إن الإسلام عالج مسألة الاقتصاد علاجا لم يسبق إليه، ولن تستطيع دولة ما أن تصل إلى ما وصل إليه من علاج يحقق الرفاهية لأهله والمساواة الصحيحة بين ذويه؛ فنظام الزكاة والكفارات والمغانم وغير ذلك من وجوه البذل يجعل من المسلمين أمة متكافلة بالمعنى الصحيح، وفي الوقت نفسه لا يعوق الإنسان عن الكسب الكريم الشريف، بل يشجعه ويحث عليه، "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده".
فلا تواكل في الإسلام ولا تعطيل للطاقات ولا مصادرة للأموال والممتلكات؛ لأن كل نظام فيه أقيم على أساس سليم، فكل فرد في الدولة الإسلامية عضو من أعضائها تحسّ به ويحسّ بها وترعاه ويعمل من أجلها، بل يتفانى بحق في سبيلها مدفوعا لذلك بشعور صادق وإيمان عميق؛ لأنه يراها الأم الحانية والراعي الذي لا يدّخر وسعا في سبيل سعادته، بخلاف الشيوعي؛ فهو يعمل ولكن على مضض يعمل، وهو ينتج ولكنه من وجل ينتج، بل في وسط اللهيب وعلى القنا يسير؛ لأنه يرى أن يد البطش القاسية مسلطة عليه، والجاسوسية القذرة متربصة به؛ فهو لا يأمن على نفسه، وليس بمستريح ضميره طول حياته؛ لأنه خدع بألفاظ لم يجد لها مدلولات، وبعبارات لم يلمس لها مفهوما، فهو على يأس يعيش متمنيا ساعة الخلاص، ولكن هيهات هيهات أن تمكنه مما يريد، تلك الشرذمة الطاغية المتسلطة عليه فهي لن تدع له فرصة يتمكن فيها من الفرار من ميدان الذل والاستعباد والتسخير والاستقلال؛ لأنهم يرون ذله عزا لهم، واستعباده سيادة لجماعتهم، ولذلك كثيرا ما نسمع أن أفرادا غافلوا الحراس وفرّوا من المعسكر الشرقي إلى المعسكر الغربي؛ لأن الحرمان استبدّ بهم واليأس قد سدّ كل طريق أمامهم؛ فوجدوا ألا خلاص إلا بركوب المخاطر والتعرض للهلاك باقتحامهم الأسوار.(14/286)
هذا من الناحية الاقتصادية التي هي الشغل الشاغل للعالم أجمع، أما ما عدا الناحية الاقتصادية فإن نظاما يقوم على مبدأ الروح والمادة اللذين هما العنصر المكوّن للإنسان لا شكّ أنه يسعد المرء في دنياه وفي أخراه، وهذا ما حقّقه الإسلام لمعتنقيه، بخلاف نظام يقوم على نكران الروح ويجعل الحياة مادة صرفة، وان الشيوعي ما هو إلا قطعة من آلة ما دام تسير فيها الوقود فهي تعمل ولا تفكر وتسير، وحذار أن تلتفت حولها أو تسأل عن شيء بدا لها.
فنظام هذا طابعه لا شكّ يشقى معتنقيه ويجعلهم يرزحون طول حياتهم تحت عبء الهمجية الداعرة والفوضوية التي لا تقرّ نظاما مهذّبا أو دستورا كريما ساميا يرتقي ببني الإنسان عن مستوى الهوام والحيوان، وبذلك اتضح الأمر لذي عينين، وأميط اللثام عن نظامين ومنهجين، أحدهما في أسمى درجات الرفعة والعلو وهو الإسلام، والثاني من أحطّ دركات الحضيض والامتهان، وهو الشيوعية، وتلكم ما هي إلا نظام الإلحاد والكفران.(14/287)
العدد 39
فهرس المحتويات
1- أهل الكتاب في القرآن الكريم: لفضيلة الشيخ معوض عوض إبراهيم
2- التكرار في القرآن العظيم: لفضيلة الدكتور أحمد جمال العمري
3- بين القرآن والكتب السماوية - حكم حفظه دونها: لفضيلة الدكتور إبراهيم عبد الحميد سلامية
4- عالمية الرسالة بين النظرية والتطبيق: لفضيلة الشيخ محمد الغزالي
5- الدين الحق: لفضيلة الدكتور عبد المنعم حسنين
6- المصلحة المرسلة محاولة لبسطها ونظرة فيها: لفضيلة الدكتور علي محمد جريشة
7- الأدلة والبراهين على حرمة التدخين: فضيلة الشيخ إبراهيم محمد سرسيق
8- رسائل لم يحملها البريد: لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
9- الحضارة الإسلامية: لفضيلة الشيخ أحمد عبد الرحيم السايح
10- تأملات في كتاب (الله أو الدمار) : لفضيلة الشيخ محمد مصطفى المجذوب
11- المقاومة في الشعر الأندلسي - دراسة تحليلية نقدية: لفضيلة الدكتور عبد الرحمن بله علي
12- متى يفيق الغافلون: شعر فضيلة الشيخ: محمد المجذوب
13- صيغة فعلان واستعمالاتها في اللغة العربية: لفضيلة الدكتور مصطفى أحمد النماس
14- تسعة أغلاط في خبر صغير
15- الإسراء وفلسطين ودولة اليهود: لفضيلة الشيخ أسعد بيوض التميمي
16- من أعماق الكتب
17- محمد أمين المصري: بقلم الشيخ محمد الصباغ
18- الصحافة المصرية في قفص الاتهام: عن مجلة (الاعتصام) - القاهرة
19- رأي في إصلاح أجهزة الإعلام
20- وصايا صحية: لسعادة الدكتور حسين كامل
21- إلى أين أيها.. المغرب الحبيب؟
22- أخبار الجامعة
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(14/288)
أهل الكتاب في القرآن الكريم
لفضيلة الشيخ معوض عوض إبراهيم
إن الذين يستهدفون جلاء حقيقة إلهية في كتاب الله الكريم، أو إبراز قضية من قضايا السنة المطهرة، يمضون إلى غاياتهم في نور القرآن والسنة، غير ملقين أسماعهم لصيحات باطل تتردد في فترة من فترات الزمان، أو في أي مكان، آخذين ذلك الأدب من كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول لمصطفاه.
{وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور} ِآل عمران (186) .
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك القدوة الحسنة لصحبه، حتى قال تعالى فيهم: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} القصص (55) .
وقال في خواتيم سورة الفرقان من صفات عباد الرحمن: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} الآية (63) .
وقال: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} الآية (72) .
يمضي المسلمون إلى غاياتهم النبيلة لا يزايلون آدابهم التي توارثوها جيلا عن جيل، وقبيلا في أعقاب قبيل، من كتاب ربهم وسنة نبيهم، القولية والعملية على سواء.
((ولو أنهم ردُوا منكر القول وزوره بحجة الحق، وقوة الصدق ما اعتدوا أبدا، ولا جاوزوا مشارع الصواب)) قال تعالى:
{لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} النساء (114) .(14/289)
ولكننا نرجو عفو القادر الذي يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.. وهو تعالى يقول.. {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} النساء115.
ولقد قال أحدهم لابن عباس رضي الله عنهما: هل عليَّ من جناح إن آخذت من ظلمني؟! فقال: لا. ثم تلا قوله تعالى:
{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الشورى: (41-42) .
وإني لأذكر، وكأن ذلك الساعة، أنني كتبت من قرابة ثلاثين عاماً كلمة في مجلة ((نور الإسلام)) التي كانت وما تزال تصدرها إذاعة الوعظ في الأزهر. وكان عنوان الكلمة ((الجامعة الإسلامية.. بعد الجامعة العربية)) وكانت الجامعة العربية وليدة ما تزال في السنة الرابعة من عمرها تقريبا، وكانت الفرحة بقيامها أملا في إمكان جمع الصف الإسلامي وتوحيد أممه وشعوبه في جامعة إسلامية، وكان الجو الذي كتبت فيه بحثي قبيل موسم الحج في ذلك العام، فاسترعيت الانتباه إلى إمكان جمع شتات أمتنا الكبرى التي تجتمع في الصلاة خمس مرات في كل يوم وليلة، وتجتمع في الجمعة تجمعا أكبر، وتجتمع في الأعياد على نحو اظهر وأبهر، وتجتمع في فريضة الحج من كل فج عميق في مهد التوحيد ومنزل الوحي، في عرفات وغيره من مشاهد الفريضة الخاتمة!!(14/290)
ولم يمضي طويل زمن حتى حمل البريد إلي رسالة أحد القسس من بلدة اسمها صفط الخمّار بمديرية المنيا يومئذ، وهي في صعيد مصر، وتبعد كثيراً عن بور سعيد التي كنت أؤدي فيها آنذاك أمانة الدعوة إلى الله، وفي الرسالة من سخائ م النفوس، وأوغار الصدور، والضيق بالإسلام الكريم ما اجتزئ منه بمجرد الإشارة إليه، ولون الماء من لون الإناء كما يقولون، وصدق الله الذي يعلم من خلق، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} آل عمران/ 118
وحسبي أن أورد هذه العبارة من رسالة القس فهي أخف ما فيها.. قال ((أي جامعة إسلامية تريدها يا شيخ معوض؟! عوضَك الله خيرا في الإسلام)) !!!
ولقد رددت على الرسالة، ولكن العهد حينئذ، ونظام الحكم، وضيق المسئولين بكلمة الإسلام حالت دون نشر ما كتبت وللبحث والرسالة والرد عليها فرص تحين إن شاء الله مقرونة بذكريات ليس إلى نسيانها من سبيل مع قسس كانت تجمعنا بهم صوالح المناسبات، ولا يعلق بالخواطر من أقوالهم وأفعالهم ما يثير ريبة أو يدعو لإنكار، وبور سعيد تذكر ذلك العهد وكم ذكروني به حين كنت بينهم من أيام تجدد عهد الدعوة في ظروف طغت فيها مادية ((المدينة الحرة)) على طبيعة الهدوء التي عرف الناس بها بور سعيد من قديم.(14/291)
أجل إن ما يتهاوى إلى الأسماع في هذه الأيام من برم تطبيق الشريعة الإسلامية في بعض أقطارها، واستعلان أقوام كانوا منذ قريب يدعون إلى ((وحدة الأمة)) و ((وحدة الكتب الدينية)) التي تملأ خواء الأنفس، وفراغ الأرواح من سلطان الدين والإيمان اللذين هما في المناخ الإسلامي البلسم والشفاء والهدى والضياء، ولا شيء من ذلك في غير كلمة الله الأخيرة.. الإسلام!!
استعلان هؤلاء باستنكارهم لتحكيم الشريعة الإسلامية في برقيات وبحوث ونشرات صفراء.. وإعلان الصوم أياما.. لا إلى الموت كما فعل ويفعل أقوام ـ يكشف عن خبيئة هؤلاء القناع ويسلط النور على ما يصطنعونه حينا بعد حين من كيد وحيلة وخداع، ويضيف جديدا من الشواهد على أن المسلمين وحدهم ـ هم صمام السلام، وألوية الوئام منذ أعطى نبيهم صلوات الله عليه ((أهل الكتاب)) من يهود عهده "لهم ما لنا وعليهم ما علينا.."وما يعنيه قوله "أحب أن يعلم أهل الكتاب أن في ديننا سماحة".
ولا يحسبن أحد أن هذه السماحة تعني الضعف أو المواربة والخداع، كلا وإيم الحق، وليسأل من شاء التاريخ القريب والبعيد،
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ألا لا يجهلن أحد علينا
وما يضائل من حرصي على متابعة ما بدأته من بيان ((أهل الكتاب)) في القرآن والسنة أن أدعو من ينصف من ((أهل الكتاب)) إلى استجلاء حرص النبي صلى الله عليه وسلم على دعوة القوم إلى الإسلام ابتداء بالأهم فما يليه، وباب بعث معاذ إلى اليمن في الصحيحين وفي مسلم بشرح النووي يورد رواية "فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم.." الحديث وقد أورد الإمام النووي كلاما للقاضي عياض كأنه الإلهام في هذه الأيام، أو رؤية الغيب من وراء ستر رقيق، قال النووي ((قال القاضي عياض:(14/292)
وهذا ـ ما يستفاد من الرواية المذكورة يدل على أنهم ـ أهل الكتاب ـ ليسوا عارفين الله، وهو مذهب حذاق المتكلمين في اليهود والنصارى، أنهم غير عارفين الله تعالى، وإن كانوا يعبدونه ويظهرون معرفته، لدلالة العقل عندهم على هذا، وإن كان العقل لا يمنع أن يعرف الله تعالى من كذب رسولا)) .
قال القاضي عياض رحمه الله: ((ما عرف الله تعالى من شبهه وجسمه من اليهود، أو أجاز عليه البداء أو أضاف إليه الولد منهم، أو أضاف إليه الصاحبة والولد، وأجاز الحلول عليه والانتقال والامتزاج من النصارى)) .
((أو وصفه بما لا يليق به، أو أضاف إليه الشريك والمعاند في خلقه من المجوس والوثنية، فمعبودهم الذي عبدوه ليس هو الله، وإن سموه به، إذ ليس موصوفا بصفات الإله الواجبة له)) .
((فإذن ما عرفوا الله سبحانه، فتحقق هذه النكتة، واعتمد عليها. وقد رأيت معناها لمتقدمي أشياخنا، وبها قطع الكلام أبو عمران الفارسي بين عامة أهل القيروان عند تنازعهم في هذه المسألة)) 1هـ[1] .
وفي القرآن الكريم آيات تنطق بهذا النحو من الفهم بصراحة لا يعتريها شيء من الخفاء أو اللبس، وآيات أخرى تطول بها أعناق طوائف اتَسموا بالإنصاف والبراءة من اللجاج والخلاف والإعتساف، وذهبوا بحظ وافر من الإيمان الواثق والإذعان المطمئن للإسلام وكم نجد اليوم غير أستاذ في جوانب من شرق الدنيا وغربها، قد خلعوا أردية التعصب للباطل، والتشبث بما تواصى به غيرهم لمجرد أنه مواريث أوائلهم، ونظروا في القرآن والسنة بتجرد وصدق في نشدان الحق، فانكشف لهم من خلال الإسلام عقيدة ومنهاج عبادة وسلوك ما صرحوا به ولم يلمحوا، وأعلوا حجته على مأثورهم من معتقدات لا تتماسك أمام النظر السليم والعقل القويم، وهكذا يشق الحق طريقه، ويشرق ويتألق، قاهرا الأوهام وسجف الظلام التي تكتنفه وتعترض بفعل الأقوام مساره.(14/293)
{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَال} الرعد (17) .
يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله – في كتابه أضواء البيان جـ1 ص74 عند تناوله لقول الله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} البقرة (131) .
أشار إلى أنه دين الإسلام هنا بقوله {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام} آل عمران (19) .(14/294)
وقوله {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} آل عمران (85) .. ثم علق رحمه الله على قوله تعالى {وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى..} البقرة (136) فقال: ((لم يبين هنا ما أوتيه موسى وعيسى ولكنه بينه في مواضع أخرى، وذكر أن ما أوتيه موسى هو التوراة المعبر عنها بالصحف في قوله تعالى {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} الأعلى (19) ، وذلك لقوله {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَاب} الأنعام (15) –وهو التوراة بالإجماع ((وذكر أن ما أوتيه عيسى هو الإنجيل كما في قوله {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنجيل..} الحديد (27) اهـ، إنها ليد بيضاء للقرآن على ((أهل الكتاب)) وهو يسمي كتبهم، ويعرِّف بها، ويشيد بخصائصها في زمانها، وشهادتها بما أنزل الله من بعد في الكتاب المهيمن والقرآن –ولله ولكتابه المثل الأعلى- هو الشمس التي تشرق بنور ربها، وتعطي الفرصة لغيرها من الأشياء التي تظهر مزاياها وجوانب الحسن فيها، فيكون للشمس ونورها في ذلك الظهور والوضوح أكبر الفضل.
ولقد كان من حق عارفة القرآن، على ((أهل الكتاب)) أن لا يجحدوها طرفة عين.. لكن الطبائع غالية، فمن القوم إن لم نقل أكثرهم من يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ويأخذون آيات الله هزوا، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويقولون ليس علينا في الأميين سبيل، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} البقرة (89) .
هذا إجمال يتبعه تفصيل، وعموم تلقاك على تخصيصه عما قليل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.(14/295)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] شرح الإمام النووي لصحيح مسلم ج 1 ص 199-200.(14/296)
تأملات في كتاب (الله أو الدمار)
لفضيلة الشيخ محمد مصطفى المجذوب
بين يدي الساعة كتاب (الله.. أو الدمار) من تأليف الأستاذ سعد جمعه رئيس الوزارة الأردنية أيام النكبة، التي زلزلت العالم الإسلامي عام 1387هـ (1967م) وقد سبق أن قرأت من تصانيفه كتابيه (المؤامرة ومعركة الصبر) ثم (مجتمع الكراهية) فحفزني إعجابي بهما على تصفح هذا الثالث، الذي لم يفارق سبيلهما في تقصي الوقائع واستشفاف الحقائق بنور الله، الذي يفيضه على القلم النظيف، فيهز بما يكتب القلب المفتوح لأشعة الحق.
لقد وفق المؤلف في هذا السفر إلى استجلاء كثير من الأسرار، التي لا يتوافر الحصول عليها إلا للصابرين على المطالعة والمتابعة والملاحظة، فهو حصيلة عشرات الكتب، وخلاصة لدراسات نفسية على الطبيعة، تغلغل بها إلى الأعماق من التيارات التي واجهها ويواجهها أثناء وجوده في الحكم، واستشرافه عن كثب للعوامل التي ألفت عناصر المأساة، ثم ما أعقبها من زعازع لا تزال تخض أعصاب الجيل فتبعثره بين مختلف المذاهب والجوانب، ولو شئت الإشارة إلى ل ما انطوى عليه هذا الجهد من الحسنات لاضطررت إلى الوقوف عند كل واحدة من صفحاته المائتين والسبعين، التي حفلت بالقبسات البارعة، والاستنباطات الرائعة، والتعابير المتألقة الماتعة، وما ذلك بالميسور في المحدود من السطور، فبحسبي إذن أن أوجه نظر القارئ منها إلى بعض النماذج الدالة على ما ورائها من الجمال، لينهض إلى استقصائها بنفسه فذلك أجدى عليه وأمتع له.(14/297)
في صدر الفصل الخاص بالتبشير والاستعمار مثلا يقف المؤلف على عمل المستشرقين في تمجيد ما يسمونه (التصوف الإسلامي) لقربه في زعمهم من المفهومات المسيحية (فهم لذلك يسوغون عقيدة الحلول والفناء عند الصوفية التي تدعوا إلى الرهبنة والانعزال والهروب من مشاكل الحياة، وصرف المسلمين عن فكرة الجهاد) [1] ومع أن المؤلف لم يطل وقفته هناك، فقد قدح بها رغبة القارئ في تتبع مجاري هذه المكيدة الاستشراقية، ليرى مدى نجاحها في استهواء العديد من طلابهم المسلمين، ودفعهم إلى التشبث بهذه الانحرافات، بعد أن تمكنوا من الاستحواذ على إعجابهم، فعادوا إلى مواطنهم يبثون في قلوب العامة وأشباههم هاتيك السموم، ويتعهدون تغذيتها بكل ما أوتوا من طاقة ونشاط..
ويتبع المؤلف آثار المستشرقين والمبشرين في أوساط البعثات التعليمية (التي عادت محملة بخمائر المذهبيات الأوربية..) وراحت تحقق أغراضهم في بث الخلافات الايديولوجية التي صدعت الشمل، ونشرت بذور التشكيك. وضرب على ذلك مثلا بطه حسين الذي حمل دعوة هؤلاء الشياطين للانفصال عن الإسلام، والاندماج في بناء الحضارة الغربية بعُجَرَها وبُجَرها.. ثم يخص بالذكر الشيخ علي عبد الرزاق، الذي يعرضه كعينة لما يمكن لعدوى الاستشراق والتبشير أن تعمله حتى في أفكار بعض علماء الدين. وينقل هنا رأي الدكتور محمد البهي في نقد كتاب هذا الشيخ (الإسلام وأصول الحكم) ومهاجمته فيما حواه حيث يلخص مضمونه بأنه دعوة صريحة لتهديم النظام الإسلامي بإبطال الجهاد، واعتبار الشخصية الجماعية في الإسلام قد انتهى أمرها بوفاة صاحب الرسالة {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} .(14/298)
ولقد أحسن المؤلف صنعا حين نقل في أمثال هؤلاء، الذين خربهم المستشرقون والمبشرون، شهادة (جان بول سارتر) في مقدمته لكتاب (معذبو الأرض) المترجم إلى العربية وفيها يقول (شرعت الصفوة الأوربية تصطفي فتيانا مراهقين، ترسم على جباههم بالحديد الأحمر مبادئ الثقافة الأوربية، وتحشو أفواههم بشعرات رنانة، ثم تردهم إلى ديارهم وقد زيفوا، واستحالوا أكاذيب حية [2] ..) وإنها لشهادة دامغة لهؤلاء الناعقين بأبواق الغرب يطوقهم بعارها واحد من أساطين الهدامين الذين أسهموا في إفسادهم..
ومثل ذلك تصويره لخصائص اليهودية التي جمعت أولئك الشذاذ على إقامة إسرائيل حتى ينتهي بالقارئ إلى ذلك المشهد الرهيب حيث أحاطت جماهير اليهود بحائط المبكى، يوم السابع من حزيران لتقيم صلاة النصر، وهي تهتف بأصواتها المدوية: ليسقط.. اليوم انتهى محمد.. محمد مات وخلف بنات يالثاَراتِ خيبر!!!
ثم يردف ذلك العرض الفاجع بهذا التقريع الصادع: (لم يهتفوا ضد ناصر أو الأتاسي أو عارف أو الحسين، أو غيرهم من قادة العرب وزعمائهم لأن هدف المؤامرة هو محمد والإسلام) .
وإنها والله لكذلك..
فوا محمداه.. ووا إسلاماه!!! وبعد.. فتلك لمحات عجلى من روائع ذلك السفر لا تغني عن قراءته في تدبر. وأن عنوانه (الله.. أو الدمار) لأدل على مضمونه من أي محاولة لتعريفه إذ هو حشد من البراهين الحاسمة، تلاقى على صياغتها التاريخ والعلم والأحداث، والدراسات النفسية والاعترافات الصارخة، على أننا نحن العرب والمسلمين، بل البشرية أجمعون مهددون –بعد الضياع- بالدمار الماحق، إلا أن نعود إلى الله، ونعتصم بحبله الذي لا ينفصم: الإسلام. ولكم كنا نود لو تمت له ميزة السداد، فسلم من بعض الهفوات التي رأينا التنبيه إليها في هذا التعقيب، خدمة للكتاب، وتعاونا على الخير الذي يهدف إليه الكتاب.(14/299)
1- في القسم الخاص بالحديث عن مفاسد المبشرين من مقدمة الكتاب يعرض المؤلف صورا باهرة عن تسامح الإسلام، وعن آثار المسلمين في ميادين العلم والحضارة ويستشهد لذلك بكلام من مؤلفات بعض المستشرقين. وهو منهج سليم ومفيد، إلا أن بعض نقوله تكاد تتجاوز الضروري بل تكاد تؤدي إلى غير ما يريد، ونمثل على ذلك بما نقله على المستشرق (اميل درمنجهايم) في ص 85، 59 عن موضوع الصلة بين الإسلام والنصرانية، ومحاولة هذا المستشرق تصوير الصلب الذي يزعمونه للسيد المسيح، على أنه متفق مع تفسير بعض مفكري المسلمين -كذا- إذ ينسب لهؤلاء القول بأن المسيح قد صلب ولكنه لم يمت على الصليب، بل أنزل عن صليبه قبل أن يلحق روحه بالرفيق الأعلى وهو زعم لا نعرف له قائل في تاريخ الإسلام. اللهم إلا أن يكون من المأخوذين بترهات هذا الأفاك..الغافلين عن حكم الله بأنهم {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ..} وقد أجمع علماء القرآن على أن المراد بالتشبيه إلقاء شبه السيد المسيح (ع) على شخص الخائن يهوذا حتى أخذ مكانه، وهو ما أثبته برنابا في إنجيله المعروف. ومع ذلك فإن المؤلف سامحه الله يكتفي بعرض هذه المفتريات دون معارضة ولا مناقشة سوى قوله (ليس قصدي من إيراد هذه النصوص الخوض في مناقشات دينية أو التسليم بكل ما احتوته..) وإنما عمد إلى ذلك النقل ليثبت مدى رعاية الإسلام للنصارى، تألفا لهم وتطمينا لقلوبهم. وقد كثر هذا الضرب من المعاملة لهؤلاء المواطنين وبخاصة في هذه الأيام، حتى كدنا نهتم بالملق، دون أن يعود ذلك إلى قضايانا المصيرية بأي مردود مفيد. وأمامنا الأمثلة القاطعة على هذا الإخفاق في لبنان ومصر والفليبين واندنوسية، وعشرات الأقطار التي أطبقت عليها كوابيس التعصب الصليبي فلم تراع فيها إلا ولا ذمة.. وكان الأحرى بنا والأكرم أن نعاملهم بعدالة الإسلام وصراحته، فنخاطبهم بما خاطبهم الله {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا(14/300)
إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (3/64) ونؤكد لهم في تصميم حاسم أننا ملتزمون معهم أبدا بالمبدأ الإلهي الخالد {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (60/8) فما داموا سَلَماً لنا، مخلصين في معاملتنا، فلهم ما لنا، وعليهم ما علينا، بل لهم فوق ذلك منا حق البر لهم الذي هو زائد على العدالة..
ولعمر الله إن لم يرضيهم منا هذا كله فلن يرضيهم إسرافنا في التزلف إليهم بالغا ما بلغ ذلك الإسراف.
2- وفي القسم الأخير من الكتاب يتناول المؤلف الفاضل أوضاع المجتمع القائم في ديار الإسلام، فيعرض للتناقضات الماثلة بين طبقاته وحقائق الوحي، وفي أسف عميق يتساءل (أليس من عجائب دهرنا ومصائب زماننا أن يصبح علماء الإسلام في بعض البلاد العربية هيئة دينية كالاكليروس مهمتها اللهاث في مواكب الحاكمين والركض في ركابهم، والإفتاء لتشريعاتهم المخالفة للإسلام!..) .
وهو في هذه الزفرة اللاذعة إنما يعبر عن ضمائر المؤمنين في كل مكان من عالم الإسلام.. غير أنه في صدد النقد لبعض هؤلاء العلماء يحدثنا عن واحد من أساتذة كلية الشريعة في بلد عربي سمعه يخطب في إحدى المناسبات الدينية فيقول (إن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يرسل إلى الإنس وحدهم، بل إلى الإنس والجن جميعا..) .(14/301)
يقول المؤلف: هذا التقرير القطعي الذي لا سند له من قرآن أو سنة.. ومن أجل ذلك عاد إلى كتاب الله يكرر قراءته، وإلى الحديث الصحيح يتلوه مجتهدا، فلم يجد دليلا على أن رسول الله قد اجتمع برهط من الجن ليبلغهم رسالته.. ثم يأخذ في سرد الآيات المتعلقة بذكر الجن وبرسالته صلى الله عليه وسلم ليؤكد لنا ما ذهب إليه من نفي لدعوى ذلك الأستاذ!.
وأنا مع تقديري الكبير لمجهود المؤلف وإخلاصه العميق للحق، أجدني مضطرا للوقوف بجانب ذلك الأستاذ، لأني من المؤمنين بشمول رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم للثقلين جميعا. وفي اعتقادي أن الأستاذ المؤلف أيضا لن يتردد طويلا حتى ينضم إلى صف المؤمنين بهذه الحقيقة، بعد الإطلاع على دلائلها القاطعة إن شاء الله.
ولننظر إلى الموضوع من زواياه المختلفة، ففي كلام الأستاذ المؤلف حفظه الله أمور تقتضي التفصيل:
1- أنه ينفي اجتماع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأي رهط من الجن.
2- ومن ثم فهو ينفي أن يكون صلى الله عليه وسلم قد بلغ الجن.
3- يفهم الأستاذ المؤلف من قوله تعالى {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} .. أن لكل من الفريقين رسلا من جنسه، فللإنس رسلهم من الإنس، وللجن رسلهم من الجن.
4- ويستشهد لذلك بقوله تعالى في خطاب محمد صلى الله عليه وسلم {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً..} إذ يفهم منه حصر رسالته صلى الله عليه وسلم بالناس دون غيرهم.
وعلى هذا فسنتناول كلاً من هذه النقاط على حدة حتى ننتهي إلى النتيجة المقنعة.(14/302)
ونبدأ بالأول فنقول ما قاله رواة السنة عن ابن عباس وغيره أن النفر الذين ورد ذكرهم في سورتي (الأحقاف) و (الجن) لم يجتمعوا برسول الله بل أوحي إليه خبرهم، وإنما أتاه داعي الجن بعد ذلك، فقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عز وجل، كما رواه البيهقي عن ابن مسعود (رض) [3] .
وفي رواية البيهقي أيضا عن ابن هريرة (رض) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال له: "أتاني وفد جن نصيبين فسألوني الزاد، فدعوت الله تعالى لهم ألاً يمروا بروثة ولا عظم إلا وجدوه طعاما" وقد أخرجه البخاري في صحيحه بإسناد قريب منه.
وفي مسند الإمام أحمد عن علقمة عن ابن مسعود (رض) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "أتاني داعي الجن فقرأت عليهم" وفيه أنهم سألوه الزاد فقال: "كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم.." وهكذا رواه مسلم في صحيحه عن علي بن حجر عن إسماعيل بن علية به نحوه.
ومن أخبار ابن مسعود (رض) عن اجتماع رسول الله بالجن ما يرويه ابن جرير وغيره من أنه صلى الله عليه وسلم انطلق به ذات ليلة "حتى إذا كنا بأعلى مكة خطً لي خطا ثم أمرني أن أجلس فيه ثم انطلق حتى قام، فافتتح القرآن فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته..".
والقارئ لتفسير ابن كثير لسورة الأحقاف يواجه العديد من الأحاديث التي ورد فيها هذا الخبر من طرق كثيرة العدد أيضا.. مما يقطع بأن اجتماعه صلى الله عليه وسلم بالجن، وتبليغه إياهم الدعوة، قد حصل في مرحلة تالية لاستماعهم منه دون علمه.
هذا إلى أن سورة (الرحمن) بأسرها توكيد لهذا الواقع، الذي يتجلى في خطاب الثقلين. وإقامة الحجة عليهم جميعا، بآلائه التي لا يسع أحداً من الفريقين إنكارها. {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان!!} .(14/303)
وقد روى البيهقي والترمذي عن جابر بن عبد الله (رض) قوله: قرأ رسول الله سورة الرحمن حتى ختمها ثم قال: "مالي أراكم سكوتا؟ لَلْجن كانوا أحسن منكم ردا. ما قرأت عليهم هذه الآية {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان} إلا قالوا: ولا بشيء من آلائك أو نعمك ربنا نكذب. فلك الحمد".
أما قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} فهو كقوله سبحانه {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} . ومعلوم أنهما لا يخرجان إلا من أحد البحرين دون الآخر، وهي من طرائق العرب في إعطاء حكم الواحد للأكثر لعلاقة بينهما، وإنما الآية تقرير ملزم بإيصال الرسالة إلى الثقلين دون تحديد لجنسية الرسول من أي الفريقين. لأن هذه الهوية قد حددت في آيات أخرى كقوله عز اسمه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ..} ففي ذلك توكيد قاطع بأن الجن تابعون لرسل الإنس، وليس فيهم رسل من جنسهم وإنما فيهم منذرون يبلغون رسالات النبيين من بني آدم. ويستدل العلماء على ذلك من آية الأحقاف (29-32) حيث نرى المستمعين القرآن من الجن ينطلقون لفورهم إلى قومهم منذرين، فيربطون بين رسالة موسى ورسالة خاتم النبيين، ويعلنون ألاّ خلاص من عذاب الله إلا بإتباع هذا الداعي الجديد، المصدق لما سبقه من كتب الله، والهادي إلى الحق وإلى طريق مستقيم. وهو سياق لا يدع مجالا للريب بأن هؤلاء كانوا مؤمنين برسالة موسى عليه السلام ثم أقبلوا يكملون إيمانهم بإتباع محمد صلى الله عليه وسلم وبذلك يسقط كل جدل حول هذه القضية. إذ لا يبقى مناص عن الإقرار بشمول الرسالة الخاتمة للثقلين جميعا، وبذلك أيضا ينتفي الوهم بحصر رسالته صلى الله عليه وسلم في الناس وحدهم كما فهم الأستاذ من قوله تعالى {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} لأن مساق هذا الجزء من الآية التاسعة والسبعين من سورة النساء صريح بأنه تفنيد لمغالطات المنافقين الذين لا(14/304)
يفقهون حقيقة الرسالة، ويردون كل سوء يصيبهم إلى إتباعهم -في الظاهر- لرسول الله، فجاءت الآية ردا على تقولاتهم، وبيانا لمهمته صلى الله عليه وسلم بأنها التبليغ عن الله، مع تنزيهه عن كل ما ينسبه إليه أولئك الخراصون.
والبحث مع مثل المؤلف لا يقتضي الإسهاب في موضوع الجن، وجودهم وكونهم مكلفين وملزمين بإتباع الرسالات الإلهية. فذلك أمر مفروغ منه بحكم إيمانه بالكتاب والسنة، وإنما يكفي لإقناعه بالحق تذكيره بالنصوص الشاهدة له عملا بقوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (24/51) وحسب المؤمن في ذلك قول ربه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (51/56) ولا عبادة إلا بشرع، ولا شرع إلا بوحي، ولا وحي إلا برسول. وما أخال الأستاذ حفظه الله بعامد إلى الجدال في الأحاديث المتعلقة بالبحث لكونها من الآحاد، فذلك قول لا يقف أمام الحجة البينة من أعمال الصحابة في التبليغ عن رسول الله، وفي صحيح البخاري باب خاص في إجازة خبر الواحد لا يدع مجالا لمعترض يريد وجه الله.
3- وقد بقيت ثمة هفوات صغيرة، ولكنها على ضآلتها مشوهة لجمال الكتاب رأينا أن نختم الكلام بالإشارة إليها رجاء أن يتداركها في الطبعات التالية فيكمل له الأجر من الله، والدعاء من عباده إن شاء الله.
ففي ص 14 من المقدمة. وأثناء تحديده لمهمة المفكر الشريف في إطار الإصرار الصارم على قولة الحق، يفاجئنا بهذا الكلام: (أما الصخب والكذب و.. فهي ليست من صفات من يحمل قلمه كصليب يسوع!..) فلا نتمالك أن نتساءل في أسى: وما شأن الصليب ويسوع في هذا المقام!.. وكيف سمح لقلمه أن يلتقط مثل هذا التعبير الدخيل المنافي لمعتقده الإسلامي!..(14/305)
وفي ص 140 يقول (فكل من يدعو إلى القومية، وينكر وجود الله، هو حيوان في صورة إنسان!) وأنا أستميحه عذرا للدفاع عن حقوق الحيوان، الذي أفرط في إهانته عندما وضعه على مستوى الملحد المنكر لوجود خالقه.. فكيف؟.. وربنا يشهد للحيوان بارتفاعه عن مكانة أولئك المسوخ حين يقول: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (25/44) ويستمر المؤلف في تسفيه هذا الضرب الحقير من شراذم الكفر حتى يقول: (فهو جاهل غبي مخلوق خطأ..) وأحسب الأستاذ يريد بذلك أنه مقلوب العقل مشوه الفطرة، إلا أن التعبير بكونه (مخلوقا خطأ) من الأشياء التي كنا نود أن يتنزه عنها مثل ذلك القلم المؤمن. لأن أقل ما يفهم منه نسبة الخطأ إلى الخالق في إيجاد هذا النوع من المخلوقات ومثله أبعد ما يكون عن قبول هذا المضمون، لأن خلقه تعالى هؤلاء الكفرة كخلقه الأفاعي والجردان، لا يخلو من حكمة تليق بجلاله سبحانه، فلو سلمت الحياة من هذه الآفات لقُتِلت حوافز البحث في الإنسان ولما كان ثمة ضرورة لإقامة المخابر والمصانع، والالآف من مظاهر المدنيات..
ولنختتم هذه الجولة بوقفة قصيرة حول كلمة صغيرة. ولكنها من حيث آثارها المجربة كبيرة.
لقد عني الأستاذ بالعبارة المشهورة (اختلاف أمتي رحمة) فأقر نسبتها إلى الرسول وجعل يؤكد بها يسر الإسلام، وتقديره لحرية الفكر والعقل. وما إلى ذلك [4] . ولو هو قد رجع إلى ما كتبه المحققون حولها لبحث عن نص آخر من الكتاب أو السنة يدعم بها فكرته. ذلك لأن العبارة موضع (اختلاف) كثير، ولم يثبت لها سند متصل عن رسول الله.(14/306)
يقول السخاوي في (المقاصد) عن بعض رواتها: جويبر هذا ضعيف جدا، والضحاك عن ابن عباس منقطع. ثم يقول: وعزاه الزركشي إلى كتاب الحجة لنصر المقدسي مرفوعا من غير بيان لسنده ولأصحابيه، وعزاه العراقي لآدم بن أبي إياس بدون بيان وبلفظ: (اختلاف أصحابي رحمة لأمتي) وهو مرسل ضعيف [5] . وفي (الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة) يعقب السيوطي على العبارة بقوله: هذا يدل على أن المراد اختلافهم في الأحكام. وقيل المراد اختلافهم في الحرف والصنائع) . وهذا أقرب إلى المعقول من تسويغ الاختلاف في كل شيء. لأن ذلك كناف لروح الإسلام الذي يحذر المسلمين الاختلاف وحسبنا في ذلك قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (3/105) وأي خير يرجى من الاختلاف بعد أن جعله الله في مقابل الرحمة إذ يقول سبحانه {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّك} (81-118 و119) ولعمر الحق لو أن الأستاذ استحضر في ذهنه ما يعلمه من واقع المسلمين وما يعانونه من دواهي الاختلاف، وما أدى إليه من تفرقهم حتى في العقائد، لم يأذن ليراعه بإثبات هذه الكلمة، ولتذكر أن موقف الإسلام من تقدير الفكر والعقل لا يعود إلى الاختلاف بل إلى التعاون على البر والتقوى، وبذل الوسع في إصابة الحق وإلتزام القول السديد، حسب توجيهات الكتاب المجيد.. ولا بأس بعد ذلك في تباين الفهوم، وتفاوت القُدَر، ففي هذا متسع للمواهب غير محدود.
وأخيرا.. لقد سبق أن ذيلت آخر صفحات (مجتمع الكراهية) بالكلمات التالية:
((.. في هذه النفثات حقائق ووثائق، ولكن أروع ما فيها هو صدقها وحرارتها.. فليجزك الله يا سعد عنا كل خير، وليغفر لك هفواتك التي لم ترد بها إلا الخير..)) .
عالية- لبنان 19/7/1391هـ.(14/307)
وأكرر في كتاب اليوم ما قلته في كتاب الأمس.. سائلا الله جل وعلا أن يهدينا لما اختلف فيه الناس من الحق بإذنه، فإنه الهادي من يشاء إلى صراط مستقيم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ص 63 ق 3.
[2] ص 121.
[3] يراجع في ذلك تفسير ابن كثير لسورة الأحقاف.
[4] ص 156.
[5] (المقاصد الحسنة) للسخاوي ص 26 و27 ط العلبي والمغني 1956.(14/308)
المقاومة في الشعر الأندلسي
دراسة تحليلية نقدية
لفضيلة الدكتور عبد الرحمن بله علي
يرى بعض الكتاب أن أوربا هي أول من عرف أدب المقاومة، وذلك حين وقعت في قبضة النازية، فكان الأدب أحد العناصر القتالية التي قاومتها، وشنت عليها حرب شعواء، فقد بدأ الأدب يكشف مخازيها وإهدارها لكرامة الإنسان، فعبأ النفوس وأشعل جذوة الحماس، ودعا للقتال، ونادى لمقاومتها، حتى يتقلص ظلها وتذهب ريحها، فتسلم البشرية من بالغ ضررها وعظيم خطرها.
هذه النظرة إن خلت من التعصب فهي قطعا لا تخلو من القصور، ذلك أن الأدب العربي قد سبق الأوربي إلى ميدان المقاومة، فهو حتى في جاهليته لم يكن بمعزل عن وجدان الأمة منصرفا عن احتياجاتها مقصراً في الذود عن قيمها. بل كان فكرها المدبر ولسانها المعبر يحدو مسيرتها، ويعبئ قواها، ويثر حماسها خاصة في الأوقات التي تتعرض فيها للهزائم العسكرية والهزات النفسية.
ونحن نعرف أن القبيلة في الجاهلية كانت تقيم الحفلات وتدق الطبول ابتهاجا بنبوغ شاعر، لأنه سيكون الناشر لأمجادها الذائد عن حياضها. وكان الشاعر إذا مدح قبيلة رفعها مكانا عاليا رغم دنو منزلتها وحقارة شأنها، وإذا هجا أخرى حط من قدرها وإن كان ذاهباً في أجواء السماء. ومرجع هذا طبيعة الكلمة العربية ذات الخاصية المتفردة، فهي إذا ما صيغ منها شعر موزون أو نثر مسجوع فعلت في النفوس فعل السيف في الأبدان فلا غرو إن شبهوا اللسان بالسيف. قال سويد بن أبي كاهل اليشكري:
كحسام السيف ما مس قطع [1]
ولسانا صيرفيا صارما(14/309)
ولما جاء الإسلام بما خالف عليه العرب في حياتهم الدينية والاجتماعية، وجد الشعر نفسه أمام معركة لم يلبث أن حدد فيها دوره، وأخذ مكانه، وأعلن إلتزامه، فكان أحد الأدوات الحربية والوسائل النضالية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحض حسان بن ثابت على قول الشعر رداً على المشركين، وكان يخبره أن شعره أشد عليهم من وقع النبال، ويدعو له: "اللهم أيده بروح القدس" [2] .
وظل الشعر يواكب مسيرة الأمة في عصورها المختلفة، يتغنى بنصرها، ويستعرض مواقف المجد والبطولة في تاريخها، ويستنهض هممها، ويحرك مشاعرها وينعى عليها تخاذلها وقعودها عن جهاد العدو المتربص بها الطامع في أرضها.. وهكذا مضى هذا التيار الهادر حتى وصل مداه وبلغ زباه في الأندلس.(14/310)
ونعني به هنا الشعر الذي أنشئ أيام الحرب الإسلامية المسيحية التي دارت رحاها في جزيرة الأندلس، وكما عرفنا آنفا بأن الأدب العربي حتى في جاهليته لم يخل من شعر المقاومة إلاً أنه لم يكن بالتوسع والعمق اللذين نجدهما في الأدب الأندلسي، ولعله مما أكسبه ذلك طبيعة الأحداث التي جرت في منطقته، إذ أن الأمة الإسلامية لم تعرف في تاريخها الطويل نكبة كتلك التي وقعت في أندلسها، ورغم ما وقع في مشرقها من حروب التتر والمغول والصليبيين إلاً أنها استطاعت أن تنتصر على هؤلاء جميعا، وأن تخرج من تلك النكبات وهي أقوى عوداً وأمضى عزما وأشد مراساً بينما لم تستطع ذلك في الأندلس، فقد تقلص هناك ظلها، وطويت رايتها، وأفلت شمس وجودها، فلا عجب إن كان الشعر الأندلسي أكثر بكاء وأحر ندبا وأشد حرقة وأعلى صوتا وأعمق أثرا في استنهاض الهمم وتحريك المشاعر حتى شعرهم الرثائي لم يكن خلواً من المضامين النضالية والصرخات الإنذارية والإشراقات الوطنية، فقد كانوا طوال فترة الحرب يعبئون الجهود، ويشحذون العزائم، وهم يرْثون المدن الضائعة ويبكون جمالها الذاهب، وقد فطن بعض الكتاب لهذا الملحظ فقال: ((.. ولم تسقط مدينة في يد مسيحي الشمال إلا بكوها، وتفجعوا عليها تفجعا حاراً، وهو تفجع كانوا يضمنونه استصراخاً للمسلمين في مغارب الأرض ومشارقها لعلهم يستنقذون تلك المدن من براثن الأسبان، ويستعيدونها إلى حضيرة الإسلام قبل أن تدك هناك كل صروحه، وتسقط كل رايته وأعلامه)) [3] .(14/311)
وقد توسع مدلول المقاومة عندهم فشمل الدعوة إلى الثورة على الملوك الذين خضعوا لملوك النصارى، واستعانوا بهم على إخوانهم في العقيدة والوطن، كما شمل محاربة المنكرات الفاشية والمفاسد البادية بحسبانها سبب الضعف والهلاك، وشمل كذلك الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله ومقاومة العدو المغير، كما شمل أيضاً البحث عن قيادة رشيدة تجمع شمل الأمة، وتمضي بها في عزم وثبات، ولا ننسى القصيدة المادحة التي مجدت الأبطال، وتغنت بانتصاراتهم وقد استعانت في نقل التجربة وتكثيف العاطفة بالمعنى الحي والكلمة المؤثرة والصورة المعبرة التي تستلفت النظر، وتستوقف العجل، وتستنفر القاعد، وتجعل المرء يخوض غمار الحرب بصدر رحب وجنان جريء وعزم قوي. هذا، وقد ارتفع صوت هذا الشعر حتى جاوز حدود الأندلس الجغرافية فشّرق وغرّب مستنجدا مستنهضاً.
ونحب أن تقف عند بعض ضروب المقاومة التي ألمحنا إليها آنفاً، وذلك على سبيل المثال لا الحصر، إذ أن تتبع جزئياتها والإلمام بها يحتاج إلى جهد متصل وبحث منفصل قد لا تتسع له مجلة تعالج أكثر من موضوع.
من ذلك ما قاله خلف بن فرج الألبيري في حكام غرناطة:
ماذا الذي أحدثتمو
ناد الملوك وقل لهم
أسر العدا وقعدتمو
أسلمتم الإسلام في
إذ بالنصارى قمتمو
وجب القيام عليكمو
فعصا النبي شققتمو [4]
لا تنكروا شق العصا(14/312)
فالشاعر هنا يعلنها ثورة على هؤلاء الحكام الذين فرطوا في الدفاع عن الإسلام وخذلوه حين أسلموه للأعداء برضوخهم لهم، فتخلوا عن قيمه، وقعدوا عن حمايته، وقد مضوا في هذا الطريق الخطر إلى غاية ما بعدها إلا العثور وذلك حين استعانوا بالنصارى بعضهم على بعض في عراكهم الذي هو غير معترك، ومن أجل ذلك وجب مقاومتهم وشق العصا عليهم، لأن طاعتهم والتسليم لهم سيقود حتما إلى نهاية أليمة وعاقبة مخزية وخيمة. والشاعر هنا يبرر الخروج على الملوك بأنهم أحدثوا في الإسلام حدثاً، وأنهم سلموه للأعداء، وقعدوا عن نصرته، وأنهم ما لأو الكفار وواطؤهم على النيل منه، وأنهم عصوا رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهذه كلها براهين يسوقها لتأييد قضيته وتدعيم دعوته ووجاهة فكرته.
وقد تناول الشعر المنكرات، فشدد النكير على مرتكبيها مبينا مضارها وخطورة انتشارها، فقال أحد الشعراء عند سقوط طليطلة، في يد الأسبان عام 478هـ:
وجاءهم من الله النكير
فإن قلنا العقوبة أدركتهم
نجور وكيف يسلم من يجور
فإنا مثلهم وأشد منهم
وفينا الفسق أجمع والفجور
أنأمن أن يحل بنا انتقام
إليه فيسهل الأمر العسير
وأكل للحرام ولا اضطرار
كذلك يفعل الكلب العقور
ولكن جرأة في عقر دار
على العصيان أرخيت الستور [5]
يزول الستر عن قوم إذا ما(14/313)
إن نكبة طليطلة لم تأتي ضربة لازب، وإنما تقدمتها أسباب مهدت لها، وساقت إليها، من تلك الأسباب ما ذكره الشاعر في أبياته المتقدمة، وكما هو واضح فإنا ما ذكره لم يكن قاصراً على طليطلة منتشرا بين أهلها وحدهم وإنما هو عام في كثير من الأقاليم والمدن، ولو أن المسلمين هناك وعوا الدرس لعادت نكبة طليطلة ربحاً لبقية مدن الأندلس، ولكنهم استمرأوا ارتكاب المنكرات من فسق وفجور وأكل للحرام من غير اضطرار، ومن تجرؤ على حدود الله وارتكاب للمعاصي في السر والعلن، فلا عجب إن عمت مصيبتهم ونزلت من سماء الأندلس رايتهم.
ولا شك أن مقاومة هذه الأمراض الاجتماعية التي تفتك بالأمة أمر تحتمه المحافظة على جسم الأمة صحيحا وروحها قويا وعزمها صلبا حديداً، فذلك أدعى لصمودها أمام من عاداها وردٍ سهام من رماها.
وكان الشعر يدعو إلى الجهاد، ويرغب فيه ذاكراً ما أعد للمجاهدين من أجر عظيم ومثيراً الحفائظ بأبلغ ما تستثار به من حماية الدين وتدعيم لأركانه، وتمهيد لنشره بين الناس. من ذلك ما قاله إبراهيم بن خلف المتوفى سنة 649هـ.
هي عزة الدنيا وفوز المحشر
ورداً فمضمون نجاح المصدر
شيم الحمية كابراً عن كابر
يا معشر العرب الذين تواراثوا
بيعوا ويهنيكم وفاء المشترى
إن الإله قد اشترى أرواحكم
وبكم تمهد في قديم الأعصر
أنتم أحق بنصر دين نبيكم
ذاك البناء بكل لدن أسمر
أنتم بنيتم ركنه فلتدعموا
أغنتكم عن كل طرف مضمر
ولكم عزائم لو ركبتم بعضها
مستمسك بذناب عيش أغبر
الكفر ممتد المطامع والهدى
ألاً تجوس حريم رهط أصفر
والخيل تضمر في المرابط غيرة
من معشر كم غيروا من معشر
كم نكروا من معلم كم دمروا
من حلية التوحيد صهوة منبر
كم أبطلوا سنن النبي وعطلوا
أين العزائم مالها لا تنبري
أين الحفائظ مالها لم تنبعث
سيفاً ودين محمد لم ينصر [6](14/314)
أيهزٌ منكم فارس في كفه
فالشاعر هنا يأمرهم بورود حوض المنايا جهاداً في سبيل الله ضامنا لهم نجاح المصدر فهو: إما نصر وسيادة وإما قتل وشهادة، ثم يذكرهم بأنهم أهل الحمية الإسلامية والنخوة العربية التي هي إرث موروث لهم أبا عن جد مستنهضا بذلك ما همد من عزائمهم ومشعلاً ما خمد من رجولتهم، مذكراً لهم بأنهم قد باعوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى مشيراً بذلك إلى قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ..} الآية [7] .(14/315)
وهو هنا يشتار من رياض القرآن، ويعتصر رحيق الآيات، ليأخذ من جماله زينة لأسلوبه ومن قوته دعماً لمعانيه، فما دام الأمر كذلك فليس هناك أحد أحق بدعم هذا الدين منكم أنتم الذين بعتم أنفسكم وأموالكم في سبيله لقاء الجنة، ثم أنتم الذين شيدتم أركانه، وأعليتم بنيانه، ومهدتم طريق نشره بين العالمين، ومما يعينكم على ذلك عزائمكم الماضية التي لو ركبتم بعضها لأغنتكم عن الخيول الضامرة، فلم هذا التقاعس والكفر مرفوع الراية ممتد الرواق مسنود الجانب طمعاً في القضاء على الإسلام بينما ((الهدى مستمسك بذناب عيش أغبر)) وهذا التعبير كناية عما يعانيه الإسلام الذي هو دين الهدى من اضطهاد وخذلان وانكسار جناح، ثم يبالغ في استثارتهم فيقول إن هذا الأمر قد استفز حتى العجماوات، فها هي الخيل تتحرق شوقا وتتحرك ضجراً في مرابطها ألا تجد سبيلا إلى ميدان الوغى لمقاتلة الرهط الكفار الذين أبطلوا سنن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وعطلوا المنابر من دعوة التوحيد ونكروا المعالم وغيروا المشاعر، وقتلوا المسلمين، لعله بذلك يبعث عزائمهم، ويثير حفائظهم، ويدفع إلى الجهاد كتائبهم، ثم يخاطبهم في لهجة استنكارية ونغمة توبيخية فيقول:
سيفاً ودين محمد لم ينصر
أيهزٌ منكم فارس في كفه
ولئن سلكت هذه الكلمة مسلك الشدة في الخطاب والعنف في العتاب فإن الكلمة الآتية قد نهجت نهجا تميز بالهدوء والرقة إلا أن قسوتها في رقتها، وعنفها في هدوئها، وأعني بهذا تلك القصيدة التي أرسلها لسان الدين بن الخطيب المتوفى سنة 776هـ إلى أهل المغرب في الاستنفار للجهاد وإغاثة الأندلس والتي يقول فيها:
فقد كاد نور الله بالكفر أن يطفأ
إخواننا لا تنسوا الفضل والعطفا
فقد بسط الدين الحنيف لكم كفا
وإذا بلغ الماء الزبا فتداركوا
فلهفا على الإسلام ما بينهم لهفا
تحكم في سكان أندلس العدا
فإن ظمئت لارى ألا الردى صرفا(14/316)
وقد مزجت أفواهها بدمائها
وما نام طرف في حماها ولا أغفا
أنوماً وإغفاء على سنة الكرى
فلا وزراً عنهم وحداً ولا لهفا
أحاط بنا الأعداء من كل جانب
أقام عليها الكفر يرشفها رشفا [8]
ثغور غدت مثل الثغور ضواحكا
فهو يبدأ قصيدته بكلمة ((إخواننا)) لإثارة الحمية والعطف في نفوس المخاطبين إدراكا للإسلام الذي كاد الكفر يطفئ نوره وقد بلغ الأمر مبلغه من الشدة والحرج ولم يعد ممكن الاحتمال، وها هو الدين يبسط لكم كفه مستنجدا بعد أن مد الأعداء أياديهم إلى راياته، وبسطوا سطوته على أهله، وعاثوا في الأندلس فسادا، وأذاقوا أهلها ذلا واضطهادا، فمن ظمئ منهم لا يجد إلاً كأس المنية مشربا، فلم النوم والإغفاء وبلاد الإسلام لم ينم لها طرف ولا غفا لها جفن وها هم الأعداء قد أحاطوا من كل جانب ولا معين ولا نصير.
وفي البيت الأخير يشير إلى ما عليه ثغور الإسلام من رونق وجمال، وكأنها بذلك تطمع الأعداء فيها، وتغريهم بالهجوم عليها، ولما شبهها بالثغور رشح ذلك أن يقول:
ثم بين الصلة التي تجمعهم والحبل الذي يربطهم والعروة التي يعتصمون بها فقال:
من الملأ الأعلى تقربنا زلفى
وسيلتنا الإسلام وهو أخوة
وذلاً وقد عذنا بعز من استعفى
أخوفاً وقد لذنا بجاه من ارتضى
يجير من استعدى ويكفي من استكفى
فهل ناصر مستبصر في يقينه
فلا مشتر أولى من الله أو أوفى
وهل بائع فينا من الله نفسه
وكيف لضوء الصبح في الأفق أن يخفى
أفي الله شك بعد ما وضح الهدى
قبائل منكم تعجز الحصر والوصفا
وكيف يعيش الكفر فينا ودوننا
ليوث نزال كلما حضروا الزحفا
غيوث نوال كلما سئلوا الندى
وهبوا لنصر الدين فينا فقد أشفى [9]
فقوموا برسم الحق فينا فقد عفى(14/317)
فالإسلام هو الدين الذي يجمع بين المسلمين على اختلاف أجناسهم وتباعد أقطارهم ويجعل منهم إخوة يأسى يعضهم لجراح بعض، ويسمو بأرواحهم إلى الملأ الأعلى، ويكوّن. منهم وبهم قوة تهوي على رأس العدو وتحطمه، فهم على الله متوكلون وبنصره واثقون، فلم الخوف وهو أقوياء، ولم الذل وهم أعزاء، ولم التهيب وركنهم شديد.
ثم يلتفت فيسأل في لهفة وشوق عن رجل قوي اليقين واثق من نصر ربه ليكون غياثا لهؤلاء الضعفاء، فيرد الطمأنينة إلى قلوبهم وسهام الأعداء إلى نحورهم ثم يعتب عليهم بأنهم قبائل لا يحصيها العدد، ولا يعوزها المدد والكفر ممتد رواقه ظاهر في الأرض عيثه وإفساده، فليهبوا للجهاد بأموالهم فهم غيوث هاطلة، وبأنفسهم فهم ليوث ضارية، فقد أظلهم زمانه، وحل بينهم إبانه.
ومما يدخل في شعر المقاومة المديح الذي مجد البطولة، وأثنى على الأبطال، وألهب المشاعر الوطنية، وأضرم القلوب والصدور غيرة وحماسا، ونظر بعين الأمل والرجاء لعله يرى تباشير النصر تلوح من قريب. من ذلك ما قاله أبو جعفر المرقشي من قصيدة يمدح بها أمير المؤمنين يوسف بن عبد الله المؤمن بن علي صاحب مراكش عندما دخل الأندلس، وأخذ يسترجع كثيرا مما أخذه النصارى من المدن مطلعها:
وهامت به عذب الحمام ورودا
أبت غير ماء للنخيل ورودا
يقول:
فأبصر شمل المشركين طريدا
ألا ليت شعري هل يمد لي المدى
تغادرهم للمرهقات حصيدا
وهل بعد يقضي النصارى بنصرة
يعيد عميد الكافرين عميدا
ويغزو أبو يعقوب في شنث يافث
فيتركهم فوق الصعيد هجودا
ويلقي على إفرنجهم عبء ككل
ركوعا على وجه الفلا وسجودا [10]
يغادرهم جرحى وقتلى مبرحا(14/318)
فهو هنا يتطلع مستشرقا إلى اليوم الذي يرى فيه شمل الكفار مبددا، وقد انتصر عليهم المسلمون بعد أن ألحموهم سيوف الحق، وجرعوهم كئوس الموت، ومضى أبو يعقوب فغزاهم في عقر دارهم ومكان عبادتهم.... في شنث يافث وهي كنيسة عظيمة في ثغور ماردة لها عند النصارى قداسة دينية عظيمة لأسباب ذكرها الحميري في كتابه: صفحة جزيرة الأندلس صفحة 115، وهناك ألقى عليهم بثقله، ورماهم بجنده، وأسر عميدهم فغادرهم ما بين قتيل وجريح وساجد على وجه الأرض. وهذا تعبير رائع يعج بالحركة، ويرسم صورة حية لما يتمنى أن تنتهي إليه هزيمة الكفار، فهو أشبه ما يكون بمهندس بارع يرسم خريطة منزل على صفحة الورق ثم يطلب من العمال تنفيذها على صفحة الأرض.
وينعى شعر المقاومة على الناس تركهم أوطانهم ونزوحهم إلى غيرها هروباً من المدافعة والتماسا للنجاة، فيقول أبو المطرف بن عميرة المتوفى سنة 658هـ:
بكل طريق قد نفرنا وننفر
كفى حزناً أنا كأهل محصب
بنار اغتراب في حشاه تسعر
وإن كلينا من مشوق وشائق
وقول ألا ليت شعري تحير
ألا ليت شعري والأماني ضلة
عهدنا وهل حصباؤه وهي جوهر
هل النهر عقد للجزيرة مثلما
فيزور عنه موجه المتكسر
وهل للصبا ذيل عليه يجره
بما راق منها أو بما راق تسحر
وتلك المغاني هل عليها طلاوة
نروح إليها تارة ونبكر
ملاعب أفراس الصبابة والصبا
بها العيش مطلول الخميلة اخضر
وقبل ذاك النهر كانت معاهد
في هذه الأبيات نجد نهجا جديدا في المقاومة.. نهجا يعتمد على الإقناع المنطقي والروح الإنساني، ويعدل عن اللهجة الحادة التي نجدها في قصيدة المرقشي السابقة والتي دعا فيها إلى حصد الأعداء وسحقهم واتخاذ بساط من أشلائهم إلى غير ذلك.(14/319)
أما أبو المطرف فقد عدل عن كل ذلك إلى القول الهادي والأسلوب المقنع حين ذكر أن هذه الأرض ذات الأنهار الجارية الخمائل المخضرة والمغاني الساحرة والهواء النقي هي ملاعب صبانا ومراتع لهونا ومنابت رزقنا، وهي من أجل ذلك واجب علينا البقاء فيها والدفاع عنها، وبهذه الجمل الهادئات الهامسات ينجح الشاعر في إقناع هؤلاء الفارين النازحين بالبقاء في ديارهم والعيش على أرضهم ودفع العدو المغير حتى لا تثبت أقدامه فيها، وتمتد يده إلى ما سواها.
ونحن نعلم أنه عندما سقطت طليطلة في يد الأسبان ظهرت دعوة تنادي إلى شد الرحال والهجرة إلى خارج الأندلس من ذلك ما قاله ابن العسال:
فما المقام بها إلا من الغلط
حثوا رحالكم يا أهل أندلس
سلك الجزيرة منثورا من الوسط
السلك ينثر من أطرافه وأرى
كيف الحياة مع الحيات في سفط [11]
من جاور الشر لا يأمن بوائقه
وقد تصدى الشعر لهذه الدعوة فحاربها، وبين سوء عاقبتها وعظيم مخاطرها من ذلك هذه الأبيات الرائية التي استغل الشاعر فيها العاطفة الوطنية ومازال يبدئ فيها ويعيد، ويعزف على هذا الوتر الحساس تكثيفاً للعاطفة وإثارة للحمية حتى يقنع هؤلاء النازحين بالرجوع إلى ديارهم والبقاء فيها، فذلك أحفظ لكرامتهم، وأحمى لحوزتهم.
ومن شعر المقاومة الشعر الذي تطلع إلى قائد ينهض بالأمة من كبوتها، ويخلصها من محنتها، ويدفع عنها وبها كيد عدوها. يقول بعضهم:
به مما نحاذر نستجير
ألا رجل له رأي أصيل
وأين بنا إذا ولت كرور
يكر إذا السيوف تناولته
يقول الرمح ما هذا الخطير
ويطعن بالقنا الخطار حتى
بأندلس قتيل أو أسير
عظيم أن يكون الناس طراً
على أن يقرع البيض الذكور
أذكر بالقراع الليث حرصاً
لخطب منه تنخسف البدور
يبادر خرقها قبل اتساع
إذا ضاقت بما تلقى الصدور [12](14/320)
يوسع للذي يلقاه صدراً
فهو هنا يستشرف إلى رجل عبقري في تفكيره حازم في رأيه وتدبيره قوية عزيمته مشدودة شكيمته، لا يرام ما وراء ظهره، صبور في ميدان القتال، لا يستسلم مهما عظمت الخطوب وكثرت العقبات وأظلمت الدروب بل يقتحمها بفكر نير وعزم قوي وسيف مسلول ذوداً عن حرمات الأمة وحماية لظهرها، وأنه إذا رأى خرقاً بادر بسده وإذا أبصر خطراً أسرع برده توحيداً للكلمة وصوناً لها من الفرقة والانقسام، ويزين كل هذه الخلال سعة صدر يلقى بها الأمور الخطيرة إذا ضاقت بها الصدور.
إن الناظر في واقع الحكام المسلمين يوم ذاك يجدهم قد انشغلوا بملذاتهم عن الدفاع عن الإسلام وأهله ودياره، كما أن المعارك فيما بينهم قد استوعبت جهدهم واستقطبت طاقتهم، ومن ثم فإن الشاعر قد يئس منهم، وانصرف عنهم، وأصبح كأنه يصيح في عالم المجهول بحثا عن قائد ذكي التفكير حكيم التدبير تجد فيه الأمة ضالتها المفقودة وأمنيتها المنشودة، يوحد صفها، ويجمع كلمتها، ويتجه بها إلى ميدان المعركة، ويواجه بها أعداءها صابراً محتسبا، لا يجد اليأس إلى نفسه سبيلاً، ولا ترى في أعماله من الرياء فتيلا.
ومما يدخل في هذا الباب الشعر الذي تحدث عما حل بالمساجد من تحويلها إلى الكنائس وارتفاع صوت النواقيس بداخلها بدل الأذان وتعطيل الصلوات فيها وتلويثها بعقيدة الشرك وأكل الخنزير وشرب الخمر وما أصاب السكان من تقتيل وتشريد للرجال وسبي النساء وامتهان لعفتهن، وفي هذا يقول عمرو بن المرابط:
فأهلك عليه أسى فلا تتجلد
كم من جامع فيها أعيد كنيسة
والخمر والخنزير وسط المسجد
القس والناقوس فوق مناره
من قانتين وراكعين وسجد
أسفي عليها أقفرت صلواتها
مستكبر مذ كان لم يتشهد
وتعوضت منهم بكل معاند
فكلاهما يبغي الفداء فما فدى
كم من أسير عندهم وأسيرة
فيهم تود لو أنها في ملحد(14/321)
كم من عقيلة معشر معقولة
ولداه وداً أنه لم يولد
كم من وليد بينهم قد ودً من
يبكي لآخر في الكبول مقيد
كم من تقيٍ في السلاسل موثق
ما بين حد ذابل ومهند
وشهيد معترك توزعه الردى
ورقً لهم من قلبه كالجلمد
ضجت ملائكة السماء لحالهم
ثم يقول:
وسيوفكم للثأر لم تتقلد
أكذا يعيث الروم في إخوانكم
خمدت وكانت قبل ذات توقد
يا حسرة لحمية الإسلام قد
فشعر كهذا مثير للحفائظ محرك للمشاعر، فقد استعمل فيه الشاعر القلم والريشة فجاءت صورة واضحة المعالم تستلفت النظر، وتستوقف العجل ثم يبالغ في استثارة المشاعر الدينية والعواطف الإنسانية، فيذكر ما حل بالمساجد التي حولت إلى كنائس والمآذن التي تعطل الأذان فيها، وارتفع من فوقها صوت الناقوس والمحاريب التي خلت من الركع السجود، وعمرت بكل معاند متكبر لا ينطق بشهادة التوحيد.
وقد كان للنصارى تقاليد معينة في تحويل المساجد إلى كنائس، فما إن يفتحوا بلداً، وتتم لهم السيطرة عليه حتى ينتظموا في موكب فخم يتقدمه الكهنة وفرسان الجماعات الدينية، ويتجهوا صوب المسجد وهم ينشدون أناشيد الحمد والثناء ثم يتم تحويله إلى كنيسة، ويرفع فوق ساريتها علم النصر [13] .(14/322)
ومن أبشع ما ارتكبه النصارى انتهاك الحرمات وامتهان الكرامة الإنسانية والاعتداء على عفة النساء، فكم من أسير وأسيرة امتهنت كرامتها، ولم يجدا إلى الفداء سبيلاً، وكم من امرأة مصونة اعتدي على عفتها حتى تمنت لو أنها في قبر، وكم من طفل حيل بينه وبين والديه حتى تمنيا أنه لم يولد، وكم من تقي عابد كبل بالسلاسل، وكم من شهيد قطعته السيوف إرباً إرباً.. إنها حال بلغت من القسوة النهاية، وتجاوزت في سوءها الغاية حتى لقد ضج أهل الملأ الأعلى وانفطر منها قلب الجليد، واهتز لها وقار الحليم، ولا شك أن ذلك من أبلغ ما يستثار به غيور أو تستنهض به همة، أو يدعى به إلى نجدة.
وقد استعان الشاعر في تعبيره للوصول إلى هدفه بإثارة العواطف الدينية والأسرية وبالإلحاح على صور المأساة وأوضاعها مما كثف آثارها فجعلها تسيطر على نفوسنا، وتهيمن على حسنا، وتنفخ في جمرة الحمية.
وقد استغل الشاعر ما وصلت إليه النفوس من حماس وغليان فقال:
وسيوفكم للثأر لم تتقلد
أكذا يعيث الروم في إخوانكم
خمدت وكانت قبل ذات توقد
يا حسرة لحمية الإسلام قد
ولكن هذه الصيحات ذهبت جميعاً أدراج الرياح، ونفذ أمر الله، وخرج المسلمون من الأندلس بعد ثمانية القرون التي كانت حجر الزاوية في بناء الحضارة الأوروبية الحديثة.. خرجوا وقد تركوا تراثاً ثقافياً ضخماً على صفحات الكتب وآثاراً عمرانية رائعة على صفحة الأرض تشاهد الآن وكأنها نوادب تبكي قوماً رحلوا، وتتطلع في لهفة إلى عودتهم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المفضليات، ط 3 القاهرة، 201.
[2] عمدة القارئ شرح صحيح البخاري للبدر العيني ط بيروت، 4/217.
[3] شوقي ضيف، الفن ومذاهبه في الشعر العربي، ط 6 القاهرة، 434.(14/323)
[4] أنظر، تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة حسين مؤنس، القاهرة 1955م، 113.
[5] أحمد المقري، نفح الطيب، القاهرة 1302هـ، 2/592.
[6] الرسالة، مجلة، 105 8 يوليو 1935م، السنة الثالثة.
[7] التوبة 111.
[8] نهاية الأندلس، محمد عبد الله عنان، القاهرة 1966م، 190.
[9] نفسه.
[10] نفح الطيب 2/588.
[11] نفح الطيب، 2/523.
[12] نفسه 2/594.
[13] يوسف أشباخ، تاريخ الأندلس ترجمة محمد عبد الله عنان، القاهرة 1958م، 433.(14/324)
متى يفيق الغافلون
شعر فضيلة الشيخ: محمد المجذوب
فغدت بفضل الجهل جمر
كانت هدايا الحج تمره
على التوافه والمضَرَّه
تلفاً لمال المسلمين
رج مالئاتٍ كل ثغره
أنَّى التفتَّ ترَا لبها
حَ وكلَّ زاويةٍ وحُفره
الدرب والأرض والبرا
تِ وخُذْ وكمْ) عن كل فكره
والكلُ مشغولٌ بـ (هَا
تِ عن العبادة والمبرَّه
فُتنوا بتلك المغريا
ن من الزخارفِ كل صُرَّه
وتدافعوا يتأبَّطو
أَحداثِ في حُرَقٍ وحسره
وأولوا النهى من هَذه الـ
رِّ الخفيِّ الضَّخْم سِتره
كشفوا بحكمتِهم عن السـ
ن تُصبُّ في سَرفٍ وشِرَّه
فإذا كنوز المسلميـ
لكي يُحَققَ ما أسرَّه
تُشرى بها سلع العدو
جَارِ من جدواه قِشره
كلُّ اللباب له واللتُّـ
ع وما لهم لهواه سُخْرَه
فجهود هاتيك الجمو
من عُسرِهم للغربِ يُسره
وعليهمو أن يَصْنَعوا
من كلّ ذَاكَ ببعض قطره
وبحسبِهم أن يظفروا
ن سوّى الذي هو قد أقرَّه
فكأنهم لا يحسنو
يوماً جرائِمه وكُفرَه
وكأنهم لم يعرفوا
بيديه أَسلِحةً وقُدره
ولْتَسْتَحِلْ أموالُهم
وبها يُعدُّ لكل غَدرَه
فيها يدُكُّ وجدهم
أمنوا على الأيام مكره
ولوَنَّهم فطنوا لَما
حتى يُطأطئَ وهو مُكره
ولَقاطعُوا أسواقه
دتِهم بمغفرة وعبره
وإذن لعادوا من وفا
ل: ليهنِكم حجٌّ وعُمر
ولَحُقَّ فيهم أن يقا
حمن لا زهوٌ وشهره
والحجُّ زاد من تُقى الر
ن ويَنْفُضُ المخمور سُكْره
فمتى يُفيق الغافلو
وأخو الغباوة ألف مرَّه
فلقد يلام الخِبُّ مرَّه(14/325)
صيغة فعلان واستعمالاتها في اللغة العربية
لفضيلة الدكتور مصطفى أحمد النماس
الأستاذ المساعد بكلية الدعوة وأصول الدين
المتتبع لصيغة (فعلان) بفتح الأول وسكون الثاني، أو بضم الأول أو كسره في اللغة العربية يجد أنها من الصيغ العملية التي يدور استعمالها في كثير من أبواب النحو والصرف وقد أثرت البحث في هذه الصيغة كي أجمع حبات العقد المنفرط هنا وهناك وما يستتبع الأحكام الخاصة بما ورد على هذا الوزن تبعا لنوعية استعماله عند العرب فأقول وبالله التوفيق.
صيغة (فَعْلان) [1] الملحوظ فيها أنها ختمت بألف ونون زائدتين، وهذه الزيادة مطردة في كل صفة مؤثنها على وزن (فَعْلَى) لأن الصفات تشبه الأفعال والفعل أقعد في باب الزيادة وإذا وجدنا بعض الأعلام وأسماء الأجناس على صيغة (فَعْلان) فهي بالحمل على الصفات فابن يعيش يقول في شرح المفصل [2] (فالأول وقوعها (أي النون) آخرا بعد ألف زائدة نحو سكران وعطشان ومروان وقحطان وأصل هذه النون أن تلحق الصفات مما مؤنثه (فعلى) لأن الصفات بالزيادة أولى لشبهها بالأفعال والأفعال أقعد في باب الزيادة من الأسماء لتصرفها، والأعلام من نحو: مروان وقحطان محمولة عليها في ذلك وقد كثرت الزيادة آخرا على هذا الحد ولا يحمل شيء منه على الأصل إلا بدليل) [3] .
صيغة فعلان ومعانيها:
وردت صيغة (فَعْلان) متعددة المعاني والدلالة وهاك أنواعها:
1- فعلان المصدر:
قال في اللسان قال أبو الهيثم لم يجئ من المصادر على (فعلان) (بفتح فسكون) إلا (ليَّان) وقال ابن الحاجب [4] : وأما فعلان فنادر نحو لوى ليَّاناً [5] وقد ذكره أبو زيد بكسر اللام، وجاء شنآن وقرئ في التنزيل بهما. وجاء في القاموس [6] الزيدان بمعنى الزيادة فتكون فعلان جاءت مصدرا نادرا في ثلاثة معان ...
قال ذو الرمة:
وأُحْسنُ يا ذات الوشاحِ التقاضيا(14/326)
تُطيلَن ليًّاني وأنتِ مليئة
وقال زيادة العنبري [7] :
مخافة الإفلاس والليَّانا
قد كنت داينت بها حسَّانا
وأصل ليَّان لَوْيان اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء الخ فهو قليل في المصادر وكثير في الصفات.
2 - فَعْلان العلم [8]
وردت صيغة فَعْلان علما للإنسان وغيره نحو: بدران، سعدان، ومروان، ورغدان (اسم قصر بالأردن) وشعبان علم على الشهر المعروف كما وردت اسماً للجنس مثل سعدان نبت من أفضل المراعي كما يقول القاموس ومنهم قولهم في المثل: (مرعى ولا كالسَّعدان) وقد اتفق العلم واسم الجنس.
3- فعلان الصفة:
تستعمل صيغة فعلان صفة مشبهة من الفعل اللازم المكسور العين قياسا بشرط أن يدل على الامتلاء كسكران وريان [9] والشبع كشبعان والخلو مثل غرثان (للجائع) وصديان وحرارة البطن كغضبان وثكلان وحران قال عروة بن حزام:
إلَّى حبيبا إنَّها لحبيبُ
لَئن كان برد الماء حَرّان صاديا
والمؤنث لفَعْلان يكون صفة ممتنعة من التاء بأن يكون المؤنث على (فَعْلى) مثل جوعان، وسكران وهذا هو المطرد الغالب وقد يخرج عن هذا الأصل وعده علماء اللغة شاذا كقولهم نعس [10] بالفتح فهو نعسان ومثله جوعان من جاع وقد يكون صفة لا تمتنع من التاء مثل سفيان للطويل ومؤنثه سفيانة وقد حصر ابن مالك الألفاظ التي مؤنثها بالتاء ومذكرها على صيغة فَعْلان وهي كما نظمها في كتابه الفرائد في قوله:- كل ما جاء على (فَعْلان) فمؤنثه على (فَعْلى) غير اثني عشر اسما فإنها جاءت على (فعلانة) ثم نظمها فقال:-
إذا استثنيت حَبْلانا
أجز فَعْلَى لفَعْلانا
وسَفْيانا وضَحْيانا
ودَخْنانا وسَخْنانا
وقَشْوانا ومَصَّانا
وصَوْجانا وعَلاّنا
وأتبعهن نصرانا
ومَوْتانا ونَدْمانا
انظر المزهر للسيوطي ج 2 ص 113.(14/327)
1- (الحبلان) الرجل الكبير البطن قال في القاموس حبل من الشراب والماء فهو حبلان وهي حبلى ومن الغضب وهو حبلان وهي حبلانة.
2- (الدخان) يوم دخنان كثير الدخان.
3- (يوم سخنان) كثير السخونة.
4- (سفيان) الرجل الطويل الممشوق الضامر انظر القاموس.
5- (ضحيان) يوم ضحيان ضاحي قال في القاموس رجل ضحيان يأكل في الضحى، يوم ضحيان: لاغيم فيه.
6- (الصوجان) من الإبل والدواب الشديد الصلب.
قال في القاموس: الصوجان كل يابس وصلب من الداوب والناس ونخلة صوجانة يابسة كزة السعف، وأي صوجان؟ هو أي الناس.
7- (غلان) الرجل الكثير النسيان وقال في القاموس:
الغَلَل محركه وكأمير العطش أو شدة حرارة الجوف وقد غُل بالضم فهو غليل ومغلول ومغتل ومعبر غل (وغلان) (وغَل يَغَل) بفتحهما الحقد كالغلِ بالكسر، وقد غَلَّ صدري يَغِلّ (من باب ضرب يضرب) من حرارة الحب والحزن، والعلاَّن (بالعين) الصغير الحقير كما في المرجع ج 1 ص 96.
8- (القشوان) القليل اللحم وقي القاموس: القشوان الدقيق الضعيف وهي بهاء.
9- (المصان) اللئيم.
10- (الموتان) الضعيف الفؤاد قال في القاموس: رجل موتان الفؤاد بليد.
11- (ندمان) النديم: ندم فهو ندمان أي نادم، ونادمني فلان على الشراب فهو نديمي وندماني وجمع النديم ندام وجمع الندمان ندامى والمرأة ندمانه والنسوة ندامى أيضا.
12- (نصران) نصراني والجمع نصارى والنصرانة واحدة النصارى قد استدرك عليه لفظان وهما خَمْصان لغة في خُمْصان بضم الخاء وأليان في كبش أليان أي كبير الالية فذيل الشارح المرادي أبياته بقول:
على لغة وأليانا
وزد فيهن خمصانا(14/328)
ومما يجدر ملاحظته أن النحاة يمثلون (لفَعْلان) الذي مؤنثه على (فعلى) بعطشان وغضبان وسكران مع أن كتب اللغة كالقاموس تذكر للثلاثة مؤنثا مختوما بالتاء ومؤنثا آخر ليس مختوما بها وَمَرَدُّ ذلك أن كتب اللغة تذكر ذلك تبعا للغة بني أسد التي تلحق التاء في مؤنث فَعْلان اطراد مثل سكران ونظائرها قال ابن جني في المحتسب [11] :
(يقال رجل سكران وامرأة سكرى كغضبان وغضبى، وقد قال بعضهم (يعنى لغة بني أسد) سكرانة كما قال بعضهم غضبانة (والأول أقوى وأفصح) انتهى.
ونظرا لكثرة ما ورد في ذلك أخذ المجمع اللغوي القاهري بلغة بني أسد في جواز إلحاق تاء التأنيث بكلمة سكرانة ونظائرها وفيما يلي نص القرار كما قدمته اللجنة المختصة [12] ووافق عليه المجمع وأخذ به نهائيا (أن تأنيث (فعلان) بالتاء لغة كما في بني أسد (كما في الصحاح) – أو لغة بني أسد (كما في المخصص) [13] وقياس هذه اللغة صرفها في النكره (كما في المفصل*)) .
والناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ وإن كان غير ما جاء خيرا (كما في قول ابن حني) لذا يجوز أن يقال: عطشانة وغضبانة وأشباهها ومن ثم يصرف (فعلان) وصفا ويجمع (فعلان) ومؤنثه (فعلانة) جمع تصحيح ولعلك تدرك الآن أن الجمهور من النحاة يأخذ بما أطرد عن جمهور العرب وهو أن فَعْلان مؤنثه الغالب المطرد على (فَعْلى) وورد من غير الغالب الأسماء التي ذكرتها تبعا لابن مالك في منظومته.
فعلان وصف لمذكر ولا مؤنث له:
وقد تكون صيغة (فعلان) دالة على المذكر الذي لا مؤنث له في الواقع لا على (فَعْلى) ولا على (فَعْلانة) مثل: (رحمان) علم على الله جل شأنه، و (لحيان) لكثير اللحية.
جمع فعلان(14/329)
(فَعْلان) المذكر الذي مؤنثه على (فَعْلى) لا يجمع جمع التصحيح وإنما يجمع جمع التكسير وذلك لأنه وصف غير جار على فعله وذلك أن الصفات على ضربين أحدهما ما كان جاريا على الفعل كضارب وضاربة وثانيهما ما ليس جاريا على الفعل كأحمر وحمراء، وسكران وسكرى فما كان من الأول فإنه يجمع جمع السلامة أي بالواو والنون في جمع المذكر السالم وبالألف والتاء في جمع المؤنث السالم تقول: قائمون وقائمات وضاربون وضاربات وذلك لأنه لما جرى على الفعل شبه بلفظ الفعل الذي يتصل به ضمير الجمع للمذكر والمؤنث لأن الفعل يسلم ويتغير بما يتصل به فقولك ضاربون مثل يضربون وضاربات بمنزلة يضربن.
وما كان [14] من الثاني وهو غير الجاري على الفعل فلا يجمع جمع السلامة مثل (فَعْلان ومؤنثه فعلى) (وأفعل ومؤنثه فعلاء) إلا في ضرورة الشعر مثل قول حكيم الأعور يهجو امرأة الكميت بن زيد باهل وكان مولعا بهجاء مضر؛ لأنه من بني كلاب.
حَلاَئِلَ أحمْرِين وأَسْودَيِنا
فما وَجَدتْ بناتُ بني نزارٍ
ولا يجوز هذا إلا ابن كيسان فيقول لا أرى بأسا به ولكن مذهب الجمهور يمنعه ويجعله ضرورة لا يصح لنا ارتكابها ولذلك لا يجمع (فعلان: فعلى) جمع السلامة فإن سميت بشيء من ذلك جاز أن تجمعه جمع السلامة لأنه اسم ... وقال الرضي في شرح [15] الكافية مفصِّلا هذا الحكم:(14/330)
((وأما الخاص من شروط الجمع بالواو والنون فشيئان: العلمية وقبول تاء التأنيث أما العلمية فمختصة بالأسماء وأما قبول التاء فمختص بالصفات فلم يجمع هذا الجمع (أفعل فعلاء) (وفعلان فعلى) وما يستوي مذكره ومؤنثه كما ذكرنا في باب التذكير والتأنيث، وإنما اعتبر في الصفات قبول التاء لأن الغالب في الصفات أن يفرق بين مذكرها ومؤنثها بالتاء لتأديتها معنى الفعل، والفعل يفرق بينهما فيه بالتاء، نحو الرجل قام، والمرأة قامت وكذا في المضارع التاء وإن كان في الأول نحو: تقوم والغالب في الأسماء الجوامد أن يفرق بين مذكرها ومؤنثها بوضع صيغة مخصوصة لكل منها (كعير وأتان) وجمل وناقة (وحصان وحجر) [16] ويستوي مذكرها ومؤنثها كبشر وفرس هذا هو الغالب في الموضعين وقد جاء العكس أيضا في كليهما نحو أحمر وحمراء والأفضل والفضلى وسكران وسكرى في الصفات وكامرئ وامرأة ورجل ورجلة في الأسماء فكل صفة لا يلحقها التاء فكأنها من قبيل الأسماء، فلذا لم يجمع هذا الجمع (أفعل فعلاء) (وفعلان وفعلى) وأجاز ابن كيسان أحمرون وسكرانون واستل بقوله:
حَلاَئِلَ وأحمْرِين وأَسْودَيِنا
فما وَجَدتْ بناتُ بين نزارٍ
وهو عند غيره شاذ وأيضا حمروات وسكريات بناء على تصحيح جمع المذكر والأصل ممنوع وكذا الفرع وأجاز سيبويه قياسا لا سماعا ندمانون في قولهم:
ندمان لقبوله التاء كندمانة وكذا سيفانون لقولهم: سيفانة قال سيبويه: لا يقولون ذلك وذلك لأن الأغلب في (فَعْلان) الصفة أن لا يلحقه التاء فندمانة وسيفانة كأنهما من قبيل الشذوذ فالأولى أن لا يجمعا هذا الجمع حملا على الأعم الأغلب انتهى.
ومن هذه النصوص يتبين أن (فَعْلان) الذي مؤنثه على فَعْلى لا يجمع جمع التصحيح وإنما يجمع جمع التكسير [17] وقد جمع (فعلان) تكسيرا على صيغ كثيرة منها:
1- (فِعّال) [18](14/331)
شاع فِعَال (بكسر الفاء) في وصف على فَعْلان ومؤنثيه فَعْلى وفعلانة تقول: غضبان وغضاب، وغضبى وغضاب وندمان وندام، وغَرْثان [19] وغِراث.
2- فعلىوجمع فَعْلان على (فَعْلى) تقول:
وجياع جمع جوعان إلا أنه لا يطرد فيه وجعله ابن مالك في التسهيل مطردا فيه.
رجل سكران ورجال سكرى [20] ، ورجل روبان [21] وقوم روبى قال بشر:
فألفاهم القوم روبى نياما
فأما تميم تميم بن مر
قال الرضي [22] : (ولا يبعد أن يكون سكرى وروبى) في مثل هذا الموضع مفرداً مؤنثاً (لفعلان) وذلك لأن مؤنث فعلان الصفة من باب فعل يفعِل قيامه (فعلى) وصفة المفرد المؤنث تصلح للجمع المؤنث.
3- (فَعَالَى) وجمع (فعلان) [23] على فَعَالَى تقول:
سكران وسكارى. وغضبان وغضابي ومثلهما سكرى وغضبى وتقول: شاة حرمى أي مشتهية للنكاح وشياه حرامى. وإنما جمع فعلان كسكران على فَعَالَى تشبيهاً للألف والنون بالألف الممدودة فسكران وسكارى كصحراء وصحارى.
وجاء الضم في جمع بعض فعلان الذي مؤنثه فعلى خاصة وهو في كسالى وسكارى أرجح من الفتح، وإنما ضم في جمع فعلان خاصة لكون تكسيره على أقصى الجموع خلاف الأصل؛ وذلك لأنه إنما كسر عليه لمشابهة الألف والنون فيه لألف التأنيث فغير أول الجمع غير القياسي عما كان ينبغي أن يكون عليه لينبه من أول الأمر على أنه مخالف للقياس وأوجب الضم في قدامى جمع قادمة وأسارى جمع أسير وإلزام الضم فيهما دلالة على شدة مخالفتهما لما كان ينبغي أن يكسرا عليه.
وفي المفصل أن بعض العرب يقول: كسالى وسكارى وعجالى، وغيارى كل هذا يضم أوله.
جمع (عُريان)
ومما تجدر ملاحظته أن بعض الناس يقعون في أخطاء شائعة فيشيع على الألسنة جمع عريان على عرايا وهذا الجمع للعريان غير صحيح وإنما للعرايا جمع (العرية) وهي النخلة يمنحها الغني للفقير لينتفع بثمرها.(14/332)
فأما عريان فيجمع في التصحيح إذا كان للعقلاء على عريانون وفي التكسير يجمع على عراة وقد جاء الخطأ في جمع عريان على عرايا من قبل شبهه بخزيان وندمان وهما يجمعان على خزايا وندامى.
وإني أقدم إليك نصاً من سيبويه قال في الكتاب ج 2 ص 212 (وإن شئت قلت في عريان عريانون فصار بمنزلة قولك: ظريفون وظريفات، لأن الهاء ألحقت بناء التذكير حين أردت بناء التأنيث فلم يغيروا ولم يقولوا في عريان: عراء، ولا عرايا، استغنوا بعراة لأنهم مما يستغنون بالشيء عن الشيء حتى لا يدخلوه في كلامهم) .
وقوله (لم يقولوا: عراء) أي كما قالوا خمُصان وخِماص فكان هذا سائغا لهم في القياس أن يقولوا: (عراء) ولكنهم أطرحوه استغناء عنه بعراة، وقوله (ولا عرايا) أي كما قالوا: خزيان وخزايا وسكران وسكارى، لأن عريان ليس من باب خزيان) .
وقد بان من كلام سيبويه أن عراة ليس في القياس جمعا لعريان وإنما هو قام مقام جمعه وهو عراء كخماص، وذلك أن عراة جمع لعار كقضاة جمع لقاض غير أنه لما كان عريان في معنى عار جعل عراة جمعا لعريان في الاستعمال واستغنى به عن عراء وهذا كما استغنوا بكماة في جمع كمي عن (اكمياء) لما كان (كمي) في معنى كام (وفي اللسان) والكمي الشجاع المتكمي في سلاحه لأنه كمى نفسه أي سترها بالدرع والبيضة، والجمع كماة كأنهم جمعوا كاميا مثل قاضيا وقضاة)) .
جمع فعلان اسم الجنس والعلم:
4- (فعالين) وقد جمع (فعلان) على فعالين بشرط أن يكون اسما تقول في شيطان شياطين لأنه من شاط يشيط إذا بطل وهلك قال الأعشى:-
وقد يَشِط على أرماحنا البطلُ
قد تخْضَبُ العيرُ من مَكْنون [24] فَائِله
فِعلان بكسر الفاء وضمها:(14/333)
ويشارك (فعلان بالفتح ما كان مكسورا الفاء أو مضمومها تقول: سِرحان وسراحين وسُلطان وسلاطين قال في المفصَّل [25] : أعلم أن ما كان من الأسماء على وزن فَعُلان فإنه يكسر على فعالين ولا فرق في ذلك بين المفتوح الأول والمضمومة والمكسورة) .
وقال الرضي [26] : (كل اسم على فعلان مثلث الفاء ساكن العين كان أو متحركة كَوَرشَان والسَبعُان والظَرِبان بجمع على فعالين إلا أن يكون علما مرتجلا كسلمان، وعثمان وعفان، وحمدان وغطفان وذلك لأن التكسير في المرتجل مستغرب بخلافه في المنقول إذ له عهد بالتكسير ولا سيما إذا كان في المرتجل ما ينبغي أن يحافظ عليه من الألف والنون لشبهه بألف التأنيث) .
(فعلان) الممنوع من الصرف
1- صيغة (فَعْلان) إذا كانت صفة فإنها تمنع من الصرف وذلك بشرطين أن تكون وصفيته أصلية (غير طارئة) وأن يكون تأنيثه بغير التاء وذلك صادق على نوعين أحدهما أن يكون تأنيثه الشائع عند العرب بألف التأنيث المقصورة، والثاني أن يكون خاصا بالمذكر فلا مؤنث له كلحيان، ورحمان ومثال الأول عطشان وغضبان وسكران، صديان فأشهر مؤنثاتها على (فعلى) فإن كان الغالب المسموع على مؤنثه وجود تاء التأنيث في آخره لم يمنع من الصرف تقول: نظرت إلى سيفان بالجر بالكسرة، وكذلك لا يمنع من الصرف إذا كانت الوصفية طارئة غير أصلية مثل كلمة صفوان والتي معناها الحجر قد تستعمل استعمال الصفان فتقول: لا حبذا رجل صفوان قلبه فكلمة صفوان هنا لا تمنع من الصرف، وإذا كان من الصفو فتقول يوم صاف وصفوان أي بارد وبلا غيم فحينئذ بمنع من الصرف فهي في الأول عارضة الوصفية فصرفت بخلافه في الثاني.
2- وصيغة (فعلان) إذا كانت علما [27] فإنها تمنع من الصرف كذلك للعلمية وزيادة الألف والنون سواء كان علما على الإنسان أم علما على غيره نحو بدران، قحطان، عدنان، شعبان.(14/334)
ويشارك (فعلان) بالفتح والسكون ما بغيره كرمضان، غطفان [28] ، عِمْران وعُثمان.
فإن كان الألف والنون صالحين للزيادة والأصالة جاز في الاسم الصرف وعدمه بهذين الاعتبارين نحو (حسان) علما على شخص فيجوز أن يكون مشتقا من الحسّ بمعنى الشعور فيمنع من الصرف لأن الحرفين زائدان، وإن كان مشتقا من الحُسنْ وهو الجمال فلا يمنع من الصرف لأن وزنه حينئذ فعّال لا (فعلان) ومثله (غسان) قد يكون من الغسّ بمعنى الدخول في البلاد فيمنع من الصرف وقد يكون من الغَسنْ بمعنى المضغ فلا يمنع لأن وزنه (فعال) وكذلك عفان من العفة وحيان من الحين وهو الهلاك ومن الحياة.
وكذلك قبان من قبن في الأرض إذا ذهب فيها وعلى هذا يصرف لأن النون فيه أصلية ووزنه (فعال) ويجوز أن يكون من القب وهو شدة الخصومة، وقب بطنه أي قطع وحينئذ يمنع من الصرف لأن وزنه (فعلان) .(14/335)
يقول ابن يعيش [29] وأما الألف والنون المضارعتان لألفي التأنيث [30] فهي من الأسباب المانعة من الصرف من حيث كانتا زائدتين والزائد فرع على المزيد عليه وهما مع ذلك مضارعتان لألفي التأنيث نحو حمراء وصحراء، والألف في حمراء وصحراء يمنع الصرف فكذلك ما أشبه وذلك نحو عطشان وسكران وغرثان وغضبان واعتباره أن يكون (فعلان) ومؤنثه (فعلى) نحو قولك: في المذكر عطشان وفي المؤنث عطشى وسكران، وفي المؤنث سكرى وغرثان وفي المؤنث غرثى لا تقول: سكرانة ولا عطشانة ولا غرثانة في اللغة الفصحى، وإنما قلنا: (فعلان ومؤنثه فعلى) احتراز من فعلان آخر لا فعلى له في الصفات قالوا رجل سيفان للطويل الممشوق، وقالوا امرأة سيفانة ولم يقولوا (سيفى) ووجه المضارعة بين الألف والنون في سكران وبابه وبين ألفي التأنيث في حمراء وقصباء أنهما زيدتا معا كما أنهما في حمراء كذلك وأن الأول من الزائدتين في كل منهما ألف، وأن صيغة المذكر مخالفة لصيغة المؤنث وأن الآخر من كل واحد منهما يمتنع من إلحاق التاء للتأنيث، ثم يقول: أما الأعلام نحو: مروان وعدنان، وغيلان فهي أسماء لا تنصرف للتعريف وزيادة الألف والنون وأعلم أن هذه الألف والنون في هذه الأعلام وما كان نحوها محمولات على باب عطشان وسكران لقرب ما بينهما ألا ترى أنهما زائدتان كزيادتهما وأنه لا يدخل عليها تاء التأنيث لا نقول: مروانة ولا عدنانة لأن العلمية تحظر الزيادة كما تحظر النقص وليس المانع من الصرف كونه على فعلان بفتح وسكون ألا ترى أن عثمان وزبيان وشعبان حكمهما حكم عدنان وغيلان) انتهى.
وقال الرضي [31] : (أعلم أن الألف والنون إنما تؤثران لمشابهتهما ألف التأنيث الممدودة من جهة امتناع دخول تاء التأنيث عليهما معا وبفوات هذه الجهة يسقط الألف والنون عن التأثير..)(14/336)
ثم إنهم بعد اتفاقهم على أن تأثير الألف والنون لأجل مشابهة ألف التأنيث اختلفوا، وقال الأكثرون تحتاج إلى سبب آخر ولا تقوم بنفسها مقام سببين كالألف لنقصان المشبه عن المشبه به وذلك الأخر إما العلمية (كعمران) وإما الصفة كما في (سكران) .
وذهب بعضهم إلى أنها كالألف غير محتاجة إلى سبب آخر فالعلمية عندهم في نحو (عمران) ليست سببا بل شرط الألف والنون، إذ بها يمتنع عن زيادة التاء وهذا الانتفاء هو شرطها سواء كانت مع العلمية أو الوصف والوصف عندهم في نحو (سكران) لا سبب ولا شرط، والأول أولى لضعفها فلا تقوم مقام علتين.
هل المؤثر انتفاء التاء أم وجود فعلى؟
الرأي السائد أن المزيد بالألف والنون إنما يمنع من الصرف بشرط ألا يكون مؤنثه بالتاء، فانتفاء التاء هو الشرط الضروري للمنع من الصرف.
وقول بعضهم إن الشرط هو أن يكون مؤنثه على فعلى أي يكون مؤنثه على غير لفظه، قال ابن الحاجب في الكافية عارضا هذين الرأيين (أو صفة فانتفاء فعلانة وقيل وجود فعلى ومن ثم اختلف في رحمان دون سكران وندمان) قال الرضي معقبا عليه: وقوله: (وقيل وجود فعلى) والأول أولى لأن وجود (فعلى) ليس مقصوداً لذاته بل المطلوب منه انتفاء التاء، لأن كل ما يجئ منه (فعلى) لا يجئ منه فعلانة في لغتهم إلا عند بعض بني أسد فإنهم يقولون في كل فعلان جاء منه فعلى: (فعلانة) أيضا نحو: غضبان وسكران فيصرفون إذن (فعلان فعلى) وهذا دليل قوي على أن المعتبر في تأثير الألف والنون انتفاء التاء لا وجود فعلى، ثم يدلل على قوله ببعض الألفاظ التي لا يكون مؤنثها على (فعلى) ومع هذا فهي ممنوعة من الصرف.(14/337)
يقول الرضي: (فإذا كان المقصود من وجود (فعلى) انتفاء التاء وقد حصل هذا المقصود في (رحمان) لا بواسطة وجود (رحمى) بل لأنهم خصصوا هذه اللفظة بالبارئ تعالى فلم يطلقوه على غيره ولم يضعوا منه مؤنثا لا من لفظه أعني بالتاء ولا من غير لفظة أعني (فعلى) فيجب أن يكون غير منصرف) .
فإن قلت لا نسلم أن وجود (فعلى) مطلوب ليطرق به إلى انتفاء فعلانة بل هو مقصود بذاته لأنه يحصله بوجودها مشابهة بين الألف والنون وبين ألف التأنيث لكون مؤنث هذا على غير لفظه كما أن مذكر ذاك على غير لفظه قلت هذا الوجه وإن كان يحصل به بينهما مشابهة إلا أنه ليس وجها للمشابهة ضروريا بحيث لا يؤثر الألف والنون بدونه بل الوجه الضروري كما ذكرنا في التأثير انتفاء فعلانة ألا ترى إلى عدم انصراف مروان وعثمان بمجرد انتفاء التاء من دون وجود (فعلى) انتهى كلام الرضي.
ويقول الإمام بدر [32] الدين محمد الزركشي في التنبيه الثالث في معرض الحديث عن لفظة (رحمان) : أنه لو جرد عن الألف واللام لم يصرف لزيادة الألف والنون في آخره مع العلمية أو الصفة.
وأورد الزمخشري [33] بأنه لا يمنع (فعلان) صفة من الصرف إلا إذا كان مؤنثه على (فعلى) كغضبان وغضبى وما لم يكن مؤنثه على (فعلى) ينصرف كندمان وندمانة وتبعه [34] ابن عساكر بأن رحمن، وإن لم يكن له مؤنث على فعلى فليس له مؤنث على فعلانة لأنه اسم مختص بالله تعالى فلا مؤنث له من لفظه. فإذا عدم ذلك رجع فيه إلى القياس وكل ألف ونون زائدتين فهما محمولتان على منع الصرف.(14/338)
قال الجويني وهذا فيه ضعف في الظاهر وإن كان حسنا في الحقيقة لأنه إذا لم يشبه غضبان ولم يشبه ندمان من جهة التأنيث فلماذا ترك صرفه مع أن أصل الصرف كان ينبغي أن يقال ليس هو كغضبان فلا يكون غير منصرف ولا يصح أن يقال هو كندمان فلا يكون منصرفا لأن الصرف ليس بالشبه إنما هو بالأصل وعدم الصرف بالشبه ولم يوجد ولعل تقدير ابن عساكر السابق يؤيد إنكار ابن مالك على ابن الحاجب تمثيله ب ((رحمن)) .
لزيادة الألف والنون مع منع الصرف وقال لم يمثل به غيره ولا ينبغي التمثيل به فإنه اسم علم بأغلبه لله مختص به وما كان كذلك لك يجرد من (أل) [35] ولم يسمع مجردا من (أل) إلا في النداء قليلا مثل (يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة) .
وقد أنكر الزمخشري [36] على شاعر اليمامة قوله:
وأنتَ غيثُ الوَرَى لازلتَ رَحْمانَا
سموتَ بالمجدِ بابنِ الأكرمين أباَ
وأجاب ابن مالك بأن الشاعر أراد (لازلت ذا رحمة) ولم يرد الاسم المستعمل بالغلبة وحينئذ يستعملونه مضافا ومنكرا وقد أنكر على الشاطبي قوله في أول أرجوزته المعروفة في القراءات والمسماة حرز الأماني ووجه التهاني.
تبارك رحمانا رحيما وموئلا
بدأت ببسم الله في النظم أولا
لأنه أراد الاسم المستعمل بالغلبة وكان ينبغي عليه أن يعرفه بالألف واللام، ولما كان الرحمن علما لا صفة كما يقول:
الأعلم وابن مالك وصف بقوله في البسملة (الرحمن الرحيم) وليس الرحيم مرادفا للرحمن [37] فالرحمن كالعلم لا يوصف به إلا الله تعالى فلهذا قدم، لأن حكم الأعلام وغيرها من المعارف أن يبدأ بها ثم يتبع الأنكر أي الأقل في الصفة وما كان في التعريف أنقص.(14/339)
وهذا مذهب سيبويه وغيره من النحويين فجاء هذا على منهاج كلام العرب ومثل (رحمان) ، (لحيان) [38] لكبير اللحية وفيه الخلاف المذكور والصحيح منع صرفه أيضا، لأنه وإن لم يكن له (فعلى) وجودا فله (فَعْلى) تقديرا لأنا لو فرضنا له مؤنثا لكان (فعلى) أولى به من (فَعْلانةُ) لأن باب فَعْلان فَعْلى أوسع من باب فعلان فعلانة فالأولى أن يحمل على أوسع البابين انتشارا عند العرب، والتقدير في حكم الوجود بدليل الإجماع على منع أكمر [39] وآدر [40] مع أنه لا مؤنث له ولو فرض له مؤنث لأمكن أن يكون كمؤنث أرمل وأن يكون كمؤنث أحمر لكن حمله على أحمر أولى لكثرة نظائره.
ويقول أبو حيان الصحيح فيه الصرف لأنا جهلنا فيه النقل عن العرب والأصل في الاسم الصرف فوجب العمل به فهذه المسألة مما تعارض فيها الأصل والغالب.
(وللحديث بقية)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] وزيادة الألف والنون آخر الاسم ودلالتها على النسب تعد من الظواهر التي تشارك فيها بعض اللغات الشرقية والغربية.
[2] شرح المفصل ج 9 ص 154، 155.
[3] ومن الملحوظ أننا نشاهد استعمال هذا الوزن كثيرا في اللهجة الدارجة فقالوا فلان بخلان، بردان، بطران، بهتان، جربان، جحدان، حلمان، خدران، زعلان، زهقان، زوران، سرحان، طرشان، شرقان، صفقان، عميان، فجعان، كحيان، عمشان، مرضان، شقيان.. إلخ.
[4] انظر الشافية ج 1ص 159، وشرح المفصل ج 6 ص 45.
[5] تقول: لواه دينه، ولواه بدينه إذا مطله.
[6] انظر القاموس مادة (الزيد) .
[7] البيت لزيادة العنبري ونسبوه في كتاب سيبويه ج 1 ص 97 إلى رؤبة بن العجاج.(14/340)
[8] كثير من الأوصاف قد استعمله أسلافنا أعلاما ومنه ما يستعمل حتى الآن مثل حسان بن ثابت شاعر النبي وحمدان (بنو حمدان) ومنهم سيف الدولة الحمداني وحيان ومنهم أبو حيان التوحيدي البغدادي، وأبو حيان الأندلسي النحوي وسحبان الخطيب المشهور يضرب المثل بفصاحته، شعبان وشرهان، وعدنان عفان، غسان غيلان (اسم الشاعر ذو الرمة) قحطان وكهلان وهمدان (قبائل عربية) وردان (مولى عمرو بن العاص وحامل لوائه) يقظان (حي بن يقظان) ومن الكنايات عن مجهول النسب (هيان بن بيان) .
* كذلك صفوان وصفا لمن ينفق ماله رياء في قوله تعالى {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} .
فصفوان في الأصل حجر وقد يستعمل علما مثل خالد بن صفوان.
[9] قال سيبويه ج 2 ص 221: (وقالوا قدح نصفان وجمجمة نصفى، وقدح قربان وجمجمة قربى إذا قارب الامتلاء جعلوا ذلك بمنزلة الملآن، لأن ذلك معناه معنى الامتلاء لأن النصف قد امتلاء والقربان ممتلئ أيضا إلى حيث بلغ ولم نسمعهم قالوا: قرب ولا نصف اكتفوا بقارب وناصف ولكنهم جاءوا به كأنهم يقولون قرب ونصف كما قالوا مذاكير ولم يقولوا: مذكير ولا مذكار) انتهى كلام سيبويه.
[10] انظر القاموس مادة (نعس) .
[11] انظر المحتسب ج 2 ص 72.
[12] انظر المجلد الشامل للمحاضرات والبحوث ص 83، 91 التي ألقيت في مؤتمر الدورة الثانية والثلاثين المنعقد ببغداد سنة 1965.
[13] المخصص لابن سيدة.
* شرح المفصل لابن يعيش ج 1ص 66.
[14] انظر شرح المفصل لابن يعيش ج 5ص 60.
[15] انظر شرح الكافية ج 1ص 182 طبعة بيروت.
[16] هي بالأصل حجر بكسر الحاء.
[17] انظر الشافية ج 2 ص 174.
[18] قال ابن مالك في الألفية حيث يتحدث عن الأسماء والصفات التي تجمع على فعال: وشاع في وصف على فعلانا وأنثيية أو على فعلانا وانظر شرح الأشموني ج 4 ص 98 والشافية ج 3 ص 173.
انظر سيبويه ج 2 ص 212.(14/341)
[19] غراث جمع غرثان كعطشان وهو الجرعان وتقول غرث الرجل كفرح يفرح فهو غرث وغرثان وامرأة غرثى وغرثان والجمع غرثى كجرحى، وغراثى كسكارى، وغراث كعطشان. قال الشاعر: غراث الوشح صافية البرين أي دقيقة الخصر لا يملأ وشاحها فكأنه غرثان والبرين كل حلقة من سوار وقرط وهذا كناية عن كونها سمينة.
[20] وبه قرأ حمزة والكسائي {وترى الناس سكرى وما هم بسكرى} مع الأمالة.
وانظر الأشموني جزء 4 ص 97.
[21] قال في اللسان: راب الرجل روباً تحير وفترت نفسه من شبع أو نعاس، وقيل سكر من النوم وقيل إذا قام من النوم خائر البدن والنفس، ورجل رائب وأروب وروبان والأنثى رائبة عن اللحياني لم يزد على من قوم روبى إذا كانوا كذلك، وقال سيبويه: هم الذين أتخنهم السفر والوجع فاستلقوا نوماً وهو في الجمع شبيه بهلكى وسكرى، وأحدهم روبان، وقال الأصمعي: واحدهم رائب مثل مائق وموقى وهالك وهلكى.
انظر سيبويه ج 2 ص 214.
[22] انظر الشافية ج 2 ص 140 والأشموني ج 4 ص 97.
[23] انظر سيبويه ج 2 ص 212 والأشموني ج 4 ص 105.
والشافية ج 2 ص 167، 174.
[24] مكنون فائله: الدم.
[25] انظر شرح المفصل لابن يعيش ج 5 ص 64.
[26] انظر شرح المفصل لشافية ج 2 ص 172.
[27] قال ابن مالك:
كغطفان وكاصبهانا
كذلك حاوى زائدي فعلانا
وفي أصبهان لغات كثيرة: منها كسر الهمزة، ومنها إبدال بائها فاء ولا تكون الألف والنون زائدتين إلا على اعتبار أن أصل الكلمة عربي أما على الرأي القائل إنها أعجمية وهو الصواب فلا تمنع للعلمية مع الزيادة وإنما تمنع للعلمية والعجمة.
[28] الغطف: اتساع النعة.
[29] انظر شرح المفصل ج 1 ص 66، شرح الكافية ج 1 ص 60.(14/342)
[30] فالسبب في منع (فعلان) من الصرف فيه خلاف إما لأنه ينتهي بزيادة تشبه ألف التأنيث وهذا عند سيبويه، والمبرد يقول امتنع فعلان من الصرف لكون النون بعد الألف مبدلة من ألف التأنيث، والكوفيون يقولون امتنع (فعلان) لكون النون بعد الألف زائدتين لا يقبلان الهاء. انظر شرح الأشموني ج 3 مبحث الممنوع من الصرف للزيادة.
[31] انظر شرح الكافية ج 1 ص 60 وما ينصرف وما لا ينصرف للزجاج ص 35، 36.
[32] انظر البرهان في علوم القرآن ج 2 ص 509 التنبيه الثالث.
[33] انظر الكشاف للزمخرشي ج 1 ص 6.
[34] انظر التكميل والإفهام لابن عساكر.
[35] والذي يدل على أن العرب كانت تعرف هذا الاسم قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وقوله: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَن} .
وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} فجهلوا الصفة دون الموصوف ولذلك لم يقولوا ومن الرحمن.
انظر البرهان ج 2 ص 503 ويقول أبو حيان في البحر المحيط ج 1 ص 17 الرحمن فعلان من الرحمة واصل بنائه من اللازم من المبالغة وشذ من المتعد (وال) فيه للغلبة كهي في الصعق فهو وصف لم يستعمل في غير الله كما لم يستعمل اسمه في غيره وسمعنا مناقبة قالوا: رحمن الدنيا والآخرة، ووصف غير الله من تعنت الملحدين، وإذا قلت الله رحمان ففي صرفه قولان يسند أحدهما إلى أصل عام وهو أن أصل الاسم الصرف، والآخر إلى خاص وهو أن أصل (فعلان) المنع لغلبته فيه. ومن غريب ما قيل فيه أنه أعجمي بالخاء المعجمة فعرب بالحاء قاله ثعلب وذهب إلا علم وابن الطراوة وغيرهم إلى أنه اسم علم مشتق من المتعدي كما اشتقوا الدبران من دبر صيغ للعلمية ويدل على علميته وروده غير تابع لاسم قبله في أكثر الكلام فعلى قول هؤلاء يكون الرحمن بدلا من اسم الله.(14/343)
[36] مشاهد الإنصاف على شواهد الكشاف ج 1 ص 5.
[37] قال الإمام محمد عبده في تفسيره لسورة الفاتحة وقد ميز بين صيغتي الرحمن الرحيم فعنده أن الرحمن من يكثر من الأفعال الرحيمة فهي صيغة مبالغة، والرحيم من طبيعته الرحمة فالرحيم كسائر ما نسميه في الصرف صفة مشبهة تدل على الطبيعة الملازمة لصاحبها.
[38] انظر شرح الأشموني ج 3 ص 174، وما لا ينصرف للزجاج ص 35، 36.
[39] الأكمر وصف على أفعل لا مؤنث له يقال لكبير الحشقة.
[40] الآدر وصف على أفعل لا مؤنث له يقال لكبير الخصيتين.
انظر البحر المحيط ج 1 ص 7.(14/344)
تسعة أغلاط في خبر صغير
قال مؤلفو المنجد في تعريف أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه
أبو سفيان تاجر عادى النبي وحاربه في بدر واحد وقاد جناحاً من الجيش الكبير الذي زحف لحصار المدينة في وقعة مؤته سنة 627 ثم اعتزل الحرب وصالح محمداً في معاهدة الحديبية وسلمه مكة. كان في وقعة اليرموك توفي نحو 652.
التعقيب
1- هو أبو سفيان صخر بن حرب الأموي القرشي.
2- أبو سفيان لم يشهد بدراً بل مضى بالقافلة إلى مكة.
3- خلط مؤتة بالمدينة وإنما قاد الجناح في معركة الخندق.
4- لم يشهد مؤتة قط.
5- وكانت وقعة مؤتة سنة ثمان للهجرة وتقابل سنة 629م لا 627م كما زعم المنجد.
6- لم يحضر صلح الحديبية وكان سهيل بن عمرو هو مندوب قريش إليها.
7- صلح الحديبية لم يسفر عن تسليم مكة وإنما تم فتحها بعد ذلك.
8- لم يسلم أبو سفيان مكة بل منح بعض التكريم من قبل رسول الله تألفاً له.
9- يحدد المنجد وفاته بعام 652 وإنما هو عام 655 الموافق لعام 34 للهجرة.(14/345)
الإسراء وفلسطين ودولة اليهود
لفضيلة الشيخ أسعد بيوض التميمي
مدير مسجد الأقصى
الإسراء وعلاقته بقضية المسلمين في الأرض المباركة.
اشتد الصراع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الكفار من قريش حيث خافت قريش على ما يوفره الكفر لها من امتيازات طبقية ودينية، وامتيازات اقتصادية، وأخذ الصراع بين الحق والباطل يتصاعد بين الدين الجديد وما يمثله من خير للإنسان وما يعطيه للبشرية من حياة كريمة يعبد فيها الإنسان ربه الذي خلقه ويسجد لبارئه الذي أوجده فلا يسجد لبشر، ولا ينحني أمام حجر أو شجر. ولا يعبد فلكا ولا مظهرا من مظاهر الكون وإنما يستمد العزة لنفسه من عبادة الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ويولد ولم يكن له كفوا أحد.
اشتد الصراع بينه وبين الشرك وما يمثله من انحطاط في الفكر الإنساني والسلوك البشري الذي يظهر في السجود لحاكم أو رجل دين أو حجر أو شجر أو فلك. ذلك الانحطاط الذي ينتج عنه أن الغرائز في الإنسان تتحكم في مسيرته لا مقياس عنده يقيس به الأمور ولا حلال ولا حرام، وإنما كل أمر مباح من قتل نفس أو ظلم إنسان أو أكل مال حرام، أو استعباد نفس وإذلال للخلق فلا عجب إن ظهرت الطبقية العرقية الممثلة في السادة والعبيد والأشراف والسوقة والطبقية الاقتصادية الممثلة في تجارة الربا وأكل أموال الناس بالباطل، واستغلال حاجة الآخرين للإثراء غير المشروع والطبقية الدينية بحيث يصبح الدين وفهمه احتكارا على طبقة معينة وناس مخصوصين يستغلون جهل الناس ويطلبون منهم أن يعبدوهم ويطلبون منهم تقديم النذور والقرابين لهم ولما يمثلون.
وأخذ الكفر يقاتل عن مواقعه بشراسة حتى اضطر المسلمين إلى الهجرة مرتين فرارا بدينهم وحرصا على عقيدتهم، وحتى يأذن الله بالفرج.(14/346)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يقارع قومه الحجة، يبين باطل ما هم فيه وما عليه حياتهم، ولكنهم أصابهم الكبر ولحق بهم العناد وكان الله قد هيأ له زوجة صالحة تعتني بأمره وتدعمه بمالها، وتخفف عنه قسوة عناد قومه، وجهل عشيرته، وهيأ له كذلك عمه أبا طالب يحميه، ويمنعهم من قتله واغتياله، وإن لم يمنع عنه ما دون القتل والاغتيال من الأذى وهم مع هذا يحسبون حساب عمه من حين إيذائه حتى أن بعضهم يطرح عليه سلا جزور وهو يصلي.
ثم أن خديجة رضي الله عنها، وأبا طالب هلكا في عام واحد قبل هجرته بثلاث سنين فعظمت المصيبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بهلاكهما وذلك أن قريشا وصلوا في أذاه بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته منه حتى نثروا التراب على رأسه الشريف صلى الله عليه وسلم فدخل الرسول بيته والتراب على رأسه فقامت إليه إحدى بناته تغسل عنه التراب وهي تبكي ورسول الله يقول لها يا بنية لا تبكي فإن الله مانع أباك.
ولما استعصت قريش، وصمت آذانها، وأغلقت قلوبها وعقولها، اتجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف فلما وصلها عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم وهم ثلاثة إخوة: عبد ياليل بن عمرو بن عمير، ومسعود بن عمرو بن عمير، وحبيب بن عمرو بن عمير، فردوه ردا غير جميل فقال أحدهم هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله قد أرسلك، وقال الآخر أما وجد الله أحدا يرسله غيرك، وقال الثالث والله لا أكلمك كلمة أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لئن أنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ولئن إن كنت تكذب على الله ما ينبغي أن أكلمك.(14/347)
فقام رسول الله من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم فيما ذكره شيخ المؤرخين المسلمين الطبري وأنا أروي عنه: إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه فيزئرهم ذلك عليه فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجاؤه إلى بستان لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ يناجي ربه مناجاة الصابر المحتسب يطلب منه المدد والعون حيث قومه لا يستجيبون للنور ولا يلتقون على الخير، والطائف كانت أسوأ من مكة، وأقسى من قريش، فأخذ يقول كما يروي الطبري ((اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلت حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، من أن تنزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك)) .
في هذا الجو القاتم الشرس كان الله بنبيه رؤوفا رحيما، وكانت حادثة الإسراء من مكة إلى القدس، وكان المعراج من أرض المسجد الأقصى إلى السموات العلى إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، وكان في الإسراء أكثر من معنى، وآثره لا يزال على مر الأيام وكر السنين يفعل.(14/348)
يكرم الله نبيه على صبره ويجازيه الجزاء الأوفى على تحمله فيستدعيه إليه ويقربه منه، ويرفعه إلى درجة لم يصلها أحد من خلقه حتى ولا الملائكة المقربون. ويقدم له أرض الشام، أرض فلسطين أرض القدس، المسجد الأقصى هدية إيمان وجائزة رضوان فيفتح النبي أرض الشام، ومنها أرض فلسطين فتحاً مادياً بجسده الشريف، ويعلن الله للدنيا في ذلك الحين وللدنيا في هذا الحين وللدنيا في كل حين أن المسجد الأقصى أصبح مسجداً للمسلمين، فيصلي فيه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة الإسلامية الأولى إماماً للأنبياء المرسلين حيث أحياهم الله له ويصلي الصلاة الثانية بعده عمر وأبو عبيدة، وكبار الصحابة والجنود المؤمنون يوم أن دخل عمر القدس، واستلمها من بطريركها صفرونيوس وأعطاه العهدة العمرية التي تنص فيما نصت عليه أن لا يسكن إيليا (القدس) أحد من اللصوص واليهود وذلك أن كبار أصحاب رسول الله كانوا على علم منه لا يعلمه بقية الناس، وهذا النص في الوثيقة يدل على مبلغ فهم عمر لخطر اليهود على هذه الأرض.
ويذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه القرآن الكريم هذا الخبر العظيم فيقول في سورة الإسراء {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .(14/349)
وسورة الإسراء تتحدث عن المسجد الأقصى وإسراء النبي إليه وتقرر أن هذا المسجد الذي بني بعد البيت الحرام بأربعين سنة كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض قال: "المسجد الحرام"قلت ثم أي قال: "المسجد الأقصى"قلت كم بينهما قال:"أربعون سنة ثم الأرض لك مسجد فحيثما أدركتك الصلاة فصل") فعاد للمسجد بالإسراء قدسيته وطهره حيث كان المسجد خراباً يباباً لا يصلي فيه أحد إلى أن جاء النبي صلى الله عليه وسلم فتقررت مسجيديته في القرآن واستلمه عمر فكان ينظفه هو وأصحابه من الكناسة وطهوره وأصبح من يومها منارة علم ودار إيمان ومحجة زوار ومحراب صلاة.
إذن سورة الإسراء تتحدث عن علاقة المسلمين بالمسجد الأقصى وأن المسجد للمسلمين حيث أسري بنبيهم إليه، وتقرر بركة أرض الشام أو أرض فلسطين، وتبدأ بعد ذلك في الحديث عن الفساد والعلو لليهود والتدمير الذي سيلحق بهم، وأنهم سينازعون المسلمين أرض الإسراء والمسجد الأقصى.
وهنا لابد أن نقرر أن علماء التفسير اختلفوا اختلافا كبيرا في (العلوين) (والإفسادين) اللذين أشارت إليهما الآية وهي قوله تعالى {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً} فقال قوم هم أهل بابل، وكان عليهم بختنصر قاله ابن العباس رضي الله عنهما وقال قتادة أرسل عليهم جالوت فقتلهم فهو وقومه أولوا بأس شديد، وقال مجاهد جاءهم جند من فارس يتجسسون أخبارهم ومعهم بختنصر، وقال محمد بن اسحق أن المهزوم سنحارب ملك بابل وقيل أنهم العمالقة إلى غير ذلك من الأقوال المتضاربة، ونحن حين ننظر إلى الآيات نظرة موضوعية نجد الأشياء التالية:-(14/350)
أولا: الآيات مكية وتتحدث عن علوين وإفسادين لليهود فهل مضى هذان العلوان قبل نزول الآية أم أنهما آتيان.
مما لا شك فيه أن اليهود دمروا أكثر من مرة قبل الإسلام، وقبل نزول الآيات فقد سباهم البابليون، ودمرهم الرومان وذلك أنه منذ أن غضب الله عليهم نتيجة سوء تصرفهم وحقدهم على الله وأنبيائه غضب الله عليهم وجعلهم يتصرفون تصرفا يلجئ البشرية إلى إذلالهم وضربهم. يقول الله تعالى في سورة البقرة آية 61 {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} ثم تقرر آية أخرى في سورة أخرى أن العذاب سيستمر في اليهود والتدمير لهم إلى يوم القيامة: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} الأعراف آية 167.
إذن لا غرابة أن يكون إفساد اليهود وعلوهم ثم تدميرهم أكثر من مرة قبل الإسلام ولا غرابة أن يكون كذلك علو وفساد بعد الإسلام ثم تدميرهم.
وليس هناك ما يمنع أن يكون الفساد والعلو ثم التدمير لمرتين بعد نزول الآيات والواقع أن المتعمق في الآيات يجد المرتين في علو اليهود وإفسادهم ثم تدميرهم هما بعد نزول آيات الإسراء.
وذلك أن الله يقول {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} ، وإذا ظرف لما يستقبل من الزمان ولا علاقة لما بعدها بما قبلها فوجود كلمة إذا في الآية تدل على أن الفساد والعلو ثم التدمير الأول آت وأنه لم يمر كما أن استعمال إذا للمرة الثانية يدل على أنها آتية لم تمر كذلك.(14/351)
وقوله تعالى: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} .
إن الذين سيتولون تدمير اليهود هم من المؤمنين إذ أن الله سبحانه وتعالى حين يضيف كلمة العباد لذاته تكون في موضع التشريف، ويخص بها المؤمنين يقول الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً} ويقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِم} ويقول: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِه} ، وأعظم منزلة للنبي صلى الله عليه وسلم أنه عبد الله ورسوله.
وفي التحيات (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) .
وهذا التشريف والتكريم الإيماني لا ينطبق على البابليين ولا على الرومان لأنهم جميعا من الوثنيين. إذن ينطبق هذا الوصف على رسول الله وأصحابه الذين جاءوا إلى المدينة ولليهود فيها نفوذ سياسي واقتصادي. وكان من أول أعماله في المدينة إبرام المعاهدة السياسية بينه وبين اليهود وأن اليهود جماعة مستقلة، وأن المسلمين جماعة مستقلة، فلما غدر اليهود ونقضوا العهد كعادتهم ودأبهم سلط الله عليهم المسلمين فجاسوا خلال الديار اليهودية وتغلغلوا فيه وأزالوهم عن المدينة وخيبر وتيماء، وزال سلطانهم وتدمر علوهم فكان ذلك من خلال معارك بني قريضة وبني النضير، ومعارك خيبر الشهيرة، وتأتي سورة الحشر لتأكد هذا المعنى في قوله تعالى في وصف معارك المسلمين مع اليهود في المدينة {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} آية 2.(14/352)
إذن هو إخراجهم لأول الحشر، فخرج قسم منهم إلى اذرعات من أرض الشام حتى تبدأ المرة الثانية من علوهم وفسادهم. ويقول الله {وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً} يعني في عهد النبي والوحي ينزل وأتمه أصحابه من بعده. وتبدأ الآيات بعد ذلك تتحدث عن المرة الثانية من العلو والفساد، فتخبر الآيات أن الله سيجعل لليهود الكرة عليهم على من؟ على الذين جاسوا خلال الديار أول مرة، والكرة الدولة والسلطة. وحين أراد الله لليهود أن يكروا استعمال كلمة (ثم) وثم كما هو معروف معناها العطف مع التراخي أو المهلة فهل كر اليهود في التاريخ على البابليين وكانت لهم دولة وسلطة عليهم؟ لم يحدث ذلك في التاريخ، ولن يحدث الآن ولا في المستقبل حيث أن البابليين قد انصرفوا من الدنيا كافة وليس لهم مكان يعرفون فيه أو دولة يعيشون فيها وحاشا لله أن لا يصدق القرآن أو يكون خبره غير محقق. إذن لابد أن تكون الكرة على أبناء الذين جاسوا خلال الديار وهم المسلمون أو العرب المسلمون فقد كر اليهود على ديار الشام وفلسطين منها وهذا هو الذي قد حدث ونعيشه الآن، ويعاني منه المسلمون كل المسلمين، وانظروا معي إلى بقية الآيات تمضي فتصف الواقع الذي نعيشه وتعيشه دولة اليهود إذ بعد أن جعل الله الكرة لليهود علينا يقول الله لليهود {وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً}
وهنا نسأل مرة أخرى هل مد الله اليهود في التاريخ بأموال وبنين غير هذه المرة. لم نعرف أن ذلك قد حدث، واليهود منذ أن غضب الله عليهم وهم في بلاء متصل وعذاب مستمر فقبل الإسلام كان عذاب البابليين لهم والرومان، وبعد الإسلام أخرجهم المسلمون من الجزيرة ثم بدأت أوربا تعذبهم في أسبانيا حتى جاء المسلمون فأنقذوهم من الأسبان واستمر العذاب.(14/353)
واليهودي في كل الأرض يعتبر إنسانا شريرا متآمرا يستحق التعذيب والقتل، وآخر من عذبهم في حياتنا المعاصرة هو أدولف هتلر ومعه النازيون وحتى نرى مبلغ صدق الآية، ونرى إعجازها بأعيننا نجد دولة اليهود اليوم تعيش على البنين الذين يأتونها من أطراف الأرض ليمدوها بالجند، وفي هذه الفترة من روسيا بالذات، وترى الأموال من دول الغرب تأتيها بمساعدات مذهلة حتى تستمر في عدوانها وطغيانها وجبروتها، ثم يقول الله {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} ولذلك فإن أكبر قوة في الأرض أو أكبر دول الأرض تساند دولة اليهود في حال نفرتها وحربها.
إذن هذه هي المرة الثانية من العلو فما بال الفساد؟ وحتى يتحقق الفساد فنرى اليهود في دولتهم يرتكبون أفظع الجرائم بحيث فاقوا كل أنواع العذاب التي عانوا منها في زعمهم أو عاناه غيرهم ولذلك يحذرهم الله فيقول لهم {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} وهم قد أساءوا فقتلوا النفس الإنسانية وعذبوها ويتموا الأطفال وسجنوا النساء وهدموا البيوت واغتصبوا الأرض وأقاموا المستعمرات وحرقوا الأقصى في 21/8/1969 والأقصى عند الله عظيم، ودنسوا مسجد الخليل عليه السلام، والخليل عند الله هو الخليل، وارتكبوا جريمة الجرائم في مسجد الخليل يوم أن عمدوا إلى كتاب الله القرآن العظيم فمزقوه وداسوه.(14/354)
وهنا تأتي عقوبة الله على ما اقترفوا من الإثم والجرائم بتفسير من الآيات أن دولتكم لن يطول فسادها ولا علوها فيقول الله {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} وهنا حين يخبر الله عن زوال دولتهم استعمل كلمة الفاء للعطف ولم يستعمل ثم والفاء للعطف مع التعقيب والتعقيب كل شيء بحسبه وما يناسبه وهو يدل على السرعة المناسبة في حصول المقصود {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} أي لذهاب علوهم الثاني تصبح وجوه بني إسرائيل سيئة ويبشرنا ربنا جلت قدرته أننا سندخل المسجد الأقصى كما دخلناه أول مرة، وفي هذه الآية إشارة لطيفة إلى دخولنا المسجد مرتين. والمرتان حدثتا بعد نزول الآية المرة الأولى الفتح العمري للمسجد حين دخله باسم الله والإسلام، والمرة الثانية هذه التي نحن على أبوابها حيث سيدخل المسلمون المسجد فاتحين للمرة الثانية، ثم يقرر الله أننا سنتبر أي ندمر، ونهلك علو اليهود المادي والمعنوي. ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن فلسطين لم تعرف العمارات ذات الطوابق التي تزيد عن أربعة أو خمسة طوابق إلا في ظل اغتصاب اليهود لها. ولذلك فإن هذه العمارات الشاهقة التي يقيمونها على الأرض المباركة سيلحقها التدمير والخراب ثم تمضي الآيات فنحذر اليهود من محاولة العودة للفساد والتعالي فيقول الله لهم {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} ، وتأتينا البشرى من الله بعد أن يفهمنا ربنا أن القرآن يهدي إلى الطريق السوي والحياة الصحيحة تأتينا البشرى بالنصر فيقول: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} . وفي آخر السورة سورة الإسراء آية أخرى تتعلق بهذا الأمر، وهي قوله تعالى(14/355)
في آخر السورة {وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائيلَ اسْكُنُوا الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} ولفيفا جماعات ملتفة وفي بقية الآية إنذار لليهود وبشرى لنا، فيقول الله {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} بشرى لنا وإنذار لهم فإذا ربطنا هذه الآيات وتفسيرها بالحديث الذي يدلنا على صدق النبوة، ومعجزة الرسول صلى الله عليه وسلم حين أخبرنا عن قتال اليهود فيما رواه الشيخان البخاري ومسلم وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود".(14/356)
أيقنا بعد ذلك لماذا لم ينجح المحاولات لتثبيت دولة اليهود وذلك أنه منذ سنة 1948، وكل محاولة للصلح وتثبيت دولة اليهود يفشلها اليهود أنفسهم وذلك لأن الله يلهمهم الخطأ فيرفضون كل الحلول لأن اليهود لا يعالجون أي أمر إلا بالحقد والتآمر والخديعة، ويقرر الله أن لا عقل عندهم فيقول {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} ، وذلك كله يجري حتى يأتي اليوم الموعود يوم تتخلص المعركة أو ديار المسلمين من الإيديولوجيات المنافية للإسلام وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر في حديث قتال اليهود أن الجحر والشجر سينطق ويقول "يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله" إذن لن يكون قتال النصر في فلسطين قتالا يمينيا رجعيا ولا يساريا تقدميا، وإنما يكون قتالا إسلاميا في سبيل الله كما كان دائما قتال النصر للمسلمين {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} .(14/357)
وبعد فإن الآية الأولى في سورة الإسراء نصت على بركة الأرض التي تحيط بالمسجد الأقصى وكذلك آيات أخرى نصت على هذه البركة مثل قوله تعالى في حق الخليل إبراهيم {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} وقوله {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} ، والبركة الزيادة في كل شيء، وليست بركة هذه الأرض مادية وإنما بركتها بالإضافة إلى الأشياء المادية بركات معنوية تتمثل في أنها عش الأنبياء ولذلك فكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في دفنه في بيت المقدس عند وفاته باعتبارها عش الأنبياء، وكانت لم تفتح بعد، وهي مهبط الوحي وهي مسرى النبي ومعراجه منها صلى الله عليه وسلم وهي القبلة الأولى فقد صلى المسلمون إلى مسجدها ستة عشر شهرا ومسجدها تشد إليه الرحال كما ورد في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى".(14/358)
ومن بركة هذه الأرض استقراء أنه حينما يبتعد المسلمون عن محور عزهم ومركز قوتهم وهو الإسلام يضعفون ويتمزقون وتكثر دولهم ودويلاتهم فيسهل على العدو أن يتسرب من خلالهم فيأخذ الأرض المباركة ويأخذ المسجد الأقصى وعندها يتحرك المسلمين حركة حياة من جديد وينفضون غبار الهزيمة فيعملون لاستخلاص هذه الأرض فعن طريق استخلاصها يتم توحيد المسلمين من جديد. ألا ترون أنه بسبب حريق المسجد الأقصى كان مؤتمر القمة الإسلامي الأول في المغرب الذب انبثق عنه مؤتمر وزراء الخارجية المسلمين الذين كونوا الأمانة العامة الإسلامية في جده، وهذا من بركة هذه الأرض التي باركها الله. ولذلك لن يصل أحد مع اليهود وأعوانهم إلى حل حتى يأتي أمر الله ويتوحد المسلمون، ويعود الإسلام محركا للحياة في ديار الإسلام وفي العالم كله.
