما كانوا مصابين به ثم ينشطوا في تحذير الناس من التعرض لأسبابه وينصحوا بالابتعاد عنه واستعمال الوقاية ضده، وبعد هذا كله يتعرض بعض الناس لهذا المرض فيصاب به عدد كبير من شباب المسلمين.. ويعيش هؤلاء المرضى بين الأصحاء مختلطين بهم وهم لا يشعرون أنهم مرضى ومن عرف منهم أنه مريض يتجاهل مرضه ويخفيه.
هذا هو حال علم الكلام وعلماء الكلام ومثلهم أصيب الفخر الرازي والإمام الجويني والشهرستاني والغزالي وغيرهم من كبار علماء المسلمين بداء الكلام. وفي نهاية المطاف أدركوا أنهم قضوا أعمارهم فيما لا طائل تحته، وأن علم الكلام حال بينهم وبين النظر في كتاب الله وسنة نبيه والانتفاع بهما ثم تاب الله عليهم فتابوا وألفوا كتباً تدل على توبتهم أو نشروا مقالات أو أبياتاً تدل على أنهم تابوا ومما كتبه الرازي في توبته كتابه المعروف (أقسام اللذات) .
كما كتب الإمام الجويني بعد توبته رسالته المشهورة (الرسالة النظامية) .
وقد كتب الشهرستاني وهو ثالثهم كتاباً أبدى فيه ندمه البالغ وهو (نهاية أقدام العقول) .
وأما الإمام الغزالي فقد كتب كتاباً ينصح فيه العوام وأشباههم عن الخوض في علم الكلام. سماه (إلجام العوام عن علم الكلام) .(16/282)
وبعد هذه التوبة المعلنة من هؤلاء الأئمة المجربين ونصحهم للناس ألا يقربوا علم الكلام بعد هذا كله أتى أناس أدخلوا هذا العلم في معاهد وجامعات إسلامية بعد تغيير العنوان أو الاسم فقط مع بقاء الحقائق كما كانت فسموه (مادة التوحيد) أو (مادة العقيدة) لا توحيد ولا عقيدة اللهم إلا ما كان من توحيد الربوبية الذي لم يجهله أحد من بني آدم عبر التاريخ الطويل اللهم إلا ما كان من الشيوعيين الجدد في الآونة الأخيرة. من إنكارهم لوجود الله متجاهلين ومعاندين. ذلك التجاهل الذي قد تمليه أحياناً أوضاع سياسية واقتصادية. حيث تنكر وجود الله بعض الجهات فترة من الزمن ليكون ذلك الإنكار ثمنا لأسلحة سوفييتية متطورة.
وإذا ولت السياسة وجهها شطر الغرب اختفى الإلحاد وارتفع الإنكار ولو مؤقتاً كنتيجة لضعف الإيمان باليقين- والله المستعان.
أما توحيد العبادة قال ذكر له إلا ما كان بالاستطراد. وأما توحيد الأسماء والصفات فقد صار مفهوم التوحيد في هذا القسم نفي الصفات كلها أو بعضها.
ولا أستثنى من هذه المعاهد والجامعات إلا المعاهد والجامعات السعودية التي يرجع الفضل في سلامتها من هذا الوباء- بعد الله- لدعوة محمد بن عبد الوهاب جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير ما جزى به المصلحين. وقد وقفت هذه الدعوة المباركة سداً منيعاً أمام تيار الإلحاد والفساد وما انحرف عن الاعتقاد. ولا تزال كذلك وقد صان الله بها عقيدة شباب هذا البلد الطيب ومن هاجر إليه أو طلب العلم في معاهده وجامعاته من الانزلاق في تلك المزالق كما هو معروف لدى الحضور ومما يبشر بالخير أن بعض المعاهد والجامعات في بعض الدول الإسلامية أخذت تنهج منهجاً سلفياً في دارسة القعيدة على قلتها، وجلها من الجامعات الأهلية. ويحق لنا أن نقول "أول الغيث القطر ثم ينهمر".. ولله الحمد والمنة.(16/283)
فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يحفظ علينا ديننا وعقيدتنا ويختم لنا بحسن الخاتمة من هذه الحياة. أنه سميع مجيب الدعاء.
وصلاة الله وسلامه إلى نبيه ومصطفاه محمد وآله وصحبه..
محمد أمان بن علي الجامي
كلية الحديث الشريف - والدراسات الإسلامية
--------------------------------------------------------------------------------
[1] شرح الطحاوية ص 227 – 229.(16/284)
مفهوم الربوبية
(الحلقة الثانية)
بقلم سعد ندا - مركز شئون الدعوة الإسلامية بالجامعة الإسلامية
قتال المقتصرين على توحيد الربوبية:
انتهيت في الحلقة الأولى إلى الاقتصار على الإقرار بتوحيد الربوبية لا يعصم الدم ولا المال- ودليل ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل المشركين الذين اقتصروا على الإقرار بتوحيد الربوبية، ودعاهم إلى الإقرار بتوحيد الألوهية ليجردوا العبادة لله وحده - كما قال سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [1] وكما قال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} [2] .
وما كان قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء المشركين إلا ليكون الدعاء كله لله، ولاستعانة كلها بالله والاستغاثة كلها بالله، والتوكل كله على الله، والخوف كله من الله، والرغبة كلها إلى الله، والرهبة كلها من الله، والذبح كله لله، والنذر كله لله، وجميع أنواع العبادات كلها لله وحده لا شريك له.
ذلك أن من يقصر توحيده على إفراد الله تعالى في ربوبيته فحسب، يعتبر مشركاً، حتى يقر بتفرد الله غز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، ويقر بناء على اعترافه بخالقه المتصف بكل صفات الكمال والمنزه عن كل صفات النقص- بتفرده تعالى في ألوهيته، وبأن العبادات لا تصرف لأحد سواه، ثم يتبع هذا الإقرار باللسان- مما استقر في القلب- بالعمل، لأن القول وحده لا يكفى ولا يغنى شيئاً، وقد حذرنا الله تعالى من ذلك فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ؟ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [3] .(16/285)
وبقدر ما ينقص العبد من أنواع التوحيد، بقدر ما يحل في قلبه من أنواع الشرك بمقدار ما ينقص، ومن ثم فإن المقتصر على توحيد الربوبية لا يعتبر موحداً بل يعد مشركاً..
ولا غرابة في أن يختلط الإيمان بالشرك في قلب العبد، فالله تعالى قد أشار إلى ذلك في قوله {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [4] وفي قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [5] .
فمن الناس من يؤمن في جانب ويشرك في جانب، والشرك في أي نوع من أنواع التوحيد مبطل للعمل الملابس له. يقول تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [6] ، كما أن المشرك ما لم يتب من شركه يحرم الجنة، لأنه ظالم، يقول تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [7] ، ويقول: {نَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [8] .
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاتل المشركين من العرب الذين اقتصروا على الإقرار بتوحيد الربوبية، لأنهم بإقرارهم هذا لم يصبحوا موحدين معصومي الدم والمال، فإنه من باب أولى ينبغي قتال من لا يقرون بالربوبية إطلاقاً، مثل الملاحدة كالشيوعيين والطبيعيين والدهريين ومن على شاكلتهم في أي زمن يكونون، وبأي اسم يتسمون.
ولكن القتال للمقتصرين على توحيد الربوبية وعلى منكريها لا يكون إلا بعد بيان الحق ودليله مما قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، ودعوتهم إليه فترة يبين بعدها أنهم يردون الحق ويأبون قبوله.(16/286)
وقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو المشركين من أهل مكة الذين كانوا قد أقروا بتوحيد الربوبية ثلاثة عشر عاماً لينقلهم من الاقتصار على إقرارهم بتوحيد الربوبية إلى الإقرار بتوحيد الألوهية وإفراد الله تعالى بالعبادة لتصح أعمالهم وتقبل، فمنهم من هدى الله، ومنهم من حقت عليه الضلالة مصراً على قوله: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [9] . وقوله: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [10] . فأذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يترك وطنه الذي نشأ فيه وأحبه وتمنى لو استمر مقامه فيه، لأن أغلب القوم فيه لم يستجيبوا له في إخلاص العبادة لله وحده، وبقيت آلهتهم التي يرفعون إليها عباداتهم قائمة ماثلة بينهم في الوجود وفي القلوب ينحتونها بمعاولهم، ويصنعونها بأيديهم، ثم يرفعون نفس هذه الأيدي، لتلك الآلهة التي أنتجوها، يدعونها، ويرجونها، ويستعينون بها ويستغيثون، ويذبحون لها وينذرون، ويخافون منها، ويطمعون فيما يتصورون لديها من عطاء، ويذلون لها، ويخضعون عندها.(16/287)
أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ومن آمن به بالهجرة من الوطن الحبيب الذي لم يسد فيه تجريد العبادة لله تعالى بين أغلب قومه إلى المدينة المنورة حيث سهل في فترة وجيزة أن يعمها التوحيد الخالص. أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم في تكوين الدولة الإسلامية الأولى مؤسساً إياها على عقيدة التوحيد فخرج بها أبطالاً، وقواداً، ومثلاً عليا، ورواداً أوائل، وأمة كانت جديرة بأن يصفها الله تعالى بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [11] وبقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [12] – ولم يعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليطهر قومها من أرجاسهم إلا فاتحاً في العام الثامن من الهجرة.(16/288)
وأما المشركون في مكة فقد استمروا عاكفين على أصنامهم - التي بلغت ثلاثمائة وستين صنماً ماثلة حول الكعبة طيلة إحدى وعشرين سنة من بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، منها ثلاث عشرة سنة مدة بقائه مبتعثاً في مكة، وثماني سنوات مهاجراً في المدينة. ولما شاء الله بالفتح انطلق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الأبطال إلى مكة في عام ثمان من الهجرة، فدخل البيت وأخذ يطعن الأصنام في عيونها بقوس في يده ويقول: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} ، {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} والأصنام التي كانت مثبتة بالحديد والرصاص تتساقط على وجوهها - ثم دخل الرسول صلى الله عليه وسلم الكعبة، فرأى صورة إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام- فقال:"قاتلهم الله - أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بهما قط" فأمر بالصورة - مع آلهة داخل البيت - فأخرجت كما رأى بالكعبة حمامة من عيدان فكسرها صلى الله عليه وسلم بيده - ثم بث صلوات الله وسلامه عليه سراياه إلى الأوثان التي كانت حول الكعبة فكسرت كلها منها اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى - كما أمر منادياً ينادي بمكة "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلا كسره" [13] وبهذا حطم صلى الله عليه وسلم الوثنيات من الوجود ومن القلوب، وطهر حياة الناس من الشركيات والأرجاس، ونادى أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله"- فبدأ القوم - إلا من لم يرد الله أن يهديه - ينتقلون من الإقرار بتوحيد الربوبية إلا توحيد الألوهية وإفراد الله تعالى وحده بكل عباداتهم.(16/289)
ومن ثم يبدو أن الرسول صلى الله عليه وسلم استمر إحدى وعشرين سنة معادياً لمشركي مكة، ومبغضاً لهم ومخاصماً - مع دعوتهم لتوحيد العبادة مدة ثلاثة عشر عاماً - وحتى السنة الثامنة من الهجرة، وكان الفتح، ووحد المعاندون، فانقلبت العداوة محبة، والبغضاء مودة، والخصام ألفة، وأصبحوا بنعمة الله إخواناً.
وما كان قيام العداوة والبغضاء بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين إلا تنفيذاً لأمر الله جل وعلا في الإقتداء بإبراهيم عليه السلام ومن معه في قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [14] .
وقد أسلفنا القول بأن المقتصر على توحيد الربوبية مشرك لا يعصم دمه وماله، بيد أنه يبين له الحق بالدليل لينتقل إلى توحيد العبادة لله تعالى فترة يتأكد فيها قبوله الحق أو رده، فإن رده قوتل كما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين.(16/290)
يقول الإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني في جهاد المشركين: [15] " فإن قلت: فإذا كانوا مشركين وجب جهادهم، والسلوك فيهم ما سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشركين (أي من قتال وأسر وقتل واستتابة) قلت إلى هذا ذهب طائفة من أئمة العلم، فقالوا: يجب أولاً دعاؤهم إلى التوحيد، وإبانة أن ما يعتقدونه ينفع ويضر، لا يغني عنهم من الله شيئاً، وأنهم أمثالهم، وأن هذا الاعتقاد منهم فبهم شرك لا يتم الإيمان بما جاءت به الرسل إلا بتركه والتوبة منه، وإفراد التوحيد- اعتقاداً وعملاً - لله وحده وهذا واجب على العلماء. أي بيان أن ذلك الاعتقاد الذي تفرعت عنه النذور والنحائر والطواف بالقبور شرك محرم، وأنه عين ما كان يفعله المشركون لأصنامهم- فإذا أبان العلماء ذلك للائمة والملوك، وجب على الأئمة والملوك بعث دعاة إلى الناس يدعونهم إلى إخلاص التوحيد لله فمن رجع وأقر حقن عليه دمه وماله وذراريه، ومن أصر فقد أباح الله منه ما أباح لرسوله صلى الله عليه وسلم من المشركين "- وهكذا ينبغي أن يكون موقف الموحد من المشرك المقتصر على توحيد الربوبية كما كان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من المشركين.
هل يقع في الربوبية شرك؟
والشرك يقع في الربوبية على النحو التالي:
أن الرب هو الملك: وأصل الملك هو الربط والشد - واملاك المرأة ربطها بزوجها - والملك هو النافذ في ملكه. وليس كل مالك ينفذ أمره وتصرفه فيما يملكه فالملك أعم من المالك. والله تعالى المالك المطلق المالكية على المالكين [16] جميعاً، وسيادته وسلطانه عليه جميعاً. فمن يعتقد أن لمخلوق ما ملكاً وسيادة وسلطاناً على الإطلاق بالا حدود، فقد أشرك في الربوبية مع الله تعالى- لذا يقول سبحانه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ} [17] ويقول: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [18] .(16/291)
والرب وهو الخالق: وأصل الخلق التقدير - وقال تعالى: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} [19] أي تقدرونه وتهيئونه - ومنه يقال: حديث مختلق: أي قدر تقدير الصدق، وهو كذب- فالخلق في اسم الله تعالى: وهو ابتداء تقدير النشء- فالله تعالى خالقها ومنشئها، وهو متممها ومدبرها [20] {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [21] .
فمن يعتقد أن هناك من يخلق شيئاً غير الله سبحانه، فقد أشرك في الربوبية مع الله تعالى- لذلك يقول سبحانه {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [22] ، ويقول: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [23] ، ويقول: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [24] ؟ ويقول: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} [25] ؟
والرب هو البارىء: يقال برأ الله الخلق- فهو يبرؤهم برءا: إذا فطرهم والبرء خلق على صفة- فكل مبروء مخلوق، وليس كل مخلوق مبروءا إذ البرء من تبرئة الشيء من قولهم: برأت من المرض، وبرئت من الدين أبرأ منه- فبعض الخلق إذا فصل من بعض سمي فاعله بارئاً وفي البخاري من قول علي رضي الله عنه "لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة"وقال أبو علي الفارسي:" وهو المعنى الذي به انفصلت الصور بعضها عن بعض فصورة زيد مفارقة لصورة عمرو، وصورة حمار مفارقة لصورة فرس، فتبارك الله خالقاً بارئاً [26]- فمن يعتقد أن هناك من يبرأ شيئاً غير الله سبحانه فقد أشرك في الربوبية مع الله تعالى- لذا يقول سبحانه: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ} " [27] .(16/292)
والرب هو المصور: أي مصور كل صورة لا على مثال احتذاه، ولا رسم ارتسمه [28] . فمن يعتقد أن أحداً غير الله يصور الأشياء ويشكلها على ما يريد فقد أشرك في الربوبية مع الله تعالى- لذا يقول سبحانه {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [29] .
والرب هو الرزاق وهو الرازق: والرزق إباحة الانتفاع بالشيء على وجه يحسن ذلك [30]- قال تعالى: {ومن رزقناه منا رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً} [31]- فمن يعتقد أن أحداً غير الله يملك إجراء رزق للخلق أو منعه عنهم، فقد أشرك في الربوبية مع الله تعالى- لذا يقول سبحانه: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} [32] ، ويقول: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [33] ، ويقول: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [34] ، ويقول: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [35] ، ويقول: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ} [36] ، ويقول: {يا يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [37] ؟.
وعلى هذا فإن ما نراه في هذا الزمن من خوف بعض الناس من رؤسائهم، فينافقونهم ويتملقون لهم خشية أن يقطعوا – في زعمهم- عنهم أرزاقهم، إنما هو شرك في الربوبية، فالله تعالى وحده هو الرزاق دون غيره- إذ يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [38] .(16/293)
والرب هو المبدي: والمبدي هو الذي ابتدأ الأشياء كلها، لا عن شيء فأوجدها - ويقال بدأ وأبدأ - ويقال بادىء ومبدىء [39] ويقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [40] فهذا من البادىء، ويقول تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [41] وهذا من المبدىء.
والرب سبحانه هو المبدي إذ هو الأول أي متقدم للحوادث بأوقات لا نهاية لها، فالأشياء كلها وجدت بعده، وقد سبقها كلها [42] ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه إذا أوى إلى فراشه ".. أنت الأول فليس قبلك شيء". فمن يعتقد أن هناك مبدياً غير الله تعالى لشيء من الخلق فقد أشرك مع الله تعالى في الربوبية.
والرب هو المعيد: والمعيد هو الذي يعيد الخلائق كلهم ليوم الحساب كما أبدأهم [43]- ويقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [44] .
والرب سبحانه هو المعيد إذ هو الآخر أي المتأخر عن الأشياء كلها ويبقى بعدها [45]- ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة السابق:".. وأنت الآخر فليس بعدك شيء"- فمن يعتقد أن هناك معيداً- غير لله تعالى- لشيء من الخلق فقد أشرك مع الله تعالى في الربوبية.
والرب هو المحيى المميت: فالمحيى الذي أحيا الخلق بأن خلق فيهم الحياة، وأحيا الموات بإنزال الحيا وإنبات العشب، وعنهما تكون الحياة [46] .
والمميت الذي خلق الموت كما خلق الحياة، لا خالق سواه، استأثر بالبقاء، وكتب على خلقه الموت [47] .
وإذا كان الرب سبحانه هو وحده خالق الحياة وخالق الموت، فلم يخاف العبد من غير ربه جل وعلا؟ أليس يقول سبحانه {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [48] .(16/294)
إن هذا الذي يمتلىء قلبه رعباً من المخلوقين، ويظن أن بيدهم إبقاء حياته أو إنهاءها، فتتلون معاملاته لهم نفاقاً بوجوه متعددة حفاظاً على حياته، فقد أشرك في الربوبية مع الله تعالى- فالله وحده هو الذي يملك الحياة إيجاداً وإعداماً. فيقول سبحانه: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} [49]- ويقول: {إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ} [50]-ويقول: {لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} [51] . ويقول: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [52] . ويقول: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الأِنْسَانَ لَكَفُورٌ} [53] .(16/295)
والرب هو النافع الضار: فمن يعتقد أن مخلوقاً ما دون الله يملك نفعه أو ضره فقد أشرك في الربوبية مع الله تعالى- يقول سبحانه: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا} [54]- ويقول: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} [55]- ويقول: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [56] ، ويقول: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} [57] ويقول: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً ً} [58] ويقول: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعا} [59] ويقول تعالى عن إبراهيم حين عاب على قومه عبادتهم ما لا ينفع ولا يضر: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ, قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ، قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ, أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} - يقول الرسول صلى الله عليه سلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما:"يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإذا اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك جفت الأقلام، وطويت الصحف".(16/296)
ومن ثم فلم الخوف من الخلق؟ ولم الجبن من قول الحق؟ ولم ارتعاد الفرائص ممن يتجبرون في الأرض ويتسلطون بغياً وعدواً؟ ما دام أن النفع والضر لن ينال أحداً إلا بما كتبه الله عنده في الأزل، ولا يملك مخلوق مهما أوتي من سلطان علمه أو تغييره؟ وما دام أن الخير والشر بيد الله سبحانه، وأنه مسبب كل خير، ودافع كل شر؟ إن إشراك الخلق في هاتين الصفتين (النفع والضر) مع الله تعالى أفسد على الناس قلوبهم وحياتهم وجعلهم يعيشون في رعب وظلام.
فالرب هو المعطي المانع: هو سبحانه يعطى ما أحب عطاءه تفضلاً وإصلاحاً، ويمنع ما أحب منعه حكمة وصلاحاً -[60] فمن يعتقد أن أحداً يملك العطاء أو المنع مع الله، أو يملك العطاء لما منع الله، أو المنع لما أعطى الله، فقد أشرك في الربوبية مع الله تعالى- يقول سبحانه: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [61] ويقول: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [62] ويقول: {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [63]- يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [64]- ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في دعائه عند رفعه من الركوع في الصلاة "ربنا لك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد".(16/297)
ومن ثم فلم التزلف والتملق للخلق؟ ولم يمحو الناس شخصياتهم فيذوبون في غيرهم ذلالهم وخضوعاً؟ ولم يتقربون إليهم بكافة الوسائل حتى غير المشروعة في صغار ومسكنة؟ لم كل هذا وهم لا يملكون لهم عطاء ولا منعاً؟ لو أنهم آمنوا أن العطاء والمنع بيد الله تعالى وحده، لعزت نفوسهم، وارتفعت أقدارهم، وعاملوا غيرهم على أن أنهم مثلهم عبيد لله يعطيهم الله تعالى حين يشاء، ويمنع عنهم عطاءه حين يشاء. ولرأينا تغيراً بينا في سلوك الناس ومعاملاتهم بعضهم لبعض.
إنك لا تدخل الآن هيئة ولا مؤسسة حكومية أو غير حكومية في أي بلد- إلا من رحم الله وأعز بتطبيق شريعته - إلا وتجد المرؤوسين أقزاماً أذلاء فزعين هلعين لدى رئيسهم، تعرف في وجوههم ذل الانكسار، وهوان الاستسلام، وكأن حبلاً لف حول أعناقهم يجرهم به كما يهوى رئيسهم في أي لحظة من ليل أو نهار.
إن المسلم الموحد بعزة الله - لتوحيده بعزته، فلا يهاب أحداً من الخلق فيتملقه رغبة عطاء أو خشية منع، إذ قد آمن بأنه لا معطى لما منع الله، ولا مانع لما أعطى الله رب العالمين.(16/298)
والرب هو المدبر لأمر هذا الكون كله: فمن يعتقد أن أحداً ما غير الله تعالى يملك تدبير الأمر في هذا الكون، ويصرف شئونه، فقد أشرك في الربوبية مع الله تعالى، وذلك كما يعتقد بعض الغارقين في الجهل أن هناك أقطاباً من الموتى وأبدالاً من الأولياء الصالحين لهم قدر من التصرف في حياة الناس فيستطيعون أن يولوا ويعزلوا، ويعطوا ويمنعوا، ويضروا وينفعوا - وأن لهم ديواناً يعقد كل ليلة تترأسه (السيدة زينب بمصر) ويلقبونها بأم هاشم، فتصدر منه القرارات والأوامر بنجاح فلان وفشل الآخر، وربح فلان وخسارة الآخر، وإشقاء هذا وإمراض ذاك، وإفقار هذا وإغناء غيره، والانتقام ممن يتقرر في الديوان أن ينتقم منه - لذلك تجد العوام عندما يمسهم ضر ينادون مستغيثين: "يا رئيسة الديوان يا أم هاشم"عليك بفلان أو بفلان، وانتقمي من هذا أو من ذاك - وغير ذلك مما يطلبون به تفريج الكروب لاعتقادهم أنها تقضي لهم في الديوان برئاستها إياه - كل ما يطلبون- إذ أن لها - مع غيرها من الأقطاب التصرف في الأمر، ولذلك اشتهر على ألسنة أولئك العوام قولهم (الأربعة المتصرفون في الكون) وبذلك سلبوا الله تعالى صفة التدبير وحكموا عليه بالعجز - تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- إنه لا مدبر لأمر هذا الكون سوى الله تعالى- بقوله سبحانه: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [65]- ويقول: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ} [66] ولا مصرف لشئون خلقه إلا هو جل وعلا- يقول تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ(16/299)
الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [67]- ويقول: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ, وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ, وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [68] .
فمن من الناس يستطيع أن يدبر أمر أي مخلوق- فضلاً عن أن يدبر أمر نفسه أو يصرف شأناً من شئونه؟
إن مشكلة هينة تطرأ للإنسان، فيقضي أياماً وليالي حائراً ذاهلاً، مفكراً، مستشيراً غيره، باذلاً كل طاقاته ليصل إلى حل لمشكلته فيعجز ويدعها كما طرأت معقدة، مستسلماً لها، معلناً فشله في حلها هو من معه جميعاً.
ويمرض المريض فيقف أمام مرضه عاجزاً، ويستدعي الطبيب ليعالجه حتى يبرأ من مرضه، فيفحصه الطبيب، ثم يصف له الدواء، ويقضي أياماً وليالي يتجرعه ولا يكاد يسيغه، ثم ينفد الدواء، ودواء ثان، وثالث ورابع، والداء متمكن في المريض، بل قد يزداد خطره ولا يبرأ. فيدع المريض مرضه كما هو، مستسلماً له، معلناً فشله في القضاء عليه هو ومن معه جميعاً.
فهل من يعلن استسلامه وعجزه التام هكذا فيما يطرأ على نفسه هو، يملك أن يدبر من أمر هذا الكون شيئاً؟.(16/300)
إن العبد المؤمن الموحد يقر موقناً أن الله وحده هو مدبر كل أمور هذا الكون ومصرف شئونه- فهذا إبراهيم- خليل الله- عليه السلام يعلن ذلك في صراحة عبر عنها قوله تعالى: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ, أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ, فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ, الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ, وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ, وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ, وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ, وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [69] .
وتدبير الله تبارك تعالى وتصريفه يتم فور الأمر به بحرفين (الكاف النون) . يقول سبحانه: {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [70] ويقول: {إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [71]- ويقول: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [72]- ويقول: {سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [73] ويقول: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [74] .
فهل يملك إنسان مهما أوتي من قوة وثروة وسلطة أن يدبر أمراً في هذا الكون أو يصرف شأنه بقوله: كن فيكون ما يريد؟ لا يجرؤ أحد إلا أن يجيب بالنفي وعلى من يرون الإجابة بالإثبات أن يقولوا لأنفسهم ومن يلف لفهم: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
مقتضى الإقرار بالربوبية:
ويقتضى الإقرار بالربوبية أن العبد لا يعتقد نفعاً ولا ضراً، ولا حركة ولا سكوناً ولا قبضاً ولا بسطاً، ولا خفضاً ولا رفعاً، ولا أعطاء ولا منعاً، ولا إحياء ولا إماتة، ولا تدبيراً ولا تصريفاً، إلا والله سبحانه وتعالى هو فاعله وخالقه، لا يشركه في ذلك ولا يملك واحد منه شيئاً.(16/301)
كما يقتضى الإقرار بالربوبية أن يتوصل العبد بها إلى الإقرار بالألوهية فيجردها لله تعالى، فلا يصرف أي نوع من أنواع العبادات لغير الله تبارك وتعالى.
وقد حصر الله تعالى ذلك في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [75] ، فقوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إشارة إلى تجريد العبادة له سبحانه بما يقتضيه تفرده بالألوهية وقوله {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إشارة إلى ما يقتضيه تفرده تعالى بالربوبية.
الرب هو المربي لخلقه:
والرب سبحانه وتعالى هو الخالق المنعم على خلقه، المربي والهادي لخلقه بنعمه ولما سأل فرعون موسى عليه والسلام {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [76] ؟ رد عليه موسى عليه السلام رداً موجزاً شافياً {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [77] وإن من له أدنى بصيرة يتبين الفروق الواضحة بين الخالق سبحانه والمخلوق، منها ما يلي [78] :
1- أن الرب تعالى غني بنفسه عما سواه، ويمتنع أن يكون مفتقراً إلى غيره بوجه من الوجوه- لهذا جاء في الحديث القدسي "يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً ولا أبالى، فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً- يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً- يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان منهم مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر" [79] .(16/302)
2- أن الرب تعالى- وإن كان يحب الأعمال الصالحة ويرضى ويفرح بتوبة التائبين- ليس بحاجة إلى شيء من ذلك – ويبين هذا من الحديث لسابق. فضلاً عن أنه سبحانه هو الذي يخلق ذلك كله وييسره، فلا يحصل ما يحبه ويرضاه إلا بقدرته ومشيئته - والله تعالى يقول: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [80] ، ويقول: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [81] .
3- أن الرب تعالى أمر عباده بما يصلحهم ونهاهم عما يفسدهم كما قال قتادة رضي الله عنه:"إن الله لم يأمر العباد بما أمرهم به لحاجته ولا ينهاهم عما نهاهم عنه بخلاً عليهم بل أمرهم بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم بخلاف المخلوق الذي يأمر غيره بما يحتاج إليه وينهاه عما ينهاه بخلاً عليه".
4- أن الرب تعالى هو المنعم على عباده بإرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم، وهو المنعم بالقدرة والحواس وغير ذلك مما يحصل العلم والعمل الصالح، وهو الهادي لعباده فلا حول ولا قوة إلا به. لهذا يقول أهل الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [82]- ولا يقدر المخلوق ولا يقوى على شيء من ذلك.
5- أن نعم الرب المنعم تعالى على عباده أعظم من أن تحصى- يقول سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [83] ولو قدر أن العبادة جزاء النعمة لم توف العبادة شكر قليل منها. فكيف والعبادة إنما هي من نعم المنعم سبحانه وتعالى؟.(16/303)
6- أن العباد لا يزالون مقصرين محتاجين إلى عفوه تعالى ومغفرته، مهما اجتهدوا وعملوا، فلن يدخل أحد الجنة بما يعمله - يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لن يدخل أحد الجنة بعمله- قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل". وما من أحد من العباد إلا وله ذنوب يحتاج فيها إلى مغفرة الله لها، ولو آخذهم بما يعملون، لأخذ الجميع أخذ عزيز مقتدر. يقول تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً} [84] .
ولما كان الرب سبحانه هكذا وحده خالقاً منعماً بكل أنواع النعم مدبراً لكل ما خلق مصرفاً لشئونه، وفهم ذلك عباده الصالحون فإننا نلمح أكثر دعواتهم جاءت بلفظ "الرب"إذا أن مطالبهم كلها تتضمنها الربوبية الخاصة التي تعنى تربيته تعالى بالوحي وبنعمة الإيمان، وبتوفيقهم وعصمتهم، ودفع الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه سبحانه، وخلاصتها تربية التوفيق لكل خير، والعصمة من كل شر، هذا فضلاً عن الربوبية العامة التي تعنى خلقه تعالى للخلق ورزقهم وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا.
ومن أمثلة دعاء عباد الله الصالحين لله تعالى بلفظ "الرب"ما ورد في القرآن العظيم فيما يلي:
1- قوله تعالى عن نوح عليه السلام:
{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [85]- وقوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [86] .
2- وقوله تعالى أيضاً عن نوح عليه السلام:(16/304)
{قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً, فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلا فِرَاراً} -[87] وقوله: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَاراً} [88]- وقوله: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً, إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِراً كَفَّاراً, رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلا تَبَاراً} [89] .
2- قوله تعالى عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام:
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ, رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
3- وقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام:(16/305)
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ, رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ, رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ, رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ, الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ, رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ, رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} .
4- وقوله تعالى أيضاً عن إبراهيم عليه السلام:
{رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ, وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ, وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ، وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ، وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [90] .
5- وقوله تعالى عن موسى عليه السلام:
{قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [91] .
6- وقوله تعالى أيضاً عن موسى عليه السلام:(16/306)
{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [92] .
7- وقال تعالى أيضاً عن موسى عليه السلام:
{وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ, قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ, قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ, وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ, وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [93] .
8- وقوله تعالى أيضاً عن موسى عليه السلام:
{قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ, قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [94]- وقوله: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [95] وقوله: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [96] ..وقوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ, وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [97] .
9- وقوله تعالى عن عيسى بن مريم عليه السلام:
{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [98] .
10- وقوله تعالى عن زكريا عليه السلام:(16/307)
{كهيعص, ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا, إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً, قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً, وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً, يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} [99] .
وقوله: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً} [100]- وقوله: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} [101] .
11- وقوله تعالى أيضاً عن زكريا عليه السلام:
{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [102]- وقوله: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ, قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [103] .
12- وقوله تعالى عن أيوب عليه السلام:
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [104] .
13- وقوله تعالى عن لوط عليه السلام:
{رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} [105] .
14- وقوله تعالى أيضاً عن لوط عليه السلام:
{قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} [106] .
15- وقوله تعالى عن يوسف عليه السلام:(16/308)
{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [107] .
وقوله: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [108] .
16- وقوله تعالى عن محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} [109] .
17- وقوله عن امرأة عمران:
{إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ, فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [110] .
18- وقوله تعالى عن مريم:
{قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [111] .
19- وقوله تعالى عن امرأة فرعون:
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [112] .
20- وقوله تعالى عن أولى الألباب:(16/309)
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ, الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ, رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ, رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ, رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [113] .
21- وقوله تعالى عن عباد الرحمن:
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً, وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً, وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} [114] .
وقوله تعالى أيضاً عنهم: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [115] .
22- وقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم:
"اللهم رب السموات السبع والأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر نفسي، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين وأغنني من الفقر".(16/310)
سعد ندا
مركز شئون الدعوة الإسلامية
بالجامعة الإسلامية
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة الجن آية 18.
[2] سورة الرعد آية 14.
[3] سورة الصف آية 2-3.
[4] سورة يوسف الآية 106.
[5] سورة الأنعام الآية 82.
[6] سورة الأنعام الآية 88.
[7] سورة لقمان الآية 13.
[8] سورة المائدة الآية 72.
[9] سورة الأعراف آية 69.
[10] سورة ص آية 5.
[11] سورة آل عمران آية 110.
[12] سورة البقرة آية 143.
[13] مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 298، 303 طبعة دار العربية بيروت – لبنان 1375هـ.
[14] سورة الممتحنة آية 4.
[15] تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد 39.
[16] تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج ص 30 (بتصرف) .
[17] سورة الحشر آية 23.
[18] سورة المائدة آية 17.
[19] سورة العنكبوت آية 17.
[20] مرجع الزجاج السابع ص 36، 37 (بتصرف) .
[21] سورة المؤمنون آية 14.
[22] سورة النحل آية 17.
[23] سورة لقمان آية 11.
[24] سورة الطور آية 35.
[25] سورة الواقعة آية 59.
[26] المرجع السابق ص 37.
[27] سورة الحشر آية 24.
[28] المرجع السابق ص 37.
[29] سورة الحشر آية 24.
[30] المرجع السابق ص 38.
[31] سورة النحل آية 75.
[32] سورة البقرة آية 60.
[33] سورة الشورى آية 12.(16/311)
[34] سورة الذاريات آية 22.
[35] سورة ص آية 54.
[36] سورة العنكبوت آية 6.
[37] سورة فاطر آية 3.
[38] سورة الذاريات آية 58.
[39] مرجع الزجاج ص 55.
[40] سورة الروم آية 27.
[41] سورة البروج آية 13.
[42] مرجع الزجاج ص 60.
[43] مرجع الزجاج ص 56.
[44] سورة الروم آية 27.
[45] مرجع الزجاج ص 60.
[46] مرجع الزجاج ص 56.
[47] مرجع الزجاج ص 56.
[48] سورة الملك آية 2.
[49] سورة الحجر آية 23.
[50] سورة التوبة آية 116.
[51] سورة الدخان آية 8.
[52] سورة الروم آية 40.
[53] سورة الحج آية 66.
[54] سورة يونس آية 21.
[55] سورة هود آية 10.
[56] سورة فصلت آية50.
[57] سورة يونس آية 106.
[58] سورة المائدة آية 76.
[59] سورة الفتح آية 11.
[60] مرجع الزجاج ص63 (بتصرف) .
[61] سورة فاطر آية 2.
[62] سورة آل عمران آية 26.
[63] سورة الحديد آية 29.
[64] سورة فاطر آية 15.
[65] سورة الرعد آية 2.
[66] سورة السجدة آية 5.
[67] سورة البقرة آية 164.
[68] سورة الجاثية آية 3، 4، 5.
[69] سورة الشعراء آية 75 إلى 82.
[70] سورة البقرة آية 117.
[71] سورة آل عمران آية 47.
[72] سورة النحل آية 40.
[73] سورة مريم آية 35.
[74] سورة يس آية 82.
[75] سورة الفاتحة آية 5.
[76] سورة طه آية 49.
[77] سورة طه آية 49.
[78] مجموعة الفتاوى ص215، 216 بتصرف.
[79] مجموعة الفتاوى ص 215، 216. بتصرف.
[80] سورة الصافات آية 96.
[81] سورة الإنسان آية 30.
[82] سورة الأعراف آية 43.
[83] سورة إبراهيم آية 34.
[84] سورة فاطر آية 45.(16/312)
[85] سورة هود آية 45.
[86] سورة هود آية 47.
[87] سورة نوح آية 5، 6.
[88] سورة نوح آية 21.
[89] سورة نوح آية 26، 27، 28.
[90] سورة الشعراء آية من 83-89.
[91] سورة المائدة آية 25.
[92] سورة يونس آية 88.
[93] سورة الشعراء آية من 10-14.
[94] سورة القصص آية 16، 17.
[95] سورة القصص آية 21.
[96] سورة القصص آية 24.
[97] سورة القصص آية 33، 34.
[98] سورة المائدة آية 114.
[99] سورة مريم آية 1-6.
[100] سورة مريم آية 8.
[101] سورة مريم آية 10.
[102] سورة آل عمران آية 38.
[103] سورة آل عمران آية 40-41.
[104] سورة الأنبياء آية 83.
[105] سورة الشعراء آية 169.
[106] سورة العنكبوت آية 30.
[107] سورة يوسف آية 33.
[108] سورة يوسف آية 101.
[109] سورة الجن آية 20.
[110] سورة آل عمران آية 35، 36.
[111] سورة آل عمران آية 47.
[112] سورة التحريم آية 11.
[113] سورة آل عمران آية 190-194.
[114] سورة الفرقان آية 63، 64، 65.
[115] سورة الفرقان آية 74.(16/313)
وصايا للحجاج والزوار
لسماحة الشيح: عبد العزيز بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله.. والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه..
أما بعد: فإلى حجاج بيت الله الحرام أقدم هذه الوصايا عملاً بقول الله سبحانه {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وقول النبي صلى الله عليه وسلم "الدين النصيحة" قيل لمن يا رسول الله قال: "لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".(16/314)
الأولى: الوصية بتقوى الله تعالى في جميع الأحوال. والتقوى هي جماع الخير وهي وصية الله سبحانه ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَة} وقال سبحانه: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي في خطبه كثيراًً بتقوى الله وحقيقة التقوى أداء ما افترض الله على العبد وترك ما حرم الله عليه عن إخلاص لله ومحبة له ورغبة في ثوابه وحذر من عقابه على الوجه الذي شرعه الله لعباده على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وهو أحد علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم:"تقوى الله حق تقاته أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر"وقال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله:"ليست تقوى الله بصيام النهار ولا قيام الليل والتخليط فيما بين ذلك ولكن تقوى الله أداء ما افترض الله وترك ما حرم الله فمن رزق بعد ذلك خيراً فهو خير إلى خير"وقال طلق بن حبيب التابعي الجليل رحمه الله:"تقوى الله سبحانه هي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله"وهذا كلام جيد ومعناه أن الواجب على المسلم أن يتفقه في دين الله، وأن يتعلم مالا يسعه جهله حتى يعمل بطاعة الله على بصيرة ويدع محارم الله على بصيرة، وهذا هو تحقيق العمل بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن الشهادة الأولى تقتضي الإيمان بالله وحده وتخصيصه بالعبادة دون كل ما سواه وإخلاص جميع الأعمال لوجهه الكريم رجاء رحمته وخشية عقابه.(16/315)
والشهادة الثانية: تقتضي الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله إلى جميع الجن والإنس وتصديق أخباره وإتباع شريعته والحذر مما خالفها وهاتان الشهادتان هما أصل الدين وأساس الملة، كما قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وقال سبحانه: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ، وقال عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .. والآيات في هذا المعنى كثيرة.(16/316)
الثانية: أوصي جميع الحجاج والزوار وكل مسلم يطلع على هذه الكلمة بالمحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها والعناية بها وتعظيم شأنها والطمأنينة فيها، لأنها الركن الأعظم بعد الشهادتين ولأنها عمود الإسلام ولأنها أول شيء يحاسب عنه المسلم من عمله يوم القيامة ولأن من تركها فقد كفر، قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وقال عز وجل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وقال جل شأنه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} إلى أن قال سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة " أخرجه مسلم في صحيحه وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام:"العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " خرّجه أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح وخرّجه الإمام أحمد بإسناد حسن عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من حافظ على الصلاة كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور وبرهان ولا نجاة وكان يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف".(16/317)
قال بعض أهل العلم في شرح هذا الحديث: وإنما يحشر من ضيع الصلاة مع هؤلاء الكفرة لأنه إما أن يضيعها تشاغلاً بالرياسة والملك والزعامة فيكون شبيهاً بفرعون وأما أن يضيعها تشاغلاً بأعمال الوزارة الوظيفة، فيكون شبيهاً بهامان وزير فرعون وأما أن يضيعها تشاغلاً بالشهوات وحب المال والتكبر على الفقراء فيكون شبيهاً بقارون الذي خسف الله به وبداره الأرض، وأما أن يضيعها تشاغلاً بالتجارة والمعاملات الدنيوية فيكون شبيهاً بأبي بن خلف تاجر كفار مكة، فنسأل الله العافية من مشابهة أعدائهن ومن أهم أركان الصلاة التي يجب على المسلم رعايتها والعناية بها الطمأنينة في ركوعها وسجودها وقيامها وقعودها وكثير من الناس يصلي صلاة لا يعقلها ولا يطمئن فيها، ولا شك أن الطمأنينة من أهم أركان الصلاة فمن لم يطمئن في صلاته فهي باطلة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع استوى في ركوعه وأمكن يديه من ركبتيه وهصر ظهره وجعل رأسه حياله، ولم يرفع رأسه حتى يعود كل فقار إلى مكانه، إذا رفع رأسه من الركوع اعتدل حتى يرجع كل فقار إلى مكانه وإذا سجد اطمأن في سجوده حتى يرجع كل فقار إلى مكانه وإذا جلس بين السجدتين اعتدل حتى يرجع كل فقار إلى مكانه، ولما رأى صلى الله عليه وسلم بعض الناس لا يطمئن في صلاته أمره بالإعادة، وقال له: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ ما تسير معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعاً ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثم افعل ذلك في صلاتك كلها " أخرجه الشيخان في الصحيحين.(16/318)
فهذا الحديث الصحيح يدل على أن الواجب على المسلم أن يعظم هذه الصلاة ويعتني بها ويطمئن فيها حتى يؤديها على الوجه الذي شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن تكون الصلاة للمؤمن راحة قلب ونعيم روح وقرة عين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"وجعلت قرة عيني في الصلاة " ومن أهم واجبات الصلاة في حق الرجال أداؤها في الجماعة لأن ذلك من أعظم شعائر الإسلام وقد أمر الله بذلك ورسوله كما قال عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} ، وقال سبحانه في صلاة الخوف: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} الآية. فأوجب الله سبحانه على المسلمين أداء الصلاة في الجماعة في حال الخوف. فيكون وجوبها عليهم في حال الأمن أشد وآكد، وتدل الآية المذكورة على وجوب الإعداد للعدو والحذر من مكائده كما قال سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} .. الآية، فالإسلام دين العزة والكرامة والقوة والحذر والجهاد الصادق كما أنه دين الرحمة والإحسان والأخلاق الكريمة والصفات الحميدة ولما جمع سلفنا الصالح بين هذه الأمور مكن الله لهم في الأرض ورفع شأنهم وملكهم رقاب أعدائهم وجعل لهم السيادة والقيادة فلما غير من يعدهم غير عليهم كما قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" وقال عليه الصلاة والسلام:"من سمع النداء فلم يأت(16/319)
فلا صلاة له إلا من عذر" وعن أبي هريرة رضي الله عنه:"أن رجلاً أعمى قال: يا رسول الله أنه ليس لي قائد يلائمني إلى المسجد فهل لي من رخصة أن أصلي في بيتي قال: "هل تسمع النداء بالصلاة "قال: نعم قال: "فأجب.." خرّجه مسلم في صحيحه.
أما النساء فصلاتهن في بيوتهن خير لهن كما حاء بذلك الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك إلا لأنهن عورة وفتنة ولكن لا يمنعن من المساجد إذا طلبن ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " وقد دلت الآيات والأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه يجب عليهن التستر والتحجب من الرجال وترك إظهار الزينة والحذر من التعطر حين خروجهن لأن ذلك يسبب الفتنة بهن ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات ". ومعنى تفلات أي لا رائحة لهن تفتن الناس وقال صلى الله عليه وسلم:"أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء" وقالت عائشة رضي الله عنها:"لو علم النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء اليوم لمنعهن الخروج "، فالواجب على النساء أن يتقين الله وأن يحذرن أسباب الفتنة من الزينة والطيب وإبراز بعض المحاسن كالوجه واليدين والقدمين حين اجتماعهن بالرجال وخروجهن على الأسواق. وهكذا في وقت الطواف والسعي وأشد من ذلك وأعظم في المنكر كشفهن الرؤوس ولبس الثياب القصيرة التي تقصر عن الذراع والساق لأن ذلك من أعظم أسباب الفتنة بهم ولهذا قال عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} والتبرج إظهار بعض محاسنهن، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِن} الآية. . والجلباب هو الثوب الذي تغطي به المرأة رأسها ووجهها وصدرها وسائر بدنها قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي(16/320)
الله عنهما:"أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلاليب ويبدين عيناً واحدة "وقال تعالى: {ِ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِن} الآية، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"صنفان من أهل النار لم أرهما بعد نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن مثل أسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، ورجال بأيديهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها الناس" خرّجه مسلم في صحيحه وقوله كاسيات عاريات فسر بأنهم كاسيات من نعم الله عاريات من شكرها وفسر بأن عليهن كسوة رقيقة أو قصيرة لا تسترهن فهن كاسيات بالاسم والدعوى عاريات في الحقيقة ولا ريب أن هذا الحديث الصحيح يوجب على النساء العناية بالتستر والتحجب والحذر من أسباب غضب الله وعقابه والله المستعان.(16/321)
الوصية الثالثة: أوصي جميع الحجاج والزوار وكل مسلم بإخراج زكاة ماله إذا كان لديه مال تجب الزكاة فيه لأن الزكاة من أعظم فرائض الدين وهي الركن الثالث من أركان الإسلام فالله سبحانه وتعالى شرعها طهرة للمسلم وزكاة له ولماله وإحساناً للفقراء وغيرهم من أصناف أهل الزكاة، كما قال عز وجل: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وهي من شكر الله على نعمة المال والشاكر موعود بالأجر والزيادة كما قال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} وقال عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} وقد توعد الله من لم يؤد الزكاة بالعذاب الأليم كما توعده سبحانه بأنه يعذبه بماله يوم القيامة، قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير هذا الآية الكريمة إن كل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز يعذب به صاحبه يوم القيامة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار فالواجب على كل مسلم له مال تجب فيه الزكاة أن يتقي الله ويبادر بإخراج زكاته في وقتها في أهلها المستحقين لها طاعة لله ولرسوله وحذراً من غضب الله وعقابه والله سبحانه وعد المنفقين بالخلف والأجر الكبير.(16/322)
كما قال سبحانه: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} وقال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} .
الوصية الرابعة: صيام رمضان وهو من أعظم الفرائض على جميع المكلفين من الرجال والنساء وهو الركن الرابع من أركان الإسلام قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَات} ثم فسر هذا الأيام المعدودات بعد ذلك بقوله سبحانه وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت" فهذا الحديث الصحيح يدل على جميع الوصايا المتقدمة وهي الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم وأنها كلها من أركان الإسلام التي لا يقوم بناؤه إلا عليها فالواجب على كل مسلم ومسلمة تعظيم هذه الأركان والمحافظة عليها والحذر من كل ما يبطلها أو ينقص أجرها والله سبحانه إنما خلق الثقلين ليعبدوه سبحانه وأرسل الرسل وأنزل الكتب من أجل ذلك وعبادته هي توحيده وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم عن إخلاص لله سبحانه ومحبة له وإيمان به وبرسله ورغبة في ثواب الله وحذر من عقابه وبذلك يفوز العبد بالسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة وإنما أصيب المسلمون في هذه العصور الأخيرة بالذل والتفرق وتسليط الأعداء بسبب تفريطهم في أمر الله وعدم تعاونهم(16/323)
على البر والتقوى كما قال عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} فنسأل الله أن يجمعهم على الحق ويوفقهم للتوبة النصوح وأن يهديهم للعمل بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ويوفق حكامهم للحكم بشريعته والتحاكم إليها وإلزام شعوبهم بما أوجب الله ومنعهم عن محارم الله حتى يمكن لهم في الأرض كما مكن لأسلافهم ويعينهم على عدوهم إنه سميع قريب.
الوصية الخامسة: حج بيت الله الحرام وهو الركن الخامس من أركان الإسلام كما تقدم في الحديث الصحيح وهو فرض على كل مسلم ومسلمة يستطيع السبيل إليه في العمر مرة واحدة كما قال الله سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وقال النبي صلى الله عليه وسلم:"الحج مرة فمن زاد فهو تطوع " وقال صلى اله عليه وسلم:"العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " وقال عليه الصلاة والسلام:"من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " فالواجب على حجاج بيت الله الحرام أن يصونوا حجهم عما حرم الله عليهم من الرفث والفسوق وأن يستقيموا على طاعة الله ويتعاونوا على البر والتقوى حتى يكون حجهم مبروراً وسعيهم مشكوراً والحج المبرور هو الذي سلم من الرفث والفسوق والجدل بغير حق.
كما قال الله سبحانه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجّ}
ويد على ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم:"من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " والرفث هو الجماع في حال الإحرام ويدخل فيه النطق بالفحش ورديء الكلام، والفسوق يشمل المعاصي كلها.(16/324)
فنسأل الله أن يوفق حجاج بيت الله الحرام للاستقامة على دينهم وحفظ حجهم مما يبطله أو ينقص أجره أن يمن علينا وعليهم بالفقه في دينه والتواصي بحقه والصبر عليه، وأن يعيذ الجميع من مضلات الفتن ونزغات الشيطان إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحبه وأتباعه بإحسان..
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء الدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(16/325)
الحج عرفة
لفضيلة الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
عميد كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية
الحمد لله المنعم المتفضل وصلاة الله وسلامه وبركاته على أكرم الرسل محمد بن عبد الله وآله وصحبه..
الحج عرفة
تعبدنا الله العليم الحكيم بأنواع عديدة من العبادات منها ما هو بدني محض كالصلاة والصيام ومنها ما هو مالي محض كالزكاة وسائر النفقات..
وهناك عبادة يقوم العبد بأدائها ببدنه مع إنفاق المال فيها فيقال لها عبادة لها عبادة مالية وبدنية وهي عبادة حج بيت الله الحرام التي ينفق فيها الإنسان المسلم من أنفس أمواله ويكابد فيها متاعب السفر ومشقته ومن أجزاء هذه العبادة - إن صح التعبير- الوقوف وبعرفة حيث تعبدنا الله تعالى لحكمة يعلمها أن تقف عشية اليوم التاسع من شهر ذي الحجة في أرض فسيحة محدودة بحدود معروفة قديماً وحديثاً تسمى- أرض عرفه-
نقف في وسط تلك الأرض نعبد الله وحده بعبادة شرعها الله لنا على لسان من اختاره وأرسله إلينا ليبلغنا دين الله وهو محمد بن عبد الله النبي الأمي الهاشمي عليه الصلاة والسلام وتلك العبادة ذكر الله تعالى ذكراً كثيراً من التهليل والاستغفار والتسبيح والثناء عليه سبحانه والتضرع إليه ويبوء العبد هناك بذنبه ليتوب عليه ويبوء بنعمه التي لا تعد ولا تحصى ويطلب المزيد من فضله ويكثر من هذه العبادة وهذا الثناء التضرع يكرر والدعاء ويلح لعل الله يجعله من عتقاء ذلك اليوم العظيم الذي من الله به على عباده، هكذا يظل الحاج في عبادة ربه والاعتراف بذنبه من بعد زوال شمس يوم عرفة إلى الليل.
حدود الموقف
وهذه البقعة التي سوف نقف فيها في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة يحسن بنا أن نعرف حدودها ولو على وجه التقريب.(16/326)
ويحد عرفة شرقاً الجبل العالي شمال جبل الرحمة، ويحدها من الجنوب الجبال المقابلة له ويحدها من الشمال والغرب بطن وادي عرنة الذي يمتد من الشمال إلى الجنوب وهو الحد من الشمال والغرب، والمسجد نفسه في وادي عرنة ونمرة غربي عرفة وكلتاهما ليستا من عرفة وأما نمرة في الأصل قرية غربي عرفات وهي الآن خراب ما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم، وعرنة في الأصل جبل عليه أنصاب الحرم (علاماته) أما الآن فليس هناك جبل بل كلها أرض مستوية ولعل الجبل المذكور كان عبارة عن تل من الرمال زال مع الزمن، والله أعلم..
وإذا تجاوز الحاج منطقة نمرة وارتفع في بطن وادي عرنة فليقف حيث تيسر له الوقوف، أما رسول الله عليه الصلاة والسلام فقد نزل بنمرة عندما جاء من منى صباح يوم عرفة ثم ارتحل مع الزوال وصلى الظهر والعصر بعرنة وخطب بها الناس ثم دخل الموقف فوقف عند ذيل جبل الرحمة مستقبل القبلة عند الصخرات جاعلاً جبل المشاة بين يديه، وجبل المشاة الطريق الذي يسلكونه في مشيهم أو صفهم في تجمعهم. إلا أن رسول الرحمة لم يلزم أمته بأن يقفوا حيث وقف هو عند الصخرات ولم يحثهم على ذلك رحمة بهم ولئلا يوقعهم في حرج.
بل قال: "وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف" وهذا يعنى أنه لا فرق بين الوقوف عند الصخرات التي وقف عندها رسول الله عليه الصلاة والسلام وبين الوقوف في أي مكان آخر في عرفة وأما صعود الجبل فغير مشروع، قطعاً لأن الشرع، ما شرعه الله لعباده على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام فرسول الله لم يصعد الجبل بل ولم يستقبله عند التحقيق لأن الثابت أنه جعل جبل المشاة بين يديه كما في حديث جابر بن عبد الله، يقول بعض من (1) حقق المسألة أن حديث جابر يدل على أن جبل الرحمة كان على يمينه وقد استنتج ذلك من أنه جعل جبل المشاة بين يديه ويفهم من كلامه أن الصخرات التي وقف عندها رسول الله هي التي في جنوب الجبل عند الأشجار حاليا وكلامه أشبه والله أعلم.(16/327)
فعلى الحجاج أن يتجنبوا صعود الجبل والازدحام حوله لئلا يضيعوا وقتهم الثمين فيما لا يعود عليهم بأدنى فائدة بل في ذلك مضرة بل وأي مضرة بل على الحجاج أن يقفوا حيث شاءوا ولهم أن يتوغلوا في تلك الأرض الفسيحة ما شاءوا أن يتوغلوا حتى تردهم سفوح الجبال من الشرق والجنوب دون تقيد بمكان معين.
أسماء جبل الرحمة
وقد ذكروا لهذا الجبل عدة أسماء:
1) يقال له جبل الرحمة وهذا الاسم من أشهر تلك الأسماء ولعله من أحدثها.
2) يقال له جبل الدعاء.
3) يسميه بعض العامة (القرين بضم القاف مصغراً) .
4) أما اسمه القديم (إلآل على وزن هلال) .
وقد حاولت أن أعرف سبب تسمية الجبل بهذا الاسم (جبل الرحمة) واتصلت بعدة مصادر وسألت عدة أشخاص من أهل العلم ولم أحظ بجواب شاف إلى لحظة كتابة هذه السطور فاترك المسألة قيد بحث وأمضى في الكتابة في الموضوع، وعلى كل حال أن هذه التسمية في النفس منها شيء لأن الرحمة لا يختص نزولها بذلك الجبل ومدعى ذلك يطالب بالدليل وليس الدعاء خاصاً بالجبل أيضاً بل هو كغيره في كل ذلك فرحمة الله تعالى وعتقه من النار من شاء من عباده في ذلك اليوم عام لكل من وقف عرفة في أي بقعة منها والذي دفعني إلى هذا البحث ما شاهدته وشاهده غيري من كل ذي عينين من تصرفات بعض الحجاج أشبه ما تكون ببعض الجاهليات التي يفعلها بعض العوام عند قبور الصالحين من تمسح بالحجارة وتقبيلها علاوة على ما يحصل من تضييع الوقت بالصعود والنزول وهو أمر غير مشروع كما تقدم، بل أصبح لدى كثير من عوام الحجاج أن صعود الجبل هو المقصود من وقوف عرفة وقد كان الصعود الشغل الشاغل لهم وأنت ترى الزحام من سفح الجبل إلى قمته طيلة النهار.(16/328)
وكأن العوام فهموا من هذا الاسم (جبل الرحمة) أن الرحمة إنما تنزل في ذلك اليوم على من فوق ذلك الجبل فقط استنتاجاً من الاسم، ويريدون أن تنالهم الرحمة وهم فوق جبل الرحمة وهي شبهة كما ترى قوية تدفع العوام إلى صعود الجبل فلا يلامون على ما صنعوا طالما الشبهة قائمة ولم يجدوا من ينبههم على خطأ تصورهم معنى الوقوف.
ومما قوى هذا الشبهة لدى العامة وأشباههم وجود ذلك العمود الأبيض الذي نصب على رأس الجبل ليكون علامة على إنه جبل الرحمة مع وجود عديد من المساجد الصغار والمحرابات منتشرة في سفح الجبل وفوق الجبل وفي الأماكن القريبة من الجبل. وهذه الأشياء تدعو الحجاج بلسان حالها إلى التجمع على الجبل إلتماساً للرحمة.
الصلاة في الجبل
ومما جرت به عادة الحجاج صلاة ركعتين في كل مسجد في الأماكن المقدسة وفي المشاعر ولو في وقت نهي فجرياً على هذه العادة ترى الحجاج بعد صلاة العصر في منطقة جبل الرحمة وهم يصلون ركعتين في كل مصلى وفي كل محراب، وإذا قيل لهم في ذلك قالوا ركعتين لله (بس ما في شيء) فكم كان مفيداً لو أزيل ذلك العمود وتلك المحرابات والمصليات المنتشرة في منطقة الجبل وكان جيداً لو قامت وزارة الحج والأوقاف واللجنة العليا للحج، وإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد التي تتبعها (هيئة التوعية) للحجاج كم كان جيداً لو قامت هذه الجهات بدراسة وضع الجبل وصعوده ووضع تلك المساجد الصغار هناك والعلم المنصوب فوق الجبل لتبقى على ما كان نافعاً وجائزاً شرعاً وتزيل ما كان ضاراً وغير جائز شرعاً ويكون ذلك أداء لبعض واجبها نحو ضيوف الرحمن، زادها الله توفيقاً ونحن نعلم إن هذه الجهات المذكورة تقوم بالشيء الكثير في خدمة بيوت الله عامة وخدمة المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف خاصة وحجاج بيت الله وزوار مسجد خاصة وحجاج بيت الله وزوار مسجد رسول الله، فجزاؤهم على الله أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
النصح للحجاج(16/329)
وكل الذي أريد أن أقوله في الموضوع أن الذي تقتضيه النصيحة لحجاج بيت الله الحرام (الدين النصيحة) منع صعود الجبل بأنجح وسيلة ممكنة أو باستخدام عدة وسائل تحقق الغرض حرصاً على وقتهم الثمين الذي يضيع عليهم دون فائدة في عشية ذلك اليوم المبارك بل حرصاً على عبادتهم ومعتقداتهم من أن تخدش بنوع من معتقدات الجاهلية في الأحجار والأشجار والمباني.
وكنت أذكر منع صعود الجبل بل التشدد في المنع فيما قبل عام 1370هـ وقد حضرت موسم عام 1369هـ فوجدت الجنود يمنعون صعود الجبل بشدة وكان الناس يجتمعون في سفح الجبل عند الصخرات التي وقف عندها الرسول عليه الصلاة والسلام كما يفهم من السنة.
فيا حبذا لو استخدمت تلك الوسيلة ذاتها مرة أخرى إن لم نجد وسيلة أو وسائل أخرى أجدى وأنفع في تحقيق الغرض.
ونحن نعلم يقيناً إن بعض العوام من الحجاج قد تعودوا التبرك بالأحجار والأشجار وقبور الصالحين أو من يدعون الصلاح وهم ينظرون إلى الجبل الذي بعرفة وما فوقه وما حوله من المباني بذلك المنظار ولا سيما مع هذا الاسم (جبل الرحمة) .
لذا نرى أن تبذل كل جبهة ما تستطيع بذله في هذا الصدد ليكون حج حجاج بيت الله الحرام بعيداً عن المخالفات والبدع والأعمال الجاهلية التي قد يقع فيها بعض الحجاج جهلاً منهم.
وقد بذلت حكومتنا السنية في سبيل راحة الحجاج وتسهيل أمورهم كل غال ونفيس يتمثل ذلك في تلك الشوارع الواسعة بأعداد هائلة والكباري العملاقية والميادين الواسعة والمستشفيات والمستوصفات المنتشرة في كل من عرفة ومزدلفة وفي كل مكان تصل إليه أقدام الحجاج في الحرمين الشريفين زادها الله من فضله ومن توفيقه.(16/330)
والناحية التي نحن بصددها لم يغفلها المقام السامي حيث يجند في كل موسم عدد كبير من علماء المسلمين من الداخل والخارج لتوعية حجاج بيت الله الحرام وتعليمهم ما يجهلون من أمور دينهم عامة ومن أعمال الحج خاصة، بناء على أمر المقام السامي تحت إشراف إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، فنسأل الله تعالى التوفيق لهؤلاء العلماء المجندين لهذه المهمة العظيمة حتى يؤدوا واجبهم على الوجه المطلوب بحزم وبإخلاص والله ولي التوفيق.
زمن الوقوف
إن الدارس للسنة النبوية قولية أو فعلية في هذا المسألة إذا عرض عليها أقوال أهل العلم محاولاً التوفيق بينها يخرج بالنتيجة التالية:
وهي أن زمن الوقوف ينقسم إلى قسمين:
1) زمن اختياري.
2) زمن اضطراري.
أما الزمن الاختياري فهو الذي لا ينبغي للحاج مخالفته أو ترك شيء منه في حال سعته واختياره وفي حال عدم الضرورة فهذا الزمن يبدأ من زوال شمس يوم عرفة، ويمتد إلى الغروب وإذا تحقق الغروب جاز للحجاج أن يفيضوا إلى مزدلفة مؤخرين صلاة المغرب ليجمعوها مع صلاة العشاء في جمع (مزدلفة) جمع تأخير ولا يجوز لهم أن يغادروا الموقف قبل غروب الشمس إلا للضرورة أو جهل الحكم فإذا غابت الشمس يفيضون وعليهم السكينة والوقار وألسنتهم تلهج بذكر الله والثناء عليه سبحانه يكبرون ويهللون ويحمدون الله الذي وفقهم لأداء تلك العبادة في ذلك اليوم العظيم وعليهم أن يتجنبوا الإيذاء لأحد بأي نوع من أنواع الإيذاء.
دليل المسألة(16/331)
نأخذ هذه الأحكام من السنة الفعلية المؤيدة بالسنة القولية أما السنة الفعلية ففعله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع لأنه عليه الصلاة والسلام دخل الموقف بعد الزوال وبعد أن صلى الظهر والعصر جمعاً وقصراً في عرفة لأنه نزل بنمرة وصلى بعرفة ووقف بعد الزوال بعرفة وظل واقفاً عند الصخرات على ناقته القصواء مستقبل القبلة يدعو الله ويثني عليه بما هو أهله سبحانه حتى غاب قرص الشمس من ليلة جمع.
أما السنة القولية فقوله عليه الصلاة والسلام:"خذوا عنى مناسككم"يقول هذا القول لينبه الناس على التأسي به في أعمال الحج قولاً وفعلاً وفي الزمان والمكان.
هكذا يتضح من السنة أن الوقوف بعرفة يبدأ بالزوال من يوم عرفة ويمتد إلى ليلة جمع حتى يجمع الحاج في الوقوف بين الليل والنهار ولا ينبغي مخالفة هذا الهدي في حالة السعة والاختيار والله الموفق.
أما حالة الاضطرار فلها أحكامها.
زمن الوقوف الاضطراري
أما الزمن الاضطراري فيؤخذ من حديثين اثنين أحدهما، حديث عبد الرحمن بن يعمر الذي رواه الخمسة وفيه "أن أناساً من نجد سألوه"أي قالوا كيف حج من لم يدرك يوم عرفة؟ فأمر منادياً فنادى "الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك" الحديث والقطعة التي أوردناها هي محل الشاهد من الحديث.
ثانيهما: حديث عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائي حيث يقول:" أتيت رسول الله عليه الصلاة والسلام بالمزدلفة، حين خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله إني جئت من جبلي طيىء أكللت راحلتي، وأتعبت نفسي والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟ فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: من شهد صلاتنا هذه؟ ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه" رواه الخمسة وصححه الترمذي.(16/332)
ومن إنعام النظر في هذين الحديثين يمكن القول بأن من كان حاله كحال هؤلاء القوم الطائي والذين جاءوا من قبل نجد تكفيه لحظة من نهار عرفة أو ليلة عرفة إذا تم له ذلك قبل طلوع الفجر من ليلة العيد ولا يلزمه الجمع بين الليل والنهار، وهذا ما عنيناه بقولنا: (زمن الوقوف الاضطراري) وفي حديث عبد الرحمن بن يعمر رأينا القوم سألوا رسول الله عليه الصلاة والسلام ما يدرك به الحج من زمن الوقوف فكان الجواب من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك فأقل زمن يدرك به الوقوف بعرفة حتى يصح الحج أن يوجد بعرفة قبل طلوع فجر ليلة جمع ولو بزمن يسير يصدق عليه الوقوف الشرعي قاصداً الوقوف إذ "إنما الأعمال بالنيات" هذا ما يؤخذ من حديث عبد الرحمن بن يعمر.
وحديث عروة بن مضرس يدل على ما دل عليه حديث عبد الرحمن على أنه لا يجب الجمع بين الليل والنهار بالنسبة لمن كان حاله كحال الطائي الذي أتعب نفسه وراحلته بحثاً عن الموقف وهذا الطائي الذي يجهل الموقف لا يستبعد إن يجهل زمن الوقوف أيضاً.
واستناداً إلى قوله عليه الصلاة والسلام "الحج عرفة" وإلى فتوى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سأله من فاته الوقوف بعرفة ماذا يفعل فقال: " اذهب إلى مكة فطف أنت ومن معك.. الخ"فيتسامح معه ومع أمثاله ما لا يتسامح مع غيرهم، فلا يطالبون بالجمع بين الليل والنهار.
أما من يعرفون المكان والزمان وحضروا في متسع من الزمن وليس هناك ضرورة ملحة تحملهم على ترك الجمع بين الليل والنهار فلا ينبغي التساهل في ترك هدي رسول الهدى عليه الصلاة والسلام.
وبعد فإن هذا الاستنتاج هو مجرد فهم فهمته من دراسة النصوص المذكورة والمشار إليها في مطلع البحث فإن كان صواباً فمن فضل الله وتوفيقه ولله وحده الحمد والمنة وإن كان غير ذلك فمن نفسي وراجع إلى قصور فهمي وهو أمر معترف به فأسأله تعالى العفو والعافية.
الأحكام الفقهية(16/333)
وفي ختام هذا البحث تذكر الأحكام الفقهية التي تتعلق بالوقوف بعرفة ونوجزها في الأرقام التالية:
1) أجمع أهل العلم على أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج بل من أهم أركانه ومن فاته الوقوف فلا حج له، فعليه أن يتحلل بعمل العمرة أي يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ويحلق رأسه. وعليه الحج من العام المقبل سواء كان حجه واجباً أو تطوعاً لأن تمام الحج واجب على كل حال عملاً بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} .(16/334)
2) أما صفة أو كيفية أن يصل الحاج إلى عرفة صباح يوم عرفة بأن يغادر (منى) بعد طلوع الشمس وإذا وصل منطقة عرفة لا يدخلها بل ينزل بنمرة غربي المسجد المعروف ويبقى بها إلى الزوال فإذا زالت الشمس ينتقل إلى عرفة حيث المسجد فيصلى بها الظهر والعصر جمعاً وقصراً مع الإمام إن تيسر بعد أن يحضر الخطبة التي يشرح فيها الإمام أعمال يوم عرفة وما بعده ثم يذهب إلى الموقف فيرتفع من وادي عرفة ويتجاوز العلامات المنصوبة هناك التي تبين ابتداء الموقف فإذا تجاوزها فيقف حيث يتيسر له الوقوف راكباً أو راجلاً، جالساً أو مضطجعاً إن دعت الحاجة إلى الاضطجاع فيبقى بعرفة حتى تغرب الشمس ثم يفيض إلى مزدلفة ويؤخر صلاة المغرب ليجمع مع العشاء في مزدلفة ودليل ذلك فعله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كما يدل على ذلك حديث جابر بن عبد الله وغيره ثم قوله عليه الصلاة والسلام "خذوا عنى مناسككم" هذا ولو مرض الحاج فنام في مستشفى عرفة وقد نوى الوقوف بعرفة فقد تم حجه إذا كان عاقلاً أما لو كان مجنوناً أو سكراناً فلا يصح وقوفهما وبالتالي لا يصح حجهما، وهذا الذي ذكرناه من الجمع بين الليل والنهار هو الذي عليه جمهور أهل العلم لكونه موافقاً لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وظاهر مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن زمن الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفه إلى طلوع الفجر يوم النحر فمن وجد بعرفة في شيء من هذا الزمن وهو عاقل فقد تم حجه وقد ناقشنا هذه المسألة في صلب البحث بما فتح الله وذكرنا كيفية التوفيق بين أقوال أهل العلم في هذه المسألة والله ولي التوفيق.(16/335)
3) وجوب الجمع بين الليل والنهار في حالة السعة والاختيار ومن ترك الجمع بين الليل والنهار فعليه الدم عند جمهور العلماء لتركه الواجب عملاً بحديث ابن عباس "من ترك نسكاً فعليه الدم" أما الإمام مالك فيرى أن من أفاض قبل الليل فلم يرجع فلا حج له. ودليله فعله عليه الصلاة والسلام مع قوله "خذوا عنى مناسككم".
4) لا يتقيد الحاج بموضع معين بجبل الرحمة أو غيره بل يقف حيث تيسر له الوقوف عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام:"وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف"وقد قال الرسول هذا القول رفعاً للحرج وتوسعة على الأمة فعلى الحجاج أن يتمتعوا بهذه التوسعة وهذه الرحمة.
5) أن يقف الحاج زمناً يصدق عليه الوقوف الشرعي بنية الوقوف وهو عاقل غير مجنون ولا سكران (لأن الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى) .
6) لا يشترط للوقوف بعرفة الطهارة الكبرى ولا الصغرى، ودليل ذلك قصة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حين حاضت في حجة الوداع وهي محرمة بالعمرة فأمرها رسول الله عليه الصلاة والسلام أن تدخل الحج على العمرة ثم تفعل كل ما يفعله الحاج إلا الطواف بالبيت فوقفت رضي الله عنها وهي حائضة فإذا صح الوقوف مع الحديث الأكبر فصحته مع الحدث الأصغر أولى والله أعلم.
7) وجوب المحافظة على عبادة المسلمين وعقيدتهم بإزالة كل ما يدعو إلى تعلق القلب بغير الله من بناء أو حجر أو شجر كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قطع شجرة البيعة التي كانت بالحديبية وفعله رضي الله عنه عند حجه مع إضافة عموم أدلة وجوب إزالة المنكر وأدلة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المراتب المعروفة.
وما من شك إن الجهات المسئولة عن الحجاج وشئونهم وتوعيتهم وتوجيههم تملك يداً قوية تستطيع إزالة كل ما أشرنا إليه بعد توفيق الله تعالى والله ولي التوفيق..
محمد أمان بن علي الجامي
عميد كلية الحديث الشريف
والدراسات الإسلامية
بالجامعة الإسلامية- المدينة المنورة
---(16/336)
(1) ابن جاسر في منسكه.(16/337)
العدد 43
فهرس المحتويات
1- كلمة العدد
2- إلى الذين يحادون مفاتح الغيب باسم العلم الحديث: لفضية الشيخ عبد الفتاح عشماوي المدرس
3- تدوين السنة ومنزلتها: لفضيلة الدكتور عبد المنعم نجم
4- أصول الإيمان: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
5- مفهوم الربوبية: لفضيلة الشيخ سعد ندا
6- حكم الاحتفال بالموالد: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
7- كيف يغرس الأستاذ في نفوس تلاميذه العلم والعمل معا؟ : لفضلة الشيخ عبد الله بن أحمد قادري
8- وعلاقتها بالقدرات العقلية: لفضيلة الدكتور عباس محجوب
9- مملكة النبات كما يعرضها القرآن ويصفها: بقلم الدكتور حامد صادق قنيبي
10- فلسطين مسلمة: للدكتور علي جريشه
11- كيف سلمت الدولة الإسلامية من تآمر يهود بني قريظة وخيبر عليها: لفضيلة الدكتور جاد محمد أحمد رمضان
12- شخصية الفقيه الداعية عبد الله بن ياسين واضع الأسس الأولى لدولة المرابطين في المغرب والأندلس: لفضيلة الشيخ إبراهيم الجمل
13- الأدب العربي في الميزان: للدكتور شوقي عبد الحليم حمادة
14- يا متاع الغرور: لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
15- ما هكذا يا سعد تورد الإبل: بقلم فضيلة الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
16- صحيح المقال في مسألة شد الرحال: لفضيلة الشيخ عبد العزيز الربيعان
17- وجوب إنكار المعاملات الربوية: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
18- تعقيب لا تثريب: لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
19- الرد على إباحة الغناء: للشيخ نايف الدعيس
20- فكرة الجامعة المفتوحة أو جامعة الهواء: لفضيلة الشيخ محمد الشربيني
21- مجلة الجامعة الإسلامية: للأستاذ عبد السلام هاشم حافظ
22- الانتفاخ: للدكتور سيد أحمد عبد البر
23- دراسة عن التخلص من الكحول في الصيدلة والطب: للدكتور أبو الوفا عبد الآخر
24- مع ابن القيم في كتابه ((حادي الأرواح إلى بلاد الأرواح)) : للدكتور عبد الرحمن بله علي
25- بين قاض وخليفة من كتاب نفح الطيب
26- العلم والإيمان
27- مختارات من الصحف - بداية النهاية
28- خطاب الرئيس محمد ضياء الحق، رئيس دولة باكستان بعنوان: خطوات لتطبيق نظام الإسلام
29- برقية من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم: رئيس تحرير مجلة الجامعة الإسلامية: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
30- من أحداث العالم الإسلامي: بقلم الدكتور عبد الرحمن العدوي
31- القسم الإنجليزي (English Section)
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(16/338)
كلمة العدد
يصادف صدور (مجلة الجامعة الإسلامية) هذه المرة في عددها الثالث عشر للسنة الحادية عشر مناسبة إسلامية هامة، لها شأنها ولها مكانتها في نفوس المسلمين أجمع.. وهي مناسبة إعلان رئيس جمهورية باكستان تطبيق الشريعة الإسلامية. وتطبيق الشريعة الإسلامية هو الهدف الأول والأخير من انفصال باكستان عن الهند.
ومنذ ذلك التاريخ - تاريخ استقلال باكستان - إلى هذا اليوم لم تزل محاولة تطبيق الشريعة الإسلامية تقطع عقبة بعد عقبة، وتخطوا خطوات بطيئة إلى أن ظهرت اليوم إلى حيز الوجود بذلك الإعلان المبارك الذي نرجو أن يكون نقطة تحول في حياة الشعب الباكستاني الذي سوف يسعد - بإذن الله - تحت ظل الشريعة الإسلامية، كما سعدت جميع الشعوب التي يحكمها الإسلام قديما وحديثا.
والشعب الباكستاني شعب مسلم وصادق في إسلامه. وقد كان منذ الاستقلال متلهفا إلى تطبيق سوف تكون خيرا من حياته قبل التطبيق؛ لأن الإسلام شريعة الله العليم الحكيم، وهو خير وبركة؛ فحيثما نزل الإسلام وعمل به وطبقت شريعته نزلت البركة والرخاء والخيرات… ونزل الأمن والأمان والاستقرار.
وهو ينظم الحياة تنظيما بديعا ودقيقا، يأمن الإنسان تحت ظله على نفسه وعقيدته وماله؛ لأنه يحفظ بأحكامه العادلة أموال الناس وعقولهم ودمائهم، ويطلق لهم حرية العمل وحرية القول، ويكسبهم شجاعة فذه، بحيث لا يخافون إلا ربّهم وخالقهم، ولا يطأطئون رؤوسهم إلا لعظمته.
هذه بعض المعاني التي يمتاز بها إسلامنا العظيم ...
و (مجلة الجامعة الإسلامية) تنتهز هذه الفرصة لتهنئ جمهورية باكستان الإسلامية - رئيسا وحكومة وشعبا - على هذه النعمة؛ نعمة الإسلام وتطبيق شريعته.(16/339)
وفي الوقت نفسه تهيب بالدول الإسلامية الأخرى وتدعوها لتحذو حذو جمهورية باكستان الإسلامية؛ فتعلن عن تطبيق الشريعة الإسلامية ثم تتابع الإعلان والتنفيذ والحل؛ لأن الإعلان وحده غير كاف طبعا، ويومئذ نصدق إذا قلنا: "نحن مسلمون"والله الموفق ...
أوهام يحسبونها أعذارا ...
وقد يعتذر بعض الحكام عن تطبيق الشريعة ببعض الأعذار نوجزها فيما يلي:
ا- إن شعوبهم ورعاياهم تتكون من مسلمين وغير مسلمين؛ فيظنون أن هذا الواقع يكون لهم عذرا مانعا عن تطبيق الشريعة؛ لئلا يتضرر أفراد الشعب على حساب الآخرين في زعمهم!!!
وللإجابة على هذا الوهم نقول: إن تطبيق شريعة الإسلام رحمة للمسلمين وغير المسلمين {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .. {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ..
وذلك أن غير المسلمين ينعمون في ظل أحكام الإسلام كما ينعم المسلمون؛ لأن الإسلام الذي حرم مال المسلم ودمه وعرضه كذلك يحرم أموال غير المسلمين ودماءهم وأعراضهم، ما داموا يعيشون تحت راية الإسلام مسالمين دون أن يكونوا حربا على الإسلام والمسلمين، ولا يكونوا عونا لمن يحاربهم. ويسمى هذا الصنف مستأمنا أو معاهدا أو ذميا..
ومن أحكام دين الإسلام أحكام تخص هؤلاء الناس يهوديين أو نصرانيين.. من ذلكم الوعيد الشديد الذي جاء في حق من يقتل معاهدا أو ذميا بأنه لا يراح رائحة الجنة عبد الله [1] بن عمر بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه الصلاة والسلام: "من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد في مسيرة أربعين عاما". رواه البخاري واللفظ له، وللنسائي مثله إلا أنه قال: "من قتل قتيلا من أهل الذمة لم يرح رائحة الجنة".(16/340)
ومن مثل هذه النصوص الصريحة يتضح جليا أن الإسلام دين الرحمة، وهو عنوان الأمن والاستقرار كما تقدم.. وخير شاهد على ذلك ما ينعم به سكان المملكة العربية السعودية التي اكتفت بالإسلام دينا ودستورا بتوفيق الله؛ ينعم سكان هذه المملكة بنعمة الأمن المنقطع النظير في العالم، مواطنين ووافدين على حد سواء، وهى حقيقة ملموسة لمس اليد، ولا تحتاج إلى ذكر الشواهد، بل كل من عرف ما تعيش فيه شعوب العالم من قلق واضطراب وعدم استقرار للأمن، ثم شاهَد ما يعيش سكان هذا البلد الطيب من الأمن على نفسه وماله وعرضه، وينام ليله ملء أجفانه يؤمن تماما أن سر ذلك هو تطبيق شريعة الإسلام.. {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} ..
2- يظن بعضهم أن تطبيق شريعة الإسلام يعني حمل الناس على اعتناق الإسلام وتكليفهم بذلك بغير رضاهم.!!
وللإجابة على ذلك نقول أن هذا الوهم منشأه عدم التفقه في الدين وقلة البصيرة.
وإلا فإن الإسلام يعلن بكل صراحة في قرآنه بأنه لا يكره أحدا على الدخول في الإسلام بغير اختياره ودون رضاه؛ إذ يقول القرآن الكريم - وهو كتاب الإسلام الوحيد - {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ} .. فدعوة الإسلام إذاً إنما هي عرض وبيان.. عرض الإسلام على حقيقته كاملا كما نزل.. وبيان لمحاسنه وسماحته وشموله ورحمته؛ ليعرف على حقيقته.. فليس في دعوة الإسلام إكراه للناس حتى يكونوا مسلمين قسرا ودون اختيارهم.(16/341)
وبعد: فهل بقي هناك خيط يتعلق به أولئك الذين لم يطبقوا الشريعة في شعوبهم مع انتسابهم إلى الإسلام؟!!.. فنرجو أن يجدوا في موقف فخامة رئيس باكستان (ضياء الحق) ما يكون خير حافز لهم، ويضيء لهم الطريق ليبادروا فيعلنوا كما أعلن، ثم يطبقوا وينفذوا ولا يجبنوا، والله معهم وسوف يسدد خطاهم ويأخذ بأيديهم.. {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} .
"رئيس التحرير"
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الترغيب والترهيب ص 333.(16/342)
فلسطين مسلمة
للدكتور علي جريشه
الأستاذ بكلية الشريعة
أولا: كيف استلب الوطن الإسلامي في فلسطين
أ- تاريخ ...
البعض يرجع ذلك تاريخيا إلى أول مؤتمر صهيوني انعقد في بال عام 1897م بزعامة تيودور هرتزل، حيث قرر اتخاذ فلسطين وطنا قوميا لليهود، ووضع التخطيط اللازم للتنفيذ؛ فسار في خطين: خط دفع اليهود إلى الهجرة إلى فلسطين، وخط البعث عن الشرعية الدولية التي تساند هذا الاغتصاب أو تستره، وفي الوقت نفسه القوة الدولية التي تحمي هذا الاغتصاب بالقوة وبالشرعية [1] معا..
وتأسس البنك الوطني اليهودي لهذا الغرض.. وتأسست معه الجمعيات اليهودية العديدة التي تزكي في اليهود روح الصهيونية، وكان ذلك تنفيذاً للخط الأول.. وبدأت الهجرة تسير في خط بياني بدأ بعدة آلاف، وانتهى اليوم بأكثر من ثلاثة ملايين نسمة.
وفي مدينة القدس الإسلامية - على سبيل المثال - كان عدد السكان اليهود:
سنة 1670 م (القرن السابع عشر) يهودي واحد.
سنة 1750 م (القرن الثامن عشر) 150 يهوديا.
سنة 1977 م (القرن العشررن) 142000 مائة واثنين وأربعون ألف يهودي.
وبدأ انتزاع الأرض من أيدي أهلها بالإغراء بالمال رغبا، ثم بالتخويف والبطش بعد ذلك رهبا.. وسار انتزع الأرض يأخذ الخط البياني التالي:
في العشرينات: تراوحت ما بين 17498 سنة 1923، إلى 176124 دونما عام 1926.
في الثلاثينات: 18893 سنة 1932 إلى 36991 دونما عام 1933 إلى 67114 سنة 1935.
في الأربعينات، وفي نهاية سنة 1946 قدرت السلطات البريطانية ما يملكه اليهود بمساحة 1624505 دونما، ومع ذلك فلم تكن تمثل غير 7% من مساحة فلسطين..
وفي سنة 1967: ملكت إسرائيل كل أرض فلسطين وأضعافها..(16/343)
وتحقيقا للخط الثاني.. كانت محاولة الشرعية الأولى مع دولة الخلافة.. مع السلطان عبد الحميد رحمه الله.. قيل: إن هرتزل قابل السلطان عبد الحميد بنفسه..
وقيل: إنه أوفد إليه وفدا من ثلاثة:
1) مزراحى قرصو، زعيم اليهود في سالانيك.
2) جاك.
3) ليون (وهما كذلك من زعماء اليهود) .
وعرضوا على السلطان عبد الحميد - في حضور تحسين باشا رئيس الوزراء -.
أ- أن يقوم اليهود بوفاء الديون المستحقة على الدولة العثمانية (وقدرها 133 مليون ليرة إنجليزية ذهبية) .
ب- بناء أسطول لحماية الإمبراطورية العثمانية، (يتكلف 120 مليون فرنك فرنسي) .
ج- تقديم قرض بدون فائدة (قدره 355 مليون ليرة ذهبية) ؛ لإنعاش مالية الدولة ومواردها، وذلك مقابل السماح لليهود بدخول فلسطين للزيارة في أي يوم من أيام السنة، والسماح ببناء مستعمرة لهم قرب القدس الشريف.
وقد رفض الخليفة المفترى على تاريخه، وقيل: إنه بصق في وجه زعيمهم..
ب- أرض بلا شعب إلى شعب بلا أرض (إسرائيل زانغويل) :
وكانت المحاولة الثانية في البحث عن الشرعية الدولية والحماية الاستعمارية.. عن طريق بريطانيا، واستطاع اليهود خلال الحرب العالمية الأولى والثانية أن ينجحوا في المشاركة في هذه الحرب، بما استمال بريطانيا العظمى إليهم، ثم كانت صلات هرتزل ووايزمان من بعده استثماراً لهذه المشاركة واستفادة منها..(16/344)
وفي الوقت الذي كانت بريطانيا "العظمى"قد أعطت العهد للشريف حسين بمنح الاستقلال للدول العربية - والسماح بقيام خلافة "عربية إسلامية"يقوم عليها أحد الأصلاء من مكة أو المدينة - في نفس الوقت كانت الاتصالات باليهود قائمة، وكان التعاطف معهم على أشده، وتم عقد اتفاقيتين سريتين في مارس سنة 1916 بين روسيا وإنجلترا وفرنسا، وفي مايو سنة 1916 بين الدولتين الأخيرتين (والتي عرفت بمعاهدة سايس بيكو) ، وتقرر وضع إقليم فلسطين تحت حكم دولي يتمتع اليهود في ظله "بالمساواة السياسية والدينية والمدنية" [2] .
ولم يعرف الشريف حسين الذي وثق في شرف بريطانيا "العظمى"بأمر هذه الاتفاقات إلا بعد ستة شهور، وبعد قيام الثورة البلشفية في روسيا.. حيث أعلنت عن هذه الاتفاقات [3] .
وفي نوفمبر 1917 أصدر اللورد (بلفور) - وزير خارجية بريطانيا "العظمى"التصريح التالي: "إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي، وسنبذل جهدنا لتسهيل تحقيق هذه الغاية، وعلى أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن يضير الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى..".
وبهذا أعطى (من لا يملك) إلى (من لا يستحق) أول حماية، يتم التصريح بها، وأول خطوة عن طريق الشرعية الزائفة، ومع ذلك اعتبرها الصهيونيون تصديقا بريطانيا رسميا على إنشاء دولة يهودية في فلسطين، وذلك عن طريق الهجرة الجماعية وابتياع الأراضي، ووافقت على التصريح فرنسا وإيطاليا في فبراير سنة 1918، وأمريكا في أكتوبر سنة 1918م.(16/345)
وكانت تتمة المؤامرة البريطانية - الغربية إعلان الانتداب على فلسطين، بعد ضمها مع شرق الأردن والعراق إلى بريطانيا.. واكتشف الشريف حسين - ومن وراءه من العرب - أن فلسطين قد سلمت لليهود، وأن العرب جرى اقتسامهم بين الدول الحليفة.
وكانت المحاولة الثالثة والأخيرة إعلان دولة إسرائيل في 15 مايو سنة 1948م في ظل حماية دولية إنجليزية أمريكية فرنسية روسية..
وسبقتها خطوة خطيرة على طريق الشرعية الدولية، هو قرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947م قبل الإعلان بشهور ستة..
هذا ما يراه البعض..
ونحن معهم في أن هذا التسلسل كان السبيل لتنفيذ المخطط عمليا..
ج- تاريخ أقدم:
لكننا مع البعض الآخر.. الذي يرجع الأمر إلى ما قبل هرتزل بقرنين أو يزيد، حين دعا الحاخام ليفا (1520- 1609) من براغ؛ دعا إلى اتخاذ فلسطين وطنا لليهود.
وأعقبه مورس هس (1812-1875) الذي بدأ علمانيا، ثم صبأ إلى الماركسية مرتبطا مع ماركس، لكنه أعرض عن الماركسية متجها إلى مثالية يهودية مغرقة في حبّ اليهود، وأصدر كتابه (روما والقدس) سنة 1862 بسط فيه أفكاره، وتحدث عن أن اليهود "مدعوون مصيريا لتحويل العالم"..
وبدأت الصهيونية المنظمة، وظهرت حركة "أحباء صهيون"تحت زعامة ليوبنسكر (1821- 1891) ، وفي أواخر الثمانينات والتسعينات جرت صياغة عقيدة الصهيونية على يد مدارس متعددة..
فالصهيونية العملية: ومن أشهر زعمائها دافيد عوردون (1856-1922) ، وقد جدد حركة "أحباء صهيون"التي تقوم على العمل في أرض إسرائيل، وإنشاء المستوطنات والمستعمرات..
والصهيونية السياسية: ويقوم على زعامتها ليوبتسكر، في أوربا الشرقية، واليهودي الهنغاري تيودورهرتزل (1860-1904) .(16/346)
ويقال: إن كليهما في البداية لم يكن مقتنعا باتخاذ فلسطين وطنا قوميا لليهود.. وإن هرتزل كان في البداية يفضل مواقع أخرى مثلا الأرجنتين وقبرص وشبه جزيرة سيناء، لكنه مع المؤتمرات الصهيونية التي انعقدت تغلب الاتجاه إلى فلسطين..
وقد يؤكد القول بأن هرتزل في البداية لم يكن متجها إلى فلسطين محادثاته مع الزعماء الإنجليز التي تم - بناءً عليها - إيفاد بعثة إلى سيناء سنة 1906؛ لبحث مدى صلاحيتها على الطبيعة، لكنه من ناحية أخرى.. فإن سيناء ملاصقة لفلسطين، وهى من ناحية التقديس عندهم لا تقل عن فلسطين؛ ففيها كلم الله موسى، وفيها كتبت الألواح ونزلت الوصايا العشر، ثم هي امتداد طبيعي لدولة فلسطين الموسعة كما تكشفت أطماعهم بعد ذلك: (من الفرات إلى النيل، ملكك يا إسرائيل) .
أما الصهيونية الثقافية: فقد تزعم جناحها أحدها عام (1856- 1927) .
وقد أعلن أن وجود الأمة اليهودية بخصائصها المتأصلة، هو ما يحقق الإنسان الأكثر كمالا..
ونحن نرى أن مراحل استلاب الوطن الإسلامي في فلسطين جرت على النحو التالي:
1- قبل القرن السادس عشر الميلادي… كان الأمر مجرد أمل لم يصرح به.. [4] .
2- منذ القرن السادس عشر الميلادي.. كانت مرحلة التفكير والدعوة ...
3- منذ القرن التاسع عشر الميلادي.. كانت مرحلة التخطيط ...
4- في القرن العشرين كانت مرحلة التنفيذ ...
وغني عن الذكر أن لا حق لليهود - تاريخيا - في أرض فلسطين..؛ فإنها منذ السنة الخامسة عشرة الهجرية أرض إسلامية.. وهى قبل هذا التاريخ أرض عربية، وطوال خمسة آلاف سنة فإن عمر اليهود على هذه الأرض الطيبة لم يجاوز (145) مائة وأربعين مائة عام على فترين:
الفترة الأولى بين سنة 1000 قبل الميلاد حتى سنة 927 قبل الميلاد..
والفترة الثانية بين سنة 142 قبل الميلاد حتى سنة 75 قبل الميلاد كذلك..(16/347)
- أما الأسباب التي أدت إلى نجاح اليهود في استلاب الوطن الإسلامي (فلسطين) ؛ فنحن نرجعها إلى الأسباب الآتية:
1- تخطيط اليهود وصبرهم على إنجاحه:
وقد بدأ التخطيط تفكيرا من مفكر يهم كما أشرنا، ثم انتهى إلى إقرار خطة في مؤتمر (بال) 1897، ترمي إلى تنمية الهجرة وشراء الأرض من ناحية، والحث عن الحماية الدولية من دولة عظمى تظلها الشرعية الدولية الزائفة من ناحية أخرى..
ويقال إن البروتوكولات وضعت في المؤتمر الصهيوني الأول..
وكلا الخطتين تدل على معرفة بأغوار النفس الإنسانية، وإدراك للجو الدولي الموجود، واستغلال لأحداثه، وصبرهم على تنفيذ ذلك التخطيط رغم الأحداث الجسيمة التي واجهتهم من بعده، كالاضطهاد الذي حدث لهم من مشرق أوربا، ثم الاضطهاد الذي حدث لهم في ألمانيا على يدي هتلر، ثم العقبات التي قامت في طريق إقامتهم دولتهم من مقاومة الشعب الفلسطيني، وانضمام الشعوب العربية الإسلامية إلى هذه المقاومة، ومن قبلها رفض الخلافة العثمانية لوجودهم، وتآمرهم على هذه الخلافة بما صرّح به هرتزل في مذكراته من أن السلطان عبد الحميد قد رفض الملايين العديدة لقاء فلسطين؛ فقبل حزب الاتحاد والرقي مليونين لتنفيذ نفس الغرض [5] ..
كل ذلك وغيره يكشف عن حسن تخطيط.. وعن صبر في التنفيذ..
وفي مقابلة ذلك - ونقررها بكل أسف - انتفى التخطيط لدى الأمة الإسلامية، أو بالأصح لدى "اليقظى"من الأمة الإسلامية، وتوافر عندهم إخلاص بغير تخطيط شابه في كثير من الأحيان قلة الصبر على التنفيذ، واستجابة لغير المخلصين لإنهاء أوضاع تقلق اليهود.
2- إبعاد الإسلام عن المعركة:
واضح أن الإسلام كان الخط الأول في المعركة..(16/348)
أولاً: بما يحمله لأبنائه من عقيدة قد تؤثر الموت في سبيل الله في الحياة في ظل عبودية تفرضها أذل أمة في الأرض، وبما يحمله كذلك من دعوة إلى الجهاد واعتباره فرض عين، إذا غزيت ديار الإسلام.. هذه العقيدة من غير سلاح كفيلة - بإذن الله - بتحقيق النصر.. فإذا أضفنا إليها أمر الإسلام: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ..وأحسنّا فهم الأمر الرباني لوجدنا أن الإسلام يأمر:
أ- بالتخطيط القوى.. وهو ما يحمله لفظ (الإعداد) وما يحمله لفظ (القوة) .
ب- الإعداد المعنوي.
ج- الإعداد العسكري.. حشدا، وتدريبا، وتسليحا.
د- الإكثار من السلاح الثقيل، وهو ما تعنيه (رباط الخيل) بعد (القوة) ؛ فهو تخصيص للأهمية والخطر.
ثانيا: ما يحمله دخول الإسلام المعركة من دخول ثقل بشرى لا قبل لليهود به، ونعنى به الأمة الإسلامية التي تناهز اليوم ألف مليون من البشر.
ثالثا: ما يجمله دخول الإسلام المعركة من ثقل سياسي واقتصادي لا قبل لليهود بمواجهته؛ فمصالح أصدقاء إسرائيل أكثرها في أمم الإسلام..
واحتياجات مناصري اليهود الاقتصادية أكثرها في قبضة المسلمين..
أما عن مظاهر إقصاء الإسلام عن المعركة وكيفيته:
فقد بدا وبدأ.. بما رتبه اليهود داخل دولة الخلافة نفسها.. وقام على تنفيذه يهود الدونمة، ومنهم ومعهم حزب الاتحاد والرقى وحزب تركيا الفتاة، وهو ما عناه الكاتب الروسي سرجس نيلوس من اقتحام الأفعى للآستانة في طريقها إلى فلسطين [6] .
ثم تأكد ذلك بإقصاء السلطان عبد الحميد الذي رفض عرض اليهود.
ثم بالقضاء على الخلافة نفسها التي ما كان يمكن أن تسلم بقيام وطن يهودي وسط وطنها.(16/349)
واستمرت محاولات إقصاء الإسلام عن المعركة بتكوين الجامعة العربية (بدلا من الجامعة الإسلامية) ، بفكر وزير الخارجية الإنجليزي، وقبل تمام الكارثة بثلاث سنوات.. وبحمل الجامعة العربية لواء الجهاد من أجل فلسطين ثم تخدير بقية العالم الإسلامي عن النهوض للمعركة..
وزاد إقصاء الإسلام عن المعركة بدخول جيوش سبع دول عربية إلى المعركة.. فما حاجة بقية المسلمين للجهاد وقد تولته جيوش سبعة فيها أبطال ومغاوير..
وحين دخل عنصر إسلامي شعبي إلى معركة فلسطين، وحين صرح إمامهم الشهيد بإعلان التعبئة الدينية للجهاد في فلسطين وعزمه دخولها في عشرة آلاف مقاتل فدائي.. وحين ذاق اليهود بأس أولئك المسلمين بما شهدوا هم به، وبما شهد به قادة الجيش المصري أمام القضاء المصري.. حين كان ذلك تمت طعنة الفدائيين المسلمين من الخلف على يد الحكومة الحاكمة في ذلك الحين؛ فأصدرت قرارا بحل جماعتهم، وقرارا باعتقالهم، وكانت تتمة الخيانة قتل إمامهم في ميدان عام على يد بعض رجال الشرطة السريين..
وفي كلى مرة كان يتم لإسرائيل التوسع؛ في عامي 1965، 1967 كان يتم إدخال العنصر الإسلامي إلى السجون، ولا يمكن أن يكون هذا الأمر مع تكرره في أعوام 48، 55، 66 من قبيل المصادفات السعيدة..
وتكشفت وثيقة تضمنها حكم قضائي صدر في مصر في 30/3/1975 عما كانت تحمله السلطة الحاكمة وقت التوسع من عداء للإسلام والمسلمين وتخطيط للقضاء عليهم.
3- إقصاء العب الفلسطيني عن المعركة:
منذ ذاق الإنجليز - ومن بعدهم اليهود - بسالة الشعب الفلسطيني، وتضحيته وتصميمه على الدفاع عن وطنه، وإذ عرفوا أنه صاحب المصلحة الأول في الدفاع عن التراب الإسلامي في القدس وفلسطين.. ومنذ ظهر منه أمثال الشهيد (عبد القادر الحسيني) قائد منطقة القدس، والشهيد (حسن سلامه) قائد المنطقة الوسطى؛ فقد قرروا إقصاءه عن المعركة..(16/350)
وكانت قمة التخطيط والتنفيذ إدخال سبعة جيوش عربية إلى فلسطين؛ لتخوض المعركة مع اليهود "بالنيابة"عن الشعب الفلسطيني..
وسبقها وعاصرها حرمان الشعب الفلسطيني من التدريب، ومن التسليح، وتشكيك الجيوش العربية في أمانة الشعب الفلسطيني، واتهامه بالعمل لحساب العدو اليهودي.
وكنت أعجب كيف لجيش عربي يقوده إنجليزي صريح أن يخوض حرباً لصالح المسلمين وضد اليهود الذين ضمن لهم الإنجليز بالوعد والتخطيط والتنفيذ قيام وطن في فلسطين؟.. وكنت أعجب لجيش آخر.. بل جيوش أخرى في بلاد يحتلها الإنجليز.. كيف سمحوا لها بالمرور إلى فلسطين..
حتى أدركت أن المطلوب هو إقصاء الشعب الفلسطيني عن المعركة.. وفعلا نجحت الخطة..
وأقصى الشعب الفلسطيني عن المعركة.. وسلمت أراضي فلسطين جزءا جزءاً.. من الجيوش العربية الباسلة إلى إسرائيل المزعومة، وبعد أن انتهت حرب فلسطين سنة 1948 كان الشعب الفلسطيني قد تم إقصاؤه حربيا عن المعركة..
وتمّ بعد ذلك إقصاؤه سياسيا عنها..؛ فتحولت القضية أمام الأمم المتحدة إلي نزاع بين دول ذات سيادة.. عربية وإسرائلية.. [7] .
وحين بدت بادرة ظهور العنصر الفلسطيني سنة 1967.. تم حشد القادرين منهم فيما سمي بجيش التحرير الفلسطيني؛ ليتم التهامهم في أول ضربة لليهود في يونيه سنة 1967، وقامت جيوش أخرى بالواجب في القضاء على العنصر الفلسطيني الثائر..
بعضها في مذبحة "أيلول الأسود"التي قتل فيها اثنان وعشرون ألفا على يد جيش عربي..
والبعض الآخر في مذابح تل الزعتر وما قبلها وما بعدها.. وتدخل جيش عربي ليتم النصر ويتوِّجه ويحميه..
ثانيا: الحاضر الأليم في فلسطين:
من الناحية السياسية:
أ- الدولة شعب وإقليم وسيادة:
والشعب الفلسطيني اليوم.. موزّع بين الأقطار، ممزق بين المنظمات والأحزاب.. مما سنزيده تفصيلا عند الكلام عن الناحية الاجتماعية إن شاء الله..(16/351)
وإقليم فلسطين اليوم.. غير موجود على الخريطة السياسية، وموجود بدلا منه دولة إسرائيل، وهي لم تكتف بأراضي فلسطين.. بل ابتلعت في توسع سنة 1967 الجولان من سوريا، والضفة الغربية من الأردن، وشبه جزيرة سيناء من مصر.. والأراضي التي ابتلعتها في التوسع الأخير أضعاف ما امتلكت من قبل بغير حق..
ولا سيادة لشعب فلسطين على أرض فلسطين.. بل ولا سيادة له في مكان آخر.. والمنظمة التي نشأت في أواخر الستينات.. نشأت إلى جوارها تيارات أخرى.. بل مزقتها من الداخل تيارات مختلفة.. وأشارت أصابع الاتهام إليها في مذبحة أيلول وما لحقها من مذابح.. أنها مهدت، وأحيانا شاركت.. وهى على أي حال قد احتوتها التيارات التي احتوت كثيرا من الأنظمة ومن المنظمات في المنطقة.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العد العظيم..
ب- الشرعية للغصب الإسرائيلي تتم باعتراف أصحاب الحق نفسه:
حرصت إسرائيل منذ قيامها - بل ومن قبل قيامها - أن تستر غصبها بشرعية رفضها أصحاب الحق يوم أن قالوا: "إن من لا يملك أعطى من لا يستحق"..
لكنها - بكل أسف- اليوم في دور اعتراف أصحاب الحق نفسه.. ومتى تم ذلك انتفى عن إسرائيل كل ما قيل من اغتصاب وسلب لأرض الإسلام.. ومن هنا كانت الخطورة..
وقد سبق هذه الخطوة تمهيد على النحو التالي:
1- تمهيد إعلامي: بأن إسرائيل أمر واقع، وأن لا قبل للعرب بدفعها عن فلسطين..
2- تمهيد حربي: بإحراز بطولة - ولو جزئية - في جانب العرب؛ ليبدو قبول "السلام"من موقع القوة؛ شلا يرفضه الشعب العربي باعتباره استسلاما..
3- تمهيد اقتصادي: بإحداث خنق اقتصادي للشعب العربي في المنطقة، خصوصا الجزء الذي يتصدر للمعركة… حتى يلوح "السلام"إنقاذا للشعب مما يعانيه..(16/352)
4- تمهيد سياسي: وذلك بإحاطة إسرائيل بأنظمة - تعمل لحساب الصهيونية عن قصد أو غير قصد - بتحطيم معنويات الشعوب، وتحطيم قيمهم وأخلاقهم، والتمهيد إعلاميا للاعتراف بالغصب، بل وللتعاون مع الغاصب، وحسبنا أن نعرف أن نظاما ما استطاع يهودي أن يتسلل إليه وتسمى بغير اسمه، وصار يعدل في الوزارة ويبدل، وقد عرضت عليه هو الوزارة؛ فأبى بنصيحة من كبرائه في إسرائيل؛ لأن مكانه أقوى من وزير..
وفي نظام آخر وصل عملاء الصهيونية وأعضاء الماسونية إلى حدّ تسير دفة الحكم، والجلوس على رأسه، وكان من وزرائهم اليهودي، أو من هو متزوج بيهودية، ولا شك أن ذلك كله لم يحدث إلا بعد أن قامت دولة إسرائيل، وارتأى أن الأنظمة (الرجعية) صارت عاجزة عن تحقيق الهدف.. بل هي حجر عثرة في سبيل تحقيق الهدف.. ومن ثم عرفت المنطقة "مودة" الانقلابات العسكرية..
ج- المستقبل السياسي لإسرائيل:
المغفَّلون أو المغفِلون يعتقدون أن إسرائيل بعد الاعتراف بها والصلح معها سوف تقنع بما هي عليه.. وتاريخ الصهيونية وطبيعتها وأهدافها وكتبها.. كل ذلك يأبى عليها ذلك..
وحسبهم أن يقرؤوا التلمود، وأن يقرؤوا البروتوكولات، بل أن ينظروا إلى ما كتب في الكنيست نفسه.. فلم يعد في الأمر عندهم حياء..