وقد ظهرت بركتها في الحروب الصليبية إذ بعد أن أخذها الصليبيون وظنوا أن الأمر قد استقر لهم كانت حروبهم سببا في توحيد المسلمين من جديد فكان نور الدين زنكي الذي وحد الأجزاء المبعثرة وأخذ الراية منه صلاح الدين، فكانت حطين النصر المبين وكانت معركة القدس فيما بعد ودخلها رحمه الله فأعاد الأمن والأمان إليها وعاد مسجده إلى قدسيته وطهره.
وقدر أهل الشام وفلسطين منها أنهم مرابطون إلى يوم القيامة حيث الكفار لا يتركون الأرض المباركة يستقر أهلها وهم يريدون مسجدها ليقيموا عليه الهيكل.(14/359)
روى الطبراني عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الشام وأزواجهم وذراريهم وعبيدهم وإماءهم إلى منتهى الجزيرة مرابطون ممن نزل مدينة وقرية من المدائن فهو في رباط أو ثغر من الثغور فهو في جهاد، وقدر أهل الشام كذلك أن ينتقم الله بهم من أعدائه فعن خريم بن فاتك "أهل الشام سوط الله في أرضه ينتقم بهم ممن يشاء من عباده وحرام على منافقيهم أن يظهروا على مؤمنيهم وأن يموتوا إلا هما وغما وغيظا وحزنا"رواه الطبراني مرفوعا وأحمد موقوفا ورجاله ثقات، وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه يقول "الملحمة الكبرى بأرض يقال لها الغوطة فيها مدينة يقال لها دمشق خير منازل المسلمين يومئذ" رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد وقد روى أبو بكر بن شيبة عن أبي الزاهرية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معقل المسلمين من الملاحم دمشق ومعقلهم من الدجال بيت المقدس ومعقلهم من يأجوج ومأجوج الطور".(14/360)
وعلى هذا فالأرض المباركة بركتها بالإضافة إلى الأشياء المادية التي ذكرها المفسرون من الثمار والأشجار والأنهار والأرض المعطاء والسهل الخصيب والجبال العالية والأرض المنخفضة التي تجعلك تنتقل في ساعة من زمن أو أقل من مستوى سطح البحر إلى العلو الشاهق إلى الغور المنخفض فهناك البركة المعنوية والبركة المادية تتصاغر أمام البركة المعنوية والتي باركها الله فجعلها القبلة الأولى يصلي إليها المسلمين وأسرى بنبيه إليها وعرج به من مسجدها الأقصى تشد إليه الرحال وهي عش الأنبياء وهذا مما جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأتي بنفسه لتسلم القدس ولذلك فحينما يتحدث اليهود وأعوانهم عن الوطن البديل للفلسطينيين يظنون أن أي أرض يمكن أن تستبدل بها الأرض المباركة ويظنون أن الأمر أمر إسكان ٍلاجئين أو استقرار مشردين وما علموا أو هم يتجاهلون أن هذه الأرض لا تدانيها أرض أخرى ولا يمكن أن يقوم مقامها وطن بديل في أي بقعة من بقع الكرة الأرضية إذ أن هذه الأرض مرتبطة بعقيدة المسلمين سجلت في كتاب الله بوصفها القبلة الأولى وبوصفها مسرى النبي وبوصفها معراج الرسول وبوصفها الأرض المباركة ولذلك فهي لا تخص الفلسطينيين وحدهم ولا تخص العرب وحدهم بل تخص المسلمين أينما كانوا وحيثما وجدوا وما دام كتاب الله القرآن موجودا على الأرض يتلى وفي الأرض مؤمنين فليس هناك استقرار لدولة اليهود وهي في طريقها لأن تصبح من مخلفات التاريخ كما أصبحت دولة الصليبيين من قبلها من مخلفات التاريخ تؤلف الكتب عن أسباب زوالها ويكتب الباحثون أبحاثهم ويعطى العلماء آراءهم في ذلك وكلهم أو جلهم ينسى أو يتناسى الحقيقة الأزلية وهي استحالة أن يملك هذه الأرض غير المسلمين ملكا مستقرا وأن تبقى في حوزة أعدائهم لأن هذه إرادة الله بينها في ليلة الإسراء.(14/361)
والواقع أن العالم كله لا يفقه القضية الفلسطينية أو القضية اليهودية وإنما كل فئة تنظر إلى القضية من زاوية معينة تتفق مع مصلحتها وهذه النظرة بالنسبة لمصالحها صحيحة، فالغرب ينظر إلى القضية على أنها امتداد للحروب الصليبية، وأن اليهود أداة في يديه لتمزيق الوطن الإسلامي والسيطرة على بلاد المسلمين وتهديدهم حتى لا يفيقوا مرة أخرى فيتعرضوا لقيادة الدنيا وإنقاذها مما تعانيه. وروسيا تنظر إلى القضية على أن بقاء دولة اليهود في بلاد المسلمين أمر ضروري لإيجاد التناقض حسب الفكر المادي ولذلك هي مع بقاء دولة اليهود، وتحارب الطبقة الحاكمة في إسرائيل حربا طبقية باعتبارها عملية للغرب، ويهمها أن يبقى التناقض في المنطقة، وعدم الاستقرار لأن ذلك حسب وجهة نظرها يغذي الحركة الشيوعية وينميها. والحكام في المنطقة أو أكثرهم يرون في دولة إسرائيل ضمانا لبقائهم فهم يريدون لها أن تبقى حتى يبقوا ولكن يريدون منها أن تتنازل عن بعض ما أخذته حتى يكون ذلك (انتصارا) ظاهريا يخدع به الشعب العربي والمسلمون من ورائهم. وأهل البلاد الذين أخرجوا من ديارهم (الفلسطينيون) ينظرون إلى القضية من زاوية أنهم شعب ظلم وشرد واضطهد فهم يريدون حياة الاستقرار في الأرض التي ولدوا فيها أو نبت أباؤهم فيها أو دفن أجدادهم في ترابها فهم يحنون بفطرتهم إليها ولا يرون في الدنيا أرضا تكون بديلا لها وهذا صحيح ولكن هذه النظرات المختلفة للقضية من زواياها المختلفة ليست هي القضية وإنما القضية تتعلق باليهود أو بغضب الله على اليهود والمستمر عبر التاريخ بالعذاب الواقع بهم نتيجة سوء تصرفهم وحقدهم على الإنسانية حلقة من حلقات الغضب والسخط عليهم من الله. إن الله أخبر في القرآن في آيات الإسراء كما أسلفت في أول البحث وفي حديث البخاري ومسلم أنه قبل قيام الساعة ستقوم لليهود دولة ثم يتولى المسلمون تصفيتها حتى يقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله خلفي يهودي(14/362)
فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود.
ولقد حاول العالم منذ 1948 أو القرى الكبرى في العالم أو الغرب على وجه التخصيص أن يثبت إسرائيل دولة فوضع الحلول وحاك المؤامرات وخلق قيادات وأوجد زعامات لتتعاون معه على تثبيت إسرائيل دولة، ولكن المؤامرات تفشل والطبخات تحترق وذلك بفضل الله ثم معاونة اليهود أنفسهم حيث يرفضون كل ما يعرض عليهم حتى يأتي يومهم الموعود وقدرهم المرصود فتزول دولتهم بآثامها وشرورها وأن الغرب اليوم يحاول جاهدا لإنقاذ دولة اليهود من مصيرها المحتوم وقدرها المرسوم رغم أنفها، ولكن اليهود يتمردون على من أوجدهم ذلك بأنهم قوم لا يعقلون وصدق الله إذ يقول في حقهم {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} .(14/363)
وإن من بركة الأرض المباركة أن المسلمين يتوحدون دائما عن طريق استخلاصها من أيدي أعدائهم وذلك أن الأمة الإسلامية حينما تبتعد عن محور قوتها وهو الإسلام يلحقها الضعف والتشتت فتقام فيها دول ودويلات حتى تصل في صغرها إلى مستوى الأحياء والحارات فيأتي العدو ليتسلل عبر هذا الضعف فيأخذ الأرض المباركة وتسقط القدس، ويسقط الأقصى في يديه عند ذلك تبدأ الأمة في التحرك حركة الحياة من جديد حتى إذا وقفت على قدميها كرت على عدوها لتخلص الأرض المباركة منه فتتوحد من أجل ذلك أو بسبب ذلك. كان ذلك في الحروب الصليبية وكان ذلك في حروب التتر وهو الآن. ولذلك بسبب حريق الأقصى في 21/8/69 انعقد مؤتمر القمة الإسلامي الأول وخرجت من ذلك المؤتمر منظمة الدول الإسلامية الممثلة في الأمانة العامة الإسلامية في جده والتي يعقد مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية مؤتمرهم السنوي في أحد العواصم الإسلامية وسيستمر اللقاء والتقارب حتى يصل إلى حد التمازج والتلاحم فيشترك المسلمون كل المسلمين في تحرير الأرض المباركة التي تكون سبب وحدتهم.(14/364)
وبمناسبة انعقاد مؤتمر السيرة النبوية في إستنبول، عاصمة المسلمين لعدة قرون ومركز الخلافة الإسلامية لمئات السنين لابد من الإشارة إلى الدور الذي لعبته الدولة العثمانية في حماية المقدسات الإسلامية وخصوصا في فلسطين، ولابد من الإشارة هنا إلى الخليفة العثماني السلطان عبد الحميد رحمه الله حيث رفض أن يعطي اليهود امتيازات في الأرض المباركة مما جعلهم يحنقون عليه ويشوهون سمعته ويعملون على عزله متعاونين مع قوى الشر المختلفة من صليبية وماسونية، ونعرات قومية مما هيأ الظروف من بعده إلى التآمر على دولة الخلافة، ومن ثم ذهابها وقيام دولة اليهود في الأرض المباركة ولكن هذه الدولة لا تدوم كما أسلفت وكل الدلائل تشير إلى سرعة زوالها وذلك حتى تتحقق الآيات والأحاديث في حقها {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} .
والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.(14/365)
من أعماق الكتب
يقول ابن المقفع في (رسالة الصحابة) :
وقَدْ عَلِمْنَا علماً لا يُخالِطه شَكٌّ أن عامَّة قط لم تَصلُحْ من قِبَل أنفُسها، وأنها لم يَأتها الصَّلاحُ إلا من قبل إمامها؛ وذلك لأن عَدَدَ الناس من ضَعفتِهم وجُهّالهم الَّذِين لا يَستغنون برأي أنفُسهم، ولا يحملِون العِلْمَ، ولا يتقدمُون في الأمور. فإذا جَعَل الله فيهم خواص من أهل الدين والعُقُول، ينظُرون إليهم ويسمعُون منهُم، واهتمت خواصُّهم بأمور عوامهم وأقبلوا عليها بجدٍ ونصح وَمُثَابَرة وقوة، جَعَل الله ذلك صلاحاً لجماعتهم، وسبباً لأهل الصلاح من خواصهم، وزيادة فيما أنعم الله به عليهم، وبلاغاً في الخير كُله.
وحاجَةُ الخواص إلى الإمام الذي يُصْلحهم الله به كحاجة العامة إلى خواصهم وأعظم من ذلك. فبالإمام يُصْلح اللهُ أمرهم، ويكبِتُ أهل الطعن عليهم ويجمع رأيهم وكلمتهم، ويبين لهم عند العامة منزلتهم. ويجعل لهم الحُجة والأيْدَ في المقال على مَن نكب عن سبيل حقهم.
موعظة عمرية
زار يوماً حفص بن أبي العاص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان جالسا إلى طعامه فدعا إليه حفصاً، ولكن هذا رأى القديد اليابس الذي يأكل منه عمر، فاعتذر إليه. فسأله عمر رضي الله عنه: ما يمنعك من طعامنا؟. فأجاب حفص: إنه طعام جَشِب غليظ، وإني راجع إلى بيتي فأصيب طعاماً لينا قد صنع لي.
فقال عمر (رضي) أتراني عاجزاً عن أن آمر بصغار المعزى. فيلقى عنها شعارها، وآمر برقاق البرُ فيخبز خبزاً رقاقاً، وآمر بصاع من زبيب فيلقى في سمن، حتى إذا صار مثل عين الحجل صُبَّ عليه الماء فيصبح كأنه دم غزال. فآكل هذا وأشرب هذا؟ .. قال إنك بطيب الطعام لخبير..(14/366)
قال عمر رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لولا أن تنقص حسناتي لشاركتكم في لين عيشكم.. ولو شئت لكنت أطيبكم طعاماً، وأرفهكم عيشاً، ولنحن أعلم بطيب الطعام من كثير من آكليه, ولكننا ندعه ليوم تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت. وتضع كل ذات حمل حملها.. وإني لأستبقي طيباتي لأني سمعت الله تعالى يقول عن أقوام: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} .
من كتاب (بين يدي عمر) .(14/367)
محمد أمين المصري
بقلم الشيخ محمد الصباغ
جامعة الإمام محمد بن سعود
إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أخذ الموت - في الشهر الماضي - من بيننا علما من أعلام الإسلام، ورجلا من رجالاته، ظل في الساحة حتى آخر لحظة من حياته: إنه الدكتور محمد أمين المصري رحمه الله رحمة واسعة.
ووفاء ببعض حقه أكتب هذه الكلمة المتواضعة التي تعرف بهذا الرجل الكبير وتعبر عن عميق مشاعر الحب له، وتبكي حظ المسلمين الذي يفقدون الخلف حتى أصبحنا نخشى أن تخلو الساحة.
ولد محمد أمين في دمشق، وفي ربوعها الخيرة نشأ، وفي كريم أجوائها المتدينة المحافظة درج وشب، وكان الناس يومذاك بين عالم ديني منقطع عن الحياة المعاصرة، ويتبعه العامة، وشاب متفرنج تلقى عليه علوم الغرب بروح مجافية للدين فأضحى لا يبالي بالدين ولا يهتم به. ونشأت ناشئة فاضلة من فتيان دمشق المسلمة تلقت من علوم العصر ما يتلقى أولئك المتفرنجون ولكن لم تنس دينها ولم تنحرف عن الصراط السوي، وبقيت وفية للإسلام وتعاليمه، مقيمة لحدوده وأحكامه، معلنة باعتزاز وإباء استمساكها به وتبنيها له.
كان أولئك الفتية يلتهبون حماسة، ويمتلئون غيرة، فتنادوا للتعاون على الخير والبر والتقوى، واتخذوا لهم من ربى جبل قاسيون مقراً يأوون إليه، فيتداولون الرأي في الذي يجب عليهم أن يعملوا، ويقرأون بعض كتب التراث كإحياء علوم الدين ليتزودوا، ويلتفون حول مجلة الرسالة يطالعون بنشوة وسرور مقالات الرافعي.. وكان فقيدنا محمد أمين المصري واحداً من هؤلاء الشباب.
وانتهت اجتماعاتهم المباركة إلى العمل على إنشاء أول حركة إسلامية حديثة في بلاد الشام.
هكذا بدأت حياة الطالب محمد أمين المصري في مكتب عنبر عملا للإسلام ومواجهة للانحراف، واستعداداً للمضي في المعركة إلى الرمق الأخير.(14/368)
ويبدو -كما يقرر ذلك أخونا الكبير الأستاذ عبد الرحمن الباني- أن هذه القراءة في كتب الغزالي تركت أثراً كبيراً في حياة الدكتور أمين ظل حتى آخر حياته عليه رحمة الله ورضوانه. والشيء الذي يذكره عنه الأستاذ الباني أن الدكتور أمين كان يتميز عن زملائه بإرادة صلبة جعلته يطبق كثيراً مما يمر معه في الإحياء مهما كان هذا الذي يطبقه صعباً.
وكان -غفر الله له- يمتاز بالابتسامة المضيئة العذبة، والحنان الدافئ، والرفق الوفير، والوفاء الجم لصاحب المعروف، فكان يشكره ويذكره بكل خير. وكان يتمتع برنة صوت محببة تزيدها الابتسامة الدائمة حلاوة وسحراً، أما بشاشته واهتمامه بمن يلقى ومحاولة خدمته فشيء منقطع النظير.
سار أمين في مكتب عنبر حتى حمل شهادة البكالوريا (قسم الرياضيات) ثم تابع دراسته في دار المعلمين حتى نال شهادة أهلية التعليم، وانتظم مدرساً في قرية (داعل) ، إحدى قرى محافظة حوران، ثم انتقل إلى دمشق مدرساً في مدرسة طارق بن زياد فعاد إلى أولئك الفتية يواصل عمله معهم لرفعة الإسلام، وكانت لديهم اهتمامات روحية وعلمية واجتماعية.
فمن مظاهر الاهتمامات الروحية في فقيدنا أنه التحق ببعض مشايخ الصوفية يلتمس تصفية نفسه وتزكية روحه، والتزم بتكاليفها وظل كذلك إلى أن تبين له ما تنطوي عليه من فساد وانحراف فتركها محذراً منها مبينا ما رآه فيها من المساوئ.
ومن مظاهر الاهتمام العلمي تلك الندوات العلمية التي كان يسهم فقيدنا فيها إسهاماً جيداً، وحضور دروس عالم الشام الشيخ محمد بدر الدين الحسني ودروس الشيخ أبي الخير الميداني. وغيرهم.
ومن مظاهر الاهتمام الاجتماعي اشتراكه مع زملائه في إنشائه الحركة الإسلامية الواعية التي أشرت إليها آنفاً.(14/369)
ثم انتقل عمله إلى الثانوي فكان معيداً في التجهيز ومدرساً للدين فيها، فزاد نشاطه في الدعوة إلى الله جداً لأن الذين يعلمهم شباب لا أطفال، وكانت الدعوة القومية في أوج انتشارها وذيوعها، واستطاع بلباقة فائقة أن يشق طريقة في الدعوة في أوساط هؤلاء الشباب، وأن يحقق ما يريد من الخير على وجه يضمن له الاستمرار في عمله، وكانت دعوته للإسلام في هذه المرحلة عن طريق الدعوة إلى الأخلاق.
وفي سنة 1941 ذهب إلى مصر للدراسة في كلية أصول الدين في الأزهر، والداعي إلى ذلك استكمال معرفة هذا الدين، والرغبة في إصلاح المسلمين، ونال من هذه الكلية الإجازة، ثم دخل معهد التربية وحمل شهادته.
وقد أعجب أيما إعجاب بالعالم العامل المجاهد الشيخ محمد الأودن رحمه الله، ويبدو أن الصلة بقيت قائمة بينهما على أتم وجه، وقد اصطحبني مرة إلى زيارة الشيخ الأودن في بيته في مكة، رحم الله الجميع، وكانت له صلة طيبة بالحركة الإسلامية في مصر، وكان يحرص على حضور محاضرات الأستاذ البنا رحمه الله، ومحاضرات العلامة السيد محمد الخضر حسين، وكان يلقي بعض الخطب في الحفلات الإسلامية التي كانت تقام. وله موقف مشهود في الجرأة على قول الحق، ومواجهة الناس به وذلك أثناء حفلة أقيمت في دار جمعية الهداية الإسلامية في القاهرة.
وقد حدثني الأستاذ الباني أنه انتفع مع الفقيد في مصر بتلك الدراسة التي اشتركا فيها على العلامة السيد محمد الخضر في كتاب الموافقات للشاطبي.
وعاد أمين المصري إلى بلاد الشام، فعين مدرساً في الثانوي وقد درس علوماً عدة منها المنطق وعلم النفس.
ثم أرسل إلى باكستان ملحقاً ثقافياً بالسفارة السورية -عمل هناك على نشر العربية وتعليمها، وألف في ذلك كتاباً مهماً وممن تخرج على يديه الأستاذ خليل أحمد الحامدي مدير دار العروبة للدعوة الإسلامية ببكستان ثم عاد ليعمل في وزارة المعارف يشترك في وضع مناهج التعليم.(14/370)
وفي سنة 1956 سافر إلى انكلترا لدراسة الدكتوراه وكانت له قصة في اختيار موضوع الرسالة، إذ أبى المستشرقون أن يكون موضوعه نقد (شاخت) ، فاختار موضوعاً في (معايير نقد الحديث عند المحدثين) .
وعندما عاد إلى الشام عمل في لجنة التربية والتعليم في وزارة المعارف ثم أستاذاً في كلية الشريعة في جامعة دمشق، ودرس فيما درس العقيدة ومصطلح الحديث وفقه السيرة، وقد عهدت إليه كلية التربية أن يدرس الطلاب المتخرجين من كلية الشريعة طرق تدريس الدين، وألف كتاباً في الطرق الخاصة للتربية الإسلامية ليفيد منه الذين يعدون للقيام بالتربية الإسلامية وتدريس العلوم الدينية في المدارس المتوسطة والثانوية.
ثم عمل في الحقل العام فتعاون مع رابطة العلماء في توجيه الناس ودعوتهم إلى الخير، ثم اتخذ من جامع المرابط في حي المهاجرين بدمشق منطلقاً للدعوة.. إذ كان يخطب فيه الجمعة ويلقي فيه الدروس، وكان النساء يحضرن في مكان خاص بهن. ولقد كان لهذا النشاط أثر كبير ولحقه بسببه غير قليل من الأذى.
كما عمل أيضاً في خدمة المدارس الشرعية ولا سيما التي كانت تفتح أبوابها للطلاب الأتراك.
ثم هاجر إلى الحجاز بعد أن أدرك أن الظروف الصعبة التي قامت في بلده لا تتيح له أن يعمل ما يريد من أجل خدمة الإسلام. فترأس قسم الدراسات العليا في كلية الشريعة في مكة ثم في المدينة، وحذر من ابتعاث أبناء المسلمين إلى ديار الكفار ليتلقوا دينهم عن اليهود والنصارى. وكان له نشاط مذكور في إذاعة المملكة العربية السعودية وتلفزيونها.
وقد تبين له -تغمده الله بواسع رحمته- أنه لا بد من قيام دعوة إسلامية قوية متميزة شاملة، ووجد أن هذا هو السبيل الأوحد لإصلاح المسلمين وخدمة الإسلام، وكان ينادي بذلك ولا سيما في أيامه الأخيرة.(14/371)
كما تبين له -عن طريق التجربة الذاتية- فساد الطرق الصوفية التي تدعي العمل لإصلاح النفس، ومن أجل ذلك كان من أشد الناس حرباً للدجالين القائلين بوحدة الوجود وكان يحذر من خطرهم أعظم التحذير ويعلن أن الخير كل الخير في إتباع ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح لهذه الأمة.
وكان رحمه الله محباً لخدمة الصالحين لا يبخل بجاهه ولا يتأخر عن مساعدة يملكها.
ولا يفوتني أن أذكر مؤلفاته التي بلغني نبأ وجودها:
1- كتاب الطرق الخاصة للتربية الإسلامية.
2- كتاب تعليم العربية، ويقع في 4 أجزاء وهذا الكتاب ألفه خلال تعليمه العربية ببكستان.
3- الطفل السوي وبعض حالات شذوذه، وقد ترجم هذا الكتاب عن الفرنسية بالاشتراك مع غيره، ونشر في عدد خاص من مجلة المعلم العربي التي تصدر في دمشق.
4- محاضرات في فقه السيرة (مطبوع على الآلة الكاتبة) .
5- محاضرات في العقيدة (مطبوع على الآلة الكاتبة) .
وبعد فما أكثر ما لقيت الدكتور أمين في دمشق ومكة والمدينة والرياض ولكني لم ألقه مثل اللقاء الأخير الذي سبق موته بأسابيع ثلاثة. فقد التقينا في دوسلدورف بألمانيا في مخيم الطلبة المسلمين كان -غفر الله له- يتألق صفاء، ويموج حيوية ويمتلئ نشاطاً وكانت محاضراته القيمة موضع الاستحسان والإعجاب من السامعين.
رحم الله الدكتور محمد أمين المصري وأحسن جزاءه وعوض المسلمين عن فقده وإنا لله وإنا إليه راجعون.(14/372)
الصحافة المصرية في قفص الاتهام
عن مجلة (الاعتصام) - القاهرة -
في الجلسة الثانية لمحاكمة المتهمين بخطف وقتل المرحوم الشيخ محمد حسين الذهبي.. وقف المحامي رشدي بدوي ووضع (الصحافة) المصرية في قفص الاتهام.. صائحاً في وجهها.. ومشيراً إليها قائلاً:
لم تلتزم الصحافة بميثاق الشرف لقد بالغت الصحافة في وصف بعض المتهمين حتى فهم البعض أن ذلك يعتبر تحريضاً للرأي العام ضدهم قبل أن تثبت إدانتهم وأقل حق في عرف القضاء أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.. ولقد سمعت حواراً بين واحد من رجال إدارة المحاكم العسكرية.. ورتبة عسكرية أخرى جاء فيه:
- لقد فشلت الصحافة فشلاً ذريعاً في عرضها للقضية.. لقد زيفت.. وكذبت.. وقالت بسذاجة وجهل أن أعضاء الجماعة يتزوجون زوجات بعضهم.. وأنهم منحرفون.. وأنهم وأنهم.. وقد راجعت أحد الصحفيين في ذلك فقال:
- أنتم السبب.. لأنكم لم تعطونا أخباراً.. ولم تيسروا لنا المعلومات!! وحين سئل رئيس المحكمة أثناء الجلسة عن هذا قال:
- نحن لسنا مسئولين عما تنشره الصحف!!
ووقعت الصحافة في مأزق.. وتعرت تماماً.. لأنها أسرفت في السب.. والشتائم.. والتجريح لأعضاء الجماعة ووصفتهم بأبشع الصفات.
في نفس الوقت لم تستطع أي جريدة أو مجلة أن تتناول فكر هذه الجماعة بالتفنيد وإلقاء الضوء على نقاط الانحراف.. والسبب أن أغلب الذين كتبوا عن القضية جاهلون بالإسلام.. وكثير منهم حاقد على الإسلاميين أصحاب الاتجاه الإسلامي.. فراحوا يهرجون.. ويصخبون ويتملقون جهاز الأمن بصورة متورمه.. حتى قال البعض..
- ماذا كانت ستفعل الصحافة.. لو أن جهاز الأمن استطاع أن ينقذ حياة الشيخ الذهبي!!(14/373)
ونحن مع يقيننا أن جماعة شكري مصطفى باعتقادها أن جميع المصريين كفار تكون قد انحرفت عن فقه أهل السنة.. وسلكت سبيل الخوارج.. إلا أننا نقول إن هناك ظروفاً كانت بمثابة المناخ الذي ساعد على تفريخ تلك الجماعة.. أقصد مناخ القهر.. والمطاردة والتشريد والسجن والاعتقال بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ هذا الشعب.. وكان أعضاء الحركة الإسلامية في مصر أكثر الذين تعرضوا للقهر والمطاردة والتشريد!! والسجن والاعتقال.. مما يجعلنا نعتقد أن وراء محن الحركة الإسلامية خلال الربع قرن الأخير عقلاً شيطانياً.. وحقداً وكراهية للإسلام والمسلمين!!
ونحن ضد الجريمة.. ونشجب كل فكر منحرف أيا كان صاحبه لأن الإسلام أعز علينا من كل البشر ولكننا قبل أن نصدر حكما بالإدانة علينا أن نتبين الدليل حتى لا نقع فيما ننهى غيرنا عنه..
كان الأجدر بالصحافة أن تفتح صفحاتها لمناقشة هذا الفكر لدحضه وتفنيده.. وإظهار باطله.. وإتاحة الفرصة الكاملة للعلماء المخلصين لأن يقولوا كلمتهم.. حتى نحمي شبابنا من الاستجابة لمثل هذه الأفكار!!
ولكن للأسف لم يحدث.. بل إن الذي حدث أن بعض علمائنا الذين كان لهم في نفوس الشباب مكانة كبيرة قبل توليهم سلطة الوزارة استدرجوا من الصحافة وقالوا كلاما سيحاسبهم الله عليه فقد وصفوا زوجات المتهمين بأنهن دميمات معقدات دخلن الجماعة بدافع نفسي هو الميل الأنثوي للرجل.
فما هكذا يتحدث العلماء!! يا علماء مصر!!
عن مجلة (الاعتصام) - القاهرة -(14/374)
رأي في إصلاح أجهزة الإعلام
في موضوع الهبوط الذي تتخبط فيه وسائل الإعلام عقدت مجلة الدعوة (القاهرية) استطلاعا مع عدد من أهل القلم والفكر وقد أمكن تلخيص آرائهم في النقاط التالية:-
1- الإسراع في تطبيق الشريعة الإسلامية فأجهزة الإعلام هي مرآة المجتمع فإصلاحها يتطلب إصلاح المجتمع الذي تعكسه حتى ينشأ جيل يرفض الانحراف تماماً وبذلك لا تجرؤ أجهزة الإعلام على تقديم الانحراف!!
2- بناء رجل الإعلام المسلم عن طريق:
- إنشاء كلية للإعلام بالأزهر الشريف تحتوي على جميع التخصصات في هذا المجال ولا تقتصر فقط على قسم الصحافة بكلية اللغة العربية بالأزهر والهدف من ذلك تكوين جهاز إسلامي إعلامي مطبوع بطابع الإسلام وليس بطابع الغرب أو الشرق.
- إعطاء دورات ثقافية دينية لجميع العاملين بأجهزة الإعلام وذلك بصفة دورية وتشمل هذا البرامج التعريف بالإسلام وواقع المجتمع المصري ومشاكله حتى يكون العامل في الإعلام على علم بدينه وواقع المجتمع الذي يعيش فيه.
- جعل الدين مادة أساسية في كلية الإعلام حتى يتخرج طالب الإعلام وعنده فكرة كاملة عن الإسلام عقيدة وشريعة.. منهجاً وسلوكا.
3- قصر العمل في مجال الإعلام على المتخصصين فيه مع تشجيع المواهب على الالتحاق بالمعاهد المتخصصة وبذلك تتوفر الموهبة والعلم والهدف من ذلك الارتفاع بمستوى أجهزة الإعلام والتخلص من الدخلاء الذين هبطوا بالإعلام إلى الحضيض.
4- إجراء حركة تطهير في أجهزة الإعلام وتشمل المنحرفين خلقيا وعقائديا وتبدأ بالأساتذة الشيوعيين في كلية الإعلام فالشعار الذي ترفعه الدولة بأن من لا إيمان له لا أمان له يجب تطبيقه فورا.(14/375)
5- وضع ميثاق شرف لحماية المجتمع من الانحراف ويشمل هذا الميثاق معنى الانحراف وتحديد أهداف الدولة والمجتمع من أجهزة الإعلام وتوقيع عقوبة على كل مسئول يضع برنامج يتعارض مع دين الدولة وقيمها ومثلها مع وقف البرنامج فورا.
وهكذا أجمعت الآراء على تحديد معنى الانحراف من واقع ما ينادي به الإسلام.
آذان من السودان
(.. إن ما بدا من تعبيد السبيل إلى تطبيق أحكام الله خالصة من كل دخيل وغريب، وإقامة حدوده ومحارمه، إنما هو عمل إيماني وتاريخي كبير لن يقف آثره الموضعي المحلي على أرض السودان في خريطة العالم من حيث تحرير السودان من التبعية القانونية لغير ما أنزل الله، بل سيكون له صدى بالغ الدلالة عميق الأثر، وستكون جمهورية السودان، وهي قطعة غالية من خريطة العالم الإسلامي، نبراسا يقتدى به، وخير من يزف البشرى للعالم الإسلامي كله. فإن أوبةً إلى التشريع الإسلامي بعد طول غربة ووحشة هي أوبة العدل الإلهي الذي يعصم الإنسان عقله وعرضه ودمه وماله، وإرساء لصرح أمن قانوني رفيع على هدى المنهج الإلهي..) [1] .
عن مجلة الدعوة القاهرية
جميل بسيوني
المستشار وعضو اللجنة السودانية
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المجلة: (إنها لبشرى تفجر الأمل بفجر جديد هو ما يتلهف إليه العالم البشري الضائع كله لا العالم الإسلامي وحده) .
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} .(14/376)
التكرار في القرآن العظيم
لفضيلة الدكتور أحمد جمال العمري
بكلية اللغة العربية والآداب
الحمد لله.. أضاء بصائرنا وأبصارنا بنور القرآن. وجعله آية خالدة على مر الزمان، أحمده سبحانه، جلّت حكمته، وعظمت مشيئته، له في كل مجال آية، وفي كل خلق حكمة تشهد بعظمته الباهرة، وقدرته القاهرة.
والصلاة السلام على من لا نبي بعده، الذي شرفه الله بالقرآن.. محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان.
سبحانك ربنا لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.. ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير. ربنَا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.
القرآن كلام الله المعجز للخلق في بلاغته وأسلوبه ونظمه، المعجز في تأثير هدايته المعجز في تشريعاته، المعجز في علومه وحكمه، المعجز في كشف الحجب عن الغيوب الماضية.. وفي كل باب من هذه الأبواب للإعجاز فصول وفي كل فصل منها فروع ترجع إلى أصول.. ولقد حار العلماء في كشف حجب البيان عن وجوه إعجاز القرآن.. فمن آيات هذا الإعجاز.. الإعجاز البلاغي..
ومن صور الإعجاز البلاغي ظاهرة التكرار.
والتكرار: مصدر كَرًرَ إذا رَدًدَ وأعاد، وهو (تَفْعَال) يفتح التاء، وليس بقياس. بخلاف (التًفْعيل) وهذا مذهب سيبويه البصري. أما الكوفيون، فقالوا: هز مصدر (فَعًل) والألف عوضٌ عن الياء في التًفْعيل.
وقد أنكر بعض العلماء كون التكرار من أساليب الفصاحة، وظنوا أنه لا فائدة له.. وهذا أمر مردود.. فالتكرار من محاسن أساليب الفصاحة العربية، خاصة إذا تعلق بعضه ببعض. وذلك أن عادة العرب في خطاباتها إذا أبهمت بشيء إرادة لتحقيقه وقرب وقوعه، أو قصدت الدعاء عليه.. كررته توكيداً.
وإنما نزل القرآن المجيد بلسانهم، وكانت مخاطباته جارية فيما بين بعضهم وبعض، وبهذا المسلك تستحكم الحجة عليهم في عجزهم عن المعارضة.(14/377)
وعلى ذلك يحتمل كل ما جاء في القرآن من تكرار المواعظ والوعد والوعيد، لأن الإنسان مجبول من الطبائع المختلفة، وكلها داعية إلى الشهوات، ولا يقمع ذلك إلا تكرار المواعظ والقوارع. قال الحق تبارك وتعالى:
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْر} .
قال الزمخشري [1] : ((أي سهلناه للإدِكار والاتعاظ بأن نسجناه بالمواعظ الشافية، وصرفنا فيه من الوعد والوعيد..)) .
والتكرار- في القرآن العظيم- قد يكون بتكرير الجملة مرتين
كقوله تعالى: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [2] .
{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [3] .
{لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [4] .
{كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ} [5] .
وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [6] .
وفائدته العظمى هنا التقرير. – لذلك قال العلماء: الكلام إذا تكرًر تقرًر.
وقد يكون بتكرير اللفظ.. وهذه هي حقيقته- أي إعادة اللفظ أو مرادفه، لتقرير معنى، خشية تناسي الأول لطول في الكلام.. كما في قوله تعالى:
{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [7] .
وفي قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [8] .
فإن أعيد اللفظ لا لتقرير المعنى الأول، لم يكن من التكرار.(14/378)
ففي قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِه} [9] .
فأعاد قوله {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} بعد قوله {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} - لا لتقرير الأول، بل لغرض آخر..
لأن معنى الأول: الأمر بالإخبار أنه مأمور بالعبادة لله والإخلاص له فيها.
ومعنى الثاني: أنه يخص الله وحده دون غيره بالعبادة والإخلاص، لذلك قدم المفعول على فعل العبادة في الثاني، وأخَر في الأول.. لأن الكلام أولا في الفعل، وثانيا فيمن فعل لأجله الفعل.
قال البلاغيون: إنما يحسن سؤال الحكمة عن التكرار إذا خرج عن الأصل. أما إذا وافق الأصل فلا.. ولهذا السبب لا يتجه سؤالهم:
لم كرَرً (إيًاك) في قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} نقول: إنما كررت لغرض عظيم هو التأكيد.
ونقول أيضا: إنما كررت لارتفاع أن يتوهم-إذا حذفت- أن مفعول (نستعين) ضمير متصل واقع بعد الفعل، فتفوت إذْ ذاك الدلالة على المعنى المقصود، بتقديم المعمول على عامله.. هكذا قال النحويون.
وقد أخبرنا الحق تبارك وتعالى بالأسباب التي من أجلها كررت الأقاصيص والأخبار في الكتاب العزيز فقال:
{وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [10] .
وقال سبحانه: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} [11] .
وللتكرار –في القرآن العظيم- فوائد جمة تشهد بروعة البيان الإلهي.. أهمها:
1- أن التكرار يأتي من مقام التعظيم والتهويل:(14/379)
كقوله تعالى: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} [12] {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ} [13] {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [14] {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [15] {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [16] .
2- أنه قد يأتي في مقام الوعيد والتهديد:
كقوله تعالى: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [17] وقد ذكر (ثم) في المكرر، دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول.
وفي هذا القول أيضا، تنبيه على تكرر ذلك مرة بعد أخرى، وإن تعاقبت عليه الأزمنة، لا يتطرق إليه تغيير، بل هو مستمر دائما.
3- التعجب:
كقوله تعالى: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [18] فكرر تعجبا من تقديره وإصابته الغرض، على حد ((قاتله الله ما أشجعه)) .
4- زيادة التنبيه على ما ينفي التهمة، ليكمل تلقي الكلام بالقبول:
كقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} [19] فإنه كرر فيه النداء لذلك.
5- الأمن من النسيان أو السهو:
فالكلام إذا طال وخشي تناسي الأول أعيد ثانية تطرية له، وتجديدا لعهده. كقوله تعالى:
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} .. ثم قال {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} [20] فهذا تكرار للأول.
وقوله تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} [21] فقوله (أنكم) الثاني بناء على الأول، إذكارا به خشية تناسيه.(14/380)
وكذلك قوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [22] .. إلى قوله {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} بغير (إنا) ، وفي غيره من مواضع ذكر (إنا كذلك) ، لأنه يبنى على ما سبقه في هذه القصة (إنا كذلك) فكأنه طرح فيما اكتفى بذكره أولا عن ذكره ثانيا.
ولأن التأكيد بالنسبة، فاعتبر اللفظ من حيث هو دون توكيده.
6- وتظهر روعة إعجاز هذا الباب أكثر ما تظهر عند تعدد المتعلق.
كما كرره الله تعالى من قوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} لأنه تعالى- ذكر نعمة بعد نعمة، وعقب كل نعمة بهذا القول.. فإنها وإن تعددت، فكل واحد منها متعلق بما قبله، وأن الله تعالى خاطب بها الثقلين من الإنس والجن، وعدد عليهم نعمة الله التي خلقها لهم، فكلما ذكر فصلا من فصول النعم طلب إقرارهم واقتضاهم الشكر عليه، وهي أنواع مختلفة، وصور شتى. فإن قيل.. فإذا كان المعنى في تكريرها عد النعم واقتضاء الشكر عليها.. فلما عقب بهذا القول ما ليس نعمة، كما في قوله:
{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ} [23] .
وقوله: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [24] وأي نعمة هنا؟ وإنما هو وعيد..(14/381)
أجاب القزويني فقال: العذاب وجهنم-وإن لم يكونا من آلاء الله تعالى- فإن ذكرهما ووضعهما عن طريق الزجر عن المعاصي، والترغيب في الطاعات، من آلائه تعالى، ونحوه قوله: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [25] ، لأنه تعالى ذكر قصصا مختلفة، واتبع كل قصة بهذا القول، فصار كأنه قال عقب كل قصة: (ويل يومئذ للمكذبين بهذه القصة) [26] .ونقول أيضا: إن الله أنعم فيما أنذر به، وحذر من عقوباته على معاصيه ليحذروها فيرتدعوا عنها نظير أنعمه على ما وعده، وبشر من ثوابه على طاعته، ليرغبوا فيها، ويحرصوا عليها، وإنما تتحقق معرفة الشيء بأن تعتبره بضده، والوعد والوعيد وإن تقابلا في ذروتهما، فإنهما متقاربان في موضع النعم بالتوفيق على ملاك الأمر منهما.. وعليه قول الشاعر:
والحادثات وإن أصابك بؤسها
فهو الذي أنباك كيف نعيمها
ومن هذا النوع من التكرار قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [27] في ثمانية مواضع، لأجل الوعظ فإنه قد يتأثر بالتكرار من لا يتأثر بالمرة الواحدة.
وأما قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} فذلك لظهور آيات الأنبياء عليهم السلام. والعجب من تخلف من لا يتأملها مع ظهورها.
وأما مناسبة قوله {الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} فإنه تعالى نفى الإيمان عن الأكثر، فدل بالمفهوم على إيمان الأقل، فكانت العزة على من لم يؤمن، والرحمة لمن آمن، وهما مرتبتان كترتب الفريقين [28] .ومن هذا التكرار أيضا قوله تعالى: {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} [29] .
قال الزمخشري [30] ((كرر ليجدوا عند سماع كل نبأ منها اتعاظاً وتنبيها، وأن كلا من تلك الأنباء مستحق باعتبار يختص بها، وأن ينتبهوا كي لا يغلبهم السرور والغفلة)) .(14/382)
ومنه كذلك- تكرار الأمر بالتوجه إلى بيت الله الحرام في ثلاث آيات من سورة البقرة. وهو قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [31] .
لأن المنكرين لتحويل القبلة -كما ذكر المفسرون- كانوا ثلاثة أصناف في الناس:
- اليهود.. لأنهم لا يقولون بالنسخ في أصل مذهبهم.
- وأهل النفاق.. وكانوا أشد إنكارا له، لأنه كان أول نسخ نزل.
- وكفار قريش.. الذين قالوا: ندم محمد على فراق ديننا، فيرجع إليه كما رجع إلى قبلتنا، وكانوا قبل ذلك يحتجون عليه فيقولون: بزعم محمد أنه يدعونا إلى ملة إبراهيم وإسماعيل، وقد فارق قبلتهما وآثر عليها قبلة اليهود.
فقال الحق تبارك وتعالى حين أمره بالصلاة إلى الكعبة:
{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [32] والاستثناء في هذه الآية منقطع – أي لكن الذين ظلموا منهم لا يرجعون ولا يهتدون وقال جل جلاله: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [33] أي الذين أشركوا فلا تمتر في ذلك.
وقال تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [34] أي يكتمون ما علموا أن الكعبة هي قبلة الأنبياء.
ومن هذا التكرار أيضا- قوله عز وجل في سورة الصافات [35] : {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} .
ثم كرر هاتين الآيتين بعد ذلك في قوله سبحانه [36] :
{وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} .
قال المفسرون- في غريب القرآن: إنما كرر للتأكيد وتشديد الوعيد.(14/383)
وقالوا أيضا: يحتمل أن يكون ((الحين)) في الأولين [37] يوم بدر، والحين في هاتين [38] يوم فتح مكة. وفرقوا بينهما فقالوا: إن من فوائد قوله تعالى في الأولين {أَبْصِرْهُمْ} وفي هاتين {فأَبْصِرْ} - أن الأولى بنزول العذاب بهم يوم بدر قتلا وأسرا، وهزيمة ورعبا، فلما تضمنت التشفي بهم قيل له:
{أَبْصِرْهُمْ} . وأما يوم الفتح، فإنه اقترن بالظهور عليهم الإنعام بتأمينهم، والهداية إلى إيمانهم، فلم يكن وفقا للتشفي بهم، بل كان في استسلامهم، وإسلامهم لعينه قرة، ولقلبه مسرة، فقيل له: {أَبْصِرْ} .
ومن التكرار كذلك- قول الحق تبارك وتعالى:
{لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنّ} [39] .
قال علماء الفقه: للتكرار هنا فائدتان..
أما الفائدة الأولى: أن التحريم قد يكون في الطرفين، ولكن يكون المانع من إحداهما كما لو ارتدت الزوجة قبل الدخول، يحرم النكاح من طرفين، والمانع من جهتهما، فذكر الله سبحانه الثانية، ليدل على أن التحريم كما هو ثابت في الطرفين، كذلك المانع منهما.
وأما الفائدة الثانية: أن الأولى دلت على ثبوت التحريم في الماضي، ولهذا أتي فيها بالاسم الدال على الثبوت، والثانية في المستقبل، ولهذا أتي فيها بالفعل المستقبل.
ومن التكرار في القرآن المجيد أنواع كثيرة.. كلها تشهد بعظمة الحق سبحانه، وتعترف بإعجاز كتابه المبين. أهمها:
1- تكرار الإضراب [40] :
وقد ورد في القرآن العظيم منه ضربان:
أولهما: أن يكون ما فيه من الرد راجعا إلى العباد.
كقوله تعالى: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [41] .
وثانيهما: أن يكون إبطالا، ولكنه على أنه قد مضى وانقضى وقته، وأن الذي بعده أولى بالذكر. كقوله تعالى:(14/384)
{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [42] .
وزعم ابن مالك في شرح الكافية –أن (بل) حيث وقعت في القرآن فإنها للاستئناف لغرض آخر لا لإبطال الأول. وهذا الكلام مردود بما سبق، ومردود بقوله أيضا: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [43] فأضرب بها عن قولهم، وأبطل كذبهم.
2- تكرار الأمثال:
كقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ} [44] .
وكذلك ضرب مثل المنافقين –في أول سورة البقرة [45]- ثناه الله تعالى، فقال سبحانه: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} - مع قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْت} .
قال صاحب الكشاف [46]- معلقا على قيمة هذا التكرار: ((والثاني أبلغ من الأول، لأنه أدل على فرط الحيرة، وشدة الأمر وفظاعته، ولذلك أخر، والعرب يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ)) .
3- تكرار القصص:
وما دمنا نتحدث عن التكرار في القرآن العظيم –بوصفه آية من آيات إعجازه الكبرى، فإننا لا نستطيع أن نغفل عنصرا هاما من عناصر هذا التكرار- ألا وهو تكرار القصص القرآني، وإن كنا نعتقد أنه موضوع كامل متكامل، يحتاج إلى بحث مستقل –وسنتناوله إن شاء الله- إلا أننا نشير الآن إلى بعض ما يتصل به استيفاء لهذا البحث.(14/385)
أقول.. إن من أنواع التكرار –تكرار القصص، كقصة إبليس في السجود لآدم، وقصة موسى وغيره من الأنبياء. فقد ذكر الله موسى في مائة وعشرين موضعا من القرآن العظيم، وذكر قصة نوح في خمس وعشرون آية، وقصة موسى في سبعين آية، وإنما كررها- كما يقول صاحب كتاب ((العواصم من القواصم)) [47] لفائدة خلت عنه في الموضع الآخر. وسبب ذلك أمور:
إحداها: أنه إذا كرر القصة زاد فيها شيئا، ألا ترى أنه ذكر الحية في عصا موسى عليه السلام، وذكرها في موضع آخر ثعبانا، فقال تعالى: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [48] وقال سبحانه: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [49] .
وهذه سمة من سمات البلغاء.. أن يكرر أحدهم في خطبته أو قصيدته كلمة لصفة زائدة.
الثانية: أن الرجل كان يسمع القصة من القرآن، ثم يعود إلى أهله، ثم يهاجر بعده آخرون يحكون عنه ما نزل بعد صدور الأولين، وكان أكثر من آمن به مهاجريا، فلولا تكرر القصة لوقعت قصة موسى إلى قوم، وقصة عيسى إلى آخرين، وكذلك سائر القصص.. فأراد الحق سبحانه وتعالى اشتراك الجميع فيها، فيكون فيه إفادة القوم، وزيادة تأكيد وتبصرة لآخرين وهم الحاضرون.. هكذا قال ابن الجوزي.
الثالثة: تسليته لقلب النبي –صلى الله عليه وسلم- مما اتفق للأنبياء مثله مع أممهم- قال تعالى: {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [50] .
الرابعة: إن إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة، وأساليب مختلفة لا يخفى ما فيه من الفصاحة.
الخامسة: قالها ابن فارس [51] –وهي أن الله تعالى أنزل هذا القرآن، وعجز القوم عن الإتيان بمثل آية لصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بين وأوضح الأمر في عجزهم، بأن كرر ذكر القصة في مواضع، إعلاما بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله، بأي نظم جاءوا بأي عبارة عبروا.(14/386)
السادسة: أنه لما سخر العرب بالقرآن قال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [52] وقال في موضع آخر: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ} فلو ذكر قصة آدم مثلا في موضع واحد، واكتفى بها، لقال العربي بما قال الله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} : (إيتونا أنتم بسورة من مثله) فأنزلها الله تعالى في تعداد السور، دفعا لحجتهم في كل وجه.
السابعة: أن القصة الواحدة من هذه القصص، كقصة موسى مع فرعون –وإن ظن أنها لا تغاير الأخرى، فقد يوجد في ألفاظها زيادة ونقصان، وتقديم وتأخير، وتلك حال المعاني الواقعة بحسب تلك الألفاظ، فإن كل واحدة لابد وأن تخالف نظيرتها من نوع معنى زائد فيه، لا يوقف عليه إلا منها دون غيرها. فكأن الله تعالى فرق ذكر ما دار بينهما وجعله أجزاء، ثم قسم تلك الأجزاء على تارات التكرار لتوجد متفرقة فيها، ولو جمعت تلك القصص في موضع واحد لأشبهت ما وجد الأمر عليه من الكتب المتقدمة، من انفراد كل قصة منها بموضع، كما وقع في القرآن بالنسبة ليوسف عليه السلام خاصة.
وخلاصة القول: لقد اجتمعت في هذه الخصيصة من نظم القرآن عدة معان عجيبة:
منها: أن التكرار فيها مع سائر الألفاظ لم يوقع في اللفظ هجنة، ولا أحدث مللا، فباين بذلك كلام المخلوقين.
ومنها: أنه ألبسها زيادة ونقصانا، وتقديما وتأخيرا، ليخرج بذلك الكلام أن تكون ألفاظه واحدة بأعيانها، فيكون شيئا معادا، فنزهه –الحق سبحانه- عن ذلك بهذه التغيرات.
ومنها: أن المعاني التي اشتملت عليها القصة الواحدة من هذه القصص، صارت متفرقة في تارات التكرار، فيجد المرء –لما فيها من التغيير- ميلا إلى سماعها، لما جبلت عليه النفوس من حب التنقل في الأشياء المتجددة التي لكل منها حصة من الالتذاذ به مستأنفة.
ومنها: ظهور الأمر العجيب في إخراج صور متباينة في النظم بمعنى واحد.(14/387)
وقد كان المشركون –في عصر النبي صلى الله عليه وسلم- يعجبون من اتساع الأمر في تكرار هذه القصص والأنباء، مع تغاير أنواع النظم، وبيان وجوه التأليف، فعرفهم الله سبحانه أن الأمر بما يتعجبون منه مردود إلى قدرة من لا يلحقه نهاية، ولا يقع على كلامه عدد لقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [53] .
وهنا يكون القرآن قد وصل إلى غايته وهدفه من التكرار..
وهنا يبرز سر إعجازه ومبلغ عمقه في تقرير المسائل وتكريرها..
نفعنا الله بالقرآن العظيم، وجعله فاتحة الخير لنا.. نورا لأبصارنا وضياء لبصائرنا، إنه نعم السميع المجيب..
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الكشاف 4/346.
[2] المدثر 20،19.
[3] القيامة 35،34.
[4] التكاثر 7،6.
[5] النبأ 5،4.
[6] آل عمران 78.
[7] النحل 119.
[8] النحل 110
[9] الزمر 11-15.
[10] القصص 51
[11] طه 113.
[12] الحاقة 2،1.
[13] القارعة 1.
[14] القدر 2،1.
[15] الواقعة 27.
[16] الواقعة 9،8.
[17] التكاثر 7،6.
[18] المدثر20،19.
[19] المؤمن 39،38.
[20] البقرة 89.
[21] المؤمنون 35.
[22] الصافات 105- 107.
[23] الرحمن 35.
[24] الرحمن 43-44.
[25] المؤمنون 35.
[26] الايضاح 198.
[27] الشعراء 9،8.
[28] البرهان 3/14.
[29] القمر 39.
[30] الكشاف 4/349.
[31] الآيات 150،149،144.
[32] البقرة 150.
[33] البقرة 147.
[34] البقرة 146.
[35] الآيتان 175،174.
[36] الآيتان 179،178.(14/388)
[37] أي في الآيتين 175،174.
[38] أي في الآيتين 179،178 من سورة البقرة.
[39] الممتحنة 10.
[40] قال البلاغيون: أن (بل) إذا ذكرت بعد كلام موجب فمعناها الإضراب، وهو إذا وقع في كلام البشر فمعناه إبطال ما سبق على طريق الغلط من المتكلم، أو أن الثاني أولى.
[41] الأنبياء21.
[42] سورة ص 8.
[43] الأنبياء 26.
[44] فاطر 22،19.
[45] الآيتان 19،17.
[46] الزمخشري 1/61.
[47] الإمام أبو بكر ابن العربي نقلا عن البرهان في علوم القرآن 3/25.
[48] طه 20.
[49] الأعراف 107.
[50] هود 120.
[51] فقه اللغة ص 178.
[52] البقرة 23.
[53] الكهف 109.(14/389)
وصايا صحية
لسعادة الدكتور حسين كامل
أخصائي الصدر بمستشفى الجامعة الإسلامية
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وصحبه وآله أجمعين
نيابة عن أعضاء الإدارة الطبية بمستشفى الجامعة يطيب لي أن أتقدم بهذه النصائح الطبية لأبنائنا الطلبة وإخواننا العاملين بالجامعة وأساتذتنا، وخصوصاً أن موسم الحج على الأبواب ونظراً لانتشار مرض الكوليرا في كثير من الأقطار العربية الشقيقة.
الكوليرا مرض سريع الانتشار وهو يسبب للمصاب حالات قيء مستمر وإسهال شديد مائي مما يؤدي إلى فقد كمية كبيرة من السوائل في الجسم ويؤدي إلى هبوط حاد في الدورة الدموية ووظائف الجسم وقد ينتهي الأمر بوفاة المصاب.
وللوقاية من هذا المرض يجب علينا ما يلي:
أ- سرعة التوجه إلى مركز التطعيم بالجامعة في المستشفى وقد تم حتى الآن تطعيم غالبية العاملين بالجامعة والطلبة كما يقوم المركز بتطعيم الأهالي.
ب- مقاومة الذباب لأنه يلعب دورا كبيرا في نقل المرض وتغطية الفضلات، والقمامة يجب أن تكون في صناديق مغلقة.
ج- مراعاة غسل الخضروات الطازجة جيدا بالماء والصابون أو وضعها في محلول برمنجانات البوتاسيوم لمدة 15 دقيقة.
د- مراعاة غسيل الأيدي جيدا بعد الخروج من دورة المياه.
هـ- التوجه فورا إلى المستشفى إذا كانت هناك أعراض مرضية حتى يمكن العلاج المبكر وعزل المصاب.
كما يجب على أبنائنا الطلبة توعية أصدقائهم وأسرهم.
وفقنا الله جميعا لخدمة ولرفعة هذا الوطن الطاهر الأمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(14/390)
إلى أين أيها.. المغرب الحبيب؟
يوم 17/10/96 وبينما كان ثلاثة من المسلمين يعرضون كتباً وصحفاً إسلامية في حي الأسوفال، فوجئوا بخمسين من الشيوعيين المنتسبين لما يسمى بالاتحاد العام لطلبة تونس، يهاجمون الثلاثة بالضرب، ولم يكتفوا بذلك حتى أقبلوا على الكتب والصحف الإسلامية يمزقونها. وخصوا القرآن الكريم بكبر هذه الجريمة فقطعوه إرباً إرباً ثم احتفلوا بإحراقه.
جريدة (النور) المغربية
المسيح ليس ابن الله
فاجأ ثمانية من علماء اللاهوت البروتستانتيين الأوساط الدينية المسيحية في بريطانيا بفتوى أصدروها في كتاب (المسيح ليس ابن الله) الذي قالوا فيه: إن إمكانية تحول الإنسان إلى الله لم تعد بالشيء المعقول والمصدق به في هذه الأيام، وإن النبي عيسى هو إنسان طبيعي وهبه الله هبات لم يهبها لغيره فهو نبي مرسل.
وقد لقي الكتاب رواجاً منقطع النظير.
مجلة النور
بيان رسمي له أثره..
إن البيان الذي صدر من مصر ينعى ماوتسي تونج قد صدم مشاعر المؤمنين في كل مكان. فقد ختم بهذه العبارة:
((رحم الله الفقيد العزيز وألهم شعب الصين الصبر والسلوان)) ..
إن رحمت الله التي وسعت كل شيء ليس فيها متسع لماوتسي تونج.
مجلة الدعوة..
محمد سيد أحمد
مدرس مساعد بكلية أصول الدين
شهادة حق(14/391)
صرح الباندت بشميه ناته ياندي عضو البرلمان الهندي بمدينة (إله آباد) : أن الإسلام يعلم دروس الوحدة والتآخي والنظرية التي عرضها النبي الخاتم على الإنسانية حول القومية والمحبة مع الوطن، إنما هي من أمثل الوجهات منقطعة النظير في العالم، وأضاف قائلاً بأن المستعمرين البريطانيين قدموا الحقائق التاريخية مشوهة وشوهوا مآثر الإمبراطورية الإسلامية لغرس النفاق والشقاق بين الشعوب الهندية وخاصة أنهم شوهوا الأعمال الناصعة التي قام بها الملك أورنك زيب.
جريدة (الرائد) الهندية(14/392)
أخبار الجامعة
تلقى نائب رئيس الجامعة موافقة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة على تعيين فضيلة الشيخ عمر محمد فلاتة رئيساً لمجلس شئون الدعوة الإسلامية بالجامعة.. وجدير بالذكر أنه يشترك في عضوية المجلس عضو من هيئة التدريس من كل كلية من كليات الجامعة ورئيس شعبة الدعوة في قسم الدراسات العليا بالجامعة ورئيس قسم الدعوة في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة.
الموسم الثقافي في الجامعة الإسلامية للعام الدراسي 1397هـ / 1398هـ
بدأ الموسم الثقافي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة مساء يوم الأربعاء الموافق 4/1/1398هـ بأولى محاضراته البالغ عددها خمس عشرة محاضرة ستكون بإذن الله على النحو التالي:
تاريخها
موضوع المحاضرة
اسم المحاضر
العدد
4/1/1398هـ
موقف اليهود من الدولة الإسلامية عند نشأتها
الشيخ الدكتور جاد رمضان
1
11/1/1398هـ
كيف نكون شاكرين
الشيخ عبد الفتاح عشماوي
2
18/1/1398هـ
في الدبلوماسية الأموية
الشيخ الدكتور أحمد الأحمد
3
25/1/1398هـ
أصول الإيمان
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
4
2/2/1398هـ
مع سورة الكهف
الشيخ محمد أبو طالب شاهين
5
9/2/1398هـ
آراء في البحث
الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
6
16/2/1398هـ
نظرات في دراسة السيرة النبوية
الدكتور أكرم ضياء العمري
7
23/2/1398هـ
علم النفس الإسلامي
الشيخ إبراهيم سرسيق
8
1/3/1398هـ
قبس من تاريخ الفقه الإسلامي
الدكتور محمد الوائلي
9
8/3/1398هـ
مسئولية التعليم
الشيخ عبد الله القادري
10
15/3/1398هـ
ثبات العقيدة الإسلامية أمام التحديات
الشيخ عبد الله الغنيمان
11(14/393)
22/3/1398هـ
تصحيح المفاهيم في جوانب من العقيدة
الشيخ محمد أمان
12
29/3/1398هـ
الشيخ عبد الرحمن الأفريقي حياته وآثاره
الشيخ عمر محمد فلاتة
13
6/4/1398هـ
ما أدخلته الشيعة في التاريخ الإسلامي
الشيخ صالح المحيسن
14
13/4/1398هـ
لزوم التزام المسلم بأحكام الشريعة
الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
15(14/394)
بين القرآن والكتب السماوية
حكم حفظه دونها
لفضيلة الدكتور إبراهيم عبد الحميد سلامية
بكلية الدعوة وأصول الدين
إذا كانت الكتب السماوية التي عرفتها البشرية قبل القرآن الكريم، قد طواها الزمن، وصارت كأن لم تكن، ولم يصل إلينا منها سوى التوارة والإنجيل على ما بهما من تحريف وتبديل، فإن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي ضمن الله له البقاء والخلود، وتكفل سبحانه بحفظه وحراسته مصداقا لقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [1] .
فكما أن ظاهر القرآن حجة على فصحاء العرب والعجم بنظمه، فكذلك باطنه حجة على علماء العرب والعجم بحكمه وعلمه، وكما أن ظاهره مربوط بنظم لا يتطرق إليها عيب، فكذلك باطنه مبسوط بحكم، لا تبقى معه مادة لريب، وكما أن ظاهر نظمه، لو وقع فيه خلل، لكان للطاعنين فيه مقال، فكذلك إن وقع في نظم معانيه زلل لكان للمعرضين عنه مجال، وإليه أشار الحق بقوله {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [2] .
وتكفل الحق جل في علاه –بحفظ القرآن الكريم من التحريف، دون غيره من الكتب السماوية الأخرى، حقيقة قررها القرآن الكريم، وصدقها ويصدقها واقعه الملموس ويشهد بها المنصفون من أعدائه، حيث أذعنوا واعترفوا بأن ما بين دفتي المصحف هو عين ما نطق به محمد، لم يصبه أدنى تحريف [3] .
حكمة حفظ القرآن من التحريف دون غيره من الكتب السماوية
وإنما كان الأمر كذلك، بالنسبة لهذا الكتاب الخالد، لحكم متعددة أبرزها ما يلي:
الحكمة الأولى:(14/395)
أن القرآن الكريم هو أصل الدين، ومنبع التشريع الحكيم، ودستور الإسلام، ولما كان الإسلام دينا عاما خالدا، ليس موقوتا بزمن معين، ولا بمكان محدد، بل هو عام شامل لكافة الخلائق، منذ بعث الله به نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، مصداقا لقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً} [4] لما كان الأمر كذلك فقد اقتضت حكمة الله حفظ كتابه وبقاءه كاملا غير منقوص صحيحا غير باطل، ضمانا لهذا العموم في الزمان والمكان وتحقيقا له.
ولما كانت الرسالات السابقة محلية موقوتة بزمان ومكان معينين فلم تكن هناك من حكمة في حفظ كتبها، وما كانت هذه الكتب السابقة على القرآن إلا خطوات تمهيدية مهدت للخطوة الأخيرة وللغرض النهائي وللكتاب العزيز الذي أوتي الإنسانية بعد أن بلغت رشدها، وأتي العقل بعد أن بلغ نضجه وعلمه، ولو أراد الله أن تكون هذه الكتب هداية للإنسانية عامة في كل مكان وآن، لحفظها وصانها ولحال دون تحريفها، ولذلك لم يحفظ الله إلا كتابه الخالد المنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم.
الحكمة الثانية: أن القرآن الكريم هو آية الإسلام الكبرى ومعجزته العظمى، فكان لابد في نظر الحكمة الإلهية من حفظه لتكون هذه المعجزة ملازمة لهذا الدين الخالد، باقية إلى جواره تؤيده وتعززه إلى قيام الساعة، حتى لا يكون لأحد عذر في ترك هذا الدين الأخير، الذي ختم الله به الأديان والشرائع، ولذلك اقتضت حكمته تعالى أن تكون معجزة هذا الدين صالحة للبقاء والخلود، فكانت دون سواها كلاما يتلى في أذن الدهر، وحديثا يقرأ على سمع الزمان، وكتب له الخلود فلم يذهب بذهاب الأيام، ولم يمت بموت الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو قائم في فم الدنيا يحاج كل مكذب، ويتحدى كل منكر، ويدعو أمم العالم جمعاء إلى ما فيه من الهداية ...(14/396)
ومن هنا يظهر الفرق جليا بين معجزات محمد صلى الله عليه وسلم ومعجزات إخوانه من الأنبياء – عليهم السلام - فمعجزات محمد في القرآن وحده آلاف مؤلفة، وهي متمتعة بالبقاء إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم، أما معجزات سائر الرسل فمحدودة العدد قصيرة الأمد، ذهبت بذهاب زمانهم، وماتت بموتهم، ومن يطلبها الآن لا يجدها إلا في خبر كان [5] .
يقول الإمام السيوطي في ذلك، ولأن هذه الشريعة، لما كانت باقية على صفحات الدهر إلى يوم القيامة خصت بالمعجزة العقلية الباقية، ليراها ذو البصائر كما قال صلى الله عليه وسلم: "ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا" [6] .
ومعنى هذا أن معجزات الأنبياء قد انقرضت بانقراض أعصارهم، فلم يشاهدها إلا من حضرها، ومعجزة القرآن مستمرة إلى يوم القيامة، ويمكن أن يقال في معنى الحديث، أن معجزات الرسل السابقين لمحمد صلى الله عليه وسلم كانت حسية تشاهد بالأبصار، كناقة صالح وعصا موسى، ومعجزات القرآن تشاهد بالبصائر فيكون من يتبع محمد لأجلها أكثر، لأن الذي يشاهد بعين الرأس ينقرض بانقراض مشاهده، والذي يشاهد بعين العقل باق يشاهده كل من جاء بعد الأول مستمرا [7] .
الحكمة الثالثة: أن القرآن الكريم قد أتى بهدايات تامة كاملة، تفي بحاجات البشر في كل زمان ومكان وفاء لا نظير له في أي كتاب آخر، وأن البشرية لا غنية لها عن هذه الهدايات القرآنية، فما أمر القرآن بشيء يمكن الإستغناء عنه ولا نهى عن شيء يحسن الإلمام به، ولذلك خلد على مر الزمان.
ومن جهة ثانية فإن القرآن بما اشتمل عليه من أحكام وآداب، وأخلاق ومعاملات حق دائم لا ريب فيه وصدقه باق لا تناله الأيام بشيء، لأن الحق لا يزول ولا يحول، وذلك سر خلود هذا الكتاب العظيم.(14/397)
الحكمة الرابعة: أن القرآن الكريم خلاصة وافية لكتب الله السابقة، فهو جامع لما توزع فيها من حق وعدل، وفضل ونبل، وزائد على هذه الكتب ما يناسب عصره، وما بعد عصره إلى يوم الدين.
وإلى بعض هذه الحكم يشير الدكتور محمد عبد الله دراز –رحمه الله- بعد أن بين أن من حق القرآن أن يعنى بحفظه في الصدور والسطور –فيقول: (وبهذه العناية المزدوجة، التي بعثها الله في نفوس الأمة المحمدية إقتداءً بنبيها بقي القرآن محفوظا في حرز حريز، إنجازا لوعد الله الذي تكفل بحفظه ولم يصبه ما أصاب الكتب السابقة من التحريف والتبديل، وانقطاع السند، حيث لم يتكفل الله بحفظها، بل وكلها إلى حفظ الناس فقال: {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّه} أي بما طلب إليهم حفظه..
والسر في هذه التفرقة، أن هذه الكتب السماوية السابقة للقرآن جيء بها على التوقيت، لا التأبيد، وأن هذا القرآن جيء به مصدقا لما بين يديه، من الكتب، ومهيمنا عليها، فكان جامعا لما فيها من الحقائق الثابتة، زائدا عليها بما شاء الله زيادته، وكان ساداً مسدها، ولم يكن شيئا منها ليسد مسده، فقضى الله أن يبقى حجة إلى يوم قيام الساعة، وإذا قضى الله أمرا يسر له أسبابه، وهو الحكيم العليم [8] .
فما هي هذه الأسباب التي يسرها الله لحفظ كتابه وصونه عن التحريف والتبديل؟ ذلك ما سنعرض لبيانه في مقال تال إن شاء الله.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الحجر: 9.
[2] فصلت: 42 وانظر كتاب (مقدمتان في علوم القرآن) : آرثر جفر: 5.
[3] انظر كتاب (الفارق بين المخلوق والخالق) : عبد الرحمن باجه جي زاده (275-277) .
[4] سبأ: 28.
[5] مناهل العرفان في علوم القرآن للشيخ الزرقاني ج 2/232.(14/398)
[6] البخاري –باب فضائل القرآن ج 6 ص 424 ط الشعب.
[7] الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ج 2/116-2117.
[8] النبأ العظيم د/ محمد عبد الله دراز (8-9) .(14/399)
عالمية الرسالة بين النظرية والتطبيق
لفضيلة الشيخ محمد الغزالي
رئيس قسم الدعوة بكلية الشريعة بمكة
كان الوحي الإلهي قديما يتخير بقاعاً من الأرض لينزل بها كما ينزل الغيث في مكان دون مكان. لكن بعثة محمد عليه الصلاة والسلام كانت نقلة جديدة بالعالم كله وتحولا في حركة الوحي الإلهي على ظهر الأرض. إذ جاءت الرسالة الأخيرة لكل بشر يعقل ما يسمع.. ثم هي قد صحبت الزمان في ميسرته، فإذا انتهى جيل من الناس فإن الجيل الذي يليه مخاطب بها مكلف أن يمشي في سناها.
والإجماع معقود بين المسلمين على عموم الرسالة وخلودها، ونريد أن نلقي نظرة على الآيات التي دلت على عالمية الرسالة لنستخلص منها حكما محددا..
قال تعالى في سورة التكوير: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} وقال في سورة القلم: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} .
وقال في سورة سبأ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وقال في سورة الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} وقال في سورة الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} .(14/400)
وقال في سورة يوسف: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} وقال في سورة الأنعام: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} . وقال أيضا في السورة نفسها {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} وهذه الآيات كلها مكية، أي أن عالمية الرسالة تقررت منذ بدء الوحي وفي الأيام التي كانت الدعوة فيها تعاني الأمرين.
كان القرآن إذن يقرر أنه رسالة للعالم كله في الوقت إذن كان فيه أهل مكة يستكثرون أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم رسولا لهم وحده!!(14/401)
ولم تنزل بالمدينة آية تتحدث عن هذه العالمية اكتفاء بما تمهد في صدر الدعوة إلا آية واحدة من سورة الأحزاب هي قوله جل شأنه: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} وختم النبوة تقرير لهذه العالمية فإن القارات الخمس إلى قيام الساعة لن يطرقها من السماء طارق، ولن يجيئها من عند الله رسول، وسيبقى كتاب محمد صلى الله عليه وسلم وحده صوت السماء بين الناس إلى أن يحشروا للحساب فيقال لهم: {َقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} وآية ختم النبوة صدقتها الأيام المتتابعة فها قد مضت أربعة عشر قرنا وما نزل من السماء وحي. وقد حاول الاستعمار الأوربي أن يضع يده على مخبول في الهند وآخر في إيران ليصنع منهما أنبياء يكابر بهما نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهيهات هيهات فإن الأوربيين أنفسهم احتقروا الرجل الذي صنعوه فما تبع أحدهم متنبئ الهند ولا متنبئ العجم، وبدأت اللعبة تنكشف ويفر عنها المستغفلون!! إن الصباح العريض الذي بزغ مع رسالة محمد صلى الله عليه وسلم سوف يظل وحده النور الذي يغمر العالم ويملأ الأفق إلى أن يأذن الله بانتهاء الحياة والأحياء.
وإنما لفتنا النظر إلى أن الآيات الناطقة بعالمية الرسالة مكية كي ندحض فرية لبعض المستشرقين الذين زعموا أن محمد صلى الله عليه وسلم بدأ عربي الرسالة معنيا بقومه وحدهم فلما نجح في إخضاعهم أغراه النجاح بتوسيع دائرة الدعوة فزعم أنه للخلق كلهم. وهذا تفكير سقيم المأخذ بين السخفـ فقد رأيت بالاستقراء أن عالمية الرسالة تم التصريح بها في أوائل ما نزل من الوحي!!.(14/402)
ثم نسأل: متى تم خضوع العرب لمحمد صلى الله عليه وسلم حتى يغريه النجاح بمزيد من التوسع؟ إن مكة التي طاردته لم تفتح له إلا قبل الممات بسنتين اثنتين، فأين استقرار النصر والتطلع إلى إخضاع الدنيا وهو لما ينته من الجزيرة العربية نفسها؟؟
إن هذا الفكر الاستشراقي لم يلق حفاوة من عاقل، ولذلك نخلص منه لنقرر حقائق أخرى نابعة من هذه الحقيقة المؤكدة حقيقة أن محمدا رسول إلى العالمين من رب العالمين. وأول ما نقرره أن هذه الصفة انفرد بها محمد عليه الصلاة والسلام، فكل الأنبياء من قبله محليون، رسالتهم محدودة الزمان والمكان. ابتدأ من آدم إلى عيسى.
والنصارى يرون أن رسالة عيسى عالمية وينطلقون بها في كل مكان ليبلغوها وينشروها، ونحب نبي الله عيسى ونعتقد أنه رسول حق إلى بني إسرائيل خاصة {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ..} .
على أن النصرانية التي تشيع بين الناس اليوم وتساندها قوى كثيرة تخالف رسالات السماء كلها إذ هي فلسفة تجعل من عيسى إلها أو شبه إله يرسل الرسل وينزل الكتب ويغفر الذنوب ويحاسب الخلائق..
والنصرانية بهذا المفهوم المستغرب لا يعنينا أن تكون عالمية أو محلية لأنها شيء آخر غير ما ينزل الوحي به على سائر الرسل، قال تعالى لنبيه محمد: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} إن هذه النصرانية الجديدة لا تتصل بعيسى الذي مهد لمحمد صلى الله عليه وسلم كما لا تتصل بعيسى الذي بلغ تعاليم إبراهيم وبنيه، ومن ثم فهي في نظرنا منهج بشري مستقل بأفكاره عما قبله وعما بعده.. ورسل الله يصدق بعضهم بعضا ويمهد السابق منهم للاحق ما استطاع.(14/403)
ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم أقامت مفهوم العالمية فيها على أن الدين واحد من الأزل إلى الأبد وأن الأنبياء إخوة في التعريف بالله والدلالة عليه واقتياد البشرية إليه.. وأن القرآن الكريم جمع في سياقه الباقي كل ما تناثر على ألسنة النبيين من عقائد وفضائل ولذلك فإن الإيمان بهم جميعا مطلوب والكفر بأحدهم انسلاخ من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم نفسه. ومن الطبيعي أن تبدأ الرسالة عملها في بقعة ما من أرض الله. وقد شرع النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم يعلم الأميين من عبدة الأوثان، ويرشد الحائرين والجاحدين من أهل الكتاب. وبعد تسعة عشر عاما من الدعوة الدائبة استطاع أن يظفر من الوثنية الحاكمة بحقه في الحياة وحق من يتبعونه في العيش بدينهم والتجمع عليه.
عندما نال هذا الحق من معاهدة الحديبية وأصبح له موضع قدم يستقر فيه ويدعو منه أخذ يرسل إلى أهل الأرض يبلغهم الحق ويفتح عيونهم على سناه.
ومن أهل الأرض يومئذ؟ الروم غربي الجزيرة وشمالها. والفرس في الناحية المقابلة، وحكام آخرون يعيشون في جوارهم أو يدورون في فلكهم.
هل كان وراء الرومان من يفهمون الخطاب شمالي أوريا أو وسطها؟ أو وسط إفريقيا وجنوبها؟ كانت هناك قبائل السكسون والجرمان والغالة والوندال وقبائل أخرى مشابهة لها في إفريقية وكانت هناك وراء الفرس شعوب جاء وصفها في قصة ذي القرنين في القرآن الكريم بأنهم لا يكادون يفقهون قولا..
على أية حال فإن النبي المبعوث للعالم أرسل إلى إمبراطور الروم وملك الفرس وحاكم مصر ونجاشي الحبشة، وإلى الأمراء المنتشرين حول الجزيرة العربية يدعوهم إلى توحيد الله واعتناق الإسلام لعله بدأ بالجيران الذين يلونه فبلغ أمر ربه حتى إذا أتم هدايتهم تجاوزهم إلى من يلونهم من أجناس البشر.(14/404)
أو لعل الفكر البشري في هذه الآونة لم يبلغ درجة الوعي وأهلية الخطاب إلا في هذه البقاع المحتضرة والتي ظهرت فيها جمهرة الرسالات السماوية من قديم.
على أية حال فإن اليقظة الإنسانية التي بدأت في جزيرة العرب ما كانت نهضة جنس متفوق ولا طماح زعيم متطلع، بل كانت حركة قبيل من الناس اختارهم العناية العليا ليربطوا جماهير البشر بالله الواحد، وليسيروا في هذه الدنيا وفق هداه لا وفق هواهم) {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} .
وأكذب الناس على الله وعلى عباده من يزعم الإسلام طورا من أطوار البعث العربي، إن هذا الكلام لا يساويه في الرخص والغثاثة إلا ما تضمنه من إفك وتظليل فإن محمدا عليه الصلاة والسلام رفض رفضا باتا أن يكون للعرق، أو اللون أو القوة أو الثروة أي رجحان من موازين الكرامة الإنسانية، والمحور الذي دار عليه الإسلام هو التوحيد والعبادة والتشريع والوجهة والولاء، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِه} وقد قلنا، ولا نزال نقول: إن الله ربى محمدا عليه الصلاة والسلام ليربي به العرب وربى العرب بمحمد عليه الصلاة والسلام ليربي بهم الناس فرسالة العرب أن يكونوا جسورا لهدايات السماء، وأن يعلموا الخلق ما تعلموه من الخالق.
وإذا كانوا تلامذة لخاتم الرسل فهم بما درسوا أساتذة للشعوب الأخرى تتلقى عنهم وتستضئ بهم..
وهذه المكانة للأمة العربية مكانة عالية حقا، بيد أنها لا تقوم على الدعوى بل على البلاغ، ولا تقوم على البطالة بل على التضحية، وذلك معنى قول الله تبارك اسمه.(14/405)
{هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ} .
وقد قامت دولة الإسلام بدورها العالمي، هذا على عهد النبوة وأيام الخلافة الراشدة وتدافع التيار إلى مداه أيام الأمويين والعباسيين والعثمانيين، وإن كان هذا التيار قد شابه من الكدر والدخن ما أزرى به وحط قدره حتى توقف آخر الأمر.
والمسلمون في هذا العصر يكادون يجهلون أن لهم رسالة عالمية بل أن حياتهم وفق شرائع دينهم وشعائرهم موضع ريبة وقد تكون موضع مساومة.
وأذكر أن حوارا دار بيني وبين الأستاذ علي أمين بعد ما كتب يستنكر أذان الفجر ويزعم أنه يزعج النيام المستريحين (!) قلت له: إن إيقاظ الناس للصلاة مقصود قصدا وفي أذان الفجر كلمة تقول: الصلاة خير من النوم! قال: من أراد الصلاة فليشتر منبها يوقظه ليصلي: قلت له إن جمهور المسلمين وهم كثرة هذا البلد يريدون الصلاة علانية ويردون أن يصبغوا الحياة الاجتماعية بها وأن ينظموا نومهم وانتباههم على أوقاتها فإذا شاء الكسالى غير ذلك فليتواروا بإثمهم لا أن يفرضوه على المجتمع ويطلبوا من المؤمنين التواري بدينهم.
وأشهد أن الرجل لان وتأثر واستكان وأرجوا أن قد تاب ومات مغفورا له وإنما ذكرت هذا الحوار ليعرف من جهل مبلغ ما انحدرت إليه أمتنا.
إن الشيوعية تريد أن تكون نظاما عالميا، وكذلك المادية والإباحية، وكذلك الصهيونية والصليبية أما الإسلام فإن طبيعته العالمية يراد إنكارها، وإذا تم ذلك فإن وجوده المحلي ينبغي الخلاص منه والإجهاز عليه..
وأريد أن نعرف: من نحن؟ وما ديننا؟ وما هدفنا؟ وما طبيعة جهادنا؟ إننا ورثة الإسلام وحملته وأصحاب الحضارة الوحيدة التي تعترف بالدنيا والآخرة والروح والجسد والعقل والعاطفة.(14/406)
وفي قرآننا وسنة نبينا صلاحنا وصلاح العالم من حولنا، وقد هنا على أنفسنا فكان طبيعيا أن نهو على غيرنا، وزهدنا في ديننا فكان طبيعيا أن يزهد العالم فيه.
وقد بدأت في الأفق تباشير عودة ناجحة إلى هذا الدين العظيم، فلنصور بدقة طبيعة النور الذي خصنا الله به، طبيعة الرسالة التي شاء الله أن تحق الحق وتبطل الباطل، وتهدي الحيارى في المشارق والمغارب. ويفرض علينا هذا المعنى أمورا ذات بال..
أولها: مادام محمد عليه الصلاة والسلام للعالم كله وليس للعرب خاصة فيجب على العرب –وهم الذين تحدث محمد صلى الله عليه وسلم بلغتهم وكلفوا بنقل رسالته إلى غيرهم- يجب عليهم أن يوصلوا هذا القول إلى كل قبيل من الناس وبكل لغة يتم التفاهم بها..
أي أنهم يجب عليهم أن يتقنوا كل اللغات العالمية، وما استطاعوا من اللغات المحلية وأن يودعوها خلاصة كافية هادية من تعاليم الإسلام في مجال العقيدة والخلق والعبادة وشتى أنواع المعاملات وأن يذكروا بدقة ولطف الفروق الكبيرة بين أصول الإيمان عندنا وعند أهل الأديان الأخرى سماوية كانت أو أرضية..
إن هذا الواجب لم يكن منه بد حتى لو كان الميدان خاليا لنا وحدنا، فكيف وهناك أجهزة عالمية مخوفة تخصصت في تحقير الإسلام وإهانة نبيه؟ عليه الصلاة والسلام. فكيف وقد تآمرت على الإسلام شتى القوى، وتألب خصوم خبثاء يصطادون الشبه ويتلمسون للأبرياء العيوب؟(14/407)
إن الاستعمار سخر أجهزة إلحادية وصليبية سبقتنا إلى أجيال كثيفة من الزنوج والجنس الأصفر، وتركت في نفسه سموما ضد محمد عليه الصلاة والسلام ودينه وانتهزت الصمت الذي خيم على أجهزة الدعاية الإسلامية والسلبية المشينة التي لذنا بها وراحت تكذب وتكذب حتى نجحت في تلويث سمعتنا وقدرت على غرس تدين مختل الأصول مضطرب السلوك، وأمكنها بسهولة أن تصد عن سبيل الله وتردم معالم الصراط المستقيم. إن ذلك يوجب علينا الإحساس المضاعف بخطئنا وتخلفنا ويحملنا عبء المسارعة إلى تعليم الجاهل ومراجعة المخدوع وتعريف الناس بربهم الواحد الأحد الفرد الصمد، وربطهم بالدين الذي حمل رايته جميع الأنبياء ثم نقاه وشد دعائمه وثبت أهدافه النبي الخاتم محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
والأمر الثاني: المتصل بعالمية الرسالة يرجع إلى اللغة العربية. فلغة الرسالة الخالدة يجب أن تتبوأ مكانة رفيعة لدى أصحابها ولدى الناس أجمعين، فإن الله –باختياره هذه اللغة وعاء لوحيه الباقي على الزمان- قد أعلى قدرها وميزها على سواها والواقع أن اللغة العربية مهاد القرآن وسياجه فإذا تضعضعت وأقصيت عن أن تكون لغة التخاطب والأداء ولغة العلم والحضارة أوشك القرآن نفسه أن يوضع في المتاحف ولهذه الغاية الخاسرة تعمل فئات غفيرة من المستعمرين وأذنابهم. وما أكثر تلك الأذناب في الجامعات والمجامع ودور الإذاعات والصحف وغيرها؟
إن آبائنا عليهم الرضوان نشروا اللغة العربية بكل الوسائل المتاحة لهم، وما تأسست مدرسة لخدمة الدين إلا انقسمت علومها بين مناهج الشريعة ومناهج اللغة والآداب.. ويلاحظ الآن انكماش مفزع في هذا الميدان ورواج سمج للهجات العامية والمصطلحات الأجنبية والترجمات الركيكة والكلمات الدخيلة..
واللغة العربية لا تخدم بالحماس السلبي، بل لابد من إعادة النظر في شئون شتى تتصل بكيتنها وتعاليمها.(14/408)
ولنفرق من الآن بين طرق تعليمها للتلامذة العرب وللتلامذة الأجانب، ولنبتكر أساليب ميسورة لتدريس المصادر وتصريف الأفعال وجموع التكسير وأنواع المترادفات وغير ذلك مما يعانيه طلاب العربية..
إن هناك لغات لم يشرفها الله بوحي، ولم تصحب حضارة إنسانية مشرقة يخدمها أبنائها بذكاء نادر فما دهى العرب حتى تركوا لغتهم توشك أن تكون من اللغات الميتة أو الثانوية في هذه الدنيا؟
إننا عجزنا عن جعل اللغة العربية لغة أولى بين الألف مليون مسلم الذين يعتنقون الإسلام وهذا وحده فشل ذريع نؤاخذ به يوم الحساب، ويرجع هذا الفسل إلى أن العرب أنفسهم لا يجلون لغتهم. بل لقد استطاع الاستعمار الثقافي أن يكرهها لهم أو يحقرها لديهم فأي بلاء هذا؟ والمطلوب الآن للفور إقصاء اللهجات العامية والرطانات الأعجمية عن جميع منابر الصحافة والإعلام وإعادة الحياة إلى اللغة الفصحى في كل محفل..
وأكرر مطلبا آخر ذكرته في أحد المؤتمرات وهو إنشاء مدارس وإرسال بعثات لنشر اللغة العربية وحدها أي دون ربط اللغة بالدين، فإن هذا التعليم المجرد سيوسع القاعدة الثقافية للغة القرآن وسيكون يوما ما رافدا من روافد الحق والإيمان.
والأمر الثالث والأخير في عملية الدعوة يتصل بالوضع الأدبي والمادي داخل الأمة الإسلامية نفسها إن الخلق الزاكي لغة إنسانية عالمية تعجب وتقنع، وبهذه اللغة تفاهم الصحابة والتابعون مع الشعوب التي عرفوها وعرفتهم فدخل الناس في دين الله أفواجا.(14/409)
أي أن القدوة الحسنة فردية كانت أو جماعية تفرض احترام العقيدة والحفاوة بها وهذه القدوة ليس دورا تمثيليا يؤدى بالخداع واجتذاب المشاهدين كلا كلا فحبل الكذب قصير إن هذه القدوة هي الحلاوة في الثمرة الناضجة أو الرائحة في الزهرة العاطرة، أي هي نضج الكمال الذاتي وقد شاء الله أن يؤتي السلف الصالح أنصبة جزلة من هذا الحسن الذاتي ففتحت لهم المدن العظام أبوابها وألقت إليهم الجماهير بقيادها..
وإنني أشعر اليوم بغضاضة شديدة حين أرى السائحين والسائحات يجوبون بلادنا ويدرسون أحوالنا، ثم يجاوزوننا بقلة أكثرت أو باستهانة بالغة.
إنهم لا يرون - فيما يشهدون - الإسلام الحق في نظافته وسموه. بل يرون شعوبا أقل منهم كثيرا في المستوى الحضاري ولا أقول في المستوى الخلقي المعتاد.
وتلك أحوال تصد عن الإسلام ولا تغرى باعتناقه، وعالمية الإسلام تفرض على أتباعه أن يقدموا من سلوكهم الخاص والعام نماذج جديرة بالإكبار.
أو على القليل جديرة بالسؤال عن حقيقة الإسلام لمن لم يعرفوا هذه الحقيقة، وما أكثرهم في أرض الله.(14/410)
الدين الحق
لفضيلة الدكتور عبد المنعم حسنين
الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية
إن الدين الحق اتباع يظهر في السلوك والعمل، وليس قولا وادعاء لا يطابقهما الفعل، قال الحسن البصري - رحمه الله ((ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكنه ما وقر في الصدور وصدقته الأعمال)) .
الدين الحق أساسه الإيمان، والإيمان تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث متفق عليه: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"
وقال صلوات الله وسلامه عليه في حديث صحيح رواه أبو داود وابن حبان والحاكم وأحمد وغيرهما "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا"
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث رواه مسلم "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطيع فبلسانه، فإن لم يستطيع فبقلبه فذلك أضعف الإيمان".
وقد كثر الآن المتحدثون باسم الدين والمتجرون به في الأقطار الإسلامية المختلفة، وارتفعت أصوات هؤلاء ارتفاعا غطى على أصوات المؤمنين الصادقين الذين يدينون دين الحق، وأصبح الأتجار بالدين الحق حرفة رائجة في البلاد الإسلامية، والعجيب أن أكثر الناس في أنحاء مختلفة في العالم الإسلامي يظهرون الحرص على التمسك بأحكام الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتظاهرون بأنهم يحملون أمانة الدعوة إلى دين الله، ويتشدَّدون في نقد من يخالف الكتاب والسنة في أمر من الأمور، ولكن أعمالهم تخالف أقوالهم وباطنهم يختلف مع ظاهرهم وأنهم يقولون ما لا يفعلون.
والذين يتكلمون ولا يعملون كلامهم كالطبل الأجوف يقلق ولا يرشد، لأن الدين الحق يرى في سلوك المتدينين به، والداعية يكسب لدعوته بسلوكه أكثر مما يكسب لها بموعظه، فسلوكه هو التطبيق العملي الحي لما يؤمن به، ويدعو إليه.(14/411)
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول المطبقين لأوامر الله في سلوكه ومعاملاته، فكان عمله هديا وإرشاد وتطبيقا لما أنزل عليه وما أمر به، وينبغي أن يكون للمسلمين في رسولهم أسوة حسنة يقول الله جل جلاله {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21)
إن القدوة العملية تصيب من القلوب أكثر مما تصيب الكلمة مهما كانت طيبة ومؤثرة. ونستطيع أن نأخذ الدروس النافعة الهادية من سيرة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ولقد حدث بعد صلح الحديبية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن ينحروا هديهم ويحلقوا رءوسهم فلم يقم منهم أحد، فدخل على أم سلمة فأشارت عليه أن يخرج ثم لا يكلم أحد كلمة حتى ينحر بدنه ويدعو حالقه فيحلقه، فلما فعل صلوات الله وسلامه عليه قام الناس ينحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا.
هذه حادثة معبرة أصدق تعبير وأوضحه على أن تطبيق الداعية لما يدعو إليه له تأثير قوى فعال في المدعوين، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من هو لما أمر الناس بالنحر ثم الحلق فلم يستجب له أحد، وأخبر أم سلمة فأشارت له بالعمل بدل القول، فلم يكد الرسول صلوات الله وسلامه عليه يخرج إلى القوم ويفعل ما يجب أن يفعل حتى بادر الصحابة رضوان الله عليهم بفعل ما امتنعوا عن فعله حين كلمهم.
أجل إن القدوة العملية تؤثر في الناس أكثر مما تؤثر الأقوال مهما كانت بليغة، فعلى الدعاة أن يكونوا عمليين أكثر منهم قوالين حتى تثمر دعوتهم، وينبغي أن تظهر هذه الثمار في بيوتهم وفي دوائر أعمالهم، فيظهر الدين الحق في سلوك الزوجة والأولاد، والخدم والأحفاد والمتصلين بالدعاة والمشتركين في عمل من الأعمال.(14/412)
إن الذي يدعو إلى اتباع الكتاب والسنة والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والاهتداء بهدية ينبغي أن يتبع هذا بالتطبيق العملي لما يدعو إليه، فيظهر هذا التطبيق في سلوكه وجميع أعماله، وأن يلزم المتصلين به والعاملين معه بتطبيق ما يدعو إليه وما يطبقه هو، وكل تقصير في التطبيق مدعاة للسخرية والاستهزاء، وسبب في أن تصير الدعوة غير مجدية، وغير مؤثرة في القلوب، لأن الدعاة إذا لم توافق أعمالهم أقوالهم كانوا دعاية سيئة لما يدعون الناس إليه
إن دعوة الناس إلى الخير، تقتضي أن يكون الدعاة سباقين إلى الخير، ومطالبة الناس باتباع الكتاب والسنة تستوجب أن يكون الدعاة متبعين للكتاب والسنة في جميع أعمالهم، ونهي الناس عن منكر يحتم أن يكون الناهون ملتزمين لذلك النهي مبتعدين عن المنكر في أفعالهم.
ولهذا أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل الذي سأله أن يقول له في الإسلام قولا فصلاً بقوله: "قل آمنت بالله ثم استقم".
ووصية الرسول هذه وصية جامعة لأن إعلان المسلم الإيمان بالله إثبات لولائه لله رب العالمين، واستقامة المؤمن دليل على صدقه في إعلانه الإيمان بالله، وذلك بالتطبيق العملي الدال على صدق القول والإعلان. وقد بشر الله جل جلاله الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا بالجنة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت: 30) .(14/413)
فالدين الحق تطبيق وعمل، واتباع لما أمر الله به، واجتناب لما نهى الله عنه واهتداء بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الذين يقولون ما لا يفعلون فهم أخطر على الإسلام من أعدائه، لأنهم يلبسون زي الدعاة، ويتظاهرون بأنهم يحملون أمانة الدعوة إلى دين الله، ويطالبون الناس بالاستقامة ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، ثم تكون أعمالهم منافية لأقوالهم، فبينما تراهم ينتقدون الناس إذا خالفوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر من الأمور إذا هم في سلوكهم ومعاملاتهم يخالفون الله ورسوله، فلا يعدلون إذا حكموا بين الناس بل يميلون مع الهوى، ويستبيحون لأنفسهم الظلم وأكل حقوق الغير، ويساندون العاملين تحت إمرتهم إذا ظلموا واغتالوا حقوق الناس وحكموا بغير ما أنزل الله، ولا يلزمون أهليهم بما يدعون الناس إليه، ولا ينتقدون أولادهم إذا ارتكبوا أمراً منكراً من الأمور التي يتشددون في انتقادها إذا ارتكبها غيرهم.
هذا في الواقع ما ابتلي به المسلمون في كثير من أقطارهم، إن هؤلاء المتجرين بالدين يشبهون علماء بني إسرائيل الذين خاطبهم الله جل جلاله بقوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (البقرة: 44) .
إن الذين يتجرون بالدين أينما وجدوا ينطبق عليهم قول ربنا سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الكهف: 103-104) .
إن مخالفة الداعية في سلوكه لما يدعو غيره إليه أمر يتنافى مع العقل والمنطق السليم مما يجعل دعوته تفقد قيمتها وتأثيرها، بل قد تحدث نتيجة عكسية وهذا هو الخطر الذي يتهدد شباب المسلمين من جهة هؤلاء المتجرين بالدين، الذين يقولون ما لا يفعلون.(14/414)
إن الدين الحق أن يصدق العمل القول، وأن يطبق المسلم في سلوكه وفي كل ما يصدر عنه من أفعال ما جاء في كتاب الله وفي سنة خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه.
إن الإيمان الصادق هو الدافع المحرك للقوى الكامنة في نفس الإنسان، وهو الذي يجعل المؤمن في شوق دائم للعمل بما يرضي الله تعالى، فيدفعه إلى تفضيل أعمال البر ليثقل ميزانه يوم القيامة.
فينبغي على المؤمنين الصادقين الذين يدينون دين الحق أن يقفوا في وجه المتجرين بالدين، وأن يكشفوا زيفهم وضلالهم، وأن يحملوا أمانة الدعوة إلى دين الله الحق الذي يزيغ أمامه كل باطل، وأن يعملوا بقول الله جل وعلا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .
وليعلم المؤمنون الصادقون الذين يدينون دين الحق أن أهل الباطل كالزبد يذهب جفاء، وأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض.
ولكن على المؤمنين الصادقين أن يعملوا {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة:105) .
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(14/415)
المصلحة المرسلة [1]
محاولة لبسطها ونظرة فيها
لفضيلة الدكتور علي محمد جريشة
أولا: تقديم وتعريف:
1- إن الله بالناس لرؤف رحيم، لم يخلقهم عبثا بل جعل لهم غاية، ولم يتركهم سدا بل هداهم السبيل وحدد معالمه.. كل ذلك بما شرع لهم من أحكام في دينه، وكانت أحكامه محققة لمصالحهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم.. وقد ثبت لدى العلماء من تتبع أحكام الشرع واستقرائها أنها تحقق مصالح خمسا وتحافظ عليها هي الدين والنفس والعقل والنسل والمال وهي في تحقيقها لهذه المصالح تتدرج بين مراتب ثلاثة:
هي الضرورات: وهو لابد منها لإقامة هذه الخمسة وحفظها، والحاجيات وهي وإن لم تلزم لقيام الخمسة فإنها تلزم لرفع الضيق والحرج عند الأخذ بها، والتحسينات وهي ليست بلازمة لقيام هذه المصالح ولا لدفع الضيق والحرج عند الأخذ بها ولكنها استكمال لحسن الأمر وتحقيق لصالح الخلق [2] .
وتقف كل مصلحة من المصالح الخمسة مكملة للتي تسبقها وخادمة لها، كذلك تقف كل مرتبة من المراتب الثلاثة مكملة للتي تسبقها وخادمة لها.
ففي المصلحة الأولى وهي الدين تقف في المرتبة الأولى الضرورات، وفي مقدمتها شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، فلابد من إقامتها لإقامة الدين، ولو أدى ذلك إلى التضحية بالمصلحة التي تليها وهي النفس، وذلك عن طريق الجهاد إعلاء لكلمة الله، وتمكينا لدينه..
ومن الحاجيات المكملة لإقامة الدين ما شرعه الله من تيسير في بعض أحكامه، رفعا للعنت والحرج [3] ومنعا من الضيق والملل، كأداء الصلاة قعودا لمن كان ذا عذر، وقصرها للمسافر وما شرع الله من عقود وأحكام للمعاملات.
ومن التحسينات المكملة لإقامة الدين ما ينبغي أن يتحلى به المسلم من خلق العفو والصفح الجميل ودرء السيئة بالحسنة.(14/416)
ووقوف المصلحة وراء كل حكم أنزله الله أمر يراه كل ذي بصيرة فإن خفيت فإيمان المسلم ويقينه بأن الله لا يريد به إلا اليسر، ولا يشرع له إلا الحق والخير.. كل ذلك كاف لأن ندرك ما قرره علماء الشريعة من أن وراء كل حكم شرعي مصلحة.
والقول بأن وراء كل مصلحة حكم شرعي [4] ينبغي أن يتقيد بالشروط والقيود التي سنشير إليها، وإلا فليست كل مصلحة يتصورها إنسان يمكن أن يبنى عليها حكم شرعي.
2- والمصلحة التي يورد الشارع حكما يحققها تسمى مصلحة معتبرة [5] وتلك التي يأتي النص بعدم اعتبارها تسمى مصلحة ملغاة [6] .
والتي لم يعتبرها الشارع ولم يلغها هي المصلحة المرسلة [7]- وهي موضوع هذا البحث.
ثانيا: حجية المصلحة المرسلة:
3- الوحي –قرآنا وسنة- ليس فقط هو المصدر الأول للأحكام، بل هو المصدر الوحيد للأحكام..
فكيف يتفق ذلك مع ما يعدده الأصوليون من مصادر تقارب العشرة أو تجازوها؟ ووظيفة الإجماع أنه يقوي من هذا الدليل.. والقياس تعرية للحكم الشرعي –الوارد في الكتاب أو السنة- إلى واقعة أخرى لم يرد فيها نص، لاتحاد العلة في الواقعتين.
أما المصلحة.. فهي –كما سيبين بإذن الله- لون من القياس على النصوص في مقاصدها ومعناها، وليس في عبارتها ومبناها، أو هي بعبارة أخرى. حكم بروح النصوص ومقاصدها وليس حكم بعبارتها وألفاظها.
4- بيد أن الأمر ليس بهذه السهولة التي أشرنا إليها.. فإن دليلا من الأدلة لم يثر جدلا عنيفا ولا غموضا شديدا، ولا تطرفا ذات اليمين وذات اليسار.. كما أثارت المصلحة المرسلة..
فالبعض أفرط فقدمها على النصوص. والبعض فرط فرفضها رفضا مطلقا. وبين هذا الفرث والدم.. كان رأي الجمهور وسطا سائغا للفاقهين..
5- وقبل أن نشير إلى هذه الثلاثة نقول إن المصلحة لا عمل لها في دائرة العقيدة لأنها مبنية على اليقين، والمصلحة لا تفيد إلا الظن، كذلك لا عمل لها في ميدان العبادات.(14/417)
(الشعائر والنسك) لأن نصوص القرآن والسنة جاءت مفصلة لها ومبنية، فضلا عن أن أغلب أحكامها ليس له ظاهرة أو مصلحة واضحة لأنها أساسا جاءت اختبارا لمدى طاعة العبد، ويأخذ حكم العبادات ما جرى مجراها من حدود ومقدرات وسائر ما استأثر الله بعلم تفصيلات المصلحة فيه [8] .
أ- المصلحة بين الإفراط والتفريط:
6- تنازع التطرف المصلحة فالبعض قال بتقديمها على النصوص، والبعض قال برفضها.. ولكل وجهة هو موليها وتشير إلى الطرفين وحججها.
7- أما الإفراط فيحمل لواءه نجم الدين الطوفي –الذي قيل إنه حنبلي لكن التحقيق أنه يميل إلى التشيع [9]- وقد عرض لرأيه في معرض شرحه لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار" [10] ، وقال إنه يرى الأدلة الشرعية تسعة عشر دليلا جعل في مقدمتها النص والإجماع واعتبرها أقواها، ولكنه عاد فقال إن المصلحة تتقدم النص والإجماع إذا تعارضت معه [11] .
ولم يشأ نجم الدين الطوفي خلال عرضه الطويل أن يقدم مثلا واحدا لتعارض النص مع مصلحة حقيقية!
وبغض النظر عما ثار حول عقيدته، فإن رأيه يناقض بعضه بعضا، ويتهاتر أوله مع آخره حتى يسقط عن مستوى الاستدلال.. فإنه بعد أن صرح بتقدم النص والإجماع عاد فصرح بتقدم المصلحة على النص والإجماع، وهو وإن أجعل التعارض شرطا.. فإنه لم يستطع أن يقدم مثلا واحدا للتعارض!
فضلا عن أنه إذا تعارضت المصلحة مع النص.. فإنه يسقط الاستدلال بها إذ تغدو مصلحة ملغاة.. لا مرسلة ولا معتبرة!
8- وقد نسب إلى الإمام مالك أنه قال إن المصلحة تخصص عام القرآن وتقيد مطلقه [12] ، وليس في أصول الإمام مالك ولا فقهه ما يؤيد ذلك.(14/418)
كذلك نقل عن الإمام مالك أنه قال بتعذيب المتهم لإجباره على الإقرار –استنادا للمصلحة المرسلة- وقد ثبت بالتحقيق أنه ليس رأيا للإمام مالك، وأن هناك رأيا لسحنون في هذا الموضوع لكنه حرف ونقل على هذا النحو، ثم حرف ونسب إلى الإمام مالك [13] .
هذا بعض عن جانب الإفراط.
9- أما جانب التفريط: فقد ذهب إليه أولئك الذين رفضوا المصلحة نهائيا [14] ولأهمية هذا الحكم، ولسقوط كثير من حكام المسلمين في هذا الإثم نذكر شيئا من التفصيل، فنقول بعون الله:
. إن الرجوع إلى كتب المذهب تكشف خطأ نسبة هذا الرأي إلى مالك، بل تثبت عكس ذلك تماما فهو يقول ((لا أقيم الحد إلا أن يقر بذلك آمنا لا يخاف شيئا)) (المدونة –ج 6. ص 93 طبعة السعادة) .
. والذي يبدوا أن الرأي حرف عن سحنون! إذ قال: ((إن إقرار المتهم في حبس سلطان عادل إقرار صحيح)) لكن تفحص العبارة يفيد عكس التحريف الذي فهمت به، فهو يقيد صحة الإقرار بعدالة السلطان إن كان المتهم محبوسا.. مما يفاد منه أنه إذا كان ثمة إقرار لسجين في سجن سلطان غير عادل فلا قيمة له.. لأن السجن في مثل هذه الحالة يمثل لونا من الإكراه يشوب الإقرار ومن ثم يغدو مرفوضا، وإذا كان السجن يشكل وحده لونا من الإكراه. أفلا يشكله التعذيب؟!
. ويشير الإمام الشاطبي في الاعتصام (ج 2 ص 293، 294- مطبعة المنار بمصر) إلى نفس الرأي السابق وينسبه إلى الإمام مالك ويشير إلى أن العذاب المقصود هو السجن، ونحسب أن الشاطبي بذلك نقل رأي سحنون على أنه رأي مالك فهو الذي رأى أن إقرار المتهم في حبس سلطان عادل يعتد به، وهو ما أشرنا إلى أنه يفيد عكس ما يقررون، ومع ذلك فقد أضاف الشاطبي إلى أن أصحاب مالك مضوا على الضرب لإمكان استخلاص الأموال من أيدي السراق والغصاب وأشار نقلا عن الغزالي إلى أن الإمام الشافعي لا يقول بذلك. (ص 295 نفس المرجع) .(14/419)
ولقد نعلم أن البعض قد يحاجج بما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر إذ أمر الزبير أن يمس عم حيي بن أخطب بعذاب ليعترف على ما خبأه ابن أخيه، وبيان ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل في غزوة خيبر فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء، واشترط عليهم أن لا يكتموا شيئا ولا يغيبوا شيئا فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد: ومع ذلك فقد غيبوا مسكا فيه مال، وحلي لحيي بن أخطب كان قد حمله إلى خيبر حين أجليت النضير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي بن أخطب: "ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير"، فقال أذهبته النفقات والحروب، فقال: "العهد قريب والمال أكثر من ذلك"، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلىالزبير فمسه بعذاب، وقد كان قبل ذلك دخل قرية، فقال قد رأيت حييا يطوف في خربة ها هنا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة، فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أخ الحقيق وأحدهما زوج صفية بنت حيي بن أبي أخطب، وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءهم وذراريهم وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا (عن زاد المعاد لابن القيم الطبعة الأولى 1353هـ ج 2) .
. ونحن نلاحظ على هذه الرواية التي قد يحاجج بها البعض ليجعل للتعذيب شرعية:
1- أن الأمر كان في حالة حرب بين مسلمين وغير مسلمين.
2- أن العذاب لم يقع على أحد من المسلمين، وإنما وقع على يهودي محارب.
3- أن النصوص كثيرة متواترة على حفظ دم المسلم وعرضه وماله، بل إن بعضها يجعل حرمة المسلم أعظم عند الله من حرمة بيته المحرم.
4- أنه قد بدر من الفريق الآخر بعد الصلح نكث للعهد ولذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقتل والسبي.(14/420)
5- أنه ليس هناك ما يفيد في هذه الرواية أن ما وقع على عم حيي بن الأخطب كان لحملة على الاعتراف، بل الأرجح أنه كان عقابا على كذبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله، وعلى نكثه العهد حين اشترط عليهم الرسول ألا يكتموا وألا يغيبوا! وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر بالقتل والسبي جزاء على ذلك فإن الضرب جزاء دون ذلك الجزاء!
وقد يكون هذا التفريط رد فعل لذلك الإفراط، لكنهم يبررون ذلك بما يلي:
1- أن الله سبحانه إذا قرر {أَيَحْسَبُ الإنسان أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} قد كفل له من الأحكام ما يكفل له تنظيم حياته دون حاجة إلى جديد {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} .
2- أن المصالح الحقيقية هي التي وردت بها الأحكام، وما لم يرد به حكم فليس بمصلحة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .
3- أنها مظنة الحكم بالهوى ما دامت ليست معتبرة من الشارع، بل هي مترددة بين الاعتبار والإلغاء وفي هذا يقولون إنها ما دامت مترددة بين الاعتبار والإلغاء فإن انحيازها إلى جانب الاعتبار ليس أولى من انحيازها إلى جانب الإلغاء [15] .
ب. المصلحة المرسلة عند الجمهور:
10- شاع لدى البعض أن الإمام مالك وحده هو الآخذ بالمصالح المرسلة كدليل من أدلة الأحكام الشرعية [16] وأضاف البعض إليه الإمام أحمد.
لكن النظر الدقيق يثبت أن الأئمة الأربعة أخذوا بها وإن كان ذلك تحت مسميات أخرى فالعبرة بالمعنى قبل المبنى.
فالإمام الشافعي عالجها تحت باب القياس وهذا في رأيي نظر ثاقب من الإمام الشافعي لأن المصلحة قياس معنى وإن لم تكن قياس لفظ كما سيبين إن شاء الله والإمام أبو حنيفة عالجها تحت باب الاستحسان والعرف [17] .. والمصلحة قريبة من الاستحسان..(14/421)
وعلى ذلك يمكن أن نقول أن المصلحة كدليل شرعي مسلم بها من جمهور الفقهاء.
11- ودليلهم في ذلك:
(1) أن الشارع دلً عليها على سبيل الإشارة، حين بين لنا الأحكام وكشف في بعضها عن المصالح التي تتحقق من ورائها.. فكأنه سبحانه. بذلك يدل على أن وراء كل حكمة مصلحة، وكأنه بذلك سبحانه يدلنا على أن نقيس على المصالح، فبعد أحكام الصيام نجد قول الله {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .
وبعد أحكام الوضوء نجد قول الله {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُم} وعن الصلاة يقول سبحانه {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} .
وفي تحويل القبلة يقول سبحانه {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} . وفي القصاص قول الله سبحانه {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَاب} .
فماذا على الناس بعد ذلك أن يرعوا المصالح التي أرشد إليها رب الناس؟
(2) إن المصالح تدور في فلك مقاصد الشارع التي استقرئت من أحكامه وهي:
الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
وبالنظرة الفاحصة فإن الأخذ بالمصلحة على هذا النحو يمثل لونا من القياس على النصوص ليس في عبارتها ومبناها ولكن في مقاصدها ومعناها [18] ..
فهي ليست كما ظن البعض انفلاتا من النصوص أو خروجا عليها أو حكما بالرغبة والهوى والتشهي وإنما هي حكم بالنصوص بروحها ومقاصدها إلى جوار ألفاظها وعبارتها.
وهي بذلك تحقق شمولا واتساعا ومرونة هي سر من أسرار خلود هذه الشريعة.
(3) سلك الصحابة سبيل الاجتهاد بناء على المصلحة، فجمع أبو بكر المصحف ودوًن عمر الدواوين وسك العملة، وعلى ضمن الصناع وقال ((لا يصلح الناس إلا ذاك)) .(14/422)
والصحابة في ذلك لا يصدرون عن رأي مجرد أو هوى متبع، وإنما يصدرون عن القرآن الذي تلقوه، والنبي صلى الله عليه وسلم الذي تعلموا على يديه، ومسلكهم في هذا السبيل نقتدي به ونقتفي أثره عملا بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي".
ولقد وقع البعض في خطأ كبير إذ ظنوا أن الصحابة كانوا يعملون المصلحة ولو صادمت النصوص.
(4) أن النصوص كألفاظ وعبارات قد تتناهى، وحاجات الناس لا تتناهى والمصلحة كقياس –معنوي- إلى جوار القياس اللفظي تحقق الاتساع والشمول الذي يكفل مواجهة الحاجات المتجددة.
12- وهذه الحجج نفسها تتضمن الرد في نفس الوقت على حجج من رفضوا المصلحة، إذ قامت أغلب حججهم على افتراض خروج المصلحة عن دائرة النصوص والأحكام الشرعية، ومن ثم ظنوها حكما بالهوى، أو اعتبروها خروجا على الدين بعد إذ اكتمل، وهو ما رأيناه داحضا بعد أن بلغنا إلى اعتبار المصلحة لونا من القياس على روح النص ومبناه، فليس ثمة خروج فيها على النصوص..
أما قول الأولين إن انحياز المصلحة المرسلة إلى جانب الاعتبار ليس بأولى من انحيازها إلى جانب الإلغاء.. فمردود بأن هذا الانحياز راجع إلى أن ما تحققه المصلحة المرسلة يضاهي ما تحققه المصلحة المعتبرة، وأن المصلحة المرسلة تدور في فلك نفس المقاصد التي تدور فيها المصلحة المعتبرة.
ج- شروط المصلحة:
13- المصلحة عند الجمهور قائمة على أسس يصح أن تعد شرطا فهي:
(1) لا تصادم نصوصا ولا إجماعا.
وإلا كانت مصلحة ملغاة، لأن معنى إرسالها أن الشارع لم يلغها ولم يعتبرها.
(2) أن تحقق أحد المصالح الخمس: الدين والنفس والعقل والنسل والمال، أي أن تكون المصلحة من جنس هذه المصالح.
(3) أن تكون حقيقية وعامة.
لأنها إن لم تكن حقيقية كانت وهما، والوهم لا ينبني عليه حكم شرعي.(14/423)
وإن لم تكن عامة كانت خاصة، والأحكام في الشريعة لا توضع لفرد ولا لبعض وإنما هي للناس كافة بغير تفرقة.
وهذه الشروط في حقيقتها مستمدة من طبيعة المصلحة، ومن كونها دليلا شرعيا.
14- ولقد أضاف البعض إلى ذلك شروطا أخرى:
فقد نقل عن الشافعي أنه يشترط فيها أن تكون ((شبيهة بالمعتبرة)) .
ونقل عن الغزالي اشتراطه كونها ((ضرورية)) .
أما شرط الشافعي فهو في حقيقته الشرط الثاني الذي أشرنا إليه أن تكون من جنس المصالح التي جاء بها الشارع.. وبهذا تكون شبيهة بالمعتبرة.
وأما شرط الغزالي أن تكون المصلحة ضرورية [19] فإنه قد يشعر بحصر نطاق العمل بالمصلحة المرسلة على مرتبة الضروريات دون سائر المراتب الأخرى (الحاجيات والتحسينات) وذلك قد يصح إذا اقتصرنا على أحد مؤلفاته ((المستصفى)) لكن هذا الظن قد يتبدد إذا رجعنا إلى سائر مؤلفاته [20] .
ولعل ما جاء بالمستصفى كان بيانا لما هو موضع اتفاق بين الجميع، إذ يعمل بالمصلحة الضرورية عند جميع الفقهاء بلا استثناء، وذلك في ظننا راجع إلى القاعدة الأصلية ((الضرورات تبيح المحظورات)) [21] .
كذلك قد يكون الغزالي في معرض بيان الترجيح بين مصلحة ضرورية وأخرى أوفى منها فهو يخص الضرورية بالعمل والتقديم..
ولقد يكون ما ضربه الغزالي مثلا دليلا على ذلك، فهو يضرب مثلا بحالة تترس الكفار ببعض المسلمين، فنحن إزاء مصلحتين: الحفاظ على حياة المسلمين الذين تترس بهم الكفار، ثم الحفاظ على الدين بهزيمة هؤلاء الكفار وفي مراتب المصالح تتقدم المصلحة الأخيرة على المصلحة الأولى لأنها ضرورية وقطعية (أي حقيقية) وكلية (أي عامة) [22] .
ثالثا: ما نسب إلى الصحابة خطأ حول المصلحة:
15- تولى نجم الدين الطوفي كبر تقديم المصلحة على النصوص.(14/424)
وقد قدمنا أن لا مصلحة خارج النصوص وأن المصلحة الحقيقية لا تكون إلا داخل دائرة النصوص في فحواها ومبتناها وأنها إن خرجت.. كانت مصلحة ملغاة لا يعتد بها في مجال الأحكام الشرعية.
لكن الذين اقتفوا أثر نجم الدين الطوفي وساروا في دربه استدلوا على صحة القضية بعمل الصحابة، وعلى وجه التغليب استدلوا بعمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقالوا عنه أنه كان يقدم المصلحة على النصوص [23] .
وجاوزوا في ذلك الحق والحقيقة.. فما كان لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تربوا في مدرسة الوحي وقدروه حق قدره أن يخرجوا على الوحي عملا بما يسمى المصلحة!!
ولسان حال هؤلاء الصحابة ما قاله أبو بكر الصديق أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا أنا قلت في كتاب الله برأيي.. فمجرد التأويل بالرأي في كتاب الله وليس خارجه يعده أبو بكر كبيرة لا يتصور معها أن تقله أرض الله أو تظله سماؤه أما عمر فهو وإن اجتهد فقد كان يجتهد داخل دائرة النصوص بحثا عن حكم الله أما أن يخرج على النصوص تفضيلا للمصلحة عليها.. فهذا لا يتصور من عمر.. لأن معنى ذلك أن يتقدم برأيه على الوحي وهو الذي يتلوا قول الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ، وهو الذي ضرب رأس منافق راح يحتكم إليه بعد أن احتكم إلى رسول الله، فقال له عمر بعد أن خرج بسيفه وهوى عليه: هذا حكم عمر فيمن لا يرضى حكم الله ورسوله.
ولو دقق أولئك الباحثون فيما احتجوا به من أمثلة لوجدوا لها تفسيرا آخر غير أن يقولوا إن الصحابة قدموا المصلحة على النصوص.
ونورد فيما يلي الأمثلة لنناقشها ونتبين قصد عمر منها:
1 - إبطال سهم المؤلفة قلوبهم:(14/425)
16- قيل إن عمر رضي الله عنه أبطل سهم المؤلفة قلوبهم الوارد في مصارف الزكاة في الآية الكريمة {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} ..
وذلك إعمالا للمصلحة في مواجهة النص.
17- لكن النظرة الفاحصة تكشف غير ذلك.
إن لكل حكم مناطا للتطبيق، ومنط تطبيق هذا النص هو تأليف القلب، وقد نظر عمر فإذا الإسلام قد عز، ودانت له أكبر إمبراطوريتين في العالم. ولم يعد الإسلام بحاجة إلى تأليف القلب أو إلى المؤلفة قلوبهم، وإذا كان النص يدور حول علته وجودا وعدما، فإن إعمال النص نفسه يقتضي الكف عن إعطاء هذا الفريق من الناس بعد أن عز الإسلام وعزت دولته!
أفليس هذا اجتهاد داخل النص..؟! أم يفتات على عمر ويقال إنه قدم المصلحة على النص؟!
2- في قتل الجماعة بالواحد:
18- قيل إن عمر إذ قرر قتل الجماعة بالواحد قد فعل ذلك بناء على المصلحة مصادمة للنص الكريم {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} وقوله {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ..} .
19- ولم يكن عمل عمر تشريعا كما تصور البعض.
إنما كان تطبيقا للنص بفهم عميق:
إن التعريف في النفس يعني ((الجنس)) ولا يعني ((المفرد)) والباء في النفس التالية هي باء السببية.. وعلى ذلك فإن النص يعني أن كل نفس شاركت في القتل تقتل بالنفس التي قتلت أي بسبب هذه النفس المقتولة.(14/426)
وقد فهم ذلك الوضعيون أخيرا حين جعلوا جزاء القتل لكل من ساهم فيه وجعلوا مجرد الوقوف في الطريق العام لملاحظته دون اشتراك مادي في الجريمة تجعل صاحبها فاعلا أصليا يستحق نفس العقوبة.. وما دون ذلك جعلوه شريكا له نفس عقوبة الفاعل الأصلي ولئن تنكب الوضعيون السبيل فلم يجعلوا العقوبة هي القتل إلا في ظروف معينة قلما تثبت، ومن ثم فلم يعد الناس يجدون شفاء لصدورهم في تلك العقوبات الهزيلة.
ولئن تنكبوا السبيل كذلك فلم يجعلوا لولي الدم العفو أو القصاص أو الدية بما يكفل شفاء الصدر لهم.
فإن عقوبة الإسلام لا تحتاج إلى سبق إصرار ولا ترصد ولا اقتران بجريمة أخرى.
كما أن ولي الدم له الحق بين القصاص أو الدية أو العفو.
كذلك فإن اجتهاد عمر بقتل الجماعة بالواحد يجعل في تطبيق النص على هذا النحو شفاء للصدر أيما شفاء.. أمر عجزت عنه كل الأنظمة الوضعية!
أفنلوم عمر بعد ذلك أن اجتهد في فهم النص وتطبيقه؟!
3- تعطيل حد السرقة عام المجاعة:
20- نسب إلى عمر أنه عطل حد السرقة عام الرمادة بناء على المصلحة وأنه بذلك يقدم المصلحة على النص.
21- والحق أن الأمر ليس تقديما للمصلحة على النص ولا تعطيلا لحد من حدود الله.. ولكنه بولايته العامة وجد أن شروط النص غير منطبقة إذ يوجد شبهة قوية تحول دون تطبيق الحد أو تدرؤه، وهو الذي سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ادرءوا الحدود بالشبهات ما استطعتم" وسمعه كذلك يقول: "لئن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة" وهو الذي ترجمه القانونيون المحدثون بقولهم ((إن العدالة تتأذى من إدانة برئ واحد لكنها لا تتأذى من تبرئة مائة متهم)) .
وهو الذي جاءه صاحب بستان يشكو سرقة خادمه لثمار البستان فلما حقق القضية وجد أن صاحب البستان لا يعطي خادمه ما يكفيه.. فقال له عمر لو سرقت بعد ذلك لقطعت يدك أنت..(14/427)
هذا الفقه السليم لإقامة الحدود الإسلامية هو الذي فقهه عمر فوجد أن الرمادة شبهة كبيرة تدرأ الحد.. فوجد أن شروط النص لا تنطبق..
وليس معنى ذلك تقديم المصلحة على النص.. إنما هو اجتهاد داخل النص نفسه للبحث في توافر شروط الجريمة وشروط العقوبة..
وهكذا لم يفهم البعض عمر.. ولا فقه عمر..!
4-إيقاع طلاق الثلاث بلفظ واحد طلاقا بائنا:
22- قالوا إن عمر خالف صريح القرآن في قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَان} أي دفعتان، وخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم العملية إذ كان يوقع طلاق الثلاث طلقة واحدة، فقد روى ابن عباس رضي الله عنه ((كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق ثلاث واحدة فقال عمر ابن الخطاب إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم)) [24] .
23- ويرد على ذلك بالآتي:
أ- أن هذا الحديث ضعفه كثير من من رجال الحديث [25] .
ب- أنه وردت أحاديث أخرى تفيد العكس أن عمل عمر كان هو عمل الرسول عليه الصلاة والسلام.
جـ- أنه على فرض التسليم بصحة الحديث فإنه يعني أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقعون طلقة واحدة، لكنهم في عهد عمر صاروا يوقعون الثلاث دفعة واحدة، يدل على ذلك ما جاء في آخر الحديث ((إن الناس استعجلوا أمرا كانت لهم فيه أناة)) ، أي أن الحديث يحكي الحال الذي كانوا عليه والحال الذي صاروا إليه، فهو حديث عن تغير عادة الناس وليس عن تغير الحكم في المسألة [26] .
د- الآية الكريمة {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} لا تعني ((دفعتان)) فقد ورد كذلك قول الله {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْن} وقوله {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} ولم يقل أحد إنها تعني أن الأجر والعذاب يكون على دفعات [27] .
رابعا: نظرة في المصلحة المرسلة:(14/428)
24- لعل وجه المصلحة بعد هذا العرض الطويل قد بان بغير غيش ولا تشويه، بعد أن قضت في كتب الأصول وقتا طويلا غير واضحة المعالم. ولعلها بانت تطبيقا لروح الشريعة ومقاصدها، وليس خروجا عليها أو انفلاتا منها، ولعل الشروط التي تقدمت من عدم مصادمتها للنصوص، ومن دورانها في فلك المقاصد الخمسة التي تدور حولها أحكام الشرع كلها، ومن كونها حقيقية وعامة، لعل هذه الشروط ضوابط تحرسها أن تكون مظنة الحكم بالهوى أو التشهي!
ثم لعلها بذلك تحقق المرونة داخل إطار الإسلام فنواجه بروح النصوص كل جديد لم يرد به نص ولم يمكن قياسه على نص، وتؤكد بذلك صلاحية هذه الشريعة وخلودها على مر الأيام وتجدد الحاجات والرغبات.
وهي تحقق المرونة في المجال الذي يحتاجها وهو مجال المعاملات.
أما مجال العقيدة والعبادات وما يجري مجراها فهو بعيد عن عمل المصلحة قائم على التطبيق المباشر للنصوص.
وهي بعد ذلك ليست مصدرا مستقلا للأحكام لكنها وسيلة أو أداة للاجتهاد أو الاستنباط ترد الأمر أخيرا إلى الله ورسوله.. فما تكشف عنه المصلحة هو حكم الله في الموضوع.. لأنه رد إلى نصوص الكتاب والسنة في معناها دون مبناها وفي غاياتها ومقاصدها دون عباراتها وألفاظها.
وإن أمثلة المصلحة الكثيرة [28] يمكن ردها بيسر إلى نصوص الكتاب والسنة، بدليل أن الأمثلة التي ضربوها على أنها مصادمة للنصوص وتقديم للمصلحة عليها تبين أنها تطبيق للنصوص ذاتها وليس ثمة خروج عنها!
وبعد
فهل آن للمخلصين من الفاقهين أن يعيدوا كتابة فقهنا الإسلامي وأصوله بعد أم طال عليه الأمد حتى أصاب وجهه المضيء الكثير من التشويه أو الغبار..؟
وهل آن لهم بعد ذلك أن يدخلوا مجال الاجتهاد ليقدموا للأمة الإسلامية الحلول الشرعية لمشاكلها بدلا من أن تستورد الحلول وتستورد معها الانحلال من الغرب ومن الشرق؟!(14/429)
هل آن لهم أن يقفوا وقفة ((مضرية)) في وجه الراغبين عن شريعة الله، المنفذين أو الراضين بما لم يأذن به الله..؟!
والله لو فعلوا لتغير وجه الأرض، ولتغير وجه التاريخ {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.. والحمد لله رب العالمين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] يذكرها البعض في بحوث ((أدلة الأحكام الشرعية)) ويتناولها آخرون تحت عنوان مصادر الأحكام الشرعية. ويظنها كثيرون خروجا عن الكتاب والسنة.. وسوف نرى بمشيئة الله كيف يمكن بيسر ردها إلى الكتاب والسنة.
[2] المستصفى للغزالي ج 1، ص 283، رسالة دكتوراه للأخ الدكتور محمد سعيد البوطي، 1385هـ-1965م صفحات 78 وما بعدها ص 181، 185-187.
[3] دفع الحرج غالبا يكون تحقيقا لحاجة لكنه قد يكون ضروريا إذا تعارضت مصلحة شخصية مؤكدة مع محرم لغيره لا محرم لذاته، ذلك أن المحرم لذاته لا يباح إلا لضرورة كأكل الميتة ولحم الخنزير وأكل مال الغير أما المحرم لغيره فهو يباح للحاجة ولا يشترط الضرورة، فرؤية عورة المرأة محرم لغيره لا محرم لذاته إذا هو محرم لما قد يفضي إليه من زنى.. لذلك أجيز للطبيب رؤية عورة المرأة لحاجة المرض.
((موسوعة الفقه الإسلامي –جمعية الدراسات الإسلامية، إشراف الشيخ أبو زهرة ص 50، 51)) .
[4] من العبارات الجارية ((إذا وجدت المصلحة فثم شرع الله)) وهذه إن تركت بغير قيود كانت خطأ إذ ليس كل مصلحة –أيا كانت- تحقق شرع الله، ولكن إن فهمت مع قيودها وضابطها كانت صحيحة على النحو الذي سنشير إليه –راجع عز الدين بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام ج 1 ص 4.(14/430)
[5] مثلها ما شرعه الله من إفطار المسافر والمريض فقد أردف ذلك بقوله {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وما شرعه الله من قصاص لتحقيق حياة رافهة بالحق والعدل فاكهة بالأمن والطمأنينة {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} .
[6] ومثلها ما قد يظنه البعض مصلحة، لكن الشارع الحكيم نهى عنه.. مثل الربا والزنى وشرب الخمر.
[7] راجع أمثلة كثيرة للإمام الشاطبي في الاعتصام ج 2 ص 287-3040 وراجع قبلها حديثه عن المصلحة أو الاستدلال المرسل ص 283-287.
[8] الاجتهاد بالرأي للمرحوم الشيخ عبد الوهاب خلاف ص 82، سلم الوصول لعلم الأصول للشيخ عمر عبد الله ص 311، 312.
[9] انفرد نجم الدين الطوفي دون سائر الحنابلة بهذا الرأي، وقد نقل ابن رجب في طبقاته (ج 2 ص 366، 367) وابن عماد في شذرات الذهب (ج 6 ص 239) أن نجم الدين الطوفي انحرف إلى التشيع ثم الرفض، وقد حاول الدكتور مصطفى زيد في رسالته الدفاع عنه، وعلق على ذلك الإمام محمد أبو زهرة.. فإن النصوص التي نقلها مستشهدا بها لنفي التشيع تطوي في ثناياها دليل إثباته، وكل نص ساقه دليل للنفي هو في مغزاه ومرماه وباعثه دليل الإثبات (المصلحة ونجم الدين الطوفي ص 9) وينقل الدكتور معروف الدواليبي أن الشيعة نفسهم يتبرأون من نجم الدين الطوفي فقد قال عنه الشيخ عبد الحسين شرف الدين شيخ علماء جبل عامل وإمامهم: ((وسليمان الطوفي من الغلاة الذين مازالت خصومنا تحملنا أوزارهم)) (علم أصول الفقه للدواليبي 215، 216) ولا يفوتنا بعد ذلك الإشارة إلى ما ذكره بعض المؤرخين من أنه تاب عن الرفض والتشيع (البوطي ص 143، ومع ذلك فإنه يتحمل أمام الله والتاريخ مسؤولية تلك الفتنة التي أثارها والتي مازال صداها يجلجل به أعداء الإسلام.(14/431)
[10] ،3 الدكتور مصطفى زيد، ومن رأي الطوفي بعض المحدثين الذين سنشير إليهم فيما بعد إن شاء الله.
[11]
[12] محمد أبو زهرة، أصول الفقه ص 274، المرحوم عبد الوهاب خلاف في علم أصول الفقه ص 233، 234، الدواليبي ص 215.
[13] البوطي ص 133، 134، 247.
[14] وهم القاضي أبو بكر الباقلاني والأمدي من الشافعية وبعض الظاهرية، وليس صحيح أن الغزالي منهم (البوطي 295، 203، الاعتصام للشاطبي ج 2، ص 282) .
[15] الشيخ محمد زكريا –أصول الفقه ص 239، الدكتور عبد الحميد متولي- مبادئ نظام الحكم في الإسلام ص 122 ومن نقلوا عنهم.
[16] الرسالة للشافعي 515، عبد الوهاب خلاف –ص 83، 516، الاجتهاد في الرأي للمرحوم عبد الوهاب خلاف ص 83.. سلم الوصول إلى علم الأصول للشيخ عمر عبد الله ص 315- وراجع ذلك ابن حجر في فتح المبين لشرح الأربعين ص 94 ط، الزنجاني في تخريج الفروع على الأصول ص 169-171.
[17] الغزالي في كتابه المنخول –مخطوط- ورقو 131-133 (تحت رقم 188 بدار الكتب المصرية) .
[18] في هذا المعنى يقول الأستاذ أبو زهرة.. المصلحة من جنس المصالح التي أقرها الإسلام فهي رجوع إلى عموم المقاصد التي أخذت من النصوص (تاريخ المذاهب الفقهية –ج 2 ص 400) .
[19] المستصفى للغزالي ج 1 ص 141 وشروطه أن تكون ضرورية، وقطعية، وكلية، والشرطان الأخران هما اللذان أشرنا إليهما من فبل ((أن تكون حقيقية وعامة)) أما الشرط الأول فقد أولناه في المتن.
[20] جمع الجوامع وحاشية البناني عليه ج 2 ص 284، وشفاء الغليل ص 188 وفي هذا المرجع أشار الغزالي إلى الأخذ بالمصالح في دائرة الحاجيات، وفي المنخول –ورقة 135- أطلق الأمر دون شروط - راجع الدكتور البوطي المرجع السابق- الإمام الشاطبي في الاعتصام ج 2 ص 282، 283.(14/432)
[21] ،2 -الدكتور البوطي- المرجع السابق والأستاذ أبو زهرة أصول الفقه ص 272، والأستاذ عبد الوهاب خلاف في الاجتهاد بالرأي ص 94.
[22]
[23] راجع الدكتور مصطفى زيد في رسالته: المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي –الطبعة الثانية 1384هـ -1964م، ص 31 فقرة 21- الأستاذ علي حسب الله، أصول التشريع الإسلامي ص 156 الدكتور عبد الحميد متولي مبادئ نظام الحكم في الإسلام ص 126. ولقد كان البعض الآخر أكثر اعتدالا إذ قال أن الصحابة قدموا المصلحة على القياس (الدكتور محمد يوسف موسى: في التشريع الإسلامي وأثره في الفقه الغربي ص 25) ولئن كان من الصحابة هذا اللون من التقديم فهو صح استحسانا إذ الاستحسان عدول عن قياس جلي إلى قياس خفي، والمصلحة ضرب من القياس ((قياس المعنى)) وهي بالنسبة لقياس اللفظ تغدوا قياسا خفيا- والله أعلم.
[24] رواه مسلم.
[25] في مقدمتهم ابن عبد البر الذي أنكر رواية طاووس –وفي تفسير القرطبي ج 3 ص 128 حديث عن ابن عباس رضي الله عنهما فيمن طلق زوجته ثلاثا أنه قد عصى ربه وبانت منه امرأته.
[26] الأستاذ محمد الرفزاف، دروس لقسم الدكتوراه بكلية الحقوق جامعة القاهرة، العام الدراسي 1960.
[27] القرطبي ج 3 ص 128_130.
[28] من الأمثلة على ذلك:
ما حدث على عهد أبي بكر الصديق من جمعه القرآن، وقتاله المرتدين، واستخلافه عمر بن الخطاب.
_ أما جمعه للقرآن فرد المصلحة فيه إلى النصوص أمر يسير(14/433)
فهو تحقيق لوعد الله {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، وهو قياس على عمل قام به النبي صلى الله عليه وسلم وهو أمره بكتابة القرآن فهو لون من الحفظ والجمع لون آخر، والمصلحة بعد ذلك تحقق المقصد الأول من المقاصد الخمسة وهو حفظ الدين- أما قتال المرتدين.. ففيه نصوص من الكتاب والسنة {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فقد جعل شرطين آخرين بعد التوبة للكف عن القتال وهما إقام الصلاة وإيتاء الزكاة فإن تخلفت إحدهما وجب القتال ومن الحديث قول الرسول عليه الصلاة والسلام "من بدل دينه فاقتلوه" ومنع الزكاة جحودا تبديل للدين وقول الرسول عليه الصلاة والسلام "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" فقد جاء في نهايته إلا بحقه.. والزكاة من حقه –أما الاستخلاف.. فهو محض عمل سياسي شبيه بما يسمى هذه الأيام ((الترشيح)) وهو من قبيل الأعمال التنفيذية الداخلية فيما سكت عنه الشرع رحمة بنا غير نسيان.(14/434)
الأدلة والبراهين على حرمة التدخين
فضيلة الشيخ إبراهيم محمد سرسيق
المدرس بكلية الحديث والدراسات الإسلامية
لقد أجمع من يعتد برأيهم من علماء الإسلام: أن التدخين وباء لا يقبل عليه العقلاء، واستندوا في تحريمه إلى عدد من النصوص الصريحة، التي تشير بأوضح بيان إلى حرمة التدخين وخطره على الإنسان، لما يسببه من الأضرار في النفس وفي المال، وهما من الجواهر الخمس التي تجب حمايتها على كل مسلم.
أليس التدخين من الخبائث التي يجب أن تتنزه عنها أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهي خير أمة أخرجت للناس؟
إننا سنورد هنا من أقوال المختصين ما يوضح طبيعة التدخين الخبيثة، بحيث تنقطع كل شبهة في تحريمه على كل نفس مسلمة تخشى الله وترهب عقابه.
ولنمض الآن في توضيح الأصول الأولى –التي تنبني عليها الحرمة بالأدلة الشرعية، ليعلم كل مدخن أنه إنما يعصى الله تعالى بكل لفافة تبغ ينفث دخانها بالهواء، في نشوة وخيلاء.
أولا: إضاعة الصحة:
لا يماري أحد من العقلاء في أن الصحة نعمة الله تعالى على عباده وأن الواجب شرعا: المحافظة عليها من أي أذى. ولهذا شرع الله التداوي من الأمراض والأوبئة. قال صلى الله عليه وسلم: "تداووا عباد الله، فإن الله تعالى لم يضع داءً إلا وضع له دواءً، غير داء واحد: الهرم" [1] .
ومن عجب: أن يرى الإنسان كيف تضيع صحته وعافيته –بينما هو مستمر في العكوف على هذا السم الزعاف: يحرق أصابعه، ويسل مدامعه ويبدد رحيق الحياة في جسمه، ويفسد عناصر الحيوية والوقاية في دمه، وقد حاء في الخبر:
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:
"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر" [2] . ويقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله:(14/435)
(فلما علم بالضرورة والتجربة والمشاهدة ما يترتب على شاربه غالبا من الضرر في صحته وعقله، وقد شوهد موت وإغماء وغش، وأمراض عسرة كالسعال المؤدي إلى مرض السل الرئوي ومرض القلب، والموت بالسكتة القلبية، وتقلص الأوعية الدموية بالأطراف، وغير ذلك مما يحصل به القطع العقلي: أن تعاطيه حرام.
فإن العقل الصريح –كما يقضي ولابد بتعاطي أسباب الصحة والحصول على المنافع- كذلك يقضي حتما بالامتناع عن أسباب المضار والمهالك والمبالغة في مباعدتها، لا لا يرتبا في ذلك ذو لب ألبتة) [3] 1هـ.
ولبيان أهمية هذا العامل في التحريم القاطع –سوف نعود إليه بشهادات من الأطباء المختصصين، ليعلم عشاق الموت البطيء: أننا لا نخيفهم بأكثر مما يخيفون به أنفسهم بالفعل- لا بالكلام!
ثانيا: إتلاف المال:
وإتلاف المال بسبب التدخين عملية خطيرة ذات شقين: أولهما: خطر التدخين على المال الشخصي أو الفردي وثانيهما: خطر التدخين على الاقتصاد القومي.
وبالنسبة للخطر الأول يعتبر التدخين ثغرة مفتوحة تتسرب فيها أموال طائلة ينفقها المرء يوميا بغير حساب، وينفقها في المقام الأول لإضعاف بدنه وإفساد صحته، فيدخل في عداد السفهاء الذين يجب فرض الحجر عليهم ومنعهم من حرية التصرف الفاسد بأموالهم، ثم إنه يحظى بصحبة شريرة وصداقة سخيفة مع نوع من أرذل مخلوقات الله وهم الشياطين: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [4] وهذه الأخوة الشيطانية خليقة أن تجعل كل مدخن يستحي من ربه، ولا يستمرئ هذه الهواية التي هي عين الغواية، وأن يتوقف منذ اللحظة عن تعاطي هذه اللفائف التي هي أبوا ب الفساد والإتلاف. إذ لا شك أن المدخن يبتاع بماله ما يدخل الفتور والإضعاف على بدنه، فيجمع بين ضررين في وقت واحد! وإذا كان الإسراف في حد ذاته محرما، فكيف بمن يجعل الإسراف مدعاة للإتلاف والإضعاف؟(14/436)
علم الله إنه للجنون بعينه: أن ينساق المدخنون إلى حتفهم بظلفهم، وأن يسعوا بأنفسهم لشراء المنية بأموالهم! ورد في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنعا وهات.. وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال، وإضاعة المال".
فلو لم يكن التدخين محرما لما فيه من كثرة الإسراف، فإنه لمحرم أشد التحريم لما فيه من الانتحار البطيء الذي يستنزف طاقة المدخن وعافيته حتى لا يكف عن السعال والهزال.
خطر التدخين على الاقتصاد القومي
ورد في (أمور بديهية عن التدخين: common sense about smoking 1963) أن الباحثين توصلوا إلى أن الشخص الذي يبتدئ حياته التدخينية في حوالي السابعة عشر من عمره –ينفق في بريطانيا وحدها ما يقرب من (أربعة آلاف جنيه إسترليني) على التدخين. أي ما يعادل (ثلاثين ألف ريال تقريبا) على السيجارة وحدها. ومن المؤكد أن هذه المبالغ قد تضاعفت بسبب ارتفاع الأسعار.
ويؤخذ من تقرير لجنة المستشارين لوزارة الصحة الأمريكية: أن المدخنين كانوا سببا في إشعال نيران الحرائق بنسبة أكثر من غيرهم، لأن كثيرا من المدخنين تطيش عقولهم فيذهلون عن عقب السيجارة..وقد يدهمهم النوم وهو مازال بين أصابعهم فيتسببون في إشعال النار في فراشهم، وبيوتهم يكونون هم أول الضحايا..!
وكم من فنادق صارت أنقاضا، ومنشآت أصبحت رمادا، ومؤسسات انصهرت واحترقت فيها مئات الأجساد بسبب غفلة من مدخن، أوقعه سوء عمله في إهلاك نفسه وإهلاك من معه!!
وقد أعلنت إحدى شركات التأمين: أن ثلاثين بالمائة من الحرائق التي توصل التحقيق فيها إلى معرفة الفاعل الأصلي –ثبت أن مرتكبيها هم مدمنوا التدخين.. فبالله اسمع وتعجب!! ألم ترى إلى كثير من المدخنين وقد اخترقت شرارة النار أثوابهم، وأحرقت السيجارة جلودهم أوسودت أصابعهم؟ ما أغناهم لو أنصفوا- عن كل هذا الجحيم!!(14/437)
ثالثا: الرائحة المنتنة:
أخبروني أيها السادة، من منكم يستطيع أن يقترب من فم أحد المدخنين لمدة تزيد عن دقيقة؟ من منكم يطيق أن يدنوا من مدخن برائحة فمه المنتنة، التي سببتها ألوان التبغ الكثيرة فأصبح أسود الأسنان كريه العثنون، قبيح النفس –بفتح الفاء- صعود وهبوطا، كثير الشهيق والزفير كأنما حط من عبء كبير؟ كم من صف في الصلاة اضطرب حبله بسبب رائحة خبيثة انطلقت من فم مدخن فأصابت الجميع بالتقزز والاشمئزاز، وكانت سببا في إلحاق الأذى والضر بعباد الله دون ذنب جنوه إلا مجاورة هذه المدخنة المحترقة!!
روى الطبراني في الأوسط عن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من آذى مسلما فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله" إسناده حسن وقد ورد في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه "إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الناس". ومعلوم أن الإسلام يرعى حرمة المجتمعات الإسلامية ويوصى بحسن التأدب لها وضرورة الالتزام الخلقي وعدم إلحاق الضرر بأهلها لاسيما تجمعات العبادة وأماكن الصلاة ما دام الدافع إلى ارتيادها طاعة الله والرغبة في الخير والثواب وإبراز وحدة المسلمين. وقد أخرج الشيخان في صحيحيهما عن جابر مرفوعا "من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، وليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته".(14/438)
ولا شك أن رائحة الثوم والبصل أخف وطأة من رائحة التدخين المنتنة –لأن رائحة الثوم والبصل مؤقتة وليست دائمة، فهي تزول بتطهير الفم منها، ثم هي رائحة طعامين مباحين من أطعمة الله، وفي السنن: أنه صلى الله عليه وسلم "أمر آكل البصل والثوم أن يميتهما طبخا". وقد أهدى إليه صلوات الله عليه طعام فيه ثوم، فأرسل به إلى أبي أيوب الأنصاري، فقال: يا رسول الله، تكرهه وترسل به إلي؟ فقال: "إني أناجي من لا تناجي" [5] وقد ذكر ابن القيم من فوائد البصل أنه يقوي المعدة، ويهيج الباءة، ويزيد في المني ويقطع البلغم، ويجلو المعدة- كما ذكر من فوائد الثوم: أنه هاضم للطعام، قاطع للعطش، مطلق للبطن، مدر للبول، يقوم في لسع الهوام وجميع الأورام مقام الترياق [6] . أما التدخين، فما فوائده {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .!
فالأفضل لكل مدخن أن يراقب الله في نفسه وفي معاشريه، وليعلم علم اليقين أنه يسبب غاية النفور لمن حوله من المرافقين والجلاس بما يحمل من قبح الرائحة ونتن الأنفاس، وحتى وإن أخفوا عنه حقيقة شعورهم نحوه، خوفا منه أو تأدبا معه. ولكن: هل يقلب التأدب الحق باطلا؟ أو الكراهية حبا؟ والسؤال بعبارة أخرى أكثر صراحة هو.. هل يعلم المدخن المفرط في التدخين حقيقة شعور زوجته نحوه؟ هل استطاع أن يدرك أهي قادرة على تحمل رائحة فمه أو هي تغالب نفسها في ذلك، وهل استطاع أن ينظف فمه قبل نومه أو تركه ينفث الخبائث والنتن في أرجاء المكان من حوله؟
تدبر ذلك يا أخي ثم تأمل كيف كان الصادق المصدوق صلوات الله عليه يدعو ربه فيقول "اللهم كما حسنت خلْقي فحسن خلُقي" ويقول "اللهم جنبني منكرات الأخلاق، والأعمال، والأهواء، والأدواء". أخرجه الترمذي وصححه الحاكم واللفظ له. فصلوات الله وسلامه على من كان المثل الكامل للإنسانية الفاضلة.
رابعا: تخدير الجسم بمادة ((النيكوتين))(14/439)
قبل كل شيء دعوني هنا أعلن معارضتي المطلقة لمن يدعون أن التدخين غير مفتر، وغير مخدر. لأن وقائع الأحوال كلها تؤكد أن الإدمان يبلغ بالمدخن حدا يفقد معه السيطرة على أعصابه تماما، ويبلغ هذا الحد أقصاه عندما يفقد المدخن علبة السجائر مثلا، فتراه هائجا كالمجنون يذرع الطرقات هائما على وجهه بحثا عن هذه المادة المخدرة.. التي تريح أعصابه بعد أن سرى السم إليها وأصبح عادة لها.
وفي الحقيقية فإن الحقائق العلمية المعروفة عن هذه المادة مخيفة تماما، ونحن بدورنا نقدمها هدية إلى المدخنين، ليعرفوا في أي طريق من طريق الشر يسيرون.
لم تكتشف هذه المادة إلا عام 1828م اكتشفها عالمان ألمانيان هما: بوسلت Bosslet ورايمان Reimau وأطلقا على هذه المادة اسم نيكوتين Nicotin نسبة إلى رجل يدعى ((جان نيكوت Jean Nicot)) – (وكان سفيرا لفرنسا في البرتغال، وقد زرع هذه المادة في حديقة منزله مستهدفا تزيينها بأوراق التبغ الجميلة وأزهاره الجذابة) . وفجأة طارت الشائعات ببعض الفوائد الطبية لهذا النبات وسرعان ما فشا وانتشر في أوربا كلها. وكانت تلك هي البداية الخطيرة.. بعدها أصبح التبغ مبسما في كل فم، وذخيرة حية في كل جيب.
النيكوتين هو المادة الفعالة المؤثرة في التبغ. وهو مادة سامة قاتلة، ويكفي منها خمسون ملليجراما للقضاء على أي إنسان في عدة ثوان. فإذا عرفت أن نسبة ما يوجد منها في السيجارة العادية حوالي خمسة ملليجرامات أدركت الموت البطيء الذي يتعرض له مدمن السيجارة والعياذ بالله.
وقد أورد بعض الباحثين دليلا على شدة امتصاص الجلد المخاطي لسم النيكوتين: ((أنه لو وضع عدد من نقط النيكوتين على لسان إنسان، لكان ذلك كافيا لقتله في عدة ثوان. فكيف بمن يصل النيكوتين إلى أمعائه، ويتوزع على سائر أجزاء جسمه الداخلية وأعضائه؟)) ..(14/440)
ومع أن كل جرام من التبغ –يحتوي على عشرين ملليجراما من النيكوتين فإن كمية النيكوتين ترتفع في ثلث السيجارة الأخير إلى 40% وهي المنطقة المسماة (منطقة التكاثف: kondensation) أما في ((عقب السيجارة)) فتقفز هذه النسبة إلى 60%.
ويتزايد الأمر خطورة عند عملية التدخين نفسها، فإن جرام التبغ المتوهج يا عزيزي المدخن، يبعث إلى فمك ما يصل إلى 7 ميللجرامات من تلك المادة السامة ((النيكوتين)) . هذا بخلاف السموم الأخرى، التي تؤدي إلى الشعور بحرارة في المعدة، وجفاف في الحلق وإحساس بصعوبة النفس، وفقدان الوعي الناتج عن تسارع النبض وهياج الأعصاب وزيغ البصر والسمع.
ولا شك أن هذه المادة بما تحويه من عناصر مخدرة ومفترة- هي ما يحملنا على الجزم بأن التدخين مخدر، بل هو من أشد المخدرات فتكا بالإنسان، ولا يتطلب في ذلك سوى يد تمتد إلى صندوق لتخرج منه أنبوبة السم الفتاك، وتظل تتراقص بين شفتيه وهو هائم بها مفتون، حتى يؤول به الأمر إلى أن يسقط في النهاية مصروعا، وقد سرى في سائر جسده سم الأفعى.
يقول الشيخ محمد ابن إبراهيم رحمه الله (ولذلك يتركه كثيرا من الناس خوفا من ضرره وكراهية لرائحته، وقد يعلقون طلاق نسائهم على العودة إليه، يريدون بذلك تركه نهائيا، فإذا حمل إليهم وقت الحاجة لم يستطيعوا الإعراض عنه أبدا، بل يقبلون عليه بكلياتهم كل الإقبال ولو طلقت نساؤهم فله سلطان عظيم على عاشقيه وتأثير على العقل، وذلك أن شاربه يفزع إلى شربه إذا نزل به مكدر فيتسلى، ويذهل العقل بعض الذهول) ا. هـ.
ويقول الشيخ رحمه الله في شرح طريقة عمل النيكوتين في إفساد الجسم:(14/441)
(وقد أثبت الأطباء له مضار عظيمة وقالوا إنها تكمن في الجسم أولا ثم تظهر فيه تدريجيا، وذكروا أن الدخان الذي يتصاعد عن أوراق التبغ المحترقة يحتوي على كمية وافرة من المادة السامة –هي النيكوتين- فإذا دخل الفم والرئتين أثر فيهما تأثيرا موضعيا وعموميا، لأنه عند دخوله الفم تأثر المادة الحريفة السامة التي هي فيه- في الغشاء المخاطي، فيهيجه تهييجا قويا، وتسيل منه كمية زائدة من اللعاب، وتغير تركيبه الكيماوي بعض التغيير بحيث يقل فعله في هضم الطعام، وكذلك تفعل في مفرز المعدة كما فعلت في مفرز الفم- فيحصل حينئذ عسر الهضم.
وعند وصول الدخان إلى الرئتين عن طريق الحنجرة تؤثر فيهما المادة الحريفة فتزيد مفرزهما، وتحدث فيهما التهابا قويا مزمنا.. فيتهيج السعال حينئذ لإخراج ذلك المفرز الغزير الذي هو البلغم- ويتسبب عن ذلك: تعطل الشرايين الصدرية، وعروض أمراض صدرية يتعذر البرء منها، وما يجتمع على باطن القصبة من آثار التدخين الكريهة الرائحة يجتمع مثله على القلب: فيضغط على فتحاته ويصد عنه الهواء فيحصل حينئذ عسر التنفس، وتضعف المعدة، ويقل هضم الطعام، ويحصل عند المباشر له الذي لم يعتد دوار وغثيان وقيء وصداع، وارتخاء للعضلات ووهي للأعصاب ثم سبات.. وهي كناية عن حالة التخدير الذي هو من لوازم التبغ المتفق عليه- وذلك لما يحويه من المادة السامة) ا. هـ.
إن الخطورة الكبرى لحالة التخدير التي يسببها التبغ –ليست في كونه مغيبا لعقل شاربه فقط، بل في كونه مهيئا له إتيان المنكر بشتى أنواعه. نعم، فإن من الحقائق المعروفة في علم النفس الجنائي: أن الجاني يتغلب على تردده في ارتكاب الجريمة بتعاطي بعض المخدرات، وحين يفقد وعيه ويضيع توازنه -يصبح قادرا بغير شعور على ارتكاب المحظور! وكم من وقائع وصل فيها المجرم إلى مرحلة الهياج- وكان التحكم في المخدر وسيلة ناجحة لإذلاله وتحطيم معنوياته.(14/442)
ولعل القرآن الكريم يشير إلى ذلك –والله أعلم بمراده- في قوله سبحانه {فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} وهو أحد الرأيين في تفسير جزء الآية. يقول الشوكاني رحمه الله: أي تناول الناقة بالعقر فعقرها أو اجترأ على تعاطي أسباب العقر فعقر. 1هـ وهذا الرأي الثاني أقرب والله أعلم إلى نظم الآية، لأن من المعلوم لدى البلاغيين: أنه قد يقصد تعلق الفعل بمفعول غير مذكور، ولابد من تقديره، إن عاما فعام وإن خاصا فخاص. ومثاله قوله تعالى {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} أي يدعو كل مكلف. وقوله سبحانه {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِه} أي أحدا- ولما كانت أسباب العقر ومقدماته والعوامل المساعدة عليه كثيرة، ناسب أن يحذف المفعول لقصد التعميم مع الاختصار، ويستأنس لهذا الاتجاه في معنى الآية بأن التعاطي هو تناول الشيء بتكلف، والتكلف للشيء هو الاستعداد له ولأخذ بأسبابه مع مجاهدة ومكابدة. وهذا أيضا تصوير لواقع وطبيعة المدمن الذي نفسه ضد طبيعتها الأصلية، ويروضها بوسائل الإفتار والإسكار لتقوم بما ليس من شيمتها أن تقوم به، ومن ثم يأتي المجرم في عاقبة أمره أن يتعرف بما صدر عنه في حالة فقدان الوعي. ولله في خلقه شئون.
خامسا: تعريض الجسم للتهلكة بسرطان الرئة:
لم يعد هناك أدنى شك في أن للتدخين سبب قوي من أسباب الإصابة بسرطان الرئة. هذه نتيجة علمية أسفرت عنها بحوث الهيئات الطبية المتخصصة في جميع أنحاء العالم. وكانت إشارة الخطر الأولى المنذرة بوجود علاقة أكيدة بين السرطان وبين الفحم ومشتقاته –هي شيوع ((سرطان الصفن)) بين كثير من منظفي المناجم، الأمر الذي لفت انتباه السير ((بير سفال بوث)) عام 1775م. وأعقبت ذلك ظاهرة مشابهة لدى عمال المناجم في ساكسونية: حيث فشت الإصابات فيهم نتيجة التأثير نفسه مما جعل الأطباء يهتمون بدراسة المرض ومعرفة أسبابه المباشرة.(14/443)
وهناك حقيقة مؤسفة بهذا الصدد: وهي أن السرطان الرئوي داء خبيث، لا يتم اكتشافه في العادة إلا بعد أن تتضح آثاره خارج الرئة نفسها، مما يجعل أربعة من كل خمسة أشخاص يصابون به لا يمكن تداركهم في الوقت المناسب فيواجهون القضاء المحتوم ولهذا السبب أعلن مجلس الأبحاث الطبية في بريطانيا عام 1957م ((أن التفسير الوحيد المقبول لازدياد الوفيات بحوادث سرطان الرئة لدى الرجال في الخمس والعشرين سنة الأخيرة هو أن الازدياد ناتج في غالبيته عن التدخين، لاسيما التدخين الشديد؛ (أكثر من عشرين سيجارة يوميا) .
وفي الدراسة المشار إليها آنفا:
Common sense about smoking إحصائية تقول: إن عدد الموتى في سنة واحد -مصابين بسرطان الرئة- هم ثلاثة وعشرون ألفا عام 1962م.
وأنه قد مات في بريطانيا حتى عام 1963م أكثر من (ربع مليون شخص) بسبب التدخين. وكل شيء بقضاء الله وقدره.
وجدير بالذكر هنا: أن جمعيات السرطان التي تكافح هذا الوباء في كل مكان –تؤكد للعالم كله، أنها لا تنطلق في نشاطها المعادي للتدخين من دافع ديني أو اجتماعي أو أخلاقي، وأنها إنما تنبعث من دافع واحد فقط:
وهو خطر التدخين على الناحية الصحية
ذلك الخطر الذي يشتد ويتزايد مع بلع الدخان، أو الإصرار على إخراجه من الأنف، أو التدخين قبل تناول الطعام مطلقا، أو التدخين في الغرف المغلقة بصفة عامة وغرف النوم بصفة خاصة.
وحيث قد تأكدت علاقة التدخين بالسرطان الرئوي، فلم يعد ثمة مجال للقول بغير التحريم المطلق للتدخين بحكم كونه مفضيا إلى التهلكة المنهي عن الوقوع فيها بالنص القرآني {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} .(14/444)
وبقوله سبحانه {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} .وقد أجمع على ذلك الأطباء المهرة من العدول وغيرهم، الذين ثبت لهم من البحوث التجريبية والمعملية بما لا يدع مجالا للشك أن التدخين خطر على الحياة نفسها، مما يدخله مدخل الانتحار المحرم.
لماذا يشيع التدخين بين الشباب؟
لا أظن أن الآباء وكبار الأولياء قد جنوا على النشء البريء جناية أفدح ضررا ولا أعظم خطرا ولا أسوأ أثرا من تلقينهم الدروس الأولى في التدخين، وذلك منذ أرسلوهم ليبتاعوا لهم علب السجائر أول مرة، ثم استمرءوا بعد ذلك إشعالها وتدخينها على مرأى ومسمع أبنائهم الصغار، الذين تحتل غريزة المحاكاة مكانا أساسيا في طباعهم:
على ما كان عوده أبوه
وينشأ ناشئ الفتيان منا
وقد نشرت مجلة النيوزويك الأمريكية تحقيقا بتاريخ 8/4/1968م أثبتت فيه أن أهم سبب يدعو الشبان إلى التدخين هو ((تقليدهم لأفراد الأسرة)) وخصوصا الأب، والأخ الأكبر. وأن نسبة هؤلاء الشبان هي ضعف نسبة الأولاد الآخرين.. من آباء غير مدخنين.
وجاء أيضا في تقرير موجز للكلية الملكية للأطباء في بريطانيا عن التدخين والصحة Smoking and health أنه قد ثبت علميا، من الدراسات التي أجريت، أن نسبة الوفيات بين من بدءوا التدخين قبل سن العشرين أكبر مما هي عليه بين الذين بدءوا التدخين بعد سن العشرين.
((أثر التدخين في التخلف الدراسي))
هناك إحصائية علمية قام بها عدد من الباحثين أبرزت نتيجتين هامتين:
أولاهما: وجود علاقة قوية بين التدخين، وبين حدوث التخلف الدراسي لدى الطلاب المدخنين ((والمقصود بالتخلف الدراسي: انخفاض نسبة التحصيل دون المتوسط العام بانحرافين معياريين سالبين، حيث نسبة التحصيل = العمر التحصيلي × 100 [7] .
العمر الزمني(14/445)
وثانيتهما: امتياز غير المدخنين في الألعاب الرياضية والمجالات المهنية على المدخنين، نتيجة لانخفاض طاقة القوة في عضلات المدخنين بنسبة تتراوح ما بين 15% و32% عن زملائهم، مما يؤثر في قوة تحملهم وصلابة عضلاتهم أما في المواد العلمية فقد وجد الباحثون أن درجات غير المدخنين تعلوا بنسبة تصل إلى 21% عن درجات زملائهم المساكين من ضحايا التدخين. ولم يكن ذلك راجع إلى مزيد من الاجتهاد لدى الممتنعين عن التدخين، ولكنه راجع في الحقيقة إلى الهمود العقلي والتفكك الذهني لدى أولئك الضحايا، حيث يعيشون جل أوقاتهم في تشتت فكري، وضياع للأفكار، وعدم القدرة على التركيز، وضعف في الذاكرة، واضطراب في الفهم.
وفي كتيب نشرته ((الجمعية الأمريكية للسرطان)) -عرضت قصة طفل كانت أمه تدخن، ومنها تعلم تدخين السيجارة الأولى، فلما قام بزيارة لأحد معارض الجمعية وشاهد الأخطار المفزعة التي يتعرض لها المدخنون- تأكد لو أنه استمر المقطوع الحالي للسجائر في البلاد على ما هو عليه- فإن ((مليون شخص من اليافعين)) الذين مازالوا حتى اليوم على مقاعد الدرس، سوف يموتون من سرطان الرئة!
كيف توقف التدخين؟
1- ليس ثمة ما يضمن نجاحك في إيقاف التدخين بعد اعتمادك على الله تعالى، واستمدادك العون منه وحده- سوى عزيمتك القوية، وإرادتك الصارمة، مثل الغريق الذي يجد من حوله أمواجا كالجبال، فيضرب البحر بذراعه المفتولة وصدره العريض حتى يجد نفسه على شاطئ النجاة: فقد خسر القليل من الجهد، وكسب أعظم الأشياء وأثمنها: وهو النجاة من الموت غرقا. وبدون هذه الإرادة الشخصية وحدها، لن تفيدك عشرات النصائح، ولا مئات الإحصائيات عن عدد الضحايا.(14/446)
إنك لم تعد مجرد إنسان مدخن، بل صرت عبدا خاضعا لشر العادات، عادة التدخين التي تفتك بكل شيء، وأهم شيء: وهو قوة العزيمة. ونقطة البدء في صراعك مع التدخين، هي أن تستنقذ هذه الإرادة المسلوبة من براثن الداء، وبعدها يسهل عليك كل شيء بإرادة الله.
2- لا تنس أبدا أن التدخين مجرد عادة يمكنك أن تستبدل بها غيرها، بتغيير المكان، أو الغياب عن العصبة المدخنة، أو تغيير المناخ والقيام ببعض الجولات والرحلات، والتسلي بهوايات جديدة مفيدة يغلب عليها الطابع الحركي الذي لا يترك للسيجارة مكانا بين إصبعيك، ولا فرجة بين شفتيك. وعندئذ تصبح السيجارة مجرد ذكرى كئيبة تطردها الأيام والأعمال عن مخيلتك.
3- سوف تجد من شياطين الإنس من يقول لك: إن الإقلاع عن التدخين مسألة أعقد من ذنب الضب، بل هو من المستحيلات! فإن لقيت مثل هذا فاعلم أنه الصديق الجهول، الذي خير منه العدول العاقل. وضع نصب عينيك أن الكف عن التدخين إنما هو طاعة لله تعالى قبل أن يكون شيئا آخر.
وفي ذلك يقول الشيخ عبد الله بن الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله (فلا ينبغي لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلتفت إلى قول أحد من الناس إذا تبين له كلام الله وكلام رسوله في مسألة من المسائل، وذلك لأن الشهادة (بأنه رسول الله) تقتضي طاعته فيما أمر، والانتهاء عما عنه نهى وزجر، وتصديقه فيما أخبر) ا. هـ. وقد أفتى الشيخ خالد بن أحمد من فقهاء المالكية بأنه لا تجوز إمامة من يشرب التنباك، ولا يجوز الاتجار به، ولا بما يسكر ا. هـ.
وبذلك يستقر في الذهن أن التدخين محرم، والإصرار عليه كبيرة، حيث من المقرر لدى أهل العلم أن الصغيرة تعطى حكم الكبيرة بالإصرار عليها، أو التفاخر بها، أو بوقوعها من ذوي الولايات الدينية ومن يقتدى بهم ويحتج بفعلهم أو قولهم أو سكوتهم من العلماء والقضاة والأئمة وأهل الفتوى.(14/447)
4- إذا لم تقلع عن التدخين من الآن فلسوف يجبرك الأطباء غدا على إيقافه، وعلى إيقاف تناول مجموعة أخرى معه من أحب الأطعمة والأشربة إلى نفسك، بعد أن يكون الخطر قد زاد، والضرر قد استشرى:! فهل فكرت حين يتقدم بك العمر وقد تسارعت ضربات قلبك، وانسدت أوعية دمك، وارتفع معدل ضغطك، وأصابك الهزال والضعف والصداع والرعشة؟ هل فكرت وأنت تهرب من رائحة الأخشاب والأعشاب المحترقة- أنك تسمح لدخان هذه الأعشاب والأوشاب أن يسري في دمك، ويتسلل إلى رئتيك..؟
5- قبل أن تمد يدك إلى السيجارة في الصباح وقبل الإفطار، تناول كأسا من الليمون المر، فهذا أكبر مساعد لك على إيقاف التدخين طوال فترة الصباح. ثم اجعل معك من التين أو التمر ما يغنيك عن تناول علبة اللفائف الكريهة، فكم لها من مزايا في طرد السموم. ويضيف ابن القيم إلى التين أنه أغذى من جميع الفواكه، وينفع خشونة الحلق والصدر وقصبة الرئة، ويغسل الكبد والطحال، وينقي الخلط البلغمي من المعدة، ويغذي البدن غذاء جيدا. كما يقول عن التمر: وهو من أكثر الثمار تغذية للبدن بما فيه من الجوهر الحار الرطب، وأكله على الريق يقتل الدود، فإنه مع حرارته فيه قوة ترياقية، فإذا أديم استعماله على الريق جفف مادة الدود وأضعفه وقلله أو قتله، وهو فاكهة وغذاء ودواء وشراب وحلوى. وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من تصبح بسبع تمرات لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر" وقال "بيت لا تمر فيه جياع أهله".
كما وأنصحك أيضا بالكف عن تناول اللحوم مؤقتا حتى تنجح محاولتك في قهر عدوك، فإن التدخين أكثر ما يكون استجابة لطعام غذي باللحوم.(14/448)
6- وإني لأناشد الهيئات الصحية المختصة أن تفكر في فتح عيادات لعلاج التدخين.. مثل العيادات التي فتحها في السويد ((دكتور بورجي أيروب Dr. Borje Eyrup)) وعالج بواسطتها ((ستة آلاف مدمن)) عن طريق الحقن المهدئة للأعصاب، وحقن النيكوتين اليومية، التي أعطت نتيجة حاسمة بعد عشرة أيام فقط من بدء العلاج، وأعطت دفعة قوية من الأمل في القضاء على هذا الوباء الملعون!
نداء إلى شباب الإسلام..!
أيها الشباب المسلم.. إني أخاطبكم بما للإسلام عليكم من حقوق، وبما عليكم نحوه من واجبات، وأولها أن تحفظوا عقولكم من الخلل، وأجسادكم من المرض، ونفوسكم من الأهواء والشهوات. افتحوا أعينكم جيدا على الخطر الداهم الذي يشتعل نارا بين أصابعكم. إنكم لم تولدوا والسيجارة في أفواهكم، بل اكتسبتم التدخين باعتباره عادة من أسوأ العادات في مجتمعكم: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
ألا وإن أقبح عادة فيكم هي أن تكونوا عبيدا لعادتكم..
فاستخدموا هذه الجوارح الطاهرة فيما خلقت لأجله، ولا تجعلوا أفواهكم النظيفة مداخن للشيطان ينفث منها سمومه لتفسد الهواء النقي، وتستذل الأنفى الحمى، وتصيب البلاد والعباد بالأوبئة الفتاكة، وتفسد بهاء الأسنان بالصدأ المثير للغثيان.
ألم تروا ما سببه التدخين لآبائكم وإخوانكم وذويكم من أمراض وعلل قليلها ظاهر، وكثيرها مستور؟ أليس من المخزي بالنسبة لكم أن تسلكوا نفس الطريق المفضي إلى الدمار وأنتم تشاهدون الضحايا على الجانبين؟.
واخيبة أمل الإسلام فيكم، إذا دعاكم للجهاد فلم يجد فيكم غير رئات مسلولة، وأياد مغلولة، وأجساد عليلة، وشيوخ يرتدون ثياب الشباب!(14/449)
نريد أن تبقى أخطار التدخين حية في وجدانكم على الدوام. نريدكم أن تضعوا رقابة العلي الأعلى نصب أعينكم فهو الله الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ونريدكم أن تكونوا رقباء على أنفسكم قبل أن يكون أولياء أموركم رقباء عليكم، فتعسا للبشر إذا لم يرعوا حق رب البشر.. {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثم وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثم سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] رواه أحمد في مستنده، وأبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح.
[2] رواه الإمام أحمد وأبو داود، وقال الحافظ العراقي: إسناده صحيح، وصححه السيوطي في الجامع الصغير.
[3] راجع فتوى الشيخ رحمه الله بتحريم شرب الدخان.
[4] سورة الإسراء: 27.
[5] الطب النبوي لابن القيم ص 227 ط بيروت.
[6] المرجع نفسه ص 223، ص 227.
[7] د. حامد زهران: الصحة النفسية والعلاج النفسي. ط أولى: ص 478.(14/450)
رسائل لم يحملها البريد
لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
الأستاذ المساعد- بكلية الشريعة
والدي العزيز:
لشد ما يحزن القلب ويحزب النفس أن أكتب إليك اليوم أني قد تزوجت، وأني قد تزوجت فتاة مسيحية ليس بينها وبين الإسلام نسب ولا سبب، وأنها أجنبية الدم وليس لها في ديار العرب جدود ولا أرحام..
لقد تزوجت منذ ثلاث سنوات خلت، ولكني كتمتك الخبر خشية أن ينقطع عني عونك المتواصل، ويتخلى عن جيبي مالك المتدفق، أما اليوم فقد أصبحت طبيبا أتدرب في أحد المستشفيات، وآخذ راتبا يكفيني ويزيد، وتخرجت زوجتي في كلية الآداب وأصبحت مدرسة في إحدى المدارس الثانوية، وفي مرتبها ما يزيد مالنا قوة على قوة، ووفرا على وفر.
والدي العزيز:
سوف تقرأ هذه الرسالة مرة بعد مرة، وفي كل مرة ترجع البصر كرتين تتعرف توقيعي الماثل في ذيل هذه الرسالة، وتتبين اسمك الكامل الذي أخطه على وجه الغلاف، وسوف ترجوا في كل مرة أن تكون هذه الرسالة قد كتبها كاتب غيري، أو أن تكون قد وقعت بين يديك عن خطأ وغفلة من موزع بريد.
رفقا بنفسك يا والدي العزيز، وأمسك عليك بقايا بصر كاد يؤدي به مرض السكر، فما بك من حاجة إلى أن تقرأ هذه الرسالة أكثر من مرة، كل ما فيها صدق لا يشوبه كذب، وحق لا يعتريه باطل، وهذا التوقيع الذي تحدق فيه وتحملق هو توقيع ابنك لا شك ولا زيف.
سوف تتهمني يا والدي العزيز أني قد عققتك ودلست عليك، وأني لم أك ذلك الولد البار الذي كنت تتوقع وتؤمل، سوف تتهمني بالخداع والمراوغة، أظهرت لك خلاف ما أبطن، وقلت لك قولا لم أكن به أومن، حتى إذا ما انتهت حاجتي إليك وأصبحت ذا غناء عنك، سقط النقاب عما كنت أخفيه، وأفصح اللسان عما كنت أطويه.(14/451)
الحق يا والدي العزيز أني لم أك عاقا لك ولا مدلسا عليك ولا مخادعا مراوغا، لقد كان علي أن أسلك أحد سبيلين: سبيل الفاحشة التي حرم الله، وليس لها من عقبى سوى الخسران والضياع، أو سبيل هذا الزواج الذي تكره، ولقد اخترت ما فيه عصمت لديني ورعاية لخلقي وزلفاي إلى الله، وهذا الخيار على فيه من مشكلات قد تحدث في المستقبل البعيد هو –فيما أعلم- خير عند الله وخير عند الناس وأحسن عاجلة وأفضل عقبى.
أما خيارك الثالث في الانتظار الطويل حتى أتخرج فلم أستطع عليه صبرا، وكيف يستطيع شاب مثلي غرثان مرمل ناهز الثلاثين من العمر، تعرض عليه اللحوم البشرية عارية تفيض غضارة ونضارة، وتناديه من عن يمينه ويساره على مقاعد الدراسة، وتلقاه وجها لوجه في الحدائق العامة والشوارع المزدحمة، وتنتظره من خلفه حيث يسكن ويأكل وينام، كيف يستطيع شاب مثلي هذه حاله أن يظل سبع سنوات: صائما بلا طعام، حيا بلا حس ولا قلب.
ما أسهل الحرب على النظارة يا والدي العزيز! وما أصعب غمارها وأشد أوارها على أولئك الذين يصطلون بنارها ويفغم أنوفهم دخانها وغبارها!!
لقد طلبت إليك منذ أربع سنوات أن أتزوج فتاة من بلادي وجنسي، وعلى ديني وحسي، ولكنك أبيت كل الإباء، ورفضت بعنف وشراسة تهدد وترعد وتوعد، فلم أستطع إلا أن أسكت على خوف، وأظهر الرضا على مضض، وفي القلب لهيب حب تحت الرماد، وفي النفس حسرات هوى تكاد تقتل.
ما أكثر ما كنت تعزيني عن ذاك الزواج وأنا أجلس إلى جوارك حزينا مطرق الرأس فتقول: صبرا صبرا يا بني، غدا تصبح طبيبا، وسوف أفتح لك عيادة في أوسع شوارع عمان وأكثرها ازدحاما وحياة وحركة، وسوف أعلق فوق باب العيادة لافتة كبيرة كتب عليها بخط كبير جميل اسمك مقرونا باسمي واسم العائلة، وسوف أزوجك فتاة من إحدى العائلات المعروفة ذات الصيت البعيد والسمعة الطائرة والسلطان الواسع.(14/452)
لن يقفل في وجهك باب يا بني حين تكون طبيبا، ولن يرد الناس لك طلبا، كل فتاة في عصرنا الحاضر تود لو تصبح ذات يوم زوجا لطبيب، وكل أم تقول لجارتها وهي ترضع طفلها وتمسح يديها على رأسه إن ابني هذا سيكون طبيبا.
يا بني ستكون رجلا مشهورا حين تكون طبيبا، فكيف ترضى أن تكون زوجا لفتاة مغمورة لا يكاد يعرف أهلها أحد، سوف تعض على يديك ندما وحسرة يوم ترى ما بينكما في المستقبل، ولن ينفعك يومئذ حسرة ولا ندم.
ما أكثر ما كنت تقول يا والدي وما أكثر ما كنت تؤمل، ولقد كنت حريصا على أن أكون عند ظنك وألبي نداء نفسك وأجيب هتاف قلبك، ولكن البيئة التي أعيش فيها سدت الطريق أمام ما كنت تؤمل وأمام ما كنت أريد.
من الآباء يا والدي العزيز طائفة كانوا يودون لو يكونون في هذه الحياة شيئا مذكورا، فقصرت بهم العزائم أو حالت دون أمانيهم أحداث قاسية ومطالب عيش لا ترحم، فهم يريدون أن يعوضوا أنفسهم ويعزوها بأن يروا ما فقدوه حياً ماثلا في أبنائهم، فتراهم يرسمون لهم الخطط، ويضعون لهم معالم الطرق، ويصبون النصائح في آذنهم صبا، ويلقون عليهم الأوامر والنواهي كأنهم جنود يعيشون في ثكنات عسكرية.
ولكن كثيرا من أولئك الأبناء الذين يعيشون في بلاد أجنبية الدم والدين يكونون في شغل شاغل عما يريده آباؤهم:
وإني وإياها لمختلفان
هوى ناقتي خلفي وقدامي الهوى(14/453)
على أنني سوف أسلك طريقا لعله يرضيك أو يخفف عنك ما بك، طريقا ما كان يخطر لي على بال من قبل وما كان ليخطر لك أنت أيضا على بال، ولكن هذا الزواج الذي نقمته هو الذي ساقه إلي وجعله سهلا لا حبا أمام عيني، سوف آخذ جنسية هذه البلاد التي تعلمت في جامعاتها وتزوجت إحدى فتياتها وهأنذا اليوم طبيب في إحدى مستشفياتها، وبهذه الجنسية أستطيع العودة إلى وطننا الذي أخرجنا منه وإلى المدينة التي ولدت فيها وإلى دارنا المهجورة المغلقة الأبواب، وسوف أتخذ شقة من شققها سكنا وأتخذ من أخرى عيادة، وسوف أضع على مدخل الدار لافتة كبيرة أكتب عليها اسمي مقرنا باسمك وباسم العائلة كما كنت تأمل وترجو، وسوف تكون هذه الأسماء كبيرة الحروف جميلة الشكل واضحة الرؤية إلى درجة أنها تقرأ بسهولة من الشارع المجاور، وسيأتي يوم –أسأل الله ألا يكون بعيدا- تسترد فيه بعون الله تعالى تلك الأرض المغصوبة وتلك المدينة المنكوبة، وحينئذ تستطيع أن تجلس في حديقة الدار صباح مساء كما كنت تجلس من قبل، وسوف يشير الوافدون على عيادتي للاستشفاء وهم يعبرون الحديقة جيئا وذهابا، سوف يشيرون إليك بأطراف البنان وهم يتهامسون: والد الطبيب.
قد تحسب هذا خيالا أسوقه إليك ابتغاء مرضاتك وتخفيف وقع هذا الزواج على نفسك، أحسب يا والدي الحسبان الذي تشاء، وظن الأمر كما تريد وتهوى، فهذه هي الحقيقة قد جلوتها عليك واضحة، وهذا ما آل إليه أمري قد صورته لك صادقا قد تقول وأين كانت هذه الحقيقة من قبل، ولم تصور لي ما آل إليه أمرك منذ البداية؟! ولم كلفتني نفقات زواجك ثلاث سنوات وأنت على يقين أني غير راضي عنه؟!
الناس يا والدي العزيز يحبون الحق ويحرصون على العدالة حين ينصبون أنفسهم حكاما وقضاة، أما حين يكونون غير ذلك فما أكثر ما تقف العدالة والصراحة وكلمة الصدق على أبوابهم طويلا تطرقها وتطرق وتطرق فلا يأذنون لها ولا يعتذرون.(14/454)
لقد عشت أنت أيها الوالد العزيز أكثر من ثلاثين عاما موظف دولة، أما حدث ذات مرة أن أمسكت عن قولة الحق وإبداء رأي الصدق حين كنت ترى بعض رؤسائك يبغون الأمور عوجا ويعرضون الأمر مبتسرا فجا، ألم تك تنفذ بعض الأوامر وأنت تعلمها جائرة، وتمضي بعض المعاملات على ما فيها من باطل، ألم يحدث ذات مرة أن فعلت شيئا من ذلك حرصا على راتبك وإبقاء على وظيفتك؟! على أنك لست في هذا بدعا بين الموظفين ولا فردا بين الناس، فالموظفون كثيرا ما يقولون الكذب وهم يعرفون أين يكون الصدق، ويأتون الباطل وهم يبصرون طريق الحق، ويعتذرون عن ذلك بلقمة الخبز لأفراد الأسرة، وكسوة الصغار الذين يدرجون في البيت، وتعليم الكبار الذين يغدون على المدارس، ولا يذكرون حق الدين وحق الفضيلة إلا كما يذكر الموتى وأسقاط المتاع.
علم الله أني لم أقصد بهذا إساءة إليك، ولا كشف منقصة فيك، ولا إذاعة عيب عنك، وأنىً لي هذا؟! ولكن الشيء بالشيء يذكر، والحديث ذو شجون.
وفي ختام هذه الرسالة أقول:
من الخير يا والدي العزيز أن تسمح لابنك هذا بالعودة، وأن تفتح أبواب بيتك لاستقباله، وأن تمد جناح العطف والرحمة على هذا الزواج.
من الخير أن تسمح لهذا الولد الغريب أن يعود إلى بيت أبيه وأمه، ومن الخير أن تجد هذه الزوجة الأجنبية أبواب البيت لها مفتوحة، والقلوب التي في الصدور لها مشروحة.(14/455)
وإذا كنت تبتغي رضا وثواب الآخرة حقا، وتحب ألا يضيع ما أنفقته سدى، فمد أجنحة الحنان والرحمة على هذا الزواج، وافتح الطريق أمام هذه الزوجة الحائرة كي تتعرف الإسلام من الواقع الذي تعيش فيه أسرتنا وأسر أخرى تهتدي بهدى الإسلام وتستضيء بنوره، غربها عن هذه البيئة التي تمسك بيدها كلما همت أن تمدها إلى الإسلام، غربها عن هذه البيئة التي تشد قدميها إلى الأرض كلما همت أن تسير على طريقه، أنقذ أولادنا من أن يصبحوا على غير دين أو على دين لا يعرفون من شريعته حكما ولا من قرآنه حرفا، أنقذني أنا من قبل أن أنسى مناسك ديني ومن قبل أن يصبح قلبي خاليا من الإيمان، تذكر قوله تعالى {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقوله تعالى {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} .
ابنك البار(14/456)
الحضارة الإسلامية
لفضيلة الشيخ أحمد عبد الرحيم السايح
لفظ الحضارة في مفهومه الحديث، ومفهومه العالمي المعاصر، قد أصبح أكثر اتساعا، مما كان يدل عليه في مفهومه اللغوي التقليدي.. وإذا كان أصل الحضارة: الإقامة في الحضر. فإن المعاجم اللغوية الحديثة، ترى أن الحضارة هي: الرقي العلمي، والفني، والأدبي، والاجتماعي، والاقتصادي في الحضر.. وبعبارة أخرى أكثر شمولا، هي: الحصيلة الشاملة للمدنية، والثقافية، والفكر، ومجموع الحياة، في أنماطها المادية والمعنوية.. ولهذا كانت الحضارة هي: الخطة العريضة –كماً وكيفاً- التي يسير فيها تاريخ كل أمة من الأمم، ومنها الحضارات القديمة، والحضارات الحديثة والمعاصرة.. ومنها الأطوار الحضارية الكبرى، التي تصور انتقال الإنسان أو الجماعات، من مرحلة إلى مرحلة..
ولئن كان الإسلام قد امتاز بأنه دين الحضارة الإنسانية، فإن الواقع يبين للباحث والمفكر، والدارس، أن الحضارة الإسلامية استمدت كل مقوماتها، وعناصر وجودها، وأسباب نمائها وازدهارها، من الإسلام ذاته..
والإسلام كان ولا يزال دين الحضارة والإنسانية، بمعنى أنه كان منذ نزوله دين عبادة، ودين معاملة، وأنه أنشأ لونا من الحضارة، عرف باسمه، وهو الحضارة الإسلامية.. لهذا نجد أن المستشرقين مدفوعين بدوافع شتى، قد ظلموا الحضارة الإسلامية، حينما أطلقوا عليها في مؤلفاتهم وكتاباتهم: الحضارة العربية أو حضارة العرب، وهذا يدل على الجهل والتجاهل، لأن حضارة عربية بدون إسلام لم تقم..
وقد قامت الحضارة الإسلامية، على دعائم أساسية، جعلت منها حضارة عالمية متميزة، وفريدة من تاريخ البشرية.. ومن ذلك..
أولا: أن الإسلام قد انطوى على طاقة روحية، جعلت منه قوة فاعلة، والشيء المهم في هذه القوة الفاعلة. أنها كانت أصلا جذريا يمس كل الأوضاع في حياة الناس.(14/457)
ثانيا: أن الإسلام كان دين دعوة.. وفكرة الدعوة في الإسلام، قد واتتها ظروف الانتشار في النطاق العالمي، وفي ظلال الدعوة المستمرة، تمكن الإسلام من نشر طابعه الحضاري، كعقيدة للحياة، وأن يصبح في أقل من ربع قرن، مقوما أساسيا من مقومات الحضارة الإنسانية..
ثالثا: كان الإسلام دينا سهلا غير معقد، ولا مركب في عقيدته، وكان في الوقت ذاته، دينا مباشرا، يتصل فيه الإنسان بخالقه دون وساطة: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} ، ولا نجد عقيدة تطلب من الإنسان شهادة أبسط من شهادة الإسلام، على عمقها وعظمتها: ((لا إله إلا الله محمد رسول الله)) .. عبارة سهلة رائقة نظيفة، تقف بالعاقل على عتبة الدخول في الإسلام، موقفا سهلاً. والمقوم الأصيل في هذه البساطة، أن القرآن الكريم هو الوعاء الأساسي للعقيدة كلها.
رابعا: كان الإسلام دينا رحبا يدعو إلى سبيل العقل، في حدود أصول العقيدة، كما يدعو إلى سبيل الضمير، والحق.. ومن هنا كانت الدعوة إلى النظر، وإلى المعرفة، أساسا من أسس الدعوة الإسلامية، وكان التفتح البصير مفتاح الدعوة للحضارة..
والإسلام في رحابته الحضارية، استطاع أن يمتص ألوان الحضارات في البلاد التي أوقد فيها قناديل الضياء، وأن يسبغ عليها طابعاً إسلاميا شاملا..(14/458)
خامسا: البيئة بعواملها المحلية، وموقعها الجغرافي، قد ساعدت على إعطاء الحضارة الإسلامية، ما كان لها من طابع، ومن مكانة.. ولقد كانت الجزيرة العربية ذاتها، منطقة وصل بين أطراف العالم، عند ملتقى القارات الثلاث في العالم القديم ((أسيا وأفريقيا وأوربا)) .. ومن شواطئ الجزيرة العربية، تمتد بحار الشمال، بادئة بالبحر الأبيض المتوسط. وبحار الجنوب بادئة بالبحر الأحمر، والخليج الإسلامي [1] .. وقد كان عدم اتصال المياه بين الشمال والجنوب، سببا في أن شبه الجزيرة العربية، كانت نقطة تغيير، في وسائل المواصلات، وفي ظهور الوساطة التي كتب للمسلمين أن يقوموا بها.. ولم يكن الأمر بالطبع مجرد التوسط الجغرافي على أهميته، وإنما كان الأمر أوسع وأعمق، فهو توسط من ناحية الطبيعة البشرية، ومن ناحية السلوك الإنساني، ومن ناحية الاعتدال في كل ما يصل بالمادة وهي أمور كلها اتصلت بطبيعة البيئة العربية. ومن هذه البيئة الوسط، انتشر الإسلام شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، بالبر والبحر على السواء.. وقد شاء الله سبحانه وتعالى، أن تستيقظ الجزيرة العربية في القرن الرابع عشر الهجري، الموافق القرن العشرين ميلادي، والقرن العشرون يعتبر أزهى قرون الحضارة في الغرب. شاء الله أن تقوم –في الجزيرة العربية
المملكة السعودية، على أساس القرآن الكريم، لا على أنه المادة الأولى أو الثانية من الدستور، كما تفعل كثير من الدول التي يقال عنها، عربية وإسلامية.(14/459)
ولكن على أساس أنه هو كل شيء، في التعليم، وفي التوجيه، وفي الحكم، وفي السياسة، وفي الثقافة، وفي جميع نواحي الحياة.. وقد قامت في السعودية نهضة علمية وثقافية جبارة، جعلت الجامعات تعمل في إعداد كامل، لمؤتمرات إسلامية جامعة، مثل مؤتمر الفقه الإسلامي ومؤتمر العلم والتكنولوجيا، ومؤتمر الاقتصاد، ومؤتمر الشباب، ومؤتمر الدعاة ومؤتمر المساجد، ومؤتمر المذيعين، وصارت الجامعات والكليات ومعاهد العلم، تصدر صحفا، ومجلات ذات دراسة وعمق، معدة إعدادا يتفق مع ما وصلت إليه الطباعة من تقدم..
ولا شك أن هذا كله دعامة من دعامات الحضارة الإسلامية القائمة على الإسلام.. حتى لا يأتي إلينا مخرف من الشرق، أو من الغرب، فيقول إن حضارة الإسلام قد شاخت وهرمت.. شاء الله أن تظل تجربة الحكم بالقرآن الكريم، قائمة في أرض الجزيرة العربية، كما كانت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعهد الخلفاء الراشدين..
سادسا: الوسطية التي جاء بها الإسلام، والوسطية التي جعلت فيها الأمة الإسلامية وشرفها الله بها.. ليست الوسطية المبتدعة في الفكر المستورد الحديث.
فالوسط المبتدع في الفكر العصري، وسط عفن، قام بين تراكمات عفنة من اليمين واليسار. ولا شك أن اندفاع بعض المجتمعات الإسلامية إلى هذا الوسط العفن، وما جاء حوله من يمين ويسار، يعد عند الدارسين لتطور الشعوب، كارثة فكرية خطيرة، وردة جاهلية وثنية.. والوسطية الإسلامية وسطية عامة شاملة، لا تعترف بتقسيم اليمين والوسط واليسار. بل إنها:
1- في العقيدة تقوم على توحيد الله وإفراده بالعبادة، والتمسك بما شرع من آداب السلوك والمعاملة..
2- وفي التشريع تقوم على أصول رئيسية، مصدرها الأساسي: القرآن الكريم، وسنة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام.
3- وفي الأخلاق تقوم على خلوص النية، ونقاء الضمير، والتمسك بقيم الخير، والحق، والتزام الآداب الفردية والاجتماعية..(14/460)
4- وفي الاجتماع تقوم على الأسرة المتماسكة القائمة على ركائز المودة، والرحمة، والإخلاص، والاحترام والتعاون..
5- وفي السياسة تقوم على الشورى، واحترام حقوق الإنسان، والتزود بكل أسباب القوة، والدفاع عن العقيدة..
6- وفي الاقتصاد تقوم على تبادل المنافع، واتخاذ المال وسيلة لا غاية واحترام الملكية الفردية..
7- وفي الثقافة تعتمد على طلب المعرفة، واستخدام العقل في كسب المعارف..
8- وفي الفكر تقوم على استنهاض العقول، وحرية الفكر، واستقلال الإرادة..
فأي وسطية أسمى من هذه الوسطية التي ارتضاها الله، وجعلها سمة هذه الأمة الإسلامية، ذات الحقيقة الكبيرة، والوظيفة الضخمة في هذه الأرض، ويقول في ذلك شهيد الأمة الإسلامية سيد قطب: ((إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعا، فتقيم فيهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم، وتبدي فيهم رأيها.. فيكون هو الرأي المعتمد، وتزن قيمهم، وتصوراتهم وتقاليدهم، وشعاراتهم. فتفصل في أمرها، وتقول: هذا حق منها، وهذا باطل.. لا التي تتلقى من الناس تصوراتها، وقيمها، وموازينها وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم. وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها، فيقرر موازينها وقيمها، ويحكم على أعمالها وتقاليدها، ويزن ما يصدر عنها، ويقول فيه الكلمة الأخيرة.. وبهذا تتحقق حقيقة هذه الأمة، ووظيفتها، لتعرف وتشعر بضخامتها ولتقدر دورها حق قدره، وتستعد له استعدادا لائقا.. وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط. سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي.(14/461)
{أُمَّةً وَسَطا} في التصور والاعتقاد. لا تغلو في التجرد الروحي، ولا في الارتكاس المادي. إنما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد. أو جسد تتلبس به روح. وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات، حقه المتكامل من كل زاد، وتعمل لترقية الحياة ورفعها، في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها، وتطلق كل نشاط على عالم الأشواق، وعالم النوازع، بلا تفريط ولا إفراط: في قصد، وتناسق، واعتدال..
{أُمَّةً وَسَطا} في التفكير والشعور، لا تجمد على ما علمت، وتغلق منافذ التجربة والمعرفة. ولا تتبع كذلك كل ناعق، وتقلد تقليد القردة المضحك، إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول، ثم تنظر في كل نتاج الفكر والتجريب.. وشعارها الدائم: الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها أخذها، في تثبت ويقين..
{أُمَّةً وَسَطا} في التنظيم، لا تدع الحياة كلها للمشاعر والضمائر، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب. إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب وتزاوج بين هذه وتلك. فلا تكل الناس إلى وسط السلطان، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان، ولكن مزاج من هذا وذاك.
{أُمَّةً وَسَطا} في الارتباطات والعلاقات لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تتلاشى شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة، ولا تطلقه كذلك فرداً أثراً جشعاً، لا هم له إلا ذاته.. إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء، وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه، ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة، وتقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادما للجماعة، والجماعة كافلة للفرد، في تناسق، واتساق..(14/462)
{أُمَّةً وَسَطا} في المكان، في سرة الأرض، وفي أوسط بقاعها، وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام، إلى هذه اللحظة.. هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب، وجنوب وشمال، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعا وتشهد على الناس جميعا، وتغطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة، وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة، وثمار الروح والفكر، من هنا إلى هناك، وتتحكم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء..
{أُمَّةً وَسَطا} في الزمان، تنهي عهد الطفولة البشرية من قبلها، وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها، وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام، وخرافات، في عهد طفولتها، وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى، وتزاوج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات، ورصيدها العقلي المستمر في النماء، وتسير بها على الصراط السوي بين هذا وذاك)) . فالأمة الإسلامية ليست بحاجة إلى الأحزاب التي أوجدها ورعاها التبشير الصليبي.. وليست في حاجة إلى التقدمية، والثورية، واليمين والوسط واليسار.. وليست في حاجة إلى اشتراكية المنحرفين، من سماسرة الشيوعية، والدجل الفكري، وليست في حاجة إلى تعدد المنابر، واستيراد ما هب ودب.. وليست في حاجة إلى تجارب الأمم. إذن وبدون شك. الأمة الإسلامية في حاجة إلى إسلام، والإسلام فقط..
سابعا: القرآن الكريم ذاته. وذلك أن القرآن كان أعظم ما عرفته الإنسانية في تاريخها الممتد الطويل.. وقد تضمن القواعد الرصينة الكفيلة بقيام المجتمع الإنساني السليم. تشده الإنسانية فتجد فيه مبتغاها من التشريعات الفردية، والعلائق الأسرية، والمعاملات الاقتصادية والحربية، والقوانين المدنية، والأنظمة الدولية، وبعبارة أوجز.. تجد فيه الأمة كل ما تحتاج إليه في حياتها العامة والخاصة، الدين والدنيا..(14/463)
ثامنا: اللغة العربية نفسها كانت دعامة من دعائم الحضارة الإسلامية، وذلك لأنها أعرق اللغات منبتا، وأعزها جانبا، وأقواها جلادة، وأغزرها مادة، وأدقها تصويرا لما يقع تحت الحس، وتعبيرا عما يجول في النفس..
وعندها من المرونة على الاشتقاق، والقبول للتهذيب، وسعة صدرها للتعريب. ما يمكنها من الاستمرار في عطائها، نزل القرآن بلسانها فجعلها أكثر رسوخا، وأشد بنيانا، وأقوى استقرار. وبفضل القرآن، صارت العربية، أبعد اللغات مدىً، وأوسعها أفقا، وأقدرها على النهوض بتبعاتها الحضارية، عبر التطور الدائم الذي تعيشه الإنسانية. واستطاعت العربية في ظل عالمية الإسلام، أن تتسع لتحيط بأبعد انطلاقات الفكر، وترتقي حتى تصل أرقى اختلاجات النفس، وليس هناك معنى من المعاني، ولا فكر من الأفكار، ولا عاطفة من العواطف، ولا نظرية علمية من النظريات، تعجز اللغة العربية عن تصويره بالأحرف والكلمات، وتجسيده داخل الكلمات.
تاسعا: وبجانب هذا وذاك، كانت هناك مقومات تاريخية وبشرية، تتصل بالعصر الذي ظهر فيه الإسلام، ثم بالعنصر البشري، والتكوين السكاني. فأما عن العصر، فقد كان الإسلام ختام الأديان السماوية، وكان الإسلام بذلك رباطا لها من الناحية التاريخية، كما كان في الوقت ذاته تصحيحا لها لما أصابها من تخريف الفلاسفة والوثنيين..
ولقد كان هذا كله، قوة دفع للفكر الإسلامي، وما تصل به من حضارة، ومن هنا انطوى التفاعل الإسلامي على قوة غلبت كل التحديات الجاهلية، فانتشر طابع الحضارة الإسلامية على فعالية، لم يعرف لها مثيل في تاريخ الإنسانية..(14/464)
عاشرا: ومما يذكر أن ترسيخ معالم الحضارة الإسلامية، قد تضاعف بفعل مقوم إنساني آخر.. وهو تنوع السلالات التي دخلت في الإسلام، ثم هناك ظاهرة أخرى ترتب على كل هذه الجوانب والعوامل، وهي ظاهرة الاتصال والاستمرار الزمني في الحضارة الإسلامية.. ومن وراء كل ذلك هناك الإيمان بالله، فهو القوة الدافعة الموجهة التي تسند الضعيف من أن يسقط، وتمسك القوي من أن يجمح، وتعصم الغالب من أن يطغى، وتمنع المغلوب من أن ييأس..
وقد أثبت التاريخ أن الذين تربوا في مدارس القرآن، هم وحدهم الذين صلحت بهم الحياة، واعتدل في أيديهم ميزان الحق، والعدل..
ولقد كانت المملكة الإسلامية تزدهر بالعلم والحضارة شرقا وغربا، وتنتشر فيها أرقى الصناعات على اختلافها، وما تركه المسلمون من تراث علمي، لأكبر شاهد على ذلك..
ولقد تلمست أوربا الحضارة الإسلامية، فاستقت من روافدها العلوم والمعرفة من الفلك والجبر والهندسة والحساب والكيمياء والطب والزراعة، وسائر أنواع الفنون الحضارية. وبنى رجال أوربا بما تعلموه في معاهد المسلمين بالأندلس، وبما نقلوه من علوم.. بنوا أسس النهضة الحديثة التي ظهرت بوادرها في القرن الثامن عشر، وازدهرت في القرن العشرين..(14/465)
والإسلام بدعوته إلى العلم هو الذي خرج جهابذة الفكر، ورجال الحضارة، أمثال ابن الهيثم، وابن البيطار، وابن سينا، وابن النفيس، وابن زهر، وابن بطوطة، والكندي، والفارابي، والبيروني، والطوسي، والدينوري، والبغدادي، والرازي، والقزويني، والأنطاكي، والخوارزمي، والإدريسي، والمسعودي، وجابر والحافظ، وغيرهم ممن أفادوا الإنسانية. وهذا ابن الهيثم يبحث في السهول والأودية، ويجول فيها طولا وعرضا، حتى يضع قواعد علم الضوء. وابن الدجيلي، يسهر على قمم الجبال العالية، يحدق في الكواكب والنجوم، ليحد أفلاكها، ويعرف أبعادها، ويقيس محيط الكرة الأرضية. وعبد الله الخوارزمي العالم المسلم الذي ولد في إقليم خوارزم [2] ، أول رجل في العالم يضع أصول علم الجبر، وفي كتابه ((الجبر والمقابلة)) يقسم العلماء إلى ثلاثة أقسام: فمنهم المخترع المبتكر الذي لم يسبق إليه، ومنهم الذي يتناول آراء العلماء قبله بالشرح والتفصيل والتوضيح، ومنهم الذي لم يكلف نفسه أكثر من جمع المتفرق..
وأبو الريحان محمد البيروني الذي ولد في بيرون، وهي مدينة صغيرة تتبع مدينة خوارزم. يساهم في الفلك والرياضيات، بمساهمات فعالة. وابن النفيس العالم الدمشقي، يجري التجارب والاختبارات، حتى يثبت أن الدم ليس سائلا مستقرا في الأوردة والشرايين. بل هو سائل متحرك، يدور في جميع أجزاء الجسم، وذلك قبل أن يكتشف العالم البرتغالي (هارفي) الدورة الدموية بثلاثة قرون..(14/466)
وابن مسكويه ذلك المفكر الإسلامي الكبير الذي طرق الدراسات الأخلاقية والنفسية، فذلل متونها، وسبق علماء أوربا، فيما وصل إليه من النظريات النفسية والسلوكية.. هذا كله في الوقت الذي كانت فيه أوربا تعيش في ظلمات الجهل والهمجية، ولم ينقذ أوربا من ورطتها التي كانت واقعة فيها إلا نور الإسلام. وما زالت أسماء العلوم والمصطلحات التي أعطاها العلماء المسلمون لغرائب العلم، ما زالت حية في جميع اللغات رغم ما مر عليها من تحريف وتغيير.. ولقد سجل تاريخ الحضارة الإسلامية بإعزاز. وتقول الكاتبة الألمانية الدكتورة سيجريد هونكه، في كتابها ((شمس الله تشرق على الغرب)) تقول: ((إن هذه الطفرة العلمية الجبارة التي نهض بها أبناء الصحراء من العدم، من أعجب النهضات العلمية الحقيقة في تاريخ العقل البشري، فسيادة أبناء الصحراء التي فرضوها على الشعوب ذات الثقافات القديمة، وحيدة في نوعها، وإن الإنسان ليقف حائرا أمام هذه المعجزة العقلية الجبارة)) ..
وإن من يمعن النظر في أعماق الحضارة الإسلامية، وما حققته للإنسانية من أسباب النمو، وعوامل الازدهار، ويلم بما جاء به الفكر الإسلامي، من مفاهيم تناولت أهم معضلات الحياة. إن من يتعمق في ذلك، يدهشه مدى عمق التفكير الواعي الذي بلغ ذروته علماء الإسلام، وقد يتضاعف إعجاب الباحث، بهذا الفيض الزاخر، من الجهود العلمية التي شرقت بالحضارة وغربت، وملأت الدنيا بإشراقها..(14/467)
وربما تزداد دهشت الباحث العاقل، والمفكر الناصح، ويتعاظم تمجيده لحركة التحول الخطيرة التي أصابت المجتمع العربي في تلك الفترة القصيرة. ترى أي سر هذا الذي استطاع أن يحول عرب الصحراء، وهذه الشعوب المتفرقة.. إلى أساطين في العلم، ومشاعل في الحضارة، ومنارات في الثقافة؟ وأي قوة رفعت العرب من حال البداوة التي كانوا عليها إلى أبطال وقادة، يفتتحون أعظم الممالك وأوسعها، ويجولون في الأرض غير هيابين ولا وجلين..؟ .. وأي دعوة هذه التي حولت الناس من الجهل والجاهلية والمذاهب الوضعية، إلى النور الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور..؟
ليس من المعقول في نظر المفكر.. ولا من المقبول في نظر الباحث.. ولا من المعروف في نظر الدارس.. أن يطفر الفكر العربي الذي قيدته ظروف الحياة القبلية الآسنة اليبوس.. إلى مثل هذه المرتبة العالية، دون أن تكون هناك الأسباب القوية التي دفعت به إلى الحياة المتحركة دفعا.. فما هي تلك الأسباب التي استقى منها الفكر الإسلامي، مادة حيويته وحركته؟ وما هي الموارد التي نهل منها أسباب تكامله..
إن المنبع الأول والأصيل الذي استقى منه الفكر أسباب تقدمه ونمائه، هو القرآن الكريم، فهو السر الكامن، وهو القوة المحركة، وهو الدعوة القائمة المستمرة.. وذلك أن القرآن لم يكن كتاب دين يحث على العبادة وتوحيد الله فحسب، وإنما كان إلى جانب تأكيد وحدانية الله، وما يتبعها من عقائد وعبادات.. منبعا أصيلا من منابع الحضارة، ولقد كان أول أثر من آثار القرآن في الحضارة الإنسانية، الاهتمام الواسع بالعلم، وذلك أن العلم عنوان التقدم الحضاري.. ولقد كانت عناية القرآن بالعلم، تفوق حد الوصف واستطاعت توجيهات القرآن العلمية أن تكون منهجا علميا سليما، حدد به المسلمون موقفهم من مشاكل الكون والحياة.(14/468)
ومن هنا كان التفكير العلمي في الإسلام، يقوم على الموضوعية، والصدق، ومن الحوادث البالغة الدالة على العقلية الموضوعية، لدى الفكر الإسلامي، ما حدث مصادفة، أن كسفت الشمس يوم مات إبراهيم بن محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فقال قوم إنها كسفت لموت إبراهيم.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته". وبهذا قرر الرسول الصادق، مبدأ علميا، يعتمد عليه المسلمون، فيما يتصل بالكون وما فيه)) .
وفي حادثة فيضان نهر النيل، بإقليم مصر الإسلامي، موضوعية علمية، تنبئ عن نظافة الفكر الإسلامي.. حيث كان الاعتقاد قبل الفتح الإسلامي، أن النيل لا يفيض بالماء، إلا إذا ألقيت فيه فتاة حسناء، لتموت فيه غرقا. فلما حان وقتذاك. كتب الحاكم عمرو بن العاص، والي أمر مصر، إلى خليفة المسلمون عمر بن الخطاب، في المدينة المنورة، عاصمة الخلافة الإسلامية، يخبره بما تعود عليه المصريون فأجابه عمر بإرسال رسالة، يلقيها في النيل، وكان في الرسالة: ((من عمر أمير المؤمنين إلى النيل إن كنت تجري من عندك فلا حاجة لنا بك، وإن كنت تجري بفضل الله، فاللهم بارك لنا)) .
وفي ميدان التطبيق العملي، نجد أن عمر بن الخطاب في خلافته، قد أمر بقطع شجرة الرضوان، لأن بعض الناس قد أسبغ عليها صفات غير موضوعية.. هذا وأمثاله مظهر للتفكير العلمي الموضوعي لدى المسلمين ينبئ لكل عاقل أن الإسلام هو الدين الحق والصراط المستقيم.(14/469)
ولهذا كانت للمسلمين حضارة، وعلوم، ومخترعات.. كانت هناك تشريعات وفلسفة، وقوانين، وطب، وفلك، ورياضيات، وأدب، واجتماع وتاريخ وجغرافيا، وكيمياء، وآداب للسلوك.. وكان لكل هذه العلوم أساتذة عباقرة، كأئمة الفقه، وعلماء التفسير، ورجال الحديث، الذين خرجوا المسائل والأحكام الفقهية، وضبطوا أساليب النقد، وقعَّدوا قواعد التشريع.. ويذكر لنا التاريخ عشرات المئات من العلماء في كل فن.. أصبح هناك قادة وحكام لم يعرف التاريخ لهم مثيلا.. وهم لم يدخلوا الكليات الحربية، ولم يدرسوا في مدارس عسكرية.. ولكن دخلوا شيئا واحدا، هو كلية القرآن الكريم، ومدرسة الإسلام الحنيف.. وهناك مدن امتلأت بالعلم والعلماء، ومعاهد الحضارة، مثل: القاهرة، وبغداد، ودمشق، وقرطبة، وغرناطة، واشبيلية، وبخارى وغيرها من العواصم التي تزخر بكل ألوان الحضارة.. وكانت هناك دول وممالك، في الشرق والغرب، بسطت نفوذها الإسلامية وعقيدتها، وعبقريتها، وشرقت وغربت حتى نشرت الفكر الصحيح.. وكل هذا بفعل الاتجاهات القرآنية التي غرسها الإسلام، في قلوب الناس، والتي أدت إلى تنمية القوى العقلية في الإنسان المسلم، ففتحت أمامه آفاقا واسعة لا حدود لها)) .
واليوم على الغيورين أن يدرسوا حال المسلمين، الذين ابتلوا بالأفكار المستوردة، والأحزاب الحمراء المتنمرة. لنرى هل يمكن أن تعود حضارة المسلمين، وتشرق من جديد، فتنقذ الإنسانية من بلاء الإلحاد. وحضارة المادية العفنة.. وقبل أن نقرر إمكانية عودة الحضارة الإسلامية أضع أمام القارئ الحقائق التالية:
أولا: العالم الإسلامي حباه الله بأعظم النعم، إذ يتربع على كنوز ثمينة ويربض على ثروات معدنية هائلة، ويملك من حقول البترول أجداها نفعا، وأكثرها سخاء وثراء، وأقواها تدفقا وعطاء.(14/470)
ثانيا: يملك العالم الإسلامي من شواطئ البحار والأنهار، والممرات، والطرق، البرية، والبحرية، والجوية، ما يجعله في مركز القيادة، ويمكنه من المساهمة والإشراف والتحرك الفعال.
ثالثا: مناطق الثقل في العالم الإسلامي بعيدة عن القطبين، ومصونة من الأعاصير، والطوفانات، والثلوج، والمد والجزر، والبراكين وهذا يتيح لها ما تستطيع به العمل والتقدم..
رابعا: العالم الإسلامي غني بالمحاصيل الزراعية، والإنتاج الحيواني، مما يمكن من قيام صناعات متقدمة ومتطورة.
خامسا: يعيش العالم الإسلامي اليوم في يقظة واعية، وصحوة صحية، إذا أحسن توجيهها، أثمرت..
تلك وغيرها أمور تجعل العالم الإسلامي، قوة إيجابية، مرهوبة الجانب مهيأة لإنقاذ الإنسانية من وهدة الضياع..
ولا شك أن الأمور الخمسة المذكورة مع ما سبق ذكره من مقومات الحضارة الإسلامية، هي أسباب قيام حضارة كاملة.. ومن هنا نقول في غير تردد، إن عودة المسلمين إلى إقامة حضارة إسلامية، أمر ممكن، ولا يحتاج منا إلى أن نخرب أنظمة الأمم، ولا أن نتمسك بأحزاب بعثها المخربون، ولا أن نقسم الأمة إلى أنظمة وجبهات، ولا أن نمزق المجتمع الواحد إلى يمين ووسط ويسار، واشتراكيين وأحرار.. وإنما يحتاج إلى أمر واحد فقط هو الإسلام. الإسلام سلوكا وعملا، والإسلام ثقافة وتربية، والإسلام نظاما وحياة، ولن يصلح آخر الأمة إلا بما صلح به أولها. والله الموفق..
--------------------------------------------------------------------------------
[1] التسمية بالخليج الإسلامي هي أفضل طريقة أمام تحديات العصر.
[2] إقليم خوارزم هذا من الأقاليم الإسلامية التي كانت عامرة بالعلم والعلماء، وهو واقع الآن في قبضة الاستعمار الشيوعي الروسي..(14/471)
العدد 40
فهرس المحتويات
1- أهل الكتاب في القرآن الكريم (3) : لفضيلة الشيخ معوض عوض إبراهيم
2- تعقيب لا تثريب - أتفسير هذا أم تغرير؟! : لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
3- مع كتاب الله: لفضيلة الشيخ أحمد عبد الرحيم السايح
4- ثمار من غرس النبوة: لفضيلة الشيخ محمد الشال
5- الوحدة الإسلامية: لمعالي الشيخ محمد المبارك
6- حضارة الإسلام دعامة أساسية في الحضارة الأوربية: لفضيلة الشيخ محمد أحمد أبو النصر
7- آراءٌ في البحث: لفضيلة الشيخ عبد الرءوف اللبدي
8- المرأة في ظلال الإسلام: للدكتور خالد علي كماخي
9- تعدد الزوجات وحكمه في الإسلام: لفضيلة الشيخ محمود عبد الوهاب فايد
10- كيف نكون شاكرين: لفضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي
11- الصولي شاعرًا - دراسة فنية تحليلية لأهم أغراض الشعر عنده: لفضيلة الدكتور أحمد جمال العمري
12- صيغة "فعلان" واستعمالاتها في اللغة العربية (2) : لفضيلة الدكتور مصطفى أحمد النماس
13- النمل والنحل مملكتان فسبحان الرحمن: لفضيلة الدكتور محمد نغش
14- الحمامة الحكيمة: لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
15- نظرات في كتاب مع الرعيل الأول: لفضيلة الشيخ محمد سليمان العبده
16- العالم الإسلامي يتكلم: بقلم الطالب محمد الأمين الشيخ
17- مختارات من الكتب
18- مختارات من الصحف
19- الفتاوى - حُكم الإحداد على الملوك والرؤساء: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(14/472)
أهل الكتاب في القرآن الكريم (3)
لفضيلة الشيخ معوض عوض إبراهيم
الذين يستجلون إنصاف القرآن لأهل الكتاب -يهود ونصارى- باعتباره الثبت الإلهي الوحيد الذي حفظه الله منذ كان من أن تمتد إليه الأهواء أو تلحقه مفتريات الأعداء، يزدادون بالنظر الموصول في الآيات التي نادتهم "يا أهل الكتاب"والآيات التي أخبرت عنهم بذلك أو باسم "يهود ونصارى"أو بصفاتهم التي تنم عنهم وتدل عليهم، أو بأنهم "أهل الإنجيل"كما تطالع المتأمل لسورة البقرة [1] وآل عمران [2] ، والنساء [3] والمائدة [4] والعنكبوت [5] والأحزاب [6] والحديد [7] والحشر [8] والبينة [9] وغيرها [10] يزدادون يقينا بأن الإسلام هو دين الله ونعمته التي أتمها على المسلمين، وأن القرآن كتاب الله حقا وهو يخاطب الأقوام ويخبر عمن انصف منهم ومن مارى في الحق واعتسف، وآثر هواه على هدى الله {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [11](14/473)
ولقد عرف الرسول صلوات الله عليه اليهود، وشافههم أول من عرف وشافه من أهل الكتاب بعد أن هاجر إلى المدينة، وكانوا على بينة من أمر نبي يُبْعث في آخر الزمان يعرفون صفاته وتتحرك ألسنتهم بسماته ويعلمون أنه الحق من ربهم، ويتوعدون به وقد حان حينه وتقارب زمانه، غيرهم من مشركي يثرب، ولكن الذين ما حفظوا عهود موسى عليه السلام، والذين جرعوه كئوس الخلاف عن أمره متزعة، والذين لم يحفظوا التوراة التي استحفظوها فحرفوها حتى أُنسوها ووضعوا مكانها من كلام غير الله ما لا تثبت نسبته إلى السماء حجة، ولا يقوم على ذلك بها دليل.. هؤلاء الذين لم يكن حظ عيسى عليه السلام من أحفادهم أطيب من حظوظ من سبقوه، كان أحفادهم أمناء على أحقادهم المورثة ومكايدهم لمن عداهم فشعارهم في كل اتجاه {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [12] .
فإنهم يطلقون "الأميين"على كل من ليسوا يهوداً، ويعاملونهم كما يشهد عليهم التلمود وبروتوكولات حكماء صهيون [13] بأحط ما تعامل به الحيوانات.
وفي باب الهجرة من صحيح الإمام البخاري رحمه الله جـ2 ص 230 طبعة الحلبي القاهرة 1372هـ من حديث أنس بن مالك قال "فلما جاء نبي الله صلى الله عليه وسلم -أي إلى المدينة- جاءه عبد الله بن سلام فقال:
"أشهد أنك رسول الله، وأنك جئت بحق، وقد علمت اليهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأَعلمُهم وابن أَعلمِهم، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يَعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يَعلموا أني قد أسلمت قالوا فِيَ ما ليس في.. فأرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم فأقبلوا، فدخلوا عليه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:(14/474)
"يا معشر اليهود. ويلكم، اتقوا الله، فو الله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا، وأني جئتكم بحق، فأسلموا فقالوا: ما نعلمه، فأعادها صلوات الله عليه ثلاثا عليهم، وهم يجيبونه كذلك، قال: فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمِنا، قال: أفرأيتم إن أسلم؟ قالوا: حاش لله، ما كان ليسلم -وكررها ثلاثا وكرروا ما قالوا- قال صلى الله عليه وسلم: يا ابن سلام أخرج عليهم فخرج فقال:
يا معشر اليهود، اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق، فقالوا: كذبت، فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "1هـ.
وفي الصحاح كلها روايات أخرى بزيادات تشهد بطبيعة اليهود، واستمساكهم بباطلهم، ودورانهم حول أنفسهم وأنانيتهم وعبادة ذواتهم، والنظر بعين المَقْتِ لسواهم"ولا أدلَّ على ذلك من حوار رسول صلوات الله وسلامه عليه لهم، وحوار الطب الحبير ابن سلام رضي الله عنه، ذلك الحوار الذي لم يثر فيم مقنعا ولا أدرك من قلوبهم موضعا، وقد لا يكون قرع منهم مسمعا، قال تعالى {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} حتى قال فيهم رب العالمين {إِنَّ شَرَّ الدَّوَاب} الآيتين [14] .(14/475)
والأيام والليالي تؤكد أن الأبناء على هوى الآباء " ولا تلد الحية إلا الحية "وأنهم في بغيهم وصلفهم وغيهم على قلب رجل واحد، رجل حاقد واحد -سواء في ذلك أحبارهم ورجال دنياهم- وقديما قيل: "من التعذيب تهذيب الذئب، ومن العناء رياضة الهرم"و "شديد عادة منتزعة"إن القوم يملكون اليوم مقاد الإعلام العالمي المجنون، ويتلاعبون بالأفكار، ويتوسلون بكل سبيل إلى استثارة الغرائز واستمالة الأغرار، وإشباع أهواء من يحسبونهم قادرين على خدمة أغراضهم في قيادة العالم، والتصرف في مقدراته كما يشاءون، ويجامعهم في كثير من عدة المكايد من غير اليهود أقوام في نفوسهم كحز المدى على الإسلام والمسلمين، يدخلون معهم تحت عنوان "أهل الكتاب" ويدني بعضهم إلى بعض -إلى حين- فرصة يظنونها تُعِين على التمكين من المسلمين، وبينهم من الخلاف الواغل ما لا يخفى على لبيب، واصطلاحهم الظاهري على ذلك في هذه الأيام، كسحابة الصيف وخيال الطيف لا تلبث الأعين أن تبصرها حتى يدركها الزوال، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [15] .
وما ينبغي أن تستبد بنا الغفلات، أو تستهوينا الشعارات أو يخدعنا عن حقائق الأشياء كلامُ مُنَمَّقٌ تردده كالببغاوات أبواق الشرق، أو حديث مزوقٌ يرسله في مجتمع الإسلام أقوامٌ هم أصداء للغرب وأفكاره وتصوراته ومطامحه وأطماعه، فإن هؤلاء جميعا {هُمُ الْعَدُوّ} [16] الذي ينبغي أن نعرفه ونكشفه في نور الإسلام وضياء الحنفية السمحة التي يظلمها من يقيسها بغيرها.
إذا أنت فضلت امرءاً ذا نباهة
على ناقص، كان المديح من النقص..(14/476)
إن الرسول قد حاور اليهود وعاهدهم وواثقهم، وواثق من بعدهم غيرهم، فهل أجدى الحوار؟ وهل أغنى عن الجهاد الجاد مع اليهود بخاصة نُبل النبي وفضله؟ الجهاد الذي يسترد الحقوق، وليس منه بحال صراخ الصارخين الذي يُصم الآذان في أماكن وأزمان، وحين تقرع الحجة الحجة، ثم لا ينتصف البرهان، وتفقد الكلمة معناها يكون إباء الرجال متمثلا في القتال، لا في الهمس والدَّس والتآمر في الدروب والأوكار، هو الطريق الذي يحق الله به حقه وينصر جنده، ويحمي أقداسه، ويعزُّ عباده وبلاده.
إذا الحرب حلت ساحة القوم أظهرت
عيوب رجال يعجبونك في الأمن
وللحرب أقوامٌ يذودون دونها
وكم قد ترى من ذي رواءٍ ولا يغنى!
وكنت من أكثر من ثلاثين سنة قد قلت في موقف من مواقف الدعوة إلى الله
إن جرى غيرنا مع الكفر يبغون
سوى الأرض دولة في السماء
وتهنَّوا بقوةٍ مكنتهم
بعض حين من كاهل الضعفاء
واستطالوا بعلمهم وهو منا
نهلوه، وأفحشوا في الجزاء
وسعوا سعيهم ونحن نيام
نتغنى بعزَّة الآباء
أن يكن ذاك شأنهم فعلينا
وزر ما كان، لا على الأعداء
شغلتنا عن الجهاد رءوس
نشأوا في مهاد الاستخذاء
لا يرون الجهاد إلا كلاما
في كلامٍ لا في صفوف الفداء
أي وربي جناية الغرب فينا
دونها من رجالنا هؤلاء
وما أهون الكفاح، وأيسر الجهاد إن كان هو ذلك الذي يضحك الثكالى في أماكن وأزمان!!
_ إن إنعام النظر في آيات سورة البقرة يضعنا أمام حشد طاغ من تعنت اليهود مع الله الذي آتاهم من أنعمه مالم يؤت أحدا من العالمين، ومع ملائكة الله الذين هم بأمره تبارك وتعالى يعملون، ومع أنبيائهم على النحو الذي سنجلوه مرات - إن شاء الله - ومهما اجتهدنا في ذلك فما نحن ببالغين من بيانه المدى الذي بلغوه..(14/477)
ولا يخطئ الصواب من جعل "أهل الكتاب"مرادين في كلام الله عن الكافرين في صدر سورة البقرة فكلامه عن المنافقين {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} وما وراءها من آيات قرر الله فيها أنه: يستهزئ بهم عدلاً وقسطاً لاستهزائهم بالمؤمنين، وآيات ضرب لهم فيها الأمثال على أنهم {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْي} وأنهم لم ينتفعوا بالحق الذي عرفوه كما لم ينتفع أقوامٌ في المثل الآخر {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ..} الآيتان.. [17] .
و"أهل الكتاب"هم بنو إسرائيل (يعقوب عليه السلام) {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [18] ويفد عليَّ من ذاكرتي مثل الفتى الذي قال لأخيه "لأهجونك"فقال له أخوه: كيف تهجوني وأبي أبوك وأمي أمك؟ فأنشد:
أبوك أب حر وأمك حرة
وقد يلد الحراَّن غير نجيب!
وخطاب الله لبني إسرائيل في عهد سيدنا محمد صلوات الله عليه تذكير وتبصير للأبناء بسوالف هبات الله وإحسانه إلى الآباء..
قال ابن الجوزي "المراد من ذكرها أي في قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ..} [19] شكرها، "أي إيجاب شكرها، فإن من لم يشكر فما ذكر" [20]
وفي إجماع واع دال لما تكلفت به سورة البقرة من أغراض قال الشيخ رشيد رحمه الله [21] ..(14/478)
"ثم خص بني إسرائيل بالدعوة تاليا عليهم ما لم يكن يعلمه محمد لولا وحيه تعالى له، فذكرهم بنعمه، وأمرهم أن يؤمنوا بما أنزله على خاتم رسله، ونهاهم أن يكون المعاصرون له منهم أول كافر به، وحاجَّهم في الدين بتذكيرهم بأيام الله، وبأهم الوقائع التي كانت لسلفهم مع كليمه، من كفر وإيمان وطاعة وعصيان ثم بالتذكير لهم وللعرب بهدى جدهم إبراهيم الخليل، وبنائه لبيت الله الحرام، مع ولده إسماعيل، ودعائهما إياه تعالى أن يبعث في الأميين رسولا منهم، وبأن علماءهم يعرفون أن محمدا هو الرسول الذي دعا به إبراهيم وبشر به موسى -كما يعرفون أبناءهم-، وبأن فريقا منهم يكتمون الحق وهم يعلمون، أي والفريق الآخر يؤمنون به، ويعترفون بوعد الله لإبراهيم ثم لموسى بقيام نبي من أبناء إخوتهم مثله".
ويردف الشيخ رشيد قائلا: "بدئ هذا السياق بالآية 40 من السورة؟ {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ... الخ} وانتهى بالآية 142 منها [22] وتخلله بعض الآيات الموجهة للمؤمنين للاعتبار بما فيه من شئون أهل الكتاب السابقين والحاضرين من اليهود بالتفضيل، ومن النصارى بالإجمال، إذ لم يكن أحد منهم -أي من النصارى- مجاورا ولا مخالطا للمسلمين في تلك الحال، فإن نزول البقرة كان في أول عهد الهجرة، وما تقدم يناهز نصف السورة وهو شطرها الخاص بأمة الدعوة ... "1هـ.
لكن الشيخ محمد عبده -رحمه الله- يضيف لهذا الكلام الجليل إضافات جزيلة الفائدة نلحقها بهذا الكلام إتماما للموضوع في هذا السياق وإجابة على سؤال قد يعرض وهو: لم أعطى الله كل هذا الاهتمام لبني إسرائيل؟! قال الشيخ رشيد: [23] قال شيخنا في سياق درسه ما مثاله:".(14/479)
"اختص بني إسرائيل بالخطاب اهتماما بهم لأنهم أقدم الشعوب الحاملة للكتب السماوية، والمؤمنة بالأنبياء المعروفين، ولأنهم كانوا أشد الناس على المؤمنين [24] " ولأن في دخولهم في الإسلام من الحجة على النصارى وغيرهم أقوى مما في دخول النصارى من الحجة عليهم، وهذه النعمة التي أطلقها في التذكير لعظم شأنها هي نعمة جعل النبوة فيهم.. ولذلك كانوا يسمون شعب الله -كما في كتبهم- وفي القرآن أن الله اصطفاهم وفضلهم.. ولا شك أن هذه المنقبة نعمة عظيمة من الله، منحهم إياها بفضله ورحمته فكانوا بها مفضلين على العالمين من الأمم والشعوب، وكان الواجب عليهم أن يكونوا أكثر الناس شكرا، وأشدهم بنعمته ذكرا، وذلك بأن يؤمنوا بكل نبي يرسله لهدايتهم، ولكنهم جعلوا النعمة حجة الإعراض عن الإيمان، وسبب إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام لأنهم زعموا أن فضل الله تعالى محصورٌ فيهم، وأنه لا يبعث نبياً إلا منهم، ولذلك بدأ الله تعالى خطابهم بالتذكير بنعمته وقفَّي عليه الأمر بالوفاء بعهده"1هـ.
وحتى نبلغ هذه الآية إن شاء الله وما بعدها نتساءل: هل تغير إلى الأحسن أهل الكتاب من اليهود فحفظوا العهود وأنجزوا الوعود، وانطفأت فيهم جذوة الأنانية، وصاروا شيئاً آخر غير أصولهم الذين قال الله فيهم {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [25] .
إلى لقاء
--------------------------------------------------------------------------------
[1] البقرة في آيتي 105، 109 عدا الآيات التي سماهم فيها باليهود والنصارى أو وصفهم بها.
[2]_ آل عمران في اثنتي عشرة آية من 64 _ 199.
[3]_ النساء في أربعة آيات من 133 _ 171.
[4]_ المائدة في ست آيات والسابعة خطاب لأهل الإنجيل من 15 _ 77.
[5]_ العنكبوت في الآية 46 وفيها الرفق في خطاب خيارهم.(14/480)
[6]_ الأحزاب الآية 16.
[7]_ الحديد /26.
[8]_ الحشر / 2، 11.
[9]_ البينة / 1_6.
[10]_ لم تستقص الآيات التي نودوا فيها بغير أهل الكتاب.
[11]_ القصص /50.
[12]_ آل عمران / 75 وسنتناولها بالبيان بعون الله.
[13]_ التلمود من كتبهم المقدسة والبروتوكولات نشر الأستاذ محمد خليفة التونسي.
[14]_ سورة الأنفال / 21 _ 23.
[15]_ ص /88.
[16]_ المنافقون /4.
[17]_ الآيات الثلاثة عشرة من 8 _ 20.
[18]_ فاطر /18.
[19]_ الآية /40.
[20]_ زاد السير جـ1 ص73.
[21]_ تفسير المنار ص 106، 107.
[22]_ وهي قوله تعالى {سَيَقُولُ السُّفَهَاء.. الخ} وسنعرض لها إن شاء الله عما قليل.
[23]_ جـ1 من تفسير المنار ص289 وما بعدها.
[24]_ أن شدتهم على المؤمنين من جهتين: مكايدهم وسوء مكرهم بهم، والثانية وهي أشد وأمعن لأنهم عرفوا الحق وعادوه وافتروا عليه الأكاذيب _ الكاتب.
[25]_ البقرة /100.(14/481)
كيف نكون شاكرين
لفضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي
كيف نكون شاكرين؟ ولكي نعرف كيف نكون شاكرين بما أمر الله سبحانه في قوله: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} ، يجب أن نعرف أولا ما هو الشكر الذي لا يصح أن نشكر الله إلا به، فلقد فهم الكثير الشكر على أنه كلمة جهرية أو سرية، يشترك في صوغها اللسان والشفتان، على نحو: نشكر الله، والشكر لله، شكرا لله على نعمه، وفي الغالب لا يرددون مثل هذه الكلمات إلا فيما يسرهم من المناسبات، وحتى الذين زادوا على هذا المستوى في معرفة الشكر، ظنوه ينتهي عندما يمدون به أكفهم الندية من خير، ليشركوا غيرهم معهم فيما أعطوا من فضل الله.(14/482)
وهم وإن كانوا بالتأكيد أفضل حالا من سابقيهم لما وقوا شح أنفسهم. وغيرهم اكتفى بكلمات ميتة حبيسة الفم، تحمل الشر أكثر مما تحمل الشكر، لما قالوها في سرائهم وتركوها في ضرائهم، والآن أدعو النوعين لنفهم معا أمر الشكر من أصفى ينابيعه، من كلام المشكور نفسه سبحانه، فلقد أكرمني بحب كتابه منذ طلبت العلم، وأعطيت منه قدرا والحمد له، كان المداد لما أقول وأكتب فقد قدم لنا سبحانه الشكر على أنه الإيمان به، وأن غير الشاكر هو الكافر به، كفر بلفظه ومعناه، المتصل بإنكار الله، فلم يجعل سبحانه في القرآن شيئا ضد الشكر إلا صريح الكفر، وإليكم من روضة القرآن هذه القطوف من الأدلة {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي تؤمنون، حيث لم يسبق لهم إيمان ليكون الشكر فرعا له، بل إن كفرهم من نوع هو أجرأ ما يكون من مخلوق على خالقه، لما اشترطوا لإيمانهم رؤية ربهم جهرة، وهم يعلمون استحالة ذلك في الدنيا من كتبهم، حيث ادخر رؤيته في الآخرة لتكون قمة العز لمن آمن به بالغيب، فرد على مطلبهم بأن أراهم نفسه في بأسه، لما صعق جموعهم في لحظة، وأراهم نفسه في قدرته، لما أعادهم إلى الدنيا من جديد، ثم قال لهم: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي لعلكم بما فعلت بكم تؤمنون بي، وقوله تعالى مخاطبا عباده {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} فهذه الآية القصيرة لم تضم إلا أربع كلمات ما أعجبها، اذكروني بالإيمان والطاعة، أذكركم بالأجر والمثوبة، واذكروني بهذا الوصف، فإن لم تفعلوه فأنتم تكفرون، وقوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} فالكلمتان، شكرتم وآمنتم، معناهما ينتهي عند الثانية وهو الإيمان، إن أدركتم الشكر بالفكر،(14/483)
وأعلنتم الإيمان بالذكر، فلا يُفْعل بكم عذاب، وغير ذلك كافر يقع به العذاب، ومعلوم أننا ما قصدنا التفسير بالتفصيل، وإنما نأخذ من الآيات الكريمة ما نثبت به حقيقة الشكر، وهو أنه الإيمان كله الذي لا يتجزأ، وأن عكسه الكفر الذي لا يتجزأ أيضا، وحكاية القرآن عن يوسف عليه السلام، عندما لم يمنعه شعور السجين المظلوم عن تعريف من في السجن حقيقة الشكر، حيث يقول بوحي ربه مخاطبا صاحبي السجن الكافرين {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ، وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} ، فكلمة يشكرون، جاءت في نهاية حديث وجه إلى كافرين، أو مشركين بإشارة واضحة في الآية الثانية، وأنه قال لهما: إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله، وهم بالآخرة هم كافرون، ويشير إلى نفسه عليه السلام بقوله: "ذلك من فضل الله علينا" أي نحن الأنبياء _ لم أوحى الله بالإيمان"، (وعلى الناس) لما أمرنا بتبليغ هذا الإيمان إليهم، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} لا يؤمنون بما أبلغناهم به، وقوله تعالى على لسان نبيه سليمان عليه السلام، لما أرى عرش بلقيس مستقرا عنده في أقل من رمشة الجفن {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ؟} فهو هنا عليه السلام وهو الرَّبيُّ المعلم بالوحي، وضع صريح الكفر إن لم يقع الشكر، فلم تذهله صنعة سرير بلقيس عن ذكر القدرة التي حملته إليه بهذه السرعة، ليس محمولا على طائرة أسرع من الصوت ولا على صاروخ، وإنما في الزمن الذي تستغرقه كلمة (كن) ، وقدرت الآية هذا الزمن بأنه لا يوازي طرفة العين وإنما أقل {قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} ، ثم تنتهي(14/484)
الآية بتأكيد حقيقة الشكر على نفس الألفاظ والمعاني السابقة بقوله {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} . فسليمان عليه السلام بعد أن كرر هنا مفهوم الشكر، غلبت عليه صفته الأصلية، وهي أنه رسول مبلغ لحكم لله، ومن ذلك، ما هو مقرر عند الله لكل من الشاكر والكافر كما ذكرت الآية، وهذا الحكم في أمر الشكر الذي أجراه الله على لسان سليمان، وهو أن الشكر أصل وليس فرعا، بل هو أصل الأصول كما أثبت وما سأثبت، لأن المشكور سبحانه إما أن يُعرف بنعمه فيعبد ويوحد، وإما أن تكفر نعمه فيجحد، أقول إن هذا التفهيم الذي أنطق الله به نبيه سليمان، هو بعينه مع حكيم الله لقمان {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} .(14/485)
فانظروا إلى تعريف معنى الحكمة، وهي الموصوفة من ربها سبحانه بأنها خير كثير {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيرا} حيث شملت خيرية الحكمة بكل كثرتها كلمة {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} فيصبح المعنى، ولقد منحنا لقمان الحكمة، ولكي يعرفها قلنا له: هي شكر الله، ثم يكمل ليؤكد، بأن الشكر بعد أن فهم ليس ضده إلا الكفر، وليس مجرد معصية {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِه وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} ونزيد من تعليم ربنا لنا عن حقيقة شكره، يقول سبحانه: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} فالآية هنا هذه المرة، بدأت بالكفر ليعرف أنه مقصود بحرفيته ومعنويته ليضاد الشكر، ولا يقبل هنا تأويل بغير ذلك، فكلمة الكفر هنا يستمسك اللفظ فيها بالمعنى لا انفصام لهما، والدليل قوله في نفس الآية: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} ثم تأتي كلمة الشكر بعد ذلك تحمل كل الإيمان بجذره وفرعه، لتكون كفئا لمحق كلمة الكفر بكل دنسها، فهو لا يرضى لعباده الكفر لأن ما أعد للكافرين لا يرضيهم ويرضى لعباده الشكر لأن ما أعد للشاكرين سيرضيهم، وفي نهاية هذا الجزء من المحاضرة أتصور تساؤلين، أحدهما: ألا يجوز أن ندخل فيما أوضحنا جواز اعتبار الكفر المقصود فيها أيضا، هو كفر بالنعمة وليس كفراً بالمنعم؟ ومع أنني سأفرد جزءا كاملا من المحاضرة سيأتي بعد إن شاء الله، أفصل فيه الجواب عن ذلك، إلا أنني خشيت أن يعيش معي البعض الآن بشتات فكر، حيث سمع وربما لأول مرة ومن كتاب الله، أن الشكر هو مجموع الإيمان كله، وأن عدمه هو مجموع الكفر كله، ولا وسط بينهما، أقدم الآن مُسكَّناً حتى يتم العلاج بكامله بإذن الله، فأقرر بأنه لا يجوز أبدا أن ندخل فيما ذكرنا إمكان الكفر بالنعمة وليس بالمنعم، لأن التفريق بين المنعم ونعمته(14/486)
محال، بل هو زيادة في الكفر، فالله لا يبعض، فهو بذاته وصفاته وأفعاله واحد له المثل الأعلى {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض} وما قاله سبحانه في سورة الإنسان، هو تتمة مشبعة لما سبق من أدلة، {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} ، هديناه السبيل بيناه له، والإنسان إزاء هذا التبيان إن قَدَرَ حق ربه كان شاكرا، وإن أنكر كان كافرا، وليس في الآية معنى ثالث، لا بالعبارة ولا بالإشارة، ولقد جاءت الآية هنا بشيء يؤكد ما قلت، وهو أنها بالغت في الكفر ولم تبالغ في الشكر، فذكرت الشكر بصيغة اسم الفاعل وذكرت الكفر بصيغة المبالغة، فلمجرد أنه أبى أن يكون شاكرا، أصبح كفورا مبالغا {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} .
ومن هذا الذي ذكرناه يفترض التساؤل الثاني، هل إذا شكرتُ بمعنى آمنت بالمشكور سبحانه، وأقمت له أركان الشكر بما أمر ونهى، وجاء يوم رزقت فيه مالا أو عيالا أو شيئا قرت به عيني، ولكن حدث أني ما شكرت في هذه المناسبة أفأكون قد كفرت؟ أقول لك مستحيل أن يقول أحد بهذا التفكير، فقط لك حكم سيأتي في خلال المحاضرة أيضا إن شاء الله تعالى.(14/487)
هل لنا أن نعرف، إن كان الحمد والشكر لفظين مترادفين لمعنى واحد؟ أم أن لكل منهما مدلولا خاصا به؟ ظاهر الأمر أن مفهومها واحد، وأن البعض ظن ذلك، أو قال به، وأنا لا أظن ذلك ولا أقول به، وإنما بينهما أكثر من فرق، وهذه حجتي إليكم، فالحمد لفظ ينتهي مدلوله عند مرحلتين، الاعتقاد بالقلب والإقرار بالقول، والشكر يشترك معه فيهما ويزيد الإلزام بالعمل، فمن الحمد قال الله سبحانه: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدا} {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} ، وعن الشكر قال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ} ، فقد سأل الله تعالى أن يعينه على شكره بالعمل الصالح الذي يرضاه، بل فهمها من هو أفضل من سليمان. وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وما ذكرت آية آل داود إلا أن فيها أمر تنفيذ الشكر مذكورٌ بلفظ العمل الصريح، وليس معاذ الله عدم تقدير مني لدرجات الأنبياء، فرسولنا صلوات الله عليه قال لربه: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} ، أي كن من الشاكرين بأن تعبد، وليس فقط بأن تقول، وراح الرسول يفسرها بالعمل حتى تورمت قدماه، ولما طلبوا منه التهوين على نفسه، أجاب بنفس الاشتقاق الصادر إليه: "أفلا أكون عبدا شكورا؟ "، ولكن كان عندما يتكلم يبدأ قوله بكلمة الحمد، وما علم عنه صلى الله عليه وسلم أنه بدأ قوله بكلمة الشكر، فهو قد جعل الاعتراف بالحمد قولا، وجعل الاعتراف بالشكر يتعدى إلى العمل حتى تورمت قدماه {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} ، فالعمل الصالح في الآية هو الشكر على الأكل من الطيبات، ولأن الحمد قول فقط أيضا، نقول في الصلاة سمع الله لمن حمده، ولا يجوز (رأى الله لمن حمد) ، لأن القول يسمع، والعمل يرى، ولهذا قال سبحانه لموسى(14/488)
وأخيه: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} ، أسمع ما يقال، ورأى ما يعمل، ويقول لنا المفسرون عن كل كلمات الحمد التي بدئت بها سور أو آيات، ولم يذكر قبلها القول صريحا، أن يذكر قبلها تقديرا {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قل أو قولوا: الحمد لله رب العالمين {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} قولوا: الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض إلى آخر الآية {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ} أي قولوا: الحمد لله، وهكذا بقية الآيات التي من هذا النوع، فآيات ذكر فيها لفظ القول، وآيات للقياس عليها، وفرق آخر بين الشكر والحمد، وهو أن الشكر بالنسبة للإنسان ألزم من الحمد، لأن الشكر عمل كما أوضحنا، والحمد قول كما أوضحنا أيضا، والعمل للإنسان أجلّ {آمَنُوا وَعَمِلُوا} {وَقُلِ اعْمَلُوا} {ِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ} {فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} ولم يبلغ القول في القرآن إلى مستوى العمل أبدا، فالكثيرون يدعون صحة الاعتقاد، وإن يقولوا تسمع لقولهم تجده يخالف نهائيا ما ادعوه، والكثيرون يقولون، ولو حقا، ومن القول الحق ترديد كلمتي الحمد والشكر، ولكن الصعوبة في تحويل صحة الاعتقاد وحسن القول إلى عمل، وتحريك الجوارح لتكون آلة بشرية تنتفع وتنفع، أذكر وأنا في تجوالي في بعض البلاد الإسلامية، ركبت سيارة أجرة، وفيها أربعة بالسائق من أهل البلد الذي كنت فيه، وبعد أن تحركت السيارة صاح أحدهم بكلمة: الحمد لله، وردد الباقون جميعا وراءه، وكنا في نهار رمضان، فقلت لعلها صحبة طيبة جمعها الله على حمده، لعونه لهم على صيام شهره، وما لبث أحدهم أن أخرج من جيبه علبة الدخان وأشعل سيجارة، وربما هو الذي صاح فيهم بكلمة الحمد، وكما رددوها جميعا وراءه، تبعوا جميعا في إشعال سجائرهم،(14/489)
وبالتأكيد ما كانوا جميعا يهودا ولا نصارى، لأن البلد إسلامي والدين الرسمي فيها هو الإسلام، بل انبرى أحدهم وهو أضخمهم طولا وعرضا، يعيب على رمضان لأن أيامه طالت أكثر من اللازم، قال ذلك وهو يجر نارا من سيجارته جرعات يملأ بها بطنه، ورمضان لم يتعبه صومه ولم يمنعه من أن يتكيف، وكان لابد أن يحدث بيني وبينهم ما شاء الله أن يحدث، فهؤلاء سهل عليهم قول الحمد في رمضان، وثقل عليهم تحويله إلى صوم رمضان، وهو العمل ليحصل به الشكر {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} ولهذا كان المتلفَّظون بالحمد كثيرين، من نوع من كانوا معي في السيارة، وكان العاملون بالشكر قليلين، بقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} وقوله {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} ، وقيل إن عمر رضي الله عنه سمع رجلا يكثر من قوله:"اللهم احشرني مع القليل، فسأله عن هذا القليل، فقال الرجل: أما سمعت قوله تعالى {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} ، فسر عمر بها واستعملها لنفسه، ونقدم ما يزيد علمنا بأن عمل الشكر زاد عن قول الحمد، أن الله تعالى لما جعل الشكر من عباده أساسَ عبادته المباشرة، من صلاة وصوم ونحوهما، جعل أيضا شكرهم لبعضهم عبادة له تزيد من أجرهم، فقد أمر سبحانه العبد أن يشكر لوالديه {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك} فشكر الله عبادته، وشكْرُ الوالدين برُّهُما، وكلاهما عمل بل فاض أمر الشكر حتى زاد عن الوالدين إلى التعامل مع كل الناس، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "من لم يشكر الناس لم يشكر الله"، وشكر الناس أن تقابل إحسانهم بمثله، إن كان قولة أو فعلة، لأن مبدأ الشكر الاعتراف بالفضل لأهله، فإن وجد ذلك كان لله ثم لعباده، وإن عُدِم فليس لله ولا لعباده ومعلوم من غير توضيح أن شكر الوالدين وشكر الناس جزء من شكره سبحانه وحده، فمستحيل(14/490)
الفهم على الظاهر هنا بأن يكون له شكر ولغيره شكر آخر، لأن أحدهم سألني عن هذا يوما. وفرق ثالث بين الشكر والحمد يصبح الحمد فيه هو المستمر بلا انتهاء، ويكون الشكر فيه هو المنتهي، ذلك أن الشكر وقد فهمناه على أنه عمل، سينتهي مع الناس بنهاية الدنيا، حيث لا عمل للناس في الآخرة، ولكن ثواب وعقاب، أما الحمد فهو قول قدسي قيل في الدنيا، ثم عبر حاجز فنائها ليبقى في الآخرة، وليقال من جديد بلا حدود، من أفواه لم تكلح وجوهها بلفحة نار، ولم تشوه بماء كالمهل، وإنما هي وجوه نضرة النعيم، فلم يكن يومها أعظم من كلمة الحمد يثنون بها على المحمود وحده، بما ذكر القرآن عنهم {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وآخر ثنائهم قولهم: الحمد لله رب العالمين، وفي آية أخرى {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} مجرد مساس من التعب لا يقع لنا فيها وفي آخر سورة الزمر ينقل القرآن حديثهم {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} . إلى أن تُختم السورة بقوله سبحانه {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .(14/491)
أما العباد الشاكرون وقد انقطع عملهم بترك الدنيا، فإنهم هم الذين سيشكرون من ربهم في الآخرة بالأجر الذي سيظلون أبدا يحمدونه من أجله، لما يقول لهم سبحانه بعد أن يستقروا في نعيمهم: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} ، وأظنه قد وضح لكم تماما، أني ما قصدت المفاضلة بين الحمد والشكر، فكلاهما لا غنى للمؤمن عنهما يصرفهما إلى الله وحده وإنما قصدت توضيح أمر علمي على النحو التالي: أن نحمد ونشكر بالقلب والقول، وأن نخص الشكر بالعمل لأنه الإلزام للعبد، وبانتهاء شكرنا في الدنيا يستأنف الشكر لنا من الله بسخاء عطائه، ومن أجل هذا العطاء يستأنف الحمد منا له أبدا الآبدين، إن شاء الله، فلعلنا نعرف اليوم كيف نكون شاكرين، عسى أن نكون يومها من الحامدين.(14/492)
ومجال الشاكر في الدنيا قبل الآخرة، إذا قام بالشكر على الصورة التي أوضحناها فإن أسرع ما يجمع الحسنتين في الدارين هو الشكر، وحسبنا عن الشاكر في الآخرة، أنه سيتحول من شاكر لربه إلى مشكور منه، يُسمعه كلمة الشكر ويغمره بالأجر، أما في الدنيا ونحن الآن فيها، فلا مانع أن يرجو الشاكر أجره الدنيوي أيضا، وإن عينه لتقر عندما يسمع هذا العهد يأخذه على نفسه مَنْ مَلَك الوفاء كله عندما قال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} قد أعلن مقسما بزيادة الشاكر، أما بقية الآية {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} ، فقد جعلت لها حديثا منفصلا يلي هذا إن شاء الله، لأن نصف الآية تحدث عن الشاكر، ونصفها الآخر تحدث عن الناكر، {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} ، ولكل حال مقال كما يقولون، أما الآن فحديثنا عن الشطر الأول من الآية الذي وعد الله فيه بالزيادة لمن يشكر، وفهمها البعض على أنها زيادة وقفت عند ظاهر التعبير على أنه شكر وقع وقوبل بزيادة ما، ولكن المعنى هنا مستمر لا يقف، أي كلما زاد الشكر زاد القدر، بلا توقف ولا كم معين، وفي ذلك يقول عالم الصحابة عليٌّ رضي الله عنه: "إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر معلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرن، فلن ينقطع المزيد من الله، حتى ينقطع الشكر من العبد"، ثم إنه لا يطلب منا أن نوفي الله على كل نعمه، فكل نعَمِه يستحيل إحصاؤها من جهة، ومن أخرى فإننا مهما بلغ منا الشكر فلن نوفيه حقه في واحدة منها، ولكن نعم الله على العباد في هذه الدنيا أجملت أساسا في قسمين، قسم روحي، وقسم مادي، فقسم الروح لما يمن على الإنسان بالإيمان به، وهو منة المنن بلا شك {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} ، {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} ، ومع عظم ما هديت إليه من نعمة الإيمان، فإنها في حاجة(14/493)
إلى زيادة دائمة من واهبها إذا شكرته عليها بصورة دائمة أيضا، وهذا داخل في معنى الزيادة التي ذكرتها الآية، فكلما شكرته على الإيمان بعمل الطاعات، كلما رفع درجة إيمانك وقربك إليه، والعكس يقع كما سنوضح بعد في الشطر الثاني من الآية إن شاء الله، والقسم المادي من النعم هو ما تحسن وتطيب به دنيا الإنسان، من مال وولد وصحة بدن ومنصب وما إلى ذلك، والشكر على هذا النوع لا يقل عن شكر النوع الأول، فالمنعم واحد والمشكور واحد، والصفوة الممتازة وهم رسل الله، مع علمهم بأن الله أتم عليهم نهائيا نعمته، كانوا من أكثر خلقه شكرا على نعمه المادية الدنيوية هذه، ليبقيها لهم ويزيدهم منها، فهم أعرف الناس بأنه لا يجوز أن يؤمن مكرٌ الله، ولذلك أثنى عليهم بصريح المديح من ربهم، فمثلا إبراهيم عليه السلام مدحه ربه بقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لأَنْعُمِهِ} ، فهو قد حمد بالقول لما وهب إسماعيل وإسحاق، وشكر بالفعل لما أكرم أضيافه بالعجل السمين الحنيذ، المشوي، فلم يقدم تيسا ولا كبشا وكان عنده من ذلك الكثير، وإنما شكر على أعلى مستوى مما أعطاه، ونوح عليه السلام، وهو من أمثلة المديح الإلهي للشاكرين، لما قال عنه ربه {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} ، قيل إنه بالغ في الشكر، فبالغ الله له في صفته {وكَانَ عَبْداً شَكُوراً} ، ومن أمثلة مبالغته في شكر ربه، ما ذكروا من أنه ما مس شيئا قط ولا مسه شيء قط، إلا شكر الله عليه، وأنه إذا سكت عن ذلك أثناء الغائط يقول فور خروجه منه: "الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى فيّ منفعته، وأذهب عني ضره"، لكن نعم الله الدينوية على عباده أنواع شتى، يميز كل عبد منها بنوع أو أكثر، ومن هنا يكون شكر المنعم عليه من نوع ما أوتي، فالحاكم مثلا وهو أكثر الناس حظا في الدنيا، شكره محدد بأمر لا(14/494)
يجوز له سواه، وهو تحويل ما في المصحف إلى تنفيذ تام على نفسه وعلى قومه، فهو سلطان الله في أرضه كما وصف عمر رضي الله عنه نفسه بذلك، وصاحب عافية البدن شكره الإكثار من العبادة وعون العاجز والكليل، وصاحب الوظيفة أو المنصب الرفيع شكره الإخلاص وخدمة الناس، وصاحب السعة في الرزق شكره عدم قبض يده لتظل العليا وليست السفلى، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم قوله "بينما رجل يمشي بفلاة من الأرض، فسمع صوتا في سحابة: اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحابُ فأفرغ ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشراج (قناة الماء) قد استوعبت ذلك الماء كله، فتتبع الماء، فإذا رجل قائم في حديقة يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله، ما اسمك؟ قال: فلان، للاسم الذي سمع في السحابة، فقال له يا عبد الله لم تسألني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتا في السحاب الذي هنا ماؤه، يقول: اسق حديقة فلانٍ لاسمك، فما تصنع فيها؟، فقال: أما إذ قلت هذا، فإني أنظر إلى ما يخرج منها، فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثا، وأرد فيها ثلثه"، رواه الإمام مسلم، فانظروا إلى قدر الشكر عند الله، يسخر سحابة كاملة لعبد شاكر، ويعين لها الاسم، فتطيع وتطير بمائها وتلقيه حيث أُمِرَتْ، على أن نوعا من الناس لم يعط من مادة الدنيا ما يمده للغير على نحو ما ضربنا من الأمثال، فهو ليس بحاكم، أو به علة منغصة، أو قدر عليه رزقه، فالأول لا يحبك انقلابا لمجرد أن يحكم هو، فقد يمسي مقتولا أو مسجونا، وصاحب العلة المنغصة يغدو بها ويروح، لا يحسد الصحيح، فهو خير ممن ألزمته علته الأرض حتى غدا لا هو حي ولا هو ميت، ومن لا يملك إلا قوت العيال، فلا يحسد ذا المال، فهو خير ممن اضطر أن يتكفف الناس، فهؤلاء وأشباههم شكرهم مداومة النظر إلى من تحتهم فيطمئنون إلى أنهم أحسن كثيرا من غيرهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يوجهنا بجميل قوله بروايتين للبخاري ومسلم، الأول يقول: "إذا نظر أحدكم إلى من فضل(14/495)
عليه بالمال، والخَلْق، فلينظر إلى من هو أسفل منه، ممن فُضَّل عليه"، ورواية مسلم: "انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم"فالذي شكر بهذا التوجيه، وفهم الهدي النبوي منه، يعيش قرير النفس هادئ الفؤاد وَوُهب حب الخير للخلق، ونزع منه الغل للغير وارتفع بعز القناعة، ونعود إلى السؤال الذي افترضته ووعدت بالجواب عنه في موضعه، وهو، هل إذا شكرت بمعنى آمنت بالمشكور سبحانه، وأقمت له أركان الشكر بما أمر ونهى، وجاء يوم ورزقت فيه خيرا ما، وحدث أني في هذه المناسبة ما شكرت، أفأكون قد كفرت؟ نقول لك: لا، لأن عدم شكرك هنا ليس من العمل العمد المتصل بإنكار المشكور سبحانه، فكما لم تشكر اليوم قد تشكر غدا، لكن إذا شكرت في الكثير، وفي غير ذلك قلَّلَ الشيطان النعمة في عينك دون أن تجحد المنعِم، فحكمك حكم من خلط عملا صالحا وآخر سيئا، عسى الله أن يتوب عليك فلا يعاقبك في الدنيا بزوال النعمة، وفي الآخرة بسؤالك عنها.(14/496)
والآن نريد أن نعرف ما إذا كان الكفر بالنعمة غير الكفر بالمنعم، وهو الأمر الذي قلت إني سأفصله بعد، ودعامة الحديث فيه هو الشطر الثاني من الآية {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} ، فالكفر هنا الذي أعد الله له العذاب الشديد هو الكفر بالنعمة، المضادُ لقوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} فهل العذابُ الموصوفُ في الآية بالشدة، والمعلنُ بالقسم منه سبحانه، يمكن ألا يعد إلا للكافر الذي ذكرته الآية هذه، أو من نوعه في قوله تعالى {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} فالكفر بالنعمة يقتضي الكفر بالمنعم، فلا عقل ولا نقل يختلف في هذا أبدا، ولنسمع هذا المثل النازل من السماء، في أمر صاحب الجنتين اللتين آتت كلتاهما أكلها ولم تظلم منه شيئا، فصورة كفره بهذه النعمة الكثيرة في قوله لزميله الشاكر بقليله وما في القرآن من حكايتهما {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} إلى آخر الآيات، فهو لم يشكر النعمة التي ظن أنها لن تبيد، وجره الظن بذلك إلى الظن بعدم قيام الساعة، التي سمع أنها ستبيد الدنيا ومنها حدائقه الواسعة، فلا شيء يُبيدُ بساتينه أو يُغيضُ ماء نهره، ومع أن كلمة الكفر لا وجود لها من هذا الجاحد في كلمات الآية، إلا أن صاحبه وصمه بها على الفور، فلم ينقله من الكفر بالنعمة إلى الكفر بخالقها، وإنما طبعه مباشرة بالكفر بالخالق، عندما قال له: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ؟} إلى أن أعلنت الآية إبادة ما ظن أنه لن يبيد، {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} ، وهكذا بعد الفوات، علم بأن عدم شكره أدى إلى شركه، ومن أمثلة(14/497)
القرآن أيضا نقدم قصة السَّبَئِييَّن: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيل ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} فما طُلب منهم مقابل هذا العطاء العظيم إلا أن يأكلوا ويشكروا، فما أرهقوا بخراج ولا أثقلوا بمغرم، فعن الأكل أكلوا، وعن الشكر أعرضوا، فجوزوا بالعقاب الرهيب الذي ذكرته الآية، فهم أيضا لم يعلنوا كفرهم بربهم، وإنما كفروا بنعمته لما أعرضوا عن شكرها، فغرقوا في مستنقع الكفر بالله إلى رءوسهم كإغراق سيل العرم لزرعهم، ويقرر ذلك باستفهام التقرير مع حصر المعنى بأن جزاءه هذا لا يقع إلا للكافر والمبالغ فيه {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ} ، وغير هذا من وقائع كثيرة مذكورة في القرآن، كقصة القرية التي كفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف، وكقوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} أي كفرت نعمتها، وأصحاب الجنة التي أصبحت كالصريم، لما انطلقوا وهم يتخافتون ألا يدخلنها أي مسكين، والذي عاهد الله لئن آتاه من فضله ليصدقن وليكونن من الصالحين، فلما آتاه من فضله خان عهد الله ومنع الصدقة، فكان أن طرد من رحمة الله نهائيا، وشبيه بذلك كل مانع للزكاة، إجماع على أنه يقاتل ودمه هدر، والسنة أيضا زاخرة بذلك، فكلكم يعلم بماذا قضى على الأقرع والأبرص، لما أنكرا نعمة الله في حديث الصحيحين المشهور عن الثلاثة، حيث فاز الأعمى بشكره للنعمى، وخسر الآخران بكفرهما بها، وكذا ما روي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه بسند صحيح، قوله صلى(14/498)
الله عليه وسلم: "التحدث بالنعمة شكر، وتركها كفر" ولفظ الحديث بتمامه جميل نسمعه "التحدث بالنعمة شكر، وتركها كفر، ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، والجماعة بركة، والفرقة عذاب" إذاً فلنشكر نعمة الله على الفهم الذي قدمناه، وليس فقط بكلمة شكر يخادعون بها، وما يخدعون إلا أنفسهم، ويقدمون لزوال نعمتهم، فكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وتحول عافيتك" وروى الموقدي والزهري عن عروة رضي الله عنه عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم، فرأى كسرة ملقاة، فمسحها فقال: "يا عائشة، حَسَّني جِوار نعم الله عز وجل، فإنها قلما نفدت عن أهل بيت، فكادت أن ترجع إليهم"، أو قد تستدرج، بمعنى أن تبقى النعمة وقد تزيد ولو لم تشكر، وذلك في تأويلين بمعنى واحد لقوله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} ، أحدهما، نُسبغُ عليهم نعمنا ونمنعُهم شكرنا، والثاني: كلما أحدثوا ذنبا، أحدثنا لهم نعمة، ليظنوا صواب طريقتهم، فإذا ما جمعوا فأوعوا، جمعوا المال حتى امتلأت به أوعيتهم، وليس كما استعمل البعض الآية في غير معناها _ وماتوا وتركوها بخلابها وكنزهم لها، فهؤلاء داخلون في قوله تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} وأعلم واحد من هذا النوع، كان يخبئ أوعية المال في أماكن خفية لم يخبر عنها أهله، ففاجأه الموت على غرة، وهكذا حرم نفسه وغيره من نعمة الله، فما استفاد منها ولا أفاد، ولا يقولن جاهل بأن الكافر أوفى نعمة من المؤمن في هذه الدنيا، ذلك لأنه ليست له نعمه، وإنما هي عليه نقمة، فمعروف بأن الدنيا جنته أمليت له، ليزداد بها عند الله شقاء. {وَلا يَحْسَبَنَّ(14/499)
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} وعندها سيسمعونها مرعبة {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} فليس في موضوعنا هذا الذي اختار التعامل مع دنياه، أما نحن الذين نتعامل مع الله، فقد آثرنا ما يدوم على ما يزول، فهذا جعلنا نرضى بما نُعطى، وعرفْنا شكره على ما أعطى بأنه إفادة الغير، من نوع أو أنواع ما أنعم علينا به، والاشتغالُ بطاعته وعدمُ إغضابه، بهذا نعرف كيف نكون شاكرين، فيبقي لنا النعمة في الدنيا، ويتمها برحمته في الأخرى، ولنحذر العكس فنحرم، أو نستدرج من حيث لا نعلم وقينا شر ذلك، وجُعلنا من الشاكرين.(14/500)
إن الذي يتناول الحديث عن الشكر، لابد له أن يطرق جانب الصبر لأن النوائب التي أحوجت الإنسان إلى جهد الصبر، استجلبها هو لنفسه، حيث لم يجعلها الله أساس عمله مع عباده، وإنما بدأهم بالخير غير الممنون، قدم لأول خلقه جنته، وقال له: {إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى، وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} ، فأبى إلا أن يهبط منها إلى أرض البلايا، فكان الاضطرار إلى الصبر، بعد عدم الشكر، وما قصدت حديثا شاملا عن الصبر، فهو موضوع ممتدٌ العُياب، يحتاج إلى كتاب، ولم أبلغ من العلم هذا المقام، وإنما آخذ منه ما أكمل به موضوعي وهذا حسبي، فالشكر في أساسه وهو الإيمان، لابد أن يقع في امتحان، {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} ، وهنا دور الصبر ولا شيء دونه، ليثبت في قلبه نور ربه، والشكر في النعم المسبغة المفرحة للنفس، معرضة للنقص والغِيرَ، وهنا دور الصبر ولا شيء دونه، ليهون عليه الابتئاس والأنكاد، وليذكره بأيام هنيئة شكر فيها، إلى أن يذهب الغيم ويزول الهم، وقد أشارت إليهما مجتمعين أكثرُ من آية، كقوله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} ، فالصبر للشر، والشكر للخير، وقوله {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} فالضحك للسرور الذي له الشكر، والبكاء للحزن الذي له الصبر، إذ لا حيلة لتجنب الابتلاء بالبكاء بعدما قضاه الله في هذه الدنيا، بل إن ما يسيل الدموع فيها هو الأكثر، فلكي تقدر على حقيقتها حلاوة العسل، لابد من حموضة الخل، فلا يصح أن يختل وقتئذ ميزان الإيمان عنده، ليكسب الأجرين معا كما وعد الصادق صلى الله عليه وسلم، حيث جعل كل أمر الدنيا في حالين، سراء وضراء، والمؤمن في كليهما رابح، وقصر ذلك على المؤمن لأنه ثابت الحال عند تبادل الحالين عليه، فقد قال صلوات الله عليه وهو يعجب: "عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك(15/1)
لأحد. إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له"متفق عليه، ومع أنه سبحانه قدر الابتلاء ليمحص الذين آمنوا وليميز الخبيث من الطيب، لم يفاجئنا بابتلائه، لعلمه بوقع الأسى المفاجئ على الضعف الإنساني، فقدم إعلامنا به قبل أن يوقعه بنا، ليكون سهل الحدوث هين التأثير، فمن ذلك قوله عز من قائل {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} وقوله {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} وقوله: {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ} وقوله {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} ، ومن هذا كثير في كتابه مذكور بالمؤكدات كما سمعنا، من هذا كان من اللازم أن يعيش المؤمن طول عمره، مستعدا لتقبل أمر ربه، لا يفاجأ به ولا يُنال من إيمانه، وبذلك يكون إن شاء الله من أهل هذا الحديث الشريف "مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع، تفيَّؤُها الريح، تصرمها مرة وتعدلها أخرى، حتى يأتيه أجلهُ، ومثل الكافر كمثل الأرزة المجذبة على أصلها، لا يصيبها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة"رواه الإمام مسلم، فالصبر إذاً شيء يعده المؤمن سلفا، حيث لابد منه يوما، يستعمله في هدوء ورضاً، على حد قول شاعرنا السابق:
عرفنا الليالي قبل ما نزلت بنا
فلما دهتنا لم تزدنا بها علما(15/2)
وفي اعتقادي أن كل ما أوتيه أيوب عليه السلام من الأجر على الصبر، لا يساوي كلمة المدح التي سُكِبَتْ عليه من ربه، {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} رجاع تواب فعل هذا وهو تحت وطأة الداء، فقد ذكروا أن زوجته قالت له كلمة، فهم منها استبطاءها لشفائه، لطول علته التي أضنته، فقال لها غاضبا، والله ما أنصفت الله، أيُفيض علينا من نعمه أربعين سنة، ولا نصبر على ابتلائه بضع سنين، والله إن شفيت لأضربنك مائة ضربة، فهو عليه السلام قد غضب لربه وهو في شدة ابتلائه من الذي غضب لأجله، فكان نعم الجزاء هذا الثناء، بل وشملت رحمته زوجته {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} ، ونُقل عن علي رضي الله عنه هذه الحكاية "لما ضاق بختنصر بنبي الله دانيال عليه السلام، أمر بوضعه في جب مع أسدين، وأغلق عليه خمسة أيام، ثم نظر ليرى ماذا فعل الأسدان بدانيال، فوجده بجانب الجب يصلي، والأسدان لم يفعلا به ضرا، فقال له بختنصر: أخبرني ماذا فعلت حتى دُفع عنك؟ قال: قلت: الحمد لله الذي لا ينسى مَنْ ذكره، الحمد لله الذي يكشف حزننا عند كربنا، الحمد لله الذي يجزي بالصبر نجاة) ، ويقول شريح: "ما أصيب عبد بمصيبة، إلا كان لله عليه فيها ثلاثُ نعم، ألا تكون كانت في دينه، وألا تكون أعظم مما كانت، وأنها لابد كائنة فكانت"، وذكر في تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} أنه صح عنه صلى الله عليه وسلم قوله في تعريف أصحاب هذه الآية "من ابتلي فصبر، وأعطي فشكر، وظُلم فغفر، وظَلَم فاستغفر، ثم شكر، وهنا سكت صلى الله عليه وسلم، قالوا: ما له يا رسول الله؟ قال: أولئك(15/3)
لهم الأمن وهم مهتدون"، أما هذا الذي تخدعه بسمات الأيام، ولا يأخذ في باله أن الفم الذي يبتسم، يمكن أيضا أن يعض، فإذا ما دهمته بلوته، كان واحداً من اثنين، إما أن ترجه الصدمة، فيصاب بأسقام قد تلازمه طول عمره لا يبرأ منها، وأظُّننا نعرف قائمة طويلة من هذا النوع بتسمية الأطباء، كالشلل والضغط والتصلب والسكر وقرحة المعدة والسرطان وغيرها، عوفيتم منها جميعا، بل قالوا قد يصاب بظلام العمى، وكان القرآن أسبق وأصدق {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}(15/4)
بلى قد يؤدي الحزن إلى مصرع المحزون ولا دخل للتحدث هنا عن الأجل، فقد عاتب الله رسوله في هذا قائلا له: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} ، أما ثاني الرجلين، فهو الرقيق الإيمان المهلهل البنيان، لأنه مع الخير والشر متلون كالحرباء، متقلب كنهار الخريف، يريد لنفسه كل شيء، ولا يعطي من نفسه أي شيء، ولا يكاد يصاب بأمر لا يروقه حتى يضيق صدره، وينطلق لسانه برذاذ التبرم وعدم الرضا بما قدر الله وقضى، بل قد يمرق نهائيا مما كان لديه من بقايا إيمان، فيصبح من أهل هذه الآية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} ، إن رضيَّ البال هانئ الفؤاد رغم سحائب المصائب التي لم تنقشع عن رأسه، هو ذلك الفطن الذي علم بأن من المستحيل أن يحدث الله في كونه شيئا ما إلا لحكمة بانت أو غابت، وأنه ما فعل هذا به أو بغيره ليلعب بعباده أو يتلهى بلا أمر يريده {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} ، وأدرك هذا النابه بعقله الذي أوتيه، أنه حين يقبل أمر ربه راضيا، خير له من أن ينزل على أم رأسه كارها، فقد ملأ قلبه قول ربه: {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً} ، {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} ، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} ، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَه} ، أي ومن يؤمن بحكمة القدر وليس على أنه فقط تقلباتٌ وغير نهد قلبه إلى ما يهدئه ويُسَكنه، ثم يصبره ويؤجره، وذلك ليذيقه(15/5)
قطوف الحكمة التي اعتقد بالغيب مصاحبتها مع كل قضاء وقدر، وفي هذا يقول صلوات الله عليه بما رواه الترمذي وصححه "يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب، لو أن جلودهم كانت قرضت بالمقاريض"وفي الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم "من يرد الله به خيرا يصب منه " ففي هذا الحديث ظهرت الحكمة من إصابة المؤمن بأنها إرادة له بالخير، لكن ما هو هذا الخير؟ سيغبط المبتَلَى من المعافي كما في الحديث السابق، ولهذا كان من سمات معتقدي الحكمة في كل ما يبشر أو يكدر، أن الله نزع من قلوبهم حب الدنيا ليهون عليهم كدرها ورغبهم في الآخرة ليديم عليهم صفاءها، ولهذا لما ذكر وفد بني الأزد للنبي صلى الله عليه وسلم: أن من صفاتهم، الشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء، أجابهم بقوله: "علماء حكماء"، ووعظهم إلى أن قال: "وارغبوا فيما عليه تقدمون وفيه تخلدون" ذكره القسطلاني في المواهب وأبو نعيم في معرفة الصحابة، ونُكْتَةٌ جميلة أو لغز جميل، حتى لا يقال: إنكم معشر المصريين تدخلون النكتة حتى في أمر مهيب كالذي نحن بصدده، واللغز هو، اثنان لا يحاسبان يوم القيامة، ومع هذا فأحدهما إلى الجنة، والثاني إلى النار، والجواب سهل لأنه من كتاب الله، أما الأول فهو الصابر {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وأما الثاني {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} بل إن الصابر فضل على الذي أوتي كتابه بيمينه، لأن الآية قررت دخول الصابر الجنة بغير حساب، والآخذ باليمين قالت عنه {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} ولو كان هو العرض كما فسره صلى الله عليه وسلم، لأنه عُرض على الله، وقبل دخول الجنة، والصابر تعرض له الله بعد دخول الجنة.(15/6)
ثم بعد، فلكي نكون شاكرين، يتحتم أن نكون صابرين، فلابد من بسمة ودمعة {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ} وخير حسناته إلينا هو ما قدمه إلينا في قوله: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} حيث الظاهرة هدانا للإسلام، والباطنة ستره لمعاصينا، لهذا فُرض علينا شكرُه.