وبلغة أصحاب الحق تحدث رئيس إسرائيل في يوم أليم عن أنهم أصحاب حق يستردون أرض الأجداد، وكأن الذين عاشوا عليها أربعة عشر قرنا ليسوا أصحاب حقوق، وتحدث رئيس إسرائيل عن العبقرية اليهودية، وعما يمكن أن تفعله في المنطقة..(16/353)
ولئن كان حديثه عن الناحية الاقتصادية.. فإني أقدم عليها الناحية السياسية لأقول: إنه إن ظل الوضع المفتوح فبوسع العبقرية اليهودية أن تفعل ما تشاء في المنطقة، ولها أن تحرك الدمىكما ترى، ولها أن تغير الدمى إن ضاقت بها الشعوب أو أحاطتها الشكوك.. ولها أن تمضي في التوسع بعد ذلك غير عابئة بالضمانات؛ فما ضمانات اليوم بأعظم ولا أبقى من وعود الأمس وقراراته..
كل ذلك.. لأن إسرائيل أسقطت من حساباتها حاليا الإسلام وأهله، بعد ما نزل على رءوسهم من ضربات تدوخ وتكسر وتقتل..
لكن عقيدتنا في الله لم تتزعزع، وإيماننا بانتصار الإسلام لم يهن ولن يهون.. {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} .
ثانيا- من الناحية الاجتماعية
أ- شعب تمزق:
مزقته الخلافات قديما وحديثا.
ومزقه التشريد وحياة الخيام.
ومزقه الجوع والعري والمرض.
ب- شعب تحلل:
تحلل فكريا بعدما مزقه تيارات عديدة.. علمانية، شيوعية، وجودية، يهودية.. وتحلل خلقيا بعدما مزقه التشريد والحاجة، وسرى فيه الاختلاط والانحلال.. وتحلل أسريا بعدما تمزقت الأسرة الواحدة بين بلاد وأقطار.. ولم يعد فيها من ينصت إلا لنداء البطن.. وما حوى..
ج- شعب يهود:
- "إن أمام العرب في إسرائيل ثلاث خيارات: أ- اعتناق الدين اليهودي.. ب- الطرد خارج البلاد.. ج- الإبادة التامة..". (ابن جوريون) .
- "سنصل إلى وقت نعرف فيه كيف نمنع من لا يضع القلنسوة اليهودية فوق رأسه أن يعيش بيننا ". (جولدا مائير) .(16/354)
- "إن فرعون أخطأ ولم يصب الغرض حيث سلك ببني إسرائيل مسلك الإرهاب والتنكيل؛ فانتصروا عليه وسجل التاريخ عليه لعنات ما اقترفه، ولكنه لو أنشأ مدارس وجامعات يغير فيها أفكارهم ويقتلهم قتلا معنويا،، يجعلهم ينحرفون عن هدفهم الأصيل؛ فيعيشون عالة على غيرهم بلا هدف يتفانون في تحصيله؛ لو فعل ذلك لأراح واستراح، ولسجل التاريخ مفخرة خدمة العلم بدلا من لعنات البطش والإرهاب". (الفيلسوف الهندي أكبر اله أبادي) .
ولتحقيق هذه الغاية تمضي برامج الإعلام، ومناهج التعليم لتحقيق هذه الغاية.. ولتحقق هذه الغاية تمضي السياسة الاقتصادية نحو تنمية الحاجة لدى العرب القانطين داخل إسرائيل.. ولهذه الغاية تمضي سياسة "التهجير"و "الاستيطان "، ونزع ملكية العرب المقيمين في فلسطين..
ثالثا: مستقبل فلسطين
الحديث عن المستقبل حديث شائك؛ إذ لا يعلم الغيب إلا الله.. لكن الله سبحانه.. أجاز لنا الإعداد، ذاك قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} .. والإعداد يقتضي "التوقع"بالنسبة للمستقبل، والعمل على أساس من ذلك التوقع.
والله سبحانه وتعالى جعل لنا كذلك "سنناً كونية"تعيننا على ذلك التوقع:
منها: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم} .
ومنها: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} .
ومنها: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ..
فمن خلال هذا وذاك.. نستطيع بعون الله.. دون رجم بالغيب.. أن نرسم صورة المستقبل من خلال الأحداث، ثم نحاول من خلال الإيمان..
1- المستقبل من خلال الأحداث: من خلال الأحداث يستطيع المجتهد أن يستنبط ما يلي:
أ- لا مسقبل لفلسطين:
ذاك منطق الأحداث وتوقعاتها.. إن الصهيونية وضعت أقدامها وأنّى لها أن تتزحزح..(16/355)
وأنها في كل جولة تكسب الجديد، فتنقلب مطالبة العرب بالجديد وتنسى القديم، وهو ما نراه من مطالبة العرب بالجلاء عن الأراضي التي احتلت سنة 1967.. وكأن الاحتلال الذي تمّ قبل سنة 1967 قد صار شرعيا وحقا مقررا لليهود..
وفي الجولة القادمة - إن بقيت الأوضاع على ما هي عليه - تكون أراضى 1967 أمرا شرعيا وحقا مقررا لليهود، وتكون المطالبة بالأراضي التي احتلت بعد ذلك..
والمجتمع الدولي - بتأثير الصهيونية والصليبية العالمية - يضفي الشرعية ويحرسها في كل توسع صهيوني..؛ فالمجتمع الدولي- بالتأثير السابق- هو الذي قسم أرض فلسطين سنة 1947 بين اليهود والعرب.. وكانت من قبل خالصة للعرب وحدهم، ولم يكن لليهود فيها أدنى نصيب.. والمجتمع الدولي هو الذي عاد بعد ذلك يصدر القرار 242 والقرار المعدل؛ ليعترف بفلسطين كلها لليهود وليطالبهم فقط بالجلاء عن الأراضي العربية الأخرى التي احتلتها إسرائيل علاوة على فلسطين سنة1967، وغدا تحتل إسرائيل أراض أخرى فيكون قرار المجتمع الدولي الاعتراف بالأراضي القديمة والمطالبة بالجلاء عن الجديد.
ومثل أخير.. إن القدس المسلمة قبلة المسلمين الأولى وثالث الحرمين فيها.. تعلن أنها عاصمتها وأنها لا تتنازل عنها، وتعلن أمريكا تأييدها لها في ذلك.. وهكذا ...
ب- المستقبل للصهيونية:
المستقبل للصهيونية إن بقيت الأوضاع على ما هي عليه؛ فالسنن الكونية تعمل في جانب من يعمل، ولا تعمل في جانب من يتقاعد أو يتكاسل أو يتجابن..
وواضح أن الصهيونية تعمل.. مخططة.. ثم منفذة..
وأن العرب والمسلمين.. يتصايحون.. ويكتفون بالصياح.. ويتسابّون فيما بينهم ويتقاتلون كذلك فيما بينهم؛ أشداء على المؤمنين رحماء باليهود، أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين..
والصهيونية.. كما يبين من مخططاتها.. لا تكتفي بفلسطين..
إنما تحلم بالدولة الكبرى من الفرات إلى النيل..(16/356)
وتحلم من بعدها بسيادة العالم كله..
وخطواتها التنفيذية تؤكد أنها تنقذ ما تحلم به وما تخطط له..
ونجاحها فيما مضى قد يكون دليلا على نجاحها فيما بقي..
وإذن فأرض الكنانة في مصر مهددة.. ومسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في المدينة مهدد كذلك..
هذا كله.. بشرطين:
- أن تبقى أوضاعنا على ما هي عليه..
أن تبقى السنن الكونية تحدث تأثيرها..
لكن حتى يكون.. تقويمنا.. صحيحا لابد من النظرة الأخرى.. فلها نعيش..
2- المستقبل من خلال الإيمان:
النظرة الإيمانية تختلف كثيرا عن النظرة من خلال الأحداث وحدها، وهى في اختلافها تقوم على أسس مغايرة:
1- أن الله سبحانه خالقَ السن الكونية قادرٌ على أن يعطلها أو يغيرها، فمن السنن الكونية أن النار تحرق.. لكن إرادة الله حين شاءت.. جعلت النار بردا وسلاما على إبراهيم..
ومن السنن الكونية أن الماء يغرق.. لكن إرادة الله حين شاءت.. فرقت البحر فرقين، {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} ..
2- إلى جوار السنة الكونية {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} ؛ فان مفهوم المخالفة.. أنهم إذا غيروا ما بأنفسهم غير الله ما بهم، مؤكدا قوله: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} .
ومن هنا المنطلق..
ومن هنا يبدأ العلاج.. إن كنا نريد عودة فلسطين..
ونضع بعون الله الشروط:
أ- لابد من التغيير؛ من القمة إلى القاعدة.. من الرأس إلى القدم.. لابد من تغيير كلى.. لما بأنفسنا.. حتى يغير الله ما بنا.
ب- لابد أن يكون التغيير على أساس الإسلام..؛ لأن التغيير من غير إسلام.. لا يكون معه نصر الله.. ولا يكون هر التغيير الذي عناه الله..(16/357)
وقد رأينا أنهم حين أرادوا سلب فلسطين أبعدوا الإسلام عن المعركة، وتمثل ذلك في إنشاء الجامعة العربية (بديلا وامتصاصا للجامعة الإسلامية) ، قبل إعلان دولة اليهود بثلاث سنين..
ثم تمثل دخول الجامعة العربية وجيوشها لتكون حائلا دون تحرك جيوش إسلامية أخرى.. ففيها الغناء والكفاء.
ثم تمثل في التآمر على العناصر الإسلامية التي بدأت خوض المعركة للحيلولة دون نزولها بثقلها إلى المعركة..
وقبل ذلك كله تآمرهم على دولة الخلافة الإسلامية؛ تنفيذا لما قالوه من أن الأفعى اليهودية لابد أن تمر بالآستانة في طريقها إلى إسرائيل..
وعلى ذلك فإذا كانت فلسطين قد استلبت لمّا أبعد الإسلام عن المعركة؛ فإنها لن تعود إلا إذا عاد الإسلام إلى المعركة..
والإسلام فوق ما قدمنا يقدم:
ثقلا عقديا يغير الكيفية التي تدار بها المعركة ويغير نتيجتها..
ثقلا بشريا..؛ ولهذا أثره في استراتيجية الحروب.
ثقلا سياسيا.. بوقوف الدول الإسلامية كلها - بدلا من الدول العربة المحدودة - خلف المعركة.
ثقلا اقتصاديا.. بوقوف الدول الإسلامية - وهى اليوم أغنى دول العالم - خلف المعركة..
ومن قبل ذلك ومن بعد ذلك.. ما أشرنا إليه من نصر الله الذي لا يتنزل إلا على نوعية معينة.. {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} .. {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} ..
آيات في حفظ اللسان
1- قال الله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} .(16/358)
2- {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} .
3- {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ..
--------------------------------------------------------------------------------
[1] كثر استعمال كملة (الشرعية) على أقلام الكتاب بغير المعنى (الشرعي) ، ولعل من الخير استعمال كلمة (القانونية) بدلا عنها. "المجلة".
[2] الشرق الأوسط في مشكلات العالم: ص.77-78.
[3] انطونيوس: تغطية العرب: ص 208، مشار إليه في كتاب (العرب واليهود) للمستشار محمد عبد الرحمن حسين 105.
[4] يرجع بعض المحققين تاريخ المرحلة الأولى إلى ما قبل ألفي عام، وذلك بتكوين النواة الأولى بالجمعية الماسونية. انظر: ذيل (تعقيب لا تثريب) في هذا العدد - المجلة-.
[5] راجع البلاغ الكويتية عدد 431، 24 ذي الحجة 1397هـ.
[6] ترجمة برتوكولات صهيون ص 216-217 محمد خليفه التونسي.
[7] مقدمة كتاب (تهويد فلسطين) للدكتور إبراهيم أبو الغد ص 13-14.(16/359)
كيف سلمت الدولة الإسلامية
من تآمر يهود بني قريظة وخيبر عليها
لفضيلة الدكتور جاد محمد أحمد رمضان
رئيس قسم التاريخ بالجامعة الإسلامية
عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يثرب وادع اليهود الذين كانوا من بين سكانها، وعاهدهم وأمنهم على أموالهم ومواليهم، ومنحهم حرية الاعتقاد؛ فمن تبع المسلمين منهم فله ما للمسلمين من الحقوق وعليه ما عليهم من الواجبات.
واشترط عليهم أن يكونوا مع المسلمين على من هاجم المدينة أو حارب أهلها، على أن يتحملوا نفقتهم ما داموا محاربين، كما يتحمل المسلمون الإنفاق على أنفسهم كذلك.
ولكن اليهود - كما هو شأنهم - نقضوا عهدهم وخانوا حلفاءهم، وكان أول من خان وغدر بنو قينقاع؛ فأجلاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن المدينة، وتلاهم في الخيانة والغدر بنو النضير؛ فكان جزاؤهم مثل جزاء من سبقهم.
ولما رأى بنو النضير أنفسهم عاجزين عن منازلة المسلمين في معركة مكشوفة لجئوا إلى التآمر، وراحوا يستعينون بغيرهم من أعداء الإسلام لعلهم ينجحون في الانتقام من النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من المسلمين.(16/360)
وذهب حيي بن أخطب وسلاّم بن أبي الحقيق ونفر من زعماء بنى النضير ووجوههم إلى مكة؛ لتحريض قريش على مهاجمة المدينة، وقالوا لهم: سنكون معكم عليه حتى نستأصله، وكأنما قريش تشككوا في نية اليهود فترددوا في ممالأتهم على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عربي مثلهم، أو كأنما تشككوا في أمر دينهم فأرادوا أن يطمئنوا إلى حقيقة أمره، ويوازنوا بينه وبين الإسلام الذي يدعو إلى الوحدانية ومكارم الأخلاق، كما أرادوا أن يتبينوا موقفهم منه صلى الله عليه وسلم، وهل هم على حق في حربهم له أم على باطل؟ فقالوا:"يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ فدفعهم حب الانتقام والرغبة في إغراء قريش بحربه إلى تمويه الحقائق وتشويهها؛ فقالوا: بل دينكم خير من دينه؛ فأنتم أولى بالحق منه".
وهكذا شهد اليهود هذه الشهادة الفاجرة؛ حيث شهدوا بأن الشرك خير من التوحيد، وأنكروا ما جاءت به التوراة من وحدانية الله والنهي عن الإثم والفواحش؛ فأنزل الله سبحانه وتعالى فيهم قوله جل شأنه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} .
فلما قال اليهود ذلك لقريش سرّهم وحفوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعدوا لذلك.(16/361)
تم ذهب هؤلاء النفر إلى غطفان ودعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروه أن قريشا قد بايعوهم على ذلك، وتعهدوا لزعماء غطفان بأن يعطوهم ثمار خيبر من النخيل سنة إذا تم لهم النصر على المسلمين؛ فاستجابت غطفان بجميع بطونها لهم، ثم أخذوا يحرضون كل من له ثأر عند المسلمين على حربهم حتى بلغ جيش الحلفاء عشرة آلاف مقاتل، وتولى القيادة العامة أبو سفيان بن حرب، وسار الجيش إلى المدينة في شوال لسنة خمس من الهجرة.
ولما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعزم قريش ومن معهم على مهاجمة المدينة أخذ برأي سلمان الفارسي، وأمر بحفر خندق في شمال المدينة، وكانت هي الجهة المكشوفة التي يستطيع العدو أن يدخل منها.
وحفر الخندق وراء جبل سلع، وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحفر بنفسه، وتم الحفر بغاية السرعة، وكانت جهات المدينة الأخرى حصينة منيعة؛ حيث كانت ظهور بيوتها من ناحية الجنوب متلاصقة عالية كالسور المنيع، وكانت حرة الوبرة ناحية الغرب وحرة داقم ناحية الشرق كالحصن الطبيعي، وكانت آكام بني قريظة في الجنوب الشرقي من المدينة؛ ولا يمكن دخول العدو منها إلا برضى بني قريظة؛ وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد أن لا يمالئوا عليه أحدا ولا يناصروا عليه عدوا.(16/362)
ووصل الحلفاء إلى المدينة وضربوا عليها الحصار، ووقف الفريقان أما الخندق وجها لوجه: المسلمون على قلة عددهم وضعف عدتهم، والمشركون على كثرتهم وتمام عدتهم، وطال الحصار ولم ينل الأحزاب منالا من المسلمين، وخاف حيي بن أخطب أن تسأم قريش وغطفان طول المقام فيرجعون إلى ديارهم وبذلك تفلت الفرصة من يده، ورأى أن الأحزاب لن يتمكنوا من دخول المدينة إلا من ناحية بني قريظة وكان هؤلاء لا يزالون على عهدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلابد أن يغريهم حيى بنقض العهد حتى يسهلوا للأحزاب مهمة اقتحام المدينة؛ فذهب إلى زعيمهم كعب بن أسد فأغلق كعب دونه باب حصنه؛ فأخذ حيى يحتال عليه حتى فتح له فدخل عليه وقال: "يا كعب إنما جئتك بعز الدهر: جئتك بقريش وسادتها وغطفان وقادتها قد تعاهدوا على أن يستأصلوا محمدا ومن معه"، فقال كعب "جئتني - والله - بذل الدهر وبجهام لا غيث فيه، ويحك يا حيي دعني فلست بفاعل ما تدعوني إليه؛ فإني لم أر من محمد إلا وفاءا وصدقا"، فلم يزل حيى بكعب حتى اتفق معه على خيانة المسلمين والانضمام إلى الأحزاب.
وبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى بني قريظة سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج في نفر من أصحابه وقال لهم: "انطلقوا إلى بني قريظة؛ فإن كان ما قيل لنا حقا فألحنوا لنا لحنا [1] ولا تفتوا في أعضاء الناس، وإن كان كذبا فاجهروا به للناس".
فانطلق الوفد إلى محلتهم، فوجدهم قد تغيروا عما كانوا عليه ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: "لا عهد له عندنا"؛ فجعل سعد بن معاذ يدعوهم إلى الوفاء ويحذرهم عاقبة الخيانة والغدر، وكان مما قاله لهم: "أخشى عليكم يوم بني النضير وأمرّ منه"، فردوا عليه ردا قبيحا، وشاتموه وشاتمهم، فقال له سعد بن عبادة: "دع عنك مشاتمتهم فالذي بيننا وبينهم أكثر من ذلك".(16/363)
ثم رجع الوفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي جمع من المسلمين فأخبروا - بطريق الكناية - أن ما بلغه من غدر بني قريظة صحيح.. وعلى الرغم من تكتم رسول الله صلى الله عليه وسلم للخبر فإنه وصل إلى المسلمين؛ فاشتد البلاء وعظم الخوف وزاد الكرب وكانت حالهم كما وصفها القرآن {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} .
فلما رأى رسول الله ما بالناس من البلاء والكرب جعل يبشرهم ويقول لهم: "والذي نفسي بيده ليفرجن الله عنكم ما ترون من الشدة، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنا، وأن يدفع الله إلي مفاتيح الكعبة، وليهلكن كسرى وقيصر، ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله ".
وقد رجع حيى بن أخطب إلى المشركين وأخبرهم بنجاحه في حمل بني قريظة على الغدر بالمسلمين؛ فقويت روحهم المعنوية.
وكان بنو قريظة قد اتفقوا مع حيى بن أخطب أن يعطيهم مهلة عشرة أيام يستعدون فيها على أن تشتد كتائب الأحزاب في مناوشة المسلمين خلال هذه الفترة حتى يشغلوهم عن بني قريظة، وقد اشتد المشركون في مناوشتهم للمسلمين حتى أجهدوهم.
وتهيأ بنو قريظة للإغارة على المدينة ليلا؛ فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فبعث سلمة بن أسلم في مائتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة من جهة بني قريظة، وكان الخوف على من بالمدينة من النساء والأطفال من بني قريظة أشد من الخوف عليها من قريش وغطفان.(16/364)
وظل الأمر على ذلك بضع عشرة ليلة؛ فتفاوض الني صلى الله عليه وسلم مع زعماء غطفان في أن ينصرفوا عن المدينة على أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة، ولم يبت في الأمر حتى يأخذ رأي الأنصار؛ فلما استشارهم في ذلك قالوا: يا رسول الله! أمر تحبه فنصنعه أم شيئا أمرك الله به لابد من العمل به أم شيئا تصنعه لنا؟ قال: "بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم [2] من كل جانب؛ فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما"، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله! قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأنت وذاك"، فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتابة ثم قال: ليجهدوا علينا.
وقد جعل الله سبحانه وتعالى لرسوله وأصحابه من هذه الشدة فرجا ومخرجا؛ فساق إليهم نعيم بن مسعود الأشجعي من غطفان فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي؛ فمرني بما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنت فينا رجل واحد؛ فخذل عنا إن استطعت؛ فإن الحرب خدعة".(16/365)
فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة - وكان لهم نديما في الجاهلية - فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودّي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت! لست عندنا بمتهم، فقال: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم؛ البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون أن تحولوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره؛ فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة [3] أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم؛ فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا محمدا حتى تناجزوه، فقالوا له: لقد أشرت بالرأي.
ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: لقد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت علي حقا أن أبلغكموه نصحا لكم؛ فاكتموا عني، فقالوا: نفعل، قال: أتعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنا ندمنا على ما فعلنا؛ فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين: من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم؛ فأرسل إليهم أن نعم؛ فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا.
ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان! إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهمونني! قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم، قال: فاكتموا عني، قالوا: نفعل، فما أمرك؟ ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم.(16/366)
وكان من حسن الحظ أن أرسل أبو سفيان ورءوس غطفان إلى بني قريظة ليلةَ سبتٍ عكرمةَ بن أبي جهل في نفر من قرش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام وقد هلك الخف والحافر؛ فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه، فأرسل بنو قريظة إليهم: إن غدا يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نتاجز محمدا؛ فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلدنا، ولا طاقة لنا به.
فلما رجعت الرسل إلى قريش وغطفان بما قال بنو قريظة قالوا: والله إن الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لحق، وأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله لا ندفع لكم رجلا واحدا من رجالنا؛ فان كنتم تريدون القتال فاخرجوا قاتلوا، فقال بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق؛ ما يريد القوم إلا أن تقاتلوا فإذا رأوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل في بلدكم، فأرسلوا إلى قريش وغطغان: إنا والله لا نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا؛ فأبوا عليهم وخذل الله بينهم، وبعث عليهم الريح في ليالي شاتية باردة شديدة البرد؛ فجعلت تكفأ قدورهم وتقتلع خيامهم؛ فلم يروا بدا من الرحيل عن المدينة ورحلوا عنها.
وهكذا فعلت حيلة نعيم بن مسعود ما لم تفعله الجحافل الكبيرة؛ فشككت كلا من بني قريظة والأحزاب في نوايا بعضهم البعض وحالت بينهم وبين الاتفاق على خطة موحدة يقتحمون بها المدينة ويقضون بها قضاءا مبرما على الدولة الإسلامية الناشئة.(16/367)
إنها رحمة من الله سبحانه وتعالى أن ساق للمسلمين - في أحرج الظروف - نعيم بن مسعود، وإلهام منه جلّ شأنه لنعيم حيث وفقه إلى حيلة فرقت كلمة اليهود والمشركين وأوهنت عزيمتهم، ونجّت المسلمين من شرهم، {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً، وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} .
لم يكن هناك أي سبب يدفع بني قريظة إلى خيانة المسلمين والغدر بهم إلا الحقد الكامن في نفوس اليهود؛ فقد حافظ المسلمون على عهدهم لبني قريظة ولم يقدموا إليهم أي إساءة ولم تبدر منهم أي بادرة تدل على عدم الوفاء لهم؛ يشهد لذلك رد كعب بن أسد سيدهم على حيى بن أخطب حينما أغراه بنقض العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول له: ويحك يا حيى دعني! فلست بفاعل ما تدعوني إليه؛ فإني لم أر من محمد إلا وفاءا وصدقا.
فلو كان المسلمون قد حادوا قيد أنملة عن الوفاء لبني قريظة لكان لهم بعض العار أن يغدروا بهم وينحازوا إلى عدوهم، أما وقد وفوا لهم أكمل الوفاء وحافظوا على عهد أتم المحافظة فما كان ينبغي لهم أن يغدروا بهم في أحرج الأوقات وأشد الأزمات غدرا كان فيه فناؤهم والقضاء على دعوتهم وإبادة دولتهم، مع أن نصوص العهد كانت تلزمهم بالدفاع عن المدينة مع المسلمين جنبا إلى جنب؛ لحمايتها من المغيرين وعدوان المعتدين، لا أن يتعاونوا مع الأعداء على اقتحامها ويساعدوهم على الفتك بأهلها.(16/368)
إن موقف بني قريظة من المسلمين كان موقف نقض فاجر للعهد وغدر دنيء بمن وفوا لهم وخيانة آثمة لمن إئتمنوهم؛ حتى لقد استنكره بعض عقلاءهم في حوار لهم مع حيى بن أخطب حيث قالوا: إذا لم تنصروا محمدا فدعوه وعدوه، لكن الأغلبية الغالبة منهم استجابت لوسوسته وطعنت المسلمين من خلفهم طعنة كادت أن تؤدي بكيانهم وتمحوا دعوتهم.
فما الذي كان ينبغي أن يقابل به الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الغدر وهذه الخيانة من جانب بني قريظة، إنه لم يكن من المعقول أن يترك هؤلاء يعيثون في المدينة فسادا أكثر مما عاثوا، ومن يُدري النبي عليه الصلاة والسلام أنهم لن يحاولوا إثارة الأعداء على المسلمين مرة أخرى، ويدعوهم إلى مهاجمة المدينة في غير فصل الشتاء الذي كان له بعض الأثر في تقصير أمد حصارها وإحباط الخطة التي دبروها لاقتحامها؟! كان لابد أن يحاسب النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة على ما اقترفوه من جرم وارتكبوه من إثم؛ فلم تمض ساعات على جلاء الأحزاب عن المدينة حتى أمر أصحابه بالتوجه إلى حصونهم في الجنوب الشرقي المدينة، ودفع اللواء إلى علي بن أبي طالب وأمره أن يتقدم بين يديه إلى بني قريظة في نفر من المهاجرين والأنصار؛ فأساء اليهود استقبالهم وأخذوا يشتمون رسول الله وأزواجه فلم يردّ عليهم المسلمون بأكثر من قولهم: السيف بيننا وبينكم.
ثم ركب صلى الله عليه وسلم - في نفر من أصحابه - إلى بنى قريظة؛ فأدركوا من كان هناك من المسلمين، فلما رأى اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم تحصنوا بحصونهم؛ فحاصرهم الرسول والمسلمون خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب؛ فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه أن يخرجوا بنسائهم وأبنائهم وما حملت الإبل من أموالهم كما خرجت بنو النضير؛ فأبى عليهم ذلك فأرسلوا إليه أن يخرجوا بنسائهم وأبنائهم بلا مال ولا سلاح فأبى صلى الله عليه وسلم إلاّ أن ينزلوا على حكمه.(16/369)
وأشار عليهم زعيمهم كعب بن أسد أن يدخلوا في الإسلام، وذكرهم بما عندهم من العلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلم يقبلوا مشورته فأشار عليهم أن يخرجوا ليلة السبت والمسلمون آمنون فيبيتوهم؛ فقالوا: لا نحل السبت، ولم يتفقوا على رأي.
ولما اشتد الحصار عليهم أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أن أبعث أبا لبابة لنستشيره في أمرنا، فأرسله إليهم.
وأبو لبابة هو رفاعة بن عبد المنذر الأوسي الأنصاري، وكان بنو قريظة حلفاء الأوس.
فلما رأوه قام إليه الرجال وأجهش له النساء والأطفال بالبكاء؛ فرقّ لهم وقالوا له: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقة؛ يشير بذلك إلى أنهم إن نزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم سيذبحون، قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي عن مكانها حتى عرفت أني قد خنت الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله وذهب إلى المسجد وربط نفسه إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله على ما صنعت، وعاهد الله ألا يدخل محلة بنى قريظة أبدا ولا يرى في بلد خان الله ورسوله فيه أبدا.(16/370)
فلما بلغ رسول الله خبره - وكان قد استبطأه - قال: "أما أنه لو جاءني لاستغفرت له؛ فإذا قد فعل ما فعل فما أنا بالذي يطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه"، ومكث أبو لبابة ست ليال لا يذوق طعاما ولا شرابا، وكانت امرأته تأتيه في كل وقت صلاة فتحله حتى يصلى، ثم تربطه إلى عمود المسجد كما كان، حتى خرّ مغشيا عليه وقد أنزل الله سبحانه وتعالى توبته على رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله جل بشأنه: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، فأقبل الناس على أبي لبابة يبشرونه بتوبة الله عليه، وأرادوا أن يحلوه فأبى حتى يكون رسول الله هو الذي يحله بنفسه؛ فلما ذهب الرسول إلى المسجد حله، فقال يا رسول الله: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي.. فقال صلى الله عليه وسلم: "يجزيك الثلث أن تتصدق به".
أما بنو قريظة فقد نزلوا حكم رسول الله؛ فشفع فيهم الأوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالى إخواننا بالأمس ما قد علمت، يشيرون إلى معاملة رسول الله لبنى قينقاع وبني النضير؛ فقال رسول الله صلى الله وسلم "ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم"؟.. قالوا: بلى، قال رسول الله: "فذاك إلى سعد بن معاذ".(16/371)
وكان سعد قد أصيب في ذراعه بسهم وقت حصار المدينة فقع أحد عروقه؛ فنقل إلى خيمة امرأة تدعى (رفيدة) ، كانت لها خيمة في المسجد تداوي بها جرحى الصحابة احتسابا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يعوده، فلما حكمه في بني قريظة أتاه رجال من الأوس حملوه على حمار فقدموا به إلى رسول الله وأخذوا يقولون له في أثناء سيرهم: يا أبا عمرو! أحسن في مواليك؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد ألاّ تأخذه في الله لومة لائم.
ولما انتهى سعد إلى مجلس رسول الله قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: "قوموا لسيدكم"، فقاموا إليه وقالوا له: يا أبا عمرو! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن أحكم فيهم بما حكمت، قالوا: نعم، ثم التفت إلى الناحية التي فيها رسول الله وهو خافض الطرف إجلالا للرسول وقال: وعلى من هنا، قال رسول الله: نعم، ثم قال سعد لبنى قريظة: أترضون بحكمي؟ قالوا: نعم، فأخذ عليهم عهد الله وميثاقه أن الحكم ما حكم به، ثم قال: إني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذرارى والنساء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات".
ثم خرج رسول الله إلى سوق المدينة وأمر أن تحفر فيها خنادق، ثم أمر بإحضار رجال بنى قريظة، فجيء أرسالا، فضربت أعناقهم ودفنوا في الخنادق، ولما جاء دور حيى بن أخطب - وكان قد دخل مع بنى قريظة حصونهم - نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "ألم يمكن الله منك يا عدو الله"، قال: بلى أبى الله إلا أن يمكنك منى، والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكن من يخذل الله يخذل، ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله؛ كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بنى إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه.(16/372)
وقد اختلف المؤرخون في تقدير عدد من قتل من بنى قريظة؛ فمنهم من قدرهم بأربعمائة، ومنهم من قدرهم ما بين الستمائة والسبعمائة، ومنهم من قدرهم ما بين الثمانمائة والتسعمائة، وقد أسلم من بني قريظة ثلاثة رجال؛ فأمنهم رسول الله على أنفسهم وأهليهم وأموالهم.
وأمر رسول الله بالذرارى والنساء فنقلوا إلى المدينة، وأمر بالسلاح والأموال فحملت إليها، أما الإبل والغنم فتركت حيث هي ترعى في المراعى، ثم قسم الأموال والنساء والذراري على المسلمين، ولم يفرق في القسم ولا في البيع بين النساء والذرية، وقال: "لا يفرق بين الأم وولدها حتى يبلغوا"، وأرسل بعض السبايا إلى نجد والشام؛ فبيع واشترى بثمنه سلاح وخيل للمسلمين.
لقد جرّ بنو قريظة أنفسهم إلى هذا الحكم الذي حلّ بهم؛ فأودى بحياة رجالهم وسلبت نسائهم وأولادهم نعمة الحرية، ولو أنهم ثبتوا على عهدهم لما أصابهم ما أصابهم، ولظلوا آمنين في ديارهم، لكنها الأحقاد تدفع الناس إلى الهلاك وتسوقهم إلى الفناء.
إن الجزاء الذي حل ببني قريظة من جنس عملهم؛ فلو قدر للأحزاب أن ينجحوا في اقتحام المدينة لصار المسلمون إلى هذا المصير الذي صار بنو قريظة إليه، وهل كان في وسع النبي صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم كما عامل بني قينقاع وبنى النضير من قبل؛ فيكتفي بإبعادهم عن المدينة كما أبعد أولئك؟ لا! لم يكن في إمكانه ذلك لأن التجربة أثبتت أن الإبعاد لا يكفي؛ فقد يجيّشون الجيوش ويستعدون القبائل على الرسول وأصحابه كما حدث في المرة السابقة.(16/373)
ثم إن طبيعة الجريمة التي اقترفها بنو قريظة تختلف عن جريمة كل من بنى قينقاع وبنى النضير؛ نعم إن الجرائم كلها جرائم خيانة وغدر لا مبرر لها، غير أن جريمة بنى قريظة كانت أشد خطرا من الجريمتين السابقتين؛ لأن المسلمين كانوا في كل منها في حال تمكنهم من الدفاع عن أنفسهم، أما موقفهم وقت جريمة بنى قريظة فقد كان محفوفا بالخطر من جراء الحصار المحكم الذي ضربه الأحزاب حول المدينة؛ فلم يكن في إمكانهم أن يدافعوا عن أنفسهم، ولولا عطف الله بهم لأبيدوا عن آخرهم.
لذلك لم يكن في الإمكان الإبقاء على هؤلاء؛ حتى يرسموا خطة أحكم ويدبروا مكيدة أنكى يقضون بها على دولة الإسلام، ويفتنون الناس عن دينهم ويعيدونها جاهلية كما كانت قبل ظهور النبي عليه الصلاة والسلام.
لقد كان في وسع هؤلاء الذين عرضوا أنفسهم للقتل، وأسلموا نسائهم وأولادهم للسبي، وعرضوا أموالهم للضياع؛ كان في وسعهم ألا يتعرضوا لما تعرضوا له لو أنهم أسلموا كما أسلم الثلاثة من منهم؛ فأمنهم الرسول عليه الصلاة والسلام على أنفسهم وأموالهم وأولادهم، لكنه الغي المودى بأهله في النار والعناد المفضي بأصحابه إلى الدمار.
ليتهم ثابوا إلى رشدهم كما ثاب هؤلاء الثلاثة، وأقلعوا عن غيهم كما أقلعوا، وتخلّوا عن عنادهم كما تخلوا؛ إذن لعصموا دماءهم وأموالهم من رسول الله، وكان أجرهم على الله، ولما عرّضوا نساهم وأولادهم للرق وساقوهم إلى الذل وأسلموهم للهوان أبد الدهر.
إن قوانين الحرب وقوانين السلم على السواء تقرّ ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ببني قريظة؛ لأنه عقاب عادل وإجراء وقائي سليم لحماية المسلمين من شرهم ووقايتهم من كيدهم، حتى يتمكنوا من نشر دعوة الحق وإقرار الأمن والسلام على ربوع الأرض، وإزالة الفحشاء والمنكر من جميع أصقاعها.(16/374)
إن المسؤول الأول عما أصاب هؤلاء التعساء من كوارث، وما حلّ بهم من نكبات هو حيى بن أخطب؛ فهو الذي زين لهم الخيانة وأغراهم بالنكث وحملهم على الغدر، ولا يعفيه من المسؤولية أنه قتل معهم؛ فهو سبب هلاكهم ومعول خرابهم، كما أنه تسبب في إساءتهم الظن بمن بعده من اليهود.
هذا ما صرح به سلاّم بن مشكم أحد بنى النضير عندما بلغه خبر بنى قريظة، حيث قال: هذا كله عمل حيى بن اخطب، لا قامت يهودية بالحجاز أبدا.
وما تنبأ به كعب بن أسد حينما دق عليه حيى بن أخطب بابه يغريه بنقض العهد؛ فأجاب: ويحك يا حيى! إنك امرؤ مشئوم؛ جئتني والله بذل الدهر وبجهام لا غيث فيه.
ومهما يكن فقد قضت هذه الغزوة القضاء الأخير على قبائل اليهود في المدينة، وحرمت المنافقين من حليف كان يؤازرهم في الإساءة إلى المسلمين؛ فكسرت شوكتهم وخفت حدتهم وقل خطرهم، وقوي جانب المسلمين بما خلفه لهم بنو قريظة من أدوات القتال، واستغنوا بما امتلكوه بعدهم من أموال؛ فتمكنوا من توسيع أفق الدعوة الإسلامية، ونشطوا لنشر النور والهداية بين البرية.
غزوة خيبر
تقع خيبر في شمال المدينة على بعد مائة ميل منها، وهى واحة كبيرة خصبة، بها نخل كثير ومزارع واسعة وحصون عالية مقامة بين النخيل والحقول، على مرتفعات من الأرض تزيدها حصانة ومناعة؛ لذلك ظن اليهود أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يستطيع غزوها.
وقد اتخذها اليهود وكرا لهم بعد غزوة بنى قريظة؛ يدبرون منه المكائد ويحيكون المؤامرات ويوجهون الدسائس إلى قبائل العرب يحرضونهم على حرب المسلمين؛ يدفعهم إلى ذلك الحقد المتأصل في نفوسهم للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، والغل في قلوبهم للإسلام والمسلمين، وغريزة الأخذ بالثأر لمن قتل من بنى قريظة.(16/375)
ولم يعتبر أهلها بما حلّ بمن سبقهم من ذل وما نزل بساحتهم من كرب وغم، ولم يزدجروا بما أصابهم من قتل وفناء؛ لأن عداوة الرسول ودعوته كانت نزعة سيطرت على مشاعرهم وفكرة تمكنت من عقولهم؛ فلم يقبلوا أن يعيشوا في وئام وسلام مع المسلمين، وتواصى سادتهم وزعماؤهم على الكيد للإسلام والتنكيل بالمسلمين، وكان دستورهم في ذلك ما قاله زعيمهم حيى بن أخطب حين سئل عن موقفه من رسول الله حين وصوله إلى المدينة: عداوته والله مما بقيت.
وقد بذل حيي كل ما يستطيع من الكيد للإسلام ولبني الإسلام، ولكنه لم ينل ما أراد، وحاق به أشد العقاب مع من استجاب له من بنى قريظة، فقاد بعده حملة الكيد أبو رافع سلام بن أبي الحقيق، وبذل ماله واستخدم نفوذه ليكوّن حلفا ضد المسلمين؛ فلم تتحقق أمنيته، ولما لقي مصرعه حمل الراية بعده أسير بن رزام؛ فاتبع خطواته وتفاوض مع غطفان ليتحالف معهم ضد المسلمين.(16/376)
وهكذا كانت حياة اليهود مع المسلمين سلسلة من الأحقاد والضغائن لا تنقطع، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشأ أن يجاري اليهود في عداوتهم، وكان يحاول مخلصا أن يصلح ما بينه وبينهم؛ فلما علم أن أسير بن رزام يعدّ لحرب المسلمين أرسل إليه يدعوه إلى السلم والموادعة، لعله يثوب إلى رشده ويرجع إلى صوابه فيجنب قومه ويلات الحرب وما تجره من الخراب والدمار، وكان الوفد الذي بعثه إليه مكونا من ثلاثين رجلا من الأنصار بزعامة عبد الله بن رواحة؛ فلما قدموا خيبر دخلوا عليه وقالوا له: هل نحن آمنون حتى نعرض عليك ما جئنا له؟.. قال: نعم! ولي منكم مثل ذلك، قالوا: نعم، ثم عرضوا عليه أن يترك ما عزم عليه من حرب، وأن يقدم إلى رسول الله ليحالفه ويوليه خيبر، ويعيش أهلها في سلام مع المسلمين؛ فاستجاب لذلك أول الأمر وخرج مع المسلمين في ثلاثين رجلا من اليهود متجها إلى المدينة، ولما قطع مرحلة من الطريق ندم على خروجه وهمّ بالغدر بمن معه من المسلمين، وأهوى إلى سيف عبد الله بن رواحة يريد أن ينتزعه منه ليقتله؛ ففطن لذلك عبد الله وقال له: أغدرا يا عدوّ الله؟ تم نزل فضربه بالسيف ضربة أطاحت فخذه بساقه فسقط عن بعيره، ولم يلبث أن هلك، ومال المسلمون على من كان معه من اليهود فقتلوهم.
وخلفه في زعامة خيبر سلام بن مشكم؛ فكان رأيه كرأي سلفه في معاداة المسلمين والتأهب لحربهم؛ وهكذا ظلت فكرة الغدر مبيتة عند اليهود.
فلما عقدت هدنة الحديبية بين رسول الله وبين قريش وأمن كل منهما جانب الآخر يئس اليهود من محالفة العرب ضدّ المسلمين، وأحسوا بالخطر يتهددهم؛ فبادروا إلى تأليف حلف منهم يجمع خيبر ووادي القرى وتيماء، وعزموا على مهاجمة المدينة.
بلغ رسول الله ما اعتزمه اليهود فقرّر أن يفاجئهم قبل أن يباغتوه.(16/377)
ويقول بعض الرواة إن عبد الله بن أبي أرسل إليهم بما يعتزمه النبي صلى الله عليه وسلم من حربهم؛ فأعدوا عدتهم لصدّه وأدخلوا أموالهم وعيالهم في حصون (الكتيبة) ، وحشدوا المقاتلين في حصون (النطاة) .
وكانت بلاد خيبر مقسمة إلى ثلاث مناطق حربية، في كل منطقة عدة حصون منيعة:
الأولى: منطقة النطاة، وأهمّ حصونها حصن ناعم وحصن الصعب بن معاذ وحصن الزبير.
والثانية: منطقة الشق، وأهمّ حصونها حصن أبي وحصن البريء.
والثالثة: منطقة الكتيبة وأهم حصونها حصن الوطيح وحصن السلالم وحصن القموص.
وكان يهود خيبر أقوى الطوائف الإسرائيلية وأكثرها سلاحا وأوفرها مالا، لكنهم - ككل اليهود - يغلب عليهم الجبن ولا يجرؤن على القتال في الميادين المكشوفة ولا يحاربون إلاّ أمام حصونهم، حتى إذا انهزموا تسللوا إلى الداخل وأغلقوا عليهم.
وقد عرف الرسول فيهم هذه الطبيعة فأعد للأمر عدته، واتجه عليه الصلاة والسلام إلى خيبر في المحرم من السنة السابعة على رأس ألف وستمائة من المسلمين، بينهم مائتان من الفرسان، وجدّ في السير حتى قطع المسافة بينها وبين المدينة في ثلاثة أيام ووصل إليها في فجر اليوم الرابع، ونزل بوادي يسمى (الرجيع) على طريق غطفان؛ ليحول بينهم وبين إمداد أهل خيبر؛ لأنهم كانوا محالفين لهم.
وعسكر النبي عليه الصلاة والسلام قريبا من حصون النطاة، فقال له الحباب بن المنذر: إن أهل النطاة ليس قوم أبعد منهم مدى ولا أعدل منهم رمية، وهم مرتفعون علينا وهو أسرع لانحطاط رميهم، ولا نأمن بياتهم يدخلون في ممر النخيل؛ فتحول يا سول الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشرت بالرأي، وتحوّل إلى مكان بعيد عن مدى النبل فعسكر به.(16/378)
ولم يكن أهل خيبر يتوقعون وصول السلمين بهذه السرعة فباتوا ليلتهم آمنين مطمئنين، حتى إذا كان الصبح خرج العمال إلى الحقول كعادتهم ومعهم مساحيهم ومكاتلهم؛ فلم يرعهم إلاّ المسلمون وقد نزلوا بساحتهم؛ فارتدوا على أعقابهم يصيحون: محمد والخميس! محمد والخميس! ينذرون قومهم بالخطر الداهم والهلاك المحقق، ورأى رسول الله أن يزيد القوم فزعا ويملأ قلوبهم رعبا؛ فرفع صوته مكبرا: "الله أكبر خربت خيبر؛ إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين"، وردّد أصحابه التكبير؛ فدوى صوتهم في الفضاء وتردد صداه فملأ الجو رهبة ورعبا.
واستيقظ أهل خيبر على هذا الصوت فزعين؛ فأسقط في أيدهم ورأوا ألاّ مفر من القتال أو التسليم، وعزّ عليهم أن يسلموا بسهولة فآثروا الدفاع، ولما كانوا - كغيرهم من اليهود - جبناء بطبيعتهم اعتصموا بحصونهم، {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} .
ولما كان حبّ المال غالبا على اليهود، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم من هذه الناحية؛ فهددهم بإتلاف أموالهم وأمر أصحابه بقطع النخيل، وهاجم حصن ناعم الذي احتشد فيه المقاتلون تحت قيادة زعيمهم سلام بن مشكم.
وشدد المسلمون الهجوم على الحصن، واستمات اليهود في الدفاع عنه؛ كلما اقترب المسلمون منه ارتدوا إلى داخله ورموهم بالنبل من فوق أسواره، واستمر الحال على ذلك سبعة أيام، في كل يوم يعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء لواحد من أصحابه؛ فيظل طول يومه يقاتل ثم يرجع دون أن يتمكن من اقتحامه، حتى فتحه الله سبحانه وتعالى على يد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.(16/379)
وفي أثناء حصار هذا الحصن استشهد محمود بن مسلمة، ألقيت عليه رضى من فوق جدار الحصن وهو يستظل بظله في يوم شديد الحرّ، وفي أثنائه أيضا توفي سلام بن مشكم زعيم اليهود وقائدهم، وخلفه في الزعامة والقيادة الحارث بن أبي زينب.
احتشد اليهود بعد سقوط حصن ناعم بحصن الصعب بن معاذ الذي يليه؛ فاعتصموا به وقاتلوا المسلمين قتالا عنيفا، وحملوا عليهم حملة شديدة فتقهقر المسلمون حتى انتهوا إلى رسول الله وهو واقف قد نزل عن فرسه، وثبت الحباب بن المنذر رضي الله عنه، فحضهم رسول الله على الجهاد؛ فعادوا إلى الحصن وزحف بهم الحباب بن المنذر فتقهقر اليهود حتى دخلوا الحصن وأغلقوه عليهم، وشدد المسلمون الحملة حتى فتحوا الحصن بعد أن قتلوا عددا من اليهود وأسروا عددا.
وقد وجد المسلمون في ذلك الحصن شيئا كثيرا من التمر والشعير والسمن والزيت والعسل والمتاع، وكانوا قد أصابتهم مجاعة شديدة حتى أكلوا لحوم الخيل، وخشي رسول الله على المسلمين أن تشغلهم الغنيمة عن القتال فأمر مناديا ينادى في الناس: "أن كلوا واعلفوا ولا تحملوا".
وقد وجد المسلمون في سرداب تحت الأرض بذلك الحصن مجانيق ودبابات ودروعا وسيوفا وشيئا كثيرا من أدوات الحرب؛ دلّهم عليها أسير يهودي فأفادتهم في افتتاح بقية حصون خيبر.
ثم تقهقر اليهود إلى حصن الزبير، وهو حصن منيع مبني على قمة عالية؛ فحاصره المسلمون ثلاثة أيام واليهود معتصمون به يدافعون من فوق أسواره؛ فاستعصى على المسلمين فتحه حتى علم رسول الله أن مَن بالحصن يستقون من جدول وراءه؛ فأمر بسد الجدول عنهم؛ فلما قطع عنهم الماء خرجوا من الحصن وقاتلوا المسلمين قتالا شديدا حتى قتل نفر منهم، وقتل من اليهود عشرة، ثم فتحه الله على المسلمين.
وبسقوط هذا الحصن تم للمسلمين فتح منطقة النطاة.(16/380)
وفرّ اليهود إلى منطقة الشق؛ فاعتصموا بأول حصونها، وهو حصن أُبَيّ على جبل يسمى (شمران) ؛ فشدد المسلمون عليه الحصار، واشتبكوا مع اليهود اشتباكا عنيفا، ثم حملوا على الحصن حملة صادقة بقيادة أبي دجانة الأنصاري حتى فتحوه.
وهرب من به من اليهود؛ فاقتحموا الجدر إلى حصن البريء وتحصنوا به، وزحف رسول الله إليهم بأصحابه، وكان المعتصمون في ذلك الحصن أمهر أهل الشق في رماية النبل والحجارة، وقد واصلوا الرمي حتى أصاب النبل ثياب رسول الله وعلق بها؛ فأمر صلى الله عليه وسلم أن ينصب عليه المنجنيق؛ فوقع الرعب في قلوب أهله فتركوه وهربوا، وبذلك سقطت منطقة الشق، كما سقطت من قبل منطقة النطاة.
تقهقر اليهود بعد ذلك إلى منطقة الكتبة، وتحصنوا فيها بحصن بني الحقيق، ويسمى حصن القموص، وهو من الحصون المنيعة، وكان به نساء بني الحقيق؛ فحاصره المسلمون عشرين ليلة، ثم فتحه الله على يد على بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وقد سبي من هذا الحصن عدد من النساء والذراري من بينهم السيدة صفية بنت حيي بي أخطب، وقد اصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين السبايا؛ فأعتقها وتزوجها؛ فشرفها الله بهذا الزواج وكانت من أمهات المؤمنين.
تم انتهى المسلمون إلى حصن الوطيح والسلالم، وهما آخر حصون خيبر؛ فحاصرهما رسول الله بضع عشرة ليلة فلما أحس من بهما من اليهود بعجزهم عن المقاومة وأيقنوا بالهلاك إن اقتحمها المسلمون عليهم؛ لما أحسوا بذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستسلموا على أن تحقن دماؤهم، ونزل كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق؛ فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحقن دماء من في حصونهم من المقاتلين ويترك لهم الذرية يخرجون بها من خيبر تاركين أرضهم ومالهم وخيلهم وسلاحهم لرسول الله؛ فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتوني شيئا".(16/381)
وبتسليم حصني الوطيح والسلالم انتهت مقاومة أهل خيبر وسقطت خيبر كلها في أيدي المسلمين، وغنموا ما كان فيها من الأموال والأسلحة وآلات الحرب.
عزّ على أهل خيبر أن يهاجروا من وطنهم؛ فرجوا رسول الله أن يسمح لهم بالبقاء في بلدهم، وأن يقوموا بزراعة الأرض على أن يكون لهم نصف ثمارها وللمسلمين نصفها، وقالوا له: نحن أعلم بها منكم وأعمر لها؛ فصالحهم رسول الله على المناصفة.
ولما بلغ أهل (فدك) خبر الصلح بين الرسول وبين أهل خيبر عدلوا عما كانوا يعتزمونه من حرب المسلمين، وأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصالحوه على ما صالح عليه أهل خيبر؛ فأجابهم إلى ذلك، وعقد الصلح بينهم وبين رسول الله من غير حرب؛ فكانت (فدك) خالصة لرسول الله؛ لأنها أخذت صلحا من غير حرب، أما خيبر فإنها كانت غنيمة للمسلمين؛ لأنهم فتحوها عنوة.
ثم توجه النبي في أصحابه إلى وادي القرى؛ فحاصرها حتى استسلم أهلها وأذعنوا للصلح؛ فصالحهم صلى الله عليه وسلم على مثل ما صالح عليه أهل خيبر، وبادر أهل (تيماء) فأعلنوا قبولهم لدفع الجزية من غير حرب ولا حصار.
وبهذا تم إخضاع جميع اليهود في جزيرة العرب وانتهى سلطانهم، ولم تعد لهم أي قوة ولا نفوذ، وأصبح المسلمون آمنين من جهة الشمال إلى حدود الشام، كما غدوا – بعد صلح الحديبية - آمنين من ناحية الجنوب إلى حدود اليمن.(16/382)
على أن خضوع اليهود لم يتم مرة واحدة بعد هزيمتهم أمام المسلمين، بل كانت نفوسهم تنطوي على حقد شديد للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإنما اضطرهم إلى الخضوع عجزهم عن المقاومة؛ فهذه زينب بنت الحارث - امرأة سلام بن مشكم - أهدت شاة مسممة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد توقيع الصلح بينه وبين أهل خيبر واطمئنانه إليهم؛ فلما جلس هو وأصحابه ليأكلوها أخذ قطعة من ذراعها ولاكها؛ فلم يسغها فلفظها وقال: "إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم"، وكان بشر بن البراء قد تناول منها قطعة فساغها وازدردها؛ فدعا رسول الله بزينب فجاءت واعترفت وقالت: "لقد بلغت من قومي ما لم يخف عليك؛ فقلت إن كان ملكا استرحت منه وإن كان نبيا فسيخبر، ومات بشر من أكلته هذه".
وقد اختلف الرواة في شأن زينب؛ فقال أكثرهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنها والتمس لها العذر على فعلتها؛ لتأثرها بما أصاب زوجها، وذكر بعضهم أنها قتلت في بشر الذي مات مسموما.
ويغلب على الظن صحة الرواية الأولى؛ لأنها تتفق وما عرف عن النبي صلى الله عليه وسلم من قبول العذر، خصوصا من الضعفاء والرأفة بهم، ومن حبه للعفو إيثارا للسكينة والسلام، وتحرجا من سفك الدماء، واختيار أكثر الرواة لها.
وبمضي الزمن استسلم اليهود شيئا فشيئا، واعتادوا الخضوع والانقياد لحكم المسلمين الذين تركوهم على يهوديتهم وأباحوا لهم أداء شعائرهم، ولم يحاولوا أن يردوهم عن دينهم أو أن يتدخلوا في شؤونهم الخاصة، ولم يتعرضوا لحريتهم الشخصية، وحكموهم حكما عادلا نزيها.(16/383)
وقد خمّس الرسول صلى الله عليه وسلم غنائم خيبر؛ فقسم أربعة أخماسها بين المجاهدين، وأعطى جميع من حضر الحديبية سواء حضر خيبر أم لم يحضرها، وأعطى من خمسه ما أراه الله؛ فأعطى أهله رجالا ونساء من بني عبد المطلب، وأعطى اليتيم والفقير والمسكين وابن السبيل، وقد أعطى من شهد خيبر من النساء والعبيد شيئا من الغنيمة ولم يسهم لهم.
هذا عرض موجز لموقف اليهود من النبي صلى الله علب وسلم ودعوته والمسلمين، يتبين منه أن اليهود كانوا دائما هم البادئين بالشر؛ فقد كانوا يصدون عن سبيل الله ويتربصون بالمسلمين الدوائر، ويحرضون المشركين عليهم ويحالفونهم ضدهم، ولم يحافظوا على عهدهم مع الرسول ولم يرعوا ما بينهم وبين المسلمين من حقوق الجوار.
فلم يكن رسول الله إذن متعديا عليهم، بل كان يدافع عن نفسه وأتباع دعوته أذى قوم أكل الحسد قلوبهم وأعمى الحقد أبصارهم؛ فدأبوا على الكيد للإسلام والمسلمين، ولم يكن النبي عليه الصلاة والسلام طامعا في أموالهم كما يزعم كثير من المستشرقين، أمثال مرجليوث وغيره، الذين يزعمون أن المسلمين إنما غزوا خيبر طمعا في الحصول على ما فيها من الغنائم، وأن الحجة التي تذرعوا بها هي أن أهلها ليسوا على الإسلام.(16/384)
إن الذي دفع مرجليوث ومن هو على شاكلته من المستشرقين إلى هذه المغالطة المفضوحة إنما هو التعصب الأعمى والحقد المجنون على الإسلام وبني الإسلام، وإنا لنعجب لهذا الأسلوب الذي اتبعه مرجليوث ومن لفّ لفه من المستشرقين في فهم الأحداث التاريخية؛ فإذا روى المؤرخون أن علي بن أبي طالب قبض على أحد يهود (فدك) ؛ فاعترف له بأنه مبعوث من قبل أهلها إلى خبير يعرض على أهلها معونة فدك على مهاجمة المدينة على أن يجعلوا لهم جزءا من ثمار خيبر؛ إذا قيل لهم ذلك شكوا واتهموا المؤرخين بتزييف الحقائق؛ لأن ذلك سيبطل دعواهم ويدحض حجتهم في اتهام النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه بالإغارة على اليهود لسلب أموالهم.
وإذا ذكر المؤرخون الأسباب الحقيقية لكل عزوة غزاها المسلمون، والدوافع الواقعية لكل عقاب أنزله الرسول عليه الصلاة والسلام بأعداء دعوته، ورووا وقائع ثابتة تدل على وفائه بعهوده وحرصه على المسالمة وكراهية لسفك الدماء ومحافظته على حقوق الحوار؛ وإذا سمعوا ذلك كله وضعوا أصابعهم في آذانهم وأصروا على اتهامهم للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه قد غير سياسته: سياسة المسالمة لليهود التي أعلنها في أيامه الأولى عقب هجرته إلى المدينة.
ويكفي للرد على ما زعمه مرجليوث وغيره من متعصبي المستشرقين من أن المسلمين لم يهاجموا خيبر إلا طمعا في الاستيلاء على أموالها؛ يكفي للرد على هذا الزعم ما أجمع عليه المؤرخون من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان راغبا عن حطام الدنيا مكتفيا منها بما يقيم الأود ويحفظ النفس، وأن أصحابه كانوا يسيرون على نهجه ويتبعون خطاه، ولعل في فرار المهاجرين بدينهم من مكة وتخليهم على أموالهم وإيواء الأنصار لهم وإعالتهم إياهم وتحملهم جميعا آلام الفقر والجوع وصبرهم على الحرمان؛ لعل في ذلك كله ما يثبت عزوفهم عن الدنيا وإعراضهم عن زخرفها ويدحض تلك التهمة التي رمى مرجليوث غيره من المسلمين بها.(16/385)
ومن الحجج الدامغة لافتراء هؤلاء المتعصبين ما رواه المؤرخون من أن النبي عليه الصلاة والسلام كان قد استنفر من حوله من الأعراب ممن شهد الحديبية للغزو؛ فجاءه جماعة من الذين تخلفوا عن الحديبية ليخرجوا معه إلى خيبر طمعا في الغنيمة؛ فقال لهم: "لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد، أما الغنيمة فلا".
ثم إنّ رِضى النبي صلى الله عليه وسلم ببقاء اليهود في خيبر - بعد أن ألقوا سلاحهم وأمن المسلمون جانبهم وترك أرضها تحت أيديهم يمنحونها وينمون نخيلها وأشجارها، على أن لهم نصف المحصول - يثبت بما لا يحتمل الشك أن الدافع للغزو لم يكن الرغبة في الحصول على الأموال، كما يزعم مرجليوث ومن نحا نحوه؛ لأن الرغبة في الحصول على الأموال كانت تقتضي الاستئثار بها كلها من دون اليهود.
إن فيما ترك لليهود من نصف محصول أرض خيبر ما يكفيهم ويسد حاجتهم، أما أن يترك المحصول كله لهم - يلوّحون به لقبائل العرب تارة وليهود تيماء وفدك ووادي القرى تارة أخرى؛ ليستعدوهم به على المسلمين ويغروهم به لغزو المدينة وتهديد أمنها - فلا..
ثم إن المسلمين قد ملكوا هذه الأرض بحق الفتح؛ فليس كثيرا عليهم نصف محصولها الذي كان يبذل لإغراء الأعداء بحربهم، ولو كانت الرغبة في الحصول على المال هي التي دفعت المسلمين إلى غزو خيبر - كما يزعم المتعصبون - لاستولوا على الأرض واستأثروا بكل خيراتها من دون اليهود.
وفي الحوادث التالية ما يشهد بعدالة النبي صلى الله عليه وسلم وعفته عن أموال اليهود:(16/386)
- فقد شكا أهل خيبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المسلمين يقعون في حرثهم وبقلهم [4] بعد الصلح؛ فأمر رسول الله عليه الصلاة والسلام بجمعهم، ثم قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن يهود شكوا أنكم وقعتم في حظائرهم، وقد أمناهم على دمائهم وعلى أموالهم التي في أيديهم من أراضيهم وعاملناهم [5] ، وإنه لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها"؛ فكان المسلمون لا يأخذون من بقلها شيئا إلا بثمنه.
- وروى ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث إلى أهل خيبر عبد الله بن رواحة خارصا [6] بين المسلمين ويهود؛ فيحرص عليهم؛ فإذا قالوا: تعديت علينا، قال: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلنا؛ فتقول يهود: بهذا ما قامت السموات والأرض.
- وروى البخاري بسنده.. إلى أبي سعيد الخدرى وأبي هريرة أن رسول الله استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب [7] ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكل تمر خيبر هكذا؟ "، قال: "لا والله يا رسول الله! إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، أو الصاعين بالثلاثة"، فقال: "لا تفعل! بِع الجميع بالدراهم، ثم ابتع [8] بالدراهم جنيبا".
أفبعد كل هذا يموه المتعصبون من المستشرقين على الناس، ويتهمون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين بأن الذي دفعهم إلى غزو خيبر إنما هو لرغبة من الحصول على المال؛ {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِباً} !.(16/387)
ومهما يكن من الأمر فقد كان من نتائج فتح خيبر القضاء على قوة يهود الحجاز الدينية والسياسية والإقتصادية، وأخذت شمسهم تميل إلى الغرب شيئا فشيئا؛ فقد ظل اليهود يعملون في الأرض على عهد رسول الله صلى الله عامه وسلم، فلما انتقل إلى الرفيق الأعلى أقرهم أبو بكر رضى الله عنه على ما أقرهم عليه رسول الله، وكذا فعل أمير المؤمنين عمر رضى الله عنه مدة من خلافته، ثم نقل إليه الثقاة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي توفي فيه: "لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان".
فبعث عمر إلى اليهود يقول: "إن الله عزّ وجل قد أذن في إجلائكم؛ فقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجتمعن في جزيرة العرب دينان"؛ فمن كان عنده عهد من رسول الله صلى الله عامه وسلم من اليهود فليأتين أنفذه له، ومن لم يكن عنده عهد من رسول الله من اليهود فليتجهز للجلاء.
وقد أجلى عمر رضي الله عنه من ليس عنده عهد من الرسول عليه الصلاة والسلام من يهود خيبر وفدك، ولم يخرج أهل تيماء ووادي القرى؛ لأنهما من أرض الشام، وكان أمير المؤمنين يرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز وما وراء ذلك الشام.
وقد ظل اليهود يكوّنون أغلب السكان في وادي القرى إلى القرن الحادي عشر الميلادي، وشوهدت طوائف منهم في نواحي تيماء في القرن الثالث عشر، ثم أخذ اليهود في كلتا البلدين يقلون تدريجيا، ثم اندمجت البقية الباقية منهم في محيط العرب ولم يبق لهم كيان خاص بهم هناك.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمع كلمة المسلمين على الخير، ويوفقهم إلى تطهير الوطن الإسلامي من رجس الصهيونية وحمايته من كيدها.. إنه سميع مجيب.. والحمد لله رب العالمين.. والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين..
--------------------------------------------------------------------------------(16/388)
[1] فالحنوا لنا لحنا: اذكروه بطريق الكناية.
[2] كالبوكم: اشتدوا عليكم.
[3] النهزة: اختلاس الشيء وانتهازه.
[4] يقعون في حرثهم وبقلهم: ينزلون حقولهم دون إذنهم.
[5] عاملناهم: عاهدناهم على أن تكون الأرض تحت أيديهم يعملون فيها، ولنا نصف ثمارها وغلاتها.
[6] الخارص: الذي يخرص ما على النخل والكرم، وهو من (الخرص) أي الظن؛ لأنه تقدير للتمر والعنب بظنه.
[7] الجنيب. أجود التمر.
[8] ابتع: اشز.(16/389)
شخصية الفقيه الداعية عبد الله بن ياسين
واضع الأسس الأولى لدولة المرابطين في المغرب والأندلس
لفضيلة الشيخ إبراهيم الجمل
المدرس في المعهد الثانوي
من هو عبد الله؟..
ولد عبد الله بن ياسين في أوائل القرن الخامس الهجري في المغرب، من أب بربري ملثم صنهاجي يدعى (مكوك بن مسير بن علي) .. وينسب إلى قبيلة جزولة، وهى إحدى القبائل الكثيرة العدد، ومن هذه القبائل جدالة ومسوقة ولمتونة التي قامت بدور كبير في عهد المرابطين في المغرب والأندلس.
وكانت جزولة هذه تحتل المنطقة الممتدة من جبال درن حتى وادي نول القريبة من المحيط الأطلسي.
وقيل: ولد عبد الله في احواز مدينة (اوغشت) في قرية تقع في طرف الصحراء في ديار قبيلة جدالة.
حياته التعليمية:
قضى طفولته في مسقط رأسه، وبعد ذلك تردّد على مدن العلم في المغرب، ثم رحل إلى الأندلس، وتلقى العلم بها، وكان في ذلك الوقت يحكم الأندلس حكام الطوائف، وكانت البلاد الأندلسية ممزقة مشتتة يطمع فيها الصليبيون الغربيون من أسبانيا وفرنسا.
سكتت المراجع عن أن تذكر شيئا عن تعليم عبد الله، وعن الفقهاء والعلماء الذين تلقى العلم عليهم وأثروا فيه، وأيضا لم يذكروا الشيوخ الذين لازمنهم وتأثر بهم.
ولقد عرفناه مفسرا للقرآن وراوياً للحديث وعن طريق التحدث والرواية تتلمذ عليه كثير من أصحابه، ثم إنه درس الفقه وأصوله وفروعه لدرجة أنه كان يفتي ويتصرف في النصوص بما يتفق وأصول هذا الدين القويم، ولا يعقل أن يكون هذا العلم الغزير قد تعلمه في يوم وليلة أو بدون معلم، بل لا نكون مبالغين إذ قلنا إنه فاق علماء عصره.(16/390)
ويظهر هذا التفوق في أنه نقل ما يمكن نقله، وكل ما عرفه إلى الدور العملي؛ مخالفا بهذا ما كان عليه الفقهاء والعلماء في عصره ومن قبل عصره، حتى استحق أن يلقب بالداعية، بل كان الداعية الأول في المغرب.
صادف - كما قلنا - زمن خروج عبد الله إلى بلاد الأندلس أن كانت واقعة في محنة حكام الطوائف الذين قسموا البلاد فيما بينهم، وكان ذلك بعد بداية القرن الخامس الهجري، الذي يتفق وعمر عبد الله.
ولقد رأى ما آل إليه الحكم في هذه البلاد، وطغيان هؤلاء الذين اغتصبوا الحكم، وما فعله بعضهم ببعض، وكيف التحق بالحكام الشعراء والفقهاء والعلماء من هزيلي العقيدة؛ فأباحوا لهم المنكر وحللوا لهم الحرم.
وكان في المغرب والأندلس فئة قليلة ابتعدت عن طريق الحكام الطائفيين في، وتمسكوا بأهداب الدين القويم، ولم تغرهم المناصب، ولم تسول لهم نفوسهم أن يقتربوا من هؤلاء الحكام تحت تأثير تأويل من التأويلات المريضة التي يظنون أنهم بها يحسنون صنعا، وهم في الحقيقة قد ضلّ سعيهم؛ لم تكن تلك الصفوة التي اختارها الله لتحافظ على الحق إلا سوطا يلهب أحيانا ظهور الحكام الخارجين على تعاليم الإسلام، كانت مخلصة محافظة على نشر مبادئها، لا تعرف المراءاة والمداهنة، وكثيرا ما كانوا يتحسرون على ما آل إليه أمرهم من الفرقة والانقسام وارتماء حكامهم في أحضان غير المسلمين.
رضي هؤلاء الكرام بشظف العيش وخشونة الحياة؛ يقيمون في المساجد، يفسرون القرآن ويروون، الحديث ويدعون الناس إلى التمسك بنهج السلف الصالح، وكثيرا ما كانوا يعرّضون بالحكام ويصورون للناس أعمالهم بصورة لا يجدون لهم منها مخرجا إلا الاستسلام للأعداء الملة؛ لذلك فقد حاربهم أداة الحكم الفاسد، ولكنهم لم يرهبوهم فكانوا يخاطبون الناس ويجهرون بالقول ويحرضون المسلمين على الخروج على الطغاة؛ لذلك فهم على استعداد إما للتقل أو للاستسلام أو التمثيل بهم.(16/391)
هذا ما كان عليه حال الأندلس إبان طلب عبد بن ياسين للعلم، وربما صرفه عنا لاشتراك مع شيوخه في الدور السياسي في الأندلس شعوره بأن هناك مكانا آخر أولى به وهو المغرب؛ فخير مكان ينشر فيه مبادئه وعلمه إنما هو بين قومه وأهله.
ومرت الأيام.. سبع سنوات..؛ نهل فيها عبد الله ما شاء له، وعرف الكثير مما عليه حال المسلمين، ووعى كل ذلك بفهم الدارس لكل ما وقع تحت سمعه وبصره.
حياته العملية:
قرر عبد الله الرجوع إلى وطنه، وأراد أن يكمل المسيرة، ويرى بنفسه ما آلت إليه البلاد، ويطلع على أحوال أخطر جماعة على الإسلام، وفشل كل محاولات الولاة بالمغرب في القضاء عليها، لكنهم لم يتمكنوا من ذلك، واستشرى أمرها، وأصبح في استطاعتها الهجوم على من حولها، وتغيير وجه الشريعة الإسلامية بإدخالهم عليها من الكذب والبهتان ما يمكن أن يشوه حقيقتها هؤلاء هم (البرغوطيون) .
وسوف نتعرض لهم بشئ من التفصيل بعد.
لقد مر على تلك الأقوام، ورأى ما آل إليهم من الأمر، وتمنى لو أوتي من القوة ليقضى على هؤلاء القوم، ويطهر أرض المغرب من عبثهم ومكرهم وخطتهم التي يسيئون إلى الإسلام بالتغيير والتبديل، وكان معهم على موعد؛ فقد حقق الله وعده؛ فسيرجع إليهم بجيش كبير من المرابطين.
لم تطل إقامته عند أهله وقبيلته بجزولة، ويعتقد أنه لم يجلس معهم طويلا؛ فربما لم يجد في شبابهم من يستطيع أن يكون عوناً له على أداء رسالته؛ ففضل أن يكمل تعليمه بتهذيب النفس وتأديبها بالانقطاع للعبادة في رباط من الربط القديمة؛ ليزداد خبرة وعلما، وليتعرف أكثر على أحوال القوم، وإن في اختلاطه بمن هو أكبر منه سنا وعلما يكون مدعاة للاستفادة التي قد تنفع في المستقبل الذي خطط له.(16/392)
لقد اختار رباط نفيس؛ فإن شهرته عمت الصحراء، وإن شيخه التقي الورع (وجاج بن زلو) قد فاق علمه وأخلاقه ومكانته الآفاق، وإن وجوده فيه ضرب من تخطيط القدر الذي قد يمر البعض مر العابر إلا أن الذين لهم أثر في تغيير مجرى الحوادث يكون اهتمام القدر بهم أكثر، ولا شك أن القدر له مع عبد الله موعد في رباط نفيس.
اختيار عبد الله للدعوة:
أحدث عبد الله تغيير كبيرا في الرباط؛ فهو الخطيب صاحب الصوت الذي يجوب الآفاق، وهو المفسر المحدث والفقيه، وهو الذي يجذب الجميع بحديثه وحواره وآرائه ومناقشاته؛ لذلك حينما ذهب الزعيم يحي بن إبراهيم أمير قبيلة جدالة إلى القيروان يطلب من العارف بالله الفقيه والسياسي البارع أبي عمران الفاسي من يعاونه على تعليم قومه أصول الإسلام الصحيحة في قوله: إننا في الصحراء منقطعون لا يصل إلينا إلا بعض التجار الجهال حرفتهم البيع والشراء، وفينا أقوام يحرصون على تعليم القرآن وطلب العلم ويرغبون في الفقه والدين لو وجدوا إلى ذلك سبيلا.
أرسله أبو عمران إلى تلميذه المقرب إليه الفقيه (وجاج بن زللو) شيخ رباط نفيس ومعه رسالة يقول فيها رحمه الله: ابعث إلى بلده من تثق بدينه ورعه وكثرة علمه وسياسته؛ ليعمهم القرآن وشرائع الإسلام، ويفقههم في الدين، ولك وله في ذلك الثواب والأجر العظيم، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.
دخل يحي على فقيه السوس وسلّمه رسالة أستاذه أبي عمران، وما أن انتهى من قراءتها حتى انفرجت أساريره، وظهر السرور والبشر على وجهه؛ فقد عادت به إلى ذكريات شيخه ومجالس علمه، وحملاته على الحكام الذين أساءوا إلى الشريعة، وتنقلاته مطرودا من بلد إلى بلد.(16/393)
جمع أتباعه ومرديه، وقرأ عليهم الرسالة، ثم راح يتشاور لاختيار من يثق به لتحقيق رغبة إمامه؛ فاتجهت الأنظار إلى عبد الله؛ لما عرف عنه من محافظته على المبادئ السلفية، وأخذ من الرسول الأعظم والصحابة والتابعين بلا تأويل ولا ابتداع، ومواظبته على الصلاة وفي جماعة، ومن قوته في الخطابة وقدرته على المناقشة وشدته فلا تأخذه في الحق لومة لائم.
واستسلم عبد الله لتفكير عميق؛ فإما أن يحقق مما يصبو إليه وما عاش من أجله؛ أمة متحدة متماسكة تستمد تشريعها من كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه الصحابة والتابعين، وإلا فبطن الأرض خير من ظهرها.
وأمسك يحي بن إبراهيم بزمام جمله حتى غابا عن القوم.
في الطريق إلى جدالة:
كان الركب يتوقف في الطريق للصلاة، وعبد الله يؤمن إيمانا جازما أن أوّل الطريق للمسلم هو المحافظة على الصلاة، وفي أول وقتها لا يشغله شاغل أو تأويل حتى يؤخرها؛ فكان إذا دخل الوقت وقف ركبه ليؤذن بنفسه ويدعو الناس فيجتمعون، فإذا ما أقيمت الصلاة راح ينظم الصفوف للجماعة، فإذا ما انتهت الصلاة قام ليعظ الناس ويذكرهم بما يجب عليهم نحو خالقهم، وليعلمهم أصول الدين بلغة عربية سهلة وبربرية واضحة يفهمها الجميع؛ فيدعو الناس إلى الجهاد وإعلاء كلمة الله.
كان الزعيم يحي بن إبراهيم الجدالي يقدم الداعية إلى الحاضرين قائلا: هذا عبد الله بن ياسين محي سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، جاء ليعلمنا أمور ديننا ويدعونا إلى ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم.(16/394)
كان يفعل ذلك في كل وقت وفي كل مكَان يمر به؛ فلا عجب أن أثار في الناس الحب الشديد لهذا الدين القويم، لقد فرحوا فرحاً شديدا باللحظات التي قضوها معه، وفهموا جيدا ما يدعو إليه، فلا غرابة أن نرى شيخا بربريا يسرع ليقترب من راحلة عبد الله وأن يمسك بزمام دابته قائلا بصوت مرتفع: أرأيتم هذا الجمل، لابد أن يكون له في هذه الصحراء شأن عظيم.
لقد أطلق يحي بن إبراهيم على عبد الله إمام الحق لما لمس فيه من سعي وراء الحقيقة وعمل على إحياء الشريعة وإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عبد الله والجدالين:
وصل عبد الله دور قبيلة جدالة، وبدأ يدرس حالة القوم، إنهم ما يزالون يتزوجون بأكثر من أربع، وما تزال المكوس تفرض، والناس نوعان أسياد وعبيد، والخمور تشرب وكأن القوم لم يسمعوا أنها محرمة، وآلات الطرب تباع ويقبل عليها القوم وليس لهم من الإسلام إلا اسمه.
وكان الداعية عبد الله فرحا بلقاء القوم، فأعد لهم مصلاهم، واهتم بالجماعة والمحافظة على وقت الصلاة، وواظب على وعظ الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكن ذلك لم يغير من عاداتهم؛ فبدأ يحزنه حال القوم فأضرب عن طعامهم، وكان جماعة منهم قد استجابوا للداعية وتسابقوا في حبه وطاعته في كل ما يأمر به.
جمع اتباعه وطلب من بائعي الخمر أن يريقوا خمورهم، ومن بائعي آلات اللهو والطرب أن يكسروا آلاتهم، وأمهلهم وقتا؛ فلما لم يقوموا بأنفسهم قام هو ومن معه بإراقة الخمور وتكسير آلات الطرب، ولم يكتف بذلك بل قام خطيبا يبين للناس ضرر الخمر وموقف الدين منها، والأضرار التي تصيب الناس من اللهو والغناء، ثم دعا الناس إلى الجهاد وما أعده الله للمجاهدين.
وصل الخبر إلى رؤساء القوم؛ فتعجبوا من أفعاله التي لم يسبق إليها فقيه قبله، ونادوه ليسألوه: كيف يقبل على هذا الأمر من غير أن يستشيرهم أو يأخذ رأيهم؟ ثم كيف يفسد أمتعة الناس ويحرمهم من أرزاقهم؟(16/395)
لقد كانت إجابات عبد الله موسومة بالحجة والدليل، مبينا لهم أن الذين يحللون ما حرمه الله ما هم إلا قوم فسقة فجرة خارجين على الدين..
قالوا له: "أترمينا بالكفر؟.."فقال لهم: "أما أنتم فلكم حساب ستعرفونه قريبا إن شاء الله؛ فإني أرى أنكم ما تزالون تجمعون بين أكثر من أربع من النساء، وهذا كفر بالشريعة والتشريع الإلهي وهو زنى عاقبته الرجم، والتفرقة بين الناس فسق، وخروج على تعاليم الإسلام، ثم إن الأدهى والأمرّ أكلكم أموال الناس بالباطل، وجباية الأموال بدون وجه حق، ما هو إلا زور وبهتان".
وترك القوم وهم يتوعدونه، إلا أنهم عزموا على مراجعة يحي بن إبراهيم الذي أتى به إلى ديارهم، ولما كلموه في ذلك انبرى يحي يدافع عن عبد الله، ويطلب من القوم أن يستجيبوا له، وأن ينفذوا طلبه، لكنهم قالوا له: لقد قلنا لك، وسنفعل به ما نشاء، فهو ليس رجلا هينا أو ضعيفا، وأنهم لا يستطيعون إغراءه؛ فهو من صنف لم يروا مثله من قبل.
أغروا به سفهاءهم، ولكنه واتباعه ثاروا عليهم وأشبعوهم ضربا حتى الموت، فجروا إلى كبرائهم الذين هدءوا من روعهم، واجتمع كبار القوم بأنفسهم ليعلنوا العداوة والنزال.
كان من أشدهم عداوة للداعية شخص يدّعي التفقه يقال له الجوهر ابن سحيم؛ فجادل عبد الله، ونقض عليه بعضا من آرائه، واتهمه بالتناقض فيما يدعو إليه، ولم يترك الداعية ليرد عليه، فقد قام اثنان منهم يقال لأحدهما أيار وللآخر انتيكو، وقررا عزله عن الرأي والمشورة ووافقهم القوم، وهددوه بالموت إن لم يترك البلاد، وجروا إلى داره؛ فانتهبوها وأخذوا ما فيها وهدموها، وقرروا قتله فخرج منها خائفا يترقب [1] .
رباط السنغال:(16/396)
فكّر عبد الله في الذهاب إلى السودان [2] لينشر الإسلام بين قوم على الفطرة، وما يزالون يعبدون الأوثان، وقد تكون استجابتهم للإسلام أقوى من أولئك الذين تلوثت عقائدهم بالسيئ من العادات والتقاليد، وجمع من معه واستعدوا للرحيل، إلا أن يحي بن إبراهيم جاءه ليعتذر عما حصل من قومه، ثم سأله إلى أين تذهب؟ قال عبد الله إني ذاهب إلى السودان.
قال له يحي: "إني لا أتركك تنصرف، وإنما أتيت بك لأنتفع بعلمك في خاصة نفسي وديني، وما عليّ من ضل من قومي [3] ، وسكت عبد الله على غير عادة؛ فلم يكن من طبعه السكوت عن جوابه، فأتم يحي كلامه قائلا: ولكن هل لك في رأي أشير به عليك إن كنت تريد الآخرة؟ قال: وما هو؟ قال: إن هاهنا جزيرة في البحر ندخل إليها فنعيش فيها".
فقال له عبد الله: "إذاً نبني رباطا؛ فهلم بنا ندخلها باسم الله تعالى، وبنى عبد الله بن ياسين رباطه الذي سمي برباط السنغال".
في هذا الرباط أنشأ أول جماعة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أفريقية، وبدأ يختار لدخول الرباط؛ فلا يترك الباب مفتوحاً ليدخل من يريد، بل كان يتردد طويلا ويمتحن المريد ليعرف الهدف الذي من أجله يريد الانضمام ومدى إخلاصه للدعوة؛ فإذا وجد منه استماتة في الانضمام ألزمه بأن يطهر نفسه من الرجس والدنس عما اقترفه من ذنوب وآثام، ثم يطلب منه أن يتوب من ذنوبه قائلا: قد أذنبت ذنوباً كثيرة في شبابك؛ فيجب أن يقام عليك حددوها؛ فإذا أقر بذنب أقام عليه الحد، فإن كان غير محصن وزنى جلد مائة جلدة، أو أقر بشرب الخمر وقع عليه حدها، وكان أحيانا يطلب من الواحد منهم أن يسلم إسلاما جديدا.(16/397)
كان الداعية عبد الله في رباطه الجديد يتولى تعليم أتباعه بنفسه، وكان رائده الإمام مالك رحمه الله؛ فكان يرى أنه أشد الناس التزاماً لكتاب وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وما سار عليه الصحابة والتابعين، كان يخوفهم من النار وعذاب الآخرة ويشوقهم إلى لقاء الله وما أعده للمؤمنين الصادقين من ثواب في الجنة، كان يطلب منهم أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وأن يتهيئوا للجهاد الذي هو عصب الدعوة الإسلامية.
والظاهرة الجديدة في تعاليم ابن ياسين بالرباط هي اهتمامه بالصلاة والمحافظة عليها في أول أوقاتها وأدائها في جماعة، ومعاقبة المتخلف عنها ومحاسبته على كل ركعة يتخلف عنها؛ فالذي يتأخر عن الجماعة يضرب عشرين سوطا، والذي تفوته ركعة مع الجماعة يضرب خمسة أسواط [4] ، وكان يطلب من تركها في الماضي أن يؤدى ما فاته، وبجانب هذا كان احترامه لمسجد الرباط شديدا، وكان يعزر كل من يتكلم في المسجد في أمور الدنيا.
وهكذا رأى عبد الله أن المخالف لابد أن يؤخذ بالقوة حينما يخرج عن أمر الله وطاعته، وأن حدود الله تلتزم التزاما، وأن العاصي يستحق العذاب، وأن المخالف عليه أن يتقبل القصاص بنفس راضية.
ولقد استقام أمر الجماعة، ورضخ الكل لحكم الله حتى أصبحوا أعضاء صالحين في مجتمعهم الجديد؛ فزاد إقبالهم وكثرت جموعهم وأطاعوا وآمنوا بما يدعو إليه إمامهم، وأقبلت جموع الملثمين تعاهد الله على الوفاء والإخلاص والتضحية، وكثيرا ما كان يحثهم على تحمل المسؤولية، ويهيب بهم أن يكونوا دعاة لأمر الله؛ فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
خطبهم يوما فكان مما قال: "يا معشر المرابطين إنكم جمع كثير، وأنتم وجوه فئاتكم ورؤساء عشائركم، وقد أصلحكم الله تعالى وهداكم إلى صراطه المستقيم؛ فوجب عليكم أن تشكروا نعمته وتأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر وتجاهدوا في الله حق جهاده".(16/398)
لقد نظم عبد الله جماعته تنظيما يكفل لها النجاح وأعدها إعدادا طويلا، وتزايد عددها حتى بلغ أكثر من ثلاثة آلاف، وكان لابد لمجتمعه الجديد من المال والسلاح والتدريب؛ فجمع الزكاة والعشور وما يتبرع به؛ حتى استطاع أن يواجه ما يحتاج إليه كي يؤدي رسالته كاملة، فيخضع الخارجين على تعاليم الدين بالقوة إذا اقتضى الأمر.
ورأى داعية الله ابن ياسين ما للدعاية الروحية من أهمية كبيرة في حياة المسلمين؛ فأراد أن يتفرغ لها ويحث المسلمين على التمسك بتعاليم الشريعة، فكثير ما كان يردد قوله: إنما أنا معلّم لكم دينكم."
واختار لقيادة الجيش يحي بن عمر اللمتوني؛ لما يمتاز به من صفات حازت الرضا والإعجاب، فلقد كان من أهل الدين والفضل والزهد والصلاح، مكافحا في سبيل توحيد دعائم الدعوة، ولم يتركه عبد الله وحده، ليتصرف كما يريد، بل كان يراقبه ويشير عليه بما يجب عمله.
لقد اكتمل العقد وتهيأ الجميع للخروج لنشر الدعوة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، مستعدين لخوض المعارك مع الخارجين والمخالفين؛ فقد خطبهم عبد الله وكان مما قاله: "اخرجوا على بركة الله تعالى، وأنذروا قومكم، وخوفوهم عقاب الله، وأبلغوهم حجته فإن تابوا ورجعوا إلى الحق وأطاعوا فخلوا سبيلهم، وإن تمادوا في غيهم ولجوا في طغيانهم استعنّا بالله عليهم وجاهدناهم حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين".
واستعد الرباط بمن فيه للذهاب إلى الجهة التي يعينها الأمير ابن ياسين.
نشر الإسلام في غانا
أراد عبد الله أن يضرب المثل الأعلى للقبائل المحيطة به في الجهاد والقتال في سبيل نشر الدعوة الإسلامية بين الوثنيين، والذين هم على الفطرة؛ فأمر المرابطين أن يستعدوا لنشر الإسلام في غانا وقتالهم إذا اعتدوا عليهم، ثم سار نحو منحني النيجر، ليحمل أهل غانا على الإسلام.(16/399)
لم يشأ عبد الله أن يفاجئهم ويعمل فيهم السيف على غرة، بل اتبع الطريق الذي سار عليه المسلمون في عهدهم الأول؛ فأرسل إليهم من يدعوهم للدخول في الإسلام، أو الجزية أو القتال، ولكنهم غدروا بالرسل وقتلوهم عن أخرهم؛ فأهم الداعية هذا الأمر، فأمر المرابطين بالاستعداد لقتالهم، وصعد عليهم الجبل، وقاتلهم ثلاثة أيام، استبسل فيها المرابطون ومات منهم عدد كبير، وكاد الأمر يخرج من أيديهم؛ فالأعداء أكثر منهم عدداً وعدة، ولكن المرابطين وضعوا في تفكيرهم ما يصيبهم إن هم انهزموا سيتعرضون للسخرية والاستهزاء، ولن ترحمهم ألسنة الأعداء؛ فقد يقومون بدعاية تؤثر على سير الدعوة، وأيضاً فقد يطمع فيهم أهل غانا، فيُهْدَم كل ما بنوه، زيادة على العداء بين الداعية وكبراء القبائل المحيطة بالرباط؛ لذلك نجد الداعية عبد الله بن ياسين يخطب المسلمين في اليوم الرابع فيقول: "أنا احتسبنا أنفسنا في حق الله وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأراكم قد أعياكم حرب هؤلاء المشركين ولم يأمرنا الله أن نتركهم إذ.. فاستعينوا بالله ر بكم ينصركم عليهم" [5] .
كان لكلمات الداعية الإمام - رحمه الله - أثرها الفعال في قلوب المرابطين، فاستعدوا لدخول المعركة، واثقين من نصر الله، مقدرين النتائج السيئة المترتبة على الهزيمة، وحمي وطيس المعركة وهجم المسلمون على المشركين حملة رجل واحد؛ فانهزم الجمع وولوا الأدبار، والمسلمون ورائهم يقتلون ويأسرون؛ لقد قتلوا منهم أعدادا كثيرة، وسلبوا أموالهم، وتوغلوا في ديارهم حتى أشرفوا على ديار التكرور؛ فانضموا إليهم وأصبحوا قوة للمرابطين.
حمل الركبان نبأ هذا الانتصار في قلب الصحراء إلى كل مكان، لقد مكنوا لدين الله في أرضه، وضموا أعدادا كثيرة إلى المرابطين؛ خاضوا معهم الحروب، ورجع المسلمون إلى الرباط، وأقبل الناس ليروا الفئة المؤمنة الصابرة، ولينضم إليهم من يريد شرف الجهاد في سبيل الله.(16/400)
فلا غرابة أن يزداد إيمان المرابطين وأن يؤكدوا لله العهد على مواصلة الجهاد ورفع راية الإسلام الصحيح.
وسوف يقرر إمامهم ومعلمه وقائد هم الجهة التي سيتحركون إليها.
- يتبع -
--------------------------------------------------------------------------------
[1] البيان المغرب لابن عذارى ج 4 ص 8، 9.
[2] كانوا يطلقون (السودان) على كل ما عدا المغرب الكبير من وسط أفريقية.
[3] روض القرطاس ص 78.
[4] البيان المغرب لابن عذارى المراكشي ج 4 ص16.
[5] البيان المغرب لا بن عذارى ج4 ص 12.(16/401)
الأدب العربي في الميزان
للدكتور شوقي عبد الحليم حمادة
أستاذ الأدب بكلية اللغة العربية
الحمد لله رب العالمين.. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.. عبد الله ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه.. وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
يقول الحق تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} ، سورة الذاريات الآية 55.
وعن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد: "ألا كال شيء ما خلا الله باطل" وفي رواية: "أصدق كلمة" متفق عليه.
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشعر بمنزلة الكلام؛ حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام".. أخرجه البخاري في الأدب المفرد، والدارقطني في سننه.
في هذه الفترة العصيبة من تاريخ الأمة الإسلامية تتطلع شعوبها المجاهدة إلى كل زاوية، وإلى كل اتجاه عساها أن تبصر ومضة من هنا أو إشعاعة من هناك، وليس شيء يلهب عزائم الجموع ويؤجج مشاعر الملايين كالتذكير بالمثل العليا والنماذج الرائعة للسلف الصالح، وربط الأمة بماضيها المشرق الزاهر وتراثها المجيد.
ومما لا ريب فيه أنّنا عندما ننظر نظرة فاحصة في عمق الباحث وتفكير العاقل المتدبر - على امتداد الوطن العربي الإسلامي - نجد أن غثاء كثيرا أوجده الفكر الدخيل في مجرى الفكر العربي الإسلامي الأصيل، ويتضح ذلك في المذاهب الفاسدة المنتشرة: (الماركسية والعلمانية والليبرالية.. الخ) ، وهى مصطلحات ترتبط ارتباطا وثيقا بالسياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم، مأخوذة من أيدلوجيات ونظم غربية تتناقض تناقضا شديدا مع مفاهيم وأصول الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتعليمي الإسلامي، وإن كانت تلتقي معه أو تختلف عنه بصورة أو بأخرى.(16/402)
إن من أخطر التحديات التي واجهت أمتنا العربية الإسلامية تلك المتابعة للفكر الغربي في مفاهيمه ونظمه السياسية والاجتماعية، التي أوقفت التشريع الإسلامي وألغت نظام التربية الإسلامية، وفتحت الطريق أمام مناهج التعليم المنقولة من الإرساليات والتبشير، القائمة في كثير من الأقطار على تمجيد الغرب ودينه ولغته وتاريخه، والتي كانت سببا في الدعوة إلى التخلي عن الدين والأخلاق والقيم؛ بحثا وراء منهج إقليمي يقيم الحواجز الحصينة بينه وبين الامتدادات العربية من ناحية والعالم الإسلامي من ناحية أخرى، والفكر الإسلامي بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع من ناحية ثالثة، وكان من مؤيدي هذا الاتجاه والداعين إليه لفيف من الأدباء، ممن اشتروا الضلالة بالهدى وختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وأبصارهم غشاوة؛ مما جعل التيار الأدبي في الأمة العربية يسير على الوجه التالي:
1- فهم الأدب بمنطق الغرب؛ استمداداً من نظريات (ثين وبرونتير وسانت بيف) ، تلك التي تنظر إلى الإنسان على أنه مادة خالصة لا روح فيها، أو على أنه حيوان تطبق عليه تجربة الحيوان وغرائزه، وتفصل ما بينه وبين الروح، كذلك فإن هذه النظريات تحصره في إطار البيئة والعصر وحدهما دون أن تربطه بالعقيدة الممتدة على الزمن، والتي كان لها - وسيظل بمشيئة الله - أثرها البعيد في تشكيل الإنسان، وتصرفه وحركته وتفسير أهوائه وغاياته، كما اعتمدت أحكام الأدب والنقد على مفاهيم دارون وماركس وفريزر وفرويد، وهى في مجموعها مفاهيم ترد النتاج الأدبي إلى التفسير المادي للإنسان، وترجعه إلى حيوانيته سواء في الجنس أو في لقمة العيش، أو في التطور المطلق، أو في الجبرية؛ فتحول بينه وبين امتلاك الإرادة التي هي مصدر حركته ومصدر مسئوليته وجزائه عند الله.(16/403)
وبديهي أن هذا الاتجاه الأدبي إنما يستهدف طعن الفطرة الإنسانية وتدمير العقيدة الإسلامية والأخلاق، ولا سيما عندما علت صيحة (في بعض البلاد) تنادى بفصل الأدب عن الفكر الإسلامي؛ ليكون حرا في الانطلاق نحو الأدب المكشوف، مما كان سببا في تكوين مذهب وأدب فتح طريق الشر للأجيال التي جاءت بعد ذلك، وكان من أهم الركائز التي أعانت دعاة الفكر الشيوعي والصهيوني التلمودي؛ لأن هذا الانحدار الأدبي كانت له أسوأ النتائج في كل الهزائم التي وقعت بالعرب المسلمين، وبه تمكنت الصهيونية من السيطرة على الأرض والفكر..
2- كان من أكبر أهداف الأدب الحديث - الذي قام به كتاب ما بعد الحرب العالمية الأولى - هو الانقطاع عن الأدب العربي الذي يمتد عقده منذ ظهور الإسلام؛ ولذلك لم نر كاتبا واحدا من هؤلاء يصل نفسه بهذا الأدب، (ما عدا الرافعي؛ وكانوا يسمونه رجعيا) ، وكل ما عرضه هؤلاء الكتاب من الأدب العربي القديم إنما كان محاولة لتصوير الأدب بصورتين:
أ- صورة الشعر الهابط، ممثلا في أبي نواس وبشار ومجموعة الزنادقة الذين شغل بهم البعض، أو الشعر الجاهلي الوثني.
ب- أدب السجع والمحسنات اللفظية الذي لم يكن من الأدب العربي الأصيل، والذي جاء به الفرس والوثنيات القديمة.
وكانت النظرية الشائعة إبعاد (ابن تيمية وابن القيم الجوزية) - وكل هؤلاء وغيرهم - عن مجال الأدب، ووصفهم بأنهم فقهاء، وذلك حتى يتحرك الشباب المسلم في دائرة مغلقة.
ولقد ظل عمل هؤلاء مقطوع الصلة بالأدب العربي في امتداده يركز على المناهج الفرنسية أو المناهج الإنجليزية.
إن هناك مفازة واسعة وقف عندها هؤلاء الرواد ولم يجاوزها إلا بين حين وحين؛ عندما كتبوا عن المتنبي أو ابن الرومي، أما من حيت قيام دراسة متصلة شاملة تربط حلقات الأدب كلها فلم يكن هناك غير الأسلوب المدرسي الذي يقسم الأدب إلى عصور.(16/404)
3- لقد كانت، هذه التجزئة في الأدب مساوية تماما للتجزئة السياسية التي وجدت بعد الحرب العالمية الأولى، حيث الدعوة إلى الإقليمية والوطنية الضيقة، وبذلك أغلقت الأبواب دون الفهم الصحيح للروابط الاجتماعية والسياسية والفكرية بين الأمة العربية من ناحية وبين العرب والمسلمين من ناحية أخرى، ودعا بعضهم إلى إغلاق الأبواب في وجه كل ما يسمى عروبة أو إسلاما.
في هذه الفترة الحرجة من تاريخ أمتنا يتسائل الكثيرون عن (اختفاء الفكر العربي الأصيل) ، ويردونه إلى عجز الأدب (إبان النكسة والنكبة، وخلال مرحلة 1948م إلى 1967م) عن العطاء.
وقد أجاب البعض إجابات جانبية وعجزوا عن أن يفهموا أعماق هذه الظاهرة.
إن الأزمة أكبر من الأدب نفسه، فالقضية قد انتقلت إلى مجال الفكر الإسلامي بعد أن فشل الأدباء في الاستجابة الحقيقية للأمة، وكان أغلب ما قدموه لا يمثل حقيقة هذه الأمة ولا جوهر فكرها ولا مضمون روحها، وإنما كان مترجمات ضالة من الفكر الوثني والمادي.
ولقد حجب في هذه الفترة كل كتّاب الأصالة حتى ماتوا كمدا بعد أن حجبت آثارهم ومنع إنتاجهم، وكثيرون غيرهم اعتقدوا أن راية الإسلام هي المظلة الحقيقية.
إن الأدباء كانوا تابعين لمدارس وأيديولوجيات ومفاهيم موزعة بين المذاهب المادية والبشرية، وكانوا يحاولون أن يتخذوا من القصة وسيلة إلى هدم المقومات، ويتخذوا من النظْم وسيلة إلى هدم عمود الشعر، ويتخذوا من البرامج الإذاعية وسيلة إلى هدم الفصحى وتغليب العامية بما تحمله من مفاهيم فاسدة.
وكان هذا النتاج كله يدور حول الأحقاد التي يحملها الشيوعيون والشعوبيون للإسلام والعرب ولغتهم ودينهم وفكرهم وتاريخهم، وكانوا يدورون في دائرة ضيقة هي الهدم والصراع الطبقي.
وكيف يمكن أن يكون هذا أدبا أصيلا؟..(16/405)
لقد فشل الأدب نتيجة أنه تخلى عن رسالته وعن أصالته، وعن موقعه الصحيح بالنسبة للفكر الإسلامي؛ ولذلك فقد كان لابد وأن يسقط، وأن يقدم الفكر الإسلامي نفسه ليحمل الأمانة.
إن حركة اليقظة الإسلامية منذ ظهورها بدأت تعمل على تحرير الحركة الوطنية من الإقليمية، والأدب من التبعية، وظلت تفتح الطريق لهذه الأمة إلى الأصالة في منابعها الثلاث:
1- أسلوب تربية إسلامي بديلا للمناهج التعليمية الواحدة.
2- الشريعة الإسلامية بديلا للقانون الوضعي.
3- بناء المجتمع الإسلامي على أساس الأخلاق والعقيدة.
ولقد كانت كل محاولات الغزو الثقافي متمثلة في ضرب هذا التيار الإسلامي وحربه والقضاء عليه؛ لعلمهم بأن ذلك يعنى عظمة الأمة ومجدها وعزها وكرامتها وحريتها.
أجل! إن الذوق الإسلامي أقرب إلى الحقيقة وأحلى للسمع وأوسع في المحتوى والمضمون.
إذن يجب علينا - نحن الأدباء العرب المسلمين - أن نعود من ذوق علماني إلى ذوق الإسلامي، من ذوق مادي هابط إلى ذوق روحي شفاف؛ إن الذوق فسد فكيف ننشئ هذا الذوق في الجيل المعاصر؟..
ومن أين نأتي به؟.. هل نأتي به عن طريق المؤتمرات والدراسات والمناقشات، أو عن طريق التربية والتعليم، أو عن طريق الإعلام ووسائل التبصير والتثقيف؟..(16/406)
إن هذه الأساليب طبيعية لابد منها في صوغ الأفكار والميول والاتجاهات، وفي إثارة الأشواق والأذواق، بشرط أن تركز هذه الوسائل كلها على نقطة واحدة هي نقطة إنشاء جيل يختلف في وجدانه وذوقه وعقليته وسلوكه عن جيله السابق كل الاختلاف، جيل يضع إقامة ميزان الإيمان؛ فيربح فيما يخسر فيه الآخرون ويخسر فيما يربح فيه الآخرون، ممن يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله، جيل تختلف عنده مقاييس الغضب والرضا والفقر والغنى والإخفاق والنجاح والتقدم والتخلف؛ فهو يشفق على عمالقة الغرب وأبطاله وأساتذته وفلاسفته، كما يشفق الخبير البصير على ضرير ضلّ الطريق ووصل على حافة بئر سحيق أوشك أن يقع فيه، ويعتبرهم أشدّ جهلا وعجزا من أي شعب آخر؛ إيمانا وتسليما بقول الله عز وجل: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الآيات 103- 104 من سورة الكهف) .
إننا حقاً مرضى ألسنتنا التي أصبحت لا تميز بين المر والحلو؛ لماذا؟ لأننا فقدنا حاسة الذوق كما فقدنا حاسة الشم، لابد أن نتجه - في ظل المنهج والنظام والشرع طبعا - إلى ذوق إسلامي يحرسنا من النزوات الفكرية والتلوث الذهني وصدأ القلب.
يجب علينا أن نضم إلى سلاح العلم والعرفان؛ سلاح الذوق والإيمان، وبهذا الذوق وحده نفرق بين الخبيث والطيب، ولا يتحلب فمنا على كل حماقة غريبة إذا كانت غربية.
إن أمتنا العربية المسلمة لا يمكن أن تسترد عزتها المسلوبة ولا كرامتها المفقودة إلا يوم أن تعود إلى دينها؛ تستقي من معينه الفياض وترتشف من ينبوعه الصافي.(16/407)
وينبغي أن يكون واضحا أمام أعين الأدباء والشعراء أن عصر صدر الإسلام - عصر السلف الصالح رضوان الله عيهم - هو المشعل الذي تستضيء به البشرية في كل عصورها وفي جميع شئونها؛ مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.. الحديث"..، وقوله: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي؛ عضوا عليها بالنواجذ" ...
أجل: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها..
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} .. {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} .. {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} ..
والله نسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ويرزقنا الإخلاص في القول والعمل؛ إنه على ما يشاء قدير وهو حسبنا ونعم الو كيل..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان:
ا- أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
2- أن يحب المرء لا يحبه إلا لله.
3- أن بكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله كما يكره أن يلقى في النار". رواه الشيخان.(16/408)
يا متاع الغرور
لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين
ثقُلَ الحملُ يا صديقي، والزا
د زهيد، والدرب وعر طويل
وازدهاك الغرور لما (تمليت)
فأوشكت لا تعي ما تقول
وهوى المال يا أخيّ بلاء
بل وباء تضلّ فيه العقول
فتَخَفّفْ؛ إن المخِفَّ هو النا
جي إذا آذن الحسابُ المهول
وتذكرْ أن الكفاف هو الخير
وكل الذي عداه فضول
قد بلونا عسر الحياة زماناً
ثم وافى يسارُها المأمول
فإذا مرّها وحلو جناها
محض حُلمُ بقاؤه مستحيل
فإلاَم الشقاءُ في طلب الوهم
وندري أن المقام قليل
ولعمري ما أنت أجوجُ مني
لنصيح يقول لي ما أقول
كلنا وارد السراب وكلٌّ
يدعى الطبَّ وهو ذاك العليل
.. يا متاع الغروو حسبك ما أسـ
ـلفت بي من جراحة لا تزول
زنتْ لي الضرب في الظلام إلى أن
خار عزمي وأرهقتني الكبول
وشبابي نزفته في ضباب
من ضياع قد حار فيه الدليل
فدع الشيب لي أكفُر به الما
ضي فقد آن أن يثوب الجهول
وإذا الشيب لم يزعني عن الغيّ
فما لي إلى النجاة سبيلُ(16/409)
ما هكذا يا سعد تورد الإبل
بقلم فضيلة الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
عميد كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية
بالجامعة الإسلامية
وفي ليلة الجمعة 8/1/1399هـ سمعت صدفة ومن غير قصد.. ندوة علمية تبث من إذاعة القاهرة موجهة إلى طلاب وطالبات (جامعة القاهرة) ، وكان من بين الأسئلة التي وجهت للدكتور (أحمد شلبي) السؤال التالي؟:
(هل يعتبر القسم بغير الله شركا) ..
وجهت السؤال طالبة من طالبات جامعة القاهرة لم أتمكن من ضبط كليتها، كما لم أضبط اسمها.
ولم يوفق الدكتور شلبي في الإجابة على السؤال، بل حاول أن يميع الإجابة على الرغم من أن السؤال صريح والجواب عليه واضح في السنة - لو وفق الدكتور، وكان من أهلها -.
ولكن لم يوفق، بل أخذ يلف ويدور، وقال مرة في جولته في الدوران قول الإنسان بحياة أبي، أو حياة الرسول، أو بحياة الحسين ليس بقسم وإنما يقصد التأكيد، وفات الدكتور أن القسم نفسه إنما يقصد به تأكيد الخبر بالحلف بعظيم يخشى انتقامه لو كان الحالف كاذباً.
ولست أدرى كيفا اختلط الأمر على فضيلة الدكتور، وأعتقد أن السائلة ومن كان معها يدركون خطأ الدكتور ومحاولته التمييع، ولكن الحياء أو الستر على الدكتور أو كونها امرأة تعجز عن المناقشة؛ فهذه المعاني أو بعضها حالت دون مناقشة الدكتور، ولو كان السائل رجلا يعلم الحكم؛ فيقوى على مناقشته لما تركه وهو يتلاعب بحكم من أحكام دين الله، ولكنها أنثى (وليس الذكر كالأنثى) فيقوى على المناقشة.(16/410)
ومما قاله الدكتور في أثناء محاولته التهرب عن الإجابة الصحيحة: أن بعض الجماعات المتشددة تقول: "إن القسم بغير اسم الله يعتبر شركا"، وأنا لا أوافقهم على ذلك، ثم بالغ في التهرب من الإجابة فخرج عن الموضوع، فقال: "وهناك نقطة أخرى وهي أن الإنسان إذا حلف لا يفعل شيئا كأن يقول: والله لا أزور أخي مثلا؛ فينبغي أن يزور أخاه؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا..} ، الآية.. "إلى آخر الكلام الكثير الذي الغرض منه التهرب عن الإجابة الصحيحة التي يعلمها أو يجهلها، ولست أدرى أيهما يختار الدكتور لنفسه.