نسأله العون على القيام له بالمفروض علينا، عسى أن يتم علينا نعمته في الدنيا والآخرة، فقد سئل الحسن رضي الله عنه عن معنى تمام النعمة فقال: "أن تضع رجلا على الصراط ورجلا في الجنة"ومسك الختام هذا الحديث العظيم، روى ابن أبي الدنيا، وابن حجر العسقلاني، عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خصلتان من كانتا فيه، كتبه الله صابرا شاكرا، ومن لم يكونا فيه، لم يكتبه صابرا ولا شاكرا: من نظر في دينه إلى من هو فوقه، فاقتدى به، ومن نظر في دنياه إلى من هو دونه، فحمد الله على ما فضله به عليه، كتبه الله صابرا شاكرا: ومن نظر في دينه إلى من دونه، ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته، لم يكتبه الله صابرا ولا شاكرا"، سألنا الله الخصلتين، واستعذنا به من ضدهما، وكتبنا عنده صابرين شاكرين.(15/7)
الصولي شاعرًا
دراسة فنية تحليلية لأهم أغراض الشعر عنده
لفضيلة الدكتور أحمد جمال العمري
"هو محمد بن يحي بن عبد الله بن العباس بن محمد بن صول تكين، أبو بكر الصولي البغدادي، العالم الفقيه، الأديب الكاتب، الشاعر الناقد، الإخباري المؤرخ، الشطرنجي النديم، الذي عاش قرابة ثمانين عاما – (255- 336هـ) في فترة تولى الخلافة فيها أكثر من اثني عشر خليفة، نادم أربعة منهم، واتصل بمعظم الباقين، وكانت له مكانة مرموقة، وسمعة حسنة لديهم جميعا، ففتحوا له أبواب قلوبهم وقصورهم، وليعيش في بلاطهم أكثر من نصف قرن من الزمان، وليصادف ما لم يصادفه أحد من قبلهن ليشهد ما لم يشهده أحد من معاصريه" [1] .
كان الصولي شاعرا فحلا بين فحول عصره الأفذاذ – أبي تمام والبحتري وابن الرومي وغيرهم، واستطاع أن يقف بين هؤلاء المشهورين منافسا قويا ...
فهو شاعر جزل الألفاظ، متخير الكلمات، لا يجد مشقة في الأوزان، ولا اختيار القوافي، اكتملت لديه نماذج الشعر العربي في مثله العليا، كان ولا شك يسيطر على لغته، ويتمثل التراث العربي في كل صوره وجلِّ معانيه وأغراضه وتراثا، واضحا جليا، واستطاع أن يصوغ الكثير من المعاني الجميلة، فيجئ بالجديد أو ما يشبه الجديد.
وشعر الصولي مرآة صادقة لعصره، وصورة صادقة للفن الخالص، والأدب العالي.. نرى فيها كل ما أحس به في حياته المديدة من الحنين واللوعة، والسعادة والتعاسة، والرضا والحسرة، ظهر كل ذلك واضح في شعره، فقد دفعته الأحاسيس النفسية إلى أن يعبر عن أعماق نفسه في جميع حالاتها، كما دفعته حياته الخاصة في رحاب الخلفاء والأمراء، وما كان يتنسمه ن عبير الحياة الرغدة في قصورهم إلى وصف المناظر الطبيعية، والوقوف على ضفاف الأنهار، وأن ينطلق لسانه بتصويرها مبينا أثرها في نفسه..(15/8)
ومن المهم أن نعرف أن الصولي س اي ر شعراء عصره.. مدح ورثى، وتغزل ووصف وفاخر وصور مشاعره إزاء الناس والحياة، كما كتب الرسائل الشعرية..
ويكفي لكي نبرهن على شاعريته أن نقف أمام مجالين من مجالات الشعر عنده.
أحدهما غيري: وهو المديح، والثاني ذاتي: وهو الفخر
المديح:
أكبر الموضوعات التي جال فيها الصولي بشعره وأهمها.. فن المديح، ذلك الفن الذي يصل الشعراء العباسيين بالشعراء الأقدمين، أولئك الذين ارتفعوا بهذا الفن إلى ذروته، ثم ترسم العباسيون خطاهم، فتتبعوهم فيه، ومعروف أن الشعراء القدامى اتخذوا من المديح أداة لتربية الخلق، والحث على مكارم الأخلاق، فكان الشاعر يمدح ممدوحيه بالكرم والشجاعة والاعتداد والإباء وغير ذلك من المثل العليا التي لم تكن ترجع إلى الفرد وحده، بل تعود على الجماعة أو القبيلة كلها.
ولما جاء الإسلام صبغ هذه المثل الخلقية العربية بصبغة روحية، فاخترعت المعاني الإسلامية التي تتحدث عن الإيمان والعدل والتقوى، فأضاف الشعراء الإسلاميون هذه الصفات إلى مدائحهم للخلفاء والوزراء. ولقد اتصلت المديحة العباسية بالمديحة الإسلامية، فالشعراء مضوا يتمسكون في مدائحهم بتصوير المثل الخلقية العربة وما أشاعه فيها الإسلام من مثالية روحية، فأكثروا من مدح الخلفاء بالعدل والتقوى.
وقد اختلفت القصيدة العباسين عن القصيدة القديمة من حيث الموضوعات وإن كانت تسير على نهجها، فهي تبدأ بمقدمة غزلية طللية، ولكن قد يضيف إليها الشاعر العباسي بعض تحليلات لخواطره إزاء الحب، كما يضع فيها تصويرا لمطامحه وآماله في الحياة، وقد يضيف إلى ثناياها بعض الحكم ووصف الطبيعة وبعض العناصر الدينية.(15/9)
فقصيدة المديح العباسية لم تكن مديحا خالصا، بل كانت تحمل في فاتحتها كثيرا من أحاسيس الشاعر، وخلجات صدره، كما كانت تحمل وصف الرياض والربيع والقصور، ومقدمات أبي تمام يتجلى فيها هذا الجانب. وأيضا فإنه قدم لقصيدته في فتح عمورية بحديث طويل عن القوة والعقل، وهاجم المنجمين وخرافاتهم. وزعم الاطلاع على الغيب، وقد اشتهر البحتري كذلك بوضع المقدمات التي تصف الرياض والربيع، كما تصف قصور الخلفاء.
كل ذلك كان تجديدا بلا شك من الشعراء العباسيين، اختلفوا فيه عن الشعراء السابقين، وعن منهجهم في التعبير، وفي وصف الرحلة وتحمل المشاق، وغير ذلك مما تطلعنا به قصائدهم ومدائحهم.
فإذا كانت هذه هي مقومات المديحة العباسية بوجهها الجديد – كما نراها عند أبي تمام والبحتري وغيرهما – فهل سار الصولي على نهجهما وتتبع خطا شعراء عصره؟.. أو أنه اتبع طريقا آخر ومنهجا مغايرا، فاستحدث أشياء أضافها إلى مدائحه؟
الواقع أن الصولي وقد عاش في العصر العباسي، ونهل مما نهل منه العباسيون شعراء وأدباء، جاراهم فيما جروا فيه، إلا أنه اختلف في منهجه، وفي مديحه بعض الشيء، فأضاف أشياء لم تكن موجودة عند نظرائه، واختط لنفسه – في مدائحه – منهجا يكاد يعرف به، ربما حدده له وضعه الديني والاجتماعي والأدبين صلته بالخلفاء والأمراء والوزراء..
فإذا نظرنا في مدائح الصولي، وجدناه يقدم لها أحيانا بمقدمات تختلف عن مقدمات معاصريه، فنراه في مطالع مدائحه يبدل المقدمة الغزلية أو غيرها من المقدمات التي اصطنعها الشعراء الآخرون، بوضع مقدمة أخرى تبين استبشار الناس وفرحتهم بحلول خليفة جديد أو أمير أو وزير – يأملون فيه أن يرجع هيبة الدولة, وأمجاد الإسلام, على نحو قوله في فاتحة ضاديته للخليفة الراضي بالله:
أصبح الملك عاليا بأبي العب
اس أعلى الملوك بعد انخفاض
واستفاض السرور في سائر ال
ناس, بملك المهذب الفياض(15/10)
فهو مستبشر مسرور لعلو الملك ثانية بحلول الخليفة الراضي, الذي سيعيد المهابة إلى الخلافة الإسلامية, بعد الضعف الذي أصابها من قبل, ويقول إن السرور عم جميع المسلمين بتولي الخلافة رجل همام سيعيد للدولة مجدها وهيبتها بقوة عزيمته.
ويقول في مديحته السينية.. إن الدهر قد ضحك بعد أن ظل عابسا مدة طويلة, وأن السعد سيكون حليفا له وللمسلمين بعد أن لازمهم النحس طويلا, وستلبس الأيام ثوب النعيم, بعد أن لبست طويلا أثواب الشقاء, لأن الله سبحانه وتعالى قد اختار للخلافة رجلا قويا سيعيد لها هيبتها وجلالها بعد أن كانت كالربع الواهي الضعيف البناء.
يقول:
ضحك الدهر بعد طول عبوس
طالعا بالسعود لا بالنحوس
وأتتنا الأيام متعذرات
لابسات نعيمها بعد بوس
رضي الراضي الإله لملك
أوضح النهج منه بعد الدروس
آنس الله بالخليفة ملكا
موحش الربع واهن التأسيس
ويمدح الخليفة الراضي بالله، بأنه نسيم الحياة، الذي أنعش الدهر وأضحكه، ويشبه أيامه اللذيذة وسعادة الناس المحبين للوصال، وسعادة العروسين في ليلة الزفاف، وهما صورتان جديدتان برع الصولي في رسمهما، يقول:
يا نسيم الحياة أضحكت دهرا
كان لولاك دائم التعبيس
إن أيامك اللذاذ كوصل ال
حب طيبا ونومة التعريس
وليس معنى ذلك أن جميع فواتح قصائده تسير على هذا المنوال، فالصولي يجاري أيضا تيار عصره، ويحاكي الشعراء المعاصرين التقليديين، فبدأ أحيانا بعض مدائحه بمقدمات غزلية مأثورة، له فيها لفتات نادرة، وصور رائعة، من مثل قوله في مديحته الدالية للراضي:
متيم متلفه تلدده
بان بين الهوى تجلده
طال عليه مدى الصدود فما
يبصره في ضناه عوده
قد كتب الحب بالسقام له
نظمه بمن أتي بفنده(15/11)
على أن مقدمات مدائح الصولي لا تسير على وتيرة واحدة، أو تنحصر في مجال واحد، فنراه أحيانا يخالف منهجيه السابق، فيجعل افتتاحيات قصائده شكوى لهمومه وأحزانه، وتنفيسا عن تباريحه وأسقامه، على نحو قوله في مقدمة ميميته لابن مقلة وزير الرضي:
أنا من بين ذا الورى مظلوم
وإذا ما خصمتهم مخصوم
تخطاني الحظوظ فآسى
ومكاني من علمهم معلوم
كم ترى في الزمان مثلي حتى
لميرمني الوزير فيمن يروم
وقد يخالف الصولي ما تواضع عليه الشعراء، فلا يقدم لمدائحه بمقدمات، بل يتناول موضوعه مباشرة، كما فعل في مديحته النونية التي هنأ بها البردي وزير المتقي لله، بتوليه زمام الحكم.
وإذا كان الصولي لا يقدم أحيانا لمدائحه للوزراء – فإنه قلما يمدح الخلفاء بقصائد دون أن يقدم لها بمقدمات غزلية أو استبشارية أو غيرها، فلم نعثر إلا على مديحة واحدة للراضي –وهي مديحته الزائية- بدأها الصولي بالدعاء للخليفة دون أن يقدم لها.. حيث قال:
بارك الله للأمير أبي العبا
س خير الملوك في النيروز
وأراه أولاده الغر أجدا
رًا بملك نامٍ وعزٍّ عزيز
غير أن الصولي في معظم الأحيان يقدم القصائده بمقدمات غزلية، قد تطول أو تقصر حسب انفعاله، وحالته النفسية، فقد تكون بيتًا واحدًا كما في داليته للخليفة المعتضد بالله [2] ، وقد تصل إلى العشرين بيتًا كما في مقدمته لقصيدته البائية [3] التي مدح بها الوزير ابن الفرات. وعمومًا فمقدماته الغزلية تتراوح بين الأربعة والخمسة الأبيات، أما مقدماته الاستبشارية فهي دائمًا متوقفة على تولى الخلافة أو الوزارة أو الإمارة.(15/12)
وإذا تركنا مقدمات مدائح الصولي إلى مدائحه نفسها، وجدناه يجسم المثالية الخلقية تجسيمًا قويًا في ممدوحيه، فهو حين يمدح الخلفاء أو الوزراء أو الأمراء، لا ينفصل عن منهج السابقين والمعاصرين، حيث يتمثل المعاني العربية المتوارثة، كالشجاعة والكرم والوفاء والإباء، وغير ذلك مما يتصل بالأخلاق الفاضلة، والخصال الحميدة.
فتراه يمدح الخليفة الراضي بالشجاعة، وأن قواده وجنوده يستمدون منه القوة والمقدرة القتالية، وأنه سيف على الخارجين عليه، العاصين لأوامره، وهو المقتدر المطفئ لنار طغيانهم.. يقول:
جيوشه حوله كما حدقت
بالبدر بدر التمام أسعده
سيف على مَنْ عصاك مقتدر
تطفي به طغيانه وتغمده
ويمدح قائده - ابن ياقوت - بالشجاعة والبأس، وأنه قبلة الحرب، المؤيد بنصر الله فيقول:
يا إمام الهدى استمع لوليِّ
سائر في مديحكم ركاضِ
يفضل الناس في الشجاعة والبأس
كفضل الدَّيس لابن مخاض
قبلة الحرب حين تجتنب الحر
ب وتدرى خيولها في العراضِ
ويمدح الصولي الأمير توزون بالإقدام والفتك والجرأة يوم احتدام الوغى، والتقاء الأقران، فيقول:
عرفت بإقدام وفتك وجرأة
فما أحد في كل ذلك ينكرك
إذا التقت الأقرانُ واحتدم الوغى
فسيفك بالنصر القريب يبشرك
وإن جر يومًا عسكرًا ذو تجمع
فسيفك فردًا في قتالك عسكرك
ويساير الصولي - في مدائحه - تيار الشعر المتوارث، فيمدح الراضي بأكبر الصفات والمعاني التي كان يفاخر بها العرب وهي صفة الكرم حيث يقول:
أمواله نحونا موجهة
بنائل لا تحث ورّده
يعلى لنا الحال والمحل به
فلا سؤال له نردِّده(15/13)
ويبالغ في مديحه بالكرم، فيصفه بأنه النبع الصافي الذي منه يرتوي الناس، وأن جوده شمل كل من حوله، وأن بشره زائد العطاء، ويربط بين سخائه وصورة البرق الذي يلمع في السماء دليلاً على انهمار الغيث، ويقول إن هذا العطاء والسخاء يأتي تكرمًا دون سؤال إنسان أو تذكير من أحد، فالعطاء يجري من يديه إلى الناس خالصًا، كما تجري المياه من منابعها صافية.
يقول:
يرِدُ الناس منه أغدار جود
طيب الورد مترع الأحواضِ
بشره زائد العطاء كما البر
ق دليل الغوث بالإيماضِ
صافيًا من تكدر المطل يجرى
جرى ماء صافٍ على رضراض
ويضيف الصولي إلى هذين المعنيين المتوارثين –الشجاعة والكرم- معاني أخرى، فنراه يمدح ممدوحه بصفات أخرى تتصل بالناس وصلة الحكام بهم. فيمدح الراضي تارة بأنه المفرج للكروب، وخير مَن يلوذ به الناس ويحتمون، الوفي بالوعد، السمح ... ويمدحه تارة أخرى بأنه المحسن الذي اكتسب حب الناس وطاعتهم له، وتقديرهم لمكانته وفضله، حتى لم يعد هناك إنسان يبغضه أو يسخط عليه لسماحة وجهه وعفوه ... يقول:
أحسنت حتى ما نرى متسخطًا
يشكو الزمان ولا نرى لك مبغضا
كم مبغض حطت إليك ركابه
قال الغنى عجلاً فأغنى المبغضا
ويضيف الوصولي إلى مدائحه بالأخلاق الكريمة، والخصال الحميدة وغيرها مدائج أخرى، بعضها يتصل بالصفات الشخصية، فيمدح الراضي بالذكاء ورقة الطبع ... فيقول:
رقيق حواشي الذهن هذب طبعه
ومحص في قرب المدى أيما محص
وأنه لا يخونه الفهم، ولا يسئ التقدير:
أرى ذكيا ذكت خواطره
فلم يخن فهمه متلده
ويصفه بأنه البدر الذي أضاء دجى الظلماء، والذي لم يأت خليفة مثله، ولن يستطيع أن يصل إلى مرتبته إنسان فيقول:
بدر يضئ دجى الظلام ولم يزل
لسواد ما تجني الخطوب مبيضا
بكر الزمان فليس ينتج مثله
أبدًا ولا يلغي بع متمخضا
من شام عزك ذل دون مناله(15/14)
أو رام ما رفعت منه تخفضا
كما يمدح ممدوحيه ببعض الصفات التي تتناسب مع مكانتهم الرسمية، تلك التي تتصل بالحكم والسياسة وأمور الدولة، نحو مديحته للراضي بسداد الرأي، والتمسك بالوفاء، وحسن تدبير أمور الرعية، وتوجيه سياسة الوزراء والحجاب بما فيه صالح الشعب، يقول:
يسل رأيا كالسيف وقفته
ويحتوي سيفه ويغمده
تمسكًا فيه بالوفاء وما
تقصر عما يريده يده
يسوسهم بالسداد حاجبه
وهو بآرائه يسدده
ويمدحه أيضًا بأنه القادر على الوصول إلى أهدافه، الألوف، العيّاف، النهوض بالخطوب، إذا ما واجهته المحن [4] .
ويمدح الوزير ابن مقلة بالاستقلال بالرأي، وأنه أعلم الزمان الذي لا تخفى عليه خافية، وأنه ذو عزم ويقين، وخير ناصح وأمين، فيقول بين ثنايا مديحته الضادية للراضي:
أيّد الله ملكه بوزير
مستقل برأيه نهّاض
عالم بالزمان قد راض منه
جامحًا آبيا على الرواض
لم يطف اليقين من ظنه ال
شك ولا حال دونه باعتراض
ناصح لم يخض ضحا ضح غش
في الزمان الماضي مع الخواض
والصولي يجعل من مدائحه سجلاً تاريخيًا، يتحدث فيها عن عائلة ممدوحيه وأنسابهم: آبائهم وأجدادهم، فحين يمدح الخلفاء يشير دائمًا إلى انتسابهم للبيت النبوي الشريف، الذي يعلو على كل البيوتات بالشرف والعز والمجد والنبوة، ويجعل من هذا النسب وسيلة لرفعة الخلفاء، والتفاف قلوب الناس حولهم، من مثل قوله في الراضي:
طاب أصلاً وبابنه طاب فرعًا
غرس الملك منه خير غريس
قد أمر الزمان طوعًا عليه
فسخًا بعد نفرة وشموس
فترى الناس خاضعين إليه
من قيام بأمره وجلوس
ويشير في مديحته للخليفة المتقى لله، إلى بني العباس وفضلهم على الخلافة والإسلام، وأنهم ملكوا الجبلين اللذين قام بهما الإسلام: النبوة والخلافة، وأنه لولا وجودهم وقيامهم بأمر الدين لضعف نور الحق ... يقول:(15/15)
ولولا بنو العباس عم محمد
لأصبح نور الحق فيه خمول
لكم جبلا الله اللذان اصطفاهما
يقومان بالإسلام حين يميل
نبوته ثم الخلافة بعدها
ومالها حتى اللقاء حويل
كما يمدح آباء ممدوحيه وأجدادهم بأهم الصفات والخصال التى برزوا فيها.
فحين مدح الراضى بالله اشار إلى عدل أبيه المقتدر، ومدحه بأنه العادل، الذى أحبا عدله
البرية حتى أن الناس سموه بالفاروق. يقول:
إلى ابن الذى أحيا البرية عدله
فشبه بالفاروق منهم أبى حفص
وحين مدح ابن مقلة وزيره، مدح آباءه بالشرف والمجد، ووصفهم بأنهم نجوم الورى، الساطعة دوما، وأن المجد الموقوف عليهم، والناس لهم عارفون، ولعزيمتهم مقدرون لأنهم يملكون زمام السياسة والكتابة، وأن قلمهم يجمع بين البيان والحسن، ومدح كتابهم بأنها كالرقوم الموشاة، تحتوى أكل المعاني وأجملها. يقول:
أنتم يابني علىّ نجوم
للورى في الضياء ليست تغيم
خيمت فيكم محاسن خط
لاح منها للناس در عضيم
قلم جامع بيانا وحسنا
ما حوى فيه مثلكم إقليم
تتباهى به القراطيس حسنا
مثل وشى تروق منه الرقوم
وغلام كأنه زهر الروض
بدت للنجوم منه نجوم
قد أحاطت به عيون المعاني
وأضاءت في جانبيه الظلوم
والصولى -في مدائحه- يضيف إلى كل العناصر السابقة التى تناولها.. عناصر أخرى تتصل بأبرز سمات الممدوح، ولقد كان من أبرز سمات الراضي بالله..العلم والأدب. لذلك ركز الصولى على هذا العنصر تركيزاً شديداً، فمدحه بأنه أجل الناس علماً، وأن هذا العلم هو الذى أحيا سنن الدين بعد أن عفت، كما مدحه بأنه الخطيب المفوه، الذى يؤم المسلمين، ويفعل ما كان يفعله النبي وخلفاؤه الراشدون.. يقول:
أجل الناس آراء وعلما
مقال ليس يقرن بالأفوك
وما أحياه من سنن تعفت
فدار صلاحها دور الدموك
ركوب للمنابر سار قصدا
إليها وهى حائرة السلوك(15/16)
فذكرنا مقال منه فصل
مقال المصطفى بحرى تبوك
ويمدحه بأنه نهل من جنان العلم الأنيقة، ورياضه حتى كمل فيه الفضل والفضائل منذ كان صغيرا، وأصبح بالعلم خير خليفة تولى إمرة المؤمنين.
على أن أهم عنصر يضيفه الصولى في مدائحه في الخلفاء _ هو العنصر المتصل بالدين، حيث يضمن مدائحه للخلفاء معاني تضفى عليهم صفات التقديس. فنراه يصف الراضي بأنه الإمام الذي اختاره الله لينقذ الدين، وأنه حاز كل المكرمات، وحاز بها الكمال والمجد وحب الناس، كما يمدحه بأنه حجة الله، وأنه قبلة الدين، التي يتجه إليها الناس في صلاتهم وحياتهم، وأن طاعته واجبة وجوب طاعة الله ومن عصاه فله الموت والهلاك في الدنيا، وثقل العذاب في الآخرة. يقول:
يا إماما إليه حلت عرا الفخ
ر وفلّت معاقد الأغراض
حاز بالمكرمات كامل مجد
علق الناس فيه بالأبعاص
حجة الله أنت يا قبلة ال
دين فليست ترد بالادحاض
أذن السيف من عصاك من ال
ناس يهلك واشك وانقراض [5]
وبثقل من العذاب ووزر
ينقض الظهر أيما انقاض
ويقول أيضا.. إن الله أوحده في فضائله، وأوجده من بدء الوجود، يحميه ويكلفه برعايته، وينحس أعداءه، ويلهمه السداد والتوفيق، ويصل الصولي إلى قمة مديحه الدينى، فيبالغ مبالغة شديدة حين يقول في مديحته الدالية للراضي: لو جاز لبشر أن يعبدوا غير الله، لعبدوا الخليفة ومجدوه وسبحوا بحمده. يقول:
أوحده الله في فضائله
فهو من بدء الكمال أوجده
كفاية الله تستطيف به
تنحس أعداءه وتسعده
لو جاز أن يعبد العباد سوى ال
خالق كنا للبرِّ نعبده
ويمدحه أيضا بأن كل ما في الوجود من محاسن مرجعه إليه، فهو مالك الدهر، الكل له مطيع، فطاعته من طاعة الله. يقول:
محاسن هذا الخلق منك إبتداؤها
ويجذبها ذو كلفة منك كاللص
فلا زلت للدهر المملك مالكا
يطيعك فيما تشتهيه ولا يعصى(15/17)
ويمدحه بأنه المعتلي بفخره، والذي يهتدي بنور هديه الناس، وانه إمام المسلمين. وعصمة أمرهم ودينهم، يقول:
بعلوّ فخرك في المفاخر يعتلى
وبنور هديك في الديانة يُسْتضَا
ويمدح الراضي أيضا بأنه كل الورى وسيد الناس، والجميع عبيد له يأتمرون بأمره، وينتهون بنهيه، كبيرهم وصغيرهم، أعلاهم وأدناهم، ففي حياته حياة الناس، وفي بقائه الفوز لهم والغنى والسداد، ومن لا يؤمن بطاعته وحبه، فلن تنفع له صلاة.. يقول:
فأسلم الله إمام الهدى
فما عطاء الدهر بالنحسِ
كل الورى أنت وكل يرى
عبدك من عال ومن نكسِ
بقاؤك الفوز لنا والغنى
نصبح فيه مثل ما نمسِ
من لا يرى حبك فرضاً فما
أدى فروض الله في الخمسِ
والصولي يشير دائما في مدائحه للخلفاء العباسيين إلى فكرة الخلافة، وأنهم أحق الناس بها لصلة الدم والعصب، وأن الله ارتضاهم وفضلهم على العالمين، واختارهم للخلافة واختارها لهم. من ذلك قوله: أن اختار الراضي خليفة له على الأرض، وهو كفء لذلك وراضٍ، وأن الخلافة أتته طوعا، ولم يطلبها أو يسعى إليها، وهو الأحق بها، المعان بقوة الله على أمورها:
بمحمدٍ رضي الإله خليفة
في الأرض فهو بذلك راضٍ مرتضى
جاءته طوعا لم يسيرِّ لفظه
فيها، ولا أضحى لها متعرضا
فهو الحقيق بها، المعان بقوة
فيها بحكم فاصل لن يدحضا
ويقول في قصيدة أخرى إن الخلافة خطرت نحوه طائعة بإجماع من الناس، فالكل عقد عليه العزم لإرجاع مجد الإسلام، حتى الزمان قد استلذ وفرح وترنم، وجلى سواده القديم ببياض الأمل:
خطرت نحو الخلافة طوعا
باتفاق من السورى وتراضِ
واصطفاق من الأكف دراكا
واجتماع موف وعزم مفاضِ
واستلذ [6] إذ أسفر المل
ك وجلى سواده ببياضِ(15/18)
وفي مديحته اللآمية للخليفة المتقى لله، يخاطبه قائلا.. إن الخلافة أتتك قدراً من العلى القدير، الحافظ الوكيل، وأنه حباك بها، وصانها لك، وأنه كفيل بإتمام نعمته عليك، ولو حِدْت عنها فإنه سيقودها إليك، فليس هناك كفء لها غيرك. فهو الذي اصطفاك لها واصطفاها لك:
أتتك اختياراً لا احتلابا خلافة
لك الله فيها حافظ ووكيل
حباك بها من صانها لك انه
بإتمام نعماه عليك كفيل
ولو حدت عنها قادها بزمامها
إليك اصطفاء الله وهى نزيل
ويسجل الصولى في مدائحه للخليفة كل الأحداث التي تحدث في عهده، من انتصار في الحروب أو إخماد للفتن، أو قضاء على المؤامرات، فتراه يذكر -في مديحته للراضي- إخماد فتنة ((مردواج)) الذى حاول أن يناهض الخلافة، غير أنه ((بحكم)) قضى عليه وأحبط مؤامرته.
ويقول للراضى: لا تخش أعداءك من أمثال ((مردواج)) وهم جميعاً يقتلون بقدرة الله، لأن الله يؤيدك بنصره، ويستعير صورتين من التاريخ، يربط بهما بين أحداث العصر وأحداث الماضي، فيربط بين جحافل جيوش المسلمين التي دلت فارس فأطفأت نار المجوس، وبين جحافل جيوش الراضي التي قضت على مردواج.
ويربط بين سرعة انهيار ملك بلقيس وبين سرعة القضاء على هذا الخارج؛ فيقول للخليفة الراضي.. إن رياح أيامك الغر الميامن قصفته فأخمدت نار الفتنة التي أشعلها, كما أخمد الفاتحون المسلمون نار المجوس , فانهار العرش الذي الذي بناه لنفسه ذلك اللعين, وسلب منه سريعا. بل أسرع مما سلب العرش من يدي الملكة بلقيس. يقول:
مردواج بسيف حظك مقت
ل فأهون بذاك من مرموس
قصفته رياح أيامك الغ
ر فأخمدت منه نار المجوس
ثل عرش العين أسرع مما
سلب العرش من يدي بلقيس(15/19)
وخصيصة بارزة في مدائح الرجل- وهي دائما أنه ينتقل من المجال الغيري- المديح- إلى المجال الذاتي, فيتحدث عن نفسه وعن أحواله في جميع مراحلها. فهو في كثير من مدائحه للخلفاء يذكر أنه السابق إلى مديحهم, وأنه يتقدم كل الناس بالرغم مما عاناه من كيد الكائدين وبغضهم, وأنه اختار لهذه المدائح أشعارا لم يُقَل مثلها, ولا امتدح بمثلها خليفة من قبل, وتقدم بها إلى الخليفة في قصيدة عصماء تناسب جلالته ومكانته. يقول:
وتقدمت في مدحي له النا
س على الرغم من ذوي الأبغاض
وافترعت الأبكار من عزة الشع
ر فذلك صعبها بامتضاض
ويقول أيضا:
لي سبق المديح منك على النا
س وفخر باسبق في التأسيس
ويقول: إن الشعر كثير , يطلق في أناس وممدوحين مختلفين, ولكن شعري وقف على مديح أمير المؤمنين مقصور عليه, لأنه أولى به وأقدر على تقويمه..
يطلق الشعر في أناس وشعري
وقف مدح على الإمام حبيس
ويتحدث عن غبطته وسعادته لأن الخليفة اختار ليكون له جليسا ونديما, ويبين مدى سعادته, لأنه يستمتع بعذب حديثه المستفاض, ويقول: انه بلغ غايته ومناه, وبشره الناس بالغنى بعد الفقر, وبالعز بعد الذل, وأصبح ينام قرير العين مرتاح البال. يقول:
وتشرفت بالجلوس لديه
بحديث يلتذه مستفاض
وبلغت المنى وبشرني ال
ناس بثوب من الغنى فضاض
وتبدلت بالتذلل عزا
آذن الهم عنده بانقضاض
واطمأن الفراش بعد أن جا
نب جنبي تجنب النهاض
ويذكر دائما ولاءه وصدق نصحه للخليفة, وأن هذا النصح، وهذا الولاء قديم, وسيظل قائما ولن يشوبه أبدا زور أو رياء أو تدليس مهما طال الزمن أو اشتعل الشعر شيبا. يقول:
يا حلى الزمان يا زينة الأر
ض ورأس الملوك وابن الرؤوس
إن نصحي وصدق ودي قديم
لم أَشُبه بالزور والتدليس
قبل أن يأكل الزمان شبابي
خالسا غرتي بشعر خليس(15/20)
ولقد كانت مدائح الصولي مجالا كبيرا لشكواه, ومتنفسا عما بنفسه من أسقام وأحزان وما يقاسيه من مكايد ووشايات، أو فقر وحرمان، فهو يضمن مدائحه شكواه من العانتين الحاقدين، الذين لا يدخرون وسعا في ثلبه، وانتقاصه، حتى صار لا ينام الليل، وتكحلت عيناه بالسهاد والأرق، لأنهم يحسدون صلته، بالخليفة، ولكنه يصرح بأن كل شيء يهون لأن الله عوضه فقربه من الخليفة الذي يحس به ويقدره. يقول:
زأرتني أسود حقد عليكم
لم تغيب بغابة وغياض
وفراني الزمان منه بناب
بعدكم مرهف الشبا عضاض
وانتحى آكلا للحمى ورض ال
عظم منى بكلكل رضاض
من حسود منافس لي عليكم
لبحار اغتيابكم خواض
مبغض لي لما أسير فيكم
من مديح، على الأذى حضاض
فأراني الإله ما كنت أرجو
هـ وعوضت أحسم الاعتياض
والصولي في مجال حديثه عن نفسه وشكواه، لا يشكو حساده وعذاله والكائدين والواشين فحسب، بل يشكو أيضا شيخوخته ومرضه وضعف قوته، كما يشكو كبر سنه بعد أن ناهر السبعين، وأصبح لا يهنأ بالحياة أو النوم.. بل هو منتظر يومه الموعود وقدره المكتوب. يقول للراضي:
صرحت بالشكوى إليك تأنسا
بندى يديك إذا غريب عرضا
من بعد ما غال المشيب شبيبتي
ونضا لباس تجملي فيما نضا
وأحارني مرضي وأوهن قوتي
فغدوت منه وقد صححت ممرضا
وإذا دنت سبعون من متأمل
داني ولم ير في اللذاذة مركضا
وجفاه نوم كان يألف جفنه
قدما وأضحى للحتوف معرضا
ويتذكر حياته الرغدة السابقة، وشبابه الفائت الذي لن يعود.. فيبكي قائلا:
أبكي كساء كان أوثق عدتي
إن أخصر البرد العظام ونقضا
ومخدة قد كان يألف لينها
خدي فأضحى الجسم منها ممرضا
ونفيس فرش كالرياض نقوشه
ما كان من دون الرياش مرحضا
ومجمعا قد كنت أجمع آلة
فيه وكان من البلاء مفضفضا(15/21)
غير أن هذه الشكوى وهذا البكاء – في شعره – يصلان أحيانا إلى حد الاستجداء والذل فيظهر في شعره جانب الضعف الإنساني، حيث يرفع نحيبه وخوفه من المصير والمستقبل والفقر. ولا شك أن هذه الظاهرة كانت سبببا في أن بعض الباحثين [7] وصموه وعابوه.
والحقيقة إن هذه السمة بارزة في شعره، فهو دائم الاستجداء سواء من الخلفاء أو الوزراء – إن تلميحا.. وإن تصريحا – من مثل قوله للخليفة الراضي بالله، مشيرا إلى ما بينه وبين دهره من صراع وحرب عوان، فيشكو ذل الحاجة ومر السؤال، استجداء للجود، وطمعا في العطاء..
إن بيني وبين دهري حربا
جاوزت حرب داحس والبسوس
أنا منه لغير هجر ووصل
واقف بين لوعة ورسيس
فاعتبر ما شكاه عبدك منه
ثمداو الخناق بالتنفيس
هو في مخلب الزمان فريس
فارحم الآن نفس هذا الفريس
واسقه من سلاف جودك بذلا
فاق طيبا سلافة الخنديس
وقد يرتفع استجداء الصولي لكي يصل إلى درجة التصريح فيقول:
لا والذي أنت منه نعمة ملأت
عرض البلاد وحلت حبوة النوب
ما في عبيدك إن فتشت أمرهم
أقل مني في رزق وفي نشبي
هذه هي مدائح الصولي – للخلفاء والأمراء والوزراء – بكل عناصرها وخصائصها، وهي تشتمل على عناصر بعضها جديد من عنده، وبعضها موروث، ولكنه في العناصر الموروثة استعاد صورا جديدة، فظهرت في أزهى حلة وأبهى زينة..
أما العناصر التي استحدثها الصولي في مدائحه فهي:(15/22)
أ- أنه أضاف إلى المقدمات الغزلية مقدمات أخرى تحمل الأمل والاستبشار بحلول خليفة أو وزير أو أمير جديد قوي، يستطيع أن يزيح الغمة عن كاهل الأمة، ويعيد للدولة وللخلافة هيبتها وجلالها وقوتها، كما أنه أضاف أضاف أيضا مقدمات بث فيها شكواه وهمه وأحزانه، وما يكابده من أسقام، غير أنه لم يجعل ذلك منهجا مضطردا في كل قصائده، بل تجده في كثير من الأحيان يخرج عن القاعدة المتبعة عند الشعراء والمتوارثة عبر الأجيال، فيحذف المقدمة الغزلية أو غيرها، فيبدأ قصائده المديح مباشرة.
ب- أنه أضاف إلى مديحه بالمعاني الدنيوية – مديحا بالعلم والأدب، وسعة الاطلاع والثقفة وكبر العقل، واتقاد الذهن، ورقة الطبع، وبشاشة الوجه، وأيضا مديحا بالإحسان وحب الناس وغير ذلك.
ج- أن مديح الصولي بالمعاني الدينية لم يكن وقفا على المديح بالتقوى والعدل والورع وطاعة الله، بل كان يتعدرى ذلك إلى مديحه بأنه الخليفة المختار، الذي فضله الله، وأيده بنصره لينقذ دينه، وأنه عماد الدين، وعزة الإسلام، المهتدي بنوره، كما مدحة بأنه المحيي لسنن الدين، الخطيب المفوه، الذي يؤم المسلمين، ويفعل مثلما فعل النبي وخلفاؤه الراشدون، وأنه ينتسب إلى أشرف البيوتات، وأعلاها وهو البيت النبوي الشريف، كما مدح آباءه وأجداده بتوارث الشرف، وأ، الخلافة حق فيهم، جاءتهم بقدر الله..الخ.
د- أن الصولي يضمن هذه المدائح حديثا عن نفسه وع خواطره، وما مني بها لنفس، ويذكر الصلة بينه وبين الخليفة، وأنه السباق إلى مديحه بمدائح لم يقل مثلها، كما أ، هـ كان يتشرف بالجلوس في رحابه، وأن الخليفة كان يفسح له أقرب مكان وأنه نعم ببره وعطاياه كما كان الصولي يضمن هذه المدائح شكواه من الحاسدين والوشين، وشكواه من الزمن.
وقد أضاف الصولي إلى هذه العناصر – عناصر أخرى تدولت من قبل، وهي ذكر حوادث عصر الخليفة كانتصار في حرب، أو إخماد فتنة، أو القضاء على مؤامرة، وغير ذلك.(15/23)
وفي ثنايا مدح الصولي للخلفاء، مدح أيضا قوادهم وأمراء أمرائهم، ووصفهم بالجرأة والشجاعة، والبأس والإقدام ورباطة الجأش، وأضاف إلى ذلك كله مديحا لهم بأنهم مخمدو الفتن، وقبلة الحرب، وسيوف الخلافة إلى غير ذلك من الصفات التي يجب أن تتوفر في رجال الحرب..كما مدح معاونيهم وكتابهم الذين يدبرون أمورهم.
ويمكن القول – إن المديحة الصولية كانت مديحة رسمية أو شبه رسمية، كانت مقيدة بظروف تختلف عما عند الشعراء الآخرين الذين يتكسبون من عرض بضاعتهم على الخليفة، فينالون بره وعطاءه ثم يرحلون.. لكن مدائح الصولي كانت أشبه بوثائق تاريخية، وتعاليم دينية، يسجل فيها كل ما يتصل بالخليفة وعلاقته بالمسلمين من حيث وجوب الطاعة له، والإيمان به، ورفعه فوق مصاف العباد، وأيضا ما يتصل بالدولة من أحوال وسياسة وحروب وأحداث.
وقد دفع الصولي إلى نظم مثل تلك المدائح.. وبكل هذه العناصر اتصاله ببلاط الخلافة وبالوزراء والأمراء.
وتبرز عواطف الصولي الدينية بروزا واضحا في مدائحه للخليفة، بل غنه ليمكن القول.. إنه خير من مثل به في هذه العواطف الدينية تمثيلا حقيقيا صادقا، فهذه العواطف لم توجد بنفس العمق، والمعاني عند نظرائه ومعاصريه، ذلك لأنه لم يكن شاعرا محترفا يبغي أجرا، بقدر ما كان يريد إظهار ولائه وحبه للخلفاء.
ونستطيع أن نقول – إن مدائح الصولي الدينية بعمقها ومضمونها – كانت إرهاصا بظهور هذه المدائح الدينية بصورتها الضخمة بعئذ عند شعراء الدولة الفطمية..
كذلك فإن شكواه من الزمن ومن الوشاة والحاقدين، كانت ينبوعا استقى منه كل الشعراء الذين أتوا بعده خاصة "المتنبي"– الذي أخذ من معاني الصولي الكثير. خصوصا ما يتصل بشكوى الزمن، والحديث من شعره..
تعقيب لا تثريب(15/24)
لعل من الإنصاف لحق الأدب أن نصرح بمخالفتنا للصديق الدكتور العمري في ما ذهب إليه من إكبار لشعر الصولي إذ اعتبره – في مقدمة البحث – شاعرا فحلا بين فحول عصره الأفذاذ – ووصف شعره بأنه "جزل الألفاظ متخير الكلمات، لا يجد مشقة في الأوزان، ولا في اختيار القوافي..". ثم ختم تقديره إياه بما ورد في نهاية البحث من اعتبار مدائحه إرهاصا لظهور المدائح الدينية بصورتها الضخمة.. وأن شعره في الشكوى كان ينبوعا استقى منه أمثال المتنبي..الخ.
والذي نراه أن في النماذج التي عرضها الدكتور من مدائح الصولي وشكاواه ما يعكس الحكم، إذ نرى الشاعر في معظم هذه الشواهد – منهوك الطاقة، تخونه الألفاظ والمعاني والقوافي، فتأتي تعابيره قلقة تشكو حيرتها وغرتها.. ومن حيث المعاني لا نكاد نجد فيها جديدا بل ربما أمكن ردها إلى الكثير من أقاويل الشعراء من معاصريه وسابقيه، مع تفاوت كبير في عفويتهم وتكلفه البالغ حد العجز. – اللهم إلا أبياتا قليلة لا تكاد تنجو من التهافت -.
ثم كلمة أخيرة وهي أن الدكتور يقرر أن الصولي – في مدائحه – لم يكن شاعرا محترفا يبغي أجرا.. ونسي حفظه الله ما أسلف هو من حكم عليه بأنه دائم الاستجداء إلى حد الذل! وماذا يبقى لشاعر من كرامة بعد قوله لممدوحيه:
ما في عبيدك إن فتشت أمرهم
أقل مني في رزقي وفي نشبي
ومعذرة للصديق العزيز مع خالص التقدير لجهوده المشكورة..
المجذوب
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر: ترجمنه في: غرشاد الأديب لياقوت والأعلام للزركلي، إنباء الرواة للقفطي والأنساب للسمعاني والبداية والنهاية في التاريخ.
[2] انظر مروج الذهب للمسعودي 4/278.
[3] أخبار الراضي بالله ص47.
[4] انظر أخبار الراضي ص79.(15/25)
[5] البت مختل الوزن دلل تصحيحه بأ عادة (واشك) إلى (مواشك) [5]
[6] وهنا خلل مرده إلى سقوط كلمة بعد (استلذ) . [6]
[7] محمد كردعلي: كنوز الأجداد ص 144.(15/26)
صيغة " فعلان "
واستعمالاتها في اللغة العربية
لفضيلة الدكتور مصطفى أحمد النماس
2
" فعلان " في باب التصغير
ما ختم بالألف والنون الزائدتين مثلث الفاء سواء تحركت عينه أم سكنت يأخذ أحكاما عند التصغير، وهاأنذا أفصلها لك تبعا لنوعية كل صيغة كالتالي: [1]
1 _ ما ختم بألف ونون زائدتين إذا كان علما مرتجلا لا تقلب ألفه ياء عند التصغير تقول في تصغير مروان، عثمان، عمران، وغَطَفان وسَلمان، مريان وعثيمان، وعُميران، وغطيفان، وسليمان فلوحظ أنك فتحت ما بعد ياء التصغير ولم تقلب الألف ياء وذلك لأن علماء الصرف شبهوا ما فيه ألف ونون زائدتان بما فيه ألف التأنيث الممدودة مثل حمراء يقول الرضي [2] :
وليس كل ألف ونون زائدتين تشبهان بألف التأنيث الممدودة فيمتنع قلب ألفه في التصغير ياء فإذا أردت تمييز ما يقلب ألفه ياء مما لا يقلب فاعلم أنهما أي الألف والنون المزيدتان إذا كانتا في علم مرتجل نحو: عثمان، وعمران وسعدان وغطفان وسلمان ومروان شابهت الألف والنون ألف التأنيث في عدم القلب، لأن تاء التأنيث لا تلحقها لا قبل العلمية ولا معها أما قبلها فلفرض ارتجالها، وأما معها فلأن العلمية مانعة، وأما عثمان في فرخ الحبارى على ما قيل وسعدان في نبت فتصغيرها عثيمين، وسعيدين بقلب الألف ياء لأنهما جنس وليسا أصلين لسعدان وعثمان علمين بل اتفق العلم المرتجل واسم الجنس.
العلم المنقول: [3] وأما العلم المنقول فحكمه حكم ما نقل عنه فإن نقل عن صفة فلا يكسر ما بعد ياء التصغير وبالتالي تبقى الألف نحو سكران مسمى به نقول في تصغيره سكيران وإن نقل عن اسم جنس فيكسر ما بعد ياء التصغير وتقلب الألف ياء تقول في تصغير سلطان مسمى به: سليطين. وكذلك إذا سميت إنسانا بِسِرْحان تقول فيه سريحين.(15/27)
(2) وأما فعلان إذا كان صفة فلا تقلب ألفه ياء عند التصغير وتبعا لذلك يفتح ما بعد ياء التصغير سواء كان مؤنثها خاليا من التاء وهو الأصل أو بالتاء حملا على الصفات التي تمنع من الصرف نقول في نحو سكران سكيران، وجوعان جويعان وعريان عريّان، وندمان نديمان، وقطوان [4] قطيان.
يقول صاحب شذا العرف [5] : وتحقيق تصغير ما ختم بألف ونون أن يقال: لا تقلب الألف ياء فيما يأتي:
أولا: الصفات مطلقا أي سواء كان مؤنثها خاليا من التاء أو بالتاء.
ويقول الرضيُ [6] : "ومثل العلم المرتجل الصفة المنتهية بالألف والنون إذا كانت ممتنعة من التاء مثل: جوعان وسكران تشابهانها (أي ما ختم بألف التأنيث الممدودة) بانتفاء التاء فلا تقلب الألف ياء عند التصغير، وكذلك الصفة التي لا تمتنع من التاء كالعريان والندمان والصميان للشجاع والقطوان تشبه بالألف والنون في باب سكران لكونها صفات مثله اهـ"فمن الملحوظ أن الصفات الأخيرة في باب التصغير اتفقت في الحكم وهذا بخلافها في مبحث الممنوع من الصرف [7] ، وإن كان الصبان لم يسو بينهما في الحكم وفرق بين ماله مؤنث بالتاء وبين غيره.
(3) وأما فعلان إذا كان اسم جنس [8] فلا يخلو: إما أن تكون ألفه رابعة في اسم جنس على فعلان مثلث الفاء ساكن العين كحومان للنبت. واحده (حومانة) وسلطان وسرحان فإنك تكسر ما بعد ياء التصغير وتقلب الألف ياء تقول في تصغير ما مر: حويمين، وسليطين وسريحين تشبيها لها بزلزال وزليزيل، وقرطاس وقريطيس وسربال وسريبيل.
أما إذا كانت ألفة رابعة في اسم جنس (ليس على فعلان مثلث الفاء ساكن العين) كظربان، وسبعان فإنك لا تكسر ما بعد ياء التصغير وتبعا لذلك تبقى الألف دون قلب تقول في تصغير ما مر: ظريبان وسبيعان.(15/28)
قال الرضي: "وإن كانتا في الأمم الصريح (أي اسم الجنس) غير العلم لا يشبه ما فيه الألف والنون الزائدتان بالألف والنون في باب سكران مطلقا بل ينظر. هل الألف رابعة أو فوقها؟ فإن كانت رابعة في اسم له نظير مختوم بلام قبلها ألف زائدة قلت الألف في التصغير ياء تشبيها بالألف مثل النظير وذلك في ثلاثة أوزان فقط: فعلال كحومان (بفتح الحاء) ، وفعلان كسلطان، وفعلان كسرحان (بكسر السين) فإن نون حومان موقعها اللام في جبار وزلزال وموقع سلطان كلام قرطاس وزنار وطومار، وموقع نون سرحان كلام سربال ومفتاح تقول في الثلاثة حويمين، سليطين، سريحين كزليزيل، وقريطيس ومفيتيح.
وإن لم يكن الاسم مساويا لآخر في زيادة الألف قبل لام تشبه الألف والنون في باب سكران فلا تقلب الألف ياء تقول في ظربان [9] ظريبان وفي السبعان [10] السبيعان.
وكان قياس نحو ورشان [11] وكروان [12] أن يكون كظربان إذ لا يقع موقع نونه لام كما لم يقع نون ظربان وسبعان لكن لما جاء على هذا الوزن الصفات كالصميان والقطوان وشبهت ألفها بألف سكران فلم تقلب قصدوا الفرق بينهما فقلبت في الاسم فقيل وريشين وكريوين أو كرتَّين لأن تشبيه الصفة بالصفة أنسب وأولى من تشبيه الاسم لها " (انتهى كلام الرضي) .
وإذا كانت الألف في اسم الجنس خامسة أو في حكم الخامسة وذلك بحذف بعض الأحرف التي قبلها نحو زعفران، وعقربان وأفعوان وصليان (للحية) فلا تقلب الألف ياء إذ لا تقلب تلك الألف ياء إلا رابعة عند التصغير كمفتاح ومصباح تقول فيما مر من أسماء الجنس زعيفران، عقيربان أفيعيان، وصليليان، وفي قرعبلانه (دويبه) تقول: قريعبة.
ملاحظة: إذا ورد ما آخره ألف ونون مزيدتان ولم يعرف هل قلبت العرب ألفه ياء فجمع على فعالين أم لا؟ حمل على باب سكران ولا يقلب لأنه أوسع وأكثر.(15/29)
تنبيه: إذا صغرت ما كان منتهيا بالألف والنون المزيدتين وكان على وزن من أوزان جمع الكثرة مثل عُقبان: لم يصغر على لفظه لا بفعيلان، ولا بفعيلين وإن كان يجمع على فعالن بل يرد إلى القلة ثم يصغر فيقال: أعيقب [13] .
فِعلان، وفُعلان الجمع
ذكرنا قبل أن وزن فعلان بالكسر والسكون أو فعلان بالضم والسكون كان دالا على المفرد وفي هذا الفصل نعرضه دالا على الجمع للكثرة.
(فِعلان بالكسر الدال على الجمع القياسي)
يكون فِعلان بكسر الفاء دالا على الجمع باطراد في كل اسم مفرد على أوزان معينة وهي كالتالي:
(1) كل اسم على وزن فعل بضم أوله وفتح ثانية مثل صُرَد [14] وجمعه صِردان، ونُغر [15] وجمعه نغران يقول الرضي [16] : لما اختص (فُعل) بالضم فالفتح بنوع من المسميات وهو الحيوان خصوه بجمع، وأيضا كأنه منقولٌ من فعال (بضم أوله) كغُراب وغِرْبان أو مشبه به قال ابن مالك في ألفيته:
وغالبا أغناهم فِعلانُ
في فُعَل كقولهم صِردان
(2) كل اسم يكون على وزن فعال بضم أوله مثل غًراب وغِربان وغلام وغِلمان وحُوار [17] وحيران قال ابن مالك:
وللفُعال فِعلان حصل
(3) كل اسم يكون على وزن فَعَل بفتح أوله وثانيه الصحيح العين نحو خَرَبٍ [18] وخِربان وشَبَثِ [19] وشبثان.
أو الأجوف مثل تاج وتيجان، وقاع وقيعان وجار وجيران قال الرضي [20] وأما الأجوف فالقياس فيه الفعلان كالتيجان والجيران والقيعان وكذلك فعل المعتل الآخر مثل فتى وفتيان وأخ وإخوان.
(4) كل اسم على وزن فُعْل (بضم فسكون) واوي العين مثل حوت وحيتان، وكُوز وكيزان وعود وعيدان قال ابن مالك:
وشاع في حوت وقاع مع ما
ضاهاهما وقل في غيرهما(15/30)
وقال الرضي [21] : (وباب عود على عيدان يعني أن فُعلان (بضم فسكون) إذا كان أجوف لا يجمع في الكثرة إلا على فعلان (بكسر أوله) كعيدان وحيتان قال أبو حيان في كتابه ارتشاف الضَّرِب من لسان العرب فِعلان (بالكسر) لاسم على فعل نحو صرد وصردان وفعل خرب وخربان وخال وخيلان وفتى وفتيان وأخ وإخوان، وفعال غراب وغربان وغلام وغلمان، وفعل واوي العين: حوت وحيتان) .
فِعلان جمع سماعي فيما يأتي:
يحفظ فعلان بكسر الفاء سماعيا في اسم على فِعْل مثلِ قنو وقنوان [22] ، وصِنْو وصنوان [23] ، وفُعال صوار [24] وصيران وفَعَال غَزَال وغِزْلان، وفعول خروف وخرفان وفعيل ظليم وظلمان [25] وفاعل حائط وفِعْله نِسْوة ونسوان وفَعْل عبد وعبدان وفَعَلة (بفتحتين) قَضَفه وقِضْفان وفُعَلة (بضم ففتح) يُرَكة ويركان، وفعلة. أمة وإمان، وفي وصف على فَعْل شيخ وشيخان [26] وضيف وضِيفان وفُعال شجاع وشجعان.
فِعلان بالكسر جمع نادر [27] فيما يأتي:
قالوا: كِرْوان، وفِلْتان، وصمْيان، وصِفْتان جمع كَروان بالفتح وفَلَتان وصَمَيان وصَفَن [28] .
ملاحظة:
وربما جاء فعلان بالكسر دالا على المصدر فيكون مفردا مثل النسيان والحرمان [29] ، والعرفان ووجد وجدانا وسبق أن قلنا إلى الفعلان (بفتح فسكون) قليل في المصادر أيضا كقولك: ليان وشنآن، وزيدان بمعنى الزيادة.
فُعلان: بالضم يكون جمعا قياسيا فيما يأتي:
(1) لاسم على وزن فعيل تقول رغيف ورغفان يقول ابن يعيش [30] في شرح المفصل: والباب في فعيل فعلان (بالضم) نحو جريب وجربان وكثيب وكثبان وقليب وقلبان.
(2) لاسم على وزن (فعل) بفتحتين الصحيح العين نحو ذكر وذكران قال الرضي [31] : (وأما ذكر وذكران فلاستعمال ذكر استعمال الأسماء فهو كخرب وخربان وحمل وحُملان) .(15/31)
(3) لاسم على وزن (فعل) بفتح فسكون نحو بطن وبطنان وظهر وظهران يقول الرضي [32] (فالمسموع في قلة (فعل) في غير الأجوف أفعال وأنف وآناف وفي كثرته فعلان بالكسر كجحش وجحشان ورئلان جمع جحش ورأل، وفعلان بالضم كظهر وظهران وبطن وبطنان قال سيبويه [33] وفعلان بالكسر أقلهما) .
(4) لاسم على وزن فعل (بكسر فسكون) تقول ذئب وذئبان صرح به في التسهيل بأنه مقيس وقال في الكافية قليل [34] .
فعلان بالضم جمع سماعي فيما يأتي [35] :
(1) حاجز وحجزان.
(2) راع ورعيان وشاب وشبان.
(3) أفعل فعلاء.
أسود وسودان (وزعم الفراء أنه في هذا ونحوه جعل لفعل جمع أفعل فعلاء وقال أبو زيد أحمد بن سهل بيض وسود وحمر في الجمع الأدنى فإن جمع منه شيء في الجمع الأقصى كان على وزن فعلان وهو جمع وهو بيض بيضان سود وسودان وعمى وعميان وبرص وبرصان وكذلك القياس في كله) . انتهى كلام ابن سهل ويدل كلامه على أنه مقيس.
(4) حوار وحوران [36] (5) زقان وزقان (6) ثنىّ وثنيان [37] (7) قعيد وقعدان [38] (8) رخل ورخلان [39] (9) جذع وجذعان
وشذوذه أنه صفة ومسرع وسرعان.
وخرج بالاسم الصفة فلا يجمع على هذا الوزن ما كان مثل: ضخم وجميل، وبطل، وخرج بقوله غير معل العين في فعل (بفتحتين) ما كان معل العين نحو قود فلا يجمع على هذا الوزن.
ملاحظة:
قد تكون صيغة فعلان [40] (بالضم) مصدار سماعيا [41] مفردا كما في قولك غفر الله ذنبه غفرانا قال تعالى {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير} وقالوا شكر يشكر شكرانا، وكفر كفرانا قال تعالى: {فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِه} . ورجح رجحانا.
فعلان: بفتح الفاء والعين(15/32)
هذه الصيغة تكون مصدرا قياسيا في كل فعل لازم يدل معناه على التنقل والتقلب المخصوص والاضطراب والحركة الشديدة تقول: طاف، طوفانا وجال جولانا، وغلت القدر غليانا [42] ونزى نزوانا ونقز نقزانا [43] ، وعسل [44] عسلانا، ورتك رتكانا [45] يقول الرضي [46] والقياس المطرد في مصدر التنقل والتقلب الفعلان (بفتحتين) كالونزان والنقزان والعسلان والرتكان. والشنآن [47] (بفتحتين) شاذ لأنه ليس باضطراب.
وقد يكون المصدر على هذا [48] الوزن سماعا كما في قولك: غشيته غشيانا وذلك لأنه من المتعدي.
فعلان: (بفتحتين) ليس مصدرا.
وقد وردت ألفاظ في اللغة على هذا الوزن وليست بمصادر قال ابن مالك الذي جاء على فعلان بفتح أوله وثانيه وليس بمصدر ألفاظ محصورة تم نظمها فقال:
ما سوى المصدر من فعلان
أليان خظوان [49] شحذان
شقذان صبحان صحران
صلتان صميان علتان
عدوان فلتان قطوان
كذبان لهبان ملدان
يردان حدثان دبران
ذنبان رمضان سرطان
سرعان سفوان شبهان
صرفان سفوان علجان
عنبان غطفان كروان
نفيان ورشان يرقان
وأصلي وأسلم على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبعد فإن وقعت على هفوت فسبحان من انفرد بالكمال وتنزه عن الشرك والمثال فإن الإنسان محل النسيان وأول الناس.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] العلم المرتجل: ما وضع من أول أمره ولم يستعمل قبل ذلك في غير العلمية ومثاله الأعلام التي اخترعها العرب لمسميات عندهم مثل سعاد علم امرأة، وادد علم رجل، وعمران، وغطفان ومروان.. الخ.
[2] انظر شرح الشافية ج1 ص196، ص197.(15/33)
[3] انظر شذا العرف في فن الصرف للأستاذ الشيخ الحملاوي ص120 والمراد بالعلم المنقول أحد شيئين: أما العلم الذي لم يستعمل لفظه أول الأمر علما مطلقا وإنما استعمل في شيء غير العلمية، ثم نقل بعده إلى العلمية إذا سمينا إنسانا: عريان فمثل هذا كان صفة في أول الأمر يؤدي معنى آخر ثم نقل وأصبح علما لفرد في نوع ثم صار علما لفرد في نوع آخر شخص معين، وأما العلم المنقول الذي استعمل أول مرة يخالف الأول مثل سعاد علم امرأة إذا نقل واستعمل علم قرية لا علم امرأة ومثل غطفان إذا استعمل علما على حي من أحياء العرب مثلا..
[4] القطوان البطيء.
[5] انظر شذ العرف ص120.
[6] انظر الشافية ج1 ص196.
[7] قال ابن مالك: كذاك ما مدة أفعال سبق.. أو مد سكران وما به التحق أي انفتح انحتم للحرف الذي قبل ألف فعلان كسكران وما ألحق به مما هو على وزن فعلان مضموم الفاء أو مفتوحها أو مكسورها مع سكون العين.
[8] اسم الجنس هو كل ما يدل على الماهية المجردة أي الحقيقة الذهنية وهو أنواع:
أ _ اسم جنس جمعي وهو ما يفرق بينه وبين واحدة بالتاء أو بالياء مثل نخل ونخلة وروم ورومي.
ب _ اسم جنس إفرادي وهو الذي يصدق على القليل والكثير من الماهية مثل: هواء ماء دم.
ج _ اسم جنس أحادي وهو الذي يدل على الماهية ممثلة في فرد غير معين من أفرادها مثل: أسامة للأسد وسرحان للذئب وحومان لنبت وسعدان لنبت الخ.
[9] الظربان: (بفتح فكسر) دابة تشبه القرد على قدر الهر طويلة الخرطوم سوداء الظهر بيضاء البطن منتنة الرائحة تفسو في ثوب أحدهم إذا صادها فلا تذهب الرائحة حتى يبلى الثوب.
[10] السبعان: (بفتح فضم) موضع معروف في ديار قيس: قال الشاعر: ألا يا ديار الحي بالسبعان أمل عليها بالبلا الملوان قال في اللسان: ولا يعرف في كلامهم اسم على فعلان بفتح فضم غيره.(15/34)
[11] الورشان: بفتحات طائر يشبه الحمامة والأنثى ورشانة وجمع على ورشان بالكسر ووراشين، والورشان أيضا الجزء الذي يغطيه الجفن الأعلى من بياض المقلة.
[12] الكروان: طائر وجمع على كراوين، وكروان بالكسر جمع نادر.
[13] انظر التسهيل لابن مالك مبحث التصغير.
[14] الصرد بضم ففتح _ طائر فوق العصفور وقيل طائر أبقع ضخم الرأس يكون في الشجر بصفة أبيض ونصفه أسود ضخم المنقار قال الأزهري بصيد العصافير وفي الحديث الشريف: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع النملة والنحلة والصرد والهدهد".
[15] النغران جمع نغر بضم ففتح وهو طير كالعصافير حمر المناقير ومؤنثه نغرة (كهمزة) وأهل المدينة يسمونه البلبل وبتصغيره جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال النبي لأبي طلحة الأنصاري وكان له نغر يلعب به فمات "فما فعل النغير يا أبا عمير".
[16] انظر: الشافية ج2 ص99 _ وارتشاف الضرب من لسان العرب لأبي حيان وهو من تحقيقنا ج1 ص15.
[17] الحوار بضم أوله ولد الناقة ساعة يولد وقيل أن يفصل عن أمه وجمعه أحورة وحيران، وحوران وفي المثل حرك لها حوارها.
[18] الخربان: بكسر أوله جمع خرب بفتح أوله وثانيه وهو ذكر الحبارى ويطلق على الشعر يكون في الخاصرة ووسط المرفق.
[19] الشبث بقتح الشين والباء: دويبة ذات ست قوائم طوال صفراء الظهر وظهور القوائم سوداء الرأس زرقاء العين.
[20] انظر: الشافية ج2 ص96.
وبالنسبة للصحيح العين قال في الأشموني وشرح الكافية أن الخرب بفتحتين لا يطرد على فعلان بالكسر ولكنه قال في التسهيل يطرد جمعه على فعلان بالكسر.
[21] انظر: الشافية ج2 ص94.
[22] القنو: وهو من التمر بمنزلة العنقود من العنب.(15/35)
[23] الصنو الفرع وآخر أصل واحد وأصله المثل ومنه قيل للعم صنو وجمعه في لغة الحجاز صنوان بكسر الصاد وبضمها في لغة تميم وقلس كذئب وذؤبان ويقال صنوان بفتح الصاد وهو اسم جمع لا جمع تكسير لأنه ليس من أينيثه.
انظر: البحر المحيط ج5 ص357.
[24] الصيران جمع صوار (بكسر ففتح) وهو القطيع من بقر الوحش كما يطلق على وعاء المسك قال الشاعر:
إذا لاح الصوار ذكرت ليلى واذكرها إذا نفح الصوار
فالأول معناه ظهر وبدأ، والثاني نفح وهب ومعناه المسك.
[25] الظلمان: جمع ظليم وهو الذكر من النعام قال الرضي في الشافية ج2 ص132 وظلماء قليل حكى أحمد ابن يحي ظليم وظلمان وعريض وعرضان، وجاء صبي وصبيان وقال بعضهم في ضرير ضران والضم فيه أشهر. والضرير هو ذاهب البصر والمريض المهزول وكل شيء خالطه ضر فهو ضرير.
[26] قال الرضي في شرح الشافية ج2 ص91. فالمسموع في فعل غير الأجوف في كثرته فعلان كجحشان ورئلان وقال في ص117 وقد جاء فعلان بكسر الفاء في الأجواف وغيره كضيفان ووغدان بكسر الواو كما جاء في الاسم رئلان ويجوز أن يكون ضيفان وشيخان في الأصل فعلان مضموم الفاء فكسرت لتسليم الياء.
[27] انظر: ارتشاف الضرب من لسان العرب لأبي حيان ص114.
[28] الصفن وعاء الخصية ويحرك.
[29] انظر: شرح المفصل ج6 ص44. قال الشاعر:
يا رب غابطنا لو كان يعرفكم لا في مباعدة منكم وحرمانا
قالوا حرمه حرمانا، ووجد الشيء يجده وجدانا وعرفته عرفانا ورضيته رضوانا، رأمه رئمان.
[30] انظر شرح المفصل ج5 ص53، وسيبويه ج2 ص215.
[31] انظر: الشافية ج2 ص119.
[32] انظر: الشافية ج2 ص91.
[33] انظر: سيبويه ج2 ص204، ص177.
[34] قال ابن مالك في الألفية
وفعل اسما وفعيلا وفعل غير معل العين فعلان حصل(15/36)
[35] انظر الأشموني ج4 ص100، 101
والارتشاف ج1 ص115.
انظر سيبويه ج2 ص198، ص206.
[36] الحوار كغراب وكتاب ولدا الناقة ساعة يولد.
[37] الثني من البعران ما دخل في السادسة ومن الخيل ما دخل في الرابعة ومن الشاء ما دخل في الثالثة، والثني من الأضراس: الأربع التي في مقدم الفم ثنتان من فوق وثنتان من أسفل.
[38] القعيد من الإبل ما يقعد الراعي في كل حاجة.
[39] الرخل بكسر فسكون وهي الأنثى من ولد الضأن.
[40] انظر: شرح المفصل ج6 ص45.
[41] انظر: سيبويه ج2 ص217.
[42] النزوان الوثبان ولا يقال إلا للشاء والدواب والبقر في معنى الفساد.
[43] والنقزان ومثله النقز هو الوثبان صعدا في مكان واحد وقد غلب على الطائر المعتاد الوثب كالغراب والعصفور.
[44] العسلان: أن يضطرم الغرس في عدوه فيخفق برأسه ويطرد متنه، والعسلان أيضا أن يسرع الذئب والثعلب ويضطرب في عدوه ويهز رأسه.
[45] الرتكان مقاربة البعير خطوة في رملانه ولا يقال إلا للتغير.
[46] انظر الشافية ج1 ص156، وشرح المفصل ج6 ص147 والأشموني ج2 ص216 أبينه المصادر وسيبويه ج2 ص218.
[47] قال في شرح المفصل ج6 ص47 وأكثر ما يكون الفعلان في هذا الضرب مما فيه حركة واضطراب ولا يجئ فعله متعدي في الفاعل إلا أن يشذ شيء نحو شنئته شنأنا.
[48] انظر شرح المفصل ج1 ص45.
[49] صحتها بالخاء المنقوطة
شرح المفردات في أبيات ابن مالك
كبش اليان: ما كان فيه شحم ولحم في العجز في الزهر بالحاء المعجمة وصحته بالخاء المنقوطة.
الخظوان: والظاء محركة من ركب بعض لحمه بعضا
الشحذان: قال في القاموس الشحذان أن محركة السواق والجائع والخفيف في سعيه.
قال في القاموس: الشقذان محركة الذي يكاد ينام، والذي يصيب الناس بالعين، والشديد البصر السريع الإصابة.(15/37)
رجل صبحان: محركة الذي بعجل الصبوح.
الصحران: غيره حمرة خفيفة إلى بياض قليل.
الصلتان: محركة النشط الجديد الفؤاد من الخيل.
الصميان: بفتحات من الرجال الشديد المحتنك السن والجريء.
الشجاع والتلفت والوقت يقال رجل صميان إذا كان ذا توثب على الناس.
العدوان: محركة الشديد العداوة.
الفلتان: محركة النشيط والصلب الجريء وطائر يصيد القردة.
القطوان: مقارب الخطو في مشيه يقال قطا في مشيته يقطو واقطوطى فهو قطوان.
اللهبان: محركة اشتعال النار إذا خلص من الدخان.
الملدان: محركة الشباب والنعمة.
اليردان: حب الغمام.
الحدثان: الليل والنهار، والحادثة انظر: مختار الصحاح.
الديران: محركة منزل القمر.
الذنبان: محركة عشب أو ثبت كالذرة واحدته بهاء وماء بالعيص.
السرطان: برج في السماء وورم سوداوي يبتدئ مثل اللوزة فإذا أكبر ظهر عليه عروق حمر وخضر شبيه
سرعان: الناس محركة أوائلهم المستبقون إلى الأمر والسرعان الوتر القوي.
صفوان اليوم البارد بلا غيم ولا كدر.
الشبهان: محركة النحاس الأصفر ويكسر، ونبت شائك له ورد لطيف أحمر.
الصرفان: محركة الموت والنحاس والرصاص، وتمر رزين صلب المضاغ يعدها ذو العيالات.
سفوان: محركة موضع بالبصرة.
قال الشاعر: وظل لنسوة النعمان منا.. على سفوان يوم أروناني
العلجان: محركة اضطراب الناقة والعلجان تراب تجمعه الريح في أصل شجره.
العنيان: محركة النشيط الخفيف والثقيل من الطبار أو المسن منها وهو من الأضداد.
غطفان: محركة حي من قيس.
والكروان: بالتحريك طائر ويدعى الحجل وجمعه كروان بكسر فسكون وكراوين.
نفيان: بالتحريك ما تنفيه الريح في أصول الشجرة من التراب، وما يتطرف من معظم الجيش.
ورشان: بفتحات طائر يشبه الحمامة والأنثى ورشانة.(15/38)
اليرقان: آفة للزرع ومرض معروف
والحصوان: محركة موضع باليمن.
وجاء أيضا الحصوان في القاموس مادة (حصى)(15/39)
النمل والنحل مملكتان
فسبحان الرحمن
لفضيلة الدكتور محمد نغش
سبحان الرحمن الذي أوحى إلى مملكة النحل ليخرج من بطونها شرابا فيه شفاء وغداء، وهو الذي ألهم النمل في مملكته إلى حسن التدبير، والصبر على العمل من أجل تحصيل الرزق الوفير.
مملكة النحل:
قال الله رب العالمين {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
إن خلية النحل الواحدة مجموعة من المصانع، لإنتاج الدواء الذي فيه شفاء للناس، مصانع لأنها تبدأ أولا في البناء لبيوتها في أشكال هندسية بوحي من ربها، أي بإلهام وهداية وإرشاد. ليس في أبنيتها فرجة ولا خلل، بل هي محكمة الصنعة مسدسة الهيئة، أقامتها بطريقة هندسية في همة عالية، دون استخدام آلة أو الاستعانة بأية ماكينة عصرية، إنها تستخدم إمكانياتها الطبيعية التي منحها لها ربّ البرية.(15/40)
يقول ابن قيم الجوزية في كتابه مفتاح دار السعادة: "تأمل كمال طاعتها وحسن ائتمارها لأمر ربها، اتخذت بيوتها في هذه الأمكنة الثلاثة في الجبال في الشّقفان، وفي الشجر، وفي بيوت الناس حيث يعرشون أي يبنون العروش وهي البيوت. فلا يرى للنحل بيت غير هذه الثلاثة البتة. وتأمل كيف أن أكثر بيوتها في الجبال والشّقفان وهو البيت المقدم في الآية ثم في الأشجار وهي من أكثر بيوتها، ومما يعرش الناس وهي أقل بيوتها بينهم حيث يعرشون، وأما في الجبال والشجر فبيوت عظيمة يؤخذ منها من العسل الكثير جدا. ثم تأمل كيف أدّلها حسن الامتثال إلى أن اتخذت البيوت أولا، فإذا استقر لها بيت خرجت منه فرعت وأكلت من الثمار ثم آوت إلى بيوتها لأن ربها سبحانه أمرها باتخاذ البيوت أولا ثم بالأكل بعد ذلك، ثم إذا أكلت سلكت سبل ربّها مذللة لا يستوعز عليها شيء، ترعى ثم تعود".
والنحل واحدته نحلة، وقال أبو إسحاق الزجاج: "جائز أن يكون سمي نحلا لأن الله عز وجل نحل أي أعطى الناس العسل الذي يخرج من بطونها"، وقال غيره من أهل العربية: "النحل يذكر ويؤنث، وقد أنثها الله عز وجل ومن ذكر النحل فلأن لفظه مذكر، ومن أنثه فلأنه جمع نحلة".
وبالرغم من أن النحل يعد مصانع منتجة، إلا أنه كما يصفه القزويني في كتابه عجائب المخلوقات "ذو هيئة ظريفة، وخلقة لطيفة، وبنية نحيفة، وسط بدنه مربع مكعب، ومؤخره مخروط، ورأسه مدور مبسوط، وركب في وسط بدنه أربع أرجل ويدين متناسبة المقادير كأضلاع الشكل المسدس في الدائرة".(15/41)
وقد سمينا جماعة النحل بالمملكة لأن اليعسوب ملكة النحل المطاعة في الخلية تتوارث الملك عن آبائها وأجدادها. وهي أكبر جثة تكون بقدر نحلتين، تقسم الأعمال بين النحل، فهم يعرفون نظام التخصص الذي هو سمة العصر الحديث فلكل اختصاص لا يتعداه.. وكان العرب قديما يظنونها ذكرا لضخامتها ولقوتها البدنية، فهم يقولون: هو يعسوب قومه: أي رئيسهم وكبيرهم ومقدمهم.
وقوله سبحانه وتعالى {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاس} فألوانه ما بين أبيض وأصفر وأحمر، وغير ذلك من الألوان الحسنة، على اختلاف مراعيها ومأكلها منها.
وقد احتار القدماء والمحدثون في معرفة كيفية تحول الرحيق الذي ترشفه النحل من الأزهار إلى عسل حلو لذيذ سائغ للشاربين. تتغذى منه هي وأولادها وتختزن بعضه لوقت الشتاء، وهي تغطي مخازنها بغطاء رقيق من الشمع فلا يسقط منه شيء.
وقوله تعالى {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} إشارة إلى أهمية العسل كدواء، وتنبيه الناس إلى طريقة استخلاص الأدوية المفيدة من الأزهار المختلفة.
وقد كان رسول الله الكريم صلى الله عليه وسلم يوصي بالتداوي به فيقول: "عليكم بالشفائين: القرآن والعسل". فالقرآن علاج للأمراض النفسية، والعسل علاج للأمراض البدنية.
وقوله سبحانه {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} يقول ابن كثير: "إن في إلهام الله لهذه الدواب الضعيفة الخلقة إلى السلوك في المهامه، والاجتناء من سائر الثمار، ثم جمعها الشمع والعسل وهو أطيب الأشياء لآية لقوم يتفكرون في عظمة خالقها، ومسخرها، وميسرها فيستدلون بذلك على أنه الفاعل القادر، الحكيم العليم، الكريم الرحيم".(15/42)
وفي العصر الحديث في مختلف بلدان العالم المتحضر، يعكف الأطباء والباحثون على الاستفادة بالعسل كدواء لكافة الأمراض، البسيط منها والمستعصي، الباطني منها وغير الباطني، وقد وجدوا فيها مقويا عاما للأبدان، ولفت نظرهم من قديم الزمان، أن العسل يحتفظ بخواصه لا يدركه العفن ولا الفساد.
وفي العصر الحديث اكتشفوا أن الجراثيم المؤذية للإنسان إذا وضعت في العسل ماتت، فهو ينفع للعين والبطن وما حوت، وتعالج به الأمراض الجلدية والجروح المتقيحة. وهم يحاولون الآن أن يعالجوا به السرطان، هذا البلاء الذي يفتك بالإنسان، والذي حير العقول والأذهان في كل مكان.
إن الله سيكشف لعباده معجزاته في كل أوان، وسيرون أن القرآن من الرحمن الذي خلق الإنسان وعلمه البيان.
مملكة النمل:
قال الله تعالى في محكم آياته {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَي} .
فالنملة هذه المخلوقة الصغيرة الحجم الكبيرة الشأن، لها لغة تتخاطب بها فيما بينها كما أنها عاقلة ذكية، تستطيع أن تميز الأشياء، فتعرف سليمان عليه السلام بعينه ومن معه من جنوده، ثم إنها مخلوقة حازمة في أمرها لبني جنسها في أخذ الحيطة من مرور سليمان عليه السلام وجنوده من فوقهم، فيحطمونهم دون قصدهم، لأنها تعرف أنهم لم يأتوا لحربهم.
فما هو تصرف سليمان عليه السلام الذي قيل إنه سمع حديث النملة من مسافة بعيدة، قيل: إنه أمر جنوده أن يتوقفوا حتى يدخل النمل مساكنهم رحمة منه، وشفقة على مخلوقات الله الضعيفة، ثم هو يشكر ربّه الذي أنعم عليه، إذ جعله نبيّا ذا سلطان على الحيوان والجان.(15/43)
روي أن رجلا استوقف المأمون ليسمع منه فلم يقف له، فقال: يا أمير المؤمنين إن الله استوقف سليمان بن داود عليهما السلام لنملة ليستمع منها، وما أنا عند الله بأحقر من نملة وما أنت عند الله بأعظم من سليمان، فقال له المأمون: صدقت. ووقف له، وقضى حاجته.
وقال فخر الدين الرازي "إن وادي النمل المذكور في الآية بالشام، وأن الله تعالى أتى بحرف الجر ((على)) لوجهين أحدهما أن إتيانهم كان من فوق، فأتي بحرف الاستعلاء. الثاني أنه يراد به قطع الوادي وبلوغ آخره".
وحكي عن قتادة أنه دخل الكوفة فاجتمع عليه الناس، قال: سلوا عما شئتم. وكان أبو حنيفة حاضرا، وهو يومئذ غلام حدث، فقال: سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكرا أم أنثى؟ فسألوه، فأفحم، فقال أبو حنيفة كانت أنثى، فقيل له: كيف عرفت ذلك؟ فقال: من قوله تعالى: قالت ولو كانت ذكرا لقال: قال نملة لأن النملة مثل الحمامة، والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى.
وقال السهيلي: "إن في قول النملة {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} إشارة منها إلى عدل سليمان عليه السلام وفضله وفضل جنوده إذ شعروا بهم. وقال: إن تبسمه عليه السلام كان سرورا بهذه الكلمة من تلك النملة، ولذلك أكد التبسم بقوله {ضَاحِكاً} .
إذن قد يكون التبسم من غير ضحك ولا رضا. ألا تراهم يقولون: تبسم، تبسم الغضبان وتبسم تبسم المستهزئ، وتبسم تبسم الضاحك، وتبسم الضحك إنما هو من سرور".
وقال بعض البلغاء: إنها تكلمت بعشرة أنواع من البديع: قولها: يا نادت، أيها نبهت، النمل سمت، ادخلوا أمرت، مساكنكم عينت، لا يحطمنكم حذرت، سليمان خصت، وجنوده عمت، وهم أشارت، لا يشعرون اعتذرت.(15/44)
والآن نسأل أنفسنا هل مساكن النمل تقيهم من مرور جيش على واديهم؟ وللإجابة على هذا السؤال، نقول: لا يتخذ النمل مساكنه إلاّ في أعالي الوديان، وما ارتفع عن السيل من مكان، ويبني النمل بيوته بطريقة هندسية في أعماق التربة، بحيث تكون هذه المساكن مقسمة إلى حجرات مكيفة قريبة من الماء ومن الهواء، حتى لا يصيب غذاءها آفة من الآفات.
والعجيب هو كيفية بناء هذه البيوت المتينة السّقوف الغائرة الأعماق، المقسمة إلى حجرات ودهاليز كبيرة، بواسطة هذه المخلوقات الدقيقة الرقيقة، وبهذه القوائم التي لا تكاد ترى بالعين المجردة. كل هذا بدون آلات هندسية مساعدة، رغم أن مساكنها بمثابة الحصون الحصينة، التي تبنيها الدول خوفا من الجيوش المغيرة.
وهي تخرج من أسرابها طالبة لقوتها، فإذا ظفرت به اتخذت طريقين أحدهما للذهاب والآخر للإياب، وكأنها تصنع كما يصنع الإنسان المتحضر في رسمه طرقه وتنظيمه لمواصلاته، فترى فريقين من النمل في خطين منتظمين.
وإذا ثقل على نملة منهم حمل شيء اجتمعت عليه جماعة النمل، تساعد على حمله، إنها تعمل في وحدة متحدة، من أجل مصلحة مشتركة، وهي توفير الغذاء في الصيف لوقت الشتاء.
والنمل حيوان حريص، يحمل أكثر من وزنه، قويّ الشمّ، كثير الدأب على تحصيل رزقه، ويصفه القزويني في كتابه عجائب المخلوقات "إن النملة إذا جمعت الحّب في بيتها خافت أن ينبت، فتقطع كلَّ حبة مقطعين لتذهب عنه قوة النبت، وتقطع حبة الكزبرة أربع قطع لأن نصفها ينبت، وإذا كان عدسا أو شعيرا أو باقلاء تقشرها ولا تكسرها، فإن بالتقشير يذهب عنها قوة النبت، ثم تأتي بقطعها وتبسطها في الشمس حتى تزول عنها النداوة فلا تتعفن، وإذا أحسّت بالغيم ردتها إلى مكانها خوفا من المطر، وإذا ابتل شيء منها بالمطر تنشرها يوم الصحو لتزول عنه النداوة".(15/45)
وأخيرا فهذه لمحات عن أمتين خلقها الرحمن، وجعلهما آيتين ليتعلم منهما الإنسان، وهما يسبحان بحمده، فلنأخذ العبرة منهما، ونخلص لله خالقهما، ونشكره على نعمه علينا: ونعمل بإخلاص حتى يرضى عنا الله الذي كرمنا.(15/46)
الحمامة الحكيمة
لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
كان سرب الحمائم يغطي أحد المربعات الرملية في الفناء الجنوبي من المسجد النبوي المبارك، عندما أقبلت هذه الحمامة الغريبة ترف فوق السرب كأنها تتخير موضعا معينا لهبوطها.
كانت كل واحدة من السرب مشغولة بما أمامها من الحبوب الذهبية، تسرع في النقر، كأنها تخشى أن ينتهي المنثور من الحنطة قبل أن تملأ حوصلتها حتى الكظة، لذلك لم يكن ثمة متسع لملاحظة هذه الزائرة الساقطة عليهن من فضاء الفناء.
وجعلت هذه تتجه إلى هنا ثم هناك، وتهم بالنزول، ثم يخطر لها ما يمنعها من ذلك، فتعود إلى الرفيف مرنقة فوق السرب المشغول.. إلا أن ذلك لم يستمر سوى دقائق يسيرة حتى ضمت جناحيها وجعلت تهبط في أناة حتى احتلت الفجوة الصغيرة، التي فسحتها لها إحدى هاتيك الحمائم.
وأقبلت كل من الاثنتين على الأخرى تتمسح بها في تماس بشبه العناق، ثم جعلت المواطنة تكرم النزيلة بتقريب بعض الحبوب نحوها، فتنقرها هذه في رشاقة تنم عن السرور.. حتى إذا استنفد السرب الحبوب، فلم يبق ما يستهويه للبقاء هناك، هبّ في حركة واحدة نحو الفضاء، وكأنه يستجيب بذلك لأمر صادر من جهة لا يسع حمامةً مخالفتها.(15/47)
وتكاتف الرفيف حتى استحال دويا، وترنحت أفواج الحمائم متهادية بين مختلف الزوايا، ثم جعلت تنتشر على جوانب السطح القبلي المطل على المربعات الأربع، فتستقر هناك، كأنها تنتظر دفعة أخرى من هذه الحبوب، التي لا ينفك أولو القلوب الطيبة يحملونها إليها وفاء لنذر، أو كفارة عن سيئة، أو تقدمة بين يدي نجوى.. حتى تفيض عن حاجتها فتفقد الشهوة إليها، وبخاصة أيام الموسم، عندما تتدفق على المدينة الحبيبة سيول الزوار آتين من مختلف أرجاء العالم، فتتراكم صدقاتهم من هذه الحبوب، حتى لا يجد خَدم المسجد سبيلاً لتفادي ضررها إلا بتعبئتها في الغرارات، ثم نقلها من تلك الأقنية إلى حيث يتم الانتفاع بها.
وحَوَّمت الحمامتان بعض الوقت، حتى وجدتا الظل المناسب في جوار أحد الأضلاع من القبة الخضراء فهبطتا في رفق، وحيتا في أدب بالغ صاحب القبر المطهر، ثم أخذتا في حديث طويل جميل.
قالت (لطيفة) الزائرة ذات الثوب الأبيض كالثلج: هنيئا لك الحياة في هذا الجوار السعيد يا (رضية) .. وتنهدت رضية ذات الثوب الرصاصي الداكن، ثم أجابت: كثيرات من الحمائم المنزلية يرددن مثل هذه التمنيات.. ولا أعلم لذلك سببا معقولا.
_ عجبا.. وأي سبب أكثر معقولية من هذا الجو الذي ميزه الله على سائر أنحاء المدينة بحلول خير خلقه.. ألم تخبريني يا رضية أن الصلاة في هذا المسجد المبارك تعدل ألف صلاة في سواه!..
_ بلى يا لطيفة، وهذا بلاغ عن النبي الكريم، تلقيناه من أفواه العلماء الذين ينشرون هديه من هذا المسجد.. ولكن.
_ ولكن.. ماذا؟..
_ ولكن الصلاة غير الإقامة..
_ أوضحي يا رضية.. فإن في جوابك غموضا.
_ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدد الأفضلية بكون الصلاة في هذا المسجد تعدل ألفا في غيره إلا البيت الحرام الذي تعدل الصلاة فيه مائة ألف.. وإلا المسجد الأقصى الذي تعدل الصلاة فيه خمسمائة في غيره..(15/48)
_ ما شاء الله.. وما أوسع رحمته!
_ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخبر أن الإقامة في هذا المسجد أفضل من الإقامة في المنازل..
_ نعم؟!.. زيديني وضوحا يا رضية، زادك الله فقها.
_ أريد أن أقول لك أن إقامتنا نحن الحمائم الدكن في هذا المسجد المبارك، وكذلك إقامة أخواتنا في المسجد الحرام لا فضل لها على إقامتك أنت في منزل أصحابك!..
وأطرقت لطيفة تتأمل في هذا الذي سمعت من صاحبتها.. وجعلت تستعيده في ذات نفسها كلمة كلمة محاولة أن تنفذ إلى أبعاده بكل ما تملك من قدرة.. وبحركة عفوية رفعت رأسها واتجهت ببصرها إلى رضية لتقول: أتقولين يا صديقتي إن إقامتي حيث أسكن كإقامتك أنت في كنف هذا الحرم المطهر؟..
_ المدينة كلها حرم يا لطيفة من عير إلى ثور.. ألا تعرفينهما؟
_ الجبلان: اللذان يعانقان المدينة من جنوب وشمال..
_ والمسجد النبوي جزء من الحرم، إلا أنه يمتاز بمنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأفضلية الصلاة فيه.. أما الإقامة..
_ نعم.. نعم الإقامة يا رضية، كيف تكون إقامتي في كنف أصحابي كإقامتك في كنف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟..
_ اسمعي يا لطيفة، وحاولي أن تفهمي ما أقوله، فلا تكوني كالذين ينظرون ولا يبصرون، ويسمعون ولا يعون..
_ سأحاول جهدي..
_ كثير منا نحن معاشر حمائم هذا المسجد المبارك يروي أباً عن جد عن أكابر علماء هذه الأمة المفضلة أن رجلاً كان يكثر من التردد على القبر الشريف للسلام على نزيله صلوات الله وسلامه عليه، فرآه أحد علماء أهل البيت المطهر فأرشده إلى الإقلال من ذلك التردد قائلا له: سلمْ على رسول الله حيث كنت يبلغه سلامك، فما أنت ورجل بالأندلس إلا سواء في هذا..(15/49)
وكانت لطيفة تصغي بكل جوارحها إلى هذه الموعظة، فلم تستطع أن تكتم دهشتها مما تسمع، وقالت لصاحبتها وهي تتطلع باتجاه القسم الشمالي من المسجد: انظري يا رضية.. ألا ترين؟..
_ ماذا؟..
_ هؤلاء الذين لا يرضون أن يُغادروا المسجد إثر فراغهم من الصلاة إلا بعد أن ينصرفوا إلى جهة القبر الشريف مطأطئي الرءوس، ناكسي الأبصار مكتفي الأيدي، يتمتمون بالدعاء والسلام على صاحبه!..
_ بلى.. وهذا ما أراه كل يوم وفي عقب كل صلاة من كثيرين من المصلين.. فماذا ترين في ذلك؟..
_ أرى.. أليس هؤلاء أفضل منا نحن الحمائم، وأعلم منا بما يجب عمله.. فلو لم يكن هذا حقا وخيرا لما أقبلوا على فعله..
ولم تتمالك رضية زفرة خفيفة حزينة، ثم عقبت على كلام صاحبتها: لم تستعملي عقلك جيدا في فهم ما ترين وتسمعين، بل استهواك هذا التصرف بما وراءه من حسن القصد فتقبلته دون تفكير..
قالت لطيفة في استحياء: لا تتوقعي مني أن أكون مثلك أنت جارة المسجد وتلميذة علمائه.. وعلميني مما علمك الله يا رضية..
_ بارك الله فيك يا لطيفة.. ونفعك بما تتعلمين. أول ما أذكِربِه هنا هو أن أفضلية الجنس البشري علينا نحن معشر الحمائم ليست مطلقة، فهم أفضل المخلوقات الأرضية دون شك، بما جهزهم الله به من وسائل لبناء الحضارة، وإقامة المدنيات، والقدرة على حل ألغاز الكون..
_ حقا.. حقا..
_ وهذه الأفضلية خاصة بالجنس الآدمي بالنسبة لغيره من الأجناس، ولكن..
_ ماذا؟..
_ ولكن كثيرين من هذا الجنس لا يحسنون استعمال قدراتهم الموهوبة، فلا ينتفعون بسمعهم ولا بصرهم ولا عقلهم..
_ حقا.. حقا..
_ فمثل هؤلاء لا يحققون أفضليتهم على أي جنس من المخلوقات الأخرى.. بل ربما هبطوا بجهلهم إلى مادون مستوانا نحن..
_ ما كان أجهلني لهذه الحقائق! ..(15/50)
_ وهؤلاء الذين تستحسنين تصرفاتهم في أعقاب الصلوات إنما يفعلون ذلك تقليداً لغيرهم ممن لا يملكون علما ولا فقهاً..
_ هكذا إذن؟..
_ أجل.. لأن العلم _ كما سمعنا من أهله في حلقات هذا المسجد المبارك _ يلزم صاحبه بإتباع الدليل من كتاب الله وسنة رسوله وعمل السلف الصالح.
_ وما أجل شأن العلم!..
_ ولو هم رجعوا إلى هذه المصادر لما وجدوا مسوغا لما يفعلون، ولوقفوا عند حدود ما أمر الله ورسوله، بالصلاة والسلام على رسول الله حيثما كانوا وكلما ذكر..
_ زادك الله من فضله.. ولكن.. ألا ترين أنك لم تقطعي بموضوع الإقامة حتى الآن؟.. كيف تكون إقامتي في كنف أصحابي معادلة لإقامتك أنت في هذا الجو الذي يزودك بكل هذا الخير!..
وارتسمت على وجه رضية ابتسامة خفيفة لم يفت لطيفة معناها، ومست بمنقارها العقيقي أذن لطيفة، وجعلت تقول في لهجة أقرب إلى الهمس: سامحك الله.. ألم أبين لكِ وجوب الوقوف عند الحكم الشرعي دون تزيد ولا مغالاة!.. والحكم الشرعي يثبت أفضلية الصلاة ولا يعطي الإقامة أية أفضلية..
_ أوشكت أن أفهم..
_ أضيفي إلى ذلك أمرا هاما غفلنا عنه كلنا ويا للأسف!..
_ ما هو. حفظك الله!..
_ هو أننا بهذا المقام في المسجد قد عطلنا طاقاتنا الموهوبة، فلم ننفع أحدا، وأصبحنا عالة على كل أحد..
_ لم أفهم ما تقصدين..
_ تأملي يا لطيفة في كل ما يقع بصرك من أشياء هذه الدنيا تجدي أن كل واحد من هذه الأشياء يأخذ ويعطي.. وبهذا الأخذ وذاك العطاء يسهم في خدمة الحياة على قدر طاقته.
_ ما كان أبعدني عن هذا التأمل!..
_ أما نحن.. فكما ترين.. نأخذ كل شيء ولا نعطي شيئا.. ويا ليت سبيلنا وقفت عند هذه الحدود فقط.. بل إننا لنكافئ على الخير بضده في معظم الأحيان..
_ وكيف يكون هذا؟..
_ اسمعي يا لطيفة.. المسكن الذي تعيشين فيه ماذا تأخذين منه وماذا تعطينه؟..(15/51)
وتمتمت لطيفة في استحياء ممزوج بالتعجب: لم أتوقع سؤالا كهذا قط.. فما أدري كيف أجيب عليه!..
_ حسنا.. لا تعجلي.. هل يوفر لك أصحابك وجباتك اللازمة من الطعام؟..
_ والشراب أيضا..
_ مقابل أي شيء؟..
_ الآن فهمت.. طبعا مقابل ما نقدمه لهم من لحومنا ولحوم فراخنا العزيزة..
_ إذن أنت تأخذين وتعطين!..
_ طبعا وأعطي أكثر مما آخذ..
_ تلك هي العدالة والكرامة يا لطيفة.. فتذكري بإزاء ذلك أن الناس يتخيرون لنا أفضل الحبوب، التي لا يكاد يحلم بمثلها الكثير من فقرائهم.. ويؤثروننا بالعذب النقي من الماء.. ثم لا نعطيهم أي شيء أبدا..
ورانت على الحمامتين المتناجيتين غمرة من الصمت.. حتى عادت رضية إلى الكلام فقالت وهي تغص بدموعها: والأسوأ من ذلك يا أختاه أننا نؤذيهم إي والله نؤذيهم.. بل نؤذي المسجد الطهور نفسه..
_ أعوذ بالله.. وكيف!..
_ بما ألقيه من زَرْقنا على سطح المسجد.. نلقيه دون تفكير بعواقب ما نفعل. حتى إذا جاءت رحمة الله بالغيث سالت الميازيب به. متحللا في ذلك الماء فيلقاه بعض الجهلاء بأفواههم، أو بأوعيتهم ليتبركوا بارتشافه، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
_ وي.. وي.. إنها لمضرة بالغة..
_ واذكري مع هذا ما نلقيه من ذلك الزرق خلال الحصى الذي ننقر عنه الحب، فما يكاد يختلط بماء المطر حتى يسرع في التخمر، ثم لا يلبث أن يطلق من الروائح ما نكاد نحن نموت منه اختناقا..
_ أعوذ بالله..
_ أجل.. هكذا يستحيل زرقنا سما لآناف المصلين وأفواههم يا صديقتي، في حين يكون زرقكم خيرا كله عند أصحابكم، إذ يجمعونه ثم يغذون به أطايب المزروعات والأزاهير، لتكون نعمة وبركة للإنسان والطير والحيوان على السواء..
وأثبتت لطيفة في وجه صاحبتها عينين تفيضان بالرضى.. وجعلت تتمتم ليت الحمائم كلهن يعلمن ما تعلمين.(15/52)
ومضت رضية تقول: هل أدركت يا عزيزتي لماذا أضيق صدرا بالمقام في هذا المكان الكريم.. وأود لو أستبدل بحياتي كلها أسبوعا واحدا في قفصك الذي ما كنت لتعرفي قيمته من قبل!..
وفي فرحة غامرة ردت لطيفة: ألف أهلا.. بك.. على الرحب والسعة.. إن في قفصي السعيد لمتسعا لرفيقة حكيمة صالحة مثلك..
وفي حزن لم تستطع إخفاؤه أجابت رضية: شكرا لله لك حسن مودتك.. ولكن..
_ ماذا؟..
_ إن أصحابك سيطرونني حتما..
_ أهذا ممكن!.. ولم؟
_ لأني لا أستطيع مكافأتهم على أي معروف..
_ وكيف! ألست ستهاجرين إلينا مع قرينك، فتلدين كما ألد، وينتفعون بك كما ينتفعون بي تماما!..
_ هيهات يا عزيزتي.. إن الناس لا يستحبون لحومنا، ولا يستحلون لحم فراخنا ولو عشنا في بيوتهم وعلى طعامهم.. وهكذا سنظل طاقات معطلة كما وصفت لكِ لا فائدة فينا لأحد من خلق الله..
_ هكذا!..
_ أجل يا عزيزتي.. سنظل أبدا نأكل ونشرب ونتوالد ثم نموت دون أن نرد للمحسن جميلا.. ودون أن تظفر إحدانا من مخلوق بكلمة (رحمها الله) على حين لا يذبح أحداكن ذابح، ولا يأكلها آكل إلا ذكر عليها اسم الله.. وكفى بهذا عزاء لها جميلا.
_ ولكن يا رضية.. إن كثيرات من سربك يعشن في بيوت المدينة.. ولابد أن حياتهن هناك كحياتنا نحن في بيوت أصحابنا.. يأخذن من خيرها ويعطينها من خيرهن..
_ ذلك محض الظن.. أما الحقيقة فهي على الضد من ذلك..
_ وكيف؟..
_ إن هؤلاء المهاجرات قد لجأن إلى أطناف تلك البيوت رجاء الحصول على مثل حياتك.. إلا أنهن..
_ أتمي.. ولا تترددي.
_ إلا أنهن أخفقن تماما، لأن القوم يرفضون بإصرار تغيير رأيهم فينا.. لذلك يضيقون ذرعا بهؤلاء النزيلات ويعملون للتخلص منهن بكل ما يملكون من قدرة قد تصل إلى حد الترويع والإيذاء..
_ عجيب..(15/53)
_ وهم معذورون في ذلك.. لأنهم لا يلقون من هؤلاء المتطفلات عليهم سوى الضرر المحض..
_ ضرر!..
_ أجل.. ضرر لا يطيقونه، ولا يملكون له دفعا..
_ أوضحي يا رضية.. فأنا لا أعرف الضرر الذي تعنينه.
_ وأي ضرر أسوأ من أن يجدوا كل فرجة في بيوتهم مقرا لبعض هذه الأزواج تبني فيها عشها، وتضع فراخها وتلقي بزرقها على كل شيء، لا تستثني من ذلك الثياب، والمارة والسيارات..
_ أف.. حقا إنه لعمل مخجل.
_ ولأنه مخجل لم أسمح لنفسي بسلوك هذه الطريق حتى الساعة..
_ ولماذا لا تفكرين وأمثالك من الحكميات بمخرج من هذا المأزق!..
_ المخرج معروف.. وخطير يا رضية.. لأنه يصادم عادات الناس ومألوفهم.
_ وما هو؟..
_ هو ذبحنا..
_ هو ذبحنا..
_ وي.. وي!
_ أجل ذبحنا.. وهو حكم أصدره ثالث خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من على منبره في هذا المسجد المبارك..
_ وهل يعقل هذا؟..
_ وهل يحكم خليفة رسول الله بغير المعقول؟.. لقد لاحظ ما تجره الحمائم من أذى على المسجد، وما تحدثه الكلاب من أضرار في المدينة فقال للناس: اذبحوا الحمام واقتلوا الكلاب.. [1]
_ وهل أنت مستيقنة من هذا الخبر يا رضية؟..
_ لقد سمعته من بعض علماء هذا المسجد المبارك.. ورويناه بالتسلسل أبا عن جد عن عثمان رضي الله عنه.
_ أكاد أقتنع بهذا الحل يا رضية.. ولاسيما في شأن الكلاب التي بلغ من ضررها في المدينة أن افترست طفلين في منطقة قباء خلال السنوات الأخيرة..
وفي هذه اللحظة ارتفع صوت المؤذنين لصلاة الظهر.. فانقطع الحوار، وانصرفت الصديقتان إلى متابعة كلمات النداء في خشوع عميق.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن عثمان رضي الله عنه.(15/54)
نظرات في كتاب مع الرعيل الأول
لفضيلة الشيخ محمد سليمان العبده
مقدمة بين يدي هذه النظرات
كانت ماكرة تلك الهجمة الاستشراقية الصليبية على الإسلام والمسلمين في هذا العصر، فراحت تتهم الإسلام بشتى التهم وراح بعض المسلمين _ وبعاطفة الدفاع عن الإسلام _ يلصقون بالإسلام ما ليس منه أو يلتمسون من هنا وهناك شهادات للغربيين بأن الإسلام دين الرحمة أو دين المدنية ليقولوا للناس (والفضل ما شهدت به الأعداء) وكان هذا في أول هذا العصر.
ولم تنتشر الثقافة الإسلامية بعد بهذا المدى التي وصلت إليه الآن، ولذلك فنحن لا نحاسب الذين تأثروا بهذه الهجمة بما نحن عليه الآن، ولكننا نرى أن مقالاتهم وكتاباتهم وإن أفادت في وقتها وتأثر ناس بها ولكنها الآن لا تناسب ما وصل إليه الشباب المسلم من وعي، لأنها كتبت من موقف الدفاع والضعف لا من مركز القوة واستعلاء الإيمان، إن كتابات مثل كتابات ابن تيمية في أول القرن الثامن الهجري نتلقاها الآن وكأنها كتبت بالأمس وذلك لأنها كتبت من مركز القوة.. والاستعلاء على فلسفة اليونان وكل الترجمات التي تأثر بها المسلمون منذ بدأت الترجمة في العصر العباسي. كتبت بدون عقدة النقص التي يشعر بها المسلمون الآن تجاه الحضارة الغربية.
وإلا فما حاجتنا إلى شهادة مستشرق خبيث مثل (دوزي) ليقول لنا: إن العرب تغيرت حياتهم بعد فجر الإسلام.
إن اسم (دوزي) على كتاب مثل (مع الرعيل الأول) تزكية له والرجل من أخبث المستشرقين وسأنقل إن شاء الله بعض كلامه في هذه المقالة.
2 _ وكذلك كانت موجة القومية العربية قد طغت في أول هذا العصر وخاصة في بلاد الشام بعد الحرب العالمية الأولى (لأن الذي حركها هم نصارى لبنان للتخلص من الدولة العثمانية) [1](15/55)
وأول من تأثر بها هم من يسمون أنفسهم المثقفين، ولكنها أصابت ببعض شررها بعض المخلصين من المسلمين أيضا الذين يحبون الإسلام وخاصة أنه كان عندهم رد فعل على محاولة طمس اللغة العربية من قبل جمعية الاتحاد والترقي التي حكمت الدولة العثمانية في أواخر حياتها وكانت جمعية معروفة بعدائها للإسلام.
ويظهر أن الكاتب الكبير محب الدين الخطيب كان ممن أصابهم شرر هذه القومية، وسيتضح هذا من بعض فقرات كتابه.
وكذلك نقول: إننا لا نحاسب الأستاذ محب الدين الخطيب على عصره فالبيئة لها تأثير كبير، ولكن نقول: إن الأمور قد اتضحت الآن ولابد من بيان الخطأ.
3 _ وليس معنى ملاحظاتنا على كتاب (مع الرعيل الأول) أننا نغمط حق مؤلفه، أبداً فكتابة المؤلف عن الصحابة كتابة قوية وفيها أسلوب جديد يجمع بين الأدب الرفيع والتحقيق العلمي، ولولا ما سوف نلاحظه على تأثر الكاتب بالأشياء التي ذكرت لكانت هذه الطريقة هي الطريقة المثلى في إعادة كتابة تاريخ أفضل الأجيال.
بعد هذه المقدمة سنبين بعض الملاحظات على الكتاب ويمكن أن نجمعها أو نشد خيوطها إلى ثلاثة أمور:
1 _ الدفاع عن الإسلام من مركز الضعف والشعور بقيمة ما عند الغربيين عن الإسلام.
2 _ بعض الألفاظ التي توحي بتأثر الكاتب ببدعة القومية العربية.
3 _ ملاحظات عامة.
ونبدأ بالنقطة الأولى فنقول:(15/56)
إن المؤلف أكثر من الاستشهاد بالمستشرقين ونقل أقوالهم. ففي أول صفحات الكتاب ينقل مقالاً كاملاً للمستشرق (دوزي) . وقد قلت إن هذا المستشرق من أخبث المستشرقين ففي كتابه المشهور (تاريخ مسلمي أسبانيا) يقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (ربما كان رسول الله لا يفوق أحداً من معاصريه ولكنه لم يكن على شاكلتهم فقد ورث عن أمه رقة الطبع وحدة المزاج) ؟! [2] . ويتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه يشاطر قومه (قريش) في احتقارهم لأهل المدينة لأنهم زراع [3] ولكنه لما يئس من قومه اضطر لتناسي هذه النظرة فرحب بوفود هذه المدينة [4] ومثل هذا الكلام كثير في كتابه فلا يجوز أن يذكر مثل هذا وكأنه من المعتدلين.
وفي المقال الثاني صفحة (7) يبدأ المقال بكلمة (جوستاف لوبون) وفي نفس المقال يستشهد بأقوال ثلاثة من الغربيين وينقل عن أحدهم (ويلز) تعريفه للإسلام بأنه هو المدنية. فهل هذا التعريف صحيح؟. وماذا يقصد (ويلز) بالمدنية؟ الله أعلم بمدنيته ماذا تحتوي لأنه يقول: "إن الدين الذي لا يسير مع المدنية؟ فاضرب به عرض الحائط" [5] . وهل الإسلام يقاس بالمدنية أم العكس.
وفي الصفحة التاسعة أراد أن يستشهد بكلام (المسيو كلودفاير) فأتى به من مقدمة كتاب (العباسة) لجرجي زيدان وذكر كتاب جرجي زيدان بدون تعليق عليه كأنه توثيق له. ومعلوم أن هذا (الجورجي) من أساطين الصليبية والاستعمار الحاقدين.
وفي صفحة (11) يريد أن يمدح الإسلام فيقيسه ببعض المصطلحات عند الغربيين يقول: "إن الإسلام الذي بعث الله به صاحب هذه الذكرى هو ما يسميه الإفرنج (السبرمان) ؟! "
أولاً: نحن لا نقيس الإسلام بما عند الغربيين.
ثانيا: إن كلمة (السبرمان) تعني الرجل المثالي الخيالي الذي قد لا يوجد على الأرض. ولكن الإسلام وجد على الأرض. ويناسب أهل الأرض. وطبق على هذه الأرض.(15/57)
وفي صفحة (15) نلاحظ تأثره بالغربيين (وهذا حصل لغيره بسبب عدم وضوح هذه المفاهيم على أساس الإسلام) . فنراه يقيس الإسلام بالديمقراطية. وهي كما نعلم مبدأ غربي لا يمت إلى الإسلام بصلة لأن معناه هو حكم الشعب وفي الإسلام الحكم للشريعة التي أنزلها الله وليس للشعب.
يقول: "ونحن الآن في عصر الديمقراطية الذي تنزل فيه الدولة على حكم الأمة"ويطلب من القراء أن يكثروا من المطالبة بالإسلام حتى ينزل مجلس النواب على رأيهم!؟ ونحن نقول: إذا كان مجلس النواب هو ثمرة هذه الديمقراطية المهترئة فكيف يكون هو، وكيف نطلب منه أن ينقذ المسلمين ويحكم بالإسلام.
في صفحة (149) يركز كثيراً على موضوع الأخلاق. وهذه شنشنة غربية معروفة وهي أن (الدين المعاملة) التي يرددها كثير من الناس الذين يتساهلون في أمور العبادات كالصلاة وغيرها.. لذلك نراه يقول: "والعقيدة بلا أخلاق ساحل لبحر لا ماء فيه"والأخلاق عنده هي البحر الأعظم من الدين.. ولو قال العكس لكان أفضل، فالعقيدة هي الأساس والأخلاق وغيرها يبنى على العقيدة.
2 _ وأما تأثر المؤلف ببعض شرر القومية فهذا ما نلاحظه في ثنايا كثير من الصفحات وبعض الكلمات والإشارات ففي صفحة (19) دافع عن أهل مكة في الجاهلية وبرر لهم عدم وجود حكومة تجمعهم فقال: "لأنهم -أي أهل مكة- قلما عرفوا فيهم مواطناً تنزع نفسه إلى الشر) . مع أن هذا نقص في أهل مكة والعرب الجاهلية، وقد ذم رسول صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية" [6] يعني كما كان أهل الجاهلية لا يبايعون أحدا ولا يجتمعون على رئيس لهم يسوسهم. ويردد كثيرا ً كلمة العروبة. ومعلوم أن هذه الكلمة أصبحت تستعمل الآن بمعنى القومية الذميم وليس بمعنى حب اللغة العربية أو اختيار الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم خيارا من خيار.(15/58)
ويقول في صفحة (150) : "وأنا أعتقد أن تاريخ العرب قبل الإسلام من أخصب تواريخ الأمم وأثمنها".
أما أن يكون عند العرب قبل الإسلام بعض الصفات التي تمتاز بها عن غيرها مثل بعدها عن فساد الحضارة والمدنية فهذا صحيح وأما أن يكون تاريخهم في الجاهلية من أثمن التواريخ فهذا مما يُشك فيه.. ويقول أيضا "إن الإنسانية لا تعرف أمة أثرى وأنبل وأوغل في مثلها العليا قولاً وعملاً من أمة العرب في الجاهلية"فكيف تكون في جاهلية وعندها هذا الثراء..
ويكرر في صفحة (151) : "ويستلذ السهر في إخراج تاريخ العروبة والإسلام".. فهل العروبة غير الإسلام ويكرر هذا أيضاً في صفحة 167..
ويصرح أكثر في صفحة (177) عندما يصف بعض القبائل العربية "وكان لهم نضوج العقل وجمال المنطق وهما من ميراث القومية العريق في القدم".
وفي تبرير أفعال عبد الملك بن مروان قال في صفحة (203) : "وأمثال عبد الملك كانوا يرون أن ما كان عليه الخلفاء الراشدون إنما كان فوق مستوى البشر" ... ولم يعلق على هذا. فإذا كان مستوى الخلفاء الراشدين فوق مستوى البشر فكيف يأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتبعه ونتبع سنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده.
والله سبحانه أرسل الرسل من البشر حتى لا يقول الناس (لو أرسل لهم ملائكة) هؤلاء ملائكة لا نستطيع تقليدهم أو إتباعهم والإسلام أنزل حتى يطبق في الأرض لا ليكون فوق مستوى البشر، وكيف استطاع عمر بن عبد العزيز أن يهتدي بهدي الخلفاء الراشدين، وعبد الملك لا يستطيع؟
ولقائل أن يقول ما صلة عبد الملك بالقومية العربية. فأقول: إن المؤلف يبرر كثيراً من أخطاء بني أمية لأنه يعتبر أن دولتهم دولة عربية ولذلك يبرر أخطاء الحجاج بل ويدافع عنه دفاعاً مجيداً. ويهاجم عبد الله بن الزبير، وينتقد أهل المدينة بسبب موقعة الحرة وهذا في تعليقه على كتاب (العواصم من القواصم) .(15/59)
3 _ هناك ملاحظات عامة: فمثلاً كرر ذكر المولد النبوي في صفحة (11) فقال: "وهذا الدين الذي نحتفل بذكرى رسوله الأعظم في شهر ربيع الأول من كل عام"وكذلك في صفحة (15) مع أنه من المعلوم أن هذا الاحتفال بدعة.
وعندما تكلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه وتحت عنوان صغير (سحر العروبة) ذكر أن أعظم عمل قام به الفاتحون لمصر هو تحبيب اللغة العربية لهم حتى أصبحت كما يقول: "لغة الزوجين في كوخهما بآخر قرى كوم أمبو ولغة التأليف والنشر ولغة المنابر والمعابد ولغة الموسيقى والأغاني"فهل هذا اعتراف منه بالموسيقى والأغاني المصرية؟!
وأخيراً نعود فنقول: إن المؤلف قد أبرز سيرة بعض الصحابة كالنعمان بن مقرن المزني وعمرو بن العاص وبعض التابعين كالأحنف بن قيس وسعيد بن المسيَّب بما هم له أهل وبما يستحقون من إبراز محاسن أفعالهم وعظيم جهادهم في الفتح الإسلامي وكذلك أبرز سيرة بعض الفاتحين الذين قلّ أن يدري بهم شباب الإسلام اليوم من أمثال الجراح ابن عبد الله الحكمي. الذي توغل وفتح ما يسمى بلاد الخزر والتي تقع الآن تحت حكم روسيا. كل ذلك بأسلوب بليغ ومحبة لهؤلاء الصحابة والتابعين ومحاولة تنبيه الشباب إلى أمجاد التاريخ الإسلامي.
ولكن ما يفيد في وقت قد لا يفيد في وقت آخر، وقد مرت على المسلمين فترة كانوا فيها بموقف الذي يجعل الإسلام في قفص الاتهام ثم يحاول الدفاع عنه. وقد تجاوز المسلمون هذه المرحلة الآن إلى مرحلة الثقة المطلقة بالإسلام وإلى الهجوم على كل مبدأ غريب عن هذا الدين بدلاً من محاولة إلصاق أي مبدأ براق به، لتزيينه أمام الشباب كما يزعم. وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نكون دائما في موقف العزة، {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
--------------------------------------------------------------------------------(15/60)
[1] إن العلاقة بين النصارى والقومية العربية واضحة من أسماء روادها: نجيب عازوري، قسطنطين زريق مشيل عفلق. الخ.
[2] درزي: تاريخ مسلمي أسبانيا 1: 22.
[3] درزي: تاريخ مسلمي أسبانيا 1: 27.
[4] درزي: تاريخ مسلمي أسبانيا 1: 27.
[5] مع الرعيل الأول ص8.
[6] جزء من حديث ص334 مختصر صحيح مسلم.(15/61)
العالم الإسلامي يتكلم: ظلموني
بقلم الطالب محمد الأمين الشيخ
ظلموني.. حقا لقد ظلموني..
حرموني الحياة في ظل ديني..!
حكموني بغير ديني فنفسي.
في اضطراب، وأمتي في شجون
أبعدوني عن هديه فخطاي
اليوم عرجٌ مصابة بالجنون
أبعدوني عن نوره فظلام
الليل حوليَّ موحش بالسكون
أبعدوني عن الهدى فأضاعوني
وقد كنت في حماه الحصين
عشت في ظله عزيزاً رفيع
الرأس لا أنحني لعسف القرون
ظلموني لم ينشروا العدل في
أرضي ولم يزرعوا بذور اليقين
بذروا الذل والمهانة في نفسي
وضحوا بعزتي للهُون
ظلموني فسلموا الوطن الغالي
على الرغم من صلاح الدين
وأضاعوا ما أحرز البطل
الناصر بالسيف في رُبا حطين
ظلموني فحكموا الغرب في
أمري وحادوا عن الكتاب المبين
فاعتلى كرسي القضا يتحداني
ويقضي بحكمه في شؤوني
ظلموني أنا الذي علم الغرب
شئون الدستور والقانون
من بنيَّ استفاد. كيف أصير
اليوم تلميذه، لقد ظلموني
أنا قاضي الوجود والحاكمُ
العادل أقضي بالعلم لا بالظنون
بيدي المصحف الكريم
أأحتاج إلى الجاهلين في التقنين!
كيف أقضي بشرعهم وكتابُ
الله غضُّ التنزيل والتبيين!
من ينابيعه تفجرت الأزهارُ
وأخضلَّت الربا بالمعين
ظلموني كنت المعلم والأستاذ
منيّ استمد أهل الفنون
ظلموني فمزقوا شمل أبنائي
وحدُّوا الحدود بين البنين
ولقد كان عالمي الأفق الرحب
وكانت أطرافه في الصين
ظلموني كنت السحابة للناس
وورد الربيع والزيتون
أينما كنت كنت غيثاً مريعاً
يتحدى مخلفات السنين
وأنا اليوم أجتدي العالم الظمآن
شأن الفقير والمسكين
ظلموني فعندي البحر والنهرُ..
ومزن السما وماء العيون
ظلموني فعكروا أفقي الصافي(15/62)
وشابوا أزرقاقه بالطين
كنت في ظلمة الدياجي أناجي
مشرق النفس باليقين المكين
أنتشي أن قرأت في الليل
قرآني ورتلته بشدوٍ حزين
فرحتي دمعة تبلل خدي..
عندما يختفي رقيب العيون
ذقت في هدأة الدجى طعم إيماني
وطعم الهدى وطعم اليقين
يحلم الليل في فؤادي بالأسرار
حيث الوجود غافي الجفون
فغروني فأغرقوني بالألحان
والحان والهوى والمجون
ظلموني فأطفئوا شعلة القلب
وزجوه في ظلام السجون
كنت في روضة تعللني الأنسام
واليوم صرت في أتون
ظلموني فعلموني دين الغرب
دين الإلحاد واللاَّ دين
ظلموني فعلموني دين الخمر
دين الحشيش والأفيون
ظلموني فعلموني دين البغي
دين الغازات والهيدرجين
ظلموني فحطموا سدَّ أخلاقي
وكانت منيعة التحصين
ظلموني. من الذي علم الخود
فنون المجون في الصالون
ظلموني من الذي زين
الشر على شاشة التلفزون
ظلموني من الذي بث في
المذياع سمَّ الإيحاء والتلقين
ظلموني من الذي بغض
الدين وكنا نهفو له بالحنين
ردة نام عن كوارثها الحارس
في حضن رزقه المضمون
ورآها الجمهور من سنن الكون
فطمت على الربا والحزون
أين حكم الهدى وأيامه
البياض وتاريخه الوضيئ الجبين
حكمتني بعد الهدى وأيامه زمر
استالين تروي الإجرم عن لينين
فاشتكت للأشجِ منهم دمشق
واشرأبت بغداد للمأمون
وتعالت مقيرة النيل يا فاروق
يا عمرو يا صلاح الدين
وتلاقت في الشرق والغرب
صيحات تعاني من العذاب المهين
ما لنا والسفين في لجة البحر
شراعٌ إلا دعا ذي النون
هؤلاء الطغاة قد حكموني
واستبدوا على خطا موسليني
ظلموني فأين من ينصفوني
أين من يغرقون كي ينقذوني؟ !(15/63)
مختارات من الكتب
(دراسات لأسلوب القرآن الكريم) للشيخ عبد الخالق عصيمه
" لكن " في القرآن الكريم
1 _ يجوز في الثقيلة والخفية أن يستدرك بهما بعد الإيجاب ما كان مستغنيا: نحو قولك: جاء زيد فأقول: لكن عمر لم يأت، وتكلم عمرو ولكن خالداً سكت. المقتضب 4: 108.
جاءت (لكن) في القرآن بعد الإثبات. وبعد (لو) . و (لولا) وبعد النفي.
1_ الجمهور على أن (لكن) المخففة لا تعمل عمل المشددة 1: 283، 481 وأجاز المبرد إعمالها المقتضب 1: 12، 51، ابن يعيش 8: 80، الرضي 2: 335 قرئ في السبع بتشديد (لكن) وإعمالها وبتخفيفها وإهمالها في قوله تعالى:
1 _ {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} 2:102
2 _ {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} 2:177.
3 _ {وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون} 10:44
وقرأ أبو جعفر (من العشرة) بالتشديد في قوله تعالى:
1 _ {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّات} 3: 198.
النشر 2:247.
2- {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَف} 39: 20. النشر 2:362
وقرئ في الشواذ بالتخفيف والإهمال في قوله تعالى {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} 7:63 وقرئ في الشواذ بتشديد (لكن) وإعمالها في قوله تعالى:
1 _ {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 2: 57
(أنفسهم) اسم (لكن) ولا يضمر الشأن لأنه مختص بالشعر. البحر 3: 38
2 _ {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} 3: 117
ابن خالوية:23
3 _ {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّه} 33: 40 الخبر محذوف، أي خاتم النبيين. البحر 7: 236، ابن خالوية: 120
3 _ لم تقع (لكن) العاطفة في القرآن.(15/64)
4 _ (لكن) المشددة لم تجئ في القرآن من غير الواو بل كانت مع الواو (ولكن) .
(فقه الزكاة) _ للدكتور يوسف القرضاوي
النَّصاب والزكاة
لم يفرض الإسلام زكاة في أي قدر من المال النامي، وإن كان ضئيلاً، بل اشترط أن يبلغ المال مقداراً محددًا يسمى (النصاب) في لغة الفقه، فقد جاءت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعفاء ما دون الخمس من الإبل، والأربعين من الغنم، فليس فيهما زكاة، وكذلك ما دون مائتي درهم من النقود الفضية (الورق) ، وما دون خمسة أوسق من الحبوب والثمار، والحاصلات الزراعية.
قال شيخ الإسلام الدهلوي في بيان الحكمة من هذه المقادير:
"إنما قدر من الحب والتمر خمسة أوسق، لأنها تكفي أقل أهل بيت إلى سنة. وذلك لأن أقل البيت الزوج والزوجة وثالث: خادم أو ولد بينهما، وما يضاهي ذلك من أقل البيوت. وغالب قوت الإنسان رطل أو مد من الطعام، فإذا أكل كل واحد من هؤلاء ذلك المقدار كفاهم لسنة، وبقيت بقية لنوائبهم أو إدامهم".
"وإنما قدر من الورق خمس أواق (مائتي درهم) لأنها مقدار يكفي أقل أهل بيت سنة كاملة إذا كانت الأسعار موافقة في أكثر الأقطار. واستقري عادات البلاد المعتدلة في الرخص والغلاء تجد ذلك".
"وإنما قدر من الإبل خمس ذود، وجعل زكاته شاة، وإن كان الأصل ألا تؤخذ الزكاة إلاّ من جنس المال، وأن يجعل النصاب عدداً له بال، لأن الإبل أعظم المواشي جثة، وأكثرها فائدة: يمكن أن تذبح، وتركب وتحلب، ويطلب منها النسل، ويستدفأ بأوبارها وجلودها. وكان بعضهم يقتني نجائب قليلة تكفي كفاية الصرمة. وكان البعير يسوي في ذلك الزمان بعشر شياه، وبثمان شياه، واثنتي عشر شاة، كما ورد في كثير من الأحاديث فجعل خمس ذود في حكم أدني نصاب من الغنم، وجعل فيها شاة (2) "1 _ هـ.(15/65)
واشتراط النصاب في مال الزكاة مجمع عليه بين العلماء في غير الزروع والثمار والمعادن، ويرى أبو حنيفة أن قليل ما أخرجت الأرض وكثيره العشر، وكذلك روي عن ابن عباس وعمر بن العزيز وغيرهما. أن في عشر حزم من البقل تخرجها الأرض حزمة منها صدقة واجبة.
ولكن جمهور العلماء يرون النصاب شرطاً لابد منه لوجوب الزكاة في كل مال يستوي في ذلك الخارج من الأرض وغيره من المال، وحجتهم في ذلك حديث: "ليس فيما دون خمسة أو سق صدقة"وهو ما يقتضيه القياس على الأموال الأخرى، من الأنعام والنقود وعروض التجارة.
والحكمة في اشتراط النصاب واضحة بينة، وهي أن الزكاة إنما هي ضريبة تؤخذ من الغني مواساة للفقير، ومشاركة في مصلحة الإسلام والمسلمين، فلابد أن تؤخذ من مال يحتمل المواساة، ولا معنى لأن نأخذ من الفقير ضريبة، وهو في حاجة إلى أن يعان، لا أن يعين، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: "لا صدقة إلا عن ظهر غني".
ومن هنا اتجه التشريع الضريبي الحديث إلى إعفاء ذوي الدخل المحدود من فرض الضرائب عليهم، رفقاً بهم، ومراعاة لحالهم، وعدم مقدرتهم على الدفع، هو ما سبقت به شريعة الله منذ أربعة عشر قرناً من الزمان.
(دستور الأخلاق في القرآن) _ للمرحوم الدكتور عبد الله دراز
مسئوليتنا نحو أطفالنا
بالرغم من أن سلوك الأطفال منظم في الشريعة الإسلامية، حتى في أدق تفاصيله، فإن الشرع غير متوجه إليهم، بل إلى آبائهم، وإلى الحكام، والأساتذة، والرؤساء، أي إلى الأمة بأكملها، فهي التي على كاهلها تقع مهمة تربيتهم، وتقويمهم، حتى تظفر منهم بأقصى درجات التوافق مع القاعدة.(15/66)
وإذن، فإذا كانت مسئوليتهم قد تخففت، فما ذلك إلا لترتبط مسئوليتنا تجاههم. وحسبنا هنا أن نقدم ثلاثة أمثلة لنبين أن الإنسان المسلم الصغير، يجب أن يتعوَّد _ منذ حداثته _ على ما يقرب من سلوك الرجل الناضج، في سلوكه الشخصي، وفي علاقته بالآخرين، وفي علاقته بالله سبحانه.
المثال الأول: نحن نعرف قواعد الأدب والحياء التي فرضها القرآن على كل فرد، ألا يدخل بيوت الآخرين دون أن يستأذن، ويسلم عليهم في أدب:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} ، أما فيما يتعلق بخدمنا وأطفالنا فإن القرآن يمنحهم نوعا من التساهل في بعض القيود، لا على سبيل الإعفاء منها، فهو يقيد وجوب هذه الأوامر بأوقات الراحة حين نكون غالباً مستترين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} 1، 2 سورة النور.
المثال الثاني: إن الإسلام في دعوته الأطفال لأداء شعائرهم الدينية لا ينتظر بلوغهم بل يجب علينا أن نشجعهم، متى بلغوا سن السابعة، على أن يؤدوا الصلاة دون إكراه، فإذا بلغوا العاشرة ولم يطيعوا أدبناهم عليها أدباً مترفقاً، وفي هذه السن يجب أن نفرق بينهم في فرشهم، ومن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك: "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها"، وفي رواية: "مروا أولادكم.. وفرقوا بينهم في المضاجع".(15/67)
المثال الثالث: إننا ملزمون بألا ندع أطفالنا، منذ طفولتهم الأولى، يأكلون، أو يستعملون من الأشياء ما ليس لهم. ونحن نعرف ما كان سائداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، من أن الصدقات نقدية أو عينية والتي كانت مخصصة للتوزيع على الفقراء وأشباههم، كانت تجمع أولاً في المسجد، أو في أحد البيوت المجاورة، الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وذات يوم لمح النبي، وهو عائد إلى بيته، تمرة من تمر الصدقة، أخذها حفيدة الحسن، فجعلها في فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بالفارسية "كَخ! كخ!، إرم بها، أما تعرف أنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة؟ ".(15/68)
مختارات من الصحف
التدخين وأمراض القلب
للدكتور محمد علي البار عضو الكلية الملكية للأطباء بلندن
يعتقد كثير من الناس أن تدخين السجائر يؤثر على الرئتين فحسب.. فلقد أصبح من المعلوم لدى العامة والخاصة أن السجائر تسبب سرطان الرئة.. ولكن قليلين هم الذين يعرفون تأثير السجائر على القلب والجهاز الدوري.