وأخيرا ختم الإجابة على السؤال بهذه الجملة الجريئة: (القسم بغير الله لا يعتبر شركا!!..) .
نقول للدكتور: "ما هكذا يا سعد تورد الإبل! ".. أي ما هكذا يا دكتور تكون الإجابة العلمية..
يا سبحان الله! هل الذي حمل الدكتور على هذا الموقف الخطير.. الذي مضمونه تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم والخروج عليه، وعدم اطلاعه على النصوص الواردة الدالة على أن الحلف بغير الله شرك؟ أو الحامل له مجاراة العوام ومداهنتهم وكتمان الحكم الشرعي؛ التماسا لرضى العوام وأشباه العوام؟
وسواء أكان الحامل له هذا أو ذلك فإن الدكتور قد تورط؛ فلا عذر له في كلتا الحالتين، فأي الأمرين يختار فضيلته؟.. هل يختار أن يقال له: إنه جاهل؟.. لا أظن ذلك، أو يختار أن يقال له تعمد في مخالفة النصوص والخروج عليها مع الاطلاع عليها والعلم بها؟. هما أمران أحلاهما مرّ، ولكن الاحتمال الأخير هو الأقرب؛ لأنه لا يليق بمكانته العلمية الرفيعة أن يقال إنه جاهل للحكم.
فإذاً إنه عالم تجاهل لحاجة في نفس يعقوب..(16/411)
وبعد.. أريد أن أذكر الدكتور - فالذكرى تنفع المؤمنين - أن حياة المسلمين اليوم في الغالب الكثير مزيج من العادات والتقاليد المخالفة لما جاء به الإسلام من الهدى والتشريع.. وهذه التقاليد والعادات على نوعين:
1- نوع جاء به المستعمرون الذين استعمروا أكثر بلاد المسلمين، ثم رجعوا إلى بلادهم تاركين خلفهم عاداتهم وتقاليدهم؛ فورثها المسلمون السذج.. وهم ورثة المستعمرين دائما.
2- النوع الثاني عادات وتقاليد كانت موجودة في المنطقة قبل دخول الإسلام إلى المنطقة، ثم بقيت ممتزجة بما جاء به الإسلام، ولم يستطع كثير من الناس أن يميز بينها وبين الحق الذي جاء به الإسلام؛ فتوارثوها، ثم مع بعد كثير من الناس عن تعلم الإسلام ودراسته والتفقه في الدين، وكثرة علماء السوء الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، ويفضلون ثمن الرغيف على رضا ربهم؛ لهذا كله راجت تلك التقاليد فالتبس الأمر على العوام؛ لا يفرقون بين السنة المحمدية والبدع المحدثة والأقوال والأفعال الدخيلة؛ فقد اختلطت مع ما جاء به الإسلام من العبادات والأحكام ولم يفرقوا بين الحق والباطل؛ فأخذ كل جيل يرث البدعة عمن كان قبله حتى صارت مألوفة غير مستنكرة؛ فلا يقوى على إنكارها إلا طائفة قليلة غريبة بين الناس وفي أرضها وبين بنى جنسها، وهى الطائفة التي رزقها الله الفقه في الدين، ذلك الفقه الذي يمكن الإنسان من التفريق بين الحق والباطل، ويحمله على مراقبة الله والخوف، والتفقه في المعاني يورث المرء الشجاعة والإقدام والقدرة على القول بالحق وبيان الحق والدعوة إليه، وما جاء به خاتم النبيين هو الحق.. فماذا بعد الحق إلا الضلال؟(16/412)
ومن فقد هذه المعاني يغلب عليه الجبن والخور ومداهنة الناس والتزلف، وإيثار رضاهم على رضى ربه وخالقه وولي نعمه، وقد كان علماء المسلمين سابقاً يتمتعون بالشجاعة وقول الحق ولو كان أمام السلطان الجائر، ويعتبرون ذلك نوعا من الجهاد في سبيل الله، والله المستعان!
ولعل الذي جعل الدكتور أحمد الشلبي يتهرب من القول (بأن القسم بغير الله شرك) كما تدل السنة الصحيحة الصريحة هو ظنه بأن المراد بالشرك هنا الشرك الأكبر الناقل عن الإسلام، والذي يرادف الكفر ... إن كان الحامل للدكتور هو هذا الظن!
فليعلم الدكتور أن الشرك ينقسم إلى قسمين إذا أطلق في لسان الشارع؛ يعرف ذلك بدراسة السنة دراسة فاحصة والفقه في الدين، "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"، والفقه في الدين شيء وكثرة الإطلاع أو كثرة الحفظ شيء آخر، ورب قليل للحفظ وقليل الإطلاع يرزقه الله الفقه في الدين، وحقيقة الفقه (الفهم الصحيح في الإسلام، والتصور السليم لما جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام) :
1- القسم الأول: شرك أكبر يخرج صاحبه من دائرة الإسلام، وهو صرف نوع من أنواع العبادة لغير الله واتخاذ غيره نداً ومعبوداً معه؛ لأن ذلك يتنافى وكلمة التوحيد التي تحصر جميع العبادة لله وحده، وتحرم عبادة من سواه وما سواه؛ إذ معناها لا معبود بحق إلا الله؛ فمن عبد غير الله بالدعاء والاستغاثة والذبح والنذر والتوكل - وما في هذه الأشياء من أنواع العبادة كالركوع والسجود والطواف - فقد أشرك مع الله شركا لا يغفر إلا بالتوبة التي هي الإقلاع والندم والعزم على عدم العودة؛ {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .
2- القسم الثاني: الشرك الأصغر، ويسمى في اصطلاح السلف شركا دون شرك، كما يقال: كفرٌ دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.(16/413)
ومن لم يدرك هذه الأقسام فليس بفقيه ويكثر تخبطه ويلبس عليه الأمر دائماً، وقد يخرج من الإسلام من هو صحيح الإسلام، وقد يدخل في الإسلام من هو بعيد عن الإسلام.
فتأمل المقام فإنه مهم جداً.
ومن أنواع الشرك الأصغر القَسم بغير الله، وقول الرجل للرجل: ما شاء الله وشئت، ولولاك حصل كذا، وهذا النوع لا يخرج مرتكبه من الإسلام إلا أنه إثم كبير يؤدي إلى الشرك الأكبر.
وقد ينتقل بعض أفراد هذه النوع من الشرك الأصغر إلى دائرة الشرك الأكبر بأمور خارجة تطرأ أحيانا وتصاحب القول، كأن يصل تعظيم المحلوف به في قلب الحالف والخوف إلى حد تعظيم الموحد ربه وخالقه أو أعظم من ذلك، وفي هذه الحالة ينتقل القسم بغير الله من الشرك الأصغر إلى الشرك الأكبر؛ لأن من بلغ إلى هذه الحالة فقد خرب قلبه، وحقيقة الكفر هو خراب القلب، ويفقد تقدير الله حق قدره وتعظيمه والخوف منه، ويحل محل تعظيم الله تعظيم مخلوق؛ فنسأله تعالى العفو والعافية.
وهذا الباب باب خطير جداً، ومع خطورته قد أهمل الاهتمام به كثير من طلاب العلم والعلماء الرسميين، وعدم تحقيق هذا الباب هو الذي أوقع الدكتور الشلبي في هذا الخطأ الفادح؛ عفا الله عنا وعنه!
فها أنا ذا أسوق هنا بعض النصوص الدالة علما أن (القسم بغير الله شرك) .
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفاً فلحلف بالله أو ليصمت"، رواه مالك والبخاري وأصحاب السنن، وفي رواية لابن ماجه من حديث بريدة قال: سمع النبي صلى الله عليه سلم رجلا يحلف بأبيه فقال: "لا تحلفوا بآبائكم! من حلف له بالله فليصدق، من حلف بالله فليرض، ومن لم يرض بالله فليس من الله".(16/414)
2- عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رجلا يقول: لا والكعبة، فقال ابن عمر: لا تحلف بغير الله؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك"، رواه الترمذي وحسنه ورواه ابن حبان وصححه، ورواه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، وفي رواية الحاكم: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: "كل يمين يحلف بدون الله شرك".
3- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقاً"، رواه الطبراني موقوفاً، وقال المنذري: رواته رواة الصحيح، قال بعض أهل العلم تعليقاً على هذا الأثر: "وذلك لأن الحلف بغير الله كفر أو شرك كما صرح به الحديث السابق، والحلف بالله وهو كاذب معصية لها كفارة وفرق بين الاثنين".
4- وعن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: "من حلف بالأمانة فليس منا"، رواه أبو داود.
وهذه الأحاديث كما ترى صريحة الدلالة - بالجملة - علما على عدم جواز القسم بغير الله، وأما حديث ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فصريح الدلالة على أن القسم بغير الله يعتبر شركا.
والقول بأن الحلف بغير الله لا يعتر شركاً بعد الاطلاع على هذه النصوص - ولا سيما حديث ابن عمر - ووصف من يقوك بذلك بأنها جماعة متشددة؛ فقول في غاية الجرأة؛ فيوقع قائله في فتنة ويعرضه لعذاب الله إذ يقول الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، قال الإمام أحمد: الفتنة الزيغ والله أعلم.(16/415)
والدكتور شلبي ليس وحيد دهره أو فريد عصره في هذا الموقف الجريء، بل قد ابتليت هذه الأمة منذ أمد غير قصيرة بمجموعة ممن ينتسبون إلى العلم من هذا الصنف الذي عظمت لديهم الدنيا، وهانت لديهم الآخرة فلم يقيموا لها وزناً وسخروا علمهم للحصول على ثمن الرغيف، وإذا لم يتيسر ذلك إلا بالكذب على رسول الله أو تكذيبه والخروج على سنته فلا مانع لديهم أن يقترفوا كل ذلك طالما يحقق ذلك المصلحة الشخصية، اللهم عافنا فيمن عافيت!.
ولست أذهب بعيداً للاستدلال على ما ادعيت، ولدينا فتوى الدكتور الشلبي: "القسم بغير الله لا يعتبرشركا"، ثم نسب القول بأن ذلك إلى جماعة متشددة كما زعم.
وهذا القول كما ترى يكذب الحديث الذي تقدم ذكره قريبا؛ حديث عبد الله بن عمر، ولو وجهنا إلى المجموعة الشلبية الأسئلة الآتية:
1- هل الطواف بقبور الصالحين يعتبر شركاً؟
2- هل السجود على عتبة ضريح الحسين يعد شركاً؟
3- هل التقرب إلى غير الله بالنذور والذبائح يعتبر شركاً؟
4- هل الاستغاثة بغير الله والتضرع إلى غيره فيما لا يقدر عليه إلا الله يعتبر شركاً؟
5- هل إقامة حفلات مولد النبي أو الحسين أو البدوي أو زينب يعتبر بدعة في الدين؟
6- هل اختلاط الجنسين في تلك الحفلات وفي مناسبات أخرى جاهلية يعتبر منكراً؟
لو وجهت هذه الأسئلة وأمثالها للمجموعة المذكورة لكان الجواب هكذا بكل بساطة:(16/416)
"إن بعض الجماعة المتشددة تعتبر ما جاء في رقم (1) إلى (4) شركاً، وما جاء في رقم (5) يعدونه بدعة، كما يعتبرون ما بعده منكرا، إلا أننا لا نوافقهم على ذلك، وليس هناك شرك ولا بدعة ولا منكر، والناس إنما يفعلون ما يفعلون محبة للصالحين، وهم يفعلون لله، أما مولد الني فلا ينكره إلا أولئك الذين لا يحبون الرسول ولا الصالحين، ثم إن البدعة قد تكون حسنة كما تكون خبيثة؛ فلا ينبغي التشديد في هذه الأمور، والمسلمون بخير والحمد لله، وقلوبهم طيبة (موش عاوزه كلام) ، ومسألة الاختلاط لا تؤدي إلى شيء كما هو الواقع؛ لأن الناس قد ألفوا ذلك، ثم إن الدين يسر ولم يجعل الله علينا في الدين من حرج".
هكذا يخطبون، وهكذا يضللون، وهكذا يزخرفون القول، سبحانك ما أحلمك يا رب العالمين!
والادهى والأمر أن هذه الحذلقة وهذا الكلام وهذه الخطبة الرنانة تقاطع بالتصفيق أو التكبير أحياناً! علام هذا التصفيق؟ وعلام التكبير؟ على الجهل؟ على المداهنة؟ بل على تكذيب الرسول والخروج على سنته؟ أعلى هذه المخالفة السافرة لأحكام الشريعة الإسلامية؟ علام؟
والعجيب من أمرنا نحن المسلمين أن هؤلاء هم العلماء المشار إليهم بالبنان، ما أعظم مصيبة المساكين في علمائهم فلم تنتشر هذه الجهالات التي تحدثنا عنها ومثلنا لها بعدة أمثلة، ولم يرج سوق البدع والمخالفات ولم تتمكن جاهلية الاختلاط والكفر بالحجاب والدعوة إلى السفور، ولم تحل القوانين الوضعية محل الشريعة الإسلامية في التحليل والتحريم وغير ذلك؛ فلم يقع شيء مما ذكر إلا تحت توجيهات وتأويلات المجموعة الشلبية، ولو سلمت الأمة الإسلامية من شر علماء السوء - بعبارة أخرى: لو صلح علمائها - لصلحت حياتها ولاستقام أمرها.
أكذوبة سادن البدوي(16/417)
تحكى قصة مضحكة - ومن المصائب ما يضحك - عن سادن عند قبر أحمد البدوي، ملخصها: أن رجلا سرق سمكة مملحة وأكلها فاستحلفه المسروق منه بالله فأقسم بالله ثلاث مرات أنه لم يأخذها ولم يرها، فلم يحصل له شيء، فاستحلفه بأحمد البدوي فما كاد يتلفظ اسم البدوي حتى سبقت السمكة فلفظها.
هذا ما وصل إليه وضع عوام المسلمين بسبب تساهل جمهور علماء المسلمين المعاصرين الذين منهم المفتي (الشلبي) ، ولا يخالطني شك أن الدكتور الشلبي ومجموعته يعلمون دون شك أن الحلف بغير الله شرك أو كفر، لكن السياسة الاقتصادية بالنسبة لهم ى تسمح أن يصرحوا خلاف ما عليه جمهور العوام.
هذا هو عذرهم غالباً؛ فما رأي القراء الكرام في مثل هذا العذر؟.
وقصارى القول أننا ندعو الدكتور أحمد شلبي إلى إعادة النظر في إجابة ليلة الجمعة 8/1/1399 في حكم القسم بغير الله؛ ليرجع إلى الحق، والرجوع إلى الحق فضيلة دائماً، وهو خير من التمادي في الباطل، وما قاله الدكتور في إجابته تلك باطل ولا شك.
فنسأل الله لنا له العفو والعافية والتجاوز عن أخطائنا وسيئاتنا؛ "كل بني آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون"، رواه الترمذي وابن ماجه، وقال صاحب كشف الخفاء: سنده قوي والله ولي التوفيق.
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت". متفق عليه.
2- وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله! أي المسلمين أفضل؟ قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده".. متفق عليه.
3- وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام:"من ضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة"..(16/418)
صحيح المقال في مسألة شد الرحال
لفضيلة الشيخ عبد العزيز الربيعان
مدير المعهد المتوسط بالجامعة الإسلامية
الحمد لله وصلاته وسلامه على رسوله ومصطفاه، وعلى آله وصحابته والمهتدين بهداه..
أما بعد.. فهذا هو الموضع الثاني الذي وعدت ببحثه ومناقشة فضيلة الأخ الكريم الشيخ عطية محمد سالم فيه، والذي قلت في مقدمة الموضوع السابق المنشور في مجلة الجامعة العدد السابق لهذا العدد تحت عنوان (البحث الأمين في حديث الأربعين) .. قلت هناك: إن فضيلة الشيخ عطيته وقع في أخطاء تقليدية يجب التنبيه عليها وبيان الحق فيها، ومعنى قولي تقليدية أعنى أنها أخطاء قديمة في مسائل قد بحثت وظهر وجه الحق فيها؛ فلا داعي لإعادة بحثها وبلبلة الأفكار حولها؛ كيف وعلماء بلادنا لا اختلاف بينهم في حكمها، وأنه المنع والتحريم؛ فكيف ساغ لفضيلته أن يضرب بمذهبهم عرض الحائط ويعلن من بينهم مذهبا يعتبرونه بدعة، بل معصية الله ورسوله؛ لمصادمتة الحديث الصحيح ومحالفته مذهب السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان.
وهذا الوصف الأخير أعني به موضوعنا هذا، وموضوعا آخر تذبذب فيه فضيلة الشيخ؛ فلا تكاد تجزم برأيه الثابت فيه، وأعنى بذلك موضوع الاحتفال بالمولد النبوي، إحدى البدع التي جارى فيها المسمون النصارى؛ مصداق قوله عليه السلام: "لتتبعن سنن من كان قبلكم.." الحديث.
وقد تعرض الشيخ لهذا الموضوع أثناء كلامه على سورة الإنسان.. ومن هنا ندخل في الموضوع متوكلين على الله ومستعينين بحوله وقوته.(16/419)
بدأ الشيخ في بحثه في مسألة حكم شدّ الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم بترجمة هذا نصها: "شد الرحال إلى المسجد النبوي للسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ثم أتبع ذلك بقوله: "ومما اختص به المسجد النبوي - بل من أهم خصائصه بعد الصلاة فيه - السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم من داخل هذا المسجد قديما وحديثا"..
مناقشة:
ونريد أن نناقش فضيلته فيما تقدم فنقول:
هذه الخاصية التي أثبتها فضيلته للمسجد النبوي، وجعلها من أهم خصائصه ما الدليل عليها؟.. ومن الذي قررها أصلا وجعلها كما ذكر فضيلته؟.. هل قررها القرآن؟.. فليتكرم على المسلمين بذكر الآية التي بينت ذلك أو أشارت إليه، هل قرر ذلك الرسول؟.. فليتكرم بذكر الحديث الذي أفاد هذا الحكم؛ فإننا بأمس الحاجة إلى معرفته لأسباب لا تخفى على من يهمه أمر الإسلام والمسلمين.
هل أجمع على ذلك أصحاب رسول الله وعملوا به؟ أم ذهب إليه جمهورهم أو كثرة منهم أو حتى ولو بضعة من كبارهم وفقهائهم؟.. إن كان كذلك فعلى الرأس والعين، ولكن نريد من فضيلته أن يرشدنا إلى المصدر الذي ذكر ذلك من المصادر المعتبرة عند علماء الإسلام، ونعنى بعلماء الإسلام أئمة السلف خاصة، ونعى بالسلف القرون الثلاثة الأولى من هذه الأمة؛ لشهادة المصطفى عليه السلام بفضلهم، ولما عرف لهم من أحوال في العلم والدين تختلف عنها أحوال من جاءوا بعدهم، ولأن فبما بعدهم كثرت الأهواء والابتداع في الدين ولم يسلم من ذلك إلا القليل، ومن ثم فإننا لا نطمئن إلى نقل كثير من المتأخرين ولا بآرائهم ما لم يكن المصدر الذي نقلوا عنه موجودا بين أيدينا، خاصة في الأمور التي فيها خلاف جوهري يمس العقيدة، أو يخشى أن يمسها، أو له صلة ببدعة فتن بها كثير من المسلمين كمسألتنا هذه.(16/420)
كما نذكِّر مسبقا بأننا لا نعتبر عمل الصحابي الواحد حجة في الدين إذا انفرد به دون غيره من الصحابة، ولم يرد أنهم وافقوه قولا ولا عملا وما لم نعلم له مستندا من الكتاب أو السنة؛ ذلك لأن التشريع من حق الله ورسوله فقط ولا نصيب لأحد بعد الله ورسوله فيه، أما المجتهدون من العلماء فهم معرّضون لأن يصيبوا ولأن يخطئوا، وصوابهم أن يوافقوا حكم الله ورسوله بفهم مقتضى نص شرعي، وخطؤهم أن لا يوافقوا حكم الله ورسوله بأن لا يوفّقوا لفهم النص الشرعي الذي يريدون فهمه.
أما التخرص والاعتماد على واقع الناس، والاستدلال بما تفعله الجماهير فليس حجة في الدين عند أحد يعرف أن الإسلام هو دين الله الذي أنزله على رسوله ورضيه لهم منهجا في العبادات والمعاملات والأخلاق والآداب والسلوك؛ فأكمله وأتم به النعمة على المسلمين وبيّنه رسوله صلى الله عله وسلم لأمته أتم بيان، كان ذلك قبل أن يقبض الله رسوله صلى الله عليه وسلم إليه، فما من خير إلا دل عليه أمته وما من شر إلا نهانا عنه وحذرها من الوقوع فيه، خاصة ما يتعلق بتوحيد الله وحمايته من شوائب الشرك وسد الذرائع التي يخشى أن تتدرج بأمته إلى الوقوع فيما وقعت فيه الأمم السابقة، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته.
أما زعم الشيخ أن السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان إلا من داخل المسجد قديما وحديثا؛ فتعبيره بقديم وحديث يدل على أنه يستدل بالواقع، ويؤكد ذلك كون فضيلته لم يورد أي دليل شرعي على صحة ما ذهب إليه، وإنما استدل عليه بما ظن أنه عمل الناس، ثم إن زعمه ذلك قول بلا علم، ودعوى بلا بينة؛ إذ إن فضيلته لم يوجد إلا منذ خمسين سنة تقريبا، فكيف علم ما عليه الناس في هذا الأمر منذ ألف سنة؟.. لا يعلم ذلك، من عاش هذه القرون كلها.
إذاً كيف علم فضيلته أن السلام على رسول الله ما كان يوما من الأيام إلا من داخل المسجد؟(16/421)
أظن كل هذا من أجل محاولة الربط الوثيق بين القبر والمسجد، كما سيأتي تصريحه بذلك والاستدلال العجيب عليه بحديث: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة".. ونسي - سامحه الله - أن المساجد تختلف عن الأضرحة، وليس بينهما وجه شبه ولا جامع مشترك.
وقال الشيخ: كما جاء في الصحيح: "ما من أحد يسلّم علي إلا رد الله علي روحي فأرد عليه السلام"، ثم قال: ومجمعون على أن ذلك يحصل لمن سلم عليه من قريب، ثم أكد ما ادّعاه أولا بقوله: وما كان هذا السلام يوما من الأيام إلا من المسجد النبوي، سواء قبل وبعد إدخال الحجرة بالمسجد.
مناقشة:
وهنا نناقش الشيخ من نواح حول ما نقلنا من كلامه:
1- ما مراده بالصحيح؟.. أيعني البخاري ومسلم أو أحدهما كما هو اصطلاح العلماء غالبا، وكما يشير إليه اكتفاءه هو بكلمة الصحيح دون كلمة الحديث؛ إذ حسب فهمي أنه لو كان مراده غير الصحيحين لقال: كما في الحديث الصحيح، ولكن - كما يقولون - (لا مشاحة في الاصطلاح) لو كان الحديث المشار إليه صحيحا، ولكن هذا الحديث ليس في الصحيحين وليس واردا بسند صحيح؛ فأيا ما كان قصد الشيخ بهذا الوصف فهو خطأ؛ لأن الحديث في أبي داود وبعض الكتب الأخرى غير البخاري ومسلم بسند حسن فقط؛ إذ إن في سنده أبا صخر حميد بن يزيد قال فيه ابن حجر في التقريب: (صدوق يهم) .
2- في الحديث الذي نحن بصدده قوله عليه السلام: "ما من أحد يسلم علي"، وكلمة (أحد) نكرة مسبوقة بنفي ولم توصف بما يميزها ولم تقيد بما يخصصها؛ فمن ثم تكون عامة تشمل جميع من يصدقها عليه بأنه أحد، فإذ كان الأمر كذلك من أين تكون الفضيلة الخاصة التي يدندنون حولها محاولين تأويل النصوص من أجلها؟ ... وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنه لا فضيلة هنا للمردود عليه، وإنما الفضيلة للراد صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك من باب المكافأة على الإحسان ورد الجميل بمثله.(16/422)
ثم إن الشيخ وفقنا الله وإياه! يميل بقوة - حسب فهمي من كلامه - إلى أن رد السلام منه عليه السلام المشار إليه في الحديث إنما يصل لمن سلم من قريب دون من سلم من بعيد، ودليل ذلك كونه حكى الإجماع على أن ردّ السلام يحصل لمن سلم من قريب وسكت عن رأي من يرى أنه لا فرق بين البعيد والقريب، مما يشير إلى أنه غير معتد بذلك المذهب ولا ملتفت إليه.
مع أن ما أعرض عنه فضيلته هو الصحيح للأدلة الآتية:
أ- دعوى الاختصاص لا دليل عليها، لا من النقل ولا من العقل، وكل دعوى لا تؤيدها الأدلة مآلها للرد والبطلان.
ب- الحديث مطلق من القيود، وما أطلقه المشرع لا يجوز تقييده بدليل سوى الظن؛ فقد وصف الله الظن بأنه لا يغنى من الحق شيئا.
ج- في هذا التخصيص قياس لحال ما بعد الموت على حال الحياة، وهو قياس فاسد؛ لبعد الفارق بين الحالين؛ إذ حال الحياة محسوس مشهود، وحال ما بعد الوفاة غيب لا يعلم حقيقته إلا الله، والذي يظهر أنه لا فرق هنا بين البعيد والقريب.
ثم إن الله تعالى مكّن رسوله عليه الصلاة والسلام من رد السلام على من سلم عليه من قريب وهو في حال وفاة ومفارقة للحياة الدنيا، لا يعجز أن يمكنه من ذلك بالنسبة للبعيد أيضا؛ إذ إن القضية غيب وقدرة إلهية خارقة - والله أعلم -.(16/423)
ثم لو كان الأمر كما ظن البعض وهو أن الردّ لا يحصل إلا من قريب لكان المسلّم يحتاج من أجل الحصول على ذلك إلى أن يدخل الحجرة ويقف على شفير القبر، أما وهو داخل المسجد فقط فذلك بعيد وليس بقريب، والشيخ جعل الفارق بين البعيد والقريب هو المسجد؛ فمن سلم من داخل المسجد فهو في نظره قريب، ومن سلم من خارجه فهو بعيد، ولم يخصص مكانا من المسجد دون مكان، ونحن نتساءل: كيف يكون من سلم وهو في غربي المسجد - خاصة بعد الزيادات الأخيرة، وبينه وبين القبر مئات الأمتار - يكون قريبا، ومن سلم من خارج المسجد من الناحية الشرقية أو القبلية - وبينه وبين القبر أمتار محدودة قد لا تبلغ الخمسة عشر أو العشرين مترا - يكون بعيدا، مع أن المعتمد في ذلك والأساس الذي بنى عليه فضيلته هذا الحكم هو الاجتهاد المجرد من الدليل؟.. أما أنا فلا أجد جوابا لهذا التساؤل سوى ما ذكرت قبل، وهو حرصه على أن يربط بين المسجد والقبر.
4- قد ورد حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بطرق متعددة وشواهد كثيرة يرويها أئمة أهل البيت النبوي الطاهر وغيرهم؛ يفيد هذا الحديث بطرقه وشواهده أن لا فرق بين القريب والبعيد بالنسبة للسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يفيد أيضا أن النبي عليه السلام نهى عن اتخاذ قبره عيدا، وقد فهم رواة هذا الحديث من آل البيت النبوي أن من اتخاذ قبره عليه السلام عيدا التردد على القبر؛ فقد أنكر كل من علي بن الحسين زين العابدين وابن عمه الحسن بن الحسن على من يتردد على القبر مستدلين عليه بالحديث المشار إليه، والذي يرويانه بإسناديهما إلى جدهما سيد الخلق - صلى الله عليه وسلم - كما أخبرا أنه لا فرق في السلام عليه صلى الله عليه وسلم بين أن يكون من قريب أو من بعيد.(16/424)
وهذا نص الحديث: قال أبو يعلى في سنده: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة.. ثم ساق السند إلى علي بن الحسين زين العابدين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيدخل فيها، فنهاه ثم قال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسم.. قال: "لا تتخذوا قبرى عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم قبورا؛ فإن تسليمكم يصلني أينما كنتم". وفي بعض الروايات: "وصلوا علي؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم! ".. وفي رواية: "فإن صلاتكم وتسليمكم".
وفي مسند سعيد بن منصور: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أني سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أنا طالب رضى الله عنهم عند القبر؛ فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال: هلمّ إلى العشاء! قلت: لا أريده، فقال: رأيتك عند القبر؟.. قلت: سلمت علي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبرى.. وفي رواية: بيتي عيدا، ولا بيوتكم قبورا؛ لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم"، ثم قال الحسن بعد روايته لهذا الحديث: "ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ورواه القاضي إسماعيل بن إسحاق في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم".
وفي سنن أبي داود نص الحديث المتقدم - لفظا بلفظ - عن أبي هريرة.
وقال شيخ الإسلام في كتاب الرد على الاخنائي: "هذا حديث حسن رواته ثقات مثساهير، لكن عبد الله بن نافع الصائغ فيه لين لا يمنع الاحتجاج به، خاصة وأن لهذا الحديث شواهد متعددة"، ثم ذكر واحدا من شواهده في سنن سعيد بن منصور.
قلت: وسيأتي إن يشاء الله نقل احتجاج العلامة محمد بشير السهسواني بهذا الحديث برواياته في رده على زيني دحلان.
ماذا نستفيد من هذا الحديث؟(16/425)
ونستفيد من هذا الحديث ما يلي:
1- الرد على من زعم أن السلام على رسول الله بعد وفاته عليه السلام ما كان يوما من الأيام إلا من داخل المسجد النبوي، وأن السلام من قريب أفضل وأنفع مما إذا كان من بعيد.
2- أن علي بن الحسين والحسن بن الحسن اعتبرا التردد على القبر داخلا في اتخاذه عيدا نُهِىَ عنه في الحديث، وأن ذلك التردد يتعارض مع مقتضى ذلك النهي الصادر عن المصطفى صلى الله عليه وسلم.
3- يدل نهيهما وإنكارهما على من تردد إلى القبر أنّ عمل جمهور المسلمين في زمانهما - وخاصة العلماء - عدم التردد إلى القبر؛ إذ لو كان الأمر بالعكس لما استنكر كل واحد منهما تردد من أتى إلى القبر، ولما نهاه عن أمر يفعله سائر المسلمين ولا ينكر بعضهم على بعض، ولاحتج المنهي بأن ما فعله يفعله سائر الناس ولا ينكر عليهم من قبل العلماء، علما بأن ما أنكره هذان الإمامان لم ينفردا بإنكاره بل نقل عن جمهور علماء السلف وأئمتهم، كالإمام مالك؛ إذ ثبت عنه أنه يكره قول الرجل: زرت قبر النبي أو سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم.. يعنى عند قبره.(16/426)
ولم يكن معروفا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يترددون على القبر، إلا ما عرف عن عبد الله بن عمر من أنه إذا أراد سفرا أو قدم من سفر جاء إلى القبور الثلاثة بعد ما يصلي في المسجد ركعتين؛ فيقول: "السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا خليفة رسول الله، السلام عليك يا أبتاه"، ولا يزيد على هذا؛ فماذا يقول من يزعم أن السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخص خصائص المسجد النبوي؟.. وأن السلام على رسول الله ما كان يوما من الأيام إلا من داخل المسجد.. وماذا يقول من يرى وجوب أو استحباب أو إباحة شد الرحال لزيارة القبر الشريف، معارضا بذلك نهيه عليه السلام، ومحاولا تأويل ذلك النهى، غير ملتفت لعمل السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم في هذه المسألة ... بل حاول أن ينسب إليهم ما لم يقولوا أو يفعلوا.
لا أعلم لهم جوابا إلا أن يدعوا إحدى ثلاث دعاوى:
الأولى: أن يدعوا ضعف الحديث الذي أفاد النهي عن اتخاذ قبره عليه السلام عيدا، وأفاد أن لا فرق في السلام عليه - عليه السلام- بين أن يكون من قريب بعيد، وهذه الدعوى لو لجأوا إليها لقلنا لهم: إن طريقا واحدة من طرق هذا الحديث تساوى طرق حديث "ما من أحد يسلم علي.." الخ. وتبقى بقية الطرق لا مقابل لها بالنسبة لذلك الحديث.. علما بأن حديث "لا تتخذوا.."قد استدل به في الموضوع أئمة الإسلام قديما وحديثا كما تقدم، وكما تجده في أي كتاب تعرض لهذه المسألة، والحديث إذا ارتفع عن درجة الضعف فهو أولى بالقبول من آراء الرجال.
الثانية: أن يتهموا إمامي أهل البيت -وغيرهم ممن استدل بهذا الحديث على عدم جواز التردد على القبر - بسوء الفهم، وأنهم نزلوا الحديث في غير منزله، ووضعوه في غير موضعه.(16/427)
والجواب على هذه الدعوى أن نقول: لا يشك من له أدنى إلمام بعلوم الشريعة وتاريخ الإسلام أن السلف أعلم بنصوص الشريعة ومقاصدها وأهدافها من الخلف مرات متكررة، وخاصة راوي الحديث، ومن شاهد التطبيق العملي لمقتضاه من جهة سلف الأمة والقرون المفضلة أحرى وأجدر بمعرفة مراد الله ورسوله ممن جاء بعدهم، كيف وفيما بعدهم تدخلت الأهواء وتأثر كثير من الناس بما حدث من بدع ونحل وأفكار دخيلة على الإسلام؟..
الثالثة: أن يقولوا: إذا كان من السلف من لا يرى مشروعية السلام عند القبر، أو يرى ذلك مكروها فقد وجد فيهم من يرى استحباب ذلك وأنه من الأعمال الصالحة، أو أنه مباح على الأقل، وليس من يرى ذلك أولى باعتبار رأيه من الفريق الثاني.(16/428)
والجواب على ذلك أن نقول: إذا كان من يرى عدم مشروعية السلام عند القبر بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم قد وجد من يعارضه من معاصريه وأقرانه؛ فإن الله قد أمرنا أن نرد ما اختلفنا فيه إليه تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فعلينا أن نطبق هذا الأصل العظيم وأن نسلك هذا السبيل القويم؛ فننظر من يكون الدليل بجانبه فنعلم أنه هو المصيب وأن مخالفه على خطأ وقد حرم الصواب، ولكن إن كانت المسألة في فروع الشريعة، وهذا المخطئ قد بذل وسعه في تحرى الصواب والتماس الحق؛ فلا لوم عليه ولا إثم بشرط أن يكون أهلا للاجتهاد ومن الحائزين على مؤهلاته، أما إن كانت القضية قضية عقيدة فالذي نعتقده والذي فهمناه عن علماء أهل السنة أن الخطأ في أمور العقيدة غير معذور فيه إذا كان المسلم يعيش في بلاد الإسلام التي يوجد فيها من يبين العقيدة الصحيحة؛ إذ إن الإنسان إما أن يكون عالما قادرا على فهم نصوص الوحي؛ فسيكون مؤاخذا على الخطأ؛ لأن أمور العقيدة واضحة جلية، ولذلك لم يختلف السلف في أمور العقيدة مع أنهم اختلفوا في بعض مسائل الفروع، وإما أن يكون جاهلا؛ فعليه أن يسأل أهل الذكر من علماء السنة الذين إذا ذكروا حكما ذكروا دليله من الكتاب أو السنة.
وربما قالوا: صحيح أن هذا الحديث يفيد أن السلام يبلغه - عليه السلام - من البعيد كالصلاة، ولكن لا يرد إلا على من سلم من قريب!
فنقول لهم حينئذ: ما الدليل على ما زعمتم؟.. هذا مجرد ظن وتدخل في أمور الغيب التي هي من اختصاص الله وحده، ولا سبيل إلى علمها من غير طريق الوحي.(16/429)
الناحية الثانية: ماذا يعني فضيلة الشيخ حين يقول: وما كان هذا السلام يوما من الأيام إلا من داخل المسجد سواء قبل أو بعد إدخال الحجرة؟.. إن كان يعني هذا النوع المبتدع الذي تمارسه العامة والدهماء، وهذا الضجيج والأصوات العالية بين مناد وداع ومتوسل ومستجير وطالب للشفاعة من غير مالكها.. إن كان هذا هو الذي يقصد الشيخ فليقل فيه فضيلته ما شاء، وليس لدينا أي اعتراض أو مناقشة؛ لأننا لا نعترف بهذا النوع من السلام أصلا ولا نعتبره من الدين الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنه من مخلفات عصور الانحطاط الذي نتج عنه قيام الوثنية في أغلب بلدان المسلمين إلا ما طهره الله - كأرض المملكة العربية السعودية - من هذه الوثنية، بفضله تعالى ثم ببركة الدعوة الصالحة والحركة الناجحة التي قام بها شيخ الإسلام ومجدده محمد بن عبد الوهاب، وقام بنصره وحمايته أمراء آل سعود رحم الله أسلافهم وبارك في أخلافهم ووفقهم لحماية دين الإسلام من عبث العابثين وكيد الكائدين.(16/430)
أما إن كان مراد الشيخ السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أمر الله به المسلمين بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ، والذي يعنيه المصطفى صلى الله عليه وسلم حين يقول: "من صلى عليَّ مرة واحدة صلى الله عليه بها عشرا"، والذي يردده المسلم في كل صلاة مفروضة أو راتبة أو نافلة ضمن التشهد المفروض؛ فيقول: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، والذي يأتي به المسلم كلما دخل مسجدا من المساجد أو خرج منه؛ فيقول: "بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله"، وكذلك كلما ذكر المسلم نبيه أو سمع ذكره قال: "صلى الله عليه وسلم" ... إن هذا النوع من السلام هو الذي يعنيه فضيلة الشيخ فليس صحيحا أن هذا السلام ما كان يوما من الأيام إلا من داخل المسجد النبوي، بل إن هذا السلام يمارسه المسلم في كل مكان وفي كل مناسبة، ولم يكن يوما من الأيام مقصورا على مكان من الأمكنة.(16/431)
وإن كان فضيلته يرى أن هناك نوعين من السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحدهما عام في كل مكان؛ في الصلاة، وعند دخول المساجد، وعند ذكره عليه السلام، والآخر خاص بالمسجد النبوي، وأنه هو الذي يعنيه صلى الله عليه وسلم بقوله: "ما من أحد يسلم علي ... "الحديث؛ فليقدم لنا دليله على ذلك، وله منا الشكر، وليعلم فضيلته من جديد أننا لا نقبل من أحد أن يقول على الله ورسوله ودينه بلا علم ولا برهان؛ إذ يقول تعالى: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} ، {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} ، {إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} ، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، ويقول: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"، ويقول عليه السلام: "عليكم بسنتي.." إلى قوله: "وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار".
الناحية الثالثة: وكيف علم الشيخ أن السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم - الذي يشير إليه قوله عليه السلام: "ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي فأرد عليه السلام" - كيف علم الشيخ - وفقه الله - أن هذا السلام ما كان يوما من الأيام إلا من داخل المسجد قبل وبعد إدخال الحجرة فيه؟.. ومن أين علم فضيلته أن المسلمين منذ ألف وأربعمائة سنة إلى يومنا هذا نزَّلوا هذا الحديث على السلام عند القبر في دون غيره؟.. وأنهم مجمعون على ذلك ولم يخالف منهم أحد؟.. وماذا يقول عن الصحابة الذين لم يرد أن أحدا منهم يسلم على النبي عند القبر ما عدا عبد الله بن عمر؟.(16/432)
ثم هل عاش فضيلته ألف وأربعمائة سنة حتى يرى ماذا فعل كل مسلم عاش على وجه الأرض منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا؛ حتى يتسنى له أن يجزم بما جزم به ويدعي ما ادعاه من أمر لا يدرك إلا بالحس والمشاهدة؟..
إذا كان هذا مستحيلا فتحقيق ما ادعاه الشيخ مستحيل أيضا، فلو أن فضيلته قرر ذلك حكما شرعيا لكانت المشكلة أخفّ، سواء أصاب أو أخطأ؛ لأن الحكم الشرعي يدرك بالاجتهاد في نصوص الشرع، والمجتهد يصيب أحيانا ويخطئ أحيانا أخرى، ولكن ما قرره فضيلته دعوى علم بما جرى عليه المسلمون منذ أربعة عشر قرنا من الزمان؛ فيا عجب العجاب! وإن كان الشيخ - وفقه الله - بنى حكمه هذا على أساس اعتقادي بأنّ هذا هو الحق في هذه المسألة شرعا؛ لأننا نقول له: حتى وإن استطعت أن تثبت أن هذا هو الحق شرعا فإنك لا تستطيع أن تثبت أن الناس جميعا التزموا به وحافظوا عليه، فهناك فرائض الإسلام وأركانه ولوازم التوحيد ومقتضياته قد أخلّ الناس بها ولم يحافظ عليها ويؤديها - وفق ما جاء به الرسول عليه السلام - إلا بعض المسلمين، وهى أمور ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع إجمالا وتفصيلا؛ فما بالك بهذه المسألة التي وقع الخلاف في أصلها وفروعها، ووقع قوم منها في مهالك منذ اختلط على الكثير من المسلمين الصواب بالخطأ والحق بالباطل والهدى بالضلال، علما بأن التخرص والتخمين وقياس الماضي بالحاضر والاعتبار بواقع الناس في عصر من العصور ما كانت هذه الأمور يوما من الأيام مصادر علم تقام على أساسها الأحكام، خاصة أمور الدين التي لا مصدر لها سوى الوحي السماوي والتنزيل الرباني والتشريع الرباني، ولو كان الظن والتخرص مصدر علم يوصل إلى حقائق الأمور لصار العلم من أسهل الأشياء تحصلا، ولاستطاع أجهل الناس أن يتحمل أية متاعب.
المسألة الثانية:(16/433)
قال الشيخ عطية ص 577: "ولنتصور حقيقة هذه المسألة ينبغي أن نعلم أولا أن البحث فيها له ثلاث حالات:
الأولى: شد الرحال إلى السجد النبوي للزيارة وهذا مجمع عليه.
الثانية: زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم من قريب والسلام عليه بدون شد الرحال، وهذه أيضا مجمع عليها.
الثالثة: شد الرحال للزيارة فقط، وهذه الحال هي محل البحث ومثار النقاش السابق.
مناقشة:
ونحن نناقش ففضيلة الشيخ هنا في فقرة واحدة من هذا الكلام الذي نقلناه هنا من كتابه، وهى دعواه بأن ما عبر عنه هو (بالحالة الثانية) مجمع عليه، فنسأل فضيلته متى انعقد هذا الإجماع؟.. ومن هم الذين أجمعوا على ذلك؟.. وما دليلك على حصول هذا الإجماع؟..
وهل انعقد هذا الإجماع زمن الصحابة؟.. أم زمن التابعين؟.. أم متى كان ذلك؟..ومن الذين أجمعوا على هذا الأمر؟.. هل هم أهل الاجتهاد من أمة محمد عليه السلام أم غيرهم؟.. ومن نقل إجماعهم؟.. هل علم بهذا الإجماع الإمام مالك- رحمه الله- ومع ذلك يكره أن يقول الإنسان: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟.. وهل علم به علي بن الحسين والحسن بن الحسن إماما أهل البيت النبوي في زمانهما؟ ... ومع ذلك ينهيان عن التردد على القبر الشريف.. وهل علم بهذا الإجماع قاضى المدينة سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وهو أحد أئمة التابعين وأحد قضاة المدينة وأحد فقهائها وسكانها، وكذلك من ذكروا قبله نشأوا في بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعايشوا وتلقوا العلم فيها بجوار قبره الشريف وشاهدوا بأعينهم عمل الأئمة من التابعين وتابعيهم ممن يقيمون بالمدينة، ومن الوافدين إليها من أقطار الأرض، وماذا كانوا يعملون.
فعلى كل حال هم أعلم ممن يدعى الإجماع في هذه المسألة من غير أن يقدم دليلا يثبت صحة دعواه.(16/434)
فإما أن يقول الشيخ: إن الإجماع انعقد قبل هؤلاء وهم خالفوه، وإما أن يقول: انعقد الإجماع في زمنهم ولا عبرة بخلافهم، وإما أن يقول: إن الإجماع انعقد بعدهم.
فالأول في غاية البشاعة، والثانية مثلها، والثالثة يحتاج لإثباتها إلى دليل مقبول عند من يخالفه في هذه الدعوى، ولا أظنه يثبت وجود إجماع بعد خلاف؛ إذ إن الناس كلما كثروا وكلما طال الأمد بينهم وبين عصر النبوة كثر خلافهم وتشعبت آراؤهم وكثرت أهواؤهم؛ فكيف يتصور أن يتفقوا بعدما اختلف من في قبلهم في حكم من الأحكام أو مسألة من المسائل؟..
من أجل ذلك نكرر الرجاء إلى فضيلته ليدلنا على المصدر الذي استفاد منه فضيلته خبر هذا الإجماع الذي خفي على جهابذة العلماء قديما وحديثا، ولكننا نشرط مسبقا بأننا سوف لا نكتفي بأن يقول لنا فضيلته ذكر هذا الإجماع فلان أو علان في كتاب كذا، حتى نعلم المصدر الأساسي الذي اعتمد عليه فلان أو علان فيما نقل من هذا الإجماع؛ لأن مجرد كلام مدون في كتاب لأحد العلماء يدعى مؤلفه أن الإجماع قد انعقد على كذا وكذا - دون أن يبين مستند - لا يكفى لإثبات وقبول ما ادعاه، وما الفرق بين نسبة الإجماع إلى الأمة وبين نسبة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ألم تر أن الحديث المنسوب إليه صلى الله عليه وسلم لا يقبل ولا يعتبر حديثا لمجرد وجوده في كتاب من الكتب مهما علت منزلة صاحب ذلك الكتاب رتبة في العلم والتقوى؛ حتى يقدم السند الذي عنه تلقى ذلك الحديث؛ فينظر أهل العلم وطلاب الحق في هذا السند، هل هو ممن يقبل خبره أم ليس كذلك؟.. أليس مما يؤخذ على طالب العلم أن يتكلم في موعظة أو خطبة أو كتاب؛ فينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حديثا أو أكثر وهو غير متأكد من صحته سندا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟..(16/435)
إذا ما بال الإجماع أمره خفيف عند بعض المشايخ فيسهل عليه أن يقول: هذا مجمع عليه، أو ثبت ذلك بالإجماع دون أن يكون هناك مستند مقبول عند التحقيق لهذا الإجماع المزعوم؟.. ولو أن فضيلة الشيخ - وفقنا الله وإياه - سلك الطريق الذي سلكه بعض العلماء، وهو قول أحدهم عندما يتعرض للكلام على مسألة لا يعلم فيها خلافا لأحد فيقول: "حكم هذه المسألة كذا من غير خلاف نعلمه"؛ - فيقيد ذلك بعدم علمه - لكان خيرا له، وصدق الإمام أحمد رحمه الله إذ يقول: "من ادعى الإجماع فقد كذب، وما يدريه لعل الناس اختلفوا".
ثم إن فضيلة الشيخ - هداه الله - لم يوضح لنا على أي شيء انعقد هذا الإجماع من الأحكام الثلاثة؛ إذ إنه اكتفى بقوله: "وهذا أيضا مجمع عليه"، والإشارة هنا تعود إلى الحالة الثانية - حسب تعبيره - التي شرحها فضيلته بأنها (زيارة الرسول والسلام عليه بدون شد رحال) ؛ فقرر أن هذه الزيارة مجمع عليها، ولكن أعلى أنها واجبة أو مستحبة أو مباحة؟..
لا ندرى؛ فأي فائدة من ذكر هذا الإجماع الذي لم يبين على أي شئ انعقد؟..
ثم نسأل الشيخ هل ورد على لسان المشرع صلى الله عليه وسلم كلمة (زيارة فلان من الموتى) ؟.. الذي أعتقد أن الجواب بالنفي؛ إذ إن الذي ورد على لسانه عليه السلام.. زيارة القبور أو المقابر أو القبر فقط، كقوله - صلى الله عليه وسلم-: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة"، وقوله: "لعن الله زوارات القبور"، وقوله: "استأذنت ربي في زيارة قبر أمي"، وهكذا ... فالتعبير بزيارة فلان الميت تعبير عامي غوغائي بدعي لا يليق بطلبة العلم؛ فليتنبه لذلك من يحب الاتباع ويكره ما سواه".
المسألة الثالثة:(16/436)
وقال فضيلة الشيخ حفظه الله ص 577: "الثالثة: شد الرحال للزيارة فقط، وهذه الحالة الثالثة هي محل البحث عندهم ومثار النقاش السابق، قال ابن حجر في فتح الباري على حديث شد الرحال: قال الكرماني: "وقد وقع في هذه المسألة في عصرنا في البلاد الشامية مناظرات كثيرة وصنفت فيها المسائل من الطرفين".
قلت: إن ابن حجر يشير بذلك إلى ما رد به الشيخ تقي الدين السبكي وغيره على الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وما انتصر به الحافظ شمس الدين بن عبد الهادي وغبره لابن تيمية، وهي في مشهورة في بلادنا، وهذا يعطينا مدى الخلاف فيها وتاريخه.
وقد أشار ابن حجر إلى مجمل القول فيها بقوله: "إن الجمهور أجازوا بالإجماع شد الرحال لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن حديث "لا تشد الرحال.." إنما يقصد به خصوص الصلاة.. الخ".
مناقشة:
ومناقشتنا للشيخ هنا حول قول فضيلته: "وهذا يعطينا مدى الخلاف فيها وتاريخه"؛ إذ إن عبارته تلك تفيد أنه يرى أن مبدأ الخلاف في هذه المسألة كان على يد ابن تيمية، وكذلك ما نقله عن ابن حجر من قوله: إن الجمهور أجازوا بالإجماع.. الخ.
لهذا نسأل فضيلته فنقول: إذا كان مبدأ الخلاف في مسألة شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم على يد ابن تيمية ومن في زمنه، ومعلوم أن ابن تيمية عاش- رحمه الله- بين القرن السابع والثامن، فماذا كان عليه علماء الأمة الإسلامية قبل وجود ابن تيمية بخصوص هذه المسألة؟.. هل كانوا مجمعين على مشروعية شدّ الرحال لزيارة القبر الشريف، أو لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم، كما هو تعبير فضيلته؟.. وهل إجماعهم على أن هذا العمل واجب أو على أنه مستحب أو على أنه مباح؟. إن كان الأمر كذلك ألا يكون ابن تيمية خارجا على إجماع الأمة هو ومن وافقه؟.(16/437)
أم أنهم مجمعون على المنع؛ فيكون السبكى ومن وافقه خارجين على الإجماع؛ فيستحقون ما يستحقه من خرق الإجماع وخرج عليه؟.. لا ندرى أي ذلك يكون الجواب عليه بنعم، فأي من هذه الأسئلة أجاب عليه فضيلته بنعم؛ فهي ورطة لا يستطيع التخلص منها.
إن الخلاف قائم في هذه المسألة منذ تكلم فيها، وإن الكلام فيها والخلاف حولها حادث بعد القرون الثلاثة من هذه الأمة، أما زمن القرون الثلاثة فلم يوجد أحد يقول بجواز شد الرحال لزيارة قبر من القبور؛ فضلا عن الوجوب أو الاستحباب.
والذي أعتقده أن فضيلة الشيخ لا ينسب ولا يرضى أن ينسب إلى مثل شيخ الإسلام ابن تيمبة أنه يخرج على إجماع الأمة ويضرب به عرض الحائط، ويأتي بمذهب يخالفه.
وأنا أعجب كثيرا كيف فهم فضيلة الشيخ من عبارة ابن حجر وما نقله ابن حجر عن الكرماني؛ كيف فهم من ذلك أن مبدأ الخلاف في هذه المسألة كان على يد ابن تيميه؟.. أما أنا فأقول: هذا الفهم لا وجه له ولا مأخذ من كلام الرجلين، وإنما ذكرا أمرا وقع في ذلك الزمان دون أن يقولا فيه إنه مبدأ الخلاف في تلك القضية، وكيف يزعمان ما فهمه فضيلة الشيخ مع أن الخلاف فيها قد نشأ منذ وجد من يقول بجواز شد الرحال لزيارة قبور الأنبياء والصالحين، وممن نُقل عنه هذا القول الغزالي ومن لف لفه من المبتدعة، وممن نُقل عنهم القول بالمنع قبل ابن تيمية بمئات من السنين القاضي عياض، والقاضي حسين، وإسحاق ابن إسماعيل، وأبو محمد الجويني وغيرهم كما سيأتي إن شاء الله، فهل خفي ذلك على الكرماني وابن حجر؟.. أنا أقول: ليس في كلامهما ما يدل على أن ذلك خفي عليهما، ولكنه خفي على فضيلة الشيخ فليراجع مكتبته من الآن إن أحب أن يقف على الحقيقة، علما بأن الثلاثة المذكورين أعلاه كلهم من المالكية، وما ذهبوا إليه هو مذهب مالك نفسه في هذه المسألة.
تم قال فضيلة الشيخ - نقلا عن ابن حجر-:"إن الجمهور أجازوا بالإجماع شد الرحال.. الخ.."(16/438)
فنسأل فضيلته: هل هذا التعبير صحيح؟ ….هل هناك إجماع للجمهور وإجماع للأمة كلها؟.. وهل الجمهور عدد محدود معين حتى نعلم أنهم اتفقوا فنقول أجمع الجمهور؟.. وهل مذهب الجمهور يسمى إجماعا؟ أليس إذا قيل: (يرى الجمهور) فمعنى هذا أن هناك من يخالفهم ممن يعتد برأيه ويحسب لمذهبه؟.. وهل خطأ الأول يسوغ الخطأ للثاني؟.. أليس على كل واحد من العلماء أن يحرص على أن لا يقع فيما وقع فيه غيره من الأخطاء؟..
الصحيح في نظرنا أن هذا التعبير خطأ، وأن الإجماع ما اتفق عليه المجتهدون من علماء هذه الأمة قاطبة، في عصر من العصور دون أن يخالف واحد منهم، وبدون ذلك لا ترد كلمة إجماع، وإنما يقال: يرى الجمهور كذا، أو ذهب الجمهور إلى كذا.
ثم مَن هؤلاء المعبر عنهم بالجمهور الذين يرون جواز شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ هل هم جمهور الصحابة، أم جمهور التابعين، أو تابعيهم، أو الأئمة الأربعة ومن في عصرهم، أو جمهور علماء القرن الثالث؟
لا ندري أي جمهور هذا، غير أننا لا نستبعد أن يكون المراد هنا جمهور العامة في القرن الرابع وما بعده، بما فيهم بعض المبتدعة من العلماء أو المنسوبين للعلم.
إن كان أولئك هم الجمهور المراد في هذا الموضوع فالنقل صحيح.(16/439)
أما إن كان المراد به جمهور العلماء من أهل القرن الأول أو الثاني أو الثالث، أو الملتزمين بالسنة من العلماء إلى يومنا هذا فالنقل غلط والدعوى مردودة، بل الصحيح العكس على طول الخط؛ ففي القرون الثلاثة لم يوجد من يقول بجواز شد الرحال لزيارة القبور من العلماء المعتبرين، وبعد الثلاثة وجد من يرى ذلك، ولكن ممن شاركوا في الابتداع في الدين ومن لا يتقيدون بالنصوص الشرعية، ولا يميزون بين الحديث الصحيح من غيره، أمثال أبي حامد الغزالي، ومع الأيام استقرت هذه البدعة - بل المعصية - حتى صارت عند كثير من المنتسبين للعلم أمرا واقعا لا يجوز الجدال فيه، بل يساء الظن بمن ينكره أو يتردد في الجزم بمشروعيته؛ فأولوا الأحاديث الواردة في النهي منه وما أثر عن الأئمة من إنكاره كلما احتج عليهم المتمسكون بالسنة بحديث أو قول إمام، كقولهم: إن مالكا كره اللفظ فقط، وإلا فزيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام من أفضل الأعمال وأجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال، دون أن يقدموا أدنى دليل من السنة على صحة ما زعموا.(16/440)
ثم نوجه هذا السؤال إلى فضيلة الشيخ فنقول: حسب علمنا لا يجوز أن يعتبر الجمهور بكثرة العدد في الشؤون العلمية والمذاهب الفقهية والعقيدة الإبراهيمية المحمدية، وإنما ينبغي أن ينظر إلى الكيف أولا، وبعد أن نميز العلماء على الحقيقة لا على الإدعاء والألقاب ننظر بعد ذلك إلى مذاهبهم في مسألة ما، فإذا وجدنا كثرتهم ذهبوا مذهبا، وقليلاً منهم ذهب مذهبا آخر قلنا عن مذهب الكثرة: إنه مذهب الجمهور، أي جمهور العلماء الذين يستحقون أن يوصفوا بالعلم، أما مجرد الكثرة فتسميتهم بالجمهور فيه شئ من المغالطة والتغرير بالناس، أرأيت في زمن الإمام أحمد لما تبنى المأمون فكرة القول بخلق القرآن وسقط في تلك الفتنة آلاف العلماء بين مقتنع ومداهن، ووقف بالمقابل عدد قليل من العلماء قد لا يبلغ عددهم أصابع اليد على رأسهم إمام أهل السنة أحمد بن حنبل، أيجوز أن يقال عن مذهب المأمون وشلته مذهب الجمهور، ومذهب هؤلاء القلة مذهب شاذ يخالف لجمهور المسلمين؟..
وواقع الأمر في مسألتنا هذه هو أنه عبر بكلمة (الجمهور) عمن هبّ ودب من عالم مبتدع وجاهل متعلم، وصار مذهب فطاحل العلماء وأئمة الهدى - أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية - مذهبا شاذا مخالفا للجمهور.
وصدق من قال: "لا تفتر بالباطل لكثرة الهالكين ولا تزهد بالحق لقلة السالكين".
(ابن تيمية في زمنه هو الجمهور حتى ولو كان وحده خاصة في موضوعات العقيدة) ..
ونقول لفضيلة الشيخ: نحن نعتقد أن ابن تيمية ومن وافقه في زمنه هو الجمهور، خصوصا في أمور العقيدة؛ لالتزامهم بالسنة الصحيحة مهما كلفهم الأمر، ومن خالفه فهو صاحب المذهب الشاذ وحتى ولو وافقه أكثر الناس؛ لأن الحق بالبرهان والدليل لا بكرة الآخذين به وقلة المتنكرين له.(16/441)
وبرهانا على ما قلنا بالنسبة لابن تيميه أن من قرأ كتبه وتتبع فتاواه وبحوثه ورسائله - وهو من أهل البصيرة في الدين - يجد أنه على مذهب السلف الصالح والرعيل الأول من الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة الأربعة ومن على شاكلتهم من معاصريهم، فهو دائماً يدعو مخالفيه إلى الكتاب والسنة؛ فيقول لهم: بيني وبينكم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما أثبتا فهو الثابت وما بطلا فهو الباطل، ويقول لهم: إذا اختلفنا في فهم آية أو حديث رجعنا إلى فهوم الصحابة والتابعين والأئمة المهديين من بعدهم؛ فننظر بماذا فسروا تلك الآية أو ذلك الحديث؛ فهم أعلم منا وأفْقَهُ للغة والشرع.
فمن كان هذا مذهبه وهذه طريقته فهو ومن وافقه هم الجمهور مهما قلوا وكثر مخالفوهم؛ لأن من تبع جمهور السلف من الخلف فمذهبه مذهب الجمهور، ومن خالف جمهور السلف من الخلف فمذهبه خلاف مذهب الجمهور، بل مذهب شاذ ليس حرياً بالصواب.
والخلاصة:
أن من كان مع الدليل فهو على الصواب ولو كان واحداً بين جميع أهل الأرض، ومن قال أو عمل بغير دليل فهو بعيد عن الصواب ولو أنهم أهل الأرض جميعاً، وبصرف النظر عن كل ما تقدم وعن كل من تقدم قبل زمن ابن تيمية، وعن كل ما هو الواقع عند التحقيق في هذه المسألة، بل يصح ما قيل من أن مذهب جمهور العلماء في هذه المسألة جواز شد الرحال لزيارة القبر الشريف - وأعني بذلك زمن ابن تيمية دون غيره من الأزمنة - الصحيح أن الواقع بالعكس، وهو أن مذهب جمهور العلماء في ذلك الزمان هو ما ذهب إليه شيخ الإسلام، وهو طاعة الله ورسول بالتزام مقتضى حديث "لا تشد الرحال ... " الخ.(16/442)
وقد ذكرنا فيما سبق أن مسألة شد الرحال لزيارة القبر سواء قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره لم يتكلم فيها أحد من أهل العلم، ولم تخطر على بال أحد منهم في القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الإسلام؛ عملا منهم بحديث "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد"؛ ولذلك لما سئل الإمام مالك عمن نذر السفر لزيارة القبر الشريف، نهى عن الوفاء بهذا النذر قائلا: إن كان مراده المسجد فليأت المسجد وليصل فيه، وإن كان مراده القبر فلا يأته؛ لحديث "لا تعمل المطي ... ". انظر: الرد على الأخنائي ص35 قال شيخ الإسلام - يعني الإمام مالك-: ومذهبه المعروف في جميع كتب أصحابه الكبار والصغار المدونة لابن قاسم، والتفريع لابن الجلاب أنه من نذر إتيان المدينة النبوية إن كان أراد الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وفَّى بنذره، وإن كان أراد غير ذلك لم يوفّ بنذره.
قلت: ومعلوم أن النذر إذا كان فيه طاعة الله وجب الوفاء به، وإذا كان فيه معصية حرم الوفاء به، وإذا كان في أمر مباح فلا يلزم الوفاء به، وإذا وفى به فإنه لا يستفيد شيئا عند الله؛ ولهذا لما كان مالك - رحمه الله -يرى أن شد الرحال لزيارة قبر الني صلى الله عليه وسلم داخل في النهي الذي تضمنه حديث "لا تشد الرحال.." نهى عن الوفاء بنذر من نذر السفر لهذه الزيارة، واستدل لذلك بالحديث نفسه.
أما الذي حصل فيه الخلاف بين أئمة السلف حول موضوع الزيارة فهو مسألة الفرق بين القريب والبعيد بالنسبة للسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ قد رأى بعضهم أن السلام من قريب يحصل به الرد منه عليه السلام دون السلام عليه من بعيد؛ لأن هذا البعض أوّل حديث "ما من أحد يسلم علي.." الخ. على أنه خاص بمن سلم من قريب، وكذلك استأنسوا بفعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ نُقل ذلك عن الإمام أحمد وابن حبيب.(16/443)
كما ذهب البعض الآخر إلى عدم الفرق بين القريب والبعيد كما تقدم، ومعلوم أن هذا لا يدخل في مسألة شد الرحال.
وتقدم أن ذكرنا عددا من علماء الأمة الإسلامية قبل زمن ابن تيمية يحرمون شد الرحال لزيارة أي قبر من القبور، ويستدلون بحديث "لا تشد الرحال.." منهم القاضي عياض والقاضي حسين وأبو محمد الجويني وإسماعيل بن إسحاق، وهو مذهب الإمام مالك - رحمه الله- كما تقدم، بل ورد عنه قوله لما سئل عن نذر السفر الزيارة القبر الشريف: لا وفاء لنذر المعصية وهذا معصية؛ لأن الحديث يقول…وذكره.
ونعود الآن إلى الموضوع الذي بدأنا الكلام فيه، وهو إثبات كون مذهب ابن تيمية في هذه المسألة هو مذهب جمهور علماء زمانه فنقول:
إنه لما حصلت المناظرة بين ابن تيمية وبعض القضاة الرسميين في مسألة شد الرحال، واختلاف بعضهم معه فيها أثاروا الحكومة ضده، وأغروها به فسجن ظلماً بسببهم، - ودائماً العاجز عن إقامة الحجة يلجأ إلى قوة الحاكم؛ فيوهمه أن خصمه مجرم ينبغي التنكيل به وإهانته وإرغامه على الرجوع عن رأيه بالقوة - فلما سجن هبَّ العلماء من أقطار العالم الإسلامية يطالبون الحكومة بالإفراج عنه معلنين أمامها أن ما ذهب إليه هذا الرجل هو والحق والصواب، وهو الذي عليه أئمة الإسلام قديما وحديثاً.
انظر لذلك ما دونه الإمام الحافظ ابن عبد الهادي في كتابه العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية، وانظر هناك كم كتاباً نقله عن علماء بغداد وحدها لتعرف صحة ما قررنا.
ملخصات لبعض خطاباتهم:
وأنا أورد هنا مقتطفات مما تضمنته خطاباتهم:
قال ابن عبد الهادي ص342 من الكتاب المشار إليه - العنوان (انتصار علماء بغداد للشيخ في مسألة شد الرحال للقبور) - ثم قال: "وقد وصل ما أجاب به الشيخ في هذه المسألة إلى علماء بغداد؛ فقاموا في الانتصار له وكتبوا بموافقته، ورأيت خطوطهم بذلك وهذه صورة لما كتبوا:(16/444)
ملخص الخطاب الأول:
ولا ريب أن المملوك وقف على ما سئل عنه الإمام العلامة وحيد دهره وفريد عصره تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية، وما أجاب به فوجدته خلاصة ما قاله العلماء في هذا الباب حسب ما اقتضاه الحال من نقله الصحيح، وما أدى إليه البحث من الإلزام والالتزام لا يداخله تحامل ولا يعتريه تجاهل، وليس فيه - والعياذ بالله - ما يقتضي الإزراء والتنقيص بمنزلة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهل يجوز أن يتصور متصور أن زيارة قبره تزيد في قدره؟.. وهل تركها مما ينقص من تعظيمه؟ حاشا للرسول من ذلك..
إلى أن قال:
مع أن المفهوم من كلام العلماء وأنظار العقلاء أن الزيارة ليست عبادة وطاعة لمجردها، حتى لو حلف أنه يأتي بعبادة أو طاعة لم يبر بها - يعني القيام بزيارة القبر الشريف - ما اعتبر بارا بيمينه.
لكن القاضي ابن كج - من متأخري أصحابنا - ذكر أن نذر هذه الزيارة عنده قربة تلتزم ناذرها.
وهو منفرد به لا يساعده في ذلك نقل صريح ولا قياس صحيح، والذي يقتضيه مطلق الخبر النبوي في قوله - عليه السلام -: "لا تشد الرحال"إلى آخره.. أنه لا يجوز شد الرحال إلى غير ما ذكر؛ فإن فعله كان مخالفا لصريح النهي، ومخالفة النهي إما كفر أو غيره على قدر المنهي عنه ووجوبه وتحريمه وصفة النهي، والزيارة أخص من وجه؛ فالزيارة بغير شد الرحال غير منهي عنها ومع الشد منهي عنها.
حرره ابن الكتبي الشافعي..
ملخص كتاب آخر:(16/445)
ما أجاب به الشيخ الأجل الأوحد، بقية السلف وقدوة الخلف رئيس المحققين وخلاصة المدققين تقي الملة والحق والدين من الخلاف في هذه المسألة صحيح منقول في غير ما كتاب أهل العلم لا اعتراض عليه في ذلك؛ إذ ليس فيه ثلب للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا غض من قدره عليه السلام، وقد نص الشيخ أبو ناصر الجويني في كتبه على تحريم السفر لزيارة القبور، وهذا اختيار القاضي الإمام بن موسى في إكماله، وهو من أفضل المتأخرين من أصحابنا.
تم قال: ومن المدونة: "ومن قال علي المشي إلى المدينة أو بيت المقدس؛ فلا يأتيها أصلا إلا أن يريد الصلاة في مسجديهما فليأتهما، فلم يجعل نذر زيارة قبره - صلى الله عليه وسلم - طاعة يجب الوفاء بها؛ إذ من أصلنا أن من نذر طاعة لزمه الوفاء بها، وكان من جنسها ما هو واجب بالشرع، كما هو مذهب أبي حنيفة، أو لم يكن قال القاضي أبو إسحاق عقيب هذه المسألة: لولا الصلاة فيهما لما لزمه إتيانهما"، ثم ذكر أن ذلك في كتب المالكية كالتقريب للقيرواني، والتنبيه لابن سيرين.
كتبه محمد بن عبد الرحمن البغدادي، الخادم للطائفة المالكية بالمدرسة الشريفة المستنصرية.
ملخص كتاب ثالث:(16/446)
بعد البسملة والحمد له والصلاة والتسليم على خير البرية وآله وصحابته قال: ما ذكره مولانا الإمام العالم العامل جامع الفضائل بحر العلوم، ومنشأ الفضل جمال الدين - جمل الله به الإسلام وأسبغ عليه سوابغ الأنعام - أتي فيه بالحق الجلي الواضح، وعرض فيه عن أعضاء المشايخ؛ إذ السؤال والجواب اللذان تقدماه لا يخفى على ذي فطنة وعقل أنه أتي في ذا الجواب المطابق للسؤال بحكاية أقوال العلماء الذين تقدموه، ولم يبق عليه في ذلك إلا أن يعترضه معترض في نقله فيبرزه له من كتب العلماء الذين حكى أقوالهم، والمعترض له بالتشنيع إما جاهل لا يعلم ما يقول، أو متجاهل ليحمله حقده وحمية الجاهلية على رد ما هو عند العلماء مقبول، أعاذنا الله من غوائل الحسد، وعصمنا من مخائل النكد.
كتبه الفقير إلى رضوان ربه: عبد المؤمن ابن عبد الحق الخطيب.
هذه ثلاثة خطابات من مجموع عدد كبير من الخطابات الموجهة من علماء بغداد إلى حكومة الشام؛ للدفاع عن ابن تيمية ومذهبه في مسألة شد الرحال، والشهادة منهم بأن مذهبه فيها هو الحق المتمشي مع الحديث الصحيح، وأنه مذهب جماهير علماء الأمة وأن من خالفه فلا حجة معه ولا بينة لدعواه.
وأنا أحيل على كتاب (العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية) لابن عبد الهادي؛ من أراد مزيداً من الإطلاع والتأكد بالنسبة لما لخصت من خطابات هؤلاء العلماء، وبالنسبة لما تركت تجنباَ للإطالة؛ فإنه سيقول معي إن الجمهور المزعوم - يا فضيلة الشيخ - إنما يوجد في الخيال فقط، أما في عالم الحقيقة فلم يوقف له على أثر ولم يعثر له على خبر، هذا الجمهور الذي يضرب بالحديث الصحيح عرض الحائط أو يؤوله حسب مزاجه وعاطفته؛ ليشرع للناس ما لم يأذن به الله ولم يكن من هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم!.
العلامة السهواني والشيخ دحلان:(16/447)
وإلى فضيلة الشيخ خاصة وطلبة العلم عامة أنقل ما سطره العلامة محمد بشير السهواني الهندي في كتابه (صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان) ، قال رحمه الله - وهو ينكر أن يكون ثبت عن أحد من السلف عمل الزيارة مطلق حتى ولو بدون شد رحال - قال: وكذلك دعواه إجماع السلف والخلف على قوله - يعني قول دحلان - فإن أراد بالسلف المهاجرين والأنصار والذين تبعوهم بإحسان فلا يخفى أن دعوى إجماعهم مجاهرة بالكذب، وقد ذكرنا غير مرة فيما تقدم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة شيء في هذا، إلا عن عبد الله بن عمر وحده؛ فإنه ثبت عنه إتيان القبر للسلام عند القدوم من سفره، ولم يصح هذا عن أحد غيره ولم يوافقه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا من الخلفاء الراشدين ولا من غيرهم، وقد ذكر عبد الرازق في مصنفه عن معمر عن عبيد الله بن عمر أنه قال: ما نعلم أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا عبد الله، ثم قال رحمه الله: وكيف ينسب مالك إلى مخالفة إجماع السلف والخلف في هذه المسألة، وهو أعلم أهل زمانه بعمل أهل المدينة قديماً وحديثاً، وهو يشاهد التابعين الذين شاهدوا الصحابة وهم جيرة المسجد وأتبع الناس للصحابة، ثم يمنع الناذر من إتيان القبر، ويخالف إجماع الأمة؟ هذا لا يظنه إلا جاهل كاذب على الصحابة وأهل الإجماع.(16/448)
ثم قال: وقد نهى علي بن الحسين زين العابدين - الذي هو أفضل أهل بيته وأعلهم في وقته - ذلك الرجل الذي كان يجيء إلى فرجة كانت عند القبر فيدخل فيها فيدعو، واحتج عليه بما سمعه من أبيه عن جده علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبورا؛ فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم"، وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن بن علي شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ونحوه عند غير دخول المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيداً، وقال للرجل الذي رآه عند القبر: مالي رأيتك عند القبر؟.. فقال: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تتخذوا قبري عيداً ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي؛ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم"، ثم قال: ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء.
تم قال: العلامة السهسواني - رحمه الله -: "كذلك سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أحد الأئمة الأعلام، وقاضي المدينة في عصر التابعين ذكر عنه ابنه إبراهيم أنه كان لا يأتي القبر قط، وكان يكره إتيانه".
ثم قال - رحمه الله-: "أفيظن بهؤلاء السادة الأعلام أنهم خالفوا الإجماع، وتركوا تعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وتنقصوه؛ لما لم يروا مشروعية زيارة قبره، عاملين بالحديث الثابت عنه عليه السلام؟ "
ثم قال: "فهذا لعمر الله هو الكلام الذي تقشعر منه الجلود".
تم قال: "وليس مع عباد القبور من الإجماع إلى ما رأوا عليه العوام والطغاة في الأعصار التي قل بها العلم والدين، وضعفت فيها السنن ... الخ ما كتبه - رحمه الله- من كلام صحيح وتحقيق يعجز عن نقضه من ادعى سواه".(16/449)
قلت: إن هؤلاء العوام والطغاة في الأعصار المتأخرة - كما أشار العلامة محمد بشير السهسواني رحمه الله - هم الجذور الذي يعنيه من زعم أن جواز شد الرحال لزيارة القبر الشريف هو مذهب الجمهور، والذي نقله فضيلة الشيخ عطية موافقاً عليه أو مستدلا به [1] .
وأقول مرة أخرى: أليس مذهب ابن تيمية أقرب إلى مذهب خصومه مما نقل عن هؤلاء الأئمة من التابعين وتابعيهم؟.. الجواب بلا؛ ذلك لأن ابن تيمية لا يمنع زيارة القبر الشريف مطلقاً، بل يصرح بأن زيارته بدون شد رحل عمل صالح إذا لم يصل الأمر إلى المبالغة والغلو، كالإكثار من التردد عليه بحيث يصل ذلك بالإنسان إلى اتخاذه عيداً، أو يتجاوز ذلك إلى دعائه عليه السلام والإستغاثة به، ونحو ذلك من أمور العبادة التي صرفها لغير الله كفر وشرك.
أما هؤلاء الأئمة فكما ترى النقل عنهم يرون عدم مشروعية هذه الزيارة ونمها ليست عملا صالحا وينهون عنها، ويستدلون على ذلك بالأحاديث [2] .
فلينظر المنصف، ولتأمل طالب الحق، وليتراجع المندفع على غير هدى، وليعلم أن الدين ليس بالعواطف وليس بالتقليد الأعمى، وأن أي عالم مهما ارتفعت درجته وعلت منزلته لا ينبغي أن يعتبر قوله ومذهبه واختياره أموراً مسلمة غير قابلة للمناقشة والتمحيص.
سؤال موجه يرجى الجواب عليه:
وهذا سؤال نوجهه إلى فضيلة الشيخ نرجوه الجواب عليه وهو:
إذا كان ابن حجر قال: يرى الجمهور بالإجماع جواز شد الرحال ... الخ، فبصرف النظر عما تقدم من مناقشتنا لهذه الدعوى أصلا وشروعاً أقول الآتي: مادام أن القضية قضية جواز - أعني إباحة فقط - فما فائدة هذه الزيارة؟.. أتريدون من الإنسان أن يسافر من أقصى الأرض إلى أدناها يجوب المسافات الشاسعة والفيافي البعيدة والقفار الموحشة، وينفق الأموال ويعرض نفسه للمخاطر؛ ليتوصل إلى أمر مباح غاية ما فيه أنه غير محرم ولا مكروه؟..(16/450)
يا للعجب العجاب - يعني مجرد سياحة لا أقل ولا أكثر -، هذا إذا ثبت أن الصحيح هو هذا المذهب المنسوب للجمهور _ كما زعموا - فمعنى هذا أن هناك مذهباً آخر لغير الجمهور يرى عدم الإباحة، وهذا المذهب الآخر قد يكون هو الصواب [3] ؛ إذ إنه لا يلزم أن يكون الحق دائما مع الجمهور.
المسألة الرابعة:
وقال فضيلة الشيخ صح578 نقلا عن ابن حجر: ومما استدل به على عدم شد الرحال لمجرد الزيارة، وما روى عن مالك من كراهية أن يقال: "زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم"، وأجيب على ذلك بأن كراهية مالك للفظ فقط تأدبا، لا أقل ولا أكثر، لا أنه كره الزيارة؛ فإنها من أفضل الأعمال وأجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال، وان مشروعيتها محل إجماع.
سطر الشيخ هذا الكلام ولم يتعقبه بحرف واحد، بل إن صنيعه فيما كتبه بعد ذلك يدل على تنبيه لهذا الكلام ورضاه؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!!.
فتعال معي أيها الأخ المحب للسنة والتحقيق، والكاره للبدعة والتلفيق.. تعال لترى العجائب:
أولا: المنقول عن مالك هو كراهية الزيارة بدون شد رحال، بينما الكلام هنا عن مسألة شد الرحال؛ فبماذا نفسر صنيع الحافظ ابن حجر هذا؟.. إن ابن حجر كغيره من الناس يخطئ ويصيب.(16/451)
ثانيا: من الذي أخبر ابن حجر أن كراهية مالك للفظ فقط؟.. وإذا كانت الزيارة مشروعة ومجمعا على مشروعيتها كما زعموا كيف يكره الإمام مالك التلفظ بذكرها؟ ... [4] هل يكره مالك للرجل أن يقول: صليت أو صمت أو تصدقت أو حججت؟ ... وقوله: كره مالك اللفظ تأدبا، نقول: يا للعجب العجاب.. تأدب مع من؟.. وعن ماذا؟.. أتأدبا مع الشرع بأن لا يذكر ما شرعه؟.. أم تأدبا عن ذكر المشروع فلا يتلفظ به اللسان؟ ... وهل هذه القاعدة تسري على جميع العبادات؛ فيتأدب المسلم عن ذكرها؟.. أم هي خاصة بهذه العبادة المجمع عليها؟ [5] . ثم ما الذي سوغ هذا الانتقال المفاجئ؟.. الحديث عن شد الرحال.. وذكر أدلة المخالف تعلق بمطلق الزيارة؟.. يا للإسلام من أهله.
ثم هذا الإجماع المزعوم هل انعقد على أساس دليل من الوحي؟.. أم بدون ذلك؟.. إن كان على أساس دليل فأين ذهب ذلك الدليل؟.. ابن حجر محدث كبير وإحاطته بالأحاديث لا تكاد توجد عند غيره بعد القرون الثلاثة - هذا مبلغ علمي وقد أكون على خطأ- فلِمَ لم يطلع على الدليل الذي استند إليه هذا الإجماع؟.. وإن كان قد اطلع فلِمَ لم يذكره.؟
أم أنه انعقد على غير أساس من الوحي؟.. إن كان كذلك فلدينا أسئلة كثيرة منها:
أولاً: هل يوجد إجماع بدون مستند شرعي؟..
ثانيا: قدمنا من القول ما يثبت أن من أئمة الإسلام من ينهى عن زيارة القبر الشريف، فأين هم من الإجماع وأين الإجماع منهم؟
ثالثا: على مدعي الإجماع أن يثبته، وإلا فهي دعوى بلا بينة..
رابعا: إذا كانت هذه المسألة - ونعنى الزيارة فقط- محل إجماع، أي مشروعية الزيارة؛ فأين الصحابة من هذه المشروعية ومن هذه العبادة؟.. هل علموا بها؟ هاتوا برهانكم وأثبتوا دعواكم إن كنتم صادقين.
ثالثا: قوله: فإنها من أفضل الأعمال وأجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال.(16/452)
نقول: هذا الكلام لا يليق بمثل الحافظ ابن حجر، ولا بمثل فضيلة أخينا في الله الشيخ عطية.
إن الحافظ ابن حجر، وكذلك الشيخ عطية يعلمان أن التشريع من حق الله ورسوله، ولا مدخل فيه لأحد من الناس سوى الرسول عليه السلام الذي أخبرنا الله جل وعلا عنه أنه لا يأتي بشيء من التشريع من تلقاء نفسه {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} ؛ فإذا كان الأمر كذلك فكيف يسوغ للعلماء أن يقولوا عن مسألة لا دليل إطلاقا على مشروعيتها لا من الكتاب ولا من السنة ولا من الإجماع.. كيف يسوغ لهم أن يدعوا أنها من أفضل الأعمال وأجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال..؟.
والخلاصة نقول: يا من زعمت مشروعية الزيارة بشد الرحل أو بدون شد الرحل! تفضل علينا ببيان دليلك؛ فإننا ومن قبلنا أئمتنا أهل السنة والتوحيد منذ ألف وأربعمائة سنة والبحث جار عن دليل هذه المسألة ولم يعثر عليه، فيا حبذا ويا عظم فضلكم لو تقدمتم إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالكشف عن هذا الدليل، وإلا فارجعوا إلى الحق تؤجروا عند الله، وتسلموا من تبعة القول على الله ورسوله بلا دليل، ولكن اعلموا مقدما أننا لا نقبل حديثا ما لم تثبت صحته عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، أما أحاديث الوضاعين والدجالين التي كفانا مؤنة إبطالها أهل العلم والدراية فنحن وأنتم متفقون على عدم الالتفات إليها؛ لأنها لا تقوم بها الحجة ولا يجوز الاستدلال برها، ونحن نريد دليلا من وحي الرحمن [6] .(16/453)
ثم التعبير بقولهم: "ومما استدل به على عدم مشروعية شد الرحال"تعبير ركيك ناقص؛ إذ أنه لا يوجد ولم يوجد من يقول إن شد الرحال- بمجرده - مشروع أو ممنوع؛ فالتعبير الصحيح أن يقال: "ومما استدل به على عدم جواز شد الرحال لزيارة القبور.. الخ"، وكذلك قولهم عن المانعين إنهم استدلوا بما روى عن مالك.. الخ. الصحيح أن قول مالك وغيره من العلماء لا يستدل به في الأحكام الشرعية، وإنما يستدل بنصوص الشرع إن وجد شيء منها في الموضوع، وإلا نظر هل حصل إجماع من الأمة في حكم المسألة المبحوثة، وإن لم يوجد رجع إلى القياس إن كانت المسألة في غير العقيدة وفي غير العبادات.
أما قول العلماء كل واحد على انفراد فلا ينبغي أن يسمى أو يعتبر دليلا تثبت به الأحكام الشرعية، وإنما يستأنس به فقط، كما يستفاد منه فهم هذا الإمام أو العالم لنص من النصوص أو مذهبه في مسألة من المسائل، وكذلك يحتج به على من نسب إلى هذا العالم خلاف ما ثبت عنه، أما اعتبار قول مالك أو غيره دليلا من أدلة الأحكام الشرعية دون أن يكون هناك إجماع من علماء الأمة فاصطلاح غير مقبول، كما أنه لا يصدر إلا عن إنسان مبالغ في تعظيم المذاهب الفقهية والآراء البشرية إلى حد إحلالها محل النصوص الشرعية- عياذا بالله -.
المسألة الخامسة:
وقال فضيلة الشيخ وفقه الله:
(ولعل مذهب البخاري حسب صنيعه هو مذهب الجمهور؛ لأنه أتى في نفس الباب بعد حديث شد الرحال مباشرة بحديث: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه"، مما يشعر بأنه قصد بيان موجب شد الرحال وهو فضيلة الصلاة - هكذا في كتاب الشيخ - فيكون النهي عن شد الرحال مختصا بالمساجد ولأجل الصلاة إلا في تلك المساجد الثلاثة لاختصاصها بمضاعفة الصلاة فيها دون غيرها من بقية المساجد والأماكن الأخرى، ثم نقل كلاما لابن حجر مفاده أن النهي منصب على المساجد فقط دون غيرها من الأغراض والبقاع والصلوات.(16/454)
وهذا الاستنباط الذي توصل إليه فضيلة الشيخ، واستطاع بواسطته أن يكتشف مذهب الإمام البخاري في مسألة شد الرحال - التي ما حدث الكلام فيها إلا بعد وفاة الإمام البخاري - رحمه الله - بما لا يقل عن مائتي سنة - غير سليم لما يأتي:
أولا: في زمن البخاري وقبله لم يوجد من علماء المسلمين من يقول بمشروعية ولا بجواز شد الرحال لزيارة القبور، حتى ننظر مذهب البخاري، هل هو مع المانعين لشد الرحال إلى القبور أو جمع غيرهم، والسبب أنه حتى ذلك التاريخ لم يحدث في الأمة الإسلامية قبوريون.
ثانيا: عدم صحة قول من زعم أن مذهب الجمهور مشروعية أو جواز شد الرحال لزيارة القبور في يوم من الأيام حتى يومنا هذا، إلا أن يراد بالجمهور طغام العوام ومن على شاكلتهم من العلماء.
ثالثا: البخاري فقيه ملهم؛ لذلك لا نستبعد أن يكون الله تعالى قد ألقى في روع ذلك الفقيه الملهم أن سيحدث بعدك في أمة محمد قبوريون لهم مزاعم فاسدة، ومن مزاعمهم أن يدّعوا أن الحكمة من استثناء المسجد النبوي من المسجدين الآخرين في حديث النهى عن شد الرحال هي من أجل زيارة القبر النبوي الشريف - كما زعم ذلك أبو زهرة في كتابه (ابن تيمية) ، وما أظنه أول من قال بذلك ولا آخر من يقول به - فألقى الله في روع ذلك الإمام بأن يتقدم بالرد عليهم قبل وجودهم بما يقارب مائتي سنة؛ فيقول: إن المساجد الثلاثة استثنيت في حديث لا تشد الرحال لما تميزت به من فضل على جميع بقاع الأرض ترتب عليه مضاعفة ثواب الصلاة فيها.
هذا هو السبب الذي من أجله أورد البخاري حديث فضل المساجد الثلاثة بعد حديث "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد.."، أي أنه أراد أن يبين حكمة الاستثناء وموجبه، وأنها لولا ذلك لكانت كغيرها من المساجد والبقاع لا تشد لها الرحال.
فالقضية - في نظر البخاري وأمثاله - قضية مساجد وصلوات، لا قضية أضرحة ومزارات.(16/455)
وبعد أن كتب فضيلة الشيخ ما تفلسف به حول صنيع البخاري الذي فرغنا الآن من الكلام حوله، نقل كلاما لابن حجر مفاده أن النهي الذي تضمنه حديث "لا تشد الرحال.." خاص بالمساجد والصلوات، دون غيرها من البقاع والأغراض والعبادات.
ونحن نناقش فضيلته فيما هو من ابتكاره، وفيما نقله عن غيره؛ فنبين بحول الله وتوفيقه أنها مزاعم مجردة عما يسندها ويشد عضدها من لغة أو شرع؛ فنقول: أنتم معترفون بأن حديث "لا تشد الرحال.." يشمل المساجد شمولا أوليا مباشرا سوى المساجد الثلاثة المستثناة، بل تحاولون أن تجعلوه خاصا مقصورا عليها، فهل ترون أن الأضرحة أفضل عند الله من المساجد؟.. أليس الحديث الآخر قد نص على أن المساجد هي أحب البقاع إلى الله؟.. وفي القرآن الكريم {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} .. وفيه قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} ..
فكيف ساغ لكم ولمن قلدتموهم أن تقولوا: الممنوع زيارة المساجد، دون زيارة المشاهد؟
بإمكانكم أن تقولوا: لأن المساجد يعوض بعضها عن بعض؛ فلا فرق بين مسجد وآخر عدا المساجد الثلاثة، أما القبور خاصة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فلا يعوض بعضها على بعض، كما أن المساجد أيضا لا تعوض عنها لأنها ليست من جنسها.
وجوابنا على ذلك أن نقول:-(16/456)
إن الله تعالى جعل المساجد أماكن للعبادة؛ فيتوجه المسلم إلى مسجد ليؤدى فيه عبادته لربه كما أمره سبحانه وتعالى، فكان من السائغ عقلا أن يكون السفر إليها فضيلة محمودة لمن يريد أن يجعل لعدد كبير من بيوت الله نصيبا من عبادته، تلك البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه تبارك وتعالى، وقد قرر الفقهاء أن المسجد الأقدم والأكثر جماعة والأبعد من منزل الإنسان أفضل من عكسه، وهذا مسجد قباء قد ثبت فضله شرعا، ومع ذلك لم يستثن مع المساجد المستثناة، أما القبور فلم يجعلها الله ورسوله أماكن للعبادة، بل على العكس فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المقابر، وجعلها من المواقع التي لا تصح الصلاة فيها، ولعن اليهود والنصارى لاتخاذهم المساجد على القبور محذرا أمته من أن تحذوا حذوهم، مكررا ومؤيدا حتى آخر لحظة من حياته الشريفة، ولكنه مع هذا قد أخبر - عليه السلام - أن أمته ستحذو حذو اليهود والنصارى وتتبع سننهم؛ رغم تحذيره ومبالغته في النصح والتنبيه، ومن أبرز سننهم التي حذر الرسول أمته من اتباعها - وقد اتبعوها - اتخاذ القبور مساجد، وهذه مبدؤها الغلو في القبور واتخاذها أعيادا بكثرة التردد عليها، ثم التعلق بأهلها وتوجه القلوب إليهم ثم دعاؤهم من دون الله، ثم.. ثم.. ثم.. ثم.. الخ.(16/457)
ثم نقول: إن المساجد كما يصدق عليها أنها مساجد كذلك يصدق عليها أنها بقاع وأنها أماكن، والحديث لم يذكر فيه المستثنى؛ فهو مبهم، والمبهم ينبغي أن يقدر بأعم مدلولاته ما لم يرد دليل آخر يفسره؛ لأن الاقتصار على بعض المدلولات دون بعضها الآخر تحكم واتباع للهوى؛ فما دام أن المستثنى منه حديثنا هذا يجوز أن يكون المساجد فقط ويجوز أن يكون البقاع والأماكن جميعاً - والشارع لم يخصص - فيجب علينا والحالة هذه أن نعتبر الأعم الأشمل، ونجري الحديث على ظاهره، ولا يكون لنا تدخل في نصوص الشرع بمجرد أهوائنا؛ لأن أحدا منا لو سئل فقيل له: لم قصرت هذا العام على بعض أفراده بلا دليل؟ … فإنه لا جواب لديه يخرج به من طائلة العتاب، أما لو سئل فقيل له: جعلت هذا العام على التخصيص، ومن ثم لا يتوجه إليه عتاب.
إذاً فالتوجيه للحديث كما يلي:
لا تشد الرحال لمكان في الأرض أو بقعة من البقاع طاعة لله أو لأداء عبادة يبتغي بها وجه الله إلا المساجد الثلاثة؛ لما لها من الفضل على سائر البقاع..
أما الأسفار الدنيوية كالذي لتجارة، آو زيارة قريب أو صديق، أو لسياحة؛ فلا مدخل لها هنا؛ لأنها ليست مما يمارسه العبد لله بنية أنه مشروع يثاب عليه، بل هي من الأمور العادية المباحة؛ فإدخالها في موضوع شدّ الرحال واتخاذها وسيلة لتأويل الحديث وصرفه عن ظاهره - موهما من فعل ذلك أن إجراء الحديث على ظاهره يفضي إلى منع شد الرحال لهذه الأمور العادية الدنيوية - فهذا غير صحيح، بل خلط بين أمور الدنيا وأمور الدين.
ثم إن هذا الذي قلناه في معنى الحديث هو الذي فهمه منه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، وهم الذين سمعوه مباشرة من مصدره الأصلي.
وبرهان ذلك كما يلي: قال أبو يعلى في مسنده:(16/458)
1- حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع … وساق الإسناد إلى سعيد بن أبي سعيد المقبري قال: لقي أبو بصرة جميل بن بصرة أبا هريرة رضي الله عنهما وهو مقبل من الطور، فقال: لو لقيتك قبل أن تأتيه لم تأته، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما تضرب أكباد المطي إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى".
2- وعن قزعة قال: سألت عبد الله بن عمر: آتي الطور؟ قال: دع الطور لا تأته، ثم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد". رواه ابن أبي شيبة والأزرقي في أخبار مكة، وإسناده صحيح.
انظر تخذير الساجد للألباني ص139.
أما السفر لطلب العلم ولزيارة الوالدين والصالحين والعلماء الأحياء؛ فليس المراد من مثل ذلك السفر البقعة التي يحلون فيها، إنما المراد زيارة الأشخاص الأحياء بأي مكان حَلّوا.
أما زيارة القبور لتذكر الآخرة ودون شدّ رحل؛ فجائزة، ومن زارها لهذا الغرض فليدعُ لأصحابها على العموم اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - الذين سمعوا الحديث منه مباشرة - قد فهموا منه أن النهي في هذا الحديث يعم جميع البقاع ولا يختص بالمساجد؛ فالطور الذي أنكر أبو بصرة على أني هريرة إتيانه والسفر إليه ليس بمسجد، ولكنه مكان من الأمكنة، وأبو هريرة يقره على إنكاره ولا يرد عليه، وفي الأثر الثاني يفتي عبد الله بن عمر من استفتاه في السفر إلى الطور فيقول: "دع الطور لا تأته"، وكل منهما يستدل بحديث: "لا تشد الرحال.."، أفيقول أحد بعدهم إنه أعلم باللغة أو بالشرع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟(16/459)
أو يظن بأحد أنه أعلم منهم؟.. وحتى لو حاول أحد التشكيك في أسانيد هذه الأخبار فإنه - أولا - لا سبيل له إلى ذلك، ثانياً لو فعل لطالبناه بأن يقدم لنا أسانيد صحيحة إلى من نسب عنه، حتى يعلم أن طلب الإثبات منوطه إليه كغيره، وأن مجرد الدعاوى بدون بينات لا يفيد شيئاً، ولا سبيل له إلى ذلك أيضاً، بل مجرد نقول في الكتب قل إن تثبت إلى من نسبت إليه، وكذلك ما نقل من الإجماعات المزعومة.
الخطر على عقيدة التوحيد في القبور لا في المساجد:
السؤال موجه إلى من يقول بمنع زيارة المساجد وإباحة أو مشروعية زيارة القبور نقول فيه:
معلوم أن أحكام الشرع لا تأتي إلا لحكمة، وهذه الحكمة قد تكون منصوصاً عليها وقد لا ينص عليها، وقد تدرك بالاجتهاد وقد لا تدرك، وقد تدرك جزماً وقد تدرك ظناً، وعلى كل حال أحكام الشرع لها حكم ووارده لعلل إما تحصيل مصالح وإما دفع مفاسد.(16/460)
فهل تتصورون أن من الحكمة منع زيارة المساجد بشد الرحال وإباحة أو مشروعية زيارة القبور ولو بشد الرحال؟.. ألستم تعلمون أن فتنة بني آدم ووقوعهم في الشرك بالله وعبادة المخلوقين كان منشؤها الغلو في الأموات من الصالحين؟.. ولا يزال الأمر كذلك حتى ساعتنا هذه؛ ففي بعض البلاد الإسلامية لا تجد مسجداً تصلي فيه إلا ومبني على قبر، وقد يكون هذا القبر قد اتخذ وثنا يعبد من دون الله، كالضريح المنسوب للحسين، والمنسوب للسيدة زينب والبدوي، و.. و.. وإلى مالا يحصى في مصر وغيرها من آلاف الأضرحة والقباب المقامة على القبور وعليها المساجد التي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من بناها، وأبطل صلاة من صلى فيها، وذلك على مسمع ومرأى من العلماء أو المحسوبين على العلماء من أصحاب الشهادات الكبيرة، بل إن من هؤلاء بعض المنتسبين إلى العلم قد يشاركون العوام في عبادة الأموات بالحج إلى قبورهم والطواف، حول مقاصيرهم ويطلبون منهم مالا يملكه إلا الله معتقدين أنهم يملكون النفع والضر، والسعادة والشقاوة، ولذلك حذر الني صلى الله عليه وسلم أمته من الوقوع فيما وقعوا فيه، ولكنهم وقعوا إلا من عصمه الله وقليل ما هم.
ونخن في هذه البلاد - والحمد لله - لا نزال في آثار الدعوة الخيرة التي قضى الله بها على مظاهر الوثنية في بلادنا؛ نسأل الله تعالى أن يديم علينا نعمة التوحيد التي هي أعظم نعمة تمتع بها إنسان على وجه الأرض، وأن يوفق ولاة أمورنا لمزيد من حماية هذه النعمة ومعرفة قدرها والحرص عليها والاغتباط بها، إنه سميع مجيب.
أما المساجد فما كانت يوماً من أيام الدنيا مصدر فتنة وخطر على عقائد أهل التوحيدي وإتباع الرسل، فلماذا يتصور البعض أن المشرع يعني بالقبور أكثر من عنايته بالمساجد، فيبيح شد الرحال لها في الوقت الذي يمنع فيه من شد الرحال للمساجد؟.(16/461)
اللهم وفقنا لاتباع رسولك والرضى بسنته، وأن لا نبتدع في دينه، اللهم حبب إلينا المساجد واجعلنا من أهلها وعمارها، ولا تفتنا بالقبور وأحداثها
المشرع الحكيم يبيح زيارة المقابر بعد منعه منها مبينا الحكمة في ذلك:
كان الني صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور؛ لما يعلمه عليه السلام من خطر فتنتها على من لم يتمكن من معرفة الله على بصيرة، ويتشبع من معرفة التوحيد الذي خلق الجن والإنس من أجله.
فلما انتشر الإسلام حسياً ومعنوياً، وتمكنت المعرفة بالله وتوحيده في نفوس المؤمنين، وانتشر نور هدى الله في الأرض أباح لهم زيارة القبور معللا ذلك بأنها تذكر الآخرة، فقال عليه السلام: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فأهما تذكر الآخرة".
هذه إحدى حكمتين أو علتين من أجلها رخص الرسول عليه السلام بزيارة القبور بعد أن كان ناهياً عنها مانعاً منها.
أما العلة الثانية فهي الإحسان إلى الموتى بالدعاء لهم من الزائر، وهذه العلة أو الحكمة أخذت من عمل الرسول وتعليمه لمن سأله ماذا يقول إن هو زار المقابر، وليس هناك حكمة ثالثة أو علة ثالثة من أجلها تزار المقابر، بل العلة الأولى هي الأصل والأساس، أعني تذكرة الآخرة، بدليل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم- ذكرها لما أذن في زيارة القبور ولم يذكر الأخرى.(16/462)
فيا ترى من زار قبر الرسول، وشد الرحال لهذه الزيارة من أقصى الأرض أو أدناها؛ أي العلتين قصد؟ أيريد أن يتذكر الآخرة؟ فعنده في بلاده، وفي كل بلد من المقابر والأجداث الهامدة ما يسيل دموعه ويحرك قلبه ويذكره بالموت وما بعده؛ فلا داعي لقطع القفار وجوب الديار لقبر أو قبرين أو ثلاثة في أقصى الأرض وأدناها، ومع ذلك هذه القبور الثلاثة - مع أن المقصود منها واحد فقط - وهي محاطة بالجدران المنيعة والأستار الجميلة والزخارف البديعة وشباك الحديد.. الخ. تمنع ذلك الزائر من الوصول إلى القبر أو القبور الثلاثة وتذكر الآخرة بها، بل إن أرضية تلك القبور وما حولها مبلطة مستوية، ولا يعلم أحد على وجه الأرض كيفية تلك القبور الكريمة بالنسبة لبعضها.
(انظر وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى للسمنهودي) .
فهذه الأشياء في نظرنا تمنع من تحقق الحكمة المقصودة شرعاً من زيارة القبور.
أم أن ذلك الزائر يريد الحكمة الثانية، وهي الدعاء للأموات ... أيريد أن يدعو لرسول الله وعلى الله عليه وسلم بالمغفرة والعتق من النار؟.. الرسول عليه السلام ليس بحاجة إلى الدعاء من أحد؛ إذ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقد تحققت له السعادة بجميع معانيها وأنواعها - صلى الله عليه وسلم-. صحيح أنه رغّب إلى أمته في أن يسألوا الله له الوسيلة، وكذلك قد أمر بالصلاة والسلام عليه، ولكن ذلك لمصلحتنا نحن لا لمصلحته هو، وإلا فدعاؤه لنفسه ولغيره أحرى بالإجابة من دعاء جميع الناس له، وهذا الدعاء الذي هو سؤال الوسيلة له عليه الصلاة والسلام، وكذلك الصلاة والسلام عليه ليس مكانه عند القبر، بل ليس له مكان مخصوص غير أن سؤال الوسيلة مقيد بسماع الأذان وإجابة المؤذن لحكمة لا نعلمها.(16/463)
فإن قالوا: قبر الرسول عليه السلام له خصائص؛ فلا يماثل بقبر غيره، ولذلك يزار من قريب ومن بعيد وتشد له الرحال، وليس من ذلك تذكر الآخرة الذي يحصل بالمقابر الأخرى أكثر، ولا الدعاء لصاحب القبر، بل لحقوق الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أمته وعظيم قدره..
إن قالوا ذلك أجبناهم بأن نقول: أولا أصحابه رضي الله عنهم أعلم منكم بحقوقه وأكثر منكم تعظيماً له، وما رأوا أن ذلك يستلزم زيارة قبر لا بشد ولا بدونه، وكذلك التابعون لهم بإحسان إلى يومنا هذا، بل إن الذين يزورون القبر الشريف من أهل السنة بدون شد رحل يدخلون زيارته تحت الأمر الشرعي إن كان أمرا أو إباحة، أما حقوقه - عليه السلام- فمعلومة لديهم وعظيمة في نفوسهم وقلوبهم واعتقادهم، وليس منها شد الرحل لزيارة قبره؛ إذ لو كان منها لأمر به وحث عليه؛ فما من جزئية ولا كلية تعود على أمته بالخير والمنفعة في أمور دينهم إلا بينها أتم بيان ودعا إليها ورغب فيها، فما باله - يهمل هذه المسألة؟ أنسياناً ... أم تقصيراً؟ ... حاشاه من كل ذلك.
وأنا والله أعجب كثيراً لفضيلة الشيخ عطية عندما أمرّ ببعض المواضع في بحثه لهذه المسألة، وعندما ألاحظ بعض العبارات وبعض التصرفات، من ذلك أنه لم ينقل في هذا البحث عن غير ابن حجر، وكأن أحدا من علماء المسلمين لم يوجد، أو لم يتعرض لهذه المسألة من أي جانب من جوانبها؛ فلا أدري أكلّ ذلك ثقة مطلقة بابن حجر دون غيره، أم ذلك نتيجة لكسل حالَ بينه وبين بحث القضية في كتب فحول العلماء وأئمة الإسلام، مثل كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكذا كتب شمس الدين ابن القيم، وكذا الصارم المنكي لابن عبد الهادي الذي خصصه لبحث هذه المسألة، وقد استقصى رحمه الله البحث فيها ووفى الموضوع حقه.(16/464)
أليس من الإنصاف، بل ومن حق البحث العلمي، بل ومن لازم الاحتياط للدين وللعلم ولتجنب نقد الآخرين أن ينظر الباحث فيما قدمه الطرفان من بحوث واستدلال وتعليل؛ حتى يكون على بصيرة من أمره؛ فيبدي رأيه ويقدم نتيجة اجتهاده بعد تأمل ونظر عميق؟ …
أعتقد ما فيه أحد يخالفني فيما قلت هنا..
إذاً فما الذي حال بين الشيخ وبين النظر والتعمق في التحقيق؟.. هل خفيت عليه تلك المراجع العظيمة والمباحث الهامة النفيسة؟.. لا أعتقد ذلك، فالجواب عند فضيلته.
ومن ذلك أيضاً أنه سطّر أكثر من صفحة من كتابه في إثبات جواز شد الرحال للتجارة وللسياحة ولزيارة الأقارب والأصدقاء الأحياء، ولطلب العلم، وراح فضيلته ينقب عن الأدلة التي تثبت جواز السفر لهذه الأمور، كأن أحداً من خلق الله زعم أن السفر لهذه الأشياء غير جائز، وقصد فضيلته - حسب ظني، وعسى أن لا يكون هذا الظن صواباً - إرادة التهويل أمام السذج؛ لأنه قال بعد كلامه المتعلق بإثبات جواز السفر لهذه الأمور: فيكون السفر لزيارة الرسول من ضمنها، ولأنه رتَّب ذلك على قوله - بالمعنى لا بالنص -: إننا لو أخذنا بظاهر الحديث - على ما فهم ابن تيمية - لأدى بنا ذلك إلى تعطيل مصالح الناس والحجر عليهم بتحريم ما أحله الله من الأسفار للأمور المشار إليها.
وقد سبق أن قلنا لفضيلته: إنه لا يصح الخلط بين أمور الدين التي أمر الشرع بها أو نهى، وبين أمور الدنيا المباحة، ولا الخلط بين ما نهى عنه الرسول - عليه السلام- وبين ما بقي على الأصل والبراءة، ولا الخلط بين أمر يتعلق بالأماكن والعبادات، وبين أمور تتعلق بالأغراض الدنيوية والمقاصد العادية.
ونسأل الشيخ فنقول: هل مشروعية أو جواز شد الرحال خاص بقبر الرسول - عليه السلام - أم عام لقبور الصالحين والعلماء مثلاً؟.. أم عام لجميع مقابر المسلمين؟.(16/465)
إن قلتم: خاص بقبر النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، قلنا: هل عرفتم ذلك بدليل أم بتعليل؟.. إن قلتم: بدليل، قلنا: تكرموا علينا وعلى عامة المسلمين فبينوا هذا الدليل؛ لأنه خفي علينا، وكتمان العلم حرام، وإن قلتم: عرفنا ذلك بتعليل، قلنا: العلة التي بينها المصطفى عليه السلام لزيارة القبور هي تذكر الآخرة فقط، فهل عثرتم على علة أخرى؟.. أفيدونا مأجورين.