إن تأثير السجائر على القلب والجهاز الدوري يرجع إلى وجود مادتين سامتين في السجائر هما: النيكوتين وأول أوكسيد الكربون.
فأما المادة الأولى وهي النيكوتين فهي مادة شديدة السمية. إذ تكفي الكمية الموجودة منه في سيجار واحد لقتل إنسان في أوج صحته إذا أعطيت له هذه الكمية بالوريد.. ومع هذا فإن أي مدخن يأخذ أضعاف هذه الكمية يوميا دون أن تقتله مباشرة.. فكيف يا ترى يتمكن الجسم من مواجهة هذه المواد الشديدة. يستطيع الجسم بواسطة الإنزيمات أن يحول هذه المواد السمية إذا أخذت بالتدريج إلى مواد أقل سمية وأبطأ فاعلية.
يؤثر النيكوتين على القلب والجهاز الدوري عن طريق زيادة ضربات القلب كما تزداد الكمية التي يضخها القلب في كل ضربة. وهذا أحد أسباب وجيب القلب وخفقاته التي يعاني منها كثير من المدخنين.. والسبب في ذلك أن مادة النيكوتين تزيد من إفراز مادة الأدرينالين ومادة النوأدرينالين.. وهما المادتان المسئولتان عن زيادة ضربات القلب وانقباض الأوعية الدموية..
وهكذا يضطر القلب إلى زيادة عمله عند تدخين كل سيجارة وفي نفس الوقت تقل كمية الدم التي تغذي عضلة القلب وذلك لانقباض الشرايين التاجية التي تغذي عضلة القلب بالدم.. فالنيكوتين يسبب انقباض هذه الشرايين التاجية التي تغذي عضلة القلب بالدم.. فالنيكوتين يسبب انقباض هذه الشرايين التاجية كما يسبب أيضا انقباض الأوعية الدموية في كافة أنحاء الجسم.(15/69)
وليس هذا فحسب وإنما يساعد _ النيكوتين على تكوين الجلطات بتأثير مباشر على المواد التي تسبب تخثر الدم.. وفي نفغ ائح على أن تلتصق ببعضها مكونة جلطة تسد مجرى الدم.. وتعتمد الاعتراض على الوعاء الدموي الذي انسد بالجلطة فإذا كانت الأوعية الدموية للرجل هي التي انسدت فإن ذلك يسبب ألما شديدا في الساق ثم ينتهي بالغر غرينا وبتر الساق أو الفخذ. وأما إذا كان الانسداد في أحد الشرايين التاجية فإن ذلك يؤدي إلى جلطة القلب التي كثيرا ما تنتهي بالوفاة.
هذا باختصار تأثير مادة النيكوتين على القلب والأوعية الدموية فما هو تأثير أول أكسيد الكربون..؟
إن أول أكسيد الكربون هو غاز ينتج عن الاحتراق عندما تكون كمية الأكسجين قليلة.. واحتراق السجائر يؤدي إلى تكون غاز أول أكسيد الكربون بنسبة واحد إلى خمسة في المائة.. وخطورة هذا الغاز أنه شديد القابلية للاتحاد بالهيموجلوبين (صبغة الدم الحمراء) والتي تحمل الأكسجين.. فينتج عن ذلك أن جزءا كبيرا من الهيموجلوبين يتحد بأول أكسيد الكربون.. ويبقى جزء بسيط لحمل الأوكسجين (غاز الحياة) . في الأنسجة والخلايا.. وذلك يؤدي إلى الذبحة الصدرية وخاصة عند المصابين بتصلب الشرايين.. أو عند القيام بمجهود عضلي شديد.. أو حتى عند هيجان العواطف واشتعال الغضب.
إن تدخين عشرين سيجارة يوميا يؤدي إلى حرمان الجسم من خمسة عشر في المائة من الهيموجلوبين.. إذ تصبح هذه الكمية متحدة مع أول أوكسيد الكربون ولا يمكن الاستفادة منها في حمل الأكسجين.
ولقد اكتشف أن لهذا الغاز تأثيراً في زيادة ترسيب الكوليسترول على جدر الأوعية الدموية مما يساعد على سرعة تكون تصلب الشرايين وبالتالي الجلطات..(15/70)
هكذا يتبين لك باختصار ما تفعله السجائر بالقلب والأوعية الدموية وفي آخر تقرير للكلية الملكية للأطباء الذي نشر قبل بضعة أسابيع في لندن ذكر أن 000ر 31 رجل و8000 امرأة قد لاقوا حتفهم نتيجة جلطة القلب في عام 1974.. وجميع هؤلاء ما بين الخامسة والثلاثين والرابعة والستين ويرجع التقرير وفاة 9500 شخص من هؤلاء إلى التدخين مباشرة.. أما عدد الذين ظلوا على قيد الحياة ولكن حياة ملؤها الأسقام والأدواء فقد بلغوا مئات الآلاف.
ويبلغ عدد الذين أصيبوا بجلطات المخ عشرات الآلاف سنويا وكثير منهم يلاقي حتفه في الحال ولكن ما يبقى يكون أشد تعاسة ممن مضى إلى العالم الآخر فذلك قد أراح واستراح. أما من بقي فهو للعذاب والآلام والعناء لا يكاد يرفع يده إلا بمعونة ولا يخطو خطوة إلا بالاستناد إلى غيره. فهو في عنت ومشقة هو ومن معه..
وأهون عليه من كل العذاب أن يبادر إلى هذه الأفعى التي بين يديه فيقذفها بعيدا عنه.. ليتمتع بصحته وشبابه.. فقد أثبت الطب أن كل عشر سجائر تفقدك ساعة من عمرك كل يوم وتضيف لك عشرات الساعات والأيام والشهور والسنين من التعاسة والأمراض والأسقام. ولا بديل لك إلا أن تحزم أمرك وتعزم عزمة أكيدة على ترك هذه السجائر دون رجعة. واسأل ربك العون والتوفيق فإنه جدير بأن يهبك العون إذا لجأت إليه صادقا. والله يتولاني وإياكم.
إلى الجهاد
جدة: قال السيد أبو هشام ممثل حركة فتح في المملكة العربية السعودية في كلمة نشرتها جريدة المدينة التي تصدرها بمناسبة ذكرى تأسيس هذه المنظمة:
إننا اليوم ومع الإنسان العربي نعلنها صريحة ألا درب إلا درب الجهاد ولا طريق إلا طريق لا إله إلا الله ولا حركة إلا حركة جهاد إسلامي يتسابق فيها المؤمنون لنصر الله..(15/71)
وأضاف إننا نعلن اليوم أنه لن يوقف زحف التلمود إلى المنطقة إلا القرآن الكريم والقرآن فقط لذلك قررنا أن نتخذ القرآن منهجا ودستورا وأسلوب عمل. تماما كما كانت أحلامنا يوم أن نشأت ((فتح)) قبل أن يحرفها الذين حرفوها.. ويدخلوا عليها مبادئ لم تكن فيها بل كانت دخيلة عليها..
واختتم السيد أبو هشام كلمته:
اليوم.. لابد من أن نشهر إسلام ((فتح)) فمن سار على الدرب فهو منا لأنها هذه فتح كما فهمناها من اللحظة الأولى امتدادا لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم ونصيحة أبي بكر وعمر لجهاد خالد وصلاح الدين.. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.. ألا إن نصر الله قريب.
أخبار العالم الإسلامي
المجلة: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا)
أمة لا عهد لها
صرح وزير الأوقاف والشئون الإسلامية يوسف جاسم الحجي أن اليهود على مر التاريخ أثبتوا للعالم أجمع أنهم بلا عهود ولا مبادئ. وهم زمرة متآمرة. على القيم والأخلاق والمجتمعات. وأضاف الوزير الحجي في رده على (السياسة) حول ما إذا كان يرى حدودا معينة للتعايش مع اليهود قائلا:
إن التلمود. وبروتوكولات حكماء صهيون أكدت أن اليهود جاءوا إلى هذه الأرض والعالم للفساد.. وللحكم عن طريق المغريات والأعلام. وأضاف قائلا إن حرب الخندق التي خاضها المسلمون بإيمان واجهوا فيها تآمر اليهود مع المشركين لضرب المسلمين. واليهود كما هو معروف أصحاب مكر وخداع، ولذلك طردوا من الجزيرة العربية، ومن يقنع نفسه بالتعايش مع اليهود فهو على خطأ كبير لأنهم لا يحفظون العهد ويستخدمون كل ما من شأنه تحطيم الأخلاق. وهم مازالوا حتى الآن يتبعون كل السبل والوسائل ويمولون المشروعات الاقتصادية عن طريق الربا والاقتراض بالفوائد ليسيطروا على مقدرات هؤلاء الحكام وشعوبهم وبلدانهم ليبقوا تحت سيطرتهم، ومن هنا أقول إن التعايش مع اليهود مرفوض بشدة.
((البلاغ الكويتية))(15/72)
اسمعوا يا مسلمون
قال رئيس وفد اليهود في مؤتمر القاهرة بالحرف الواحد: (منذ 30 عاما بعد أن حررنا بلدنا من المستعمر الأجنبي في صراع بطولي، أعلنا استقلالنا الوطني.. في أرض أسلافنا.. وكل ما هو عزيز علينا.. وغال، ومقدس في حياتنا القومية) ..
مجلة الدعوة القاهرية
ما يسمع المقلدون
أجرت مجلة (ماري كير) الفرنسية استفتاء تحت عنوان (وداعاً عصر الحرية والمساواة، وأهلاً بعصر الحريم) .. استفتت فيه الفتيات الفرنسيات من جميع الأعمار والمستويات الاجتماعية والثقافية شمل مليونين ونصف المليون عن رأيهن في (الزواج من العرب ولزوم البيت) .. فكانت إجابة تسعين بالمائة منهن بالموافقة على ذلك، وقد عللن ذلك بالأسباب التالية:
1 _ مللت المساواة مع الرجل.
2 _ مللت حالة التوتر الدائم ليل نهار.
3 _ مللت الاستيقاظ عند الفجر للجري وراء المترو (قطار تحت الأرض) .
4 _ مللت الحياة الزوجية التي لا يرى فيها الزوج زوجته إلا عند النوم.
5 _ مللت الحياة العائلية التي لا ترى الأم فيها أطفالها إلا حول المائدة.
((مجلة الاعتصام _ القاهرة))
التعصب الهندوكي يتحرك ضد المسلمين
بعد انتقال الحكم من المؤتمر الوطني إلى حزب ((جنتا)) كان يبدو أن جماعة المتطرفين ستعدل أفكارها الضيقة وخططها العصبية المعادية للمسلمين وخاصة بعد أن نشأت علاقات بينها وبين الجماعة الإسلامية التي حملت الجماعة الإسلامية على تبرئة هذه العصابة ولكن دهش المتتبعون للحركة وتطوراتها بتصريح أحد زعمائها في مجلس مشترك بين المسلمين وغيرهم أزال الستار عن الحقيقة وننقل هنا من كلامه الذي نشرته الصحف.(15/73)
"إن هذه حقيقة تاريخية أن المسلمين توغلوا في هذه البلاد كغزاة معتدين ولم يعتنق الناس دينهم إلا خوفاً من سيوفهم. حطموا معابدهم وحولوها إلى مساجد وتزوجوا من نسائهم قهراً، ولا يزال يستمر هذا العمل القاسي، فالخونة هم المسلمون. هم المسلمون والهنادك أبرياء من كل هذا وباكستان هو العدو الأول لبلادنا لن نسمح لهم الآن أن يهتفوا بأن أحوالهم الشخصية خاصة منفصلة وأن لسانهم غير لساننا وهذا وذاك، ولو يريدون أن يسكنوا في هذه البلاد فعليهم أن يعتنقوا ديننا وحضارتنا وثقافتنا وإلا فلا، أما هذه الحفلات المشتركة، والاهتمام فيها بالأكل والشرب فلا تغني المسلمين شيئاً. وقد احتجت الصحف الإسلامية على هذا التعدي السافر على حضارة المسلمين وتزوير التاريخ الإسلامي المجيد فإن جميع آثار المدنية والحضارة الموجودة في الهند ترجع إلى ذلك البعد الظاهر".
((الرائد الهندية))(15/74)
الفتاوى
حُكم الإحداد على الملوك والرؤساء
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه أما بعد:
فقد جرت عادة الكثير من الدول الإسلامية في هذا العصر بالأمر بالإحداد على من يموت من الملوك والزعماء لمدة ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر مع تعطيل الدوائر الحكومية وتنكيس الإعلام ولا شك أن هذا العمل مخالف للشريعة المحمدية وفيه تشبه بأعداء الإسلام وقد جاءت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عن الإحداد وتحذر منه إلا في حق الزوجة فإنها تحد على زوجها أربعة أشهر وعشرا كما جاءت الرخصة عنه صلى الله عليه وسلم للمرأة خاصة أن تحد على قريبها ثلاثة أيام فأقل أما ما سوى ذلك من الإحداد فهو ممنوع شرعا وليس في الشريعة الكاملة ما يجيزه على ملك أو زعيم أو غيرهما وقد مات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم وبناته الثلاث وأعيان آخرون فلم يحد عليهم عليه الصلاة والسلام وقتل في زمانه أمراء جيش مؤتة زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم فلم يحد عليهم ثم توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق وأفضل الأنبياء وسيد ولد آدم والمصيبة بموته أعظم المصائب ولم يحد عليه الصحابة رضي الله عنهم ثم مات أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو أفضل الصحابة وأشرف الخلق بعد الأنبياء فلم يحدوا عليه ثم قتل عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وهم أفضل الخلق بعد الأنبياء وبعد أبي بكر الصديق فلم يحدوا عليهم وهكذا مات الصحابة جميعا فلم يحد عليهم التابعون وهكذا مات أئمة الإسلام وأئمة الهدى من علماء التابعين ومن بعدهم كسعيد بن المسيَّب وعلي ابن الحسين زين العابدين وابنه محمد بن علي وعمر بن عبد العزيز والزهري والإمام أبي حنيفة وصاحبيه والإمام مالك بن أنس والأوزاعي والثوري والإمام(15/75)
الشافعي والإمام أحمد ابن حنبل وإسحاق بن راهوية وغيرهم من أئمة العلم والهدى فلم يحد عليهم المسلمون ولو كان خيرا لكان السلف الصالح إليه أسبق والخير كله في إتباعهم والشر كله في مخالفتهم وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أسلفنا ذكرها على أن ما فعله سلفنا الصالح من ترك الإحداد على غير الأزواج هو الحق والصواب وأن ما يفعله الناس اليوم من الإحداد على الملوك والزعماء أمر مخالف للشريعة المطهرة مع ما يترتب عليه من الأضرار الكثيرة وتعطيل المصالح والتشبه بأعداء الإسلام وبذلك يعلم أن الواجب على قادة المسلمين وأعيانهم ترك هذا الإحداد والسير على نهج سلفنا الصالح من الصحابة ومن سلك سبيلهم، والواجب على أهل العلم تنبيه الناس على ذلك وإعلامهم به أداء لواجب النصيحة وتعاونا على البر والتقوى ولما أوجب الله سبحانه من النصيحة لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولائمة المسلمين وعامتهم رأيت تحرير هذه الكلمة الموجزة.
وأسأل الله عز وجل أن يوفق قادة المسلمين وعامتهم لكل ما فيه رضاه والتمسك بشريعته والحذر مما خالفها وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا إنه سميع الدعاء قريب الإجابة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه..
حكم الاحتفال بالمولد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد..(15/76)
فقد تكرر السؤال من كثير عن حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم والقيام له في أثناء ذلك، وإلقاء السلام عليه، وغير ذلك مما يفعل في الموالد.. والجواب أن يقال: لا يجوز الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا غيره، لأن ذلك من البدع المحدثة في الدين، لأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا خلفاؤه الراشدون ولا غيرهم من الصحابة رضوان الله على الجميع ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة وهم أعلم الناس بالسنة وأكمل حبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومتابعة لشرعه ممن بعدهم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"أي مردود عليه، وقال في حديث آخر: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة"ففي هذين الحديثين تحذير شديد من إحداث البدع والعمل بها، وقد قال الله سبحانه في كتابه المبين {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُو} وقال عز وجل {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وقال سبحانه {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} وقال تعالى {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وقال تعالى {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} والآيات في هذا المعنى كثيرة،(15/77)
وإحداث مثل هذه الموالد يفهم منه أن الله سبحانه لم يكمل الدين لهذه الأمة وأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به حتى جاء هؤلاء المتأخرون فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به الله زاعمين أن ذلك مما يقربهم إلى الله، وهذا بلا شك فيه خطر عظيم واعتراض على الله سبحانه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه قد أكمل لعباده الدين وأتم عليهم النعمة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين ولم يترك طريقا يوصل إلى الجنة ويباعد من النار إلا بينه للأمة كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم" (رواه مسلم في صحيحه) ومعلوم أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء وخاتمهم وأكملهم بلاغا ونصحا، فلو كان الاحتفال بالموالد من الدين الذي يرضاه الله سبحانه لَبيَّنهُ الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة أو فعله في حياته أو فعله أصحابه رضي الله عنهم، فلما لم يقع شيء من ذلك علم أنه ليس من الإسلام في شيء بل هو من المحدثات التي حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منها أمته كما تقدم ذكر ذلك في الحديثين السابقين، وقد جاء في معناهما أحاديث أخر مثل قوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة: "أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة" (رواه الإمام مسلم في صحيحه) والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وقد صرح جماعة من العلماء بإنكار الاحتفال بالموالد والتحذير منه عملا بالأدلة المذكورة وغيرها، وخالف بعض المتأخرين فأجازه إذا لم يشتمل على شيء من المنكرات كالغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاختلاط النساء بالرجال واستعمال آلات الملاهي وغير ذلك مما ينكره الشرع المطهر، وظنوا(15/78)
أنه من البدع الحسنة، والقاعدة الشرعية رد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال عز وجل {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} وقد رددنا هذه المسألة وهي الاحتفال بالموالد إلى كتاب الله سبحانه فوجدناه يأمرنا بإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ويحذرنا عما نهى عنه ويخبرنا بأن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها، وليس هذا الاحتفال مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون ليس من الدين الذي أكمله الله لنا وأمرنا بإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيه. وقد رددنا ذلك أيضا إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فلم نجد فيها أنه فعله ولا أمر به ولا فعله أصحابه رضي الله عنهم، فعلمنا بذلك أنه ليس من الدين بل هو من البدع المحدثة، فاتضح بذلك لكل من له أدني بصيرة ورغبة في الحق وإنصاف في طلبه أن الاحتفال بالموالد ليس من دين الإسلام بل هو من البدع المحدثات التي أمر الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم بتركها والحذر منها، ولا ينبغي للعاقل أن يغتر بكثرة من يفعله من الناس في سائر الأقطار فإن الحق لا يعرف بكثرة الفاعلين وإنما يعرف بالأدلة الشرعية كما قال تعالى عن اليهود والنصارى {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وقال تعالى {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآية، ثم إن غالب هذه الاحتفالات بالموالد مع(15/79)
كونها بدعة لا تخلو من اشتمالها على منكرات أخرى كاختلاط النساء بالرجال واستعمال الأغاني والمعازف وشرب المسكرات والمخدرات وغير ذلك من الشرور وقد يقع فيها ما هو أعظم من ذلك وهو الشرك الأكبر وذلك بالغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأولياء ودعائه والاستغاثة به وطلبه المدد واعتقاد أنه يعلم الغيب ونحو ذلك من الأمور الكفرية التي يتعاطاها الكثير من الناس حين احتفالهم بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ممن يسمونهم بالأولياء، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" وقال عليه الصلاة والسلام: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله"أخرجه البخاري في صحيحه من حديث عمر رضي الله عنه، ومن العجائب والغرائب أن الكثير من الناس ينشط ويجتهد في حضور هذه الاحتفالات المبتدعة ويدافع عنها ويتخلف عما أوجب عليه من حضور الجمع والجماعات ولا يرفع بذلك رأسا ولا يرى أنه أتي منكرا عظيما، ولا شك أن ذلك من ضعف الإيمان وقلة البصيرة وكثرة ما ران على القلوب من صنوف الذنوب والمعاصي، نسأل الله العافية لنا ولكم ولسائر المسلمين، ومن ذلك أن بعضهم يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر المولد ولهذا يقومون له محيين ومرحبين وهذا من أعظم الباطل وأقبح الجهل، فإن رسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة ولا يتصل بأحد من الناس ولا يحضر اجتماعاتهم، بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة كما قال الله تعالى في سورة المؤمنون: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة وأنا أول شافع وأول مشفع"، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام، فهذه(15/80)
الآية الكريمة والحديث الشريف وما جاء في معناهما من الآيات والأحاديث كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأموات إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة، وهذا أمر مجمع عليه بين علماء المسلمين ليس فيه نزاع بينهم، فينبغي لكل مسلم التنبه لهذه الأمور والحذر مما أحدثه الجهال وأشباههم من البدع والخرافات التي ما أنزل الله بها سلطان والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به.
أما الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي من أفضل القربات ومن الأعمال الصالحات كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا"وهي مشروعة في جميع الأوقات ومتأكدة في آخر كل صلاة، بل واجبة عند جمع من أهل العلم في التشهد الأخير من كل صلاة وسنة مؤكدة في مواضع كثيرة، منها ما بعد الأذان، وعند ذكره عليه الصلاة والسلام، وفي يوم الجمعة وليلتها كما دلت على ذلك أحاديث كثيرة، والله المسئول أن يوفقنا وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه وأن يمن على الجميع بلزوم السنة والحذر من البدعة إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ...(15/81)
تعقيب لا تثريب
أتفسير هذا أم تغرير؟!
لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداًً. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} .
في هذه الكلمات الإلهية تخطيط شامل لكل مقومات الحياة السعيدة، يحدد بها بارئ الكون سبحانه لأحبائه الطريق الأقْوم الذي يوصلهم إلى الفوز الأعظم في الدنيا والآخرة.
إنها التقوى، وهي الصورة المثلى لصلاح الباطن، ثم القول السديد، الذي هو حصيلة الصدق، الذي يتلاقى عليه القلب السليم والعقل الحكيم.. فلا جرم أن يكون التزامهما في كل موقف، وفي كل أمر، مؤديا لصلاح العمل، وموجبا لمغفرة الذنوب لأنه مظهر الطاعة الصميمة لله ورسوله.. وأي فوز من شأنه أن يداني هذا الفوز العظيم؟.
ولكن ذلك من العزائم التي لا تتيسر إلا لمن أعانه الله فزينه في قلبه، فهو يحاسب نفسه على النسبة والهمسة خشية أن تشذ عن التقوى، وتفارق منهج القول السديد.
وأنه لمن الآفات المفسدة للعمل أن يستنيم الباحث إلى الكسل، أو يستسلم إلى الهوى فيرسل القول على عواهنه دون تحقيق ولا تدقيق، فيسئ إلى نفسه بحرمانها أجر المجتهد المسدد، ويسئ إلى قارئه بإلقائه في عماية لا يتبين فيها السبيل إلى الحق.
هذه المعاني كثيراً ما تراودني وأنا أستمع إلى مفكر يريد أن يدعو الناس إلى الخير ولكن العجلة تصرفه عن التمحيص، فهو يخلط خبراً صحيحاً في أثر مضطرب. وأكثر من ذلك ما أقع عليه خلال البحوث أو المؤلفات من هنات ما كان لها أن تتسلل إليها فتشوهها لو أخذ أصحابها أنفسهم بالصبر، فسألوا أهل الذكر، أو استفسروا المرجع الموثوق لتجنب هاتيك الفتوق.(15/82)
هذه الأسطر أقدم بها لأكثر من تعقيب، وكان من حقها أن تسبق الحلقة الماضية كما تتقدم حلقة اليوم، والحلقة التي تليها، لأن الإطار الذي يضمهن جميعا واحد، يعرض لضروب متشابهة من التهاون بحق التدقيق.
حسنات وهفوات:
في الخامس والعشرين من جمادى الأولى لعام ثلاثة وثمانين، وعقيب فراغي من مطالعة كتاب (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) من عمل الدكتور محمد البهي، أثبت في آخر صفحة منه تعقيباً مفصلاً ختمته بهذه الكلمة (إن لي هذا الكتاب لعلما غزيرا، وتحقيقا خطيرا، ومادة غنية بالخير، من شأنها أن تساعد على إنشاء الجيل الذي يعي مشكلات أمته ودينه وعالمه، بشرط أن يصل إلى السواد الأعظم من القراء المسلمين في كل مكان..)
فالدكتور البهي أذن من الكتاب الذين أعجب بهم فأنا أتتبع ما يكتبون، وأحث طلابي وإخواني على مطالعة نتاجهم، سواء في الكتب أو المجلات، ومن هنا كان أسفى لما أجده في بعض آثاره المكتوبة أو المسموعة من مفارقات لا تتفق مع ما عهدته من أناته وعمقه ووفرة سداده في مثل كتابه الآنف ذكره..
لقد فوجئت ببعض هفواته الغريبة ذات يوم، وأنا أستمع إلى حديث له حول قصة نبي الله لوط في القرآن الكريم، فسجلتها في مفكرتي على نية أن أكتب إليه بشأنها مستفسراً، ولكن حالت المشاغل دون ذلك، ثم عثرت له على مثلها في محاولته تفسير بعض الآي من كتاب الله في مجلة الوعي الإسلامي، فاستيقظ في نفسي ما كدت أنساه من هفواته الأولى، على أن أعباء العمل عادت فحالت دون ذلك، حتى وقفت اليوم من آثاره على كتيبّه المسمى (تفسير سورة الجن) فلم أجد بدا من التفرغ لتسطير هذا التعقيب خدمة لكتاب الله، وغيرة على قلم الدكتور العزيز أن يندفع أكثر في هذا التيار المعرض للأخطار.
أفكار غريبة:(15/83)
ولنقف تعقيبنا اليوم على تفسيره (الجني) فهو يقع في ما دون الخمسين من الصفحات مقسما إلى مقدمة وتمهيد ثم التفسير، ففي المقدمة يعرض منهجه في ما سيليها من البحث ويكاد يلخص في صفحاتها الأربع أفكاره القائمة على إنكار ما أجمع عليه الثقاة من مفسري الكتاب الكريم في موضوع الجن، وما ورد من إخبارهم في سورتي الأحقاف والجن، ليؤكد ما يعتقده من أن الإسلام، وهو دين الإنسان وحده على الأرض، لا علاقة به للجن البتة، ويختم مقدمته بجملة مشكورة على أولئك المضللين من (رسميين) و (رجال دين) الذين أخذوا على عاتقهم تنفيذ مخططات أعداء الإسلام بإخضاع المفهومات الدينية لموحياتهم الشيطانية.
ومن ثم ينتقل إلى القسم الثاني حيث ينطلق في تفصيل ما أجملته المقدمة. فيقف صفحاته العشرين على محاولة إقناع القارئ بـ (اكتشافاته) التي يحسبها تحريرا للعقل المسلم من دوامة الخرافة المفسدة للتصور الصحيح. ومن ثم يخلص إلى تفسير السورة الكريمة فلا يخرج عن مضمون المقدمة والتمهيد.
ويمكن تلخيص أفكاره بالخطوط التالية:
1- أن إبليس واحد من أفراد الملائكة في الجنس، فهو مثلهم لا نسل له، ومن ثم لا تكليف عليه، وإنما كان تكليفه يوم صدر الأمر الأعلى بالسجود لآدم، فجاء تمرده عليه إعلاناً لسقوطه في الامتحان.
2- أن الملائكة مخلوقون من النار، وما ثبت في القرآن عن خلق إبليس من النار شامل لهم بوحدة الجنس.(15/84)
3- أن تقريره ملائكية إبليس وما يستتبعها من استحالة تناسله قد حداه إلى القطع بأن الجن الوارد ذكرهم في السورتين لا يخرجون عن كونهم بشرا من أبناء آدم، ويركز على معنى الخفاء الذي يميز اسمهم، فيعتبر كل ساع بالخفاء في أمر ما جاناً، بل إنه ليرجح (أن هذا الفريق الذي تخفى _ عند سماعه القرآن بمكة دون علم رسول الله بهم _ هو من يثرب ومن المتأثرين بأفكار يهود بحكم مجاورتهم إياهم. ومن ثم يأتي إصراره على حصر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بالبشر وحدهم.
4_ من هذا التوسع في التأويل الشخصي يمضي إلى تفسير اعترافات الجن في قولهم {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً} بالإتكاء على الكناية التي يراد بها لازم اللفظ دون حقيقته، فلا حرس ولا شهب، وإنما هو (الفصل النهائي بين الخرافة وممارستها من جانب، والحق والواقع من جانب آخر) !
تشويش محير:(15/85)
وقبل البد بمناقشة هذه الأفكار أحب أن أذكر القارئ بأن في بعض تعابير المؤلف عند الكلام عن شخصية الجن، تشويشا يبعث على الحيرة، إذ يخيل لمطالعه بادئ الأمر أنه مقر بوجود ذلك العالم الخاص المستقل عن عالمي الملائكة والبشر، وذلك كقوله ص8 من التمهيد (والجن موجود قطعا، وهم قوى مخلوقة من نار صافية.. وعالم الجن قائم إلى يوم البعث، لا مرية في ذلك.) إلا أنه لا يلبث أن يعقب هذا الإقرار بقوله في الصفحة نفسها: (فإبليس ملك عصى ربه، وإبليس جان من عالم المرئيات. والملائكة من الجن كما هم من النار الصافية.. ويدخل في عالم الجن من يتخفى من عالم الإنسان في إيمانه وكفره وفي خيره وشره.. كشياطين الجن فإنهم من الإنسان..) ويستمد العون على ذلك من قوله تعالى -في وصف الشيطان وقومه {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} ويعلل ذلك بقوله (لأن إبليس بحكم طبيعته من عالم الجن. وأعوانه بحكم تخفيهم في الشر الحقوا بهذا العالم وأصبحوا شياطين الجن..) .
وفي ظني أن مرد هذا التشويش إلى غموض الفكرة في نفس المؤلف. فهو لا يستطيع تخليصها من الاضطراب الذي نبع عن شعوره هو باهتزازها. على أن المبدأ الذي يريد القطع به على الرغم من كل شيء هو نفي المفهوم المتواتر عن استقلالية الجن، ولهذا يلح على كون (شياطين الجن هم من الإنسان) ، وأن إضافتهم إلى الجن لا تخرج عن كونهم ملحقين بهم بعامل التسلط أو الملك، كما تقول: هؤلاء حزب فلان وجماعته، ولا يعني أبدا أنهم من جنسه وهويته.. على حين يظل متشبثا بما ذهب إليه من أن الوحدة الجنسية إنما تشمل إبليس والملائكة بحكم وحدة العنصر الناري، الذي خلقوا منه جميعا، وعلى هذا فلن يكون هناك سوى عالمين أحدهما من النار وهو فريق الملائكة وفيهم إبليس، والآخر من التراب وهو فريق الآدميين.
إبليس والملائكة:(15/86)
وننتقل الآن إلى مناقشة المؤلف في أساس أحكامه. وطبيعي أن تكون مناقشته على ضوء الوحي الذي يلزم المؤمن بالخضوع له. وإخضاع رأيه لِحكمه ولو صدم ذلك هواه وخيَّب مناه.
إن منطلق الدكتور في أفكاره عن استقلالية عالم الجن عائد إلى تقديره لمبدأ الخلق، ونوعية العنصر الذي استُحدِث منه عالم المَلَك والجن.
لقد وقف المؤلف عند قوله تعالى من سورة الكهف: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ ... } فلم يستطع أن يتجاوز بالاستثناء حدود الاتصال بين فريقي الملائكة وإبليس. كما هو الحال في مثل قول أحدنا: جاء الأصدقاء إلا سعيداً، على اعتبار أن سعيدا واحد من جنس الأصدقاء. ونسي المدلول الآخر للاستثناء حين يكون منقطعا في مثل قول القائل جاء القوم إلا أمتعتهم.. وبخاصة عند وجود القرينة المانعة من وحدة الجنس كما هو الشأن في الآية الكريمة، إذ جاءت القرينة لفظية صريحة في قوله سبحانه {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} وهي ضرب من الإطناب الذي يفسره البلاغيون بقصد الاحتراس، لئلا يلتبس المستثنى منه بالمستثنى.. ثم تأتي القرينة الأخرى التي لا تدع مجالا لإدخال إبليس في زمرة الملائكة، وذلك في التوبيخ المخجل الذي يوجهه الحق تبارك اسمه إلى المغفلين من أبناء آدم الذين رضوا لأنفسهم بمشايعة إبليس على الرغم من رفضه المشاركة في تكريم أبيهم الأول، وإعلانه الحرب على نسله إلى يوم الدين {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ؟!} ففي نسبة الذرية لإبليس مقنع كاف لاعتباره جنسا آخر لا يمت إلى عالم الملائكة بأي صلة.. إذ لا خلاف على أن التناسل موقوف على غيرهم من عوالم الأحياء الأخرى. ولكن المؤلف هداه الله بدلا من الأخذ بالمدلول العفوي للقرينتين، عمد إلى تكلف التأويل، فراح يبذل المستحيل لإقناع قرائه بأن المراد بذرية إبليس هم أعوانه من أبناء آدم. ناسيا أن إضافة(15/87)
الذرية إلى مخلوق ما لم ترد في الكتاب الحكيم ولا في كلام العرب على ما نعلم إلا على وجه الحقيقة. وإنما يقع المجاز في ما عداها من الألفاظ، كالابن والأخ والأب وما إليها، وبذلك وبدافع من إصراره على أساس نظريته في ملائكية إبليس يتخذ من لفظ الذرية دعامة لرأيه، فيعتبرها من البراهين القواطع على صحة ما ذهب إليه من بشرية الجن؛ لأنّ إبليس ملاك، والملاك لا ينسل، فلم يبق من مفهوم لتلك الذرية إذن سوى القرار الذي اتخذه في شأنها. وهو أنهم جنوده العاملون في الخفاء من نسل عدوه الذي كرمه الله عليه!.
متاهات إسرائيلية:(15/88)
والقارئ الذي يفاجأ بمثل هذه التأويلات المتعسفة لا بد سائل نفسه عما إذا كان ثمة من سابقة لها في عالم التفسير. أم أنها من مكتشفات المؤلف التي لم يسبق إليها؟.. فإذا ما راح يستقصى الخبر عثر على تلك الروايات المنسوبة إلى ابن عباس (رضي الله عنه) وخلاصتها: أن إبليس من قبيلة من الملائكة اسمها الجن. عصى الله فمسخه الله شيطانا. وفي رواية أخرى عنه أنه كان من الجنانين. وكأنه في هذه الرواية ينفى عنه هوية الملائكة يجعله من العاملين في خدمة الجنة. ولئن خدع بظاهر هذه الروايات من أراح نفسه من تحقيقها فمضى يشيد عليها قصور الوهم. أن هناك من تنبه لما فيها من الدخن فلم تفته ملاحظة لونها الإسرائيلي، وهو ما عقب به عليها الحافظ بن كثير حين أردفها بقوله "وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها.. ومنها ما قد يقطع بكذبة لمخالفته الحق الذي بأيدينا. وفي القرآن غنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة؛ لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان، ولم يتيسر لها من ينفي عنها تحريف الغالين. وانتحال المبطلين كما قيض لهذه الأمة" [1] وهكذا يردنا هذا الحافظ المحقق إلى منطق القرآن الذي لا يأتيه الباطل، بدلا من الضرب في متاهات المخرفين المحرفين الذين لا يؤمنون على علم ولا دين، والذين فتحنا لهم عقولنا حتى استعمروها بكاذب الأخبار كما استعمروا مقدساتنا بالحديد والنار.
ولا جرم أن مجرد الوقوف عند حدود الوحي من قرآن وسنة صحيحة عاصم من كل تشويش واضطراب وقائد إلى الحق الذي لا مرية فيه ولا مراء.. وهو في موضوع إبليس وذريته بارز الخطوط لا معدي عنه لناشد الحقيقة فإبليس -كما قال الحسن البصري- "ما كان من الملائكة طرفة عين قط"وأنه لأَصل الجن كما أن آدم عليه السلام أصل البشر" [2] وليست ذريته سوى الشياطين -كما يقول مجاهد-[3] .
بحث لغوي:(15/89)
ولعل من الخير التذكير بما بين لفظي (الجن) و (الشيطان) من فروق لغوية دقيقة؛ ذلك أن الأول يدل على الجنس المخلوق من النار، في مقابل البشر المخلوقين من التراب، كما ورد في سورة الرحمن {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} وفي سورة الناس عند ذكر {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} فهناك مُوَسْوِسون نزاعون للفساد أمارون به بعضهم من الجنة، وبعضهم من الناس فلا وحدة بينهما، ولا صلة خارج نطاق التعاون على الشر، على حين تتسع كلمة (الشيطان) حتى تشمل كل شرير من الجنسين وغيرهما. ومن ذلك قوله تعالى في سورة الأنعام {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} . وفي الحديث "الكلب الأسود شيطان" [4] بمعنى أنه مؤذ شرير، ووصف الإبل بأنها (من الشياطين) [5] لكبر خطرها عند الهياج..
ويقول جرير في وصف طفولته:
وكنَّ يدعونني الشيطان في صغري
وكن يهوينني إذ كنت شيطانا
ولا يزال الناس يسمون الصغير الكثير النشاط والمزعج شيطانا.
وعند التأمل في مورد التعبير القرآني {شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِن} . نلاحظ هذه الخاصة اللغوية في دلالة (الشيطنة) على طبيعة الإفساد. كما نلاحظ اشتراك الوصف بين جنسين مختلفين من حيث الهوية عن طريق العطف المتغاير، الذي يقطع باستقلال كل من الجنسين في عنصره وهويته.. وقد أحسن المؤلف عندما جعل من شياطين الإنس (الكبراء أو الزعماء الذين يصدون عن سبيل الله علنا وفي غير خجل..) وألحق بهم رجال الدين الذين يحترفون بدينهم خدمة للشيطان) .. وحين جعل من ذرائعهم لهذه الخدمة (وسائل الإعلام المختلفة، وضروب القوة المتنوعة في الإرهاب والتخويف) [6] .
أحكام عَجْلى:(15/90)
إلا أنه لا يرضى إلا أن يعمم حكمه فيشمل شياطين الجن، إذ يكرر ويلح على كونهم (من البشر تخفوا ويتخفون في مباشرة الشر للناس) فكلا الفريقين عنده من ذرية آدم إلا أن أحدهما ينشر فساده علانية وبالقوة ويعمد الثاني إلى الدهاليز المظلمة، يدس من خلالها سمومه المظلة. وانسياقا مع هذا الاتجاه يضطر إلى تأويل ما أورده الله على لسان الجن في قوله عز من قائل {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} بأنه -كما أسلفنا- كناية عن إنهاء عهد الخرافة بعد نزول القرآن (إذ بعد نزوله لا يمكن أن يكون للخرافة وضع في البشرية، كما لا يمكن أن تكون هناك طبقة كطبقة الكهان تحترف بالعقيدة وتملي على الناس بدعوى علم الغيب) [7] .(15/91)
وعلى رأيه هذا فلا مقاعد للسمع، ولا تَسمَع لأنباء السماء، بل هي الكناية التي تتسع لكل تأويل، ما دام الموضوع متعلقا بهذا المخلوق الذي سُمِيّ بالجن من ذرية آدم، فراح يزعم للمخدوعين به أنه ينقل إليهم أخبار السماء كذبا وزورا.. وأذن فلا سبيل أيضا لقبول فكرة (القرين) الموسوس في الصدور، لأنها تجعل الناس يعيشون في ظلام الأوهام وترقّب ما لا يقع في الحياة أبدا [8] وفي ظني أن قليلا من التأمل في واقع الحياة البشرية كان كافيا لإقناع الدكتور بالإقلاع عن هذه الأحكام العجلى، فليس ثمة مكان من هذه الأرض خاليا من أولئك الدجاجلة الذين يبشرنا بانتهاء عهدهم. والقرآن العظيم في عرضه لأخبار ذلك النفر من الجن، وحوارهم حول التغيرات الفلكية التي واجهتهم بعد البعثة النبوية، لا يتنبأ بزوال تلك المحاولات الشيطانية، بل يعلمنا فقط بأنه تعالى قد حجز الشياطين عن استراق السمع، الذي يمكنهم من تلقف بعض الآي من القرآن لئلا ينقلوها إلى وسطائهم فيختلط الأمر على الخلق حتى لا يفرقوا بين أخبار الكهنة وبلاغات النبوة [9] وأي دلالة على هذه الحقيقة أوضح من الذي يتحدث عن محاولات هؤلاء الشياطين حتى يقول: "فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقذفون فيه ويزيدون [10] وذلك هو الإفك الذي يشير إليه قوله تعالى في سورة الشعراء: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ. تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} وكذلك وصفه عزَّ شأنه لآكل الربا {كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} 2/275 هذا الوصف الذي حاول بعض المُحدثين صرفَه عن حقيقته، فأبي الله إلا أن يؤكده بما يلمسه الناس اليوم في (مناجاة الأرواح) وبما شهد ويشهده المتتبعون من تلبس الشياطين بعض الناس، حتى ليسمعون أصوات الجانّ من خلال أفواه ضحاياهم. ثم لا ينزعون عن هؤلاء المساكين إلا تحت ضغط(15/92)
العزائم المشروعة، التي كثيرا ما تنتهي بإحراق الشيطان وتصاعد دخانه رأي العين [11] .
أما موضوع القرين فإن إنكاره إنكار لصريح القرآن الذي يقول: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} 43/36 ولصحيح الحديث الذي فصَّلَ مجملَ الآية بقوله صلوات الله وسلامه عليه: "ما منكم من أحدٍ إلا وقد وُكل به قرينُه من الجن قالوا: وإياك يا رسول الله؟.. قال وإياي إلا أن الله قد أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير" [12] .
ثم أي ذي حافظة سليمة يتذكر تجاربه الخاصة مع قرينه الخبيث وهو يوسوس إليه بزخرف القول تزييناً لمقبحةٍ أو إغراء بمفسدة، ثم لا يردد في خشوع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم" [13]
الإيمان بالغيب:
ويتساءل الدكتور أصلحنا الله وإياه: عن الفائدة من إيمان الجن برسول الله صلى الله عليه وسلم ما دام ذلك لا يشكل حجة على مشركي مكة.. وبالتالي لا يتصل بموضوع الإعجاز القرآني [14] وبقليل من التفكير أيضا يتبين المتأمل في سياق الآي النازلة في هذا الأمر أنها ليست في معرض الحجاج ولا الإعجاز، وإنما هي تعزية لقلب رسول صلى الله عليه وسلم الذي يؤلمه إعراض قومه عن هدايته، فيأتي الوحي ليسري عنه بنبأ تصديق الجن به. هذا إلى أن في هذا الإيمان فائدة كبيرة لنا، إذ أن انضمام أي مخلوق إلى صف المؤمنين إنما هو قوة لهم، وإضعاف لأعدائهم، ثم يبقى ما في قبول الخير الإلهي عن ذلك من تحقيق لصفة التصديق بأنباء الوحي عن الغيب، الذي هو أحد معالم الفارقة بين الكفر والإيمان..(15/93)
ويحق لنا أن نقابل تساؤله بمثله فنقول: أي فائدة للمسلمين وغيرهم في رفضك ما أجمع عليه أهل العلم بالقرآن، منذ الصدر الأول إلى يوم الناس هذا، عن إيمان بوجود عالم الجن مستقلا بعنصره وخَلقه ومميزاته؟ وهل بلغتَ من العلم حد الإحاطة بكل مغيَّب حتى يسوغ لك إنكار ما لم تره.. ودعوة القراء إلى مشاركتك في هذا الإنكار؟ لقد تلقت أمة محمد صلى الله عليه وسلم خبر الجن بالتصديق المطلق، إيمانا بشهادة الله الذي يقول أنه خلق الإنسان من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار، وإيماناً بشهادة رسوله الذي يقول: "خلقت الملائكة من نور، وخلق آدم مما وصف لكم" [15] أفتريدنا على أن ندع هذه الوثائق الإلهية لنأخذ بدعوى لا يسندها إلا الظن وما تهوى الأنفس!.
بين الوهم واليقين:
وإذا نحن مضينا معك في متاهات التأويل على هذا النحو فما الذي يعصمنا من ألاعيب الباطنية، التي تخلق لكل حقيقة قرآنية تفسيراً يدعم أخيلتها، ومن أضاليل الطرقيين الذين يفصلون بين الحقيقة والشريعة، ومن مخارق القاديانية والبهائية اللتين تسفهان فهم السلف لكل حقائق الوحي،. بل ما الذي يحول حينئذ بيننا وبين التسليم لأضاليل المهداوي الذي زعم في محكمته التاريخية أن الشيطان ليس شيئاً سوى نزغات النفس الناشئة في ظل الإقطاع؟. أو لمهازل ذلك الحاكم الذي ساقه الغرور أخيرا إلى رفض الخبر الإلهي عن نومة أهل الكهف، وراح يزعم أن رسول الله يدعو الناس إلى عبادته لأنه يبلغهم أمر الله بالصلاة عليه! وقد فات هذا المسكين أنه بدعواه هذه يكشف عن جهله بلغة العرب، وبالتالي يفضح عجزه العقلي والبصري عن التطلع إلى أنوار القرآن.(15/94)
أجل.. أيها الدكتور الفاضل.. إننا لن نؤثر (أوهامك) على ما جاءنا من العلم، وسنظل على أتم اليقين بأن عدونا الأكبر هو ذلك الذي حسد أبانا الأول على تكريم ربه إياه، ثم أعلن تصميمه على ملاحقته ونسله بالمضللات إلى آخر الحياة. وفي ذلك خير لنا كبير لأنه يجعلنا على وعي دائم لما يريده بنا وذريته من الشر والضر، فلا نفتأ نصارعهم حتى نردهم بقوة الله خاسئين مدحورين.
أما بدعتك الأخرى في إنكار شمول الرسالة الخاتمة للثقلين جميعا، انسهم وجِنّهم، فلا حاجة لإعادة القول فيها كرة ثانية، بعد الذي كتبناه حولها في تعقيب سابق على كتاب الأستاذ سعد جمعة (الله.. أو الدمار) وسنبعث إليك بالعددين معا لتقرأ فيهما الموضوع كاملاً إذا شئت، فإما أن تقتنع بالحق الذي أجمع عليه أئمة الهدى فتعود لتدارك ما أَسلفتَه بالتصحيح المنشود، كالمأمول بمثلك من أهل الخير، وإما أن تستمر على وجهتك فيكون الحَكَمْ بيننا وبينك أُولو العلم بعدَ الله، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ويبقى ما وقعنا عليه من شططك في بعض الصحف ومن وراء المذياع، فنرجئه إلى التعقيب القادم الذي سيتناول بتوفيق الله، إلى جانب هفواتك، أغاليط آخرين سواك.
والله الهادي إلى سواء السبيل.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر ابن كثير _ ج1 تفسير 34 من سورة البقرة وج14 تفسير الآية 50 من سورة الكهف.
[2] المرجع نفسه ص396ط (دار الفكر) بيروت.
[3] انظر تفسير مجاهد ص377 ط قطر.
[4] أخرجه مسلم عن أبي ذر.
[5] لأبي داود.
[6] الكتيب ص17و 18.
[7] الكتيب 21و 22.
[8] الكتيب ص22.
[9] انظر تفسير ابن كثير لسورة الجن.
[10] مسلم والترمذي.
[11] سنعرض لبعض هذه الوقائع مدعومة بشهادات النقاب في مقال تأتي إن شاء الله.
[12] أخرجه مسلم.(15/95)
[13] متفق عليه.
[14] الكتيب ص25.
[15] صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها.(15/96)
مع كتاب الله
لفضيلة الشيخ أحمد عبد الرحيم السايح
من الأصول الأساسية التي تجمع المسلمين، وتعمل على حمايتهم.. أن مصدر التشريع عندهم واحد.. ومصدر التشريع الواحد هذا ليس مستورداً من الشرق، ولا من الغرب.. ولا هو من الأفكار التي دبجها البشر.. ولا يقبل الخلط بينه وبين المذاهب التي روج لها سماسرة القوانين الوضعية.. ولا يقبل أن يؤخذ بعضه ويترك بعضه.
إن مصدر التشريع الواحد هذا.. هو القرآن الكريم، وسنة الرسول الأمين محمد عليه الصلاة والسلام.. والقرآن الكريم هو الكتاب المجيد الذي أنزله الخالق لإصلاح الخلق، وإنقاذ الإنسانية من التيه والأوهام والتصورات الباطلة، والفلسفات المدمرة.
والقرآن الكريم لا يختلف في سوره، ولا في آياته، ولا في ألفاظه، ولا في حروفه.. فهو واحد عند المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وإلى أن يرث الله الأرض وما عليها.. ولا يضر تفاوت العلماء في فهم مدلول ألفاظه.. فقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى، أن تتفاوت العقول والأفهام من إنسان إلى إنسان، ومن جيل إلى جيل، ومن مكان إلى مكان..
لكن هذا التفاوت لم يصرف المسلمين أبداً عن الإقرار بأن القرآن الكريم، الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم، واحد في سورة وآياته وألفاظه وحروفه. قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [1] .(15/97)
وهذه الحقائق لم تفت بعض الدارسين من عقلاء علماء أوربا. فهذا العالم الإنجليزي: يورك يقول: (والقرآن الكريم بالإضافة إلى كونه من أجمل الروائع الأدبية في العالم كله.. دستور كامل من القوانين الأخلاقية والمدنية والعسكرية والاجتماعية.. وهو دستور يضبط سلوك المسلمين الذين يجب أن تكون جميع أفعالهم بمقتضى تعاليم القرآن الكريم.. أما كون المسلمين يعتبرون أن قوانين القرآن ثابتة ومعصومة عن الخطأ. فيتضح من الحقيقة القائلة بأنه بالرغم من انقضاء ثلاثة عشر قرنا ((أربعة عشر قرنا)) على نزول القرآن الكريم فإنه لم يتعرض لأقل تغيير أو تبديل، وبأن كل كلمة من كلماته وكل حركة من حركاته قد بقيت كما خرجت من بين شفتي رسول الله، وسيبقى هكذا دون أي تبديل أو تحريف. القرآن الكريم خالص من التدخل الإنساني. وهذه حقيقة لا يمكن أن تقال لا كليا ولا جزئيا عن سائر الكتب المقدسة للأديان الأخرى" [2]
والمسلمون جميعا على تباين أقطارهم، وتباعد ديارهم، يرجعون إلى القرآن الكريم، لأنه المنهاج الأمثل، الذي ارتضاه الله للإنسانية، وقد اشتمل القرآن والسنة، على العقائد، والعبادات والمعاملات، والحقوق الشخصية.. وثروة القرآن لا تقف عند حد الاعتقاد الصحيح وتوحيد الخالق، بل تزيد عليه تهذيب السلوك، وتربية العقل والوجدان وتصحيح المعاملات وتطبيق قواعد العدل..
وقد احتوى القرآن الكريم، على أنواع من الأعمال التي كلف بها المسلمون كالعبادات المحضة، والمالية والبدنية، والاجتماعية وهي: الصلاة، والزكاة، والصوم, والحج.. وقد اعتبرت هذه العبادات بعد الإيمان بالله أساس الإسلام. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والحج وصوم رمضان" [3] .(15/98)
ومن الأعمال التشريعية التي أتى بها القرآن الكريم: تشريعات تأمين الدعوة، وتنظيم الجهاد في سبيل الله، وما يتعلق بأسرى الحرب، وتشريعات الأسرى، وما يتعلق بالزواج والطلاق والأنساب والمواريث، وسائر الأحوال الشخصية، وتشريعات العهود والمواثيق، والعلاقات الاقتصادية والمادية.. بين أفراد المجتمع من بيع وإجارة ورهن، وغير ذلك مما يندرج تحت باب المعاملات المباحة والمحرمة، ثم التشريعات الخاصة بتوقيع الجزاءات والعقوبات على الجرائم كالقصاص في القتل، وحد الزاني، وحد القاذف، وحد السارق، وحد قاطع الطريق [4] .
وما دام الأمر كذلك.. فإن الله سبحانه وتعالى، يدعو المسلمين إلى الأخذ بما في القرآن الكريم. فهو إلى جانب ما له من فوائد تجل عن الحصر، من أكبر عوامل توحيد المسلمين، وجمع كلمتهم، ولم شملهم.. قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا..} [5] وحبل الله كما جاء في الحديث عن ابن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "حبل الله هو القرآن".
وروى ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: "كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض".
وجاء في تفسير المنار:"أن العبارة تمثيلية شبهت فيها حالة المسلمين في اهتدائهم بكتاب الله، أو في اجتماعهم وتعاضدهم وتكاتفهم، بحالة استمساك المتدلي من مكان عال بحبل متين، يأمن معه السقوط.. والمختار. هو ما ورد في الحديث المرفوع من تفسير حبل الله بكتابه. ومن اعتصم به كان أخذاً بالإسلام".
ولا يظهر تفسيره بالجماعة والاجتماع وإنما الاجتماع هو نفس الاعتصام فهو يوجب علينا أن نجعل اجتماعنا ووحدتنا بكتابه. عليه نجتمع، وبه نتحد. لا بجنسيات نتبعها، ولا بمذاهب نبتدعها، ولا بمواضعات نضعها، ولا بسياسات نخترعها [6] .(15/99)
فالله سبحانه وتعالى أوجب علينا التمسك بكتابه وسنة نبيه، والرجوع إليهما عند الاختلاف. وأمرنا بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة، اعتقاداً وعملاً. وذلك سبب اتفاق الكلمة، وانتظام الشتات، الذي تتم به مصالح الدين والدنيا، والسلامة من الاختلاف. وأمر بالاجتماع، ونهى عن الافتراق الذي حصل لأهل الكتابين.. [7] .
وهناك آيات كثيرة.. تبين أن القرآن. هدى.. ونور.. وبرهان.. وشفاء.. ومن هذا قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [8] .
والمراد بالنور هنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه النبي صلى الله عليه وسلم.. ثانيها: إنه الإسلام.. ثالثها: إنه القرآن.
والمراد بالكتاب المبين. القرآن.. ولولا عطفه على النور. لما فسروا النور إلا به. فإن الأصل في العطف أن يكون المعطوف غير المعطوف عليه، ولكن العطف قد يرد للتفسير.. وهو الذي اختاره هنا لتوافق هذه الآية وما بعدها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [9] .
والقرآن هو القاعدة الروحية التي تنطلق منها الإمدادات الإلهية والومضات السماوية.. ولهذا صار قوة فاعلة ومؤثرة، بل إن فاعليته شملت حياة الأفراد والجماعات من جميع الجوانب. وإذا كان الإنسان ذلك الكائن الحي المكلف لا وجود له، ولا حياة، بغير الروح والقلب والعقل.. فإن المسلمين لا كيان لهم، ولا حياة، ولا شخصية.. يغير القرآن فهو لهم الروح والعقل والقلب، وهو لهم الضياء والغذاء والشفاء. تنشده الأمة فتجد فيه مبتغاها من التشريعات الفردية والعلائق الأسرية، والمعاملات الاقتصادية والقوانين المدنية والأنظمة الدولية.(15/100)
وبعبارة أدق وأوجز.. تجد فيه الأمة كل ما تحتاج إليه في حياتها العامة والخاصة والدين والدنيا.
ولقد اشتمل القرآن الكريم على ستة ألاف ومائتين وستة وثلاثين آية.. احتوت جملة وتفصيلا على العبادات والعقائد والتكاليف والأصول والأحكام والأصول، والحكام والمعاملات وعلاقات الأمم والشعوب، في السلم والحرب، وسياسة الحكم، وإقامة العدل، والعدالة الاجتماعية، والتضامن الاجتماعي، وكل ما يتصل ببناء المجتمع، ورسم شخصية المسلم الكامل خلقا وأدبا وعلما.
ومن الآيات سبعمائة وخمسون آية كونية وعلمية، احتوت أصولا وحقائق تتصل بعلوم الفلك والطبيعة، وما وراء الطبيعة والأحياء والنبات، والحيوان، وطبقات الأرض، والجنحة، والوراثة والصحة والصحة الوقائية، والتعدبن، والصناعة، والمال، والاقتصاد، وغير ذلك من المواعظ والأمثال والقصص، وشتى أمور الدين والدنيا.. ومما كان محلاً للدراسة والاستنتاج والتأصيل والبحث والتنقيب، وكان أساساً لعلوم الفقه والتفسير، والحديث والأصول، والأخلاق، والاجتماع والبلاغة والأدب، والطب واللغة، والنحو، والهندسة، والرياضيات، والطبيعة والكيمياء، وسائر أنواع الفنون التي ازدهرت في ظل الحضارة الإسلامية.
وفي القرآن الكريم كثير من الحقائق العلمية الكونية، والنواميس الطبيعية. جاءت في معرض الاستدلال على قدرة الله ووحدانيته ومن هذا قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْء..} [10] .
وكذلك يخبر القرآن عن وقائع ماضية طمست الدهور معالمها، وليس لأحد علم بها.. قال تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [11] .(15/101)
ويخبر أيضا عن وقائع مستقبلة لم تكن وقعت حين نزوله، ومن هذا قوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [12] وأن الباحث في القرآن بصدق، وإمعان نظر.. يلاحظ أن آيات القرآن الكريم، قد اتسقت على كثرتها، واتفقت المبادئ والأصول، في كل الموضوعات على تعددها وتنوعها. قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [13] .
والتناسق المطلق الشامل الكامل، هو الظاهرة التي لا يخطئها من يتدبر هذا القرآن أبداً، ومستوياتها ومجالاتها، مما تختلف العقول والأجيال في إدراك مداها. ولكن كل عقل وكل جيل يجد منها بحسب قدرته وثقافته وتجربته وتقواه، ما يملك إدراكه، في محيط يتكيف بمدى القدرة والثقافة والتجربة والتقوى.
ومن ثم فإن كل أحد، وكل جيل، مخاطب بهذه الآية. ومستطيع عند التدبر وفق منهج مستقيم. أن يدرك من هذه الظاهرة، ظاهرة عدم الاختلاف أو ظاهرة التناسق ما تهيئه له قدرته وثقافته وتجربته وتقواه.
تتجلى هذه الظاهرة. ظاهرة عدم الاختلاف. أو ظاهرة التناسق. ابتداء في التعبير القرآني، من ناحية الأداء وطرائقه الفتية.. ففي كلام البشر، تبدو القمم والسفوح، التوفيق والتعثر. القوة والضعف. التحليق والهبوط. الرفرفة والثقلة. الإشراق والانطفاء.. إلى آخر الظواهر التي تتجلى معها سمات البشر. واخصها سمات التغير، والاختلاف المستمر الدائم من حال إلى حال.(15/102)
يبدو ذلك في كلام البشر واضحا، عندما تستعرض أعمال الأديب الواحد، أو المفكر الواحد، أو الفنان الواحد، أو السياسي الواحد، أو القائد العسكري الواحد. أو أي فرد كان في صناعته، التي يبدو فيها الوسم البشري واضحاً، وهو التغير والاختلاف.. هذه الظاهرة واضحة كل الوضوح، أن عكسها وهو: الثبات والتناسق. هو الظاهرة الملحوظة في القرآن ونحن نتحدث فقط عن ناحية التعبير اللفظي، والأداء الأسلوبي فهناك مستوى واحد في هذا الكتاب المعجز، تختلف ألوانه باختلاف الموضوعات التي يتناولها، ولكن يتحد مستواه وأفقه، والكمال في الأداء بلا تغير ولا اختلاف، من مستوى إلى مستوى.. كما هو الحال في كل ما يصنع الإنسان.. ويدل على الصانع. يدل على الموجود الذي لا يتغير من حال إلى حال، ولا تتوالى عليه الأحوال.
وتتجلى ظاهرة عدم الاختلاف.. والتناسق المطلق الشامل الكامل بعد ذلك في ذات المنهج الذي تحمله العبارات ويؤديه الأداء، منهج التربية للنفس البشرية، والمجتمعات البشرية، ومحتويات هذا المنهج وجوانبه كثيرة.
ومنهج التنظيم للنشاط الإنساني للأفراد وللمجتمع الذي يضم الأفراد. وشتى الجوانب والملابسات التي تطرأ في حياة المجتمعات البشرية على توالي الأجيال.. ومنهج التقويم للإدراك البشري ذاته، وتناول شتى قواه وطاقاته وإعمالها معا في عملية الإدراك.
ومنهج التنسيق بين الكائن الإنساني بجملته، في جميع مجتمعاته وأجياله ومستوياته. وبين هذا الكون الذي يعيش فيه. ثم بين دنياه وأخرته. وما يشجر في العلاقة بينهما من ملابسات لا تحصى في عالم كل فرد، وفي عالم الإنسان، وهو يعيش في هذا الكون بشكل عام.(15/103)
وإذا كان الفارق بين صنعة الله وصنعة الإنسان، واضحاً كل الوضوح، في جانب التعبير اللفظي، والأداء الفني. فإنه أوضح من ذلك في جانب التفكير، والتنظيم، والتشريع.. فما من نظرية بشرية، وما من مذهب بشري. إلا وهو يحمل الطابع البشري جزئية النظر والرؤية، والتأثر الوقتي بالمشكلات الوقتية.. وعدم رؤية المتناقضات في النظرية أو المذهب أو الخطة، التي تؤدي إلى الاصطدام بين مكوناتها _ إن عاجلاً وإن آجلاً _ كما تؤدي إلى إيذاء بعض الخصائص في الشخصية البشرية الواحدة التي لم يحسب بعضها، أو في مجموعة الشخصيات الذين لم يحسب حساب كل واحدة منها.. إلى عشرات ومئات من النقائض والاختلاف. الناشئة من طبيعة الإدراك البشري المحدود، ومن الجهل البشري بما وراء اللحظة الحاضرة في أية لحظة حاضرة.. وعكس ذلك كله هو ما يتسم به المنهج القرآني الشامل المتكامل، الثابت الأصول، ثابت النواميس الكونية، الذي يسمح بالحركة الدائمة مع ثباته، كما تسمح بها النواميس الكونية [14] .
والإسلام في القرآن الكريم.. منهج وهو منهج ذو خصائص متميزة: من ناحية التصور الاعتقادي، ومن ناحية الشريعة المنظمة لارتباطات الحياة كلها. ومن ناحية القواعد الأخلاقية التي تقوم عليها هذه الارتباطات، ولا تفارقها. سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. وهو منهج جاء لقيادة البشرية كلها [15] .
والقرآن الكريم جاء بتشريعات عادلة، وقد ألفت من مواد تتضمن أحكاما كلية، ومبادئ عامة، في كل فروع التشريع.. وصدق الله العظيم في قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [16] . وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [17] .(15/104)
ولهذا كله، كان للقرآن تأثيره وفاعليته في نفوس المؤمنين المتدبرين العاقلين. قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ ... } [18]
والقرآن الكريم منهاج كامل وشامل جاء بكليات الشريعة والأصول، في العبادات والمعاملات، والأسرة والميراث، والجنايات والحدود، وأنظمة الحكم.
قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [19] .
ومن آيات الاقتصاد والمعاملات المدنية قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [20] .(15/105)
ومن آيات الأحوال الشخصية والميراث والجنايات والحدود. قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} [21] .
وقال تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} [22] .
وقال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [23] .
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [24] .
ومن آيات المعاهدات قوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [25] .(15/106)
وقال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [26] .
ومن آيات الدفاع العام قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [27] .
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [28] .
ومن آيات الحكم والقضاء، قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [29] .
أما آيات الخلاق والأدب والسلوك.. فهي تملأ القرآن الكريم، وتستطيع أن تحس بها في كل آية من آيات القرآن. وعلى الجملة فهذا القرآن به كل ما يهم المسلمين من قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية وغيرها.
ومن هذا المنطلق.. كان هو القادر على حل مشاكل الناس وتنظيم العلاقات الإنسانية كلها.
وكان هو وحده مناط الثقة وموضع اليقين. لأنه من عند الله. وما كان من عند الله كان أتم.(15/107)
وهو وحده القادر على تحديد علاقة المسلم بالوجود كله، وبالكون وبما يغص به هذا الكون من ناس وأشياء.
ففي باب العقيدة.. دعا إلى توحيد الله، وإفراده بالعبادة والتعظيم والتمسك بما شرع الله من أداب العبادة والفرائض.
وفي السياسة.. دعا إلى الشورى، واحترام حقوق الإنسان، والتزود بكل أسباب القوة.
وفي النظام الأخلاقي.. دعا إلى خلوص النية، ونقاء الضمير والتمسك بقيم الخير، والحق، والتزام الأداب الفردية والاجتماعية التي تسير بالإنسانية إلى الكمال والتقدم.
وفي النظام الاجتماعي.. دعا إلى الأسرة المتماسكة القائمة على ركائز المودة والرحمة، والإخلاص، والاحترام، والتعاون، والتعارف، وقيام كل راع بمسئوليته.
وفي النظام الاقتصادي.. دعا إلى تبادل المنافع، واتخاذ المال وسيلة لا غاية، واحترام الملكية الفردية.
وفي النظام التشريعي.. قام على أصول رئيسية واسعة. وقد تمثلت هذه الناحية في ثروة من الفقه الإسلامي.
وفي النظام الثقافي.. دعا إلى طلب المعرفة أيّاً كانت، واستخدام العقل في كسب المعارف.
وفي النظام الفكري.. دعا إلى استقلال الإرادة، وحرية الفكر.. ولم يقف عند هذا الحد. بل وضع القواعد الأساسية لوزن المعلومات، وتمييز صحيحها من زائفها.. فقرر أن المسائل لا تأخذ طابعاً علميا، ولا ترتقي إلى درجة حقائق إلا إذا قامت عليها بينة.
قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [30] .
ولعل كل هذا يجعلنا ندرك.. أننا في أشد الحاجة إلى القرآن الكريم. لا لنقرأه في المناسبات والاحتفالات وعندما يموت كبير قوم.. ولا لنردده بين حين وآخر لكسب رضى عواطف بعض الناس.. وإنما نحن في حاجة إلى القرآن لنطبق ما جاء به، ونعمل بتعاليمه وتوجيهاته.. كليا وجزئيا. في جميع الشئون.(15/108)
والنظام السياسي في القرآن الكريم، نظام مستقل متميز. لا تنطبق عليه المصطلحات التي تتردد في قواميس السياسة المعاصرة، فهو ليس ديمقراطيا ولا دكتاتوريا، ولا إمبراطوريا، ولا اشتراكيا، ولا رأسماليا.
"وليس مما يرفع شان الإسلام أن نطلق عليه مثل هذه الأسماء والمصطلحات لأن الإسلام نظام متميز مستقل له من مبادئه ونظمه في السياسة والحكم ما يستطيع أن يفاخر به سائر الأنظمة التي عرفها الإنسان" [31] .
والواقع أننا لسنا في حاجة إلى الدخول في تجارب أنظمة البشر لأن هذه المذاهب عجزت عن حل مشاكل الناس.. وعلينا أن نجرب الحكم بالقرآن، ونمشي بنظام سياسة الإسلام.. وفي ذلك النجاح. كل النجاح، والفلاح كل الفلاح.. ولعلنا نبدأ في التجربة بدلا من التخبط في المنطق الجدلي ((الديالكتيك)) والتحليل المادي للتاريخ. وحتمية الصراع الطبقي.
إن النظام الإسلامي يقوم على أساس الإيمان بالله، ويستمد نظرته إلى الكون والإنسان والحياة كلها من هذا الإيمان.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الحجر: الآية رقم 9.
[2] انظر: الثقافة الإسلامية من بعض زواياها ص69 طبع كراتشي ((مجموعة بحوث نشرتها الأمانة العامة لمؤتمر العالم الإسلامي)) .
[3] انظر: التاج الجامع للأصول. الجزء الأول ص14. رواه البخاري ومسلم.
[4] انظر: أطوار الثقافة والفكر. للأستاذ علي الجندي وآخرين. ص337 طبع الأنجلو مصرية.
[5] سورة آل عمران: الآية رقم 103.
[6] انظر: تفسير المنار. الجزء الرابع. ص20 الطبعة الأولى.
[7] راجع: تفسير القرآن. للقرطبي. الجزء الرابع ص159.
[8] سورة المائدة. الآيتان 15، 16.
[9] انظر: تفسير المنار للشيخ رشيد رضا. الجزء السادس صلى الله عليه وسلم 403.
[10] سورة الأنبياء: الآية رقم 30.(15/109)
[11] سورة هود: الآية رقم 49.
[12] سورة الروم: الآيات 2، 3، 4.
[13] سورة النساء: الآية رقم 82.
[14] انظر: في ظلال القرآن. للشهيد سيد قطب. الجزء الخامس ص167 إلى 169.
[15] انظر: في ظلال القرآن. للشهيد سيد قطب. الجزء الرابع ص19 الطبعة الخامسة.
[16] سورة الإسراء: الآية رقم 12.
[17] سورة النحل: الآية رقم 89.
[18] سورة الزمر: الآية رقم 23.
[19] سورة المائدة: الآيتان رقم 48، 49.
[20] سورة النساء: الآية رقم 5.
[21] سورة البقرة: الآية رقم 233.
[22] سورة النساء: الآية رقم 7.
[23] سورة المائدة: الآية رقم 45.
[24] سورة النور: الآية رقم4
[25] سورة الأنفال: الآية رقم 61.
[26] سورة الأنفال: الآية رقم 58.
[27] سورة البقرة: الآية رقم 190.
[28] سورة الأنفال: الآيتان رقم 15، 16.
[29] سورة النساء: الآيتان رقم 58، 59.
[30] سورة الإسراء: الآية رقم 36.
[31]_ معالم الثقافة الإسلامية: للدكتور عبد الكريم عثمان الطبعة الثالثة ص173.(15/110)
ثمار من غرس النبوة
القائد الشاب
لفضيلة الشيخ محمد الشال
وتأهب الحجيج القضاعي للسفر إلى مكة فأعدوا الرواحل وتزودوا للرحلة. وحانت ساعات الوداع وشخصت الأبصار إلى حارثة بن شراحيل وأخيه كعب، وفيها دمعات حبسها الإشفاق على الوالد الحزين الذي لا يزال في هم موصول ينفث حزنه المكبوت في قوله:
بكيت على زيد ولم أدر ما فعل
أحيٌّ فيرجى أم أتى دونه الأجل
ويا ليت شعري هل لك الدهر أوبة
فحسبي من الدنيا رجوعك لي بجل
سأعمل نص العيس في الأرض
ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل
ويطرق الركب المودع بالرءوس حتى لا تقع عين حارثة على الدموع المنهمرة فيزداد به الحزن ويبرح به الألم. ويتهامسون بالتحية تعلوها الزفرات ويأخذون طريقهم إلى مكة ينصون عيسهم في الدروب والوهاد. وهم يرددون نشيد الوالد الحزين لعل الريح تحمل صداه إلى مكان زيد. ولكنه يضيع في جوانب الصحراء. ويستمر الركب في إنشاده حتى يصل إلى مكة ويطوف بالبيت ويلتقي بزيد ويسمعه نفثات أبيه ويجيب الغريب النائي بقوله:
أحن إلى أهلي وإن كنت نائيا
بأني قعيد البيت عند المشاعر
فكفوا من الوجد الذي قد شجاكم
ولا تعملوا في الأرض نص الأباعر
فإني بحمد الله في خير أسرة
كرام معد كابرا بعد كابر
ويسأله رهطه عن أمره ويقفون منه على أنه عند محمد صلى الله عليه وسلم ويحدثهم زيد عن مكانته عنده ومنزلته في نفسه ... ويؤوب الركب وهو يطوي الصحراء خفافا تستخفه البشرى وتدفعه إلى الجد في السير. ولعل الوالد الحزين كان يستشرف أخبار الركب على أبواب الدروب ومنافذ الطرق.. ويلتقي الآيب بالمقيم ويخبرونه برؤية زيد وينشدونه حنينه. ولعل حارثة لم يطل به المقام حتى ينتهي الركب من حديثه فيمتطي راحلته ويستأنس بأخيه كعب ويسير إلى غايته يستروح رائحة زيد كلما علا نجدا أو هبط واديا.(15/111)
ثم يصل إلى مكة ويسأل عن محمد فيدله الناس عليه فيضرع إليه في إشفاق أن يرد عليه ابنه ويأخذ ما شاء من فداء. ولكن محمدا صلى الله عليه وسلم يرى سحابة من الحزن الطويل على سمات حارثة وأخيه فيرق له رقة الوالد ويطمئنه على أنه لن يطلب منه مالا ولكنه سيخير زيدا بين المقام والظعن فإن اختاركما فذاك، وإن اختارني فو الله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحدا. فيزيد الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك على النَّصَف كما قال حارثة وأخوه.
ويأتي زيد ويسمع خيار رسول الله صلى الله عليه وسلم له، ولشد ما يقع في نفس الوالد وأخيه حينما يسمعان من زيد أنه اختار البقاء على الرحيل ويقولان له أتختار العبودية على أبيك وأمك وبلدك وقومك ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع عليهم الحديث العاتب بمكافأة زيد بالإنعام عليه بالحرية والبنوة على عادة قومه إذَّاك.
وتهدأ نفس الوالد ويزداد الابن تعلقا بأبيه الجديد. ويشيع في الناس أن محمدا قد تبنى زيدا ويناديه القوم بالبنوة لمحمد.
وكان يقيم في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم حاضنته أم أيمن التي شهدت مولده وهي على سمرتها الحبشية قد أبيض قلبها البياض كله في إخلاص الحب للرسول صلى الله عليه وسلم فكانت له أما بعد أمة تحنو عليه حنين الغريب على الغريب فقد اجتمعت لها وله غربة الدار وغربة اليتم.
ويدرج الرسول في مدارج الطفولة وقد حرمه القدر من رحمة الأبوة وحنان الأمومة. فتعوضه أم أيمن ما استطاعت بحنانها وحبها ويخلص لها الرسول صلى الله عليه وسلم الحب ويناديها يا أمي، ثم يزوجها من متبناه زيد فيجمع بهذا الزواج بين قلبين قد أخلصا له الحب ومحضا له الوفاء.(15/112)
وتنجب أم أيمن أسامة وقد ندبه عرق لأمه ففيه سمرتها وفيه شبهها ويشب الوليد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسبغ عليه حبا غامرا يزيد على حب والديه ويحمله بين يديه ويداعبه مداعبة الأبوة الرحيمة على الطفولة المرموقة ويرضى فيه رغبة الأبوة بعد أن فقد أبناءه أطفالا ويعثر أسامة يوما بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسيل دمه فيمسحه الرسول ويضمد جراحه ثم يكفكف دمعه ولا يزال يمازحه حتى ينسيه ألمه.. ثم لا يزال أسامة في رعاية الرسول ورعاية والديه حتى يهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم ويهاجروا معه إلى أن يؤمر أباه على جيش ذاهب إلى تخوم الشام ليدفع بوادر الشر التي ظهرت من ولاة الرومان. ويستشهد زيد في مؤته ويرجع الجيش ولا يرجع زيد. وينظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أسامة وقد أصابه اليتم فيزداد عليه حدبا وله محبة.
ويعرف أسامة وقد أصبح أهلا للمعرفة أن أباه قد قتله الرومان في البلاد النائية. ويغدو أسامة ويروح لا يسمع لأبيه صوتا ولا يرى له شخصا وتتوق نفسه إلى أن يذهب إلى تخوم الشام لعله يلتقي بمن قتلوا أباه ولعله إن التقى بهم وأظهره الله عليهم يقتص لأبيه القصاص العادل وينتصف للإسلام انتصاف المظلوم ولعله أظهر هذه الرغبة للرسول صلى الله عليه وسلم ولكن الرسول يشفق عليه لحداثة سنه فلم يكن قد أتم العقد الثاني من عمره.. ولعل أسامة استمر ينشد بغيته.
ويرى الرسول صلى الله عليه وسلم من أمره الجد ويعلم أنه أصبح أهلا للإمارة كما أن أباه كان أهلا لها وينادي الرسول صلى الله عليه وسلم عام وفاته بتأهب المهاجرين والأنصار للحرب. وقد استمر بغي الرومان على رسل المسلمين ولم يكف شرهم جيش زيد ولا جيش الرسول من بعده. ولو تركوا لساورتهم أنفسهم بغزو المسلمين في المدينة.(15/113)
ويستجيب كبار المهاجرين والأنصار لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ويعدون عدتهم ثم يتطلعون للقيادة. ويتقدم الرسول ويقلد أسامة على حداثة سنه الإمارة ويسمع همسا خافتا أن غيره أولى منه بأمارة الجيش وأحق منه بقيادته.
وينادي الرسول صلى الله عليه وسلم نداء يحبس هذه الهمسات في الصدور فيقول "وأيم الله إنه لخليق بالأمارة وأن كان أبوه لخليقا بها.." ويتولى أسامة إمرة الجيش وينزل المسلمون على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن الجيش لا يكاد يبدأ السير حتى يمرض الرسول وينتظر الجيش وأميره ليقفوا على الأنباء ولا يطول الانتظار فيلقى الرسول ربه.. ويؤول الأمر لأبي بكر.
وتظهر الهمسات المكبوتة وتصل إلى أبي بكر في رجاء من عمر أن يعزل أسامة ويولي غيره.. ولكن أبا بكر لا يعزل قائدا ولاه الرسول ويأمر الجيش بالمسير ويأمر أميره الشاب بالركوب ويأخذ أبو بكر بلجام فرس أسامة ويسير ماشيا ليغبر قدميه ساعة في سبيل الله حتى لا يبقى لمعترض إثارة من خوف وحتى يخرج الجيش إلى غايته وهو راض عن قائده.. وتضيع الهمسات على الشفاه فلا يسمع لها صوت ولا يتردد لها صدى.
ولقد عرف الرسول صلى الله عليه وسلم وكذلك أبو بكر رضي الله عنه أن لأسامة غاية وثأرا، أما غايته فهي نشر راية الإسلام على ربوع الشام ورد كيد أعدائه.. وأما ثأره ففي مؤته حيث تخضب ثراها بدماء أبيه. ولذلك أمره الرسول أن يصل إليها ويقف على الثرى الذي روي بالدماء الزكية من أبيه ورفاقه في القيادة يستروح رائحتهم وهي عابقة بالمجد معطرة بالإيمان.
ولقد وقف أسامة موقف أبيه وجاء إلى البلد الذي استشهد فيها فأخذ له بثأره وردع من وقفوا في سبيل الدعوة الناشئة.. وانقلب بنصر حقق أمل الرسول فيه وأرضى أصحاب الهمسات وغيرهم ورسم لهم منهج الاعتماد على الشباب ووضعهم في مصاف القيادة إذا ما آنسنا منهم نضجا أو كانت لهم ثارات.(15/114)
وللعرب ثارات وثارات على عرصات فلسطين وفوق ثرى سيناء والجولان وبور سعيد خلفت وراءها الكثير من اليتامى ممن اختطف البغي آباءهم. ولهؤلاء علينا حقوق وحقوق ألاَّ نشعرهم باليتم المضيع أو المنة المذلة أو المهانة التي تغرس في نفوسهم العداوة للمجتمع. بل نرعاهم رعاية الإعزاز لهم والتكريم لآبائهم وننزلهم من نفوسنا منزلة أسامة من نفس محمد صلى الله عليه وسلم، وننادي فيهم كل يوم أن لهم ثأرا لا يزال ينتظرهم، وأن ملاعب صباهم وملاهي طفولتهم قد اغتصبها أفاقون وأن أموالهم وديارهم قد استولى عليها خليط عجيب متنافر القلوب متحد الهوى ينفث في روعه أعداء لنا لا يألون جهداً في تدبير الكيد للوقوف في سبيل نهضتنا ليضاعف بغيه ويواصل عدوانه.
وأن دماءنا لا تزال تخضب الثرى الزكي يحمل أريحها النسيم الغادي والرائح ونسمع لها همسا دامعا أو داميا ألاَّ ننسى الديار ولا نرضى بالضيم.. وسوف نجد بين البراعم الناشئة أسامة وأسامة يأخذون بالثأر ويحققون الرجاء(15/115)
الوحدة الإسلامية
لمعالي الشيخ محمد المبارك
لقد سبق للإسلام _ في فترة من الزمن امتدت عدة قرون ابتداء من ظهوره _ أن كون في مجموعة من الشعوب التي اتخذته دينا لها ونهجا لحياتها أمة واحدة هي (الأمة الإسلامية) ودولة واحدة هي (الدولة الإسلامية) وحضارة إسلامية مشتركة أسهمت فيها هذه الشعوب وثقافة إسلامية مشتركة كذلك.
ثم تطورت الحال بتأثير عوامل عديدة وانتهى الأمر بعد عدة قرون إلى تجزؤ الدولة إلى دول مع بقاء الشعوب في بداية الأمر متجمعة في أمة واحدة منسجمة رغم اختلاف الألسن والقوميات ثم أخذت هذه الشعوب في القرون الأخيرة تتجزأ أيضا بعض التجزؤ وجاء عهد الاستعمار في القرون الثلاثة الأخيرة ليكون عاملا قويا في إكمال عملية التجزئة والفصل. وانتهى الأمر إلى ما يسمى في العصر الحاضر (العالم الإسلامي) .
و (العالم الإسلامي) هو مجموعة من الشعوب تدين بالإسلام تحكمها حكومات متعددة تختلف في نظمها التربوية والثقافية والتشريعية والاقتصادية وفي سياستها الداخلية والخارجية وارتباطاتها الاقتصادية.
ولكن ما بقي من رصيد الوحدة السابقة من رصيد الإسلام في عقيدته وتصوراته وفي شعائر عباداته المشتركة وما تبقى من نظمه التشريعية النافذة ومن أحكامه المؤثرة في العادات تحليلا وتحريما ومن المشاعر المشتركة بين المسلمين ومن مناهج التعليم الإسلامي الموروث المشتركة إن ما بقي من ذلك كله يمكن أن يكون نقطة انطلاق من جديد لتغيير الواقع في اتجاه الوحدة في صيغ جديدة تتناسب مع مجموع الأحوال والملابسات المعاصرة.(15/116)
وإن طبيعة الإسلام نفسه وخصائصه وسابقته التاريخية في تكوين أمة واحدة واتجاه الشعوب في العصر الحاضر إلى تكوين كتل تتألف كل منها من مجموعة من الشعوب تلتقي على صعيد عقيدة مشتركة ونظم مشتركة واقتصاد موحد أو متناسق، إن هذه الأمور كلها تؤكد إمكان الانتقال بالعالم الإسلامي في صورته الحاضرة إلى أمة واحدة، ودولة واحدة أو متحدة أو اتحادية وثقافة مشتركة ذات لغة مشتركة، وحضارة مشتركة.
نحن إذن أمام واقع وهدف نريد الوصول إليه ولابد من البحث عن الطريق الموصل من الواقع إلى الهدف، وبحثنا يتناول هذه العناصر الثلاثة.
الهدف:
يختلف الإسلام عن المسيحية والبوذية وأكثر الأديان بأنه يغطي بتوجيهاته وتعاليمه جميع جوانب الحياة ويستغرقها سواء أكان ذلك عن طريق التوجيه وتحديد الأهداف أم عن طريق التحديد. فهو يحدد المعالم الأساسية للتصورات الفكرية وقواعد السلوك العملي الأخلاقي وينظم العلاقات الاجتماعية في شتى المجالات (الأسرة، المال، الدولة..) ولا تشغل العبادات وشعائرها والإيمان بالغيبيات إلا جزءا منه فحسب. وليست كذلك أكثر الديانات ويختلف عن اليهودية التي تشتمل على بعض التشريع بأنه شامل لتنظيم جميع جوانب التشريع من جهة وأنه قابل للتطبيق مع تغير ظروف الحياة لما يتصف به من السعة والمرونة.
وبناء على هذا فلا يمكن مقارنة الإسلام بأي دين من الأديان من جهة قدرته على تكوين أمة وجمع مختلف الشعوب في إطارها وقدرته على تكييف ظروف الحياة وتطوراتها حسب مقاييسه وقواعده.
يمكن مقارنة الإسلام _من هذه الناحية_ بالعقائديات المعاصرة التي تشمل التصورات العامة للوجود _وتكون فلسفتها الأساسية_ ومفاهيمها في الأخلاق ومقاييسها ونظمها التشريعية وبالتالي تستطيع الجمع بين شعوب مختلفة، وذلك باشتراكها في هذه الجوانب.(15/117)
ويختلف الإسلام عنها بأنه يضيف إلى ذلك ما يسميه أصحاب هذه العقائديات بالدين أي الإيمان بحقائق غيبية وإقامة شعائر العبادات.
فالإسلام إذن هو من نوع العقائد التي يمكنها أن توحد الشعوب وأن توجد قاعدة صلبة للقاء بل هو من أقدرها على ذلك.
ولا شك أن الإسلام نفسه كما تدل نصوصه الأصلية من القرآن والسنة يهدف إلى جعل الإنسانية كلها أمة واحدة في ظل عقيدته وأحكامه تتضامن وتتكافل وتتعاون على أساسه في مجال الشعور بالأخوة وفي مجال التعاون الحضاري والتناصر والتكافل المالي.
ولا يمكن ذلك إلا بالنسبة لمن يؤمن به ويذعن لأحكامه وتبقى الدائرة مفتوحة لمن يريد أن يدخل فيها طواعية.
واقع العالم الإسلامي:
أطلق لفظ العالم الإسلامي في العصر الحديث بدلاً من تعبير (الأمة الإسلامية) الذي كان يستعمله المسلمون والغالب على الظن أن هذا التعبير استعمله أولاً غير المسلمين من أهل أوربا وأمريكا بالإنكليزية (Muslim word) وبالفرنسية (le monde muslman) .
وهو يشمل الشعوب المسلمة أو التي أكثريتها مسلمة سواء أكانت حكومتها إسلامية أم كانت غير إسلامية، ويضاف إليها أو يلحق بها الأقليات الإسلامية في البلاد غير الإسلامية.
وسنذكر فيما يلي جوانب الاختلاف والانقسام تمهيدا للبحث عن طرق إزالة الاختلاف والانقسام والعودة إلى الوحدة والانسجام الاجتماعي:
1 _ تعدد الدول:(15/118)
إن انقسام الدول الإسلامية ظاهرة قديمة ولكن حكام الدول الإسلامية كانوا يشعرون كما يشعر المسلمون جميعا يومئذ أنهم يقتسمون أرضا واحدة ومجتمعا واحدا وكان الفرد المسلم لا يشعر بالانفصال عن المسلمين الذين هم تحت حكم حاكم آخر فالشعور بوحدة المسلمين أو المجتمع كان واضحا وقويا حتى أن الانتقال من دولة إلى دولة كان أمرا عاديا وميسورا وكذلك تغيير محل الإقامة من دولة إلى دولة وكان المسلم ينتقل إلى بلد آخر وإلى سلطة حاكم آخر دون أن ينتقص أي حق من حقوقه، فيمكن أن يتولى فيها أي ولاية من الولايات كالقضاء والوزارة وغيرها كما حصل لابن خلدون وابن بطوطة وعدد كبير من العلماء الذين تولوا القضاء في الشام ومصر أو في مصر والمغرب أو غيرها.
أما الانقسام الذي حصل في القرن الأخير ولاسيما في عهد الاستعمار وبعد الاستقلال فهو انقسام إلى دول تفصلها حدود حاجزة وتكون مجتمعات أخذ بعضها يتباعد عن بعض، وتكونت لها عصبيات قومية أو إقليمية انعكست آثارها في نفوس الشعوب وتجسدت في كيانات وطنية وقومية متنافسة تنافس القبائل قديما بل متصارعة ومتعادية أحيانا.
وبني على هذا الأساس المناهج الدراسية وخاصة في التاريخ والجغرافيا وغذيت هذه الروح المبنية على هذه العصبيات الإقليمية أو القومية والوطنيات المحدودة الخاصة حتى في الأدب والشعر والأناشيد (الوطنية) فلتركيا نشيد ولمصر نشيد وللعراق نشيد.. الخ. واستمر الحكام الذين حكموا بعد التحرر من الاستعمار كالحكام الذين سبقوهم أو الذين لم تستعمر أرضهم في هذا الاتجاه بسبب نشوئهم في هذه الأجواء من جهة وبسبب حرصهم على مناصبهم من جهة أخرى.
2 _ اختلاف نظم الدول القائمة في العالم الإسلامي:
أ _ نظم التربية والتعليم:(15/119)
بعد أن أدخل الاستعمار _ وهو حكم غير المسلمين للبلاد الإسلامية _ مناهج للتعليم غير المناهج الإسلامية المتوارثة وبنيت هذه المناهج على الفكر الغربي من حيث الأساس، اختلت الوحدة الثقافية والفكرية في البلاد الإسلامية. فوجد أولاً نوعان من الثقافة والتفكير، نوع بني على المناهج الإسلامية الموروثة القديمة ونوع بني على المناهج الأجنبية الوافدة أو الغازية.
ووجد اختلاف آخر نشأ عن تعدد الدول غير المسلمة التي غزت بلاد المسلمين وهي نفسها مختلفة المناهج وإن اشتركت في أصولها فثمة نظام إنكليزي ونظام فرنسي وغيرهما. ثم ظهر نظام آخر كان له تأثير أيضا وهو النظام الماركسي الذي تأثرت به بعض البلاد الإسلامية بتأثير الدول الشيوعية ودعايتها ونفوذها وهكذا تكون من مجموع ذلك تفكير متعدد مختلف الاتجاهات وليس هذا الاختلاف بين بلد وبلد فحسب بل في البلد الواحد نفسه. وبذلك فقدت أو انتقصت الوحدة الفكرية والثقافية التي كانت ماثلة، في بلاد المسلمين كلها.
ب _ التشريع:
غزا الغرب غير المسلمين البلاد الإسلامية قبل استعمار البلاد الإسلامية فأخذت القانون الجنائي ثم القانون التجاري ثم القانون المدني وأخيراً قانون الأحوال الشخصية. ولكل من هذه القوانين تأثيرها في المجتمع في توجيه حياته الأخلاقية عن طريق التشريع الجنائي _ والاقتصادية عن طريق القانون التجاري والمدني وحياة الأسرة المسلمة عن طريق قوانين الأحوال الشخصية.
ونشأ عن ذلك:
الاختلاف بين التشريع الإسلامي الذي كان سائدا والتشريع الغربي الغازي. الاختلاف بين التشريعات الأجنبية نفسها لتعدد مصادرها.
التعارض بين بنية المجتمع الإسلامي القديمة والتشريع الجديد الأجنبي فيها وأخيرا فقدان الوحدة التشريعية في البلاد الإسلامية واختلاف تكوين البناء الاجتماعي وإقصاء التشريع الإسلامي عن المجتمعات الإسلامية.
ج _ الاقتصاد والنظم الاقتصادية:(15/120)
إن الاختلاف في النظم الاقتصادية والانقسام والتوزيع على دورات أو شبكات اقتصادية من جهة الارتباط والتعامل الخارجي _ ظاهرتان جديدتان في العالم الإسلامي لم تكونا موجودتين حتى في عصر الانحطاط إذ كان العالم الإسلامي مترابطا اقتصاديا وكان النظام السائد فيه واحدا.
نشأ هذا الاختلاف والانقسام بتأثير الاستعمار وتعدد دوله واختلاف نظمه واختلاف الدول أو البلاد الإسلامية في اقتباس النظم الاقتصادية من رأسمالية قديمة إلى رأسمالية حديثة إلى اشتراكية إلى اشتراكية ماركسية وقد نشأ عن الاختلاف في هذا الميدان نتائج وآثار متعددة منها: اختلاف في تركيب المجتمع وفي آلية الحركة الاقتصادية أو طرائق التنمية وفي كل ما يتأثر بالاقتصاد وأسلوبه في الداخل.
اختلاف في الارتباطات الاقتصادية الخارجية في الصادرات والواردات والأساس النقدي ومراكز الإيداع. فكل بلد إسلامي مرتبط بشبكة اقتصادية خارجية تختلف عن البلدان الإسلامية الأخرى وذلك بسبب تضارب المصالح والتنافس وقد يسبب التعارض في المصالح الاقتصادية وذلك مما يجر إلى اختلاف المواقف السياسية الخارجية وإلى وجود البلاد الإسلامية في جبهات مختلفة ومتصارعة وكثيراً ما سبب ذلك السير في سياسة خارجية تخالف الإسلام بل التنكر لبعض القضايا الإسلامية الدولية.
د _ السياسة الداخلية والخارجية:(15/121)
من الطبيعي أن يرتبط الاختلاف في السياسة الداخلية بالاختلافات السابقة وخاصة في التربية والثقافة وفي التشريع وفي المفاهيم العقائدية والمعايير الأخلاقية وهي التي تحدد الحقوق والواجبات ومدى الحريات وأنواعها ولا شك كذلك أن حرص الحكام في كل بلد على الاستمرار في الحكم وبقاء البلد الذي يحكمونه مستقلا عن غيره من البلدان الإسلامية هو دافع إلى وضع قوانين ونظم وإجراءات في السياسة الداخلية تقوي روح الإقليمية والانعزالية في الشعب حتى تتغلب على شعوره بواجب الاتحاد أو الوحدة مع سائر البلدان الإسلامية، ويضاف إلى ذلك اعتقاده أن في ذلك مصلحة له لئلا يقاسمه أبناء البلدان الأخرى المنافع والمكاسب في زعمه غافلا عما تجلبه الوحدة وسعة الرقعة من القوة ومن المنافع والمصالح بالإضافة إلى كونها واجبا إسلاميا بصرف النظر عن مكاسبها.
وبذلك يصبح المسلم في بلد إسلامي ليس بلده وفي دولة غير دولته ليس له من الحقوق المدنية كالعمل والإقامة والتملك والتوظف وغيرها من الحقوق إلا ما لسائر الأجانب من غير المسلمين وهذه ظاهرة لم يسبق لها نظير في تاريخ الإسلام ولم تحدث إلا في العصر الحديث.
أما السياسة الخارجية فهي كذلك مختلفة بسبب اختلاف العوامل التي ذكرناها من التربية وما تنشره من أفكار وعقائد ومن النظم الاقتصادية والمصالح الاقتصادية فهذان العاملان أعني التأثر بالتيارات الخارجية كالشيوعية والليبرالية. والديمقراطية والقومية وغيرها، وارتباط المصالح الاقتصادية بدول وبلدان غير إسلامية أدت ولا تزال تؤدي حتما إلى اختلاف كبير في السياسة الخارجية وانقسام بين حكومات البلاد الإسلامية في هذا المجال. وإن من أساليب المعارضة لوحدة الشعوب الإسلامية واتحاد الدول الإسلامية صرفها إلى تكتلات أخرى تختلط فيه دول الشعوب الإسلامية وتتوحد مع دول غير إسلامية.
3 _ تعدد المذاهب والاتجاهات:(15/122)
إن الوحدة بين المسلمين في الماضي والحاضر لم يكن ليؤثر فيها ما بينهم من اختلاف مذهبي وفيما يلي تلخيص يعطي صورة واضحة ويؤيد ما قلناه:
أ _ أن المذهب السني هو مذهب الأكثرية العظمى للمسلمين في العالم والمذهب الذي يليه في الأهمية من حيث العدد هو المذهب الشيعي الإمامي وهو مذهب أكثرية الشعب الإيراني وفريق من سكان القارة الهندية (الهند وباكستان وبنغلاديش) والمهاجرين منهم إلى جنوب أفريقيا ونصف سكان العراق وأقليات أخرى في بلدان متفرقة.
إن وجود هذين المذهبين ويضاف إليهما المذهب الإباضي في عمان والجزائر وزنجبار والمذهب الزيدي في اليمن، لم يكن ليخلق أي مشكلة أمام الوحدة بين المسلمين. فالتنسيق بين المذهب السني والمذهب الشيعي وهما الأكثر تباعدا بين هذه المذاهب التي ذكرناها أمر ميسور وممكن لعظم الجانب المشترك بينهما وضآلة جانب الاختلاف.
وأما المذاهب التي أعلنت انشقاقها وانفصالها عن الإسلام قديما أو حديثا كالدرزية والبهائية، أو التي أعلن المسلمون انفصالها عن الإسلام كالقاديانية فهي لا توجد مشكلة لقلة عدد أصحابها ولعدم معارضتها للوحدة بين المسلمين.
ب _ المذاهب الحديثة العقائدية والاجتماعية والسياسية:
إن من أبرز العوامل المعارضة للوحدة في داخل كل بلد إسلامي وبين البلدان الإسلامية ظهور تيارات فكرية ومذاهب عقائدية حديثة مستمدة من الغرب تولدت بسبب الاستعمار والغزو الأجنبي الفكري. وهذه المذاهب إما معارضة للإسلام معارضة أساسية وكلية وإما عاملة لحصر الإسلام في نطاق العبادات والعقيدة الشخصية.
بعض هذه المذاهب يتخذ لنفسه صفة عقيدة شاملة (إيديولوجية) كالماركسية أو الشيوعية والقومية لدى فريق من القومين (في مختلف الشعوب الإسلامية) وبعضها يتخذ لنفسه صفة جانبية سياسية كالوطنية والقومية عند فريق آخر من القوميين أو اقتصادية كالاشتراكية (غير الماركسية) .(15/123)
إن هذه التيارات السياسية والاجتماعية والعقائدية راجت وانتشرت في المجتمعات الإسلامية وكان لها آثار ونتائج خطيرة وعميقة في حاضر العالم الإسلامي ومستقبلة وفيما يلي أهم هذه النتائج:
أولاً: أن هذه المذاهب والتيارات تأثر بها فريق من الجيل الماضي والحاضر من الشعب في كل بلد إسلامي وكونت على أساسها أحزاب سياسية وأصبحت في بعض البلدان مذهب الدولة الرسمي والفعلي ووصل المتمذهبون بها إلى مراكز الحكم والقيادة.
ثانياً: اختلفت البلاد الإسلامية في الأخذ بهذه المذاهب فاتخذت بعضها الاشتراكية وبعضها الشيوعية وبعضها القومية وبعضها العلمانية وبعضها الإسلام صراحة أو ضمنا فكان سببا في الاختلاف العقائدي للدول الإسلامية.
ثالثاً: وقفت هذه المذاهب بعضها موقف المعارضة للإسلام كالشيوعية وبعضها موقف الحد من الإسلام وحصره في نطاق محدود ضيق كالقومية والديمقراطية العلمانية، وحتى الوطنية. وتكاد تكون كلها معارضة للإسلام في جانبه السياسي وباعتباره عامل وحدة بين المسلمين تشريعا وثقافة وحكما فهي على أحسن الأحوال تعتبره (تراثا) قوميا أو إنسانيا وتحصره في نطاق العبادات والمواسم و (التقاليد) .
رابعاً: تتعاطف كل دولة إسلامية مع الدول التي تدين بمذهبها ولو كانت غير مسلمة وتتنكر للدول التي تدين بمذهب مغاير لمذهبها ولو كان شعبها مسلما أو كانت هي مسلمة ويظهر ذلك في التقاء الأحزاب الاشتراكية (غير الشيوعية) أو الأحزاب الشيوعية في مؤتمرات عمل أو في زيارات ودية. وكذلك في لقاء الحكومات التي تدين بمذهب مشترك من هذه المذاهب. ولا شك أن في ذلك طعنة للإسلام يراد بها القضاء عليه وتفتيتا للوحدة بين المسلمين سواء في ذلك وحدة الشعوب أم وحدة الدول وصدا عن السير في طريق الوصول إليها.(15/124)
خامساً: أن هذه المذاهب والتيارات تتعارض تعارضا كليا أو جزئيا مع الإسلام ويكون المنتمون إليها في داخل الشعوب الإسلامية تيارات معارضة للكيان الإسلامي ولجماهير المسلمين ولكل حركة إسلامية، ويوجدون بذلك تصدعا في الوحدة والانسجام المتحققين بين الشعوب المسلمة وفي داخل كل شعب منها.
سادساً: لم يقتصر التأثر بهذه التيارات المستوردة والعقائديات المعارضة للإسلام على فئة خاصة من حكام ومثقفين وقادة أحزاب بل تأثر بها فريق من الشعب في كل بلد وأن تكن الجمهرة الكبرى من الشعب في كل بلد باقية على موالاة الإسلام بحسب فهمها له. وبذلك حصل شيء من التصدع الداخلي الذي أخل بوحدة الشعب في كل بلد ووحدة الشعوب الإسلامية كذلك.
الأقليات الدينية والقومية:
حينما كان الإسلام هو المهيمن على الحكم والعلاقات الاجتماعية قبل العصر الأخير كانت الأقليات الدينية غير الإسلامية والمنشقة عن جمهرة المسلمين بمذهب خاص انفصلت به عن الجماعة قد كيفت وضعها الخاص تكيفا لا يدع مجالا لمشكلة اجتماعية ولا لشكوى إلا كانت عارضة فلما ظهرت التيارات المذهبية الحديثة وجدت هذه الأقليات طريقا جديدا لتغير وضعها والمشاركة مع المنتمين إلى هذه التيارات من المسلمين أنفسهم لتحقيق رغبة نفسية لديها وهي إزالة حكم الإسلام وإقصاؤه عن مجال الحكم والتشريع متذرعة بالفكرة الوطنية الديمقراطية العلمانية أو القومية أو الاشتراكية، فأوجد هذا الوضع مضاعفات وتعقيدات ومنازعات مؤسفة في عدد من البلاد الإسلامية.
أما الأقليات القومية فكانت منسجمة مع القومية التي تعيش معها حينما كان الإسلام أساسا للحكم والعلاقات الاجتماعية وإنما برزت المشكلة حتى تكونت الدولة الحديثة _ في البلاد الإسلامية_ على أساس قومي فكان رد الفعل الطبيعي مطالبة هذه الأقليات بحقوقها القومية من تكوين دولة أو استقلال ذاتي ولغة خاصة ومشاركة في الحكم وما إلى ذلك.(15/125)
بعد استعراضنا لواقع العالم الإسلامي المعاصر وما ظهر من ظاهرات انتقصت من الوحدة بين الشعوب الإسلامية وعوامل أثرت فيها وأحدثت فيها انقساما وتصدعا وتشبعا، لابد لنا من إثبات ملاحظة هامة. ذلك أنه بالرغم من العوامل التي انتقصت الوحدة وأضعفتها فإنه لا تزال كثير من جوانب الاشتراك وأسس الوحدة قائمة في كل شعب وبين الشعوب الإسلامية.
لا يزال الشعور الشعبي الإسلامي قويا عميق الجذور وهو شعور بالانتماء إلى الإسلام والإيمان به وشعور بالوحدة بين المسلمين ولا يزال هذا الشعور أقوى من أي شعور آخر يقابله مما تولد من التيارات المذهبية الحديثة.
ولا تزال وحدة المظاهر الدينية في العبادات وشعائرها والأعياد والمواسم والعادات ذات أثر كبير في النفوس ولا تقل عن ذلك ذكرى ماضي الإسلام وتاريخه في الوعي الشعبي.
ونضيف إلى هذه الجوانب ظاهرة جديدة آخذة بالقوة والاتساع والعمق وهي ظاهرة العودة إلى الإسلام دراسة وإطلاعا وإحياء لتراثه ومصادرة والتزاما لأحكامه ومطالبة بتنفيذه في مجال التشريع والاقتصاد والحكم حتى أن الحكام أخذوا يشعرون بالضغط الشعبي القوي للعودة إلى الإسلام مما يضطرهم للمسايرة أو المجاملة.
إتماما للصورة التي رسمناها للعالم الإسلامي والعوامل المؤثرة في وحدته وانقسامه، وانسجامه أو تنافره، يجب أن نضيف أن هذه العوامل لا تتفاعل مستقلة بمعزل عن المؤثرات الخارجية. فإن القوى الخارجية والدول غير الإسلامية ذات مصلحة في هذا الموضوع ولها فيه اهتمام بالغ. ولذلك فهي تحاول التأثير في كل واحد من هذه العوامل لتقويته أو إضعافه حسب مخططها.(15/126)
إن للدول الأجنبية مصلحة في بقاء الدول الإسلامية التي تتعامل معها اقتصاديا وتسير في فلكها سياسيا مستمرة، وقد كان ذلك يجري في العصر الماضي بقوة الجيش والسلاح ولكنه أصبح يتم في العصر الحاضر بطريقة أخرى سليمة وهي التوافق في العقيدة والفكرة والنظم. ولذلك فهي تحرص على الدعاية لمذهبها العقائدي وثقافتها ونظمها التربوية حرصها على ترويج بضاعتها وصناعتها وخبرتها الفنية.
ومن هنا يأتي إمداد المذاهب العقائدية الحديثة والتعاون مع الحكام السائرين في الاتجاه المناسب لهذه المصالح والعقائد والعاملين على ترويجها وهذه هي الطريقة السليمة غير المباشرة التي تنتج إقصاء الإسلام وإبعاد الوحدة الإسلامية والإبقاء على هذا النوع من الارتباط.
ليست الدول الأجنبية غير الإسلامية وحدها صاحبة المصلحة في ذلك بل يضاف إليها قوى خارجية وعالمية أخرى كالشركات الكبرى والصهيونية العالمية وجميع مراكز السلطات العليا للأديان المنافسة للإسلام.
ولهذه الأسباب كانت الدعوة إلى أي عقائدي أو اجتماعي سياسي معارض أو منافس للإسلام كالقومية والشيوعية والاشتراكية _كمذهب شامل مرتبطة ارتباطا قويا بالدول الأجنبية والقوى العالمية تشجعها وتمدها وتدعمها وتستميت في هذا السبيل لإقصاء ظهور الأمة الإسلامية والدولة الإسلامية والوحدة الإسلامية. كما أنها تعادي وتقاتل كل حركة أو دعوة هدفها بعث الإسلام وإحياؤه وتوحيد الشعوب على أساسه وتبذل كل ما في وسعها لقتلها وإبادتها وتدفع جميع المؤتمرين بأمرها والمتعاونين معها من حكام ومثقفين وكتاب للقضاء عليها. وقد تعمل على تشجيع الطعن فيها وتكوين حركات مريضة باسم الإسلام لصرف المسلمين عن الإسلام الحقيقي الذي يهدف إلى وحدة المسلمين والقيام على أساس الإسلام.
طريقة الوحدة وإزالة العقبات:(15/127)
إن عوامل تغيير واقع العالم الإسلامي التي يمكن أن تنقله من الاختلاف والانقسام إلى الوحدة والانسجام بعضها بيد الحكومات وبعضها مشاع ومتاح للشعوب نفسها وبالتالي يمكن أن يسعى في تحريكه الأفراد والهيئات والجماعات فتغير نظم التربية والتعليم ونظم التشريع والاقتصاد وخطط السياسة الداخلية والخارجية هي بيد الحكومات. فما السبيل لجعل هذه الحكومات تتحرك وتعمل في هذا الاتجاه؟
لا شك أن البداية والانطلاق إذا حصل منها أو من بعضها فهو المطلوب وإن لم يحصل فلابد من الرجوع إلى وسيلة لتحريكها ودفعها.
إن الوسيلة لتحريكها ودفعها هي مطالبة الأفراد والجماعات والهيئات الإسلامية لها وتوليد الرأي العام الإسلامي الشعبي في جميع البلدان الإسلامية للضغط على الحكومات وإنما يقوم بتوليد الرأي العام الشعبي وتغذية الوعي العام المؤمن بالفكرة المتصفة بالوعي والعاملة المجاهدة في سبيلها عن فقه وبصيرة؟
ولهذا نكتفي ببيان العوامل المؤثرة تاركين تحديد الجهة التي ستباشرها.
1 _ توليد رأي إسلامي عام قوامه:
1 _ الانتماء المبدئي الأعلى والأهم هو الانتماء إلى الإسلام: دينا ومبدأ ونظاما.
2 _ الانتماء الاجتماعي الأعلى والأهم هو الانتماء إلى الأمة الإسلامية أو جماعة المسلمين والوطن الإسلامي وأن من المهم جدا وضوح هاتين الفكرتين وقوتهما وقوة عرضهما وحسن التعبير عنهما بالطرق الناجحة وبشتى الأساليب التي تؤكدهما وترسخ جذورهما وتكوين وعي شعبي قوي وتغذيته باستمرار حتى يكون قوة اجتماعية ذات تأثير وضغط تجاه الحكومات والهيئات والأفراد ولتوليد هذا الرأي العام الشعبي القوي الواعي وسائل كثيرة نقترح منها ما يلي:(15/128)
أ _ نشر البحوث الموضحة والعارضة للإسلام بوصفه مبدأ كليا ونظاما عقائديا شاملا (ودينا كاملا) . والتذكير بهذه الفكرة الأساسية حتى في الأبحاث الجزئية والخاصة وكذلك الإلحاح في عرض فكرة (الأمة الإسلامية) وما يتفرع عنها من دار الإسلام أو الوطن الإسلامي ومنطقة الثقافة الإسلامية والحضارة الإسلامية والمجتمع الإسلامي وما إلى ذلك.
ويكون هذا النشر في كتب ومقالات ومحاضرات وندوات ومؤتمرات مع العناية بتحديد مواصفات الكتاب الإسلامي الجيد والعناية بإبراز الكتب الجيدة والتنويه بها حتى لا تضيع في خضم الكتب العادية والقليلة الجدوى.
ب _ تدريس الثقافة الإسلامية المكونة من المحورين الأساسيين الإسلام والأمة الإسلامية أو المجتمع الإسلامي في التعليم الثانوي والجامعي في جميع فروعه والعناية بإبراز فكرة (العالم الإسلامي) بوصفه عالما متميزا مشتركا بين الشعوب المسلمة وتدريس جغرافيته في الجغرافية واقتصادياته في الاقتصاد والعمل على تعميم ذلك في البلدان الإسلامية في جميع الجامعات والمدارس ولاسيما أن عدداً من الجامعات في السعودية والسودان قد أقرت ذلك.
ج _ توجيه طلاب الدراسات العليا إلى الموضوعات التي تخدم مبدأ الوحدة وتوضحه والتي تفصل جوانبه وتعمق أفكاره.
2 _ الدعوة إلى مؤتمرات للدول الإسلامية واقتراح ذلك والمطالبة به والسعي لتحقيقه ولاسيما في المجالات التالية:
أ _ التربية والتعليم (في جميع المراحل) التنسيق بين المناهج، توحيد مناهج بعض المواد، توحيد أنظمة التعليم، توحيد مادة الثقافة الإسلامية، وإقرار تدريسها، وسائل تعميم اللغة العربية بوصفها اللغة المشتركة للثقافة الإسلامية ولغة القرآن.
ب _ التشريع: التنسيق بين القوانين وتوحيد ما يمكن توحيده (للقانون المدني والتجاري والجنائي والأحوال الشخصية وغيرها) .
ج _ الاقتصاد:(15/129)
تنسيق نظم وقوانين الاقتصاد والتجارة والجمارك وتوحيد ما يمكن توحيده منها، التنسيق بين اقتصاديات البلدان الإسلامية لإيجاد سوق مشتركة واقتصاد متكامل.
د _ السياسة الداخلية:
لتسهيل الانتقال بين البلدان الإسلامية وإعطاء الأولوية في العمل والتعاقد والإقامة.
هـ _ السياسة الخارجية: التنسيق الكامل.
و_ الدفاع: توحيد المصطلحات والشعارات وأنواع السلاح والتخطيط للتكامل في صنع السلاح.
ز _ تكوين منظمة للدول الإسلامية تمهيدا لإقامة اتحاد (confederation) ثم دولة متحدة federation))
3 _ التخطيط للتحرر من التيارات المذهبية والاجتماعية السياسية المعارضة أو المخالفة للإسلام ويمكن اقتراح ما يأتي:
أ _ احتواء ما يمكن احتواءه من المذاهب العقائدية الأخرى. مثال ذلك بالنسبة للدعوة القومية: إظهار دور كل شعب من الشعوب الإسلامية في التاريخ والحضارة الإسلاميين ليكون في ذلك إشباع للعواطف القومية وتحويلها نحو الإسلام _ وإبراز مبدأ العدالة في الإسلام في مختلف المجالات ولاسيما التشريع لتحويل الميول الاشتراكية ذات البواعث السليمة إلى الوجهة الإسلامية ثم صياغتها صياغة إسلامية متميزة عن المذاهب الاشتراكية المختلفة.
ب _ وأما الجوانب التي تعارض الإسلام من هذه المذاهب فيجب معارضتها بإبراز المبادئ والأفكار الإسلامية المقابلة لها بطريقة إيجابية قوية كبيان مبدأ الإسلام في التعاون بين القوميات على أسس إنسانية وفي اتجاه أهداف إنسانية في مقابل الاستعلاء القومي المؤدي إلى التنافر والصراع والحرب والاستعمار ويمكن للهيئات الفكرية المخصصة وللمفكرين المسلمين القيام بهذه العمليات والتعاون على ذلك والتخطيط وتبادل الرأي فيه.(15/130)
ج _ التخفيف من حدة الخلافات بين الطوائف أو الفرق المسلمة وتطويقها تمهيدا لإزالتها أولا لاعتبارها غير ذات شأن في الوحدة وذلك عن طريق أبحاث هادفة ومثال ذلك قضية الخلافة والإمامة بين الشيعة والسنة وما يتفرع عنها. والعمل كذلك لإيجاد صعيد مشترك سليم الأسس لالتقاء الاتجاهات المختلفة بين المسلمين بوجه عام وفي مقابل ذلك إبراز الأفكار المخالفة لأسس الإسلام والتي تقوم بها فرق تنتمي في أصلها التاريخي إلى الإسلام. ولكنها انفصلت عنه بسببها لئلا تكون المجاملة على حساب الإسلام مع تذكير المنتمين إلى هذه الفرق بالأصل الذي ابتعدوا عنه وخرجوا عليه. كما هي الحال في الدروز والبهائية والقاديانية وأمثالهم.
إن مهمة الجمعيات والهيئات الإسلامية والمفكرين المسلمين والمجلات التي تصدر عنهم كبيرة جدا. إذ عليهم الدعوة إلى الوحدة وتوضيحها وبسط أفكارها وتغذية الشعوب بها. والتذكير بها ومطالبة الحكومات بتحقيقها وعقد المؤتمرات لكل ما يخدمها ويقويها ويؤدي إليها، وإشاعة الأفكار التي توضحها وتصحيح الأخطاء السابقة في شأنها ونشر التعابير والشعارات التي تدل عليها والتي ترد ما يعارضها من التعابير والشعارات التي روجتها وأشاعتها المبادئ والمذاهب المعارضة للإسلام تزينا لها.
أعتقد أن عوامل التغيير سائرة في اتجاه الوحدة بين المسلمين أفرادا وشعوبا وحكومات على ما في الطريق من معوقات فعلى من تقع عليهم التبعة من أولي القوة العلمية والسياسية أو المالية أو الخبرة أن يكونوا عناصر إيجابية للإسراع وتسديد الخطى نحو الهدف وإزالة المعوقات والبناء بتقديم ما لديهم من إمكانيات وقدرة، والله سبحانه هو الموفق والمعين والهادي إلى سبيل الرشاد.(15/131)
حضارة الإسلام دعامة أساسية في الحضارة الأوربية
لفضيلة الشيخ محمد أحمد أبو النصر
إن الحضارة الإنسانية ليست إلا محصلة الجهد البشري في كل معارف الحياة من الفلسفة.. والقانون.. والتشريع.. ونظام المجتمع.. وأخلاقه وسلوكه.. وقيمه.
وبهذا يعتبر الإسلام دين حضارة ومصدراً أساسياً في حضارة العالم فقد أدى رسالته العالمية ومازال يؤدي وسيظل مصدر إشعاع نوراني على كوكبنا الأرضي لتوجيه البشرية في مجالات الإنتاج المختلفة.. إنتاجاً مشعاً صافياً.. بل إن كل ما ينعم به إنسان اليوم في سلم الحضارة مادية وآلية تعود إلى فكر الإنسان المسلم منذ العصور الوسيطة وإلى تجاربه وعلومه وتوجيهها نحو خدمة الإنسان وحضارته في معراج الكمال الإنساني المنشود.
وإذن فهناك رابط أصيل بين الحضارة المادية والحضارة الصناعية من جهة والحضارة الإنسانية والبشرية في الفكر والوجدان والإرادة من جانب آخر.. وإذا كان الدين منبعاً للحضارة البشرية والعلم أساس الحضارة المادية، فالدين والعلم متلازمان، ولا غنى عنهما للإنسان في بناء حضارته والاستفادة من هذا النبع. وهناك نظرة غير عادلة تفصل العلم عن الدين، وتعطي العلم قيمة أرفع من الدين وهذا خطأ واضح في فهم طبيعة الإنسان وتصوره.(15/132)
فهي تنظر إلى جانب مضيء بالعين المجردة دون بقية الجوانب الأخرى الخفية من حيث فكره ووجدانه.. وإرادته الحرة، وإذ قيل في شأن الإسلام بعد ذلك أنه دين غير حضاري أو أنه لا يتفق مع الحضارة الإنسانية _ فذلك قول يصور الحضارة بأنها ظواهر السلوك التي تسيطر على المجتمعات الأوربية الآن _ أو يصور الإسلام على أنه حاضر المسلمين وسلوكهم في فترات زمنية.. وهذا التصور أو ذاك يحمل معنى الإجحاف والتعسف بمعنى الحضارة، وينطوي على ظلم شديد في الحكم على الإسلام. لأن ظواهر السلوك في المجتمعات الأوربية ليست دائما ترجمة للحضارة الإنسانية بمعناها الصحيح.. وهو النضوج في الفكر البشري والعواطف والوجدان.. وسلوك المنتسبين إلى الإسلام كثيراً ما يبتعد عن تطبيق التعاليم الإسلامية، وجوهر الدين الحنيف.
وأصحاب الهوى والغرض الذين يحكمون على الإسلام أنه كان لفترة مضت ولم يعد صالحا للإسهام في بنائها أو تنميتها. لا ينصفون الإسلام. وأني لهم النَّصفة؟!.. لا ينصفون الإسلام لأنه كما رأينا مصدر رئيسي في بناء الحضارة الإنسانية وغرضهم واضح كل الوضوح في العمل على إبعاد العرب عن أمجادهم وتاريخهم الأصيل، وقطع صلتهم بالقيم الروحية وبالرسالة التي حملوها ونشروا نورها بين البشرية وأسسوا بها حضارة عربية إسلامية أسهمت، ومازالت تسهم حتى عصرنا هذا في بناء الأمم والحضارات المعاصرة. حتى إذا ما تأثر العرب المعاصرون بهذا الرأي سهلت قيادتهم لغيرهم، وتحولوا إلى تابعين ومقلدين في الفكر والتوجيه ومظاهر الإنسانية.
إن الحضارة الإسلامية والسلوك الإسلامي لم يكونا من صنع أحد من البشر، وإنما هما وحي الله الذي تنزل على سيد البشر محمد _ صلى الله عليه وسلم _ وأصبح يملأ أرجاء الدنيا نورا وعلما وسلوكا، وسوف يظل يشع نوره باقيا ما بقي الإنسان.(15/133)
إننا نؤمن إيمانا لا يتطرق إليه الشك أن الشعوب الحية إنما تفكر بماضيها، وترتكز في حاضرها على كثير من مقومات أمجاده تستوحي منه مواقفها، وتستلهم منه مستقبلها فإن هي فقدت الثقة في ماضيها وتزعزع إيمانها بقدرة آبائها الأوائل ومؤسسي مجدها فقدت ولا شك أول مقوم من مقومات وجودها الحي ألا وهو شخصيتها.
وإن أي أمة تفقد شخصيتها أمة ضائعة منهزمة لا محالة.
وإن الهدف الأسمى لكل داع أن يوقظ في نفوس أبناء الجيل الجديد تلك الروح الجبارة التي دفعت الآباء والأجداد إلى الأخذ بكل أسباب القوة والعزة..
إن الشعوب لا تموت، وإنما تكمن قدراتها وتستكين تحت الظروف التي تمر بها. فإن هي عادت إلى مثل الظروف الأولى التي انطلقت منها قدراتها الحقيقية هبَّت من رقادها وسلكت ولا شك سبيل الحق والعزة والقوة مرة أخرى.
إن الهدف الأول من بحوث الباحثين وآراء المصلحين في كل موقع إسلامي.. هو العمل من أجل تغيير واقع الفكر المضلل الذي أوجده الاستشراق في حنايا هوة الفراغ الفكري وداخل أدمغة شبابنا ومفكرينا ومن بيدهم مقاليد أمورنا. وساعدهم على ذلك هذا العدو المتدثر بدثار الإعلام الساحر بكلمته المؤثرة وصورته الداعرة ونبض شعوره السام.
ولا أعتقد أننا بمستطيعين تغيير هذا الواقع الذي نعيشه اليوم إلى واقع أنضر وأشرق.. إلا إذا غيرنا تغييراً جذريا تلك المفاهيم المدمرة التي أرساها في نفوسنا ذلك النفر من الضالين والمضللين من أبناء الاستشراق أو الاستغراب أو الذين نقلوا مفاهيمهم وأفكاره بحسن نية أو سوء نية.
ولا سبيل أمامنا _نحن أبناء هذا الدين السماوي_ إزاء كل هذه القوى الجبارة العاتية التي تحاربنا من الخارج ومن الداخل إلا أن نعمل جاهدين على إحياء تلك القوة الكامنة في نفوسنا.. قوة الماضي بكل عناصرها.(15/134)
فإن بين أيدينا المنهج الكامل، والدستور القائم أبد الدهر، وإن أي خروج عليه أو انحراف عنه، يفسد علينا حياتنا {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الأنعام: 153.
ولا يخطرن في البال، أن المنهج الرباني الذي رسمه الله لنا، قد ألزمنا أن نكون آلات صماء، أو دمى تحركها الخيوط بحيث تلغى العقول والأفهام، فإن أمراً كهذا لا يكون من تدبير رب العالمين، الذي منح الإنسان عقلا ودعاه إلى النظر به في ملكوت السماوات والأرض، وجعل لهذا العقل مكانه وسلطانه في كيان الإنسان. يتعرف به الهدى من الضلال، ويميز به الطيب من الخبيث، والخير من الشر، والنور من الظلام.
ولقد رفع الإسلام من شأن العقل، ولفت ذوي العقول إلى عقولهم، ودعاهم إلى الانفتاح على موارد العلم والمعرفة.
وما حرم الإسلام ((الخمر)) إلا لأنها عدو راصد للعقل يغتاله، ويفسده، فلا يتمكن من التمييز بين خير وشر.. وهذا ما يشير إليه ربُّنا {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .. إنه لا فلاح أبداً لمن ضل عنه عقله، وغاب عنه وعيه.
العقل إذن هو عين الإنسان المفتوحة على هذا الوجود يتعرف بها إلى حقائق الكون، وسر الوجود، وعظمة الخالق، ويتهدَّي بها إلى الله، ويتعامل بها مع شرعة الوجود..
فهل بعد هذا يقال إن الإسلام الذي جعله الله تعالى جامعة رسالاته، والمصاحب للإنسانية على مدى الأزمان _ هل يعقل أن يخلي مكان العقل من هذا الدين؟ وكيف يكون حجة الله على الناس، إن لم تكن بين أيديهم الشواهد الشاهدة على أن هذا الدين هو دين الله، وأن هذا الكتاب هو كتاب الله، وأن الرسول الذي جاءهم به هو رسول الله؟ إنه لا سبيل إلى شيء من هذا إلا بالعقل السليم. القائم على النظر والاستدلال.(15/135)
فمن زايله عقله، أو فارقه وعيه، فلا سبيل له إلى الإسلام والله يقول: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} وبأي وسيلة يكون تدبر آيات الله إن لم يكن العقل حاضرا أو قائما في كيان الإنسان؟!
يقول الإمام الغزالي: (اعلم أن العقل لا يهتدي إلا بالشرع، والشرع لم يتبين إلا بالعقل.. فالعقل كالأس والشرع كالبناء، ولن يغني أس ما لم يكن بناء، ولن يثبت بناء ما لم يكن أس؟ وأيضا، فالعقل كالبصر والشرع كالشعاع، ولن يغني البصر ما لم يكن شعاع من خارج، ولن يغنى الشعاع، ما لم يكن بصر، ولهذا قال الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ} .
وليس من سبب جعلنا نتخلف عن هذا الركب الحضاري، ونتقاعس عن دفع تلك العجلة غير عوامل خارجية ألمت بعالمنا العربي، فأخمدت فينا شعلة المدنية، وأول هذه العوامل والأسباب ظلم أصابنا وبطش ألم بنا، وعنف أذل رقابنا في عهود خلت، ثم دعايات عبقرية مغرضة، وأدب وصحافة انحرفا في كثير من الحيان عن سواء السبيل، وعجزا عن تكوين رأي عام موحد قوي يستطيع مواجهة القوى المعادية في قالب من الوحدة الفكرية الصامدة.
ومن هنا تقاعسنا واهزمنا خلقيا ونفسيا، وأظلمت في نفوسنا منابع الحب والعدل والحق والحرية، وطغى على وجه هذا المجتمع الباسل العظيم روح الانهزامية والضعف والاستكانة وإذن ينبغي لنا أولاً: أن نتخلص نهائيا من جميع الأوهام والأضاليل والأكاذيب التي أشاعتها أوربا عنا وعن حضارتنا كذبا وبهتانا، ورددها للأسف جماعة من مفكرينا، سواء المأجور منهم أو الشعوبي أو الذين شرقوا وغربوا؟! فبلبلت الأفكار، ومزقت الأقطار.(15/136)
وإنني إذ أمسك القلم، وأسجل خواطري.. لأشعر من أعماقي بهوة الكارثة التي ألمت بعالمنا الإسلامي نتيجة الحملة المسعورة التي قامت بها الصليبية من قلب أوربا على العالم الإسلامي.
لقد اهتزت شخصية المسلم بسبب ذلك اهتزاز من الأعماق.. وإن أي أمة تهتز شخصيتها وتفقد الثقة في نفسها، أمة ضائعة منهزمة لا محالة.. إن أملنا في الجيل الجديد أمل بلا حدود.. وإن تفاؤلنا بما يمكن أن تحققه الأجيال العربية الإسلامية القادمة تفاؤل نبنيه على مقدمات تاريخية ثابتة الأصول.. سوف تنتصر الأجيال القادمة بعون الله إذا آمن أبناؤها بقدرتهم على التفوق والاستعلاء وعملوا على إحياء ما يمكن في نفوسهم من حب للخير والعدل والحكمة، وجهدوا لتحقيق ما تنطوي عليه عقولهم من قدرة على الإبداع والتجديد.(15/137)
إن المسلمين قاموا في الماضي بدور من أمجد أدوار التاريخ الإنساني.. وإنهم لأهل لأن يقوموا بمثله مرة أخرى. والخلاصة أن العلماء العرب في عصور الإسلام الزاهية، قاموا بدورهم الطليعي خير قيام في بناء النهضة العلمية العالمية، فقد نقلوا التراث الإغريقي وغيره من ألوان التراث العلمي الذي تقدم عليهم في التاريخ.. نقلوه إلى اللغة العربية التي كانت لغة العلم في العصور الوسيطة فعلى امتداد الدولة العربية الإسلامية من مشارف الصين شرقا إلى حدود فرنسا وجنوب إيطاليا غربا.. كان كل من أراد أن يكتب علما يقرؤه الناس لجأ إلى لغة القرآن الكريم، فكتب وألف بها، وظلت كتبهم في العلوم الطبيعية المراجع المعتمدة في جامعات أوربا حتى أواخر القرن السابع عشر حيث ترجمت إلى اللغات اللاتينية وما إن عرفت الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر، حتى طبعت هذه الكتب عدة مرات، وشهد كثيرون من مؤرخي العلم من أمثال سارتون، وهولمبارد، وسميث، وكاجوري. وغيرهم بأنه لولا تراث العلماء العرب، لاضطر علماء النهضة الأوربية إلى أن يبدءوا من حيث بدأ هؤلاء. ولتأخر سير المدنية عدة قرون. وقال بعضهم إنه كان لابد من وجود ابن الهيثم والخازن والكندي وابن سيناء والفارابي والبيروني والخوارزمي، لكي يظهر جاليليو وكيلر ونيوتن وكوبر نيق.
ويدلنا تتبع الفكر العلمي على مر العصور.. كيف أثر العلماء العرب في النهضة الأوربية. وكيف تأثر علماء أوربا بأعمال العلماء العرب فقد ثبت مثلا أثر العرب في ابتكار نظام الترقيم والصفر والنظام العشري. وكيف عرف ابن النفيس الدورة الدموية الصغرى قبل هارفي بثلاثة قرون.(15/138)
وكيف قال الأدريسي وابن حزم والخازن بالجاذبية قبل نيوتن بقرون متطاولة.. بل كيف ربط الخازن بين الثقل والسرعة والمسافة مما جعل كثيراً من المحققين يقولون إن صاحب كتاب "ميزان الحكمة"أي الخازن كان يعرف هذه العلاقة التي وضعها نيوتن على هيئة قوانين ومعادلات. وكيف أجرى ابن الهيثم من التجارب لقياس سرعة الضوء، وتقدير زوايا الانعكاس والانكسار وبحوثه في البصريات.
وكيف قاس فلكيو العرب أبعاد الأجرام السماوية وكيف ابتكروا الألآت الفلكية.
وعرفنا أن ابن ماجد الملاح العربي. كان ربان سفينة.. فاسكودي جاما. في رحلاته الاستكشافية في أعالي البحار. وأن جابر ابن حيان هو أول من أسس علم الكيمياء على دعائم قوية وخلصه من التشويه والاضطراب فنقله من صورته المشوبه بالشعوذة والسحر، إلى علم له قواعده وتجاربه وأصوله. حتى قال عنه ((سارتون)) بحق.. إن علماء العصر الحالي لم يقدروا أن هذه أعمال رجل عاش في القرن الثاني للهجرة.. لوفرة ما بها من مادة علمية صحيحة، وشهد له بذلك ((هولمبارد)) العالم الكيميائي المعاصر.
ويدلنا هذا العرض لتطور الفكر العلمي على أن العرب كانوا بحق واسطة العقد. تأثروا بعلماء العصر الإغريقي، وعلماء العصر الإسكندري ولكنهم أثروا بدورهم في علماء النهضة الأوربية.
وإلى حلقة قادمة عن شاء الله.(15/139)
آراءٌ في البحث
لفضيلة الشيخ عبد الرءوف اللبدي
تلميذي العزيز:
وعدتك في رسالة سلفت أن أحدثك كيف تكون باحثا، وهاأنذا اليوم منجز ما كنت قد وعدتك، لقد عرفتك من هذه الفئة التي تجد في دراسة العلم لذة لا تنقضي، وتحس في قراءة الأدب متعة ما لها من نفاد، ولهذا أراني حريصا أن أكتب إليك هذه الرسالة، حفيا أن أسوق إليك هذا الحديث.
1 _ اختيار موضوع البحث
أول خطوة على دروب البحث _ يا تلميذي العزيز _ أن تختار موضوعك وعنوان بحثك. واختيار الموضوع من أصعب الأمور في كتابة البحوث وفي تأليف الرسائل. لأن لهذا الاختيار حقوقا كثيرة يجب أن ترعاها حق الرعاية، وأن تقوم لها خير القيام.
فمن حقه عليك أن يكون موضوع بحثك متصلا تمام الاتصال بميدان دراستك ومادة تخصصك، وأن يكون مما تتوق إليه نفسك ويهواه الفؤاد.
وينبغي أن يكون موضوع بحثك من اختيارك أنت لا من اختيار غيرك، وأن يكون ناشئا عن قراءاتك الكثيرة وإطلاعك الواسع. على أنه لا ضير في أن تتقبل موضوعا يعرضه عليك أستاذك إذا لاقى هوى نفسك، وكان واضح الرؤية أمام عينيك، تستطيع أنت أن ترى أبعاده بوضوح، وأن تضع خطوطه العريضة بدقة، وأن توفيه حقه من الدراسة والبحث.
ومن الخطأ أن تكتب في موضوع يفرض عليك فرضاً، لا تحس رغبة فيه، ولا ترى له صورة واضحة في ذهنك، حتى ولو كثرت مصادره ومراجعه، ورسم لك غيرك خطة العمل فيه.
ومن حق موضوعك أن يكون ذا سعة، ولكنها سعة ذات حدود يمكن الوقوف عندها وقد أخذ الموضوع حقه من البحث، وانتهى الباحث فيه إلى رأي.
أما إذا كان الموضوع ذا سعة لا يمكنك أن تلم بأطرافها، ولا تستطيع لها حصرا، ولا أن تصل فيه إلى غاية، فلا ينبغي لك أن تختاره، ولا ينبغي لك أن تكتب فيه.(15/140)
وكذلك من حقه ألا يكون ضيقا محدود الآفاق، ليس فيه من المسائل العلمية الرئيسية ولا من الفروع القيمة ما يكفي لأن يصل بالبحث إلى حده الأدنى وقدره المقبول.
وكذلك ينبغي ألا يكون الموضوع صعبا لا تستطيع له فهما ولا هضما، ولا تستطيع أن تكتب فيه للناس شيئا يؤثر ويذكر.
ومن أعظم حقوق موضوعك عليك أن تخرج فيه على الناس بجديد كأن يرى الناس فيه مشكلة أو مشكلات كانت تنتظر حلاًّ فتأتي لهم بذلك الحل، أو شيئا خفي على الناس أمره فتقوم أنت فتجلوه على حقيقته وتظهره نقيا مصفىّ. أو يرى الناس فيه مادة علمية كانت مبعثرة هنا وهناك على غير نظام وفي غير ترتيب، فجئت أنت فلملمت أطرافها المبعثرة، وضممت شعثها المتفرق، وأخرجتها للناس متكاملة الصورة متصلة الأطراف، منسقة الأبواب والفصول.
وعلى وجه الإجمال لابد أن يكون في موضوعك شيءٌ جديدٌ يجذب القارئ وينفع الناس ويمتع، لا أن يكون مجرد موضوع تنال به الدرجة العلمية ثم لا يهُمك بعد ذلك أن يعلوه الغبار، ويطويه النسيان ويعيش في ظلمات القبور.
2 _ إعداد الأوراق التي تجمع فيها المعلومات
تلميذي العزيز:
الخطوة الثانية على طريق البحث أن تُعِدَّ أوراقك التي تجمع فيها معلومات بحثك.
من الخطأ وضياع الجهد والوقت أن تكتب معلوماتك التي تعثر عليها في المراجع على أوراق مبعثرة لا تستطيع جمعها ولا الرجوع إليها كلما دعت الحاجة. وكذلك من الخطأ وضياع الجهد والوقت أن تكتب معلوماتك على صفحات متوالية في دفتر كبير مجلد، لأن ذلك سيأتي بمشاق كثيرة في المستقبل حين يأتي دور تنظيم المادة وتنسيقها وضم الحقائق ذات الموضوعات المتماثلة بعض إلى بعض.
ولذلك كان لابد من إتباع إحدى طرائق ثلاث:(15/141)
الطريقة الأولى طريقة الكراسات، وهي أن يحضر الباحث كراسات بعدد الفصول التي يقترحها لبحثه، ويخص كل كراسة بفصل من فصول ذلك البحث ينسخ فيها المعلومات والنصوص التي يعثر عليها في المراجع مما له علاقة بذلك الفصل، وينبغي أن تكون أوراق كل كراسة كافية لاستيعاب المعلومات المخصوصة بها.
وعيب هذه الطريقة أنها لا تستجيب لأي تغيير في تخطيط البحث، كنقل معلومات من فصل إلى فصل، أو إنشاء فصل جديد تكون معلوماته موزعة في الفصول الأخرى.
ولهذا كان الآخذون بهذه الطريقة قلة قليلة.
أما الطريقة الثانية فطريقة البطاقات:
والبطاقات أوراق صلبة سميكة لا يسرع إليها تمزق ولا تشقق، ثم هي ذات أحجام ثلاثة: حجم صغير مقاسه 8 × 13 سم (ثمانية في ثلاثة عشر سنتيمترا) وحجم متوسط مقاسه 11×15 سم (أحد عشر في خمسة عشر سنتيمترا) وحجم كبير مقاسه 15× 23 سم (خمسة عشر في ثلاثة وعشرين سنتيمترا) ومن الباحثين من يفضل الحجم الصغير لأنه من السهل أن يحمل في الجيب ويكون صالحا للاستعمال خارج البيت، غير أنه يعاب على هذا الحجم أنه لا يتسع لكتابة نصوص طويلة، فيضطر الباحث أحيانا إلى استعمال أكثر من بطاقة لنص واحد، وفي ذلك تكثير للبطاقات، والبطاقات الكثيرة تكلف الباحث عناء ومشقة في تنظيمها وترتيبها وفي مراجعة ما فيها من نصوص ومعلومات.
ولذلك يفضل كثير من الباحثين الحجم المتوسط، لأن بطاقته تتسع لكتابة نص كامل في كثير من الأحوال، وهي بهذا تقلل عدد البطاقات المستعملة، وفي هذه القلة يسر في التنظيم والترتيب والمراجعة.(15/142)
وعلى الباحث الذي يتبع طريقة البطاقات أن يحضر العدد الكافي منها، يشتريها من المكتبات، أو يصنعُها بيده إذا آنس من نفسه القدرة على ذلك، ثم يأتي بظروف قوية واسعة ويجعل لكل فصل أو فكرة رئيسية ظرفا خاصا، يضع فيه البطاقات التي تتعلق به، ويكتب على ظاهر كل ظرف موضوع البطاقات التي في داخله، فيكون من السهل دائما أن يضع كل بطاقة في مكانها، وأن يرجع إلى أي بطاقة في أي موضوع يريد.
وينبغي للباحث أن يرتب البطاقات التي في داخل كل ظرف على النحو الذي يراه مناسبا لدراسة ما فيها من المستقبل، ولعقد الموازنات والمقارنات بين ما تشتمل عليه من معلومات ونصوص.
أما الطريقة الثالثة فطريقة الإضبارة، والإضبارة معروفة، ولكنها ذات أشكال كثيرة وأحجامٍ مختلفة، والتي أريدها هنا هي ذات الحجم الكبير التي مقاسُها 28× 35 سم (ثمانية وعشرون في خمسة وثلاثين سنتيمترا) وعرض كعبها ثمانية سنتيمترات وفي داخلها حلقتان تفتحان وتغلقان بسهولة ولا يستعمل لها إلا الأوراق المثقوبة.
وبعد أن يضع الباحث في هذه الإضبارة قدرا كافيا من الأوراق يقسم هذه الأوراق أقساما بعدد الفصول التي بنى عليها بحثه، ثم يلصق لسانا بارزاً من الورق المقوى في الطرف الأعلى وفي جانب الأيسر للورقة الأولى من كل قسم، ويكتب على الجزء البارز من هذا اللسان عنوانَ الفصل المخصوص بهذا القسم من هذه الإضبارة.
ومما تمتاز به هذه الطريقة الثالثة أن الباحث يستطيع أن يضيف أوراقا جديدة في أي مكان من الإضبارة، وأنه يستطيع كذلك أن يَنقلَ الأوراق المشتملة على المعلومات والنصوص من فصل إلى فصل إذا بدا له ذلك.(15/143)
ومما تمتاز به هذه الطريقة أيضاً أن الفصولَ وأوراقها المشتملة على المعلومات تظل في داخل الإضبارة مرتبة منسقة على الصورة التي رسمها الباحث يمسكها من الداخل حلْقتان محكمتان، ويصونها من الخارج جداران قويان. على حين أن البطاقات في الطريقة الثانية عرضة للسقوط والضياع والاختلاط والفوضى.
وما تمتاز به أيضاً أنك تستطيع الرجوع إلى أي نص أو معلومات مكتوبة فيها دون عناء ودون إبطاء. وليس الأمر كذلك في طريقة البطاقات.
وتعطيك هذه الإضبارة _ زيادة على ما تقدم _ صورة كتاب تام تستطيع أن تنظر إليه نظرة شاملة فترى ما بين فصوله وأجزائه من تماسك وتناسق وتسلسل، أو تفكك وتنافر واضطراب، وفي ضوء هذه النظرة الشاملة نستطيع أن تقف الموقف الحق، فإما أن تبقي ما كان على ما كان، وإما أن تغير وتصلح.
وفي طريقة البطاقات لا تستطيع أن ترى هذه الصورة.
إضبارة المراجع
ومن الخير لك أن تعد إضبارة أخرى تسمى إضبارة المراجع، وهي غير الإضبارة السابقة التي تسمى إضبارة جمع المعلومات.
وإضبارة المراجع هذه كتلك في الحجم والتكوين واستعمال الأوراق المثقوبة، غير أن هذه لا تقسمها فصولا وأبوابا، ولكنك ترتب صفحاتها بالرقم العددي المسلسل، وتجعل في آخرها فهرسا يبين مكان كل مرجع في الإضبارة.
ولعلك تسأل وتقول: ماذا أكتب في إضبارة المراجع؟
تكتب فيها عن كل مرجع تقرؤه ما يلي:
1 _ اسم الكتاب واسم المؤلف كاملين.
2 _ اسم الناشر ومكان النشر ورقم الطبعة إذا أمكن ذلك.
3 _ عدد صفحات الكتاب وعدد أجزائه.
وإذا كان المرجع مجلة أو جريدة ذكرت اسم المجلة أو الجريدة ورقم الصفحة واسم الكتاب وتاريخ العدد ورقمه.(15/144)
وينبغي أن تضيف إلى البيانات السابقة عن كل مرجع تقرؤه كلمة موجزة تصف فيها قدر ما تستطيع موضوع المرجع وخصائصه، وأبرز نواحي القوة ونواحي الضعف فيه وتذكر أرقام صفحات الموضوعات التي تثير اهتمام الباحث والمراجع التي اعتمد عليها ذلك المرجعُ إن وجدت.
وبعد أن تكتب ذلك كله في إضبارة المراجع تسأل الأساتذة المختصين عن ذلك المرجع وترى رأيهم فيه وتضيفه إلى ما سبق.
وفي مسألة الأساتذة المختصين عن كل مرجع تقرؤه فوائد كثيرة:
منها أنها تزيدك معلومات جديدة عن المرجع.
ومنها أن ما يقوله الأساتذة يعدُّ نقدا وتقويما لما كتبته أنت عن ذلك المرجع.
والفائدة الثالثة أنك بما يقوله الأساتذة تزداد قدرة على النقد وقدرة على التعمق فيما تقرؤه من مراجع.
وأحب أن أقول لك قبل أن أودع إضبارة المراجع إنها ليست مقصورة على مراجع بحث معين، وإنما هي عامة تفتح صدرها مدى الحياة لكل مرجع تقرؤه، فهي صديقة عمرك كله.
والآن إلى الخطوة الثالثة
3 _ العثور على المراجع
والخطوة الثالثة على طريق البحث هي العثور على المراجع، وقبل العثور على المراجع أقول:
من الباحثين من يجعل الفرق قائما بين كلمة مصدر وكلمة مرجع، فإذا قلت في بحثك ورأي سيبويه في هذه المسألة كذا وكذا، وكنت قد نقلت ذلك من كتاب سيبويه فأنت حينئذ قد نقلت من مصدر، وإذا كنت قد نقلت رأي سيبويه من كتاب آخر قد نقلت حينئذ من مرجع.
ومن الباحثين من لا يرى فرقا بين كلمة مصدر وكلمة مرجع، وإنما يفرق بين المصادر والمراجع بالوصف، فنقل رأي لسيبويه من كتاب سيبويه نقل من مرجع أصلي ومصدر أصلي، ونقل رأي سيبويه من كتاب آخر نقل من مرجع فرعي ومصدر فرعي.(15/145)
وإذا قلت في بحثك: ورأي الشافعية في هذه المسألة كذا وكذا، فإذا كنت قد نقلت رأيهم من كتبهم المعتمدة فقد نقلت من مرجع أصلي ومصدر أصلي، وإذا كنت نقلت رأيهم من كتب المذاهب الأخرى فقد نقلت من مرجع فرعي ومصدر فرعي، وهكذا.
وينبغي للباحث أن يعتمد في معلوماته التي ينقلها، وفي آراء العلماء التي يسوقها، وفي غير ذلك مما ينقل، أن يعتمد على مراجعها الأصلية ما أمكنه ذلك، لأن المراجع الفرعية تنقل من غيرها، وهذا النقل عرضة للزيادة والنقص، وعرضة لأن يكون الناقل قد أساء الفهم أو أساء القصد.
وينبغي للباحث كذلك أن يقرأ الكلمات المطبوعة بشيء من الدقة والحذر، لأنه كثيراً ما تقع في الطباعة أخطاء تفسد المعنى وتوقعُ في اللبس.
بعد هذا قد تسأل وتقول: ولكن كيف أعثر على المراجع؟
للعثور على المراجع طرق كثيرة:
منها القراءات الخارجية للباحث وإطلاعه الواسع من قبل أيام كان طالبا في الكلية وفي الدراسات العليا وبعد التخرج، وهذا الطريق أفضل الطرق وأعلاها شأنا، وينبغي أن يكون طريق كل باحث.
ومنها أن يزور الباحث المكتبات العامة والخاصة، وأن يقرأ فهارسها التي تتصل بمادة بحثه، وأن يسائل المشرفين على هذه المكتبات ومن لهم إطلاع على ما فيها من مراجع وكتب.
ومنها أن يسأل رؤساء الأقسام في الجامعات وأساتذة المادة التي ينتمي إليها بحثه عما يعرفونه من مراجع أصلية.
ومنها الإطلاع على البحوث والرسائل السابقة التي تناولت موضوعات ذات صلة وثيقة ببحثه، وهذا الإطلاع سيفيدك إفادتين:
الأولى: أنك ترى طرق التصدي لمسائل العلم، وكيف تكون الخطط في بناء الرسائل وترتيب فصولها، وفي هذا ما يزيدك خبرة ويوسع آفاق تصورك لأعمال البحوث.
والثانية: أنك تطلع على قوائم المراجع التي اعتمدت عليها تلك البحوث وأغلب الظن أنه سيكون بين تلك المراجع كتب قيمة تصلح أن تكون أيضا مراجع لبحثك.(15/146)
4 _ كيف تقرأ المراجع
الخطوة الرابعة على طريق البحث كيف تقرأ المراجع:
ينبغي لك _ ولكل قارئ _ أن تجيد القراءة بعينيك دون أن تحرك لسانك وشفتيك، لأن القراءة بتحريك اللسان والشفة قراءة بطيئة جدا لا تجاوز مئة كلمة في الدقيقة إلا قليلا، على حين يستطيع القارئ الجيد المدرب أن يقرأ بعينيه دون لسانه وشفتيه ما يزيد على أربع مئة كلمة في الدقيقة الواحدة. وشتان ما بين القراءتين في الوقت والجهد.
وينبغي لك _ ولكل باحث _ أن تكون قارئا ناقدا تستطيع أن تتبين الفكرة الرئيسة في كل فقرة وفي كل فصل، وأن تتبين كذلك ما ينطوي تحت الفكرة الرئيسة من فروع ذات قيمة.
وينبغي لك إذا أردت أن تكون باحثا مجيدا أن تتقن قراءة المراجع، فلا تقرأ ما بين الدفتين كلمة كلمة وسطرا سطرا، وإنما تتبع الخطوات الأربع التالية:
الخطوة الأولى في قراءة المراجع أن تقرأ مقدمته، ففي هذه المقدمة يذكر المؤلف في أكثر الأحيان الغرض من تأليفه، ويعطي صورة مجملة عما جاء فيه، ويبين الطريقة التي اتبعها في تأليف الكتاب.
والخطوة الثانية في قراءة المرجع أن تنتقل من المقدمة إلى الفهرس، وفهارس كثير من الكتب الموسعة تذكر الموضوع الرئيسي وتذكر ما ينطوي تحته من مسائل فرعية. اقرأ الفهرس أكثر من مرة قراءة دقيقة واعية، وكلما مررت بمسألة تتصل ببحثك كتبتها حالا في مكان مخصوص بها في إضبارة المعلومات، وكتبت البيانات الدالة عليها من رقم الصفحة والجزء واسم الكتاب والمؤلف _ لتعود إليها فيما بعد فتقرأها بأناة ودقة، وإذا انتهيت من قراءة الفهرس وكتابة البيانات الدالة على ما فيه من مسائل تتصل ببحثك خطوت الخطوة الثالثة وهي قراءة التصفح.
وقراءة التصفح تعني أن تقلب أوراق الكتاب كلها ورقة ورقة، وأن تنظر إلى كل صفحة من صفحاته نظرة دقيقة حادة كنظرة الصقر الذي يطير سابحا في السماء ومع ذلك لا يخطئ فريسته التي تدب على وجه الأرض.(15/147)
وعليك في أثناء هذا التصفح أن تقرأ بعض الجمل والسطور هنا وهناك، وأن تقرأ بعض الفقر والفصول من حين إلى حين لتعرف أسلوب الكتاب ونهجه، وإذا رأيت في أثناء التصفح شيئا ذا بال يتصل ببحثك فأشر إلى ذلك في إضبارة جمع المعلومات كما فعلت في المسائل التي عثرت عليها في الفهرس، لتعود إليه فيما بعد فتقرأه على هينة وعناية.
وعلى كل حال فسوف تعود عليك قراءة التصفح بفائدتين:
الأولى: أنها تحدد لك المسائل والمعلومات التي تتصل ببحثك.
الثانية: أنها توفر جهدا ووقتا كانا سيضيعان في قراءات كثيرة ليس وراءها طائل ولا نائل.
وبعد قراءة التصفح تخطو خطوتك الرابعة في قراءة المراجع، فتعود إلى المسائل والنصوص والمعلومات التي عثرت عليها في فهرس المرجع وفي أثناء قراءة التصفح فتقرؤها بعناية وأناة كلمة كلمة وسطرا سطرا، وكلما انتهيت من قراءة شيء ورأيته جديرا بالنسخ نقلته إلى إضبارة جمع المعلومات في الفصل الذي تندرج تحته.
ولكن كيف تنقل المعلومات والنصوص التي عثرت عليها في المراجع؟
أتنقلها حرفا حرفا وكلمة كلمة، أم تنقلها بعد أن تلخصها بأسلوبك وتحذف ما لا غناء فيه لبحثك ولا خير يرجى من نقله؟
هذا شيء قد اختلف فيه الباحثون على ما ستراه في الخطوة التالية:
5 _ كيف تنقل المعلومات من المراجع
الخطوة الخامسة على طريق البحث يا تلميذي العزيز كيف تنقل المعلومات والمسائل التي تعثر عليها في المراجع؟
يرى فريق من الباحثين أن تنسخ المعلومات والمسائل كما وردت في مراجعها الأصلية حرفا حرفا وكلمة كلمة دون أن تبدل أو تحذف أو تزيد أو تلخص، وعليك بعد أن تنتهي من جمع كل ما قدرت عليه مما يتصل ببحثك أن تعود إليه فتقرأه مرة ثانية بأناة وإمعان نظر تحلل وتوازن وتستنبط وتلخص وتأخذ ما كان وثيق الصلة ببحثك، وتدع ما كان بعيدَ الصلة ليس بذي قيمة.(15/148)
ويقول هؤلاء الباحثون ردا على مخالفيهم إن نقل المواد العلمية من المراجع ملخصة بأسلوب الباحث عرضة لإهمال المعلومات الصغيرة والتفصيلات الفرعية التي قد يراها الباحث حين التلخيص بعيدة عن موضوع بحثه، أو يراها أشياء ليس لها قيمة، ثم يتبين له بعد ذلك حين يقوم بعملية نقد المادة التي جمعها أن بحثه في حاجة إلى تلك التي أهملها فيضطر إلى أن يعود إلى المراجع مرة ثانية يقرأ وينسخ، وقد يكلفه الوصول إلى تلك المراجع وقتا طويلا، وقد يكون الوصول إليها صعبا بعيد المنال.
ويرى فريق آخر من الباحثين أن النص الذي ينسخ نسخا حرفيا دون تغير هو ما كان لألفاظه قيمة ذاتية يجب المحافظة عليها، أو ما كان لألفاظه غرض خاص يتصل بنقطة معينة في البحث، أو ما كانت كلماته معدودة لا تجاوز السطرين والثلاثة.
أما المواد العلمية التي تجيء في المراجع ملء الصفحة والصفحتين وما يقرب من ذلك، وكذلك المواد التي تكون ضعيفة الصلة بالبحث، والمواد الضحلة التفكير _ فإن نسخها نسخا حرفيا مضيعة لجهد الباحث ووقته.
ويقول هذا الفريق يجب على الباحث أن يكون باحثا ناقدا منذ البداية يحلّل ما يقرؤه في المراجع ويقوّمه فيأخذ الصالح منه وما كان له قيمة، معبراً عنه بأسلوبه، ويترك ما لا خير فيه وما كان بعيد الصلة.
وإذا جّدت حاجة إلى شيء كان الباحث قد تركه وأغفله، وهذا شيء لا يحدث إلا في النّدرى، فمن السهل أن يعودَ إليه بمساعدة البيانات التي يكتبها في إضبارته وتشيرُ إلى كل شيء يعثر عليه في المراجع مما له علاقة ببحثه.
ويقول هذا الفريق أيضا إن الباحث الذي لا يلتزم بالنسخ الحرفي من المراجع يجد نفسه دائما مضطرا إلى أن يفهم كلَّ ما يقرؤه وأن ينقده ويقومَه ليصل إلى ما هو صالح وجدير بالأخذ والنقل.
وأنه يجد نفسه كذلك مكلَّفا أن يعبر عن تلك المعلومات التي يختارها من المراجع بأسلوب جديد من عنده قوي الدلالة دقيق التعبر.(15/149)
وأنه بسبب هذه القراءات الكثيرة وهذا النقد والتقويم لما يقرأ، وبسبب ممارسة التعبير عن تلك المعلومات المختارة، بسبب هذا كله تنمو عند هذا الباحث القدرة على فهم المواد العلمية ونقدها وتمييز الصالح الجيد مما ليس بذي صلاح وجودة.
وتنمو عنده كذلك القدرة على نقد المراجع وتقويمها، وتنمو عنده كذلك القدرةُ على الكتابة العلمية.
ثم إنه بهذه التلخيصات التي كتبها قد أعدّ لبناتٍ كثيرةً صالحة لبناء المسوّدة الأولى لبحثه.
ولا شك أن هذه القدرات والتلخيصات تعد غنما عظيما يغنمه الباحث الذي لا يلتزم النسخ الحرفي للمعلومات، على حين يفقدها الباحث الذي يلتزم.
وقد تسألني وتقول: أي الرأيين ترى ومع أي الفريقين تذهب؟
أرى أن طريقة التزام النسخ الحرفي من المراجع أصلح للباحث المبتدئ، وأما طريقة الذين لا يلتزمون فأغلب الظن أنها لا تصلح إلا للباحثين الذين سبقت لهم تجارب في إعداد البحوث.
وأنا أميل إلى الطريقة الأولى طريقة الالتزام وإن كانت محاسن الثانية كثيرة جدا.
ومهما يكون من أمر فهناك أمور شكلية لابد من إتباعها لدى كل باحث:
أولها: لا يجوز أن تكتب أو تنسخ إلا على وجه واحد من الورقة أو البطاقة، ولا يجوز أن تكتب على ذلك الوجه إلا نصا واحدا.
وثانيها: يجب أن تكتب في الجانب الأيمن من أعلى الصفحة أو البطاقة قبل أن تنسخ أية كلمة البيانات التالية:
أ _ رقم الصفحة التي تنقل منها النص أو المعلومات ورقم الجزء.
ب _ اسم الكتاب والمؤلف والناشر ومحل النشر ورقم الطبعة.
وثالثها: يجب أن تكتب في الجانب الأيسر من أعلى الصفحة عنوانا موجزا واضح الدلالة على مضمون ما تنسخ في تلك الصفحة، ليسهل عليك الرجوع إلى أي نص أو معلومات حين تدعو الحاجة إلى ذلك.
ورابعها: يجب أن تكتب دائما بالحبر لأن كتابة قلم الرصاص سهلة الزوال بكثرة لمس الأوراق وتقليبها.(15/150)
وخامس هذه الأمور: يجب أن تنسخ دائما بدقة ووضوح، وإياك وأن تسرع في النسخ فإن هذه السرعة قد تجعلك في حاجة إلى الرجوع إلى الأصل مرة ثانية لتعرف قراءة كلمة أو لتعثر على كلمة أو جملة سقطت من النسخ، فإن الرجوع إلى الأصل يأخذ وقتا غير قليل وربما كان غير سهل ولا ميسر.
وقبل أن نخطو الخطوة الأخيرة أحب أن أنبهك إلى أمور حقيقة ألا تغفل عنها وجديرة أن تلاقي عناية منك ورعاية.
قد تلمع الفكرة أو الرأي في ذهنك وأنت تقرأ الكتب أو تدرس المسائل أو تنسخ النصوص.
وقد تترك القراءة الأولى لما تقرؤه انطباعات عميقة أو تهيج إثارات عاصفة. وقد تمر بخلدك خواطر تلمع كالبرق الخاطف لا تطول ولا تنتظر، ولا تدري كيف أقبلت ولا من أين جاءت.
كل أولئك يجب أن يكتب لحظة مجيئه في مكان خاص في إضبارتك دون ما تأجيل أو تريث، اكتبه قبل أن يفلت من ذاكرتك بأي أسلوب يجري به القلم وبأية عبارات تسبق إلى الذهن، وحين تعيد النظر فيه وتدرسه مع ما تدرس من معلومات جمعتها ونصوص نقلتها سيكون لديك متسع من الوقت لتعبر عنه بقوة وحسن بيان.
إياك وأن تستهين بمثل هذه الأشياء فقد تكون من أفضل ما اشتمل عليه بحثك وإياك وأن تظنها سهلة الصيد سهلة التذكر، فالخواطر العابرة والانطباعات الأولى والآراء اللماحة لا تزورك إلا مرة واحدة كردّ الطرف ثم هيهات أن تعود.
6 _ كيف تكتب مسوّدة بحثك
الكتابة _ سواء أكانت علمية أم كانت أدبية _ موهبة وهبها الله بعض عباده واستعداد فطري فطر الله عليه بعض الناس. والمرانة الطويلة، والممارسة المستمرة، والقراءات الكثيرة الراشدة التي لا تنقطع، تصقل تلك الموهبة صقلا فتضيء، وتنمي ذلك الاستعداد الفطري فيزهر ويثمر.
من أجل ذلك لم تكن هذه الخطوة لتجعلك كاتباً مجيدا أو باحثا فصيح القول رائع البيان، وإنما كانت لتهديك سبيل الرشاد في البناء الخارجي للبحث وفي تخطيطه العام.(15/151)
وعلى هذا أكتب إليك وأقول:
بعد الانتهاء من جمع معلوماتك من المراجع تعود إلى قراءتها مرة ثانية قراءة تفهم وتحليل وتقويم، ولا شك أن هذه القراءة الثانية ستعطيك صورة جديدة عن موضوعك، وتمدك بمعلومات جديدة لم تكن تعرفها من قبل.
وسوف يحملك هذا في أغلب الظن على أن تحدث تغييرا في خطة بحثك كأن تزيد عنوانا جديدا، أو تحذف عنوانا قديما، أو تضم عنوانا إلى عنوان.
فلا تلتزم بالخطة التي وضعتها أولا إن بدا لك بعد القراءة الثانية أن هناك ما يقتضي التغيير، ومن الخير أن تغير وتبدل كلما رأيت ذلك أفضل وما دام البحث بين يديك لم يخرج إلى أيد أُخر.
وحذار حذار أن يكون موقفك أمام ما جمعته من معلومات ونصوص موقف الباحث العاجز الذي يبقي عليها جميعها بنصها الحرفي ويكون عملُه أن يضم ما تجانس منها وتماثل بعضه إلى بعض مع حذف كلمة من هنا وتغيير جملة من هناك، ثم يقول للناس هاؤم اقرءوا كتابي، وما هو بكتاب له، وأنى له ذلك، ولو قلنا لما فيه من ألفاظ وجمل وفقر وآراء عودي إلى مراجعك الأولى لطارت جميعا ولما بقي له منها شيء.
عليك أن تقف أمام ما جمعته من معلومات موقف الناقد المبصر، الذي ينخل معلوماته نخلا، فيأخذ اللباب ويدع القشور.
ولا تأسف على ترك معلومات قد بذلت في نسخها الجهد والوقت، إذا تبين لك أن البحث لم يعد في حاجة إليها.
وعليك أن تحسن التعبير عما تختاره من معلومات وآراء فتصوغها صياغة جديدة دقيقة مشرقة البيان واضحة الدلالة.
حذار أن تقع فيما يقع فيه بعض الباحثين فتجعل همك ووكدك أن ينتفخ بحثك ويتضخم، فتحشدَ له معلومات كثيرة على غير حاجة، لتقول للناس انظروا كم جمعت من معلومات وكم قرأت من مراجع.(15/152)
إن الذين يقرءون بحثك يا تلميذي العزيز ليسوا أناسا عاديين تستطيع أن تخدعهم بمثل هذه المظاهر، إنهم يقولون لك: كلما كثرت المعلومات المنقولة من المراجع في متن البحث قلّ النقد والتحليل والاستنباط وظهر عجز الباحث. فإذا أردت أن تنال رضا الناس وإعجابهم، فليكن ذلك بما يشتمل عليه بحثك من فهم عميق للنصوص، وتحليل دقيق للمعلومات واستنباط آراء جديدة سديدة تدل على بعد نظر وذكاء.
لا تستشهد في بحثك بالنصوص المنقولة الطويلة التي تبلغ الصفحة وتزيد، فإن النصوص الطويلة صدوع عميقة في بناء بحثك تفقده التماسك والتسلسل، وتضعف رغبة القارئ في مواصلة القراءة. فإذا زاد النص على ثلاثة أسطر فلا تورده في بحثك بنصه الحرفي، لخصه بأسلوبك وأشر إلى مصدره في الهامش.
على أن إيراد النصوص الطويلة يكون حسنا مقبولا إذا كان الغرض منها عرض نماذج لأدب شاعر وكاتب أو إعطاء صور من كتاب مؤلف.
لا تكثرنَّ من الإشارة إلى المراجع في هامش كل صفحة، وقد يكون الباعث على كثرة الإشارات أنك تريد أن تظهر سعة إطلاعك وكثرة مراجعك وقد يكون الباعث ضعف الثقة بنفسك، فأنت بهذه الإشارات تريد أن تلقي في روع القارئ هذه الثقة.
وأيّاً كان الباعث فالإشارات الكثيرة عبء ثقيل جداً على نفس القارئ، حين يرى عينيه تصعدان وتهبطان كلما قرأ بضعة أسطر.
أشر إلى المراجع إذا دعت حاجة ملحة إلى ذلك كأن تنسبَ إلى عالم مشهور رأيا لا يتوقع أن يصدر عنه، أو تسوق معلومات قد تثير شك القارئ في صحتها أو تردده في قبولها.
لا تكرر الآراء والمعلومات في فصول بحثك المختلفة، فالتكرار ضعف في البحث وعجز في مقدرة الباحث أن يضع المسائل والآراء في مواضعها الصحيحة الثابتة.
والتكرار إلى جانب ذلك مدعاة إلى سأم القارئ وإملاله.
يجب أن ترتب معلومات بحثك وفصوله على أساس سليم محكم، بحيث لو نقلنا فصلا من مكانه إلى مكان آخر لظهر الخلل وبان الاضطراب.(15/153)
وأنت قد اطلعت على مراجع كثيرة مختلفة، ورأيت كيف تكتب المقدمات، وما الذي تشتمل عليه المقدمات، ورأيت تتابع فصول الكتب تتابعا مشوقا منطقيا بحيث يكون كل منها مبنيا على ما قبله وأساسا لما بعده، ولا شك أن اكتسبت من وراء ذلك قدوة حسنة وتجارب واسعة.
يجب أن يكون أسلوب كتابتك بعيدا عن التكلف، خاليا من الزخارف اللفظية والجمل المحفوظة المكررة.
ويجب ألا يكون مبتذلا مرذولا لا تكاد تفرق بينه وبين العامية إلا في إعراب أواخر الكلام.
ويجب أن تكون الكتابةُ خالية من الأخطاء النحوية والأخطاء اللغوية، فأنت ما درست النحو من أجل الامتحان، وإنما درسته ليكون صديق العمر كله.
وإن كبار الأدباء والعلماء يظلون طوال حياتهم يرجعون إلى معاجم اللغة في معاني الكلمات الصعبة وتعدية الأفعال بالحروف وصحة بعض التراكيب، فأنت حقيق أن تسير سيرتهم وأن تتبع خطاهم.
وإذا كانت الأخطاء النحوية والأخطاء اللغوية تعد عيبا منكرا، في كتابة الطلاب، فأي شيء نعدها في بحوث العلماء وفي رسائل الباحثين؟!!
إياك وأن تجعل مسوّدة بحثك التي تكتبها أول مرة هي النصَّ النهائي الذي تعلنه للناس.
فكثيراً ما يحدث أن يكتب الباحث صفحات من بحثه أو بعض فصوله، وهو يعيش حياة غير عادية، وفي أحوال نفسية وعاطفية غير هادئة ولا معتدلة.
وقد يكتب الباحث وهو كالٌّ تعِب، فيأتي بالغث الذي لا خير فيه، وقد يكتب مسوقا بالهوى والتعصب، فيكون بعيداً عن الحق والعدل، وقد يكتب عن رجل عظيم معجب به فلا يرى له إلا الحسنات.
ولهذا ولغيره يجب أن تترك مسوّدة بحثك الأولى فترة من الزمن كافية لتغيير الجو الذي كتبت فيه، ثم تعودَ إليها، ولكنك حين تعود يجب أن تقرأها قراءة مدرس إنشاء حاذق يسيء الظن بدفتر طالب ضعيف، اقرأها كأنما كتبها باحث غيرك، وقد طلب منك أن تقومها وتبينَ ما فيها من قوة وضعف ومن عمق وسطحية ومن صواب وخطأ.(15/154)
اقرأها قراءة جهر بأناة وتؤدة، لترى كيف يجري بها لسانك، وكيف تستقبلها أذنك، وكيف يكون جرس الألفاظ ووقع الجمل على سمعك. فاللسان يتذوق الكلام كما يتذوق الطعام، وللآذان أحكام قلما تخطئ وتظلم.
فإن رأيت بعد هذه القراءة أن مسوّدة بحثك لا تزال تحظى برضاك وإعجابك وأنها لا تزال تحتفظ بقوتها وجدتها فلتكن هي النص النهائي لبحثك. وإن بدا لك فيها رأي آخر فغير واحذف وأضف على النحو الذي تراه صوابا، ولا تحزن على شيء يحذف، ولا على وقت أو جهد يضيع، فهذه أشياء قد اعتادت الباحثين من قبلك.
وليس هناك من باحث يستطيع / فيما أظن / أن يزعم أن مسوّدة بحثه الأولى كانت هي النص النهائي لبحثه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(15/155)
المرأة في ظلال الإسلام
للدكتور خالد علي كماخي
جلست برفقة بعض الكتب العلمية، وقد انقضى من الليل نصفه أو أقل قليلاً، أعد محاضرة لطلبتي في إحدى السنوات المتقدمة في كلية علوم جامعة الرياض لأواصل معهم ما بدءوا دراسته مع مطلع عامهم الدراسي. وعندما فرغت من هذا الالتزام الواجب، شرعت في إعادة ترتيب ما استعنت به من مراجع، فلفت انتباهي كتاب كنت قد استقبلته هدية كريمة من معالي الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ وزير التعليم العالي، ويتضمن نص المحاضرة القيمة التي سبق أن ألقاها في النادي الأدبي بجدة منتصف شهر ذي القعدة من عام خمسة وتسعين وثلاثمائة وألف تحت عنوان ((المرأة ... كيف عاملها الإسلام.؟)) .
كتاب يفرض نفسه:
أخذت الكتاب وشرعت في قراءة ما احتوته صفحاته من حقائق فشعرت بأنه يفرض نفسه على قارئه، فلا يملك إلا أن يتابع القراءة إلى نهاية الكتاب، وذلك للطريقة الفنية والموضوعة الواعية في الأسلوب الذي شاء معاليه أن يصوغ به هذه الرسالة إلى الأمة الإسلامية في وضوح تام، مبيناً وضع المرأة في الحياة بوجه عام _ وتقويم المرأة المسلمة في إطار الشريعة الإسلامية السمحة _ ووضعها في الحياة من وجهة نظر العقيدة الخالدة بوجه خاص. وما أن فرغت من قراءة الكتاب للمرة الأولى حتى حدثتني نفسي بضرورة العودة إليه مرة أخرى، على أن أختار لنفسي ظروفاً أكثر ملاءمة للاستيعاب تسر الناظرين والطاعمين. وهكذا قرأت الكتاب للمرة الثانية، فإذا هو عظيم الفائدة وإنَّ فيه لعظة وعبرة لكل من شاء أن يتعظ أو يعتبر، ولكل من يتطلع إلى نجاح موفق في فهم العلاقات الإنسانية، ويستهدف الرفعة وينشد الكرامة لنفسه وذويه، رجلاً كان أو امرأة، وذلك من خلال الإيمان بالله وكتبه ورسله، عليهم أجمعين أفضل الصلاة وأجل التسليم. فيعرف كل من الرجل والمرأة ما لهما وما عليهما من حقوق وواجبات.(15/156)
شخصية المرأة في ظل الشريعة الإسلامية:
ثم عدت أناظر بين الأمس (ما قبل الإسلام وبعده) واليوم بوحي مما وعت ذاكرتي بشأن ما كُتب عن المرأة (قضية العصر الحديث) فتيقنت أن كتاب اليوم يلقي كثيراً من الضوء على شخصية المرأة، ويتلخص في الأمور الثلاثة التالية:
1 _ المرأة في العصور القديمة وإن شئت فقل العصور المظلمة، وكيف أوقف الإسلام منذ إشراق فجره سلسلة المظالم التي واجهتها المرأة، والتي قد يمكن أن تواجهها في المستقبل.
2 _ مفهوم العناية الصادقة والرعاية المخلصة للمرأة.
3 _ المساواة كما رآها دين الحق فأقرها وأوصى بها.
وكل هذه العناصر الثلاثة مؤيد بقبس من آيات الله الحكيم، وبها حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما هنالك من شواهد وأحكام الواقع والمصالح الإنسانية. وفي الجملة فإن الكتاب ثمرة بحث مفصل قصد به إبراز شخصية المرأة في الإسلام، فترك في نفسي ما لابد أن يستثيرها
الإسلام والمذاهب الوضعية:(15/157)
ويقف دين الحق قوياً في الدعوة إلى الإنصاف وخلق أسباب الحياة الكريمة القائمة على المودة والرحمة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وهكذا يحفظ للجنس البشري كرامته على مدى الأجيال المتعاقبة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ويضمن له استمرار التعاون البنَّاء بين جِنْسَيهِ على المنهج الإسلامي، الذي ارتضاه خالق الكون سبحانه وتعالى للبشر عامة منذ نزل قوله الحكيم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} وذلك على النقيض من كثير من النظريات الاجتماعية الوضعية التي يدعو إليها الشيطان وأتباعه، لإبداع مذاهب تناوئ الإسلام سراً وعلانية، تلك المذاهب التي لا تجني البشرية من ورائها إلا الضياع في الحياة الدنيا الزائلة، والعذاب في الحياة الآخرة الباقية، هذا بالإضافة إلى الضياع المشاهد في الخلق والسلوك وحتمية المصير إلى الضلال المبين، الذي أعلن خطته عدو الإنسانية حين قال لربه عز وجل: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً} فالشيطان يعد إتباعه ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً ووعد الله هو الحق {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .(15/158)
ومنذ فترة من الزمن، بدأت عوارض أمراض ما يلقب بالمذهب الشيوعي في عدد من الأمم التي انقادت وراءه وأخذت به حتى إذا تغلغل في نفوسهم الضعيفة أحسوا أن مرضاً خبيثاً لا يستطيعون الخلاص منه سوف يؤدي بهم إلى هوة الانحدار الخلقي، ويصل بهم إلى غاية العذاب النفسي الأليم.
وعندها يندمون حيث لا ينفع الندم {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فلا رحمهم الله ولا رحمهم الراحمون، وباءوا بغضب على غضب من الله وملائكته ورسله والناس أجمعين.
بؤرة التشريع الأرضي:(15/159)
وعلي مرَّ الزمان اختلط الحابل بالنابل حتى أعلنت الأمم المتحدة عن رغبتها في أن تطلق على ذلك العام ما سمي، بالعام العالمي للمرأة، تحديداً لموقف العصور الحديثة منها ومن بقية الأمم غير المسلمة بطبيعة الحال من أن الأمم المتحدة هي بؤرة التشريع الاجتماعي والسياسي إلى آخر ما يوحيه لهم الشيطان من تشريعات هذه الأرض في جاهلية القرن العشرين. وصاحَبَ ذلك نشاط لمطالبة المرأة الغربية على الأخص بحقوقها تمشياً مع لغة العصر ودعاوى بعض الهيئات في جميع الدول الغربية والشرقية قاطبة وبعض البلاد الإسلامية، كما هي عادتهم في التقليد الأعمى لكل ما يصدر من تشريعات صاغها غير المسلمين بوحي من عمل الشيطان، ومن هؤلاء من هم متخصصون في الدراسات الاجتماعية والدراسات التاريخية والدراسات الفلسفية ... إلى آخر ما يزعمون. ولكننا نحمد الله كثيراً نحن أبناء هذه الأمة في المملكة العربية السعودية أنَّ بين أيدينا تشريعاً سماوياً أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ليبلغه الناس كافة، بل الثقلين كليهما من أنْسِ وجن عامة. وكان يجدر بهذه الهيئات وبالعالم حاضره ومستقبله، أن يأخذ من هذا التشريع السماوي السمح قبساً يضيء له طريق المعرفة الحقة في تحديد وضع المرأة وغيرها من العلاقات الاجتماعية لكل عصر، وفي كل زمان ومكان، لتواجه كل تطور على هذه الأرض بما يضبطه في نطاق المصلحة الإنسانية.
ليس هنا حقوق مُهْدَرة:(15/160)
ومهما يكن من رأي في موقف العصور الحديثة من المرأة، فالذي لا ريب فيه وهو مؤكد عند الأعداء قبل الأصدقاء أن الإسلام بريء مما نسب إليه من تقصير في أي من حقوق المرأة، وهذه الحقيقة يعرفها من يعتنق الإسلام ومن يعاديه، إلا أن ما ورثته شعوب أمتنا من الأمم الضالة المضلة، وما صاحب ذلك من ضعف الإسلام في نفوسنا، وما أهملنا من تراثه، وما أخذنا به من تقليد القردة، وما تعلمناه تعلُّّم الببغاء. جميع هذه الملابسات وغيرها، دفعت ببعض الشعوب المسلمة إلى معاناة بعض النقص في أسس الخلق القويم، والحياة الكريمة، أعقبته آثار سيئة جعلت بعض أشباه المسلمين، أو بعض الذين يدعون الإسلام، يظنون أنّ للمرأة حقوقاًَ مهدرة غفلت عنها الشريعة الإسلامية هذه الشريعة التي هي خاتمة الرسالات السماوية إلى الأرض، والعياذ بالله من الشياطين وأتباعهم الذين يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية. وهكذا مع بالغ الأسف، نلاحظ أن تلك الشعوب المسلمة بدأت ولو بقدر يسير تعيد سيرتها الأولى من الجاهلية الأولى والعياذ بالله. وأن أسوأ ما تُنْكبُ به الأمة المسلمة اليوم هو تجردها من الشريعة الإسلامية الكاملة، ولو بقدر مهما كان محدودا بالإضافة إلى عزوفها عن مبادئها وإعراضها عن أخلاقها، يستوي في ذلك الرجل والمرأة.
لابد من اليقظة:(15/161)
وآياً كانت المناسبة التي دعت إليها المنظمة العالمية فحسبها ريبة أن معظم أعضائها من حزب الشيطان، فلا عقيدة تردعهم، ولا ضمير يؤنبهم على ما ينشرون من نظريات هدفها أولاً وأخيراً محاربة عقيدة السماء. والأدلة على هذا أكثر من أن تحصى، وحربها للإسلام ومحاولة النيل منه أبرز من أن يشار إليها. ومهما كانت الأتعاب التي خلقتها المنظمة على ذلك العام فهي لن تخرج عن كونها ستاراً في ظاهره الرحمة وداخله العذاب الأليم، فالمسألة تقتضي اليقظة. إذ لابد لكل عامل أن يحسب للزمان حسابه ويقدر للأحداث قدرها، ويتخذ لكل أمر الحيطة الواجبة، حتى لا يغافلنا الحاقدون المضللون، الذين يتقنون الدعاية ويتحينون الفرص للمساس بالدين الخالد {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} . فلا بد أن يهيئ الله لهذه الأمة من يوقظها من سباتها لينصروا دين الله، وذلك في كل مناسبة تستوجب يقظة وجهاداً في سبيل الله مدركين بإيمان مطلق قول الله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ}
المرأة ما لها وما عليها(15/162)
وفي العصر الحديث منح الله سبحانه وتعالى الأمة المسلمة مفكرين يدافعون عن الحق ويعيدونه إلى نصابه، ويذودون عن العقيدة بالنفس والنفيس استجابة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . ومن فضل الله علينا أن نعيش في بلد شرَّّفها الله بأسمى الرسالات السماوية، وجعل فيها بيته ومثوى نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام. كما نحمد الله بأن منَّ على هذا البلد وعلينا بولاة يخشون الله ويرجون لقاءه، فينهضون بأمانة للذود عن العقيدة ومحاربة التيارات الخبيثة والأفكار الهدامة. ولا سعادة لأمة حتى يقوم رجال مخلصون فيها بأداء النصيحة {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} . وأحمده سبحانه وتعالى أن وهب لنا من أمته ومن أبناء هذا البلد الأمين من تحملوا هذه المسئولية وجاهدوا في سبيل الله مخلصين، لتكون كلمة الله هي العليا، يدعون إلى الحق ولا يخشون في الحق لومة لائم. ومن هؤلاء معالي الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ الذي وفقه الله لدراسة هذه القضية، قضية المرأة التي تعاني منها الشعوب عامة، فيقدم للأمة الإسلامية بل للعالم أجمع بحثاً موجزاً في أبلغ صورة وأقوى حجة عن المرأة في الإسلام.(15/163)
لذلك ألتمس من معالي الوزير إذاعة هذا الكتاب بجميع وسائل الإعلام المتوافرة والممكنة وترجمته إلى أكبر عدد ممكن من اللغات الأخرى، وبخاصة تلك اللغات التي تتداولها بعض البلاد الإسلامية والبلاد القريبة منها التي أقبلت على الإسلام، والتي سوف تُقبل عليه آجلاً أو عاجلاً، لتمكينها من فهم الإسلام ومبادئه وإشعارها بالدور الذي تقوم به المملكة العربية السعودية في هذا المضمار. وهذا الملتمس يرجع أولاً إلى الإيمان الكامل بأن حياة المرأة في رحاب الإسلام ميزان صادق لحقوقها منذ ظهوره وحتى تقوم الساعة. وثانياً لأن الإسلام رفع مكانة المرأة من ملكة جمال وعارضة أزياء ونجمة الموسم، بأن بَوّأها منزلة ما كان يمكن أن يتصورها الحاقدون على شريعة الله.(15/164)
تعدد الزوجات وحكمه في الإسلام
لفضيلة الشيخ محمود عبد الوهاب فايد
تعدد الزوجات ما شأنه؟ ولم كثر حوله اللغط؟ وما بال خصوم الإسلام اتخذوه مطية للقدح فيه والتشنيع عليه. إن الإسلام لم يبتدعه في عالم لم يعرفه، فقد كان التعدد شائعاً في كثير من الأمم القديمة كان معروفاً لدى الفرس والروم والآشوريين والبابليين وغيرهم من الأمم عدا إسبرطة فقد كانت وحدها تقرر تعدد الأزواج دون تعدد الزوجات.
وشريعة بني إسرائيل تبيح للرجل أن يتزوج بما شاء دون تقيد بعدد ولهذا ورد في الملوك الأول الإصحاح الحادي عشر 0 (وكان له _ أي لسليمان _ سبعمائة من النساء السيدات وثلاثمائة من السراري) _ وفي التثنية 21: 15 _16 "إذا كان لرجل امرأتان إحداهما محبوبة والأخرى مكروهة فولدتا له بنين المحبوبة والمكروهة فإن كان الابن البكر للمكروهة فيوم يقسم لبنيه ما كان له، لا يحل له أن يقدم ابن المحبوبة البكر على ابن المكروهة البكر".
هذا النص فيه تسليم بتعدد الزوجات، وبيان ما يتفرع عنه من أحكام.
ولا يوجد نص في الإنجيل يصرح بمنع التعدد.
وقد تزوج قسطنطين بكثير من النساء وهو أول ملك آمن بالمسيحية ودعا إليها وسن فالنتين الثاني تشريعا يبيح تعدد الزوجات وبقي ذلك مباحا حتى منعه جوستنيان بقانون 350 م واستقر الأمر أخيرا على هذا وظلت الكنيسة تناوئه وتقول بحرمته.
نعم. . أباحة بعض البابوات لشارلمان ملك فرنسا وهو الذي عاصر الخليفتين: المهدي وهارون الرشيد.(15/165)
والعرب في جاهليتهم كانوا يعرفون تعدد الزوجات ويذهبون فيه كل مذهب ولا يقفون به عند حد فلما بعث الرسول إليهم نظم شرعة الزواج تنظيما دقيقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فجعل له أركانا وشروطا واعتبره ميثاقا غليظا، وقرر بمقتضاه حقوقا على الرجل نحو المرأة، وحقوقا على المرأة نحو الرجل، ورتب عليه آثارا في الحياة وفي الموت، في الاتصال وفي الانفصال.
وموقف الإسلام من مشكلة التعدد موقف يشهد ببراعته، ويدل على دقته وحكمته، فهو يمنع تعدد الأزواج لأنه ينافي الفطرة السليمة، ويعادي الطبيعة المستقيمة، ويؤدي إلى فساد النسل، ويجر إلى اختلاط الأنساب. لكنه بجانب هذا يبيح تعدد الزوجات دون أن يرغب فيه أو ينهى عنه، ويشترط لإباحته ضمان العدل وأمن الجور.
وفي هذا يقول المولى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}
روى البخاري عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة رضي الله عنها قال لها: يا أمتاه {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} إلى {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قالت عائشة: "يا ابن أختي، هذه اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في جمالها ومالها، ويريد أن ينتقص من صداقها فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأمروا بنكاح من سواهن من النساء".(15/166)
قالت عائشة:"استفتى الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فأنزل الله {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} إلى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} . فأنزل الله لهم في هذه الآية أن اليتيمة إذا كانت ذات مال وجمال رغبوا في نكاحها ونسبها والصداق وإذا كان مرغوبا عنها في قلة المال والجمال تركوها وأخذوا غيرها من النساء. قالت: "فكما يتركونها حين يرغبون عنها فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها الأوفى من الصداق".
في ضوء هذا الأثر نستطيع أن نفهم الآية وندرك وجه الربط بين الشرط والجزاء فالمولى يقول لهؤلاء الأوصياء الذين يطمعون في أموال اليتامى ويرغبون في إحرازها عن طريق الزواج ولا يتحرون العدل معهن في الصداق ولا يأمنون على أنفسهم من أن يجوروا عليهن يقول لهم: ما يضطركم إلى هذا الطريق الوعر الذي يجر عليكم المآثم فقد أفسحت لكم المجال وأبحث لكم أن تتزوجوا باثنتين أو ثلاث أو أربع ممن تستطيعوهن وتميل نفوسكم إليهن.
وواضح أن الآية بهذا المعنى نص في التعدد ودليل على أن الله أباح لنا أن نتزوج من النساء إلى أربع بشرط أن نتيقن العدل معهن ولا نظلم واحدة منهن فإن خفنا عدم العدل وتوقعنا الشطط فلا يباح سوى واحدة ويكون الاقتران بأخرى عند ذلك ممنوعا والعدل الذي يشترطه الإسلام هو الداخل في نطاق الوسع من النفقة والمبيت ولا يمكن أن يراد به ما يشمل ميل القلب فهذا أمر خارج عن الطاقة وقد رفعه الله عن العباد {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .(15/167)
وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم تقرر هذا وتؤكده، فقد كان عليه الصلاة والسلام يتحرى العدل بين أزواجه في القسم، ولا يميز واحدة على أخرى ثم يعتذر عما لا يقدر على التصرف فيه وهو ميل الفؤاد، ورغبة النفس واتجاه اللب.
روى الأربعة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل ويقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك يعني القلب".
فهذا الحديث يلقى الضوء على العدل المشروط لإباحة التعدد، ويبين أنه العدل في القسم دون غيره.
هذا ما قرره الرسول صلى الله عليه وسلم وفهمه الصحابة، وجرى عليه العمل إلى عصرنا ولا يعقل أن يتوسع المولى فيفتح لنا باب التزوج برابعة مع أن الثانية في نظر من يحرمون التعدد ممنوعة لامتناع شرط الإباحة وهو إقامة العدل بين الزوجات.
ومما يؤكد ما فهمناه من جواز التعدد بشرطه أن الإسلام عمل على تنظيمه فبعد أن قال المولى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} نظم في سلك المحرمات {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} فالآية الكريمة تدل على منع الجمع بين الأختين ويحمل عليه ما شابهه مما أشارات إليه السنة. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجمع بين المرأة وعمَّتِها ولا بين المرأة وخالتها" فتحريم هذا الجمع وإباحة ما سواه تنظيم للتعدد ودليل على جوازه، ولا فائدة من النص على تحريم الجمع بين الأختين ما دام بين المسلمات ممنوعا كما يزعم نفر من أبناء عصرنا ترديدا وتقليدا للغربيين.
قال البخاري في صحيحه 9: 126، 127 "جمع عبد الله بن جعفر بين ابنة علي وامرأة علي.. وجمع الحسن بن الحسن بن علي بين ابني عم في ليلة".(15/168)
هذا هو ما فهمه المسلمون منذ الصدر الأول إلى يومنا، وليس فهما جديدا مبتكرا. والقول بتحريم التعدد على إطلاقه قول في دين الله بغير علم، وفهم حديث لا سند له من كتاب ولا سنة، وترديد لأقوال المتفرنجين الذين يبغون لي عنق الإسلام ليتمشى مع مذاهبهم ومسالكهم.
ولن يكون الناس في آخر الزمان أصح إدراكا، وأنفذ بصيرة، وأصدق فهما لنصوص الشريعة ومراميها من أولئك الذين حملوها إلينا، وفضلهم المولى علينا.. نعم. إنه لا يتصور أن يكون الذين فهموا إباحة التعدد وجروا عليه من أيام الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أيامنا هذه قد أخطئوا الفهم، وحادوا عن الصواب، وظل خطؤهم عالقاً بأذهان المسلمين إلى أن جاء في عصرنا الذي اتسم بالتحلل نفر من المتفقهين أصلحوا لهم خطأهم، وأوضحوا لهم وجه الصواب في دينهم، وكيف يستساغ هذا وفيه إساءة بالغة إلى أسلافنا الأوائل الذين تلقوا الإسلام وفهموه من المعلم الأول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
قد يقول بعض المغرمين بإثارة الشبهات: إن المولى يقول {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} وفي آية أخرى يقرر أن العدل غير مستطاع فيقول سبحانه {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} فمجموع الآيتين يفيد حظر التعدد ويمنع إباحته.
ونقول لهؤلاء: إنكم تغافلتم عن قول الله عقب ذلك {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} فأشبهتم من يقرأ {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} ويدع قوله بعدها {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} .(15/169)
إن المولى نفى استطاعه العدل بمعناه الشامل لميل القلب، ومالا يستطاع لا يكلف به إنسان قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} لذلك بين القدر الكافي في براءة الذمة فقال: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَة} أي لا نطلب منكم توخي العدل تماما في سائر النواحي فهذا ليس في طاقتكم وإن حرصتم ولكن عليكم بالقصد في كل أعمالكم، فلا تميلوا لواحدة ميلا كليا وتهملوا الأخرى كل الإهمال فتذروها كالمعلقة.
ومثل هذا ما رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من كانت له امرأتان ولم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط" فهذا الحديث يصرح بوقوع التعدد ولا يمانع فيه، إنما يمانع في الجور ويعاقب عليه.
قد يسأل بعض الناس ولم صدر المولى الآية بنفي الاستطاعة؟ فقال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ}
وأقول: إنما صنع ذلك لكي يثير المخاوف في قلب الإنسان حتى يفكر طويلا في شرط التعدد، ويتثبَّت من مقدرته على العدل بين الزوجات فلا يتسرع في الزواج بأخرى لشهوة طائشة أو رغبته جامحة أو وهم كاذب ينخدع به لفترة قصيرة ثم يستيقظ بعد فوات الأوان وسوء الحال، وليس معنى هذا أن الشارع يحرم التعدد. فما كان الله ليبيحه نصا، ويأتي به ابتداء في مستهل الآية ثم يأتي عقب ذلك في مقطعها بما يتناقص مع مطلعها.
إن أمر التعدد ورد في القرآن قبل أمر التفرد، وقد روي عن قيس بن الحارث قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: "اختر منهن أربعا"رواه أبو داود وابن ماجة.(15/170)
وعن عبد الله بن عمر قال: "أسلم غيلان الثقفي وتحته عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا"رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وعن نوفل بن معاوية قال: "أسلمت وتحتي خمس نسوة فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: فارق واحدة وأمسك أربعا"رواه الشافعي والبيهقي.
هذا كله دليل على جواز التعدد ولو كان حراما لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء بأن يمسكوا بواحدة ويفارقوا البواقي كما أمر بمفارقة ما زاد على أربع.
ولا أدري كيف ينظم الرسول صلى الله عليه وسلم طريقة القسم بين الزوجات ما دام التعدد ممنوعا؟ كيف يتأتى على مذهب المانعين ما رواه البخاري ومسلم عن أبي قلابة عن أنس قال: "من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا ثم قسم وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا ثم قسم"قال أبو قلابة: "ولو شئت لقلت: إن أنسا رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"كيف يتأتى هذا وكيف يتأتى قول أنس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "للبكر سبعة أيام وللثيب ثلاث ثم يعود إلى نسائه" رواه الدرقطني.
إن هذين الحديثين يؤكدان أيضا ما قررناه من إباحة التعدد لمن قدر على العدل بمعناه الذي شرحناه.
ولا يحول دون ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن المسور بن مخرمة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر "إن بني هشام بن المغيرة استأذنوا في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب فلا آذن ثم لا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم فإنما هي مضغة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها".(15/171)
فهذا الحديث الذي يردده المانعون لا وجه للتمسك به فهو كما ترى يبيح التعدد ويزيد عليه إباحة الطلاق، وما أظن الذين يتملقون المرأة خداعا ويزعمون أنهم أنصارها يرضون بهذا _ نعم فيه ما يدل على استهجان الجمع بين بنت رسول الله وبين بنت عدو الله كما صح في رواية مسلم. وهذا أبشع ما يكون من الجمع وهو على الرغم من بشاعته جار على مقتضى عاطفة الأبوة التي أرادت فاطمة أن تثيرها فقالت له كما في صحيح مسلم: "إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك".
فأي شيء أن يشارك الرسول وهو بشر ابنته فيما يثيرها؟ أي شيء في أن يطيب خاطرها _ بعد أن أثارت عاطفته بكلمة طيبة تهدئ ثائرتها؟ لقد أنصت الرسول صلى الله عليه وسلم لفاطمة، وأفسح صدره لشكاتها وأعانها بالحيلة والقول الحسن وما كان ينتظر منه كمثل أعلى للوالد البار الحنون أن ينهرها ويغلظ لها القول ويتنكر لها في هذه الساعة.
وماذا عليه لو استرضى فاطمة بقول له فيه سعة، وفاطمة هذه ابنته الوحيدة، وهي أولا وأخيرا بنت خديجة التي أعانته في دينه ودنياه، وقد ماتت أمها وأصبح الرسول ملاذها الوحيد عليه وعليه وحده أن يبرها لأنها ابنته، ولا ملجأ لها سواه، وعليه كذلك أن يبرها وفاء بحق خديجة تلك التي ظلت تحسن إليه طول حياتها.
فماذا لو استؤذن في أن يتزوج عليها فلم يأذن وهو بعد لم يحرم حلالا ولم يحل حراما؟(15/172)
ليس هناك نص من الشارع يفرض على الوالد أن يأذن بالزواج على ابنته ونصوص الإسلام التي وردت توصي ببر الأهل، والإحسان إليهم بالقول والفعل وهذا كل ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم برا بفاطمة وإحسانا إليها، ومن حق كل بنت على أبيها أن يسرى عنها في مثل هذه الظروف العارضة، ويحاول بفطنته أن يجد لها مخرجا وموقف الرسول صلى الله عليه وسلم لا يحتمل سوى هذا فقال: "إني لا أحرم ما أحله الله"أي لا أحرم التعدد الذي أباحه الله، ولكن إذا استؤذنت كوالد لفاطمة لا آذن بالتزوج عليها، وأرى _ ومن حق كل والد أن يعالج مشكلات ابنته على الوجه الذي يظن فيه الخير _ أرى أن يطلق ابن أبي طالب ابنتي ويتزوج ابنتهم ما دامت نفسه تطيب بذلك، وهذا الذي عرضه الرسول كان بعد أن قلب وجوه الرأي، وقد ارتآه عليه الصلاة والسلام خشية على بنته من أن تفتن في دينها وتقصر في حقوق زوجها، ورغبة أيضا في أن يفسح الطريق أمام علي إن قوى ميله إلى أخرى وأصر على الاقتران بها، ولا يعدو أن يكون هذا مجرد عرض أراد الرسول به أن يجد خلاصا لفاطمة، ويصرف _ بكياسة _ نظر علي عن أمر له في تركه سعة، ويثنيه على الجمع بين بنت رسول الله وبنت عدو الله ولم يرد أن يحرم ما أحله الله أو يحل ما حرمه، ولكيلا يتوهم الناس ذلك حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يقول صراحة، وبلهجة صارمة مؤكدة، كما في صحيح مسلم "إني أتخوف أن تفتن في دينها وإني لست أحرم حلالا ولا أحل حراما".
بعد هذا البيان أرى أن الحديث يصدم أولئك الذين يزعمون أنهم أنصار المرأة بدعوتهم إلى منع التعدد، وحظر الطلاق. وذلك لأنه يبيح تعدد الزوجات ويسمح في ظاهره للرجل بأن يتزوج ما شاء إذا سمحت نفسه أن يتخلص من الأولى بالطلاق، وهذا _ كما هو واضح _ على عكس ما ينادي به هؤلاء.(15/173)
فليفهم هذا أولئك الذين يرددون هذا الحديث وليعلموا أنهم بين أمرين لا مفر منهما فإما أن يرتضوا التعدد مع الجمع من غير طلاق وهو ما نذهب إليه وتؤيده النصوص، وإما أن يرتضوا التعدد إذا أصر الزوج عليه ويرتضوا بجانب ذلك تطليق الأولى أخذا بظاهر هذا الحديث.
إن الإسلام حين أباح التعدد أراد أن يتمشى مع ظروف كل إنسان، ويلائم الناس جميعا في كل زمان ومكان، ويعالج أدواء المجتمع علاجا سليما ويقضي على ألوان الفساد قضاء مبرما.
نظر إلى الناس فرأى منهم من يصلح حاله بواحدة، ومنهم من يحتاج لأكثر ودون ذلك يتعرض ويتعرض المجتمع معه لخطر المخادنة، فتعيش المرأة معه عيشة الحيوانات لا تربطه بها سوى اللذة البهيمية حتى إذا قضى وطره منها تركها وشأنها فريسة الأوهام والأحزان لا يعترف لها بحق ولا يقر لولدها ببنوة ولا يتكلف لها ما يتكلفه الأزواج لزوجاتهم، ولا يهتم بأولادها كما يهتم الآباء بأولادهم.
هنا سمح الإسلام للرجل _ مع تيقنه بالعدل _ بأن يتزوج إلى أربع ولم يكن له أن يقف في طريق ذلك أو يأباه وهو الدين الذي يحارب الزنا، ويقاوم الرذيلة، ويحافظ على النسل ويقضي على التشرد، وتلك كلها نتيجة حتمية لداء المخادنة فالمرأة التي لا تجد لنفسها ولا لولدها حقا معترفا به يسهل عليها أن تقدم على الانتحار، وترمي بثمرة جرمها في قارعة الطريق دفعا لعاره وتخلصا من أوزاره.
كذلك نظر الإسلام نظرة رحمة وإشفاق إلى من ابتلي بزوجة عقيم أو مريضة فأباح له أن يأتي بأخرى تحقيقا لهدفه من النكاح ورغبة في حصوله على النسل، ورحم الأولى فلم يفجعها بالطلاق وحرص على راحتها وهناءتها فاشترط لها العدل.
كذلك وضع في حسابه وفرة النساء وقلة الرجال أعقاب الحروب ففتح الطريق ليكون لكل جماعة منهن عائل يدخل السرور عليهن ويقوم على راحتهن ويتولى شئونهن، ويحقق بالعدل هناءتهن.(15/174)
وليس من الإنصاف أن نرعى واحدة ونتجاهل بقية النساء بل الواجب أن نشملهن جميعا بالعطف، ونحكم فيهن شرعة المساواة وأولى أن يشتركن جميعا في الخير من أن تنفرد واحدة به.
وهنا نحب أن نبين لماذا اهتم الشارع بإقامة العدل بين الأزواج؟ وسر ذلك أن الرجل إذا التزم به وسار على نهجه ضمن سلامة بيته ورضا أزواجه، وعطف أولاده، وأصبح من الممكن أن يعيشوا في سلام ووئام يتعاونون جميعا على جلب ما ينفعهم، ودفع ما يضرهم، فإذا اضطرب ميزان العدالة في يد الرجل تبع ذلك اضطراب البيت، وانقلب جحيما على من فيه وتحللت الأسرة، وتقوضت دعائم المجتمع، وأصبح ضرر التعدد أكثر من نفعه، وهذا لا يمكن أن يقره الإسلام أو يرضى عنه.
لكن من ذا الذي يستطيع أن يزن العدل المشروط لإباحة التعدد؟ إنه الرجل نفسه لا القاضي ولا شهادة الشهود ولا قلة المال أو وفرته. فقد تختل نظرة القاضي ويتعذر على الشهود أن يعرفوا حقيقته، ويفهموا طبيعته، ويدركوا خبيئته، فكثيرا ما حسنت أخلاق بعض الناس خارج المنزل، وساءت في داخله.
والمال عرض زائل، وعارَّية مستردة، يعلو ويهبط، وينمو ويثقل، ويكثر وينمحي فلا يصح أن يكون مقياسا وهو في غاية الاضطراب خصوصا والمولى يقول: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .
قد يقول قائل: إن بعض الدول الإسلامية تعاني من مشكلة زيادة السكان وكثرة التناسل، ووفرة التعداد.(15/175)
ونقول في دفع ذلك إن هنالك آفاقا واسعة في أرض الله لكثير من الأيدي العاملة.. واقتحام هذه الميادين واستصلاح الأراضي البور واستغلال القوى الطبيعية التي يسرها الله تعالى لنا، وإنشاء المصانع والمعامل..، كل هذا يعين عل حل تلك المشكلة ويساعد على معالجتها مع العلم بأن تعدد الزوجات في مثل هذه الدول ضئيل جدا بالنسبة لعدد المتزوجين.
نعم. إننا في حاجة ماسة إلى تربية الأمة تربية دينية خلقية، وإلى وضع حد لمآسي السفور والاختلاط فلا سبيل إلى سعادة الأمة إلا بالدين والخلق، ويوم يفهم الناس ما عليهم من واجبات وينهضون بما في عنقهم من تبعات. ويعملون في ضوء الوصايا الدينية والمبادئ الخلقية يومئذ يسمو الفرد، وتهنأ الأسرة، ويسعد المجتمع، وترقي الأمة، ويعيش الناس جميعا عيشة راضية مرضية.
وبعد.. فإن تحريم تعدد الزوجات يؤدي بنا _ على الرغم منا إلى إباحة المخادنة كما هو مشاع في أوربا.
وماذا نصنع مع من مال قلبه إلى فتاة ومالت إليه وتمكن الحب بينهما؟ وما أكثر ما يقع هذا في مجتمعنا اليوم! إما أن نقر التعدد بنظامه المشروع وتبعاته المقررة..
وإما أن نرتضى المخادنة بأساليبها المنكرة، وحقوقها المهدرة.
ولن يوجد عاقل يؤثر الرذيلة على الفضيلة، أو يقدم الشر على الخير.
وحسبنا دليلا على بعد نظر الإسلام ما بلغته أوربا من سوء الحال نتيجة تحريم التعدد حتى ضج عقلاؤهم بالشكوى وطالبوا بإباحته حفظا لكرامة المرأة، وصونا للنسل من الضياع، وقد قرأنا في الصحف أن أهل مدينة بون” عاصمة ألمانيا الغربية” قد طالبوا حكومتهم بإباحة تعدد الزوجات.
وأصروا عل إدخال هذا النص في الدستور ومن قبل قال غستاف لوبون في كتاب روح السياسة:
(إن تعدد الزوجات الشرعي عند الشرقيين (المسلمين) خير من تعدد الزوجات الخبيث المؤدي إلى زيادة اللقطاء عند الغربيين) .(15/176)
ونشرت جريدة لاغوص ويكلى ركورد يوم 20/ 4/ 1901 مقالاً جاء فيه:
"لبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوربي على الاكتفاء بامرأة واحدة فهذا التَّحديد هو الذي جعل بناتنا شوارد، وقذف بهن إلى التماس أعمال الرجل ولابد من تفاقم الشر إذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة.
أي ظن وأي خرص يحيط بعدد الرجال المتزوجين الذين لهم أولاد غير شرعيين أصبحوا كلا وعالة على المجتمع الإنساني فلو كان تعدد الزوجات مباحا لما حاق بأولئك الأولاد وبأمهاتهم ما هم فيه من العذاب الهون".
هذا كله يؤكد تماما أن الخير كل الخير فيما جاءت به رسالة خاتم الأنبياء من لدن الحكيم الخبير.(15/177)
كلمة العدد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه.
وبعد:
فمنذ أن أنشئت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة مهبط الوحي ومشرق النور إلى العالمين، وهي لا تفتأ تبذل من جهودها ما وسع العاملون المخلصون بها، لتحمل لواء الدعوة في الداخل والخارج بما يسر الله لها من وسائل. وقد كانت سبَّاقة إلى الاضطلاع بحمل هذا العبء لأن رسالتها عالمية تهدف إلى تخريج جيل من أبناء المسلمين في شتى أنحاء العالم ينهلون الإسلام من معينه الصافي علماً وعملاً، على نهج السلف الصالح من هذه الأمة رضوان الله تعالى عليهم، ثم يعودون إلى بلادهم ليفقهوا أقوامهم ويبصروهم بالهدى والحق من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إنفاذاً لقول الله عز وجل: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} .
وقد رأت الجامعة منذ عشر سنوات مضت أن تصدر لها مجلة كإحدى وسائل نشر الدعوة، تعبر عن رسالتها، وتترجم أهدافها، وتبلغ بقدر ما يمكن قلب كل مسلم في أرجاء المعمورة، فتكون بمثابة داعية يجوب أقطار الأرض، يدعو الناس جميعاً إلى الرسالة التي نزلت إلى الناس جميعاً على ما قال جل شأنه {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} .
وقد أفرغ الذين حملوا عبء إصدار المجلة في السنوات العشر الماضية جهوداً نسأل الله أن يجزيهم عنها خير الجزاء.(15/178)
وها هي المجلة تبدأ عامها الحادي عشر، ولكن في ثوب جديد - بعد أن رأت الجامعة تطويرها - فأحدثَتْ أبواب ثابتة بالمجلة تستوعب موضوعات متنوعة في نظام متسق. كما أحدثت اللجنة جانباً منها يصدر باللغة الانجليزية يحمل بالترجمة معاني بعض آيات من القرآن الكريم، وباباً آخر لترجمة معاني بعض الأحاديث النبوية وباباً ثالثاً للتعريف بالإسلام.
وإذ تظهر المجلة بثوبها الجديد في عددها الأول في سنتها الحادية عشرة فإن أسرة التحرير تسأل الله العلي القدير أن يوفق القائمين عليها للعمل الجاد الخالص لكي تصبح المجلة لسان صدق وخير داعية إلى الله, وإلى نشر الدعوة الإسلامية في ربوع العالم كله إنه خير مسئول وأكرم مجيب.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله الكريم محمد وآله وصحبه..
أسرة التحرير(15/179)
العقل والنقل عند ابن رشد
بقلم فضيلة الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
عميد كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية
تمهيد
من هو ابن رشد؟
قبل أن نتحدث عن موقف ابن رشد من العقل والنقل يحسن بنا أن نقول شيئاً عن ابن رشد:
عن حياته، عن فلسفته، لكي نعرف الظروف التي نشأ فيها حتى صار أحد أساطين الفلسفة، وما الذي عرضه لذلك الاضطهاد والعسف والتشريد، والاتهام بالإلحاد والزندقة أحياناً؟!!
ولد أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد في مدينة قرطبة سنة خمسمائة وعشرين من الهجرة الموافق عام ستة وعشرين بعد الألف ميلاديا، وترعرع في حب العلم وأهله في كنف والده الذي كان من كبار علماء قرطبة وقضاتها، وشغف في حداثة سنه بدراسة الطب والشريعة وتطلع إلى العلوم الماورائية، فظهر منه نبوغ عجيب لفت إليه النظار، والعجيب من أمر هذا الفيلسوف الكبير أنه لا يُدرى أين درس الفلسفة والعلوم الماورائية، ومن أستاذه في هذه العلوم؟(15/180)
يرى بعض الناس أنه اتخذها عن ابن ماجه - الفيلسوف المشهور - إلا أن الواقع التاريخي يأبى ذلك، لأن وفاة ابن ماجه كانت سنة 1138م وكان ابن رشد في هذا التاريخ في الثانية عشرة من عمره، فليس في الإمكان أن يدرس الفلسفة في هذا السن المبكر، بل كان يدرس مبادئ العلوم الشرعية في هذا التاريخ كالفقه وعلم الكلام على والده. ويرى البعض الآخر أنه تتلمذ على ابن طفيل, ولكن التاريخ يثبت أن ابن طفيل ما كان يعرف ابن رشد معرفة شخصية إلا في الوقت الذي ذاعت فيه شهرته وطار صيته في الآفاق، كفيلسوف وطبيب، هذا ما يستنتج من وصفه لحاله عندما دخل على السلطان يوسف بن يعقوب لأول مرة، وعنده ابن طفيل، يقول ابن رشد: "لما دخلت على أمير المؤمنين ابن يعقوب وجدته هو وأبا بكر بن طفيل، فأخذ أبو بكر يثني عليّ ويذكر بيتي وسلفي، ويضم إلى ذلك بفضله أشياء لا يبلغها قدري.."إلى آخر كلامه..
وهذا يدل على أن ابن طفيل إنما عرف ابن رشد من صيته الطويل، ولا يعرفه قبل ذلك، فضلاً عن أن يتتلمذ عليه.(15/181)
هكذا يثبت بالواقع التاريخي أن ابن رشد لم يأخذ فلسفته عن ابن طفيل كما أثبت من قبل أنه لم يأخذها عن ابن ماجه، فيبقى أستاذه في الفلسفة غير معروف ولعله بدراسته لمبادئ العلوم الشرعية وعلم الكلام عكف على دراسة كتب أرسطو وتتلمذ عليه بواسطة كتبه، كما يظهر من تأثره البالغ بفلسفته، وعلى أي حال فهو فيلسوف كبير يكتنفه الغموض وتحيط به الاستفهامات من كل جانب، أهو فيلسوف متهور؟ كما يقول بعض الكتاب؟ أهو فيلسوف جامع بين الفلسفة والدين كما يظهر من بعض كتبه؟ أهو أشعري في عقيدته؟ أو واقفيٌ؟ أو مفوض؟ أو هو.. أو هو.. أهو باطنيٌ الخ. والذي جعل ابن رشد يقع تحت هذه الاستفهامات ويعيش هذا الغموض أنه كان كثير المداراة ويحاول أن يعيش مع الجمهور بظاهره، وأما في حقيقته فهو في عالم آخر.. عالم الخواص، الذي يزعم أنه يفهم من نصوص الشريعة فهماً خاصاً لا يفهمه الجمهور ويعذر الجمهور في مفهومه السطحي - على زعمه - ولا يبيح للعلماء أو الخواص أن يقفوا عند مفهوم الجمهور، ولابن رشد اصطلاح خاص قد ينفرد في هذا المعنى، وهو أنه يثبت فريقاً ليسوا من العلماء، وهم فوق الجمهور، وهم علماء الكلام من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية ومن يدور في فلكهم، يطلق عليهم (جدليون) ويتبعون ما تشابه من النصوص ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.
فابن رشد شخصية غريبة يحتار المرء في تحديده، فتراه فقيهاً واسع الاطلاع على أقوال الفقهاء وكثيراً ما يحاول ترجيح قول على قول، أو تقديم رأي على رأي فيقارع الحجج بالحجج، وقد تراه يتحدث عن مذهب السلف حديث مطلع ومقتنع ويثني عليه خيراُ لأنه لا يأول النصوص بل يبقيها على ظاهرها على ما يليق بالله, ثم تراه وقد انزلق مع الفلاسفة المتهورين ويدعو إلى تحكيم البراهين, ويعتبرها هي الأصل في باب الإلهيات مع الاكتراث بالأدلة النقلية، ويقول بقدم العالم كما يبدو من بعض كتبه [1] .
بين يدي البحث(15/182)
قبل أن أشرع في البحث أحب أن أضع بين يدي القارئ النقاط التالية:
1 – مما يجب الاتفاق عليه بين المسلمين (وحدة المصدر في معرفة العقيدة الإسلامية) واعتماد ذلك المصدر في بحث أي معنى من معاني العقيدة الإسلامية، وعدم إغفاله، وبذلك تسلم عقيدة المسلم من الزيف والإلحاد والضلال.
2 – لا يجوز تعطيل العقل في مجال العقيدة وغيرها؛ لأن العقل أساس التكليف ومناط الأهلية، إلا أنه لا يجوز أن يتجاوز العقل حدوده ويتجاهل وظيفته ويجمع في مجال الخيال الفاسد والأوهام الكاذبة، والخيالُ والأوهامُ لا يصلحان أساساً للعقيدة والمعرفة الصحيحة حتماً.
3 – دعوتنا إلى وحدة المصدر للعقيدة الإسلامية حقيقة دل عليها الشرع بالقواطع من الأدلة النقلية، والعقل السليم لا يعارضها، على القاعدة التي تقول: (العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح)
4 – إذا كان العقل هو الذي دلنا على معرفة الله عز وجل وعلى أن محمداً رسول الله حقاً فأي معارضة تفرض بين العقل وبين ما جاء به الكتاب والسنة، أورد خبر الله وخبر رسوله بحجة مخالفتهما للعقل، يعتبر كل ذلك مناقصة صريحة لما دل عليه العقل نفسه.
5 – العقل نور جعله الله في قلبك ليكشف لك عن الأشياء الموجودة والحقائق الواقعة ولتفهم به عن الله ورسوله، هذه وظيفة العقل، فلو أردت منه أن يريك كل ما تحبه وتتخيله من المعدومات قلا يجد إلى ذلك سبيلاً، اللهم إلا إذا كان على سبيل الوهم والخيال، وسبق أن قلنا: إن الوهم والخيال لا يصلحان للمعرفة الصحيحة والعقيدة السليمة، والله هو الهادي إلى سواء السبيل. [2]
تعريف العقل
يقال: عقل الشيء فهمه معقول أي مفهوم، العقل نور روحانيٌ تدرك به النفس الأمور الضرورية، والفطرية وابتداء وجوده عند اجتنان الولد في الرحم، ثم لا يزال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ [3] .(15/183)
ويقال للأدلة النظرية الأدلة العقلية: لأنها تدرك بالعقل، حيث عن الإنسان يستعمل العقل في ترتيبه وتكوينه وتنظيمه، وسمي العقل عقلاً لأنه يعقل صاحبه لئلا يقع فيما ينبغي من اعتقاد فاسد أو فعل قبيح، ومن ذلك "اعقلها وتوكل على الله" أي احبسها.
تعريف النقل
يقال: نقل الشيء أي أخذة من مكان إلى مكان، ونَقَلَةُ الحديث هم الذي يدونون الأحاديث وينقلونها ويسندونها إلى مصادرها.
ويقال لأدلة الكتاب والسنة: الأدلة النقلية، ويقال لها السمعية ويقال لها: الخبرية والأدلة المأثورة، وكلها بمعنى واحد، وهي الأدلة المسموعة المنقولة عن كتاب الله العزيز والسنة المطهرة أو الأدلة التي نقلها إلينا نقلة الحديث والرواة.
العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح
هذا العنوان يجب أن يكون المحور لبحثنا وقاعدة ننطلق منها في دراستنا لآراء أبي الوليد في الإلهيات ومناقشتها، لنتبين مذهبه على حقيقته إن استطعنا إلى ذلك سبيلا، وهو أمر عسير غير يسير.(15/184)
وذلك لأن العقل هو الذي دلنا على وجود الخالق، وصحة رسالة رسوله الذي أيده بالمعجزات تلك المعجزات التي تدل على صدق نبوة الأنبياء باستعمال الفكر والنظر, ويقول شيخ الإسلام بن تيمية: "المعقول الصريح لا يخالف المنقول الصحيح"وله كتاب خاص بهذا المعنى تحت عنوان: (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) ، وقد يسايرنا أبو الوليد في هذا الخط فترة من الزمن غير طويلة إلا أنه لا يستطيع أن يواصل سيره معنا بل سرعان ما يتركنا في وسط الطريق، ليعود إلى غموضه متناقضاً ومُطْلقاً على ما نحن عليه مذهب الجمهور أو مذهب العوام. الواقع أن ابن رشد يساير أيضاً علماء الكلام بل يوافقهم في الحقيقة، ويتظاهر بمخالفتهم في الظاهر أو في طريق التطبيق، فتجده يعتب على علماء الكلام في تأويلهم لنصوص الكتاب والسنة، ويعلن أمام الرأي العام أن تأويلهم هو الذي غير الشريعة وبدل معالمها، وأفسد على الناس مفهومها, وإذا قلبت النظر في أمره فتجد أن عتابه لا ينصب على التأويل من حيث هو تأويل, ولكنه ينصب على التصريح به للجمهور، فهو يبيح من التأويل للعلماء ما لا يبيح للجمهور شريطة ألا يصرح العلماء للجمهور بذلك التأويل لأنهم حرفيون على حد تعبيره.
هكذا عاش ابن رشد غير واضح في عقيدته وفلسفته ويسمى هذا الموقف: التوفيق بين الفلسفة والشريعة أو بين الحكمة والدين، وكان مقتنعاً بصحة هذا المذهب ولذا نراه يعتب على الإمام الغزالي وينقم منه تصريحه أمام الجمهور ما لا ينبغي أن يصرخ به إلا أمام الخواص في منهج القوم!!
فلسفة ابن رشد(15/185)
مما لا يختلف فيه اثنان أن ابن رشد فيلسوف كبير وخطير، ومن الصعوبة بمكان أن يحدد المرء معالم فلسفته ومذهبه كما قلت آنفاً حيث اختار لنفسه الغموض في حياته، ولا أقول إن ابن رشد لا يملك الجرأة الكافية التي تمكنه من الإعلان عما يتفاعل في نفسه من آراء عرفانية ولكني أقول: عن ابن رشد لم يستخدم أو لم يرد أن يستخدم جرأته في الإعلان عن مذهبه, والثبات عليه بشكر واضح ودائم بل قد اضطر أحياناً إلى مسايرة الناس في خلاف ما يعتقد, ْ وخصوصاً بعد أن نكب على يد السلطان المنصور ابن أبي يعقوب، سلطان الموحدين وأحرقت كتبه في الفلسفة، ورمي بالإلحاد، ومما يروى في سبب تلك النكبة أنه أنكر بحضرة والي قرطبة وجود قوم عاد الذين ورد ذكرهم في الكتاب العزيز، هكذا الرواية - والعهدة على الراوي - وعلى الرغم مما قيل فإن الدارس لآراء ابن رشد يشهد له بالعمق وأنه من أوسع الفلاسفة الإسلاميين في العلوم الماورائية، وله محاولة في ربط الفلسفة بالشريعة في حدود تصوره للشريعة.
وقد قام ابن رشد بشرح عدة كتب من كتب الفلاسفة الإسلاميين وغيرهم، وانتقد بعض أولئك الفلاسفة وفند آراءهم ونظر في علم الكلام فوقف عنده كثيراً ولم يستسغ آراءهم وتأويلهم فأخذ ينقد تأويل الأشاعرة والمعتزلة والماتريدية وحكم عليهم كلهم بأنهم خصمون يجادلون بالباطل حتى تخضع النصوص لآرائهم وعقلياتهم، فرأى أنه لا بد له أن يشق له طريقاً وحده ويطلق العنان لجواد فلسفته لينطلق كما يريد إلا أن جواده لم يسلم كبوة - لكل جواد كبوة - ومن كبوة جواده وهفوة ذهنه أنه يرى:
إذا وجدت بعض الآيات في الكتاب العزيز تضاد الفلسفة يجب تفسيرها تفسيراً شعبياً باعتبار أن لكل آية معنيين: حرفي شعبي وروحي خاص، فالحرفي للشعب، والروحي للفلاسفة. بل يقول ما هو أدهى من هذا وأمر؛ إذا يقول: "كما أن الأنبياء يتقبلون الوحي فيبلغونه للشعب، وكذلك الفلاسفة وهم أنبياء الطبقة العالمة".(15/186)
لذلك يجب أن يوفق بين الدين والعلم, وعلى العلماء أن يجمعوا بين الحكمة والشريعة وأن يعلموا من الشريعة بما يوافق الحكمة حتى يكون علمهم في كل شيء موافقاً للحكمة. ومن أقواله المأثورة: "الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له".
هذه - كما ترى - كبوة خطيرة، بل انزلاقة قاتلة، وقولة منكرة في الإسلام، لا أعلم أنه سبق إليها؛ إذ هي سخرية ساخرة من مقام النبوة, والنبوة منزلة خاصة لا تنبغي إلا لأولئك المصطفين المختارين الذين اختارهم الله وجعلهم واسطة بينه وبين عباده في تبليغ الرسالة إليهم ونصحهم وهدايتهم, أولهم آدم وآخرهم خاتم النبيين محمد بن عبد الله العربي الهاشمي، وقد صرح الكتاب العزيز أنه خاتم النبيين حيث يقول الرب تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب: 40) .
وادعاء النبوة لأحد بعده مصادمة لهذه الآية والأحاديث الصحيحة التي جاءت في هذا المعنى كقوله عليه الصلاة والسلام: "أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي"، وابن رشد قد قال قولاً شططاً بادعاء النبوة للفلاسفة، بل إنه يجعلهم نخبة ممتازة من الأنبياء ومرسلة إلى نخبة ممتازة من الناس - إذ يقول: "وكذلك الفلاسفة وهم أنبياء السبقة العالمة", ولست أدري ما مفهوم النبوة عند ابن رشد؟ حتى تبيح له فلسفته مثل هذا الادعاء علماً بأنه من الفلاسفة الذين يشملهم ادعاؤه فلاسفةُ اليونان من غير المسلمين مثل أستاذه أفلاطون ومثل أرسطو فهل تبيح فلسفة ابن رشد أن يكون أمثال هؤلاء من قدماء الفلاسفة وحدثائهم من المسلمين وغير المسلمين من أنبياء الله تعالى؟!! والله المستعان.(15/187)
نعود إلى قول ابن رشد: "الحق لا يضاده الحق بل يوافقه ويشهد له". وهو حق بقطع النظر عما أراد به أبو الوليد، وسبق أن نقلنا عن بعض المحققين قوله: "العقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح"، [4] وعندما يحصل الاختلاف بين العقل والنقل لا بد من أحد أمرين:
أحدهما: أن النقل غير صحيح في نفسه أو أسيء فهمه وفسر تفسيراً غير صحيح.
ثانيهما: المعقول الذي ادعى أن النقل يخالفه غير صريح وغير سليم, بل إنه أصيب بأدران الشبهة أو الهوى الذي غيّره حتى فقد العقل سلامته, بل هو إما مريض أو ملوث ولا محالة، ولو كان العقل يتمتع بعافيته وسلامته, والنقل يتمتع بصحته وقوته لا يكاد أن يختلفان.
وهذه قاعدة عظيمة ونافعة بإذن الله، ومقبولة لدى العقلاء المنصفين، بل لا يكاد يتردد فيها كل من نظر في العقليات، وله اطلاع على النقليات، ورزق التجرد عن التعصب والهوى والتحيز.
وقد أشار أبو الوليد بن رشد إلى هذه القاعدة في كتابه (منهاج الأدلة) في غير ما موضع في أثناء منقاشته لبعض علماء الكلام في تأويلهم البعيد عن روح الإسلام وفي رد شبههم التي عرضوها على الشريعة ليعارضوها بها، ومما قاله أبو الوليد في هذا الصدد قوله:(15/188)
"وأشد ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم تأولوا كثيراً مما ظنوه ليس على ظاهره, وقالوا إن التأويل ليس هو المقصود به, وإنما أتى الله به في صورة المتشابه ابتلاء لعباده، واختباراً لهم"ثم قال أبو الوليد: "نعوذ بالله من هذا الظن بالله, بل نقول: إن كتاب الله العزيز إنما جاء معجزاً من جهة الوضوح والبيان"إلى أن قال: "وما أبعد عن مقصد الشرع من قال: فيما ليس بمتشابه أنه متشابه، ثم إنه أول ذلك المتشابه بزعمه وقال لجميع الناس: إن فرضكم هو اعتقاد هذا التأويل، مثل ما قالوه في آية الاستواء على العرش, وغير ذلك مما قالوا إن ظاهره متشابه"يشير أبو الوليد إلى بعض آيات الصفات التي حرفها كثير من علماء الكلام، وتبعهم كثير من الناس في تحريفهم باسم التأويل كآية مجيء الرب يوم القيامة {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} (الفجر:22) , وصفة المحبة {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه} (المائدة: 54) , وصفة الرحمة التي دل عليها قوله عليه الصلاة والسلام: "الراحمون يرحمهم الرحمن"، و "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، وصفة الرضاء المأخوذة من قوله تعالى: {رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (المائدة: 119) وغير ما ذكر من نصوص الصفات التي جاءت في الكتاب العزيز والسنة المطهرة, والتي سلط عليها أهل الكلام وكثير من الفلاسفة صنوف التأويل البعيدة عن مراد المتكلم بها، والتي أبعدت كثيراً من الناس عن المفهوم الصحيح لنصوص الصفات، ويضرب أبو الوليد مثالاً رائعاً لهذا الصنف من الناس فيقول: "ومثال من أوّل شيئاً من الشرع وزعم أنّ ما أوله هو ما قصده الشرع، وصرح بذلك التأويل للجمهور ـ مثال من أتي إلى دواء قد ركبه طبيب ماهر ليحفظ صحة الناس أو الأكثر، فجاء رجل فلم يلائمه ذلك الدواء المركب الأعظم لرداءة مزاج كان به ليس يعرض إلا للأقل من الناس فزعم أن بعض تلك الأدوية التي صرح باسمه الطبيب(15/189)
الأول في ذلك الدواء العام المنفعة المركب لم يرد به ذلك الدواء الذي جرت العادة في اللسان أن يدل بذلك الاسم عليه، وإنما أريد بد دواء آخر مما يمكن أن يدل عليه بذلك الاسم باستعارة بعيدة، فأزال ذلك الدواء الأول عن دلك المركب الأعظم، وجعل بدله الدواء الذي ظن أنه الذي قصده الطبيب وقال للناس هذا هو الذي قصده الطبيب الأول، فاستعمل الناس ذلك الدواء المركب على الوجه الذي تأوله عليه هذا المتأول ففسدت به أمزجة كثير من الناس فجاء آخرون شعروا فساد أمزجة الناس عن ذلك الدواء المركب، فراموا إصلاحه, بأن بدلوا بعض أدويته بدواء غير الدواء الأول فعرض للناس من ذلك نوع من المرض غير النوع الأول، فجاء ثالث فتأول من أدوية ذلك المركب غير التأويل الأول والثاني فعرض للناس من ذلك نوع ثالث من المرض غير النوعين المتقدمين فجاء متأول رابع فتأول دواء آخر غير الأدوية المتقدمة، فلما طال الزمان بهذا المركب الأعظم وسلط الناس التأويل على أدويته وغيروها وبدلوها عرض للناس منه أمراض شتى، حتى فسدت المنفعة المقصودة بهذا الدواء المركب في حق أكثر الناس. وهذا هي حال الفرق الحادثة في هذه الطريقة مع الشريعة، وذلك أن كل فرقة منهم تأولت في الشريعة تأويلاً غير التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى، وزعمت أنه الذي قصده صاحب الشريعة حتى تمزق الشرع كل ممزق وبعد جداً عن موضعه الأول.(15/190)
ولما علم صاحب الشرع - عليه الصلاة والسلام - أن مثل هذا يعرض ولا بد في شريعته قال: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" يعني بالواحدة التي سلكت ظاهر الشرع ولم تأوله تأويلاً صرحت به للناس، وإذا تأملت ما في هذه الشريعة في هذا الوقت من الفساد العارض فيها من قبل التأويل تبينت أن هذا المثال صحيح، وأول من غير هذا الدواء الأعظم هم الخوارج، ثم المعتزلة بعدهم، ثم الأشعرية ثم الصوفية". إلى آخر كلامه في هذا المعنى، حقاً إنه لمثال صحيح وسليم لو سلم من شيء واحد وهو ما جاء في تفسير أبي الوليد للحديث الذي استشهد به، إذ يقول: وهو يصف الفرقة التي تنجو من النار وتفوز بدخول الجنة وحدها "يعني بالواحدة التي سلكت ظاهر الشرع ولم تأوله تأويلاً صرحت به للناس"يفهم من هذا التفسير الغريب أن التأويل المذموم ـ في نظر ابن رشد، هو التأويل الذي يصرح به للجمهور فقط، وأما لو أول العلماء نصوص الكتاب والسنة في دائرتهم الخاصة وخرجوا بها عن ظاهرها, واعتقدوا صحة ذلك التأويل مع مخالفته لظاهر الشرع ومصادمته له فلا حرج عليهم، ولا يخرجهم عن عموم الفرقة الناجية، إنها لفلسفة جريئة, وابن رشد - كما علمنا - يثبت للشرع مفهومين اثنين، وكلاهما صحيح في بابه، مفهوم يخص العلماء [5] وهو الذي يتم بتأويل نصوص الشرع ليوافق الحكمة مع عدم التصريح به للجمهور وهم عامة الناس غير العلماء بل هو مفهوم خاص بالخاصة، ولا يجوز لهم البقاء مع ظاهر الشرع حين يخالف ظاهر الشرع الحكمة - في زعمهم - ويسمى ذلك عندهم التوفيق بين الشريعة والحكمة. المفهوم الثاني: مفهوم يخص الجمهور، وهم عوام الناس غير العلماء كما تقدم, وواجبهم التمسك بظاهر الشرع قبل أن يحيدوا عنه، ولا يجوز لهم التأويل بل يخبرون عنه. هذه هي فلسفة ابن رشد في هذه المسألة، وقد وقع فيما هو أقبح مما عابه على أهل الكلام حيث زعم أن للشريعة الإسلامية معنيين، معنى جمهوري(15/191)
أو شعبي ومعنى فلسفي خاص بالحكماء، وادعى أن كلا المعنيين صحيح، ومراد للشارع، وسبق أن صرح - فيما نقلنا عنه - أن مثل هذا الادعاء تغيير للشريعة وإفساد على الناس، ويعد ابن رشد علماء الشريعة من العوام أو الجمهور ولا يطلق لقب العلماء إلا على الفلاسفة الذين يسمونهم حكماء أحياناً.
ولست أدري كيف غاب عن هذا الفيلسوف الكبير أن الحق لا يتعدد، بل هو واحد بلا نزاع، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!!.
يذكرني موقف ابن رشد هذا قول الشاعر العربي:
عار عليك إذا فعلت عظيم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
بل ما فعله ابن رشد أقبح مما فعله علماء الكلام في هذا المقام بالذات, قبل أن نضيف سخريته من علماء الشريعة والاستخفاف بهم حيث يعدهم من العوام.
وجود الله عند ابن رشد
لم أعثر فيما قرأت لابن رشد على رأي صريح ينكر فيه وجود الله الخالق المصور المبدع بل على العكس من ذلك، نراه يرسم معالم الطريق لمعرفة الله تعالى، ويقيم الأدلة العقلية على وجود الله وينبه على الآيات الكونية الأفقية والنفسية بصورة واضحة ولكنه كما قسم الناس في مفهوم الشريعة - كما رأينا آنفاً - يقسمهم مرة أخرى في مجال الاستدلال بالآيات الكونية على وجود الله فيقول: "إن الأدلة على وجود الله الصانع تنحصر في هذين الجنسين:
1 – دلالة العناية.
2 – دلالة الاختراع.
يقوم دليل العناية على أن يفكر الإنسان جيداً وينظر فيما يحيط به من حماية وعناية ربانية ونعم لا تعد ولا تحصى، وقد خلق الله من أجله أكثر الموجودات، بل جميع ما في السموات وما في الأرض، وذلك في قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} (الجاثية:13) .(15/192)
ويقوم دليل الاختراع على النظر الدقيق في الموجودات والمصنوعات التي تدل لا على وجود الخالق فحسب، بل على قدرته وعظمته ووحدانيته, كأثر يدل على المؤثر, وصفة تدل على الصانع الحكيم، ويرى أبو الوليد أن لكل دلالة من الدلالتين جماعة من الناس تفهمها وتختص بفهمها وإدراكها، ويجعل دلالة العناية طريقة الجمهور لأنها حسية, كما يجعل دلالة الاختراع خاصة بالعلماء والخواص؛ لأنهم يزيدون على ما يدركه الحس ما يدركونه بالبرهان الذي يتم بالنظر واستعمال الفكر، وينظروا في ملكوت السموات والأرض, وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ, وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ, وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ, وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} , ليستدلوا على وجود الله وقدرته وحكمته بالنظر في أسرار هذه المخلوقات إذ كان ذلك في استطاعتهم دون الجمهور {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلاّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) ولنستمع الآن إلى أبي الوليد وهم يتقدم إلى الجمهور بإرشاده كي يعرفوا الاستدلال على وجود الله تعالى: فيقول:
"الطريق التي نبه بها الكتاب العزيز عليها, ودعا الكل من بابها تنحصر في جنسين:
1 – في العناية بالإنسان وخلق جميع الأشياء من أجله، ولنسم هذا دليل العناية.
2 – ثم ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء مثل اختراع الحياة في الجماد والإدراكات الحسية والعقل، ولنسم هذا دليل اختراع".(15/193)
ويرى ابن رشد أن هذين الدليلين هما دليل الشرع، ثم يقول أبو الوليد: "إن جميع الموجودات في هذا الكون مناسبة ومفيدة لوجود الإنسان، كوجود الشمس والقمر والنبات والحيوان والأمطار والبحار والهواء والنار, بل في أعضاء الإنسان ذاتها دليل على أن موجد هذا العالم قدير حكيم عليم لطيف بعباده"، ثم يواصل تحليله البديع فيقول: "لما كانت جميع هذه الموجودات مخترعة من العدم بعد أن لم تكن دل على أنه لا بد من وجود مبدع صانع لهذا الكون قادر على الاختراع لاستحالة تحولها من العدم إلى الوجود بنفسها، وذلك المبدع الخالق هو الله لا إله إلا هو ولا رب سواه".
الوحدانية عند ابن رشد
تبينا فيما سبق أن ابن رشد لا يثار الغبار حوله في باب إثبات وجود الله تعالى، لا أقول: إنه على يقين تام من وجود الله فحسب، بل هو على استعداد تام لإقناع غيره ممن يخالطه شك أو ليس على يقين من وجود الله تعالى بأدلة عقلية وآيات كونية بأسلوبه القوي الممتاز، كما رأينا فيما سبق من الأبواب, فلنستمع إليه وهو يسوق الأدلة النقلية والعقلية, ويحلل المسألة كعادته, إذ يثبت بأنه تعالى واحد فرد صمد اعتماداً على الآيات القرآنية مثل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ, اللهُ الصَّمَدُ, لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ, وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الإخلاص:1-4) , ويقول أبو الوليد: "إن من نظر في كلمة (لا إله إلا الله) وصدق المعنيين الواردين فيها وهما الإقرار بوجود الباري ونفي الإلهية عما سواه، فهو المسلم الحقيقي", ويثبت ابن رشد من ناحية إدراكه الفلسفي بأن الله هو الصانع الخالق الأول, صنع كل ما في العالم لحكمة على نظام ترتيب وقانون، صدرت عنه جميع الموجودات المتغايرة صدوراً أولياً أزلياً ودفعة واحدة، ويرى ابن رشد أن الفاعل الأول واحد، والوحدانية ذاتية إذ لا يمكن أن تكون الوحدانية زائدة على ذاته التي هي في الوقت نفسه وجوده.(15/194)
وهذا يعني أن الصفات قائمة بذات الله ومتحدة معها وليست زائدة عليها، وسيأتي لهذه المسألة مزيد إيضاح - إن شاء الله - ماذا يريد أبو الوليد بهذه (الرطانة الفلسفية) ، بعد أن أثبت وجود الله ووحدانيته اعتماداً على الآيات القرآنية، وبعد أو وفق في تفسير كلمة التوحيد تفسيراً سلفياً أثبت فيه الربوبية والألوهية معاً بطريقة رائعة ودقيقة، وصرح بأن المسلم الحقيقي ذلك الذي يقر بوحدانية الله في ربوبيته وألوهيته.
بعد هذا كله أبت عليه فلسفته إلا أن يستعمل أسلوباً مغلقاً ملتوياً بأن الفيلسوف قد اختلط عليه الأمر، ولعل هذا التخبط أثر من آثار فلسفة أرسطو وزملائه الذي تتلمذ على كتبهم وتأثر بهم. وهم يعتقدون بقدم العالم وأزليته ويثبتون تأثيراً لغير الله في هذا العالم في الأفلاك وغيرها على سبيل الاستقلال، ويشبهون الله عز وجل بملك في مدينة ما يعطي الاستقلال في التصرف في المدينة لمن تحته لحاجته إليه في التعاون معه.. سبحان الله عن الشريك والوزير المساعد!! بل هو الواحد الأحد سبحانه. وهؤلاء الفلاسفة الذين تأثر ابن رشد بفلسفتهم يعتقدون بأن الله إنما خلق العقل الأول فقط، والعقل الأول خلق العقل الثاني، وهكذا إلى آخر, كلام ركيك ومليء بالإلحاد والقول على الله بغير علم، وليس فيه مسكة من تقدير الله حق قدرته, سبحانك ما أحلمك يا رب العالمين!!
وقد تورط ابن رشد في هذا الاعتقاد في هذه المسألة كما ترى وكما سيتضح فيما سيأتي من كلامه. ثم أخذ ابن رشد يخوض في مسألة طالما خاض فيها علماء الكلام، وهي هل الصفات زائدة على الذات أم هي عين الذات، إذ يقرر أن ذات الله ووجوده ووحدانيته كلمات يختلف معناها، ولكن دلالتها فيما يتعلق بالله واحدة. فالله قديم لأن الواحد بما هو واحد سابق على كل مركب، وهذا الأول القديم بذاته باق مطلقاُ وصفات الله من الحكمة والقدرة والوحدانية وغيرها ليست زائدة على الذات.(15/195)
وتحقيق هذا المقام يتطلب نوعاً من التفصيل حتى يتضح الحق بإذن الله.
فنقول: يمكن أن يقال: الصفة عين الذات ويصح هذا الحكم, بمعنى أن الصفات لا تنفك عن الذات إذ لا نستطيع أن نتصور علماً بغير عالم, وقدرة قائمة وحدها بغير قادر, أو إرادة قائمة بنفسها دون مريد، وهكذا وبهذا الاعتبار نقول: الصفات عين الذات.
كما أنه من الممكن أن نقول: الصفة غير الذات فيصح الحكم أيضاً باعتبار آخر، وهو أن للصفة معنى وللذات معنى مغاير لمعنى الصفة، وبهذا الاعتبار أن الصفة غير الذات قطعاً، وما قيل في هذه المسألة يقال في مسألة هل الاسم عين المسمى أن غير المسمى؟. وعلى هذا المعنى يخرج كلام أبي الوليد, إذ يقول: إن صفات الله ليست زائدة على الذات"والله أعلم.
ومثل هذا البحث يعده أبو الوليد إذا صدر من غيره بدعة محدثة غير معروفة عند السلف، إذ لا يكادون يزيدون على ما دل عليه الكتاب والسنة، بل يؤمنون بأن الله موصوف بصفات الكمال كالعلم والقدرة والرحمة والاستواء، وغير ذلك من الصفات ذاتية أو فعلية، ولا يسألون هل هي عين الذات أو غير الذات.(15/196)
وهي الطريقة السليمة، وتدل على عمق علم السلف ودقتهم وبعدهم عن التكلف والقول على الله بغير علم، والمعروف عنهم أنهم لا يتجاوزون الكتاب العزيز والسنة المطهرة في المطالب الإلهية خشية القول على الله بغير علم, والخوض في حقائق ذاته وصفاته وأسمائه وتسليط الوهم والخيال عليها فأمر جد خطير، إذ لا يصف الله أعلم من الله، ولا يصفه من خلقه أعلم من رسوله عليه الصلاة والسلام الذي أذن له أن يصفه وأمره أن يبلغ عنه ما نزل عليه، ومن جملة ما نزل عليه صفات الله عز وجل، ومن بعدهم عن التكليف أنهم لا يتطلعون إلى إدراك حقائق الصفات والأسماء إيماناً منهم بأن المخلوق لا يحيط بالخالق، علماً مهما أوتي من علم وذكاء لأن علم المخلوق محدود {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) , ولا يقاس بغيره بأي نوع من أنواع القياس، إذ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى: 11) ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} (مريم: 65) ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، والملاحظ أن ابن رشد قد يتسامح مع نفسه ما لا يتسامح مع غيره كما رأينا فيما سبق، فيطلق لنفسه حرية الخوض والتأويل بينما هو يعيب كل ذلك لو صدر من غيره، ويعده بدعة محدثة.
ومن الإنصاف - والإنصاف من الإيمان - أن يعد هذا التصرف بدعة في حق كل أحد حتى في حق أبي الوليد، وعلى العموم يلاحظ الدارس لكتب ابن رشد أنه يورد من الأدلة العقلية والنقلية في حواره ونقاشه في الإلهيات ما يدل على اطلاعه الواسع ومقدرته الرائعة وذكائه الخارق.
العلم عند ابن رشد(15/197)
يقول أبو الوليد في بعض كتبه: "أما الأوصاف التي صرح بها الكتاب العزيز التي وصف الصانع الموجد للعالم بها، فهي أوصاف الكمال الموجودة للإنسان، إلى أن قال: أما العلم فقد نبه الكتاب العزيز على وجه الدلالة عليه في قوله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك:14) , وهي أن المصنوعات تدل - من جهة الترتيب الذي في أجزائه، ومن جهة كونها صنع بعضها من أجل بعض آخر، ومن جهة موافقتها جميعها للمنفعة المقصودة بذلك المصنوع انه لم يحدث عن صانع هو (طبيعة) كما لم يحدث (صدفة) وإنما حدث عن صانع رتب ما قبل الغاية قبل الغاية فوجب أن يكون عالماً به، مثال ذلك:
إن الإنسان إذا نظر إلى البيت فأدرك أن الأساس إنما صنع من أجل الحائط، وأن الحائط إنما أقيم من أجل السقف، يتيقن أن البيت إنما وجد عن عالم بصناعة البناء.
يقول أبو الوليد: "إن من نظر في أجزاء الموجودات وفي ترتيبها وتنظيمها وارتباط أجزائها وحاجة بعض أجزائها إلى البعض الآخر، يدرك تماماً أنّ هذا المصنوع إنما صنعه صانع عليم حكيم، هذا الدليل الذي ساقه ابن رشد والمثال الذي ذكره والأسلوب الذي استعمله يقطع مجموع ذلك دابر ذلك الزعم بأن العالم وجد (صدفة) أو أوجدته (الطبيعة) إذ يأبى العقل الصريح والفطرة السليمة صدور هذا المصنوع العجيب عن طبيعة ليست هي أكثر من الشيء نفسه، أو صفة من صفات الشيء، والشيء لا يوجد نفسه، وأما صفة الشيء فهي تابعة للشيء، لأنها عرض قائم بالشيء، كما هو معروف لدى العقلاء", ثم يواصل ابن رشد حديثه في صفة العلم فيقول:(15/198)
"وهذه الصفة هي صفة قديمة، إذ كان لا يجوز عليه سبحانه ألا يتصف بها وقتاً ما، ولكن لا ينبغي أن يتعمق في هذا، فيقال: ما يقوله المتكلمون"، ثم أخذ أبو الوليد يناقش أهل الكلام في بدعتهم التي أحدثوها في هذه الصفة كعادتهم: وهي قولهم: "هل الله يعلم المحدث في وقت حدوثه بعلم قديم أو بعلم حديث؟!! ", إلى آخر خوضهم الذي يدل على عدم تقديرهم الخالق حق قدره, فيقول أبو الوليد في تعليقه على هذا الخوض: "وهذا شيء لم يصرح به الشرع، بل المصرح به خلافه , وهو أنه تعالى يعلم المحدثات حين حدوثها كما قال تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُهَا} (الأنعام: 59) .
هكذا يقرر أبو الوليد شمول علم الله تعالى، وأنه يعلم الأشياء قبل أن تكون على أنها ستكون، وكيف تكون، وإذا كانت على أنها كانت، وهو بكل شيء عليم، كيف لا؟ وهو الخالق البارئ المصور، وهذا مفهوم علم الله عند المسلمين سلفاً وخلفاً، بعيداً عن تكلف المتكلفين وتشبيه المشبهين، وتنطع أهل الكلام الذين يهرفون ما لا يعرفون، وقد ابتليت الأمة الإسلامية بهذه الطائفة أيما بلاء. والله المستعان.
محاولة ابن رشد الحل الوسط
في قضية قدم العالم
ناقش ابن رشد الخلاف القائم بين القائلين بأن العالم مخلوق محدث بعد أن لم يكن، وبين الفلاسفة القائلين بأن العالم قديم أزلي مع الاعتراف بأنه مخلوق. فيقول ابن رشد أن الخلاف في هذه المسألة يعود إلى اللفظ، أي خلاف لفظي غير جوهري، لأن في الوجود طرفين وواسطة لقد اتفق الجميع على الطرفين وهما:
أولاً: هناك واحد بالعدد قديم ـ الأول الذي ليس قبله شيء.(15/199)
ثانياً: هناك على الطرف الآخر كائنات مكونة، وهي عند الجميع محدثة، ولكنهم اختلفوا في هذا العالم بجملته أقديم هو أم محدث؟ فيواصل الفيلسوف مناقشته قائلاً: "إن العالم في الحقيقة ليس محدثاً حقيقياً ولا قديماً حقيقياً لأن القول: إنه محدث حقيقي فاسد ضرورة لأن العالم ليس من طبيعته أن يفنى أي لا تنعدم مادته، والقدم الحقيقي ليس له علة والعالم له علة!!.
إذاً العالم محدث إذا نظرنا إليه من أنه معلول من الله، والعالم قديم إذا اعتبرنا أنه وجد عن الله منذ الأزل من غير تراخ في زمن، الخلاصة أن العالم بالإضافة إلى الله محدث، وبالإضافة إلى أعيان الموجودات قديم".
هكذا ينهي الفيلسوف ابن رشد مناقشته لهذه القضية العويصة حقاً. وقد اضطرب فيها كثير من حذاق الفلاسفة وأساطين أهل الكلام، والخوض في مثل هذه المسألة يعد من فضول الكلام، كما قال غير واحد من المحققين المعتدلين، ويكفي المرء أن يقول جملتين اثنتين مع الفهم والفقه وهما:
1 – الله خالق كل شيء وهو المبدئ المعيد.
2 – ما سوى الله مخلوق محدث بعد أن لم يكن. وكفى..
وشبهة ابن رشد في تردده في هذه المسألة في أمرين اثنين هما:
1 – أن الله لن يزل فعالاً وخلاقاً.
2 – أن مادة العالم باقية ولا تفنى.
الجواب عن الشبهة الأولى أن يقال: إن الله تعالى له معنى الربوبية قبل أن يخلق المربوب، وله معنى الخالق قبل أن يخلق، وهو الرازق قبل أن يخلق الرزق والمرزوق، أي هو موصوف بجميع صفات الكمال أزلاً وأبداً، ولم تتجدد له بإيجاد خلقه صفة لم تكن له ولا يجوز أن يعتقد بأنه تعالى تجددت له صفة لم يكن متصفاً بها من قبل؛ لأن صفاته تعالى صفات كمال وفقدها صفة نقص، ولا يجوز أن يعتقد أنه حصل له الكمال بعد أن لم يكن.(15/200)
وهذا واضح في الصفات الذاتية، وأما الصفات الفعلية كالخلق والتصوير والإحياء والإماتة والمجيء والنزول والاستواء والغضب والرضاء، وإن كانت هذه الأحوال والأفعال تتجدد وتحدث في وقت دون وقت كما في حديث الشفاعة، حيث يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله" لأن هذا التجدد والحدوث بهذا الاعتبار غير ممتنع، ولا يطلق عليه أنه حدث بعد أن لم يكن، ألا ترى أن من [6] تكلم اليوم وكان متكلماً بالأمس لا يقال بأنه حدث له الكلام، بل في حال تكلمه يقال: إنه متكلم بالفعل، وفي حال سكوته يقال: إنه متكلم بالقوة، وكذلك من كان قادراً على الكتابة يقال: كاتب بالفعل في حال كتابته وفي الحالة الأخرى يقال: كاتب بالقوة، فالله تعالى: خالق, رازق, محيي, مميت, معطي, قبل أن يخلق خلقه وعباده الذين يرزقهم ويعطيهم ويحييهم ويميتهم؛ لأنه قادر على ذلك كله أزلاً ولم يكن فاقداً صفة من هذه الصفات أو عاجزاً عن فعل من هذه الأفعال، بل هو على كل شيء قدير، ولعل في هذا المقدار غنية لطالب الحق، ومحاولة الإحاطة بالله تعالى محاولة فاشلة لقصور علمنا وعجزنا الذاتي {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) ، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (طه: 110) ، {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَاءَ} (البقرة: 255) . هكذا يتم الجواب على الشبهة الأولى من الشبهتين اللتين جعلتا ابن رشد يتردد في هل العالم محدث أو قديم، فلنجب الآن على الشبهة الثانية بمعونة الله وتوفيقه، وهي أن مادة العالم لا تفنى ولا تنعدم وذلك دليل قدم العالم، كأن ابن رشد يحاول أن يستنتج من بقاء شيء من أجزاء العالم وعدم فنائه، يستنتج من ذلك أن العالم قديم أزلي.
الجواب: صحيح أن بعض المخلوقات لا تفنى بل تبقى بإبقاء الله إياها، ويجاب عن بقائها بجوابين:(15/201)
أولاً: لا يلزم من عدم فنائها أزليتها، إذ لا تلازم بين عدم فنائها وأزليتها.
ثانياً: أن بقاء ما يبقى من المخلوقات ليس بقاؤه ذاتياً، وإنما يبقى بإبقاء الله إياه كالجنة وأهلها والنار وسكانها، وعجب الذنب من ابن آدم، وأما الباقي الذي البقاء وصف ذاتي له فهو الله، لا يشاركه أحد في بقائه كما لم يشاركه أحد في سائر صفاته وان اتحدت الأسماء أحياناً في بعض الصفات.
فهو الأول الذي ليس قبله شيء, وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، هذا والأمر في غاية الوضوح لطالب الحق, والحمد لله رب العالمين وله المنة وحده.
صفة الحياة والقدم والإرادة عند الفيلسوف ابن رشد
يثبت ابن رشد عدداً معيناً من صفات الله تعالى، على الطريقة الأشعرية على الرغم من الحملات العنيفة التي يشنها عليهم أحياناً.
ومن الصفات التي يثبتها: صفة الحياة والإرادة والقدم، يثبت هذه الصفات بدليل عقلي مؤيد بالأدلة النقلية، وإن كان الاعتماد عنده على الأدلة العقلية على طريقة أهل الكلام.
بل يرى أن الاعتماد على الأدلة النقلية والوقوف عندها طريقة الجمهور, والجمهور في اصطلاح ابن رشد هم من ليسوا بالفلاسفة الذين يسميهم (الحكماء) .
فيقول - في إثبات هذه الصفات بعد أن تحدث عن صفة العلم -: إنّ صفة الحياة والإرادة والقدرة، وجودها ظاهر في صفة العلم، وذلك يظهر في الشاهد أن من شرط العلم الحياة والإرادة والقدرة، والشرط عند المتكلمين يجب أن ينتقل فيه الحكم إلى الغائب، وما قالوه صواب، وهذا التصويب يعتبر إنصافاً من ابن رشد، وعلى الرغم من كثرة مناقشته الحادة للأشاعرة والمعتزلة يعترف لهم بالفضل فيما أصابوا فيه لأن الحق ضالة المؤمن أخذها أين وجدها ولو كانت عند المتكلمين.(15/202)
وبعد: فقد لاحظنا فيما سبق أن الفيلسوف بن رشد كثيراً ما يناقض نفسه، إذ رأيناه غير مرة يقف مواقف كان يعيبها على أهل الكلام، من التأويل ودعوته المعنى الجمهوري، والمعنى الخاص لبعض النصوص، ولا عجب في ذلك لأن التناقض يكاد يكون وصفاً ذاتياً للفلاسفة كلهم، إلا ما شذ أو من شذ وقليل ما هم.
فليس أبو الوليد بدعاً من الفلاسفة، هذا ما يهون الأمر علينا، وقديماً قيل: "إذا عمت هانت"
الكلام عند ابن رشد
يسلك ابن رشد في إثبات صفة الكلام، المسلك الذي سلكه في إثبات صفة الحياة والقدرة والإرادة، وهو الاستدلال بثبوت صفة العلم لأن الكلام في فلسفة ابن رشد ليس شيئاً أكثر من أن يفعل المتكلم فعلاً يدل به المخاطب على العلم الذي في نفسه أو الفعل الذي يصير المخاطب بحيث ينكشف له ذلك العلم الذي في نفسه، وذلك فعل جملة الأفعال وأغرب من هذا قوله: "وقد يكون من كلام الله ما يلقيه الله إلى العلماء الذين هم ورثة الأنبياء بواسطة البراهين، وبهذه الحجة صح عند العلماء أن القرآن كلام الله".
وقد توسع ابن رشد في مفهوم الكلام إلى أن أدخل في مسمى كلام الله ما يتكلم به علماء الفلاسفة بدعوى أن الله ألقى إليهم الكلام بواسطة البراهين.
يقف أبو الوليد في هذه المسألة موقفاً شاذاً خطيراً، لم يسبق إليه - فيما نعلم - وذلك أنه خالف الأشعرية القائلة بالكلام النفسي واللفظي معاً على أن النفسي هو الكلام الحقيقي لله، واللفظي دال عليه أو ترجمة له، أو عبارة عنه، والقرآن عند الأشعرية ليس بكلام الله حقيقة، ولكنه دال على كلام الله الحقيقي الذي هو الكلام النفسي فلذا يجب احترامه إلى آخر الكلام المعروف عندهم.(15/203)
وأبو الوليد لم يلتزم هذا المذهب التزاماً كلياً ولم يرفضه رفضاً باتاً، وهو في الوقت نفسه يخالف المعتزلة التي لا تثبت كلاماً نفسياً، بل تصرح بأن كلام الله مخلوق، ومعنى أن الله متكلم عندهم أنه خالق للكلام, فالقرآن مخلوق من مخلوقات الله عندهم وعند الأشعرية, ونقطة الخلاف بينهم التصريح بالقول بأنه مخلوق وعدم التصريح به، فالطائفتان متفقتان في العقيدة الداخلية - إن صح التعبير - ومختلفتان في السياسة الخارجية.
إذ ترى المعتزلة أن يصرح بذلك لدى الجمهور، لأن القضية قضية العقيدة يستوي فيها العامة والخاصة، بينما ترى الأشاعرة عدم التصريح إلا في مقام التعليم، وكأنها عقيدة تخص الخاصة دون العامة، وهو موقف يشبه موقف ابن رشد من حيث التفريق بين العامة والخاصة في بعض الواجبات والاعتقادات - كما رأينا - إلا أنه يختار لنفسه طريقة أخرى من هذه المسألة كما أشرنا، وكما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله، هذا ما عنيناه بقولنا: إن موقفه شاذ وخطير. وما أهل السنة والجماعة الذين اكتفوا بما كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، الذي يتجاوزون الكتاب العزيز والسنة المطهرة فهم يعتقدون بأن الله يتكلم حقيقة كما يليق به بكيفية لا نعلمها، إذ لا نحيط به علماً {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} ، {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَاءَ} , وهم لا يخوضون في كيفية تكلمه كما لم يخوضوا في كيفية جميع صفاته وكيفية ذاته تعالى، وإذا كان إيمانهم بالله إيمان تسليم لا إيمان تكييف فيجب أن يكون إيمانهم بصفاته كذلك إيمان تسليم بما في ذلك صفة الكلام، لأن الكلام في الصفات كالكلام في الذات, والكلام في بعض الصفات كالكلام في البعض الآخر يحذو حذوه فلا تكييف، ولا تمثيل، ولا تعطيل، أو تحريف.(15/204)
أما القرآن فمن جملة كلام الله غير مخلوق كسائر كلامه، وقد أخبرنا الله في الكتاب العزيز أن القرآن كلامه، حيث يقول: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ} [7] وما من شك أن الكلام الذي سمعه ذلك المشرك المستأمن هو هذا القرآن الذي في المصحف, المحفوظ في الصدور، المكتوب في الألواح، ولذلك نستشهد به قائلين: "قال الله تعالى: كذا وكذا". وكلماته تعالى لا نفاد لها إذ يقول الرب جل من قائل: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [8] .
هذا هو اعتقاد أهل السنة في كلام الله وموقفهم من القرآن الكريم. وهم - كما لا يخفى على المنصف - خير هذه الأمة على الإطلاق بشهادة المصطفى الذي لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام فهو يقول عنهم: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم", والخيرية تستلزم قطعاً صلاح العقيدة وصحتها ضرورة بحكم أنهم شاقوا صاحب الرسالة محمداً عليه الصلاة والسلام وأخذوا عنه دينهم وعقيدتهم.(15/205)
وإذا كنا نؤمن بأنه عليه الصلاة والسلام بلّغ رسالة ربه كاملة قبل أن يكتم شيئاً منها في أصول الدين وفروعه، ونؤمن ثانياً بأن الصحابة فهموا ما بلّغهم الرسول عليه الصلاة والسلام فهماً صحيحاً وشاملاً وتحمّلوا أمانة التبليغ لمن بعدهم فبلغوهم فعلاً قبل أن يكتموا شيئاً مما بُلِّغُوا، إذا كنا نؤمن إيماناً كهذا يلزمنا أن نعتقد أن كل خير في اتباعهم فيما كانوا عليه لأنهم على هدى وعلى صراط مستقيم ومخالفتهم تعد إحداث بدعة في الدين مع ادعاء أن الدين لم يتم بعد بل هو في حاجة إلى زيادة أو تعديل أو تحسين، وكل ذلك تحدٍ سافر لشهادة الله تعالى لنبيه وأتباعه أنه أكمل لهم الدين وأتم عليهم نعمة الإسلام إذ يقول الله جل من قائل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ, وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي, وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) وقد نزلت هذه الشهادة من السماء في آخر حياته عليه الصلاة والسلام، وكان نزولها في حجة الوداع على رؤوس الأشهاد في أعظم تجمع حصل في تاريخ الإسلام.
وكل الذي أقصده بهذا الاستطراد، أن الصواب في هذه المسألة وغيرها من مسائل الدين بما في ذلك البحث الذي حول القرآن هو ما كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وكل مل خالف ما كانوا عليه فهو باطل ضرورة (إن الحق واحد لا يتعدد) هذه هي الطوائف الثلاثة في هذه المسألة، ولا نعلم لها رابعة - فيما نعلم - ولكننا فوجئنا في أثناء دراستنا لكتب ابن رشد بقول غريب لم يسبق إليه، وذلك في تعريفه للكلام - وقد ذكرناه فيما تقدم - وقد انتهى كلامه إلى القول: "بأن حروف القرآن التي في المصحف إنما هي من صنعنا نحن بإذن الله، وإنما وجب لها التعظيم لأنها دالة على المخلوق لله، وعلى المعنى الذي ليس بمخلوق" [9] .
مناقشة ابن رشد في رأيه
يمكن أن نوجز فلسفة ابن رشد في هذه المسألة في نقطتين اثنتين:(15/206)
1 – تعريفه للكلام بأنه فعل يفعله المتكلم إلى آخر كلامه..
2 – الادعاء بأن الحروف التي في المصحف صنفان، صنف مصنوع لنا، وصنف مخلوق لله, وأن الصنف الذي من صنعنا يدل على اللفظ المخلوق وعلى المعنى غير المخلوق.
تعليقي على النقطة الأولى: بأنه كلام لا معنى له، بل تأباه اللغة العربية ويأباه الواقع إذ لا يعرف في اللغة العربية: أن الكلام هو الفعل، فيقول النحاة عندما يعرفون الكلام: (هو اللفظ المركب المفيد بالوضع) ، وذلك يعني أن الكلام هو ذلك الملفوظ المنطوق، وفي الواقع أن الناس يفرقون بين الكلام والفعل طبعاً، وأكتفي بهذا المقدار في هذه النقطة لوضوحها فيما أحسب.
وأما النقطة الثانية: فادعاء ابن رشد صنفين من الحروف للقرآن فكلام خال وفارغ عن المعنى في نظرنا، وعلى أي حال فقد وقع ابن رشد في البدعة التي كان يشنعها على أهل الكلام، ولم يقف مع ظاهر الشرع كما يدعو إليه وكما هو المتحتم على كل مسلم وبعد:
فكم كان جديراً بابن رشد أن يطبق القاعدة التي يذكرها دائماً في بحثه وهي: (لا يحق للباحث في مسائل الدين أن يطبق الاعتبارات الإنسانية على الأمور الإلهية) ، ولكنه خالفها ولم يلتزم بها - وللأسف - والملاحظ أن ابن رشد قد خالف علماء الكلام في مواقفهم من صفات الله، وأنكر عليهم تأويلهم وشدد الإنكار عليهم، وكان يرى أن تبقى نصوص الصفات على ظاهرها - كما يليق بالله - ويدعو إلى ذلك بكل صراحة، وهي دعوى حق طبعاً، ولكنه قلب ظهر المجن - كما يقولون - لهذه الطريقة في صفة الكلام، وانحاز إلى الطريقة الأشعرية وهي القول بخلق القرآن مع إثبات الكلام النفسي بل زاد عليهم حيث ادعى أن للقرآن حرفين، حرف مخلوق لله وحرف مصنوع للعباد دال على الحرف المخلوق، وهو موقف - كما ترى - في غاية الغرابة، بل انزلاقة خطيرة يخشى منها على إيمان صاحبها، والله المستعان.
موقف ابن رشد من مثبتة الصفات(15/207)
جرت عادة معطلة الصفات الذين تعودوا أن يسلطوا ألواناً من التأويل على صفات الله تعالى، إذا خالفت المعقول وأوهمت التشبيه - في زعمهم - جرت عادة هؤلاء بأن يلقبوا مثبتة الصفات بالألقاب التالية:
أ – المشبهة.
ب – المجسمة.
جـ – الحشوية.
وفي زعم هؤلاء أن الإثبات يستلزم التشبيه والتجسيم، وهو زعم فاسد لا يعتمد على قاعدة علمية ونظر سليم، وإنما هو زعم يتوارثه أهل الكلام بعضهم من بعض مبعثه إما الجهل، أو هوى في النفس، وإلا فإن التشبيه أو التجسيم أمر زائد على الإثبات فلا يلزم من إثبات العلم لله مثلاً ـ تشبيه الله بخلقه في علمه، ضرورة أن علم الخالق ليس كعلم المخلوق، لأن علم المخلوق يناسب حال المخلوق محدث مثله، محدود لا يحيط بالمعلومات، ومعرض للنسيان والغفلة والذهول، ثم إنه غير باق، ضرورة زوال الصفة بزوال الموصوف، وهذه الأعراض التي ذكرناها لعلم المخلوق ينزه عنها علم الخالق لأنه علم يليق به تعالى قديم قدم ذاته، محيط بكل شيء لا يلحقه نسيان أو ذهول، أو غفلة وهو باق بقاء الذات العلية، فإثبات صفات الله تعالى عند المثبتة على غرار قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى: 11) ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الإخلاص: 4) ، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (طه: 110) ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} (مريم: 65) , وما قيل في صفة العلم يقال في سائر الصفات الذاتية والفعلية، هكذا يثبت لدى المصنف أن الإثبات شيء والتشبيه شيء آخر والله ولي التوفيق.
وقد استخدم أبو الوليد بعض تلك الألقاب التي تقدم ذكرها في حق المثبتة جرياً على عادة القوم، وكان المتوقع من أبي الوليد أن يقف موقف البصير المنصف فيضع الأمور في نصابها، ويلحق الألقاب بأهلها، فيقول لمن أثبت صفات الله كما يليق به أنه مثبت، ولمن أول وحرف أنه مؤول، ولمن شبه صفات الله بصفات خلقه أنه مشبه.(15/208)
وقد أثبتنا - فيما سبق - أن المثبتة ليسوا بمشبهين ولا مجسمين، بل طريقتهم وسط بين التشبيه والتعطيل، كما وضحنا آنفاً، وإذا كانت المشبهة قد غلت في إثبات صفات الله فأثبتوها معتقدين أنها صفات كصفات المخلوقين، بدعوى أنهم لا يعقلون من صفات الله إلا كما يعقلون صفات المخلوقين، فقدرة الله عندهم كقدرة المخلوقين, وإرادته كإرادتهم, واستواؤه كاستوائهم، كذلك محبته ورضاؤه، غلت المعطلة في التنزيه من الطرف الآخر فنفت وعطلت صفات الله تعالى أو بعضها، بدعوى التنزيه معتقدين أن إثبات الصفات يؤدي إلى التشبيه فأهل السنة والجماعة فقد هداهم الله إلى سواء السبيل ووفقهم فسلكوا مسلكاً وسطاً، فأثبتوا ونزهوا - أثبتوا لله ما أثبت لنفسه أو أثبته له رسوله من صفات الكمال - وجميع صفاته كمال - إثباتاً بلا تشبيه أو تمثيل في ضوء قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
وقد أثنى أبو الوليد على هذه الطريقة في غير ما موضع في بعض كتبه [10] ولكنه يراها أنها إنما تناسب الجمهور فقط دون العلماء فإنهم لا يقفون عندها، بل عليهم أن يغوصوا في بحار الفلسفة، فيكشفوا حقائق لا يدركها الجمهور، مع التكتم [11] الشديد وعدم التصريح بتلك الحقائق أمام الجمهور، فلو التزم أبو الوليد طريقة معينة في إصدار الأحكام على الناس لسهل علينا أن نصغي إلى أحكامه ثم ننقاشه، ولكنه صعب المنال وكثير التقلب, فبينما تراه يتحدث في باب الأسماء والصفات حديث سلفي مثبت الصفات واقف على ظاهر الشريعة فإذا هو يخطب على منصة أهل الكلام فيؤول وينفر عن الإثبات، ولو عرّجت على نادي الفلاسفة لوجدته في طليعة الحكماء الذين يعيشون في مخيم الغموض ويضربون في بيداء الأوهام والخيال، ولا تكاد تفقه كثيراً مما يقولون، ولو مررت بمجموعة الفقهاء لرأيته في وسطهم يقارع الحجج بالحجج فيؤصل ويفرع، وربما دخل مجالس المحدثين ليتشبه بهم، على حد قول القائل:(15/209)
تشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
فإن التشبه بالرجال فلاح
والصفة البارزة في ابن رشد أنه يرى نفسه أنه محلق في سماء الفلسفة مع مجموعة الحكماء تاركاً الجمهور في سذاجتهم - فيما يظن -.