أما مسألة الدعاء للأموات التي قلنا إنها أخذت من فعل الرسول عليه السلام وأجابته لمن سأله ماذا يقول إن هو زار القبور فقد قلنا: لا تنطبق في حق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لاستغنائه عن دعاء غيره إلا فيما بيّنه، ولم يقل عند قبري بل قال: "إذا سمعتم المؤذن"، وهذا بالنسبة لسؤال الوسيلة، وبالنسبة للصلاة والتسليم عليه فهما في الصلاة المفروضة والمستحبة، وعند دخول المسجد، وعند ذكره عليه الصلاة والسلام، وفي كل مناسبة وكل زمان ومكان.
بل قد قال عليه الصلاة والسلام: "وصلوا علي؛ فإن صلاتكم وتسليمكم يبلغني حيثما كنتم"، قال ذلك في الوقت الذي نهى فيه عن اتخاذ قبره عيدا، فالله المستعان..
وإن قلتم عام لقبور الصالحين والعلماء والأقارب، أو لجميع المسلمين وما إلى ذلك.. قلنا: ولِمَ لا تذكرون الصالحين أبداً؟.. بل كلامكم خاص بقبر الرسول عليه الصلاة والسلام، ومقصور عليه مما أوهم العامة أن هناك نصوصاً وإرادة بالأمر بزيارة قبره صلى الله عليه وسلم على الخصوص [7] .
وقال الشيخ - وهو يروي لنا تأويل ابن حجر لحديث النهي عن شد الرحال -: وبتأمل كلام ابن حجر نجده يتضمن إجراء معادلة على نص الحديث بأن له حالتين فقط:
الأولى: أن يكون النهى منصباً على شد الرحال لأي مكان سوى المساجد الثلاثة من أجل الصلاة، وماعدا المساجد والصلاة خارج عن النهي، وعلى هذا تخرج زيارة القبور مع غيرها من الأمور الأخرى عن دائرة النهي.(16/466)
والثانية: أن يكون النهي عاماً لجميع الأماكن ماعدا المساجد الثلاثة وبلدانها، ولكن لا لخصوص الصلاة، بل لكل شيء مشروع بأصله..
إلى أن قال: ومن هذا كله السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا معارضة على حالة من الحالتين، ولا يتعارض مع ما معهما الحديث. انتهى كلام فضيلته باختصار وتصرف في بعض الكلمات مع الالتزام بالمعنى.
ونحن نناقش هذا الكلام من نواح:
الناحية الأولى: نحمد الله حيث إن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في غاية من البيان والوضوح؛ فلا نحتاج لفهمها إلى إجراء معادلات ولا استخدام فلسفات.
الناحية الثانية: لِمَ هذا التعويل على آراء ابن حجر دون غيره من علماء الأمة الإسلامية، خاصة السلف الصالح من لدن الصحابة إلى آخر القرون الثلاثة؟ [8] هل لم يتعرض لمعرفة وبيان معنى هذا الحديث أحد من أئمة الإسلام قبل ابن حجر؟.. بل لقد تعرضوا وفهموا وبينوا وعملوا بمقتضاه قبل ابن حجر، وقبل أن يستنبط فضيلة الشيخ معادلته الفلسفية من كلام الحافظ ابن حجر هذه.
الناحية الثالثة: من أين أتيتم ببلدان المساجد الثّلاثة وأدخلتم في الموضوع ما ليس منه؛ محاولين أن تجعلوا شد الرحل لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم مشروعة أو مباحة؟.. وما الدافع والحامل على هدا اللف والدوران يا فضيلة الشيخ؟.. هل الأمة واقعة في مشكلة صعبة تحاول أنت إيجاد حل لها وسبيل لخروجها من هذه المشكلة؟..(16/467)
لا داعي لهذا يا فضيلة الشيخ، أمور الدين واضحة جلية، وسنة محمد صلى الله عليه وسلم قد تركها بيضاء نقية، لا تشتبه على من قصد الحق بتجرد وإخلاص، ولا تلتبس لا في كلياتها ولا في جزئياتها على من ولى وجهه شطر كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما الذي يحدث المشاكل ويسبب البلبلة هذه الفلسفات وتلك التأويلات والتحريفات لنصوص الكتاب والسنة لتوافق مذهب فلان وتؤيد رأى علان، وإلا كيف يتصور أن عالما من علماء الأمة الإسلامية يدعي مشروعية شئ من غير دليل من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح؟.. ما الذي يحمله على ذلك؟.. هل يشعر بأن في دين محمد عليه السلام نقصا يريد أن يكمله؟..
والخلاصة:
أننا نقول ونعتقد جازمين مائة على مائة أن كل شئ ينفعنا عند الله إذا التزمنا به وعملنا بمقتضاه قد بينه لنا صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل بيان، فلا مكان في الدين لزيادة، ولا مجال فيه لفلسفة أو معادلة يراد من ورائها استنباط شرعيات قد خفيت على سلف الأمة وأئمتها.
أما المعنى الصحيح للحديث فهو الذي فهمه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم - بدون إجراء معادلة وبدون تكلفة وتمحل، وهو الذي بيناه فيما سبق من هذا البحث؛ فلا نعيده.
وقال فضيلة الشيخ بعد سياقه الكلام الذي تقدم:
(وجهة نظر) ، ثم قال تحت هذا العنوان: "وبالتحقيق في هذه المسألة وإثارة النزاع فيها يظهر أن النزاع والجدال فيها أكثر مما كانت تحتمل، وهو إلى الشكلي أقرب منه إلى الحقيقي، ولا وجود له عملياً".
ونناقش فضيلة الشيخ فنقول:(16/468)
1- هذا اتهام صريح للعلماء إما في عقولهم وأفهامهم، وإما في مقاصدهم وأغراضهم؛ إذ مادام أن الجدال شكلي كما تقولون، والخلاف فيها صوري لا وجود له في الواقع؛ فما الذي حملهم على هذا النزاع الطويل العريض؟ ثم من المتهم يا فضيلة الشيخ بإثارة الجدال وتطوير النزاع الذي ليس تحته من الحقيقة شيء؟.. نحن وجدناك في بحثك تميل إلى الرأي المخالف لما ذهب إليه ابن تيمية في هذه المسألة، فهل هو المتهم في نظركم؟..
2- مادام أن الجدال في هذه القضية صوري لا حقيقة له، فما الذي دعاك إلى أن تكتب صفحات عديدة، وتنفق وقتك وجهدك في البحث والتحقيق والتدليل والتعليل، والترجيح والمقارنة وإجراء المعادلات ونقل الإجماعات الخاصة والعامة؟.. لِمَ لمْ توفر على نفسك هذه الجهود وهذا الوقت الثمين، وتبدي وجهة نظرك هذه مسبقاً فتستريح وتريح؟..
3- ما الذي اشتملت عليه الرسائل التي ألفت من الطرفين، كما يقول الكرماني، وينقل عنه ابن حجر، وفضيلتكم عن بني حجر؟.. هل هو هذيان فارغ وسفسطة ليس لما معان؟..
إن كان كذلك فهل هذا ناتج عن سوء فهمهم أم عن سوء مقاصدهم؟..
4- ألستم بنفسكم - يا فضيلة الشيخ - تقولون: ولعل مذهب البخاري حسب صنيعه هو مذهب الجمهور في هذه المسألة؟.. أليس معنى هذا أنكم قد فهمتم أن في المسألة مذهبين، أحدهما للجمهور والثاني لغير الجمهور، والأول تبناه السبكي والثاني تبناه ابن تيمية- حسب تقريركم؟ أليس ابن حجر يقول - حسب نقلكم -:" أجمع الجمهور كان جواز شد الرحال..؟ "، أليس إذا قيل: مذهب الجمهور كذا؛ فمعناه أن في المسألة مذهبين؟(16/469)
فكيف بعد ذلك ظهر لفضيلتكم أن لا شيء من هذا، وإنما هو في الحقيقة مذهب واحد؟.. وأي المذهبين يا فضيلة الشيخ بدا لكم أنه لا وجود له؟.. هل هو مذهب ابن تيمية ومن وافقه الذي في سابق تقريركم ومناقشتكم أنه مذهب شاذ حادث بعد مضي سبعة قرون من تاريخ الإسلام؟.. أم مذهب السبكي ومن وافقه الذي قررتم فيما تقدم من بحثكم أنه مذهب الجمهور.؟.
ثم أخذ فضيلته يشرح وجهة نظره تلك فقال:
وتحقيق ذلك كالآتي وهو: ماداموا متفقين على شدّ الرحال للمسجد النبوي للسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومتفقون على السلام على رسول الله بدون شد الرحال، فلن يتأتى لإنسان أن يشد الرحال للسلام دون المسجد، ولا يخطر ذلك على بال إنسان، وكذلك شد الرحل للصلاة في المسجد النبوي دون أن يسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لن يخطر على بال إنسان، وعليه فلا انكفاك لأحدهما عن الآخر؛ لأن المسجد النبوي ما هو إلا بيت، وهل بيته صلى الله عليه وسلم إلا جزء من المسجد، كما في حديث الروضة.
ومناقشتنا لفضيلة الشيخ هنا في نقاط، علماً بأنني والله لا أرى هذا الكلام يستحق المناقشة:
1- لماذا (متفقين.. متفقون) ، أليست الثانية معطوفة على الأولى بالواو؟.. أليس التعاطف يقتل الاشتراك في الإعراب؟..
2- تقولون يا صاحب الفضيلة: إنهم متفقون على شد الرحال للمسجد النبوي للسلام على رسول الله.. أرجوكم إعادة النظر من الآن في هذا الكلام للطبعة القادمة إن شاء الله؛ لأن الواقع الذي هو موضوع البحث من أوله إلى آخره هي هذه النقطة، فلو كانوا متفقين عليها لم يجر شيء من هذا الخلاف أبداً، ولا ألّفت مؤلفات من الجانبين، ولا صار هناك مذهب للجمهور ومذهب لغير الجمهور كما قررتم، ولا سجن شيخ الإسلام ابن تيمية، ولا قام العلماء في بغداد وغيره للانتصار له والشهادة بأنه على الحق، كما قدمنا نقل ذلك من مصادره.(16/470)
بل الصحيح أيها الشيخ أنهم متفقون على زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمكن ذلك بدون شدّ رحل، ومتفقون على مشروعية شد الرحال لزيارة المسجد النبوي للصلاة فيه، لا لزيارة القبر.
أما شد الرحال للمسجد النبوي للسلام فموضع خلاف وافتراق لا موضع اجتماع واتفاق.
نقول لفضيلته: ما معنى قولكم (فلن يتأتى) ؟ هل معنى ذلك أنه مستحيل؟.. فما وجه استحالته؟..
أنا نفسي مستعد أن أثبت لك أنه ممكن بكل سهولة ويسر؛ فأنني لا أجد أي مانع أو مشكلة لأن آتي عند القبر الشريف وأسلم وأنصرف دون أن أصلي، ودون أن أجلس؛ حتى لا تلزمني تحية المسجد ودخول المسجد ثم الخروج منه بدون صلاة لا فائدة منه، فوجوده وعدمه سواء، وإنما أفعل ذلك من أجلك، حتى إنه يتأتى وغير مستحيل كما تصورت، وكذلك باستطاعتي أن أقف خارج المسجد، وأسلم على رسول الله ثم أنصرف دون أن أدخل المسجد.
فإن قلتم: بذلك لا تكون قد زرت ولا تعتبر قد سلمت لأنك بعيد، أجبتكم بأن قلت: أرأيتم لو أن حائط الحجرة الموجود حاليا ألصق بجدار المسجد الشرفي وبجداره القبلي، هل تتوقفون عن زيارته - عليه السلام - والسلام عليه لأن القبر صار بعيدا؟.. إن قلتم نعم، قلنا: موقفكم الآن للسلام بعيد؛ لأن بينكم وبين القبر مسافة ليست بقليلة، بل إن فضيلتكم قررتم أن رد السلام منه - عليه السلام - يحصل لمن سلم داخل المسجد، ولم تحددوا مكانا معينا محدودا من المسجد، والمكان الذي قلت إنني أقف فيه خارج المسجد وأسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرب إلى القبر الشريف من أكثر نواحي المسجد.
تم يقول فضيلته: ولا يخطر ذلك على بال إنسان.(16/471)
من الذي يعلم يا فضيلة الشيخ ماذا يخطر في قلوب الناس، وعلى بال كل واحد من بني آدم سوى خالقهم تبارك وتعالى؟ فعلى أي أساس بنيت هذا الجزء المؤكد؟.. حتى ولو كان ذلك كفرا يخرج من الملة الإسلامية فقد خطر الكفر على بال مئات الملايين من البشر؛ ألست ترى أن أكثر أبناء المسلمين، وأن الملايين من المنتسبين للإسلام قد ضيعوا الصلاة، ومنعوا الزكاة، وارتكبوا الفواحش والمنكرات؟.. أليس كل واحد منهم يسمى إنسانا؟.. فلماذا مسألتك هذه لا تخطر ولن تخطر على بال إنسان؟.. أرأيت لو علتم أن شخصا وصل المسجد النبوي قادما من مصر أو الشام أو أي قطر من أقطار الأرض، وصلى فيه ركعتين أو أكثر، ثم سافر ولم يأت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا سلم عليه السلام الخاص الذي يقال عند القبر، ولكنه يصلي ويسلم على نبيه في صلاته وعند دخول المسجد وعند الخروج منه وعند ذكره وفي كل مناسبة؛ فبماذا تحكمون عليه يا فضيلة الشيخ؟.. أتقولون: إن ذلك لن يتأتى، نقول لكم: قد تأتى ووقع فعلا، أتقولون إن ذلك لن يخطر على بال إنسان.. نقول لكم: خطر على باله ووقع منه، أتقولون إنه كفر بذلك؟.. نقول لكم: لم يكفر، ولم يرتكب كبيرة من الكبائر ولا صغيرة من الصغائر؛ فمن زعم غير ذلك فعليه الدليل ودون ذلك الدليل خرط القتاد.
ثم ما معنى قولكم يا فضيلة الشيخ: "فلا انفكاك لأحدهما عن الآخر"، وأنتم تعنون إتيان المسجد النبوي للصلاة فيه، وزيارة القبر الشريف، فعدم الانفكاك هذا هل هو لأمر شرعي أم لأمر عقلي؟.. ومرة أخرى هل أخذتم هذا الحكم من شرع الله المنزل على رسوله؟.. فلماذا لم تذكروا دليلكم على ما قلتم، وبه حكمتم؟.. هل خطابكم وبحثكم موجه إلى العامة فقط؟ ولا نصيب فيه لطلبة العلم.. إن كان كذلك فقد أجحفتم يا فضيلة الشيخ في حق طلبة العلم، وتجاهلتم حصتهم في الفائدة..(16/472)
أم أنكم أخذتم هذا الحكم من مقتضى العقل؟.. فلو تكرمتم فبينتم وجه استحالة هذا الانفكاك من الناحية العقلية؛ لأني بحثت مع عدد لا بأس به من طلبة العلم في هذا الموضوع، والتمسنا وجه عدم الانفكاك بين وصول المسجد النبوي والصلاة فيه، وبين زيارة القبر النبوي؛ بحثنا ذلك من الناحية الشرعية ومن الناحية العقلية؛ فلم يظهر لنا شئ من ذلك.
الخلاصة:
وخلاصة القول هنا أن فضيلة الشيخ أراد أن يقضي على مشكلة طالما استثارت النقاش والجدال بين المتمسكين بالسنة المتقيدين بالنصوص الشرعية- خاصة في أمور العبادات - من جانب، وبين غيرهم ممن تهاونوا في أمر البدع وتساهلوا معها، بل وحاولوا أن يجعلوا من بعض البدع سننا يلزم الناس بها، ويهاجمون ويتهمون إذا لم يقبلوها أو طولبوا بالدليل على أنها من دين الإسلام - من جانب آخر.
أراد الشيخ أن يقضي على هذه المشكلة، ويوجد الرأي تجاه تلك المسألة بجرة قلم، وبكلمات لا تبلغ العشرة أسطر، ونحن نقول: بارك الله فيك، ونحن من ورائك ضد الخلاف وضد أسبابه، ولكن بشرط - يا فضيلة الشيخ - أن يكون المذهب المقبول الذي نبني عليه هو المذهب المتمشي مع السنة، والذي عليه سلف الأمة، ولو لم يكن هو الموافق لعواطف العامة والمناسب لأذواقهم.
ويقول الشيخ حفظه الله: لأن المسجد ما هو إلا بيته - صلى الله عليه وسلم -، وهل بيته إلا جزء من المسجد؟ كما في حديث الروضة: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة".. ثم قال: فهذه قوة ربط بين بيته ومنبره في مسجده.(16/473)
وهنا نناقش فضيلته فنقول: المسجد النبوي ليس هو بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو بيت الله ومسجد رسوله، وبيت الإنسان غير مسجده، وبيته - عليه السلام - ليست جزءا من المسجد لا قبل وفاته - عليه السلام - ولا بعد وفاته ودفنه فيه، فداؤه آباؤنا وأمهاتنا وأنفسنا وأبناؤنا، ماذا لو كان الأمر كما زعم لكان الرسول وصاحباه مدفونين في المسجد، وهل يجوز دفن الأموات في المساجد واتخاذها مقابر؟.. أبعد الله ذلك اليوم الذي تصبح فيه مساجدنا مقابر، مثلما وقع في بعض البلاد الأخرى، ولو كان بيته جزءا من المسجد ما ساغ أن يقع فيه ما لا يليق بالمساجد كقضاء الحاجة؛ إذ المساجد لا يليق بها إلا العبادة من صلاة وتلاوة وذكر، وما يمت إلى ذلك بصلة من مدارسة علم وبحث شؤون المسلمين ونحو ذلك، وهو صلى الله عليه وسلم كان يقيم قي بيته مع أهله ليلا ونهارا ويقضي حاجته، ولا يفعل هذا في جزء من المسجد، وكان - صلى الله عليه وسلم- إذا اعتكف خرج من بيته ودخل المسجد؛ فلو كان بيته جزءا من المسجد كما زعم فضيلة الشيخ لما احتاج- عليه السلم- إلى أن يترك البيت من أجل الاعتكاف.(16/474)
أما إن كان قصدكم بعد وفاته ودفنه – عليه الصلاة والسلام -، وبعد إحاطة المسجد بالحجرة بعمل وتدبير حاكم لم يراجع الشرع، ولم يستثر علماء الأمة الإسلامية في عمله هذا - وهذه من الأدلة العديدة التي عرفنا منها أنكم تعتبرون الواقع دليلا على الشرع، مع أن الواجب أن يقاس الواقع بالشرع؛ فإن أقره ووافقه فهو شرعي وإلا فهو عمل باطل ينبغي رده والقضاء عليه - إن كان ذلك هو قصدكم - يا فضيلة الشيخ - فنحن نفيدكم أن الحجرة لا تزال ولن تزال إلى يوم القيامة ليست من المسجد ولا جزءا من أجزائه؛ لأن في داخلها مقبرة، والمقبرة لا تكون مسجدا شرعيا أبدا، والصلاة فيها باطلة بنص الحديث النبوي الصحيح بل إن من اتخذ المقبرة مسجدا فهو ملعون على لسان سيد الخلق محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أما استدلالكم بحديث الروضة على أن المسجد هو نفسه بيت الرسول، وأن بيت الرسول جزء من المسجد فأنتم باستدلالكم هذا كمن يحاول أن يجعل من خيوط العنكبوت أربطة للسفن الكبيرة حتى لا تذهب بها أمواج البحار.
ألا تعلم يا فضيلة الشيخ أن الغاية لا تدخل في المغيَّى؟.. إنني أفهم من حديث: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" أن الموصوف هو المساحة الواقعة ابتداءً بجدار المسجد الملاصق للحجرة وانتهاءً بالمنبر، والمنبر يدخل في تلك المساحة الموصوفة؛ لأنها تحيط به لصغر حجمه ولوجوده داخل المسجد، وقد لا يدخل المنبر، الله أعلم؛ لا نجزم بهذا قطعا ولا بهذا قطعا، وإنما نقول ما يترجح في نظرنا والعلم عند الله.
وقال الشيخ: "ومن ناحية أخرى هل يسلم أحد عليه - صلى الله عليه وسلم- من قريب؛ لينال فضل رد السلام منه - عليه السلام - إلا إذا كان سلامه عن قرب ومن المسجد نفسه".(16/475)
نقول يا فضيلة الشيخ: هذا كله من تخيلاتك وتصوراتك الخاصة ولا مستند له من شرع ولا من عقل، وقد أجبنا على هذا مفصلا في ما تقدم من هذا البحث فلا داعي لتكراره.
تم قال الشيخ: "وهل تكون الزيارة سنية إلا إذا دخل المسجد وصلى أولا تحية المسجد؟.."
نقول: إن أردت زيارة المسجد فأنت صادق، والواقع كما قلت، لا تكون الزيارة سنية شرعية إلا إذا دخل المسجد وصلى فيه، أما مجرد أن يصل المدينة ثم يرجع دون أن يدخل المسجد ويصلي فيه؛ لا يعتبر ذلك قد زار المسجد ولا يعد منتفعا بتلك الزيارة.
إما إن كنتم تعنون بالزيارة السنية زيارة القبر، وأنها لا تكون سنية إلا بأن يدخل الإنسان المسجد فيصلي ثم يزور؟.. فمن هو الذي وضع هذه السنة؟.. هل علمها الرسول- صلى الله عليه وسلم- أصحابه في حياته؟.. فقال: إذا أنا مت فادفنوني في المكان الفلاني ثم زوروني وسلموا علي، وإذا وصلتم المدينة فادخلوا المسجد أولا ثم صلوا كذا وكذا، ثم توجهوا إلى قبرى للزيارة والسّلام؟.. هل قال الرسول ذلك ... دلونا على المرجع الذي روى فيه هذا الحديث من كتب السنة، ولكم ألف شكر.
أم هي سنة تقررت بعد وفاته - عليه السلام- فمن الذي قررها بالله عليكم؟.. وهل لأحد بعد رسول الله وبعد انقطاع الوحي من قبل السماء أن يسن في الدين سننا ويقرر شرائع؟.. لا حول ولا قوة إلا بالله.
ربما يقول الشيخ: نعم، الخلفاء الراشدون لهم أن يشرعوا بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدليل "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" الخ..(16/476)
إن قال ذلك قلنا أولا الخلفاء الراشدون ما ثبت عنهم تشريع شدّ الرحال لزيارة القبر، ولا بقولهم ولا فعلهم، وثانيا هم لا يشرعون من عند أنفسهم ولكن المراد بسنتهم طريقتهم وهديهم في الاجتهاد في فهم نصوص الشرع وتقرير الأحكام المستمدة من نصوص الوحي وسياستهم للدولة الإسلامية في أحوال حربها وسلمها وسائر أحوالها، ولذلك خصّ الخلفاء دون غيرهم ممن قد يكون في مستواهم علما وصلاحا.
تم قال الشيخ: "وبهذا فلا انفكاك لشد الرحال إلى المسجد عن زيارة الرسول- صلى الله عليه وسلم- ولا لزيارته عن المسجد؛ فلا موجب لهذا النزاع".
ونحن نقول لفضيلته: إن الذين تنارعوا أعلم بدين الله، ولو أن النزاع لفظي - كما توهمتم - لما تنازعوا، ولكنهم فهموا في الموضوع غير ما فهمتم فضيلتكم، ومن ضمن ما فهموا "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.." الخ الحديث؛ لهذا قال مَنْ لا يرى جوار شد الرحال لزيارة القبور: إن من جمع في نيته زيارة المسجد وزيارة القبر فقد جمع بين مشروع وممنوع، ومن ثم له أجر المشروع وعليه إثم الممنوع، ولم يوافقوكم على أن الممنوع يشترك مع المشروع فيؤجر على الجميع، بل هذا فهمكم الخاص، ولهذا قلتم. فلا موجب لهذا النزاع.
أما الذين يوافقونكم على أنه لا داعي ولا مبرر للنزاع فيه فهو بالنسبة لمن سافر ناويا زيارة المسجد النبوي للصلاة فيه، ولم يدخل في نية سفره زيارة القبر، وبعد أن يصل إلى المسجد ويصلي ركعتين أو أكثر يتوجه إلى القبر، فتكون بداية نية زيارة القبر بعد وصول المسجد والصلاة فيه؛ حتى لا يكون لها نصيب من السفر البعيد وشد الرحال؛ هذه الصورة هي التي لا مجال للنزاع فيها، وفعلا لم يحدث ولم يحصل فيها نزاع بين ابن تيمية وخصومه، أما من قبلهم فقد بينا مذهبهم.. والحمد لله رب العالمين.
--------------------------------------------------------------------------------(16/477)
[1] يفهم من كلام الكاتب ومن كلام السهسواني الذي نقل عنه أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم غير مشروعة، ولم تثبت عن أحد من السلف مطلقا، وأن مجرد إتيانه يعتبر اتخاذه عيدا.
وهذا خلاف ما يدل عليه عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزروها فإنها تذكر الآخرة"، وقد خلط الكاتب - عفا الله عنه - بين حكم شد الرحال وبين حكم زيارة القبر نفسه، والفرق واضح بين الحكمين لمن تأمل؛ لأن شد الرحال غير جائز لقصد القبر عند التحقيق، أما زيارة القبر بدون شد الرحال فمشروعة، والله أعلم.. "المجلة".
[2] بل الحديث الصحيح وهو "كنت نهيتكم.. الخ"، يدل على عكس ما يراه الكاتب، وما نفل عنهم وسماهم أئمة، وقد أثبت شيخ الإسلام ابن تيمية الحق الذي دل عليه الحديث المذكور، والعجيب من الأمر أن الكاتب نقل كلام شيخ الإسلام في هذا المعنى في نفس هذه الصفحة، ثم تركه دون تعليق، ونقل كلام من تبنى فكرتهم من عدم مشروعية زيارة القبور مطلقاً، وأنه عمل غير صالح وحبذه، ودعا إليه كما ترى 00"المجلة".
[3] بل الصواب هو ما ذكر في التعليق رقم (1) .. "المجلة".
[4] الصحيح ما تقدم أن مالك يكره مطلق الزيارة لا التلفظ بها، أما شد الرحال لها فقد صرح بتحريمه كما تقدم في أكثر من موضع من بحثنا هذا. المجلة.. (بل الصحيح أن الزيارة مشروعة بدون شد الرحال ولا معنى لكراهتها لفظا ولا معنى، ولا تفهم كراهة مطلق الزيارة من قول مالك المشار إليه، كيف وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: "ألا فزوروها" في الحديث الذي تقدم ذكره في التعليق السابق.
[5] على حد زعمهم.(16/478)
[6] أما مشروعية زيارة القبور بما في ذلك قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم - بدون شد الرحال - فقد سبق أن ذكرنا في تعليقاتنا السابقة دليلها بالحديث الصحيح: "كنت نهيتكم ... الحديث"، كما نوهنا على أن شد الرحال غير جائز لغير المساجد الثلاثة؛ عملا بحديث: "لا تشد الرحال ... الحديث" والذي يلاحظ أن الكاتب يقع أحيانا في الخلط بين الأمرين. "المجلة".
[7] ولماذا أمر عمر رضى الله عنه بإخفاء قبر (دانيال) - عليه السلام - حين وجد جثمانه في بلاد فارس؟ أليس نبيا كنبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟ لِمَ لَمْ يترك قبره معلوماً للمسلمين ليزوروه ويفعلوا عنده كالذي يفعل الناس اليوم عند قبر نبينا عليه السلام؟ أيريد عمر أن يحرم المسلمين من هذا الخير العظيم؟.
[8] بل الأربعة.(16/479)
وجوب إنكار المعاملات الربوية
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله رب العالمين.. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.. نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد..
فمن الظواهر السيئة التي برزت في صحفنا الدعوة إلى الربا، ومن ذلك ما نشر بجريدة الجزيرة عدد (2263) وتاريخ 11 شوال عام 1398هـ تحت عنوان (خططنا للضمان الممتاز) ، وكذلك ما جاء من الدعوة إلى الربا في الصحف والمجلات المحلية.
وهذه المعاملات من الربا المحرم بالكتاب والسنة والإجماع، وقد دلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على أن أكل الربا من كبائر الذنوب، ومن الجرائم المتوعد عليها بالنار واللعنة.. قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} .(16/480)
ففي هذه الآيات الدلالة الصريحة على غلظ تحريم الربا، وأنه من الكبائر الموجبة للنار، كما أن فيها الدلالة على أن الله سبحانه وتعالى يمحق كسب المرابي ويربي الصدقات، أي: يربيها لأهلها وينميها حتى يكون القليل كثيرا إذا كان من كسب طيب، وفي الآية الأخيرة التصريح بأن المرابي محارب لله ورسوله، وأن الواجب عليه التوبة إلى الله سبحانه وأخذ رأس ماله من غير زيادة.
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: "هم سواء".
وهذه المسألة التي كثرت الدعاية لها في الصحف والمجلات من المسائل التي بحثها مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وهذا مضمون ما قرره: "وضع الأموال في البنوك لأخذ فائدة ربوية بنسبة معينة يحصل عليها صاحب المال من البنك ونحوه، ويدفعها له إما بعد مضي الأجل الذي يتفق عليه، وإما عند سحب المال فيدفع له ما اتفق عليه من الربا الذي سمي ربحا أو فائدة.. وهذا ربا صريح حرمه الله ورسوله وأجمع سلف الأمة الإسلامية على تحريمه، وتسميته وديعة أو باسم غير ذلك لا يغير من حكم الربا المحرم فيه شيئا؛ فقد جمع ربا الفضل وربا النسيئة؛ لأنه بيع نقود بنقود نسيئة بزيادة ربح ربوي إلى أجل". انتهى.(16/481)
والواجب على ولاة الأمور وعلى علماء الإسلام في كل مكان إنكار مثل هذه المعاملات الربوية والتحذير منها، كما أن الواجب على وزارة الإعلام منع نشر هذه المعاملات الربوية والدعاية إليها في جميع وسائل الإعلام؛ عملا بقول الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .. وقوله سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .. وقوله عز وجل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} .. وقوله سبحانه: بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} .
وبالله التوفيق.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه..
- خير الكلام كلام الله.
- خير الهدى هدى رسول الله.
- خير القصص قصص القرآن.
- خير الأمور عواقبها.
- شر الأمور محدثاتها.
- شر العمى عمى القلب.
- شر الضلالة الضلالةُ بعد الهدى.
- شر المعذرة معذرة العبد حين يحضره الموت.(16/482)
تعقيب لا تثريب
لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين
من عثرات الأقلام والأوهام:
أسوأ ما يتعرض له المشتغلون بالعلم، وخاصة ما يتصل منه بالنواحي الشرعية وتاريخ الإسلام، هو استكانتهم للكسل الذي يدفعهم إلى إرسال الأحكام دون تدقيق ولا تحقيق.
وقد أسلفنا في ما قدمنا من بحوث في هذا الباب (تعقيب لا تثريب) بعض النماذج الحية عن ذلك الوهن، الذي لا يسيء فقط إلى أصحابه، بل إنه ليسيء إلى الحقيقة التي يتصدرون للحديث عنها.
وها نحن أولا.. نقف عند تعقيب اليوم على نماذج من هذه الظواهر التي تفوق بوفرتها جهد المعقب، بالغا ما بلغ من الصبر والمتابعة، وكل ما نرجوه هو أن نوقظ بهذه الملاحظات وأخواتها همم هؤلاء الفضلاء، حتى لا يسمحوا لأنفسهم باتباع الظن، الذي لا يغني من الحق شيئا، ولئن قصر بنا الجهد عن استيفاء الأخطاء فحسبنا بذل الاستطاعة، والعجز صفة الإنسان، وقديما قيل: "ما لا يدرك كله لا يترك جله"..
1- أخرج البيهقي عن طريق إبراهيم بن عبد الرحمن الغدرى مرسلا، أن رسوله الله صلى الله عليه وسلم قال: "يحمل هذا العلم من كل خَلَفٍ عدُولُه؛ ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين" [1] .
وهذا الحديث الشريف يعتبر من جوامع الكلم، ومن الإشارات الخطيرة إلى مستقبل الإسلام، ومسيرة الدعوة الربانية.
ولكي يتضح المضمون العظيم لهذا البلاغ النبوي يحسن بالباحث إبراز بعض دقائقه ليكون القارئ على بينة مما سنقصه عليه.(16/483)
فالرسول - صلوات الله وسلامه عليه - يبشرنا أن حقائق هذا الدين الحق ستظل أبدا مشمولة برعاية الله، الذي يقيض لحراستها مدى الدهر طائفة من خيرة عباده المميزين بالعلم والعدالة والشجاعة، التي تؤهلهم للشهادة على الناس، وتصحيح ما يتعرض له دينه من انحرافات على أيدي المفسدين من المضللين والمضلَّلين.. وهو نفسه المعنى الذي يحمله الحديث المتفق عليه الذي يقول: "لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك" [2] .
وعن كلا الأثرين الشريفين تفصيل مجمل في قوله تعإلى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ؛ ومعلوم أن من أهم صور الحفظ لكتاب الله تجرد فئة من المجاهدين في سبيله يحبسون وجودهم على حماية دين الله من تحريف الغالين، الذين لا يرتضون ما أنزل الله وبلغ رسوله، فيتصيدون له الزوائد من هنا وهناك، حتى تغيب حقائقه وراء حجب البدع، ومن انتحال المبطلين، الذين يشرعون لأتباعهم من الدين ما لم يأذن به الله؛ فما يزالون بهم حتى يخرجونهم من نور الحق إلى ظلمات الباطل، ومن تأويل الجاهلين، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
ذلك كله أول ما يواجه الناظر في خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حملة هذا العلم.. فهم ورثة السلف الصالح في الحفاظ على تراث النبوة صافيا لا تخالطه الشوائب، وهم حجة الله القائمة على عباده حتى يرث الله الأرض وما عليها.(16/484)
ومع ذلك فقد سمعنا من متحدثي بعض الإذاعات من يجهله عن تبين الحقيقة في هذا الحديث الشريف؛ فإذا هو يحرف الكلم عن موضعه؛ فيقرأ قوله صلى الله عليه وسلم: "عدوله" - وهو جمع عدل.. أي الدقة الضابط الصدوق - يقرؤه (عَدوُّ له) من العداوة، فيجعل حملة هذا الدين هم (أعداءه) لا (عُدُوله) .. تم يمضي في منحدره هذا مفسرا الحديث على النحو الذي يتفق مع زلته.. فما زال يتخبط حتى استوفي دقائقه المقررة في لغو لا مفهوم له..
هذا المحدث يحمل مؤهلا من أقدم جامعة في العالم الإسلامي، وكان من قبل أحد المفتين، وإن يكن ذلك منصبا تشريفيا لا يُشترط له العلم في بلده، وقد امتحنه الله بالوزارة، فلأحاديثه صفة التقارير الرسمية التي لا تقبل الرد.. ولعله بدافع من هذه الحصانة يرى من حقه أن ينطلق على هواه؛ فيقول في حديث رسول الله ما يحضره من قول، دون ما حاجة إلى روية أو تأمل.. وقد نسى أن المفسر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعدو كونه مفتيا يؤدي شهادته بأن ذلك هو مراده صلوات الله وسلامه عليه، وأن الغالط في تلاوة ما يروى عنه يعتبر واحد من الكاذبين عليه، الذين أنذرهم بمقعدهم من النار؛ لأنهم استراحوا إلى الكسل، فلم يكلفوا أنفسهم جهدا التيقن من الواقع، ولم يرجعوا إلى أهل الذكر في الاستيثاق من سلامة اللفظ وصحة المضمون، وهم على ذلك قادرون، لكنهم استهانوا بواجب العلم، ولم يفطنوا إلى أنهم عن الله ورسوله يتحدثون.
والغريب في أمر هذا المتحدث أنه قرأ كلمة (خلف) من الحديث على وجهها الصحيح، ثم لم ينتبه إلى التضاد المعنوي القائم بينها وبين لفظ (عدو) ؛ لأن الخلف - بفتح اللام - لا يكون إلا في معرض الخير، فلا تكون منه العداوة، وإنما تأتي العداوة من (الخلف) بسكون اللام، الذي لا يكون إلا في الشر، ومن ذلك قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ..} (19/59) .(16/485)
فليت هذا الوزير قد تذكر بعض ما قرأه أيام الطلب من أخبار السلف عن مواقفهم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ليته يقرأ نبأ مالك إمام المدينة رحمه الله؛ إذ كان يستوضح زواره عما يريدون من العلم، فإذا طلبوا الفقه خرج إليهم دون كبير احتفال؛ لأن الفقه فهم يتوصل إليه الرجال، فإذا كان المطلوب هو الحديث لم يواجههم حتى يغتسل ويتهيأ له بما يليق بلقاء رسول الله من الإجلال..
وأغلب الظن أن معالي الوزير سينفي عن نفسه ما قصصناه عنه تنزها عن مثله.. غير أنه لا مندوحة له عن التفكير مليا قبل إقدامه على النفي؛ إذ يتذكر أن حديثه (العالي) مسجل، وسيتعذر عليه إزالته، فخير له أن يعود لتصحيح خطئه من الإذاعة نفسها، وبذلك نكون له مع السامعين من الشاكرين.
2- وهذا رابع الوزراء الذين قدر لنا أن ننبه إلى بعض أغاليطهم في هذا التعقيب.
كتب فضيلته ذات يوم - في مجلة إسلامية محترمة تصدر برعايته - حديثا تناول فيه بعض مشاهد السيرة النبوية الطاهرة، وكان مما تعرض له خبر الصحيفة الظالمة التي سجل فيها المشركون اتفاقهم على مقاطعة نبي الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين والمؤيدين.. حتى إذا صار الكلام عن نقضها ألقى الشيطان على قلمه أن بعض المطلعين قد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بسطو الأرضة على الصحيفة حتى لم تدع فيها سوى اسم الله..
ولما روجع معاليه في ذلك، وطولب بذكر المراجع الذي استند إليها في روايته الغريبة تلك، جاء جوابه أكبر من غلطته؛ إذ اسند الخبر إلى أحد المستشرقين..
ونعود إلى خبر الصحيفة في كتب السيرة وغيرها من المؤلفات المعتبرة؛ فلا نجد أصلا لهذا القول.
والمحقق في أمر نقضها أنه جاء نتيجة تعاون بعض ذوى الغيرة من قريش، الذين آلمهم ما رأوا من أثر المقاطعة في أقربائهم؛ فاتفقوا على القيام بنقضها، على الوجه الذي أثبتته تلك الكتب..(16/486)
أما الرواية التي تقول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر عمه أبا طالب بتسليط الله الأرضة على الصحيفة؛ فقد أوردها المحققون - كابن هشام وابن القيم وابن كثير - على أنها وصلت إليهم على لسان (بعض أهل العلم) دون أن يسندوها إلى راو بعينه..
ومهما يكن من أمر فقد كان على معالي الوزير أن يرد الخبر إلى موضعه من كتب السيرة، ولو فعل لما تورط في نسبته إلى مستشرق؛ لأن الخبر في مصادره الأساسية معروض على أنه مستند إلى الوحي، الذي أنبأ رسول الله بفعل الأرضة، فأنبأ رسول الله عمه بذلك..
وإنه لمن المفارقات المؤسفة كل الأسف أن نأخذ أخبار السيرة النبوية عن مستشرق أو مستغرب، وبين أيدينا أكداس المصنفات التي كتبها الثقات عن حياة نبي الله صلى الله عليه وسلم؛ فلا تزال تمد المفكرين والباحثين كل يوم بالكنوز التي لا تنفذ من تراثنا العظيم.
3- وفي حديث إذاعي لأديب معروف عن غزوة الخندق يقول: (لقد انفض القوم يومئذ من حول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى لم يبق معه سوى ثلاثمائة فقط..
ولا جرم أن تحديد عدة المسلمين بثلاثمائة لا معتمد له نقلا ولا عقلا؛ فالعدو قد زحف على المدينة بعشرة آلاف مقاتل من قريش وأحابيشهم ومن تبعهم من كنانة وتهامة وغطفان.. فمن غير المعقول أن يخرج المسلمون لمواجهتهم بذلك العدد الضئيل وهم قادرون على تعبئة أكبر.. فكيف وقد أجمعت كتب السيرة على أن عدد المسلمين لم ينزل يومئذ عن ثلاثة آلاف [3] .(16/487)
وقد يفهم من كلام صاحب الحديث أن الثلاث المئات هم الذين بقوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد المنفضين، وهو رأي مردود أيضا؛ لأنه يعنى أن كثرة الخارجين مع الرسول كانوا يومئذ من المنافقين الذين جعلوا يتسللون لواذا زاعمين أن بيوتهم عورة، ولو صح هذا التوهم لطمع المنافقون بالقلة المؤمنة، ولأسرعوا بالاتفاق مع الغزاة على استئصال الإسلام.. وإنما منعهم من ذلك يقينهم بضعفهم، وبخاصة بعد غزوة أحد التي كشفتهم، إذ لم يتجاوزون المئات الثلاث ثم جعلوا يتناقصون بما شرح الله صدور بعضهم للإسلام، حتى لم يبق حول رأسهم ابن سلول إلا القليل الذي لا يؤبه له..
والحديث عن يوم الأحزاب يستدعى التوقف عند ذكر نعيم ابن مسعود - رضى الله عنه - الذي كان له دوره الفعال في مصير الغزوة، وتخذيل المتخالفين من أهل الشرك ويهود قريظة.. ولكنه لفظ اسمه بفتح النون، وهو مضبوط في سيرة ابن هشام، بضمها على التصغير.
ولعل الأديب الفاضل يستدرك هاتين الهفوتين عندما يتجه لنشر أحاديثه النافعة في كتاب نرى أن يكون مخرجه قريبا إن شاء الله.
4- وللعربية - لغة القرآن العظيم ووسيلة الدارس إلى فهم مراد الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم - حظها من أغاليط الكتاب والمؤلفين أيضا، فضلا عن عدوان الكارهين لها المؤتمرين بها.. فلها من أجل ذلك على الأقلام المؤمنة حق الدفاع عن حياضها ما وجدوا إلى ذلك سبيلا، وسأضع بين يدي القارئ في هذا التعقيب بعض النماذج لما نواجهه من هذه الأغاليط.
في كتاب يقدم نفسه بعنوان: (طريق النجاح في القواعد والإعراب) وجدتنى أطالع في بعض تدريباته البيت التالي:
ثُبْت أن أبا قابوس أوعدني
ولا قرار على زأر من الأسد
ثم يليه هذا الشرح العجيب: لقد أخبرني الناس بأن أبا قابوس يتوعدك وينذرك؛ فقلت لهم: ألقوا عنكم هذا، فأبو قابوس ووعيده لا يساوى عندي جنح بعوضة!..(16/488)
وأنا هنا لا أحب أن أحاسب المؤلف على أسلوبه السوقي في التعبير عن مفهومه للبيت، ولكنى أكتفي بالإشارة إلى بعده الشاسع عن غرض الشاعر.. ولو هو عاد إلى ديوان النابغة وتعقيبات شراحه من اللغويين لعلم أنه إنما يصف خوفه الشديد من أبي قابوس الذي أنذره بالقتل، ويعتذر عن هذا الخوف بتشبيه ضمني يجعل أبا قابوس بمنزلة الأسد الذي يرسل زئيره؛ فلا يجد سامعه سبيلا إلى الاطمئنان على نفسه.
ومن هذا الضرب عمله في تدريب آخر حول معنى البيت التالي:
وترمينني بالطرف أي أنت مذنب
وتقليننى.. لكن إياك لا أقلي
فيقول في شرحه: "لقد نظرت إلي نظرة بطرف عينها اننى مذنب.. وإنني لأعجب كيف تتمكن من هجري، مع أني لا استطيع اصطبارا على فراقها"..
ويلاحظ كل ذي صلة بالبيان العربي أن الشارح لم يزد على أنه شوه مراد الشاعر، عن الركاكة التي لا تتوقع من مبتدئ فضلا عن مؤلف يقيم من نفسه ملعما حتى للجامعيين..
ووارحمتاه للعربية!..
5- ويذكرني هذا بموقفين مشابهين عرضا لي أثناء تدقيق امتحان الشهادات في بلد عرني مجاور قبل بضع عشرة سنة؛ ذلك أني اختلفت مع ممثل لجنة الأدب حول قول شوقي - من النص المقرر على الطلاب:
منت بالله واستثنيت جنته
دمشق روح وجنات وريحان
فقلت: علينا أن نتفق أولا على رأي الشاعر بشأن الجنة كي نعرف أي الإجابات تقبل وأيها يرفض.
فقال سيادة الممثل: الأمر أوضح من أن يختلف عليه، إن شوقيا يستثنى الجنة من إيمانه، ويعتبر دمشق هي الجنة..
قلت: بهذا تخرج شوقيا من حظيرة الإسلام على الأقل؛ إذ لا يصح إيمان بالله مع إنكار ما أخبر به.. وعرضنا الأمر على اللجنة؛ فكلهم وافق رأيه دون استثناء، حتى أخذت أذكرهم بما أورده الشاعر في القصيدة نفسها من دلائل إيمانه بالجنة ومحتوياتها.. فإذا هم ينفضون من حوله، إلا صديقا لي كان شريكي في تأليف أحد كتب الأدب!..(16/489)
أما الموقف الثاني فمع رأي آخر للمثل نفسه في كتاب له يدرس في السنة النهائية من القسم الثانوي؛ إذ أورد قول المعري من لزومياته:
لو كان لي أو لغيري قيد أنملة
من التراب لكان الأمر مشتركا
فراح يقرر إيمان المعري بالاشتراكية على أنه سابق لأهلها بالدعوة إليها!.. وقد نسي - هداه الله - أن المعري إنما يتحدث في توحيد الله عز وجل جلاله، فينفي أن يكون لأي مخلوق أي أثر من الملكية في هذا الوجود، فالبيت إذن تقرير لوحدانية الخالق، وتنزيهه سبحانه عن كل ألوان الشرك، والمعصوم من عصمه الله، ولا حول ولا قوة إلا به.
إذا جرى على العبد مقدور يكرهه فله فيه ستة مشاهد:
1- مشهد التوحيد؛ وأن الله هو الذي قدره وشاءه وخلقه.. "ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن"..
2- مشهد العدل؛ وأنه ماضي فيه حكمه عدل فيه قضاؤه..
3- مشهد الرحمة؛ وأن رحمته في هذا المقدور غالبة لغضبه وانتقامه ورحمته وحشوه..
4- مشهد الحكم؛ وأن حكمته سبحانه اقتضت ذلك، لم يقدره سدى ولا قضاه عبثا.
5- مشهد الحمد، وأن له الحمد التام على ذلك من جميع وجوهه..
6- مشهد العبودية، وأنه عابد محصن من كل وجه تجري عليه أحكام سيده القدرية، كما تجرى عليه أحكامه الدينية..
(من كتاب الفوائد لابن القيم)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] يرى محقق (مشكاة المصابيح) أن الحديث قد روي موصولا من طريق جماعة من الصحابة، وورد تصحيحه عن الإمام أحمد.
[2] متفق عليه.
[3] راجع سيرة ابن هشام ص 219، 220 ج3 ج1 الحلبي عام 1955 بتحقيق السقا ورفيقه.(16/490)
الرد على إباحة الغناء
للشيخ نايف الدعيس
الطالب بالدراسات العليا
بالجامعة الإسلامية
جاء في الكتاب السنوي للتربية الاجتماعية في رعاية الشباب بالمدينة المنورة لعام 97- 98هـ ما يتضمن إباحة الغناء- ونرد على هذا فيما يلي:
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} .
وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
وقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
في عصر التخصصات يتطفل كثير من دعاة العلم على موائده وينسبونه لأنفسهم، ويتصنعون التفكير وبعد النظر على حساب كتب مقدسة وديانة محفوظة؛ فلا يسلمون للعلماء والفقهاء ويذعنون للأطباء والمهندسين وغيرهم ويعترفون بعجزهم أمام تخصصاتهم، وقسم إن هذا لهو البلاء المبين، يسكت العلماء وينطق آخرون ممن تحلوا بما لم يعطوا، وحجتهم أنهم رجال وأولئك رجال، وجهلوا ما بأنفسهم من جهل حتى يعجز أحدهم أن يقول كلاما فصيحا أو يكتب عبارة سليمة، ثم نراه يتطاول على كتاب الله أو سنة رسوله يفسرها بآرائه واجتهاداته؛ فما وافق هواه استدل به وإلا أوله وبدله من تلقاء نفسه دون اكتراث بالكتاب ومصدره، وما علم أن دين الله أنزله من السماء وتعهد بحفظه.(16/491)
وإن مما يعجب له المرء أن يرى قولا جريئا على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من بلد الإيمان ومصدر الهداية وإشعاع النور، مأوى المهاجرين ودار الأنصار ومدرسة المسلمين؛ قولا يدعو للغناء والضرب على الأوتار دون إدراك لمعنى هذه الكلمة وما تحمله في طياتها من إفساد للدين والأخلاق والمجتمع، ودون تمييز ببن ما كان موجودا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من حداء وإنشاد لأبيات شعرية وادعة وبريئة أو جزلة قوية تقال في مناسبات الأعراس والأعياد، وبين أقوال ساقطة رذيلة يتغنى بها المغنون وعشاق الغناء، ويعشقها أطفالنا من بنين وبنات؛ فيرجعونها على ألسنتهم في الغدو والآصال.
ويا للأسى والأسف أن يصدر عن هيئة مسئولة عن تربية شبابنا وتنشئتهم على المبادئ الإسلامية التي تدعو إلى الاستقامة لا إلى الخلاعة والمجون.
إذا كان رب الييت بالدف ضارباً
فشيمة أمل البيت كلهم الرقص
خطاب أوجهه إلى الأستاذ الذي بدأ حديثه بغير ذكر الله؛ "وكل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله فهو أجذم"، وهو ناقص مبتور؛ فهذا حكم الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل أربعة عشر قرنا على ما كتبته حول ما سميته بالفن الشعبي ومفهومه في نظرك، وأنه يحكي ثقافة الأمم وتراثها الحضاري وعاداتها وتقاليدها في ألعابها وفنونها ورقصاتها على الأنغام التي تصاحبها، سواء كانت بالدفوف أو التصفيق، أو استخدام الآلات الوترية وغيرها.(16/492)
وأحسبك قد وقعت فيما لم يكن في حسبانك حتى صار استدلالك عليك في كل ما ذكرته من الأدلة مما لم تنعم النظر فيه، فقلت على الرسول صلى الله عليه وسلم ظلما وعدوانا، وافتريت عليه بأنه كان لا يحرم الغناء، ولم تدرك معنى الكلمة هذه، وذكرت أن الغناء كان في عهده وعهد الخلفاء الراشدين من بعده.. ويا لها من حجة واهية وكلام سقيم وتعدّ على حرمة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام الطيبين الذين مدحهم ربهم بإعراضهم عن اللهو وعن الزور.
وأنهم إذا مروا به مروا كراما، وأنت تدعي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحرمه، ولا أصحابه من بعده لم ينكروه؛ فهذا تجنّ وقول بغير فهم، وكيف لك أن تقول في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ليس لك به علم، أوَ ما علمت أن رجالا نقبوا عن الحق حتى لم يدعوا لوارد منهلا؟ فكيف بك وأنت لا تنتسب للعلماء أو طلبة العلم، وتقول برأيك ولا تخشى أن تحل ما حرم الله وتجعله عنوانا للحضارة والرقي؟! وكأني بك حين أنقض حجتك وأبطل دعوتك، وأنت حائر في صنعتك أو مقلع عن رأيك مشتت الذهن سارح البال.
وإلا يكن كذلك فأتحفنا بأخبار بعض المغنين الذين اشتهروا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أو الخلفاء الراشدين.. من هم؟ ومن أين جاءوا؟ وهل كانوا رجالا أم نساء؟.. وما نوع الغناء الذي كانوا يصدحون به؟ ... وما أشكال الآلات الوترية التي كانوا يعزفون عليها أغانيهم؟ وما التصفيق الذي نسبته إليهم هل كان بفرقعة الأصابع أم بضرب الكفوف؟ ... وهل كانوا يؤدون ذلك في المساجد أو على قارعة الطريق؟ وما هي القواعد التي رسموها للغناء والتي لم تكن معروفة في الجاهلية؟ ومن الذي نسب النغم للحجاز؟ هل هو سعيد بن المسيب أم الإمام مالك؟ أو هو من الفساق الذين رغبوا عن القرآن واستبدلوا به مزمار الشيطان؟.
أسئلة أطرحها عليك يا مربي الأجيال قبل مناقشتك..(16/493)
أما يكفيك ما ترى من المغنين والمغنيات حتى تريد أن تنشيء عليه الأجيال القادمة؟ وما الذي أعجبك في سلوكهم؟ وقد امتازوا بالخنوثة والميوعة حتى اختلط المخنثون منهم بالإناث.
عجيب أمرك يا أستاذ! فبدل أن تدعو إلى الإكثار من مدارس القرآن وتدريب النشء على الأخلاق الحميدة وخالص الرجولة؛ تدعو إلى اللهو والغناء وما لا خير فيه، وتخالف الأئمة الأعلام وجهابذة العلماء؛ فهم يقولون حرام وأنت تراه أحل الحلال؛ فمن أين جاءك هذا العلم!؟.. أمن حديث الهجرة الذي أنشد فيه بنات النجار وغيره من الأدلة التي أوردتها؟.. أم اتبعت فيه أقوالا لا يعتد بها وهى شاذة مردودة؛ لوضوح اتباع أهلها أهواءهم، وعدم تحكيم عقولهم فيما اقترفوه وفتحوا على المسلمين فجوة لا ترقع ما وجد أدعياء العلم والمتطفلون عليه.
وإني لأحسبك لا تعر ف هذا ولا ذاك..
ولكنها حكمة الله فيما يحوط به هذا الدين؛ فكلما خبت فتنة ظهرت أخرى ليتحفز لها المؤمنون؛ فيكونوا أقوى مما كانوا عليه.
وما مثل ما كتبته وإياهم إلا كالمصل يعطى للمريض فتتكون عنده قدرة الدفاع عن المرض.
ولكنها لأعجب من استدلالك بحديث بنات النجار وإنشادهن على إباحة الغناء والتصفيق والضرب على الأوتار، ولم تر ما قاله العلماء فيه، وأجزم أنك لم تقف عليه، وأين كل ذلك من الحديث؟..
ألا ترى أنهن لم يصحبن عودا ولا مزمارا، ولم يرددن ما تنبو له الأسماع من كلام ضليع يتردد على ألسنة المغنيين والمغنيات بتلحين وتطريب وتمطيط وتكسير، وتشويق وتهييج، وهل يلزم من إباحة الضرب بالدف إباحة غيره من الآلات؟.. وقل مثل ذلك - يا أستاذ - في حديث عائشة الذي لم تكمل نصه وفيه:
أتيناكم أتيناكم
فحيونا نحييكم
ولولا الذهب الأحمر
ماحلت بواديكم
ولولا الحبة السمرا
ماسمنت عذاريكم(16/494)
أفترى في هذا دلالة على جواز الغناء والضرب على الأوتار التي تدعو إليها؟ وكيف تستدل به؟ وليس فيه بغيتك، ولا يمكنك أن تقضي منه نهمتك، وهو خاص للنساء فيما بينهن وفي يوم عرس لا مزمار فيه ولا عود ولا آلة من الآلات الشيطانية، ولم يحدث فيه من اختلاط الرجال بالنساء كما يشاهد في زماننا.
اعلم أنك لم تزدنا بذكر يزيد بن معاوية واهتمامه بالغناء والمغنين إلا توكيدا لما قاله فيه العلماء من الفسق والدعارة.
وأشنع من ذلك ما ادعيته على أهل المدينة وأنهم كانوا يخرجون- جميعاً - إلى وادي العقيق؛ ليستمعوا الغناء من المغنيين في عهد لم يزل فيه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعمرون مساجد الله ومعهم من التابعين أمثال محمد بن علي بن أبي طالب (ابن الحنفية) ، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار وغيرهم ممن يشار إليهم بالتقي والزهد والورع، وجعلت من المغنيين طبقة مميزة ولاشك في ذلك، ولكن بغير ما تظنه وتهواه، وإنما بالفسق والفجور، كما أجاب عليه علم من أعلام المدينة وهو الإمام مالك رحمه الله؛ فقد سئل عن المغنيين، فقال: (أولئك الفساق) . وهم الذين ذكرتهم (كطويس) الذي كان يتغنى بالأشعار لإثارة الفتن بين الأوس والخزرج، و (معبد) الذي يتغزل بالنساء وحسنهن ويرجو الوصال منهن، و (ابن عائشة) الذي لم يعرف أبوه، والذي فسد بمحادثته ومجالسته فتيان من المدينة و (ابن أبي السرح) الذي يقول:
ويجدر بنا ونحن في مقام التذكير أن نشير إلى بعض أدلة العلماء في تحريم الغناء إشارة وجيزة وإلمامة لطيفة تغنى عن الإطالة والاسهاب:
يصيب من لذة الكرام ولا
يجهل أي الترخيص في اللمم(16/495)
1- فمن كتاب الله قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ، وقوله: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} ، قال ابن عباس رضي الله عنه: (سامدون) هو الغناء بلغة حمير. وقوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} .. وغيرها من الآيات.
2- أما من السنة المشرفة فقوله صلى الله عليه وسلم: "ليكوكن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ... " الحديث. وقوله: "ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير".
3- ومن أقوال الصحابة رضي الله عنهم قول الصديق: "أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ودخول عمر على الجارية التي أخفت دفها تحتها، وقول عثمان: "ما تغنيت ولا تمنيت".
4- ومن أقوال التابعين قول محمد بن الحنفية في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} ، قال: المراد بالزور اللهو والغناء، وكذلك فسره لإبراهيم النخغي وغيره.
وقد ذهب الأئمة الأربعة وغيرهم إلى تحريمه حتى قال أصحاب أبي حنيفة: إن السماع فسق، والتلذذ به كفر.
وقد نهى الإمام مالك عن الغناء واستماعه، وهو مذهب سائر أهل المدينة، وكذلك الشافعي والإمام أحمد وغيرهم من أئمة المسلمين.
أما من قال بجوازه - وهم قلة - فلا يعتد بأقوالهم الشاذة، لا سيما وأنهم رأوا حرمة ذلك في ظروف وملابسات؛ فقال بعضهم: والسماع يحرم بخمسة عوارض:
الأول: أن يكون المسمع امرأة لا يحل النظر إليها.. وفي معناها الصبي الذي تخشى فتنته.
الثاني: أن تكون الآلة من شعائر أهل الشرب أو المخنثين، وهي المزامير والأوتار وطبل الكوبة.(16/496)
الثالث: في نظم الصوت، وهو الشعر؛ فإن كان فيه شيء من الخناء والفحش والهجاء، أو هو كذب على الله عز وجل أو على رسوله.. فسماع ذلك حرام بألحان وغير ألحان.
الرابع: في المستمع، وهو أن تكون الشهوة غالبة عليه، وكان في غرة الشباب، وكانت هذه الصفة أغلب من غيرها عليه؛ فالسماع حرام عليه.
الخامس: أن يكون الشخص من عوام الخلق، ولم يغلب عليه حب الله فيكون السماع له محبوبا، ولا غلبت عليه الشهوة فيكون في حقه محظوراً.
وقد بين العلماء - رحمهم الله - أن الغناء محظور في كل وقت ومكان، إلا ما جاء فيه ترخيص من الشارع؛ فنقتصر عليه لورود الأدلة ولا نتجاوزه لغيره.
ولعل ما ذكرته فيه كفاية، والله أسأل أن يهديني وإياك والمسلمين سواء السبيل؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون والحمد لله رب العالميين ...(16/497)
إلى الذين يحادون مفاتح الغيب باسم العلم الحديث
لفضية الشيخ عبد الفتاح عشماوي المدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة الإسلامية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. .
لا نجد مفتاحا لمحاضرتنا هذه؛ نفتح به ما قد يكون أغلق علينا، وعلى قلوب ليست معنا، عليها أقفالها خيرا من آية المفاتيح،. . . نعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ، وهذه الآية العظيمة، وإن كان بعضها فقط سيكون موضوع المحاضرة، إلا أننا ذكرناها كاملة لنتعرض لمعنى سريع لكلماتها، قبل أن نأخذ صدرها الذي سيكون ينبعنا الدفاق لمحاضرتنا، إن شاء الله تعالى. . .
فعن الآية جملة نبدأ فيها بإيضاح كلمة (الغيب) ؛ فهي بمعناها العام تعطينا معنى ذا قسمين: غيب يختص بالدنيا، وغيب يختص بالآخرة؛ فغيب الدنيا يمكن أن يظهر منه ما تحيط بصورته حواس الإنسان، وغيب الآخرة لا يظهر ولا يحاط منه شيء إلا بعد الموت، والآية التي قرأناها الآن من النوع الأول، من غيب الدنيا الذي يجوز أن يظهر ويدرك، ولمجرد أن نقرأها نجد كل صورها المسماة فيها جُسِّم من نوعه لنا، وأحاطت به أحاسيسنا {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} .(16/498)
فالمفتاح: اسم الآلة يغلق به على شيء يحتاج إليه، والحاجة تقتضي أن يفتح به بين حين وآخر، وإن كانت المفاتيح في الآية معنوية، إلا أنها أعطت معنى الفتح على غيب ليس أبديّ الإغلاق، وإنما يفتح سبحانه علينا منه وبالقدر الذي يجعله قياما لوجودنا في دنياه؛ {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} ، {وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} ، فخزائنه غيب وما ينزل منه هو الذي يبدو لنا، هذا هو غيب الدنيا الجائز فيه الظهور، وبقية الآية دليل على ذلك، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} فقد أطلعنا على بعض ما في البر كالزرع - مثلا - حُزْناه، وفي البحر ضمنا سمك اصطدناه، وما تسقط من ورقة وتبدل بأخرى كذلك ولا حبة في ظلمات الأرض بعد أن أخفيت ثم بالنبت شقت، ولا رطب ولا يابس نرى منه فعلا ما نرى، كل ذلك في كتاب محفوظ مبين.
فهو سبحانه بعد أن نشر هذه الأمثلة لفها بعد ذلك في قوله: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِس} ، فمن الرطب واليابس تتكون الدنيا، ومنهما تفتح علينا مقومات بقائنا، من كل أمر عجيب أبصرناه، وما لم نبصره لا بد أكثر وأعجب؛ {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ} .(16/499)
أما غيب الآخرة فليس منه في دنيانا ما نبصر، وإنما كله فيما لا نبصر، والرد على القول في أن بعض الرسل رأى الجنة والنار وهو في الدنيا، فمع الخلاف في أنهم رأوا ذلك حقيقة أو مناما، أو بوصف الوحي فإن خصوصيات الرسل - على ترجيح الرؤية البصرية - لا تقوم عليها بالضرورة قاعدة لبقية الناس، {وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} ، وأصحاب الآراء الأخرى لهم وجه مقبول فيما قالوا، عندما ذكروا قول النبي صلى الله عليه سلم عن الجنة بأن "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"، أوضحوا أن كلمات (عين) و (أذن) و (قلب) تشمل عين النبي وأذنه وقلبه صلى الله عليه وسلم، خاصة قوله: "ولا خطر على قلب بشر"، فهو ضمن البشر، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ، فلم يستثن نفسه من كلمات الحديث بشيء؛ فيكون ذلك قيل ليبلغه وما أبصره، فهذا إيضاح لا تنكر وجاهته.
وسيقال أيضا: إن الآيات القرآنية صورت لنا الكثير عن غيب الآخرة، كاللحم والفاكهة، والحور العين والمساكن الطيبة، وأنهار اللبن والخمر بلا غول والعسل المصفى، والنخل والرمان، هذا مع الأحاديث التي وصفت قصور الجنة بأنها لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وأن تراب الجنة مسك. . إلى غير ذلك.(16/500)
فأقول إنه الغيب المعلن اسمه المعروف، وليس عن رسمه المجهول، للترغيب في العمل الصالح المؤدى لنعيم ما بعد الموت، وليس الغيب الذي إذا ظهر أحاطته الحواس، على نحو ما أظهره الله في الدنيا، فهذه الأسماء محبوبة عند الإنسان تذكرة بالأطايب التي تهفو إليها نفسه، حيث ذاق لذاتها في الدنيا بحواسه، أما واقعها في الجنة من حجم وطعم، ولون ورائحة ومناظر بهيجة، فغيب غير ما عرف في الدنيا، لا يدرك إلا عند الولوج من باب الجنة، فلا ربط بين طيبات الدنيا وطيبات الآخرة إلا بالأسماء، وأما المسميات فالصورة منقطعة تماما، {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} ، والدنيا كلها أرض وسموات والتبديل شامل لكليهما في الآية، حتى الإنسان سيتبدل إلى كائن يتحمل هيبة الله عندما يتجلى عليه في الجنة، وفي الدنيا خرت الجبال دكا لما تجلى عليها ببعض هيبته {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} ، وما يقال عن الصلة اسميا وانقطاعها حققيا بين طيبي الدنيا والآخرة، يقال عن سيئهما، وليس أسوأ من النار فيهما، لكن نار الدنيا يمكن أن تحرق وأن تنفع، {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً} تخويفا وتفعا، ويمكن أن يتفادى شرها إذا اشتعلت بالابتعاد عنها أو بإطفائها، ولكن نار الآخرة استحال نفعها واستحال إطفاؤها، فالصورة الحرارية بينهما لا تقدر بفروق؛ لهول ما ذكر عنها في الكتاب والسنة من مجرد كلام مرعب لم يلمس في دنيانا واقعه {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ، لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} ، ونار الدنيا قد تبقي وقد تذر، وإنما الذكر الكلامي عنها لترويع العاصي من نار أظهره الله على شيء منها في الدنيا {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} . ولديَّ تأويل من تفسير العقليين والنقليين على السواء؛ فالعقليون يقولون: إنه لو تساوى طيب الدنيا الذي ظهر لنا بطيب الآخرة الذي لم يظهر بعد؛ لما اشتدت الرغبة الدافعة إلى عمل ما يدخل(17/1)
الجنة، ولو تساوت نار الآخرة بنار الدنيا التي يمكن إطفاؤها أو تجنبها، لما اشتدت الرهبة الدافعة إلى عمل ما يبعد عن النار الأخروية؛ لأن الإنسان تواق دائما إلى معرفة أحسن مما عرف، وخواف من الوقوع في أسوأ مما وقع، والنقليون يقولون: إن الوصف القرآني والنبوي للجنة هو لفتح شهية المؤمن للطاعة فقط، وإن حقيقة جمال الموصوف غيب لا صلة له بصفته الدنيوية؛ لأنه سبحانه بعد أن ذكر هذه الأوصاف المحبوبة لدى عباده قال: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُن} ، والنفس لا تشتهي ما ملكته أو تعودته من قبل، والعين لا يلذ لما ما سبق أن رأته؛ فلا جديد فيما شبع منه يشتهى أو يلذ.
إذا فالآية تشوق إلى شيء لم يكن مثله في الدنيا على الإطلاق، وقوله سبحانه: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} ، فلا تعلم نفس أيّ نفس؛ فهي نكرة عامة أيضا، حيث لم يستثن سبحانه في الآية نفسا واحدة من كل الأنفس التى خلقها، وتأتي كلمة {مَا أُخْفِيَ لَهُمْ} ، لتؤكد أن ما سيبهجهم وتقر به أعينهم، لابد أن يكون مفاجأة مفرحة أحكم إخفاؤها، وإلا لو استثنينا أنفسا علمت، أو إخفاء ليس كليا، لخولفت الآية لفظا ومعنى {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ} ، وتبعا لعلم البعض وعدم إحكام الإخفاء تكون قد انتفت المسرة ولن تقر الأعين، تم ينتقل النقليون إلى الكلام عن عقاب الآخرة، فيقرؤون علينا أربع آيات، ثم يعلقون عليها تعليق أولى العلم، والآيات هي:(17/2)
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} . . {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} . . {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ} . . {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} .
فعن الآية الأولى سألوا أي بلاء في الدنيا توضع له في دية تقدر بذهب يملأ الأرض؟ إن القتل وهو قمة البلاء في دنيانا - فقاتل النفس كأنما قتل الناس جميعا- ديته مائة جمل، أو عدة آلاف من العملات، مهما كثر عددها فقدرها بضع أواق من الذهب، فكيف بملء الأرض ذهبا؟ لابد أن الداهية في الآخرة فوق التصور، والآيات الثلاث التاليات معناها واحد كرر لنظل معه في عجب لا ينتهي، لأنها لم تتكلم عن ملء الأرض ذهبا فقط، بل ما في الأرض جميعا، كل ما خلق فيها، من إنس وجن وكنوز وحيوان ونبات وجماد، بل ومثل ذلك، والمثلية هنا ليست مثلية الضعف، وإنما المثلية المتكررة مهما بلغت، فما دام لم يقبل الأصل، فلا يقبل المثل وإن تضاعف؛ لغنى الله عن كل ذلك، {افْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، وسوء العذاب تعبير مفزع أخفى كيفه ووضح فزعه، من ضخامة الفداء المقدر بمقادير الأرض وأمثالها، ومن الآن رفض.(17/3)
ونهاية هذه الآية هو الفصل لما فصلناه، عندما ختمها سبحانه بقوله: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} عذاب لم يدخل أبدا في حسابهم إلى أن بدا لهم؛ فالحصيلة العلمية لهذه المقدمة عن توضيح كلمة الغيب أن غيب الله في دنياه يجوز أن يظهر وفيما يظهر كفاية لمن يزجر، وغيب الآخرة كله مخبأ، يفاجأ به الناجي مجبورا، ويفاجأ به الغاوي محسورا {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} .
نعود إلى آية المفاتيح، لنأخذ منها صدرها ننير به صدورنا {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ} هذه العبارة الكريمة هي الفرا الذي فيه صيد المحاضرة، والذي نزلت عليه هذه العبارة - صلى الله عليه وسلم - هو الذي فسرها بنفسه، في حديثه الصحيح المشهور، لما فسرها بآية أخرى بقوله: "مفتاح الغيب خمسة، وقرأ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} . وقبل أن نتحدث عن كل مفتاح منها منفردا نتعرض لأمر سردها في الآية، هل هو مجرد حصر الخمسة المطلوبة ليعرف عددها ويعلم أمرها؟ أم أنها وضعت في أمكنتها بالترتيب الذي لابد أن توضع فيه؟ والأخيرة بالإعجاز البياني للقرآن أليق.
فالساعة أولى الخمسة لأنها متصلة بالآية التي قبلها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} .(17/4)
وهذا اليوم الذي يجب أن تخشوه هو يوم الساعة؛ فكانت بعد الآية السابقة لتكون أول الآية اللاحقة في أفضلية الترتيب على الخمسة، وحيث هي أرفعها، فما وجدت الأربعة التالية إلا من أجل الساعة {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ} ، ولهذا أكد وحدها من دون الخمسة تعظيما لأمرها؛ {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} والأربعة التي بعدها ترتيب زمني وضروري أن تسبقها التي قبلها لتأتي التي بعدها؛ فلا بد من الماء أولا لتكون الحياة، فإذا ما أنتجت الأرحام أن يحيى نتاجها، حيث أعد لها الماء والغذاء {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً} ، فالصبر أولا لتشق الأرض فيعد من الطعام لمن يأتي من الأرحام، ومن هنا كان ترتيب الأرحام بعد الماء، بعد ذلك يأتي الغد ليعرف به اليوم فجاء الغد في ترتيبه، فإذا لم يأت الغد لمجيء الموت توقفت اليوم وانتهت الحياة؛ فكان الموت في آخر الخمسة.
فلنبدأ بأولاها وهي الساعة، وما أظن إلا اعتراضا جال بصدر أحدكم خاصة إذا كان متتبعا لحديثي هذا فسيقول على الفور: كيف تدخل الآن الساعة ضمن المفاتيح التي قلت إنه يمكن أن يفتح علينا منها في الدنيا، والساعة من غيب الآخرة، وغيب الآخرة لا يعلم إلا بعد الموت كما ذكرت؟
فأقول: إنه الخطأ الشائع الذي أرجو أن أصححه الآن، فالساعة من الدنيا وليست من الآخرة، وسأثبت أنها كذلك.(17/5)
فسبب الالتباس الذي شاع بين الناس هو أنهم خلطوا بين الساعة والقيامة، وجعلوها شيئا واحدا، ولكن الفرق بعيد فالساعة ستأتي بغتة حقا لكن لتنتهي بها الدنيا، أما القيامة فمن الآخرة؛ ولهذا جعل الله نفختين: الأولى للساعة والثانية القيامة، وبينهما فاصل ليس فيه خلاف، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} ، فالتراخي هنا بـ (ثم) قدر عند المفسرين بسنوات، بلغ عند بعضهم أربعين سنة، ومن هنا سميت الثانية قيامة، قيامة الموتى من قبورهم ينظرون ما يؤول إليه أمرهم، أما اقتران كلمة (تقوم بالساعة) في القرآن على نحو قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} أي: يوم تقع ويتم أمرها يدرك المبطلون أنهم خسروا لما كذبوا بها، وليس معنى (تقوم) هنا من القيامة؛ لأن الساعة ليست كائنا مات ليقوم، وإنما القيامة بعث من الموت لكائن كان حيا فيه روح عادت إليه {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} ، وكقوله سبحانه: {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} . فالآية جعلت الساعة أولا للإفناء، والبعث من القبور ثانيا للإحياء؛ فلم يشملا في عمل واحد، وقوله: {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة} ، ولم يقل: يوم الساعة؛ لأن الساعة لإنهاء الدنيا والحكم لا يكون إلا بعد الإحياء والمثول، ولأن الساعة أيضا من المفاتيح الدنيوية، وليست هي القيامة الأخروية، فإنها لن تقع حتى تظهر في الدنيا كل أشراطها، الصغرى والكبرى منها على السواء، بل وظهر لنا منها الآن فعلا كثير من علاماتها الصغرى التي وردت في الأحاديث الصحيحة، مثل تبرج النساء عاريات كاسيات، وتطاول رعاء الشاء في البينان، وكثرة الزلازل، ورفع الأمانة، وظهور الفتن وغيرها،(17/6)
وأشراطها جزء منها؛ فالقاعدة أن ما يدل على الشيء داخل فيه، فإرهاصات الأنبياء جزء من نبوتهم، ورؤياهم المنامية نوع من الوحي، بل عند المباغتة بالساعة سيكون لها أمر دنيوي هائل يراه الناس، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} وليس في الآخرة مرضعة ترضع ولا حامل تضع؛ إذا فلا يجوز الجمع بين الساعة والقيامة في معنى واحد، حيث لا يجتمعان معا في الدنيا ولا في الآخرة، وبذلك أحطنا بأمر علمي آخر.
بقيت الساعة ومن يؤمنون بها، حيث لا تتناول المحاضرة موضوع المكذبين بها، فسيكفيهم الله، ولأنه لا يستقيم تعمير بيت الغير، وسقف بيتي يخر على رأسي، فالمؤمنون بالساعة يعلمون أنها الرجفة التي ترجف الأرض والجبال قبل أن تتبعها الرادفة وهى القيامة كما قلنا، فرجفة الساعة ستجعل أعز ما في الدنيا يذهل عنه {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} : تنكره فلا تعرفه؛ ولم يعد ولدها الحبيب، وقمة حب الأم لولدها وهو رضيع، لكن وقتها نزعت ثديها من فمه وهي ترضه، فلم تدعه يتم ووضعته، وهل يكون الأمر غير ذلك، وقد رأت الأرض أخرجت أثقالها لما زلزلت زلزالها؟ إننا نسمع الآن كل يوم عن زلزال لم يمكث غير ثوان خرب آلاف المباني وشرد ملايين الناس، ولا عظة لما في القلوب من غلظة، وهل يكون غير أن تذهل عن رضيعها، وقد رأت نفسها مع الأرض رجت رجا، ورأت الجبال الشوامخ هباء منبثا؟ وهل يكون غير ذلك وقد رأت البحار فجرت فاختلط حلوها بملحها؟ ثم رأت هذه البحار قد سجرت فصارت كلها نارا وعهدها بالماء يطفئ النار؛ فمن الذي حول الماء إلى نار،؟ وغير ذلك من هول يأتي بخبل لها وللسكارى، وما هم بسكارى ولكن أمر الساعة مفزع رهيب.(17/7)
ونحن المصدقين بها نوعان: نوع يعيش في همّ هذا الذي سمعه عنها الآن، فشد وجدانه ببشاعة الساعة لا ينفك، فأخضع كل جارحة يُخدِّمها لهذا اليوم، فيكفى بذلك يوما هو أشد من يوم الساعة، يوم يقوم الناس لرب العالمين قائلين: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} ؟ فكان أن وقوا شر ذلك اليوم، ودخلوها آمنين.
النوع الثاني من المصدقين، أو القائلين بأنهم مصدقون بيوم الساعة وما انشغلوا إلا بيومهم وبالساعة التي، هم فيها وبالساعة الذهبية التي تلتف حول المعصم بالسوار الذهب، يعرفون بها أوقات الحفلات ومواعيد عرض الأفلام في (السينما) وفي (التلفزيون) وأوقات مباريات الكرة والخروج إلى النزهات، ولو في أوقات الصلاة وأيام الجمع، ويعرفون بها أوقات أخرى يتفق عليها؛ وذلك لأنهم لا يعرفون مواعيد الصلاة ولا متى الجمعة، لما ألهتهم ساعة لهوهم عن الساعة التي تذهل المرضعة، وتذهب الفكر بغير سكر، بل لقد أفاقوا كل من غفلتهم لما سمعوا جولة من التهجم المستمر على عقائدنا، فقد صدقوا المرجفين لما قالوا: إن عالمة غربية تشتغل بالبحث الكوني، استطاعت (بالعلم الحديث) أن تحدد وقوع الساعة باليوم والدقيقة، حدث ذلك منذ قريب، وبعضكم يدركه معي، لما تبرعت بإذاعة هذا الفحش إذاعة وصحافة أمتنا الإسلامية، متجاهلة بذلك قول الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} ، وأعمى الناشرون شهوة الإثارة عن تسفيه الخبر، أو حتى التغاضي عن النشر، ثم كان شيئا مضحكا - وشر البلاء ما يضحك، كما يقولون - عندما أفاق ساعة الدنيا على خبر الساعة الإفك، أخذوا ما يودعون بعضهم بالتقبيل والعناق والبكاء، كما ذكرت بعد ذلك الأنباء، بل حدث هذا هنا في المدينة المنورة، وإن كان على قليل لكن ما كان يجوز ذلك أبدا في بلد خير الموحدين صلى الله عليه وسلم، وعلى أي حال فالجهل موجود في كل آن ومكان وإن تفاوتت(17/8)
النسب، وما سكتنا يومها بما استطعنا، وانتظرت حتى كان يوم الأحد المحدد من الباحثة الكونية، وكان تحديد قيام ساعتها بعد العصر بتوقيت المدينة، وتمهلت حتى انتهت صلاة العشاء فقد يكون حدث خلل تسبب في تأخير وصول الساعة، وقلت كلمة غاضبة في الحرم تحدثت فيها عن إعلامنا العربي والإسلامي، الذي روج لهذا الخبر الكفري، وعن الذين صدقوه حتى ودّعوا بعضهم وتواعدوا باللقاء في الدار الآخرة بعد عصر يوم الأحد، والذي اختارته الباحثة الكونية، لتعطيل الدنيا معها، ولكنى أذكر آسفا أن الذين غضبوا أو تكلموا معي كانوا قليلين جدا، ولم لا نغضب لديننا.
وكأن الذين أذاعوا الخبر منا أو صدقوه قد انضموا إلى الذين يحادون الله في مفاتح غيبه باسم (العلم الحديث) ، فقط ليغيظونا؛ لأنهم موقنون في أنفسهم من كذب أنفسهم {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ} ، وسيد المنبئين - صلوات الله عليه - لما سئل عنها كان جوابه بما تحفظون جميعا: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل"، ولكن الباحثة الكونية - سجاح الجديدة - علمتها، فينا من نشر لها كفرها ومن صدقها، "ولو دخلوا جحر ضب لدخلتموه"، صدق القائل صلوات الله عليه، فليحادوا بما شاءوا، وليصدقهم من يصدقهم، وجوابنا عليهم قول ربنا: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} .(17/9)
الثاني: من مفتاح الغيث {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، لولا أني أخشى الطول وأفتح الباب للملول لأسهبنا في الحديث عن هذه اللؤلؤة القرآنية، ونكتفي بأن نقول: إنه إذا ذكر أمرٌ ما في آية من القرآن لابد أن يشير ختامها إلى ما ذكر فيها؛ فالآية في النهاية حكمت العقل البحث فيما قدمته من عجائب، يستحيل أن يجهل أو ينكر من مسلم أو كافر، فكيف يجهل أو ينكر خالقها؟ فالماء واحد والكل يراه ويشربه، ينزل على قطع من الأرض متلاصقات، لكن هنا عنب، وهنا زرع فيه حب، وهنا نخل صنوٌ بجذر واحد وجذع واحد، وغير صنو بجذر واحد وجذوع مختلفة، لكنها جميعها تفاضلت حجما ولونا وطعما ورائحة، والماء واحد، أفلا يدل ذلك بالعقل الصرف على إله واحد؟ تم تفيد الآية بأن ما ذكر فيها - وهو لا يزيد عن السطرين - لآيات وليست آية واحدة، لكن لمن هذه الآيات تقدم وتفهم؟ تجيب الآية {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، أما غير العقلاء فالآية أجل وأكرم من أن تقدم إليها عجائبها، فلما لم يعقل الناس، حاق بهم ما جعلهم يصرخون الآن في أنحاء الأرض من الغلاء وتضخم الأسعار، بسبب نقص المواد الغذائية لقلة الحاصلات الزراعية، {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فبركات السماء الماء، وبركات الأرض النماء، ولا دنيا بغيرهما، وظننا اليوم أنه سبحانه أخذ العباد أيضا بما كسبوا؛ فمنع الماء عن قوم، وأغرق به آخرين، لما سلطه فيضانا ماحقا، ليتحول مصدر الحياة إلى مُعدمها بما نسمع كل يوم في بلد إسلامية وغير إسلامية.(17/10)
وماذا عن الخصوم الذين يحادون هذا المفتاح من الغيب باسم (العلم الحديث) ؟ لقد أذاعوا بأنهم استطاعوا أن يصنعوا المطر، ويوجدوه وينزلوه إذا شاءوا، ويجمدنه ويمنعوه إذا شاءوا، واشترك إعلامنا العزيز أيضا كنعيق الغربان يحكي أضاليل أعداء الإسلام، من أن العلم الحديث في أوربا استطاع التحكم في المطر، وصرنا نقرأ - لمدة طويلة - العناوين الضخمة في صحافتنا، ونسمع أصوات الببغاوات المرددة في إذاعتنا، عن المطر الصناعي الذي أصبح لا يخشى معه على العالم من قلة الماء، وندر من تصدى للرد على هذا التجرُّؤ الوقح على ما انفرد به الله وحده، ونحن الموقنين رحنا في ثقة نسخر من عقل المتخرصين سائلين: لماذا إذاً لجأتم إلى بحار الله الملحة، متحايلين بكل وسيلة لتأخذوا عذبها وتدعوا ملحها؟ فأين مطركم الصناعي الذي يوفر عليكم هذا العناء البالغ لفصل الملح عن العذب؟ أو تسلطوا مدافعكم على سحاب الله لتسقطوه؟ فلا للمطر صنعتم ولا للسحاب أسقطتم.(17/11)
كنا في العام قبل الفائت في أوربا بتكليف من الجامعة، وأثناء وجودنا في فرنسا قائدة أوربا الوسطى والغربية في (التكنولوجيا) "العلم الحديث"، وفي مقدمة الدول التي قيل عنها أنها أوجدت المطر الصناعي، فلم نجد في طول وعرض المناطق التي تنقلنا فيها إلا قصة جفاف الريف الفرنسي؛ لعدم نزول الأمطار سنتئذ، فقلت: وأين نهر السين وروافده؟ فقال لي مرافقي المتطوع بسيارته من الجالية الإسلامية في باريس: الآن تراه، فلما وصلنا إليه وجدته وقد كاد يغور ماؤه، وهو آسن تفوح منه رائحة كريهة من طول ما ركد؛ فقلت: الله أكبر! وأين مطرهم الصناعي؟ لماذا لم ينزلوه ليملأوا منه نهرهم وينبتوا به زرعهم؟ فقال محدثي: وأعجب من هذا أن الحكومة الفرنسية طلبت منا نحن المسلمين هنا، أن نصلي لهم صلاة الاستسقاء، وصليناها فعلا، ولما لم ينزل المطر نشط الحزب الشيوعي الفرنسي بالدعاية الإلحادية ضدنا، ووجدوا من يصغي إليهم في شعب كافر، ولما اشتد بنا الأمر وأحسسنا بالضعف أمامهم؛ إذ بنا نفاجأ في صباح يوم بالأمطار الغزار تهطل في طول فرنسا وعرضها، وأيقنا بأنه نصر لنا من الله انتهزناه وقمنا بالدعاية للإسلام بإضعاف ما قاموا به ضدنا؛ دخل كثبر بسبب ذلك في الإسلام، بل وتحولت بعض الكنائس إلى مساجد، وأنا حضرت بعضها واشتركت في افتتاحها في قلب باريس عاصمة الفسق العالمي، وعبد في تلك المساجد الرحمن، بعد أن كانت كنائس يعبد فيها الشيطان؛ {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .(17/12)
تلك قصة المطر الإلهي مع المطر الصناعي، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} ، وما أظن من اللائق ونحن في بلد عزيز لدى الله ولدى رسوله والمؤمنين؛ في طيبة الطيبة ولا نتحدث عن أمر الغيث فيها ماضية وحاضرا، لقد ألف عن المدينة كتب شتى، وكلها تنبئ بأن المدينة كانت الواحة الخضراء في عرض الصحراء لكثرة مائها المنهمر والمتفجر فالآبار طافية، والجداول جارية، وجنة الصحراء تتيه بنخيلها وحدائقها النضراء وبواديها العقيق، الذي أهاج يوما جماله شعور الشاعر وأدب الأديب؛ فيا لهفي عليها اليوم، لقد تحولت ينابيعها العذبة الفراتية إلى ماء ملح، وغاب مدد السماء، فغاب اللون الأخضر عن أديمها، وندعو مالك الماء صباح مساء، وعلى منابر الجمع وفي صلاة الاستسقاء، ولكن الودق لم ينزل وماء الينابيع لم يعذب؛ ذلك لأن المدينة العزيزة انتهكت حرمتها، من المقيمين بها والوافدين إليها، قلت لصاحب البيت الذي أسكن فيه: سمعت بأن لك هنا بساتين كثيرة؛ فما أنواع الفواكه بها؟ فأجاب بأن الآبار غلبت عليها الملوحة فقتلت معظمها، ولم يصمد أمام الملح إلا بعض النخيل والبرسيم.(17/13)
ولنسمع شيئا من حرمة البلد الطيب عند الله وعند رسوله، ففي حديث طويل بدأه صلى الله عليه وسلم بقوله: "لمدينة حرام…" إلى أن قال: "فمن أحدث فيها حدثا، سرا أو علنا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا"، وكم من أحداث تقع في المدينة وليست حدثا، سرا وعلنا، وقوله صلوات الله عليه: "من صبر على لأوائها وشدتها كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة"، ولكن الذي يسمع الآن، هو أن المدينة حارة جدا والمدينة باردة جدا والمدينة غالية جدا إلى غير ذلك، وبقية خيراتها الدينية والدنيوية يندر أن تذكر، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم "اللهم اجعل للمدينة ضعفي ما جعلت لمكة من البركة"، ودعاؤه: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد"، هذه الأحاديث مروية في الصحيحين، وفي الموطأ قوله: "ما على الأرض بقعة أحب إلي من أن يكون قبري بها منها" - أي: من المدينة - قائلا ثلاثا، وفي الموطأ أيضا: "المدينة مهاجري، وبها قبري، ومنبها مبعثي، وأهلها جيراني، ومن لم يحفظ وصيتي في جيراني سقاه الله من طينة الخبال"، وهي ما يسيل من أهل النار، وغير ذلك كثير، فهل كنا ننتظر أن ينزل عليها المطر ونحن على الأقل لم نحفظ حق الجوار مع خير جار صلى الله عليه وسلم؟! إنه إن ينزل سبحانه الماء يوما، فما أظنه من أجلنا، وإنما ليسقي وينبت من أجل الحيوان الذي لم يأثم، ونحن بعد ذلك تبع، كما ورد ضمن حديث صحيح: "ولولا البهائم لم تمطروا".
إن الذين كانوا هنا يوما ونبيهم أسوتهم، كانوا عندما يصلون صلاة الاستسقاء لا يغادرون مكان الصلاة حتى يبللهم المطر، بل ينزل المطر قبل النزول من فوق المنبر، ولنذكر من زاهر هذا العصر قليلا عسى أن يأخذ منه أهل عصرنا شيئا لأنفسهم.(17/14)
يروي البيهقي في دلائله الحادثتين الآتيتين: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وفد من بني فزارة، مقرين بالإسلام؛ فسألهم عن بلادهم، فشكوا جدبها لانقطاع المطر عنها، فقام صلى الله عليه وسلم وصعد المنبر، فكان مما حفظ من كلامه: "اللهم أسق بلادك وبهيمتك، أنشر رحمتك وأحي بلدك الميت، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدم ولا غرق ولا محق، اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء"؛ فتكلم أبو لبابة ابن عبد المنذر فقال: يا رسول الله إن التمر في المرابد، فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم اسقنا"، فقال أبو لبابة: إن التمر في المرابد، ثلاثا، فقال عليه الصلاة والسلام: "اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا يسد ثعلب مربده بإزاره"؛ فطلعت من وراء سلع سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت وهم ينظرون، ثم أمطرت، فوالله ما رأوا الشمس سبتا، أي من السبت إلى السبت، حتى قام أبو لبابة يسد ثعلب مربده بإزاره لئلا يخرج منه التمر". وفي رواية: "فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال: "أشهد أن الله على كل شئ قدير، واني عبد الله ورسوله".
والحادثة الثانية: أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي وأنشده هذه الأبيات:
وقد شغلت أم الصبي عن الطفل
أتيناك والعذراء يدمي لبانها
فسل منزل قطر الماء من فضل
ولا شيء مما يأكل الناس عندنا
وأنت مجاب السؤال، ما أنجب الرسل
وليس لنا إلا الله مهرب
فقام صلى الله عليه وسلم يجر ردائه حتى صعد المنبر، فرفع يديه إلى السماء، ثم قال: "اللهم اسقنا غيثا تملأ به الضرع، وتنبت به الزرع، وتحيي به الأرض بعد موتها"، فما ردّ صلوات الله عليه يديه إلى نحره حتى نزل الغيث.(17/15)
ومن كلمات العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يستسقي في عهد عمر رضي الله عنه: "اللهم لا نرغب إلا إليك وحدك لا شريك لك، اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشف إلا بتوبة؛ فاسقنا الغيث؛ فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض".
وقد يقول قائل: هذا نبي وعصر نبوة، وهل جعل الله النبي وعصر النبوة، إلا لكل أجيال المؤمنين أسوة؟ أم انقطعت اليوم أسوتنا بنبينا؟ وبالمهاجرين وبالذين تبوّؤوا الدار والإيمان؟
بقيت مفاتيح ثلاثة {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوت} .
والحديث عنها كما تعلمون يطول، فالمحاضرات ليست بحوثا، وإنما شأنها الكلمات المعدودة والأوقات المحدودة؛ ولهذا سنقتصر دون أن نقصر في المعنى إن شاء الله.
لقد قالوا: إن (العلم الحديث) استطاع أن يخبر عما في الأرحام، وأنه أصبح يمكن معرفة الجنين وهو في بطن أمه إن كان ذكرا أم أنثى قبل ولادته، وأنتم تقولون إن الله وحده هو الذي يعلم ما في الأرحام؟(17/16)
قلنا أولا: لسنا مسئولين عن جهلكم الفاضح لمعنى هذه الجملة {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} ، وقبل أن نوضحها لكم نقول: إن علمكم الحديث هذا الذي علمتم به نوع الجنين وهو في بطن أمه، جاء متأخرا جدا بقرون عديدة ما الله بها عليم، عندما وجدت أول امرأة ولود منذ وضعن أولات الأحمال إلى اليوم، فتستطيع الكثيرات خصوصا الذكيات منهن، بعد أن سبق لها الإنجاب من النوعين أن تعين ما في بطنها بعلامات خاصة تحدث لها، وبعضهن تحدين الأطباء في هذا، هم يؤكدون مثلا أن الجنين ذكر، وهي تعكس بإصرار، وعندما يفصل عنها جنينها يكون القول ما قالت حزام، وينقلب (العلم الحديث) خاسئا حسيرا؛ فالأم علمته قبلكم قديما، وعلمتموه أنتم متأخرين، وهو الفتح من أصل الغيب الذي بيده وحده سبحانه مفتاحه، والأصل قوله {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} .
وتعالوا نوضح: فالعلم بما في الأرحام، هو عندما توضع فيه قطرة النطفة، هل ستتحول إلى ذكر يتبعها ذكور دائما، أم أنثى تتبعها إناث دائما، أم يخلق ذكرا حينا وأنثى حينا، أم تموت النطفة بالعقم فلا ذكر ولا أنثى، والعقم مؤقت أم دائم؟ كل هذا هو العلم بحال الرحم، وهو المعنى المقصود بقوله تعالى - وهو أعلم -: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} ، والذي بيده وحده مفتاحه دون سواه {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} ، فأصل الهبة في الآية حين وضع النطفة، وهذا هو الغيب الذي سُطِّر ولم يعلم به ولم يستطع غيره، إلى أن يفتح منه سبحانه بما ذكرت الآية وأوضحناه، وعندئذ يعرف نوع الهبة أو الحرمان منها كلية، {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} .(17/17)
ولدي أمثلة، منها: زوجان أوتيا الكثير من متاع الدنيا، وعملا آخر الطاقة لينجبا وارثا لهذا المتاع الوفير، قيل لهما آخر الأمر إن في (الدنمارك) بأوربا أشهر طبيب تناسلي في العالم، فذهبا إليه، فقال لهما بعد فحصهما: وليس عندكما مانع من الإنجاب، ولا أدري لماذا لم تنجبا، وعادا كما ذهبا. وعكسهما قيل لهما: لن تنجبا البتة، وبعد قليل بدأ الإنجاب بمعدل اثنين في كل دفعة. وامرأة شبعت أولادا ولم تجد الحبوب ولا غيرها لإيقاف السيل المتدفق، والكلام عن الحبوب فيه عيوب وليس هذا مكانه، فأجرى لها الطبيب بموافقتها عملية استئصال كلي للرحم ولم يكد الرحم يلتئم حتى التأم على حمل جديد.
ومن هذه الأمثلة العديد؛ فسبحان من لا تقاوم قدرته، وآخر ما تحدى به (العلم الحديث) مولود الأنابيب، ولا ننسى أن نثني على إعلامنا العظيم أيضا، فقد اشتغل هذا الإعلام العربي والإسلامي طويلا بمولود الأنابيب، وقدم الإعلام هذا (العلم الحديث) بشهوة ما يسمى عندهم بالسبق الصحفي والإذاعي، ولو خُرِّب به العلم الإسلامي، فلقد تتبعته كبقية المتتبعين، فوجدته جعجعة رحى بدون طحين، فهما زوجان لم ينجبا، فأخذ الطبيب نطفة ما، حيث لم ينف العقم عن الزوج، ولو كانت الزوجة هي العقيم لما قبل الرحم العلقة وتربى الجنين فيه، لأنه - مع الأسف - بعد أن ذكرت القصة ما يثبت عقم الزوج وجهل النطفة، صدرت فتاوى بشرعية ابن الأنابيب سليل الألاعيب.(17/18)
نعود فنقول: لقد وضعت النطفة في الأنبوبة مصحوبة بنطفة المرأة التي يسمونها (البويضة) ، وكما يحدث بينهما من التلاحم داخل الرحم حدث داخل الأنبوبة، وتم التطور الخلقي بما ذكر الله تعالى، نطفة فعلقة، ونقلت من الأنبوبة إلى الرحم، فما الجديد في هذا؟ وما هي معجزة العلم الحديث يا أهل العقول؟ ثم لماذا لم يتركوا العلقة في الأنبوب حتى تتم أشهر الحمل وتلد الأنبوبة ابنها؟ لقد أسرعوا بها إلى الرحم هو المكان الذي خلقه الله، ليقينهم بأنه لن يتربى أبدا في مكان سواه، فما هو الجديد في هذا؟ وما هي معجزة العلم الحديث التي أطلقت به الصحافة والإذاعة طبلها المزعج الكريه؟ وتم الحمل تسعة أشهر كما هو معتاد غالبا، وولدت المرأة طفلتها وما ولدتها الأنبوبة، وأرضعتها من ثديها حيث لا ثدي للأنبوبة، فما هو الجديد في هذا؟ وما هي معجزة العلم الحديث يا ابن آدم؟ وختمت القصة المضحكة، بأن المرأة حزنت لما ولدت أنثى، فقد أكد لها الطبيب الأريب، بأنه استعمل العلم الحديث ليجعله ذكرا، وعاشت الشهور الطوال مدة الحمل موقنة بذلك، فلما وضعتها قالت للطبيب متحسرة: إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت، فأجابها الطبيب بأنه سيحاول في المرة المقبلة، ليظل يبتز المال الحرام من المتلهفين على فتنة الدنيا {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} ، فهو الغالب على أمره، وهو القاهر فوق عباده.
تلك قصة الأنبوبة التي تحولت إلى أكذوبة، ولا حقيقة فيها إلا مادة المني، لعلمهم أنه لا خلق بدونها لكل بشري، وقد قالها الخالق متحديا بها {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} .(17/19)
أما المفتاحين الأخيرين {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوت} فلا زال العلم الحديث يدور حولها راهبا متهيبا، لا يجد مدعوه تجاههما فرية جديدة يحادون بها، فقد أدركوا جيدا أن الناس مع الدنيا الحلوة الخضرة يهيمون في حاضرها، ويرسمون لمستقبلها، وإذا الرسم لا يتم، فالكل يقول: سنفعل وسيكون، والخطة الخمسية والسداسية سيقام فيها كذا وكيت، وقد خلا كل ذلك من كلمة (إن شاء الله) فإذا بالذي كان، هو ما شاء الله أن يكون، ووجدوا ما رسموه سرابا بقيعة.
وعن المفتاح الأخير {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوت} وجد العلم الحديث نفسه أمام الموت يتحدى بآية جدعت أنوف الجبارين، وألصقت خدودهم الرغام {قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، إن كنتم صادقين في أن الله لم ينفرد وحده بمفاتيح غيبه، ولقد بذلوا المكيال من المال، ليس ليدرؤوه وإنما فقط ليؤخروه، خاصة إذا حضر الموت رؤساءهم كي ينالوا الحظوة لديهم، فما وجدوا إلا هذا القول الأعز {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} ، فمن سواه يؤخره؟ وفي أي مكان من بلاده ينهي أجل عباده؟ فهؤلاء غاصوا مع السفينة في الماء، وهؤلاء انفجرت بهم الطائرة في الهواء، وألوف المقاتلين حصدوا في الميدان، وهذا سافر ولم يعد، وهذا مزقته في الطريق سيارة سائق مجنون، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(17/20)
ثم ماذا بعد هذا؟ ثم هذه هي مفاتيح الغيب الخمسة، نحن الذين نتحداهم بها، وليسوا هم الذين يحادوننا، وسيرون من يكسب التحدي، من الآن وإلى أن تأتي أولى الخمسة، وهي الساعة، بعدها يقولون {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} ، أما حملة الإيمان من الآن فقد استفادوا بخمسة ربهم، بما فتح ويفتح عليهم منها في الدنيا، وفي الآخرة بما أخفى لهم من قرة أعين، كان لي ولكم من الله ذلك، والرجاء عظيم في السخي الكريم.
أما عن الأبيات فلكل مفتاح من الخمسة أربعة، فالمجموع عشرون بيتا، وكل أربعة مستقلة الروي والقافية وعناوينها تصرفية.
(ساعتي والساعة)
سيرى بغير تأخر وتقدم
يا ساعة في الجيب أو بالمعصم
أو بالسحور لألحقن بالصُوّم
لتذكريني بالصلاة لوقتها
زودتني نورا ليوم مظلم
يا ساعة هوّنت يوم الساعة
عن ساعة قربت فليس بمسلم
أما الذي ألهته ساعة زهوه
(المطر الصناعي)
قلنا تعودنا سفالة من كفر
قالوا صنعنا القطر إذ منع المطر
ماء السماء لواحد ملك القدر
جفت زراعتكم ولم نر قطركم
خابت مقاصدكم ويومكم عسر
لم تقصدوا إلا العداء لديننا
بئس الشراب لكل كذاب أشر
فلتشربوا كالهيم [1] ماء حميمها
(حمل الأنابيب)
وغدا تحيض، فلا نكذب فنهم
أنبوبة حملت، نصدق قولهم
حمل الجماد فلا نظن جنوبهم
فصحافة وإذاعة أكدت
تلد البنات كذا البنين جميعهم
فإذا عقمت تزوجنْ أنبوبة
نبحت كلاب الكفر، فامحق جمعهم
يا واحدا فطر الخليفة كلها
(ماذا تكون غدا؟)
والناس تقصدني ضحى أو في الدجى
سأكون فيما الدنيا عظيما أرتجى
يجبى إلي المال بحرا مائجا
وأشيدن عمائرا فكراؤها
ومن النساء رباع، ذاك المرتجى
وسأملكن من الحدائق فرسخا
فقد الرجاء فساء عقلا أعوجا
فإذا به والموت يقطع حلقه(17/21)
(أتدري مكان موتك؟)
وقبورهم بجبال أو برمال
قُتِلَ الألوف لدى احتدام قتال
كبوا الهواء، فكان في الأدغال
ركبوا البحار فكان فيها قبرهم
قُبروا هنا بعد انتها الآجال
وحجيج بيت الله منهم لم يعد
عزَّ الإله وذلّ كل ضلال
لِمَ لمْ يمت كلٌّ؟ بأرض بلاده
--------------------------------------------------------------------------------
[1] نوع من الإبل لا يشبع مهما شرب.(17/22)
فكرة الجامعة المفتوحة أو جامعة الهواء
لفضيلة الشيخ محمد الشربيني
خبير التعليم بالجامعة
قرأت فيما قرأت في الأيام الأخيرة فكرة تحقيق إنشاء جامعة مفتوحة أو (جامعة الهواء) ، وفكرة الجامعة الأهلية والجامعة المهنية، ولكل من هذه الجامعات أسلوبها ومناهجها وأهدافها.
ولعل النوع المناسب لنا في جامعتنا الإسلامية بالمدينة المنورة هو ما يعبر عنه بالجامعة المفتوحة أو جامعة الهواء.. وهذه الجامعة لا يراد بها أن تكون جامعة مستقلة لها نفس النظم واللوائح التي تسير عليها جامعتنا والجامعات الأخرى بالمملكة، ولكن القصد من إنشائها هو العمل على تحقيق أهداف الجامعة الإسلامية على نطاق أوسع وأشمل خارج إطارها الحالي، بحيث ينتقل جزء من نشاطها التعليمي إلى أرجاء مختلفة من العالم.
ولتوضيح الفكرة المطلوب تحقيقها نشير إلى العناصر والنقاط الآتية:
أولا: الدارسين: من مختلف الجنسيات ومن شتى الأقطار، ولا يشرط في التحاقهم بالجامعة مؤهلات معينة وإنما من مختلف المستويات.
ثانيا: نظام الدراسة: ليست الدراسة حسب الطريقة السائدة في الجامعة النظامية، ولكن عن طريق المراسلات (النصوص العلمية) ، والإذاعة الصوتية والمرئية في كل بلد من البلاد (بالأشرطة العلمية المسجلة) .
ثالثا: مواد الدراسة: تقوم الإدارة المركزية بالجامعة بإعداد المادة العلمية (النصوص) للدارسين، وترسل هذه المادة إلى الطلاب بعناوينهم في مختلف البلاد بمعدل مرة كل أسبوع أو كل شهر حسب تقسيم المادة إلى موضوعات أو وحدات موقوتة بمدة الدراسة وعلى مدار العام الدراسي.
رابعاً: أسلوب الدراسة: يقوم الدارس باستذكار دروسه في داره في وقت فراغه في المادة العلمية المرسلة له، أو بالاستماع إلى بعض الدروس في الإذاعة المحلية المرئية والمسموعة.(17/23)
يجتمع الدارسون في مقر مركز الدراسة المحلية أو الفرعية للاشتراك قي حلقات للمناقشة تحت إشراف مرشدين متخصصين في العلوم العربية والدراسات الإسلامية، من الذين تقوم الجامعة بتوزيعهم على مراكز التجمعات الدراسية للدارسين في مختلف الأقطار.
خامساً: المواد بالمراسلة: تشكّل المادة العلمية عن طريق المراسلة بالبريد أهم عناصر العملية التعليمية في أي مادة من المواد، وهو ما يسمى (بالنص) بالنسبة لأي مادة، ومعناه عمل أسبوع كامل للطالب، ولما كانت دراسة أي منهج تستغرق من 30- 32 أسبوعاً فنصوص المنهج لكل مادة علمية هي حوالي 32 نصاً بواقع نص لكل أسبوع، وبحيث ترسل النصوص على فترات منتظمة خلال العام الدراسي، ويذيل كل نصف بمجموعة من الأسئلة والتمرينات والتطبيقات لقياس فهم الطالب في موضوعات الدراسة المرسلة إليه.
سادساً: الاختبارات والتقويم: عناصر العملية التعليمية (المناهج الدراسية) في الجامعة المفتوحة تحدد من 10- 14 ساعة في الأسبوع، ولمدة ثلاثين أسبوعاً؛ للحصول على تقدير سنوي واحد في منهج أو مادة واحدة، وتعقد في نهاية العام اختبارات جماعية في مقر إحدى مراكز الثقافة أو المؤسسات التعليمية في تلك البلاد حسب الطريقة التي تنظمها الجامعة بالنسبة للامتحانات الخارجية، وترسل أوراق الإجابة إلى مقر الجامعة لتصحيحها وإعلان نتائج الدارسين وإبلاغهم بها.(17/24)
سابعا: اقتصاديات المشروع الجديد: تحقق فكرة الجامعة المفتوحة وفراً كبيراً من خلال أسلوبها في اتباع طريقة معالجة المناهج والنصوص بالمراسلات البريدية، وما يتبعها من برامج إذاعية ومرئية على المستوى المحلي في كل قطر من الأقطار بالأشرطة المسجلة التي ترسل من الجامعة هذه البلاد، وهذه الأشرطة والمطبوعات ذات تكلفة عالية ولكنها تحقق وفراً كبيراً عما هو عليه الحال في نفقات الجامعة النظامية التي تتكلف بكل ما يتصل بحياة الطالب منذ التحاقه بالجامعة، سواء من حيث نفقات السفر إلى بلاده كل عام ثم ما يتكلفه الطالب من كتب ومراجع ونفقات الدراسة والإقامة وما يتبعها، وكذلك الخدمات الطبية وغيرها من تكاليف الإعاشة والإسكان والرحلات والمعسكرات والمسابقات، وسائر الخدمات والنشاطات التي تتطلبها الحياة الجامعية داخل أسوار الجامعة النظامية.
ثامنا: جامعة الهواء في الخارج: والواقع أن فكرة الجامعة المفتوحة (جامعة الهواء) ليست جديدة؛ فقد سبقتنا إليها بلاد أخرى مثل المملكة المتحدة (بريطانيا) ، وكان ذلك في عام 1969م-1389هـ أي منذ عشرة أعوام تقريبا؛ فقد صدر في بريطانيا مرسوم ملكي بإقامة الجامعة المفتوحة، وقد حققت نجاحاً كبيراً حتى أن الإقبال عليها كان شديداً؛ فقد بلغ عدد المتقدمين إليها ما يقرب من 24 ألف طالب في عام الإنشاء، وفي عام 1976م وصل عدد طلابها 55 ألفاً، وحصل على البكالوريوس في مختلف الفروع الدراسية 15 ألف طالب وطالبة.(17/25)
ونظام الدراسة فيها يخالف ما هو عليه الحال في الجامعات الأخرى؛ فهي لا تجمع بين الطالب والأستاذ داخل الحرم الجامعي، بل أن الدراسة فيها تعتمد على استخدام النصوص المطبوعة (المادة العلمية) ، وعلى (الأشرطة المسجلة) للمادة المذاعة في الإذاعة الصوتية والمرئية، وكذلك على (النشرات الدورية) ، ودور الجامعة المركزية هو أنها تعتبر نواة مركزية علمية وإدارية تعد المادة التعليمية للدارسين عن بعد، ثم ترسل المادة إلى عناوين الطلاب في منازلهم في مختلف أرجاء البلاد، ثم تستقبل أوراق إجابات الطلاب في نهاية كل عام لتقوم بتصحيحها، واستخراج نتائج الدارسين.
تاسعا: تنفيذ الفكرة بالجامعة الإسلامية: إن أهم أهداف الجامعة الإسلامية كما ورد في المادة (2) من النظام العام للجامعة (أهداف الجامعة الإسلامية تثقيف من يلتحق بها من طلاب العلم من المسلمين من شتى الأنحاء، وتكوين فقهاء في الدين ... الخ) . وحيث إن الجامعة الإسلامية مفتوحة لجميع أقطار العالم دون تمييز، وبها طلاب لأكثر من ثمانين جنسية؛ فإذن أصبح الأمر يتطلب الانفتاح على العالم الخارجي وعدم الاقتصار على الدراسة في حدود الجامعة الحالية، وفي إطارها الداخلي بل لابد من الانتقال إلى المجال الخارجي.(17/26)
وإذا كانت جامعة الهواء في بريطانيا قد انفتحت داخل بلادها، وإذا كانت مصر تفكر أيضاً الآن في إنشاء الجامعة المفتوحة لتخفيف الضغط على الجامعات النظامية بها؛ فإن الجامعة الإسلامية حسبما ورد في المادة (2) من نظامها العام: "مؤسسة إسلامية عالمية من حيث الغاية، وعربية سعودية من حيث التبعية، ذات شخصية اعتبارية مستقلة"، وعلى هذا فإن هذه الجامعة تتميز عن جميع جامعات المملكة - بل عن جامعات العالم - بأن هدفها الأساسي هو هدف عالمي وليس هدفاً محليا يقصد منه تخريج فئات من المتعلمين المتخصصين الذين يلتحقون بالعمل في مختلف أجهزة المملكة ومؤسساتها؛ لسد الحاجة في مجال الخدمات والإنتاج، ولتحقيق خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية بما يعود على البلاد بالخير والرخاء.
والجامعة الإسلامية قد سلكت طريقها المرسوم، وحققت إنجازات باهرة (بعون الله تعالى) في السنوات الماضية منذ إنشائها عام 1381هـ وحتى العام الحالي 1399هـ (في مدة ثمانية عشر عاما) وبلغ عدد المتخرجين فيها حتى عام 97/96 1482 خريجا من 63 قطرا، واستكمالا لهذه النهضة المباركة فإنه من المفيد أن تنفتح على الخارج وأن تجعل العلم ميسوراً كالماء والهواء، وألا تكون له حدود مكانية معينة، مع عدم التقيد بإعطاء الدارسين أية شهادة، اللهم إلا وثيقة تثبت أنه قد أمضى عدداً من السنوات في تحصيل العلوم العربية والإسلامية، وأصبح مستواه مقبولا، أو جيداً، أو ممتازا.(17/27)
ويحضرني في هذه المناسبة أن الأستاذ الدكتور عيسى عبده - وهو عالم جليل وأستاذ ضليع - قد أثار فكرة مماثلة لما نحن بصدده عندما كان يلقي محاضرة منذ أيام في النادي الأدبي بالمدينة المنورة عن (جامعة الدار) أو (جامعة المنزل) ؛ لتعليم الفتاة والمرأة السعودية داخل بيتها بواسطة الحلقات الإذاعية المرئية والمسموعة، حتى توفر المرأة على نفسها الكثير من المتاعب التي تعانيها عند خروجها من بيتها وقضائها عدة ساعات في المدرسة النظامية صباحية كانت أو مسائية، ويقول الأستاذ المحاضر: إن جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض ربما تتبنى هذه الفكرة، وتعمل على تحقيقها وإخراجها إلى حيز التنفيذ في القريب العاجل.
آمل أن تقوم الجامعة الإسلامية بعرض فكرة الجامعة المفتوحة (جامعة الهواء) على الأجهزة المتخصصة بالجامعة؛ لدراستها دراسة وافية، وقد تصل إلى نتيجة إيجابية محققة للغايات والأهداف السامية التي أنشئت من أجلها الجامعة.
وبالله التوفيق، والصلاة والسلام على نبينا الكريم محمد بن عبد الله الصادق الو عد الأمين.(17/28)
مجلة الجامعة الإسلامية
للأستاذ عبد السلام هاشم حافظ
لمجلة الجامعة الإسلامية مكانة خاصة في النفوس حتى في خارج المملكة؛ لكونها تصدر عن هذا الصرح الشامخ؛ الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، هذه الجامعة التي تعيد لهذه البلاد المقدسة السمعة لسابق عهدها في نشر المعارف والعلوم.
ولقد تجاوبت المجلة أو قل الهيئة المشرفة على إدارتها، وتطورت بها وصدر أول عدد في ثوبها الجديد من سنتها الحادية عشرة، كمجلة لها وزنها العلمي في الثقافة الإسلامية؛ لتمثل اسم الجامعة التي تصدر عنها، وقد ظهر هذا العدد عن شهر رمضان 1398 في 260 صفحة ويضم أكثر من عشرين مقالا وبحثاً في فنون العلم المتنوعة، عدا أبواب المجلة الثابتة كالفتاوى وأخبار الجامعة وسواها، إلى جانب عدة صفحات خصصت في آخر المجلة القسم الإنجليزية.
ومع تقديرنا لهذه الخطوة الحميدة بالمجلة فإن لنا ملاحظات بغية زيادة الانتفاع بها وتدعيمها؛ فلقد عرفنا بأن هناك اتجاها لإصدار كل كلية فيها مجلة خاصة بها، وهذا تبديد للجهود التي يجب أن تتضافر لدعم مجلة الجامعة الإسلامية وإصدارها شهرية بدلا من الاستمرار في إصدارها بصفة دورية مرة كل ثلاثة أشهر، ثم من المفروض أن يكون ظهور المجلة في أوائل الشهر الذي تصدر فيه كذلك نأمل أن تطرح المجلة في الأسواق المحلية والخارجية، وتنشر عنها إعلانات في الصحف عند صدور كل عدد؛ فإن لها رواداً يبحثون عنها ودعماً للتعريف بها.(17/29)
الانتفاخ
للدكتور سيد أحمد عبد البر
مدير الإدارة الطبية بالجامعة الإسلامية
وقبل أن تبدأ في الشكوى من هذا الداء.. فإني أدعوك لقراءة هذا البحث (الانتفاخ.. الانتفاخ..) .
إنها الشكوى المألوفة على لسان كثير من المرضى؛ فكثير من المترددين على العيادات الطبية يصرخون من شيء واحد وهو الانتفاخ.
وأسباب الانتفاخ عديد ة:
فهناك هذا الانتفاخ الناتج عن تجمع الغازات في البطن؛ إنها الحالة التي تكون غالبا مصحوبة بخروج ريح كثير.
وكذلك هناك إحساس بالغازات التي تتحرك في البطن (الزغدنة) .
والانفتاح يزيد أو ينقص من وقت لآخر.. وقد يزيد أو لا يظهر عند بعض المرضى إلا بعد الأكل.
وكثيرا ما تتهم بعض أنواع المأكولات - مثل البصل والكرنب والقنبيط والبقول مثل الفول والعدس والفاصوليا الجافة، وكذلك بعض الفواكه والخضراوات مثل السبانخ والبامية والباذتجان والجوافة - بأنها السبب في هذه الغازات.. وصحيح أنها أشياء عسيرة الهضم إلى حد ما.. ولذلك فيمكن أن تزيد من الانتفاخ، خاصة عند مرضى الجهاز الهضمي.. أما الشخص السليم فهو حسب المثل.. يهضم الحجر؛ فالإنسان يتميز بأنه يجمع بين خواص أكلة اللحوم وأكلة الأعشاب؛ فهو يهضم اللحوم إلى حد كبير.. ويهضم المواد الغذائية النباتية إلى حد معقول.
أما إذا أفرط الإنسان في تناول الطعام - خاصة المأكولات النباتية، ووصلت كميات منها غير مهضومة إلى الأمعاء الغليظة - هناك تهاجمها البكتيرية التي تعيش بالبلايين وتولد منها الغازات، وهكذا يحدث الانفتاخ.. وتكون هذه الغازات عفنة إذا كانت فضلات الأكل بروتينية.
وهناك من يحمل اللبن مسئولية الانتفاخ.. هذا تجن عليه.(17/30)
وأنا أنصح وأكرر النصيحة بأن اللبن غذاء مفيد لكل الأعمار، ليس فقط للأطفال.. وأحب أن أبين في هذا المجال بأن اللبن لا يتعارض مع أمراض الكبد والمرارة والجهاز الهضمي عامة.. ويجب أن نذكر فضل شرب اللبن في علاج قرحة المعدة وقرحة الاثني عشر.
ولكني أذكر هنا بالنسبة لشرب اللبن ملاحظة هامة.. فهناك بعض الناس يسبب لهم شرب اللبن نفخة أو كركبة أو زغدنة في البطن وإسهال… ويحدث ذلك بسبب نقص الخميرة التي تتولى هضمه… واختفاء هذه الخميرة قد تكون ظاهرة خلقية - أي يولد الشخص بها - أو يكون نتيجة للامتناع عن تناول اللبن لفترة طويلة..
وهنا نصل إلى هذه النتيجة: اشربوا اللبن حتى تقدروا على الاستمرار في شربه.. وهنا تعم فائدته.
وهناك الانتفاخ الناتج عن بلع الهواء، وكل إنسان يبلع الهواء يأكل؛ يبلعه وهو يأكل.. يبلعه وهو يشرب.. وأيضاً وهو يبلع ريقه.. وعند كل إنسان كمية من الهواء في بطنه.. ومصدر هذه الغازات هو في الهواء المبلوع بجانب كمية قليلة من الغازات تتكون في الأمعاء نفسها أو تستخلص من الدم، والهواء المبلوع بكميات معقولة يخرج من البطن مع التبرز أو في صورة ريح.. وهنا يكون الخروج في سهولة وبسرعة.
أما إذا تم ابتلاع الهواء بكميات كبيرة تعجز الأمعاء عن التخلص منه؛ فالنتيجة حدوث الانتفاخ في المعدة أو في الأمعاء الدقيقة أو الأمعاء الغليظة، ويسبب ذلك بعض الأعراض منها:
- الامتلاء والثقل في المعدة بعد الأكل، مثلما يحدث في حالة أمراض الكبد والمرارة.
- ألم تحت الثدي الأيسر وهذا يسمى بالذبحة الكاذبة.
- ضيق في الصدر وشعور باختناق ثم خفقان.. كل هذا يبعث بالشبهة حوله القلب والرئتين.
- عقد نفسية عند المريض، وذلك بسبب كثرة إخراج الريح مما يدفع البعض إلى الاعتزال والابتعاد عن المجتمع.
والآن فإننا أمام سؤال هام: لماذا يتم ابتلاع الهواء بكميات كبيرة؟(17/31)
إننا أمام مجموعة من الأسباب هي:
1- التكريع الصناعي، وفيه يُدخل المريض هواء إلى المعدة ليخرجه في عملية التكريع، ولكن الواقع أن كمية كبيرة من الهواء في البطن إذا استمرت عملية التكريع لفترة ... والتكريع الصناعي غالباً ما يكون ناتجاً من مرض نفسي.. ولكنه قد يكون محاولة لإزاحة ثقل على المعدة عند مريض به علة في الجهاز الهضمي، أو الذبحة الصدرية.
والتكريع الصناعي عادة سيئة عند بعض الناس؛ فهي عادة ضارة بالصحة.. وكذلك فهي تؤذي من يجاورون هذا الشخص خاصة إذا كان التكرع له رائحة كريهة.. وقد ورد في الحديث عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل البصل أو الثوم أو الكرات فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو الإنسان".
وغالباً يكون أساس هذه العادة السيئة هو هذا الاعتقاد السائد والخاطئ بأن التكريع بعد الأكل علامة من علامات الصحة الجيدة.
2- وهناك أيضاً حالة بلع الهواء المرضي… وهي حالة تحدث نتيجة للإفراط في شرب السوائل… خاصة السوائل الغازية مثل البيبسي كولا وغيرها، أو مضغ اللبان أو مص الحلاوة.
3- بجانب ذلك هناك بلع الهواء الناتج من كرة بلع الريق؛ فتكرار بلع الريق قد يكون حالة نفسية.. وقد يكون نتيجة لكثرة اللعاب في حالة أمراض الفم والأسنان، وقد يحدث أيضا إذا جف الحلق؛ فيحاول! المريض تلطيفه ببلع الريق.
4- ومن الأسباب الشائعة هو الإفراط في الأكل الذي يؤدي إلى انتفاخ البطن، والتضخم هنا يحدث في البطن نتيجة لعدة عوامل:
أ- كثرة الهواء المبلوع أثناء التهام الطعام وعب الماء، وقد يتكرع مثل هذا الشخص صناعياً؛ لينفس عن المعدة المرهقة.
ب- يحدث أيضا التضخم نتيجة لتشحم جدار البطن وترهله.
ج- ثم هناك الكثير من الفضلات غير المهضومة من الأكل التي تصل إلى الأمعاء الغليظة؛ فيحدث لها بفعل للبكتيريا تخمر أو تعفن مصحوباً بتكون الغارات.(17/32)
وتسبب أدوية المغص وبعض المهدئات الانتفاخ؛ فهذه الأدوية ترخي الأمعاء وتشل قدرتها على طرد الأرياح، وهي بجانب ذلك تسبب جفاف الحلق وبالتالي تكرار بلع الريق.
وقد يحدث الانتفاخ بصورة حادة كما رأيت في بعض حالات المغص الكلوي؛ حيث يفرط المريض في استعمال الأدوية المسكنة لعلاج المغص الكلوي… والنتيجة شلل في الأمعاء يؤدي إلى هذا الانتفاخ الخانق.
كما يصبح الانتفاخ حالة مزمنة في حالة الإدمان على الأدوية المهدئة، كما يحدث عند مرضى الجهاز الهضمي؛ حيث يتعاطى المريض أدوية المغص بصفة مستمرة؛ فتكون الأدوية سببا في الانتفاخ وليس المرض الأصلي هو الذي يسببه.
وهناك المصران المتهيج.. وفي هذه الحالة يسبب القلق النفسي اضطراباً في وظيفة الأمعاء الغليظة، وينتهي الأمر بحدوث هذا الانتفاخ.
وفي النساء؛ فهناك الحمل الكاذب ومن مظاهره انتفاخ وتضخم البطن والهواء المختبئ داخل الأمعاء، في هذه الحالة يكون أكثر من المعتاد.
بجانب ذلك هناك حالات الانتفاخ المزمن عند مرضى الاكتئاب خاصة عند السيدات بعد سن اليأس، واعتقادي أنها حالة نفسية وليست بسبب كسل الغدد.
ونستنتج أن الانتفاخ قد يؤكد وجود حالة اكتئاب.. وأن الانتفاخ قد يكون العارض الذي تحتمي به المريضة لتهرب من المجتمع تحت حجة أن بطنها كبيرة ومنتفخة بدرجه لا تمكنها من ارتداء ملابسها مثلا، والحقيقة أنها حالة الاكتئاب هي التي تعزلها.
وعلى العموم؛ فهناك بحث يؤكد أن كمية الغازات في بطن الإنسان العصبي ثلاثة أضعاف الكمية الموجودة عند الإنسان الطبيعي.
وهناك أيضاً حالة ارتخاء البطن والأمعاء؛ فالسمنة مع عدم القيام بمجهود رياضي، وكثرة إنجاب الأطفال بالنسبة للنساء، أو الأمراض؛ كل هذه الحالات قد ترخى البطن وتهدله.
وأمراض الجهاز الهضمي التي تؤدي إلى الانتفاخ يمكن حصرها في الحالات الآتية:(17/33)
أمراض المرارة: ومن علاماتها التقليدية هذا الانتفاخ الذي يحدث بعد الأكل، ومع الانتفاخ يكون الغثيان والرغبة في القيء والتجشؤ.
أمراض الكبد: ومهما اختلف سببه فهو يسبب الانتفاخ المتزايد بعد الأكل، ويصل الانتفاخ مداه في الحالات المتقدمة، وكأنه يعلن عن قرب قدوم الاستسقاء.
أمراض الأمعاء: والأمعاء التي أنهكها المرض.. تتراخى وتعجز عن طرد ما بداخلها من غازات؛ فتنتفخ، والأمعاء التي يصبح مجراها أضيق بسبب المرض.. إنها تحبس وراء هذا الجزء الضيق أو هذا السد غازات تمتلئ بها البطن.
البنكرياس: عندما يلتهب البنكرياس أو يصيبه التليف؛ فإنه يفشل في المساهمة بعصارته في عملية الهضم؛ فيحدث الانتفاخ لأكثر من سبب.
المعدة: والمعدة التي لا تفرز عصارة بسبب ضمور غشائها المخاطي، أو إصابتها بأمراض أخرى تعجز عن المساهمة في الهضم، وتطرد الطعام منها بسرعة وتلقي به الأمعاء؛ فيرتبك فيها الطعام ويكون الانتفاخ.
العلاج:
قبل أن نقبل على أقراص الفحم لعلاج الانتفاخ يجب أوّلا أن نحدد سببه؛ فأقراص الفحم - على ما أعتقد - غير قادرة على امتصاص هذه الكمية الضخمة من الغازات.
وعلى العموم؛ فإنني أنصح مريض الانتفاخ بما يلي:
أ- الاعتدال في الأكل؛ لأن الإسراف في الأكل يسبب النفخة، ويزيد من حالات الانتفاخ الناتجة من أمراض عضوية؛ لأنه يلقى جهداً مضاعفاً من الجهاز المرهق.
2- أما عن نوع الأكل… فإني أنصح مريض الانتفاخ بتحاشي المأكولات التي تربك الهضم، مثل البقول والخضراوات النيئة، مع التقليل من البروتينيات خاصة البيض في الحالات المصحوبة بغازات عفنة.
3- عدم الإفراط في شرب السوائل، وخاصة المياه الغازية، وأحب أن أقول بأن كل زجاجة من المياه الغازية تحتوي على ثلاثة ملاعق من السكر.. وبالتالي فهي قد تكون مصدراً للسمنة، وارتخاء عضلات البطن إذا أفرط فيها.(17/34)
4- عدم مضغ اللبان وبلع الريق اللاشعوري.
5- الرياضة للجسم عامة ولعضلات البطن! بصفة خاصة.
6- تجنب استعمال الملينات؛ لأنها تسبب مع طول استعمالها ارتخاء في عضلات الأمعاء.
7- مرة أخرى أكرر هذه النصيحة قبل أن أختم مقالي: وأرجو عدم التعود على استعمال الأقراص المسكنة أو المهدئة؛ لأنها توهن عضلات الجسم بما فيها عضلات الأمعاء التي تتأثر من هذه الأقراص! بصفة خاصة.(17/35)
دراسة عن التخلص من الكحول في الصيدلة والطب
للدكتور أبو الوفا عبد الآخر
بالإدارة الطبية للجامعة الإسلامية
مقدمة ونظرة تاريخية:
الحمد لله خلق الإنسان واستخلفه في الأرض، ومنحه العقل وفضله على سائر الخلق، وأمره باجتناب الخمر؛ أم الكبائر، ورأس المعاصي والمفاسد، والصلاة السلام على سيد الأنام، على آله وصحبه الكرام ... خير من حذر وبصر، وأصدق من نهى ودعا: أمرنا- صلوات الله وسلامه عليه - بالمحافظة على العقل؛ مناط الفهم والتكليف بالعبادات، وحذرنا من إفساده بتناول الخمر وسائر المسكرات، وكان - صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله - لاعنا للخمر وشاربها وبايعها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها.
وبعد.
فإن استخدام الكحول - العنصر الفعال لجميع المسكرات - في التجهيزات الصيدلانية والمستحضرات الدوائية، وفي الطب والعلاج، وفي مستحضرات التجميل؛ لهو اتجاه خاطئ في فساد التقدم العلمي، وانحراف ضال وضار في مجال البحث والتطبيق، ولقد بدأ السير في هذا الاتجاه الخاطئ منذ أن توقفت الأمة الإسلامية عن حمل مسئوليتها القيادية في مجالات الفكر والبحث، ومنذ أن فقد علماؤها زمام القيادة العلمية والصناعية، وبعد أن انتقلت هذه القيادة إلى قوم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ويتجاهلون ما في الخمر من الخبائث الحسية والمعنوية، وما فيها من المضار العاجلة والآجلة.(17/36)
وما كان من هؤلاء المتجاهلين لأوامر الله سبحانه وتعالى إلا أن جعلوا للكحول - العنصر المسكر بالخمر - مكان الصدارة في تجهيز المستحضرات الصيدلانية، والتركيبات الدوائية، وفي الأغراض العلاجية، ابتداء من توليد الدفء وفتح الشهية للطعام، إلى التطهير وعلاج بعض أمراض القلب، وغير ذلك من الأسقام، ولم يلتفتوا ألبته إلى مضاره؛ فيتركونه كدواء إلى ما هو أفضل منه، ولم يسلكوا طريق البحث الجاد بقصد التوقف عن استعمال الكحول في الأغراض الصيدلانية والتجهيزات الدوائية، كما لم يستعينوا بالوسائل الصناعية المتطورة؛ لاستنباط الفنون الصيدلية التي تعينهم وتمكنهم من الاستغناء عن الكحول في الصناعات الدوائية، ومستحضرات التجميل.
ومن قبل برع علماء الأمة الإسلامية في علم الكيمياء، وتعرفوا على (الكحول) في أبحاثهم وتجاربهم، وكان العالِم الإسلامي الشهير (أبو بكر الرازي) - الذي برع في علوم الطب والصيدلة والكيمياء - أول من حصل أثناء تجاربه على الكحول، عن طريق تقطير المواد السكرية والمواد النشوية بعد تخميرها، ورغم معرفة علماء الأمة الإسلامية للكحول في صوره المختلفة، وللكحول نقيا؛ فإنهم - وهم على قمة التقدم العلمي والحضاري في سالف الزمان - لم يستخدموه في التجهيزات الصيدلانية، ولم يستعملوه في التركيبات الدوائية، ولم يصنفوه في علاج الأمراض، ولم يجدوا أية ضرورة تدفعهم إلى استخدام (مادة) يعلمون أن إثمها عظيم وضررها كبير، وكما أنهم وجهوا كل دراساتهم الطبية والصيدلية، وتحصلوا على كل احتياجاتهم الدوائية بعيداً - وبعيداً جدا - عن هذه المادة الخبيثة.(17/37)
ولقد ظلت (ضرورة استخدم الكحول) بالطب والصيدلة - منذ أن احتضنها الفكر الإلحادي، وحتى يومنا هذا - مفروضة على الفكر المعاصر، وعلى العلم الحديث، وعلى الحضارة البشرية المعاصرة، وصار للكحول استعمالات متعددة، وأصبح من العسير على الدارسين المقلدين، والباحثين التبعيين - ومنهم على وعلى وجه الخصوص أبناء الأمة الإسلامية - أقول: أصبح من العسير عليهم أن يتخلصوا من استعمالات (الكحول) في مجالات الطب والصيدلة ومستحضرات التجميل، بعد أن أصبحت هذه الاستعمالات في أعماق الفكر مسلمات، وفي مجال الدراسة والبحث ضرورات.
وجاءت مرحلة الانفصام الفكري والعقائدي بين علوم الدين وعلوم المادة؛ فكانت وبالا على الإنسانية، وتراخى علماء الماديات في أمور دينهم، ولم يحرصوا على معرفة الحلال والحرام، وبالتالي ترفعوا - ومنهم المسلمون - عن التعرف على رأى الإسلام في مناهج الحياة وحلوله الناجحة لمشاكل المجتمع الأخلاقية، الاجتماعية والاقتصادية والصحية والسياسية ... الخ. وساروا.. بعد هذا الانفصام.. وكان ذاك في عصر النهضة المادية الحديثة، بأبحاثهم ودراساتهم وابتكاراتهم في طريق منحرف أبعدهم كثيرا عن طاعة الله سبحانه وتعالى، كما لم يحرصوا على تجنب (الكحول) - مادة الخمر الأساسية - في استعمالاتهم واحتياجاتهم الطبية والصيدلية وغيرها، وبالتالي لم يتحققوا من حالات الضرورة لاستعمال هذه المادة وغيرها من (المسكرات والمخدرات والمفترات، وغيرها من المواد التي تؤثر على شخصية الإنسان وفكره وسلوكه) .
وأصبحت (قضية تعاطى المسكرات) - وأقرانها من المحرمات - ذات وجهين: وجه يختص باستعمالها كعلاج أو للأغراض النافعة، وذلك من وجهة نظر العلماء الماديين، ووجه يختص بالتمادي في استعمالها دون حاجة علاجية أو فائدة واقعية، وذلك أيضا وجهة نظر العلماء الماديين..(17/38)
وبعد أن جعل هؤلاء العلماء للقضية وجهان قبلوا الوجه الأول وأقروه وأطلقوا عليه (وجه الضرورة أو الاستعمال النافع) ، ورفضوا الوجه الآخر وأطلقوا عليه (وجه الإدمان أو الاستعمال السيئ) ، وأصبحت (الضرورة) - من وجهة نظر العلماء الماديين - هي المبرر لإضفاء الشرعية على استعمال هذه المحرمات، وهي الحجة التي يقيمونها دفاعا عن وجهة نظرهم. هذا صار موضوع الضرورة من الأساسيات، ومن أهم جوانب الدراسة لقضية تعاطي الخمر وغيرها من المحرمات.
وعلى علماء الأمة الإسلامية أن يولوا (موضوع الضرورة) أهمية خاصة في دراستهم، وذلك بعد أن يتعرفوا على وجه الضرورة عند العلماء الماديين بمزيد من النقص والتفصيل، وعليهم أن يتعرفوا على حالات الاستعمال وملابساتها مستأنسين بدراسات وآراء العلماء الماديين المسلمين المتمسكين بتعاليم دينهم الإسلامي الحنيف واضعين في الاعتبار:
أولا: أن مقياس الضرورة الصحيح وحدَّها السليم وحالاتها المؤكدة وقدرها المقبول؛ يجب أن تكون جميعا كما ذكر علماء الأمة الإسلامية في دراساتهم وتحرياتهم بما يوافق القرآن الكريم والسنة المشرفة (لمن اضطر) .
ثانيا: وأن العلوم الطبية علوم ظنية، وأن الإنسان مجهول، وأن مصلحته في دواء بعينه أو علاج بعينه ليست مصلحة قطعية، ولا يجوز أن ترتب ضرورة على أمر غير قطعي أو أمر ظني.
ثالثا: وأن المسكرات والمفترات - وغيرها من الأدوية التي تؤثر على شخصية الإنسان وفكره وسلوكه، وهي التي تدخل ضمن المحرمات - لها أضرار مؤكدة عاجلة وآجلة بجانب نفعها.
رابعا: وأن هناك تهاونا وقصوراً وتخلفاً في أسلوب الأبحاث والدراسات في مجال الطب والصيدلة والصناعة، وأن العلماء الماديين لم يستنفذوا محاولاتهم وجهودهم وإمكانياتهم لتجنب استعمال المحرمات، وهذا يقلل من شأن الضرورة ويجعل المسئولية في أعناق أولئك العلماء، خاصة المسلمون منهم.(17/39)
(وبعد) .. فلقد حل الوقت، ولزم الأمر لكي يقوم علماء الأمة الإسلامية الفضلاء بواجبهم المقدس، أولئك الذين يعملون في مجال الصيدلة والطب والعلوم الطبيعية المختلفة وفي الصناعة.
فعليهم أن يبدءوا دراساتهم وأبحاثهم وتجاربهم العلمية البحتة والتطبيقية والصناعية، من منطلق العقيدة الإسلامية، والفكر الإسلامي هادفين أولا إلى التخلص من استعمالات (الكحول) ، في تجهيز المستحضرات الصيدلية والتركيبات الدوائية والعلاج ومستحضرات التجميل، وغير ذلك من متطلبات الحياة العصرية، بالإضافة إلى التخلص من استعمال المفترات والمنبهات إلا في حدود الضرورة الشرعية التي يتفق عليها علماء الأمة الإسلامية.
وعليهم أن يكشفوا النقاب بدراساتهم الجادة عن (خدعة كبرى) دخلت على العلم، والعلم منها براء، ألا وهي (خدعة الكحول) .
وعليهم أن يضعوا حداً لدور (الكحول) في متطلبات العصر الحديث، بحيث يعود إلى وضعه الحقيقي وحجمه الإنساني الذي كان عليه من قبل وطوال قرون عديدة (خمراً مسكرا) لا يتناوله إلا من يريد الحصول على (عربدة السكارى) ، و (نشوة المخمورين) ، وحتى لا يزعم بأهميته وضرورته إلا من ينصرف عن الحقائق العلمية عامداً متعمدا، بقصد الإطاحة بتعاليم الإسلام (دين الفطرة) وخاتم الأديان.
وعلى علمائنا الأفاضل - كل في موقعه - أن يتخذوا من الدراسة والتجريب والتصنيع، خير برهان وأقوى منطق للكشف عن زيف هذه الدعوى القائلة (بأهمية الكحول وضرورته) في الطب والصيدلة.
ولقد أصبح الوقت مناسبا لإجراء مثل هذه الدراسات والبحوث خلال هذه النهضة العلمية التي تعيشها الأمة الإسلامية، وعن طريق الاستفادة من التطور الذي أدخله العلم المعاصر على الصناعة ووسائل الإنتاج.(17/40)
ونحن - والحمد لله - هنا بالجامعة الإسلامية؛ حاملة لواء الفكر الإسلامي؛ نحرص كل الحرص على علاج المرضى بأدوية لا تحتوي على كحول، ونحرص أيضا على تجهيز التركيبات الدوائية للاستعمال الداخلي خالية من الكحول.. ونحن لا نتعرض - والحمد لله - لأية مشاكل أو قصور في الخدمات الصحية من جراء التمسك بهذا الحظر على استعمال الكحول.
وإننا نرجو من الحكومات الإسلامية، ومن المؤسسات العلمية والدينية بالعالم الإسلامي أن يبينوا هذا الفكر العلمي الإسلامي وأن يساندوا ذلك الجهد العلمي الإسلامي بقصد القضاء على استعمالات الكحول في الصيدلة والطب وفي باقي المجالات، وإيجاد البدائل والحلول التي تفي بالغرض؛ حتى يتم التخلص من هذا المنكر ابتغاء مرضاة الله، واتباعا لهذى رسولنا الكريم، صلوات الله وسلامه.
معنى العبادة
العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة؛ فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة.. وأمثال ذلك؛ من العبادة.
ابن تيميه(17/41)
مع ابن القيم في كتابه ((حادي الأرواح إلى بلاد الأرواح))
للدكتور عبد الرحمن بله علي
الأستاذ بكلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية
ابن قيم الجوزية من أعلام الدعوة السلفية، وهى الدعوة التي اختط منهجها الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين قال: "إنما أنا متبع ولست بمبتدع"؛ فهي تدعو الناس إلى أن يأخذوا دينهم من نبعه الصافي: كتاب الله وسنة رسوله وصلى الله عليه وسلم، وتحارب بحزم البدع والخرافات وأنواع الضلالات التي ألمت بدين الله المتين؛ فحجبت جماله وجلاله؛ فنهض جماعة ممن نوَّر الله بصائرهم وأحيى ضمائرهم يدعون إلى الله على بصيرة، ويردون عن دينه القويم كل حدث مبتدع، ويعملون في صبر وحكمة.. على تحكيم شريعة الله في واقع المسلمين فالحكم والتشريع لله وحده..
نراهم يركزون على العقيدة بناءً وإصلاحاً؛ لأنها حين تصلح فكل إصلاح دونها يسير، وكل خير يأتي بعدها تباعاً؛ فالحاكم إذا صلحت عَقيدته حكم بما أنزل الله تعالى، والقاضي عَدَل في حكمه، والعامل أخلص في عمله، والجندي كان للدين والوطن ذراعاً واقيا، والمرأة قامت بواجبات الأسرة نحوها، والتاجر نصح في بيعه وشرائه، والطالب اجتهد في تحصيل العلم، والمعلم نشّأ طلابه على الدين والخلق المتين وهكذا دواليك.. فالعقيدة هي (الزر) الذي إذا ضغط عليه أضاءت جميع الثريات.
عاش ابن القيم بين عامي: 691-751هـ، وهي الفترة التي شهدت تفشي الجهل وشيوع الغفلة، وظهور البدع، وبُعدَ الحكام عن الدين، وهجوم التتار على المسلمين.. فكان جنود الدعوة السلفية هم كتيبة الصدام التي نصبت وجوهها؛ حملت سلاحها.. خرجت تجاهد في سبيل الله مرة بالسنان ومرات بالحجة والبرهان.(17/42)
وقد احتل ابن القيم مكانه في الصفوف الأمامية؛ ولا غرو في ذلك فقد عاصر قائد مسيرتها وحادي ركبها العلامة ابن تيمية (661- 728هـ) فتتلمذ عليه ونشأ بين عينيه؛ إلماما بأنواع المعارف، وتمسكاً بمكارم الأخلاق، وإسهاما في مجال المؤلفات؛ فقد ألف من الكتب والرسائل ما قلّ له النظير وكثر إليه المشير، ويمتاز في كتاباته بعمق المعاني وحسن الديباجة وإشراق العبارة ووضوح الدلالة؛ فتأتي كتابته كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
ومن كتبه التي رزقت القبول والشهرة كتاب "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح".
وعنوانه يدل على فحواه؛ فهو يتحدث عن الجنة ويصفها وصفا يجعل القارئ كمن رآها؛ فهو فيها منعم مما يحرك قلبه، ويحدو روحه، ويشعل شوقه عملاً لها وطمعاً فيها، وسعياً حثيثاً إليها؛ فهي عروس مجلوة، ولكن دونها خرط القتاد، وحولها شم الجبال، لا يدفع مهرها ويحظى بقربها إلا فتى بعيدة همته حازمة إرادته، قد ألف السهر وهجر الشبع وأدمن إطالة الفكر.. عرف ربه فعظم في قلبه وصغر ما دونه في عينه؛ فالتزم طاعته فعلاً للمأمورات، واجتناباً للمنهيات، وتمسكاً بسُنة نبيه الكريم؛ دفاعا عنها ودعوة إليها.
فالكتاب في تجليته للجنة وحديثه المشوق عنها يثير العزائم ويبعث الهمم العليات إلى العيش الهنيء في تلك الغرفات، هو كما ذكر المؤلف في مقدمته:(17/43)
(بشارة أهل السنة بما أمدّ الله لهم في الجنة؛ فإنهم المستحقون للبشرى في الحياة الدنيا والآخرة، ونعم الله عليهم باطنة وظاهرة، وهم أولياء الرسول وحزبه، ومن خرج عن سنته فهم أعداؤه، وحربه لا تأخذهم في نصر سنته ملامة اللوام، ولا يتركون ما صحّ عنه لقول أحد من الأنام، والسنة أجل في صدورهم من أن يقدموا عليها رأيا فقهيا، أو بحثا جدليا، أو خيالاً صوفيا، أو تناقضا كلاميا، أو قياسيا فلسفيا، أو حكما سياسيا؛ فمن قدم عليها شيئا من ذلك فباب الصواب عليه مسدود، وهو عن طريق الرشاد مصدود..
وقد رتب المؤلف كتابه على سبعين بابا، ولكن نريد أن ندخل من خمسة أبواب - لست متفرقة -إلى تلك الحديقة الفيحاء ذات الأشجار المثمرة والظلال الوارفة والمياه العذبة.
وتلك الأبواب الخمسة التي سوف ندخل منها هي التي نظم فيها اختلاف الناس في الجنة التي أسكنها آدم عليه السلام، هل هي جنة الخلد أم هي جنة في الأرض؟ ثم ساق حجج من قال بأنها جنة الخلد، ثم ساق حجج الطائفة التي قالت إنها في الأرض، ثم ردّ كل طائفة على الأخرى.
اختلف أهل العلم في الجنة التي أسكنها آدم عليه السلام في قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ..} الآية، هل هي جنة الخلد التي وعد الله عباده المؤمنين، أو هي عبارة عن بستان كان في الأرض؟ ذهب جماعة إلى الرأي الأول، وذهب آخرون إلى الرأي الثاني بينما توقف الفريق الثالث في البت برأي؛ لتعارض الأدلة وصعوبة التوفيق بينها في نظرهم.
ولقد ساق ابن القيم رحمه الله هنا النقاش الذي دار بين العلماء، ساقه قي استيعاب عجيب ومهارة فائقة، وإنك لتجد فيه إلى جانب اللذة الروحية المتعة الذهنية، كما أنك واجد فيه من المعالم الهادية ما يجعلك تسير على بينة ورشاد، فنتهيأ إلى ما نراه لا يسوقك إليه إلا سلطان الحق وسطوة البرهان وجلال الحجة.
رأي من قال إنها جنة الْخلد وحجته:(17/44)
1- القول بأنها جنة الخلد الذي وعد الله عباده المؤمنين يوم القيامة، هو الذي فطر الله عليه الناس صغيرهم وكبيرهم، ولم يخطر بقلوبهم سواه، وأكثرهم لا يعلم في ذلك نزاعا.
2- ورد في صحيح مسلم من حديث أبي مالك عن أبي حازم عن أبي هريرة، وأبي مالك عن ربعي عن حذيفة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجمع الله تعالى الناس، ويقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة؛ فيأتون آدم عليه السلام فيقولون: يا أبانا! استفتح لنا الجنة؛ فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم.." وذكر الحديث. قالوا: وهذا يدل على أن الجنة التي أخرج منها هي بعينها التي يطلب منه أن يستفتحها، وفي الصحيحين حديث احتجاج آدم وموسى، وقول موسى لآدم: أخرجتنا ونفسك من الجنة. ولو كانت في الأرض فهم قد خرجوا من بساتين فلم يخرجوا من الجنة. وكذلك قول آدم للمؤمنين يوم القيامة: وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم، وخطيئته لم تخرجهم من جنات الدنيا.
3- قال الله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} ؛ فهذا يدل على أن هبوطهم كان من الجنة إلى الأرض من وجهين:
أحدهما: لفظة {اهْبِطُوا} ؛ فإنه نزول من علو إلى أسفل.
ثانيهما: قوله: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} عقب قوله: {اهْبِطُوا} ؛ فدل على أنهم لم يكونوا قبل ذلك في الأرض، ثم أكد ذلك بقوله في سورة الأعراف: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} ، ولو كانت الجنة في الأرض لكانت حياتهم فيها قبل الإخراج وبعده.(17/45)
4- وصف الله تعالى جنة آدم بصفات لا تكون إلا في جنة الخلد فقال: {إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى، وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} ، وهذا لا يكون في الدنيا أصلا؛ فإن الرجل ولو كان في أطيب منازلها لا بد أن يعرض له شيء من ذلك، وقابل سبحانه بين الجوع والظمأ والعري والضحى؛ فإن الجوع ذل الباطن والعرى ذل الظاهر، والظمأ حر الباطن والضحى حر الظاهر؛ فنفى عن أهلها ذل الظاهر والباطن وحر الباطن والظاهر، وهذا أحسن من المقابلة بين الجوع والعطش والعرى والضحى، وهذا شأن ساكن جنة الخلد.
5- لو كانت الجنة في الدنيا لعلم آدم كذب إبليس في قوله: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} ؛ فإن آدم كان يعلم أن الدنيا منقضية فانية وأن ملكها يبلى.
6- جاءت (الجنة) معرفة باللام في جميع المواضع كقوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} ونظائرها، ولا جنة يعهدها المخاطبون ويعرفونها إلا جنة الخلد التي وعدها الله عباده بالغيب؛ فقد صار هذا الاسم علماً عليها بالغلبة، كالمدينة والنجم والبيت والكتاب ونظائرها؛ فحيث ورد اسمها معرفا انصرف إلى الجنة المعهودة المعلومة في قلوب المؤمنين، وأما إن أريد بها جنة غيرها فإنها تجئ منكرة أو مقيدة بالإضافة، أو مقيدة من السياق بما يدل على أنها جنة في الأرض؛ فالأول قوله تعالى: {جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} ، والثاني كقوله: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ} ، والثالث كقوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} .
7- ومما يدل على أن جنة آدم هي جنة المأوى ما روى هوذة بن خليفة عن عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى الأشعرى قال: "إن الله تعالى لما أخرج آدم من الجنة زوّده من ثمارها، وعلمه صنعة كل شيء؛ فثماركم هذه من ثمار الجنة غير أن هذه تتغبر وتلك لا تتغير".(17/46)
8- ضمن الله سبحانه وتعالى لآدم إن تاب إليه وأناب أن يعيده إليها، كما روى المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} ، قال: يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى، قال: أي ربّ ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلى، قال: أرأيت إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: بلى؛ فهو قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} .
فدل هذا على أن الجنة التي أخرج منها هي التي سيعود إليها يوم القيامة وهي جنة الخلد.
حجج الذين قالوا إنها جنة في الأرض:
1- أخبر الله سبحانه على لسان جميع رسله أن جنة الخلد إنما يكون الدخول إليها يوم القيامة، ولم يأت زمن دخولها بعد.
2- إن الله تعالى وصفها لنا في كتابه الكريم بصفاتها، ومحال أن يصف الله سبحانه وتعالى شيئا بصفات ثم يكون ذلك لغير تلك الصفة التي وصفه بها، قالوا: فوجدنا الله تعالى وصف الجنة التي أعدت للمتقين بأنها دار المقامة فمن دخلها أقام فيها ولم يقم آدم بالجنة التي دخلها، ووصفها بأنها دار الخلد ولم يخلد آدم فيها، ووصفها كذلك بأنها دار سلامة مطلقة لا دار ابتلاء وامتحان وقد ابتلي آدم فيها بأعظم الابتلاء، ووصفها بأنها دار لا يعصى الله فيها وقد عصى آدم ربه في جنته التي دخلها، ووصفها بأنها دار لا خوف فيها ولا حزن وقد حصل للأبوين من الخوف والحزن ما حصل.
3- كذلك نجد من أوصاف جنة الخلد أنها دار ثواب وجزاء لا دار تكليف وأمر ونهي، وقد كلف آدم قي جنته التي دخلها مما يدل على أنها ليست هي التي أعدها الله لعباده المؤمنين يوم القيامة.(17/47)
4- حرم الله تعالى على إبليس الجنة التي وعد الله عباده المتقين، فكيف دخلها وهو الملعون المطرود من رحمة الله، بل لقد لغا فيها والجنة لا لغو فيها ولا تأثيم، كما أنه كذب فيها وحلف على كذبه، والله تعالى سمى جنته مقعد صدق؛ فكيف دخل هذا اللعين الجنة حتى فتن آدم عليه السلام ووسوس له، وهذه الوسوسة إما أن تكون في قلبه، وإما أن تكون في أذنه، وعلى كلا التقديرين فكيف توصل هذا الملعون إلى دار المتقين ومحل القدس.
5- يقول الله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} ، ولم يقل إني جاعل في جنة المأوى، فقالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء} ، ومحال أن يكون ذلك في جنة المأوى.
6- لا نزاع في أن الله تعالى خلق آدم في الأرض ومن طينتها، ولم يذكر في موضع واحد أصلا أنه نقله إلى السماء بعد ذلك، ولو كان قد نقله بعد ذلك لكان هذا أولى بالذكر؛ لأنه من أعظم الآيات ومن أعظم النعم عليه؛ فإنه كان معراجاً ببدنه وروحه من الأرض إلى فوق السماوات.
7- أخبر الله تعالى عن إبليس أنه قال لآدم: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} ؛ فإن كان الله تعالى قد أسكن آدم جنة الخلد والملك الذي لا يبلى فكيف لم يرد عليه، ويقول له: كيف تدلني على شيء أنا فيه، وقد أعطيته، ولم يكن الله سبحانه وتعالى قد أخبر آدم إذ اسكنه الجنة أنه فيها من الخالدين، ولو علم أنها دار الخلد لما ركن إلى قول إبليس، ولا مال إلى نصيحته، ولكنه لما كان في غير دار خلود غرّه بما أطمعه فيه من الخلد.(17/48)
8- قال منذر: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن آدم عليه السلام نام في جنته وجنة الخلد لا نوم فيها بالنص وإجماع المسلمين؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أينام أهل الجنة في الجنة؟ قال: "لا؛ النوم أخو الموت، والنوم وفاة، وقد نطق به القرآن، والوفاة تقلب أحوال ودار السلام مسلمة من تتقلب الأحوال والنائم ميت أو كالميت".
9- لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام أعلمه أن له عمراً محددا وأجلا معلوماً ينتهي إليه، وأنه لم يخلقه للبقاء، كما روى الترمذي في جامعه من حديث أبي هريرة؛ فإنه صريح في أن آدم عليه السلام لم يخلق في دار البقاء التي لا يموت من دخلها، وإنما خلق في دار الفناء التي جعل الله تعالى لها ولسكانها أجلا معلوماً وفيها أسكن.
فإن قيل: فإذا كان آدم عليه السلام قد علم أن له عمرا مقدرا وأجلا ينتهي إليه، وأنه ليس من الخالدين؛ فكيف لم يعلم كذب إبليس في قوله: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} ، وقوله: {أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} ؟.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن الخلد لا يستلزم الدوام والبقاء، بل هو المكث الطويل.
الثاني: أن إبليس لما حلف له وغرّه وأطمعه في الخلود نسي ما قدر له من عمره.
قالوا: فإذا جمع ذلك بعضه إلى بعض، وفكر فيه المنصف الذي رفع له علم الدليل فشمّر إليه، وربا بنفسه عن حضيض التقليد تبين له الصواب.
فإذا قلنا لأرباب هذا القول فما هو ردّكم على الحجج القوية التي أوردها أصحاب القول الأول للذاهبين إلى أنها جنة الخلد التي وعد الله عباده المؤمنين؟ تجد هم يردون عليهم بالآتي:(17/49)
1- أما قولكم: إن قلنا هذا هو الذي فطر الله عليه عباده بحيث لا يعرفون سواه؛ فالمسألة سمعية لا تعرف إلا بأخبار الرسل، ونحن وأنتم إنما تلقينا هذا من القرآن لا من المعقول ولا من الفطرة؛ فالمتبع فيه ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله، ونحن نطالبكم بصاحب واحد أو تابع أو أثر صحيح أو حسن بأنها جنة الخلد التي أعدها الله للمؤمنين بعينها، ولن تجدوا إلى ذلك سبيلا، وقد وجدنا لكم من كلام السلف ما يدل على خلافه، ولكن لما وردت الجنة مطلقة في هذه القصة، ووافقت اسم الجنة التي أعدها الله لعباده في إطلاقها وبعض أوصافها؛ فذهب كثير من الأوهام إلى أنها هي بعينها، فإن أردتم بالفطرة هذا القدر لم يفدكم شيئا، وإن أردتم أن الله فطر الخلق على ذلك كما فطرهم على حسن العدل وقبح الظلم وغير ذلك من الأمور الفطرية فدعوى باطلة، ونحن إذا رجعنا إلى فطرنا لم بحد علمها بذلك كعلمها بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات.
2- وأما استدلالكم بحديث أبي هريرة رضى الله عنه، وقول آدم عليه السلام: وهل أخرجكم منها إلاّ خطيئة أبيكم؛ فإنما دل على تأخر آدم عليه السلام لاستقباح الخطيئة التي تقدمت منه في الدار الدنيا، وأنه بسبب تلك الخطيئة حصل له الخروج من الجنة، كما في اللفظ الآخر: إني نهيت عن أكل الشجرة؛ فأكلت منها، فأين في هذا ما يدل على أنها جنة المأوى بمطابقة أو تضمين أو استلزام، وكذلك قول موسى عليه السلام له: أخرجتنا ونفسك من الجنة؛ فإنه لم يقل أخرجتنا من جنة الخلد.
وقولكم: إنهم خرجوا إلى بساتين من جنس الجنة التي في الأرض؛ فاسم الجنة وإن أطلق على تلك البساتين فبينها وبين جنة آدم ما لا يعلمه إلا الله، وهي كالسجن بالنسبة إليها، واشتراكهما في كونهما في الأرض لا ينفي تفاوتهما أعظم تفاوت في جميع الأشياء.(17/50)
3- وأما استدلالكم بقوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا..} عقيب إخراجهم من الجنة؛ فلفظ الهبوط لا يستلزم النزول من السماء إلى الأرض، غايته أن يدل على النزول من مكان عل إلى أسفل منه، وهذا غير منكر؛ فإنها كانت جنة في أعلى الأرض فاهبطوا منها إلى الأرض، وقد كان الأمر بالإهباط لآدم وزوجه وعدوهما، فلو كانت الجنة في السماء لما كان عدوهما متمكنا منها بعد إهباطه الأول لما أبى السجود لآدم عليه السلام، فالآية حجة عليكم لا لكم، ولا تغنى عنكم وجوه التعسفات والتكلفات التي قدرتموها.
وأما قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} ؛ فهذا لا يدل على إنهم لم يكونوا قبل ذلك في الأرض؛ فإن الأرض اسم جنس، وكانوا في أعلاها وأطيبها وأفضلها في محل لا يدركهم فيها نصب ولا جوع ولا ظمأ؛ فأهبطوا إلى أرض يعرض فيها ذلك، وفيها حياتهم وموتهم وخروجهم من القبور والأرض التي أسكناها لم تكن دار نصب ولا تعب ولا أذى، والأرض التي اهبطوا إليها هي محل التعب والنصب والأذى وأنواع المكاره.
4- وأما قولكم: إنه سبحانه وتعالى وصفها بصفات لا تكون في الدنيا؛ فجوابه أن تلك الصفات لا تكون قي الأرض التي أهبطوا إليها؛ فمن أين لكم أنها لا تكون في الأرض التي اهبطوا منها.
5- أما قولكم إن آدم عليه السلام كان يعلم أن الدنيا منقضية فانية؛ فلو كانت الجنة فيها لعلم كذب إبليس في قوله: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ} ؛ فجوابه من وجهين:
أحدهما: أن اللفظ إنما يدل على الخلد، وهو أعم من الدوام الذي لا انقطاع له؛ فإنه في اللغة المكث الطويل، ومكث كل شيء بحسبه، ومنه قولهم: "رجل مخلد"إذا أسن وكبر، ومنه قولهم لأثافي الصخور: (خوالد) لطول بقائها بعد دروس الأطلال؛ قال أحدهم:
إلا رمادا هامدا دفعت
عنه الرياح خوالد سحم(17/51)
ونظير هذا إطلاقهم القديم على ما تقادم عهده، وإن كانت له أول كما قال تعالى: {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} ، و {إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} ، و {إِفْكٌ قَدِيمٌ} .
الثاني: أن العلم بانقطاع الدنيا ومجيء الآخرة إنما يعلم بالوحي، ولم يتقدم لآدم عليه الصلاة والسلام نبوة يعلم بها ذلك، وهو إن نبأه الله تعالى وأوحى إليه وأنزل إليه صحفاً كما في حديث أبي ذر لكن هذا بعد إهباطه إلى الأرض بنص القرآن، قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ، وكذلك في سورة البقرة: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً..} الآية.
6- وأما قولكم: إن الجنة وردت معرفة باللام التي للعهد فتنصرف إلى جنة الخلد؛ فقد وردت معرفة باللام غير مراد بها جنة الخلد قطعا كقوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} .
وقولكم: إن السياق هنا دل على أن المراد بها هنا جنة في الأرض، قلنا: والأدلة التي ذكرناها دلت على أن جنة آدم عليه السلام في الأرض؛ فلذلك صرنا إلى موجبها؛ إذ لا يجوز تعطيل دلالة الدليل الصريح.
7- وأما استدلالكم بأثر أبي موسى: "إن الله أخرج آدم عليه السلام من الجنة وزوده من ثمارها"؛ فليس فيه زيادة على ما دلّ عليه القرآن إلاَّ تزوده منها، وهذا لا يقتضي أن تكون جنة الخلد.(17/52)
وقولكم: إن هذه تتغير وتلك لا تتغير؛ فمن أين لكم أن الجنة التي أسكنها آدم كان التغير يعرض لثمارها كما يعرض لهذه الثمار، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم"، أي: لم يتغير ولم ينتن. وقد أبقى الله سبحانه وتعالى في هذا العالم طعام العزيز وشرابه مائة سنة لم يتغير.
8- أما قولكم: إن الله سبحانه تعالى ضمن لآدم عليه السلام إن تاب أن يعيده إلى الجنة؛ فلا ريب أن الأمر كذلك، ولكن ليس يعلم أن الضمان إنما يتناول عودة إلى تلك الجنة بعينها، بل إذا أعاده إلى جنة الخلد فقد وفى سبحانه وتعالى بضمانه حق الوفاء.. ولفظ العود لا يستلزم الرجوع إلى عين الحالة الأولى ولا زمانها ولا مكانها، بل ولا إلى نظيرها، كما قال شعيب لقومه: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} .
فإذا أتحنا الفرصة لأصحاب الرأي الأول القائل بأنها جنة الخلد؛ ليجيبوا عما احتج به منازعوهم قالوا:
1- أما قولكم: إن الله سبحانه وتعالى أخبر أن جنة الخلد إنما يقع الدخول إليها يوم القيامة، ولم يأت زمن دخولها بعد؛ فهذا حق في الدخول المطلق الذي هو دخول استقرار ودوام، وأما الدخول العارض فيقع قبل يوم القيامة، وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم الجنة ليلة الإسراء، وأرواح المؤمنين والشهداء في البرزخ في الجنة، وهذا غير الدخول الذي أخبر به يوم القيامة؛ فدخول الخلود إنما يكون يوم القيامة؛ فمن أين لكم أن مطلق الدخول لا يكون في الدنيا.. وبهذا خرج الجواب عن استدلالكم بكونها دار المقامة ودار الخلد.(17/53)
2- وأما احتجاجكم بسائر الوجوه التي ذكرتموها في الجنة، وأنها لم توجد في جنة آدم عليه السلام من العري والنصب والحزن واللغو والكذب وغيرها؛ فهذا كله حق لا ننكره نحن ولا أحد من أهل الإسلام، ولكن هذا إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة كما يدل عليه سياق الآيات كلها؛ فإن نفي ذلك مقرون بدخول المؤمنين إياها يوم القيامة، وهذا لا ينفي أن يكون فيها بين أبوي الثقلين ما حكاه الله سبحانه وتعالى من ذلك، ثم يصير الأمر عند دخول المؤمنين إياها إلى ما أخبر الله عنها؛ فلا تنافي بين الأمرين.
3- وأما قولكم إنها دار جزاء وثواب لا دار تكليف، وقد كلف الله سبحانه آدم بالنهى عن الأكل من تلك الشجرة فدل على أن تلك الجنة دار تكليف لا دار خلود؛ فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنه يمتنع أن تكون دار تكليف إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة؛ فحينئذ ينقطع التكليف، وأما وقوع التكليف فيها في دار الدنيا فلا دليل على امتناعه ألبته، كيف وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "دخلت البارحة الجنة؛ فرأيت امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت لمن أنت.." الحديث.. وغير ممتنع أن يكون فيها من يعمل بأمر الله، ويعبد الله قبل يوم القيامة، بل هذا هو الواقع؛ فإن من فيها الآن مؤتمرون بأوامر من قبل ربهم، لا يتعدونها، سواء سمي ذلك تكليفا أو لم يسمّ.
الوجه الثاني: أن التكليف فيها لم يكن بالأعمال التي يكلف بها الناس في الدنيا من الصيام والصلاة والجهاد ونحوها، وإنما كان حجرا عليهما في شجرة واحدة من جملة أشجارها؛ إما واحدة بالعين أو النوع، وهذا القدر لا يمتنع وقوعه في دار الخلد، كما أن كل واحد محجور عليه أن يقرب أهل غيره فيها؛ فإن أردتم بكونها ليست دار تكليف امتناع وقوع مثل هذا فيها في وقت من الأوقات فلا دليل عليه، وإن أردتم أن تكاليف الدنيا منتفية عنها فهو حق ولكن لا يدل على مطلوبكم.(17/54)
4- أما استدلالكم بقصة وسوسة إبليس له بعد إهباطه في السماء؛ فلعمر الله إنه لمن أقوى الأدلة وأظهرها على صحة قولكم، وتلك التعسفات لدخوله الجنة وصعوده إلى السماء بعد إهباطه الله له منها لا يرتضيها منصف، ولكن لا مانع أن يصعد إلى هناك صعوداً عارضاً لتمام الابتلاء والامتحان الذي قدره الله تعالى وقدر أسبابه، وإن لم يكن ذلك المكان مقعداً له مستقرأَ كما كان، وقد أخبر الله سبحانه عن الشياطين أنهم كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم يقعدون من السماء مقاعد للسمع؛ فيستمعون الشيء من الوحي، وهذا صعود إلى هناك ولكنه صعود عارض لا يستقرون في المكان الذي يصعدون إليه مع قوله تعالى: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} ؛ فلا تنافي بين الصعود والأمر بالهبوط؛ فهذا محتمل.
5- وأما احتجاجكم بكونه خلق من الأرض؛ فلا ريب في ذلك، ولكن من أين لكم أنه كمل خلقه فيها، وقد جاء في بعض الآثار "أن الله سبحانه ألقاه على باب الجنة أربعين صباحا؛ فجعل إبليس يطوف به ويقول لأمر مّا خلقت؛ فلما رآه أجوف علم أنه خلق لا يتمالك؛ فقال: لئن سلطت عليه لأهلكنه، ولئن سلط علي لأعصينه".
6- أما ما ذكرتموه من أن آدم خلق في الأرض ولم يرد ما يفيد أن الله تعالى نقله إلى السماء؛ فإن قوله سبحانه وتعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..} يدل على أنه كان معهم في السماء حيث أنبأهم بتلك الأسماء، وإلا فهم لم ينزلوا كلهم إلى الأرض حتى يسمعوا منه ذلك، ولو كان خلقه كمل في الأرض لم يمتنع أن يصعده الله سبحانه إلى السماء ثم ينزله إلى الأرض قبل يوم القيامة، وقد عرج ببدن رسول الله صلى الله عليه وسلم وروحه إلى فوق السماوات.(17/55)
7- أما أن آدم عليه السلام مال إلى نصيحة إبليس حين دلّه على شجرة الخلد؛ فليس ببعيد أن يكون عالما - بفطرته أو بوحي من الله تعالى - أنه ليس بخالد؛ فطمع فيه لما رأى من النعيم الذي لا ترغب النفس في مفارقته، فلما وجد ذلك في نفسه غرّه إبليس بما أطمعه فيه من الخلود؛ فميله إليه منبعث من ذات نفسه لا من علمه أنه في غير دار الخلود كما زعمتم.
8- وأما استدلالكم بنوم آدم فيها والجنة لا ينال أهلها فهذا - إن ثبت النقل بنو آدم - فإنما النوم ينفى عن أهلها يوم دخول الخلود حيث لا يموتون وأما قبل ذلك فلا.
9- وأما استدلالكم بأن الله سبحانه أعلم آدم عليه السلام مقدار أجله، وما ذكرتم من الحديث وتقرير الدلالة منه؛ فجوابه أن إعلامه بذلك لا ينافي إدخاله جنة الخلد وإسكانه فيها مدة.
والله تعالى أعلم وفي تدبيره أحكم..
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده الذي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته ولئن استعاذني لأعيذنه.
رواه البخاري.(17/56)
بين قاض وخليفة من كتاب نفح الطيب
ومنهم القاضي مُنْذِر بن سعيد البلوطى، قاضي الجماعة بقُرْطُبة، وكان لا يخاف في الله لومة لائم.
ومن مشهور ما جرى له في ذلك قصته في أيتام أخي نَجْدة، وحدث بها جماعة من أهل العلم والرواية، وهي أن الخليفة الناصر احتاج إلى شراء دار بقرطبة لحظية من نسائه تَكْرُم عليه، فوقع استحسانه على دار كانت لأولاد زكريا أخي نجدة، وكانت بقرب النشارين في الرَّبَض الشرقي منفصلة عن دوره، ويتصل بها حَمام له غلة واسعة، وكان أولاد زكريا أخي نجدة أيتاما في حجر القاضي.
فأرسل الخليفة مَن قَوَّمها له بعدد ما طابت نفسه، وأرسل ناسا أمرهم بمداخلة وصي الأيتام في بيعها عليهم، فذكر أنه لا يجوز إلا بأمر القاضي؛ إذ لم يجز بيع الأصل إلا عن رأيه ومشورته؛ فأرسل الخليفة إلى القاضي منذر في بيع هذه الدار، فقال لرسوله: البيع على الأيتام لا يصح إلا لوجوه منها: الحاجة، ومنها الوَهْي الشديد، ومنها الغبطة [1] ؛ فأما الحاجة فلا حاجة لهؤلاء الأيتام إلى البيع، وأما الوَهْي فليس فيها، وأما الغبطة فهذا مكانها؛ فإن أعطاهم أمير المؤمنين فيها ما تستبين به الغبطة أمرت وصيهم بالبيع، وإلا فلا.(17/57)
فنقل جوابه إلى الخليفة؛ فأظهر الزهد في شراء الدار طمعا أن يتوخى رغبته فيها، وخاف القاضي أن تنبعث منه عزيمة تلحق الأيتام ثورتها، فأمر وصي الأيتام بنقض الدار وبيع أنقاضها؛ ففعل ذلك وباع الأنقاض؛ فكانت لها قيمة أكثر مما قوّمت به للسلطان؛ فاتصل الخبر به، فعز عليه خرابها، وأمر بتوقيف الوصي على ما أحدثه فيها؛ فأحال الوصي على القاضي أنه أمره بذلك، فأرسل عند ذلك للقاضي مُنْذِر، وقال له: أنت أمرت بنقض دار أخي نَجدة؟ فقال له: نعم، فقال: وما دعا إلى ذلك؟ قال: أخذت فيها بقول الله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} ؛ مقوِّموك لم يقوموها إلا بكذا، وبذلك تعلق وَهْمُك، فقد نَضَّ في أنقاضها أكثر من ذلك، وبقيت القاعة والحمام فَضْلا، ونظر الله تعالى للأيتام؛ فصبر الخليفة عبد الرحمن على ما أتي من ذلك، وقال: نحن أولى مَن انقاد إلى الحق، فجزاك الله تعالى عنا وعن أمانتك خيرا..
قالوا: "وكان - على متانته وجزالته - حسن الخلق، كثير الدعابة؛ فربما ساء ظن من لا يعرفه، حتى إذا رام أن يصيب من دينه شعرة ثار له ثورة الأسد الضاري".
فمن ذلك ما حد ث به سعيد ابنه قال: قعدنا ليلة من ليالي شهر رمضان المعظم مع أبينا للإفطار بداره البرانية؛ فإذا سائل يقول: أطعموني من عشائكم؛ أطعمكم الله تعالى من ثمار الجنة هذه الليلة، ويكثر من ذلك؛ فقال القاضي: "إن استجيب لهذا السائل فيكم فليس يصبح منا أحد".
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(17/58)
"إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا؛ فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجاذب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى وإنما هي قيعان لا تمسك ماءها ولا تنبت كلأ؛ فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه بما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به"
متفق عليه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الغبطة: أراد الحظ والمنفعة الظاهرة، كأن يكون الثمن أكثر من ثمن المثل بكثير؛ سمى بذلك لأنه مما يغبطهم الناس عليه. (من كتاب نفح الطيب) .(17/59)
العلم والإيمان
إن الإسلام إذ قرر ترابط أجزاء الكون وحوادثه ترابطاً مطرداً منتظماً - أو ما يسمى في الفلسفة الحديثة النظام السببي للكون - لم يقف عنده كما وقف الماديون، بل تجاوزه إلى طرح أعظم قضية كونيه:.. من أين جاء الكون ونظامه؟.. مَن خلقه؟.. من قدر نظامه؟.. ثم الإجابة عليها بتسلسل منطقي وإلزام عقلي.
إن هذه النظرة التي لا تقف عند حدود العلم التجريبي هي استمرار وإكمال الفكر العلمي، بل إن سلسلة التفكير العلمي تبقى ناقصة وغير منطقية دون هذا التمديد للخط البياني لبحث ما وراء منطقة العلم التجريبي.
إن بعض المطلعين اطلاعاً سطحيا على الفلسفة المعاصرة ظنوا أن في هذه الخطوة ما ينافي العلم والتفكير العلمي، وإنما جاءهم الخطأ من أنهم غفلوا عن أن سلطة العلم بالمعنى الخاص لا تتناول طرح هذه المسألة، وأن كل نظرية في أصل المادة وأصل الوجود هي من قبيل الفلسفة ومن أبحاث ما وراء الطبيعة؛ ولذلك كان من باب الخلط والجهل والمغالطة القول بأن نظرية المادية الجدلية - أو أي نظرية من نوعها تحاول تعليل أصل الكون والوجود - هي (علمية) .
إن مثل هذه النظريات تبحث في فلسفة العلوم، ويتكون منها ما يسمى (بالنظريات الكبرى) ، وإن كان العلم يقدم لها معطيات هامة ومعلومات مفيدة لتقريبها من الصواب، و (لكنها تبقى على كل حال من باب الافتراض والتخمين، وطريقها التأمل الفكري لا الاختبار والتجربة.
إن الطريق الذي سلكه الإسلام - كما يتجلى لنا ذلك في القرآن - يقيم انسجاماً منطقياً معقولاً بين التفكير السببي العلمي الموضوعي والإيمان بالله خالق الكون ونظامه السببي؛ فالإيمان بالله وبقدرته لا يمنع من النظر في تعاقب الحوادث وترابطها وتعليلها وخضوعها لسنة مطردة وقانون عام.(17/60)
وهذا الذي يجعل كثيراً من كبار رواد العلم المختصين في العصر الحديث يرتقون بتفكيرهم من دائرة اختصاصهم في الكيمياء أو الفيزياء أو الحياة أو الفلك.. إلى الاعتقاد بوجود إله قدير عليم، وإن القصور عن إدراك أبعاد البحوث الفلسفية الحديثة هو الذي دعا بعض الكتاب إلى التورط الخاطئ فيما سموه نقد الفكر الديني، وخاصة في تطبيقه على الإسلام.
إن التفكير الإسلامي - بتأثير مباشر من القرآن والسنة - حدث في طرائق البحث العلمي تغييرا جذريا عميقاً بالغ الأهمية؛ ذلك أنه بدل المنهج التأملي الذي كان ينهجه اليونان، والذي يعتمد على مجرد التصور العقلي والقياسي المنطقي المجرد، وأقام المنهج التجريبي ولا سيما في مجال علوم الطبيعة والعلوم الاجتماعية، وجعله المنهج الأساسي في ميدان البحوث الطبيعية في الطب والكمياء والفيزياء والفلك وغيرها.
وعن المسلمين نقل علماء الغرب العلوم الرياضية والطبيعية والمنهج التجريبي؛ فقد ترجموا كتب المسلمين في هذه العلوم وهي مبنية على المنهج التجريبي، وعن المسلمين أخذ فرنسيس بيكون الذي يعتبره أوربا مؤسس الطريقة التجريبية، ولم تكن النهضة الأوربية التي سبقت العصر الحديث إلا نتيجة لترجمة التراث العلمي الذي أنتجه وأبدعه المسلمون، والطريقة التجريبية التي يقوم عليها بحوثهم، ولم يكن هذا الاتجاه في تقدم علوم الطبيعة والمنهج التجريبي لدى المسلمين إلا أثرا من آثار الإسلام وتوجيه القرآن والسنة.
كتاب (الإسلام والفكر العلمي)
للأستاذ/ محمد المبارك
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".
رواه مسلم.(17/61)
مختارات من الصحف
بداية النهاية
بالرغم من المؤامرات والدسائس التي تحاك ضد الإسلام إلا أن المتتبع للصحافة العالمية والمحلية يلاحظ اهتماما كبيرا على صفحاتها بالإسلام؛ ليس حبا ولا إعجابا به بل خوفا ورهباً من المد الإسلامي في العالم، والصّحوة الإسلامية الواعية في البلاد الإسلامية بعامة وفي أوساط الشباب المتجه إلى الله، والباحث عن الخلاص بخاصته، مع أن الإسلام حقيقة لم يتحرك؛ فهو لازال في نومه الذي أراده له المسلمون، ولكنه تقلب في الفراش فأزعج القاصي والداني، وقد ظنا أنه مات ولم يعد له حراك؛ فكيف به إذا قام من نومه وتحرك؟؟!.
ويلاحظ أيضاً تجاه كثير من الدول إلى الأخذ بالإسلام نظاماً للتشريع ومنهجاً للحياة، كما يلاحظ الاتجاه إلى تفريغ القضايا من مضامينها الإقليمية والقومية والعصبية وتوجيهها إلى مضمونها الصحيح، وهو الإسلام.
ونأمل أن يوفق إليه هؤلاء وهؤلاء وأن يكون الإخلاص وحسن النية وابتغاء وجه الله وحده وراء ذلك كله.
نشرت جريدة المدينة السعودية بتاريخ 12 ربيع الثاني 1399هـ مقابلة مع ممثلي منظمة (فتح) في المملكة جاء فيها:
س: حاولت إسرائيل التقليل من حجم خسائرها الناتجة عن انقطاع البترول الإيراني عنها، رغم ما هو معروف من أن صادرات إيران النفطية إلى إسرائيل تشكل العمود الفقري لاستهلاك الطاقة في الأرض المحتلة، ما هو تفسيركم لهذه الظاهرة؟ وما هو تقويمكم للعلاقات الفلسطينية الإيرانية الجديدة؟.(17/62)
ج: الإسرائيليون يحاولون دائماً أن يرفعوا معنويات المستوطنين الصهاينة، لكن القصة ليست قصة أنبوب بترول انقطع ومن ثم يتم تعويضه من جهة أخرى.. فالذي جرى في إيران في تصوري هو بداية النهاية للوجود الإسرائيلي، وهو تصحيح لوضع شاذ باعتبار أن هذه الأحداث هي دخول للإسلام في محاربة اليهود، واليهود يريدون أن يؤسسوا دولة دينية، في حين أنهم يطلبون منا أن تكون دولة علمانية.. لأننا حين نطرح فكرة الدولة العلمانية لن تكون هناك أية بواعث تشجع المسلمين على تحرير القدس؛ فالقدس في ظل الدولة العلمانية لا تعني أكثر من (متحف) ، ولكن مشاعر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها تتحرك نحو القدس باعتبارها البلد الذي أسرى إليه برسول الله صلى الله عليه وسلم، والقدس التي بارك الله حولها؛ فإذا فقدت هذه المعاني فإن دوافع المسلمين لتحرير القدس ستظل معدومة، وهذا ما يريده اليهود وما يريده الإعلام الصهيوني والغربي والأمريكي، وجاءت الثورة الإيرانية فوضعت الأمر في نصابه الصحيح، وهو الأمر الذي ننادي به نحن أبناء الخط الإسلامي في الحركة الفلسطينية باستمرار، وهو أن الأمور لن توضع في نصابها الصحيح إلا عندما تطرح القضية بوضوح على أنها صراع ضد صليبية، وهذا هو ما يخشاه اليهود.
ذعر يهودي من المصاحف:
وأنا أذكر أنه في سنة من السنوات أهدتنا رابطة العالم الإسلامي خمسة آلاف مصحف وزعناها على المقاتلين، واستشهد اثنان منهم في إحدى العمليات ووجد اليهود في جيوبهم المصحف؛ فقامت قيامة القيادة الإسرائيلية لتجد تعليلا لظاهرة وجود المصاحف مع المقاتلين، ومن هنا يأتي تحديد الثورة الإيرانية بأنها ثورة إسلامية محددة المعالم قائم على عمود أساسي هو الجهاد.. وهذا هو المكسب الحقيقي.(17/63)
والتحرك الإسلامي اليوم ليس وقفا على إيران؛ فهو سيمتد عما قريب إلى تركيا؛ إذا إنه من المحال أن يستمر بقاء السفارة الإسرائيلية وهي تمتهن كرامة الدولة التي كانت في يوم من الأيام دولة الخلافة الإسلامية؛ فهذا أمر لا تحتمله مشاعر المسلمين.
وفي تشاد هناك تحرك إسلامي يناضل في سبيل أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى، وفي باكستان هناك دعوة صادقة إلى تحكيم الشريعة الإسلامية والعودة إلى الإسلام.
إن هذه الصحوة الإسلامية التي بدأت الآن تمتد حول أرجاء العالم الإسلامي كفيلة بإزالة صبيان السياسة عن الجو، وهؤلاء الصبيان لا أظن أن فيهم من يستطيع أن يزعم أن لديه من الدعم والقوة ما كان لدى الشاه.
تعليق:
الإجابة السابقة لمثل منظمة (فتح) في السعودية تدل على بادرة طيبة وجديدة، وهي محاولة ممثل (فتح) إرجاع القضية الفلسطينية إلى إطارها الصحيح ووضعها الحقيقي وهو إطار الإسلام، إذ إن القوى العالمية كلها والعربية قد أفرغت ولا زالت تفرغ القضية الفلسطينية من أنها قضية في أساسها صراع بين الكفر والإيمان وبين الحق والباطل، ولو تبنت الأمة الفلسطينية قضيتها على أساسها الإسلامي لما احتل اليهود القدس، ولما لحقت الهزائم بدعاة القومية والعصبية العار ظلما بالمسلمين.
إن مصحفين من القرآن الكريم في جيب شهيدين من الفلسطينيين أثار الذعر والخوف والهلع في قلب دولة إسرائيل؛ فكيف إذا كانت المصاحف في الجيوب والقلوب والعقول؟!
إن الجنود اليهود يضعون كتابهم المقدس في كل دبابة وفي جيب كل جندي، والعرب يخجلون من كتابهم ويهربون من هويتهم؛ خوفا من أوهام التخلف والرجعية والتدين ولو رجعوا إلى الله كما يقول ممثل (فتح) - ونأمل أن يكون ذلك رأي المنظمة كلها - لحققوا نصرا أكيدا، ولعادت القدس إسلامية.(17/64)
إن المد الإسلامي يحتاج إلى توجيه في المسار الصحيح، وعلى زعماء المسلمين ألا يغفلوا هذا الواقع الجديد، وأن يتجهوا إلى الله فيبحثوا عن الوسائل الصحيحة للغايات الكبرى، وألا يخشوا على قياداتهم إذا ما أخلصوا النية لله وتمسكوا بهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، ولنا في باكستان قدوة حسنة، ولكم نتمنى أن نسمع من ياسر عرفات رجوعا عن إرضاء قوى الكفر في الدعوة إلى الدولة العلمانية في فلسطين!؛ فإسرائيل دولة دينية عقائدية في المقام الأول، ولابد لنا من مواجهة العقيدة اليهودية بالعقيدة الإسلامية الصحيحة المؤيدة من الله سبحانه وتعالى، وما انتصرت الأمم بقوميتها ولا بتراثها ولا بثقافتها وحضارتها، ولكنها دائما تنتصر بعقائدها؛ والله يقول: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} ، {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} . صدق الله العظيم
عباس محجوب
الإنسان بين شريعة الله وقوانين البشر:
أما جوهر القول، وخلاصة الرأي الذي نذهب إليه فيتلخص في أن الأمور الإنسانية خاضعة لحكم الدين أولا وأخيراً.. وكل محاولة لإخضاع هذه الأمور للرأي والهوى يورث المجتمع الإنساني أشد الوبال.. ومن الرأي والهوى شيء يقال له: (إرادة الفرد) .
ومن أغرب الظاهرات في هذا الزمان أن نرى في بعض البلاد الإسلامية عرفا مستقرا بتقديم القانون الوضعي على الشريعة الإسلامية!! ومن حول هذا القانون الوضعي ألف حاشية وحاشية؛ فهذا فقه.. وتلك مبادئ وأحكام.. وقضاء.. وجزاء وثواب.. والمصدر دائما (إرادة المشرع) ، والمشرع الفرد يصدع بأمر هيئة تشريعية، والهيئة التشريعية تقوم مقام الأمة كلها..
فإذا أسقطنا الزيف عن هذا التركيب الروماني في أصله، الغريب عن الإسلام في معظم مصادره وموارده، لوجدنا (إرادة الفرد) هي الأساس في التقنين؟؟.(17/65)
وبعبارة أخرى نقول: إن الفرد في زماننا لا يخاف مساماة الله في جبروته.. ويظن هذا الفرد بأنه قادر على أن يأتي - في شأن الأمور الإنسانية - بأوضاع وبأحكام أصلح مما جاءت به الشريعة.. ومن ثم كان تحديد الملكية بقانون، وتشويه أحكام الشريعة بقانون، وتحريم ملكية أداة الإنتاج بقانون.. إلى آخر ما نعيش في ظله الكثيف الغريب عن الإسلام..
وأكبر خطر حل في بلادنا.. هو خبرة الخبراء؛ فهؤلاء يقولون: إن القانون الوضعي هو الشريعة.. وإننا أحرص على الشريعة منكم يا تلامذة المدارس القديمة..
وما كان قولهم هذا إلا بقصد المحافظة على رزق خبيث كفله خصوم الإسلام لإشباعهم ... قال المستشرق الإنجليزي (جب) في بعض مؤلفاته: لقد يئسنا من تنحية القرآن من حياة المسلمين ... مع أننا نجحنا في إثارة الشك حول السنة، ونجحنا في إحلال القانون الوضعي محل الشريعة.. ولكن بقي القرآن.. وإن أملنا في تنحيته بدوره.. معلق بجهود تلامذتنا؛ فهم وحدهم القادرون على أن يرفعوا الصوت في مجتمعاتهم الخاصة بهم؛ لكي يخلصوا البشرية من بقية الرسالة التي جاء بها محمد [عليه الصلاة والسلام] ، وأريد بذلك: تنحية القرآن نهائيا عن الإسلام المهذب أو المتمشي مع اتجاهات العصر. ثم يضرب هذا المستشرق مثلا مما تتعلق به أماله.. من التهجم على بعض قصص القرآن الكريم من سيرة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.. ويشيد بشجاعة الكاتب الذي اصطبغ بصيغة الفرنجة، ونقل عنهم بغير وعي.. فأثار آمال الفرنجة وأخصب خيالهم بقرب إزاحة القرآن من الطريق.. طريق المسيرة العامة في العالم كله.. نحو فلسفة باثرة خاسرة، لحمتها وسداها (المادية) .
(مجلة الدعوة القاهرية)
الزمن يعمل بصورة مدهشة لصالح الإسلام:
تتابع الصحف الغربية حديثها عن تحرك الإسلامي في شتى أنحاء العالم، وننقل اليوم ما كتبته صحيفة (لوبوان) الفرنسية بنصه وبدون تغيير في العبارات، تقول الصحيفة.:(17/66)
(بإشارة من ماليزيا إلى المغرب، ومن داكار إلى كراتشي، ومن بنغلاديش إلى أحياء السود في لوس أنجلوس؛ دلل الإسلام دائماً على أنه يتمتع بقوة إيمانية تفوق قوته الزمنية) .
(وحسب تعاليم النبي فإن كل الناس متساوون كأسنان المشط، ولا يجد القادة الدينيون صعوبة لكي يكشفوا عن عدم المساواة وعدم توفر العدالة الاجتماعية) .
"لا يفصل الإسلامي بين الزمني والروحي، بين القوانين المدنية وأحكام القرآن، بين السياسة والدين، وإذا لم يخلق المسيح وبوذا دولة؛ فإن النبي محمداً [صلى الله عليه وسلم] قدم بنفسه نموذج الدولة الإسلامية في المدينة أولا، ثم في مكة، حيث مارس سلطانه كرجل دولة ورجل سماء في الوقت نفسه".
"واليوم - أكثر من أي وقت مضى - ينتقل الإسلام إلى الهجوم في مواجهة معارضة؛ فمنذ عام 1938 أعلن "رجال الدين"الإبراهيميون أمثال ابن باديس والعقبي وسواهما في الجزائر، بدء الانتفاضة على الفرنسيين التي لم تلبث أن تحققت عام 1954، وكان الشعار الذي عمله "رجال الدين"هؤلاء للشبيبة الجزائرية بسيطاً جدا ومعبراً: "الإسلام ديني والعربية لغتي، والجزائر وطني".
الرائد الهندية
مجلة أكتوبر الرسمية تحذر من المد الإسلامي:
القاهرة: حذّر أنيس منصور رئيس تحرير مجلة أكتوبر القاهرية الأسبوعية إسرائيل من المد الديني الذي يجتاح المنطقة العربية والشرق الأوسط كله، والذي من شأنه أن يؤدي إلى التعصب وإلى حكم رجال الدين، أي إلى الدينوقراطية إذا صح هذا التعبير حسبما قال.
وقال أنيس منصور: إن تعصب أبناء الدين كان ضحاياهم أبناء الأقلية أو الديانات الأخرى؛ حدث ذلك في لبنان وفي إيران وفي الهند وباكستان وبنغلاديش وفي تركيا.(17/67)
وأضاف قائلا: إنه وراء ذلك أو تحته هناك التخطيط السوفياتي الذي يحيط بالمنطقة ويحيق بها أيضاً من كل الجهات، مما يجعل نظرة أمريكا أكثر شمولية، وهذا هو الخطر الحقيقي على إسرائيل؛ فسوف لا تعمل لها أمريكا حسابا خاصا.
وكالة الأنباء الفرنسية - الرائد الهندية
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إياكم والجلوس في الطرقات"فقالوا: يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد؛ نتحدث فيها! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا أبَيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه"قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر".
متفق عليه(17/68)
خطاب الرئيس محمد ضياء الحق، رئيس دولة باكستان بعنوان:
خطوات لتطبيق نظام الإسلام
فيما يلي الترجمة العربية لخطاب الرئيس الفريق محمد ضياء الحق، الذي ألقاه على الأمة من على شاشة التلفاز والإذاعة المسموعة في الأول من محرم الحرام عام 1399هـ:
أيها السيدات والسادة..
السلام عليكم..! اليوم هو الأول من محرم الحرام، وهو اليوم الأول من التقويم الإسلامي..
ولا يخفى احترام المسلمين لعظمة وحرمة محرم.. إن هذا الشهر يذكرنا بالأحداث العظيمة عندما لم يتردد المؤمنون الحقيقيون من تقديم التضحيات العظيمة لقضيتهم العظيمة.
إن هذا الشهر يعلمنا أيضا الصبر والتجمل؛ إنني أناشد أبناء وطني أن يتجملوا بالصبر والتفاهم المشترك والوحدة طيلة السنة، ولا سيما خلال هذا الشهر؛ وذلك لكي يمكننا أن نسير قدماً إلى الأمام نحو غايتنا بثقة وتضامن عظيمين، وستغلق كافة دور السينما على الأقل في يومي 9 و 10 من محرم كرمز على احترام محرم الحرام.
إن السنة الهجرية 1399 قد جلبت معها خيرات وبركات جديدة؛ إن هذه السنة المباركة تبدأ بالإعلان عن تطبيق نظام الإسلام في هذه البلاد، لقد أدى مسلمو شبه القارة العهد على إدخال النظام منذ اليوم الأول الذي طالبوا فيه إيجاد وطن للمسلمين باعتبارهم أمة منفصلة، ومن المؤسف حقاً عدم تطبيق نظام الإسلام بالرغم من أن البلاد قد تأسست على ذلك الأساس، لقد استغل العديد من الشخصيات السياسية والحكام اسم الإسلام كما يشاءون، وبالرغم من مضي أكثر من ثلاثين عاما فانهم لم يقدموا أي شيء يذكر في هذا الاتجاه.(17/69)
وبإمكاني القول بفخر وتواضع إن الحكومة الحالية منذ مجيئها إلى السلطة وهى لا تترك مجهودا إلا وبذلته في سبيل تطبيق نظام الإسلام، وانه لشرف لي ولحكومتي وزملائي والمتعاونين معي أنني استطعت أن أقوم ببداية معينة حول تنفيذ نظام الإسلام، وذلك بالإعلان عن بعض الخطوات التي اتخذت في هذا اليوم، وعسى الله تعالى أن يبارك جهودنا بالنجاح العظيم.
وقبل أن أفسر هذه الخطوات فإنني أجد أن من الضروري القول إنه لا يوجد هناك أية شبهة حول تطبيق نظام الإسلام: إن نظام الإسلام هو دستور حياة أوحاه الله سبحانه وتعالى على آخر أنبيائه محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل 14 قرنا، وقد سجل ذلك في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، إن كل مسلم مطالب اليوم أن ينظم حياته استنادا إلى دستور الحياة في حياته الفردية والاجتماعية.
وكما قلت في مناسبات عديدة إن الإسلام لا يعتبر دستور الحياة التام فحسب، بل هو طريقة الحياة يمكنها أن تتناسب مع تغير الأزمان، ومن أجل العثور على معالمها لدينا مصدران نسترشد بهما، وهما القرآن الكريم والسنة النبوية، وفي القضايا التي لم تبحث في هذين المصدرين فإن أمامنا الاجتهاد على أن يكون ذلك متمشيا مع روح القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
إن الخطوات التي أعلن عنها اليوم هي مجهود للاستفادة من هذه الطرق الثلاثة.
أيها السيدات والسادة..
إن الإسلام يتكون من ثلاثة أجزاء، الجزء الأول يتعلق بالمعتقدات التي بدونها لا يمكن للمرء أن يكون مسلماً، وهذه المعتقدات خالية من أي عنصر من عناصر الإكراه، ويسمح الإسلام في هذا المجال بالتبليغ (الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر) ، وأحسن تبليغ هو بواسطة السلوك العملي.(17/70)
أما الجزء الثاني فهو العبادات، وهو أمر يعتقد العلماء أن الدولة بوسعها أن تجبر كل المؤمنين على أدائه، وفي الظروف الحالية لا تريد الحكومة إصدار أية أوامر لا يمكن أن تطبق بصورة فعالة، إن الصلاة ذات أهمية أساسية بين العبادات، وإذا أعلنت الحكومة - اعتبارا من غد - أن أداء الصلاة أمر على كل مواطن مسلم في هذا البلد؛ فهل بوسعها أن تدخل بيوت 700 مليون مسلم لتجد من أدى الصلاة ومن لم يؤديها؟..
إنني لا أقول ذلك لأتحاشى الموضوع؛ لأنني أعلم أن بوسع الحكومة أن تطبيق الصلاة جزئيا إذا لا تقدر على ذلك كلياً، غير أننا نود في هذا الوقت بالذات أن نعتمد على الإقناع وليس على الإجبار. وسنبدأ بخطوة إلى الأمام في هذا المضمار في المؤسسات الحكومية؛ وأصدر الآن توجيهات بضرورة إعداد الترتيبات خلال أسبوع لأداء الصلاة في كافة المؤسسات الحكومية خلال ساعات العمل، وأنا أتوقع من كافة رؤساء الأقسام أن يكونوا قدوة لموظفيهم بأداء الصلاة إن لم يقدروا على إمامة الصلاة بأنفسهم.
ثانيا: أود أن ألتمس أن نؤدي الصلاة في أوقاتها بصورة فردية أو جماعية، وأن نقنع عائلتنا وأقربائنا على أداء الصلاة، وإذا تمكنا من أداء الصلاة فإننا نكون قد قطعنا نصف الطريق في مجال العبادات.
وكمثال فإن أداء صلاة الجمعة هو أمر حيوي، وفي الوقت الذي أفضل فيه شخصيا أن تكون العطلة الأسبوعية يوم الجمعة؛ فإنني لا اعتقد أنه من الضروري أن تغلق كافة المؤسسات والأقسام الحكومية والمصانع والحوانيت والشركات التجارية يوم الجمعة، وربما يكون من المناسب بغض النظر عن المكاتب الحكومية أن تنظم كافة المؤسسات الأخرى أعمالها الأسبوعية بصورة يضمن استمرار نشاطات العمل خلال كافة أيام الأسبوع، وعندما يحين وقت صلاة الجمعة فلا بد أن تغلق كافة الحوانيت ومراكز الأعمال استناداً إلى التعليمات الإسلامية.(17/71)
وفي هذا المجال أتذكر مثيل ذلك في بعض الأقطار الإسلامية حيث تتوقف كل الأعمال عندما يسمع الناس الآذان، وبذلك يعرف كل غريب وكل زائر أنه في دولة إسلامية.
وأرغب أن نحول يوم الجمعة على الأقل إلى مناسبة كبيرة هي صلاة الجمعة بدلا من أن نجعلها عطلة يجب أن نجعلها تجمعا يوحي إلى التوحيد كل جمعة، كما رأينا مناظر الصلاة التراويح (في شهر رمضان المبارك) ، التي تطمئن لها القلوب خلال السنة الماضية، وسأرى يوم الجمعة القادمة مدى استجابة المؤمنين لندائي هذا.
أما القسم الثالث من الإسلام فيتعلق بالقوانين وبعضها شخصية بينما الأخرى عامة.
أما فيما يتعلق بالقوانين الشخصية فإن المحاكم تقوم فعلا بحسم القضايا استنادا إلى معتقدات كل مواطن، وسنستمر بهذه العملية في المستقبل أيضا، وما يدور في ذهننا يتعلق معظمه بالقوانين العامة، وأريد تطبيق كافة القوانين المتعلقة بالرفاهية العامة: أعني بذلك مؤسسات الزكاة والعشر، وهى أعمدة هامة للنظام الاقتصادي الإسلامي.
إن إحدى الأسباب التي أدت إلى التأخير في تطبيق النظام الإسلامي هي ضرورة القيام بأعمال ضخمة فيما يخص بالمجال الاقتصادي؛ فليس لدينا طرق عملية لتقدير الموارد التي نستمدها من الزكاة والعشر، ولا نعرف بالضبط النسبة التي يمكن أن تعطيها الزكاة والعشر من احتياجاتنا الوطنية والمبالغ الأخرى المطلوبة، وفيما أننا نحتاج إلى ضرائب أخرى بالإضافة إلى الزكاة والعشر لتغطية المصاريف الوطنية، وإن من المهم أن اذكر أنه لابد من تغير نظام الريع الحالي من أجل تطبيق نظام العشر.
أما فيما يتعلق الأمر بالزكاة فان الموضوع الرئيسي هو موضوع الثقة، وهو أمر يختص بالجميع على اختلاف درجاتهم. إن عليهم أن يدركوا أن الأموال المكتسبة بالجهد الكبير والتي يدفعونها على شكل زكاة ستجمع بالأسلوب الصحيح وتصبح للشخص المستحق وتنفق للأغراض المشروعة.(17/72)
وفي هذا الخصوص أحب أن أذكر أنني شكلت فعلا لجنة تتكون من بعض الوزراء الاتحاديين ورئيس مجلس الفكر الإسلامي، وتقوم هذه اللجنة باستعراض نظام الزكاة والعشر، وان شاء الله سترفع هذه اللجنة توصياتها إلى الحكومة.
ومن المواضيع المهمة الأخرى هي إلغاء نظام الربا، ويبحث هذا الموضوع خبراء ذوى تفكير إسلامي، وحالما سيجد هؤلاء حلا عملياً ستطبق إن شاء الله النظام الاقتصادي الإسلامي.
أما في الوقت الحاضر فإنني أعلن الخطوات التالية:
1- إلغاء الربا على المبالغ المستلفة من الموارد الحكومية.
2- عدم استيفاء أية فوائد على القروض الممنوحة لموظفي الحكومة من درجة 1 إلى درجة 15 بواسطة مؤسسة تمويل بناء البيوت.
3- ستقوم مؤسسة الاستثمار القومي باستراتيجية جديدة في المستقبل، على أساس المشاركة على قدم المساواة وليس على أساس الربا.
وبالإضافة إلى ذلك قمت بتوجيه وزارة المالية بإعداد برنامج عملي خلال شهر واحد لأجل إزالة لعنة الربا المستحصل من القروض التي تقدمها مؤسسة تمويل بناء البيوت المعطاة للأشخاص غير موظفي الحكومة المذكورين أعلاه، وأن تجعل هؤلاء من ممتلكي الأسهم بما يتناسب والاستثمار التي تقوم به المؤسسة.
أما الآن فإنني أعود إلى الخطوات التي أكمل العمل الأولى بالنسبة لتحقيقها.
إن الإعلان عن هذه الخطوات هو أمر ضروري؛ لأن تأخير الإعلان عنها لمدة بضعة أشهر قد جعل العناصر الانتهازية تقوم بدعاية مضلة، وهى أن الحكومة الحالية تعطي وعوداً كاذبة حول تطبيق نظام الإسلام مثلها مثل الحكومات السابقة.
إن هدف خطابي هو الإعلان عن الخطوات التي أكملت، وأن نعلمكم عن الخطوات التي نمر بها؛ إن الخطوات التي حسمت هي كالتالي:(17/73)
1- ستؤسس (هيئة شريعة) في كل إقليم على مستوى المحكمة العليا، و (هيئة شريعة استئنافية) على مستوى محكمة الاستئناف العليا، وذلك بالإضافة إلى المحاكم الحالية. وفي هذه الخصوص سأصدر قانوناً رئاسيا ستقرأ محتوياته في الصحافة.
2- رئيس القضاة لكل محكمة عليا أو محكمة الاستئناف العليا سيقترح تشكيل لجنة من القضاة لتشكيل كل (هيئة شريعة) ، من بين هؤلاء ثلاثة قضاة جيدو الإلمام في الشريعة الإسلامية والفقه، وسيعين هؤلاء كأعضاء للهيئة.
3- من حق الحكومات الاتحادية والإقليمية وكل مواطن أن يطرح أي قانون سنته الحكومة أمام الهيئة لتقرر هل هو إسلامي أم غير إسلامي، وبوسع كل هيئة شريعة أن تعيد النظر في صيغة القوانين دون أن يطرح ذلك عليها.
4- إلغاء رسوم المحكمة على أي طلب يقدم إلى هيئة الشريعة.
5- ستضم كل هيئة شريعة هيئة علماء ومحامين، وستضم الهيئة فئة خاصة من العلماء الجيدي الإلمام بالحديث والفقه، والمؤهلين على البت في قضايا الشريعة، كما سيعين أولئك المحامون المسجلون في محكمة الاستئناف العليا أو الذين عندهم خبرة 5 سنوات على الأقل في المحاكم العليا، وسيتم تعيين هذا الصنف من المحامين أعضاء في هيئات شريعة.
6- إن طريقة عمل هيئة الشريعة سيكون إسلاميا في طبيعته وسيقوم العلماء والمحامون والشهود الذين يمتثلون أمام هذه الهيئات بمساعدتها على توضيح القانون تحت المناقشة، وشرح وجهة النظر الإسلامية بدلا من النقاش في صالح هذه القوانين أو ضدها، هذا بالإضافة إلى أن الهيئة لها صلاحيات في دعوة عالم أو فقيه أو محام أو مفكر أو باحث من نفس البلاد أو من خارجها، وإنني آمل أن ينضم القضاة المتقاعدون الذين عملوا في المحاكم العليا والمتمكنين من القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه إلى هذه الهيئات بصفة خبراء.
7- لكل هيئة شريعة صلاحيات المحاكم المدنية، ولها حق طلب أي شهود أو وثائق أو مواد أخرى.(17/74)
8- إن أقدم عضو في الهيئة يعتبر رئيسها وتقوم الهيئة بالإعلان عن قراراتها على أساس الأغلبية.
9- وفي حالة عدم اقتناع أي فرد بحكم هيئة الشريعة فبإمكانه أن يثير الموضوع في هيئة الشريعة الاستئنافية.
10- لا يمكن تحدي قرارات هيئة الشريعة أو هيئة الشريعة الاستئنافية في محكمة الاستئناف العليا أو المحاكم العليا أو في أية محاكم أخرى.
11- تنشر قرارات (هيئة الشريعة) في المجلة الرسمية، وستبين الهيئة في حكمها المواضيع غير الإسلامية للقانون وتستشهد بالأدلة لنعزز رأيها.
12- يتحتم على الحكومة أن تعدل القوانين المعنية ضمن الوقت المعين استنادا إلى قرارات الهيئة لتحول القوانين إلى أخرى تتفق مع الشروط الإسلامية.
13- تدفع الحكومة كافة المبالغ التي تصرفها هيئة الشريعة وهيئة الشريعة الاستئنافية والعلماء والمحامون والخبراء.. الخ.
لقد كان هذا عن تأسيس (هيئات الشريعة) وسلطاتها القضائية وطريقة عملها.
إن الخطوات التي ذكرتها هي جزء من مجهودات عامة تبذلها الحكومة من أجل تأسيس مجتمع إسلامي، ومن أجل تحقيق هذا الغرض يتوجب علينا إزالة الآثار غير الإسلامية من طريقة حياتنا واقتصادنا ومن نظامنا الشرعي والتربوي والثقافي، وتحول كل ذلك إلى نظم تستل من تعاليم الإسلام.
اليوم نتخذ الخطوة العملية نحو مصيرنا الفكري الذي حدده المسلمون تحت قيادة القائد الأعظم الحكيمة منذ 38 عاما مضت.
وأوجد - بفضل الله تعالى - الجو الملائم اليوم لنظام الإسلام؛ ولذلك فإن كل الخطوات صغيرها وكبيرها ستكون بهذا الاتجاه، وإن كل الحكومات الحالية وفي المستقبل ستسير بهذا الطريق لتحقيق نفس الغرض، ولأن مصيرنا كان نظام الإسلام فان مصيرنا الآن وفي المستقبل هو نظام الإسلام أيضا..
عاش نظام الإسلام.. عاشت باكستان..
تعليق المجلة:(17/75)
خطاب رئيس دولة باكستان الإسلامية نقدمه للمسلمين بعامة وحكامهم بخاصة.. آملين أن يكون الإيمان بصلاحية الإسلام نظاما ومنهج حياة ودستور أمة هو المنطلق لبناء الخطوات التي يمكن أن تحول واقع الأمة الإسلامية من واقع يعيد على الإسلام إلى واقع مستمد من الإسلام ومنطلق منه.
وقد يختلف الناس على الخطوات التي يمكنها تغيير هذا الواقع باختلاف بلدانهم ومدى قرب عاداتهم ونفسياتهم من الإسلام، ولكنهم لا يختلفون على الأسس والأهداف التي ينبني هذا الواقع عليها؛ لأنها مأخوذة من الكتاب والسنة.
ويمكننا أن نستفيد من خطوات باكستان ومن الخطوات المطروحة والتي يمكن أن تطرح، والمهم هو إخلاص النوايا لله والاتجاه إليه والسعي لإعلاء كلمته في الأرض.. {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .. صدق الله العظيم..
"أسر ة التحرير"(17/76)
برقية من عبد العزيز بن عبد الله بن باز
إلى حضرة الأخ المكرم:
رئيس تحرير مجلة الجامعة الإسلامية.. المحترم.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد..
نبعث إليكم مع هذا صورة من البرقية المرسلة منا إلى فخامة رئيس الحكومة الباكستانية محمد ضياء الحق، المتضمنة التهنئة ببدء العمل بأحكام الإسلامية.. أرجو نشرها في (مجلتكم) ؛ إشادة بالحق وانتصارا له.. وفقكم الله لكل خير.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
ورئيس المجلس الأعلى العالمي للمساجد
فخامة رئيس حكومة باكستان الإسلامية/ محمد ضياء الحق.. نصر الله به دينه..
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
لقد سمعنا ما تناقلته الإذاعات والصحف من إعلان فخامتكم تحكيم الشريعة الإسلامية في باكستان؛ فسرنا ذلك كثيرا كما سرّ كل مسلم على وجه الأرض، وإنه ليسرني أن أعرب لفخامتكم عن شكري وعظيم تقديري لهذا العمل الجليل الذي يرضاه الله ورسوله ويرضاه كل مسلم، وهو الواجب عليكم وعلى جميع حكام المسلمين.
فجزاكم الله خيرا وأمدكم بتوفيقه ونصركم ونصر الحق بكم.
وأنا وجميع المسلمين نشارك الشعب الباكستاني بالفرحة العظيمة والسرور البالغ بهذا النبأ العظيم الذي أنشئت من أجله الباكستان، ولم يزل أبناؤها المخلصون ينتظرون ذلك ويبذلون في تحقيقه كل ما أمكنهم من الوسائل حتى يسره الله على يد فخامتكم؛ مهنئا لكم بهذه المنحة العظيمة والنعمة الكبرى.
ويحق لنا جميعا أن نفرح بذلك ونسر به ونشكر الله عليه؛ عملا بقوله الله سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} ..(17/77)
فسيروا على بركة الله! والله ناصركم ومؤيدكم ما دمتم تنصرون دينه وتحكمون شريعته كما قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، وقال عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} .. ولا شيء أحسن من حكم الله العالم بأحوال عباده ومصالحهم في العاجل والآجل، كما قال عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .
وفقكم الله وثبتكم على الحق.. وأكثر أعوانكم فيه.. إنه سميع قريب..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(17/78)
تدوين السنة ومنزلتها
لفضيلة الدكتور عبد المنعم نجم
الأستاذ المساعد بكلية الحديث
بالجامعة الإسلامية
نريد بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مجموع ما صدر عنه من قول أو فعل أو تقرير، ولا شك أن رسول الله مبلغ عن الله {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [1] ، ومبين عن الله مراده {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [2] ؛ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين ما أراد القرآن أحيانا بالقول وحده، وأحيانا بالفعل وحده، وأحيانا بهما، كما صلى وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وحج وقال: "خذوا عني مناسككم"؛ فهي إذا شارحة للقرآن تبين مجمله وتقيد مطلقه، وتؤول مشكله، فليس في السنة شيء إلا والقرآن دلّ على معناه دلالة إجمالية، أو تفصيلة وتلك الدلالة من وجوه.
منها ما هو عام جدا، وهو ما ورد في القرآن من إيجاب اتباع الرسول صلى اله عليه وسلم، نحو قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [3] ، وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [4] إلى غير ذلك من الآيات ومنها الوجه المشهور عند العلماء، كالأحاديث في بيان ما أجمل ذكره من الأحكام، إما يحسب كيفيات العمل أو أسبابه أو شروطه أو مواقعه أو لواحقه، أو ما أشبه ذلك، كبيانها للصلاة والزكاة وغير ذلك مما وقع في السنة بيانا للقرآن.
السنة من الوحي:(17/79)
السنة النبوية بالمعنى المتقدم - ما أضيف للنبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال والتقريرات - هي أحد قسمي الوحي الإلهي الذي نزل به جبريل الأمين على النبي صلى الله عليه وسلم، والقسم الثاني من الوحي هو القرآن الكريم.
فالسنة النبوية من الوحي، بذلك نطق الكتاب العزيز {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى} [5] ، وبذلك جاءت السنة نفسها؛ فقد روى أبو داود والترمذي وابن ماجه، عن المقدام بن معد يكرب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السبع ولا لقطة معاهد، إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه" [6] .
يقول المنذري في مختصر السنن: وأخرجه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه.
يقول الإمام الخطابي في معالم السنن: "قوله "أوتيت الكتاب ومثله معه" يحتمل وجهين من التأويل، أحدهما: أن يكون معناه: أنه أوتي من الوحي الباطن غير المتلو مثل ما أعطى من الوحي الظاهر المتلو.
ويحتمل أن يكون معناه: أنه أوتي الكتاب وحيا يتلى، وأوتي من البيان، أي أذن له أن يبين ما في الكتاب ويعم ويخص، وأن يزيد عليه فيشرح ما ليس له في الكتاب ذكر، فيكون ذلك في وجوب الحكم ولزوم العمل به كالظاهر المتلو من القرآن.
وقوله: "يوشك شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن" فانه يحذر بذلك مخالفة السنن التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس له في القرآن ذكر، على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض؛ فإنهم تعلقوا بظاهر القرآن وتركوا السنن التي قد ضمنت بيان الكتاب فتحيروا وضلوا.(17/80)
(والأريكة) : السرير، ويقال: إنه لا يسمى أريكة حتى يكون في حجلة [7] .