ابن رشد يثبت المعاد بالأدلة العقلية والنقلية
يقول أبو الوليد: "والمعاد مما اتفقت على وجوده الشرائع، وقامت عليه البراهين عند العلماء، وإنما اختلفت الشرائع في صفة وجوده، ولم تختلف في الحقيقة في وجوده" يشير ابن رشد إلى أن المعاد لم يكن محل نزاع بين الشرائع السماوية، أو لدى العقلاء والحكماء، بل كان محل اتفاق في المجالين الشرعي والفلسفي - إن صح التعبير - وإنما اختلفت الناس في أمرين في شأن المعاد:
1 – أهو روحاني فقط، أو روحاني وجسماني معاً، ثم يسوق ابن رشد الدليل فيقول: "والاتفاق على هذه المسألة مبني على اتفاق روحي في ذلك، واتفاق قيام البراهين الضرورية عند الجميع على ذلك"هكذا يصرح ابن رشد بأن الأدلة النقلية المأخوذة من الشرائع السماوية، والبراهين العقلية اتفقت على أن للإنسان سعادتين اثنتين:
1- دنيوية.
2- أخروية.
ويحلل ابن رشد المسألة قائلاً: "وانبنى ذلك عند الجميع على أصول يعترف بها عند الكل منها:
أ - أن الإنسان أشرف من كثير من الموجودات.(15/210)
ب - إذا كان كل موجود يظهر من أمره انه لم يخلق عبثاً، وأنه إنما خلق لفعل مطلوب منه، وهو ثمرة وجوده، فالإنسان أحرى بذلك، وقد نبه الله تعالى على وجود هذا المعنى في جميع الموجودات في الكتاب العزيز فقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} (ص: 27) , وقال جل من قائل وهو يثني على عباده الذين يدركون هذه الغاية المطلوبة من الوجود: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران:191) ".(15/211)
ثم يقول أبو الوليد: "ووجود الغاية في الإنسان أظهر منها في جميع الموجودات، وقد نبه الله تعالى عليها في غير مرة ما آية في كتابه العزيز فقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون: 115) , وقال: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} (القيامة: 36) , وقال: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (يس: 22) ، وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} (الذريات: 56) , ثم يقول أبو الوليد - وهو يبين اتفاق الأدلة النقلية والعقلية على المعاد-: "ولما كان الوحي فد أنذر في الشرائع كلها بأن النفس باقية، وقامت البراهين عند العلماء على ذلك، وكانت النفوس يلحقها بعد الموت أن تتعرى عن الشهوات الجسمانية فإن كانت زكية تضاعف زكاؤها بتعريتها عن الشهوات، وإن كانت خبيثة زادتها المفارقة خبثاً لأنها تتأذى بالرذائل التي كانت قد اكتسبت وتشتد حسرتها على ما فاتها من التزكية عند مفارقتها للبدن، لأنها لا يمكنها الاكتساب إلا مع هذا البدن، وإلى هذا المقام الإشارة بقوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} (الزمر: 56) , هكذا يقرر أبو الوليد: أن المعاد مما جاءت به الشرائع ونادت به الأدلة النقلية والعقلية بيد أن الموضوع لم يسلم من الاختلاف فيه، بل اختلفوا، ويمكن أن توجز اختلافهم في الآتي:
1 – هل ذلك الوجود الذي بعد الموت هو هذا الوجود بعينه، بمعنى أن ما في ذلك الوجود من النعيم واللذات متحد مع ما في هذا الوجود الذي قبل الموت، وإنما يختلفان في الانقطاع والدوام، أي أن ذلك دائم وهذا منقطع؟؟ !!.(15/212)
2 – أن الوجود الجسماني الذي هناك مخالف لهذا الوجود، وإنما يتفقان في اسم الوجود الجسماني فقط، مع اختلاف الحقائق مستدلين بقول ابن عباس فيما روي عنه: "ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء". ويرى أبو الوليد أن هذا الرأي الثاني أليق بالخواص.
3 – ترى طائفة من الفلاسفة: أن المعاد روحاني فقط، وإنما مثل به لإرادة البيان، والعجيب من أمر ابن رشد أنه يرى أصحاب هذا الرأي لهم حجج كثيرة في الشريعة إلا أنه لم يذكر منها حجة واحدة مع دعوى الكثرة، وابن رشد يختلف مع الإمام الغزالي في هذه المسألة، إذ يرى الغزالي وجوب القول بمعاد الأجسام ويحكم بالكفر على من أنكر ذلك وقال بمعاد الأرواح فقط، وقد كفر الغزالي بعض الفلاسفة بهذا القول, كالكندي والفارابي وابن سينا إضافة إلى قولهم بأن الله يعلم الكليات فقط دون الجزئيات، وقولهم بقدم العالم وأزليته.
هكذا يتبين أن ابن رشد متساهل، بل متناقض في هذا الباب على خطورته بل ولم يقف عند التساهل والتناقض، بل إنه يذهب بعيداً إذ يعد هذه المسألة مسألة اجتهادية إذ يقول:
"والحق في هذه المسألة أن فرض كل إنسان فيها هو ما أدى إليه نظره فيها، بعد ألا يكون نظراً يفضي إلى إبطال الأصل جملة، وهو إنكار الوجود جملة، فإن هذا النحو من الاعتقاد يوجب تكفير صاحبه لكون العلم بوجود هذه الحال للإنسان معلوماً للناس بالشرائع والعقول".
خلاصة رأي ابن رشد في هذه المسألة أن الواجب هو الإيمان بالبعث بعد الموت, وأن هناك معاداً، وأما كون المعاد يكون للأرواح أو للأجسام فليس بمهم عند ابن رشد بل لكل إنسان أن يعتقد ما أدى إليه نظره واجتهاده.(15/213)
والحق أن هذه المسألة من المسائل التي لم يوفق فيها ابن رشد بل أخطأ في دعوى أن المقام مقام اجتهاد بل الصواب أن المقام مقام نص، ولا اجتهاد مع النص طبعاً، فنصوص الكتاب والسنة تصرخ دون خفاء وبأعلى صوت: بأن المعاد للأجسام والأرواح معاً، فلنستمع إلى الآيات التالية وهي تستنكر على الإنسان حين ينسى أو يتناسى بأن الله خلقه من نطفة ويستصعب متسائلاً من يحيي العظام وهي رميم!!؟
{أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ, وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} . [12] والآية التالية وهي تصف يوم القيامة {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} ، [13] وإلى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} (الروم: 27) .
وإذا انتقلنا إلى السنة نجدها تصرح بالمعاد الجسماني بما لا يترك مجالاً للشك أو الجدل, من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "تبعث أمتي يوم القيامة غراً محجلين", وقوله: "يبعث الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً بهماً".
دلالة الحديث الأول على البعث الجسماني واضحة جداً، لأن الوصف بالغرة والتحجيل إنما هو وصف للجسم والروح تابعة طبعاً!.
وأما الحديث الثاني فلا تقل دلالته على المراد من الحديث الأول؛ لأن الأوصاف الأربعة كلها أوصاف لا تليق إلا بالجسم كما لا يخفى, والروح تدخل تبعاً, والله ولي التوفيق.
وبعد:(15/214)
أعتقد أن الموضوع قد وضح، وليس بحاجة إلى تعداد أدلة أخرى غير ما تقدم من أدلة الكتاب والسنة، والعقل لا يستبعد ذلك طبعاً، لأنه لم يستبعد المبدأ, ولقد رأينا كيف ربطت بعض الآيات السابقة المعاد بالمبدأ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} .
الخلاصة
1 – ثبت بالأدلة النقلية والعقلية أن المعاد جسماني.
2 – ثبت أن المقام مقام نص لا مقام اجتهاد.
3 – إنكار المعاد الجسماني تكذيب لنصوص الكتاب والسنة وخروج على مقتضى العقل وتكذيب نصوص الكتاب والسنة الصريحة كفر لا ريب فيه. والله المستعان..
القضاء والقدر عند ابن رشد
مما لا يختلف فيه اثنان أن الإيمان بالقضاء والقدر جانب مهم من جوانب العقيدة الإسلامية، ولهذا الإيمان أثره الواضح في سلوك المرء وتصرفاته وفي موقفه من الوقائع والأحداث التي تفاجئ الإنسان في هذه الحياة، ويجب أن يقوم هذا الإيمان على المعنى الصحيح للقضاء والقدر، ولا يوجد ذلك المعنى الصحيح إلا في الوحي الإلهي المتمثل في القرآن الكريم والسنة المطهرة ولا يجوز بوجه من الوجوه الاستعاضة عن هذا المصدر ولا إشراك غيره معه كمصدر أصيل.
معنى القدر والقضاء وأيهما أسبق
اختلف أهل العلم أيهما أسبق على الآخر, القضاء أو القدر..
والذي تطمئن إليه النفس وتؤيده الأدلة، هو قول أبي حاتم الرازي وغيره من بعض أهل العلم وخلاصته: أن القدر هو التقدير، وأن القضاء هو التفصيل، ومن الشواهد التي ذكرها أبو حاتم على ما ذهب إليه قوله تعالى:(15/215)
{قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَان} ِ (يوسف: 41) , معناه: الفراغ, وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْض} ِ (الجمعة: 10) أي فرغ منها، والقضاء والقدر بمنزلة الثوب الذي يقدره الخياط فهو قبل أن يفصله يقدر هو ويزيد وينقص, ويوسع ويضيق، وإذا فصله فقد قضاه وفاته, ولا يمكنه أن يزيد أو ينقص وذلك مثل القضاء والقدر, والله أعلم، وهناك تعريفات أخرى، وقد يعكس بعضهم فيقدم القضاء على القدر, والله أعلم.
وسواء كان هذا أو ذاك فإن الله تعالى سبق علمه بكل مخلوق وكتب مقاديره وأوجده وفق ما قدره له, وشاء ما يصدر عنه بعد وجوده من خير أو شر, ولا يخرج عن ذلك شيء لا أفعال الإنسان ولا غيرها، وكذلك ما يصيب الإنسان من الحوادث والكوارث, والعبد بجملته مخلوق جسمه وروحه وصفاته وأفعاله وأحواله فهو مخلوق خلق نشأة وصفة يتمكن بها من إحداث إرادته وأفعاله بتلك النشأة، بمشيئة الله وقدرته وتكوينه، فهو الذي خلقه وكوّنه كذلك، فتقع حركته بقدرة العبد المخلوقة، وإرادته التي جعلها الله فيه, فالله سبحانه إذا أراد فعل العبد خلق له القدرة والداعي إلى فعله, فيضاف الفعل إلى قدرة العبد إضافة المسبب إلى سببه، ويضاف إلى الله إضافة المخلوق إلى الخالق، فالمقدور واقع بقدرة العبد الحادثة وقوع المسبب بسببه، والسبب والمسبب والفاعل والآلة أثر قدرة الله [14] تعالى، فلا نعطل قدرة الله عن شمولها وكمالها وتناولها لكل ممكن، وليس في الوجود شيء مستقل بالتأثير سوى مشيئة الله وقدرته ولا نعطل قدرة العبد التي خلقها له وجعلها صالحة لمباشرة الأفعال.
هذه طريقة أهل السنة والجماعة في هذا الباب، وهي التي كان عليها سلف هذه الأمة وهي وسط بين طريقة الجبرية والقدرية كما ترى، وكما سيتضح قريباً إن شاء الله.(15/216)
وهذه المسألة من أعوص المسائل الشرعية، كما يقول أبو الوليد، لما يظهر من التعارض بين الأدلة، مما أدى إلى تفرق الناس إلى ثلاث فرق، طرفين ووسط:
الطرف الأول: الجبرية.. وعلى رأسهم جهم بن صفوان، فقد ذهبت هذه الفرقة إلى أن العبد مجبور على عمله من خير وشر، وتنسب إليه الأعمال مجازاً كما تنسب إلى الجماد، والإنسان إنما يخالف الجماد في المظهر فقط، فكتب فلان (مثلا) وقرأ وقام وقعد، مجاز، كما يقال: ماج البحر وتحرك الجمل، وأثمرت الشجرة، والذي دفعهم إلى هذا فرارهم من الوقوع فيما وقعت فيه القدرية من القول: إن العبد يخلق أفعاله، كما سيأتي إن شاء الله.
والجبرية نظرت إلى العبد وهو منفعل فقالوا: إنه مجبور غير مختار، وفاتهم أنه منفعل وفاعل.
ما ينتج من هذا القول
يترتب على هذا المذهب إبطال التكليف والثواب والعقاب على الأعمال، كما ينتج منه أن إرسال الرسل وإنزال الكتب عبث، وهو مذهب باطل ومرفوض - كما ترى - عقلاً وشرعاً:
أما عقلاً: فإنه لا يستساغ أن يعطى العامل أجر عمل لم يعمله باختياره حقيقة، وإنما ينسب إليه مجازاً، هذا من حيث الثواب.
وأما العقاب فليس من العدل أن يعاقب العامل على خطيئة ارتكبها تحت الإجيار وبدون اختيار منه بل أتاه كمُكْرَهٍ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فيصبح إنزال الترغيب والترهيب في الكتاب والسنة وإنذار الرسل كلاماً لا معنى له.
هذا ما يترتب على قول الجبرية بإيجاز.
الطرف الثاني: المعتزلة القدرية:
هذه الفرقة ترى أن العبد يخلق أفعاله بقدرته مستقلاً عن قدرة الله، ويريد ويدبر بإرادته الحرة قبل أن تتدخل إرادة الله تعالى في إرادته أو مع إرادته.
وجهة نظرهم(15/217)
والذي حمل هؤلاء على هذا القول الخطير، لما رأوا أن العبد يفعل ويترك باختياره الحر، وأثبت له الشرع الثواب على الحسنات، والعقاب على السيئات ثم لا حظوا الفرق بين حركة اليد العادية، وحركة اليد المرتعشة، حيث تكون الأولى اختياراً والثانية اضطرارية، وما ندركه من الفرق بين حركة الصاعد إلى المنارة والساقط منها إذ تكون الأولى بقدرة العبد واختياره بينما لا قدرة له ولا إرادة في الأخرى.
لاحظ القوم هذه الملاحظات في أفعال وحركات العبد، ونظروا إليه فاعلاً، وغفلوا أنه فاعل ومنفعل فزعموا أن العبد هو الذي يخلق أفعاله بقدرته قبل أن تتدخل قدرة الله، تعالى الله عن شريك يشاركه في ربوبيته وخلقه، وفاتهم أن العبد بجسمه وروحه وإرادته وقدرته مخلوق لله، فالله تعالى هو الذي يخلق له القدرة على العمل وإرادة العمل, ويجعله فاعلاً يفعل بالإرادة المخلوقة المحدودة والقدرة المحدثة حتى ينسب إليه العمل، ويضاف إليه إضافة المسبب في الوقت الذي يضاف عمله إلى الله إضافة المخلوق إلى الخالق.
ما أبعد هذا الطرف عن ذلك الطرف حيث العبد مجبور هناك وخالق هنا, وكلا الفريقين ضل الطريق وضاع الصواب بينهما، وعثر عليه أهل السنة والجماعة بتوفيق الله تعالى وقد تقدم بيان مذهبهم.
كسب الأشعري
حاول أبو الحسن الأشعري أن يأتي بحل وسط بين الجبرية والقدرية إلا أنه لم يوفق حيث جعل مناط التكليف: الكسب، والكسب هو العمل - كما يتبادر- بل هو إرادة تحصل عند الفعل، وقعوا في هذا المضيق لئلا يقولوا: إن العبد هو الفاعل الحقيقي مستقلاً كما هو مذهب القدرية، أو يقولوا إنه مجبور وليست له إرادة كما تقول الجبرية، ولكنهم لم يأتوا بجديد بل طريقتهم هذه هي الجبر بعينها والخلاف بينهم وبين الجبرية خلاف لفظي وليس بجوهري - كما ترى -، بل طريقتهم أكثر غموضاً، بل قد عد كسب الأشعري من المحالات, ومحالات الكلام ثلاثة - كما يقولون -:(15/218)
1 – كسب الأشعري.
2 – أحوال أبي هاشم.
3 – طفرة النظام.
أما كسب الأشعري فقد تحدثنا عنه، وملخصه: أن العبد ليس هو الفاعل حقيقة ولكن عند إرادته للفعل يخلق الله الفعل. نقدر أن نقول: إنها جبرية متطورة أو متسترة.
أما أحوال أبي هاشم: المراد بها الصفات المعنوية التي انفرد بإثباتها أبو هاشم دون سائر المعتزلة من نفيه لصفات المعاني، أي أنه ينفي العلم والقدرة والإرادة إلى آخر الصفات ثم يثبت كونه عالماً وقادراً ومريداً، وهذه (الكوكنة) هي الأحوال [15] .
وأما طفرة النظام: فهي (انزلاقة) انفرد بها النظام المعتزلي دون سائر المعتزلة وهي القول بأن الله خلق هذه الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن، من نبات وحيوان وجبال وبحار، ولم يتقدم خلق آدم على ذريته غير أن الله (أكمن) بعضها في بعض, فالتقدم والتأخر إنما يقع في ظهور هذه الموجودات في أماكنها دون حدوثها ووجودها.
وقد زعم النظام ما زعم متأثراً بأصحاب الكمون والظهور، من الفلاسفة وهي طفرة لم يسبقه إليها أحد قبله.
خلاصة رأي ابن رشد
يقول ابن رشد - وهو يلخص بحثه الطويل في مسألة القضاء والقدر -: "ولما كان ترتيب الأسباب ونظامها هو الذي يقتضي وجود الشيء في وقت ما، في ذلك الوقت، وجب أن يكون العلم بأسباب شيء ما هو العلم بوجود ذلك الشيء أو عدمه في وقت ما, والعلم بالأسباب على الإطلاق هو العلم بما يوجد منها، أو ما يعدم في وقت من أوقات جميع الزمان, فسبحان الذي أحاط اختراعاً وعلماً بجميع أسباب الموجودات وهذه هي مفاتح الغيب في قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاّ هُو} ـ الآية. (الأنعام: 59) .(15/219)
وإذا كان هذا كله كما وصفنا فقد تبين لك كيف لنا اكتساب، وكيف جميع مكتسباتنا بقضاء وقدر سابق, وهذا الجمع هو الذي قصده الشرع بتلك الآيات العامة والأحاديث التي يظن بها التعارض، وهي إذا خصصت عمومتها بهذا المعنى، انتفى عنها التعارض, وبهذا أيضاً تنحل جميع الشكوك التي قيلت في ذلك، أعني الحجج المتعارضة العقلية أعني أن كون الأشياء الموجودة عن إرادتنا يتم وجودها بالأمرين معاً, أعني بإرادتنا وبالأسباب التي من خارج، فإذا نسبت الأفعال إلى واحد من هذين على الإطلاق لحقت الشكوك المتقدمة.
وابن رشد - كما ترى - يدندن حول مذهب أهل السنة والجماعة في هذا المسألة وهو معافى من داء الجبرية والقدرية ومن كسب الأشعري, بل هو يثبت للعبد قدرة وإرادة، وفي الوقت نفسه يقرر أن الأشياء توجد بقضاء وقدر سابق، بل يقرر أنه لا بد من اجتماع الأمرين معاً القضاء والقدر ويسميها (السبب الخارجي) وإرادة العبد وهي السبب الداخلي وتوجد الأشياء بإذن الله تعالى، بتوفر الأمرين معاً.
وذلك يعني أن العبد يعمل بإرادته وقدرته واختياره، ولكنه هو وإرادته وقدرته والآلة التي استعملها بل وعقله كل ذلك مخلوق لله {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ} (فاطر: 3) , فتضاف الأعمال إلى العبد حقيقة إضافة المسبب إلى السبب لأن العبد بإرادته وقدرته هو سبب وجود تلك الأعمال، وقد جعل الله لكل شيء سبباً، فهي تضاف إلى الله إضافة المخلوق إلى الخالق, هذه هي طريقة أهل السنة والجماعة كما تقدم، فليهنأ ابن رشد بهذا التوفيق في هذه المسألة العويصة كما وصفها هو نفسه في كتابه منهاج الأدلة في عقائد الملل.
وبعد هذا الملخص والتعليق عليه يحسن بنا أن نسرد بعض الآيات القرآنية التي أشار إليها ابن رشد لنرى كيف تتفق ولا تختلف وبالتوفيق بينهما تزول جميع الشكوك إن شاء الله.
المجموعة الأولى من الآيات المشار إليها:(15/220)
أ – {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29) ، {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} (التكوير: 28) ، {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} (البقرة: 281) ، {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286) ، {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} (آل عمران: 182) .
هذه المجموعة وما في معناها من نصوص الكتاب والسنة تفيد أن أفعال الإنسان تقع بإرادته ومشيئته واختياره.
ومما يؤيد هذا المعنى أن المجنون لا يسأل عن أفعاله بإجماع؛ لأنها لم تقع منه بإرادته أو بإرادة معتبرة.
ب – المجموعة الثانية: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} (يس:42) ، {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} (النحل: 80) ، {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (الصافات: 96) .
تفيد هذه المجموعة وما شاكلها من نصوص الوحي أن الإنسان وإن كان فاعلاً لأفعاله حقيقة لا مجازاً وله إرادة ومشيئة ولكن إرادته ومشيئته مخلوقتان لله، وهما سببان فقط لإيجاد فعل الإنسان، والله خلق السبب والمسبب معاً، وكون الإنسان يفعل بإرادته، لا يخرج فعله من عموم مخلوقات الله فالسفينة يصنعها الإنسان بيده، ولكن الله خالقه وخالق يده وإرادته، وكذلك البيوت والجلود المذكورات في المجموعة الثانية والله ولي التوفيق.
هكذا تتفق الآيات التي ظاهرها التعارض, ولا تعارض في واقع الأمر إذ دلت المجموعة الأولى أن للإنسان تدخلاً في أعماله بحيث يثاب على الحسنة ويعاقب على السيئة، فتضاف إليه أعمال حقيقة.
ودلت المجموعة الثانية أن الإنسان وأعماله مخلوقات لله تعالى وهو الخالق وحده سبحانه.
سر القدر(15/221)
فطالما خضنا في هذا المبحث الخطير فلا بد أن نقول شيئاً في محاولة الإجابة على سؤال خطير يتردد في الأذهان، وربما ظهر على بعض الألسنة أحياناً والسؤال يتكون من فقرتين، ونص السؤال هكذا:
إذا شاء الله من الإنسان المعصية ولم يشأ منه الطاعة فلم يحاسبه على ما لم يشأ منه؟
ولم لم يشأ منه الطاعة كما شاءها من غيره؟
الجواب على الفقرة الأولى من السؤال: سبق أن تحدثنا أن في الأصول القطعية عند أهل السنة أن الهداية والضلال, والطاعة والمعصية بمشيئة الله وأن الإنسان سبب في وقوعها، ومسئوليته عن أفعاله أصل قطعي آخر من هذه الزاوية، فالقاعدة التي يتفق عليها العقلاء أن القطعيات لا تتناقص في نفسها، وإن بدت لنا متناقضة لقصور إدراكنا.
فحسبنا أن نقف عند هذه القطعيات ونؤمن بها جميعاً، ولا نرد منها شيئاً ولو لم نحط بها علماً، لأن مسألة القضاء والقدر لها تعلق بصفات الله تعالى: كعلمه وحكمته وإرادته، وحيث أننا نعجز عن الإحاطة بصفات الله تعالى, فكذلك نعجز عن الإحاطة بسر القدر، وسر القدر هو أن الله تعالى أضل وهدى وأسعد وأشقى، وأمات وأحيا غير ذلك كل ذلك لحكمة يعلمها ولا نعلمها، ها هنا السر!!!
وهو العليم الحكيم، فسبحان الذي أحاط كل شيء علماً، وأحصى كل شيء عدداً.
ولا يضير المرء في إيمانه عجزه عن الإحاطة بسر القدر لأن ذلك ليس بمستطاع ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولكن الذي يضيره أن يبني على عجزه أحكاماً ويتصرف على غير هدى. من ذلك رد بعض الأصول القطعية في القدر، وضرب النصوص بعضها ببعض.(15/222)
وللجواب على الفقرة الثانية في السؤال نورد قول علي رضي الله عنه: "القدر سر الله فلا نكشفه"ومن سر القدر عجزنا عن جواب: (لم شاء الله الطاعة من زيد ووفقه، بينما لم يشأ من عمرو ولم يوفقه؟) , بل الجواب الذي ليس بعده جواب قوله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الانبياء: 23) ، ومما لا نزاع فيه بين العقلاء أن المالك له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء، ولا يلزم ليكون تصرفه سليماً أن يدرك غيره الحكمة الباعثة, والعلة في تصرفاته, وليس لأحد حق الاعتراض عليه في تصرفه، إذا لم يعلم السر في أفعاله.
فلو رأينا صاحب بستان يحتوي بستانه على أنواع من الأشجار لو رأيناه يقطع هذه الشجرة ويترك تلك ويهذب هذه وينظمها ويهمل تلك دون تهذيب أو إصلاح، فهل لأحد حق الاعتراض على هذه الأعمال المختلفة؟ فالجواب: لا, طبعا؛. لأننا لا ندري ما هو الباعث له على ما فعل أو ترك، هذا هو معنى قول علي رضي الله عنه: "القدر سر الله فلا نكشفه"أي فلا نحاول كشفه لندرك حقيقة ذلك السر المكتوم لأنه تكلف بلا نتيجة ومن حاول إدراك غير المستطاع نتيجة محاولته:
كناطح صخرة يوماً ليوهنها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
من ثمرات الإيمان بالقدر(15/223)
صاحب الإيمان الصحيح بالقدر يباشر الأسباب المباحة بيده، ويبذل معه في الأخذ بالأسباب ولا يعجز ولا يتواكل ولكنه يعتمد على الله وحده في نجاح تلك الأسباب المبذولة لا على الأسباب ذاتها، ولقد كان كذلك سيد المرسلين وإمام المتوكلين محمد عليه الصلاة والسلام، فقد اختفى عليه الصلاة والسلام في الغار يوم الهجرة، وهذا منه عليه الصلاة والسلام يعتبر تعليماً للأمة في الأخذ بالأسباب ومباشرتها, وقد فعل ذلك في سبيل التخلص من شر المشركين ولكنه لم يكن اعتماده في الخلاص على السبب نفسه، وإنما كان اعتماده على الله العلي القدير، قال تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} (التوبة: 40) , وذلك يعني أن ثقته كانت في الله واطمئنانه وسكينته بسبب تلك المعية الخاصة، إلا أنه لم يهمل السبب بناء على الثقة والاعتماد الصادق على الله، وقد رأيناه عليه الصلاة والسلام مرة أخرى في معركة (بدر) يباشر السبب, إذ رأيناه ينظم الجيش كسبب مادي لا بد من مباشرته، ثم يرجع إلى العريش الذي ضرب له في أرض المعركة فيدعو الله ويلح في الدعاء ويكثر فيطلب النصر من الله، وكان عليه الصلاة والسلام يحث أصحابه على البيع والشراء، وكان من أصحابه المزارعون والتجار الذين يزاولون البيع والشراء.
هذا هو المفهوم الصحيح للتوكل. وهو ثمرة من ثمرات الإيمان الصحيح بالقدر {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (يس: 83) ..
خاتمة(15/224)
تم بتوفيق الله وعونه إعداد هذه العجالة التي تحدثنا فيها عن موقف الفيلسوف ابن رشد من العقل والنقل, ورأينا في هذا البحث معالجة ابن رشد التوفيق بين الشريعة والحكمة ومناقشته الحادة لعلماء الكلام في التأويل الذي يسلطه أهل الكلام على نصوص الصفات ليتبعوا ما تشابه من النصوص ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، ولقد بينا في هذه العجالة ضرورة توحيد المصدر للعقيدة الإسلامية وذلك المصدر هو الوحي الإلهي، فقط قبل أن يشاركه أي مصر آخر لا الفلسفة ولا علم الكلام ولا القياس بأنواعه.
وبعد هذا كله من الحماقة بمكان أن يقال:
بأن الشرع لم يفصل أمور العقيدة، فالرجوع إلى الفلسفة أمر ضروري لمعرفة التفصيل، وهو قول عار عن الحقيقة بل هو تمويه على السذج من الناس لأن أمور العقيدة كما أوضحنا في صلب البحث من أهم مطالب الذين بعثت بها الرسل وأنزلت من أجلها الكتب.
ومن المستحيل عقلاً أن يهمل الشارع بيان هذا المطلب الذي هو أهم المطالب على الإطلاق دون بيان شاف بالتفصيل اللازم فيحيل الناس على مصدر آخر في معرفته، في الوقت الذي بين فيه فروع الشريعة وأوضح سننها وآدابها, ولقد رأينا كيف بين الوضوء ونواقضه وكيفية التيمم وغير ذلك من الفروع.
ومن تتبع آيات القرآن وتدبرها واطلع على المقدار الكافي من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام مع دراستها ما كان يفهمه الرعيل الأول من النصوص، يدرك تماماً ودون شك أن بيان العقيدة قد وقع بياناً يغني أهله عن الحاجة إلى سفسطة أهل الكلام وخوض الفلاسفة.
والحمد لله رب العالمين..
--------------------------------------------------------------------------------
[1] منهاج الأدلة.
[2] من كتاب القضاء والقدر للدكتور عبد الكريم زيدان بتصرف.
[3] قاموس المحيط..(15/225)
[4] موافقة صريحة المعقول لصحيح المنقول ـ لابن تيمية.
[5] العلماء في اصطلاح ابن رشد: الحكماء أي الفلاسفة.
[6] من شرح الطحاوية بتصرف.
[7] سورة براءة. الآية: 6.
[8] سورة الكهف. الآية: 109.
[9] منهاج الأدلة لابن رشد.
[10] منهاج الأدلة لابن رشد.
[11] وهي طريقة الباطنية.
[12] سورة يس.
[13] سورة الأنبياء.
[14] موافقة المعقول ـ لابن تيمية.
[15] والتناقض واضح في هذا التصرف لأنه ليس بمعقول ولا مفهوم نفي الإرادة مثلاً مع إثبات كونه تعالى مريداً.(15/226)
حوار مع المحيط الهادي
بقلم فضيلة الشيخ عبد الله بن أحمد قادري
عميد كلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية
أقلعت بنا الطائرة الأمريكية الضخمة ذات الطابقين التي تحمل أكثر من ثلثمائة راكب من مطار لوس أنجلس إلى طوكيو في الساعة العاشرة إلا ربعاً صباحاً, ومعروف أن المسافة التي تقطعها الطائرة بين لوس أنجلس واليابان كلها فوق المحيط الهادي، وكنت في اشتياق للتأمل في هذا المحيط الضخم الذي رأيته في الخريطة يأخذ مسافة واسعة من الكرة الأرضية, لذلك صممنا أن يكون سفرنا بالنهار واشترطنا على شركة الخطوط أن نكون بجانب إحدى النوافذ، إنها فرصة لزيادة الإيمان بخالق الكون، كانت الطائرة تنهب الجو نهباً, فتسابق الزمن, لأننا نسير إلى الغرب والشمس لا زالت في أول نهارها وكلما تقدمنا إلى الغرب كلما كنا مبكرين وأخذت أنظر إلى المحيط لأرى أمواجه الهادرة وهي تتقلب كصفحات كتاب, وإذا السحاب يغطيه كله فلم أر شيئاً منه، فقلت في نفسي نحن قمنا من نومنا في لوس أنجلس مبكرين، لأننا مسافرون والوقت هنا لا زال مبكراً فلعل المحيط لا يزال يغط في نومه ولذلك بقي مغطى بهذا السحاب المتراكم.
أنا زائر وزيارتي نادرة، ولو علم بزيارتي ومن أين جئت لما تردد في طرد النوم عنه وإبعاد الغطاء عن وجهه، ولعل في الشعر ما يوقظه بطرب وليس بإزعاج فأخذت في مخاطبة السحاب حتى انقشع وكان لي ما أردت:
وغدا السحاب مسجياً لمحيطه
وكأنه في نومه يتقلب
طاب المنام له لطيب إقامته
والقادري مسافر متأهب
لكنه متمتع بجمال ما
يونو إليه، لربه متأوب
يزداد في الكون الفسيح تأملاً
ويزيد إيماناً، فأني يتعب؟
يا سحب مالك تحجبين مزمجراً
وهو الشجاع أمثله يتحجب؟
وغناه يمنع بخله، بل إنه
يعطي النفيس لكل من يتطلب؟
وأنا الغنى بخالقي لا أبتغي(15/227)
من غيره شيئاً يباع ويوهب
بل زائر ملكوته، متزود
منه اليقين إذا أؤب وأذهب
والله رب العالمين إلهنا
فأمط لثامك، أين منه المهرب؟
قام المحيط مهلّلاً ومكبّراً
ويقول من هذا الذي يترقب؟
فأجبته إني لصنو قادم
من طيبة حيث الحبيب الأطيب
أصغى وأطرق ساكناً وكأنما
دخل الصلاة مكبراً يتعجب
أو من مدينة خير من وطئ الثرا
حقا أتيت إلى مرابع خيب؟
فأجبته بهدى النبي أتيتكم
وإلى إله محمد أتقرّب
ولسوف تشرق شمسنا بسمائكم
يوماً، وليست بعد ذلك تغرب
حتى تسجر مثل غيرك فانتظر
سفن الجهاد تدك من يتحزّب
فتعانقت أمواجه لقدومنا
وغدت تسبّح ربها وترحب [1]
عبد الله القادري
عميد كلية اللغة العربية
بالجامعة الإسلامية ـ بالمدينة المنورة
--------------------------------------------------------------------------------
[1] يشير الشاعر إلى قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} (التكوير:6) , حيث توقد ناراً يوم القيامة أو تمتلئ. والله علم. المجلة.(15/228)
العدد 41
فهرس المحتويات
1- كلمة العدد: أسرة التحرير
2- المفهوم الصحيح للسلفية:أسرة التحرير
3- شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن: لفضيلة الشيخ أبي بكر الجزائري
4- أهل الكتاب في القرآن الكريم: لفضيلة الشيخ معوض عوض إبراهيم
5- في رحاب سورة المائدة: د. إبراهيم عبد الحميد سلامه
6- الصوم ومسلمو اليوم: لفضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي
7- التنبيه على خبر باطل في أخبار مكة: لفضيلة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري
8- مفهوم الربوبية: بقلم سعد ندا
9- العبادة في الإسلام: بقلم أحمد عبد الرحيم السايح
10- العقل والنقل عند ابن رشد: بقلم فضيلة الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
11- حوار مع المحيط الهادي: بقلم فضيلة الشيخ عبد الله بن أحمد قادري
12- لزوم التزام المسلم بأحكام الشريعة الإسلامية: بقلم فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
13- نظام الأسرة في الإسلام: إعداد: محمد أمان بن علي الجامي
14- غزوة بدر معالم في طريق النصر: لفضيلة الشيخ محمد السيد الوكيل
15- فتح الفتوح: لفضيلة الدكتور عباس محجوب
16- تاريخ مشرق للعلوم الصيدلية في النهضة الإسلامية: بقلم دكتور أبو الوفاء عبد الآخر
17- الإمام عبد الرحمن بن الجوزي مثال الطالب المكافح والداعية الناجح: لفضيلة الدكتور جمعة علي الخولي
18- ترجمة الشيخ عبد الرحمن الإفريقي: لفضيلة الشيخ عمر بن محمد فلاته
19- خطر مشاركة المرأة للرجل في ميدان عمله: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
20- الدين والحضارة: لفضيلة الدكتور عبد المنعم حسنين
21- البحث الأمين في حديث الأربعين: لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عمر الربيعان
22- تعقيب لا تثريب: لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
23- قرن إفريقيا
24- قلم التحرير
25- مواصفات العبد الواصل كما يقدمها الإمام ابن قيم الجوزية: مختارات من الصحف
26- الفتاوى: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
27- أخبار الجامعة
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(15/229)
لزوم التزام المسلم بأحكام الشريعة الإسلامية
بقلم فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
الحمد لله الذي ارتضى الإسلام ديناً لهذه الأمة فأكمله لها وأتم عليها به النعمة وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, المبعوث رحمة للعالمين صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
فموضوع حديثي: لزوم التزام المسلم بأحكام الشريعة الإسلامية, وسيدور الكلام فيه باختصار حول النقاط التالية:
1 - من هو المسلم؟ 2 - الشريعة الإسلامية وما بنيت عليه. 3 - كمال الشريعة الإسلامية وشمولها وخلودها. 4- إلتزام المسلم بأحكام الشريعة الإسلامية لازم لا بد منه. 5 - النتائج الطيبة للالتزام بالشريعة الإسلامية والآثار السيئة في التخلي عن ذلك..
من هو المسلم؟(15/230)
المسلم اسم فاعل من أسلم بمعنى أذعن وانقاد لربه وخالقه سبحانه وتعالى, والإسلام بهذا المعنى شامل خضوع جميع المخلوقات له سبحانه كما يندرج تحته رسالات رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, يقول الله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} (آل عمران:83) .. ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ, إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ, وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ, أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 133) ، ويقول سبحانه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آل عمران: 67)
ويقول سبحانه عن نبيه يوسف عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101)(15/231)
فجميع شرائع الله كلها تلتقي في إخلاص العبادة لله والخضوع له والاستسلام لشرعه والالتزام بأمره ونهيه، وإن تنوعت الشرائع وتعددت المناهج كما ورد في الحديث: "نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد"..
وبعد بعثة رسوله الكريم محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم أصبح الإسلام علماً على شريعته وعنواناً لأهل ملته ولا يسع أحداً من الجن والإنس الخروج عن دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم.(15/232)
يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ. وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ. فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ. وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (آل عمران:20) ، ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85) ، ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهََ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 102) ، ويقول سبحانه: {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ. وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} (الأنعام:125) ، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام في حديث جبريل المشهور بقوله: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً". وأخبر صلى الله عليه وسلم في حديث آخر أنّ الإسلام بني على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان، وفسر صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث جبريل بقوله: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره"، والإسلام والإيمان لفظان إذا جمع بينهما في الذكر عني بالإسلام الأعمال(15/233)
الظاهرة وبالإيمان الأعمال الباطنة، كما في حديث جبريل هذا فإذا ذكر كل واحد منهما منفرداً عن الآخر عنى به الأعمال الظاهرة والباطنة معاً.
إذا فالإسلام عقيدة وعمل، دين ودولة، منهج حياة في جميع المجالات، وقد عرف الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الإسلام بأنه الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والخلوص من الشرك.
فالمسلم حقاً هو الذي وفق للدخول في الإسلام أو النشأة عليه والتزم له قولاً وعملاً واعتقاداً حتى أتاه اليقين.
الشريعة الإسلامية وما بنيت عليه:
الشريعة الإسلامية هي الوحي الذي أوحاه الله إلى نبيه محمد عليه الصلاة والسلام ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور وهي كتاب الله الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المفسرة للقرآن والمبينة له والدالة عليه، والكتاب والسنة متلازمان تلازم شهادة لا إله إلا الله وشهادة أن محمداً رسول الله. وقد بُنِيَتْ الشريعة الإسلامية على أصلين عظيمين وقاعدتين أساسيتين:
إحداهما: أن لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له ولا يعبد معه غيره كائناً من كان لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلاً عمن عداهما كما قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللهِ أَحَداً} (الجن: 18) , وقال: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 163) .(15/234)
الثانية: أن لا يعبد الله إلا بما شرع الله في كتابه أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7) وقال: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: 110) , قال ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} أي ما كان موافق لشرع الله {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له, وهذان ركنا العمل المتقبل لا بد أن يكون خالصاً لله صواباً على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته عن عائشة رضي الله عنها: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وفي لفظ مسلم: "من عمل ليس عليه أمرنا فهو رد"، أي مردود على صاحبه إذ فلا بد في العمل المقبول أن يكون خالصاً لله وعلى وفق ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم.
كمال الشريعة الإسلامية وشمولها وخلودها:
لقد جمع الله للشريعة الإسلامية التي بعث بها رسوله وخليله محمدا صلى الله عليه وسلم هذه الصفات, صفة الكمال, وصفة الشمول, وصفة الخلود والبقاء.
أما صفة الكمال الخالية من أي نقص ومن الحاجة إلى أي زيادة فقد أثبتها سبحانه لشريعة الإسلام بقوله سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) .(15/235)
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "هذه من أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء وبعثه إلى الإنس والجن فلا حلال إلا ما أحله ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه, وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} (الأنعام: 115) أي صدقاً في الأخبار وعدلا في الأوامر والنواهي, فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة ولهذا قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} ، أي فارضوه أنتم لأنفسكم فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه وبعث به أفضل الرسل الكرام وأنزل به أشرف كتبه.(15/236)
وأما صفة الشمول والخلود فإنه ما من شيء يقرب إلى الله إلا دلّ الرسول صلى الله عليه وسلم أمته عليه, وما من شر إلا حذّرها منه، وقد أخرج مسلم في صحيحه عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قيل له: "قد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة قال: فقال: "أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول أو أن نستنجي باليمين أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار أو أن نستنجي برجيع أو عظم"، وهي صالحة لكل زمان ومكان وعامة للجن والإنس ليست لقوم دون قوم كما قال صلى الله عليه وسلم في بيان خصائصه: "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة", وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار" رواه الإمام مسلم في صحيحه، وقال صلى الله عليه وسلم: "لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي" قال ذلك لما رأى مع أحد أصحابه أوراقاً من التوراة ينظر فيها. وإذا نزل عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان من السماء فإنه يحكم بشريعة الإسلام التي خاتمة الشرائع.(15/237)
وقد قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير سورة (هود) : "ثم قال متوعداً لمن كذب بالقرآن أو بشيء منه {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} (هود: 17) أي ومن كفر بالقرآن من سائر أهل الأرض مشركهم وكافرهم وأهل الكتاب وغيرهم من سائر طوائف بني آدم على اختلاف ألوانهم وأشكالهم وأجناسهم ممن بلغه القرآن كما قال تعالى: {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (الأنعام: 19) ، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} (الأعراف: 158) , وقال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} ، وفي صحيح مسلم من حديث شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار"، وقال أيوب السختياني عن سعيد بن جبير قال: "كنت لأسمع بحديث النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصادقه أو قال تصديقه في القرآن، فبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا دخل النار" فجعلت أقول: أين مصداقه في كتاب الله؟ قال: وكلما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدت له تصديقاً في القرآن حتى وجدت هذه الآية: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} . قال: "من الملل كلها"..
إلتزام المسلم بأحكام الشريعة الإسلامية لازم لا بد منه:(15/238)
وهذه الشريعة الكاملة الشاملة الخالدة إلتزام المسلم بأحكامها لازم لا بد منه ولا خيار للمسلم فيه، وحاجة المسلم إلى السير طبقاً لتعاليم الشريعة الإسلامية فوق كل حاجة وضرورته إلى ذلك فوق كل ضرورة ليفوز برضى الله عز وجل وينجو من سخطه وأليم عقابه يقول سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهُ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} (الأحزاب: 36) . ويقول سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الحشر: 7) ، ويقول سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63) . ويقول سبحانه: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 3) ، ويقول سبحانه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (هود: 121) ، ويقول سبحانه: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الزخرف:43) ، ويقول سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام:153) ، ويقول سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (آل عمران: 32) ، وقول سبحانه: {إِنَّمَا كَانَ(15/239)
قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (النور: 52) , ويقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) ، ويقول سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) .(15/240)
ويقول سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، ويقول: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة: 45) ، ويقول سبحانه: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ, وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهُ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ, وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ. أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة: 50) ، ويقول سبحانه: {أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ, وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الأنعام: 115) .(15/241)
النتائج الطيبة للالتزام بالشريعة الإسلامية والآثار السيّئة في التخلّي عن ذلك:
إنّ التزام المسلمين بأحكام شرعهم الحنيف ودينهم القويم هو أساس فلاحهم وعنوان سعادتهم وسبب عزهم ونصرهم على أعدائهم, وهو مصدر أمنهم واستقرارهم. ومتى كانت حالهم بعكس ذلك حصل لهم الخسران والهلاك والذل والهوان. وقد أقسم الله بالعصر على خسارة كل إنسان إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مليئان بالنصوص التي توضح هذه الحقيقة, وما سجله التاريخ من حصول العزة لمن أطاعه والذلة لمن عصاه يصدق ذلك, والواقع المشاهد المعاين أصدق برهان.(15/242)
قال تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (آل عمران: 101) , وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) , وقال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ, الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 41) , وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ, تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ, يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (الصف: 12) , وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الأنفال: 29) , وقال سبحانه: {وَعَدَ االلهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ, وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (النور: 56) .(15/243)
هكذا قال الله في حق من أطاعه واتقاه والتزم شرعه وهداه, ولنستمع لما قاله في حق من زهد بالحق واستبدل الأدنى بالذي هو خير, فأعرض عن ذكر الله, يقول الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى, قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً, قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى, وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (طه: 127) ، ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ, وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} (الزخرف:37) .
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى"، قيل: يا رسول الله ومن يأبى؟ فقال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى".(15/244)
وقد حوى التاريخ في طياته أخبار انتصار المسلمين الصادقين على أعدائهم وتغلبهم عليهم ليس لكثرة عددهم وعددهم وإنما هو بسبب قوة إيمانهم وتمسكهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم مع الأخذ بالأسباب التي أمرهم الله بها بقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) , فظفروا بنصر الله لأنهم نصروه وجاهدوا في سبيله لتكون كلمته هي العليا، وكلمة أعدائه السفلى، فكان لهم ما أرادوا نصراً في الدنيا وسعادة في الآخرة, وصدق الله إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) ، ويقول: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (آل عمران:160)(15/245)
وإذا أراد العاقل في هذا العصر الذي نعيش فيه معرفة الشاهد من الواقع على صدق هذه الحقيقة، وهي أن المسلمين ينتصرون بسبب التزامهم شريعة الإسلام التي اختارها الله لهم وينهزمون عند زهدهم فيها وبعدهم عن الأخذ بتعاليمها لم يجد شاهداً أوضح من نتائج الحرب بين العرب واليهود التي تجلت فيها هذه الحقيقة بوضوح ذلك أن العرب الذين أعزهم الله بالإسلام لما لم يلتزموا في هذا العصر - إلا من شاء الله منهم - بشرع الله, ولم يحكموا الوحي الذي نزل به جبريل من الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم, واختاروا لأنفسهم التحاكم إلى قوانين وضعية ما أنزل الله بها من سلطان, لما لم يلتزموا بهذه الشريعة الكاملة الصالحة لكل زمان ومكان ظفروا بالخذلان وصارت لهم الذلة أمام من كتب الله عليهم الذلة, وأي ذل وهوان أشد من هذا الذل والهوان, وسيسجل التاريخ ذلك للذين يأتون من بعد, كما سجل ما جرى من خير وشر للذين مضوا من قبل، ولن يقوم للمسلمين قائمة إلا إذا رجعوا إلى الاعتصام بالله والالتزام بشريعة الله.
وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يوفق المسلمين جميعاً في كل مكان إلى ما فيه عزهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخليله وخيرته من خلقه نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(15/246)
نظام الأسرة في الإسلام
إعداد: محمد أمان بن علي الجامي
عميد كلية الحديث بالجامع ة الإسلامية
الحمد لله وصلاة الله وسلامه وبركاته على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد تلقت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة دعوة كريمة من المجلس الأعلى لمسلمي كينيا بنيروبي للمشاركة في هذه الندوة الدينية المباركة - إن شاء الله -..
فبادرت الجامعة فلبت الدعوة، ثم طلبت إليّ الاشتراك في الندوة ممثلاً لها ببحث أقدمه فيها.
فلبيت الطلب طبعاً لأنه طلب لا يرد مثله، لأن في تلبية مثل هذا الطلب مساهمة في ميدان من ميادين الدعوة إلى الله، والدعوة إلى الله من أهم أهداف الجامعة الإسلامية، ومن أجلها أنشئت..
فها أنا ذا أتقدم بهذا البحث المتواضع [1] تحت عنوان:
نظام الأسرة في الإسلام
والله أسأل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم إنه خير مسؤول وأكرم معط, فأقول مستعيناً بالله وحده..
إن للدعوة الإسلامية مجالات متعددة وأساليب مختلفة, ومن أساليبها إقامة الندوات والمؤتمرات التي يلتقي فيها رجال الفكر الإسلامي وفقهاء المسلمين ليعالجوا فيها مشكلات الوقت، ويردوا الشبهات التي تثار حول الإسلام وعقيدة المسلمين.
ويبينوا للناس أحكام الدين الإسلامي في جميع مجالات الحياة لمن يحتاجون إلى البيان - وما أكثر من يحتاجون - ليكون الناس على بينة من أمور دينهم ودنياهم ويكون ذلك على ضوء الكتاب والسنة ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولا سبيل للخروج من ظلمات الجهل والجاهلية إلا بفقه الكتاب والسنة، وتلك وظيفة رسل الله عليهم الصلاة والسلام من أولهم نوح عليه السلام إلى خاتمهم وإمامهم محمد عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام.(15/247)
فيقول الله تعالى مخاطباً لنبيه الكريم محمد عليه الصلاة والسلام ومبيناً لوظيفته ووظيفة أتباعه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً, وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً, وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً} (الأحزاب: 47)
في هذه الآي الثلاث من سورة الأحزاب بيان لوظيفة الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام, ووظيفة أتباعه.
وهي الدعوة إلى الله بإذنه وأمره وعلى بصيرة وعلم {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) .
وتكليف الله نبيه بهذه الدعوة العامة التي لا تخص قومه دون غيرهم - كما هو شأن دعوة الرسل من قبله - بل هي للناس كافة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنَّاس} (سبأ: 28) .
وهذا التكليف له ولأتباعه يثبت له ثم لأتباعه أن يكونوا شهداء على الناس جميعاً.
وهذا يعني أن الرسالة المحمدية هي المهيمنة على جميع الأديان السابقة، فدينه هو النظام الأخير الذي لا يسع أحدا من البشر إلا اتباعه ولا تجوز مخالفته.(15/248)
وهو نظام رباني كامل؛ لأن الله الذي خلق هذا الكائن الممتاز (الإنسان) لا يليق بحكمته أن يتركه هملا دون أمر أو نهي أو توجيه، بل يسلمه للفوضى ليتخبط خبط عشواء، يحلل ويحرم كما يهوى أو يشاء أو يعبد ما يريد كلا, بل نظم له حياته وعلاقاته المتنوعة وأرسل رسله لهذا الغرض ذاته، وأنزل عليهم كتبه، وخاتم رسله محمدٌ عليه الصلاة والسلام إذ لا نبي بعده, وآخر كتبه القرآن الكريم إذ لا كتاب بعده وبيان ذلك الكتاب وتفسيره في السنة المطهرة {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) , وبهذا كله نظم الإسلام علاقة العبد بربه وخالقه بحيث يصبح عبدا له وحده يعبده دون غيره.. يعبده بعبادة منظمة مضبوطة بضوابط الشرع, تولى القرآن تنظيمها جملة أو تفصيلا، وشرحتها السنة المطهرة وزادتها بياناً وتوضيحا، على اختلاف درجاتها وشعبها الكثيرة إذ يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان".
وهذه الشعب كلها عبادات وطاعات, على تفاوتها.
وجميع العبادات يجب أن تكون مقيدة بشريعة الله التي تؤخذ رأساً من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام, وخاضعة لأحكامه, وسلوك العبد هذا المسلك في جميع عباداته ومعاملاته وجميع تصرفاته هو الذي نعنيه بالعلاقة بين العبد وربه وهي العبودية الخالصة, وحقيقتها ألا يفقد الرب عبده حيث أمره ولا يجده حيث نهاه، وإن هفى أحياناً وخالف أمر ربه بادر بالتوبة والرجوع إلى الصواب، ليمحو أثر مخالفته وعصيانه بالتوبة والإنابة؛ لأن التوبة تجب ما قبلها, {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 31) .(15/249)
هكذا نظم الإسلام - بالاختصار - علاقة العبد بربه وخالقه, فكما نظم هذه العلاقة على الوجه الذي ذكرنا، كذلك اهتم الإسلام بتنظيم الأسرة.
وقد حث الإسلام على إنشاء مؤسسة الأسرة بتشريعه الزواج وحثه عليه مبيناً أن الزواج سكونٌ للنفس للطرفين وهدوء لهما وراحة للجسد، وطمأنينة للروح وامتداد للحياة إلى آخر مطافها.
فلنستمع الآن إلى بعض الآيات القرآنية في هذه المعاني إذ يقول الله تعالى وهو يحث عباده على الزواج: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} (النساء: 3) . ويقول: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21) وحيث يقول: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} (البقرة: 187) , ويقول: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ} (البقرة: 223) .
هكذا يتحدث القرآن عن مؤسسة الأسرة في عديد من الآيات، وبأساليب مختلفة كما رأينا وكما نسمع مرة أخرى آية سورة النساء التي تبين أن طرفي هذه المؤسسة خلقا من نفس واحدة وكأنهما شطران لنفس واحدة فلا فضل لأحد الشطرين على الآخر في أصل الخلقة ومن حيث العنصر وإنما يحصل التفاضل بينهما بأمور خارجية ومقومات أخرى غير ذاتية وصفات مكتسبة إذ يقول الله تعالى في هذا المعنى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء: 1) . هكذا يحث الإسلام على إنشاء الأسرة لتكون امتدادا للحياة وراحة للطرفين.
أهداف الزواج في الإسلام
التشريع الإسلامي تشريع حكيم، وله هدف ومغزى..(15/250)
فالله تعالى من أسمائه: (الحكيم) لذا يجب أن نعتقد جازمين أنه تعالى حكيم في تشريعه كما هو حكيم في خلقه وصنعه.
فحكم تشريع الزواج تكمن في الأمور التالية:
أ – غض البصر من الطرفين، وقد اهتم الإسلام في قرآنه وسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر, يقول الله تعالى: وهو يأمر الرجال والنساء معاً بغض البصر: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ, وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (النور: 30-31) .
والتساهل في مسألة غض البصر يؤدي إلى الانزلاق الخلقي كما هو مشاهد في أكثر مدننا وعواصمنا الإسلامية ـ وللأسف الشديد..
ب – حفظ الفرج, وقد تناولت الآيات التي تقدم ذكرها قريباً الأمر بحفظ الفرج مع الأمر بغض البصر، ولعل الأول ينتج الثاني بمعنى أن غض البصر ينتج حفظ الفرج في الغالب الكثير، لأن من تمكنت منه مراقبة الله تعالى فلازم غض بصره خوفاً من الله وحياء منه سوف يحفظ فرجه عما حرمه الله عليه ولا يقع في الفاحشة.
وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام قوله: "العينان تزنيان وزناهما النظر, والأذنان تزنيان وزناهما السماع" إلى أن قال: "والفرج يصدق ذلك أو يكذبه"..
ج – الحصول على النسل الذي هو لبنة في بناء المجتمع وسبب إكثار أتباع خاتم الأنبياء والمرسلين.
ويزيد الأمر وضوحاً الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود والذي يخاطب فيه الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام شباب المسلمين بذلك الأسلوب الرقيق ليرشدهم إلى ما فيه صلاحهم ونجاتهم إذ يقول عليه الصلاة والسلام:(15/251)
"يا معشر الشباب من استطاع الباءة منكم فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء". وعند البيهقي من حديث أبي أمامة "تزوجوا فإني مكاثرٌ بكم الأمم".
وقد تقدمت بعض المعاني التي يمكن أن تعد من أهداف الزواج كالهدوء وراحة النفس مثلاً.
وقد يخطئ الذين يظنون أن الغرض من الزواج هو الحصول على اللذة والمتعة كيفما تيسرت، وليس وراء ذلك غرض آخر، وهذا التصور الخاطئ قد أوقع كثيراً من الشباب في مهالك خطيرة وسقوط في الخلق والانحطاط، مما جعل حياة عديد منهم في كثير من البلدان شبيهة بحياة الحيوانات التي ليس عليها قلم التكليف بل هم أضل سبيلاً وأسوأ حالا.
من يتولى إدارة مؤسسة الأسرة؟
إن الإسلام لم يهمل هذه المؤسسة وبيان من يرأسها، أو من أولى الناس لتحمل مسؤليتها.
والذي يتضح من دراسة الإسلام أن الاختصاصات أو الصلاحيات موزعة بين الطرفين, والواجبات محددة, ولكل جانب خاص هو مسئول عنه:
للرجل اختصاصات لا تشاركه فيها المرأة ولا تقوى على الاضطلاع بمهمتها وسياستها، وللمرأة اختصاصات لا يصلح لها الرجل ولا يحس القيام بها..
فمحاولة أحد الطرفين التدخل في اختصاص الطرف الآخر يعرض المؤسسة للارتباك والاضطراب ويسلمها للفوضى.
فلنستمع إلى بعض الآيات القرآنية وهي تنظم حياة الأسرة وتحدد المسئوليات فتعطي الرجل القوامة والإدارة حيث يقول الله عز وجل:
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ} (النساء: 34) .(15/252)
فالآية صريحة في إعطاء الرجل إدارة المؤسسة، والقوامة عليها كما ترى ولم تهمل الآية بيان السبب، بل بينت إذ يقول الله عز وجل: {بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} ، ثم إنه مما لا نزاع فيه أن أي مؤسسة أو شركة إنما ينتخب لإرادتها من لديه دراية وخبرة وقوة على الإدارة, وعلى الصبر على العمل, وحنكة في سياسة طبيعة العمل، ومؤسسة الأسرة من أعم المؤسسات وأخطرها على الإطلاق؛ إذ بصلاحها يصلح المجتمع, وبفسادها يفسد المجتمع؛ لأنها هي التي تقدم للمجتمع أفراداً هم لبنات المجتمع, والبناء إنما يكتسب صفاته من مواد البناء قوة وضعفاً.
لهذا كله حمّل الإسلام الرجل هذه المهمة, وهي أمانة ثقيلة لأنه أليق بها وأقوى على أدائها, والمرأة المنصفة تعترف بذلك.
يقول الأستاذ محمد الغزالي في كتابه: (حقوق الإنسان في الإسلام) .
"ولما كان الرجل بعيداً عن مشاغل الحيض والنفاس والحمل والرضاع كان أجلد على ملاقات الصعاب ومعانات الحرف المختلفة، وكان الضرب في الأرض ابتغاء الرزق ألصق به هو, ومن ثم فقد كلفه الإسلام الإنفاق على زوجته وعلى قرابته الإناث الفقيرات"اهـ.
ما ذكره الأستاذ الغزالي جانب مهم ومعقول لترشيح الرجل لهذه المهمة مهمة القوامة.
وهناك جوانب أخرى تبدو عند التأمل في بعض النواحي وهي كثيرة, نكتفي بهذه الإشارة اقتصاداً في الوقت:
مسئولية المرأة في الأسرة
إذا كان الرجل هو الذي كلف ليمثل سياسة الأسرة الخارجية والاقتصادية على ما وصفنا فإن المرأة هي المسئولة عن إدارة الأسرة الداخلية تحفظ بيت زوجها في حضوره وغيابه. وتحفظ ماله وتحفظ أولاده وعليها تنظيم المنزل إلى غير ذلك من الشئون المنزلية.(15/253)
ولهذا كله تتمتع بكل احترام وتقدير من أفراد الأسرة طالما حافظت على مسئوليتها الداخلية ولم تتطلع إلى ما وراءها مما لا تستطيع القيام به من صلاحيات الرجل.
الإسلام لم يظلم المرأة
كثيراً ما نسمع تلكم الأصوات المنكرة التي تنادي بأن الإسلام هضم حقوق المرأة وظلمها ولم يعطها حريتها ولن يساو بينها وبين الرجل إلى آخر تلكم العبارات المترجمة عما يكتبه أعداء الإسلام ضد الإسلام.
وفي الواقع أن أصحاب هذه الدعوى هم أحد رجلين اثنين:
أما أحدهما: فجاهل ساذج سمع الناس قالوا قولة فاتبعهم بل صار لهم بوقاً يبلغ ما يقولون، وليس لديه علم يستند عليه فيما يقول ويذيع، بل ليس له من الأمر شيء إلا البلاغ، وهو يهرف ما لا يعرف.
وقد اغتر به كثير من الناس الذين لم يؤتوا من الفقه في الدين شيئاً ولا سيما النساء المثقفات بثقافة غير إسلامية أو الجاهلات المقلدات على غير هدى.
وهذا الصنف من الناس يضل ويضلل غيره لأنه جاهل وفي الوقت نفسه أنه يجهل جهله، يصدق عليه قول القائل:
إذا كنت لا تدري بأنك لا تدري
فذاك إذاً جهل مضاف إلى جهل
وأما الآخر: فهو إنسان ماكر يمكر ويكيد للإسلام والمسلمين ويريد أن يفسد عليهم دينهم وأخلاقهم عن طريق إفساد الأسرة متأثراً بأعداء الإسلام ومنفذاً لخطتهم في محاربة الإسلام.
إنّ هذا وذاك وهما اللذان يطلقان هذا الصوت المنكر في كل مكان لمحاولة التضليل وقد تأثر به الكثيرات من المسلمات الجاهلات ظناً منهن بأن هذا النداء في صالحهن فضمت أصواتهن إلى ذلك الصوت.
فبذلك تصبح المرأة لمسلمة المتأثرة بذلك النداء ظالمة لدينها وإسلامها متهمة إياه بأنه ظلمها، ذلك الإسلام الذي رفع من شأنها لو كانت تعلم وتفقه - وأين الفقه لدى نسائنا إلا ما شاء الله - والله المستعان.(15/254)
فعلى المرأة المسلمة المثقفة أن تدرس دينها لتعرف موقف الإسلام من المرأة وما لها من الكرامة في الإسلام ولا تتبع كل ناعق.
وفي الوقت نفسه عليها أن تتطلع على ما في القوانين الأجنبية مثل القوانين الفرنسية وغيرها لتعلم موقف تلك القوانين [2] من المرأة، ثم عليها أن تعرف كيف كانت المرأة قبل الإسلام حيث كانت سقط المتاع فاقدة القيمة والكرامة وما أكرمها إلا الإسلام.
تتمتع المرأة في الإسلام بالحقوق المدنية مثل الرجل
للمرأة المسلمة حرية كاملة في الحقوق المدنية، وهي مثل الرجل في هذه الحقوق.
فللمرأة المسلمة أن تبيع وتشتري وتهب وتقبل الهبة وتعير وتستعير وتتصرف في مالها، ولها جميع التصرفات المالية مثل الرجل.
الحقوق الدينية للمرأة المسلمة
فالمرأة المسلمة تشرع لها جميع العبادات كالرجل فهي تصلي وتصوم وتزكي من مالها وتحج وتثاب على عباداتها وطاعتها مثل ما يثاب الرجل وليس أجرها دون أجر الرجل.
إلا أن الإسلام قد يخفف عن المرأة بعض العبادات تقديراً لظروفها الطارئة فمثلاً يسمح للمرأة الحائض في ترك الصلاة ولا تؤمر بقضائها بعد الطهر لما في ذلك من المشقة والحرج {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} (الحج: 78) .
ولها أن تترك الصيام أيام عادتها ولكنها تقضي على السعة لعدم المشقة عليها في قضاء الصوم بخلاف الصلاة، والنفساء تعامل بنفس المعاملة.
حرية الزواج للمرأة المسلمة
الإسلام يعطي المرأة حرية كاملة في الزواج، فهي تختار الزوج الصالح لها قبل أن يكلفها وليها على من يختاره هو, بل ليس له أن يزوجها إلا بإذنها الصريح بالنطق إذا كانت المرأة ثيباً لأنها قد جربت الرجال ولا تستحي أن تقول نعم أو لا.(15/255)
وأما البكر فيكفي في إذنها السكوت حين الاستئذان فلا بد من الاستئذان ولو زوجها أبوها في صغرها وقبل بلوغها فلها الخيار إذا بلغت بين إجازة ذلك الزواج أو رفضه.
هذا هو حكم الإسلام في الزواج حيث يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن وإذنها صماتها أي سكوتها". أو كما قال عليه الصلاة والسلام رواه البخاري من حديث أبي هريرة.
إرث المرأة في الإسلام
وقد ركز دعاة المساواة على هذه النقطة فتمكنوا من تضليل الكثيرات من المسلمات الغافلات حيث زينوا لهن بأن الإسلام يفضل الرجل على المرأة فيعطيه في الميراث أكثر من النساء، فيعطيه مثل حظ الانثيين ولماذا؟؟ !! ..
وللإجابة على السؤال أقول:
حقاً إن الإسلام يعطي الرجل امرأتين وهذا التفضيل في الميراث لا يترتب عليه تفضيل الرجل على المرأة في كل شيء كما سنرى قريباً إن شاء الله.
كما لا يلزم منه الحط من مكانة المرأة بل إنه عطاء عادل ومنصف.
بيان ذلك ما سبق أن ذكرنا من أن الإسلام يكلف الرجل وحده بالإنفاق على الأسرة المكونة من الزوجة والأولاد بل وعلى كل محتاج من أقاربه ولم يكلف المرأة حتى بنفقة نفسها بل نفقتها على زوجها ولو كانت هي أغنى من زوجها وأما قبل الزواج فنفقتها على أهلها.
فهل من الإنصاف أن تعطى المرأة المنفق عليها مثل الذي ينفق عليها؟؟ !!
أعتقد أن المرأة المسلمة المنصفة سوف تبادر بالجواب على هذا السؤال قبل الرجال قائلة: إن ذلك ليس من الإنصاف لو حصل.
بل الإنصاف ما فعله الإسلام وقد أنصف الرجل والمرأة معاً ولله الحمد والمنة.
سفر المرأة في الإسلام
النقطة الثانية من النقاط التي يركز عليها دعاة الحرية والمساواة مشكلة سفر المرأة يقولون: إن الإسلام لا يسمح لها بالسفر كما يسمح للرجل ولو في سفر أداء فريضة الحج ولماذا؟؟ !!(15/256)
والعجيب من أمر هؤلاء أنهم كثيراً ما يقلبون الحقائق ليغالطوا الناس فيجعلون الإهانة كرامة والكرامة إهانة كما في هذه المسألة.
والمرأة المسلمة الجاهلة تسمع لكل ناعق لجهلها أمر دينها واستجابة للعاطفة أحياناً.
وفي الواقع أن الإسلام لم يمنع المرأة من السفر المباح إلا أنه قيد سفرها بقيد واحد. وهذا القيد في الحقيقة إكرام لها وحفظ لشرفها لو كانوا يعلمون.
يشترط الإسلام لسفر المرأة وجود زوجها معها في السفر أو أحد أقاربها الذين تحرم عليهم تحريماً مؤبداً كأبيها وأخيها مثلاً؛ لأن هؤلاء سوف يضحون بأنفسهم في سبيل المحافظة عليها وحفظ كرامتها ولا تصل الذئاب إليها إلا على أشلائهم.
كما يقومون بخدمتها في سفرها حيث تعجز عن الخدمة وهل اشتراط الإسلام لسفر المرأة هذا الشرط يعتبر إهانة للمرأة أم هو إكرام لها؟ إنها لإحدى الكبر!!
فلتقول المرأة المسلمة الإجابة على هذا الاستفهام.
أما السفر من حيث هو فالإسلام لا يمانع فيه.
فالمرأة تسافر للحج، وتسافر للتجارة، وتسافر لزيارة أهلها وأقاربها وتسافر لطلب العلم ولغير ذلك من الأسباب طالما الشرط متوفر وهو وجود الزوج أو المحرم معها.
هذا هو حكم الإسلام في سفر المرأة أيها المسلمون إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا ومعها رجل ذو محرم عليها" [3] .
وللحديث ألفاظ كثيرة وروايات متعددة وكلها تدل على أن الإسلام يشترط في سفر المرأة وجود الزوج أو رجل ذي محرم عليها تحرم عليه تحريماً مؤبداً.
وهذا يعد إكراماً للمرأة المسلمة لو كانت تعلم، وبالله التوفيق.
موقف الإسلام من التبرج والاختلاط والخلوة(15/257)
إنّ موقف الإسلام واضح من هذه الجاهليات وهو موقف فطري ومعقول، بل ومقبول لدى الأذواق السليمة، والإسلام يشدد الإنكار على هذه الجاهليات ولا سيما جاهلية الخلوة إذ يقول رسول الهدى عليه الصلاة والسلام: "ألا لا يخلونّ رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان"، "لا يخلونّ أحد بامرأة إلا مع ذي محرم".
هكذا يقول رسول الإسلام أيها المسلمون، وفي النهي عن جاهلية التبرج يقول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} (الأحزاب: 33) ويقول مخاطباً لنبيه وخليله محمد عليه الصلاة والسلام: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} (الأحزاب: 59) , هكذا يأمر الإسلام المرأة المسلمة ابتداء من أمهات المؤمنين الطاهرات إلى يوم الناس هذا, بل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يأمرها بالحشمة والحياء وعدم الاختلاط لأن الحياء شعبة من الإيمان, وينهى عن هذه الجاهليات, ويشدد الإنكار عليها لأنها ذرائع للفساد الخلقي الذي إذا أصيبت به المجتمعات ضاعت وذهبت، ولقد صدق الشاعر حيث يقول:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
موقف الإسلام من عمل المرأة
ولسنا نقول - كما يظن - أن المرأة لا تخرج من بيتها لمزاولة الأعمال، كلا بل للمرأة المسلمة أن تعمل ولها مجالات واسعة للعمل, والقول بأن الإسلام يمنع المرأة عن العمل إساءة إلى الإسلام وسمعته كما أن القول: مجال عملها ضيق قول غير محرر، فالمرأة المسلمة لها أن تزاول أعمالها دون محاولة أن تزاحم الرجال أو تختلط بهم أو تخلو بهم، للمرأة أن توظف مدرسة أو مديرة أو كاتبة في المدارس النسائية, ولها أن تعمل طبيبة أو ممرضة أو كاتبة أو في أي عمل تجيده في المستشفيات الخاصة بالنساء إلى آخر الأعمال المناسبة لها.(15/258)
أما المرأة التي تخرج من بيتها بدعوى أنها تريد أن تعمل - متبرجة - بزينتها ومتعطرة ومنكرة [4] مائلة مميلة وكأنها تعرض نفسها حين تتجول بين الرجال.
فموقف الإسلام منها أنه يشبهها بالمرأة الزانية لما ثبت عند الترمذي من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
"والمرأة إذا استعطرت فمرّت بالمجالس فهي كذا وكذا يعني زانية"، قال الترمذي: "هذا حديث صحيح", ولأبي هريرة مثله عند أبي داود, والذي يبدو أن اللفظة يعني "زانية" من قول أبي موسى الأشعري تفسير لكذا وكذا والله أعلم.
وهذه المرأة مثلها كمثل طعام شهي بذل صانعه في إعداده كل ما في وسعه ثم أخذه فجعله في قارعة الطريق وبجوار المستنقعات فرفع عنه الغطاء فهاجرت إليه الحشرات من كل مكان تستنشق ريحه فأخذ الذباب يحوم حوله فيسقط فيه أحياناً والناس ينظرون إليه مستقذرين وعابسين وجوههم.
وفي النهاية يصبح عشاء للكلاب إذا تغلبت على الحشرات ولا بد أن تتغلب هذا مثل المتبرجات المتجولات فلتربأ المرأة المسلمة بنفسها وشرفها عن هذه المنزلة المنحطة ولتسدل جلباب الحياء عن وجهها كما أمرها ربها وذلك خير لها عند الله وأمام المجتمع.
ويريد الإسلام من وراء هذا كله المحافظة على الأسرة المسلمة لأن سلامتها تعني سلامة المجتمع كما أن فسادها فساد للمجتمع كله كما تقدم.
وقد حرص الإسلام على هذا المعنى كل الحرص وأنه لا يُغفِل هذه المحافظة حتى في حال أداء بعض العبادات التي تؤدى في حال اجتماع الرجال والنساء في مكان واحد كالجمعة والعيدين مثلاً فقد نظم الإسلام كيف يتم هذا الاجتماع لأداء تلك العبادات.
يقول رسول الهدى عليه الصلاة والسلام وهو ينظم الصفوف:
"خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها, وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها" [5] .(15/259)
ولعلمه صلى الله عليه وسلم ما تثيره المرأة المتعطرة في صدور الرجال أمرها بقوله: "إذا خرجت المرأة إلى المسجد فلتغتسل من الطيب كما تغتسل من الجنابة" [6] .
وبعد:
إن هذا الحديث والذي قبله يعتبران - بحق - من أبرز أمثلة الذرائع كما ترى. والله الموفق.
إنهاء الحياة الزوجية
تنتهي الحياة الزوجية بأحد فراقين اثنين:
1 – فراق بالموت وهو أمر لا يملك كل من الطرفين تقديمه أو تأخيره فلذا نمسك عن الحديث عنه.
2 – فراق بالطلاق وهو محل حديثنا: يعتبر الطلاق في نظر الإسلام مخرجاً مما قد يتفاقم بين الأزواج من الخلافات والنزاعات وهو بمثابة الكي في حل المشكلات الزوجية والكيّ آخر العلاج.
حيث يبدأ علاج المشكلات الزوجية على النحو التالي:
أ – الوعظ. . الوعظ الذي يتضمن النصح والتوجيه وبيان ما على الزوجة من حقوق الزوج كما يتعرض لبيان حقوق الزوجة على الزوج, ويركز علي بيان ما يترتب على تضييع حقوق الزوج وعصيانه.
ب – الهجران في الفراش. . الهجران الذي يجلب لها نوع من الوحشة وعدم الأنس ويدعو إلى التوبة والرجوع إلى الطاعة.
ج – الضرب شريطة أن يكون ضرب تأديب وتخويف فقط لا ضرب انتقام يجرح الجلد أو يكسر العظم.
د – جلسة مفاوضة ومناقشة يشترك فيها حكَمٌ من أهله وحكَمٌ من أهلها وإذا لم يُجْدِ شيء مما ذكر وضاق كل واحد منهما نفساً بالحياة الزوجية, هنا يأتي الطلاق لإنقاذ الموقف بإنها تلك الحياة التي تحولت جحيماً لا تطاق بعد أن كانت مودة ورحمة وطمأنينة وراحة.
وهذه المراحل التي تسبق الطلاق - وربما تمنع الطلاق - بيّنتها سورة النساء في الآيتين التاليتين: آية رقم 33 إذ يقول الرب عزّ من قائل:(15/260)
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} .
وآية رقم 34:
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} .
لماذا جعل الإسلام الطلاق في يد الرجل فقط
وقد تبين مما تقدم أنّ مشروعية الطلاق أمر له أهميته في الموضوع إذا ثبت أنه العلاج الأخير في المشكلات الزوجية.
وبقي في المقام سؤال له وزنه إذا فهم جوابه حق الفهم وهو لماذا جعل الطلاق في يد الرجل فقط؟؟!! قبل أن يكون للمرأة فيه دور يذكر, اللهم إلا ما كان من قبل الخلع وهو فراق تشترك فيه المحكمة الشرعية ولا تستقل به المرأة كما هو معروف.
الجواب عن هذا السؤال أن يقال:
لما كان الرجل هو الغارم الذي عليه المهر وسائر النفقات جعل الطلاق في يده لأنه سوف لا يفرط في الحياة الزوجية التي غرم في تأسيسها بل سوف يكون أحرص ما يكون على بقاء مؤسسة الأسرة متمتعة بالهدوء والراحة كلّما وجد إلى ذلك سبيلا ولو جعل الطلاق في المرأة لرأينا الآتي:
رأينا رجلاً يؤسس ثم يؤثث فيحرص على النتائج المنتظرة من المؤسسة ثم رأينا امرأة ناقصة العقل والتفكير تهدم المؤسسة وتبعثر الأثاث لأتفه الأسباب لأنها لم تغرم شيئاً عند تأسيس المؤسسة بل ربما رغبت عن هذه المؤسسة لتجرب غيرها.(15/261)
وفي اعتقادي أن المرأة المسلمة المنصفة تصدقني فيما ذكرت قبل الرجل نفسه لأن بعض الوقائع من تصرفات بعض النساء تشهد لما قلنا في الوقت الذي ليس في يدها الطلاق. والله أعلم.
وبعد أيها الأخوة المسلمون فلنمثّل إسلامنا بالعمل ما استطعنا إلى ذلك سبيلا لا بالقول فقط لأن الإسلام دين عمل وتطبيق فالمسلم معناه هو الإنسان المستسلم المنقاد لأوامر ربه وخالقه المنفذ لأحكامه.
والقصد الحسن والنية الصادقة والعمل الصالح محاولة تطبيق الشريعة هذه المعاني هي محل نظر الرب من عبده إذ يقول رسول الهدى عليه الصلاة والسلام: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
أيها الإخوة إن لديكم الفرصة لتعملوا لدينكم وإسلامكم لأن قانون بلدكم يسمح لكم أن تخدموا دينكم بكل حرية فعليكم أن تدركوا أن هذه الحرية نعمة من نعم الله عليكم, فعليكم أن تستغلوها بالعمل الجاد لنشر تعاليم إسلامكم.
والله معكم إن صدقتم في أعمالكم لأنه تعالى مع العاملين الصادقين يوفقهم ويهديهم.
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69) ..
وصلى الله وسلم وبارك على رسول الهدى محمد وآله وصحبه..
محمد أمان بن علي الجامي
عميد كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية
بالجامعة الإسلامية ـ بالمدينة المنورة
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ألقيت هذه المحاضرة في مدينة (كوسومو) في كينيا في (الندوة الدينية) التي أقامها المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في كينيا.
[2] في القوانين الفرنسية في الأسرة لا يسمح للمرأة أن تتصرف في مالها الخاص إلا بإذن زوجها وتنتسب إلى زوجها لا إلى أبيها.
[3] البخاري ومسلم وأهل السنن.(15/262)
[4] مستعملة ما يسمى بالمناكير في أظفارها.
[5] رواه مسلم.
[6] رواه النسائي.(15/263)
غزوة بدر معالم في طريق النصر
لفضيلة الشيخ محمد السيد الوكيل
تمهيد:
لقد أحدث الإسلام أخطر انقلاب في تاريخ البشرية الطويل، فمنذ انقطاع الوحي برفع عيسى عليه السلام والبشرية تتعثر في خطواتها، وتنحدر بسرعة هائلة إلى حضيض مخيف، وهوة ساحقة.
ووقف المنصفون وذوو البصائر من هذا التردي وقفة الحذر المترقب، وقفوا يرقبون البشرية وهي تحفر قبرها بيدها، وصاح بعضهم صيحات الإنذار على هؤلاء الغافلين ينتبهون إلى المصير المشئوم الذي ينتظرهم، ولكن هيهات.
ولف الدنيا ظلام حالك، وخيم عليها سكون رهيب، وضاعت كل صيحات الإنذار بين ضجيج الشهوات المسيطرة، وعربدة الفساد المتسلط، فلا تكاد تجد داعياً ولا تكاد ترى مصغياً. والمنصفون من القوم يمسكون رؤوسهم بأيديهم، ويعصرون قلوبهم بسواعدهم خوفاً من وقوع الكارثة كنتيجة لها التردي.
وبينما هم يرقبون الكارثة بزغ نور بدد الظلام، وفرق السكون، وأهدى إلى الدنيا أعظم منحة في عمرها المديد، وتبددت علامات التشاؤم أمام هذا النور الغامر، وحلت محلها بشارات الأمل المنشود.
وانساب نور النبوة يسري في جزيرة العرب كالماء يتسلل إلى عروق تلك الشجرة اليابسة فيعيد إليها نضرتها وبهجتها، ويدعو القائظين إلى تفيؤ ظلها الظليل.
وأعلنت الرسالة الجديدة ثورة عارمة على الوثنية ومعتنقيها، وحررت رقاب الناس من الخضوع لأصنام صنعوها بأيديهم، ليذعنوا بها بالعبودية، ويحيطوها بالتقديس والإجلال ووصلت أصداء تلك الثورة إلى كل قلب, ودخلت كل بيت, وعاشت في كل نفس، وبدأ الناس يفكرون في آلهتهم ويترقبون ماذا سيكون مصيرها؟(15/264)
وأسوا بنفوذ الدين الجديد يسيطر على أهل الجزيرة طائعين أو مكرهين، وماجت أندية القوم بآراء الناس في الرسالة والرسول، وارتفعت الأصوات في صخب وضجيج معارضة أو مؤيدة ومبشرة أو متوعدة، وعاد الناس إلى بيوتهم وقلوبهم واجمة مضطربة، وعيونهم شاخصة جاحظة، تدور رؤوسهم كالرحا، وهم لا يدرون ماذا تخبئ لهم الأيام المقبلة؟
بين يدي المعركة:
أيقن الشرك الحاقد أن الأمر قد أفلت من يده بنجاح خطة الهجرة إلى طيبة، وظل يجتر عداوته، ويبدئ ويعيد في خصومته، ونعم المؤمنون بالأمن والاطمئنان في وطنهم الجديد، وأخذوا يرسلون قواعد الدولة الفتية، ويخططون لإقامة المجتمع على هدى كتاب الله الذي كان يمدهم بكل ما يحتاجون إليه.
ظن السفهاء من المشركين أن الآلهة قد أراحتهم من محمد ودينه، وأنهم سيفرغون لعبادتهم من غير أن يكون هناك معكر لصفوها، وأيقن أولوا الرأي منهم أن نجاح الهجرة واستقرار الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في المدينة إنما هو بداية نهايتهم مهما طال بهم الأمد.
وأشار هؤلاء على قومهم بمهادنة محمد إذا لم يريدوا الدخول في دينه صلى الله عليه وسلم، ولقد لقوا من جراء صراحتهم عنتاً ومشقة وظلت الأوضاع هكذا جامدة لا تغادر أبواب مكة.
ولكن الرسول قد استعد للأمر، واتخذ وسائل لحماية الدولة الجديدة، فأخذ يعمل على تأمين حدودها فأرسل السرايا وبعث البعوث ليثبت قوة المسلمين، وقدرة الدولة الناشئة على حماية نفسها من أي عدو يبغيها الدوائر.
وخرجت سرية من المدينة تترصد عيراً لقريش قادمة من الطائف، وكانت القيادة فيها لعبد الله بن جحش واستولى المسلمون على القافلة وكانت محملة زبيباً وأدماً، وقتلوا عمرو ابن الحضرمي وأسروا رجلين من رجالها [1] .
ولم تتحرك قريش لهذا العدوان، وكأن الأمر لا يعنيها في قليل أو كثير حتى كانت قافلة أبي سفيان بن حرب القادمة من الشام والتي تمخضت عن غزوة بدر.(15/265)
لقد أثارت سرية عبد الله بن جحش الرعب في قلوب المكيين، وكانت سبباً في أمرين هامين:
الأول: اتخاذ اللازم لحماية القوافل.
والثاني: تشويه سمعة المسلمين.
ولقد اضطر أهل مكة على أثر ذلك إلى أن يشددوا الحراسة على قوافلهم سواء كان ذلك داخل الجزيرة أو في خارجها، حتى بلغ عدد رجال قافلة أبي سفيان المتوجهة إلى الشام أربعين رجلاً. [2]
كذلك استغل أهل مكة قتل ابن الحضرمي على أيدي المسلمين في الأشهر الحرم حيث قتل في شهر رجب، وأخذوا يشوهون على المسلمين، وأكثروا من ترديد ذكر الحادث محاولين بذلك إثارة سكان الجزيرة ضد المسلمين لاعتدائهم على حرمة الشهر الحرام حيث كانوا يعظمون تلك الأشهر، ويرون الاعتداء فيها خطيئة لا تغتفر.
وقد نجحت دعايتهم إلى حد ما، وأثارت جدلاً عنيفاً حتى بين المسلمين أنفسهم، وقد أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم فعلتهم، وقال: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام"، وعنفهم إخوانهم المسلمون على صنيعهم. [3] وقد سقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا ولم يحسم الأمر إلا نزول الآية الكريمة:
{يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [4] .
وضعت الآية الكريمة الأمور في نصابها وأوضحت الأمر بالنسبة لموقف المسلمين، ومن ناحية أخرى أثارت دعاية المشركين المغرضين نفوس المسلمين، ودفعتهم إلى تحديد موقفهم من تجارة قريش التي تعبر حدود الدولة الإسلامية في طريقها إلى الشام، وعزموا على مصادرة كل قافلة تمر بهم، وكانت أولى القوافل قافلة أبي سفيان.
فرصة يجب ألا تفلت:(15/266)
علم المسلمون بعودة قافلة أبي سفيان من الشام، واستنفر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه للاستيلاء عليها، وأسرعوا في الخروج حتى لا تفلت القافلة، فخرجوا وليس عليهم كبير سلاح، وكان عدوهم ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً.
وعلم أبو سفيان بخروج المسلمين لمطاردة القافلة في محاولة للاستيلاء عليها فاستأجر رجلاً وبعثه إلى أهل مكة يستنجدهم لحماية القافلة، ووصل رسول أبي سفيان إلى مكة، وصرخ فيهم منذراً بتعرض تجارتهم للوقوع في أيدي المسلمين، وأخذ أهل مكة يستعدون للخروج.
وكان أبو سفيان رجلاً خبيراً بمسالك الطريق، فطالما خرج بالقوافل في تجارة القوم وطالما سلك هذا الطريق حتى أصبح لا يخفى عليه شيء من شعابها ودورها، أفينتظر حتى تأتيه نجدة قريش؟ وقد يسرع إليه المسلمون فتقع القافلة تحت أيديهم، أم يتصرف بطريقته الخاصة محاولاً إنقاذ التجارة والنجاة بها، وقدر أبو سفيان أن نجدة قريش قد تتأخر فانحاز على بدر ومال ذات اليمين وسلك طريق الساحل. ونجا بقافلته. وجاءت الأخبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنجاة القافلة، واتجاهها إلى مكة.
أفلتت الفرصة وبقيت المواجهة:
أصبح الموقف حرجاً بالنسبة للجيش الإسلامي، وبالتالي أصبح موقف الرسول صلى الله عليه وسلم دقيقاً للغاية، فهو لم يخرج لقتال، ولم يخبر أصحابه بذلك حتى يأخذوا أهبتهم لملاقاة عدوهم، وماذا يفعل وقد خرجت قريش للحرب، ورمتهم مكة بأفلاذ كبدها؟
إن الجيش الإسلامي لا يستطيع العودة إلى المدينة دون مواجهة، لأن ذلك يعود على الدولة الناشئة بأضرار بليغة، وعواقب وخيمة، إذ لا يشك إنسان حينئذ في طمع قريش، وقد يترتب على ذلك مهاجمة المدينة، وانتهاك حرمة الدولة باقتحام حدودها ثم ماذا سيكون موقف اليهود داخل المدينة، وهم يتربصون بها وينتظرون لحظة ضعف للانقضاض عليها؟(15/267)
وهناك مشكلة أعظم من ذلك كله، لقد كان أكثر المسلمين من الأنصار حيث كان عددهم واحداً وثلاثين ومائتي رجل، في حين كان المهاجرون ثلاثة وثمانين رجلاً [5] ، ولم يكن الأنصار ملزمين بحماية الرسول صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه إلا في داخل المدينة حسب نصوص بيعة العقبة، فما موقف الأنصار من هذه المعركة التي فوجئوا بها، وقد فرضت عليهم نفسها؟
إن الموقف دقيق للغاية، ويحتاج إلى حل حاسم وسريع، فليس هناك مجال للتردد وليس في ميدان المعركة مكان للمترددين.
استعرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل هذه المشكلات، وأدار فكره فيها، وقرر فيها رأيا، ولكنه لم يفرض على أصحابه، لأن في المسلمين من ليسوا ملزمين بالقتال في هذا الموقف، ولأن الأمر شورى بين المسلمين فيما لم يرد فيه نص، لهذا صارح الرسول أصحابه بحقيقة الموقف، وأخبرهم بخروج قريش لتحمي تجارتها، وتدخل معهم في معركة إذا اقتضى الأمر ثم قال: "أشيروا علي أيها الناس" [6] .
وهنا قام زعماء المهاجرين - أبو بكر وعمر والمقداد بن الأسود - فأحسنوا الكلام وردوا الأمر إلى رسول الله ليفعل ما أمره به الله، وقال المقداد: "لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة: 24) , ولكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، نقاتل عن يمينك وعن شمالك، ومن بين يديك ومن خلفك" [7] .(15/268)
وظل الرسول يطلب مشورة القوم، حتى فطن سعد بن معاذ - رضي الله عنه - لما يعنيه الرسول من أخذ رأي الأنصار، فقال: "لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقاً عليها ألا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم فاظعن حيث شئت، وصل حبل من شئت, واقطع حبل من شئت, وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا منها ما شئت، وما أخذت منها كان أحب إلينا مما تركت, وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك, فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرن معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك" [8] .
وعندئذ استوثق الرسول ممن معه، واطمأنّ إلى أنه لن يتخلف منهم أحد عن خوض المعركة فسرّ بما سمع وأشرق وجهه وقال: "سيروا وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، وإني قد رأيت مصارع القوم" [9] .
وبهذا تكون الجبهة الإسلامية قد توحدت تماماً، ولم يعد هناك خوف من شذوذ أحد ممن خرج من المسلمين، ولم يعد النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة إلى التفكير في موقف الأنصار تجاه سياسته الخارجية.
ولو تركنا الجبهة الإسلامية قليلاً في وضعها القوي المتماسك لننظر في وضع الجبهة الأخرى وحالتها المعنوية لوقفنا على ما يلي:
لم يكن أهل مكة متفقين على الخروج للمعركة، وهم رغم اتفاقهم في عداوة المسلمين إلا أنهم كانوا مختلفين في خوض المعركة، فقد تخلف عنهم بنو عدي بن كعب، ورجع بنو زهرة من الجحفة نزولاً على رأي الأخنس بن شريق، فلم يشهد بدراً من هاتين القبيلتين أحد [10] .
ولم يكن موقف زعمائهم خيراً من موقفهم، فإننا نرى أمية بن خلف وعتبة بن ربيعة، وحكيم بن حزام لم يخف أحد منهم للخروج لأنهم كانوا غير مؤمنين بسلامة موقفهم، وحتى أبو لهب مع شدة عدواته لم يشهد المعركة وأخرج رجلاً آخر مكانه.(15/269)
ولقد لعبت العصبية القبلية دوراً خطيراً في الخلاف الحاصل بين المكيين، كما كان لنجاة القافلة ووصولها إلى مكة سالمة أعظم الأمر في تثبيط همم الخارجين للقتال، حيث وجدوا أنفسهم أمام معركة لا مبرر لها، ولعلهم أيضاً لا يضمنون نتائجها، حتى أحسوا بأنهم إنما خرجوا يقاتلون عن قضية وهمية لا وجود لها، وهذا هو ما عبر عنه الأخنس بن شريق حين قال: "يا بني زهرة، قد نجّى الله لكم أموالكم، وخلّص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا لي جانبها، وارجعوا, فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في ضيعة" [11] .
وكما كان ذلك رأي الأخنس فإنه رأى عتبة بن ربيعة حين قام خطيباً - وقد وصلوا بدر - فقال: "يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه، أو ابن خاله أو رجلاً من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين الرجل وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون" [12] .
ولم يرض أبو جهل بهذا الرأي، وأتاهم عتبة بالجبن والخوف على ولده الذي كان بين صفوف المسلمين وثار النزاع وتكلم بعضهم على بعض، وحدث الخلاف واستحكمت الفرقة.
وهكذا كانت الجبهة المكية خلاف في الرأي بين القواد، وخصومة ونزاع بين الجنود، وعدم وضوح للغاية والهدف عند الجميع.
والتقى الجمعان:
وفي يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة كانت المعركة الفاصلة حيث التقى الجمعان على الحال التي كانت عليها كل منهما، ولكن هل كان هناك تكافؤ في الفرص والعدد والعتاد؟ وذلك ما سأوضحه فيما يأتي:
أستطيع أن أؤكد أنه لم يكن هناك تكافؤ قط في شيء مما ذكر، بل كان هناك تفاوت وفرق هائل في كل شيء.(15/270)
فمن حيث الفرصة فإن المسلمين فوجئوا بالحرب، ولم يكونوا على استعداد لها، وقد يعدوا من مصادر تموينهم فليست هناك فرصة للتسلح والاستعداد للمعركة، في حين أن المشركين خرجوا متهيئين للقتال متسلحين بكل ما يحتاج إليه المحارب، حتى كانوا يقولون: "أيظن محمد أن نكون كعير ابن الحضرمي؟ " [13] .
ومن حيث العدد فإن جيش المسلمين كان أربعة عشر وثلاثمائة مقاتل، في حين كان جيش المشركين يتراوح عدده بين التسعمائة والألف.
وأما المعتاد فلم يكن لدى المسلمين سوى سبعين بعيراً يتعاقبونها، وفرسين فقد، ومن السلاح ما يحمله الرجل الذي لم تخطر بباله الحرب، ولذا كانت وصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم ألا يحملوا على العدو حتى يأمرهم, وقال: "إن اكتنفوكم فانضحوهم عنكم بالنبل"، [14] كأنه يريد بذلك ألا يسرف المسلمون في استعمال السلاح، وليس معهم ما يكفي ذلك.
وأما المشركون فكان معهم سبعمائة بعير، ومائة فرس, هذا عدا ما كانوا يذبحون منه يوماً عشراً ويوماً تسعاً، وكان معهم عدة الحرب كاملة حيث كانوا قد استعدوا لها، [15] ولقد وصفهم القرآن الكريم فقال: {خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ} [16] لأنهم كانوا فخورين بعددهم مختالين بقوتهم.
مهارة القيادة الإسلامية ومرونتها:
أثبتت القيادة الإسلامية مهارة فائقة في رفع الروح المعنوية للمقاتلين حيث وعدتهم بالنصر، وبشرتهم بالجنة، وأخبرتهم بشهود الملائكة المعركة ليؤازروهم ويهزموا أعداءهم، فكان - صلى الله عليه وسلم - يقول لهم: "والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة" [17] .(15/271)
كما أثبتت مرونة لم تعهد من قبل، وذلك بمشاورة الجنود، والنزول عند مشورتهم عندما تتبين صحة المشورة، كما حدث في مشورة الحباب بن المنذر حين أشار بتغيير مكان الجيش، فنزل الجيش بذلك أفضل موقع بالنسبة للمعركة، وحرم جيش العدو من السيطرة على ذلك المكان، كما حرم من استعمال الماء اللازم ضرورة للجيش [18] .
نتيجة المعركة:
إن نظرة سريعة إلى المقارنة التي أوردتها آنفاً بين الجيشين تدل على أن نتيجة المعركة لا بد أن تكون في صالح المشركين لأنهم كانوا أكثر عدداً وأعظم عدداً، وأحسن حالاً من المسلمين، ولكن هل كانت النتيجة كذلك؟؟!!
لا، إن النتيجة كانت في صالح القلة الضعيفة، ذات الأسلحة الهزيلة، والظروف السيئة - أي في جانب المسلمين - ولم يكن أحد يتوقع ذلك، لأن حساب المعارك دائماً يكون بالتفوق المادي أما الغيبيات أما قدرة الله، أما نصر الله لعباده المؤمنين، فذلك لا يدخل قط في حساب الماديين ولهذا كانت النتيجة مدهشة لكل من علم بها، إذ كيف تنتصر القلة على الكثرة؟ وكيف يهزم الضعيف القوي؟ بل كيف تتغلب فئة لم تخرج لقتال، وليس معها من السلاح إلا القليل على الكثرة المغرورة التي أعدت من السلاح وأسباب القوة ما يحقق النصر غالباً؟؟
ذلك هو ما حصل في ميدان المعركة، فلم تكد القوتان تلتقيان حتى ولى المشركون الأدبار ومنحوا المسلمين أكتافهم يقتلون ويأسرون، فكان اللقاء كما قال سلمة بن سلامة - رضي الله عنه -: "فوالله إن لقينا إلا عجائز صلعاً كالبدن المعلقة، فنحرناها" [19] .
ولم يكن هؤلاء العجائز الصلع إلا سادات مكة، وأشرفها، لذا تبسم - صلى الله عليه وسلم - حين سمع مقالة سلمة وقال: "أي ابن أخي، أولئك المل " أ [20] .(15/272)
انهزمت القوة التائهة المختالة، وخلفت وراءها في أرض المعركة سبعين قتيلاً فيهم سادات قريش: أمية بن خلف، عمرو بن هشام - أبو جهل -, عتبة بن ربيعة, الوليد بن عتبة, شيبة بن ربيعة, نبيه ومنبه ابنا الحجاج, وغيرهم من القادة والزعماء، كما تركوا في أيدي المسلمين سبعين أسيراً منهم سهيل بن عمرو والعباس بن عبد المطلب وغيرهما، واستولى المسلمون على كثير من الغنائم، ولم يستشهد من المسلمين سوى أربعة عشر رجلاً [21] .
وكان لهذه النتيجة أبعاد أعمق من إحراز النصر نلخصها فيما يأتي:
أ – رفع معنويات جيش المسلمين، وإحساسه بمعونة الله له.
ب – تشجيع المسلمين على خوض معارك مع أعدائهم لم يجرؤوا على خوضها لولا انتصارهم في بدر.
ج ـ شعور الجيش الإسلامي بأنه قوة رادعة جعله يمضي قدماً في تأسيس الدولة بعزم.
د – ردع الأعداء حتى شل تفكيرهم عن الدخول في معارك جديدة مع المسلمين لمدة تزيد عن السنة مما أعطى المسلمين فرصة لتنظيم أنفسهم والاستعداد للقاء عدوهم.
هـ-كل انتصارات المسلمين بعد تلك الغزوة كانت امتداداً طبيعياً للنصر فيها حيث كان المسلمون يقاتلون وهم يعتقدون أنهم في معية الله - عز وجل - وكان المشركون يعتقدون أنهم يقاتلون عدواً غير عادي ليس من السهل التغلب عليه.
دروس من المعركة:
وإذا كانت نهاية المعركة جاءت على هذا النحو الغريب، ولم تكن بالشيء الذي يمر به الإنسان دون أن يقف حياله مبهوراً حائراً، كان لازماً على الباحث أن يستخلص منها بعض الدروس التي يمكن أن تكون عوامل هامة في توجيه المعركة ونتائجها، كما يمكن أن يستفيد بها المسلمون في مواجهة أي عدو يلقونه، ومن هذه الدروس ما يلي:(15/273)
1 – التنظيم الدقيق الذي امتاز به الجيش الإسلامي، فقد صفهم الرسول صفوفاً على غير عادة العرب, وأصدر تعليمات مشددة بعدم الهجوم أو بدء المعركة حتى تصدر أوامر القيادة بتنظيم المبارزة واختيار المبارزين وغير ذلك.
2 – رفع معنويات الجنود بتبشيرهم بالجنة، وذكر ما أعد الله فيها للشهداء مما جعل الجنود يستبسلون ولا يهفون كما في قصة عمر بن الحمام حين ألقى التمرات التي كان يأكلها وقال: "بخ بخ أفما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟!! " [22] .
3 – دخول المعركة برغبة من الجنود جعل كل جندي يشعر بأن المعركة معركته وأنه مسئول عن نتيجتها مما جعلهم يضحون بكل غال ونفيس.
4 – الاعتداد بأخوة الإسلام قبل أخوة النسب والرحم واعتبارها هي الأخوة الحقيقية كما حدث من مصعب بن عمير مع أخيه أبي عزيز حين رآه أسيراً فقال لمن أسره: "شد يديك به فإن أمه ذات مال لعلها تفديه منك" [23] .
5 – الشورى وعدم الاستبداد بالرأي فقد كان ذلك المبدأ هو القاعدة السائدة في المعركة من بدايتها إلى نهايتها فقد استشار الرسول المسلمين في دخول المعركة, ونزل على مشورة الحباب في تغيير مكان الجيش، وأخذ رأيهم في الأسرى.
6 – الاهتمام بتثقيف المسلمين وتعليمهم، حيث جعل الرسول فداء الأسرى الذين يقرأون أن يعلم كل واحد منهم عشرة من صبيان المسلمين الكتابة والقراءة [24] .
آثار المعركة:
تركت معركة بدر آثاراً عميقة في كل من مكة والمدينة، أما في المدينة فقد استقرت على أثرها أوضاع الدولة الإسلامية، فأصبحت مرهوبة الجانب، يخشاها العدو، ويرهبها المحايد، وأصبح مركز المدينة مرموقا كعاصمة لدولة أخذت وضعها اللائق بها واعتز المسلمون بهذا النصر فواجهوا أعداءهم في قوة وحزم.
كما كان لها في نفوس الأعداء المتربصين بها من الداخل - اليهود والمنافقين - أثران متلازمان هما: الفزع والكيد.(15/274)
لقد أحس الأعداء بأن الدين الجديد أصبحت له دولة تحميه، وأن الرجل الذي هرب من بلده ولجأ إلى بلدهم صار ذا نفوذ وسلطان، فانزعجت نفوسهم، وانخلعت قلوبهم, وبدأوا يفكرون كيف يتخلصون من هذا المأزق الذي أحاط بهم؟
عندئذ أخذوا يتآمرون ويدبرون المكايد للقضاء على تلك الدولة، فاتصلوا بالمشركين في مكة يحرضونهم على قتال المسلمين ويعدونهم بالوقوف معهم، كما اتصلوا باليهود في البلاد الأخرى مستعينين بهم في تنفيذ خططهم لاغتيال محمد - صلى الله عليه وسلم -.
أما المسلمون فكانوا بعد الانتصار الذي أحرزوه أقوى معنوية, وأحسن حالاً مما كانوا عليه من قبل، فقابلوا التآمر بتآمر أكثر إحكاماً, وواجهوا الكيد بكيد أشد إيلاما، فقتلوا كعب بن الأشرف زعيم المتآمرين، وأجلوا بني قينقاع عن المدينة، وهكذا أثبت المسلمون قدرتهم على أعدائهم، وأحبطوا المؤامرات التي تدبر لهم، وأبعدوا عن المدينة الخطر الذي طالما تهددهم، وأصبحوا أكثر استعداداً لصد الهجمات المتوقعة من جانب أهل مكة.
وأما في مكة فكان أثر المعركة عنيفاً على نفوس الناس، حيث لم يكن أحد يتوقع هذه النتيجة المؤسفة، ولكن هذا الأثر اتجه اتجاهاً واحداً، وبرز في تفكيرهم شبحاً للثأر الذي لا يمكن تركه مهما كلفهم من جهد أو مال، فاتفقوا على أن يجعلوا القافلة التي نجا بها أبو سفيان، والتي كانت سبباً في معركة بدر وقفاً على تمويل جيش يحاربون به المسلمين لعلهم يدركون به ثأرهم، وكانت القافلة تضم ألف بعير ومن الأموال خمسين ألف دينار [25] وضعت جميعها في خدمة الجيش الذي عقدوا عليه آمالهم.
محمد السيد الوكيل
مدرس التاريخ الإسلامي
في كلية الحديث الشريف
والدراسات الإسلامية
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ابن هشام 2/180.
[2] زاد المعاد 2/217.(15/275)
[3] ابن هشام 2/180.
[4] البقرة: 217.
[5] ابن هشام 2/250.
[6] ابن هشام 2/188.
[7] زاد المعاد 2/218.
[8] نفسه
[9] نفسه 219.
[10] ابن هشام 2/191.
[11] ابن هشام 2/191.
[12] نفسه 183.
[13] مختصر السيرة ص203.
[14] ابن هشام 2/195.
[15] مختصر السيرة ص230، ابن هشام 2/189.
[16] الأنفال 47.
[17] ابن هشام 2/196.
[18] زاد المعاد: 2/219.
[19] ابن هشام 2/208.
[20] نفسه.
[21] ابن هشام 2/251-259.
[22] ابن هشام: 2/196.
[23] نفسه 209.
[24] روض الأنف 5/245 تحقيق عبد الرحمن الوكيل.
[25] المواهب المدنية 1/92.(15/276)
فتح الفتوح
لفضيلة الدكتور عباس محجوب
ارتبط شهر رمضان المبارك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين بأحداث عظيمة على قمتها موقعة بدر الكبرى التي كانت نقطة انطلاق عظيمة في انتصارات المسلمين على مر التاريخ وتوالت بعدها انتصارات المسلمين المرتبطة بهذا الشهر الكريم فتح مكة والعودة من تبوك وإسلام ثقيف بعد عودته من تبوك في السنة التاسعة.
ولم تكن انتصارات المسلمين في هذا الشهر المبارك في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فحسب بل تتابعت هذه الانتصارات فكان فتح الأندلس في رمضان عام 98هـ.
وانتصارات صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين كما كان انتصارهم الأكبر على التتار في رمضان سنة 658هـ في معركة عين جالوت وما أكثر انتصارات المسلمين في شهر رمضان لو تتبعنا تاريخهم ولكننا نأخذ واحدة من هذه المعارك التي لا زالت محل عناية المسلمين ودراستهم وتدبرهم لما سبقها من أحداث وما ترتب عليها من نتائج وتلك المعركة هي فتح الفتوح ـ فتح مكة في شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة.
ولا يشك أحد في أنّ انتصارات المسلمين في معاركهم السابقة لفتح مكة في بدر وأحد وغيرهما من الغزوات والسرايا وانتصارهم الدبلوماسي الأكبر في صلح الحديبية - تلك الانتصارات لم تكن إلا تمهيداً للنصر الكبير تدبيراً إلهياً قاد المسلمين إلى هذا النصر الذي لم يخطر في مخيلة الكثيرين بالسرعة الزمنية التي تمت فيها، فمَنْ من المهاجرين كان يحلم بالعودة إلى مكة فاتحاً منتصراً بعد سنوات قلائل؟ إن مثل هذه الانتصارات تحتاج إلى فترة زمنية طويلة وإعداد وتخطيط مستمر ولكنه في تقدير الله سبحانه وتعالى أمر لا يحتاج لغير التسليم بأن تقديره فوق حساب البشر وتقديرهم.
سبب التسمية:(15/277)
سمي فتح مكة، بفتح الفتوح "لأن العرب كانت تنتظر بإسلامها إسلام قريش ويقولون هم أهل الحرم وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل، فإن غلبوا فلا طاقة لأحد به صلى الله عليه وسلم فلما فتح الله مكة دخلوا في دين الله أفواجا قبائل من جملتها بعد أن كانوا يدخلون أفرادا ولم يقم للشرك قائمة بعده" [1] .
سبب الغزوة:
تذكر كتب السيرة والتاريخ أن العداوة كانت مستمرة بين قبيلتي خزاعة وبني بكر كأغلب العلاقات القبلية في الجاهلية وبدايات الإسلام الأولى، وعندما عقد الصلح بين المسلمين وقريش في الحديبية دخلت خزاعة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بينما دخلت بنو بكر في عهد قريش، ولصلة خزاعة بالرسول صلى الله عليه وسلم جذور تاريخية إذ أن خزاعة كانت في عهد مع عبد المطلب جدّ الرسول صلى الله عليه وسلم مما جعلها تأتي بعد صلح الحديبية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهي تحمل نص العهد الذي كان بينهما وبين عبد المطلب ( [2] ) وقد أراد الله لذلك الصلح أن يبلغ أجله فنشب النزاع بين خزاعة وبكر وأعانت قريش بني بكر على خزاعة بالسلاح والرجال خفية فقاتلوا معهم وأصابوا منهم فانتقض بذلك العهد الذي كان بينهم وبين المسلمين، وجاءت رسل خزاعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى رأسها عمرو بن سالم الخزاعي الكعبي الذي وقف على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو بالمسجد وأنشده:
يا رب إني ناشدا محمداً
حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتم ولدً وكنا والداً
ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا أعتدا
وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا
إن سيم خسفاً وجهه تربّدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وجعلوا لي في كداء رصدا
وزعموا أن لست أدعوا أحد
وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجدا
وقتلونا ركعاً وسجدا [3](15/278)
فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم", ثم عرضت سحابة في السماء فقال عليه الصلاة والسلام: "إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب"، [4] وأخبر عليه الصلاة والسلام بوحي من الله بما يدور في خاطر قريش وما يتوقع منهم فقال: "لكأنكم بأبي سفيان قد جاء يقول: جدد العهد وزد في الهدنة" [5] .
وكيف لا يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم نفسية قريش وما يشغل بالها آنذاك وقد أعطاه الله عقلاً نيراً وفكراً ثاقباً وبصيرة لا تخطئ لأنه يسنده الوحي دائماً، فهذه قريش منزعجة من الحادث, مترقبة لرد الفعل, خائفة من العاقبة, وأكثرهم انزعاجاً قائدهم أبو سفيان الذي أخبر قريشاً عن رؤية رأتها زوجته هند كرهها وخاف منها, إذ رأت دماً أقبل من الحجون يسيل حتى وقف عند جبل بمكة مما جعل أبا سفيان يستنكر اشتراك قريش في القتال ونقضها للعهد ويقول: "والله ليغزونا محمد إن صدقني ظني وهو صادقني، ومالى بد أن آتي محمدا فأكلمه أن يزيد في الهدنة ويجدد العهد قبل أن يبلغه هذا الأمر". فقالت قريش: "قد والله أصبت الرأي" [6] .
وهكذا جرت الأحداث بمشيئة الله تعالى الذي هيأ للمسلمين أمراً لم يفكروا فيه وظفراً لم يحلموا به, وقد علل الرسول عليه الصلاة والسلام لتلك المشيئة بقوله لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وهي تستبعد من قريش أن تنقض العهد وما لها مقدرة على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينقضون العهد لأمر يريده الله تعالى بهم"، وتسأل عائشة: "خير أو شر يا رسول الله؟ قال: "خير". [7]
وكيف لا يكون خيراً وهو سيحمل رسالة الإسلام إلى أهل مكة ومن حولها, يستظلون بظلها, وينعمون بفيئها, ويسعدون في الدنيا والآخرة بنشرها وحمايتها.(15/279)
وما لبث أن جاء أبو سفيان كما أخبره المصطفى صلى الله عليه وسلم يطلب شد العهد وزيادة المدة فيجيبه الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه على العهد والمدة, لا يغير ولا يبدل, غير أن الأمر لم يفت على ذكاء أبي سفيان وحنكته وتجاربه وخبرته فلم يطمئن قلبه ولم تهدأ نفسه فبحث عن وسيلة أخرى ينقذ بها قومه, فطلب من يتشفع به إلى رسول الله فبدأ بأبي بكر الصديق رضي الله عنه فاعتذر له برفق, وذهب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأغلظ له القول ورده بعنف، واتجه إلى علي رضي الله عنه ومعه فاطمة رضي الله عنها وابنهما الحسن رضي الله عنه يلعب بين يديهما، فاعتذر له علي, وبلغ اليأس بأبي سفيان والحيرة في الأمر أن يطلب من فاطمة شفاعة الحسن لجده فتعتذر بصغر ابنها عن الأمر ثم ينصحه على نصيحة قبلها وعمل بها وليس له غيرها، فأعلن أبو سفيان في المسجد بين الناس أنه أجاره, ولكن هل يغني ذلك عنه شيئاً؟ ورجع أبو سفيان إلى قومه مهيض الجناح كسير القلب مشتت الفكر ليجد من قومه غلظة واستنكارا لإخفاقه وفشله في زيادة المدة وتمكين العهد.
استعداد المسلمين للحرب:(15/280)
عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال قريش والظروف كلها لذلك والنصر مضمون بإذن الله لا سبيل لقريش في جمع العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بادرت بنقض العهد وتخطي المواثيق, فطلب الرسول الله صلى الله عليه وسلم من عائشة أن تجهز له وتكتم أمره وقال ما معناه: "اللهم خذ على قريش الأخبار والعيون حتى نأتيهم بغتة"، وحفظت عائشة كعهدها سر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى عن أبيها الصديق الذي ذهب إلى رسول الله وسأله فأعلمه طالباً منه كتمان الأمر، وأخذ المسلمون يفكرون إلى أي يود الرسول أن يتوجه, وزيادة في الحذر والسرية يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة أبي قتادة بن ربعي إلى بطن اضم في الطريق بين مكة واليمامة ( [8] ) فيحتار الناس في اتجاه الرسول ومقصده, ثم أرسل الرسول رسله إلى أهل البادية يطلب منهم أن يحضروا رمضان بالمدينة، وانتشرت رسله تحمل الدعوة إلى قبائل أسلم وغفار ومزينة وجهينة وأشجع وبني سليم وضمرة وبني كعب، وفي أثناء ذلك كله حدث ما أشار إلى مقصد رسول الله, فمثلاً في قصة حاطب بن أبي بلتعة تلك القصة التي تمخضت عنها تشريعات وتعاليم وإبراز لمكانة أهل بدر فما هي تلك القصة؟
رسالة حاطب:(15/281)
قصة حاطب بن أبي بلتعة هي قصة النفس الإنسانية عندما تركن إلى بشريتها ويصيبها الوهن والضعف وهي خاضعة للتفكير في الأمر من زاوية ضيقة شخصية، فقد كتب إلى قريش يخبرهم بعزم الرسول على غزوهم، وكانت الرسالة موجهة إلى صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو - الذي وقع اتفاقية الهدنة مع الرسول وكتب بنودها نيابة عن قريش - وعكرمة بن أبي جهل، وجاء في رسالة حاطب "أن رسول الله قد أذن في الناس بالغزو ولا أراه يريد غيركم وقد أحببت أن تكون لي عندكم يد بكتابي إليكم". وسلم الكتاب لامرأة من مزينة جعلته في شعرها وقد ضفرت شعرها عليه, وقد جعل لها أجراً على ذلك, إلا أن الله سبحانه وتعالى أخبر نبيه بما فعل حاطب استجابة لدعوته بأن يخفى الله أمرهم على قريش، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم علياً والزبير وطلب منهما أن يدركا المرأة، فأدركاها وأنزلاها وفتشا رحلها فلم يجدا شيئاً فقال لها: "إنا نحلف بالله ما كذب رسول الله ولا كذبنا ولتخرجن هذا الكتاب أو لنكشفنك" ولما علمت المرأة بجدهما وعزمهما على فعل ما قالا، حلّت ضفائرها وأخرجت الكتاب فجاءا به إلى رسول الله، فاستجوب حاطباً على فعله فأكد حاطب إيمانه بالله ورسوله وأنه لم يتغير أو يتبدل، لكنه أراد أن تكون له دالة على قريش لوجود أهله وولده بينهم، وثار عمر رضي الله عنه على حاطب وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يضرب عنقه لأنه منافق في نظره، ولكن رسول الله يجيب: "وما يدريك يا عمر؟ لعل الله اطلع يوم بدر على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". وتذكر بعض الروايات بأن الله سبحانه وتعالى أنزل بعد هذه الحادثة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [9] .(15/282)
وفي هذه القصة نرى الرسول صلى الله عليه وسلم يرد للصحابي اعتباره أمام المسلمين وقد عظم الأمر عندهم، وذلك لتأكد الرسول صلى الله عليه وسلم من صدق كلام حاطب، وتأكده من حسن إيمانه، وأن الأمر لا يعدو أن تكون حالة نفسية استسلم فيها الصحابي لحاجته. والرسالة نفسها في صيغتها تنبئ عن ذلك فقد قال لقريش: "إن رسول الله قد أذن في الناس"ولم يقل: إن محمداً كما يقول المنافقون.
والقصة لا تخلو من دروس للمسلمين في أهمية كتمان السر وإحاطة تحركات المسلمين بالسرية والتزام الجندي المسلم بتنفيذ الأمر من تجرد الإيمان, ثم فيها إشعار بعظم مكانة أهل بدر وما أعد الله لهم من نعيم مقيم.
خروجه صلى الله عليه وسلم:
عسكر الرسول صلى الله عليه وسلم في بئر أبي عنية ووزع المهام وقسم الرايات على الجيش الذي وصل إلى عشرة آلاف مقاتل من المهاجرين والأنصار والقبائل الأخرى وخرج بهم يوم الأربعاء العاشر من رمضان وهم صائمون في لفحة الحر وبعد الطريق. وقد نادى فيهم مناد الرسول صلى الله عليه وسلم يخيرهم بين الفطر والصوم، ولكن من الذي يهنأ بالفطر والرسول القائد صلى الله عليه وسلم صائم يضرب أروع الأمثال في الجلد والصبر والتخطيط والتدبير, وأصحابه يرونه يصب الماء على رأسه ووجهه من شدة العطش, ومع ذلك يأخذ الرسول عندما يصل إلى الكدية إناء مملوءاً بالماء في وقت العصر ويشرب منه وهو على راحلته ليراه الجميع وهو يقول فيما يرويه أبو سعيد الخدري: "إنكم مصبحون عدوكم والفطر أقوى لكم" ومع ذلك يخبر أن قوماً تمادوا في الصيام فيقول: "أولئك العصاة".
ومع ذلك لم يكن المسلمون على يقين من وجهة رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يقصد قريشاً أم هوزان أم ثقيفاً مما جعل كعب بن مالك يذهب إليه ويبرك على ركبتيه بين يدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وينشده:
قضينا من نهامة كل ربب
وخيبر ثم أجمعنا السيوفا(15/283)
نسائلها ولو نطقت لقالت
قواطعهن دوساً أو ثقيفا
فلست لحاضر أن لم تروها
بساحةِ داركم منها ألوفا
فتنتزع الخيام ببطن وجّ
وننزل دورهم منها خلوفا
فما زاد الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يبتسم له, فقال له الناس:
"والله ما بيّن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، ما ندري بمن يبدء، بقريش أو ثقيف أو هوزان " [10] .
أما قريش فكانت وجلة خائفة مترقبة غير مطمئنة ودفعها الخوف ومحاولة معرفة الأخبار إلى أن يخرج أبي سفيان وآخرون علهم يعرفون شيئاً.
وقد خاف العباس بن عبد المطلب على قريش الفجاءة قبل أن يأمنوا لأنفسهم، فخرج في بغلة الرسول عليه الصلاة والسلام يبحث عن شخص يذهب إلى أهل مكة فيخبرهم وينذرهم، ولكنه سرعان ما سمع صوت أبي سفيان وهو يحاور صاحبه بديل بن ورقاء بعد أن رأى نيران جيش المسلمين التي اكتشفها أبو سفيان بذكائه وخبرته إذ كان صاحبه يظنها نيران قبيلة خزاعة جاءت للأخذ بثأرها فيجيبه أبو سفيان: "إن خزاعة أقل وأذل من أن تكون لها تلك النيران"، وإذا بأبي سفيان يفاجأ بعم رسول الله صلى الله عليه وسلم يناديه يحاوره ويطلب منه الذهاب للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يقتله.
وهنا تأتي المقارنة بين موقف وموقف، وأخبار وأخبار, أبو سفيان يحذر قريشاً فيحمد ذلك منه، وحاطب يحذر قريشا فيستجوب عن ذلك؟ هل هناك تشابه بين الموقفين؟ كلا فالفارق بينهما كبير، فارق في الزمان حيث كانت الأولى في مرحلة الإعداد والثانية في نهاية الخطة، وفارق في المكان حيث كانت الأولى من المدينة والثانية على مشارف مكة، وفارق في السرية والعلنية حيث أذن الرسول صلى الله عليه وسلم بالثاني إذ أعطى بغلته لعمه ولم يأذن في الأولى.(15/284)
أخذ العباس أبا سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن الرؤيا واضحة بحيث يعرفه المسلمون وهو يشق صفوف الجيش، ولكن صوت عمر رضي الله عنه يرتفع وقد ميز أبا سفيان في تلك الكلمة فيقول: "أبو سفيان عدو الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد"ويحاول عمر أن يسبق العباس الذي يمتطي بغلة الرسول ليسارع بطلب الإذن لضرب عنق أبي سفيان، ويدخل العباس في نقاش حاد مع عمر رضي الله عنه إلا أن عمر يهدئ الموقف بالكشف عن مدى تجرده وحبه للعباس إذ يقول: "فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم وما بي إلا أني قد عرفت إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب" [11] .
ولم يكن أبو سفيان أقل وضوحاً وصراحة ممن حوله، فعندما طلب منه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يؤمن لم يتردد ولكنه أخبر بأن في نفسه شيئاً من أن محمداً رسول الله مع اعترافه بحلم الرسول وكرمه وصلته للرحم، ثم عُرضت على أبي سفيان كتائب جيش المسلمين قبيلة بعد قبيلة أخرى ورجالاً وراء رجال، وأبو سفيان مندهش متعجب مقتنع بأن قريشاً لا قبل لها بمثل هؤلاء الرجال المجاهدين الصابرين, وإذا به يسرع إلى مكة لينقذ قومه من الهلاك مخبراً بتأمين الرسول صلى الله عليه وسلم لمن دخل داره أو المسجد أو دار أبي سفيان.
ودخلت جيوش الإسلام مكة تحمل رايات العزة وألوية الإسلام والجيش مقسم في نظام بديع أظهر عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية وكبار قادة المسلمين على رأس تلك الجماعات علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد والزبير رضي الله عنهم وموكب الرسول صلى الله عليه وسلم المهيب يتقدمه أبو عبيدة الجراح رضي الله عنه.(15/285)
إنه موكب رهيب وساعات حاسمة، المسلمون يدخلون من أسفل مكة وأعلاها ومن ذي طوى، والأوامر لدى القادة بإزالة العوائق ومحاربة من يقاتلون، ولم يقتل من المسلمين إلا رجلين شذا عن جيش خالد، أما المشركون فقد قتل منهم ثلاثة عشر رجلاً [12] .
ودخل الرسول صلى الله عليه وسلم شاكراً خاضعاً لله رحيماً شفوقاً بقريش أعطى الأمان للجميع إلا رجالاً ارتبطت أسماؤهم بقضايا معينة ومواقف تستدعي المساءلة والجزاء من أمثال عبد العزى بن خطل الذي ارتد وقتل من بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم معه لجمع الصدقات، ثم لحق بالمشركين، وقد وجد متعلقاً بأستار الكعبة فقتل جزاء ارتداده وقتله لصاحبه وخيانته الأمانة، وكذلك قتل الحويرث بن نقيذ بيد علي بن أبي طالب لكثرة ما كان يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة، كما قتل مقيس بن صبابة بيد غميمة بن عبد الله لقتله رجلاً من الأنصار قتل أخاه عن طريق الخطأ, وهناك من أمّنهم الرسول صلى الله عليه وسلم كإحدى جاريتي ابن خطل الهاجيتين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسارة مولاة بني المطلب ورجلين احتميا بأم هاني بنت أبي طالب قيل إنهما الحارث بن هشام وزهير بن أمية وكذلك عبد الله بن سعد بن أبي السرح وعكرمة بن أبي جعل وكلهم أسلموا وحسن إسلامهم وفيهم من تولى أمر المسلمين [13] .
وتسلم القائد المنتصر مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة فدخل الكعبة وصلى داخلها ومعه عثمان وبلال وأسامة بن زيد ثم كرّم الرسول صلى الله عليه وسلم عثمان إذ ترك له حجابة البيت، وتوارثه أبناؤه وارتفع صوت بلال بنداء الحق، وحطمت الأصنام في مكة وحول الكعبة والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا" [14] .(15/286)
وكانت للرسول صلى الله عليه وسلم مواقف لا تنسى, ومن ينسى موقفه من أهل مكة وهم ينتظرون مصيرهم ويتوقعون الانتقام ممن آذوه وأخرجوه واتهموه بكل أمر فظيع؟ كالسحر والكهانة والجنون والرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ ما في عيونهم ويعلم ما في نفوسهم وحياً فيسألهم: "يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ "قالوا: "خيرا أخ كريم وابن أخ كريم", قال: "فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} اذهبوا فأنتم الطلقاء" [15] .
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم عن مكة ما معناه: "لا تغزى بعد هذا اليوم أبداً إلى يوم القيامة"، وقد علق البيهقي على ذلك بأنها لا تغزى على كفر أهلها فكان كما قال، [16] ولا زال المسلمون يتعلمون من هذا الفتح العظيم دروساً من بينها:
1 – أن كلمة الله يجب أن تعلو على كلمة الكفر في أي زمان ومكان, وأن واجب المسلمين الدائم هو تحطيم الأصنام والطواغيت في كل صورها وأشكالها ومسمياتها.
2 – أن الخطة التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم قد نفذت بدقة وتحققت الأهداف الكبرى مثل دخول الناس في الإسلام وعلى رأسها قريش.
3 – أن الأمور الهامة في حياة المسلمين لا بد فيها من السرية في الهدف وفي التخطيط وفي التنفيذ.
4- أن الحرب النفسية سلاح من أسلحة المحاربين تفيد المسلمين إذا أحسنوا تنظيمها وتوقيتها وتنفيذها.
5 – أن الجندي المسلم مطيع منفذ للأوامر في التأهب للجهاد والتحرك للقتال دون مراجعة أو تردد.
6 – أن روح التسامح والتعالي هي صفات جيش المسلمين فلا انتقام ولا حقد ولا مذابح ولا تمثيل.
7 – أن ظهور المسلمين دائماً بمظهر الأقوياء الأشداء المستعدين للقتال أمر لا بد منه لإدخال الرعب في نفوس الأعداء وتنفيذ أمر الله في إعداد العدة لهم.
وما أكثر الدروس والعبر في هذه الغزوة لمن يعتبرون ويتعظون ويعدون ويخططون.(15/287)
إن يوم الجمعة في العشرين من رمضان سنة ثمان من الهجرة يوم من أيام المسلمين التي لا تنسى والتي يجب أن تكون منقوشة بأحداثها وظروفها ونتائجها في ذاكرة الأجيال المسلمة التي يجب أن تدرس تاريخها فتعرف جوانب العظمة فيه وتحقق بذلك اتباع نبيها صلى الله عليه وسلم وإخضاع العالم لأمر ربها.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] عماد الدين يحيى بن أبي بكر العامري - بهجة المحافل ص397 المجلد الأول.
[2] الواقدي المغازي ص781 ج ثاني.
[3] راجع القصة كاملة في سيرة ابن هشام ص 389 المجلدات الثاني الطبعة الثانية 1855م.
[4] بهجة المحافل ص399.
[5] المغازي للواقدي ص791 ج ثاني.
[6] المصدر السابق ص785 ج ثاني.
[7] المصدر السابق: ص788 ج ثاني.
[8] الواقدي المغازي ص796 ج ثاني.
[9] راجع القصة في المغازي ص797 وما بعدهما، الخصائص الكبرى للسيوطي ص87 ج ثاني, بهجة المحافل 401-402، جوامع السير لابن حزم 226.
تعليق المجلة: وهذا جريا على مذهب ابن حزم في اعتباره الفطر في السفر عزيمة، وهو خلاف مذهب الجمهور حيث يرون أن الفطر في السفر رخصة ـ وقد تختلف باختلاف أحوال الصائمين وظروفهم.
[10] المغازي للواقدي ص80.
[11] جوامع السير لابن حزم ص229.
[12] جوامع السير لابن حزم ص231.
[13] راجع سيرة ابن هشام ص410-411.
[14] راجع سيرة ابن هشام ص417-412 وجوامع السير ص233.
[15] سيرة ابن هشام ص412, المغازي 835.
[16] الخصائص الكبرى للسيوطي ص83.(15/288)
تاريخ مشرق للعلوم الصيدلية
في النهضة الإسلامية
بقلم دكتور أبو الوفاء عبد الآخر
صيدلي الجامعة الإسلامية
الحمد لله، خلق الإنسان وعلمه البيان، ورزقه العقل والإلهام، ووهبه البحث والتجربة والبرهان.. والصلاة والسلام على سيد الأنام، وأفضل من دعا إلى العلم النافع، وإلى كل ما ينفع بني الإنسان..
وبعد.. فإن للأمة الإسلامية في ماضيها: نهضة وحضارة، ورفعة وصدارة، باركتها رسالة السماء، وأيدتها عقيدة سمحاء..
فبعد أن أكمل الله سبحانه وتعالى دينه للمسلمين، وبعد أن تأصلت العقيدة في قلوب الموحدين، وبعد أن دانت عمالقة الدول للأبطال المجاهدين.. سارت الأمة الإسلامية في طريق الأسباب - أسباب القوة - كما نظر علماؤها في ملكوت السموات والأرض، وبحثوا عن كل ما ينفع بني الإنسان، تعبداً وقربى إلى الله سبحانه وتعالى.. فأنعم الله سبحانه وتعالى عليهم بحضارة إسلامية، امتدت عبر القرون وأضاءت كل أرجاء المعمورة.
ولقد كان (للعلوم الصيدلية) نصيب كبير في تلك الحضارة الإسلامية المباركة، وفي مقالنا هذا سوف نقدم موجزاً (لتاريخ العلوم الصيدلية في النهضة الإسلامية) عسى أن يكون لنا في ذلك عبرة وتذكرة، وحافز وهمة، فنقول وبالله التوفيق:
إن (العلوم الصيدلية) تشتمل على مجموعة من العلوم، تشترك جميعاً في هدف واحد، ألا وهو "إيجاد الدواء المناسب لكل داء"ومن هذه العلوم: الكيمياء، والصيدلة، والنبات، والفيزياء.(15/289)
ولقد اهتم علماء الدولة الإسلامية، بهذا الجانب من العلوم، وقاموا بالأبحاث الرائدة، وقدموا الابتكارات الرائعة، وكلما ذكرت الحضارة الإسلامية في غابر الزمان، ذكر التقدم الصيدلي الذي تحقق على أيدي علماء الأمة الإسلامية، ولقد ظلت المعارف الصيدلية، والأعمال الصيدلية قروناً عديدة إلى ما قبل النهضة الإسلامية، أشبه بما نراه الآن من "أعمال العطارة، وخبرات العطارين"إلى أن ظهر العلماء في عصور النهضة الإسلامية، فقاموا بالدراسات المنهجية، وأجروا التجارب العلمية، واستعملوا الأجهزة العلمية، وتوصلوا إلى الاكتشافات القائمة على البحث والتجربة، وبهذا أصبحت (الصيدلة) علماً له كل مقومات العلم: الملاحظة، والبحث، والتجربة.
النهضة الصيدلية وعلماء الصيدلة:
وفيما يلي نعرض بعض مظاهر النهضة الصيدلية، ونذكر بعض مشاهد العلماء الذين شاركوا في هذا الجانب من النهضة الإسلامية:
أولاً: لقد تقدم علم الكيمياء تقدماً عظيماً، وذلك نتيجة لمجهودات العالم الشهير (جابر بن حيان) الذي يعتبر من أعظم علماء العالم في جميع العصور، ولقد عرف العلماء قدره فسموا "علم الكيمياء" (علم جابر) .
وكان (جابر بن حيان) أول من حضّر: حامض الكبريتيك، وحامض النيتريك، وكربونات الصودا، وكربونات البوتاسيوم، وماء الذهب. وأصبح لهذه الكيماويات أهمية عظمى في العصور الحديثة، بل تكاد تكون من أسس حضارة القرن التاسع عشر والعشرين في الكيمياء، والصيدلة، والزراعة، والصناعة.
وهو أول عالم كيميائي استعمل الموازين الحساسة في التجارب الكيميائية.
ولقد ابتدع طرقاً أفادت كثيراً في تحضير العقاقير وتنقيتها وذلك في عمليات (البلورة، والترشيح، والتقطير، والتصعيد) وغيرها من الأعمال الهامة الكيميائية والصيدلية.(15/290)
وكان (جابر بن حيان) حريصاً على إبراز أهمية التجارب، واتباع المنهج التجريبي، ومن أقواله المأثورة: "إن من واجب المشتغل في الكيمياء، العمل وإجراء التجارب، وإن المعرفة لا تحصل إلا بها"وبهذا يكون (جابر بن حيان) ومن بعده (مسلمة بن أحمد المجريطي) قد سبقا علماء الغرب بعدة قرون في إخضاع العلم للتجربة، ووضع أسس "المنهج العلمي"الذي يقوم على التجربة.
وألف (جابر بن حيان) العديد من الكتب في الكيمياء والصيدلة منها كتاب (الموازين) وكتاب (سر الأسرار) وكتاب (الخواص) وكتاب (السموم ودفع مضارها) ولقد ترجمت معظم كتبه إلى اللغات الأوربية, وظلت مرجعاً في جامعات أوربا لعدة قرون.