وإنما أراد بهذه الصفة: أصحاب الترفه والدعة الذين لزموا البيوت، ولم يطلبوا العلم ولم يغدوا ولم يروحوا في طلبه في مظانه واقتباسه من أهله".
ثم يقول الخطابي: "وفي الحديث دليل على أنه لا حاجة بالحديث أن يعرض على الكتاب، وأنه مهما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حجة بنفسه".
عرض الحديث على القرآن:
أما ما رواه بعضهم أنه قال: "إذا جاءكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله؛ فان وافقه فخذوه وإن خالفه فدعوه" فإنه حديث باطل لا أصل له، وقد حكى زكريا بن يحي الساجي عن يحي بن معين أنه قال: هذا حديث وضعته الزنادقة.
ويقول الخطابي: "وقد روي هذا من حديث الشاميين، عن يزيد بن ربيعة عن أبى الأشعث عن ثوبان. ويزيد بن ربيعة هذا مجهول، ولا يعرف له سماع من أبي الأشعث، وأبو الأشعث لا يروي عن ثوبان وإنما يروي عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان". اهـ[8] .
وعلى هذا فالسنة صنو الكتاب العزيز، والذي جاءنا بالقرآن هو الذي نطق بالسنة؛ فلا يستغنى بأحدهما عن الآخر، وروى أبو داود بسنده عن عبد الله بن أبى رافع عن أبيه رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه".
قال المنذري: وأخرجه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن، وذكر أن بعضهم رواه مرسلا [9] . وروى الحافظ ابن عبد البر بسنده عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك بأحدكم يقول: هذا كتاب الله ما كان فيه من حلال أحللناه وما كان فيه من حرام حرمناه، ألا من بلغه عني حديث فكذب به فقد كذب الله ورسو له والذي حدثه" [10] .
شرف علم الحديث:(17/81)
لا يختلف اثنان في أن علم الحديث أشرف علم بعد كتاب الله، كيف لا وهو المرتبة الثانية بعد القرآن، والمصدر الثاني للشريعة الإسلامية، نطق به الذي جاءنا بالقرآن من عند الله، المعطى جوامع الكلم المفوض إليه من الله أمر التبيين والتحصيل، روى أبو داود بسنده عن العرباض بن سارية.. فقال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة فقال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عبد حبشي؛ فانه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين؛ تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" [11] .
قال الإمام الخطابي: "والنواجذ آخر الأضراس، واحدها: ناجذ، وإنما أراد بذلك الجد في لزوم السنة؛ فعل من أمسك الشيء بين أضراسه وعض عليه منعاً له أن ينتزع، وذلك أشد ما يكون من التمسك بالشيء، إذا كان ما يمسكه بمقاديم فمه أقرب تناولا وأسهل انتزاعا. وفي قوله: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين" دليل على أن الواحد من الخلفاء الراشدين إذا قال قولا وخالفه فيه غيره من الصحابة كان المصير إلى قول الخليفة أولى" [12] .
يقول الإمام النووي: "إن من أهم العلوم تحقيق معرفة الأحاديث النبويات، أعني معرفة متونها، صحيحها وحسنها وضعيفها وبقية أنواعها المعروفة، ودليل ذلك أن شرعنا مبني على الكتاب العزيز والسنن المرويات، وعلى السنن المحكمات، وقد اتفق العلماء على أن من شرط المجتهد من القاضي والمفتي أن يكون عالما بالأحاديث الحكميات، فثبت بما ذكرناه أن الاشتغال بالحديث من أجَلّ العلوم الراجحات وأفضل أنواع الخير وآكد القربات، وكيف لا يكون كذلك؟ وهو مشتمل على بيان أفضل المخلوقات، عليه من الله الكريم أفضل الصلوات والسلام والبركات الخ" [13] .(17/82)
ويقول العلامة الشهاب أحمد المنبتي الدمشقي الحنفي "إن علم الحديث علم رفيع القدر عظيم الفخر، شريف الذكر، لا يعنى به إلا كل حبر، ولا يحرمه إلا كل غمر، لا تفنى محاسنه على ممر الدهر، لم يزل في القديم والحديث يسمو عزة وجلالة، وكم عزّ به من كشف الله له مخبآت أسراره وجلاله؛ إذ به يعرف المراد من كلام رب العالمين، ويظهر المقصود من حبله المتصل المتين، ومنه يدرى شمائل من سما ذاتا ووصفا واسما، ووقف على أسرار بلاغة من شرف الخلائق عربا وعجما.
وناهيك بعلم من المصطفى صلى الله عليه وسلم بدايته وإليه مستنده وغايته، وحسب الراوي للحديث مشرفا وفضلا وجلالة ونبلا، أن يكون أول سلسلة آخرها الرسول، وإلى حضرته الشريفة بها الانتهاء والوصول.
وطالما كان السلف يقاسون في تحمله شدائد الأسفار، ليأخذوه عن أهله بالمشافهة، ولا يقنعون بالنقل من الأسفار، فربما ارتكبوا غارب الإغتراب بالارتحال إلى البلدان الشاسعة لأخذ حديث عن إمام انحصرت روايته فيه، أو لبيان وضع حديث تتبعوا سنده حتى انتهى إلى من يختلق الكذب ويفتريه.
وتأسى بهم من بعدهم من نقلة الأحاديث النبوية؛ فضبطوا الأسانيد وقيدوا منها كل شريد، وسبروا الرواة بين تجريح وتعديل، وسلكوا في تحرير المتن أقوم سبيل، ولا غرض لهم إلا الوقوف على الصحيح من أقوال المصطفى وأفعاله، ونفي الشبهة بتحقيق السند واتصاله؛ فهذه هي المنقبة التي تتسابق إليها الهمم العوالي" [14] .(17/83)
وفي كتاب الخطة: "اعلم أن آنف [15] العلوم الشرعية ومفتاحها، ومشكاة الأدلة السمعية ومصباحها، ومبنى شرائع الإسلام وأساسها، ومستند الروايات الفقهية كلها، ومركز المعاملات ومحط حارها وقارها هو علم الحديث الشريف الذي تعرف به جوامع الكلم، وتنفجر منه ينابيع الحكم وتدور عليه رحى الشرع بالأسر، وهو ملك كل نهي وأمر، ولولاه، لقال: من شاء وخبط الناس خبط عشواء وركبوا متن عمياء.. وهو تلو كلام الله العلام، وثاني أدلة الأحكام ...
تم قال: وما الحق إلا فيما قاله صلى الله عليه وسلم أو عمل به أو قرره أو أشار إليه أو تفكر فيه أو خطر بباله أو هجس في خلده واستقام عليه.
فالعلم في الحقيقة هو علم السنة والكتاب، والعمل بهما في كل إياب وذهاب، ومنزلته بين العلوم منزلة الشمس بين كواكب السماء، ومزية أهله على غيرهم من العلماء مزية الرجال على النساء {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} .
فياله من علم مزج بدمه الحق والهدى، ونيط بعنقه الفوز بالدرجات العلى.
وقد كان الإمام محمد بن علي بن الحسين رحمه الله يقول: "إن من فقه الرجل بصيرته أو فطنته بالحديث". لقد صدق فإنه لو تأمل بالنظر العميق والفكر الدقيق، لعلم أن لكل علم خاصية تتحصل بمزاولته للنفس الإنسانية كيفية من الكيفيات الحسنة أو السيئة، وهذا العلم تعطي مزاولته صاحبه معنى الصحابة؛ لأنها في الحقيقة هي الإطلاع على جزئيات أحواله صلى الله عليه وسلم ومشاهدة أوضاعه في العبادات والعادات كلها، وعند بعد الزمان يتمكن هذا المعنى بمزاولته في مدركة المزاول، ويرتسم في خياله بحيث يصير في حكم المشاهدة والعيان، وإليه أشار القائل بقوله:
أهل الحديث هموا أهل النبي وإن
لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا
ويروى عن بعض الصلحاء أنه قال: "أشد البواعث وأقوى الدواعي لي على تحصيل علم الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم".(17/84)
فالحاصل أن أهل الحديث - كثر الله سوادهم، ورفع عمادهم - لهم نسبة خاصة ومعرفة مخصوصة بالنبي صلى اله عليه وسلم لا يشاركهم فيها أحد من العالمين، فضلا عن الناس أجمعين؛ لأنهم الذين لا يزال يجري ذكر صفاته العليا وأحواله الكريمة وشمائله الشريفة على لسانهم". اهـ بتصرف [16] .
فضل نشر الحديث وروايته:
روى أبو داود بسنده عن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى بلغه؛ فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه" [17] .
قال المنذري: وأخرجه الترمذي والنسائي. وقال الترمذي: حديث حسن. وأخرجه ابن ماجه من حديث عبّاد والد يحيي عن زيد بن ثابت. اهـ[18] .
وروي: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها".
وفيه روايات عدة لهذا الحديث.
قال سفيان بن عيينة: "ليس من أهل الحديث أحد إلا في وجهه نضرة لهذا الحديث".
يقول الإمام الخطابي:"في قوله "نضر الله " معناه: الدعاء له بالنضارة وهي النعمة والبهجة، يقال بتخفيف الضاد وتثقيلها، وأجودهما التخفيف.
وفي قوله: "ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه" دليل على كراهة اختصار الحديث لمن ليس بالمتناهي في الفقه؛ لأنه إذا فعل ذلك فقد قطع طريق الاستنباط والاستدلال لمعاني الكلام من طريق التفهم، وفي ضمنه وجوب التفقه والحث على استنباط معاني الحديث، واستخراج المكنون من سره". اهـ.
وقد قيل في قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [19] ليس لأهل الحديث منقبة أشرف من ذلك؛ لأنه لا إمام لهم غيره صلى الله عليه وسلم [20] .(17/85)
وقد ورد في شرف الحديث وأصحابه، وفضل الإسناد وأربابه أخبار كثيرة؛ فمن ذلك حديث أسامة بن زبد رفعه: "بحمل هذا العلم من كل خلف عدوله؛ ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين"، وهذا الحديث رواه من الصحابة علي وعمر وابن مسعود وابن عباس وجابر بن سمرة ومعاذ وأبو هريرة وأبو أمامة، وأورده ابن عدى من طرق كثيرة كلها ضعيفة، كما صرح به الدارقطني وأبو نعيم وابن عبد البر.
لكن يمكن أن يتقوّى بتعدد طرقه ويكون حسنا لغيره، كما جزم به العلائي.
وفيه تخصيص حملة السنة بهذه المنقبة العلية؛ لأنهم يحمون مشارع الشريعة ومتون الروايات من تحريف الغالين الذين غلوا في الدين، وتأويل الجاهلين بنقل النصوص المحكمة لرد المتشابه إليها.
قال النووي في أول تهذيبه: "وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم بصيانة هذا العلم بحفظه، وعدالة ناقليه، وأن الله يوفق في كل عصر خلقا من العدول يحملونه وينفون عنه التحريف فلا يضيع، وهذا تصريح بعدالة حامليه في كل عصر، وهكذا وقع، وهو من أعلام النبوة، ولا يضر كون بعض الفساق يعرف شيئا من علم الحديث؛ فان الحديث إنما هو إخبار بأن العدول يحملونه لا أن غيرهم لا يعرف شيئا". اهـ.
على أنه قد يقال: ما يعرفه الفساق من العلم ليس بعلم؛ لعدم عملهم". اهـ[21] .
وقال العراقي: "قال ابن عبد البر: كل حامل علم معروف العناية به فهو عدل محمول في أمره أبدا على العدالة حتى يتبين جرحه، واستدل على ذلك بحديث رواه من طريق أبي جعفر العقيلي من رواية ابن رفاعة السلامي عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله …به" أورده العقيلي في الضعفاء في ترجمة معان بن رفاعة، وقال: لا يعرف إلا به، ورواه ابن أبي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل.(17/86)
وفي كتاب علل الحلال: أن أحمد بن حنبل سئل عن هذا الحديث فقيل له: كأنه كلام موضوع؟ فقال: لا هو صحيح؟ فقيل له: ممن سمعته؟ قال: عن غير واحد …الخ " [22] .
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "سيأتي قوم يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز وجل [23] .
تدوين الحديث وأطواره منذ فجر الإسلام حتى عصر أصحاب الصحاح الستة
لما كان الحديث من أصل الفروض وجب الاعتناء به، والاهتمام بضبطه وحفظه؛ فلذلك يسر الله للعلماء الثقات الذين حفظوا قوانينه وأحاطوا به؛ فتناقلوه كابرا عن كابر، وأوصله كما سمعه أولهم إلى أخرهم، وحببه الله إليهم لحكمه حفظ دينه وحراسة شريعته؛ فلم يزل هذا العلم من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم غضا طريا، والدين محكم الأساس قوي البنيان.
أشرف العلوم وأجلها لدى الصحابة والتابعين، وتابعي التابعين خلفا عن سلف، لا يشرف بينهم أحد بعد حفظ كتاب الله إلا بقدر ما يحفظ منه، ولا يعظم في النفوس إلا بحسب ما سمع من الأحاديث؛ فتوفرت الرغبات فيه، فما زال لهم من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن انقطعت الهمم شغف على تعلمه، حتى لقد كان أحدهم يرحل المراحل ذوات العدد ويفني الأموال والعدد ويقطع الفيافي والمفاوز، ويجوب البلاد شرقا وغربا في طلب حديث واحد يسمعه من راويه؛ فمنهم من يكون الباعث له على الرحلة طلب ذلك الحديث لذاته، ومنهم من تقترن بتلك الرغبة سماعه من ذلك الراوي بعينه إما لثقته في نفسه، وإما لعلو إسناده؛ فانبعثت العزائم إلى تحصيله.
وكان اعتمادهم أولا على الحفظ والضبط في القلوب، غير ملتفتين إلى ما يكتبونه محافظة على هذا العلم، كحفظهم كتاب الله، ولا معولين على ما يسطرونه وذلك لسرعة حفظهم وسيلان أذهانهم.(17/87)
فلما انتشر الإسلام واتسعت الأمصار، وتفرقت الصحابة في الأقطار، وكثرت الفتوحات، ومات معظم الصحابة وتفرقت أصحابهم وأتباعهم وقلّ الضبط، وكاد الباطل يلتبس بالحق احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة؛ لأنها الأصل، فإن الخاطر يغفل، والقلم يحفظ؛ فمارسوا الدفاتر وسايروا المحابر وعقدوا العزم وأجابوا في نظم قلائده أفكارهم، وأنفقوا في تحصيله أعمارهم، واستغرقوا في تقييدهم ليلهم ونهارهم، فأبرزوا تصانيف كثرت صنوفها، ودونوا دواوين ظهرت شفوفها؛ فاتخذها العالمون قدوة، ونصبها العارفون قبلة.
الحديث على عهد النبي صلى الله عليه وسلم:
بعث النبي صلى الله عليه وسلم والعرب في جهالة جهلاء وضلالة عمياء موروثة عن ذي قبل، فكان من رحمة الله بهم وبالإنسانية جمعاء أن أرسل فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.
والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم، أشرف الناس نسبا وأكرمهم أما وأبا وأصلا ومحتدا.(17/88)
ومن الحكمة البالغة أن بدأ بالدعوة سرا حتى لا يفجأ القوم بها، خاصة وهم غارقون في جهلهم يتخبطون في غيهم، فتبعه أفراد قلائل، لا يتجاوز عددهم أصابع اليد، ثم جهر بالدعوة إلى الله؛ فدخل في الدين خلق كثير، دخلوا الإسلام عن بينة من أمره، واستمعوا إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم، فخالطت أنوار الإيمان قلوبهم، لا سيما وهم متعطشون إلى ما ينقذهم من ظلمات الشرك ويهديهم إلى صراط مستقيم؛ فصادف الإسلام قلوبا مستعدة متهيأة فتمكن فيها كل التمكن، وجرى الإيمان فيهم مجرى الدم في عروقهم، ذلك أنهم عرفوا من النبي عليه السلام أن هذا الدين هو طريق سعادتهم ومعقد عزهم وسبب نهضتهم وتقدمهم، فعقدوا عليه خناصرهم، وأحبوا رسول الله حبا يسمو على الأبناء والآباء، وانكبوا على ما جاءهم به من القرآن يحفظونه، وعلى ما حدثهم في بنائه العظيم بعد القرآن الكريم، كما علموا أمر الله باتباعها، وتحذيره الشديد من مخالفة أمره، اعتقدوا هذا بقلوبهم ووضعوه نصب أعينهم.
ملكت الآيات والأحاديث على الصحابة مشاعرهم، وسيطرت على ألبابهم وحواسهم، وأفسحت قلوبهم حبا لله ورسوله عليه السلام، وألهبت نفوسهم نشاطا نحو العلم والعمل؛ فلم يدخروا وسعا في حفظ الأحكام والسن.
وإلى جانب هذه الحمية الدينية، استعداد فطري ونشاط طبيعي هو استعداد الحافظة ونشاط الذاكرة وسرعة الخاطر ووفرة الذكاء وكمال العبقرية.
فالصحابة عرب خلص أميون لا يقرؤون ولا يكتبون، فكل اعتمادهم على ملكاتهم في الحفظ، واعتبر ذلك بحالهم في الجاهلية، فقد حفظوا أنساهم ومناقبهم وأشعارهم وخطبهم، وكثيرا ما كانت تقع بينهم المفاخرة المفاخرة بالأنساب والأحساب فلا يسعفهم غير اللسان يثيرون به ما حفظوه من أخبارهم، وأخبار خصومهم، مما يرفع من شأن أعدائهم.(17/89)
ساعدهم حبهم للتفاخر بالأحساب والأنساب، والتنابز والمثالب بالألقاب، مع ما رسخ فيهم من عصبية قبلية على إجادة الحفظ والضبط ونشاط في الذاكرة لم يتوفر لأمة من الأمم؛ فكانت هذه الصدور الحافظة مهدا لآي الذكر الحكيم، وكانت هذه القلوب الواعية أوعية لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فاندفع الصحابة إلى تلقي حديث رسول الله بنهم عظيم وشوق كبير، وأظهر الله بهم دينه على الدين كله.
وتظاهر العامل الروحي والعامل الفطري؛ فأتى القوم بما لم يأت به أمة من يوم أن بعث الله رسله إلى الخلق، فحفظوا كتاب ربهم وسنة نبيهم.
الطريقة التي تلقى الصحابة بها الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:
لم يكن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من يجيد الكتابة إلا نفر قليل؛ فقد كانت الأمية غالبة عليهم، فكان اعتمادهم في تلقي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم على استعدادهم في الحفظ، كما أنهم نهوا عن كتابة الحديث في بدء الأمر خوف اختلاطه بالقرآن الكريم، وكان الصحابة يتلقون الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إما بطريقة المشافهة، وإما بطريقة المشاهدة لأفعاله وتقريراته، وإما بطريق السماع ممن سمع منه صلى الله عليه وسلم، أو شاهد أفعاله وتقريراته؛ لأنهم لم يكونوا جميعا يحضرون مجالسه صلى الله عليه وسلم، بل كان منهم من يتخلف لبعض حاجاته.
كتابة الحديث في عهد النبي عليه السلام:(17/90)
تقدم أن الصحابة قد اعتمدوا على الحفظ في تلقي ما يأتيهم به النبي صلى الله عليه وسلم، وزعم البعض أن قلة التدوين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعود بالدرجة الأولى إلى ندرة وسائل الكتابة، وأنا لست مع من يقول بذلك؛ لأنها لم تكن قليلة إلى هذا الحد الذي يبالغ فيه، وهي - على كل حال - قلة نسبية، قد تكون أحد العوامل في ترك كتابة الحديث، ولكنها بلا ريب ليست العامل الوحيد، فما منعت ندرة هذه الأدوات صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم من تجشم المشاق وركوب الصعاب في كتابة القرآن كله في اللخاف والعسب والأكتاف والأقناب وقطع الأديم، ولو أنهم أرادوا تدوينه مثل القرآن لفعلوا، ولكن الصحابة بتوجيه من نبيهم ومن تلقاء أنفسهم كانوا منصرفين إلى تلقي القرآن، مشغولين بجمعه في الصدور والسطور، وكان كتاب الله يستغرق جل أوقاتهم، كما يملك عليهم مشاعرهم، وحديث رسول الله حينئذ أكثر من أن يحصوه، فله في كل حادثة قول، وفي كل استفتاء توضيح، وفي كثير من الوحي القرآني تبيان وتفسير، فأنى للكتبة منهم الوقت لمتابعة الرسول عليه السلام في كتابة جميع ما يقوله أو يعمله أو يقر الناس عليه، خاصة وأن الكاتبين منهم قليل.
ومع ذلك قام بعض هؤلاء الكاتبين بتقيد جميع ما سمعه ورآه من النبي صلى الله عليه وسلم، وأقرهم على ذلك حين أمن التباس السنة بالقرآن، على حين كتب أفراد آخرون أشياء قليلة، وظل سائرهم بين قارئ كاتب لكنه مشغول بالقرآن شغلا لا يتيح له كتابة الحديث، فغدا يسمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم ويعمل به ولا يجد الحاجة لتقييده، وبين أمي يحفظ من القرآن والحديث ما تيسر له في صدره، وهو ما كان عليه أكثر الصحابة في بدء الإسلام ومطلع فجره.(17/91)
وانصرف الصحابة إلى القرآن جمعا له في الصدور والسطور، واشتغالهم به عن كل شئ سواه كان جزءا من التوجيه النبوي الحكيم لهؤلاء التلامذة الخالدين من الأميين والكاتبين، وهو توجيه متدرج مع الحياة والأحياء متطور مع الأحداث التي تعاقبت على المجتمع الإسلامي، فما كان لهذا التوجيه أن يجمد على صورة واحدة، بل روعي فيه الزمان، وروعيت الأشخاص.
فنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن كتابة الأحاديث أول نزول الوحي مخافة التباس أقواله وشروحه وسيرته بالقرآن، ولا سيما إذا كتب هذا كله في صحيفة واحدة مع القرآن. [24]
وقال: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" [25] .
الصحف المكتوبة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم:
ثم أذن بذلك إذنا عاما حين نزل أكثر الوحي وحفظه الكثيرون، وأمن اختلاطه بسواه، فقال عليه الصلاة والسلام: "قيدوا العلم بالكتاب" [26] .
من المؤكد أن بعض الصحابة كتبوا طائفة من الأحاديث في حياته صلى الله عليه وسلم، ومنهم من كتبها بإذن خاص من النبي صلى الله عليه وسلم.
من تلك الصحف: صحيفة سمرة بن جندب (60هـ) ، كان قد جمع أحاديث كثيرة في نسخة كبيرة ورثها ابنه سليمان ورواها عنه، وهي التي يقول فيها ابن سيرين: في رسالة سمرة إلى بنيه علم كثير.(17/92)
ومن أشهر الصحف المكتوبة في العصر النبوي (الصحيفة الصادقة) التي كتبها جامعها عبد الله بن عمرو بن العاص من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اشتملت على ألف حديث، كما يقول ابن الأثير [27] ، ومحتواها محفوظ في مسند أحمد بن حنبل [28] ، حتى ليصح أن نصفها بأنها أصدق وثيقة تاريخية تثبت كتابة الحديث على عهده صلوات الله عليه، وهذه الوثيقة كانت نتيجة محتومة لفتوى النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو وإرشاده الحكيم له؛ فقد جاء عبد الله يستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الكتابة قائلا: أكتب كل ما أسمع؟ قال: "نعم"، قال: في الرضا والغضب؟ قال: "نعم؛ فإني لا أقول في ذلك إلا حقا".
وسأذكر الحديث فيما بعد، والذي يظهر لي أنه لا بد أن يكون عبد الله بن عمرو قد أخذ في كتابة الحديث بعد هذه الفتوى الصريحة من الرسول الكريم، وتلك الصحيفة الصادقة كانت ثمرة هذه الفتوى، وآية اشتغال عبد الله بن عمرو بكتابة هذه الصحيفة وسواها من الصحف أيضا قول أبي هريرة الصحابي الجليل: "ما في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان عبد الله بن عمرو؛ فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب" [29] .
وقد أتيح لمجاهد بن جبر (103هـ) أن يرى هذه الصحيفة عند صاحبها عبد الله بن عمرو [30] ، وكان عبد الله بن عمرو - لشدة حرصه على هذه الصحيفة - لا يسمح لأعزّ الناس عليه بتناولها، ورؤية مجاهد لها لم تكن إلا عرضا؛ فإنه قال: "أتيت عبد الله بن عمرو؛ فتناولت صحيفة تحت مفرشه فمنعني، قلت: ما كنت تمنعني شيئا! قال: هذه الصحيفة الصادقة، فيها ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس بيني وبينه أحد، إذا سلمت هذه وكتاب الله والوهط فلا أبالي علام كانت عليه الدنيا! والوهط أرض كان يزرعها" [31] .(17/93)
ولقد شاعت في عصر الصابة صحيفة خطيرة الشأن أمر النبي عليه السلام نفسه بكتابتها في السنة الأولى للهجرة، فكانت أشبه (بدستور) للدولة الفتية الناشئة آنذاك في المدينة، وهي الصحيفة التي دون فيها كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حقوق المهاجرين والأنصار واليهود، ولفظ الكتابة صريح في مطلعها: "هذا كتاب محمد النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس" [32] . وقد تكررت فيها عبارة أهل هذه الصحيفة وغير ذلك من الصحف.
عصر الخلفاء الراشدين:
سار الأمر على ما تقدم، حتى إذا كان عهد الخلفاء الراشدين لم يتغير الحال، فقد كانت آراء هؤلاء الخلفاء في التشدد في الرواية والتورع عن الكتابة امتدادا لآراء إخوانهم الصحابة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم! فهذا أبو بكر يجمع بعض الأحاديث ثم يحرقها، يقول الذهبي بسنده: حدثني القاسم بن محمد قالت عائشة: جمع أبي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت خمسمائة حديث فبات ليلته يتقلب كثيرا، قالت فغمني فقلت: أتتقلب بشكوى أو لشيء يقلقك؟ فلما أصبح قال: أي بنية! هلمي الأحاديث التي عندك، فجئته بها فدعا بنار فحرقها، فقلت: لِم أحرقتها؟ قال: خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت، ولم يكن كما حدثني؛ فأكون قد نقلت ذاك فهذا لا يصح". اهـ[33] .
وكان أبو بكر أول من احتاط في قبول الأخبار؛ فروى ابن شهاب عن قبيصة بن ذويب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث، فقال:"ما أجد لك في كتاب الله شيئا، وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لك شيئا، ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال: حضرت رسول الله عليه السلام يعطيها السدس، فقال له: هل معك أحد؟ فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر.(17/94)
ومن مراسيل ابن أبي مليكة: أن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم؟ فقال: (إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافا؛ فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم كتاب الله؛ فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه) . فهذا المرسل يدلك أن مراد الصديق التثبت في الأخبار والتحري، لا سداد باب الرواية، ألا تراه لما نزل به أمر الجدة ولم يجده في الكتاب كيف سأل عنه في السنة، فلما أخبره الثقة ما اكتفى حتى استظهر الثقة بثقة آخر، ولم يقل حسبنا كتاب الله كما تقول الخوارج". اهـ.
وهذا عمر بن الخطاب لا يلبث أن يعدل عن كتابه السنن بعد أن عزم على تدوينها.
عن عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن، فاستفتى أصحاب الني صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأشاروا عليه بأن يكتبنها، فطفق عمر يستخير الله فيها شهرا، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له، فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا [34] .
وفي رواية أخرى: أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنة، ثم بدا له أن يكتبها ثم كتب في الأمصار: من كان عنده شئ فليمحه [35] .
والخلفاء الراشدون لم يتشددوا في أمر الكتابة وحدها، بل بلغ بهم الورع أن راحوا يتشددون حتى في الرواية.(17/95)
وعمر بن الخطاب هو الذي سنّ للمحدثين التثبت في النقل، وربما كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب؛ فروى الجريري (سعيد ابن إياس) عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن أبا موسى سلّم على عمر من وراء الباب ثلاث مرات، فلم يؤذن له فرجع، فأرسل عمر في أثره، فقال: لِم رجعت؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سلم أحدكم ثلاثا فلم يجب فليرجع"، قال: لتأتيني على ذلك ببينة أو لأفعلن بك! فجاءنا أبو موسى منتقعا لونه ونحن جلوس فقلنا: ما شأنك، فأخبرنا وقال: فهل سمع أحد منكم؟ فقلنا: نعم كلنا سمعه، فأرسلوا معه رجلا منهم حتى أتى عمر فأخبره.
أحب عمر أن يتأكد عنده خبر أبي موسى بقول صاحب آخر؟ ففي هذا دليل على أن الخير إذا رواه ثقتان كان أقوى وأرجح مما انفرد به واحد، وفي ذلك حض على تكثير طرق الحديث لكي يرتقي عن درجة الظن إلى درجة العلم؛ إذ الواحد يجوز عليه النسيان والوهم ولا يكاد يجوز ذلك على ثقتين لم يخالفهما أحد، وقد كان عمر من وجله أن يخطئ الصاحب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهم أن يقلوا الرواية عن نبيهم؛ لئلا يتشاغل الناس بالأحاديث عن حفظ القرآن اهـ.
أقول: ومن هنا بدأ علم أصول الحديث أو مصطلح الحديث، وأنه نشأ مع الرواية فكانا توأمين ولدا وعاشا معا.
فإذا رأينا كلا من أبي بكر وعمر - بعد هذا - يكتبان الحديث أو ينصحان بكتابته [36] ، وأن كثيرا من كبار الصحابة في عصرهما كانوا كذلك ينصحون بالكتابة ويأمرون بها أمرا صريحا، أدركنا علة ذلك التشدد الذي وصفناه قبل، وثبت لنا - كما قال إسماعيل بن إبراهيم بن علية البصري (200 هـ) أن الصحابة إنما كرهوا الكتابة لأن من كان قبلكم اتخذوا الكتب؛ فأعجبوا بها؛ فكانوا يكرهون أن يشتغلوا عن القرآن [37] .
وكما قال الخطيب البغدادي: "إن كراهة من كره الكتابة من الصدر الأول: إنما هي لئلا يضاهي بكتاب الله تعالى غيره، أو يشتغل عن القرآن بسواه" [38] .(17/96)
رأي آخر:
يقول الشيخ أبو بكر بن عقال الصقلي في فوائده على ما رواه ابن بشكوال: "إنما لم يجمع الصحابة سنن رسول الله صار الله عليه وسلم في مصحف كما جمعوا القرآن؛ لأن السنن انتشرت وخفي محفوظها من مدخولها، فوكل أهلها في نقلها إلى حفظهم، ولم يوكلوا من القرآن إلى مثل ذلك، وألفاظ السنن غير محروسة من الزيادة والنقصان كما حرص الله كتابه ببديع النظم الذي أعجز الخلق عن الإتيان بمثله؛ فكانوا في الذي جمعوه من القرآن مجتمعين، وفي حروف السنن ونقل نظم الكلام نصا مختلفين، فلم يصح تدوين ما اختلفوا فيه، ولو طمعوا في ضبط السنن كما اقتدوا على ضبط القرآن لما قصوا في جمعها، ولكنهم خافوا إن دونوا ما لا يتنازعون فيه أن يجعل العمدة في القول على المدوّن، فيكذبوا ما خرج عن الديوان فتبطل سنن كثيرة، فوسعوا طريق الطلب للأمة فاعتنوا بجمعها على قدر عناية كل واحد في نفسه، فصارت السنن عندهم مضبوطات، فمنها ما أصيب في النقل حقيقة الألفاظ المحفوطة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي السنن السالمة من العلل، ومنها ما حفظ معناها ونسي لفظها، ومنها ما اختلفت الروايات في نقل ألفاظها، واختلف أيضا رواتها في الثقة والعدالة، وهي تلك السنن التي تدخلها العلل فاعتبر صحيحها من سقيمها أهل المعرفة بها على أصول صحيحة وأركان وثيقة لا يخلص منها طعن طعان ولا يوهنها كيد كائد". انتهى [39] .
حول النهي والإباحة:
اختلف السلف من الصحابة والتابعين في الكتابة، فكرهها طائفة منهم لحديث أبي سعيد الخدري قال: "لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن، ومن كتب عني شيئا غير القرآن فليمحه" [40] .(17/97)
قال القاضي عياض:"كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم، فكرهها كثيرون منهم، وأجازها أكثرهم، ثم أجمع المسلمون على جوازها وزال الخلاف، ومن مليح قولهم في ذلك: يعيبون علينا أن نكتب العلم وندوّنه وقد قال الله عزّ وجلّ: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [41] .
وجاء في الإباحة والنهي حديثان؛ فحديث النهي وهو ما رواه مسلم عن أبي سعيد: "لا تكتبوا عني الحديث"، وحديث الإباحة: "اكتبوا لأبي شاه" متفق عليه.
روى أبو داود بسنده عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: حدثني أبو هريرة قال: لما فتحت مكة قام النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر الخطبة خطبة النبي قال: فقام رجل من أهل اليمن يقال له أبو شاه فقال: يا رسول الله! اكتبوا لي فقال: "اكتبوا لأبي شاه".
وبيّن في الرواية الثانية: أنها الخطبة التي سمعها يومئذ منه [42] .
ورواه بن عبد البر بمثله [43] .
وروى أبو داود بسنده عن عبد الله بن عمرو، قال: كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بأصبعه إلى فيه فقال: "أكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق" [44] .
وقد تقدم حديث أبي هريرة "ليس أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر حديثا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو…الحديث [45] .(17/98)
وقد اختلف في الجمع بينها وبين حديث أبي سعيد السابق، فقيل هو في حق من يوثق بحفظه ويخاف اتكاله على الكتابة إذا كتب، ويحمل الأحاديث الواردة بالإباحة على من لا يوثق بحفظه كحديث "اكتبوا لأبي شاه"، وحديث صحيفة علي رضي الله عنه [46] ، وحديث كتاب عمرو بن حزم الذي فيه الفرائض والسنن والديات، وحديث كتاب الصدقة ونصاب الزكاة الذي بعث به أبو بكر رضي الله عنه أنسا حين وجهه إلى البحرين، وحديث أبي هريرة أن ابن عمرو ابن العاص كان يكتب ولا أكتب.
وقيل إن حديث النهي منسوخ بهذه الأحاديث، وكان النهي حين خيف اختلاطه بالقرآن فلما أمن ذلك أذن في الكتابة، وقيل: إنما نهى عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط فيشتبه على القارئ [47] ؛ لأنهم كانوا يسمعون تأويل الآية فربما كتبوه معها فنهوا عن ذلك لخوف الاشتباه، وقيل: النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه، والإذن في غيره [48] .
قال ابن القيم:"قد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الكتابة والإذن فيها، والإذن متأخر فيكون ناسخا لحديث النهي، وقد صحّ عن النبي أنه قال لهم في مرض موته: "إئتوني اللوح والدوار والكتف لأكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده أبدا"وهذا كتابة كلامه بإذنه"اهـ[49] .
وقد قال ابن الصلاح: "ثم إنه زال ذلك الخلاف، وأجمع المسلمون على تسويغ ذلك وإباحته، ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الآخرة". ولقد صدق رحمه الله [50] .
عصر التابعين وتابعيهم:
وإذا انتقلنا إلى عصر التابعين هالتنا تلك الروايات المتضافرة على كراهة كبار التابعين وأوساطهم وأواخرهم للكتابة، ثم لا نلبث أن تجد كثيرا منهم يتساهلون في أمرها، يرخصون بها أو يحضون عليها، ونجدها أصبحت أمرا رسميا في عصر أوساطهم.(17/99)
والأسباب التي حملت الخلفاء الراشدين على الكراهة على التدوين، هي التي حملت التابعين عليها، فإذا بطلت أسباب هذه الكراهة قال الجميع قولا واحدا، وأخذوا به وأجمعوا عليه، وهو جواز كتابة العلم، بل وإيثار تقييده التشجيع عليه.
هنا جاء دور الخليفة الورع التقي عمر بن عبد العزيز، حين أمر رسميا بالشروع في تدوين الحديث، إنما استند إلى آراء العلماء، ولعله لم يقدم على ذلك إلا بعد أن استشارهم أو اطمأن إلى تأييد كثرتهم، وإن كانت الأخبار المتضافرة توحي بتفرده في هذه الفكرة؛ لما له في القلوب من منزلة ولا سيما بين معاصريه الواثقين بتقواه وورعه.
ويتضح من جملة الأخبار المروية في هذا الشأن أن خوف عمر عبد العزيز من دروس العلم وذهاب أهله هو الذي حمله على الأمر بالتدوين.
التدوين العام للحديث:
يقول الحافظ ابن حجر في مقدمته:"اعلم - علمني الله وإياك - أن آثار النبي صلى الله عليه وسلم، لم تكن في عصر أصحابه وكبار تبعهم مدوّنة في الجوامع ولا مرتبة لأمرين:
أحدهما: أنهم كانوا في ابتداء الحال قد نهوا عن ذلك، كما ثبت في صحيح مسلم؛ خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم.
وثانيهما: لسعة حفظهم، ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة".
أقول: نفي كتابة الآثار المشار إليها، ليس على إطلاقه؛ فقد وجد من كتب أن عهد الني صلى الله عليه وسلم وأقره بل طلب عليه السلام أن يكتب كتابا لأصحابه، كما تقدم.
فيحمل كلام ابن حجر على الكتابة العامة.
يقول ابن حجر: "فأول من جمع ذلك الربيع بن صبيح (توفي 160 هـ) ، وسعيد بن أبي عروبة (156هـ) وغيرهما، وكانوا يصنفون كل باب على حدة، إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة؛ فدونوا الأحكام.
فصنف الإمام مالك "الموطأ"وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز، ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، ومن بعدهم (توفي 179 هـ) .(17/100)
وصنف أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريح بمكة (توفي ببغداد 150 وقيل: 151) [51] ، وصنف أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي بالشام (156هـ) ، وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري بالكوفة (توفي 161 هـ) ، وحماد بن سلمة بن دينار أبو سلمة بالبصرة (نوفي 176هـ) ، ومعمر بن راشد باليمن (المتوفى 153هـ) ، وجرير بن عبد الحميد بالري (توفي 188هـ) ، وعبد الله بن المبارك بخراسان (المتوفى 181هـ) .
ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم إلى أن رأى بعض الأئمة منهم أن يفرد حديث الني صلى الله عليه وسلم خاصة، وذلك على رأس المائتين؛ فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسندا (توفي 213هـ) ، وصنف مسدد بن مسرهد البصري مسندا، وصنف أسد بن موسى الأموي مسندا (توفي 212هـ) ، وصنف نعيم بن حماد الخزاعي نزبل مصر مسندا.
ثم اقتفى الأئمة بعد ذلك أثرهم، فقلّ إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد؛ أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعثمان بن أبي شيبة وغيرهم من النبلاء.
ومنهم من صنف على الأبواب والمسانيد معا، كأبي بكر بن أبي شيبة.
ولما رأى البخاري هذه التصانيف ورواها وجدها جامعة للصحيح والحسن، والكثير منها يشمله التضعيف؛ فحرك همته لجمع الحديث الصحيح، وقوى همته لذلك ما سمعه من أستاذه الإمام إسحاق بن راهويه حيث قال لمن عنده والبخاري فيهم: "لو جمعتم كتابا مختصرا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال البخاري: فوقع ذلك في قلبي وأخذت في جمع الجامع الصحيح". انتهى [52] .
يقول السيوطي: "وهؤلاء المذكورون في أول من جمع كلهم من أثناء المائة الثانية".(17/101)
وأما ابتداء تدوين الحديث فإنه وقع على رأس المائة في خلافة عمر بن عبد العزيز بأمره؛ ففي صحيح البخاري: "وكتب عمر [53] بن عبد العزيز أبي أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه؛ فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء) ، وأخرجه أبو نعيم في تاريخ أصبهان بلفظ: "كتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجمعوه". قال في فتح الباري: "يستفاد من هذا ابتداء تدوين الحديث النبوي، ثم أفاد أن أول من دونه بأمر عم بن عبد العزيز ابن شهاب الزهري". اهـ[54] .
وأخرج الهروي في ذم الكلام من طريق يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن دينار قال:"لم يكن الصحابة ولا التابعون يكتبون الأحاديث، إنما كانوا يؤدونها لفظا، ويأخذونها حفظا، إلا كتاب الصدقات" [55] .
والشيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء حتى خيف عليه الدروس وأسرع في العلماء الموت، أمر عمر بن عبد العزيز أبا بكر الحزمي، فيما كتب إليه: أن انظر ما كان من سنة أو حديث فاكتبه.
وقال مالك في الموطأ رواية محمد بن الحسن: "أخبرنا يحي بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الأمصار إلى أبي بكر بن عمرو بن حزم [56] به. علقه البخاري في صحيحه" [57] .
وروى عبد الرزاق عن ابن وهب، سمعت مالكا يقول: "كان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يعلمهم السنن والفقه، ويكتب إلى المدينة يسألهم عما مضى، وأن يعملوا بما عندهم، ويكتب إلى أبي بكر بن حزم أن يجمع السنن، ويكتب بها إليه، فتوفي عمر بن عبد العزيز وقد كتب ابن حزم كتبا قبل أن يبعث بها إلينا ... "اهـ[58] . وفي رواية أن عمر بن عبد العزيز، كتب إلى عامله على المدينة أبي بكر بن حزم يأمره: "..انظر ما كان من حديث رسول الله أو سنة ماضية، أو حديث عمرة [59] فاكتبه"، وقد ضم إليها في بعض الروايات اسم القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق (107هـ) .(17/102)
وكلاهما من تلاميذ عائشة؛ فكانا أعلم الناس بأحاديثها عن رسول الله، ولقد قام أبو بكر بن حزم بما عهد إليه عمر، ولكن هذا الخليفة العظيم لحق بربه قبل أن يطلعه على نتائج سعيه، على أن عمر كان قد كتب إلى أهل الآفاق وإلى عماله في الأمصار بمثل ما كتب إلى ابن حزم [60] .
وكان أول من استجاب له في حياته وحقق له غايته عالم الحجاز والشام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري المدني [61] الذي دون له في ذلك كتابا، فغدا عمر يبعث إلى كل أرض دفترا من دفاتره، وحق للزهري أن يفخر بعلمه قائلا: "لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني" [62] .
ويخيل إلى الباحث عندما يبلغ هذه المرحلة من الدراسة أن فكرة كره التدوين قد اختفت إلى الأبد، وأنها في هذا العصر بدأت تنسى.
ومما تقدم يتبين لنا أن علماء التدوين قد طوفوا الدنيا كلها، وانتشروا في البلدان والأمصار وأحاطوا بها يجمعون ويكتبون في حركة نشطة دائبة يواصلون الليل بالنهار؛ ليسجلوا أجلّ وأخلد سجل عرفته البشرية على الإطلاق، على امتداد تاريخها الطويل، فبعد كتاب الله جندوا أنفسهم وأقلامهم ليدونوا مصدر شريعتهم، ومنبع عزهم الدائم.
وأقول: إن رأي أكثر العلماء في ذلك العصر من التردد في شأن الكتابة، بين الفعل والترك يرجع الى أمرين:
فالحرص على كلام رسول الله أن يضيع كالخوف عليه أن يشيع فيه غير الصحيح كانا عاملين كبيرين في توجيه العلماء نحو القول بكتابة الحديث تارة والنهى عنها تارة أخرى.
وإذا كان أوساط التابعين قد بدءوا يحذرون وضع الوضاعين فان أواخر التابعين أمسوا يصادفون كثيرا من نماذج الوضاعين وصور وضعهم؛ تأييدا للفرق والشيع المختلفة، فقد أمسى لزاما أن يشيع التدوين وينتشر في عصرهم حفظا للنصوص النبوية من عبث العابثين، وميزة التدوين في هذا العصر أن الحديث كان ممزوجا غالبا بفتاوى للصحابة والتابعين، كما في موطأ مالك.
خلاصة تدوين السنة(17/103)
يبدأ هذا الدور من أوائل القرن الثاني إلى آخر القرن الثالث، وكان هذا الدور عصرا مجيدا للسنة، فقد تنبه رواتها إلى وجوب تصنيفها وتدوينها، ومعنى تصنيفها ضم الأحاديث التي من نوع واحد في الموضوع بعضها إلى بعض كأحاديث الصلاة وأحاديث الصيام وما شاكل ذلك.
وجدت هذه الفكرة في جميع الأمصار الإسلامية في أوقات متقاربة حتى لم يعرف من له فضيلة السبق إلى ذلك.
ونستطيع أن نحدد هذا الدور بثلاثة أطوار:
الطور الأول:
فكان من مدوني الطور الأول من هذا الدور الإمام مالك بن أنس بالمدينة، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج بمكة.. إلى آخر من تقدموا وتقدمت طريقتهم في التدوين أيضا.
الطور الثاني:
رأت طبقة ثانية بعد هؤلاء أن يفرد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غيره، وذلك على رأس المائتين؛ فألفوا ما يعرف بالمسانيد.
والمسانيد من الكتب التي موضوعها جعل حديث كل صحابي على حدة صحيحا كان أو حسنا أو ضعيفا، وان اختلفت أنواعه، فتارة ترتب فيه أسماء الصحابة على حروف الهجاء، كما فعله غير واحد، وهذا أسهل تناولا، وتارة ترتب على أسماء القبائل؛ فيقدم بنو هاشم ثم الأقرب فالأقرب إلى رسوله الله صلى الله عليه وسلم في النسب، وتارة ترتب على السابقة في الإسلام؛ فيقدم العشرة المبشرون بالجنة، ثم أهل بدر، ثم أهل الحديبية، ثم من أسلم وهاجر بين الحديبية والفتح، ثم من أسلم يوم الفتح، ثم أصاغر الصحابة سنا، ويختتم بالنساء.
الطور الثالث:
جاء بعد هذه الطبقة، طبقة أخرى رأت ما أمامها من هذه الثروة العظيمة، ففتح أمامها باب الاختيار، وفي طليعة هذه الطبقة الإمامان الجليلان شيخا السنة أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي المتوقي 256هـ، ومسلم بن الحجاج النيسابوري المتوفي سنة 261هـ؛ صنفا صحيحها بعد أن دققا في الرواية والاختيار، فكان إليهما المنتهى في ذلك.(17/104)
وحذا حذوهما أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني (فارس الحلبة) المتوفى 275 هـ، وأبو عيسى محمد بن عيسى السامي الترمذي المتوفى سنة 279هـ، وأبو عبد الرجمن أحمد بن شعيب النسائي المتوفى سنة 03 3، وأبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني المعروف بأن ماجه توفي 373هـ.
وكتبهم هي المعروفة في لسان أهل الحديث بالكتب الستة، وقد حازت عند المسلمين من القرن الثالث إلى وقتنا هذا درجة عظيمة من الاعتبار؛ لما لهم في رواتها من الثقة العظمى.
ليس هؤلاء هم الذين ألفوا في السنة فقط، بل وجد بجانبهم كثيرون سواهم، إلا أن هؤلاء هم الذين نالوا شهرة لم ينلها غيرهم.
ونستطيع أن نقول: لم تدون السنة الصحيحة وحدها مرتبة على الأبواب إلا في أتباع أتباع التابعين، وعلى رأسهم أصحاب الصحاح الستة، وفي أواخر القرن الثالث انتهى أمر السنة وفي أثناء هذا الدور، حتى صارت علما مستقلا له رجال قصروا عليه بحثهم، ولا يخفى على عاقل أن هذا العصر لأجلّ عصور أهل الحديث وعلم السنة، وأسعدها بخدمة التأليف والتدوين، ففيه ظهر جهابذة المحدثين، وكبار المؤلفين وحذاق الناقدين وعقلاء المدققين وعمدة المحققين، وفيه ظهرت أنوار كتب السنة الستة، وأشرقت شموسها، حتى كادت لا تغادر من صحيح الحديث وحسنه إلا النذر اليسير، ومن ذلك اعتمد عليها المستنبطون، واعتضد بها المناظرون، وعول عليها المطالعون ورجع إليها المصنفون، وبهذا أخذ علماء الفقه أجمعون.
وكاد يتم جمع الحديث وتدوينه وتأليفه وتهذيبه وترتيبه في هذا العصر المجيد: عصر إمامنا أبي داود السجستاني إمام أهل السنة، وحسبنا فخرا أن ننتهي بأطوار الحديث إلى طور الازدهار والاشتهار حيث وجد وأطل على الدنيا شمس المحدثين مالك زمام الحديث وطبيب علله أبو داود السجستاني، وفيه نشأ، فهو حبة عقده رحمه الله.(17/105)
أما المتأخرون في عصر الرواية فيكون عملهم - في نهاية المطاف - تهذيبا وشرحا واختصارا للكتب الصحيحة المشهورة.
وهكذا مر الحديث النبوي بمراحل طويلة حتى وصل إلينا محررا مضبوطا.
أين كانت الدراية في أثناء المراحل المتقدمة؟
سايرت الدراية - أو علوم الحديث - الرواية في جميع الأطوار المتقدمة ولم تنفك عنها، وآية ذلك تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من الكذب عليه، روى مسلم بسنده عن أنس بن مالك أنه قال: إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثا كثيرا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من تعمد علي كذبا فليتبوأ مقعده من النار" [63] .
وفي الباب أحاديث كثيرة.
وما موقف أبي بكر وعمر، وحضهما على تكثير طرق الحديث لكي ترتقي عن درجة الظن إلى درجة العلم إلا دليلا على ذلك. وقد تقدم.
ولكن فروعه لم تتشعب في عهد الصحابة؛ لثقتهم وعدالتهم، ولأنهم حملة الشريعة وتلاميذ النبي صلى الله عليه وسلم.
وظل الأمر كذلك في عهد كبار التابعين، وبدأ أوساطهم يحذرون من الكذابين، ولكن ظهرت الفرق والشيع المختلفة ووجد من يؤيدهم، صادف أواخر التابعين نماذج من الوضاعين، ومن هنا دوّن الحديث وعلومه حفظا للنصوص النبوية من عبث العابثين.
وعلم من تعريف الحديث دراية أن واضعه هو ابن شهاب الزهري؛ فيكون ندا لعلم الحديث رواية.(17/106)
ولذلك وجد في دور تدوين السنة رجال كان همهم البحث عن حال رواة الحديث من التابعين فمن بعدهم، ووصف كل رجل منهم بما يستحق من ضبط وإتقان وعدالة أو أضدادها، ويعرفون برجال الجرح والتعديل، فمن عدلوه قبلت روايته، ومن جرحوه ترك حديثه، وقد يختلفون في ذلك الشأن نجد من الرواة من أجمع على تعديله وضبطه وإتقانه، وذلك هو الغاية العليا، ومنهم من أجمع على تركه وذلك هو الغاية الدنيا، وبين ذلك درجات بعضها أدني من بعض، ومن الأسانيد ما هو كالشمس في الإشراق حتى يكاد سامعه يقطع بصدق رواته، ومنها ما هو دون ذلك.
قال الذهبي:"أول من زكى وجرح من التابعين - وإن كان قد وقع ذلك قبلهم - الشعبي وابن سيرين [64] ، حفظ عنهما توثيق أناس وتضعيف آخرين، وسبب قلة في التابعين قلة متبوعهم من الضعفاء؛ إذ أكثر المتبوعين صحابة عدول، وأكثر المتبوعين في عصر الصحابة ثقات، ولا يكاد يوجد في القرن الأول الذي انقرض فيه الصحابة وكبار التابعين إلا الواحد، كالحارث الأعور [65] والمختار الكذاب، فلما مضى القرن ودخل الثاني كان في أوائلهم من أوساط التابعين جماعة من الضعفاء الذين شعفوا غالبا من قبل تحملهم وضبطهم الحديث، فتراهم يرفعون الموقوف ويرسلون كثيرا، ولهم غلط، كأبي هارون العبدي.
فلما كان عند آخر عصر التابعين - وهو حدود الخمسين ومائة - تكلم في التوثيق والتضعيف أئمة" [66] .(17/107)
ويوضح الذهبي في موقع آخر أن علم مصطلح الحديث اشتغل به كبار التابعين، يقول في علم الحديث ولا رأيت أهل الحديث فأوائلهم كان لهم شيخ عالي الإسناد بينه وبين الله تعالى واحد معصوم عن معصوم سيد البشر عن جبريل عن الله عزّ وجلّ، فطلبه مثل أبي بكر وعمر وابن مسعود وأبي هريرة الحافظ وابن عباس وسادة الناس طالت أعمارهم وعلا سندهم وانتصبوا للرواية الرفيعة، فحمل عنهم، مثل مسروق وابن المسيب والحسن البصري وعروة وأشباههم من أصحاب الحديث وأرباب الرواية والدراية والصدق والعبادة والإتقان والزهادة الذين من طلبتهم مثل الزهري وقتادة ... الخامس [67] .
مراحل الدراية
تقدم أن السنة كانت محفوظة في صدور العدول الأمناء، لا يعرف مكانها دس أو تغيير، ومن ذلك فقد كانت من بعض الصحابة وكبار التابعين رحلات إلى بعض البلدان لطلب الخبر وسماعه ممن سمع أو انفرد برواية؛ ومضت المائة، فكل رواة السنة إما صحابي عدل ضابط وإما تابعي كبير ثقة يتحرى الصدق ويتشدد في الرواية، إلا ما كان من اليسير الذي يقع لبعضهم من الأوهام والأخطاء.
ومع ذلك فقد تكلم الرواة من الصحابة جماعة منهم، ونقدوا بعض ما روى عنهم، فتكلم ابن عباس وأنس بن مالك والسيدة عائشة، وتكلم من كبار التابعين الشعبي وابن المسيب وابن سيرين وغيرهم، وكان القول منهم في الرجل الواحد بعد الرجال لقلة الضعفاء ذلك العصر.(17/108)
ولما كانت أوائل المائة الثاني وعصر أوساط التابعين بعد الخمسين والمائة - وفيها كان أتباع التابعين، وظهرت الفرق السياسية وانتشرت النحل والعصبية، وزاحمت الثقافات الأعجمية المعارف الشرعية، وظهر من يتعمد الكذب، ترويجا لبدعته وانتصارا لمذهبه ونحلته - فاضطر العلماء الجهابذة من علماء الجرح والتعديل إلى اتساع النظر والاجتهاد في التفتيش عن الرواة ونقد الأسانيد, فتكلم شعبة ومالك ومعمر، ثم ابن المبارك وابن عيينة، ثم يحي بن سعيد القطان وتلامذته كعلي بن المدني ويحي بن معين.
وتكلم من علماء المائة الثالثة أحمد بن حنبل، وما نقله تلاميذه في أسئلتهم له ومحاورتهم معه، ومن أعظم ثمرات تلك المحاورات كتاب المسائل التي وجهها إليه تلميذه أبو داود السجستاني، فهو جامع شامل نافع، وأيضا رسالة أبي داود السجستاني إلى أهل مكة في ببان طريقته في سننه الشهيرة، وتعليقاته على أحاديثها التي تعتبر النواة لعلوم الحديث، وما كتبه تلميذ أبي داود أبو عيسى الترمذي الحافظ في كتابه "العلل المفرد"في آخر جامعه، وما بثه في الكلام على أحاديث جامعه في طيات الكتاب من تصحيح وتضعيف وتقوية وتعليل.
وللإمام البخاري التواريخ الثلاثة، ولغيره من علماء الجرح والتعديل من معاصريه ومن بعدهم.
- يتبع -
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر كشف الظنون في أساس العلوم والفنون
[2] الآية 67 من سورة المائدة
[3] آية 7 من سورة الحشر
[4] الآية 65 من سورة النساء
[5] الآية 10 من سورة النجم، وانظر الحديث والمحدثين للشيخ أبي زهو.
[6] انظر سنن أبي داود جـ 2 ص 505 كتاب السنة باب فما لزوم السنة ط ا.
[7] الحجلة بفتحتين: واحدة حجال العروس، وهى بيت يزين بالثياب والأسرة والستور اهـ. مختار الصحاح ص124ط7.(17/109)
[8] انظر مختصر وشرح سنن بي داود جـ7 ص1 حديث 4436.
[9] انظر مختصر سنن أبي داود المنذرى جـ7 ص 10 حديث 4441.
[10] انظر جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله لأيى عمر يوسف بن عبد البر النورى القرطبي المتوفى 463هـ.
[11] انظر سنن أبي داود جـ 2 كتاب السنة باب في لزوم السنة ص 506 ط 1.
[12] انظر مختصر المنذري جـ7 ص12 حديث 4443.
[13] انظر مقدمة صحيح مسلم.
[14] انظر قواعد التحديث.
[15] آنف: أول.
[16] انظر قواعد التحديث
[17] انظر سنن أبي داود كتاب العلم فضل نشر العلم جـ 2ص 289.
[18] انظر مختصر المنذرى ومعالم السنن للخطايى جـ 5 ص253 باب جامع في فضل العلم.
[19] سورة الإسراء آية 71.
[20] كذا في تدريب الراوي ص 170.
[21] انظر القول السديد في اتصال الأسانيد للشيخ أحمد عثمان العدوي المعروف بالمنبتي مصطلح 38 مخطوط تيمور.
[22] انظر فتح المغيث شرح ألفية الحديث.
[23] انظر قواعد التحديث ص 50
[24] وقد أشار إلى ذلك الخطابي في معالم السنن فقال: (يشبه أن يكون النهي متقدما، وآخر الأمرين الإباحة) .
وقد قيل: إنه إنما نهى أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة؛ لئلا يختلط به ويشتبه على القارئ، فأما أن يكون نفس الكتاب مخطوطا وتقييد العلم بالخط منهيا عنه فلا. اهـ مختصر جـ5 ص 346 كتاب العلم حديث 3499.
[25] صحيح مسلم بشرح النووي جـ18 ص 129 كتاب الزهد من حديث أبي سعيد الخدري. وقد أعل بعضهم هذا الحديث ووقفه على أبي سعيد الخدري قال: ابن حجر في الفتح ج1 ص 218: ومنهم من أعل حديث أبي سعيد وقال: الصواب وقفه على أبي سعيد، قاله البخاري وغيره اهـ. وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الباعث الحثيث ص 148: وهذا غير جيد؛ فإن الحديث الصحيح. وملحظ الشيخ شاكر لأن الحديث معروف متدوال بين العلماء وفي كتب الحديث.(17/110)
[26] رواه ابن عبد البر عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قيدوا العلم بالكتاب". ورواه موقوفا على عمر بن الخطاب وابن عباس مثله، وعن أنس أيضا أنه كان يقول لبنيه: يا بني قيدوا العلم بالكتاب اهـ جامع بيان العلم وفضله جـ 1 باب الرخصة في كتاب العلم ص 86.
انظر مسند عبد الله بن عمرو في مسند أحمد 2/158-226.
[27] جامع العلم لابن عبد البر ج1 ص84 باب الرخصة في كتابة العلم.
[28] تهذيب التهذيب ج8، والمحدث الفاصل نقل الدكتور صبحي الصالحي.
[29] جامع بيان العلم، وأسد الغابة لابن الأثير ترجمة عبد الله بن عمرو ح3 ص350 ط الشعب.
[30] أسد الغابة - المرجع السابق.
[31] أسد الغابة - المرجع السابق.
[32] راجع الوثائق السياسية في العهد النبوي للدكتور محمد حميدة رقم 1.
[33] تذكرة الحفاظ جـ اص5.
[34] انظر جامع بيان العلم لابن عبد البرجـ1 ص 77 باب كراهية كتابة العلم وتخليده في مصحف.
[35] تذكرة الحفاظ جـ 1ص 7 ط 3.
[36] انظر الحديث ومصطلحه.
[37] تذكرة الحفاظ
[38] انظر علم الحديث ومصطلحه للدكتور صبحي.
[39] انظر شروط الأئمة الخمسة ص48.
[40] انظر صحيح مسلم بشرح النووي ج18 ص129 ط المصرية.
[41] سورة طه - آية 52.
[42] انظر سنن أبي داود - كتاب العلم - ج2 ص286.
[43] انظر جامع بيان العلم وفضله جـ1 ص84 باب الرخصة في كتاب العلم
[44] انظر سنن أبي داود جـ2 ص 286، وأبو شاه: بالهاء الأصلية وشاه لفظ فارسي معناه الملك، قيل لفظه بالهاء وقفا ووصلا وقيل بنون وصلا كما في الإصابة.
[45] فتح الباري كتاب العلم باب كتاب العلم ص 217وانظر بيان العلم لابن عبد البرجـ1ص84.
[46] انظر فتح الباري كتاب العلم باب كتاب العلم جـ 1ص 214
[47] ينظر شرح النووي على صحيح مسلم جـ18 كتاب الزهد ص 129.(17/111)
[48] ينظر تدريب الراوي.
[49] انظر مختصر المنذري جـ5 ص 245 حديث 3497 باب رواية حديث أهل الكتاب.
[50] مقدمة ابن الصلاح ص 171، النوع الخامس والعشرون في كتابه الحديث
[51] يقول بروكلمان عن النجوم الزاهرة: إن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، كان جده جريج عبدا روميا، وأصل اسمه جريجوريونرس، كان أول من صنف أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جمع كتابه في الآثار وحروف التفسير، أحاديث لمجاهد وعطاء وغيرهما بمكة، ولكنه لم ينل من الخليفة المنصور ما كان يرجو من العطاء يقول: وقد بقيت بقايا قليلة من مجموعات القدماء من رجال الحديث منذ المرحلة الأولى للتدوين تشتمل عليها دور الكتب قي استانبول. وذكر فايسفيلر أوصاف هذه الأجزاء قي كتابه عن مخطوطات الحديث في مكتبات استانبول.
[52] نظر هدى الساري. وانظر تنوير الحوالك ج1ص5 وتدريب الراوي ص 39 ط 1.
[53] عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، الإمام أمير المؤمنين أبو حفص الأموي القرشي، مولده بالمدينة زمن يزيد، ونشأ في مصر في ولاية أبيه عليها، حدث عن عبد الله بن جعفر وأنس بن مالك وسعيد بن المسيب وطائفة، وكان إماما فقيها مجتهدا، عارفا بالسنن كبير الشأن ثبتا حجة حافظا قانتا لله أواها منيبا، حدث عنه ابناه عبد الله وعبد العزيز والزهري وأيوب وأبو بكر بن حزم، وأبو سلمة بن عبد الرحمن وهما من شيوخه، وأمه أم عاصم بنت عمر بن الخطاب، وكان مليحا أبيض جميل الشكل حسن اللحية، بجبهته أثر حافر فرس شحه في صغره، وذا كان يقال له أشج بني أمية، وفي آخر أيامه خطه الشيب، عاش أربعين سنة، ويعد له وزهده يضرب به المثل رضي الله عنه.(17/112)
قال الشافعي: الخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز، وقد ولي أولاً إمرة المدينة خلافة الوليد، وبنى المسجد وزخرفه، وكان إذ ذاك لا يذكر بكثير عمل ولا زهد، ولكن تجدد له لما استخلف وقلبه الله فصار بعد حسن السيرة والقيام بالقسط مع جده لأمه عمر، وفي الزهد مع الحسن البصري، وفي العلم مع الزهري، ولكن موته قرب من شيوخه فلم ينشر عمله، عن أبي جعفر الباقر قال: إن نجيب بني أمية عمر بن عبد العزيز؛ إنه يبعث يوم القيامة أمة واحدة، وقال مجاهد: أتينا لنعلمه فما برحنا حتى تعلمنا منه، وقال ميمون بن مهران: ما كانت العلماء عند عمر بن عبد العزيز إلا تلامذة.
قال ابن سعد: ولد سنة 63، وكان ثقة مأمونا له فقه وعلم وورع، وروى حديثا كثيرا، وكان إمام عدل، سمعت عبد الله بن داود يقول: ولد مقتل الحسين سنة (61) ، وقال أنس بن مالك: ما رأيت أحدا أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى، وقال الذهبي: سيرته تحتمل مجلدا، ومات بدير سمعان وقبره هناك يزار، ومات في رجب سنة إحدى ومائة، وله أربعون سنة سوى ستة أشهر.. اهـ. مقدمة تحفة الأحوذي ج2 ص471.
[54] انظر تدريب الراوي ص40 ط1.
[55] روى أبو داود بسنده عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة، فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض، فقرنه بسيفه، فعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمل به عمر حتى قبض، فكان فيه: في خمس من الإبل شاة ... الحديث.(17/113)
وروى عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: (هذه نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه في الصدقة، وهي عند آل عمر بن الخطاب، قال ابن شهاب: أقرأنيها سالم بن عبد الله بن عمر، فوعيتها على وجهها، وهي التي انتسخ عمر بن عبد العزيز من عبد الله بن عمر، وسلم بن عبد الله بن عمر، فذكر الحديث. اهـ. مختصر سنن أبي داود للمنذري ج2 ص185، حديث 1510، 1512 من كتاب الزكاة باب زكاة السائمة.
[56] انظر تنوير الحوالك ص 15 هـ قال ابن حجر في فتح الباري: أبو بكر بن حزم، هو ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، نسب إلى جد أبيه، ولجده عمرو صحبة، ولأبيه محمد رؤية، وأبو بكر تابعي فقيه استعمله عمر بن عبد العزيز على إمرة المدينة وقضائها، ولهذا كتب إليه، ولا يعرف له اسم سوى أب بكر وقيل كنيته أبو عبد الملك، واسمه أبو بكر، وقيل اسمه (فاكتبه) يستفاد منه ابتداء تدوين الحديث النبوي، فكانوا فبل ذلك يعتمدون على الحفظ، فلما خاف عمر بن عبد العزيز وكان على رأس المائة الأولى من ذهاب العلم بموت العلماء رأى في تدوينه ضبطا له وبقاء الخ. - فتح الباري كتاب العلم باب كيف يقبض العلم ج1 ص204.
[57] قال البخاري: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا يقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وليشفوا العلم، وليجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا، ورواه أيضا من طريق عبد الله بن دينار عن عمر بن عبد العزيز اهـ. جـ1 ص204 نفس الكتاب والباب السابقين.
[58] انظر تدريب الراوي ص40 ط1.
[59] عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة وقد روى الزهري عن عمرة بنت عبد الرحمن وآخرون وروت عائشة وأم سلمة وكانت عالمة اهـ جـ 8ص353- طبقات ابن سعد. ط الشعب.
[60] الرسالة المستطرفة ص4.(17/114)
[61] محمد بن مسلم بن عبد الله بن عبيد الله بن شهاب الزهري أبو بكر المدني أحد الأعلام نزل الشام. روى عن ابن عمر وجابر وأنس وغيرهم من الصحابة وعنه أبو حنيفة ومالك وعمر بن عبد العزيز وغيرهم مات سنة أربع ومائة وعشرين ومائة اهـ إسعاف المبطأ للسيوطي ص37.
[62] الرسالة المتطرفة ص4.. أقول: قال أبو داود حديثه ألفان ومائتان، النصف فيها مسندا اهـ. مقدمة تحفة الأحوذي ص 475.
[63] انظر صحيح مسلم بشرح النووي جـ1ص66
[64] من ذلك ما رواه ابن سعد قال: روى جريرعن مغيرة عن الشعبي قال: حدثني الحارث الأعور وكان كذوبا.
وأما ابن سيرين فهو محمد بن سيرين ويكنى أبا بكر مولى أنس بن مالك، وكان ثقة مأمونا عاليا رفيعا فقيها إماما كثير العلم ورعا، وكان به صمم، ولد محمد بن سيرين لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، وكان يقول: إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذونه، وعن ابن عون قال: كان محمد بن سيرين إذا حدث كأنه يتقي شيئاً، كأنه يحذر شيئاً، وقال ابن عون: سمعت محمدا يقول: لو كنت متخذا كتابا لاتخذت رسائل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ابن سيرين لا يرى بأسا أن يكتب الحديث، فإذا حفظه محاه، عن أنس بن سيرين قال: لم يبلغ محمدا حديثا قط، أحدهما أشد من الآخر إلا أخذ بأشدهما قال: وكان لا يرى بأسا، وكان قد طوق لذلك. اهـ طبقات ابن سعد ج7 ص140 ط الشعب.
[65] الحارث الأعور بن عبد الله بن كعب بن أسد بن خالد بن حوب، وقد روى الحارث عن علي وعبد الله بن مسعود، وكان له قول سوء، وهو ضعيف في روايته، قال ابن سعد بسنده: أن علي بن أبي طالب خطب الناس فقال: من يشتري علما بدرهم؟ فاشترى الحارث الأعور صحفا بدرهم، ثم جاء بها عليا فكتب له علما كثيرا، وكانت وفاة الحارث الأعور بالكوفة أيام عبد الله بن الزبير. اهـ طبقات ابن سعد ج5 ص116.
[66] انظر تدريب الراوي حاشية ص299 ط 1 عبد الوهاب عبد اللطيف.(17/115)
[67] انظر بيان زغل العلم والطلب للحافظ الذهبي ص10 مطبعة التوفيق بدمشق 1347هـ(17/116)
من أحداث العالم الإسلامي
بقلم الدكتور عبد الرحمن العدوي
مستشار التعليم بالجامعة الإسلامية
في هذا العالم الذي تسرع فيه مفاجآت الأحداث؛ بحيث لا يكاد الإنسان ينتهي من سماع خبر أو حدث هام في منطقة من مناطق العالم إلا ويسمع غيره أكثر خطورة وأشد تأثيرا..
والعالم الإسلامي - كجزء من هذا العالم الذي نعيش فيه - أصبح يموج بالأحداث المتلاحقة التي تستوجب حركة سريعة منضبطة بما يؤمن به أهله من عقيدة راسخة وأخوة في الإيمان ونظام متكامل رسمته شريعة الإسلام.. وفي السطور التالية نعرض لأهم هذه الأحداث:
1- إعلان حكومة الباكستان تطبيق الشريعة الإسلامية:
إن الأساس الذي قامت عليه دولة الباكستان يوم إعلانها وانفصالها عن الهند هو أن تكون أرضا للمسلمين لهم فيها حرية اختيار النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي ينبثق من تعاليم دينهم الإسلامي، وحتى لا تضيق صدورهم بما يمارسه الهندوك من عبادات ومعتقدات فاسدة.
ولقد حقق هذا الهدف الجليل رئيس دولة الباكستان ضياء الحق؛ عندما أعلن أنه سيطبق الشريعة الإسلامية في الأحكام ويتخذها نظاما شاملا في حياة الباكستان.
وقد كان لهذا الإعلان أثره الطيب في نفوس المسلمين في كل مكان، وسارعت الوفود الإسلامية إلى باكستان تهنئ رئيسها وشعبها بتوفيق الله لهم في هذه الخطوة المباركة، وكان وفد رابطة العالم الإسلامي برئاسة سماحة الشيخ محمد الحركان من أول الوفود التي سافرت إلى باكستان للتهنئة وتقديم الخبرة والمشورة والاستعداد للمعاونة الصادقة في تيسير تنفيذ هذا العمل العظيم.
وإننا نهنئ شعب باكستان المسلم على ما أكرمه الله به من العودة إلى شريعته السمحة واتخاذها نظاما لحياته..
وفق الله المسلمين ليحذو حذو باكستان المسلمة لتطبيق شريعة الله؛ ليسعدوا في الدنيا والآخرة.(17/117)
2- القدس ومفاوضات السلام:
إن المسجد الأقصى هو أحد المساجد الثلاثة التي تشد الرحال إليها، وهو مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج، وهو قبلة المسلمين في صدر الإسلام قبل أن تتحول القبلة إلى المسجد الحرام.
والمسلمون في كافة بقاع الأرض يعرفون هذه المنزلة للقدس الشريف والمسجد الأقصى فيه، وهم لذلك يرون أن التفريط في شيء منه تفريط في مقدساتهم الدينية وتجتمع كلمتهم على ذلك.
وإن مفاوضات السلام التي تجري في هذه الأيام لا يمكن أن تحقق سلاما دائما بين الغاصبين وأصحاب الحق إذا ما استمر هؤلاء الغاصبون على حرمان أصحاب الحق من حقهم وأصروا على ادعاء ملكية ما اغتصبوه منها.
وليعلم جميع الأطراف أن المسلمين يعلمون أن عليهم واجبا دينيا لانتزاع أرضهم ومقدساتهم من أيدي الأعداء، وأنهم عازمون على ذلك مهما طالت الأيام وقامت العقبات.
وإن اليقظة الإسلامية التي ظهرت بوادرها في بقاع شتى من أرض المسلمين كفيلة بأن توحد كلمتهم وتوقظ همتهم، وتجمع قولهم لانتزاع حقهم السليب وتحقيق العزة لهم والنصر على أعدائهم؛ {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
3- مقاومة المد الشيوعي في أفغانستان:
أصيبت أفغانستان المسلمة بنكبة شيوعية أقامت نظاما عميلا يستند إلى الدولة الشيوعية الملحدة التي ذاق المسلمون من ويلاتها شرورا وآثام كثيرة.
غير أن اليقظة الإسلامية في أفغانستان أبت أن تستكين لهذا الحكم الشيوعي الذي يدمر عقيدة المسلمين، ويحارب عبادتهم، ويقضى على مقومات حياتهم؛ فتجمعت الهيئات الإسلامية واتفق زعماؤها على أن يكونوا يدا واحدة لمواجهة هذا الخطر الزاحف، وقد ظهرت بشائر النصر حيث تمكنوا من تحرير عدد من المقاطعات السبعة ولا زال الكفاح المسلح مستمرا.(17/118)
وإن النظام الشيوعي في أفغانستان الذي يؤيده وتؤازره الشيوعية العالمية سوف يندحر - بإذن الله تعالى - أمام كتائب المسلمين المجاهدين، وعلى الأمة الإسلامية كلها واجب المساعدة ومد يد العون بكل الوسائل لهؤلاء المجاهدين حتى يتم لهم النصر وتعلو كلمة الإسلام في هذا البلد الإسلامي العزيز على نفوس جميع المسلمين.(17/119)
القسم الإنجليزي
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .(17/120)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ، وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
the holy koran
In the name of Allah, the most Gracious, the most merciful(17/121)
{And unto you we have revealed the scripture with the truth, confirming the scripture that came before it, and a watcher over it. So judge between them by that watcher Allah has revealed, and follow not their desires away from the truth which has come unto you. For each among you we have appointed a divine law and a traced–out way. If Allah had willed, he would have made you one nation but to test you in what he has given you. So vie one with onother in good works unto Allah you will all return, and he will then inform you of that wherein you differ. So Judge between them by that which Allah has revealed and follow not their desires, but beware of them lest they seduce you from some part of that which Allah has reveald unto you. And if they turn away, then know that for some of their sins it is Allah’s will to punish them. And truly most of mankind are rebellious, do they then seek after a judgement of the days of ignorance ?
But who , for a people whose faith is assured, can give better judgment than Allah?}
{O you who believe take not for patrons such of those who received the scripture before you , and of
the disbeliever ,who take your religion for a mockery
or sport. But fear Allah if you are true believers.
(Suatul –maida V.48-57)
the Sunnah
(1) عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(17/122)
"إن الحلال بين والحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس؛ فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام؛ كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيها، ألا وإن لكل ملك حمى! ألا وإن حمى الله محارمه! ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله! ألا وهو القلب! ".
(متفق عليه)
(1) N’uman Bin Bashir reported that the Apostle of Allah Said:
“Verily lawful things are manifest and unlawful Things are also manifest, and between them are the Doubtful things which many people do not know: whose Guard against the doubtful things, he makes his religion And honor pure, and whose falls in the doubtful things like shepherd who grazes his folk round a Reserved pasture ground and in any moment he is liable to get in it. Beware, every king has a meadow, and the meadow of Allah is his forbidden things. beware, there is a piece of flesh in the body;if it becomes good the whol body becomes good, but if it gets spoilt and that is the heart”.
(Agreed)
(2) عن عائشة قالت: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم:
"اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولى من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به".
(مسلم)
(2) Aisha reported that the Apostle of Said:
“O Allah! whose is given power over any of the the affairs of my people and them he gives trouble to them, gives trouble to him, and whose is given power over any of the affairs of my people and then he shows mercy to them , show mercy to him“
(Muslim)
(3) عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(17/123)
"لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها".
(متفق عليه) .
(3) Abdur-Rahman bin Samorah reported that Apostle of Allah Said:
“Don’t seek to rule;because if it is given to you without asking you will be aided therein.
(Agreed)
(4) عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"السمع والطاعة على المرء فيما أحبه وكره ما لم يؤمر بمعصية؛ فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".
(متفق عليه)
(4) Ibn – Omar reported that the Apostle of Allah Said:
“there is hearing and obeying on a Muslim in
what is pleasing and displeasing to him so long as he is not ordered with a sinful act, when he is ordered a sinful act, there
is not hearing and obeying”.
(Agreed)
(5) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أسلم العبد فحسن إسلامه يكفر الله عنه كل سيئة كان زلقها، وكان بعد ذلك القصاص؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه".
(البخاري)
(5) Abu Said Al –khudri heard the Apostle of Allah s saying:
“If any person embraces Islam sincerely, then Allah shall
forgive all his past sins, and after that starts the settlement of accounts;the reward of his good deeds will be ten times to seven hundred times for each good deed and a bad deed will be recorder as it, unless Allah forgives it“
(Al- Bukhari)
(6) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله
"كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه".
(مسلم) .(17/124)
(6) jaber bin Abdellah reported that the apostle of Allah said:
“the blood, property and honor of a muslim must be sacred to every other muslim“
(muslim)
(7) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن من أحبكم إلي أحسنكم أخلاقا".
(البخاري)
(7) Abdullah bin Omar reported that the Apostle of Allah said:
“verily the dearest to me among you is he who the best of you in conduct “
(Al –Bukhari)(17/125)
أصول الإيمان
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه ونبينا وإمامنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد..
أيها الإخوة الكرام: حديثي معكم في هذه الكلمة فيما يتعلق بأصول الإيمان, وهذا موضوع اختارته الجامعة ووافقت عليه, لأنه موضوع مهم جدا, لأن مدار ديننا على هذه الأصول, لأنه سر نجاح الأمة وسر سعادتها وسر أمنها وسر سيدتها على الأمم إذا حققته في أقوالها وأعمالها وسيرتها وجهادها وأخذها وعطائها وغير ذلك..(17/126)
وقد أوضح القرآن هذه الأصول كما أوضحها نبينا عليه الصلاة والسلام في آيات وأحاديث كثيرة, وهي أصول ستة, هي أصول الإيمان, وهي أصول الدين.. فإن الإيمان هو الدين كله وهو الإسلام وهو الهدى وهو البر والتقوى وهو ما بعث الله به الرسول عليه الصلاة والسلام من العلم النافع والعمل الصالح, كله يسمى إيمانا, هذه أصول ديننا الستة أوضحها الكتاب العزيز في مواضع, وأوضحها رسول الله الأمين في الأحاديث, فمما ورد في كتاب الله عز وجل قوله سبحانه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} الآية. فبين سبحانه هنا خمسة من أصول الإيمان. الإيمان بالله, واليوم الآخر, والملائكة, والكتاب, والنبيين. هذه خمسة أصول عليها مدار الدين ظاهره وباطنه, وقال جل وعلا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} الآية.(17/127)
فبين سبحانه وتعالى هنا أربعة أصول في قوله {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِه وَرُسُلِهِِ} , ولم يذكر اليوم الآخر, ولكنه ذكره في الآية السابقة, وهذه سنة الله في كتابه ينوع سبحانه الأخبار عنه عز وجل وعن أسمائه وصفاته، وعن أصول هذا الدين، وعن شئون يوم القيامة والجنة والنار، وعن الرسل وأممهم حتى يجد القارئ في كل موضع من كتاب الله ما يزداد به إيمانه وعلمه، وحتى يطلب المزيد من العلم في كل موضع من كتاب الله عز وجل، وفي كل حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} .(17/128)
وقد أوضح سبحانه في هذه الآية الأخيرة أن الكفر بهذه الأصول ضلال بعيد عن الهدى، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وفي مواضع يذكر الإيمان بالله وحده؛ لأن جميع ما ذكر في الآيات الأخرى داخل في ضمن الإيمان بالله، وفي بعضها الإيمان بالله ورسوله، وفي بعضها الإيمان بالله واليوم الآخر فقط، وما ذاك إلا لأن البقية داخلة في ذلك، فإذا ذكر الإيمان بالله دخل فيه بقية الأشياء التي ذكرها في الآيات الأخرى، كالإيمان بالملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، فمن هذا قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} ؛ فاقتصر على الإيمان بالله والكتاب المنزل على محمد عليه الصلاة والسلام والكتاب المنزل من قبل، ولم يذكر الأصول الأخرى؛ لأنها داخلة في الإيمان بالله، وهكذا قوله جل وعلا: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} ، ذكر الإيمان بالله ورسوله والنور الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو الكتاب والسنة؛ لأن البقية داخلة في ذلك، فالكتاب والسنة داخلة في النور، وهكذا كل ما أخبر الله به رسوله مما كان وما يكون كله داخل في النور، وهكذا قوله جل وعلا: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} ؛ فذكر الإيمان بالله ورسوله فقط؛ وما ذاك إلا لأن البقية داخلة في الإيمان بالله ورسوله.(17/129)
ومما جاء في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث جبريل المشهور، لما سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الإسلام والإيمان والإحسان؛ فذكر الإسلام أولا، وفي لفظ بدأ بالإيمان ثم ذكر الإسلام ثم الإحسان؛ فالمقصود أنه ذكر الإيمان بما يصلح الباطن؛ لأن الباطن هو الأساس، والظاهر تبع للباطن؛ فسمى الأعمال الظاهرة إسلاما لأنها انقياد وخضوع له، والإسلام هو الاستسلام لله والانقياد لأمره؛ فسمى الله سبحانه وتعالى الأمور الظاهرة إسلاما لما فيها من الانقياد لله والذل والطاعة لأمره والوقوف عند حدوده عز وجل، يقال: (أسلم فلان لفلان) أي: ذل له وانقاد، ومعنى (أسلمت لله) أي: ذللت وانقدت لأمره خاضعا له سبحانه وتعالى.
فالإسلام هو الاستسلام لله بالأعمال الظاهرة، والإيمان هو التصديق بالأمور الباطنة، وهذا كله عند الاقتران، ولهذا لما قرن بينهما في هذا الحديث الصحيح فسّر رسول الله عليه الصلاة والسلام الإسلام بالأمور الظاهرة؛ وهي الشهادتان والصلاة والزكاة والصيام والحج، والإيمان بالأمور الباطنة؛ وهي الإيمان بالله وملائكته. الخ.
ومن هذا الباب ما جاء في الحديث الصحيح، قيل: يا رسول الله أي الإسلام أفضل؟ قال: "أن تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف"، وفي حديث آخر قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده".(17/130)
فالإسلام أخص بالأعمال الظاهرة التي يظهر بها الانقياد لأمر الله والطاعة له والإتباع لشريعته وتحكيمها في كل شيء، والإيمان أخصّ بالأمور الباطن المتعلقة بالقلب من التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره؛ ولهذا لما سئل صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال: "أن تؤمن بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره"، ففسر الإيمان بهذه الأمور الستة التي هي من أصول الإيمان، وهي في نفسها أصول الدين كله؛ لأنه لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له، فالإيمان بهذه الأصول لابد منه لصحة الإسلام، لكن قد يكون كاملا وقد يكون ناقصا، ولهذا قال الله عز وجل في حق الأعراب: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} .
فلما كان إيمانهم ليس بكامل، بل إيمان ناقص لم يستكمل واجبات الإيمان نفى عنهم الإيمان يعني به الكامل؛ لأنه ينفي عمن ترك الواجبات، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا إيمان لمن لا صبر له"، "لا يؤمن أحدهم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت"، "..فليكرم ضيفه"، "..فليصل رحمه"، "..فلا يؤذي جاره" إلى غير ذلك؛ فالمقصود أن الإيمان يقتضي العمل الظاهر، كما أن الإسلام بدون إيمان من عمل المنافقين، فالإيمان الكامل الواجب يقتضي فعل ما أمر الله به رسوله، وترك ما نهى عنه الله ورسوله، فإذا قصر في ذلك جاز أن ينفي عنه ذلك الإيمان بتقصيره كما نفى عن الأعراب بقوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} .، وكما نفى عمن ذكر الأحاديث السابقة.(17/131)
والخلاصة أن الله سبحانه ورسوله نفى الإيمان عن بعض من ترك واجبات الإيمان وأثبتا له الإسلام، فهذه الأصول الستة هي أصول الدين كله، هي أصول إسلامنا وديننا كله، فمن أتى بها مع الأعمال الظاهرة صار مسلما مؤمنا، ومن لم يأت بها فلا إسلام له ولا إيمان له، كالمنافقين؛ فإنهم لما أظهروا الإسلام وادعوا الإيمان وصلّوا مع الناس وحجوا مع الناس إلى غير ذلك، ولكنهم في الباطن ليسوا مع المسلمين بل هم في جانب والمسلمون في جانب؛ لأنهم مكذبون لله ورسوله، منكرون لما جاءت به الرسل في الباطن، متظاهرون بالإسلام لحظوظهم العاجلة ولمقاصد معروفة، فلهذا صاروا كفارا ضلالا، بل صاروا أكفر وأشر ممن أعلن كفره، ولهذا صاروا في الدرك الأسفل من النار، وما ذاك إلا لأن خطرهم أعظم؛ لأن المسلم يظن أنهم إخوته وأنهم على دينه، وربما أفشى إليهم بعض الأسرار فضروا المسلمين وخانوهم، فصار كفرهم أشد وضررهم أعظم، وهكذا من ادعى الإيمان بهذه الأصول ثم لم يؤد شرائع الإسلام الظاهرة، فلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، أو لم يصل، أو لم يصم أولم يزك, أولم يحج, أو غير ذلك من شعائر الإسلام الظاهرة التي أوجبها الله عليه, فإن ذلك دليل على عدم إيمانه أو على ضعف إيمانه, فقد ينتفي الإيمان بالكلية كما تنتفي الشهادتين إجماعاً, وقد لاينتفي أصله ولكن ينتفي تمامه وكماله لعدم آدائه ذلك الواجب المعين كالصوم والحج مع الإستطاعة والزكاة ونحو ذلك من الأمور عند جمهور أهل العلم فإن تركها فسق وضلال ولكن ليس ردة عن الإسلام عند أكثرهم, أما الصلاة فذهب قوم إلى أن تركها ردة ولو مع الإيمان بوجوبها وهو أصح قولي العلماء لأدلة كثيرة, وقال آخرون بل تركها كفر دون كفر إذا لم يجحد وجوبها, ولهذا المقام بحث خاص وعناية خاصة من أهل العلم, ولكن المقصود الإشارة إلى أنه لا إسلام لمن لا إيمان له, ولا إيمان لمن لا إسلام له, وهذا يدل على هذا, وهذا يدل على هذا,(17/132)
وسبق أن الإسلام سمي إسلامًا لأنه يدل على الانقياد والذل لله عز وجل والخضوع لعظمته سبحانه وتعالى، ولأنه يتعلق بالأمور الظاهرة.
وسمي الإيمان إيمانًا لأنه يتعلق بالباطن والله يعلمه جل وعلا، فسمي إيمانًا لأنه يتعلق بالقلب المصدق، وهذا القلب المصدق للدلالة على تصديقه وصحة إيمانه أمور ظاهرة، إذا أظهر الإسلام واستقام عليه وأدى حقه دل ذلك على صحة إيمانه، ومن لم يستقم دل ذلك على عدم إيمانه أو على ضعف إيمانه، والإيمان عند الإطلاق يدخل فيه الإسلام، والعكس كذلك عند إطلاق الإسلام يدخل فيه الإيمان عند أهل السنة والجماعة كما قال الله عز وجل {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} ، فالمعنى فيه الإيمان عند أهل السنة والجماعة فإنه لا إسلام إلا بإيمان، فالدين عند الله الإسلام وهو الإيمان وهو الهدى وهو التقوى وهو البر، فهذه الأسماء وإن اختلفت ألفاظها، فإنها ترجع إلى معنى واحد وهو الإيمان بالله ورسله والاهتداء بهدى الله والاستقامة على دين الله، فكلها تسمى برًا وتسمى إيمانًا وتسمى إسلامًا، وتسمى تقوى وتسمى هدى، وكذلك إذا أطلق الإحسان دخل فيه الأمران الإسلام والإيمان لأنه يخص الكلّ من عباد الله فبإطلاقه يدخل فيه الأمران الأولان الإسلام والإيمان، وعند إطلاق أحد الثلاثة إذا أطلق فإنه يدخل فيه الآخران، فإذا قيل المحسنون هم أخص عباد الله، فلا إحسان إلا بإسلام وإيمان قال تعالى {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} فالمحسن إنما يكون محسنًا بإسلامه وإيمانه وتقواه لله وقيامه بأمر الله بهذا سمي محسنًا، ولا يتصور أن يكون حسنًا بدون إسلام وإيمان.(17/133)
وهكذا يا أخي لفظ المؤمنين يدخل فيه المسلمون لأنهم –أعني المؤمنين- أخص من لفظ المسلمين، قال الله تعالى {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} وقال عز وجل {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار} الآية، فالمؤمن سمي مؤمنًا لتصديقه بقلبه وإسلامه بجوارحه لله وحده، فالمؤمنون مؤمنون بتصديقهم وبإسلامهم وقيامهم بأمر الله ووقوفهم عند حدوده سبحانه وتعالى، ومما يدل على هذا المعنى حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم لما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم قومًا وترك قومًا قال سعد: يا رسول الله أعطيت فلانًا وفلانًا وتركت فلانًا وأني لأراه مؤمنًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أو مسلمًا" فعاد سعد إلى مقالته والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "أو مسلمًا" والمقصود أن الإسلام والإيمان عند الاقتران لهما معنيان، معنى أخص ومعنى أعم، فالمسلم أعم من المؤمن، والمؤمن أخص من المسلم، فكل مؤمن مسلم ولا عكس، ولكن عند الإطلاق يدخل أحدهما في الآخر كما سبق بيان ذلك
وما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "الإيمان بضع وسبعون شعبة"، وفي لفظ "بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان" فهذا الحديث يدل على أن مطلق الإيمان يدخل فيه الإسلام، والهدى والإحسان، والتقوى والبر، فالإيمان الذي أعلاه لا إله إلا الله وأدناه إماطة الأذى عن الطريق هو ديننا كله، وهو الإسلام، وهو الإيمان، ولذا قال: "فأفضلها لا إله إلا الله" هي الركن من أركان الإسلام مع الشهادة بأن محمدًا رسول الله، فجعلها هنا أعلى خصال الإيمان.(17/134)
فعلم بذلك أن الإيمان بالله فقط أو الإيمان بالله ورسوله يدخل فيه كل ما شرع الله ورسوله من الصلاة والزكاة والحج والإيمان بالملائكة والكتاب والنبيين واليوم الآخر والقدر خيره وشره لأن هذا كله داخل في مسمى الإيمان بالله، فإن الإيمان بالله يتضمن الإيمان بأسمائه وصفاته ووجوده وأنه رب العالمين وأنه يستحق العبادة، كما يتضمن أيضًا بجميع ما أخبر به سبحانه وتعالى وشرعه لعباده، ويتضمن أيضًا الإيمان بجميع الرسل والملائكة والكتب والأنبياء وغير ذلك.
وهكذا ما جاء في السنة في هذا الباب مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "قل آمنت بالله ثم استقم" يدخل فيه كل ما أخبر به الله ورسوله وكل ما شرعه لعباده، ومن هذا الباب قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} أي قالوا إلهنا وخالقنا ورازقنا هو الله، وآمنوا به إيمانًا يتضمن الاستقامة على ما جاء به كتاب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، فالقرآن الكريم من سنة الله فيه سبحانه وتعالى أنه يبسط الأخبار والقصص في مواضع ويختصرها في مواضع أخرى ليعلم المؤمن وطالب العلم هذه المعاني من كتاب مجملة ومفصلة فلا يشكل عليه بعد ذلك مقام الاختصار مع مقام البسط والإيضاح، فهذا له معنى وهذا له معنى.
وهكذا الإيمان يطلق في بعض المواضع، وفي بعض يعطف عليه أشياء من أجزائه وشعبه على أن هذه الشعبة من أهم الخصال وأعظمها كما قال عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الآية
فقوله وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة من جملة الإيمان والعمل الصالح لكن ذكرهما هنا تنبيهًا على عظم شأنهما، وهكذا قوله عز وجل {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} الآية(17/135)
فالنور المنزل هو من جملة الإيمان بالله وهو داخل فيه عند الاطلاق ولكن نبه عليه لعظم شأنه، وهكذا قوله عز وجل {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} ؛ فالتواصي بالحق والتواصي بالصبر هما من جملة الأعمال الصالحات، والعمل الصالح من جملة الإيمان، فعطف العمل على الإيمان من عطف الخاص على العام، وهكذا عطف التواصي بالحق والتواصي بالصبر على ما قبله هو من عطف الخاص على العام، فالتواصي بالحق والتواصي بالصبر من جملة الأعمال الصالحات؛ ولهذا لم يذكرا في آيات أخرى، قال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} ، ولم يذكر التواصي بالحق والتواصي بالصبر لأنهما داخلان في العمل في قوله {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} كما أنهما داخلان في الإيمان عند الإطلاق؛ لأنه يدخل فيه عند الإطلاق كل ما أخبر الله به ورسوله عما كان وما سيكون في آخر الزمان وفي يوم القيامة وفي الجنة والنار، كما يدخل فيه كل ما أمر الله به ورسوله، ويدخل فيه أيضا ترك ما نهى الله عنه ورسوله، وكل ذلك داخل في الإيمان عند الإطلاق، وإنما يذكر سبحانه بعض الأعمال للعطف عليه، وترك بعض السيئات هو من باب عطف الخاص على العام؛ فهكذا ما يتعلق بأصول الإيمان تارة تذكر هذه الأصول الستة جميعا كما في الآية الكريمة: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} الآية، فإنه ذكر فيها خمسة، وذكر القدر في آيات أخر، كما في قوله عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} ، وفي قوله سبحانه وتعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ} الآية، إلى غير ذلك من الآيات، وذكر بعضها في آيات أخرى ولم يذكرها كلها.(17/136)
وهكذا في الحديث ذكر بعض هذه الأصول، وذكر الستة في حديث جبريل، وفي بعض الأحاديث ذكر الإيمان بالله فقط كحديث: "قل آمنت بالله ثم استقم"، وفي بعضها الإيمان بالله واليوم الآخر؛ وما ذاك إلا لأن الإيمان بالله واليوم الآخر يدخل فيه كل ما أمر الله به ورسوله؛ فان المؤمن بالله واليوم الآخر يحمله إيمانه بذلك على فعل كل ما آمر الله به ورسوله، كما يحمله أيضا على ترك ما نهى الله عنه ورسوله؛ ولهذا اقتصر على الإيمان بالله واليوم الآخر في بعض النصوص؛ لأن من آمن بالله إيمانا صحيحا وباليوم الآخر حمله ذلك على أداء ما أوجبه الله وعلى ترك ما حرمه الله، وعلى الوقوف عند حدود الله سبحانه وتعالى، ومن هذا قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} .(17/137)
فالإيمان بما ذكر أمر لابد منه، ومن لم يؤمن بذلك فإنه كافر بالله عز وجل وإن أظهر إسلاما وإيمانا، ولكنه بكفره بواحد من الأصول الستة، أو كفره بشيء آخر مما علم من الدين أنه من دين الله بالأدلة المعروفة فانه يكون كافرا بالله، ولا ينفعه بعد ذلك ما أقر به؛ فان هذا الدين لابد أن يقبل كله، ولابد أن يحصل به الإيمان كله، فإذا آمن بالبعض وكفر بالبعض فهو كافر حقا، وبهذا يعلم المؤمن عظم شأن هذه الأصول وأنها أصول عظيمة لابد منها، فيدخل في الإيمان بالله الإيمان بما أخبر الله به عن نفسه من أسمائه وصفاته، أو أخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام من أسماء الله وصفاته كله داخل في الإيمان بالله؛ فيدخل في ذلك الإيمان بأنه رب العالمين، وأنه الخلاق الرزاق وأنه كامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، ويدخل فيه أنه سبحانه وتعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب وقدر الأشياء وعلم بها قبل وجودها سبحانه وتعالى، وأنه على كل شيء قدير وبكل شئ عليم، ومن أجمع ما ورد في ذلك من الكتاب العزيز قوله سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، وقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، وقوله عز وجل: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}
وقوله عز وجل: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} ، إلى أشباه هذه الآيات الدالة على كماله سبحانه، وأنه جلّ وعلا موصوف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص والعيب، فهو كما أخبر عنه الرسول محمد عليه الصلاة والسلام له الأسماء الحسنى وله الصفات العلا.(17/138)
فواجب على المؤمن أن يؤمن بكل ما أخبر الله عنه ورسوله من أسماء الله وصفاته، ويعرفها كما جاءت؛ لا يغير ولا يبدل ولا يزيد ولا ينقص، بل يعرفها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، بل تثبت كما أثبتها السلف الصالح.
فمن ذلك الاستواء، والنزول، والوجه، واليد، والرحمة، والعلم، والغضب، والإرادة وغير ذلك من صفات الله عز وجل؛ فتثبت له سبحانه كما جاء في الكتاب العزيز وكما جاء في السنة الصحيحة، نثبتها له كما أثبتها السلف الصالح من أهل السنة والجماعة، كما أثبتتها الرسل عليهم الصلاة والسلام.
فنقول: استوى على العرش استواء يليق بجلاله وعظمته، ليس كما تقول الجهمية: استولى؛ فانه ليس في موقف المغالب جل وعلا، فلا أحد يغالبه؛ فهو مسئول على كل شيء جل وعلا، ولكن الاستواء صفة خاصة بالعرش، معناه العلو والارتفاع؛ فهو عال فوق خلقه مرتفع فوق عرشه استواء يليق به سبحانه لا يشابه خلقه في شيء من صفاته جل وعلا؛ فاستواؤه أمر معروف كما قال مالك رحمه الله: "الاستواء معلوم والكيف، مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، وكما قال ربيعة شيخ الإمام مالك رحمهما الله، وكما قالته أم سلمه رضي الله عنها، وكما قاله أهل السنة والجماعة؛ فالصفات معلومة وكيفها مجهول والإيمان بها واجب.
هذا طريق الصفات كلها العلم، والرحمة، والغضب، والوجه، واليد، والقدم، والأصابع وغير ذلك مما جاءت به الآيات والسنة الصحيحة طريقها واحد، وهكذا حديث النزول؛ نؤمن به ونثبت معناه لله على الوجه اللائق به ولا يعلم كيفيته سواه؛ فنقول: ينزل بلا كيف كما يشاء سبحانه وتعالى نزولا يليق بجلاله وعظمته، لا ينافي علوه وفوقيته سبحانه وتعالى، ولا يشابه نزول المخلوقين.(17/139)
وهكذا استواؤه على العرش لا ينافي علمه بالأشياء وإحاطته بها، وأنه مع عباده ومع أهل طاعته، مع عباده بعمله واطلاعه سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} ؛ فهذا لا ينافي علوه واستواءه على عرشه؛ فهو معنا بعلمه واطلاعه، وهو فوق العرش سبحانه وتعالى كما يشاء، وكما أخبر جل وعلا، من غير تحريف ولا تكييف، وهو مع أوليائه وأهل طاعته بعلمه وتأييده أيضا وعنايته بهم، وكلاءته لهم ونصره إياهم، فهما معيّتان: معية عامه تقتضي العلم والإحاطة ورؤية العباد، وأنه لا تخفى عليه.
هل هو نبي رسول، أو نبي فقط، اختلفت الروايات في ذلك؛ فالمقصود أن آدم من جملة الأنبياء بلا شك وأنه على شريعة، وحديث جمع الناس يوم القيامة وتقدم المؤمنين إلى نوح وقولهم له: يا نوح أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، يحتج به على أن نوحا أول الرسل، وأن آدم نبي مكلم فقط، ولو صح أنه رسول فالمعنى أنه رسول إلى ذريته بخلاف نوح؛ فإنه أرسل إلى قومه وهم أهل الأرض ذلك الوقت، أما آدم فإنه أرسل بشريعة خاصة قبل وقوع الشرك، وأما نوح فقد أرسل إلى قومه وهم أهل الأرض جميعا من ذريته وغيرهم بعد وقوع الشرك في الأرض، وبذلك لا يبقى تعارض بين كون آدم رسولا - إن صح الحديث - وبين كون نوح هو أول رسول أرسل إلى أهل الأرض.
وهكذا القول في الأصل الخامس وهو الإيمان باليوم الآخر، نؤمن به إجمالا وتفصيلا؛ فنؤمن بما سمى الله من أمر الآخرة، كالجنة والنار والصراط والميزان وغير ذلك، وما سوى ذلك مما لم يرد في الآيات والأحاديث الصحيحة تفصيله؛ نؤمن به على سبيل الإجمال.(17/140)
وهكذا القدر، وهو الأصل السادس، نؤمن به كما جاءت به النصوص، والإيمان به يشمل أربعة أشياء عند أهل السنة: وهي العلم بأن الله سبحانه وتعالى قد علم الأشياء كلها وأحصاها، وأنه لا تخفى عليه خافية جل وعلا؛ فهو سبحانه يعلم كل شيء كما قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
بهذا يرد على الجهمية والمعتزلة الذين أنكروا هذا العلم، ولهذا قال الشافعي - رحمه الله - في حقهم: "ناظروهم بالعلم؛ فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا"؛ لأن قولنا إن الله عالم بالأشياء هذا هو القدر؛ لأن الأشياء لا تخفى على الله، فمتى علم الله بالأشياء فمستحيل أن تقع على خلاف علمه؛ لأن وقوعها على خلاف علمه يكون جهلا، أما إن جحدوا ذلك، وقالوا: لا يعلم، فهذا كفر وضلال وتكذيب لله سبحانه وتعالى ووصف له وهذا تنقص عظيم يوجب كفر من قاله.
(الأمر الثاني) : الكتابة، وهو أن الله سبحانه قد كتب الأشياء كما قال عز وجل: {وما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير} ، وقال سبحانه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ؛ فالمقصود أنه كتب الأشياء جل وعلا، وهكذا حديث عبد الله بن عمر: "إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء". أخرجه مسلم في صحيحه.
فكتابة الأشياء التي أوجدها سبحانه أو سيوجدها أمر معلوم جاءت به النصوص من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام؛ فعلينا أن نؤمن بذلك وأن الله كتب الأشياء كلها وعلمها وأحصاها؛ لا تخفى عليه خافية، وهو سبحانه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير سبحانه وتعالى.(17/141)
(الثالث) : مشيئته النافذة، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا يكون شيء في ملكه دون مشيئته جلّ وعلا، بل ما شاء الله كان وما لم يشأ الناس لم يكن وإن شاء الناس؛ فلا بد إذا من الإيمان بهذه المشيئة؛ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، قال عز وجل: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، وقال سبحانه: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ، وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ؛ فالمقصود أنه سبحانه له المشيئة الكاملة النافذة؛ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} سبحانه وتعالى.
(الأمر الرابع) : قدرته على الأشياء، وخلقه وإيجاده لها، وأن نؤمن بأنه سبحانه على كل شيء قدير، وأنه الخلاق العليم، وأن جميع الأشياء الموجودة هو الذي خلقها وأوجدها، وهكذا في المستقبل، لا أحد يشاركه في ذلك، بل هو الخلاق والرزاق، وهو على كل شيء قدير وبكل شئ عليم، كما قال سبحانه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} .
فالإيمان بالقدر يشمل هذا كله، يشمل علمه بالأشياء، ويشمل إيماننا بعلمه بالأشياء وكتابته لها، وأيضا بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وإيماننا أيضا بأنه الخلاق لكل شئ، وأن جميع الأشياء هو خالقها وموجدها سبحانه وتعالى.
وفي هذا ردّ على من قال خلاف ذلك من المعتزلة وغيرهم؛ فإن من أنكر مشيئة الله، وقال إنه يوجد في ملكه ما لا يريد فهو مكذّب لله عز وجل، منتقص له سبحانه وتعالى؛ فلا بد من الإيمان بأنه على كل شئ قدير، وأن ما شاءه كان، وما أراده بإرادته الكونية كان.(17/142)
ولكن بعض الناس تخفى عليهم هذه الأشياء التي جاءت بها الرسل؛ فيجب أن تبين لهم بأدلتها، وأن يوضح لهم الفرق بين الإرادة الكونية التي لا يتخلف مرادها - وهي المذكورة في مثل قوله سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} - وبين الإرادة الشرعية التي قد يتخلف مرادها بالنسبة إلى بعض الناس، وهي المذكورة في قوله سبحانه: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} .. الآية.
ومعلوم أن بعض الناس مات على جهله ومات على غير توبة، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} .. الآية، هذه إرادة شرعية؛ لأنه سبحانه قد خفف على قوم ولم يخفف على آخرين، فمعنى ذلك أنه أمر بهذا ورضي به وأحبه، ولكن من الناس من وفق لهذا الشيء ومنهم من لم يوفق له، ومن ذلك ما جاء في الحديث الصحيح: "أن الله سبحانه يقول يوم القيامة لبعض المشركين: لو كان لك مثل الأرض ذهبا أكنت مفتديا به؟ فيقول: نعم، فيقول الله سبحانه له: قد أردت منك ما هو أدنى من ذلك وأنت في صلب أبيك آدم! أردت منك أن لا تشرك بي شيئا؛ فأبيت إلا الشرك". يعني أردت منك شرعا أن لا تشرك بي، وذلك ما جاء به على ألسنة الرسل من الأمر بعبادته وحده، والنهي عن الإشراك به، ولكن أبى أكثر الخلق إلا الشرك بالله عز وجل، ولم يقبلوا الإرادة الشرعية.
فمن آمن بهذه الأمور الأربعة - وهي: علم الله سبحانه بجميع الأشياء، وكتابته لها، ومشيئته لما وجد منها، وأنه سبحانه خالق الأشياء وموجدها - فقد آمن بالقدر إيمانا كاملا، ومن قصر في ذلك فقد قصر في الإيمان بالقدر، ولم يسر على هدى أهل السنة والجماعة في ذلك، ولم يؤمن بالقدر على حقيقته، بل آمن ببعضه وكفر ببعض.(17/143)
ثم الإيمان بالقدر لا يلزم منه أن يكون العبد مجبورا لا إرادة له ولا مشيئة، وإنما هو كالسعفة تطيرها الرياح هكذا وهكذا، وكالريشة في الهواء، خلافا للقدرية المجبرة من الجهمية وغيرهم، بل له اختيار ومشيئة، وله إرادة وعقل يميزه به، ولكن هذه المشيئة وهذه الإرادة وهذا الاختيار لا يكون به شيء إلا بعد مشيئة الله سبحانه وتعالى، كما قال الله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ، وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .
فهو مخير ومسير: مخير من جانب لأن الله أعطاه عقلا وأعطاه بصرا وأعطاه أدلة ومكنه من الإيمان والعمل؛ فهو قادر وله إرادة وله مشيئة يقدر أن يتباعد عن المعصية، ويقدر أن يطيع وأن يعصي، ويقدر أن يتصدق، ويقدر أن يمتنع. وهو مسير من جهة أخرى، وهي أنه ليس له مشيئة إلا بعد مشيئة الله، ولا اختيار إلا بعد اختيار الله، ولا يستقل بالأشياء، فله إرادة خاصة ومشيئة خاصة بعد مشيئة الله وإرادته، ولهذا قال عز وجل: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ..الآية؛ فالإنسان سائر ومسير، هو سائر بما أعطاه الله من العقل والاختيار والمشيئة، ومسير بما سبق في علم الله من القدر السابق، فهذا لا يمكن أن يخالفه ولا يحيد عنه.
ومن هذا يعلم المؤمن الفرق بين عقيدة السلف الصالح، وعقيدة المعتزلة والقدرية النفات، وعقيدة القدرية المجبرة.
فالقدرية المجبرة غلَوا في إثبات القدر حتى قالوا: ليس للعبد إرادة ومشيئة، وقد أخطئوا في ذلك، وأصابوا في الإيمان بالقدر، أما القدرية النفات، فغلوا في نفي القدر وأفرطوا في ذلك، وأخطئوا غاية الخطأ، ولكنهم أصابوا في إثبات المشيئة والاختيار للعبد، وأخطئوا في جعله مستقلا بذلك؛ فأهل السنة والجماعة أخذوا ما عند الطائفتين من الحق وتركوا ما عندهما من الباطل.(17/144)
وهكذا يجب على أهل الحق إذا ردوا على أهل الباطل أن يفصلوا وأن ينصفوا؛ فيقولوا لهم: قلتم كذا وقلتم كذا؛ فنحن معكم في هذا ولسنا معكم في هذا، نحن معكم في الحق الذي قلتموه، كالإيمان بالقدر، ولسنا معكم بأن العبد مجبور، بل له اختيار ومشيئة، ويقال للمعتزلة وأشباههم: نحن معكم في أن العبد له مشيئة واختار، ولكن لسنا معكم في تجهيل الله سبحانه وتعالى، وإنكار علمه ومشيئته.
وهكذا يقال للشيعة: نحن معكم في محبة أهل البيت ومحبة علي رضي الله عنه وأرضاه؛ فإنه ومن سار على نهجه على هدى، وإنه من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو أفضلهم بعد الصديق وعمر وعثمان رضي الله عنهم جميعا, ولكن لسنا معكم في أنه معصوم، وأنه الخليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قبله ثلاثة، ولسنا معكم في أنه يعبد من دون الله ويستغاث به وينذر له ونحو ذلك، لسنا معكم في هذا لأنكم مخطئون في هذا خطأ عظيما، لكن نحن معكم في محبة أهل البيت الملتزمين لشريعة الله والترضي عنهم، والإيمان بأنهم من خيرة عباد الله؛ عملا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال في حديث زيد بن أرقم: "أذكركم الله في أهل بيتي! أذكركم الله في أهل بيتي! ".
وهكذا بقية الطوائف؛ نأخذ ما معهم من الحق ونقر لهم به، ونرد عليهم باطلهم بالأدلة النقلية والعقلية.
وبهذا يتضح أن هذه الأصول الستة هي أصول الدين، وهي الجامعة لكل ما أخبر الله عنه؛ فمن استقام عليها قولا وعملا؛ فقد استكمل الإيمان وسلم من النفاق؛ لأن هذه الأصول تقتضي من المؤمن بها أداء ما أوجب الله عليه له ولعباده، وتقتضي تصديقه بكل ما أخبر الله به في كتابه أو أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح من السنة، ومن جحدها أو جحد شيئا منها لم يكن مؤمنا.(17/145)
والخلاصة أن هذه الأصول أصول عظيمة، وقواعد أساسية لهذا الدين العظيم تجب مراعاتها والاستقامة عليها في جميع الأحوال، والبراءة من كل ما خالفها، ومن أتى بقول أو عمل يوجب كفره فهو دليل على عدم إيمانه بهذه الأصول أو بعضها الإيمان الصحيح، وذلك مثل ترك الصلاة المكتوبة؛ فإن الذي لا يصلي لا إيمان عنده - على الصحيح - يحجزه عن ترك الصلاة التي هي عمود الإسلام؛ ولهذا فإن القول الصواب إنه كافر كفرا أكبر. وكالذي يستهزئ بالله، أو بالجنة، أو بالقرآن، وما أشبه ذلك؛ فإنه كافر إجماعا؛ لأن هذا الاستهزاء والتنقص دليل على أن دعواه الإيمان باطلة، وأنه ليس عنده إيمان يحجزه عن الاستهزاء بالله ورسوله.
وهكذا الذي يهين المصحف، أو يلطخه بالنجاسة، أو يجلس عليه، وهو يعلم أن المصحف كتاب الله؛ هذا دليل على أن هذا الرجل لا إيمان له، وإنما يدعى الإيمان، ولو كان عنده إيمان صحيح لحجزه عن هذا العمل الذي يوجب كفره.
وهكذا من استهزأ بالرسل، أو كذب بعضهم يكون عمله دليلا على أن إيمانه ليس بصحيح، بل هو دعوى.
وعلى هذا يقاس بقية الأمور التي تقع من الناس، ومن ذلك قوم مسيلمة لما صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به وصلوا وصاموا، ولكنهم ادّعوا أن مسيلمة شريك في الرسالة صاروا عند أهل العلم والإيمان من الصحابة ومن بعدهم كفارا لا نزاع بين أهل العلم في ذلك، ولو صلوا وصاموا وقالوا إن محمدا رسول الله؛ لأنهم لما قالوا إن مسيلمة شريك في الرسالة؛ كفى هذا في كفرهم؛ لأنهم بهذا قد كذبوا قول الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ، كما كذبوا الأحاديث الصحيحة المتواترة الدالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين والمرسلين.(17/146)
وهكذا القاديانية لما آمنوا بأن غلام أحمد نبي، وأنه يوحى إليه صار من آمن منهم بهذا كافرا كفرا أكبر؛ لأنه مكذب لله ورسوله، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، وهكذا من لم يؤمن بأن الجنة حق، أو لم يؤمن بأن النار حق، أو قال إن النار ليست عذابا لأهلها بل نعيم لهم، كما يقول ذلك ابن عربي الضال المعروف بالقول بوحدة الوجود، ولا شك أن هذا إنكار لما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع أهل العلم؛ مِن كون النار أعدّها الله عذابا لا نعيما، جزاء لهم على ما فعلوا من الأعمال التي حرمها الله عليهم، وعلى ما تركوه مما أوجب الله عليهم، وعلى ما كذبوا به مما أخبرت به الرسل ودل عليه الكتاب العزيز، والقرآن مملوء من الآيات الدالة على أن النار عذاب لأهلها، لا ينكر ذلك إلا مكابر معاند، أو جاهل لا يدري شيئا مما جاءت به، الرسل، أو فاقد للعقل.
ويتبين من هذا أن الأمور تؤخذ أحكامها على ظاهر الكتاب والسنة، وعلى ما أخبر الله به ورسوله، وعلى ما جاء عن سلف الأمة، ومن أبى ذلك وادعى خلاف ما تقتضيه هذه الأصول فان دعواه باطلة.
وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا للفقه في كتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، ويرزقنا وسائر المسلمين الإيمان الصادق والعمل الصالح، وأن يمنحنا الثبات على الحق حتى نلقاه سبحانه؛ إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان(17/147)
مفهوم الربوبية
لفضيلة الشيخ سعد ندا
مدير مركز شئون الدعوة الإسلامية
إضافة الرب سبحانه إلى مخلوقاته:
أسلفت القول إن عباد الله المخلصين كان جلّ أدعيتهم بصفة الربوبية؛ لأن دعاء الرب عز وجل إنما هو طلب العطاء إنعاما منه سبحانه وتفضلا، والعطاء من خصائص الربوبية؛ فهو تبارك وتعالى المعطى لكل مطلوب من خزائنه الملآى التي تحوي كل شئ، كما يقول تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} -الحجر-. وهو كذلك المعطي لكل مطلوب دون أن يخشى نفاد ما عنده؛ لأن ما عنده غير قابل للنفاد، كما يقول تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} -ص-، وقد أضيف اسم الرب سبحانه إلى بعض مخلوقاته؛ لوصفه تعالى بدلائل العظمة وعظيم القدرة وكمال الملك؛ لتشريف هذه المخلوقات.. ومن أمثلة هذه الإضافة ما يأتي:
1- الإضافة إلى "العالمين":
وقد وردت هذه، الإضافة في القرآن الكريم حول اثنين وأربعين مرة، وذلك مثل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} -الفاتحة-، وقوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} -البقرة-، وقوله: {مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} - لمائدة-، وقوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} -الأنعام-، وقوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} -الأعراف-، وقو له: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .. إلى غير ذلك من الآيات.(17/148)
وكلمة (العالمين) معناها: من سوى الله تعالى..؛ فهو جل شأنه ربهم بخلقه لهم، وإعداده لهم ما يحتاجون إليه من آلات، وإنعامه عليهم بعظيم النعم التي لو فقدوها لما أمكن لهم البقاء.
وتربيته تعالى لخلقه نوعان: عامة وخاصة؛ فالعامة هي خلقه لهم ورزقهم، وهدايتهم لما فيه صالحهم وبقاؤهم في الحياة الدنيا، والخاصة تربيته لأوليائه بالإيمان، وتوفيقهم لكل خير يرضيه، ودفع كل ما يصرفهم عن ربهم عزّ وجل، وبهذا تضمن وصفه تعالى بأنه {رَبِّ الْعَالَمِينَ} بانفراده بالخلق والإنعام والتدبير وكمال غناه عن خلقه غنى مطلقا، وكامل فقر خلقه إليه فقرا مطلقا.
وما دام أن (العالمين) تعنى ما سوى الله تعالى، وما سواه هو المخلوقات، فإن إضافة الرب إلى (العالمين) إنما هي إضافة الخالق إلى المخلوق، وهى إضافة إلى عام وهو المخلوقات، وما يضاف إليه الرب سبحانه عدا (العالمين) فهو جزء من (العالمين) .
2- الإضافة إلى (كل شيىء) :
وقد وردت هذه الإضافة في القرآن الكريم مرة واحدة في قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} . والإضافة إلى (كل شيىء) تعنى الإضافة إلى المخلوقات؛ لأن كل شيىء سوى الله مخلوق؛ فهذه الإضافة تماثل الإضافة إلى: (رب العالمين) .
3- الإضافة إلى (السماوات والأرض) :(17/149)
والسماوات والأرض جزء من المخلوقات، وقد وردت هذه الإضافة في القرآن الكريم إحدى عشرة مرة، وذلك مثل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} -الرعد-، وقوله: {مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} -الإسراء-، وقوله: {فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} -الكهف-، وقوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} - ص-، إلى غير ذلك من الآيات.
ووردت الإضافة إلى (السماء والأرض) مرة واحدة في قوله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} .
4- الإضافة إلى (والعرش العظيم) و (العرش الكريم) :
والعرش جزء من المخلوقات، وهو أعظمها، كما أشارت الأحاديث الصحيحة إلى ذلك؛ وقد وردت الإضافة إلى العرش مرتين في قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} ، وفي قوله: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} -الزخرف-، ووردت الإضافة إلى (العرش العظيم) ثلاث مرات في قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} -التوبة-، وفي قوله: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم} -المؤمنون-، وفي قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} -النمل-، ووردت الإضافة إلى (العرش الكريم) مرة واحدة في قوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} -المؤمنون-(17/150)
5- الإضافة إلى (المشرق والمغرب) و (المشارق) و (المشرقين والمغربين) و (المشارق والمغارب)
والمشرق والمشرقان والمشارق، والمغرب والمغربان والمغارب كلها جزء من خلق الله تعالى. وقد وردت الإضافة في مثل قوله تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} -الشعراء-، وفي قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} -الرحمن-، وفي قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} - الصافات-، وفي قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} - المزمل-، وفي قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} - المعارج-.
6- الإضافة إلى (موسى وهارون) "عليهما السلام:
وهما جزء من خلق الله تعالى، وقد وردت هذه الإضافة في قوله تعالى: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} - الأعراف-.
7- الإضافة إلى (مكة المكرمة) :
وهى جزء من خلق الله تعالى.
وقد وردت هذه الإضافة في قوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} - النمل-.
8- الإضافة إلى (البيت الحرام) :
وهو جزء من خلق الله.
وقد وردت هذه الإضافة في قوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} - قريش-.
9- الإضافة إلى (الفلق) :
وهو الصبح، وهو جزء من خلق الله.
وقد وردت هذه الإضافة في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} - الفلق-.
10- الإضافة إلى (الناس) :
والناس جزء من خلق الله.(17/151)
وقد وردت هذه الإضافة في قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} - الناس-.
وهكذا وردت في القرآن الكريم إضافة اسم الرب سبحانه وتعالى إلى كثير من مختلف مخلوقاته كبيرة وصغيرة؛ لتدل على صفات العظمة والقدرة والملك على الإطلاق.
كما وردت هذه الإضافة بنفس المعنى في بعض الأحاديث النبوية ة وذلك في:
1- ما روى عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم". رواه البخاري ومسلم.
2- ما روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: "اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد أنت قيام السماوات والأرض، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهين" رواه مسلم.
3- وما روي عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا أخذنا مضجعنا أن نقول: "اللهم رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شئ، فالق الحب النوى منزل التوراة والإنجيل والفرقان". رواه مسلم والترمذي وقال: حديث صحيح.
4- وما روي عن أبي هريرة قال: قال أبو بكر: قلت: يا رسول الله! مرني بشيء أقوله إذا أصبحت قال: "قل اللهم عالم الغيب والشهادة، فاطر السماوات والأرض، ورب كل شئ ومليكه..". رواه الترمذي وأبو داود والدارمي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
من العرض الموجز الذي أسلفته في الإضافة السابقة، يبين أن ربنا جل وعلا يلفتنا بهذه الإضافة إلى صفاته من العظمة والجلال والقدرة والملك على وجوه التفرد والإطلاق.(17/152)
وقد استجاب إلى هذا اللفت عباد الله المخلصين، ومن ذلك مثلا ما حكاه الله تعالى عن جواب موسى على فرعون لما سأله: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} -طه-؛ فكان جوابه ببيان خصائص الربوبية من الخلق وهداية كل خلق لما يصلح له في حياته، والذي يخلق يمدّ من يخلقه بالنعم التي تقيم له حياته.
كذلك ما حكاه الله تعالى عن أصحاب الكهف المؤمنين في قوله: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} -الكهف-؛ فكان قول أولئك المؤمنين متضمنا بيان خصائص الربوبية من السماوات والأرض، والذي يخلق هذين الخلقين العظيمين يدبر أمرهما بما يكفل حفظهما على أكمل وجه وأتم نسق.
ولو أننا أردنا أن نستقصي إضافة الرب إلى مخلوقاته في الكتاب والسنة، وتفصيل مفهوم كل إضافة لطال بنا الكلام بما لا يتسع له هذه الصفحات، لكنها إشارة عابرة وعجالة خاطفة، أردت بها أن أذكر في هذا الأمر، والذكرى تنفع المؤمنين، وعسى أن ييسر الله فأعود في بحث مستقل إلى تفصيل هذا الموضوع.(17/153)
ولو أن الإنسان ذا العقل السليم يمعن النظر في آيات الله المنبثة في السموات والأرض، لخر ساجدا مقرا أن هذا الكون لابد له من خالق عليم قادر حكيم، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا تأخذه سنة ولا نوم، وإلا اضطراب هذا الكون، وفسد سيره، واختل نظامه، ولوجدنا السماء تارة تهبط وتارة تعلو، ولوجدنا الشمس تصعد فيهلك الخلق من البرودة، وتارة تدنو فيهلك الخلق من الحرارة، ولوجدنا البحار تفيض مياهها تارة وتفيض أخرى فتقضي على الحياة على سطح الأرض، ولكنا نجد الكون كله يسير في دقة ونظام، وسنة لا تتبدل، ولن تجد لسنة الله تبديلا.. وصدق ربنا الكريم: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ؟.
ورغم كل هذه الآيات الناطقات المقرات بالخلاق العظيم، رأينا في كل عصر - خاصة العصر الحديث - من يتجرأ بالتصريح بإنكاره، معلنا أن الطبيعة هي التي خلقت وتخلق كل شئ.
{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِباً} ...
المنكرون للخالق سبحانه وتعالى:
وإن هناك قوما ينكرون خالق الكون جل وعلا، ويعتقدون أن الطبيعة هي التي طبعت نفسها، وهي التي خلقت كل شيء، ومن ثم لا يؤمنون بدين ولا يؤمنون برسل ولا برسالات، ومن هؤلاء الشيوعيون الملاحدة الذين يقولون: "إن الدين هو أفيون الشعوب"، ويقولون: "إن الدين هو الغذاء الخادع للضعفاء؛ لأنه يدعوهم إلى احتمال المظالم في الوقت الذي لا يتمكن من إزالتها"، ويقولون:"إن الدين هو خمرة الشعوب يروضها على الفقر والمسكنة، ويلهيها بما يغريها من نعيم الدنيا؛ ليستأثر به قادة المجتمع ويغتصبوا منه علانية أو يسرقوا منه خلسة ما يطيب لهم أن يغتصبوه أو يسرقوه" ...(17/154)
ولا يؤمن هؤلاء أعداء الدين بوجود الخالق المغيّب عنهم الذي لا تراه أعينهم ولا تحسه حواسهم، بل يؤمنون بالماديات المشاهدة المحسوسة التي لا سبيل إلى الشك في وجودها.
ولقد تداولت هذه الأفكار في العصر الحاضر في العالم، وتسربت إلى قلوب طائفة من المسلمين - خاصة شبابهم - في مختلف البلاد؛ فاعتنقوها وآثروا مبادئها العفنة على مبادئ الإسلام العظيمة، وسبب ذلك أن الشيوعية وما شاكلها من المبادئ الانحلالية الملحدة الهدامة تحطم كل القيم، وتدمر القيود، وتتخطى كشف الحدود؛ فلا يلتزم الفرد فيها بأي رباط يربطه بخالقه؛ لأنه لا يؤمن به، وينفلت انفلاتا لا يعول فيه على شئ، ولا يرعى فيه أحداً؛ فيرتكب كل منكرة ويأتي كل فحش، ويمارس كل خبث، ويطلق العنان لشهوات نفسه دون قيود، ويرى في حدود الدين أغلالا يكاد يختنق بها، وقد أشار الله تعالى إلى ظلم من يتخطى حدوده التي وضعها لصالح عباده؛ فقال تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} - الطلاق -، ومن ثم لا ينبغي للإنسان أن يتعدى المعالم التي وضعها الله تعالى فرقانا بين الحلال والحرام، وإلا أورد نفسه موارد المهالك والمدمرة.
وإن السبب الرئيسي في تقبل بعض المسلمين وعلى الأخص شبابهم تلك المبادئ الهدامة هو خلو قلوبهم من عقيدة الإسلام الصحيحة، ولو أن قلوبهم قد امتلأت بهذه العقيدة لطردت كل فكر خبيث مدمر، ولفظت كل مبدأ هدام.
وإن الذين يؤمنون بتلك المبادئ الإلحادية يحملون سؤالا يرفعونه دائما بين أيديهم، يواجهون به كل من يحاول أن يعرض عليهم الإسلام، إنهم يسألون فيقولون: "ما الدليل العقلي على وجود الله؟ "، ويظنون بهذا السؤال أنهم أعجزوا من وجهوه إليه وأفحموه.(17/155)
ولقد شاع هذا السؤال، حتى وإن بعض المنظمات الإلحادية العالمية قد حاولت أن توصد الباب أمام الإجابة على هذا السؤال فطبع أكابر مجرميها نشرات تشمل إنكارا صريحا للخالق سبحانه، يوزعها شباب مخنفس، وشابات محنفسات، حصلت على بعضها عندما ابتعثتني الجامعة الإسلامية للدعوة إلى الله تعالى في صيف عام 1976م باستراليا، وأنا أمرّ بأحد شوارع مدينة (سيدني) ، أكبر مدن وموانئ استراليا وعاصمتها السابقة.
وقد حملت هذه النشرات هراءً في عناوين إلحادية خطيرة باللغة الإنجليزية، ترجمتها ما يأتي:
"ليس هناك إله.. ليس هناك حق.. ليسر هناك قواعد.. ليس هناك قيود؛ دعنا نحصل على الفوضوية، ليس هناك شيىء صحيح.. ليس هناك شيىء خطأ.. ليس هناك شيىء له معنى.. ليس هناك شيىء كامل"؛ فضلا عن ذلك فإن تلك النشرات تحمل دعوات صريحة للتحلل والدعارة".
وينشط أولئك المخنفسون في توزيع تلك النشرات في الطرقات على أكبر عدد ممكن من الناس.
وهذا أمر خطير جدا يجب أن يجابهه المسلمون بكافة الوسائل المضادة التي تقضي على هذه الأفكار الخبيثة المدمرة.
إن الطبيعين مع ادعائهم الثقافة والمعرفة، ومع تخرج كثير منهم في الجامعات - بل إن منهم من حصل على درجات الماجستير والدكتوراه - ملأت قلوبهم تلك الشبهة؛ شبهة الطبيعة؛ فأصبحت إلههم المزعوم، وإذا سألتهم من خلق السموات والأرض أجابوا: الطبيعة، ومن خلق الشمس والقمر والنظم وسيرها هذا السير المحكم البديع؟ أجابوا: الطبيعة، ومن خلق الإنسان في أحسن تقويم؟ أجابوا: الطبيعة، ومن خلق النباتات والحيوانات؟ أجابوا: الطبيعة.
ومن خلق الماء الذي لا يستغني عنه مخلوق؟: أجابوا الطبيعة.
ومن يدبر أمر هذا الكون؟ أجابوا: الطبيعة.
ونحن نسأل هؤلاء: ما معنى الطبيعة التي ينسبون إليها كل هذا الخلق؟
ولا نجد عندهم سوى جوابين:(17/156)
الجواب الأول عند بعضهم: أن الطبيعة هي المخلوقات ذاتها التي تتمثل في الإنسان والحيوانات والنباتات والجمادات، وغير ذلك مما يوجد في هذا الكون.
والجواب الثاني عند البعض الآخر: أن الطبيعة هي الخصائص التي تختص بها هذه المخلوقات، والصفات التي تتصف بها، كالطول والعرض والليونة والصلابة والهدوء والعنف والألفة والنفرة والسكون والحركة، وغير ذلك من صفات المخلوقات.
وردنا على هذين الجوابين فيما يلي:
أما الجواب الأول: وهو أن الطبيعة هي المخلوقات ذاتها، فهو قول فاسد؛ ذلك أنه تفسير للطبيعة بالطبيعة، بمعنى تفسير الطبيعة بالمخلوقات ذاتها، أي: أن الإنسان هو الذي خلق نفسه، والحيوانات هي التي خلقت نفسها، والنباتات هي التي خلقت نفسها، والجمادات هي التي خلقت نفسها، وكل المخلوقات هي التي قامت بخلق نفسها، ومن ثم تصبح هي الخالقة والمخلوقة في آن معا.
وبطلان هذا القول واضح؛ وذلك بأنه يعني توحد الخالق والمخلوق، وهذا أمر مستحيل وجودا وعقلا، فضلا عن أن إدعاء وجود شيء من غير سبب أمر فاسد فسادا جليا؛ ذلك أننا إذا نظرنا إلى ما بين أيدينا في السماء والأرض، نرى أن الثمر يحصل من شجر، وأن الماء ينشأ من عنصري الأوكسجين والهيدروجين، وأن المطر ينهمر من السحاب، وأن الحرارة تصدر من الشمس، وأن الصوت يحدث من الطرق، وأن البناء يقوم بيد بناء، وأن هذه السطور تثبت على الأوراق بيد كاتب، وأن السيارة تصنع بيد صانع وتتحرك بيد قائد، وهكذا كل موجود لابد له من موجد، وكل مسبب لابد له من سبب.
وما لمحنا أبدا أن أدوات سيارة ترمى على الأرض فتركب نفسها، أو سيارة واقفة تتحرك دون قائدها، أو قلماً يوضع بجوار ورق فيسطر عليه سطورا دون أن يحركه كاتب، وما شاهدنا أبدا حجارة ورملا وأسمنتا على الأرض تتحرك جميعها وترصّ نفسها بنفسها فوق بعضها؛ فتقيم لنا بناء.(17/157)
ومعنى هذا وخلاصته أنه لا يوجد قط حادث من غير محدث، ولا موجود من غير موجد، وقد أصبح هذا المعنى الذي يحكم الواقع الملموس شيئا مؤكدا لا يتصور العقل خلافه، ولا يأبى إقراره إلا عقل عاجز عن الإدراك؛ لهذا وجدنا ذلك العربي الحصيف الذي أدرك هذه السببية بفطرته يقول قولته الشهيرة: "البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير؛ ليل داج، ونهار ساج وسماء ذات أبراج، أفلا تدل على اللطيف الخبير؟ "، إذن فلابد لكل حادث من محدث، ولكل موجود من موجد، ومحال أن يحدث شئ ذاته أو يوجد مخلوق بغير خالق.
وإلى هذا أشار رب العزة والجلال في قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} - الطور -؛ فهذه الآية تشير إلى عدم إمكان وجود أي حادث بغير محدث، أو وجود أي مخلوق بدون خالق،
ثم فإن منكر الخالق ينحني رأسه، ويرغم أنفه على الإقرار بخالقه وخالق هذا الكون؛ إذ قد أكد الواقع والعقل أن الإنسان لا يمكن أن يخلق نفسه فضلا عن غيره، ولو استطاع أن يخلق نفسه لصورها كما يشاء، ولأودعها كل صفات الكمال بداية ونهاية، ولما جعلها عرضة لأن يعتريها شئ مما يعتري النفس البشرية من نقص أو ضعف، ولما رأينا الإنسان يجوع ويعطش ويتعب وينام ويمرض ويموت، بل يبقى على حاله لا يعتريه تغير ولا تبديل، ولكن الواقع الذي يراه ويحسه الجميع ويتيقنه ولا يشك فيه أحد أن الإنسان يبدأ نطفة، ويمر بأطوار مختلفة، حتى ما إذا تم نضجه خرج من بطن أمه ضعيفا هزيلا لا يعلم من أمر هذه الحياة شيئا، تم يتدرج في النمو حتى يبلغ قوة شبابه، ثم يبدأ في الانحلال بالشيخوخة والضعف، ثم تنتهي حياته فيموت ويقبر في التراب، ثم يتحول بعد ذلك إلى عظام نخرة، ثم سيبعثه الله بعد ذلك حين يشاء، تلك الحقائق ثابتة لا يقوى على إنكارها منكر مهما أوتي من حجج وبيان.(17/158)
ونورد فيما يلي بعض الآيات التي أثبتت تلك الحقائق، لعل المنكر يتدبرها فيؤمن وليزداد بها المؤمن إيمانا، يقول ربنا تبارك وتعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مَنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ؛ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} - الحج -، وكذلك يقول سبحانه:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} - المؤمنون -.
ويقول سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} - النحل -.(17/159)
ثم أشار الله - جل في علاه - إلى أولى نشأة الإنسان الضعيفة، ثم إلى قوته، ثم إلى ضعفه فقال سبحانه:
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} - الروم -.
كما يشير سبحانه إلى أنه هو المصور للإنسان في رحم أمه؛ فيقول:
{إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ، هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} - آل عمران -.
ومن ثم نجد أن الإنسان عاجز عن أن يخلق نفسه ...
إذ هل يستطيع أن يخلق النطفة التي كان منها؟ ...
أو يحولها علقة؟ أو يحول العلقة إلى مضغة؟ أو يحول المضغة عظاما؟ أو يكسو العظام لحما؟
أو هل يستطيع أن يصور خلقه في رحم أمه؟
أو هل يستطيع أن ينفخ الروح في نفسه؟
أو هل يستطيع أن يشغل قلبه بهذا النظام الدقيق على مدى حياته سنين عددا لا يتوقف فيها لحظة؟
أو هل يستطيع أن يشغل بداخله المعدة والأمعاء والكبد والبكنرياس، ويمد كلا منها بالعصارة اللازمة له؟
أو هل يستطيع أن يمد عينيه ببصرهما؟ أو أذنيه بسمعهما؟ أو عقله بإدراكه؟
أو هل يستطيع أن يسخر الهواء ليدخله من أنفه إلى جهازه التنفسي؛ فيأخذ منه حاجته من الأكسجين اللازمة لحياته؟
هل يستطيع أن يفعل شيئا من ذلك أو ما شاكله مهما أوتي من علوم وخبرات وأدوات؟
إنه لن يستطيع ذلك، ولن يجد إليه سبيلا حتى يلج الجمل في سم الخياط.
ثم إني لمسائل أولئك الجاحدين الأسئلة الآتية:(17/160)
1- من هدى النحل أن يبني بيوته في متنوع الأماكن، ويأكل من كل الثمرات، ويخرج من بطونه عسلا صافيا مختلف الألوان فيه شفاء للناس؟ هل يستطيع أحد أن ينسب هذا إلى غير الخالق العظيم الذي وضح جواب ذلك في قوله سبحانه:
{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} -النحل -.
2- ومن هدى النمل إلى إعداد مساكنه في أماكن محصنة وخزنه طعامه لوقت حاجته؟.
3- ومن هدى القلب أن يفتح صماماته ليدخل إليه الدم الفاسد فيقوم بتنقيته، ثم بفتح صماماته مرة أخرى ليندفع الدم النقي منه كما يوزع على جميع أجزاء الجسم فيغذيه؟.
4- من هدى المعدة أن تهضم أنواع الأطعمة المختلفة وتخلطها بالعصارات المتنوعة حتى تحول دما؟
5- ومن هدى الغدد المتنوعة والكبد والبنكرياس والأمعاء الدقيقة والغليظة أن تقوم جميعا بوظائفها بحيث إذا اختلفت أصيب الجسم بالمرض والضعف، وقد يصل إلى الموت؟.
6- حين توضع البذرة في الأرض، وتسقى بالماء فبينت جذرها وساقها؛ من هدى الجذر إلى أن ينزل إلى أسفل في باطن الأرض؟ ومن هدى الساق إلى أن يرتفع إلى أعلى على ظاهر الأرض؟
7- ومن هدى الشمس والقمر في نظام محكم ومسار دقيق إلى الشروق والغروب بحيث لا تدرك الشمس القمر؟.
8- ومن هدى الليل أن يأتي بعد النهار بحيث لا يسبق الليل النهار؟(17/161)
9- ومن رفع السماء بغير عمد تراها، وزينها بمصابيح فما اختلت وما تصدعت وما هبطت وما اقتربت من الأرض، وما يلمح فيها من فروج بحيث تحتاج إلى ترميم أو إصلاح؟ مع أن أي بناء يبنيه الإنسان سرعان ما يتصدع وينهار بمرور الزمن عليه، ولا يبقى على حاله سليما كما بناه الإنسان؟
10- ومن سطّح الأرض وفرشها فكانت مهادا، وألقى فيها الجبال الرواسي الشامخات، لم تَمِدْ بنا ولم تنقلب رأسا على عقب، ولم ينسكب ما بها من مياه المحيطات والبحار والأصهار؟ بل ولم يمتزج الماء الملح الأجاج بالماء العذب الزلال عند التقائهما؟
11- ومن أبدع هذا الكون في مختلف مخلوقاته، وأحكمه على هذا النسق الرائع؟ بحيث يسير على سنن منتظمة لا تختلف ولا تتبدل ولا تضطرب لحظة واحدة منذ بدء الخليقة حتى هذه اللحظات التي نشاهد فيها هذا الإبداع والإحكام؟
لو سألنا أولئك المنكرين كل هذه لأفحموا وما اهتدوا إلى جوانب إلا أن يخروا راغمين معترفين بعجزهم، وبأن الخالق المبدع هو ربنا الحكيم الخبير {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} - طه-
ثم لعل بعض أولئك المتنطعين يقول: إن الإنسان قد صنع الصاروخ، وصنع الأقمار الصناعية، وفجر الذرة؛ ويعتبرون هذا خلقا من الإنسان لهذه الأشياء، ويقولون في تعبيراتهم: "الإنسان الخلاّق، والشعب الخلاّق".
وقد كذب هؤلاء المخدوعون الضالون بجهلهم المطبق، ودحروا؛ ذلك بأن الخلق هو أن يوجد المخلوق من العدم، وهذا ما يعجز عنه أي مخلوق.
أما الصناعة فتكون تركيبا لمواد موجودة قد سبق خلقها، وهذا مما يقوى عليه المخلوق.
لذلك أثبت الخلاق العظيم عجز الخلق جميعا عن أن يخلقوا شيئا؛ فقال: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} - لقمان -.(17/162)
بل تحدى الخلاق العظيم - جلّ جلاله - الناس جميعا أن يخلقوا خلقا تافها كالذباب؛ فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ..} - الحج -.
بل وزاد سبحانه في تحديه لهم؛ ليثبت عجزهم الكامل عن استرداد ما يستولي عليه منهم هذا الذباب المخلوق الضعيف؛ فقال تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} - الحج -.
ولو أنهم عرفوا الله تعالى وقدروه حق قدره لأدركوا هذه المعاني الملموسة التي تدركها الحواس ولا تنكرها، لكنهم كما قال تعالى: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} - الحج -.
لذلك يلفتنا الله تعالى إلى أنه وحده الخالق الذي لا تدركه الأبصار؛ فيقول سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل، لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} - الأنعام -.
كما يؤكد أنه الخالق الذي بيده مقاليد الخلق جميعا؛ فيقول سبحانه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} -الزمر -.(17/163)
كما أنه تعالى يلفت الناس إلى التدبر في آيات خلقه - جلّ وعلا - في الآفاق وفي أنفسهم؛ حتى تهتدي نفوسهم إلى أن الله عز وجل هو الحق الشهيد على كل شئ، المحيط بكل شئ؛ فيقول سبحانه وتعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} -الشورى -.
ويلفتهم تعالى مرة أخرى إلى آياته في الأرض وفي أنفسهم، وإلى رزقهم المضمون في السماء في قوله تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} - الذاريات -.
ولكن هؤلاء الجاحدين الطبيعيين لم يلتفتوا إلى ما لفتهم الله إليه، والتفتوا للشيطان الذي سول لهم وأملى لهم، وسألهم الخالق تعالى سؤال توبيخ واستنكار في قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} ؟ - النحل -.
وكيف يمكن لأحد من الخلق أن يخلق مخلوقا وينفخ فيه الروح؟ وسرّ الحياة لا يملكه واحد منهم إنما يملكه مالك الملك سبحانه؛ {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً} - الإسراء -.
وأما الجواب الثاني - وهو أن الطبيعة هي خصائص المخلوقات وصفاتها - فهو قول فاسد كذلك؛ لأنه قول لم يتجاوز وصف ظواهر تلك الخصائص والصفات دون بيان لحقيقتها.(17/164)
فمثلا لو أننا وضعنا حبة في التراب، وسقيناها بالماء لحدثت مجموعة ظواهر: انتفاخ الحبة وانفلاقها، وخروج النبت منها، وخروج الجذر واتجاهه في بطن الأرض، وخروج الساق واتجاهه إلى الأعلى، وظهور الأوراق ثم الأزهار، ثم الثمار؛ فالخصائص والصفات التي تمتاز بها الحبة هي التي أدت إلى حدوث تلك الظواهر المتتابعة؛ فمن خصائص الحبة أنها تنتفخ حين تسقى بالماء وتعوم تنفلق لو أن الحبة لم تنتفخ بالماء، ولم تنفلق ما نشأ عنها نبت جذر ولا ساق، ولا ورق ولا أزهار ولا ثمار.
فمن الذي نفخ الحبة،؟.. ومن الذي فلقها؟ ...
لو قيل إن للحبة عقلا يدرك - ولم يقل بهذا أحد حتى الجاحدون - لقلنا: إن عقلها هو الذي نفخها ثم فلقها، ولو أن الماء هو الذي نفخها وفلقها حين سقيت به لتساءلنا: لماذا لم ينفخ الماء الإنسان مثلا حين يسقى به ثم يفلقه، ثم يخرج منه جذر وساق ثم ورق ثم أزهار؟. كما يحدث للحبة سواء بسواء؟. فنرى أولئك الجاحدين يعجزون عن الجواب، فنجيب بأن للحبة خصائص وصفات لا تتوافر في الإنسان، منها أنها حين تسقى بالماء تنتفخ ثم تنفلق ثم تتوالى تلك الظواهر حتى بدو الثمار.
إن الطيعين الجاحدين يقولون: انتفخت الحبة، انفلقت الحبة، نبتت الجذور والسيقان والأوراق والثمار، دون أن يعينوا الفاعل الحقيقي لأفعال النفخ والفلق والإنبات، مقتصرين على ذكر الظواهر التي شاهدوها بناء على خصائص وصفات تميزت بها الحبة، ونسبوا إلى تلك الخصائص والصفات فعل تلك الظواهر، جاهلين أو متجاهلين فاعل تلك الأفعال، وهو ربنا الخلاق العليم، الذي حسم الأمر بقوله: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} ؟ - الأنعام -.(17/165)
تم أننا لو نظرنا إلى الثمار التي تخرج من الحب لوجدناها مختلفة الألوان والأشكال والطعوم.. مع أن الحبوب توضع في تربة واحدة وتسقى بماء واحد! فمن الذي غاير ألوانها وأشكالها وطعومها.. مع وحدة الأتربة والماء؟، هل الحبوب نفسها التي غايرت؟ إنها لا عقل لها ولا إدراك!، أو هل خصائصها وصفاتها هي التي غايرت؟ إن الخصائص والصفات مخلوقة حادثة وليست خالقة محدثة؛ فيستحيل أن يسند لها فعل التغاير؛ لأن المخلوق لا يملك أن يخلق.
وقد حسم ربنا الخلاّق العليم هذا الأمر كذلك في قوله: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ؛ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} - الرعد -.
إن فريقا من الطبيعيين نظروا إلى خصائص وصفات المخلوقات وسمّوها الطبيعة، ونسبوا إليها خلق المخلوقات وما يصدر عنها من أفعال، ولا يشك عاقل في أن هؤلاء الملاحدة تلعب بعقولهم الشياطين، ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب، فما للطبيعة الصماء، العمياء، البكماء، وللخلق السميع المعبر الذي لا يمكن أن يخلقه إلا رب سميع بصير، متكلم، عليم، حكيم، خبير متفرد بجميع صفات العظمة والجلال والكمال؟!
إن كل ما في هذا الكون من خلق رب العالمين؛ فهل استطاع أولئك الضائعون أن يحددوا صراحة أي مخلوق خلقه مخلوق؟ {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} - لقمان -.
أثر إنكار الخالق سبحانه:(17/166)
لا شك أن إنكار الخالق سبحانه وتعالى كان له أثر كبير، خاصة على الناشئة على وجه العموم، وعلى ناشئة المسلمين على وجه الخصوص؛ ذلك أن التحلل من القيم، والانفلات من مبادئ الخير والبناء، والانسلاخ من هدي الخالق جل جلاله - يجعل الإنسان كالحيوان سواء بسواء، لا يعيش حياته إلا لشهوة البطن والفرج، كما يقول تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} - محمد -.
وحين تنعدم قيم الدين والأخلاق من هذه الحياة بين الناس، وينعدم الخير منهم، ويشيع الفساد والفوضى الخلقية في كل جوانب حياتهم، وتكثر الجرائم، وتشيع الفواحش، وتسقط بينهم حرمة النفوس والعقول والأعراض والأموال؛ أثرا حتميا لسقوط حرمة الدين، وزوال قدر الخالق لديهم، وقد خلقهم من العدم وأمدهم ولا يزال يمدهم بنعمه وفضله، فيقول تعالى: {أَوَلا يَذْكُرُ الأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} - مريم -.
وبين تعالى أنه لم يخلقهم عبثا فقال سبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} - المؤمنون -.
ويؤكد عز وجل عودة الإنسان إليه مذكرا إياه بأصل خلقه؛ فيقول: {أَيَحْسَبُ الأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} - القيامة -.
بلى يا ربنا.. أنت قادر.. وغيرك لا يقدر.. آمنا بك.. وآمنا بما أنزلت.. وأتبعنا الرسول(17/167)
حكم الاحتفال بالموالد
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.. أما بعد:
فانه قد طرأ على صفاء هذا الدين، ووضوح أحكامه في عصور انحطاط المسلمين كثير من البدع والمحدثات التي زادت انحطاطهم انحطاطا، وشغلتهم عن العودة إلى العقيدة الصافية والتمسك بها، والرجوع إلى الحق بتتبع المظاهر الفارغة والتقاليد العمياء التي سنّها من ضل وأضل؛ فحادت بهم عن طريق الحق وسلكت بهم مسالك الضلال، ولبست على المسلمين في عقيدتهم، وأخمدت فيهم جذوة الإيمان وجمال الإتباع، وامتصت طاقاتهم المتعددة المتقدة قوة وحماسا لمظاهر فارغة وأعمال خاوية؛ فانتشرت بينهم أعمال الاحتفالات المبدعة، واتجه رجاؤهم وتعلقهم بالله إلى التعلق بالقبور والأضرحة والتماس الشفاعة منها وطلب الحاجات إليها؛ فعاد أكثر المسلمين بهذه الضلالات إلى مظاهر الوثنية وتقديس الأشخاص؛ فاستخفهم أعداهم وازداد تدهورهم وتحولت قوتهم إلى ضعف.(17/168)
وبحلول التاريخ الموافق لمولد رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - تحل مناسبة ابتدع كثير من الناس فيها إقامة الاحتفالات بالمولد، وزعموا أن ذلك مما يحقق المراد من حب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وموالاته، ويغفلون الواجب في أن محبة الرسول إنما تكون باتباعه وطاعته.. أما هذه الاحتفالات الشائعة فهي غير جائزة، بل من البدع المحدثة في الدين؛ لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم - لم يفعله، ولا خلفاؤهم الراشدون ولا غيرهم من الصحابة رضوان الله على الجميع، ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة، وهم أعلم الناس بالسنة وأكمل حبا لرسول الله - صلى الله علية وسلم - ومتابعة لشرعه ممن بعدهم، وأول من ابتدعها فيما بلغناهم الفاطميون في القرن الرابع هجري، وهم معروفون بالعقيدة الفاسدة وإظهار التشيع لأهل البيت وللغلو فيهم. وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، أي مردود عليه، وقال في حديث آخر: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فان كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلاله".(17/169)
ففي هذين الحديثين تحذير شديد من إحداث البدع والعمل بها، وقد قال الله سبحانه في كتابه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، وقال عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً..} ، وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ، وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِين} ، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وإحداث مثل هذه الموالد يفهم عنه أن الله سبحانه لم يكمل الدين لهذه الأمة وأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به حتى جاء هؤلاء المتأخرون؛ فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به، زاعمين أن ذلك مما يقرب إلى الله.(17/170)
وهذا بلا شك فيه خطر عظيم، واعتراض على الله سبحانه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه قد أكمل لعباد الدين وأتم عليهم النعمة، والرسول- صلى الله عليه وسلم- قد بلغ البلاغ المبين ولم يترك طريقا يوصل إلى الجنة ويباعد من النار إلا بينه للأمة، كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم.."، رواه مسلم في صحيحه، ومعلوم أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء وخاتمهم وأكملهم بلاغا ونصحا؛ فلو كان الاحتفال بالموالد من الدين الذي يرضاه الله سبحانه لبينه الرسول - صلى الله عليه وسلم- للأمة أو فعله في حياته أو فعله أصحابه في رضي الله عنهم، فلما لم يقع شئ من ذلك علم أنه ليس من الإسلام في شئ، بل هو من المحدثات في الدين التي حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منها أمته، كما تقدم ذكر ذلك في الحديثين السابقين.
وقد جاء في معناهما أحاديث أخر، مثل قوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة: "أما بعد.. فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتهما، وكل بدعة ضلالة.."رواه مسلم في صحيحه، والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة..
وقد صرح جماعة من العلماء بإنكار الموالد والتحذير منها بالأدلة المذكورة وغيرها، وخالف بعض المتأخرين فأجازها إذا لم تشتمل على شئ من المنكرات كالغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاختلاط النساء بالرجال، واستعمال آلات الملاهي.. وغير ذلك مما ينكره الشرع المطهر. وظنوا أنها من البدع الحسنة.(17/171)
والقاعدة الشرعية ردّ ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ} ، وقد رددنا هذه المسألة - وهى الاحتفال بالموالد - إلى كتاب الله سبحانه فوجدناه يأمرنا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، ويحذرنا عما نهى عنه، ويخبرنا بأن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها، وليس هذا الاحتفال مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فيكون ليس من الدين الذي أكمله الله لنا وأمرنا باتباع الرسول فيه، وقد رددنا ذلك أيضا إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فلم نجد فيها أنه فعله ولا أمر به ولا فعله أصحابه رضي الله عنهم، فعلمنا بذلك أنه ليس من الدين، بل هو من البدع المحدثة، ومن التشبه بأهل الكتاب من اليهود والنصارى في أعيادهم.(17/172)
وبذلك يتضح لكل من له أدنى بصيرة ورغبة في الحق، وإنصاف في طلبه أن الاحتفال بالموالد ليس من دين الإسلام، بل هو من البدع والمحدثات التي أمر الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم بتركها والحذر منها، ولا ينبغي للعاقل أن يغتر بكثرة من يفعله من الناس في سائر الأقطار؛ فإن الحق لا يعرف بكثرة الفاعلين، وإنما يعرف بالأدلة الشرعية، كما قال تعالى عن اليهود والنصارى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه..} الآية.
ثم إن غالب هذه الاحتفالات بالموالد - مع كونها بدعة - لا تخلو من اشتمالها على منكرات أخرى: كاختلاط النساء بالرجال، واستعمال الأغاني والمعازف، وشرب المسكرات والمخدرات، وغير ذلك من الشرور، وقد يقع فيها ما هو أعظم من ذلك، وهو الشرك الأكبر، وذلك بالغلو في رسول الله- صلى الله عليه وسلم - أو غيره من الأولياء، ودعائه والاستعانة به وطلبه المدد، واعتقاد أنه يعلم الغيب ونحو ذلك من الأمور الكفرية التي يتعاطاها الكثير من الناس حين احتفالهم بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ممن يسمونهم بالأولياء، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إياكم والغلو في الدين؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين"، وقال عليه الصلاة والسلام: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" أخرجه البخاري في صحيحه من حديث عمر رضي الله عنه.(17/173)
ومن العجائب والغرائب أن الكثير من الناس ينشط ويجتهد في حضور هذه الاحتفالات المبتدعة، ويدافع عنها ويتخلف عما أوجب الله عليه من حضور الجمع والجماعات، لا يرفع بذلك رأسا ولا يرى أنه أتى منكرا عظيما، ولا شك أن ذلك من ضعف الإيمان وقلة البصيرة وكثرة ما ران على القلوب من صنوف المعاصي والذنوب.. نسأل الله العافية لنا ولسائر المسلمين..
من ذلك أن بعضهم يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر الموالد؛ ولهذا يقومون له محيين ومرحبين، وهذا من أعظم الباطل وأقبح الجهل؛ فان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة، ولا يتصل بأحد من الناس، ولا يحضر اجتماعاتهم، بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة، وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة كما قال تعالى في سورة البقرة {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ..} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أول منه ينشق عنه القبر يوم القيامة وأنا أول مشفع.."، عليه من ربه أفضله الصلاة والسلام؛ فهذه الآية الكريمة والحديث الشريف - وما جاء في معناها من الآيات والأحاديث - كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من أموات إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة، وهذا أمر مجمع عليه بين علماء المسلمين ليس فيه نزاع بينهم.
فينبغي لكل مسلم التنبه لهذه الأمور، والحذر مما أحدثه الجهال وأشباههم من البدع والخرافات التي ما أنزل الله بهذا من سلطان.. والله المستعان وعلمه التكلان.. ولا حول ولا قوة إلا به…(17/174)
أما الصلاة والسلام على رسول الله فهي من أفضل القربات، ومن الأعمال الصالحات كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا"، وهى مشروعة في جميع الأوقات ومتأكدة في آخر كل صلاة، بل واجبة عند جمع من أهل العلم في التشهد الأخير، وسنة مؤكدة في مواضع كثيرة منها ما بعد الآذان، وعند ذكره عليه الصلاة والسلام، وفي يوم الجمعة وليلتها، كما دلت على ذلك أحاديث كثيرة..
والله المسئول أن يوفقنا وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه، وأن يمن على الجميع بلزوم السنة والحذر من البدع إنه جواد كريم.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(17/175)
كيف يغرس الأستاذ في نفوس تلاميذه العلم والعمل معا؟
لفضلة الشيخ عبد الله بن أحمد قادري
عميد كلية اللغة العربية
الحمد لله رب العالمين.. والصلاة والسلام على نبينا محمد.. وعلى آله وصحبه أجمعين..
أما بعد.
فأني أقدم هذه القطوف المفيدة للأستاذ الذي جعل همه تعليم العلم والعمل، وغرسها في نفوس تلاميذه.. وللتلاميذ الذين يهمهم التلقي السليم المفيد الذي يثمر به نفوسهم العلم والعمل..
أسأل الله أن ينفعني وإخواني المسلمين به إنه على كل شئ قدير.. وصلى الله وسلم على خير المعلمين وعلى آله وصحبه خير من تلقى عنه وطبق ما تعلمه في واقع الحياة..
البحث الأول
قوة الصلة بالله
إن أول هدف يجب أن يضعه نصب عينه المعلم والمتعلم على السواء هو أن يكون الغرض من التعليم والتعلم قوة الصلة بالله، وعبادته سبحانه على الوجه الذي يرضاه؛ فإن عبادته هي الغاية من خلقنا، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} .
كيف تحقق قوة الصلة بالله؟
وتتحقق قوة الصلة بالله بأن يكون المؤمن كله لله تعالى كما قال عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} .
ولنفصل ذلك بعض التفصيل في الأمور الآتية:
ا- الإخلاص:(17/176)
والمراد بالإخلاص: تصفية العمل وتنقيته من شوائب الشرك بالله تعالى، سواء كان شركا أكبر - وهو الذي قال الله تعالى فيه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ..} - أو شركا أصغر، ومنه إرادة الإنسان بعمله الرياء، أي: مراءاة الناس، كما قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} .
وقال تعالى في الحديث القدسي: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه"، وقد أمر الله بالإخلاص في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في نصوص كثيرة، قال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى".
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه؛ فان لم تكن تراه فإنه يراك"، وقال: "اتق الله حيثما كنت".
فعلى الأستاذ أن يحرص كل الحرص على الإخلاص، ومحاربة الرياء في نفسه وفي تلاميذه، وأن يذكروا أن المخلوقين مهما عظمت منزلتهم فهم مخلوقون لا يقدرون أن ينفعوه بشيء ولا يضروه، وأن يتذكروا عظمة الله الخالق الذي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون؛ فان تذكر الأمرين - ضعف المخلوق وعجزه، وقوة الخالق وقدرته وعظمته - مما يعين على الإخلاص لله تعالى في الأعمال.(17/177)
2- التلقي من أجل العمل بالعلم، لا من أجل الثقافة والترف العلمي والفكري، وإن كانت الثقافة ستحصل تبعا، وتتوسع آفاق فكر العامل، وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فما كانوا يتجاورون عشر آيات حتى يعلموهن ويعملوا بهن، وبفقد هذه الروح أو ضعفها في طلبة العلم كثر المنتسبون للعلم وقل العمل، بل وأصبح الفساد الذي يأتي من قبلهم أكثر من الفساد الآتي من عامة الناس، وقد قال الله تعالى عن اليهود الذين يعلمون ولا يعملون: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ..} ، وقال تعالى عمن لم يعمل بما علم في هذه الأمة معاتبا ومنكرا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} .
فعلى الأستاذ أن يركز على تحقيق هذا المعنى في نفسه وفي نفوس تلاميذه؛ حتى لا يكونوا نسخا مكررة لغيرهم من عامة المسلمين.
3- موافقة الفعل للشرع، وعدم الزيادة والنقصان فيه.. أي: اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم- والبعد عن البدع، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ..} ، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} ، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .(17/178)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وقال: "خذوا عني مناسككم؛ فلعلي لا أحج بعد عامي هذا"، وقال العلماء في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} : أخلصه وأصوبه، قيل: ما معنى أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل لا يقبل حتى يكون خالصا صوابا، والخالص ما قصد به وجه الله، والصواب ما وافق سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
4- الإكثار من قراءة كتاب الله تعالى مع تدبره وتفهم مراميه، وعرض الإنسان نفسه عليه ليعلم منه أهو سائر في طريقه - أي طريق القرآن - أم في طريق عدوه (الشيطان) ، وينبغي أن يحافظ على ورد معين منه يوميا؛ لأن البعد عنه يورث القسوة في القلب والغفلة عن الله.
5- الإكثار من ذكر الله؛ المطلق منه والمقيد، والمراد بالمطلق: ما لم يقيد بزمان ولا مكان ولا عدد؛ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} ، "لا يزال لسانك رطبا بذكر الله"..، والمقيد: ما قيد بزمان، كأذكار الصباح والمساء وأدبار الصلوات، أو بمكان كأذكار مناسك الحج المعينة وغير ذلك، أو بعدد كالاستغفار مائة مرة، والتسبيح ثلاث وثلاثين.
ويمكن الرجوع في هذا الباب إلى الكلم الطيب وصحيحه، والوابل الصيب، والأذكار للنووي، ورياض الصالحين، وغيرها من كتب السنة.(17/179)
6- القراءة المستمرة في كتب السنة، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن السنة تفسر القرآن وتكمل ما أراد الله من عباده، والرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة العليا للمسلم؛ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} .. (يراجع في ذلك الأمهات الستة، والترغيب والترهيب، ورياض الصالحين، ومشكاة المصابيح، وسيرة ابن هشام، ومختصر السيرة لمحمد بن عبد الوهاب، ومختصر السيرة لابنه أيضا، وفقه السيرة للغزالي، والغزوات لمحمد أحمد باشميل.
7- قراءة سيرة أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ باعتبارهم النموذج البشرى الذي طبق الإقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم في أعلى صورة "جيل قرآني فريد". (يراجع في ذلك تاريخ ابن كثير- البداية-، وغيرها كحياة الصحابة، وكذلك سيرة الدعاة العاملين في كل زمان ومكان.
8- المحافظة على الفرائض المكتوبة، من صلاة وصيام وحج وزكاة، وغيرها من الواجبات الأخرى، كبر الوالدين وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: "ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه.."، حديث قدسي. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وفرض فرائض فلا تضيعوها".
9- الإكثار من نوافل الطاعات التي تعتبر حاجزا منيعا يحول بين الشيطان وبين تثبيط المؤمن من القيام بالواجبات، كما أنها تكمل النقص الذي قد يحصل في الفرائض؛ "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه؛ فإذا أحبته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها.."، أي: أن الله يحيطه بعنايته وتوفيقه؛ فلا يستعمل نعم الله التي أنعم بها عليه إلا في طاعته.(17/180)
ومن أعظم النوافل التي ينبغي الحرص عليها وعدم التقصير فيها قيام الليل الذي حافظ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان وقوده الذي يمده بالصبر على البلاء والامتحان؛ {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّل قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} .
والأستاذ الداعية إلى الله، والطالب الذي يعد للدعوة إلى الله في حاجة إلى تأمل هذه الآيات، والعمل بهن؛ للقيام بأعباء الدعوة والتكاليف الإلهية..
فالرسول صلى الله عليه وسلم - الذي ينزل عليه جبريل من السماء صباح مساء - كان في حاجة إلى الاتصال المتكرر بالسند الذي يؤيده؛ لتثبيت صبره وقوة احتماله؛ فأمر بقيام الليل من أجل ذلك: {قُمِ اللَّيْلَ.. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} .
15- مجاهدة النفس للوصول إلى محبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، المحبة الصادقة التي أرادها الله، والتي عبّر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين".(17/181)
وتظهر محبة الله ورسوله ومن يحبه الله ورسوله عندما يقدم العبد رضى الله على سواه، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} .
11- مجالسة الصالحين الذين يعينون على فعل الخير وترك الشر؛ فان في مجالسة أهل الضلال هو الخسران الذي يندم صاحبه في الدنيا والآخرة.. {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً} ، وفي حديث أبي موسى المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا منتنة".(17/182)
وكم من أستاذ كان ظاهره الصلاح، ويعتبر مربيا فصار ضحية لبعده عن الصالحين واقترابه من الفاسدين، وكم من شاب صالح يعتاد المساجد ويؤمن بالله ورسوله والإسلام ويحب ما يحبه الله ورسوله هو في حمأة الرذيلة والإلحاد بسبب جليس سوء..؛ فعلى الأستاذ والطالب معا الحفاظ على مرافقة عباد الله الصالحين، والبعد عن صحبة أتباع الهوى والشيطان، وبذلك يمكن البعد عن المحرمات وفعل الطاعات وعدم إضاعة الوقت فيما يضر أو فيما لا ينفع؛ فقد خلق الله الليل والنهار {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} .
12- الجد والمثابرة في طلب العلم من كتاب الله وسنة رسوله وكتب أهل العلم الذين يتمسكون بهما، ولا يقدمون عليهما قول أحد كائنا من كان، والتساهل في طلب العلم أو القعود عنه دليل للهبوط إلى الجهل والقعود عن معالي الأمور التي لا تنال بدون العلم.
13- زيارة القبور لتذكر أصل الإنسان وقيمة الحياة الدنيا، والموت والبعث، والحساب، والدعاء للمؤمنين بالوارد.
14- الإكثار من قراءة كتب الترغيب والترهيب وصفة الجنة والنار ونعيم القبر وعذابه وأحوال يوم القيامة، ومصائر الأمم كقوم نوح وعاد وثمود.
15- الإحساس القوي بالمسئولية الفردية أمام الله عن عمله في هذه الحياة، وعن أهله وأولاده وأقاربه وجيرانه وأصدقائه، بل أنه مسئول عن تبليغ دين الله قدر استطاعته، وذلك يحتم عليه أن يتحمل أعباء الدعوة إلى الله، مع استكمال أصولها من العلم والحكمة والبيان والصبر، وفي الحديث: "كلكم راع ومسئول عن رعيته"..
فلابد للداعية إلى الله - والأستاذ من أوائل الدعاة - أن يتحلى بما يأتي:
ا- الإخلاص.
2- القناعة التامة بما يدعو إليه.
3- العلم بما يدعو إليه من الكتاب والسنة.
4- العمل بما علم وكونه قدوة حسنة.
5- لين الجانب وعدم الغلظة.(17/183)
6- الصبر على المحنة والابتلاء.
وعليه أن يركز على تحقيق الأمور الآتية في تلاميذه علاوة على ما مضى:
1- غرس الإيمان بالغيب، وتثبيته وتقويته بالحجج والبراهين المقنعة، ودحض الشبه التي يوردها أعداء الإسلام على ذلك.
2- تقوية الجانب العبادي على ضوء ما مرّ في تقوية الصلة بالله.
3- تمرينهم على البدء بالأهم فالأهم؛ اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم.
4- اختيارهم الأسلوب السهل عند دعوة غيرهم أو تعليمهم حسب المقام والأشخاص.
5- مساعدة الطالب في نقله من البيئة الفاسدة إلى البيئة الصالحة؛ حتى يتمكن من السير في صراط الله، ويصبح هو أيضا قادرا على نقل غيره كما نقل هو.
6- إقناعهم بالاعتصام بحبل الله، والتعاون مع إخوانه المسلمين في كل أنحاء الأرض؛ من أجل رفع راية (لا اله إلا الله) ، والقضاء على رؤوس الفتنة والضلال من أعداء الله مستعينا بما يأتي:
أ - التذكير بالأوضاع الكافرة التي أحدثت للعالم كله القلق والاضطراب، ومكنت للظلم والظالمين.
ب- التذكير بحالة المسلمين التي يعيشونها.
ج- التذكير بأمر الله ورسوله - صلى على الله عليه وسلم - بالتمسك بالجماعة، وأن من شذ شذ في النار.
د- التذكير بصفات الطائفة المنصورة التي تبدأ بالإيمان وتنتهي بالجهاد وطلب الشهادة من أجل تحقيق رفع راية الإسلام.
هـ- التذكير بأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم العهد على الجهاد، وينبغي أن يعينه بذكر الكتب والمراجع التي تفيده في هذا الباب وغيره؛ ليسير مع على النهج الصحيح.
البحث الثاني
عوامل تقوية صلة الأستاذ بتلاميذه
وتقوية صلة بعضهم ببعض
إن ما عليه الأساتذة مع طلبتهم في المدارس النظامية من الجفاء والبعد عن الروح الودية والإخاء لا تقره الآداب الإسلامية.(17/184)
فقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو المربي الأول لهذه الأمة، كما قال الله تعالى عنه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ، وكان أصحابه - رضي الله عنهم - يسرعون إليه كلما اعترضتهم مشكلة ليحلها لهم؛ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} .
وكان صلى الله عليه وسلم من تعليمه لهم ونصحه إياهم يتفقد أحوالهم، ويزورهم في السلم والحرب، في البيت وفي المعركة، وهكذا كان أصحابه من بعده ساروا على دربه، وكذلك كان علماء الإسلام في كل جيل تربط بينهم وبين تلاميذهم الأخوة الإيمانية والمحبة؛ ولذلك أثمر عملهم وآتى أكله.
ومما يحقق الإخاء والمحبة بين الأستاذ وطلبته، وبين الطلبة بعضهم مع بعض الأمور الآتية:
ا- التعارف:
وهو من الآداب الإنسانية العامة التي لا تستغني عنه الأمم والأفراد، ولا يمكن تحقيق العلاقات التعاملية بدونه، ولذلك كان التعارف من أهم الآداب الإسلامية التي ركز عليها القرآن في سورة الحجرات كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .
والتعارف الإسلامي لابد أن يثمر الأخوة الإسلامية الحقة، والمحبة المتبادلة الصادقة؛ فعلى الأستاذ أن يحقق التعارف بينه وبين طلابه، ويتعرف على مشاكلهم ليحاول حل ما قدر عليه منها، ويعمل على إيجاد التعارف بين طلبته بعضهم مع بعض كذلك.
2- التناصح:(17/185)
ومن العوامل التي تقوى الصلة بين الأستاذ وطلبته أن يتواصى معهم بالحق؛ فلا يسكت عن منكر وخطأ يراه في طالب، بل يسارع في نصحه سرا، فإذا اقتضى الأمر نصحه علنا نصحه، ويدربهم أيضا على أن يتناصحوا فيما بينهم؛ لأن في ذلك صلاحهم جميعا، بل وصلاح الأمة كلها؛ لأنهم إذا لم يحققوا التناصح فيما بينهم - وهم في ميدان التلقي والطلب - فسيكون الأمر كذلك عندما يدخلون في ميدان العمل والممارسة، وفي ذلك ما فيه من خطورة على مستقبل العمل للإسلام.
وعلى الأستاذ أن يتقبل نصح طلبته له أيضا؛ فهو بشر يخطئ ويصيب مثلهم، وإن كان المفروض أن يكون أقل منهم خطأ وأكثر صوابا، وعليهم أن ينصحوه ولا يترددوا في نصحه، وعلى الجميع أن يكون هدفهم من النصح محبة الخير للمنصوح عن إخلاص وتواضع، لا عن رياء وتكبر وتشهير.
(تراجع في هذا الموضوع الآيات والأحاديث المتعلقة بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ويراجع رياض الصالحين وغيره) .
وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستقيم أمر المسلمين، وبدونه تضطرب الأمور وتنتشر الفوضى والظلم، ويسيطر الفسقة والطغاة.
3- التعاون على البر والتقوى، وحل المشاكل التي تعترض الأستاذ وطلبته:
وهذا يقتضي مكاشفة الطلاب الأستاذ، ومكاشفة بعضهم بعضا بمشاكلهم حتى يتعاونوا على حلها؛ لأن الفرد الذي تعترضه المشاكل في حياته إذا أخفاها في نفسه لا يمكن إخوانه من حلها؛ لعدم معرفتهم إياها، وقد تكون تلك المشاكل معوقة للفرد عن السير في دراسته إذا استمر، ولذلك ينبغي أن يبدأ الأستاذ طلبته بالسؤال عن أحوالهم تشجيعا لهم على إبداء ما قد يترددون في إظهاره ابتداء، وقد يعجز الأستاذ أو طلبته عن حل بعض المشاكل ولكن ذلك لا يمنع من إبدائها من أجل المواساة والتسلية والتواصي بالخبر.
4- الإسراع في حل أي خلاف قد يحدث بين الطالبة أو بينهم وبين الأستاذ:(17/186)
مع التزام العدل، والابتعاد عن الإثارة والدعاوى الباطلة، أو التهم التي لا حقيقة لها؛ هروبا من الاتصاف بصفة المنافق "إذا خاصم فجر".
5- ومما يقوي الصلة بين الأستاذ وبين طلبته، وبين الطلبة بعضهم مع بعض القيام ببعض الرحلات الخلوية؛ أسبوعية أو نصف شهرية، يبيتون في مكان واحد، وتستغل أوقاتهم فيما يعود عليهم بالفائدة، ويمكن أن يكون ذلك كما يلي:
- مدارسة القرآن الكريم وشيء من تفسيره.
- تلخيص بعض الكتب، أو كتابة بعض البحوث في موضوعات معينة تقرأ في الرحلة، على أن يكون التكليف بذلك قد سبق بوقت كاف.
- القراءة في بعض كتب الحديث لا سيما كتب الترغيب والترهيب.
- قراءة تراجم بعض الشخصيات الإسلامية من الأنبياء والصحابة والدعاة والمجاهدين؛ للاستفادة من حياتهم التطبيقية علما وعملا ودعوة وتحملا.
- الإكثار من ذكر الله الوارد مطلقا ومقيدا.
- مذاكرة بعض المشاكل التي تعترض الطلبة في سيرهم الدراسي أو الدعوة وحلها.
- القيام ببعض التمرينات الرياضية المفيدة.
6- الزيارات العادية وذوات الأسباب، مع تحسين الأوقات المناسبة، وعدم التثقيل على المزور.
7- تبادل الهدايا ولو قلّت؛ "تهادوا وتحابوا ".
8- أداء صلاة الجماعة في مسجد واحد.
9- اغتنام أي فرصة للقاء والاجتماع، ولو كان قصيرا، كصلاة الجماعة والركوب في سيارة واحدة.
10- حفاظ الأستاذ على مواعيده، وعدم تأخره عنها، وكذلك حفظ التلاميذ على مواعيدهم مع أستاذهم أو مواعيد بعضهم مع بعض بكل عناية ودقة، وعدم التساهل في ذلك؛ لما فيه من المحاذير الكثيرة، ومنها:
1- الاتصاف بصفات المنافقين التي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم.
2- تضييع الوقت على الآخرين.
3- زعزعة ثقة زملائه فيه.
4- تفويت فرصة قد لا تعوض من الخير.
5- فتح أبواب قد لا تغلق من الشر.(17/187)
6- وعلى الجميع مناصحة من تكرر منه ذلك حتى يتخلص من تلك الصفة الذميمة.
7- حفاظ الأستاذ على كتمان سرّ طلبته، لا سيما الشخصية منها، وعدم إفشائها، وكتمان الطلبة سر أستاذهم وسر بعضهم بعضا، فيجب على كل منهم عدم إفشاء سر أخيه، بل لا يجوز له إفشاء سرّ زوجته، بل سر نفسه الذي يستره الله عليه، وعلى الأستاذ أن يدرب طلبته على ذلك، ويبين لهم أن ذلك مهم في حياة دعوتهم، ولا سيما في الدول الكافرة المعادية للإسلام وللحكم بكتاب الله.
وقد كان الكتمان من الأمور الهامة في حياة الدعوة الإسلامية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يكتم أمره في مكة وفي المدينة عند الحاجة.
وليس معنى ذلك أن يجعل الدعاة إلى الله خوف الناس سببا لانزوائهم عن الناس، وعدم تبليغ الإسلام إليهم، كلا! بل معناه حماية الداعية نفسه وإخوانه من فتح الباب على مصراعيه لأعداء الله في غير البلاد الإسلامية.
فالعلم والعبادات لا تكتم.
(يدرس في هذا كتمان الرسول صلى الله عليه وسلم في غزواته من كتب السنة والسيرة، ورسالة الكتمان لمحمود شيت خطاب) .
المبحث الثالث
خطوات الدرس
ليس المراد هنا الدراسة النظامية في المدارس، فتلك لها منهجها ونظامها الخاص الذي قد لا ينفع الاقتراح في تعديلها، وإنما المراد هنا الحلقات المسجدية وغيرها من الحلقات التي لا يقيد الأستاذ وطلبته فيها إلا ما فيه مصلحة عامة تعود على الجميع بالفائدة، وأرى أن يتبع الأستاذ الخطوات التالية:
- قراءة بعض آيات القرآن يعينها لكل لقاء لاحق أحد الحاضرين في اللقاء السابق، ويكلف آخر بتحضيرها من كتب التفسير (كتفسير ابن كثير، أو في ظلال القرآن) ؛ ليفيد زملاءه بها باختصار.(17/188)
وينبغي أن تكون الآيات مناسبة للمقام؛ فالترغيب - مثلا - يناسبه آيات الوعد والثواب وصفة الجنة وصفات المؤمنين، والترهيب يناسبه ذكر الوعيد وصفات النار وأعمال الكافرين، وهكذا يقال في الإنفاق والجهاد والصبر والصدق والأمانة والعلم والعمل وغيرها.
- مناقشة عامة لما مضى في الدرس الماضي بذكر ما تم كما ينبغي، وما لم يتم مع ذكر العوائق التي اعترضت الطالب ومناقشة حلها، وعلى المقصر أن يعترف بتقصيره إن حصل دون جدال، ويعتذر بعدم التقصير مستقبلا، وعلى الأستاذ وبقية الطلبة قبول العذر وعدم التأنيب؛ فان تكرر فيعالج بالحكمة والأسلوب المناسب في الزمان والمكان المناسبين.
- البدء في دراسة الفصل المقرر، وينبغي تنوع الدراسة تنوعا يحقق هضمه من جميع الحاضرين، وفي الإمكان اتباع ما يلي:
أ - يعطي الأستاذ خلاصة للدرس السابق، أو يسأل الطلبة عن نقاطه الرئيسة؛ للربط بينه وبين الدرس الجديد، ويمكن أن يكلف بتلخيصه أحد الحاضرين أو كلهم، أو يجعل بعضهم يسأل وبعضهم يجيب.
ب- يذكر الأستاذ النقاط الرئيسية للدرس الجديد، ويطلب من كل طالب الكلام عن جزيئات كل نقطة على حدة، أو يطلب من كل طالب ذكر بعض النقاط الرئيسية، ثم يقسم الجزيئات على الطلبة كل واحد يتكلم على بعضها.
وعليه تتبع التلخيص أو الإجابة على الجزيئات؛ ليعلق في آخر الأمر على ما يراه يستحق التعليق، وللأستاذ أن يكلف أحد الطلبة بالقيام بالتدريس إذا رآه أهلا لذلك؛ ليتمرن طلبته على التدريس، ويصحح لهم ما يقعون فيه من خطأ، وعليه أن يبرز الجوانب المقصودة من الدراسة بشكل واضح حتى يتعود طلبته على فهم مقاصد الدراسة والتدريس.(17/189)
ج- على كل طالب أن يحضر النقاط التي أشكلت عليه في كراسته، ولا يبدأ بالسؤال عنها، بل ينصت ويناقش إلى أن ينتهي الأستاذ من البحث الذي فيه نقطة الإشكال؛ فان فهم الإشكال من خلال المناقشة فيها وإلا سأل أستاذه، وعلى الأستاذ أن يجيب بوضوح إن كان عنده علم بذلك، وإلا طلب التأجيل ليبحث، وإذا كان عند بعض طلبته علم فعليه أن يمكنه من إبداء ما عنده؛ ليحصل التعاون بينه وبين طلبته.
وعلى الأستاذ أن يحضر أسئلة على النقاط الصعبة لتنبيه الطلبة على فهمها وأن يسارع بالإجابة أو المساندة عليها إذا أحسّ عجز الطالب أو الطلبة عن الإجابة.
كما يجب أن يكون غرض الجميع الإفادة والاستفادة مع التواضع وعدم الترفع على الآخرين.
د- على الأستاذ أن يعوّد طلبته في ختام الدرس على الإدلاء بما سمعوه من الأخبار المهمة المتعلّقة بالعالم الإسلامي أو غيره، وذكر المقالات الإسلامية التي ينبغي اقتناؤها وقراءة ما ورد في ختم المجلس.
هـ- لا ينبغي أن يضن الأستاذ أو طلبته بالوقت للدراسة؛ فخير الأوقات ما استغل في طاعة الله، لا سيما ما يعود نفعه لعامة المسلمين، {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} .
و وهناك أمر يجب التنبيه عليه، وهو أن على الأستاذ أن يكون ملما إلماما واسعا بالدروس التي يلقيها لطلبته، متمكنا من فهم مسائلها تمكنا كاملا، وأن يتوسع في المراجعة في الكتب المناسبة، ويحرص كل الحرص على عدم ظهوره بمظهر المتردد في فهم المسائل؛ حتى لا تضعف ثقتهم به، حتى لا يكون قدوة لهم في عدم إتقان مادة الدرس، كما أن عليه ألا يتردد عن قول (لا أدرى) فيما لا يعلم؛ لئلا يقع في مثل قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} .
المبحث الرابع(17/190)
أمور هامة ينبغي للأستاذ أن يمرن طلبته عليها
- الجد في الأمور والبعد عن الهزل والهازلين.
- الحرص على فهم عقيدة السلف الصالح من كتبهم، وبالأخص كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم.
- التعمق المستمر في فهم كتاب الله وسنة رسوله عن طريق قراءتهما المباشرة، والتدبر وقراءة التفسير وعلومه والحديث وعلومه.
- البعد عن التعصب الذي وقع فيه المقلدون الجامدون؛ فالحق أحق أن يتبع، وليس أحد من الناس معصوما إلا من عصمه الله، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، ويجب ردّ ما اختلف فيه إلى الله ورسوله، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
- تطهير المجالس من أقذار الغيبة وتجريح الأفراد والجماعات؛ فالوقت يجب أن يستغل في بناء الطالب وتعويده على الالتزام بالأدب الإسلامي، والتنفير عن الوقوع في أعراض الناس، وفي عيوب الإنسان نفسه ما يغنيه عن التفكه بعيوب الآخرين.
- وهذا لا يمنع من ذكر السلبيات التي تؤثر على سير الدراسة أو الدعوة، والتي يقع فيها بعض الأساتذة، ويقدر ذلك بقدره، على أن يكون المقصود التحذير من الوقوع فيها.
- عدم تضييع الوقت فيما لا ينفع أو فيما هو مهم على ما هو أهم، فضلا عن تضييع الوقت فيما يضر، وما أكثر ما يضيع طلبة العلم أوقاتهم في الكلام واللغو الذي لا فائدة فيه، إذا سلموا من الكلام الذي يجلب عليهم الإثم.
ومن صفات المؤمنين {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} وأمرهم تعالى بالقول النافع المفيد فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت".
واستعذاب الكلام فيما لا يفيد دليل فقدان الروح العلمية فليحذر العاملون ذلك كل الحذر.
المبحث الخامس
عوامل تقدم الطلبة في دراستهم وارتقائهم(17/191)
ا- أن يكون أستاذهم قدوة حسنة في التقدم والارتقاء.
2- أن يفهموا دروسهم (المنهج المقرر) أولاً بأول، فهما دقيقا شاملا، مع التطبيق العملي لما درسوه؛ فالتطبيق العملي يثبت العلم، وعدمه يسبب النسيان.
3- التركيز على كتاب معين في كل عام، يقرأ قراءة دقيقة من أوله إلى آخره، مع الفهم وحفظ القواعد والنصوص اللازمة؛ حتى يكون هذا الكتاب بمنزلة المتن لهذا الفن.
4- إعداد موضوعات وبحوث مناسبة لمراحل الدراسة وتكليفهم بإعداد شيء من ذلك.
5- تعيين بعض الكتب للمطالعة المستمرة، وأخرى للتلخيص.
6- أن يكونوا على صلة بما يجدّ من الكتب والموضوعات والمجلات والجرائد المناسبة والحوادث المعاصرة.
7- تنمية روح المسؤولية فيهم، والاستقلال لا التبعية والتقليد، مع ترسيخ التواضع فيهم، والاعتراف بالفضيلة لأهله.
8- متابعتهم متابعة دقيقة، ووضع كل منهم في مكانه المناسب في الوقت المناسب.
9- أن يقبل كل استفسار أو استشكال أو شبهة أو نقد أو اقتراح، ويناقش من تقدم بذلك مناقشة هادئة موضوعية مقنعة، ويسلم لصاحب الحق ويشكره على ذلك.
مع ملاحظة أنه يجب ألا يكون هم الفرد هو النقد أو القدح، وإنما مراده المصلحة والوصول إلى الحق.
10- تشجيعهم على القيام بجولات مستمرة للدعوة العملية.
11- وعلى الجميع أن يحاسبوا أنفسهم كل بمفرده كل ليلة قبل النوم؛ لمعرفة ما وقع فيه من الأعمال التي لا تليق بالمسلم، والتوبة إلى الله منها؛ لينطبق عليه قول رسول صلى الله عليه وسلم: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
المبحث السادس
تدريب الأستاذ طلبته علي تنظيم الرحلات
من الأمور التي لا ينبغي للأستاذ أن يغفل عنها تدريب طلبته على تنظيم الرحلات؛ لما في ذلك من الفائدة لهم على تحمل المسؤولية وخدمة الآخرين، والإيثار والتضحية ويمكن إتباع الطريقة الآتية:(17/192)
تعيين مجموعة من الطلبة، وتكليفهم بالتخطيط للرحلات مع توجيههم بما يلي:
ا- تحديد المكان والزمان (استعداداً وبدأ وعودة) .
2- تحديد وسيلة النقل.
3- عدد المشتركين حسب الظروف والحاجة.
4- المال الكافي.
5- المنهج الثقافي وتوزيعه مع مراعاة شموله ومناسبته، ويركز على الهدف الذي أنشئت الرحلة من أجله.
6- تعيين الأساتذة الذين يمكن الاستفادة منهم.
7- تقسيم المشتركين في الرحلة إلى لجان، كل لجنة تقوم بمهمة محددة واضحة، مع الحث على التعاون العام.
8- إرشاد أعضاء الرحلة إلى ما ينبغي اتخاذه من الحيطة في الملابس والبسط والأغطية أو غير ذلك.
9- ينبغي ألا تستمر مجموعة واحدة من الطلبة في التخطيط للرحلات كلها، بل يكون ذلك بالتناوب بحيث يعلم أن هذه المجموعة أجادت فهم التخطيط والتنظيم لرحلات؛ فتكلف بعدها مجموعة أخرى.. وهكذا، وليتمكن الأفراد كلهم أو أغلبهم من التدرب على ذلك.
10- يجب أن يوضح المكلف مراده توضيحاً كاملا، وعلى المكلف فهم ذلك وتوضيحه لمن يبلغهم عن الرحلة، وعلى الأفراد المبلغين فهم ذلك أو التأكد منه بالاستيضاح.
11- على كل واحد من أعضاء الرحلة أو مجموعة منها عدم تجاوز اختصاصهم؛ حتى لا تضطرب الأمور وتتمكن الفوضى وتستمر؛ فالنظام في حاجة إلى الالتزام، ومعرفة كل فرد أو جماعة حدودهم.
12- على كل لجنة حلّ مشاكلها بواسطة رئيسها وفيما بينها، وإذا لم يتمكنوا فليرفعوا أمرهم إلى المسؤول المختص حتى تسير الأمور بانتظام.
10- ولابد في الرحلة الخلوية - والليلية منها بالأخص - من كلمة سر يعرف بها الدخيل من الأصيل.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.(17/193)
وعلاقتها بالقدرات العقلية
لفضيلة الدكتور عباس محجوب
الأستاذ بكلية الدعوة
تمهيد:
من أهم القضايا التي عالجها علماء النفس معرفة المشكلات التي تواجه الإنسان، ومحاولة تحديدها ودراستها وتفسيرها؛ بغية الوصول إلى حلول لها، وضبط ومعرفة أسبابها؛ حتى يتحول الإنسان من كائن تسيطر عليه المشكلات والمعوقات إلى كائن يسيطر هو على مشكلاته ويتغلب عليها، وهذه المشكلات تختلف من فرد إلى آخر.
وقد اهتم علم النفس بالمشكلات التي تصل إلى درجة الخروج عن السلوك العادي المألوف الذي يعوق حياة الفرد العادية، ويؤثر على حياته الدراسية والاجتماعية، ومن هذه المشكلات مشكلة التخلف الدراسي الذي سنعالجها في هذا الموضوع الذي نأمل ونسأل الله التوفيق في تناوله.
ما معنى التخلف الدراسي؟
هناك تعريفات كثيرة للتخلف؛ فمن الباحتين في علم النفس من يطلقه على طائفة من ضعاف العقول يندرجون تحت (العقل الخفيف) ، وهؤلاء يتراوح نسبة ذكائهم بين 70-90، وقد ترتفع هذه النسبة عندهم قليلا، كما عرف بأنه: انخفاض نسبة التحصيل دون المستوى العادي المتوسط في حدود انحرافين معياريين سالبين وله نوعان:
ا- تأخر دراسي عام يرتبط بالغباء، حيث تتراوح نسبة الذكاء بين 70- 85.
2- تأخر دراسي خاص في مادة بعينها كالحساب، وهو الذي يرتبط بنقص القدرة.
وهناك من يرى أن المتأخرين دراسيا هم الذين يستجيبون استجابات صحيحة إيجابية للمنهج الدراسي عندما يعالج تأخرهم الدراسي، والتخلف هنا يعتمد على نواح نفسية تربوية طارئة، وهؤلاء يختلفون اختلافاً كبيرا عن ضعاف العقول الذين لا يستجيبون استجابات إيجابية لمنهج.(17/194)
ومما تقدم نلحظ اختلاف المصطلحات أو التعريفات التي حددت أنواع التخلف؛ لاختلاف النظر إلى العوامل المسببة له؛ فعلى التعريف الأول يكون انخفاض نسبة الذكاء سببا في التخلف إلى جانب أسباب أخرى.
العوامل المؤدية للتأخر الدراسي:
هناك عوامل كثيرة يمكن أن تؤدي إلى التخلف الدراسي، ترتبط بعوامل اجتماعية ونفسية وتربوية، ويمكننا أن نحد د هذه العوامل فيما يلي:-
1- انخفاض نسبة الذكاء العام عن المعدل المتوسط، كما رأينا في التعريف الأول؛ لأن تكوين القدرة على اكتساب الوظائف العقلية المعقدة يحتاج إلى نسبة ذكاء لا تقل عن الحد الأدنى المساعد على التحصيل المعقول، أي أن الضعف في الناحية العقلية، أو النقص في قدرات الطفل العقلية - والذي نصفه غالبا بالغباء - عامل مهم في التأخر الدراسي.
2- عامل عضوي: مثل ضعف السمع أو البصر، ودورهما - كما نعلم - هام في عملية التعلم، وكذلك التلف المخي والاضطراب الصحي العام؛ وذلك كله لأن عملية التعليم تحتاج إلى إنسان صحيح البنية، مكتمل الحواس، خال من العيوب الخلقية المتصلة بالجهاز العقلي أو الأجهزة العصبية أو العمليات الحسية المتصلة بها.
3- البيئة والمجتمع: في حالات اضطرابات التنشئة الاجتماعية في الأسرة، وسوء التوافق الاجتماعي كأن يصاحب الطفل أقران السوء، بأن ينشأ في ظل علاقات اجتماعية مضطربة القيم والمفاهيم والسلوك، أو حرمان الطفل من المثيرات الثقافية والعقلية.(17/195)
4- علاقة الطفل بالمدرسة؛ ولأن المدرسة متعددة النشاطات فإن كراهية الطفل لوجه من أوجه النشاط المدرسي قد يكون سببا في كراهيته للمدرسة، وبالتالي للدراسة، وعدم توافقه وانسجامه معها، كما أن الجو العام للمدرسة، أو الفجوة بين المواد التي يدرسها والواقع الذي يعيش فيه، أو صعوبة الطرق التي تدرس بها المناهج، أو انعدام التوجيه والضبط التربوي السليم؛ كل هذه العوامل تلعب درراً هاما في التخلف الدراسي.
5- الاضطرابات الانفعالية: مثل عمليات الإحباط المستمرة، سواء في البيت أو المدرسة، والاضطراب العصبي، وعدم الاتزان الانفعالي والحرمان الدائم.
6- ضعف الدوافع والدافعية - كما نعلم - لها دور مهم في التعلّم، كما أن عدم بذل الجهد الكافي في التحصيل وقلة الاهتمام مرتبطة بضعف الدافعية.
7- أسلوب التربية للطفل، ونوع المعاملة التي يجدها من أسرته، وعلاقة أفراد الأسرة ببعضها، ومدى اضطرابها أو توفر المودة والرحمة فيها، وعدم التناسب بين قدرات الطفل وطموحاته وسنه.
8- عدم اعتماد الطفل على نفسه وتحمل مسؤولياته، واعتماده على والديه أو المدرس الخصوصي.
9- ضعف الذاكرة: إذ إن التذكر هو أساس العمليات العقلية، والوسيلة التي يخزن بها ما يكتسب من خبرات ومعلومات، ولأن النسيان عامل كبير في التأخر الدراسي فالعلاقة بين التذكر والحفظ قوية، وقوة الذاكرة وعدم النسيان مظهران من مظاهر النشاط العقلي، وعاملان هامان في تذكر الخبرات السابقة وتخزينها.
10- ظروف الطفل الاقتصادية: ومع أن الاقتصاد عامل بيئي إلا أن العامل الاقتصادي - مثل توفير احتياجات الطفل من الأدوات المدرسية، وامتلاكه ما يمتلكه زملاؤه - أمر مهم، وفقدانه لذلك قد يجعله متخلفا في الدراسة.
مميزات وسمات المتأخرين عقلياً:(17/196)
1- من حيث النواحي الجسمية: فنموهم أقل من المتوسط إذا ما قورنوا بزملائهم العاديين، وقد يختلفون في نموهم العقلي وإن كانوا لا يختلفون في الانفعالات والاتجاهات والدوافع والرغبات الجسمية والجنسية، وربما ظهر المتأخرون في الدراسة أطول قامة وأضخم بنية من أقرانهم في الدراسة، وذلك إما لتخلفهم عاماً أو عاميين عن أقرنهم في الدراسة برسوبهم، أو لتأخر التحاقهم أساسا بالمدرسة، كما أنهم يتميزون بارتفاع نسبة الإعاقة في السمع والبصر عن أقرانهم.
2- من حيث الناحية العقلية: فهم ضعاف الذاكرة والقدرة على التفكير الاستنتاجي، كما أنهم ضعفاء في قدرتهم على حل المشكلات التي تحتاج إلى المعاني العقلية، وهم لا يستطيعون اختزان المعلومات لفترة طويلة، ويعجزون عن تكرار الأعداد والجمل التي تحتاج إلى تكرار - عقب سماعها مباشرة - دون أن يجدوا صعوبة في ذلك، كما أنهم سطحيو الإدراك، وضعاف من حيث الحفظ والفهم العميق للأمور، الأمر الذي يجعل استفادتهم الكاملة من الخبرات السابقة أمراً قليلا، وهم إلى جانب ذلك كله أقل تقديراً للعواقب أو إدراكاً للنتائج وما يترتب على تصرفاتهم، مما يجعلهم يتصرفون بتلقائية وسهولة.
3- أما من الناحية الانفعالية فغالبا ما يسيطر عليهم إحساس عدائي نحو المدرسة، ونحو الزملاء أو المدرسين؛ نتيجة لإحساسهم بالنقص أو شعورهم بالذنب، وهم لذلك يحبون الانطواء على أنفسهم والهروب من المدرسة أو المجتمع، كما أنهم سلبيون في اتجاهاتهم نحو المدرسة؛ بحيث يقنعون أنفسهم بأنهم فاشلون وبالتالي منبوذون من مجتمع المدرسة، ومن لهم مثل هذا النوع من الإحساس يصعب تعديل سلوكهم.(17/197)
4- أما من الناحية الاجتماعية: فيرى بعض الدارسين أن التأخر في الطبقات ذات المستوى الاجتماعي المنخفض أعلى منه في الطبقات ذات المستوى العالي، وهؤلاء يرجحون جانب العلاقات الاقتصادية، أما البعض الآخر فيرى أن التأخر لا علاقة له بالمستوى الاقتصادي أو الثقافي؛ لأنه يشمل جميع الطبقات باختلاف مستوياتهم المادية، وهم من الناحية الاجتماعية ينقادون بسهولة للمربيين وللخارجيين عن القانون كتنفيس لإحساسهم نحو المجتمع أو للانتقام منه.
5- من الناحية الشخصية: فهم - كما ذكرنا - أقل تكيفا، وتنعدم فيهم روح الابتكار والقيادة.. وحب الاستطلاع والتحصيل والمثابرة معدوم عندهم؛ نتيجة الإحباط الدائم من الناس والأقران، ووصفهم بالأغبياء والبلهاء، زيادة على السلبية في اتجاهاتهم وميولهم، وإن كانوا لا يختلفون عن أقرانهم في النواحي الإنسانية المتعلقة بالطاعة، بل قد يكونون أكثر طواعية وانقيادا من غيرهم.
علاقة التأخر الدراسي بالقدرات العقلية
يذكر الدكتور أحمد زكي أن (وظيفة التعلم الأساسية هي مساعدة الكائن الحي على أن يتكيف مع بيئته الخارجية، بأبسط طريقة ممكنة، بأقل مجهود ممكن، على أصح طريقة ممكنة، بواسطة تنمية أساليب سلوك مكتسبة تساعده على مواجهة المواقف الخارجية، والتغلب على مشكلاتها بنجاح) .
ومن هنا كانت أهمية دراسة العلاقة بين التأخر الدراسي والقدرات العقلية؛ لأن عملية التعلم بالطريقة التي حددها الدكتور أحمد زكي لا يمكن إتمامها بالصورة المرضية للمتأخرين عقلياً؛ لأن عملية التعلم تعتمد أساساً على عمليات عقلية تسهم فيها، وسنحدد هذه العمليات العقلية لنحدد موقف المتأخرين عقلياً منها.(17/198)
ا- التذكر ضعيف عند المتأخرين دراسيا، وهو كما ذكرنا أساس عمليات التعلم، وبما أن المتخلف لا يستطيع أن يتذكر خبراته القديمة، وبالتالي يربطها بالخبرات الجديدة؛ فإنه يفتقد عاملا هاما من عوامل التعلم الأساسية.
2- الحفظ: يتميز المتأخرون دراسيا بأنهم لا يحفظون، وبالتالي لا يتذكرون الخبرات الماضية، ولا يستطيعون استدعاء ما تعلموه في المواقف الجديدة؛ فسريعوا التعلم يحفظون أكثر من ضعاف التعلم؛ لأن الحفظ مظهر من مظاهر الذكاء، والمتأخر أقل ذكاء من الشخص العادي.
3- التفكير: فعن طريقه ينظم العقل بين الخبرات وإدراك العلاقات بين المواضيع والمواقف؛ وبما أن التفكير يتطلب نشاطا عقليا أكبر من نشاط المستويات العقلية الأخرى، فإن المتأخرين دراسيا يعجزون عن أداء هذه العملية العقلية العليا، وبالتالي لا يستطيعون اكتساب عادات فكرية صحيحة وتدريب تفكيرهم وتوجيهه بالقدر الذي تسمح به قدرة الإنسان.
4- الاستدعاء: وهو استرجاع الذكريات مع ما يصاحبها من ظروف الزمان والمكان، وهذه مرحلة عقلية يمكن تدريب المتأخرين عليها، إلا أن سرعة الاستدعاء عندهم أقلّ من السرعة عند أقرنهم من زملائهم.
علاج التأخر الدراسي
فرق الدكتور حامد الفقى بين نوعين من التأخر هما:
(أ) التأخر الخلِقي: ذلك راجع إلى قصور أو تغير في نمو الجهاز العقلي، أو الأجهزة العصبية، أو العمليات الحسية المتصلة بها.(17/199)
هذا النوع من التخلف يصعب علاجه؛ لأنه راجع إلى قصور في النمو، أو سبب في التكوين البيولوجي للمخ، وهؤلاء لا أمل في زيادة نسبة ذكائهم، ولكن من الممكن رفع كفايتهم التحصيلية، وزيادة فعالية استعدادهم، وذلك عن طريق إثارة الدوافع، ويمكن أيضا تغيير اتجاهاتهم السلبية وتخليصهم من الاحساسات التي يحسون بها من مشاعر مؤلمة؛ فالصعوبة في علاجهم أنهم معوقون من النواحي الاجتماعية والانفعالية والتربوية التي ترجع إلى العيش في ظروف ينخفض فيها المستوى الثقافي والاجتماعي في الريف والأحياء الفقيرة في المدن، كما أنهم يفتقرون إلى الخبرات والتجارب التي تجعلهم مستعدين للعملية التربوية بالإضافة إلى سوء التغذية والمسكن.
(ب) التأخر الوظيفي:
يرجع إلى أسباب يمكن علاجها؛ لأنها ترجع إلى أسباب تتعلق بالظروف الاجتماعية والأسرية التي يعيشون فيها، وغالباً ما يكون آباؤهم وأمهاتهم أميين وقدراتهم محدودة، ويمكن لعلاجهم تحديد برامج لهم قبل دخول المدارس لإثارة الحماس والنشاط وإكسابهم خبرات جديدة افتقدوها في بيئاتهم، كذلك الأسباب الانفعالية يمكن علاجها بإزالة الأسباب المؤدية إليها كاضطراب الأسرة، وسوء العلاقة بين الطفل وأسرته؛ فالعلاقة الطبيعية لها دور في نموه الانفعالي، وتحسينها سيؤدى إلى تحسين مستوى الطفل، كما يمكن علاج هذه الحالة بتحسين أساليب الآباء في التربية.. وطريقتهم في تأديب أولادهم، زيادة على اهتمام الأمهات بالرعاية الصحية لأبنائهن وأسرهن، وإتاحة فرص الترفيه واللعب للأطفال، وتوجيه عواطف الآباء نحو أولادهم، بحيث تسود مشاعر الحب والاحترام بدلا من الكراهية.
كما يمكن معالجة التأخر الناتج عن تفكك الأسرة بتوجيه الأسرة إلى التماسك وسيادة مشاعر الحب والانتماء للأسرة.(17/200)
أما التأخر الناتج من سوء التغذية فيمكن علاجه برفع مستوى التغذية، بحيث يعود للطفل نشاطه وحيويته، ويمكن أيضا تغيير نظام المساكن وإقامتها على أسس صحية اجتماعية، بحيث يتوفر للطفل الجو المناسب لممارسة حياته وعلاقاته الاجتماعية وإشباع حاجاته وميوله، وتوفير الجو الملائم للمذاكرة.
خاتمة:
رأينا فيها سبق أنماطا من الأطفال تتحكم فيهم ظروف غير طبيعية، تؤدي إلى تأخرهم الدراسي، هذه الظروف ليست خاصة بالريف، وإنما هي ممتدة لكل المدن وشاملة لكل الطبقات العليا والدنيا الفقيرة والغنية، ورأينا أن بإمكاننا التغلب على هذه المشكلة إذا اهتمت الدولة بعلاجها عن طريق رجال التربية ووفرت لها الإمكانيات المادية والعلمية حتى يمكن أن يعالج ما يمكن علاجه، ويوقف تدهور ما لا يمكن، كالتخلف العقلي حيث تكون الأجهزة العقلية معيقة عن أداء وظائفها، ورأينا أن بإمكاننا تكوين الاتجاهات والقيم لدى المتأخرين دراسيا، عن طريق الخبرات والانتظام في الدراسة، وتشجع الوالدين والمدرسة وإزالة مشاعر الاضطهاد والنقص وغيرها.
وآمل أن أكون قد وفقت في تناول المشكلة تناولا أقرب إلى الموضوعية.. والله الموفق.
مراجع البحث. للدكتور حامد الفقى
1- التأخر الدراسي أحمد ذكى صالح
2- علم النفس التربوي حامد زهران
3- علم نفس النمو فؤاد البهى
4- الذكاء آرثرجيست وآخرين
5- علم النفس التربوي ترجمة إبراهيم حافظ وآخرين(17/201)
مملكة النبات كما يعرضها القرآن ويصفها
بقلم الدكتور/ حامد صادق قنيبي
النبات في عالمنا الفسيح لسان من ألسنة التقديس والتسبيح للخالق جل جلاله، وهو من جملة بدائع القدرة الإلهية في المخلوقات، من حيث إيجاد الأشجار والثمار والحبوب والبقول والأزهار، والتأمل في كيفية تكوينها وجميل صنيعها، مما يقوي في الإنسان عقيدة الإيمان برب السماوات والأرض وجميع الكائنات ...
وإذا كان عالم النبات صفحة في كتاب الله المنظور فإننا نشهد فيه صورة الحياة؛ في حركتها وانتقالها، وفي مراحلها وأطوارها، وفي جمالها المونق البديع الألوان والأشكال، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ} [1] . وقال أيضا: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [2] .
هاهو ذا القرآن يلفت البصائر والأبصار إلى سر الحياة ومنشأ النبات وتعدده كما يحدثنا أن الزرع والنبات والشجر إنما ينشأ نتيجة تفاعل الماء والتراب والبذور، قال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى، وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى، فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [3] .(17/202)
فالله هو الذي خلق عالمنا كله؛ فسواه تسوية تامة كاملة لا عوج فيها ولا اضطراب ولا نقص ولا زيادة، بل كل شيء فيه في وضعه الصحيح، يؤدي الغرض الذي من أجله خلق؛ فهو {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} : أي قدر لكل حي ما يصلحه مدة بقائه، وهداه وعرفه وجه الانتفاع بما فيه من منفعة له، {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} أي أنبت النبات جميعه، وما من نبت ينبت إلاّ وهو يصلح أن يكون مرعى لحيوان ما، ثم بعد ذلك أنبت النبات {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} ، والغثاء: هو الهشيم أو الهالك البالي، والأحوى: الذي يميل لونه إلى لون السواد [4] .
{وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى، فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى..} مثال على كمال الخلق والتسوية والهداية، والغثاء الأحوى إنما هو الفناء والإماتة وإزالة الحياة فكيف ذلك؟.. وهنا نقف وقفة قصيرة مع العلم الحديث لننظر ماذا قال هنا:
{فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} أي جعله بعد خضرته يابساً أسود.
وهل هناك نبات إذا جف صار يابسا أسود؟ لا يوجد فيما نعلم نبات هكذا؟
إذن فكيف أخرج الله تبارك وتعالى المرعى ثم جعله يابساً أسود، كيف ومتى.. ألا ينطبق هذا كل الانطباق على الفحم الحجري الذي تكوّن معظمه في حقب الحياة القديمة حينما ظهر النبات غير المزهر والسرخسيات بكثرة عظيمة، ثم تراكمت فوقها في بعض الجهات رواسب أخرى فتحولت إلى فحم حجري مع طول الزمن وارتفاع الضعط والحرارة؟!.. نعم، وهذا هو الغثاء الأحوى الذي تكلم عنه القرآن الكريم، وعلله فأصاب وأوجز؛ قال وأصاب في وقت كانت فيه مثل هذه الحقائق غريبة على عقول البشر، قال هذا فسبق العلم بقرون عديدة، أفليس هذا إعجازا؟.. بلى والله إنه نعم الإعجاز [5] .(17/203)
ونعلم أن أوّل النبات كانت الأعشاب والمراعي، وما من نبات إلا وهو صالح لخلق من خلق الله؛ فهي هنا أشمل مما نعهده من مرعى أنعامنا؛ فالله خلق هذه الأرض وقدّر فيها أقواتها لكل حي يدب فوق ظهرها، أو يختبئ في جوفها، أو يطير في جوها.
والمرعى يخرج في أول أمره خضرا، ثم يذوى فإذا هو غثاء، أميل إلى السواد فهو أحوى، وهو في كل حالاته صالح لأمر من أمور هذه الحياة بتقدير الذي خلق فسوّى وقد ر فهدى..
ثم يوقفنا التوجيه القرآني على أمسّ الأشياء إلى الإنسان، وهو طعامه وطعام أنعامه، وما وراء ذلك من تدبير الله وتقديره له: {فَلْيَنْظُرِ الأِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً، ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً، وَعِنَباً وَقَضْباً [6] ، وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً، وَحَدَائِقَ غُلْباً [7] ، وَفَاكِهَةً وَأَبّاً [8] ، مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [9] .
جاء في الكشاف (والحبّ: كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما، والقضب: الرطبة، والمقضاب أرضه، وسمى بمصدر قضبه إذا قطعه؛ لأنه يقضب مرة بعد مرة، {وَحَدَائِقَ غُلْباً} يحتمل أن يجعل كل حديقة غلباء فيزيد تكاثفها وكثرة أشجارها وعظمها، كما تقول: حديقة ضخمة، وأن يجعل شجرها غلبا: أي عظاما غلاظا، والأب: المرعى؛ لأنه يؤب، أي: يؤم وينتجع، والأب والأم أخوان [10] .
فالآيات السابقة بيان لقدرة الله وعظمته في الإبانة عن منشأ النبات وتعدده، والارتباط الوثيق بين الحيوان والنبات؛ فالكائن الحي لا يتغذى إلا من أصله الذي تكون منه، ولذا أمر الإنسان أن يتدبر قصة طعامه، الذي هو ألصق شئ به، وسيجد أنه من الطين والماء.
إن الله صبّ الماء من السماء صبّا، ثم شق الأرض بجذر النبات، شقّه شقّا فأنبت فيها حبّا وعنبا وقضبا.(17/204)
وصبّ الماء في صورة المطر حقيقة يعرفها كل إنسان في كل بيئة، وفي أي درجة كان من درجات المعرفة والتجربة، والله الذي لا شريك له هو الذي صبّ الماء، وهو الذي قدّر أن يكون الماء العامل الأول في خلق كل نبات، ولنا عود لهذا الموضوع بعد قليل.
ثم تأتي المرحلة التالية لصبّ الماء، وهى شق الأرض شقا بجَذر النبات؛ لتتكون الجذور الممتدة خلال التربة، أو أن يشق النبت تربة الأرض شقا بقدرة الله الخالق، وينمو على وجهها، ويمتد في الهواء فوقها، وربما شقت النبتة الصفراء الملتوية الهشة الأرض الصلبة الجافة، أو الصخرة العاتية نافذة إلى أعلى مكوّنة الساق والأوراق.
إذن على الإنسان أن ينظر إلى طعامه الذي به قوامه، كيف تفضل الله به عليه؛ فصار في أشد الحاجة إليه، وكيف حوّل الله له بعض عناصر الأرض طعاما هنيئا في شكل جميل ولون جذاب، وطعم مستساغ حلو المذاق.
وجعل الله هذا الأصل الواحد أزواجا وأشكالا، من حيث هو مأكول كالقمح والذرة والفول وغيرها من البقول، أو هو فاكهة لذيذة كالعنب والنخيل، وغير هذا كثير مما يؤكل قضبا كالقثاء والتفاح، وهذه الحدائق الفيح الملتفة الأغصان، وهذه السهول الخضر.. كلها متاع للإنسان والأنعام.
والنبات إنما ينشأ من تراب وماء، والله هو الذي أوجد الماء، وأنزله من السماء بنظام وقدر موزون، وقد تكرر ذكر الماء كثيرا في القرآن الكريم في صدد الحياة والإنبات قال تعالى:(17/205)
- {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [11] .
- {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً، لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} [12] .
- {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُور} [13] .
- {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى، كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لأُولِي النُّهَى، مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [14] .
- {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [15] .(17/206)
- {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [16] .
- {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ، فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ} [17] .
- {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [18] .
إن الله هو الذي يرسل الرياح مبشرات برحمته، والرياح تهبّ حاملة للسحاب وفق النواميس الكونية، ويصرفها عمن يشاء من عباده، فإذا أنزل الماء منها على بلد ميت أحياها بأمره جل جلاله، وأخرج الله به من كل الثمرات رزقا لكم، ومتاعا إلى حين.(17/207)
ودور الماء الظاهر في إنبات كل شئ دور واضح يعلمه البدائي والمتحضر، ويعرفه الجاهل والعالم.. ولكن دور الماء في الحقيقة أخطر وأبعد مدى من هذا الظاهر الذي يخاطب به القرآن الناس عامة، فقد شارك الماء ابتداء - بتقدير الله - في جعل تربة الأرض السطحية صالحة للإنبات، إذا صحت النظريات التي تفترض أن سطح الأرض كان في فترة ملتهبا، ثم صلبا لا توجد فيه التربة التي تنبت الزرع، ثم يتعاون الماء والعوامل الجوية على تحويلها إلى تربة لينة [19] ، ثم ظل الماء يشارك في إخصاب هذه التربة، وذلك بإسقاط "النتروجين - الأزوت" من الجو كلما أبرق فاستخلصت الشرارة الكهربائية التي تقع في الجو النتروجين الصالح للذوبان في الماء، ويسقط مع المطر؛ ليعيد الخصوبة إلى الأرض.. وهو السماد الذي قلد الإنسان القوانين الكونية في صنعه الآن بنفس الطريقة! وهو المادة التي يخلو وجه الأرض من النبات لو نفدت من التربة [20] .
والآيات الكريمة السابقة من سورة طه والأنعام والزمر والنحل والمؤمنون.. وغيرها تشير إلى كثير من خصائص النبات.
الآية الكريمة من سورة الأنعام توضح معنى علميا (وهو أن الماء ينبت البذور؛ فتخرج أجنة النبات من دور الركود، وتخصص أجزاء منه للأوراق في إنتاج المادة الخضراء، وهى اللازمة لتكوين المادة الغذائية داخل عروق النبات؛ فتتكون البذور والثمار) [21] .(17/208)
والنبات كما بينا يبدأ حياته في الغالب بذرة أو نواة توضع في الأرض وتسقى بالماء، ثم تنفلق ويخرج منها جذير يمتد إلى أسفل، وسويق يمتد إلى أعلى، وهو ما عبّر عنه القرآن الكريم بقوله: {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً} [22] ، وهذا الدور من حياة النبات يمكن أن يسمى دور الإنبات، وفيه تنشق الأرض عن النبتة الصغيرة ذات الورقتين الخضراوين، وفيه لا تأخذ البذرة أو النواة من خارج الأرض إلاّ الماء والأكسجين، أما ما عدا ذلك من الغذاء اللازم لتكوين الجذير والسويق والورقتين فتستمد مما أودع الله الحب والنوى من مواد عضوية كالنشا، قدّرها الله بحيث تكفى لتكوين تلك الأعضاء، وعلى الجذير والورقتين يتوقف غذاء النبات بعد ذلك؛ فالجذير يمتص الماء وما فيه من أملاح ذائبة في الأرض، والوريقات الخضر تقوم بعمليتي التنفس والتمثيل الخضري [23] .
وتعرف هذه العملية (بالتمثيل الكربوني) ؛ يدخل ثاني أكسيد الكربون من الجو إلى النبات عن طريق الثغور، فيقابل المادة الخضراء والماء، وتتكون من الكربون مواد الغذاء بفعل الحرارة والضوء، أما طريقة تكوين هذه المواد من غاز ثاني أكسيد الكربون، فهي عملية كيماوية معقدة، لم يقل العلم عنها إلا أن وجود المادة الخضراء والماء والحرارة، ينتج عنها تغييرات تنتهي بتكوين المواد الغذائية، ولا يتم إلا في الضوء، ولذا فهي تسمى أيضا (بالتمثيل الضوئي) ، ويقرر العلم أن هذه العملية هي أصعب وأعجب عملية تقوم بها الحياة، ولا يمكن لأي تركيبات أو أجهزة أن تقوم بمثل ما تقوم به ورقة خضراء في أي نبات [24] .
والمادة الخضراء التي ورد ذكرها في الشرح الآنف الذكر هي ما أشارت إليه الآية الكريمة بكلمة {خَضِراً} ، وإخراج هذا (الخَضِر) - أي المادة الخضراء - يأتي بعد إخراج النبات من الماء، وإذا تابعنا عملية خَلق النبات حسب تسلسلها في آية الأنعام - 99 - وجدناها موضحة بعوامل خلق ثلاثة، وهي كما يأتي:(17/209)
1- عامل الخلق الأول لكل النبات: هو الماء؛ {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْء} .
2- عامل الخلق الثاني: هو المادة الخضراء التي تشير إليها الآية بكلمة {خَضِراً} ؛ {فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً} .
3- عامل الخلق الثالث: وهو إخراج الحب والثمر المتباين والمختلف حجما وشكلا، بين قمح وعنب ورمان وزيتون ... الخ. قال تعالى: {نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} [25] .
والحبّ المتراكب كالسنابل وأمثالها، والقنوان جمع (قنو) ، وهو الفرع الصغير، وفي النخلة هو (العذق) الذي يحمل الثمر، ولفظة {قِنْوَانٌ} ووصفها {دَانِيَةٌ} يشتركان في إلقاء ظل لطيف أليف، وظل المشهد كله ظل وديع حبيب..، {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} .. {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ} .. هذا النبات كله بفصائله وسلالاته - {مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} - أي: (مشتبها في الخلق مختلفا في الطعم) [26] ، أو (بعضه متشابه وبعضه غير متشابه في القدر واللون والطعم) [27] ، {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} .. انظروا بالحس البصري والقلب اليقظ، انظروا إليه في ازدهاره، وازدهائه عند كمال نضجه، انظروا إليه واستمتعوا بجماله.. لا يقول هنا: كلوا من ثمره إذا أثمر، ولكن يقول: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} ؛ لأن المجال هنا جمال ومتاع، كما أنه مجال تدبر في آيات الله، وبدائع صنعته في مجال الحياة [28] .(17/210)
والآية الكريمة من سورة الزمر - {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ ... } الآية - توجه الأنظار للتأمل والتدبر في ظاهرة تتكرر في أنحاء الأرض، حتى لتذهب بجدتها وما فيها من عجائب في كل خطوة من خطواتها..؛ فهذا الماء النازل من السماء.. ما هو وكيف نزل؟.. إننا نمر بهذه الخارقة سراعا لطول الألفة وطول التكرار، إن خلق الماء في ذاته خارقة، ومهما عرفنا أنه ينشأ من اتحاد ذرتَيْ أيدروجين بذرة أكسوجين تحت ظروف معينة؛ فإن هذه المعرفة خليقة أن توقظ قلوبنا إلى رؤية يد الله التي صاغت هذا الكون بحيث يوجد الأيدروجين ويوجد الأكسوجين، وتوجد الظروف التي تسمح باتحادهما، وبوجود الماء من هذا الاتحاد، ومن ثم وجود الحياة في هذه الأرض.. ولولا الماء لما وجدت حياة، إنها سلسلة من التدبير حتى نصل إلى وجود الماء ووجود الحياة، والله من وراء هذا التدبير وكله مما صنعت يداه..
ثم نزول هذا الماء بعد وجوده، وهو الآخر خارقة جديدة ناشئة من قيام الأرض والكون وفق نواميس قدرها الله في هذا الكون، ودبر حركتها ونتائجها؛ فسمح بتكون الماء ونزوله [29] ، ثم تجيء الخطوة التالية لإنزال الماء: {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ} ..
سواء في ذلك الأنهار الجارية على سطح الأرض، والأنهار الجارية تحت طباقها مما يتسرب من المياه السطحية، ثم يتفجر بعد ذلك ينابيع وعيونا، أو يتكشف آبارا؛ ويد الله تمسكه فلا يذهب في الأغوار البعيدة التي لا يظهر منها أبدا!!. . {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} . .(17/211)
والحياة النباتية التي تعقب نزول المطر وتنشأ عنه، خارقة يقف أمامها جهد الإنسان حسيرا، ورؤية النبتة الصغيرة وهى تشق حجاب الأرض عنها، وتزيح أثقال الركام من فوقها، وتتطلع إلى الفضاء والنور والحرية، وهى تصعد في الفضاء رويدا رويداً. . هذه الرؤية كفيلة بأن تملأ القلب المفتوح ذكرى، وأن تثير فيه الإحساس بالله الخالق المبدع الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، والزرع المختلف الألوان - في البقعة الواحدة، أو النبتة الواحدة، أو الزهرة الواحدة - إن هو إلاّ معرض لإبداع القدرة، يشعر الإنسان بالعجز المطلق عن الإتيان بشيء منه أصلا!!. .
وفي ضوء هذا يتبين لنا بعض أسرار تكرار القرآن الكريم لحديث الماء ونزوله، وما يترتب عليه من أثر عميق في الحياة بما ينبت من الزروع والحدائق، المختلفة الأنواع والأشكال [30] .
ومن مشاهد الأرض أننا نراها ساكنة لا حركة فيها ولا حياة، فإذا نزل عليها الماء اهتزت وانتفخت وأنبتت من كل زوج بهيج، قال تعالى:
{وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [31] ..
وقال أيضا: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [32] ..
واهتزاز الأرض تحركها بالنبات، وإحياؤها بعد موتها، ومعنى (ربت) أي: ارتفعت لما سكن فيها من الثرى، ثم أخرجت من جميع ألوان الزروع والثمار المختلفة الألوان والطعوم والروائح والأشكال والمنافع [33] .(17/212)
(والخشوع: التذلل والتقاصر؛ فاستعير لحال الأرض إذا كانت قحطة لا نبات فيها، كما وصفها بالهمود في قوله تعالى: {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً} .. وهو خلاف وصفها بالاهتزاز، والربو هو الإنتفاخ إذا أخصبت وتزخرفت بالنبات، كأنها بمنزلة المختال في زيه، وهى قبل ذلك كالذليل الكاسف البال في الأطمار الرثّة. وقرئ (وربأت) أي: ارتفعت؛ لأن النبت إذا هم أن يظهر ارتفعت له الأرض) [34] .
وهكذا وصف الله تعالى الأرض بأنها ميتة، وأنه يحييها بالماء الذي يجعلها تهتز وتربو، أى: تتحرك وتنمو، وهذه الحركة العجيبة سجلها القرآن الكريم قبل أن تسجلها الملاحظة العلمية بمئات الأعوام؛ فالتربة الجافة حين ينزل عليها الماء تتحرك حركة اهتزاز، وهى تتشرب الماء وتنتفخ فتربو ثم تحيا بما تنبت من كل زوج بهيج، وهل أبهج من الحياة وهي تتفتح بعد السكون، وتنتفض بعد الهمود.
وهكذا نجد أن القرآن قد عبر عن الأرض قبل نزول الماء، وقبل تفتحها بالنبات، مرة بأنها: (هامدة) ومرة بأنها (خاشعة) ، والتعبيران يوحيان بالسكون الذي ما يلبث أن يهتز ويتحرك إذا ابتلت الأرض بالماء
.وبذلك ترتسم لنا معالم الصورة، ويبدو لنا ما خفي عن إدراكنا للحركة الدائبة تحت سطح الأرض؛ فنعلم أن كل المراعي الخضر الزاهرة الوادعة في مضهرها، إنما تخفي تحتها حياة وحركة ونموا بما يمتد في باطن الأرض من جذور، وبما ينبت فوقها من نبات يتغذى منها ويعلو ويثمر.(17/213)
قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ، وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ؛ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ} [35] ، وقال تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [36] .
فالماء حين يصيب الأرض يبعث فيها الخصب، وتموج صفحتها بالحياة المنبثقة النامية.. ورؤية الزرع النامي، وتفتح الزهر، ونضج الثمر اليانع، وتزين الأرض بمختلف الألوان مشاهد تلفت العين والقلب إلى القدرة المبدعة؛ ففي كل لحظة يتحرك برعم ساكن من جوف حبة أو نواة فيفلقها ويخرج إلى وجه الحياة، وفي كل لحظة يجفّ أعواد وشجرة تستوفي أجلها فتتحول إلى هشيم أو حطام، ومن خلاَل الهشيم والحطام توجد الحبة الجديدة الساكنة المتهيئة للحياة الإنبات، ويوجد الغاز الذي ينطلق في الجو أو تتغذى به التربة، وتستعد للإخصاب، وفي كل لحظة تدب الحياة في نبات أو حيوان، ويتم التحول من خاصية إلى أخرى.. [37] ، وإنها لمعجزة لا يدري سرها أحد، ولا يملك صنعها إلا خالق الأكوان؛ ولذا حرص القرآن على توجيه القلب البشري لهذا المشهد المتكرر: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [38] .(17/214)
فهذا إثبات قاطع أن الأرض الميتة تخرج النبات الحيّ يتغذى وينمو ويثمر ويموت، جاء في الكشاف: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} : أي الحيوان والنامي من النطف والبيض والحبّ والنوى، ومخرج هذه الأشياء الميتة من الحيوان والنامي، فان قلت: كيف قال مخرج الميت من الحي بلفظ اسم الفاعل بعد قوله يخرج الحي من الميت؟ قلت: عطفه على فالق الحب والنوى بالنبات والشجر النامي من جنس إخراج الحيّ من الميت؛ لأن النامي في حكم الحيوان، ألا ترى إلى قوله: {يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} ، {ذَلِكُمُ اللَّهُ} أي ذلكم المحيى والمميت هو الله الذي تحق له الربوبية) [39] .
فالحبّ الساكن، والنوى الهامد وهو يفلق باطن الأرض ليخرج منه نبات حي، مشهد يتكرر في كل لحظة.. وفي الشجرة الصاعدة، والنبتة النامية تعبير عن معجزة الحياة نشأة وحركة، وعَلى سرٍّ مكنون لا يعلم حقيقته إلا الله.. وتقف البشرية بعد كل ما رأت من ظواهر الأشياء وأشكالها، وبعد ما درست من خصائصها وأطوارها.. تقف أمام السرّ المغيب كما وقف الإنسان الأول؛ تدرك الوظيفة والمظهر، وتجعل المصدر والجوهر، والحياة ماضية في طريقها، والمعجزة تقع في كل لحظة!!. .
ولعل في تنويع نسق التعبير بين (يحرج) و (مخرج) إيقاظا للحس حتى يلتفت للقدرة الباهرة، وهو يعرض آيات الله في الكون.
قال تعالى وهو أصدق القائلين: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [40] .(17/215)
الآيات الكريمة هنا تطوف بالقلب البشري في مجالات وآفاق متعددة، وتعرض من مشاهد الكون: الأرض الممدودة وما فيها من رواسي ثابتة، وأنهار جارية، والليل إذ يغشاه النهار، والجنات والزرع والنخيل في مختلف الأشكال والطعوم والألوان، ينبت في قطع من الأرض متجاورات، ويسقى بماء واحد.
وأول المشاهد المعروضة هذه الأرض المبسوطة على امتداد البصر، ولا يهمّ ما يكون شكلها الكلي في حقيقته؛ إذ إن مدّ الأرض وبسطها ليس دليلا على عدم كرويتها؛ إذ هي مبسوطة ممدودة في نظرنا لنعيش عليها، ويقابل مدّ الأرض إرساء الجبال مع تحركها ودورانها.
وعلى هذه الأرض معارض مختلفة، تتفاوت فيها أنظار الناظرين: بين النظرة العابرة التي لا ترى إلا الآفاق الفسيحة الممتدة، والنظرة المتأملة التي تنفذ إلى تدبر عظمة الخالق، وجلال عمله، وروعة حكمته مما يملأ القلب خشوعا، وولاء، وحمدا للخلاق العظيم.. رب العالمين..
وقوله: {جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أي: (خلق فيها من جميع أنواع الثمرات زوجين حين مدّها ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوعت، وقيل أراد بالزوجين الأسود والأبيض، والحلو والحامض، والصغير والكبير وما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة) [41] .
ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن المقصود بالزوج في مثل قوله تعالى: {أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [42] ، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [43]- الزوج هو النوع، أي: نوع بهيج أو كريم، وعندما يكون الغرض من الزوج الذكر والأنثى يقول تعالى: {زَوْجَيْنِ} ؛ لأن الزوجين هما النوعان؛ نوع الذكر ونوع الأنثى، ومنه قوله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [44] .(17/216)
وقد دل علم الحياة على أن الكائنات الحية تنقسم إلى ذكر وأنثى، سواء في الحيوان والنبات، وقد يكون الذكر والأنثى في الزهرة الواحدة أو الشجرة الواحدة أو في شجيرات، ويتم التلقيح إما بالريح أو الطير، وسبحان الله الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى.
وخلق الأزواج ظاهرة مطردة في الأحياء كلها، النبات فيها كالإنسان، ومثل ذلك غيرهما.. قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [45] .
فنعم الخالق العظيم الذي خلق الأزواج من كل شيء.. من أنفسنا كبشر، ومن الحيوان والطير والنبات.. ومن الأشياء التي تحيط بنا من ماء وهواء وسحاب ومن الذرات التي لا نراها بالعين المجردة.. وإنها لوحدة تشي بوحدة اليد المبدعة، التي توجد قاعدة التكوين مع اختلاف الأشكال والأحجام والأنواع والأجناس والخصائص والسمات، في هذه الأحياء التي لا يعلم علمها إلا الله، وقد أصبح معلوما أن الهواء مكوّن من التزاوج بين الأكسجين وأكسيد الكربون، وأن الماء مكون من التزاوج من الهيدروجين والأكسجين.. وأن دم الإنسان يكون من التزاوج بين الكريات الحمر والكريات البيض.. وأن الذرة أصغر ما عرف من أجزاء المادة مؤلفة من زوجين مختلفين من الإشعاع الكهربي: سالب وموجب، يتزاوجان ويتحدان.. كذلك شوهدت ألوف من الثنائيات النجمية، تتألف من نجمين مرتبطين يشد كلاهما الآخر، ويدوران في مدار واحد كأنما يوقعان على نغمة رتيبة [46] .
فالتزاوج بين كل شئ أمر نوّه عنه القرآن الكريم قبل أن تبرهن عنه القرائن العلمية الحديثة بقرون بعيدة.
وكثيرا ما يتساءل الإنسان عن السبب الذي من أجله خلق الله حشرات غريبة، وعن فوائدها.. ألا إنه سيقف مشدوها كما وقف أحد العلماء عندما عرف دور هذه الحشرات في نقل بذور اللقاح لإتمام عملية التزاوج في النبات فأقر بأن هذا العمل من معجزات الله [47] .(17/217)
وقوله: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ..} أي: (بقاع مختلفة مع كونها متجاورة متلاصقة طيبة إلى سبخة، وكريمة إلى زهيدة، وصلبة إلى رخوة وصالحة للزرع لا الشجر إلى أخرى على عكسها، مع انتظامها جميعا في جنس الأرضية، وذلك دليل على قادر مزيد لأفعاله على وجه دون وجه، وكذلك الزروع والكروم والنخيل النابتة في هذه القطع مختلفة الأجناس والأنواع وهي تسقى بماء واحد، ونراها متغايرة الثمر في الأشكال والألوان والطعوم والروائح، متفاضلة فيها. [48]
فهذه المشاهد الأرضية معارض متعددة، تثير في الإنسان رغبة التطلع إليها بحواسه جميعا.. برغم تأكيد النص على وجوب التطلع في ملكوت الله، والتدبير فيما أبدع وصور، ولن يخطئ العقل طريقه إلى الله إذا هو وقف متجردا بين يدي تلك الآيات.. ففي الأرض قطع متجاورات ولكنها غير متماثلة: منها الطيب الخصب، ومنها السبخ النكد، ومنها المقفر الجدب، ومنها الصلد، وكل واحد من هذه وتلك أنواع وصنوف وألوان ودرجات، ومنها العامر والغامر، ومنها المزروع الحي والمهمل الميت، ومنها الريان والعطش، ومنها ومنها ومنها.. وهي كلها في الأرض متجاورات، ولكنها ليست متساوية في الخصب أو الخواص..
ثم قال تعالى: {وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ} .(17/218)
ولقد شاءت قدرة الله أن تفلح هذه القطع من الأرض وتزرع وتعمر بوساطة الإنسان، حتى يتألف منها ثلاثة أنواع من النبات: الكرم المتسلق العنب وما على شاكله، والنخل السامق بأنواعه، والزرع من بقول وحبوب وخضروات متشابهة وغر متشابهة، حيث تكون كلها مجتمعة حدائق كالجنات، بما فيها من نبات يسبح باسم الله العلي القدير، وذلك النخيل صنوان وغير صنوان، منه ما هو عود واحد ومنه ما هو عودان أو أكثر في أصل واحد، وكله {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} والتربة واحدة، ولكن الثمار مختلفات الطعوم والأحجام، والألوان والخواص الأخرى، ومنها ما هو مختلف كل الاختلاف في نواح وصفات متعددة، وهنا تتجلى عظمة الخالق في جعل حبة الحنظل إذا وضعت في جوف الأرض تطلب من المعادن ما ينمى مرارتها، وجعل حبة البطيخ تأخذ من بين عناصر الأرض ما ينمي حلاوتها، وكلتاهما من تربة واحدة وهيا تسقيان بماء واحد [49] .
هذه الجولة في مشاهد الكون تعرض مشاهد عدة تشكِّل لوحة فنية رائعة. تصور أرضا مبسوطة، وجبالا راسية، وأنهارا جارية، وأزواجا من الثمرات، وقطعا من الأرض متجاورات ومتباينات، ونخيلا صنوانا وغير صنوان، وثمارا مختلفة الطعوم والزروع والنخيل والأعناب!.. كلها توقظ القلب، وتنبه العقل، وتؤكد روعة التدبير، وقدرة الخالق سبحانه الذي أخرج كل نبت في هذه الأرض، وفي خلقه دقة وحكام وتقدير لا يزيد أو ينقص، وقد وصفه القرآن الكريم بأنه {مَوْزُونٍ} ، وفيه دليل على التناسق في الخلق الدال على الحكمة الإلهية البالغة، والقدرة العجيبة التي تعين كلى شئ بمقدار، وتزن كل موجود بميزان، بحيث تتحقق فيه المنفعة التي أرادها الله لعباده؛ قال تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ، وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} [50] .(17/219)
وقوله: {مَوْزُونٍ} (وزن ميزان الحكمة، وقدر بمقدار يقتضيه لا يصلح فيه زيادة ولا نقصان) [51] ؛ ولذلك اتبعه بقوله: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} ؛ لأن ذلك يحسب بحسب الانتفاع بعينه.
وقال الراغب الأصفهاني: (وقيل: بل ذلك إشارة إلى كل ما أوجده الله تعالى، وأنه خلقه باعتدال، كما قال: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [52] .
والحقيقة هي أننا نجد قرينة دالة على معنى التقدير بمقدار معلوم في كلمة {مَوْزُونٍ} ، هذه القرينة نفهمها من سياق الآيات الكريمة بعد ذلك، وهي قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [53] ؛ فالآية ظاهرة الدلالة على أن ما يتفضل الله به إنما هو وليد الحكمة في الخلق والتقدير والاتزان؛ فليس من شئ ينزل جزافا، وليس من شئ يتم اعتباطا.(17/220)
ولعلنا بعد هذه الجولة في دنيا النبات ومملكته، لنقف عاجزين عن الإحاطة بمشاهده المتعددة، ومروجه الخضر التي تأخذ بالقلوب والأبصار لجمالها.. إنه عالم مترامي الأطراف، غني بشتى أنواع النبات والأشجار وفصائل النبات والأزهار ووافر الثمرات والغلات، التي يتغذى عليها الملاين من ذرية آدم وحواء، وما لا ينحصر من المخلوقات المتنوعة التي تعيش وتدب في الأرض، أو تسبح في الفضاء، أو تغوص في قاع الماء، رأينا الحب والنوى يحفظ الحياة داخل البذرة، ثم ينقل هذه الحياة إلى جذيرها وسويقها، ورأينا في عملية الإنبات تلك الشعب والشعيرات الهينة اللينة تخترق الأرض الصلبة، وتشق طريقها الصعب الوعر، باحثة عن غذائها وعامل نمائها؛ فتعطي الثمر الكبير الحجم والوزن المتفاوت والثمر المختلف شكلا وملمسا ولونا ورائحة وطعنا ومذاقا، وكلها بديع التنسيق والتكوين، وهي تسقى بماء واحد وتتغذى من تربة واحدة.. {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ} [54] .
ورأينا في النبت الموزون مع الاختلاف والتعدد دقة الخلق وأحكام التقدير، {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} [55] .
نعم لقد رأينا جملة النبات تتفاوت في تركيبها وقدراتها، غير أننا قد رأينا فيها جميعا قدرة الخالق، فسبحان من أوجد الوجود ونظمه، وخلق كل شئ وألهمه، وهدى كل حي وعلمه. .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الزمر: 21.
[2] النمل: 60.
[3] الأعلى: 1-5.(17/221)
[4] تفسير جزء عم ص 52 بتصرف. جاء في لسان العرب أن الغثاء هو اليابس، والأحوى من الحوة وهو سواد إلى الخضرة أو حمرة إلى السواد، وقد كثر في كلام العرب حتى سموا كل أسود أحوى.
[5] القرآن والعلم د/ أحمد محمود سليمان: ص 66- 67، دار العودة، بيروت، الطبعة الثانية 1974.
[6] القضب: الرطب أو الثمار الغضة التي يتكرر قطف أشجارها أو العلف على اختلاف الأقوال.
[7] غلبا: كثيفة الشجر.
[8] الأب: المرعى على أوجه الأقوال
[9] عبس: 24- 32
[10] تفسير الزمخشري: 4/220، طبعة الحلبي، القاهرة 1966م.
[11] لأعراف: 57- 58.
[12] الفرقان: 48- 49.
[13] فاطر: 9.
[14] طه: 53- 55.
[15] الأنعام: 99.
[16] النحل: 10-11.
[17] المؤمنون: 18- 20
[18] الحج: 63.
[19] أنظر العلم يدعو للإيمان ص76، لكريسي مريسون، ترجمة محمود الفلكي، النهضة المصرية بالقاهرة: ط 6. 1971م.
[20] في ظلال القرآن:3/324
[21] المنتخب في تفسير القرآن الكريم: ص 189، طبعة القاهرة 197 م.
[22] عبس: 26.
[23] الإسلام في عصر العلم: ص 6 5 34-357 بتصرف/ محمد أحمد الغمراوي، القاهرة، دار الإنسان، 1973م.
[24] الله والعلم الحديث ص 475، عبد الرزاق نوفل، الناشرون العرب القاهرة: 1971م.
[25] الأنعام: 99.
[26] تفسير الطبري: 11/578 تحقيق محمود محمد شاكر، دار المعارف.
[27] تفسير الزمخشري: 2/40.
[28] انظر منهج الفن الإسلامي محمد قطب ص 218- دار القلم.
[29] انظر: في ظلال القرآن 7/135 وما بعدما.
[30] انظر في هذا البحث ص 5.
[31] الحج: 5.
[32] فصلت: 39.
[33] انظر تفسير ابن كثير 3/208 و4/102.
[34] سير الزمخشرى 3/454.
[35] يس: 33.
[36] الروم: 19.
[37] انظر: في ظلال القرآن 6/446ة وما بعدها.(17/222)
[38] لأنعام: 95.
[39] تفسير الزنحثسرى 3/72.
[40] الرعد: 3 -4.
[41] تفسير الز مخشرى 2/349.
[42] الحج: 5.
[43] الشعراء: 7.
[44] الذاريات: 49.
[45] يس: 36.
[46] انظر: مع الله في السماء: ص 174، أحمد ذكى، دار الهلال القاهرة.
[47] انظر: الله والعلم الحديث: ص 99.
[48] تفسير الزمخشري: 2/349.
[49] انظر: آيات الله في الآفاق ص73 وما بعدها.
[50] الحجر: 19-70
[51] تفسير الزمخشري 2/389.
[52] معجم مفردات ألفاظ القرآن: مادة (وزن) .
[53] الحجر: 21.
[54] النمل: 60.
[55] الحجر: 19.(17/223)
العدد 44
فهرس العدد
1- كلمة العدد - لا منجاة إلا بالإسلام: لفضيلة الشيخ سعد ندا
2- في رحاب القرآن الكريم تفسير آية من سورة النساء: لفضيلة الشيخ أبو بكر الجزائري
3- مع الهدي النّبوي - منزلة السنة في التشريع الإسلامي: فضيلة الشيخ محمد أمان بن على الجامي
4- في ظلال العقيدة الإسلاميّة - مفهوم الربوبية (الحلقة الرابعة والأخيرة) : لفضيلة الشيخ سعد ندا
5- مرتكزات التربية الإسلامية: لفضيلة الدكتور عباس محجوب
6- من مشاهد الإعجاز النفس في القرآن الكريم: لفضيلة الدكتور علي البدري
7- الدعوة الإسلامية في الهند: لفضيلة الدكتور محيي الدين الألوائي
8- النفاق وَأضرَاره: لفضيلة الشيخ علي الحذيفي
9- المثالية والواقعية في الإسلام: لفضيلة الدكتور جمعة علي الخولى
10- الذكر وأثره في حياة المؤمن: لفضيلة الدكتور عبد الرحمن بله علي
11- من أبحاث فقه السنة - سنن الفطرة بين المحدثين والفقهاء: لفضيلة الدكتور أحمد علي طه ريان
12- قبسات من أخلاق النبوة: الشيخ محمد المجذوب
13- الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي: لفضيلة الدكتور عبد الرحمن العدوي
14- نماذج من الدعاة الصالحين (الحلقة الأولى) : الشيخ أبو بكر الجزائري
15- ترجمة البيهقي: لفضيلة الشيخ نايف هاشم الدعيس
16- الأفعال الملازمة للمجهُول بين النحويين واللغويين: لفضيلة الدكتور مصطفى أحمد النماس
17- مراجعة القول في مواضع في كتب النحو: لفضيلة الدكتور بابكر بدوي دشين
18- إليك مددت الكف: لفضيلة الدكتور عز الدين علي السيد
19- تنبيه وتحذير: لسماحة الرئيس العام لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
20- بيان من الرئاسة العامة للمجلس الأعلى العالمي للمساجد: رابطة العالم الإسلامي
21- تعقيب لا تثريب - السفينة الأولى: بقلم الشيخ محمد المجذوب
22- وقفة مع طب العيون وعظمة الخالق: لفضيلة الدكتور فكري السيد عوض
23- الأسنان ووظيفتها: الدكتور أحمد كرات
24- التدخين وأمراض القلب: لفضيلة الدكتور محمد علي البار
25- ليس كل ما في النهج من أمير المؤمنين: عباس محجوب
26- مختارات من الصحف
27- التبشير في أفريقيا
28- المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة يعقد دورته السابعة
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(17/224)
كلمة العدد
لا منجاة إلا بالإسلام
سعد ندا
عضو تحرير المجلة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. صلى الله عليه وسلم وبارك على عبده ورسوله، محمد وعلى آله وصحبه.. وبعد..
فإن الإنسان إذا كان هدفه في هذه الحياة أن يأكل، ويشرب ويتمتع بالملذات، ويربي الشحم واللحم فيتصدر بضخامته المجالس، ويباهي بجسمه الثقيل خفاف الأجسام، غير مدرك أن المرء كما يقولون بأصغريه قلبه ولسانه، إذا كان هدفه من حياته كذلك، ساعياً إلى تحقيق تلك القولة العميا:
إنما الدنيا طعام
وشراب ومنام
فإذا فاتك هذا
فعلى الدنيا السلام
فإنه بهذا يستوي مع الأنعام التي لا تعيش إلا لتأكل، وتشرب، وتنام، وتربي اللحم والشحم، ثم منها ما يساق إلى المجزر لينحر، ومنها ما يهلك على مدى الزمن.
وليس بمستغرب أن يوجد في الناس من هذه النوعية الكثير، بدليل وصف الله جل وعلا مجموعة من الناس بقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} (محمد) .(17/225)
ولقد عرف المؤمنون هذه الحقيقة، وربأوا بأنفسهم أن يكونوا بتلك المثابة، ودار كل منهم في فلك الإيمان يسعى في هذه الحياة مؤمناً ليحقق الهدف الإيماني الذي حدده له خالقه تباركت أسماؤه في قوله: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص) وجعل هدفه الآخرة، مستعيناً على طاعة الله والتزود لدار المُقَامَةِ بما يتبلغ به من الدنيا – لهذا كرمه الله في دنياه وآخره، ويشير إلى هذا قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} (الإسراء) .(17/226)
وحين نلقى نظرة على العالم اليوم، نجد أممه – إلا من رحم الله – تجعل سعيها، وكدها، ونصبها، وتصارعها، وأول أهدافها وآخرها، الحياة الدنيا، لذا ترى أفرادها يموج بعضهم في بعض: فيتصارعون في عنف، ويتناحرون بلا هوادة، ويتقاتلون بوحشية، ويجدُّ القوي ليبتلع الضعيف، ويخفُّ العَجِل ليلتهم المتأني، ويتحرك المتكلم ليأكل الصامت، كوحوش الغاب، لا شريعة تحكمها، ولا نظام يدبر أمرها، بل تضرب الفوضى بينها أطنابَها، وتعيش هكذا في فزع العدوان ورعب استباحة الحمى؛ وأضحت حياة الناس اليوم كمِرْجَلٍ محكِم الغطاء زاد غليانه، فأوشك أن يتفجر، وإذا انفجر توزع خطره على من حوله جميعاً، فأهلك من أهلك، وشوّه من شوّه، ومن عاش مُشَوَّهاً، عاش عيشة بئيسة يَئنُّ فيها مما ألَمَّ به وأصابه: في معتقده، أو في نفسه، أو في عقله، أو في عِرْضه، أو ماله، ويحاول أن يلتمس سبيلاً للنجاة، فلا يهتدي إليها، ذلك بأنَهُ كَبَّلَ نفسه بأغلال وآصار حسبها حريةً وتقدماً، لكنها في حقيقة أمرها دفن للنفوس في مقابر الحضارات الزائفة، إنها {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (النور) .
وما جرَّ الإنسان إلى هذا الشقاء إلا إعراضه عن هدى خالقه وشرعه الذي لا تطيب الحياة بدونه، وقد لَفَتَهُ ربنا سبحانه إلى هذه الحقيقة فقال: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} (طه) ..(17/227)
ولما أعرض الإنسان عن شرع خالقه سبحانه، لجأ إلى التشريع بنفسه، فأخذ يضع نظماً – تحكم حياته – نبعث من دخيلة نفسه الأمارة بالسوء {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي} (يوسف) ، نفسه الكفارة {إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم) ، نفسه التي جُبلت على العجلة وعدم التريث في الأمور {وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً} (الإسراء) .. نفسه التي تهوى الجدل {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} (الكهف) نفسه الجهولة {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} (الأحزاب) .. نفسه التي يملؤها الهلع فلا تقابل الأحداث بما ينبغي أن تقابل به {إن الإنسان خلق هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً. وإذا مسّه الخير منوعاً، إلا المصلين} (المعارج) .. نفسه التي تؤثر الدنيا العاجلة على الآخرة الآجلة لباقية {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} (القيامة) .. نفسه التي تسيطر عليها الأنانية وحب المال {كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} (الفجر) . نفسه التي تجهل ما تكسبه في الغد {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} (لقمان) .(17/228)
كيف إذن: والإنسان يحمل هذه النفس التي حوت تلك النقائص. وغيرها. أن يُشَرِّع للغد القريب والبعيد؟ أنه وضع نظماً تحكمه نبعت من نفسه التي بتلك المثابة، وأخذ يفكر: هل يجعل تلك النظم مبقية للأموال في أيدي الناس فتكون الحياة رأسمالية طاغية؟ أو يسلبها من أيديهم فتكون شيوعية أو اشتراكية باغية؟ هل يعاقب مرتكب جريمة الزنا أو يطلق سراحه؟ هل يجري السارق أو يعفو عنه؟ هل يقتل القاتل أو يكتفي بسجنه؟ هل يمنع الربا أو يبيحه بعد تغليفه بغلاف يسميه الفائدة؟ هل يسمح بتأسيس حانات الخمور؟ ويعفو عن السكارى والداعرين؟ هل يملأ البلاد طولاً وعرضاً بمواد مخدرة مفسدة للعقول بل ومذهبةً لها؟ فيرضى أمزجة المجرمين؟ ويشبع هوى الداعرين؟ هل يحمى المجرم الذي ينال منه مغنماً ولو على حساب دينه ويجعله منه في أقرب مكان؟ هل يوالي أعداء الله من اليهود والنصارى والشيوعيين والإشتراكيين الملاحدة ويلقى إليهم بالمودة ليثبتوا قدمه في موضعها الذي يجب؟ هل.. وهل.. وهل..؟ إنه حَسِب أن سيسعد بتلك النظم، لأنه يجاري بها حياة من حادَّ الله ورسوله ويسير إمعة وراء كل ناعق، فتعس وشقي.
{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} (المدثر) .
لقد أخذ يتخبط في دروب تلك النظم المظلمة، رغم أن المنقذ منه قريب، والعلاج لشقائه ناجع، والثمن في متناول كل إنسان، وصيدلية الدواء مفتوحة مصاريعها في كل ساعة من ليل أو نهار.
إن العلاج هو الإسلام، والإسلام وحده، ولا شيء سوى الإسلام..
الإسلام الذي أقام حدود الله بالقسط والحق، وبين أن هناك رباً خالقاً لا يعبد إلا هو، وإن هناك عبداً مخلوقاً لا ينبغي أن يوجه عباداته إلا لخالقه وحده.(17/229)
الإسلام الذي جعل أساسه عقيدة التوحيد الخالصة: توحيد الله عز وجل، وتوحيد شرعه الذي يوصل إليه، في معنى (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) بحيث لا يقبل أي عمل مهما كثر ومهما حَسُن دون أن يبني عليها، والذي لو مات الإنسان على غيرها لما غُفر له ألبتة، يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء) ..
الإسلام الذي جعل ذروة سنامه الجهاد في سبيل الله بالنفس والمال، يقول سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات) ..
الإسلام الذي يطهر النفوس ويربيها على الصفاء والبعد عن الإجرام في حق ربها، وفي نفسها، وفي حق غيرها من النفوس، حتى تلقى خالقها نظيفة غير ملوثة، فتسعد بالنعيم المقيم، يقول جل شأنه {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى، وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى، جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} (طه) .
الإسلام الذي يربط بين أفراده رباطاً أخوياً يفوق كل رباط – يقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات) .. ويجعل قلوبهم متراحمة تذل لبعضها وتعز على غيرها، وبذا وصفهم الله تعالى {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين} (المائدة) .
الإسلام الذي يجعل أفراده حين يصبغهم جميعاً صبغةً مؤمنةً واحدةً، كالبنيان المتماسك الذي يصمد أمام الهزات العنيفة "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً " (البخاري) ..(17/230)
الإسلام الذي يجعل في أفراده إحساساً مرهفاً يشعر بأدنى ألم يمس أي واحد منهم في أي بقعة من جوانب الأرض " مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى " (البخاري) ، ومن ثم يقف بجانبه دائماً: ينصره إن ظلم، ويحجزه إن تطاول: "أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً". قال: أنصره مظلوماً، فكيف أنصره ظالماً قال: "تحجزه عن ظلمه فذلك نصره " (البخاري) ..
الإسلام الذي يطهر مجتمع أفراده من دناءات الظن، والتجسس، والتحسس، والتنافس المذموم، والتحاسد، والتباغض، والتدابر، والظلم، والخذلان، والإحتقار، والتطاول على الأموال، والدماء والأعراض، والتعويل على مظاهر الأشكال والأجسام، والبيع على بيع الآخرين بما يوغر صدورهم، والهجر الذي يمزق عرى الأخوة ويفرق الأمة "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله تعالى، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: ماله ودمه وعرضه. إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. التقوى ها هنا.. التقوى ها هنا.. التقوى ها هنا – ويشير إلى صدره – ألا لا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً. ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث " (مسلم) .(17/231)
الإسلام الذي لم يعتد بعصبيات ولا ألوان ولا جنسيات ولا أوطان، ولم يجعل منها أساساً لوزن عمل صاحبها، وقربة من الله جل وعلا، بل أذاب كل تلك الإعتبارات جميعاً وصهرها في بوتقة الإسلام لتكون ركيزة التفصيل عند الله رب العالمين هي التقوى – فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات) . ومن ثم رأينا في الصحابة الكرام- أفضل قرون هذه الأمة- بلالاً الحبشي، وصهيباً الرومي، وسلمان الفارسي، أخاً للمؤمن القرشي، والهاشمي، وغيره من سادات العرب الذين آمنوا بالله ورسوله.
الإسلام الذي جمع أفراده تحت أمة واحدة، وصفها ربنا تعالى بقوله {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء) ، وحذرهم من الخلاف في الدين والتفرق في فهمه شيعاً متناحرة، فقال سبحانه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران) .. وقال {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (الأنعام) .. ولو أنه وجد اختلاف في الفهم- نتيجة لاختلاف العقول والأنظار- فإن ذلك لا ينبغي أن يؤدي إلى تشتيت الأمة، وبلبلة أفكارها، ثم إلى التطاحن والتقاتل، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه سلم: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر " (البخاري) .(17/232)
الإسلام الذي أوجب الإلتفاف حول إمام المسلمين، والسمع والطاعة له، وحرَّم الخروج عليه ما دام يحكم بكتاب الله تعالى. فعن يحي بن معين عن جدته أم الحصين قال: "سمعتها تقول: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً كثيراً، ثم سمعته يقول: "إن أُمر عليكم عبد مُجدَّع (حسبتها قالت: أسود) يقودكم بكتاب الله تعالى، فاسمعوا وأطيعوا " (مسلم) .. [1]
وحذر الإسلام من شق عصا الطاعة على الإمام، وإلا كان ذلك سبيلاً للخروج من الإسلام. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية " (مسلم) .. [2]
الإسلام الذي قرر أن المسلم الذي يحمل السلاح على المسلمين أو يغشهم ينخلع من الإسلام. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حمل علينا السلاح فليس منا، ومن غشنا فليس منا " (مسلم) .. [3]
الإسلام الذي قضى باستئصال من يريد تفريق جمع الأمة الإسلامية فعن عرفجة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله على الله عليه وسلم يقول: "إنه ستكون هِناتٌ، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه، كائناً من كان " (مسلم) .. [4](17/233)
الإسلام الذي لا يسمح لأفراده أن يوالوا الذين يعادون الله ويعادونهم ويستهزئون بدينهم. فيقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقّ} (الممتحنة) [5] .. ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ} (المائدة) [6] .. ويؤكد لهم أن وليهم الله ورسوله والمؤمنون، فيقول تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (المائدة) [7] .. ثم يطمئن نفوسهم بأن من كان وليه الله ورسوله والمؤمنون، فإنه يكون من حزب الله الذي له – بحوله تعالى – الغلبة على صنوف الأعداء – فيقول جل شأنه: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} . (المائدة)
هذا هو الإسلام الذي حمى الفرد، والجماعة،والأمة، وحرص على عقاب كل من يحاول الاعتداء على الكليات الخمس التي هي جماع مصالح العباد، وهي: النفس، والعقل، والدين، والمال، والعرض ووضع حدوداً، وقرر تعزيرات تقام على المعتدى، وبهذا استأصل شأفة الجريمة، وطهر الحياة الإسلامية من الفحشاء والمنكر.(17/234)
هذا هو الإسلام الذي ساد به سلفنا الصالح، فنشروا به في العالم حضارة أخرجت الناس من الظلمات إلى النور، حملت معها مبادئ: الرحمة، والسماحة، والعدالة، والأخوة، والمساواة، والصدق، والأمانة، والإخلاص، والوفاء، وغير ذلك من المبادئ السامية، بعد أن ترجمتها في الآفاق سلوكاً عملياً كانوا به أعظم القدوة لمن أراد أن ينهج نهجهم، ويسير على درب الهدى والنور.
هذا هو الإسلام، عقيدة ومنهاج، سياسة واقتصاد، تربية واجتماع، سلم وحرب، مصحف وسيف، دين ودولة، أمن وأمان، سعادة في الدنيا والآخرة. به وحده تُحلُّ المشكلات كلها مهما استصعب، وبه وحده تفرج الكروب جميعاً مهما استحكمت حلقاتها. وفي هذا يقول ربنا تبارك وتعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [8] .
بهذا المفهوم كان الإسلام صالحاً لكل عصر وفي كل مصر، فقضى الله تعالى أن يكون عالمياً يعم البشرية جميعاًً، لأنه لا منجاة لها إلا بهذا الإسلام، ودعاهم إلى الإيمان به وإلى اتباعه ليسلك بهم طريق الهدى والرشاد – فقال سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [9](17/235)
فهل من لجوء إلى الإسلام وعض عليه بالنواجذ لنتحقق السعادة بالنجاة؟.. اللهم لك الحمد كل الحمد أن هديتنا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله – ثبت اللهم قلوبنا عليه، واختم لنا به خير ختام.. وصل اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] مسلم.
[2] مسلم.
[3] مسلم.
[4] مسلم.
[5] سورة الممتحنة 01
[6] سورة المائدة 57
[7] سورة المائدة 55
[8] سورة الأنعام 63 , 64
[9] سورة الأعراف 157(17/236)
الذكر وأثره في حياة المؤمن
لفضيلة الدكتور عبد الرحمن بله علي / كلية اللغة العربية
الذكر المأثور:
إن ذكر الله عز وجل، مع يسره وخفة مؤونته على اللسان والنفس من أعظم القربات، وأبرك الطاعات، وأكثرها، ثواباً وأحمدها عند منقلب إياباً كما أنه ذو أثر كبير على سلوك المؤمن في هذه الحياة الدنيا، فهو يصل العبد بربه ويجعله يحلق في آفاق عالية من الطهر والصفاء، فينعم بالقرب والحب والأنس فينعكس ذلك عليه تزكية نفس، وتهذيب أخلاق واستقامة سلوك، واستنارة بصيرة، وشرف مكانة وسيرة.
ولا يكفي أن يلهج اللسان بالذكر فحسب بل لا بد أن يخفق القلب بالحب، ويقوم الذهن بالتأمل واستحضار المعاني والمقاصد وتدفع العاطفة إلى العمل والسلوك، كما أن الذكر لا يؤدي غرضه، ولا يحدث في النفوس أثره إلا إذا جاء مأخوذاً من أذكار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي أذكار محفوظة مدونة في كتب السنة ما بيننا وبينها إلا أن نطلع عليها، ونأخذ منها ونشغل أنفسنا، ونرطب ألسنتنا بها، وندع ما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا.
وقد نهض جماعة من العلماء الأخيار فدونوها مبوبة في مؤلفات مثل الشيخ النووي الذي ألف كتاب (الأذكار) الذي جمع فيه ما تفرق من غيره من كتب الحديث مما لا غنى لمسلم عنه، ومثل الإمام ابن القيم الذي ألف (الوابل الصيب) مع تقدمه في الفوائد الذكر وفضله وأسراره وأحكامه ومثل (تحفة الذاكرين) للشوكاني ومثل (المأثورات) للإمام حسن البنا التي جاءت حافلة بالمفيد حاوية لكل طيب سهل التطبيق، مؤكد النسبة والتحقيق، وغيرها من الكتب التي اهتمت بأمر الذكر تحقيقاً ورصداً وتبويباً وشرحاً..(17/237)
إن الإنسان إذا أراد أن يزرع أرضاً خصبة التربة اختار لها البذر الصالح المجرّب، ليجني ثماراً طيبة، ويحصد محصولاً وفيراً، والأمر هنا أعظم خطباً لأنه دين، وذاك دنيا، وأجود الأذكار أسلمها عاقبة وأكثرها ثواباً وأجودها نبتاً وثماراً وأرضاها لله رب العالمين هي تلك التي تحمل خاتم النبوة، ولو أن إنساناً ذكر الله بالليل والنهار، وعلى كل حال، وبكل لسان شتى ذبلت شفتاه، وعمشت من كثرة البكاء عيناه ولكنه على غير ما شرع الله لرسوله من سنن الهدى – لم يزدد من الله إلا بعداً ومن الشيطان إلا قرباً. ولو أن مؤمناً ترك المأثور من الأذكار النبوية، وأخذ بالمبتدع من الأوراد الصوفية ظناً منه أن هذه هي التي تفتح له أبواب الرزق وأبواب الجنان – لو أن مؤمناً فعل هذا لخرج من الإيمان والإسلام كما تخرج الشعرة من العجين، والجرّ على نفسه خزي الدنيا وعذاب الآخرة، وإن مشى على الماء، وطار في الهواء. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [1] وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [2] وقال عليه الصلاة والسلام:"من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ " [3] .
فضل الذكر:
قال عليه الصلاة والسلام:" مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت " [4] وقال صلى الله عليه وسلم:"مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت" [5] وفيهما حث على ذكر الله عز وجل لأنه يكسب الحياة ذاتيتها وأصالتها، ويجعلها شيئاً ذا قيمة عظيمة ويخرج بالإنسان من عالم الأحياء، فكم من حي لا يذكر الله هو من الأموات، وكم من ميت كان لله ذاكراً هو من الأحياء.(17/238)
والحياة إنما تتحقق إذا اتجهت وجهتها الصحيحة التي أرادها الله لها، ومن أجلها خلق الأحياء والله عز وجل خلق الخلق لعبادته. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [6] ومن ثمَّ شبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يذكر ربه بالحي حسية، ومعنوية بما يفاض عليه من الخير والبركة والفضل وبما يغشاه من التجليات الإلهية والأنوار الربانية، وبما ينعم به من سكينة نفسية وطمأنينة قلبية فذكر الله عز وجل منقبة جليلة ومكرمة عظيمة وفضيلة رفيعة.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له:"يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ فأخبرني بشيء أتشبث به ". فقال:"لا تزال لسانك رطباً بذكر الله ". رواه الترمذي.
وقال عليه الصلاة والسلام:" إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالى " [7] وقد سئل عليه الصلاة والسلام، أي أهل المسجد خير؟ قال:"أكثرهم ذكراً لله عز وجل". قيل: أي الجنازة خير؟ قال:" أكثرهم ذكراً لله عز وجل ". قيل وأي المجاهدين خير؟ قال: "أكثرهم ذكراً لله عز وجل". قيل: وأي الحجاج خير؟ قال:"أكثرهم ذكراً لله عز وجل". قيل: وأي العباد خير؟ قال:" أكثرهم ذكراً لله عز وجل ".
قال أبو بكر:"ذهب الذاكرون بالخير كله " [8] .
وقال عبيد بن عمير:"أن أعظمكم هذا الليل أن تكابدوه، وبخلتم على المال أن تنفقوه، وجبنتم عن العدو أن تقاتلوه فأكثروا من ذكر الله عز وجل " [9] .
وقال عليه صلوات الله وسلامه: " ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا العدو فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ "قالوا: بلى يا رسول الله قال: "ذكر الله " [10] .(17/239)
وقد استشكل بعض أهل العلم تفضيل الذكر على الصدقة لأن العمل الذي يتعدى نفعه إلى الغير أفضل من الذي يقتصر على صاحبه. كما استشكل بعضهم تفضيل الذكر على الجهاد مع ما فيه من دفع لأعداء الإسلام ونشر لأعلامه، ومدّ لأنواره مع ورود الأدلة الصحيحة على تفضيله على إعلاء مكانة في الصالحات. ونجد الشوكاني رحمه الله يرد على هذا الإستشكال بأن ذلك باعتبار الأشخاص والأحوال، فمن كان مطيقاً للجهاد قوي الأثر فيه فأفضل أعماله الجهاد، ومن كان كثير المال فأفضل أعماله الصدقة، ومن كان غير متصف بإحدى الصفتين المذكورين فأفضل أعماله الذكر [11] .
فوائد الذكر:(17/240)
ذكر ابن القيم رحمه الله أكثر من مائة فائدة للذكر منها أنه يرضي الرحمن، ويطرد الشيطان، ويزيل الهم، ويجلب السرور، ويقوي القلب والبدن، وينور القلب والوجه، ويجلب الرزق، ويكسب المهابة والحلاوة، ويورث محبة الله التي هي روح الإسلام ويورث المعرفة والإنابة والقرب وحياة القلب وذكر الله للعبد، وهو قوت القلب وروحه، ويجلي صداه، ويحط الخطايا، ويرفع الدرجات ويحث الأنس ويزيل الوحشة، وينجي من عذاب الله، ويوجب تنزيل السكينة، وغشيان الرحمة وحفوف الملائكة بالذاكر ويشغل عن الكلام الضار، ويسعد الذاكر، ويسعد به جليسه، ويأمن من الحسرة يوم القيامة، وهو مع البكاء سبب لا ظلال الله العبد يوم الحر الأكبر في ظل عرشه، وأنه سبب لإعطاء الله الذاكر أفضل ما يعطي السائلين وأن دوام الذكر للرب تبارك وتعالى يوجب الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده، وأن الذكر يسير وهو في فراشه وفي سوقه، وأنه نور الذاكر في الدنيا ونور له في قبره ونور له في معاده، وأن في القلب خلة وفاقة لا يسدها شيء البتة إلا ذكر الله عز وجل، وأنه يجمع ما تفرق على العبد من قلبه وإرادته وهمومه وعزمه، ويفرق ما اجتمع عليه من الهموم والغموم والأحزان والحسرات، ويفرق ما اجتمع عليه من ذنوبه وخطاياه وأوزاره حتى تتساقط وتتلاشى ويفرق ما اجتمع حربه من جند الشيطان، وأن الذكر ينبه القلب من نومه ويوقظه، والقلب إذا كان نائماً فاتته الأرباح والمتاجر وأن الذكر شجرة تثمر المعارف والأحوال التي شمّر إليها السالكون فلا سبيل إلى نيل ثمارها إلا من شجرة الذكر، وأن الذاكر قريب من مذكوره ومذكوره معه وهذه المعية معية خاصة وأن الذكر يعدل عتق الرقاب ونفقة الأموال والحمل على الخيل في سبيل الله عز وجل، وأنه رأس الشكر، وأن أكرم الخلق على الله من المتقين من لا يزال لسانه رطباً بذكر الله عز وجل، وأنه يذيب قسوة القلب وما استجلبت نعم الله واستدفعت نقمه بمثل ذكر(17/241)
الله، وأنه يوجب صلاة الله عز وجل وملائكته على الذاكر، وأن من شاء أن يسكن رياض الجنة في الدنيا فليستوطن مجالس الذكر فإنها رياض الجنة، وأن ذكر الله يسهل الصعب وييسر العسير ويخفف المشاق، ويذهب مخاوف القلب كلها، وأن الإشتغال به اشتغال عن الكلام من الغيبة والنميمة واللغو وأنه سبب لتصديق الرب عز وجل عبده فإنه أخبر عن الله بأوصاف كماله ونعوت جلاله فإذا أخبر بها العبد صدقه ربه ومن صدقه الله لم يحشر مع الكاذبين ورجي له أن يحشر مع الصادقين.(17/242)
وأن الذكر سدّ بين العبد وبين جهنم فإذا كانت له إلى جهنم طريق عمل من الأعمال كان الذكر سداً في تلك الطريق، وأن الملائكة تستغفر للذاكر كما تستغفر للتائب وأن الجبال والقفار تتباهى وتستبشر بمن يذكر الله عز وجل عليها وأن كثرة ذكر الله عز وجل أمان من النفاق فإن المنافقين قليلوا الذكر لله عز وجل قال تبارك وتعالى في وصف المنافقين: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} وإن للذكر من بين الأعمال لذة لا يشبهها شيء فلو لم يكن للعبد من ثوابه إلا اللذة الحاصلة للذاكر لكفاه، وأنه يكسو الوجه نضرة في الدنيا ونوراً في الآخرة، وأن في دوام الذكر في الطريق والبيت والحضر والسفر والبقاع تكثيراً لشهود العبد يوم القيامة فإن البقعة والدار والجبل والأرض تشهد للذاكر يوم القيامة، وأن الذكر يعطي الذاكر قوة حتى أنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه، وإن ذكر الله عز وجل من أكبر العون على طاعته، فإنه يحببها إلى العبد، ويسهلها عليه ويلذذها، ويجعل قرة عينه فيها ونعيمه وسروره بها بحيث لا يجد لها من الكلفة والمشقة والثقل ما يجد الغافل، وأن دور الجنة تبني بالذكر، فإذا أمسك الذاكر عن الذكر أمسكت الملائكة عن البناء، وغراس بساتينها بالذكر أيضاً وأن الإشتغال بالذكر اشتغالاً عن الكلام الباطل من الغيبة والنميمة واللغو ومدح الناس وذمهم وغير ذلك فإن اللسان لا يسكت البتة: فأما لسان ذاكر، وأما لسان لاغ ولا بد من أحدهما في النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، وهو القلب إن لم تسكته محبة الله عز وجل سكتته محبة المخلوقين ولا بد وهو اللسان إن لم تشغله بالذكر شغلك باللغو وما هو عليك ولا بد [12] .
أفضل الذكر:(17/243)
ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صيغ للذكر مختلفة مثل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومثل سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ومثل ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، ومثل سبحان الله عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته إلى غير ذلك مما هو مدون في كتب السنة إلى جانب أذكاره في ليله ونهاره، أكله وشربه، غضبه وسروره، خروجه ودخوله، صحوه ونومه، ركوبه ونزوله، ركوعه وسجوده، قيامه وجلوسه صومه وحجه وجميع حالاته ومختلف عباداته مما يجعله على صلة بربه فلا غرو إن كان ما ينطق به حجة الأرض بعد حجة السماء.
والمتأمل في أذكاره يجدها تمتاز باختصار العبادات وقلة الأعداد وتكامل المعاني وأنها ذات مضمون واضح ودلالة قوية على تمجيد الله وتنزيه ووصفه بكل كمال يليق بجلاله وجماله وبهائه. وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:
" أفضل ما قلته أنا والنبيين من قبلي لا إله إ إلا الله وحده لا شريك له " [13] ووحده لا شريك له أشبه فقط لا غير التي تكتب في الشيكات عقب كتابة الرقم تحوطاً من زيادة مزيد ولله المثل الأعلى فهي مبالغة في توحيد الله ونفي الشريك عنه وسد لباب قد يُتوقع دخول شرك منه. وقد أنفق عليه الصلاة والسلام عمره المبارك كله يذود عن جناب التوحيد، ويحارب الشرك بكل ألوانه، ويضع من الإحتياطات ما يدفع الشرك بعيداً عن حمى الكلمة الشريفة، ويحفظها على مرِّ العصور جلية نقية بيضاء.
وللكلمة الشريفة التي هي أفضل الذكر شروط ذكرها الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله.
الأول:
العلم المنافي للجهل، فمن لم يعرف المعنى فهو جاهل بمدلولها.
الثاني:
اليقين المنافي للشك، لأن من الناس من يقولها وهو شاك فيما دلت عليه من معناها.
الثالث:(17/244)
الإخلاص المنافي للشرك، فإن من لم يخلص أعماله كلها لله فهو مشرك شركاً ينافي الإخلاص.
الرابع:
الصدق المنافي للنفاق، لأن المنافقين يقولونها، ولكنهم لم يطابق ما قالوه لما يعتقدونه، فصار قولهم كذباً لمخالفة الظاهر للباطن.
الخامس:
القبول المنافي للرد، لأن من الناس من يقولها مع معرفة معناها ولكن لا يقبل ممن دعاه إليه. إما كبراً أو حسداً، أو غير ذلك من الأسباب المانعة من القبول فتجده يعادي أهل الإخلاص ويوالي أهل الشرك ويحبهم.
السادس:
الإنقياد المنافي للترك، لأن من الناس من يقولها وهو يعرف معناها لكنه لا ينقاد للإتيان بحقوقها ولوازمها من الولاء والبراء والعمل بشرائع الإسلام، ولا يلائمه إلا ما يوافق هواه، أو تحصيل دنياه، وهذه حال كثير من المسلمين.
السابع:
المحبة المنافية لعدمها [14] .
فاكثرنْ من ذكرها بالأدبِ
تنلْ بهذا الذكر أعلى الرتبِ
كثرة الذكر:
مدح الله تعالى الذاكرين له كثيراً وأعدّ لهم مغفرة وأجراً عظيماً فقال عز من قائل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} إلى قوله سبحانه.. {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [15] .(17/245)
قال ابن عباس رضي الله عنهما المراد:"يذكرون الله في أدبار الصلوات وغدواً وعشياً وفي المضجع، وكلما استيقظ من نومه، وكلما غدا وراح من منزله ذكر الله تعالى "- وقال مجاهد:" لا يكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات حتى يذكر الله تعالى قائماً وقاعداً ومضطجعاً "، وقال عطاء: "من صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا أو صلى ركعتين جميعاً كتبا في الذاكرين الله كثيراً والذاكرات " وسئل ابن الصلاح رحمه الله عن القدر الذي يصير به من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، فقال:"إذا واظب على الأذكار المأثورة المثبتة صباحاً مساءً في الأوقات والأحوال المختلفة ليلاً ونهاراً كان من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات " [16] .
والإنسان إذا داوم على ذكر الله فلا يكاد يعمله عملاً إلا جاء مقروناً بذكر الله تعالى وفي هذا من الخير والبركة ما يجعل عمله مقبولاً وثوابه عظيماً، وأن مدلول الذكر ليتسع حتى يشمل كل عامل لله بطاعة فكل طاعة سواء أكانت قولية أم فعلية أم قلبية فهي ذكر لله تعالى وقال عطاء رحمه الله: "مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام، كيف تشتري وتبيع وتصلي وتصوم وتنكح وتطلق وتحج وأشباه هذا ".
كما أن ذكر الله كثيراً يجعل الدعاء مستجاباً فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث لا يرد الله دعاءهم: الذاكر الله كثيراً والمظلوم والإمام المقسط".(17/246)
وأخرج أحمد في سنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون " فالحديث دعوة إلى الإكثار من ذكر الله إكثاراً يجعل من يراه يظن أن به مساً من الجنون لما يرى عليه من تحريك الشفتين واضطراب البدن من الخوف من الله تعالى.
وصاحب هذا الظن هو المنصرف عن ذكر الله المنشغل بمعاصيه المستهزئ بالطائعين الذاكرين الله كثيراً، وفي الحديث- جواز الجهر بالذكر وقد وردت بعض النصوص ترغب في الإسرار به ويجيب الإمام الشوكاني على ذلك فيقول:"وقد وردت أحاديث تقتضي الإسرار بالذكر، وأحادث تؤدي الجهر به والجمع بينهما أن ذلك مختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، فقد يكون الجهر أفضل من إذا أمن الرياء، وكان في الجهر تذكير للغافلين وتنشيط لهم إلى الإقتداء به، وقد يكون الإسرار أفضل إذا كان الأمر بخلاف ذلك " [17] .
الذكر ضرورة لا مفر منها:
لو أن أحداً عفي عن الذكر لكان زكريا عليه السلام أولى الناس بهذا حين اعتقل لسانه عن الكلام وحبس عن النطق وذلك أنه لما بُشِّر بالغلام طلب من الله تعالى علامة يعرف بها حيل امرأته حتى يتلقى النعمة إذا جاءت بالشكر: {قَالَ آيَتُكَ أَلاَ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} [18] . فكان يعجز عن تكليم الناس وليس به آفة تمنعه منه إنما هي آية من آيات الله الباهرات فكان كلامه وخطابه لقومه إشارة باليد أو إيماءة بالرأس أو كتابة على الأرض، مع هذا قيل له: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً} .(17/247)
ومن وراء ذلك حكمة بالغة وسرّ نفيس كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر حبس لسانه إلا عن الذكر حتى يخلص لشكر تلك النعمة الكبرى والمنة العظمى وهي رزقه الولد على وهنٍ منه وعقم من زوجه وكِبرَ سِنٍّ منهما معاً فقد ناهزا المائة عام وهكذا جاء الجواب مشتقاً من السؤال ومنتزعاً منه، وهو أوقع في النفس وأدخل في باب الحسن، ذكره الزمخشري في كشافه.
ولو أن جماعة أعفيت عن الذكر لكان أولى الناس بهذا المقاتلون في سبيل الله تعالى حين تقوم الحرب بينهم وبين عدوهم على قدم وساق. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فرغم انشغالهم بمجالدة العدو أمروا بالذكر، لأن به اطمئنان القلوب وتثبيت الإقدام واستدفاع كيد العدو، واستجلاب نصر الله.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لم يفرض الله تعالى على عباده فريضة إلا جعل لها أجلاً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر فإن الله لم يجعل له حداً ينتهي إليه ولم يعْذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله فقال اذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم وبالليل والنهار في البر والبحر في السفر والحضر في الغنى والفقر في الصحة والسقم في السر والعلانية في الحرب والسلم وعلى كل حال.
الذكر في جماعة:
أخرج مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده عن أبي هريرة وابن مسعود رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه سلم، قال:"لا يقعد قوم يذكرون الله تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده " وأخرج الترمذي عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا"قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنة قال: "حلق الذكر ".(17/248)
وأخرج البيهقي من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"يا أيها الناس إن لله سرايا من الملائكة تحل وتقف على مجالس الذكر في الأرض فارتعوا في رياض الجنة"، قالوا: وأين رياض الجنة قال: "مجالس الذكر فاغدوا وروحوا في ذكر الله وذكروا أنفسكم من كان يريد أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده فإن الله ينزل العبد عنده حيث أنزله العبد في نفسه " قال المنذري والحديث حسن.
وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما عنه صلى الله عليه وسلم:" إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا". قالوا: وما رياض الجنة؟ "قال مجالس العلم ".
وأخرت الترمذي عن أبي هريرة قالوا: وما رياض الجنة قال:"المساجد" قيل: وما الرتع؟ قال: "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ".
ولا تعارض بين هذه الأحاديث فقد تكون رياض الجنة مجالس الذكر ومجالس العلم وهذه قد تكون في المساجد وفي غيرها. فالمجالس التي لم يذكر فيها الله جل جلاله كانت خيبة ووبالاً وحسرة يوم القيامة فقد أخرج الحاكم في المستدرك على شرط مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من قوم جلسوا مجلساً، وتفرقوا عنه ولم يذكروا الله فيه إلا كان كأنما تفرقوا عن جيفة حمار وكان عليهم حسرة يوم القيامة ". في رواية:"لا يجلس قوم مجلساً لا يذكرون الله عز وجل، ولا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة ".(17/249)
وفيه تنفير شديد عن ترك ذكر الله في المجالس فأي مجلس لا يذكر الله فيه ينبغي للمسلم ألا يقعد فيه ولا يخالط أهله بل ينبغي أن يفر منه كما يفر من جيفة الحمار. فحري بنا أن تكون مجالسنا عامرة بذكر الله تعالى ومدارسة العلم والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فذلك أليق بنا وأرجى لنا.
وقراءة القرآن ومدارسته وتفسير آياته ومعرفة أحكامه من أعظم الذكر وأبركه وخاصة إذا كان ذلك في جماعة لأنهم يعين بعضهم بعضاً ويشجعه، وينتفع بعضهم من بعض ويسدد، من هنا جاء الترغيب في ذلك فقال عليه الصلاة والسلام:"ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده" [19] .
وما يفعله أهل التصوف في أذكارهم الجماعية من ضرب على الدفوف وعزف بالمزامير ليس بذكر ولا هو بقربة لأن القُربَ لا تعرف إلا عن طريق الشرع، وليس في الشرع أمر بهذا ولا استحسان [20] .
وزبدة الذكر مخافة الله واستشعار قربه ومراقبة جلاله لتزكوا نفس المؤمن وتسمو روحه، ويطهر قلبه، وتقسيم على نهج الشريعة أقدامه فيدعو إلى الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قال عليه الصلاة والسلام:" أمرني ربي بتسع: خشية الله في السر والعلانية، وكلمة العدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى وأن أصل من قطعني، وأعطي من حرمني، وأعفو عمن ظلمني وأن يكون صمتي فكراً، ونطقي ذكراً، ونظري عبرة ".. يقول عليه الصلاة والسلام بعد ذكر هذه الأوصاف:
" وأن آمر بالمعروف، وأنهى عن المنكر ".(17/250)
فذكر الله عز وجل ليس انصرافاً عن الحياة وانطواء عن الأحياء وتعطيلاً للأعمال وإنما هو (الدينمو) الذي يولد الحرارة ويهب القوة الدافعة إلى العمل والإنتاج، فهو كالنفس الذي يتردد في جوف الإنسان لا يمنعه من العمل والأكل والشرب والصعود والهبوط والجري والمشي.
إن ديننا دين وجود لا جمود.. دين اجتماع لا انعزال.. دين حركة لا سكون.. دين إيجابية لا سلبية.. إنه عبادة وقيادة وثقافة وقضاء.. ومصحف وسيف.. ومسجد ومصنع.. إنه دين دنيا حتى لكأن الإنسان يعيش أبداً، ودين أخرى حتى لكأنه يموت غداً..
ولله در الدكتور حسان حتحوت إذ يقول:
حسبوا بأن الدين عزلة راهب
واستمروا الأوراد والأذكارا
عجباً أراهم يؤمنون ببعضه
وأرى القلوب ببعضه كفارا
والدين كان ولا يزال فرائضاً
ونوافلاً لله واستغفارا
والدين ميدان وصمصام وفر
سان تبيد الشر والأشرار
والدين حكم باسم ربك قائم
بالعدل لا جورا ولا استهتارا [21]
الذكر القلبي:
إن التفكر في الكون أرضه وسمائه.. حيوانه وجماده.. أخضره ويابسه.. ليله ونهاره.. نجومه وكواكبه، لمن أجل الأعمال وأعظم الطاعات وأفضل العبادات التي ترفع الإنسان في مدارج السمو الروحي، وتنقل الإيمان من التقليد إلى الأصالة ومن الشك إلى اليقين.
قال الزمخشري:"الفكرة تذهب الغفلة "، وتحدث للقلب الخشية كما يحدث الماء للزرع النبات، وما جليت القلوب بمثل الأحزان، ولا استنارت بمثل الفكرة "(17/251)
فلا غرو إن رغب الإسلام فيه، وحض عليه فنجد كثيراً من الآيات القرآنية تذكره داعية إليه مثربة عدم الإهنداء إليه والإستعانة به {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [22] ، {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [23] ، {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [24] ... الخ.
كما نجد كثيراً من الأحاديث النبوية تذكر فضله، "لا لعبادة كالتفكير " "تفكر ساعة خير من عبادة سنة " ومما أمره الله به عليه الصلاة والسلام أن يكون صمته فكراً، ونظره عبرة.
والتفكير في خلق الله تعالى سنة الأنبياء والمرسلين. قال عليه الصلاة والسلام:"لا تفضلوني على يونس بن مَتَّى فإنه كان يرفع له في كل يوم مثل عمل أهل الأرض " قال العلماء: إنما كان ذلك التفكُّر في أمر الله الذي هو عمل القلب، لأن أحداً لا يقدر أن يعمل بجوارحه في اليوم مثل عمل أهل الأرض..
كما أن التفكر هو ديدن السلف الصالح، روى ابن القاسم عن مالك قال:"قيل لأم الدرداء: ما كان أكثر شأن أبي الدرداء؟ قالت: كان أكثر شأنه التفكر ". قيل له: أفَترى التفكر عمل من الأعمال؟ قال: نعم هو اليقين "، وقيل لابن المسيب في الصلاة بين الظهر والعصر، قال:"ليست هذه بعبادة إنما العبادة الورع عما حرم الله والتفكر في أمر الله "..
وقد اختلف العلماء في العملين أفضل: التفكر أو صلاة النفل؟ بعضهم يرى التفكر أفضل، لأنه يثمر المعرفة، وهو أفضل المقامات الشرعية وبعضهم يرى الصلاة أفضل، لما ورد في الحديث من الحث عليها والدعاء إليها والترغيب فيها، ونجد القرطبي في تفسيره يرى السنة التي يعتمد عليها الجمع بين التفكر والصلاة كما كان يفعل عليه الصلاة والسلام عندما يستيقظ من نومه فإنه يقرأ أواخر سورة آل عمران الدالة على التفكر، ثم يتوضأ ويصلي فجمع بين التفكر والصلاة.(17/252)
والتفكر المقصود هو التفكر في خلق الله، وما حواه كونه من آيات باهرات وشواهد ناطقات بوجوده ووحدانيته وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد. لا التفكر في ذاته العلية، فإن ذلك مظنة الزيغ والهلاك لهذا نهى عنه الرسول عليه الصلاة والسلام فقال:" تفكروا في خلقه، ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا ".
وليس المراد أن يظل الإنسان طيلة يومه ناظراً في السماء محدقاً في الأجواء، منقطعاً عن أعماله مقصراً في واجباته فإنه ليجد من الفطرة السليمة أو السنة القويمة، ولا من عمل السلف الصالح الذين يقتدى بهم ويعتمد عليهم ويؤخذ عنهم..
ضروب من الذكر:
من ضروب الذكر أن تذكر نعم الله وأفضاله وآلاءه، فيحملك ذلك على شكره والثناء عليه، فذكر النعمة هو في الواقع ذكر لمن أسداها، وتفضل بها، وهذا مما يحمل الإنسان على أن يسخر النعمة في طاعة ربه ومرضاته فذلك أليق بها، وأبقى لها، وأدى لزيادتها كما قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} .
وقد امتن الله عز وجل بالنعم التي أسبغها على عباده وذلك ليوحدوه ويعبدوه، ولا يشركوا به، ولا يلتفتوا لغيره ولا يجوز في ميزان العقل أن يخلق ويعبد غيره، ويرزق ويشكر دونه فمن الولاء والوفاء أن نذكر آلاءه التي لا تعد ونعماءه التي لا تحصى والتي نشاهدها في كل لحظة عن أيماننا وشمائلنا ومن خلفنا وأمامنا.. ظاهرة وباطنة.. يقول سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} [25] ويقول عز وجل:
{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانا} [26] .(17/253)
ويقول جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ} [27] ، ويقول عز وجل: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [28] ويقول سبحانه: {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [29] ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [30] .
ومن ضروب الفكر أن يحافظ المؤمن على الذكر المأثور في الأوقات والأحوال الذي كان عليه الصلاة والسلام يقول فيها كالذكر عند دخول المسجد والخروج منه وعند دخول المنزل والخروج منه وعند الأكل والشرب والجماع والنوم، والسفر والرجوع منه وبالليل والنهار وفي الصلوات والحج والصوم.. وفي مختلف العبادات والأحوال وهو ما يعرف بعمل اليوم والليلة أو المأثورات وقد نهض جماعة من العلماء الأبرار فألفوا فيها كتباً جامعة. وقد أشرنا إليها في أول المقال بما أغنى عن إعادتها هنا.
والمداومة على هذه الأذكار تربط المؤمن بخالقه وتعمر قلبه بتقواه وخشيته، وتحيي ضميره بدوام مراقبته، فلا تكاد تمرّ لحظة إلا وهو ذاكر لله جل جلاله متعلق به، مراقب له، متفان فيه خائف منه، طامع في عظيم فضله وواسع رحمته.(17/254)
كما أنها تنمي فيه ملكة الإقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فبه لا بغيره يصل المؤمن إلى ربه ويحظى بعفوه ورضاه وحبه وتقواه، ولن يصل أحد إلى باب الله تعالى إلا إذا سار خلف رسول الله عليه الصلاة والسلام. والمحافظة على هذه الأذكار تشعر المؤمن بأنه يتأسى برسوله، ويسير على نهجه.. وهكذا تبقى هذه الأذكار جزءاً من حياته، بل هي حياته التي يذوق لها طعماً، يجد في ظلالها الطمأنينة القلبية والسعادة الأبدية..
ربنا أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وصل على صفوتك من خلقك وأمينك على وحيك محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً..
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عليه كربة من كرب يوم القيامة " متفق عليه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة آل عمران 31.
[2] سورة الأحزاب 21.
[3] متفق عليه.
[4] رواه البخاري ومسلم.
[5] رواه مسلم.
[6] سورة الذاريات 56.
[7] رواه الترمذي.
[8] رواه ابن أبي الدنيا.
[9] الوابل الصيب ط3 ص68.
[10] الحاكم في المستدرك ومالك في الموطأ.
[11] تحفة الذاكرين (دار الكتب العلمية) ص11.
[12] الوابل الصيب، ابن القيم، ط3، ص36 وما بعدها.
[13] حديث صحيح.
[14] الورد المصفى المختار للإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، ط جدة، ص99.
[15] الأحزاب 35.
[16] الأذكار للنووي ط بيروت ص 7.
[17] تحفة الذاكرين ص17.
[18] سورة آل عمران 41.
[19] حديث صحيح.
[20] صيد الخاطر لابن الجوزي، ط1، ج1، ص216.(17/255)
[21] مجلة المسلمون 3/199.
[22] الجاثية 13.
[23] القصص 72.
[24] الذاريات 21.
[25] البقرة 231.
[26] آل عمران 103.
[27] المائدة 11.
[28] الأعراف 69.
[29] الأعراف 74.
[30] الأحزاب 9.(17/256)
من أبحاث فقه السنة
سنن الفطرة بين المحدثين والفقهاء
لفضيلة الدكتور أحمد علي طه ريان / الأستاذ المساعد بكلية الحديث الشريف
تقديم: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وزوجاته أمهات المؤمنين، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فمن المعلوم أن الشريعة الإسلامية قد جمعت إلى جانب ما امتازت به من المبادئ السامية والمثل العليا، والعقائد السمحة، والأخلاق الكريمة - كثيراً من القواعد التشريعية التي لها صفة الدوام والإستمرار في الشرائع السماوية السابقة.
وتعتبر من أجل تلك القواعد شأناً وأعظمها أثراً؛ السنن التي فطر الله الناس عليها، وجعلها لهم بارزة من السمات التي تميزهم عن غيرهم من مخلوقاته.
ونظراً لأن هذه السنن تعتبر من الأسس الهامة التي اتفقت عليها كل الشرائع لانسجامها مع التكوين الفطري للإنسان؛ كان لها هذا الإهتمام البالغ من بين السنن النبوية الكريمة؛ فقد أفردها رسول الله صلى الله عليه وسلم في كثير من أحاديثه، وحض على الإلتزام بها، كما أنه ميّزها عن غيرها من السنن بهذا الوصف الرائع الذي يشير إلى أنها لازمة للإنسان باعتباره إنساناً بغض النظر عن لونه أو عنصره أو دينه، وهو وصف الفطرة.
لذلك كانت هذه السنن بحاجة إلى إلقاء الضوء عليها بوجه خاص لإبراز، ما انطوت عليه من معان سامية وحكم بالغة وقواعد شرعية هامة حتى يتسنى للمسلمين التعرف والعمل بها، فيحرزوا بذلك فضيلة العمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنن الأنبياء قبله صلوات الله وتسليماته عليهم أجمعين، فنقول وبالله التوفيق:
بعض النصوص الواردة في سنن الفطرة(17/257)
روى الإمام مسلم في صحيحه؛ عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمر والناقد وزهير بن حرب، جميعاً عن سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن الني صلى الله عليه وسلم قال: "الفطرة خمس. أو خمس من الفطرة: الختان والإستحداد وتقليم الأظفار ونتف الإبط وقص الشارب ".
كما رواه عن غير طريق سفيان؛ قال: حدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحي؛ قالا: أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الفطرة خمس " وذكر الحديث [1] .
2- وقال أيضاً في صحيحه: حدثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب، قالوا حدثنا وكيع عن زكريا بن أبي زائدة عن مصعب بن أبي شيبة عن طلق بن حبيب عن عبد الله بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط وحلق العانة، وانتقاص الماء ". قال زكريا: قال مصعب:" ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة ". زاد قتيبة: قال وكيع:"انتقاص الماء يعني الإستنجاء" [2] .
3- وقال أبو داود حدثنا يحي بن معين: أخبرنا وكيع عن زكريا بن أبي زائدة عن مصعب بن أبي شيبة عن طلق بن حبيب عن ابن الزبير عن عائشة رضي الله عنها. ثم ساق الحديث السابق كما في مسلم. إلا أنه ذكر رواية أخرى قال: حدثنا موسى بن إسماعيل وداود بن شبيب قالا أخبرنا حماد عن عليّ بن يزيد عن سلمة بن محمد بن عمار بن ياسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من الفطرة: المضمضة والإستنشاق ". فذكر نحوه ولم يذكر: إعفاء اللحية، وزاد: "والختان". قال "والإنتضاح". ولم يذكر انتقاص الماء؛ يعني الإستنجاء ".
قال أبو داود: وروى نحوه عن ابن عباس؛ وقال "خمس كلها في الرأس "وذكر فيه الفرق..
ولم يذكر إعفاء اللحية [3] .(17/258)
وقد أخرج ابن ماجه حديث عمار بن ياسر بنفس اللفظ الذي ساقه به أبو داود. مع تقديم بعض الحروف على بعض [4] .
وقد أخرج أبو عوانة في مستخرجه حديث عائشة بلفظ "عشر من السنة "، ذكر فيه الإستننثار بدل الإستنشاق [5] .
أولاً: هذه النصوص من حيث الإسناد:
قال الحافظ العراقي: حديث أبي هريرة أخرجه الأئمة الستة فردوه - خلا الترمذي- من طريق سفيان بن عيينة. والترمذي والنسائي، أيضاً، من رواية معمر، والنسائي أيضاً من رواية يونس بن يزيد ثلاثتهم عن الزهري عن ابن المسيب ورواه النسائي من رواية سعيد المقبري عن أبي هريرة [6] وأقول بل مسلم رواه أيضاً عن غير طريق سفيان. فرواه - كما في الرواية الثانية- عن ابن وهب عن يونس.
أما حديث عائشة فقد أخرجه مسلم في صحيحه، وحسنه الترمذي كما أخرجه النسائي وابن ماجه. وقد ضعف النسائي رفعه. فإنه قد رواه موقوفاً على طلق بن حبيب؛ ثم قال: إنه أولى بالصواب من حديث مصعب بن شيبة. قال: ومصعب بن شيبة منكر الحديث [7] وجاء في شرح الترمذي: إن مصعب بن شيبة، لين الحديث؛ ثم نقل بعد ذلك قول الحافظ في الفتح بعد ذكر هذا الحديث: مصعب بن شيبة وثقه ابن معين والعجلي وغيرهما، ولينه أحمد وأبو حاتم وغيرهما؛ فحديثه حسن وله شواهد في حديث أبي هريرة وغيره: فالحكم بصحته من هذه الحيثية سائغ [8] .
وقد اختلف فيمن حدث منه النسيان والشك في الخصلة العاشرة، وهي المضمضة، فذكر مسلم وأصحاب السنن؛ أن مصعباً هو الذي نسي العاشرة، ووقع في رواية لمسلم أن الذي نسيها هو زكريا بن أبي زائدة والأول أكثر وأشهر.
وفي سن النسائي عن سليمان التيمي:" وأنا شككت في المضمضة إلا أن سليمان جعل الحديث من قول طلق "، وقال النسائي:" إنه أشبه بالصواب " [9] .
والقائل: إلا أن تكون المضمضة؛ يحتمل أن يكون هو مصعب، ويحتمل أن يكون الراوي عنه هو الذي ذكرها.(17/259)
وقد جزم بعدِّ المضمضة فيها أبو بشر بن إياس الراوي له عن طلق.. وقال النسائي؛ وحديث سليمان التيمي وجعفر بن إياس وأشبه بالصواب من حديث مصعب بن شيبة [10] .
وكذلك هو ثابت في حديث عمار بن ياسر عند أبي داود وابن ماجه [11] .
وقد وافق النسائي في ترجيح رواية كل من سليمان التيمي وجعفر ابن إياس: الدارقطني في العلل. فقد نقل الحافظ السيوطي عنه قوله: هما أثبت من مصعب ابن أبي شيبة وأصح حديثاً. ونقل عن الإمام أحمد أنه قال: مصعب بن أبي شيبة أحاديثه مناكير، منها عشرة من الفطرة.
ولا ذكر ابن منده أن مسلماً أخرجه قال: تركه البخاري فلم يخرجه، وهو حديث معلول رواه سليمان التيمي عن طلق ابن حبيب مرسلاً [12] .
قال ابن دقيق العيد: لم يلتفت مسلم لهذا التعليل لأنه قدم وصل الثقة عنده على الإرسال - ثم - قال: وقد يقال في تقوية رواية مصعب: إن تثبته في الفرق بين ما حفظه وبين ما شك فيه؛ جهة مقوية لعدم الغفلة. من لا يتهم بالكذب إذا ظهر منه ما يدل على التثبت قويت روايته، وأيضاً لروايته شاهد صحيح مرفوع في كثير من هذا العدد من حديث أبي هريرة الذي أخرجه الشيخان [13] .
وقال الترمذي: هذا حديث حسن [14] .
وتقدم ما نقلناه عن الحافظ ابن حجر من قوله في مصعب: وثقه ابن معين والعجلي وغيرهما، ولينه أحمد وأبو حاتم وغيرهما؛ فحديثه حسن وله شواهد في حديث أبي هريرة وغيره، فالحكم بصحته من هذه الحيثية سائغ [15] .
أما حديث عمار بن ياسر؛ الذي أخرجه أبو داود وابن ماجه، وأشار إليه الترمذي [16] فقد صحح أكثر المحدثين إرساله؛ لأنه قد جاء في بعض روايات عن أبيه محمد بن عمار بن ياسر؛ ومحمد بن عمار ليست له صحبة. قاله المنذري في التخليص [17] .
وجاء في رواية أخرى عن سلمة عن عمار بن ياسر؛ قال البخاري: إنه لا يعرف لسلمة سماع من عمار [18] .(17/260)
أما من حيث المعنى: فلم يزد حديث عمار عما جاء في حديثي أبي هريرة وعائشة سوى ذكر الإنتضاح وقد وردت فيه أحاديث كثيرة بحيث لو ضم بعضها إلى بعض لكانت مقوية له؛ من هذه الأحاديث: ما أخرجه أبو داود عن محمد بن كثير عن سفيان عن منصور عن مجاهد عن سفيان بن الحكم الثقفي - أو الحكم بن سفيان الثقفي - قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بال يتوضأ – توضأ – وينتضح " [19] . وقد اختلف في سماع الثقفي هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال النمري له حديث واحد في الوضوء. وهو مضطرب الإسناد [20] . ومنها: ما جاء عن أسامة بن زيد أن جبريل عليه السلام لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فعلمه الوضوء. فلما فرغ من وضوئه أخذ حفنة من ماء فرش بها نحو الفرج فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرش بعد وضوئه.
رواه أحمد وفيه رشدين بن سعد وثقة هيثم بن خارجة وأحمد بن حنبل في رواية وضعفه آخرون [21] .
وقد أخرج ابن ماجه؛ حديث أسامة من طريق أخرى لكن فيها ابن لهيقة - وفيه كلام -[22] .
ومنها ما أخرجه: الترمذي وابن ماجه من أبي هريرة: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأت فانتضح " [23] .
قال الترمذي: هذا حديث غريب: قال وسمعت محمداً يقول: الحسن بن علي الهاشمي منكر الحديث [24] .
ومنها: ما أخرجه ابن ماجه عن جابر قال:"توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فنضح فرجه " [25] . وفيه قيس بن عاصم وهو ضعيف [26] .
وقد أخرج النسائي حديث الحكم السابق فقال فيه: عن إسماعيل بن مسعود عن خالد بن الحارث عن شعبة عن منصور عن مجاهد عن الحكم عن أبيه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ حفنة من ماء فقال بها هكذا ووصف شعبة، نضح به فرجه " فذكرته لإبراهيم فأعجبه [27] .
ومن شأن هذه الطرق الكثرة: أن يقوي بعضها بعضاً تجعل الحديث صالحاً للعمل به إن شاء الله.(17/261)
أما أثر ابن عباس الذي أشار إليه أبو داود؛ فقد وصله عبد الرازق في تفسيره والطبري من طريقه بسند صحيح واللفظ لعبد الرازق: أخبرنا معمر بن طاووس عن أبيه عن ابن عباس: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} الآية [28] قال: ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس وخمس في الجسد؛ في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والإستنشاق، والسواك، وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة والختان ونتف الإبط. وغسل أثر الغائط والبول بالماء " [29] .
وذكر الحافظ ابن حجر أن أبا حاتم قد أخرج أثر ابن عباس هذا من وجه آخر؛ فذكر فيه غسل الجمعة بدل الإستنجاء [30] .
ويلاحظ هنا: أن أثر ابن عباس قد زيد فيه في الرواية الأولى على ما جاء في حديثي عائشة وأبي هريرة: الفرق. كما زيد فيه في الرواية الثانية. غسل الجمعة. أما - فما عدا هاتين الخصلتين فهو متفق مع الحديثين السابقين عن عائشة وأبي هريرة.
وهذا الأثر وإن كان موقوفاً على ابن عباس إلا أن السنة الصحيحة قد وردت بكل ما جاء فيه، ونذكر ذلك بإيجاز فيما يلي:
أ – إن ما عدا الخصلتين السابقين: الفرق وغسل الجمعة فمذكور في حديثي أبي هريرة وعائشة كما أشرنا إلى ذلك قريباً.
ب - إن خصلة فرق الشعر لها شاهد في عدد من الصحاح؛ فقد أخرج البخاري في صحيحة والنسائي وابن ماجه واللفظ للبخاري: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:" كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه. وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم وكان المشركون يفرقون رؤوسهم فسدل النبي صلى الله عليه وسلم ناصيته ثم فرق بعد " [31] .
ولفظ ابن ماجه والنسائي "وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه " [32] .(17/262)
وقد علل العلامة السندي في تعليقه على سنن ابن ماجه؛ حبه صلى الله عليه وسلم لموافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه، قال: لاحتمال استناد عملهم إلى أمره تعالى أو لتألفهم.. وذلك قبل أن يطلع على أحوالهم ويتكشف له أنهم أبغض الناس إلى الله وأن التآلف لا يؤثر فيهم " [33] .
وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت:"كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم ". قال عبد الله:"في مفرق النبي صلى الله عليه وسلم " [34] .
جـ- أما الغسل يوم الجمعة فقد ثبت وروده في جملة من الأحاديث: نشير إلى بعض الصحيح منها: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل " [35] . ولفظ البخاري: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل " [36] .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم " متفق عليه [37] .
أما خصلة الإستنثار التي وردت في حديث عائشة بدل الإستنشاق في مستخرج أبي عوانة فقد وردت في عدد كبير من الأحاديث الصحيحة تشير إلى بعضها فيما:
ما جاء في حديث عبد الله بن زيد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم:"فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثاً بثلاث غرفات من ماء" [38] ولفظ مسلم "فمضمض ثم استنثر ثم غسل وجهه " [39] .
ومنها حديث أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم " إذا استجمر أحدكم وتراً وإذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً ثم لينتثر " [40] .
ومنها حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا استيقظ أحدكم من منامه فلينتثر ثلاث مرات فإن الشيطان يبيت على خياشيمه " [41] .
ثانياً: عدد خصال الفطرة:(17/263)
يستفاد مما ذكر: أن العدد - خمس، أو عشر - لا مفهوم له، وأن خصال الفطرة كثيرة، وليست محصورة في الخمس المذكورة في حديث أبي هريرة، أو العشر المذكورة في حديث عائشة؛ فقد وجدنا ثلاث خصال أخرى في حديث عمار والأثر الوارد عن ابن عباس كما وجدنا رابعة فيما أخرجه أبو عوانة في مستخرجه.
وبذلك تبلغ هذه الخصال خمس عشرة خصلة [42] .
وقد قال القاضي أبو بكر بن العربي:"إن خصال الفطرة تبلغ ثلاثين خصلة ". ثم تعقبه ابن حجر بقوله:"إن أراد خصوص ما ورد بلفظ الفطرة فليس كذلك، وإن أراد أعم من ذلك فلا ينحصر في الثلاثين بل تزيد كثيراً ". فقد أخرج الترمذي من حديث أبي أيوب رفعه " أربع من سنن المرسلين: الحياء والتعطر والسواك والنكاح ". وقد اختلف في ضبط "الحياء " فقيل هي بفتح المهملة وفتح التحتانية وقد ثبت في الصحيحين "الحياء من الإيمان " وقيل هي بكسر المهملة وتشديد النون "الحِنَّاء"فعلى الأول: خصلة معنوية تتعلق بتحسين الخلق. وعلى الثاني: خصلة حسية تتعلق بتحسين البدن. وأخرج البزار والبغوي في معجم الصحابة والحكيم الترمذي في نوادر الأصول من طريق فليح بن عبد الله الخطمي عن أبيه عن جده رفعه " خمس من سنن المرسلين "فذكر الأربعة إلا النكاح وزاد: "الحلم والحجامة " وهكذا [43] ..
وأما قول مسلم في حديث أبي هريرة عن طريق يونس بن يزيد عن الزهري. "الفطرة خمس"، وكذلك رواية النسائي من طريق سفيان: "الفطرة خمس"؛ فإن سفيان قد رواه على الشك كما هو عند مسلم من طريقه أيضاً: "الفطرة خمس أو خمس من الفطرة"؛ فإما أن يكون الشك منه أو ممن فوقه أو من الرواة عنه [44] .
وقد وقع في رواية أحمد: "خمس من الفطرة "ولم يشك. وكذا في رواية معمر عن الزهري عند الترمذي والنسائي [45] . وقد قال ابن دقيق العيد: دلالة مِن على التبعيض: فيه أظهر من دلالة هذه الرواية على الحصر [46] .(17/264)
وقد أجاب العلماء عن هذا الإختلاف الواقع في ذكر عدد خصال الفطرة في الأحاديث السابقة بأجوبة كثيرة من أهمها ما يلي:
الأول:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أفرد ذكر الخمس الواردة في حديث أبي هريرة لبيان شدة الحاجة إليها وأنها أهم من غيرها ويؤكد ذلك حديث ابن عمر عند النسائي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الفطرة: "قص الأظفار وأخذ الشارب وحلق العانة "فاقتصر فيه على ثلاث خصال وقد رواه البخاري بلفظ: " من الفطرة: حلق العانة وتقليم الأظفار وقص الشارب " [47] فهو من باب قوله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة " و"الحج عرفة" وهو كثير [48] .
الثاني:
أن يكون قد أعلمه الله تعالى ببعض الخصال فأخبر بها ثم أعلمه بعد ذلك بالزيادة الواردة في الأحاديث الأخرى على تقدير صحتها [49] .
ثالثاً: عبارة "سنن الفطرة " بين الوضع اللغوي والإصطلاح الشرعي:
السنن: جمع سُنّة تطلق في الأصل على عدة معان من بينها ما يلي:
1- إنها تطلق على الوجه لصقالته وملاسته: تقول وجه مسنون؛ أي مخروط أسيل كأن قد سنّ اللحم عنه. ومن هذا ما حكاه صاحب الفائق في غريب الحديث؛ "أن النبي صلى الله عليه وسلم حصّه على الصدقة فقام رجل قبيح السُّنَة صغير القِمّة يقود ناقة حسناء جملاء فقال "هذه صدقة" [50] .
2- ومنها: أن السنة تطلق على الطريقة والسيرة حسنة كانت أو سيّئة, ومنه ما جاء في الحديث المشهور: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة " [51] وفي مجمع الزوائد: عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من سنّ سنة حسنة فله أجرها ما عمل بها في حياته وبعد مماته حتى تترك. ومن سنّ سنة سيئة فعليها إثمها حتى تترك.. الحديث "رواه الطبراني في الكبير ورجاله موثوقون [52] .(17/265)
ويرى بعض اللغويين: أن السنة إذا أطلقت إنما يقصد بها: الطريقة المحمودة فقط. جاء في التهذيب: السنة هي الطريقة المحمودة المستقيمة. فإذا قيل فلان من أهل السنة؛ معناه: أنه على الطريقة المستقيمة المحمودة. وهي مأخوذة من السنن وهو الطريق. أو من سننت الإبل؛ أي أحسنت رعيتها والقيام عليها.
أما السنة في لسان الشرع: فإنها إذا أطلقت فيه فإنما يراد بها: كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير من غير القرآن. والبعض أضاف: أو كان صفة له صلى الله عليه وسلم كما أضاف الشاطبي ما كان قد سنه الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم كجمع المصحف وتدوين الدواوين. وما كان عليه عمل الصحابة رضي الله عنهم [53] مستدلاً بما جاء في الحديث العرباض بن سارية عند أبي داود "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" وحديث أبي هريرة من قوله عليه الصلاة والسلام: "تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة "قالوا ومن هم يا رسول الله؟ قال:"ما أنا عليه وأصحابي " [54] وغير ذلك.
ولهذا يقال في أدلة الشرع: الكتاب والسنة؛ القرآن والحديث، ومنه ما جاء في الحديث:"إنما أُنَسيَّ لأسن " [55] أي إنما أدفع إلى النسيان لأسوق الناس بالهداية إلى الصراط المستقيم وأبين لهم ما يفعلوه إذا عرض لهم نسيان.
وإذا قيل سنة الله: كان المراد: أحكامه وأمره ونهيه. وسنّ الله الأحكام للناس؛ بينها لهم- وسنه الله سنة، أي بينه طريقاً قويماً قال الله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [56] أي سنّ الله ذلك في الذين نافقوا الأنبياء وأرجفوا بهم؛ أن يقتّلوا أين ما ثقفوا أو وجدوا [57] .
والفطرة: بكسر الفاء وتسكين الطاء المهملة؛ من الفطْر بمعنى الشق تقول: فطر ناب البعير أي شق اللحم وطلع.(17/266)
وقيل الأصل فيه: الإبتداء والإختراع: تقول: فطر الله العالم: أي أوجده ابتداء واخترعه- وفي التنزيل على لسان سيدنا إبراهيم {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفا} [58] والجمع منه: فطور: وفي التنزيل {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} الآية [59] .
والفطرة: هي الحالة منه وصارت تطلق على عدة معان من بينها ما يلي:
أ- صدقة الفطر، وقد اختلف في سبب تسميتها بذلك: فقال الحافظ بن حجر:"لأنها تجب بالفطر من رمضان ".. وقال: ابن قتيبة:"المراد بصدقة الفطر؛ صدقة النفوس، مأخوذ من الفطرة التي هي أصل الخلقة " [60] .
ب- الخلقة التي يكون عليها كل مولود أول خلقه في رحم أمه، قال تعالى: {الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [61] أي خلقني. وقوله تعالى: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} الآية [62] . وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة " يعني الخلقة التي فطر عليها في الرحم من سعادة أو شقاوة فإذا ولده يهوديان هوّداه في حكم الدنيا، أو نصرانيّان نصّراه في حكم الدنيا، أو مجوسيان مجّساه في حكم الدنيا، أي أن حكمه في الدنيا حكم أبويه حتى يعبر عنه لسانه، فإن مات قبل بلوغه مات على ما سبق له من الفطرة التي فطر عليها. فهذه هي فطرة المولود [63] .
وقا ل ابن الأثير:" المعنى أنه يولد على نوع من الجبلة والطبع المهيأ لقبول الدين فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ولم يفارقها إلى غيرها. وإنما يعدل عنه من يعدل لآفة من آفات البشر والتقليد.." [64]
وقيل المعنى: كل مولود يولد على معرفة الله تعالى والإقرار به فلا تجد أحداً إلا وهو يقر بأن له صانعاً وإن سماه بغير اسمه ولو عبد معه غيره [65] .(17/267)
جـ- الإبتداء والإختراع: وفي التنزيل العزيز: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ} [66] قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ما كنت أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما، أنا فطرتها أي ابتدأت حفرها " [67] .
وقد اختلف العلماء في بيان المعنى المراد من سنن الفطرة الواردة في هذه الأحاديث التي هي قيد البحث: فقال الحافظ أبو سليمان الخطابي: فسر أكثر العلماء، الفطرة في هذه الأحاديث بالسنة؛ وتأويل ذلك: أن هذه الخصال من سنن الأنبياء الذين أمرنا أن نقتدي بهم بقوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} الآية [68] ، أول من أمر بها إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم. ويشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنّ} الآية [69] قال ابن عباس رضي الله عنهما: أمره بعشر خصال ثم عددهن فلما فعلهن، قال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [70] يقتدى بك ويستن بسنتك، وقد أمرت هذه الأمة بمتابعته خصوصاً. وبيان ذلك في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [71] ويقال كانت عليه فرضاً وهن لنا سنة [72] .
وبعد أن ذكر العراقي حكاية الخطابي عن أكثر العلماء، بأن الفطرة هي السنة، قال: ويدل عليه: رواية أبي عوانة في المستخرج لحديث عائشة:"عشر من السنة " [73] ومعلوم أن مراده بالسنة: هي الطريقة المحمودة التي استنها الأنبياء عليهم السلام.
ويرى فريق آخر من العلماء أن المواد بالسنة في أحاديث الفطرة؛ هي السنة التي تقابل الواجب عند الفقهاء. وهي: ما طلبه الشارع طلباً غير جازم [74] .(17/268)
وهذا الرأي غير ظاهر: إذ ذهب بعض أهل العلم إلى وجوب بعض هذه الخصال، فقد نقل الحافظ ابن حجر عن ابن العربي قوله في شرح الموطأ: عندي أن الخصال الخمس المذكورة في هذا الحديث - يقصد حديث أي هريرة: خمس من الفطرة - كلها واجبة فإن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة الآدميين، فكيف من جملة المسلمين. إلا أن الحافظ لم يرتض هذا القول من ابن العربي؛ فقد تعقبه بقول أبي شامة: بأن الأشياء التي مقصودها مطلوب لتحسين الخلق وهي النظافة؛ لا تحتاج إلى ورود أمر إيجاب للشارع فيها اكتفاء بدواعي الأنفس، فمجرد الندب إليها كاف [75] .
ويقوي وجهة ابن العربي ما قاله ابن دقيق العيد- نقلاً عن بعض العلماء- من أن الأصل فيما أضيف إلى الشيء أنه منه؛ أن يكون من أركانه لا من زوائده حتى يقوم دليل على خلافه. وقد ورد الأمر باتباع إبراهيم عليه السلام، وقد ثبت أن هذه الخصال، أمر بها إبراهيم عليه السلام، وكل شيء أمر الله باتباعه فهو على الوجوب لمن أمر به.
وقد يناقش هذا، بأن وجوب الإتباع لا يقتضي وجوب كل متبوع فيه. بل يتم الإتباع بالإمتثال، فإن كان واجباً على المتبوع كان كذلك في حق التابع وعلى ذلك فيتوقف ثبوت هذه الخصال على الأمة على ثبوت كونها كانت واجبة على الخليل عليه السلام [76] .
وسيأتي لهذا الموضوع مزيد من بيان في شرحنا للأحكام التي تستفاد من هذه الخصال - إن شاء الله.
ويرى فريق ثالث؛ أن المراد بالفطرة هنا: أصل الدين الذي اتفقت عليه كل الشرائع كقوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ.. الآية} [77] وبذلك جزم أبو نعيم في المستخرج. وقال النووي في شرح المهذب جزم الماوردي والشيخ أبو إسحاق؛ بأن المراد بالفطرة في هذا الحديث، الدين [78] وهذا الرأي من شأنه أن يقوي وجهة ابن العربي في القول بوجوب الخصال الخمس الواردة في حديث أبي هريرة.(17/269)
ويرى فريق رابع؛ أن المراد بالفطرة هنا: الإسلام، ومنه قول حذيفة:"لو مت على هذا مت على غير فطرة محمد صلى الله عليه وسلم " [79] وعليه قول جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ اللبن ليلة الإسراء "أصبت الفطرة " [80] .
وقد أشار القاضي البيضاوي إلى أنه لا تعارض بين هذه المعاني جميعاً حيث قال في بيان الفطرة المرادة هنا: هي السنة القديمة التي اختارها الأنبياء واتفقت عليها الشرائع وكأنها أمر جبلي فطروا عليها [81] ..
رابعاً: أهمية الإستمساك بهذه الخصال:
يترتب على الإستمساك بهذه الخصال مصالح دينية ودنيوية نشير إلى أهمها فيما يلي:
1- في التمسك بهذه الخصال شرف الإتباع لسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وسنن الأنبياء قبله وقد قال تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [82] .
2- المحافظة على الصورة الحسنة التي خلق الله الإنسان عليها والتي أشار إليها في قوله: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [83] فكأنه قيل قد حسنت صوركم فلا تشوهوها بما يقبحها، أو حافظوا على ما يستمر بها حسنها.
3- استمرار التمسك بهذه الخصال فيه استمرار المحافظة على نظافة المواضع التي تعتبر مصدراً للأذى والرائحة الكريهة في جسم الإنسان فيظل الشخص على طهارة دائمة.
4- في المحافظة على هذه الخصال تحسين لهيئة الإنسان كإنسان قبل أي اعتبار آخر من جنس أو لون أو دين.. وقد سبقت الإشارة إلى قول ابن العربي: أن من ترك هذه الخصال لم تبق صورته على صورة الآدميين، فكيف من جملة المسلمين.
5- في التمسك بهذه الخصال محافظة على المروءة وعلى التآلف المطلوب لأن الإنسان إذا ظهر في الهيئة الجميلة، كان أدعى لانبساط النفس إليه؛ فيقبل قوله ويحمد رأيه. والعكس بالعكس.
6- في التمسك بهذه الخصال إحسان إلى المخالط والمقارن؛ من أهل أو صديق أو جليس وذلك بكف ما يتأذى به من رائحة كريهة.(17/270)
7- قي التمسك بهذه الخصال مخالفة لشعار الكفار من المجوس واليهود والنصارى وغيرهم من ملل الكفر.
8- يترتب على العمل بهذه الخصال فوائد بعيدة الأثر، فإن عدم إزالة الأتربة والشوائب التي تعلق بشعيرات الأنف وكذلك الطفيليات التي تتكون داخل القلفة من شأنها أن تسبب للإنسان أضراراً بالغة لها أسوأ الأثر على صحته.
9- كما أن في التمسك بها غلبة للشيطان، وقطع لوساوسه وبعد عن تسويلاته، وهو ما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة المتقدم: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلينتثر ثلاث مرات فإنّ الشيطان يبيت على خياشيمه " [84] .
خامساً: معاني هذه الخصال وما يتعلق بها من أحكام وآداب:
وسيكون تناولنا لهذه الخصال حسب ترتيبها في كتب الفقه والحديث، أي سنبدأ بالكلام عن الخصال المتعلقة بالطهارة أولاً. ونختم بالخصال المتعلقة بالزينة؛ من باب تقديم التخلية على التحلية.
الخصلة الأولى: انتقاص الماء. بالقاف:
وقد وردت هذه الخصلة في حديث عائشة الذي أخرجه مسلم وبقية الجماعة ماعدا البخاري.
وقد ذكر وكيع - أحد رواة هذا الحديث: أن المراد بانتقاص الماء هو الإستنجاء بالماء [85] .
وقال ابن ماجه - أثناء سرده للحديث - بعد ذكر الإنتقاص: يعني الإستنجاء [86] . وقال البدر العيني – موضحاً العلاقة بين الإنتقاص والإستنجاء بالماء-: الإنتقاص: انتقاص البول بالماء إذا غسل المذاكير به [87] .
وقال أبو عبيد- من علماء اللغة - انتقاص الماء: غسل الذكر بالماء، وذلك أنه إذا غسل الذكر ارتد البول ولم ينزل. وإن لم يغسل نزل منه الشيء حتى يستبرأ [88] .
وقيل الصواب: انتفاص الماء بالفاء. والمراد: نضح الماء على الذكر من قولهم لنضح الدم القليل: نُفْصَة. وجمعها: نُفَص [89] .(17/271)