ثانياً: ولقد ارتقت العلوم الصيدلية والطبية والكيميائية بعد ذلك درجات أخرى على يدي العالم الشهير (أبو بكر الرازي) الذي برع في الطب والصيدلة والكيمياء، ومن مؤلفاته كتاب (المنصوري) الذي أهداه إلى المنصور أمير خراسان، والذي ترجمه إلى اللاتنية فيما بعد (جيرار الكريموني) وظلت تدرس الأجزاء الكيميائية والبية منه بجامعات أوربا, حتى القران السادس عشر.
وكتاب (الحاوى) وهو موسوعة من عشرين جزءاً, يبحث في كل فروع الطب والكيمياء، وكان يدرس أيضاً في جامعات أوربا، بل إنه كان أحد الكتب التسعة التي كانت تدرس بكلية طب باريس سنة 1394.
وكان مؤلفه (الجدري والحصبة) دراسة علمية رائعة، وهي الدراسة الأولى التي استطاعت أن تفرق بين تشخيص هذين المرضين، وحتى تعرف قيمة الكتاب الطبية، فقد أعيد طبعه أربعين مرة باللغة الإنكليزية بين 1494، سنة1866, وهو من أوائل الكتب التي أخرجتها المطابع الأولى في العالم.
وهو الذي اخترع خيوط الجراحة المصنوعة من جلد الحيوان.
كما أنه قدم العديد المبتكر من الأدوية التي تعالج أمراض العيون، والصدر والأمعاء والمجاري البولية.(15/291)
ثالثاً: ولقد خضعت الأدوية والعلاجات لدراسات مستقضية على أيدي علماء الأمة الإسلامية في عصور النهضة الإسلامية، وكان من أبرز العاملين في هذا الميدان الشهير (ابن سيناء) الذي يعتبر من أعظم العلماء إلى عصرنا هذا، وكتابه (القانون) من أشهر المؤلفات الطبية التي سجلها التاريخ، وظلت هذه الموسوعة موجعاً للطب والصيدلة في كثير من بلاد العالم المتحضر، حتى أوائل القرن الثامن عشر، ولقد بدأت كتبه تترجم منذ أوئل القرن الثاني عشر، وذلك بعض دارساته أساساً لبرامج التعليم الطبي والصيدلي في إسبانيا وفرنسا وإيطاليا حتى النصف الأول من القرن الثامن عشر.
وقام (ابن البيطار) وهو أكبر علماء النبات من العرب, بدراسات موسعة على النباتات الطبية, وقام بإجراء التجارب عليها, وما كتبه (ديستوريدس) و (جالينوس) من الغرب و (الإدريسي والغافقي) من العرب.
رابعا ً: ولقد مهد علماء الأمة الإسلامية في عصور النهضة الإسلامية للصناعات الصيدلية نتيجة ملا قاموا به من دراسات في (فن التجهيز الدوائي) . ولقد وصف (أبو مروان بن زهر) "قالبا" توضع فيه المساحيق، لتخرج أقراصاً سهلة التناول، كما قام بدراسات لحفظ العقاقير فكان من أوائل الباحثين في هذا الحقل..(15/292)
(وبعد) .. فهذا عرض موجز لجانب من جوانب النهضة الإسلامية التي عاشها المسلمون، لعدة قرون، وذلك عندما تأصلت العقيدة في نفوسهم, وهانت الحياة في عيونهم, ولانت الأسباب لعزائمهم.. فعلى أثر ظهور الإسلام في الجزيرة العربية، ظهرت أمة مسلمة، تولى أمرها: سيد الرسل وخاتم الأنبياء والمرسلين (محمد) صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله, وفي أقل من 50 عاماً كانت الأمة الإسلامية من الهند وفارس شرقاً إلى المحيط الأطلسي وشمال إسبانيا غرباً, وأصبحت المدينة المنورة والكوفة ودمشق وبغداد والبصرة وسمرقند والقيروان والقاهرة وغرناطة وقرطبة وطيطلة مراكز الحضارة لهذه الأمة الإسلامية، وانضمت إلى هذه العواصم فيما بعد عواصم أخرى إسلامية: كالأستانة والقسطنطينية، ولقد بلغ المسلمون من المدنية والتقدم والحضارة درجة عظيمة لم يبلغها شعب من شعوب الأض في مثل هذه الفترة القصيرة. كما امتدت حضارتهم عدة قرون وأضاءت كل أرجاء المعمورة، وكانت النهضة العلمية التي بلغتها الأمة الإسلامية الأساس الذي قامت عليه النهضة الحديثة، ولو أنصف المؤرخون لقالوا: بأن النهضة الحديثة بدأت منذ النهضة الإسلامية واستمرت في تطور متصل بحيث يجب اعتبار النهضة الإسلامية والنهضة الأوربية جزءين متصلين للنهضة الحديثة المستمرة حتى يومنا هذا.
ولهذا فإن (قضية تصحيح تاريخ العلوم) ما زالت مطروحة على الفكر الإنساني بعامة، والفكر الإسلامي بخاصة, ومن الواجب على رجال التاريخ الدفاع عن هذه القضية بما يتيح للحقائق التاريخية أن تظهر وتسود, وبما يتيح لتاريخ الحضارة الإسلامية أن يأخذ مكانته اللائقة بين تاريخ الحضارات..(15/293)
(وختاماً) آمل أن يكون في الحديث عن الحضارة الإسلامية ما يحفز الهمم، ويشد العزائم, ويقضي على حالة اليأس والاستسلام ويدفع المسلمين جميعاً إلى العمل الجاد, الخالص لوجه الله الكريم, حتى تأخذ الأمة الإسلامية دورها في ركب الحضارة وحتى تصبح: أمة قائدة لا مقودة، ومبتكرة لا مقلدة.. والله ولي التوفيق..(15/294)
الإمام عبد الرحمن بن الجوزي
مثال الطالب المكافح والداعية الناجح
لفضيلة الدكتور جمعة علي الخولي
كلية الدعوة وأصول الدين
من رجالات الدعوة في القرن السادس الهجري عالم العراق الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن أبي الحسن علي بن محمد المعروف بابن الجوزي، ولد سنة 510هـ وتوفي سنة 597هـ.
أمضى عبد الرحمن هذا طفولته يتيماً حيث توفي أبوه وله من العمر ثلاث سنين، وبعد وفاة أبيه أهملته أمه وانصرفت عنه، وتركته لعمته التي منتحته كل عطفها ورعايتها وكانت خير عوض عن فقده لرعاية أبيه أو عطف أمه عليه، بل لقد كان لحدب هذه العمة على ابن أخيها دخلٌ كبير فيما صار إليه ابن الجوزي فيما بعد عالماً مرموقاً وإماماً مشهوراً، فهي التي سهرت على خدمته وتعليمه.
ومن يدري، فلعله لو قدر وعاش أبوه لتغيرت حياته تبعاً لظروف عمل الأسرة فلقد كان أبوه وأهله تجاراً بالنحاس لم يشتغل أحد منهم بالعلم وغيره [1] .
ولقد صرح ابن الجوزي في مواضع من كتابه (صيد الخاطر) بأن أباه توفي وهو صغير وكان نوسراً وخلف له من الأموال الشيء الكثير، ولهذا نرى أنه يكثر الكلام على نفسه في أكثر من كتاب فيبين أنه نشأ في النعيم، وربي على الدلال، ولأنه قد حبب إليه العلم من زمن الطفولة، ولم يرغب في فن واحد بل رغب في كل فن من فنونه [2] .
إلا أن هذه الظروف من تيسُّر المورد والبسطة في الرزق وسعة الحياة لم تدم طويلاً، فرغم أن أباه قد أورثه مالاً كثيراً كان يتيح له أن يعيش هذه العيشة الناعمة لو أن الذين تولوا تربيته ورعايته في طفولته قاموا بما يحقق العدل ويحفظ له ماله حتى يبلغ رشده.
إلا أن أمه - كما ذكرنا - أهملته وتركته لعمته، وبدد الورثة ماله ولم يعطوه إلا عشرين ديناراً ودارين، وقالوا له هذا نصيبك من إرث أبيك، فاشترى بذلك كتباً [3] .(15/295)
ثم إن همته في طلب العلم جعلته يصرف وقته وهمه في تحصيله، مستسهلاً الصعاب متحملاً للشدائد, قانعاً باليسير، حتى إنه يحدثنا عن نفسه بأنه لا يجد ما يقتات به إلا كسرات الخبز الجاف، ولا يجد ما يأتدم به إلا الماء البارد، ولكنه مع هذه الحياة الخشنة لم يتطلع إلى ما في أيدي الناس ولم يذل نفسه لأحد قال: "ولقد كنت أصبح وليس لي ما آكل, وأمسي وليس لي ما آكل، ما أذلني الله لمخلوق قط، ولكنه ساق رزقي لصيانة عرضي ولم يعوزني شيئاً من الدنيا بل ساق إليّ مقدار الكفاية وأزيد" [4] .
وأورث العلم في قلبه لذة فاقت كل لذة، وأنسته كل غصة قال: "ولقد كنت في مرحلة طلبي للعلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل لأجل ما أطلب وأرجو، كنت في زمن الصبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب العلم وأقعد على نهر عيسى - نهر بغداد - فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة شربت عليها شربة وعين همتي لا ترى لذة إلا لذة تحصيل العلم" [5] .
وقال أيضاً يخاطب ولده: "وما زال أبوك في طلب العلم، ولا خرج يطوف في البلدان كغيره من الوعاظ، ولا بعث رقعة إلى أحد يطلب منه شيئاً وأموره تجري على السداد [6] ، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً, وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} " [7] .
وهكذا فليتأس الدعاة وطلاب العلم..
على الواحد منهم أن يمتلك نفسه ويعف، وينطلق من قيود الرغبة والرهبة, ويرتضي لونا من الحياة بعيداً عن ذل الطمع، وشهوة التنعم, وحب الدنيا, ولله در القائل:
أمتُّ مطامعي فأرحت نفسي
فإن النفس ما طمعت تهون
ومن قول علي بن عبد العزيز القاضي رحمه الله تعالى:
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي
لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة
إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم
ولو عظموه في النفوس لعُظما(15/296)
ولكن أهانون فهان ودنسوا
مُحَيَّاه بالأطماع حتى تجهما
كما قيل لأعربي بالبصرة من سيدكم؟
قال: الحسن, يقصد الحسن البصري رحمه الله..
قال: بم سادكم؟ قال: احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دينارهم.
منزلة ابن الجوزي في الوعظ:
اشتغل ابن الجوزي بالوعظ قرابة قرن من الزمان، وقد بلغ فيه شأواً بعيداً حتى اشتهر بذلك وعرف به.. قال ابن كثير: "تفرد بفن الوعظ الذي لم يُسبق إليه ولا يلحقُ شأوه فيه، وفي طريقته وشكله، وفي فصاحته وبلاغته وعذوبته وحلاوة ترصيعه، ونفوذ وعظه، وغوصه في المعاني البديعة، وتقريبه الأشياء الغريبة بما يشاهد من الأمور الحسية بعبارة وجيزة سريعة الفهم والإدراك بحيث يجمع المعاني الكثيرة في الكلمة اليسيرة. [8]
وكان يسمع وعظه مرة الخليفة المستضيء العباس فالتفت إلى ناحيته وهو في درسه وقال: يا أمير المؤمنين، إن تكلمت خفتُ منك، وإن سكت خفتُ عليك، وإن قول القائل لك: اتق الله خير له من قوله لكم: أنتم أهل بيت مغفور لكم.. ثم زاد قائلاُ: "لقد كان عمر بن الخطاب يقول: "إذا بلغني من عامل ظلم فلم أغيره فأنا الظالم، كما كان رضي الله عنه يضرب بطنه عام الرمادة ويقول: "قرقري أولا تقرقري فو الله لا ذاق عمرُ سمناً ولا سمينا حتى يطعم سائر الناس".
فبكى المستضيء وتصدق بمال كثير، وأطلق المحبوسين، وكسا خلقاً من الفقراء.. [9]
ومن مناجاة ابن الجوزي: "إلهي لا تعذب لسانا يخبر عنك، ولا عينا تنظر إلى علوم تدل عليك، ولا قدماً تمشي إلى خدمتك، ولا يداً تكتب حديث رسولك, فبعزتك لا تدخلني النار فقد علم أهلها أني كنت أذب عن دينك"..(15/297)
ومن أجوبته الموفقة ما ذكره ابن خلّكان من أنه وقع نزاع ببغداد بين أهل السنة والشيعة في المفاضلة بين أبي بكر وعلي رضي الله عنهما، ورضي الكل بما يجيب به الشيخ ابن الجوزي، وتوجهوا إليه بالسؤال وهو في مجلس وعظه، فقال: "أفضلهما من كانت ابنته تحته"، ثم نزل في الحال حتى لا يراجع في ذلك.. فقالت السنية: هو أبو بكر؛ لأن ابنته عائشة رضي الله عنها تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت الشيعة: هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحته", قال ابن خلكان: "وهذه من لطائف الأجوبة، ولو حصل بعد الفكر التام وإمعان النظر كان في غاية الحسن فضلاً عن البديهة". [10]
ابن الجوزي وابن قم الجوزية:
ذكر الذين أرّخوا لابن الجوزي أنه كان له من الأولاد الذكر ثلاثة, أكبرهم عبد العزيز، وقد مات شاباً في حياة والده سنة 554، والثاني أبو القاسم علي الذي ألف له رسالة (لفتة الكبد في نصيحة الولد) وكان يأمل أن ينبغ في العلم وينهج سيرة أبيه، لكن ما أراد الله له ذلك، بل قد ذكر بعض المؤرخين أن هذا الولد كان عاقاً له، وكان يتسلط على كتبه فيبيعها بأبخس الأثمان.. والثالث هو أصغرهم محي الدين يوسف، ذكروا أنه كان أنجب أولاده، اشتغل بالدعوة والوعظ على طريقة أبيه، وباشر الحسبة في بغداد، ثم صار رسول الخلفاء إلى الملوك بأطراف البلاد، وفي آخر حياته أسندت إليه أستاذية دار الخليفة المستعصم العباسي، وقتل معه سنة 656 أيام الغزو التتري على المسلمين واستيلاء هولاكو على بغداد.(15/298)
ومحي الدين يوسف هذا هو الذي بنى المدرسة الجوزية بدمشق.. وإلى هذه المدرسة ينسب والد الإمام ابن القيم لأنه كان قيماً عليها، وبعض الناس يخلطون بينه وبين ابن الجوزي حتى أنه طبع كتاب أخبار النساء لابن الجوزي ونُسب إلى ابن قيم الجوزية وذلك من غفلة النساخ ودور النشر.. مع أن بين وفاة ابن الجوزي ووفاة ابن قيم الجوزية ستين سنة والأول بغدادي والثاني دمشقي. [11]
دروس من حياة ابن الجوزي لطلاب العلم ودعاة الإسلام:
إن حياة ابن الجوزي لتعد قدوة لطالب العلم، ونموذجاً للعالم المسلم والواعظ المرشد ونوضح ذلك في الآتي:
1 – الصبر على متاعب التحصيل وحياة الشظف، والاشتغال بلذة العلم وحلاوة المعرفة فإن في ذلك سلوى عن كل مفقود، وقد رأيت ابن الجوزي كان لا يجد ما يأتدم به فيأخذ الرغيف اليابس ولا يأكله إلا عند الماء ليستعين به على بلع الطعام، ومع ذلك حول كل همته إلى طلب العلم.
2 - إدمان القراءة وكثرة المطالعة.. ولقد حاول ابن الجوزي جاهداً وصادقاً أن يقرأ كل ما تقع عليه عينه، وهكذا الطالب المجد، والداعية الحصيف، إنه مدمن قراءة، وصديق للكتاب به يأتنس، وله يلازم الصحبة، ولسان حاله يقول:
أنا من بدل بالكتب الصحابا
لم أجد لي وافياً إلا الكتابا
يقول ابن الجوزي: "سبيل طالب الكمال في طلب العلم الاطلاع على الكتب، وأن يكثر من المطالعة، وعلى الفقيه أن يطالع من كل فن طرفاً من تاريخ وحديث ولغة وغير ذلك، فإن الفقيه يحتاج إلى جميع العلوم فيأخذ من كل شيء منها مهماً.." [12] .
ثم يقول مخبراً عن نفسه وحاله: "ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتاباً لم أره فكأني وقعت على كنز، ولو قلت: إنني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر وأنا بعد في الطلب"، أي في مرحلة طلبه العلم.(15/299)
3 - وكان من نشاطه العلمي أن يسعى إلى العلم حيث وجد لا يضن بمجهود مهما عظم يقول: "لم أترك أحدا ً ممن يروي ويعظ، ولا غريباً يقدم إلا وأحضره، وأتخير الفضائل، ولقد كنت أدور على المشايخ للسماع فينقطع نفسي من العدو لئلا أسبق". [13]
4 - ومما ينبغي أن يلتفت إليه، أن ابن الجوزي كثيراً ما كان يهتم بالربط بين العلم والعمل ربطاً وثيقاً، ومن نصيحته لابنه "إياك أن تقف صورة مع العلم دون العمل به، فإن أقواماً أعرضوا عن العلم بالعمل فمنعوا البركة والنفع به، وعلى قدر انتفاعك بالعلم ينتفع السامعون، ومتى لم يعمل الواعظ بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل الماء عن الحجر) . [14]
5 - وكانت الأمانة العلمية جزءاً من منهجه يقول: "وإذا سئلت عما لا تعلم فقل الله أعلم"وكان يعيب على العلماء الذين يفتون بلا علم حفظاً للمظاهر، ومن كلامه "إن كثيراً من العلماء يأنفون من قول (لا أدري) فيحفظون بالفتوى جاههم عند الناس لئلا يقال جهلوا الجواب, وإن كانوا على غير يقين مما قالوا.. وهذا نهاية الخذلان، وقد روي عن مالك بن أنس رحمه الله أن رجلاً سأله عن مسألة فقال: "لا أدري"، فقال: "سافرت البلدان إليك! "فقال: "ارجع إلى بلدك وقل سألت مالكاً فقال: لا أدري".
فانظر إلى دين هذا الرجل وعقله، كيف استراح من التكلف، ومن إثم القول بغير علم".
6 - وكان يكره الجدال في المسائل التي تثير الفرقة بين المسلمين وتبلبل أفكارهم، يقول في منهاج القاصدين تحت منكرات المساجد: "ومن ذلك ما يجري من الوعاظ في المساجد من الأشياء المنهي عنها كالخوض في الكلام الموجب للفتن والاختلاف".
7 – وكان يتطلب الدليل على كل ما يلقى إليه، أو يسمع به، أو يطالعه، ولا يخضع لتزييفات ولا ينخدع ببريق الأسماء، وإنما كان يقول كما قال الإمام علي رضي الله عنه "إن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن اعرف الحق تعرف أهله".(15/300)
وبعد.. فبهذا النشاط، وبهذه الرغبة في تحصيل العلم والاستهانة في سبيله بكل مجهود، وبهذا الإدراك الواعي لمسئولية الداعي، كوّن ابن الجوزي شخصيته العلمية وصار فيما بعد عالم العراق، وواعظ الآفاق، حتى رووا أنه كان يحضر مجلس وعظه أكثر من مائة ألف [15] , ولست أري كيف كانوا يسمعون صوته، ويفهمون منه، ولم تكن مكبرات صوت ظهرت يومئذٍ، وحق للذهبي أن يقول: "لا ريب إن كان هذا وقع فإن أكثرهم لا يسمعون مقالته".
ولقد أثرى رحمه الله المكتبة الإسلامية، بمؤلفاته الكثيرة المتنوعة، في التفسير والحديث والوعظ والأدب والتاريخ واللغة.. وغير ذلك … ومما نوصي بقراءته من مؤلفاته في المجال الوعظ والدعوة إلى الله ما يلي:
1 - كتاب صيد الخاطر بتحقيق الشيخ محمد الغزالي، أو بتحقيق الأستاذ علي الطنطاوي.
2 - كتاب بستان الواعظين ورياض السامعين.
3 - كتاب الطب الروحاني.
4 - كتاب ذم الهوى, بتحقيق د. مصطفى عبد الواحد, ومراجعة الشيخ محمد الغزالي.
5 - كتاب منهاج القاصدين, وقد اختصره المقدسي في كتاب (مختصر منهاج القاصدين) ..
هذا.. ولقد أسلم علي يدي هذا العالم الجليل وتاب عدد كثير.. يقول في آخر كتاب (القصاص والمذكرين) : "ما زلت أعظ الناس وأحرضهم على التوبة والتقوى, فقد تاب على يدي إلى أن جمعت هذا الكتاب أكثر من مائة ألف رجل، وقد قطعت من شعور الصبيان اللاهين أكثر من عشرة آلاف طائلة, وأسلم على يدي أكثر من مائة ألف". [16]
فلله دره من رجل.. فقد عاد بخير كثير على الإسلام والمسلمين..
ليت الدعاة يتأسون، والله المستعان..
--------------------------------------------------------------------------------
[1] لفتة الكبد في نصيحة الولد لابن الجوزي، والبداية والنهاية لابن كثير أحداث 597.(15/301)
[2] انظر: (صيد الخاطر) , الفصل: 21, ومقدمة التحقيق لعلي الطنطاوي /24.
[3] صيد الخاطر لابن الجوزي.
[4] صيد الخاطر لابن الجوزي.
[5] صيد الخاطر لابن الجوزي.
[6] لفتة الكبد في نصيحة الولد لابن الجوزي.
[7] سورة الطلاق: 2،3..
[8] البداية والنهاية حوادث سنة 587.
[9] المرجع السابق.
[10] وفيات الأعيان 2/322.
[11] انظر مقدمة صيد الخاطر لعلي الطنطاوي /37.
[12] هذه النصوص من كتاب صيد الخاطر لابن الجوزي.
[13] هذه النصوص من كتاب صيد الخاطر لابن الجوزي.
[14] هذه النصوص من كتاب صيد الخاطر لابن الجوزي.
[15] بل لقد قال ابن الجوزي نفسه في وصف أحد مجالسه الوعظية: "لو قيل: إن الذين خرجوا يطلبون المجلس وسعوا في الصحراء بين باب البصرة والحربية مع المجتمعين في المجلس كانوا ثلاثمائة ألف ما أبعد القائل"، وكل هذا من باب التقدير لا التحقيق.
[16] كما صرح بذلك في مواضع من صيد الخاطر، وفي رسالته المسماة (لفتة الكبد) .(15/302)
ترجمة الشيخ عبد الرحمن الإفريقي
لفضيلة الشيخ عمر بن محمد فلاته
الأمين العام للجامعة الإسلامية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف خلقه وأفضل أنبيائه ورسله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.. أما بعد..
فإن حديثي معكم في هذه الليلة [1] يتعلق بترجمة شخصية كريمة، اتصفت بالعلم والحلم، والفضل والنُّبل، وامتازت بخصال فريدة هيأها الله تعالى لها، وحديثي عنها يعتبر غيضاً من فيض.
ولا أكتمكم أن عنوان هذا الموضوع لم أخترعه بادئ ذي بدء، إنما اختير لي من قبل الجهة المسؤولة عن المحاضرات، ونعم الاختيار كان، وأتوقع أنكم لن تسمعوا غريباً، ولن تقفوا على ابتكار أو اختراع وتجديد، وإنما أرجو أو يوفقني الله تعالى على أن أقوم بالتعبير عما تكنّه النفس من حب ووفاء، واعتراف بالجميل لأصحابه.. وأنعم بالحب الذي يكون لله وفي الله …
فلقد صح في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"، وذكر منهم "رجلين تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه".
وأرجو أن أوفق لإجلاء صورة الشخصية على حقيقتها, وفي نظري أنها من الأمثلة التي تحتذى.
وإنه لمن فضل الله على عباده أن قرْننا هذا حظي بطبقات غير قليلة من العلماء ذوي علم وبصيرة، وصدق وتقوى، نشروا العلم والدين والهدى والرشاد. ولم يخل قطر من الأقطار الإسلامية من عالم أو فقيه أو محدث أو داعية, يتلو الخالف منهم السالف, محافظين على سلامة شرع الله من عبث العابثين، وكيد الكائدين.(15/303)
وليس بدعاً أن أقوم بترجمة لعالم حري أن تظهر آثاره، وتنشر أخباره, وقد شحنت المكتبات الإسلامية بتراجم وسير الأعلام من الرجال من عصر الصحابة رضوان الله عليهم، بل إن الحفاظ من النسابين في الجاهلية قد حفظوا الأنساب، وسير أبطالهم، وأفذاذهم, وأخيار أيامهم، وأذاعوا ذلك وأشاعوه في محافلهم ومنابر أسواقهم، فنقل ذلك عنهم الرواة، ودوّن ذلك الكتاب والأدباء والإخباريون.
ولم تكن الكتابة عن أي شخص وافية كاملة إلا بتعدد الكتاب واستخلاص الحقائق من مجموع ما كتب عنه. وها أنا الآن أسهم بقلمي للقيام بترجمة عالم جليل، وقرنٍ نبيل، شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن يوسف الأفريقي الففوي مولداً، والمدني مهاجراً، والمحدث مسلكاً والفلاني نسباً.
أقول إن الترجمة سنة العلماء، ومنهج أهل الحديث النبلاء بل إن السند والإسناد من ميزة هذه الأمة المحمدية، وهذه المكتبة الإسلامية حافلة بكتب تراجم الصحابة وغيرهم كطبقات ابن سعد والاستيعاب، وأسد الغابة والإصابة، وتاريخ البخاري الكبير والصغير، وكتب ابن حبان وابن عدي والدارقطني والدواليبي والتهذيب وتهذيبه والتقريب والخلاصة، والإكمال والتكملة، وغيرها من كتب التراجم للأدباء والشعراء والقراء والفقهاء.(15/304)
ونظراً إلى أن أحق الناس بالكتابة عن العالم المذكور هم أبناؤه وتلاميذه فإني أرى لزاماً القيام ببعض ذلك، وقد أكرمني الله تعالى بصحبته وطول ملازمته، وكثرة مرافقته، وسمعت منه في المسجد النبوي ودار الحديث بالمدينة المنورة وفي الحضر والسفر والاستقرار وأعدكم أني لا أنطلق مع العاطفة إلى حد المبالغة بناءً على أنه شيخي ووالدي الروحي وذلك لأني مستحضر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم, إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله"، وقوله لعبد الله الشخير رضي الله عنه - وقد قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت سيدنا"– فقال: "السيد لله تبارك وتعالى"، قلنا: "وأفضلنا", فقال: "قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستحوذنكم الشيطان". رواه أبو داود بسند جيد.
وفي حديث أنس رضي الله عنه: "أن أناساً قالوا لرسول الله: "يا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا"فقال: "يا أيها الناس قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل". رواه النسائي بسند جيد، وقوله: "إذا رأيتم المدّاحين فاحثوا على وجوههم التراب".
ميلاده ونشأته:(15/305)
ولد رحمه الله عام 1326هـ في بلاد مالي من قارة إفريقيا الغربية، بقرية تسمى (فَفَا) من أبوين كريمين أنجبا من الأولاد الكثير من الذكور والإناث لم يعش منهم غير المترجم له وأخوه الأكبر، وكان أبوه من بيت الإمارة والحكم الذي لم يزل حتى اليوم يتداوله آله. ونشأ في تلك الربوع مع أترابه يستنشق هواء الصحراء، ويمتع ناظريه بالفضاء الواسع الذي لا يردهما إلا النهر الذي جعل القرية جزيرة. وكانت هذه الفترة فترة بؤس وبلاء على أهل تلك الديار؛ لأن المستعمر الفرنسي قد قبض بكلتا يديه على هذه البلاد، وانقض عليها انقضاض الأسد على الفريسة, بعد أن جرت بينه وبين الأهالي العزل من السلاح حروب انتهت باستعماره البلاد والعباد، وفرض سلطته عليهم قهراً شأن غيرها من البلاد التي اقتسمها الأوربيون من الانجليز والبلجيكيين والبرتغاليين والألمان.
وذلك لأنهم علموا ما امتازت به أفريقيا الخضراء من جودة التربة وكثرة المياه، وجمال الطبيعة، ووفرة الأقوات والأرزاق والمعادن، وقام البعض منهم بالقرصنة، وبعض الأعمال التي لا يقرها شرع، ولا خلق ولا وازع إنساني، ولقد قال عنها بعض الرحالة المحدثين: "إنها القارة الافريقية الخضراء زينة القارات ومستودع الكنوز والثروات، ومنبع للرجولات والبطولات".(15/306)
دخلها الإسلام أول ما دخلها قبل أن يعرف العالم الغربي والشرقي، وقام الإسلام فيها بدوره الحضاري في أقطارها الشرقية والوسطى والغربية والشمالية، وإن الديانة الكبرى اليوم السائدة فيها هي الإسلام ومع ذلك فإن أفريقيا المسلمة لا تزال مجهولة لدى العالم الغربي والإسلامي، ومجهول ما فيها من كنوز وخيرات وثروات يانعات, أقول إنه مع الأسف، لم يعرفوا أن هناك أمة يتوجهون إلى كعبة الله، ويتبعون رسول الله، ويتألمون لآلام الأمة التي بعث فيها رسول الله مع أن أول اتصال بأفريقيا الشرقية كان على عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم حينما أمر أصحابه الكرام بالهجرة إلى الحبشة، وقال لهم حينما اشتد عليهم الأذى من مشركي مكة: "اخرجوا إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم مخرجاً مما أنتم فيه"، واستطاع الصحابة رضوان الله عليهم أن يزرعوا بذور الإيمان هناك، وينشروا دين الإسلام حتى أسلم النجاشي نفسه ملك الحبشة آنذاك.
ولما جاء نعيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يخرجوا إلى المصلى فصف أربعة صفوف، وصلى عليه وهو غائب. وعلى ذلك فإن البلاد الأفريقية قد دخلها الإسلام والمسلمون من صحابة رسول الله قبل أن يدخل أية بلد بعد مكة, أما شمال أفريقيا وغربيها فقد بدأ الفتح فيها على عهد عثمان بن عفان الخليفة الراشد رضي الله عنه، فقد أخرج سنة 27هـ عشرين ألفاً من الصحابة والتابعين يقودهم عبد الله بن أبي السرح وقطعوا مفاوز برقة وطرابلس ثم دخلوا افريقيا، ومنّ الله على المسلمين بالفتح، وكان الأعداء قد خرجوا عليهم بمائة ألف مقاتل، واستشهد لله رجال من المسلمين، وتم النصر, وفتحت تونس وكانت تسمى أفريقيا، وعاد عبد الله بن أبي السرح إلى مصر بعد أن أقام بأفريقيا سنة وشهرين, وقد عرفت هذه الغزوة بغزوة العبادلة لأنه قد شارك فيها سبعة من الصحابة كلهم يدعى عبد الله وهم:(15/307)
(1) عبد الله بن عمر. (2) عبد الله بن الزبير. (3) عبد الله بن عباس. (4) عبد الله بن جعفر. (5) عبد الله بن عمرو بن العاص. (6) عبد الله بن مسعود. (7) عبد الله بن أبي السرح.
وفي عهد معاوية بن أبي سفيان بعث جيشاً كبيراً بقيادة معاوية بن خديج الكندي عام 45 فغزا أفريقيا ثلاث غزوات, وعين يزيد بن معاوية وقيل أبوه معاوية عقبة بن نافع الفهري الذي تم له التوغل في غرب أفريقيا وقال البربر، وبلغ إلى المحيط: وناجى ربه عند المحيط بعد أن أدخل قوائم فرسه في البحر قائلاً: "اللهم لو كنت أعلم أن أحداً وراء هذا المحيط من الخلق لمضيت مجاهداً في سبيلك"ثم عاد - ويومها لم تكن أمريكا مذكورة ولا أخبارها معلومة -.
ولقد عدّد السيوطي رحمه الله في كتابه (درُّ السحابة فيمن دخل مصر من الصحابة) ، وفي كتابه (حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة) - عدد أسماء جملة من الصحابة، الذين وطئت أقدامهم بلاد مصر وهي من القارة الإفريقية، وطؤوها داعين الخلق إلى عبادة الخالق، وترك عبادة المخلوق، ولم يدخلوها دخول المستعمرين الذين أكلوا الحرث والنسل، والذين أفسدوا العقائد والفطر، وأشاعوا فيها الكنائس والبيع لاتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله.(15/308)
ولقد ذكر التاريخ أن عقبة بن نافع الذي سبقت الإشارة إلى ذكره أو عقبة بن ياسر أو عقبة بن عامر قتله كَسيلة بن كزم البربري وهو عائد إلى القيروان من غزوة غزاها لنشر دين الله سنة 63هـ، وخلف فيها أولاداً ينتمي إليهم الفلاتنون, كما ذكر ذلك صاحب كتاب (تعريف العشائر والخلان بشعوب وقبائل الفُلاّن) والله أعلم بحقيقة الحال. قال رحمه الله: "وفي كتاب الاستيعاب في أسماء الأصحاب لابن عبد البر المغربي المالكي (عقبة بن نافع بن عبد قيس الفهري) وفدَ على عهد النبي، وكان ابن أخت عمرو بن العاص فولاّه افريقية، وافتتح غدامس وكُوراً من السودان وودّان وبلاد البربر، وغزا السويس القصوى، وكان مستجاب الدعوة، قتله كسيلة بن كزم سنة 63هـ" اهـ. من كل هذا يعلم أيضاً أن صلة تلك البلاد بالبلاد العربية وأهلها ألصق، ونسب بعض جذاميرها بهم أقرب، كيف لا وقد ربط الله بينهم الإسلام، وجعل وشيجته أقوى الوشائج، وصلته أعظم الصلات.
وما أحسن قول العلامة الأستاذ أبي الحسن الندوى قال: "وقد عقد الله بين العرب والإسلام، ثم بين الحجاز والأمة الإسلامية، ثم بين الحرمين الشريفين وقلوب المسلمين للأبد، وربط مصير أحدهما بالآخر".
لذا فإن الشعوب المسلمة في أفريقيا عندما حل ببلادها المستعمر اعتبروا تلك الفترة فترة بلاء، وأيام نحس ـ وساعات بؤس، وآثروا الموت على الحياة.(15/309)
وفي هذا الوقت ولد الشيخ عبد الرحمن الافريقي المترجم له، وشب عن الطوق، ولما بلغ سن التمييز بعثه والده إلى فقيه القرية الذي يسمى ألفا ليلقنه بعض سور القرآن الكريم ويعلمه بعض الأحكام المبسطة من الكتب الفقهية المتداولة, وظهرت عليه ملامح النجابة، ولم يمض كبير وقت حتى اختاره حكام البلاد المستعمرون للتعليم في مدارسهم التي افتتحوها في تلك البلاد، وأخذ قهراً عن والديه ضمن عدد من أبناء الأعيان، فازداد البلاء , وتفاقم الخطب على والديه وآله لاعتقادهم أنه لا يرجى الخير من شخص تربى على أيدي أعداء الله, وتثقف بثقافتهم ولكن الله غالب على أمره {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وشاء الله أن يشتغل الفتى بدروسه، ويهضم معلوماته، ويكون النجم اللامع بين أقرنه، وينال الشهادات الدراسية التي تدل على تفوقه وجدارته مما جعله يختار للعمل مدرساً ثم موظفاً مسؤولاً في الأنواء الجوية. ولما دنت ساعة الظفر، وحانت ساعة السعادة والكرامة جرى بينه وبين مدير إدارته حديث في شأن الإسلام وواقع المسلمين، ونثر الخصم ما في جعبته من السموم، ورمى الإسلام الجمود والتخلف, وذكر له أن الإسلام دين لا يصلح للعالم, وتعاليمه لا تهذب النفوس وإنما هو منهج يكتبل الحريات، ويدعو إلى الوهم والخيالات، واستدل بواقع المسلمين وما هم عليه من التخلف والذل، وركونهم إلى الطلاسم والسحر والحجب واعتمادهم على الجن والكهان, والكواكب والحروز والأصنام، مما أدى الأوربيين إلى احتلال البلاد لإسعادهم، وانتشالهم من وهدة التخلف التي هم عليها، وقام يدلل على ذلك بالكثير والكثير من الأدلة التي نمقها المبشرون، وكادوا بها الإسلام والمسلمين، فلم يستطع الفتى حينها من أن يقنع الخصم، ولا أن يدافع عن دينه وعقيدته، لا سيما وأنه خال الوفاض بعيد عن العلم والعلماء والفقه والفقهاء, ولو كان مع أهل العلم والفقهاء فإن العلم في تلك البلاد وما شابهها لا يعدو(15/310)
حفظ القرآن. والمرور على بعض الرسائل في فقه الإمام مالك رحمه الله, ومنظومات شعرية في المديح النبوي باللغة المحلية والعربية, وعزم على أن يتصل بعلماء قريته ليقف على الحجج التي يرد بها على المجادل الخانق المعلم فلم ينل بغيته، ولم يحصل على طلبته، فامتلأت نفسه حسرة وندامة, وقرر السفر إلى الحرمين الشريفين, وهو يرى في كل عام المسافرين والآتين من مكة بدعوى أداء الحج، وقرر البقاء فيهما برهة من الزمن ليتفقه في دينه، ويتسلح بسلاح يقارع به الخصم، وينازل به العدو الذي طعن في عقيدة الإسلام وفي صدق رسالة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.
وأرى أن أقف ههنا وقفة قصيرة لأذكر السامع الكريم بأن أعداء الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم منذ مئات السنين فكروا وقدروا، ودبروا الكثير من المؤامرات ضد الإسلام والمسلمين، ولمكافحة دعوته، وكسر شوكته؛ لأنهم علموا أنه لم تنكس له راية، ولم ينهزم في معركة - لما كان المسلمون على بصيرة من دينهم وعلى صلة بربهم - فأجمعوا كيدهم، وانطلقوا يضعون المخططات لمحاربة الإسلام، وإبعاد المسلمين عن حقيقة ما جاء به.
ومن تلك الخطط:
1- فتح المدارس الاستشراقية في بلاد المسلمين.
2- إرسال القسيس والرهبان ليشرفوا عليها.
3- غسل اذهان أبناء المسلمين وتشكيكهم في دينهم.
4- الهيمنة على برامج التعليم في البلاد الإسلامية.
5- إحياء الحضارات القديمة القومية لإبعاد المسلم عن حضارته الإسلامية.
6- تشويه التاريخ الإسلامي والتشكيك في حوادثه والطعن فيها.
7- العمل على إخراج المرأة المسلمة من بيتها بدعوى الحرية والتقدمية، وأنها شقيقة الرجل.
8- إشغال الرجال بها، وإخراجهم من مثلهم وآدابهم وأعرافهم وأخلاقهم بواسطتها.
9- تشجيع الطرق المنحرفة وإلباس مقدميها هالة من التقديس والتقدير وإعطائهم الصدارة والرفع من شأنهم.(15/311)
10- الإكثار من المؤتمرات المسيحية لمكافحة الإسلام.
11- الإكثار من المناسبات المختلفة في بلاد المسلمين باسم الذكرى والعبرة لإيقاعهم في المشابهات المذمومة، والابتداع في شرع الله.
12- محاربة القرآن العظيم كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بطبعه محرفاً، وترجمة معانية ترجمة باطلة لإثارة الجدل ونقده.
13- شن الافتراءات الباطلة على الإسلام لتشويه حقائقه تحت ستار العلم والبحث التكنولوجي المجرد. وغير ذلك كثير وكثير.
وفي أفريقيا بالذات الإكثار من الإرساليات التبشيرية، وإشاعة الكنائس الكبيرة فيها، وإعطاء من اختاروه من الأفارقة الرتب المسيحية لإغراء الرعاع والحطمة في التوغل فيها, وإدخال اللهو وبعض الشهوات في الكنيسة، وتخفيف بعض التعاليم المسيحية إلى درجة الإباحة بدعوى التسامح وإظهار أن الإسلام هو دين القسوة والتعنت والشدة، وبث المحطات الإذاعية القوية للتبشير بالمسيحية، وتشويه سمعة البلاد بأنها بلاد الوحوش والعراة والأدغال، وأكلة لحوم البشر ليتفردوا بخيراتها.
هذا وقد دخلوا في ربوع أفريقيا منذ خمسمائة عام - والعالم العربي المسلم غالبه يجهل إخوانه المسلمين في تلك البلاد، ويدع السرطان الخبيث يفتِكُ في عقائد أمة لو وجدوا مجدداً داعياً ناصحاً، وواعظاً مخلصاً لالتفوا حوله وسلموا الزمام له، واستجابوا لدعوته - وما أمر دعوة التضامن الإسلامي التي قام بها جلالة الملك فيصل رحمه الله، والتفاف زعماء أفريقيا مسلمهم وكافرهم حينما علموا إخلاصه وصدقه - ما أمرها عنا ببعيد.
إذاً فلا عجب من أن يسمع الشيخ الأفريقي رحمة الله عليه من ذلك الفرنسي ما لا يريد أن يسمعه عن الإسلام، وأن يعقد العزم على الرحيل إلى منازل الوحي، ومهبط الرسالة ليتلقى من علماء المسلمين فيها بعد أداء الحج - ما يدحض به الباطل، ويتزود من الدلائل والبيانات ما فيه شفاء ورحمة للمؤمنين.(15/312)
إنها لهمة عالية ونية صادقة، وغيرة لله خالصة انبعثت من شاب مسلم لم يبلغ يومها العشرين عاماً، يصبر على مفارقة الآباء والأقرباء، والأنداد والأحباء, والوطن والمنصب، والحال أنه أصبح شخصاً مرموقاً يشار إليه بالبنان، قد ينال في المجتمع مرتبة يغبطه عليها أترابه من أبناء الزمان، ولكن الأمر كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ..} الآية, (الزمر: 37) .
وصول الشيخ إلى الحرمين الشريفين
ولقد نفّذ خطته فعلاً، ووصل إلى مكة عام 1345 هـ وأدى فريضة حجه، وعندما وصل إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم اتصل بعالم جليل من أبناء جنسه وعشيرته يدعى الشيخ سعيد بن صديق, وكان يشتغل بالتدريس في المسجد النبوي، واشتهر بالعلم والإخلاص والصدق والتواضع، والكرم واللطف والنبل - ووصفه الأستاذ محمد بن سعيد دفتدار عندما ترجم له بقوله: "ولد عام 1310هـ وتوفي عام 1353هـ، وتخرج في العلم علي يدي الشيخ ألفا هاشم، وتربى في كفالته ولد في بلاد فلانة في بلدة قابيور فجدّ في طلب العلم من الشيخ ألفا حتى نال حظاً وافراً من العلم..", إلى أن قال: "وفي الحرب العالمية الأولى ظل بالمدينة المنورة صابراً على لأوائها، ولما توفي الشيخ ألفا هاشم عام 1349هـ أخذ الشيخ سعيد مكانه وتصدى للتدريس في الفقه والحديث النبوي والتوحيد السلفي. وفي العهد السعودي اتصل بالشيخ عبد الله بن بلهيد فلما تحقق من فضله وعلمه عين مدرساً في المسجد النبوي، وعضوا في هيئة الأمر بالمعروف، وانتفع بعلمه كثير منهم الشيخ علي بن عمر والشيخ محمد قوني، وتوفي يوم الجمعة في رجب عام 1353هـ".(15/313)
هذا هو الرجل الأول الذي اتصل به المترجم له في المدينة المنورة، وبالحقيقة فقد انتفع منه علماً، وخلقاً ونبلاً, وكان اتصاله به بمثابة تحول من حال إلى حال، وحياة إلى حياة، وبدأ يتعلم اللغة العربية من ألفها وساعده على سرعة التحصيل إخلاصه أولا بعد توفيق الله, وجده واجتهاده وثقافته الفرنسية التي هونت عليه الكثير من الأمور.
ولقد مكث الشيخ الأفريقي مع شيخه سعيد المذكور مدة قرأ فيها القرآن وشيئاً من كتب الفقه المالكي كمتن العشماوي، والأخضري، وابن عاشر والأزهرية وشيئاً من شروحها، ومتن الرسالة وبعض شروحها، ودرس عليه العقيدة السلفية وشيئاً من كتب الحديث كالأربعين النووية، والمختارة من الأحاديث للهاشمي، وجزء يسير من بلوغ المرام.(15/314)
بعد ذلك حن إلى وطنه، وظن أنه قد حاز من العلم ما يهيئ له مقارعة الأعداء بالحجة والبيان، واستأذن شيخه في العودة إلى البلاد بعد أدائه الحجة الثانية وهو لا يدري ما سبق في قدر الله من الخير - ولما فرغ من أداء المناسك اجتمع بشيخ جليل من بني قومه يقيم بجدة وجرى نقاش علمي في مسألة فقهية فأدلى دلوه، وتقدم في الحديث على جلسائه، وسرد النصوص التي يحفظها من الكتب التي قرأها فقال له الشيخ: يا بني - وبكل بساطة وهدوء – "إن هذه المسألة ورد فيها حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف النصوص التي ذكرت، ويدل على غير ما قرأت"، وقرأ عليه حديثاً ملك مجامع قلبه، وألجم لسانه، وفند حجته، وامتلأ مهابة, وقال: إذاً, علام خالفت المتون هذا الحديث؟! فقال الشيخ: "يا بني, إن جميع المتون وكل الكتب تابعة لأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما سمعت ما قال الإمام مالك، وهو يرد فتوى سمعها عن أمير المؤمنين عمر: "كل كلام فيه مقبول ومردود سوى كلام صاحب هذا القبر وأشار إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، والله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِر} . (النساء: 59) ".
ومن يومها قرر عدم السفر وكان يقول: "فأجمعت أمري على العودة إلى المدينة المنورة لأتقوى في دراسة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونظرت إلى زملائي المسافرين نظرة مودع مفارق فراق غير وامق، وقلت في نفسي: إذا كان ما تحصلت عليه لا يقنع مسلماً ليعود عما هو عليه، فلأن أعجز عن إقناع الملحد المعاند من باب أولى, وقلت لهم: بلغوا آلي أنني لن أعود إلى البلاد حتى يأذن الله، وغربة عن الأوطان في سبيل العلم والمعرفة خير من إقامة سعيدة بالأوطان على جهل وتبعية".(15/315)
وأنا أدعك لتتصور لأواء الغربة، والحنين إلى الأوطان والصحبة, وأدعوك إلى أن تقرأ كتاب الحنين إلى الأوطان عل ذلك يدعو الطلاب للجد والاجتهاد والحرص على الفوز والنجاح في الدور الأول - إن شاء الله - ليتمكنوا من السفر في العطلة الصيفية، ويبلوا الصدأ، ويقضوا النهمة، ويعودوا بعد ذلك إلى الجامعة وهم أسعد حالاً، وأهدأ بالاً، وأزكى قلباً. والله المستعان.
وأسمعك ما قاله بلال بن رباح رضي الله عنه عندما هاجر, وأصابته الحمى واشتد عليه الأمر، كان يرفع عقيرته ويقول كما روت عائشة:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بوادٍ وحولي إذخر وجليل
وهل أردنّ يوماً مياه مجنةٍ
وهل يبدونّ لي شامة وطفيل
قالت: أما أبو بكر رضي الله عنه فكان إذا اشتدت به الحمى يقول:
كل امرئ مصبح في أهله
والموت أدنى من شراك نعله
أقول: إن الشيخ الأفريقي رحمه الله فإنه قد عاد إلى المدينة فعلاً، وعاد إلى شيخه الشيخ سعيد، ولما رآه سر بعودته، وأنزله منزلة كريمة، وخصّص له أوقاتاً يتلقى فيها العلم في البيت والمسجد، وصار يصحبه معه في مجالس لعلماء، ليلقح ذهنه، وتوجه فكره، واتخذه التلميذ الخاص، ولو جاز التبني لتبناه، لا سيما أن الشيخ سعيد لم يرزق أولاداً.
وعندما افتتحت مدرسة دار الحديث بالمدينة عام 1350هـ وعين الشيخ مدرساً فيها, دعاه إلى الالتحاق بها، وكانت يومها مدرسة معنية بتدريس الحديث النبوي، وعلومه على أوسع نطاق، ويدرس فيها كبار العلماء، ومنهم الشيخ سعيد فوجد فيها بغيته، وكان مؤسسها العلامة الشيخ أحمد بن محمد الدهلوي رحمه الله - معنياً بالحديث، ومحدثاً مشهوراً أراد من تأسيس هذه الدار إنشاء جيل في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بصير بالحديث دراية ورواية, شأن مدارس الحديث في الهند إذ ذاك.(15/316)
فالتحق الشيخ الأفريقي بها، ودرس فيها الصحاح والسنن، ومصطلح الحديث والفقه وأصولهما، وعلوم الآلة، ورأى مؤسس الدار منه الحرص الشديد على طلب العلم، وانقطاعه له، وإخلاصه فيه فازدادت محبته له، وجعل مكتبة الدار مذللة هـ، وصار يشرف عليها ويرشده إلى المراجع وينمي فيه ملكة البحث والمطالعة.
وقد استفاد من دار الحديث فائدة عظيمة، وتعمق في الحديث وعلومه ساعده على ذلك وجود العلماء الأجلاء الذين يعلمون في دار الحديث - عد توفيق الله سأتحدث عن بعضهم عند الكلام على الشيوخ الذين تلقى عنهم العلم إن شاء الله - وكان تعلقه بالحديث تعلقاً عظيماً ملأ عليه شغاف قلبه، واستولى على لبه بحيث أصبح مشهوراً بين أقرانه وعند شيوخه برجل الحديث والمحدث.
وأذكر أنني كثيراً ما سمعته يتمثل بأبيات العلامة الذهبي رحمه الله عليه:
أهل الحديث عصابة الحق
فازوا بدعوة سيد الخلق
فوجدوهم لألاء ناضرة
لألاءها كفالق البرق
إشارة إلى الحديث الصحيح "نضر اللهُ امرأً سمع مقالتي فوعاها.." الحديث.
وكثيراً ما كان يردد أبياتا من منظومة الشيخ محمد سفر المدني صاحب رسالة الهدى:
وقول أعلام الهدى لا تعملوا
بقولنا في خلف نص يقبل
فيه دليل الأخذ بالحديث
وذاك في القديم والحديث
قال أبو حنيفة الإمام
لا ينبغي لمن له إسلام
أخذ بأقوالي حتى تعرضا
على الكتاب والحديث المرتضى
ومالك إمام دار الهجرة
قال وقد أشار نحو الحجرة
كل كلام منه ذو قبول
ومنه مردود سوى الرسول
والشافعي قال إن رأيتم
قولي مخالفاً لم رويتم
من الحديث فاضربوا الجدار
بقولي المخالف الأخبارا
وأحمدٌ قال لهم لا تكتبوا
ما قلته بل أصل ذلك اطلبوا
دينك لا تقلد الرجالا
حتى ترى أولاهما مقالا(15/317)
فاسمع مقالات الهداة الأربعة
واعمل بها فإن فيها منفعة
لقمعها لكل ذي تعصب
والمنصفون يكتفون بالنبي
ولقد حفظت منه حديث ابن عباس الذي رواه الترمذي والطبراني بسند حسن من كثرة ذكره له - عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اللهم ارحم خلفائي"، قال فقلنا يا رسول الله ومن هم خلفاؤك؟ قال: "الذين يأتون من بعدي يروون أحاديثي وسنتي، ويعلمونها الناس".
أقول: إنه مع حبه الجم للعمل بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عادلاً منصفاً لا يرضى لأحد من طلابه أو جلسائه أن يتنقض أحداً من العلماء والفقهاء ولا أن يتطاول على أحد ممن اشتهر بعلم الفقه وتدريسه أياً كان وشهدته مرة ينصح طالباً قال: ومن يكون هذا الرجل، وما هي منزلته يعني أحد علماء الفقه فقال له الشيخ مغضباً في الحال: "هو ممن أمرك الله بالدعاء والاستغفار له في قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (الحشر: 10) , والله يقول: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: 11) .
وذكر له قصة الإمام علي رضي الله عنه وقد سأله رجل مسألة فقال فيها, فقال الرجل: ليس كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن الأمر كذا وكذا, فقال علي رضي الله عنه: "أصبت وأخطأت وفوق كل ذي علم عليم".
وذكر له أيضاً أن ابن عباس وزيداً رضي الله عنهما اختلفا في الحائض تنفر، فقال زيد: لا تنفر حتى يكون آخر عهدها الطواف بالبيت، وقال ابن عباس لزيد: سل نسّابتك أم سليمان وصويحباتها, فذهب زيد فسألهن ثم جاء وهو يضحك، فقال: القول ما قلت.(15/318)
ولا أحصي عدد ما سمعته رحمة الله علينا وعليه يدعو إلى الاعتدال والإنصاف وينشد أبياتا منسوبة لأبي عمر بن عبد البر قالها حينما سمع قائلاً يقول: "لو أتتني مائة من الأحاديث رواها الثقة, وجاءني قول عن الإمام قدمته", فقال ابن عبد البر: يعقب هذا القول:
من استخف عاندا بنص ما
عن النبي جا كفرته العلما
لذا فإنه يتعين على العاقل البصير أن يعلم الفرق بين الاتباع والتقليد الأعمى، وأن يعود إلى أهل البصيرة في هذا الشأن، ليقف على حقيقة الأمر، ويعلم جليته، وبذلك يبعد بتوفيق الله من الوقوع في مثل ما وقع فيه من رد عليه الحافظ ابن عبد البر رحمه الله بالأبيات الدالة على عظيم عنايته، ومدى حرصه على التمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإنه بحمد الله قد ألف العلماء كتاباً في هذا الشأن يسترشد بها البصير ويستنير منها الراغب الخبير، ونحن في وقت عجت في المكتبات بالكتب المطبوعة والمخطوطة، وانتشر العلم، وعمت الثقافة بحيث أصبح العذر عديم الجدوى، والاحتجاج بالجهل قليل المفعول.
ومن هذه الكتب جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر، وإيقاظ الهمم للفلاني, والاعتصام للشاطبي، والقول المفيد للشوكاني، وإرشاد الناقد للصنعاني، ورفع الملام عن الأئمة الأعلام لابن تيمية الحراني، وغيرها كثير وكثير.
ويعجبني في هذا الباب ما قاله منصور الفقيه المغربي رحمه الله:
خالفوني وأنكروا ما أقول
قلتُ: لا تعجلوا فإني سؤول
ما تقولون في الكتاب فقولوا
هو نور على الصواب دليل
وكذا سنة الرسول وقد
أفلح من قال ما يقول الرسول
واتفاق الجميع أصل وما
تنكر هذا وذا وذاك العقول
وكذا الحكم بالقياس فقلنا
من جميل الرجال يأتي الجميل
فتعالوا نرد من كل قول(15/319)
ما نفى الأصلُ أو نفته الأصول
فأجابوا , وناظروا وإذا العلم
لديهم هو اليسير القليل
هذا ولم يقصر الشيخ الأفريقي استفادته وتلقيه من دار الحديث فقط بل كان يتردد على الحلقات العلمية في المسجد النبوي، والمسجد النبوي جامعة من الجامعات وموضع إعداد القياديين من رجال العلم والفكر، وأرباب الشهامة والكرامات من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وكان يومها يعج بالطلاب الذين ينهلون من المورد الصافي، ويتزودون من ميراث النبوة ما يحيي قلوبهم ويهذب أخلاقهم، وتقر به عيونهم ونفوسهم.
وقد ظل المسجد إلى عهد قريب هو المدرسة لكل العلوم، وكانت أسطواناته وسواريه مسنداً لظهور العلماء والفقهاء، والمحدثين والمفسرين يتحلق حولهم الطلاب، وينهلون من علمهم وفقههم العديد من الطبقات وعلى مختلف الأعمار والفئات.
يتجول المرء في المسجد ليستمع إلى تلك الدروس ومتى أصغى إلى شيخ وأعجب من أسلوبه، وتمكن من الفهم منه جلس مع الملتفين حول الشيخ وأخذ ما شاء الله له من الفوائد وانصرف.
وللصبية الصغار حلقات وكتاتيب عند مدخل المسجد النبوي أذكر منها كتاب الشيخ التابعي والشيخ الرحالي، والشيخ مولود، والعريف بن سالم والعريف مصطفى والعريف جعفر فقيه, وغيرهم. وكل كتاب منها يعتبر مدرسة تتكون من عدة مراحل دارسية لدراسة القرآن الكريم، وبعض المبادئ الدينية، والأذكار النبوية التي ينبغي أن يلم بها المسلم.
أما تدريس الصغار للعلوم الشرعية فإن على الآباء أن يختاروا لأبنائهم الفقيه الذي يختارونه لذلك سواء كان التعليم في البيت أو المسجد ما داموا صغاراً، فإذا بلغ السن التي تؤهله لحمل الكتاب، ومزاحمة الرجال انتقل الأبناء إلى حلقات المسجد، وبذلك تكون رابطة الفرد بالمسجد وعلاقته به من الصبا إلى ما شاء الله.(15/320)
وقد ورد في الحديث ما يدل على أن التعلم والتعليم في المساجد من أفضل القربات، من ذلك ما روى أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيراً أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله، ومن دخل لغير ذلك كان كالناظر إلى ما ليس له".
وأنت خبير بقصة الثلاثة الذين دخلوا المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس فيه مع أصحابه فأقبل أحدهم، واستحى الثاني, وأعرض الثالث، فأعرض الله عنه, وقصة دخوله صلى الله عليه وسلم المسجد مرة وإذا بحلقة علم وحلقة ذكر فجلس مع أهل العلم، وقال: "إنما بعثت معلماً", ناهيك عن خطب النبي صلى الله عليه وسلم فيه للجُمع وبعض المناسبات.
ويذكر العلماء أن تميماً الداري استأذن عمر رضي الله عنهما أن يقص في المسجد فأذن له عمر، واستمع ابن عمر وابن عباس إلى عبيد بن عمير في المسجد، وكان معاذ يستند إلى سارية في مسجد دمشق، وتلتف الناس حوله ليقص عليهم.
أما الاشتغال بالتذكير والفتوى في المساجد والدور بالمناسبات فقد حصل من العديد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم من التابعين وتابعيهم تولى بيان ذلك العلماء الذين عنوا بأخبار القصاص والوعاظ والمذكرين.
أقول: لذا فإن الشيخ الأفريقي رحمة الله علينا وعليه قد وجد ميراث النبوة وافراً بالمسجد النبوي، ووجد أساطين العلماء، وكبار المربين منتشرين فيه, ووجد العلم ثرا في الروضة اليانعة به. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا"قالوا: "يا رسول الله وما رياض الجنة؟ "قال: "حلق العلم".
فخاض الشيخ الأفريقي فيه ورتع، وأخذ من الثمار ما قدر له وكان للإخلاص والتقوى مفعولهما بعد توفيق الله وهو يقول: {وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ} (البقرة: 282) .
شيوخه وتلاميذه:(15/321)
لقد لازم الشيخ رحمه الله علماء أفذاذاً في المسجد النبوي وبدار الحديث، أخص منهم بالذكر شيخه الأول سعيد بن صديق، والشيخ ألفا هاشم، والعلامة المصلح السلفي واللغوي محمد الطيب بن إسحاق الأنصاري، شيخ شيوخ المدينة وعلمائها وأدبائها في أوساط هذا القرن والمتوفى عام 1363 هـ. قرأ عليه في المسجد النبوي التفسير والحديث، وعلوم الآلة, وكان الشيخ الأنصاري حفياً به ومقرباً له, معجباً من حرصه وإخلاصه وتحرر عقله في المناقشة والاستدلال، وخاصة في الحديث.
ولازم كلاًَ من الشيخ يونس بن نوح الأفريقي، والعلامة الجليل السلفي الورع الزاهد الشيخ صالح الزغيبي الذي كان إماماً للمسجد النبوي قرابة ربع قرن لم يتخلف طيلة هذه المدة عن الإمامة إلا مرتين أو ثلاث.
وتلقى على كل من الشيخ محمد سلطان المعصومي الأفغاني، والشيخ محمد سلطان المعصومي الأفغاني, وكان نادرة في معرفة الحديث وعلومه، وقرأ على زميله الشيخ محمد بن علي الحركان النحو والصرف، وعلى الشيخ محمد بن علي شويل الحديث وعلومه, وتردد على حلقات الشيخ إبراهيم بري، والشيخ محمد حميدة، والشيخ أحمد البساطي، والشيخ صالح الفيصل التونسي، والعلامة المحدث الشيخ محمد علي اللكنوى.
هذه بعض الدوحات التي استظل تحت ظلها، وجنى من ثمارها، وكرع من سلسبيل أنهارها، أما تلاميذه فكثيرون في الشرق والغرب وهنا وهناك, وفي العديد من القارات، فلقد نفع الله به نفعاً كبيراً في تدريسه بالمسجد النبوي، وفي مدرسة دار الحديث المدنية، وفي ينبع النخل حينما اختاره جلالة الملك عبد العزيز آل سعود - رحمه الله - ليقوم بها داعية متجولاً في جميع قراها عام 1364هـ.(15/322)
وفي الرياض عندما كان مدرساً بالمعهد العلمي، وفي مسجد سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، وفي كلية الشريعة بالرياض، وفي منزله الذي كان مجمعاً للضيوف الذين لا يأخذ على قراهم أجراً، وإنما كانوا يقصدونه لأنه يجيد بعض لغاتهم الأفريقية, ويجيد اللغة الفرنسية.
ولأمر ما دعا النبي صلى الله عليه وسلم زيداً أن يتعلم العبرية, وكان يقصده بالذات المثقفون لما يجدون فيه من قبول للمناقشة والبحث، والفهم والوعي، والعلم والحلم، والصبر على الإيرادات التي يوردونها عليه ولا يجدون منه ضجراً ولا مللاً أو سباباً أو شتماً, وإنما كان يأخذهم كما يأخذ المنقذ الغريق الذي إن لم يحتل عليه أهلك منجده.
وهنا ينبغي للداعية أن يعلم أن أسلوب الفظاظة والغلظة والجفاء والشدة لا يسعد على خدمة الدعوة، وإنما يؤدي إلى العكس, لذا قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران:159) ، وقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف:199)
ولا أريد هنا أن أعدد أسماء طلابه المبرزين, أو أشيد بأعمالهم وآثارهم وأذكر مناصبهم ومكانتهم الاجتماعية فإن ذكر ذلك لا يغني فتيلاً ولا ينفع نقيراً، ولا يزيد من قدر الشيخ رحمه الله شيئاً.
ولكني أسأل الله جل وعلا أن يبارك فيهم وفي علومهم، ويزيد من صلاحهم وتوفيقهم، وينفع الإسلام والمسلمين.
صفاته وأخلاقه:(15/323)
ولقد وعدت في مطلع حديثي أنني لا أبالغ في المدح والوصف والثناء كما يفعل عادة عندما يصف التلميذ شيخه, ولذا فإنني ههنا أذكر إلمامة صغيرة عن الجوانب التي أختار الكتابة عنها, وأعتقد أنني لست بالمبالغ أو المتزيد إذا سلكت الشيخ في عداد المصلحين في هذا القرن، فقد كان معلماً بارعاً، ومصلحاً وهب نفسه وفكره، وأذوى ناضر شبابه، وسلخ عمره في مجال الخير, وكان رحمة الله علينا وعليه قد أعطي بسطة في الجسم كما أعطيها في العلم، أسمر ممتلئ الوجه متلألأة, لا ترى العبوس في وجهه, لين العريكة, يحرص في جميع شؤونه أن يسير سير المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وكان في منتهى الذكاء واللباقة, شجاعاً في الحق صبوراً على الأذى في سبيل الله، حكيماً في أحاديثه أديباً في مجلسه، لطيفاً في أسلوبه، سهلاً في تعليمه ومعاملته، مشجعاً للمجدين من طلابه في ألفاظ يرسلها كأنها سهام تنفذ إلى القلوب، يؤدب في شفقة وبشاشة وإيناس، ضليعاً في علم الحديث ومصطلحه, داعية لطلابه إلى اعتناق منهج الانطلاق الفكري في البحوث المقيدة بميزان الشريعة.
رجاعاً إلى الحق، مثيراً طلابه على ملازمة الطاعة والعبادة، عزيزاً في نفسه، ويغرس بذور العزة والكرامة في نفوسهم.
وأذكر أنه كان يسألهم تارة بمناسبة أيام الخميس والاثنين عمن صامهما تطوعاً، وعمن قام شيئاً من الليل غير الفريضة, فإذا أجابوا بالنفي ندب حال طلاب العلم في هذا الزمان.
أما جوده وكرمه وطيبته وحسن طويته، وحبه إسداء الخير للمحتاج فحدث عن ذلك ولا حرج.
وقبل أن أنهي الكلام على ما يتعلق بصفاته وأخلاقه أقرأ على مسامعكم هذه النماذج باختصار:(15/324)
1 – وافق أنني تخلفت عن حج عام 1367 هـ ولما كان يوم عيد الأضحى رأيت أن أتناول طعام الغداء في منزل الشيخ، ووافق أنّ كثيراً من الطلاب ذهبوا للحج، فدخلت عليه والطعام بين يديه, ومعه أولاده, وعندما ألقيت السلام رفع رأسه وقال من غير تأمل أو تفكير: "الحمد لله الذي لم يُرني اليوم الذي آكل فيه وحدي ومع أولادي فقط"..
2 – جاء في نظام أعمال دار الحديث التي وضعها دليلاً لدار الحديث بعد أن آل أمر نظارة مكتبتها وإدارة مدرستها إليه، وفي الفقرة (خ) وقع في خارطة البناء شقة للناظر أعلن من يومي هذا وأنا الناظر حالياً أنني متنازل عن سكناها لتسكنها أسرة الشيخ أحمد الدهلوي المؤسس، وأطلب ممن تولى النظارة بعدي من أبنائي وأحبابي أن يدعوا سكناها للمذكورين ما دام شرط النظارة لا ينطبق عليهم.
3 – شج رجل فقير معاند مخالف للشيخ في العقيدة رأس ابن الشيخ انتقاما من أبيه, وقامت السلطات بسجن الجاني, فحاول الشيخ أن يشفع في فك سراحه فلم يفلح، ولما كان آل الرجل محتاجين إلى من يعولهم أمرني رحمه الله بالإنفاق عليهم إلى أن يطلق سراح عائلهم، ولما علم الرجل ذلك رجع إلى نفسه، وثاب إلى رشده وكان سبباً لقبوله الحق.
أردت أن أضع هذه النماذج الثلاثة أمام السامع من غير تعليق عليها خشية أن أطيل فيكون الملل.
ولقد اشتغل منذ عام 1360هـ بالتدريس في المسجد النبوي وبمدرسة دار الحديث المدنية إلى عام 1364هـ حيث انتدب للوعظ والإرشاد بمدينة ينبع النخل، وعاد منها في عامه بعد أن أمضى فيها ثمانية شهور أسس خلالها قواعد متينة، وأشاد بنياناً راسخاً في العقيدة هناك. وأزال كثيراً من البدع والمنكرات، باللطف والحكمة والموعظة الحسنة. وربض في دار الحديث ليثبت أركانها، ويدعم بنيانها، ويعمر جوانبها بالعلم النبوي.(15/325)
وأشهد بالله تعالى أنه كان يجلس للتدريس من الساعة الثانية صباحاً على وجه التقريب، إلى أذان الظهر جلسة واحدة لا يتخللها كلل ولا ملل, ثم يعود بعد صلاة الظهر ليعقد درساً لبعض الطلاب الذين يشغلهم الضرب في الأسواق صباحاً، وبعد صلاة العصر يرتاد بيته طلاب آخرون للتحصيل والتعلم، وبعد صلاة المغرب وصلاة العشاء يقوم بالدرس العام بالمسجد النبوي, وكانت حلقته تجمع الخليط من الطبقات الصغار والكبار، والمتفرغين لطلب العلم، والراغبين في الانتفاع من العوام وكان الجميع يكرعون وينهلون ويردون ويصدرون، لأن الله حبى الشيخ شفافية النفس، وعظيم الإخلاص، والخلق وسهولة الأسلوب، مع قوة الاقناع فاستفاد منه الكثيرون من المقيمين والحجاج.
أما دار الحديث فقد أخصبت وأفرغت وأربعت ثم ازهرت وأينعت إبان قيامه بإدارتها والتدريس فيها. وصدق عليها ما قال القائل عن دار الحديث النووية بالشام:
وفي دار الحديث لطيف معنى..
وتخرج منها طلاب انتشروا في العديد من البلاد، وأصبحوا قادة في الفكر والعلم ودعاة إلى الحق, وهداة إلى سبيل الله.
وفي أواخر عام 1370هـ اختاره جلالة الملك عبد العزيز ليكون ضمن المدرسين في المعهد العلمي بالرياض، ثم بكلية الشريعة فكان يمكث بالرياض مدة الدراسة ويقضي عطلة الصيف بالمدينة المنورة ليشرف على أعمال دار الحديث، ويواصل تدريسه بالمسجد النبوي الذي كان يتمنى أن يكون بجوار معظم سواريه طلاب يعقلون عن الله، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقومون بتبليغ رسالة الله.
هذه صورة مبسطة من حياة رجل عالم جليل أدى ما عليه. وهكذا تصنع الرجال الأمجاد وكأنما يريدون أن يعالجوا الزمن بنفوسها الكبيرة، وهممها العالية والله من وراء القصد.
مؤلفاته:(15/326)
هذا ولما كان التأليف صنوا للتدريس والتبليغ في مجالات الإصلاح فقد قام الشيخ رحمه الله بتأليف بعض من الكتب النافعة, أرى أن أوجز ما تضمنته فيما يلي:
1 - من اتصاله بالكثير من الحجاج الأفارقة تأكد أن الطريقة التيجانية المنسوبة إلى الشيخ أحمد التيجاني قد انتشرت في تلك البلاد، وتضاربت أقوال الناس فيها، وعمت بلاد أفريقيا موجة من الاختلاف في شأن هذه الطريقة، وفشا بين العامة منهم أن من لم يعتنق الطريقة التيجانية فليس من الإسلام في شيء.
وكان منزل الشيح رحمه الله منتدى يجتمع فيه الحجاج من غالب البلاد التي يحتلها الفرنسيون قبل أن يقسم إلى جمهوريات متعددة، ويقصده المثقفون منهم بالذات، لأنه يجيد اللغة الفرنسية، ويشرح لهم بواسطتها ما يحتاجون إليه من أمور دينهم. وكثيراً ما كان يدور النقاش والاستفسار عنها. فعكف رحمه الله على دراسة كتبها، والوقوف على حقيقة ما فيها من مراجعها وأصولها. وخلص من ذلك إلى تأليف رسالته التي بارك الله فيها - كانت سبباً لوعي الكثير من الناس لسهولة أسلوبها وخلوص نية صاحبها، والتركيز على نقاط حساسة هامة جعلت العامة تقف على بعض المعتقدات التي لا يعرفها إلا الخاصة من أهل الطريقة - أسماها (الأنوار الرحمانية لهداية الفرقة النجاتية) .
وقبل أن أوجز الكلام عن فصول الرسالة يناسب التعريف بالشيخ أحمد التيجاني الذي نسبت إليه هذه الطريقة، وببعض مصادرها. فهو أحمد بن محمد بن المختار بن أحمد بن سالم الشريف التيجاني, ولد عام خمسين ومائة ألف من الهجرة. بعين ماضي, ونشأ بها، وارتحل لفاس علم إحدى وسبعين ومائة وألف وتوفي بها عام 1230هـ.
قال الشيخ محمد الحافظ التجاني المصري المعاصر في ترجمة له للشيخ:(15/327)
"وما زال رضي الله عنه منذ تولى رسول الله تربيته بالروح يسمو ويرقى حتى بلغ مقام القطبانية العظمى، ثم وصل إلى مقام الولاية المعروف عند الأولياء بالخيمة عام أربعة عشر في القرن الثالث عشر"اهـ.
ومن أشهر ما ألف من الكتب في هذه الطرقة هو كتاب جواهر المعاني للشيخ علي حرازم، وكتاب الرماح للشيخ عمر الفوني، وكتاب الإفادة الأحمدية لمريد السعادة الأبدية، للشيخ محمد الطيب الشهير بالسفياني والمتوفى عام 1259هـ وهو من خاصة الخاصة من أصحاب الشيخ أحمد التجاني.
وبمناسبة ذكر كتاب الإفادة وهو كتاب لا تزيد صفحاته عن 84 صفحة أورد لك نبذة مما جاء فيه: قال الشيخ السفياني في مقدمة الكتاب.. وبعد.
فأول ما يعتني به بعد كلام مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام المشايخ رضي الله عنهم إذ هم خلفاؤه المغترفون من فيض بحره، ونوابه المقتطفون من أزهار حدائق سره، وأولى ذلك عندي جمع كلام شيخ الشيوخ، ومعدن الثبات والرسوخ، قطب الأمة المحمدية، وخليفته عن الرحمة الربانية أبي العباس مولانا أحمد بن محمد التجاني إلى أن قال:
"ولقد تلقيت جله مشافهة منه، والباقي ممن أثق به، وأروي عنه، وحملني على تقييده، خوف الدرس والضياع لينفع الله به من أراد"ا. هـ.
وإليك بعض النماذج مما في الإفادة الأحمدية المطبوعة بالمطبعة الخيرية عام 1350 هـ بتعليق الشيخ محمد الحافظ التجاني الذي سبقت الإشارة إليه لتحكم على ذلك بما أراك الله فإن في صفحة (7) :
"أقول لهم كما قيل في علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو قسم ( [2] ) النار من أحبنا يقال له أدخله الجنة، ومن أبغضنا ومات دخل النار"..
"أكابر أقطاب هذه الأمة لا يدركون مراتب أصحابي، أعطانا ذلك رغماً عن أنوفكم"صفحة (10) .
"أصحابي ليسوا مع الناس في الموقف بل هم مكتنفون في ظل العرش"صفحة (15) .(15/328)
"أمرني صلى الله عليه وسلم بجمع كتاب جواهر المعاني وقال لي كتابي هو وأنا ألفته"صفحة (19) .
"ثلاثة تقطع التلميذ عنا أخذ ورد عن وردنا، وزيارة الأولياء، وترك الورد"صفحة (31) .
"ذكر ليلة الجمعة مائة من صلاة الفاتح لما أغلق.. الخ بعد نوم الناس يكفر أربعمائة سنة"صفحة (35) .
"طريقنا طريق محض الفضل أعطاها لي صلى الله عليه وسلم منه إليّ من غير واسطة"صفحة (36) .
"طائفة من أصحابنا لو اجتمع أكابر أقطاب هذه الأمة ما وزنوا شعرة من بحر أحدهم"صفحة (40) .
"كل الشيوخ أخذوا عنا من عصر الصحابة إلى النفخ في الصور"صفحة (40) .
"كل من عمل عملاً وتقبل منه فرضاً كان أو نفلاً يعطينا الله تبارك وتعالى ولأصحابنا على ذلك العمل أكثر من مائة ألف ضعف مما يعطى صاحبه"صفحة (43) .
"من حلف بالطلاق أنه جالس مع المصطفى صلى الله عليه وسلم في الوظيفة فهو بار في يمينه، ولا يلزمه طلاق"صفحة (54) .
"نهاني صلى الله عليه وسلم عن التوجه بالأسماء وأمرني بالتوجه بصلاة الفاتح لما أغلق"صفحة (57) .
"قدماي هاتان على رقبة كل ولي لله تعالى من أول نشأة العالم إلى النفخ في الصور"صفحة (62) .
"يوضع لي منبر من نور يوم القيامة، وينادي منادى حتى يسمعه كل من بالموقف يا أهل الموقف، هذا إمامكم الذي كنتم تستمدون منه في دار الدنيا من غير شعور منكم"صفحة (74) .
هذا الكلام وأمثاله هو ما حفز الشيخ رحمه الله بتأليف رسالته (الأنوار الرحمانية) نصحاً للأمة الإسلامية، وقمعاً للبدعة، وإعلاماً بأن ما لم يكن ديناً في الصدور الأول لا يكون اليوم ديناً. وقد حرص رحمة الله علينا وعليه على أن تكون الرسالة سهلة الأسلوب، صغيرة، واضحة الهدف، مبيناً فيها ما ينكره أهل السنة على أهل هذه الطريقة مشيراً إلى رقم الصفحة من كتب القوم ليبين كل مسلم غيور تلك المعتقدات. وأكتفي بذكر عشر عقائد منها:(15/329)
الأولى: أن هذا الورد ادخره رسول الله صلى الله عليه وسلم للشيخ أحمد ولم يعلمه أحداً من الصحابة.
الثانية: أن المرة الواحدة من صلاة الفاتح تعدل كل تسبيح وقع في الكون، وكل ذكر، وكل دعاء, كبيراً كان أو صغيراً، وتعدل قراءة القرآن ستة آلاف مرة.
الثالثة: من لم يعتقد أن صلاة الفاتح من القرآن لم يصب الثواب فيها.
الرابعة: وضع لي منبر من نور يوم القيامة ... الخ.
الخامسة: لا تقرأ جوهرة الكمال إلا بالطهارة المائية.
السادسة: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التوجه بالأسماء الحسنى.
السابعة: أن ولياً وذكر اسمه كان كثيراً ما يلقى النبي صلى الله عليه وسلم ويعلمه الشعر.
الثامنة: من حصل له النظر فينا يوم الجمعة والاثنين يدخل الجنة بغير حساب.
التاسعة: أنهم يأخذون عن الله ورسوله الأحكام.
العاشرة: أن الشرط في طريقتهم أن لا يلقن لمن له ورد من أوراد المشايخ إلا إن تركه، وانسلخ عنه لا يعود إليه أبداً.
وقد أجاب على كل مسألة من هذه المسائل بما أغنى وأشفى, وقد طبعت هذه الرسالة عدة مرات آخرها الطبعة الرابعة التي تولت الجامعة الإسلامية نشرها عام 1394 هـ جزاها الله أفضل الجزاء.
كما أنه قد قام بالرد على هذه الطائفة جماعة من أهل العلم أذكر منهم العالم الجليل مفتي المالكية بالمدينة سابقاً الشيخ محمد الخضر بن سيدي عبد الله بن ما يابي الشنقيطي في كتابه (مشتهى الخارف الجاني في رد زلعات التجاني الجاني) بلغت صفحاته أربعمائة صفحة.
وفضيلة الدكتور ممد تقي الدين الهلالي في رسالته الهدية الهادية، والتي بلغت صفحاتها 80 صفحة تقريباً، وقد ألف جماعة من علماء أفريقيا الغربية رسائل تضمنت الرد على معتقدات هذه الطائفة منها ما جرى الاطلاع عليه، والبعض لم أطلع عليه حتى الآن.(15/330)
أما رسالة الشيخ رحمه الله الثانية فهي (جواب الأفريقي) ، وهي رسالة لطيفة بلغت صفحاتها ستين صفحة، أجاب فيها على سبع عشرة مسألة, وردت إليه من بلاد مليبار عام 1366هـ وهي:
إذا مات الميت ماذا يفعل له أهله، وما يقولون حين يمشون بالجنازة، وإذا مات الأب ماذا يفعل الأولاد من الخير والصدقات، وقراءة القرآن وهل ينفعه ويصل إليه أم لا؟ إذا صلوا الفرض هل لهم أن يجلسوا في مصلاهم للدعاء؟ والإمام يدعو وهم يؤمنون, وعن القنوت في صلاة الصبح, وعن صلاة التراويح كم ركعة هي, وعن مجالس الوعظ والإرشاد في المساجد وعن قراءة المولد للنبي صلى الله عليه وسلم, وهل يتصدق ويجعل ثوابه للنبي وما هي محبته عليه الصلاة والسلام. وهل لعيسى عليه السلام أب أم لا وهل هو حي الآن أم لا؟
ولما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء هل كان بجسده أو روحه، وهل يجوز التداوي بالحرام، وهل يجوز للمسلم أن يكون مذهبياً أم لا. وما هي السنة في صيام التطوع.
وهي مسائل كما سمعت هامة وجليلة تولى الإجابة عليها بما وفقه الله مستدلاً بالكتاب والسنة وذكر بعض أقوال العلماء.
أما كتابه الثالث فهو: توضيح الحج والعمرة، كما جاء بالكتاب والسنة. وقد بلغت صفحاته 120 صفحة فرغ من تأليفه ليلة الثلاثاء من شهر صفر عام 1367هـ.
وأكتفى في تلخيصه بما ذكره مصححه والمشرف على طبعه: فضيلة الشيخ محمد علي عبد الرحيم رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية حالياً عند تصدير الكتاب حيث قال:
"مصدر يشرح قواعد الإسلام الخمس، وما يهم كل مسلم معرفته من الأوامر والنواهي، مع تفصيل محبة الرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء به".
وقال: "قرأت الكتاب فألفيته مع صغر حجمه جامعاً لكل ما يهم المسلم معرفته من عقيدة سليمة وعادة صحيحة".(15/331)
وقال: "أما عبارات الكتاب فهي في متناول الجميع لا لبس فيها ولا إيهام يتفهمها العام قبل الخاص، ويعقلها المتعلم قبل العالم فجاء جزيل النفع كثير الفائدة".
ولفضيلته رحمه الله مجموعة من الفتاوى لم تطبع ومسودات لبعض المذكرات في الحديث والمصطلح ألقاها على طلابه في المعهد العلمي وفي كلية الشريعة بالرياض.
وفاته:
توفي رحمه الله تعالى في ليلة الثلاثاء الموافق 28/3/1377هـ بعد أن انتابته أمراض كثيرة لم تكن سبباً لتوقفه عن الدعوة والجهاد في سبيل الله، بعد خدمة جليلة للسنة شهد له بها القاصي والداني.
وخلف أربعة أبناء، وأربع بنات, لم يكن رحمه الله حريصاً على ترك دنيا لهم حرصه على إحياء دار الحديث بالمدينة المنورة، وجعلها شغله الشاغل والتي كان ينوي جعلها كلية للحديث النبوي الشريف في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن أدركه الأجل قبل أن تتحقق أمنيته.
وقد حقق الله تعالى إنشاء كلية الحديث في هذه المدينة الطيبة تابعة للجامعة الإسلامية في عام 1396هـ نفع الله بها وبقية كليات الجامعة والمعاهد الإسلامية جمعاء, وجعلها معاقل خير لخدمة الإسلام والمسلمين فرحمه الله رحمة واسعة، وأغدق عليه رضوانه، وجعلنا وإياه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وبعد:.. فإن الله تعالى يقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (آل عمران: 185) الآية, ويقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران: 144) .(15/332)
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه", فقالت عائشة رضي الله عنها: "إنا نكره الموت", فقال: "ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشّر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حضره الموت بشّر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أمره إليه مما أمامه وكره لقاء الله، وكره الله لقاءه". متفق عليه.
وروى البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فأفتوا الناس بغير علم فضلوا وأضلوا".
هذا وليحسن العلماء، وليخلص الطلاب, وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه: عمر محمد فلاته
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ألقيت هذه المحاضرة بقاعة المحاضرات بالجامعة الإسلامية في الموسم الثقافي لعام 97-98هـ.
[2] المعنى غير واضح وظاهر الكلام غير مستقيم.(15/333)
خطر مشاركة المرأة للرجل في ميدان عمله
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فإن الدعوة إلى نزول المرأة للعمل في ميدان الرجال المؤدي إلى الاختلاط سواء كان ذلك على جهة التصريح أو التلويح بحجة أن ذلك من مقتضيات العصر ومتطلبات الحضارة أمر خطير جداً له تبعاته الخطيرة وثمراته المرة وعواقبه الوخيمة. رغم مصادمته للنصوص الشرعية التي تأمر المرأة بالقرار في بيتها والقيام بالأعمال التي تخصها في بيتها ونحوه.
ومن أراد أن يعرف عن كثب ما جناه الاختلاط من المفاسد التي لا تحصى فلينظر إلى تلك المجتمعات التي وقعت في هذا البلاء العظيم اختياراً أو اضطراراً بإنصاف من نفسه وتجرد للحق عما عداه يجد التذمر على المستوى الفردي والجماعي والتحسر على انفلات المرأة من بيتها وتفكك الأسر، ونجد ذلك واضحاً على لسان الكثير من الكتاب بل في جميع وسائل الإعلام وما ذلك إلا لأن هذا هدم للمجتمع وتقويض لبنائه.
والأدلة الصحيحةالصريحة الدالة على تحريم الخلوة بالأجنبية وتحريم النظر إليها وتحريم الوسائل الموصلة إلى الوقوع فيما حرم الله أدلة كثيرة قاضية بتحريم الاختلاط لأنه يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.
وإخراج المرأة من بيتها الذي هو مملكتها ومنطلقها الحيوي في هذه الحياة إخراج لها عما تقتضيه فطرتها وطبيعتها التي جبلها الله عليها.
فالدعوة إلى نزول المرأة في الميادين التي تخص الرجال أمر خطير على المجتمع الإسلامي ومن أعظم آثاره الاختلاط الذي يعتبر من أعظم وسائل الزنا الذي يفتك بالمجتمع ويهدم قيمه وأخلاقه.(15/334)
ومعلوم أن الله تبارك وتعالى جعل للمرأة تركيباً يختلف تماماً عن تركيب الرجل هيأها به للقيام بالأعمال التي في داخل بيتها والأعمال التي بين بنات جنسها.
ومعنى هذا: أن اقتحام المرأة لميدان الرجال الخاص بهم يعتبر إخراجاً لها عن تركيبها وطبيعتها. وفي هذا جناية كبيرة على المرأة وقضاء على معنويتها وتحطيم لشخصيتها ويتعدى ذلك إلى أولاد الجيل من ذكور وإناث لأنهم يفقدون التربية والحنان والعطف. فالذي يقوم بهذا الدور وهو الأم قد فصلت منه وعزلت تماماً عن مملكتها التي لا يمكن أن تجد الراحة والاستقرار والطمأنينة إلا فيها وواقع المجتمعات التي تورطت في هذا أصدق شاهد على ما نقول.
والإسلام جعل لكل من الزوجين واجبات خاصة على كل واحد منهما أن يقوم بدوره ليكتمل بذلك بناء المجتمع في داخل البيت وفي خارجه.
فالرجل يقوم بالنفقة والاكتساب والمرأة تقوم بتربية الأولاد والعطف والحنان والرضاعة والحضانة والأعمال التي تناسبها لتعليم الصغار وإدارة مدارسهن والتطبيب والتمريض لهن ونحو ذلك من الأعمال المختصة بالنساء. فترك واجبات البيت من قبل المرأة يعتبر ضياعاً للبيت بمن فيه. ويترتب عليه تفكك الأسرة حسياً ومعنوياً وعند ذلك يصبح المجتمع شكلاً وصورة لا حقيقة ومعنى.(15/335)
قال الله جلّ وعلا: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء: 34) , فسنة الله في خلقه أن القوامة للرجل على المرأة وللرجل فضل عليها كما دلت الآية الكريمة على ذلك. وأمر الله سبحانه للمرأة بقرارها في بيتها, ونهيها عن التبرج معناه: النهي عن الاختلاط, وهو: اجتماع الرجال بالنساء الأجنبيات في مكان واحد بحكم العمل أو البيع أو الشراء أو النزهة أو السفر أو نحو ذلك، لأن اقتحام المرأة في هذا الميدان يؤدي بها إلى الوقوع في المنهي عنه، وفي ذلك مخالفة لأمر الله وتضييع لحقوقه المطلوب شرعاً من المسلمة أن تقوم بها.(15/336)
والكتاب والسنة دلا على تحريم الاختلاط وتحريم جميع الوسائل المؤدية إليه قال الله جلا وعلا: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً، وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ, إِنَّ للهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} (الأحزاب: 34) , فأمر الله أمهات المؤمنين, وجميعُ المسلمات والمؤمنات داخلاتٌ في ذلك، بالقرار في البيوت لما في ذلك من صيانتهن وإبعادهن عن وسائل الفساد لأن الخروج لغير حاجة قد يفضي إلى التبرج كما يفضي إلى شرور أخرى، ثم أمرهن بالأعمال الصالحة التي تنهاهن عن الفحشاء والمنكر، وذلك بإقامتهن الصلاة وإيتائهن الزكاة وطاعتهن لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ثم وجههن إلى ما يعود عليهن بالنفع في الدنيا والآخرة وذلك بأن يكن على اتصال دائم بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية المطهرة اللذين فيهما ما يجلو صدأ القلوب ويطهرها من الأرجاس والأنجاس ويرشد إلى الحق والصواب. وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً} (الأحزاب:59) . فأمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام -وهو المبلغ عن ربه - أن يقول لأزواجه وبناته وعامة نساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن وذلك يتضمن ستر باقي أجسامهن بالجلابيب وذلك إذا أردن الخروج لحاجة مثلاً لئلا تحصل لهن الأذية من مرضى القلوب, فإذا كان الأمر بهذا المثابة فما بالك بنزولها إلى ميدان الرجال واختلاطها معهم وإبداء حاجتها إليهم بحكم الوظيفة والتنازل عن كثير من أنوثتها(15/337)
لتنزل في مستواهم وذهاب كثير من حيائها ليحصل بذلك الانسجام بين الجنسين المختلفين معنى وصورة.
قال الله جلا وعلا: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ, وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنّ..} الآية. (النور:31) .
يأمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يبلغ المؤمنين والمؤمنات أن يلتزموا بغض النظر وحفظ الفرج عن الزنا ثم أوضح سبحانه أن هذا الأمر أزكى لهم. ومعلوم أن حفظ الفرج من الفاحشة إنما يكون باجتناب وسائلها ولا شك أن إطلاق البصر واختلاط النساء بالرجال والرجال بالنساء في ميادين العمل وغيرها من أعظم وسائل وقوع الفاحشة. وهذان الأمران المطلوبان من المؤمن يستحيل تحققهما منه وهو يعمل مع المرأة الأجنبية كزميلة أو مشاركة في العمل له. فاقتحامها هذا الميدان معه واقتحامه معها لا شك أنه من الأمور التي يستحيل معها غض البصر وإحصان الفرج والحصول على زكاة النفس وطهارتها.
وهكذا أمر الله المؤمنات بغض البصر وحفظ الفرج وعدم إبداء الزينة إلا ما ظهر منها، وأمرهن الله بإسدال الخمار على الجيوب المتضمن ستر رأسها ووجهها لأن الجيب محل الرأس والوجه، فكيف يحصل غض البصر وحفظ الفرج وعدم إبداء الزينة عند نزول المرأة إلى ميدان الرجال واختلاطها معهم في الأعمال. والاختلاط كفيل بالوقوع في هذه المحاذير. كيف يحصل للمرأة المسلمة أن تغض بصرها وهي تسير مع الرجل الأجنبي جنباً إلى جنب بحجة أنها تشاركه في الأعمال أو تساويه في جميع ما تقوم به.(15/338)
والإسلام حرم جميع الوسائل والذرائع الموصلة إلى الأمور المحرمة. وكذلك حرم الإسلام على النساء خضوعهن بالقول للرجال لكونه يفضي إلى الطمع فيهن كما في قوله عز وجل: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} (الأحزاب: 32) , يعني مرض الشهوة, فكيف يمكن التحفظ من ذلك مع الاختلاط.
ومن البدهي أنها إذا نزلت إلى ميدان الرجال لا بد أن تكلمهم وأن يكلموها ولا بد أن ترفق لهم الكلام وأن يرفقوا لها الكلام والشيطان من وراء ذلك يزين ويحسن ويدعو إلى الفاحشة حتى يقعوا فريسة له. والله حكيم عليم حيث أمر المرأة بالحجاب وما ذاك إلا لأن للناس فيهم البر والفاجر والطاهر والعاهر. فالحجاب يمنع - بإذن الله - من الفتنة ويحجز دواعيها وتحصل به طهارة قلوب الرجال والنساء والبعد عن مظان التهمة, قال الله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ} الآية (الأحزاب: 53) . وخبر حجاب المرأة بعد حجاب وجهها وجسمها باللباس هو بيتها. وحرم عليها الإسلام مخالطة الرجال الأجانب لئلا تعرض نفسها للفتنة بطريق مباشر أو غير مباشر. وأمرها بالقرار في البيت وعدم الخروج منه إلا لحاجة مباحة مع لزوم الأدب الشرعي, وقد سمى الله مكث المرأة في بيتها قراراً، وهذا المعنى من أسمى المعاني الرفيعة ففيه استقرار لنفسها وراحة لقلبها وانشراح لصدرها. فخروجها عن هذا القرار يفضي إلى اضطراب نفسها وقلق قلبها وضيق صدرها وتعريضها لما لا تحمد عقباه. ونهى الإسلام عن الخلوة بالمرأة الأجنبية على الإطلاق إلا مع ذي محرم, وعن السفر إلا مع ذي محرم سداً لذريعة الفساد وإغلاقاً لباب الإثم وحسماً لأسباب الشر وحماية للنوعين من مكايد الشيطان ولهذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم(15/339)
أنه قال: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء". وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت من النساء".
وقد يتعلق بعض دعاة الاختلاط ببعض ظواهر النصوص الشرعية التي لا يدرك مغزاها ومرماها إلا من نور الله قلبه وتفقه في دين الله وضم الأدلة الشرعية بعضها إلى بعض وكانت في تصوره وحدة لا يتجزأ بعضها عن بعض. ومن ذلك خروج بعض النساء مع الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض الغزوات. والجواب عن ذلك أن خروجهن كان مع محارمهن لمصالح كثيرة لا يترتب عليه ما يخشى عليهن منه من الفساد لإيمانهن وتقواهن وإشراف محارمهن عليهن وعنايتهن بالحجاب بعد نزول آيته بخلاف حال الكثير من نساء العصر ومعلوم أن خروج المرأة من بيتها إلى العمل يختلف تماماً عن الحالة التي خرجن بها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو فقياس هذه على تلك يعتبر قياساً مع الفارق. وأيضاً فما الذي فهمه السلف الصالح حول هذا، وهم لا شك أدرى بمعاني النصوص من غيرهم وأقرب إلى التطبيق العملي بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فما هو الذي نقل عنهم على مدار الزمن, هل وسعوا الدائرة كما ينادي دعاة الاختلاط فنقلوا ما ورد في ذلك إلى أن تعمل المرأة في كل ميادين الحياة مع الرجال تزاحمهم ويزاحمونها وتختلط معهم ويختلطون معها. أم أنهم فهموا أن تلك قضايا معنية لا تتعداها إلى غيرها.(15/340)
وإذا استعرضنا الفتوحات الإسلامية والغزوات على مدار التاريخ لم نجد هذه الظاهرة، أما ما يدعى في هذا العصر من إدخالها كجندي يحمل السلاح ويقاتل كالرجل فهو لا يتعدى أن يكون وسيلة لإفساد وتذويب أخلاق الجيوش باسم الترفيه عن الجنود لأن طبيعة الرجل إذا التقت مع طبيعة المرأة كان منهما عند الخلوة ما يكون بين كل رجل وامرأة من الميل والأنس والاستراحة إلى الحديث والكلام وبعض الشيء يجر إلى بعض وإغلاق باب الفتنة أحكم وأحزم وأبعد من الندامة في المستقبل.(15/341)
فالإسلام حريص جداً على جلب المصالح ودرء المفاسد وغلق الأبواب المؤدية إليها ولاختلاط المرأة مع الرجال في ميدان العمل تأثير كبير في انحطاط الأمة وفساد مجتمعها كما سبق، لأن المعروف تاريخياً عن الحضارات القديمة الرومانية واليونانية ونحوهما أن من أعظم أسباب الانحطاط والانهيار الواقع بها هو خروج المرأة من ميدانها الخاص إلى ميدان الرجال ومزاحمتهم مما أدى إلى فساد أخلاق الرجال وتركهم لما يدفع بأمتهم إلى الرقي المادي والمعنوي.. وانشغال المرأة خارج البيت يؤدي إلى بطالة الرجل وخسران الأمة انسجام الأسرة وانهيار صرحها وفساد أخلاق الأولاد يؤدي إلى الوقوع في مخالفة ما أخبر الله به في كتابه من قوامة الرجل على المرأة. وقد حرص الإسلام أن يبعد المرأة عن جميع ما يخالف طبيعتها فمنعها من تولي الولاية العامة كرئاسة الدولة والقضاء وجميع ما فيه مسئوليات عامة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" رواه البخاري في صحيحه. ففتح الباب لها بأن تنزل إلى ميدان الرجال يعتبر مخالفاً لما يريده الإسلام من سعادتها واستقرارها. فالإسلام يمنع تجنيد المرأة في غير ميدانها الأصيل. وقد ثبت من التجارب المختلفة - وخاصة في المجتمع المختلط - أن الرجل والمرأة لا يتساويان فطرياً ولا طبيعياً فضلاً عما ورد في الكتاب والسنة واضحاً جلياً في اختلاف الطبيعتين والواجبين. والذين ينادون بمساواة الجنس اللطيف المنشئ في الحلية وهو في الخصام غير مبين بالرجل يجهلون أو يتجاهلون الفوارق الأساسية بينهما.(15/342)
لقد ذكرنا من الأدلة الشرعية والواقع الملموس ما يدل على تحريم الاختلاط واشتراك المرأة في أعمال الرجال مما فيه كفاية ومقنع لطالب الحق ولكن نظراً إلى أن بعض الناس قد يستفيدون من كلمات رجال الغرب والشرق أكثر مما يستفيدون من كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام علماء المسلمين رأينا أن ننقل لهم ما يتضمن اعتراف رجال الغرب والشرق بمضار الاختلاط ومفاسده لعلهم يقنعون بذلك. ويعلمون ما جاء به دينهم العظيم من منع الاختلاط هو عين الكرامة والصيانة للمرأة وحمايتهن من وسائل الأضرار بهن والانتهاك لأعراضهن.
قالت الكاتبة الإنجليزية اللادي كوك: "إن الاختلاط يألفه الرجال ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها وعلى قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا وههنا البلاء العظيم على المرأة", إلى أن قالت: "علموهن الابتعاد عن الرجال أخبروهن بعاقبة الكيد الكامن لهن بالمرصاد".
وقال شوينهور الألماني: "قل هو الخلل العظيم في ترتيب أحوالنا الذي دعا المرأة لمشاركة الرجل في علو مجده وباذخ وفعته وسهل عليها التعالي في مطامعها الدنيئة حتى أفسدت المدنية الحديثة بقوى سلطانها ودنيء آرائها".
وقال اللورد بيرون: "لو تفكرت أيها المطالع فيما كانت عليه المرأة في عهد قدماء اليونان لوجدتها في حالة مصطنعة مخالفة للطبيعة ولرأيت معي وجوب إشغال المرأة بالأعمال المنزلية مع تحسن غذائها وملبسها فيه وضرورة حجبها عن الاختلاط بالغير" اهـ.(15/343)
وقال سامويل سمايلس الإنجليزي: "إن النظام الذي يقتضي بتشغيل المرأة في المعامل مهما نشأ عنه من الثروة للبلاد فإن نتيجته كانت هادمة لبناء الحياة المنزلية لأنه هاجم هيكل المنزل وقوض أركان الأسرة ومزق الروابط الاجتماعية فإنه يسلب الزوجة من زوجها والأولاد من أقاربهم صار بنوع خاص لا نتيجة له إلا تسفيل أخلاق المرأة. إذ وظيفة المرأة الحقيقية هي القيام بالواجبات المنزلية مثل ترتيب مسكنها وتربية أولادها والاقتصاد في وسائل معيشتها مع القيام بالاحتياجات البيتية ولكن المعامل تسلخها من كل هذه الواجبات بحيث أصبحت المنازل غير منازل وأضحت الأولاد تشُب على عدم التربية وتلقى في زوايا الإهمال وطفئت المحبة الزوجية وخرجت المرأة عن كونها الزوجة الظريفة والقرينة المحبة للرجل وصارت زميلته في العمل والمشاق وباتت معرضة للتأثيرات التي تمحو غالباً التواضع الفكري والأخلاقي الذي عليه مدار حفظ الفضيلة".
وقالت الدكتورة ايدايلين: "إن سبب الأزمات العائلية في أمريكا وسر كثرة الجرائم في المجتمع هو أن الزوجة تركت بيتها لتضاعف دخل الأسرة فزاد الدخل وانخفض مستوى الأخلاق"ثم قالت: "إن التجارب أثبتت أن عودة المرأة إلى الحريم هو الطريقة الوحيدة لإنقاذ الجيل الجديد من التدهور الذي يسير فيه".
وقال أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي: "إن المرأة تستطيع أن تخدم الدولة حقاً إذا بقيت في البيت الذي هو كيان الأسرة".
وقال عضو آخر: "إن الله عندما منح المرأة ميزة إنجاب الأولاد لم يطلب منها أن تتركهم لتعمل في الخارج بل جعل مهمتها البقاء في المنزل لرعاية هؤلاء الأطفال".
وقال سوبنهور الألماني أيضاً: "اتركوا للمرأة حريتها المطلقة كاملة بدون رقيب ثم قابلوني بعد عام لتروا النتيجة ولا تنسوا أنكم سترثون معي للفضيلة والعفة والأدب وإذا مت فقولوا أخطأ أو أصاب كبد الحقيقة".(15/344)
ذكر هذه النقول كلها الدكتور مصطفى حسني السباعي رحمه الله في كتابه المرأة بين الفقه والقانون.
ولو أردنا أن نستقصي ما قاله منصفوا الغرب في مضمار الاختلاط الذي هو نتيجة نزول المرأة إلى ميدان أعمال الرجال لطال بنا المقال ولكن الإشارة المفيدة تكفي عن طول العبارة.
والخلاصة أن استقرار المرأة في بيتها والقيام بما يجب عليها من تدبيره بعد القيام بأمور دينها هو الأمر الذي يناسب طبيعتها وفطرتها وكيانها وفيه صلاحها وصلاح المجتمع وصلاح الناشئة فإن كان عندها فضل ففي الإمكان تشغيلها في الميادين النسائية كالتعليم للنساء والتطبيب والتمريض لهن ونحو ذلك مما يكون من الأعمال النسائية في ميدان النساء كما سبقت الإشارة إلى ذلك. وفيها شغل لهن شاغل وتعاون مع الرجال في أعمال المجتمع وأسباب رقيه كل في جهة اختصاصه ولا ننسى هنا دور أمهات المؤمنين رضي الله عنهن ومن سار في سبيلهن وما قمن به من تعليم للأمة وتوجيه وإرشاد وتبليغ عن الله سبحانه وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فجزاهن الله عن ذلك خيراً وأكثر في المسلمين اليوم أمثالهن مع الحجاب والصيانة والبعد عن مخالطة الرجال في ميدان أعمالهم.
والله المسؤول أن يبصر الجميع بواجبهم وأن يعينهم على أدائه على الوجه الذي يرضيه وأن يقي الجميع وسائل الفتنة وعوامل الفساد ومكايد الشيطان إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من ع تشغيل النساء في الشركات والمؤسسات الخاصة
هذا ويسر المجلة أن تنشر بهذه المناسبة الخطاب الذي وجهه صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية إلى معالي وزير العمل والشئون الاجتماعية المتضمن منع تشغيل النساء في الشركات والمؤسسات الخاصة.
حفظ الله سموه وزاده توفيقاً.(15/345)
وجه صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية خطاباً إلى معالي الشيخ إبراهيم العنقري وزير العمل والشؤون الاجتماعية طالب فيه سموه بتكليف مكاتب العمل في عموم مناطق المملكة بالقيام بجولات تفتيشية فورية على عموم الشركات والمؤسسات الخاصة وكل من يوجد لديه امرأة تعمل يحقق معها على كيفية استقدامها وهل لديها رخصة عمل ومن ثم ترحيلها من البلد وتطبيق النظام بحق من قام بتشغيلها وإذا وجد ولي أمرها فيؤخذ عليه تعهد بعدم عملها وإذا عادت مرة أخرى ترحل في الحال.
هذا ومن جهة أخرى علمت (الندوة) أن سمو الأمير نايف قد طالب معالي الوزير العمل بمنع السعوديات من العمل.. في مثل تلك الأعمال ويطبق النظام بحق من شغلها بدون رخصة ويؤخذ عليه تعهد وعلى ولي أمرها بعدم تشغيلها إلا في المجالات المسموح بها لها بالعمل فيها. كما علم مندوب (الندوة) أن الجهات التي حددها سمو وزير الداخلية هي المستشفيات ومدارس تعليم البنات والكليات والدوائر الحكومية المسموح بها عمل الفتيات السعوديات كسجون النساء والجمعيات الخيرية والشؤون الاجتماعية. وقد طالب سمو وزير الداخلية معالي الوزير العمل بضرورة تنسيق مع الجوازات في إجراءات الإبعاد وتطبيق ما يخص الجوازات من أنظمة تطبيق العقوبات في هذه المخالفات بحدها الأقصى. كما يؤخذ تعهد على أصحاب المؤسسات والشركات ومالكيها الأصليين بعدم تشغيل أي امرأة لديهم وفد حدد سمو وزير الداخلية في خطابه أن المسؤولية ستكون على مالكي المؤسسات والشركات أمام الدولة وليس من جانب مديري أعمالهم حتى لا تكون حجة أمام المالكين الأصليين بالتنصل من أي مخالفة وتحميلها لهؤلاء المديريين.
كما علمت الندوة أنه قد تم تبليغ أصحاب السمو والمعالي الوزراء بهذه الإجراءات الجهات المسموح للمرأة بالعمل فيها.
الندوة 25 جمادى الثانية سنة 1398هـ - العدد 5858(15/346)
المفهوم الصحيح للسلفية
أسرة التحرير
السلفية مسلك منسوب إلى الرعيل الأول من سلف هذه الأمة الذين سبقوا بالإيمان والفضل والعمل الجاد لنشر الإسلام والدعوة إليه. وصدقوا الله في إيمانهم وعملهم.
فهي تعني تجريد العبادة لله وحده بجميع أنواعها بحيث لا تركع الظهور ولا تسجد الجباه ولا تعنو الوجوه إلا للحي القيوم إذ لا تذلل إلا لله, ولا خوف إلا من الله ولا فقر إلا إلى الله الغني الحميد.
فيصبح العبد المؤمن شجاعاً صريحاً واثقاً بالله فتقضي هذه الثقة على العناصر الذميمة التي تحول بين العبد وبين ربه, من الخوف والخور والذل والتملق والنفاق والتزلف للمخلوق حياً أو ميتاً جنياً أو إنسياً, مع عدم الخوض في صفات الله تعالى بغير علم بالتحريف أو التشبيه, بل تمر كما جاءت في كتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وعدم الإلحاد في أسمائه الحسنى.
ثم تعنى بعد ذلك تجريد متابعة رسول الهدى محمد عليه الصلاة والسلام, والاكتفاء به إماماً وقدوة, والعمل بسنته والدعوة إليها, وتحذير الناس من الابتداع في دين الله الذي بعث به رسوله محمداً عليه الصلاة والسلام.
ومن ثمرات هذا التجريد وتلك المتابعة الصادقة أن يحب المرء لا يحبه إلا لله ويحب له ما يحب لنفسه من خير, ويكره له ما يكره لنفسه من شر.
فالسلفيُّ صادق في توحيده وعبادة ربه ومحبة نبيه محمد عليه الصلاة والسلام وأتباعه, وهو حسن المعاملة مع الناس جميعاً متواضعاً, حزين حين يفرح الناس, باك حين يضحك الناسو يحاسب نفسه عل كل صغيرة وكبيرة.
خائف وجل, راج طامع, عفيف اللسان, رحيم القلب, حريص على نفع عباد الله بكل ما يستطيع، بعلمه وماله وجاهه وشفاعته, "اشفعوا تؤجروا.." الحديث..
دؤوب على الجهاد في سبيل الله بالنوع الذي يدخل تحت استطاعته، بنفسه، أو بماله، أو بلسانه، أو بقلمه، أو بكل ذلك حيث أمكن.(15/347)
هذه هي السلفية بإيجاز.. وإياكم والمتسلفين المتكلفين السلفية ليستخدموها كوسيلة مؤقتة لغاية معينة.. والله المستعان.
أسرة التحرير(15/348)
الدين والحضارة
لفضيلة الدكتور عبد المنعم حسنين
الأستاذ بالدراسات العليا
يظن كثير من الناس أن الدين شيء وأن الحضارة شيء آخر وأن المتدينين قوم، وأن المتحضرين قوم آخرون، وهذا ظن خاطئ، تسرب إلى أقطار العالم الإسلامي في العصر الحديث نتيجة لانتشار مظاهر الحضارة المادية الوافدة من الغرب العلماني الذي فصلت دوله عن العلم عن الدين، وحسبت الدين داخل جدران الكنائس، فلم يعد له أثر فعال في سلوك الناس، لذلك ينبغي بيان صلة الحضارة بالدين، حتى لا يخدع شباب المسلمين، بما يروجه أعداء الإسلام أياً كان لونهم من ضرورة الفصل بين الدين والحضارة، مجاراة للعلمانيين.
ولكي تتضح الصلة بين الدين والحضارة، ينبغي أن نتبين المقصود بالدين ثم نتبين المقصود بالحضارة لتظهر الصلة بينهما، وبالله التوفيق.
أولاً: المقصود بالدين:
يطلق الدين على كل معتقد يدين الإنسان به نفسه، ويلزمها إياه، وما يقتضي به هذا المعتقد من عبادات وأحكام وأخلاق ونحوها، وهو بهذا يشمل كل معتقد يعتقده الإنسان، سواء أكان هذا المعتقد حقاً أم باطلاً، صالحاً أم فاسداً، هدى أم ضلالا.
فدين رسل الله هو دين الحق, ودين رسل الله هو الإسلام, فيه بعث الله رسله، وأنزل كتبه، وأساسه الإيمان بالله واحداً لا شريك له, وإخلاص العبادة له, بحيث يكون الله وحده هو المعبود وهو المطلوب وهو المقصود، وبحيث يراقب الإنسان الله في كل عمل يعمله، سواء أكان هذا العمل من أعمال الدنيا أم كان من أعمال الآخرة، إذ لا فضل بين الدنيا والآخرة في دين الإسلام.
أما دين الكفر وأصحاب المذاهب الضالة المضلة قديمها وحديثها فدين فاسد لأنه يقوم على شرك وزيغ وضلال.(15/349)
ويتضح الفرق بين دين الحق، ودين الباطل من قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ, لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ, وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ, وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ, وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ, لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} سورة الكافرون.
فدين الإسلام هو دين الحق الذي ارتضاه الله لعباده يقول الله عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ} (آل عمران:19) . ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران: 15) .
وقد أكمل الله دينه, وأتم نعمته، قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى رسوله محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه فقال تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة:3) .
والإنسان العاقل هو المكلف بهذا الدين, وهو الذي ينبغي أن يأتمر بما فيه من أوامر, وينتهى عما فيه من نواه, حتى يستقيم طريقه في الحياة, ويتحقق له الفلاح والسعادة في دنياه وأخراه.
وقد خلق الله الإنسان، وجعله خليفة في الأرض، ليمشي في مناكبها ويأكل من رزق الله فيه ويعمرها، ويقيم الحضارة فيها على أساس عبادة الله وحده، ومراقبته في جميع الأعمال.
ولهذا فضل الله الإنسان على كثير ممن خلق تفضيلاً، فقال جلت حكمته: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء:71) .(15/350)
والإنسان يولد على الفطرة نقيا صافيا، والإسلام دين الله الحق, دين يتفق مع الفطرة السليمة. ولهذا يقول الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الروم:30) .
وكل مولود يولد على هذه الفطرة السليمة، كما يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه".
والإسلام يخاطب الإنسان بوجوده كله، جسداً وروحاً، فهو المخلوق العاقل المؤهل للتكليف والحساب والجزاء، فإذا استقام الإنسان كما أمره الله تحققت له السعادة في الدنيا والآخرة، وكان له في الدنيا مكان العزة والقيادة، ومن الآخرة جزاء المتقين المحسنين الفائزين برضوان الله، كما يقول الله سبحانه وتعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 97) .
ثانياً: المقصود بالحضارة:
الحضارة في أحدث تعريف لها هي كل إنتاج مصدره العقل، فهي تشمل كل ألوان النشاط البشري، أي أن الإنسان العاقل هو الذي ينتج الحضارة، فهي ثمرات أعماله التي يوجهها الدين الحق توجيهاً صحيحاً ويزكيها.
وقد عرف علماء الاجتماع الإنسان بأنه حيوان عاقل، وبأنه حيوان ذو دين، وبأنه حيوان ذو حضارة، أي أن الإنسان العاقل هو الكلف دينياً، والنتج حضارياً، والعقل هو أكبر نعمة أنعم الله بها على الإنسان؛ لأنه يستطيع به التمييز بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال وبين الخير والشر، وبين النافع والضار، وبين الصالح والفاسد، فيستطيع به أن يعرف الدين الحق ويدين به، وأن ينتج الحضارة الصالحة المفيدة في الدنيا والآخرة.(15/351)
والحضارة السليمة هي التي تتفق مع الفطرة السليمة، فيجب على الإنسان أن يحتفظ بفطرته، ويتسامى بإنسانيته ليكون أهلاً للخلافة في الأرض, فينبغي عليه أن يكون ذا دين حق، حتى يكون ذا حضارة صحيحة تحقق السعادة للإنسان فرداً ومجتمعاً في الدنيا والآخرة.
أما إذا كان الإنسان يدين نفسه بدين باطل فاسد ومعتقدات ضالة مضلة، فإنه ينتج حضارة فاسدة؛ لأن كل إناء بما فيه ينضح، فالإنسان بفطرته ذو دين وهو الذي ينتج الحضارة، وفقاً لمعتقداته الصحيحة أو الزائفة، فتكون حضارة كريمة أو سقيمة.
والتاريخ خير شاهد على ارتباط الحضارة بالدين، وأنها ثمرة له، وأن الدين الحق هو الذي يثمر الحضارة الراقية معنويا وماديا، لأن الإنسان منتج الحضارة محتاج إلى الدين الحق، ليستقيم طريقه في الحياة, وتستقيم أعماله في جميع الميادين، فتتحق له السعادة في الدنيا والآخرة.
وحين سار المسلمون الأولون على هدى دينهم الحق استطاعوا أن يبنوا حضارة راقية، وأن يدخلوا الحياة من أوسع أبوابها وأكرمها, وأن يقيموا دولة ملكت أطراف العالم، وزخرت بألوان المجد والعزة، وزهت بألوان العلم والمعرفة، وأرست قواعد الحياة بين الأمم على أكرم المبادئ، وأسمى الفضائل.
ثالثاً: ارتباط الحضارة بالدين:
يتضح مما ذكرنا أن الدين أساس الحضارة, وأن ارتباط الحضارة بالدين كارتباط البناء بالأساس، فإذا كان الأساس صحيحاً قوياً استقام البناء، وترابطت أجزاؤه، وإذا كان الأساس فاسداً، صار البناء هشاً ضعيفاً مهم كان براقاً.
والدين الحق هو الذي يعدّ الإنسان الصالح ليبني به المجتمع الصالح؛ لأن الإنسان هو لبنة البناء للمجتمع، وهو الذي يستطيع أن ينتج حضارة على أسس سليمة قائمة على المبادئ الدينية القويمة.(15/352)
ولن يكون الإنسان صالحاً إلا إذا توازنت قواه المادية والمعنوية جميعاً، وتلاقى بعضها مع بعض على دواعي الخير، ومواقع الإحسان وإلا إذا كان ذا دين حق، ليكون ذا سلوك حميد, وسيرة طيبة, وعمل نافع في ماديات الحياة ومعنوياتها.
فالدين الحق يعد الإنسان منتج الحضارة إعداداً طيباً, ليدخل في المجتمع معها صالحاً عاملا فيه, ويجعل الناس جميعاً ينتظمون في وحدة شعورية عامة, بأنهم على سواء في التكاليف الشرعية، وأنهم مطالبون كأفراد وكجماعة أن يقوموا بما كلفوا به، وأن يأمروا فيما بينهم بالمعروف، وأن ينهوا عن المنكر.
كما أن الدين الحق يضع المؤمنين به جميعاً وضعاً واحداً من أوامر الشريعة ونواهيها، وعلى قدم المساواة بينهم لا فرق بين حاكم ومحكوم، أو بين خاصة وعامة، أو بين أغنياء وفقراء، أو بين علماء وغير علماء، ثم تبدأ المفاضلة بينهم على حسب إحسان كل منهم أو تقصيره، فيكون أتقاهم هو أكرمهم عند الله، كما يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13) .
وفي هذا المجال يكون التنافس في فعل الخير، والتقرب إلى الله بصالح الأعمال، الذي يؤدي إلى سعادة الإنسان في الدنيا وإقامة حضارة راقية على أساس سليم، والظفر بالثواب الجزيل في الآخرة.
والدين يقيم المجتمع الإنساني كله على أساس من المساواة ورفع الحواجز المصطنعة بين الجماعات على مدعيات باطلة من الاعتزاز بالدم أو اللون أو المال أو الجاه أو السلطان ويرد الناس إلى معدنهم الأصلي الذي خلقهم فيه من نفس واحدة {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء:1) .(15/353)
ويقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: "كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى".
وإنّ أيّ مجتمع لا يتحقق له الأمن والاستقرار والطمأنينة إلا إذا ارتبطت مشاعر أفراده جميعاً بروح المودة والإخاء، تؤلف بين قلوب الجماعة، وتجعل منهم جسداً واحداً إذا مسه ضر وجد كل عضو من أعضائه مس هذا الضر كما قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى".
والإسلام دين الحق يربي الفرد والمجتمع على أساس الإيمان بالله الواحد الأحد، الذي لا شريك له والذي له ما في السموات وما في الأرض، ثم الإيمان بملائكة الله وكتبه ورسله وباليوم الآخر والبعث والحساب والجزاء والجنة والنار, ثم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا، ثم بفعل الخير وإتقان العمل.
وبقدر تمسك الإنسان بهذا الإيمان والاستقامة على شريعته يكون حظ المجتمع من الخير الذي يجنيه من ثمرات هذا الإيمان، ويكون حظ الحضارة التي ينتجها من ثمرات هذا الإيمان في رقي وسمو, فتكون حضارة فاضلة يطيب فيها العيش، وتهنأ في ظلالها الحياة لكل أهلها.
وقد تكفلت شريعة الإسلام بوضع الأسس السليمة التي يقوم عليها المجتمع الآمن، والحضارة القويمة الصالحة الملائمة لكل زمان ومكان، التي تؤلف تأليفاً حكيماً بين الفرد والجماعة، وتقيم لأفراد البشرية حضارة سليمة، على هذه الأسس القويمة.
فلا تنافر إذاً بين الدين والحضارة، لأن الحضارة ثمرة الدين, والدين الحق يتفق مع الفطرة السليمة، التي فطر الله الناس عليها، ولا تبديل لخلق الله.
ودين الإسلام الحق يربي الفرد تربية صحيحة يقيم بها حضارة راقية تسعد بها البشرية في الدنيا، ويثقل بها ميزان الإنسان يوم يقوم الناس لرب العالمين.(15/354)
والحضارة الفاسدة هي التي تقوم على معتقدات باطلة، لا تتفق مع الفطرة السليمة، ولا ترضى جميع جوانب الإنسان المادية والروحية.
والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم والله يقول الحق. وهو يهدي السبيل.
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(15/355)
البحث الأمين في حديث الأربعين
لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عمر الربيعان
مدير المعهد المتوسط بالجامعة الإسلامية
صدر الجزء الثامن من كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، وهو الجزء الأول من التكملة والذي قام بتأليفه فضيلة الشيخ عطية محمد سالم تلميذ مؤلف الكتاب أصلاً، وهو العلامة بحر العلوم الزاخر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله الذي اخترمته المنية قبل إتمام ذلك الكتاب النفيس والسفر العظيم الذي في اعتقادي لا يماثله كتاب في هذا الفن - تفسير القرآن الكريم - مما سبقه من كتب التفسير. وقد وصل فيه مؤلفه إلى آخر سورة الحديد فانتدب لإكماله فضيلة الشيخ عطية القاضي بمحكمة المدينة، وقد حرص أثابه الله على محاكاة خطة المؤلف والنسج على منواله بقدر الإمكان، فلما صدر الجزء الأول من التكملة وهو من أول سورة المجادلة حتى آخر سورة المرسلات تردد على ألسنة طلبة العلم وشاع بينهم أن فضيلة المؤلف قد وقع في بعض الأخطاء التقليدية التي في اعتقادي أنه لو تجرد أمامها من المؤثرات الخارجية واتجه في بحثها إلى علمه وعقله فقط لما وقع فيها، ونظراً لكوني لم أقرأ كل الكتاب وإنما قرأت بعضه فإني سوف أناقش فضيلة المؤلف في مسألتين هما فيما قرأت أولاهما مسألة تصحيحه لحديث "من صلى بمسجدي أربعين صلاة.. الخ"، وثانيهما مسألة شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وأبدأ بالأولى من المسألتين فأقول:
إن فضيلته صحّح هذا الحديث وقد ضعفه بعض اهل العلم ممن هم أعلم منه بهذا الشأن, وقد صححه الشيخ عطية دون أن يقدم أي حجة يرد بها دليل من ضعّفه سوى كلمة بسيطة نقلها عن الشيخ حماد الأنصاري لا تغني في الموضوع شيئاً، لذلك سوف نناقش فضيلة الشيخ حماد مع فضيلة الشيخ عطية إذ هو شيخه في ذلك التصحيح، فنقول:(15/356)
أيها الشيخان الكريمان أنظرا معنا أولا في متن الحديث وتأملا في أسلوبه بتجرد وإخلاص فربما وافقتمانا على أن أسلوبه ليس نبوياً ولا عربياً بليغاً وهذا نصه: "من صلى في مسجدي أربعين صلاة لا تفوته صلاة كتب له براءة من النار ونجا من العذاب وبرئ من النفاق"أليس النار هي العذاب؟.. أليس العذاب عند الاطلاق ينصرف إلى عذاب الآخرة؟.. مقتضى التعبير البليغ أن يكتفي بواحد من هذين إما النار أو العذاب، وبعد ذلك "وبرئ من النفاق" بعد أن ضمن له النجاة من النار والعذاب أخبر ببراءته من النفاق ومعلوم أن من ضمنت له النجاة من النار لا يكون منافقاً لا في الحاضر ولا في المستقبل.
ثم إن مقتضى هذا الحديث أن من صلى في المسجد النبوي الشريف ثمانية أيام تحقق له ما تحقق لأهل بدر حيث أخبر المصطفى عليه السلام أن الله قال لهم: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" ولو كان ذلك صحيحاً لعرفه السلف الصالح وبادروا إليه وتناقلوه فيما بينهم وبلّغوه إلى من بعدهم إذ هذا أمر ليس بالهيّن فكيف لم يرد إلا بخبر واحد عن صحابي واحد من طريق تابعي واحد غير معروف عند علماء الإسلام ولم يرد اسمه في حديث واحد غير هذا الحديث ولا في كتاب واحد من كتب الترجمة سوى كتاب ابن حبان، وهذا الذي قلناه عن متن الحديث مجرد وجهة نظر خاصة لا نلزم أحداً بقبولها ولا نلوم من خالفنا فيها.(15/357)
والآن إلى سند الحديث لنرى غير متعصبين لأحد ولا ضد أحد، إنما نريد الحق فقط رغبة منا بأن لا تبنى أعمال المسلمين على الظنون والأوهام ولا على مجاراة العواطف, يقول فضيلة الشيخ حماد الأنصاري وتبعه الشيخ عطية بأن هذا الحديث صحيح وانتقد من ضعفه بجهالة نبيط بن عمرو من أهل الاختصاص بهذا الفن، أما الشيخ عطية فقد اكتفى بنقل عبارة مختصرة عن الشيخ حماد ولم يكلف نفسه أي عناء في سبيل البحث ليقدم لقرائه من طلبة العلم خلاصة دراسة وافية وبحث عميق مقنع. وظن وفقه الله أن طلبة العلم يكتفون بهذا الجهد الخفيف وإن لم يكتف بذلك بعض منهم ففي البعض الآخر بركة - هذا ظني والعلم عند الله وإذا كان بعض الظن إثماً فبعضه حق - ونقول لفضيلته: إننا من البعض الذي لا يكتفي بمثل هذا البحث الخفيف في المسائل المختلف فيها في سبيل الوصول إلى الحق والقول على الله ورسوله، أما فضيلة الشيخ حماد فقد احتج لتصحيحه هذا الحديث بما يلي:
1 – نبيط بن عمرو ذكره ابن حبان في الثقات.
2 – ابن حجر نقل ذلك عن ابن حبان ولم يعارضه.
3 – الهيثمي أورد هذا الحديث في الزوائد وقال بعد سياقه: "رواته ثقات".
4 – المنذري أورد هذا الحديث في الترغيب والترهيب وقال بعد سياقه: "رواته رواة الصحيح".
وبهذا اعتبر الشيخ حماد هؤلاء العلماء الأربعة كلهم موثقين لنبيط بن عمرو الذي قرر غيره بأنه مجهول العين والحال.
وهذه عبارة فضيلة الشيخ حماد بنصها حسبما نقل فضيلة الشيخ عطية:
قال ابن حجر في تعجيل المنفعة في زوائد الأربعة: "نبيط بن عمرو ذكره ابن حبان في الثقات"انتهى المنقول عن ابن حجر. قال الشيخ حماد: "فاجتمع على توثيق نبيط كل من ابن حبان وابن حجر والمنذري والهيثمي ولم يجرحه أحد من أئمة هذا الشأن فمن ثم لا يجوز لأحد أن يطعن في من وثقه أربعة من أئمة هذا الشأن".(15/358)
ثم قال: "ولو فرض وقدر جدلاً أن في السند مقالاً فإن أئمة الحديث لا يمنعون إذا لم يكن في الحديث حلال أو حرام أو عقيدة بل كان في باب فضائل الأعمال لا يمنعون العمل به لأن باب الفضائل لا يشدد فيه هذا التشديد نقل السيوطي مثل ذلك عن أحمد وابن المبارك", ومن هنا نبدأ النقاش مع فضيلة الشيخ حماد فنقول:
أما ذكر ابن حبان لنبيط في الثقات فأنت نفسك قد ذكرت وكررت أن توثيق ابن حبان لا يعتد به قبلك جماهير علماء المسلمين الذين لهم عناية بهذا الشأن وذلك لأمرين: الأول: تساهل ابن حبان في التوثيق فإنه يوثق المجروحين، والثاني: قاعدته الشاذة وهي توثيق المجاهيل من الرواة، وعلة هذا الحديث جهالة أحد رواته وهو نبيط الذي انفرد بذكره ابن حبان دون جميع من ألفوا تراجم رواة الحديث، والذي لم يرد له اسم في أي حديث صحيح ولا ضعيف ولا موضوع سوى هذا الحديث الذي نحن بصدد الكلام فيه، فذكر ابن حبان له في كتاب الثقات ما هو إلا جري على قاعدته في توثيق المجهولين، وإن قلت يا فضيلة الشيخ: إنني قد ذكرت عدم الاعتداد بتوثيق ابن حبان إذا عورض دون ما إذا لم يعارض.
نقول جواباً على هذا: إنه لا فرق بين أن يعارض وبين أن ينفرد لأن العلة حاصلة في الحالين ألا وهي التساهل في التوثيق وفي توثيق المجاهيل، أما لو أن عدم المعارضة حاصل بجانب رجل معروف العين مشهور بين أهل العلم وحصل توثيقه من ابن حبان ولم يعارضه معارض بتضعيف ذلك الرجل فحينئذ يكون الاشتراط وجيهاً ومقبولاً.
أما والرجل مجهول لم تذكره كتب التراجم لا إجمالاً ولا تفصيلاً سوى ابن حبان، فلا ينبغي أن يقال أن ابن حبان لم يعارض في توثيقه لذلك الرجل، ونحن لا نشك في أنّ ابن حبان وجد اسم ذلك الرجل في سند ذلك الحديث ولم يجد له أي خبر ولا أثر فيما سواه فدوّن اسمه في كتاب الثقات جرياً على قاعدته المعروفة.(15/359)
والآن انتهينا من مناقشتنا للشيخ حماد بشأن ابن حبان فلننتقل إلى مناقشته حول ادعائه أن ابن حجر وثق نبيطاً فنقول:
إن ابن حجر لم يزد على قوله: "ذكره ابن حبان في الثقات"، ولم يأت بشيء من عند نفسه بشأن نبيط يدل على رأيه الخاص, أما إن تعلقتم فضيلتكم بعدم معارضة ابن حجر لابن حبان كأنكم تقولون: السكوت دليل على الموافقة. فأولاً: هذا الدليل في غاية من الضعف إن لم نقل إنه باطل.
ثانياً: نحن نقول: إن سكوت ابن حجر وعدم معارضته لابن حبان بشأن توثيق هذا الرجل راجع إلى أمرين:
الأول: عدم معرفته لذلك الرجل إذ لم يرد له ذكر في شيء من كتب الجرح والتعديل إلا في كتاب ابن حبان.
والثاني: علم ابن حجر باشتهار ابن حبان بين أهل العلم بالتساهل من ناحية وبتوثيق المجاهيل من ناحية أخرى، فاكتفى بذلك عن بيان جهالة نبيط، علماً بأن ابن حجر لم يقل في مقدمة كتابه (تعجيل المنفعة) أنه إذا نقل حكماً من أحد على أحد ولم يعارضه كان ذلك دليلاً على موافقته له، ولا يجوز إلزام أحد لما لم يلتزم.
ونحن وفضيلة الشيخ حماد وغيرنا نعلم أن الزمان طويل جداً بين نبيط وهو تابعي - لأنه في هذا الحديث يروي عن صحابي - وبين ابن حجر وهو من أهل القرن التاسع فلا سبيل إلى معرفة رجل من التابعين إلى عن طريق الكتب التي ألفها السلف, والكتب التي اطلع عليها ابن حجر موجودة الآن فهل ذكر نبيطاً شيء منها سوى كتاب ابن حبان، وقد فرغنا من الحديث عنه وبيّنّا أنه لا حجة به كما قرر فضيلة الشيخ حماد نفسه.(15/360)
ثم نوجه هذا السؤال إلى فضيلة الشيخ حماد فنقول: من نقل شهادة غيره ولم يعارضه هل يعتبر شاهداً ثانياً له؟.. وهل يحكم عليه بأن موافق على مقتضى تلك الشهادة؟!! لا شك أن الجواب: لا، إذاً كيف يسوغ لنا أن نحكم على ابن حجر بأنه موافق لابن حبان في توثيق نبيط بحجة أنه ذكر توثيقه له ولم يعارضه؟.. نقول: هذا لا يجوز ما دام الناقل لم يصرح بالموافقة ولم يبد ما يدل على رأيه الخاص.
بل لو صرح ابن حجر نفسه بتوثيق هذا الرجل لاستغربنا وتساءلنا من أين عرف ابن حجر هذا الرجل مع عدم ورود اسمه في كتب الجرح والتعديل بل في كتب التراجم أجمع سوى ما ذكر؟
والآن إلى الهيثمي والمنذري لنرى هل يصح أن يقال: إن أربعة من أئمة هذا الشأن وثقوا نبيطاً فلا يجوز لأحد بعدهم أن يطعن فيه، كما هي عبارة فضيلة الشيخ حماد، وهو يعني بأولئك الأربعة ابن حبان وبن حجر والهيثمي والمنذري.
فنقول أولا: إنّ من تشير إليه يا فضيلة الشيخ لم يطعن في نبيط وإنما قرر أنه مجهول وجهالته أمر واقع لا مجال لانكاره.
ثانياً: نقول للشيخ حماد: لا شك أنك توافقنا على أن كلاً من الهيثمي والمنذري قد اعتمد في توثيقه لهذا الرجل على ذكر ابن حبان له في كتاب الثقات, وقد أوضحنا أنه لا اعتماد على توثيق ابن حبان، وأنه يوثق المجاهيل كما قررت ذلك يا فضيلة الشيخ حماد في مجلة صوت الجامعة التي تصدرها الجامعة السلفية ببنارس في الهند - السنة السابعة, العدد الأول, شعبان عام 1395هـ ص 58 - ولولا تقرير فضيلتكم المشار إليه لنقلنا من كلام أهل العلم ما يثبت ما ذكرنا.(15/361)
ثالثاً: الذي يغلب على ظني أن فضيلة الشيخ حماد لا يخالف في أن كلا من الهيثمي والمنذري متساهل في التوثيق لا يعتمد عليه إلا بعد النظر والتحقيق. يعرف ذلك من نظر في كتابيهما الزوائد والترغيب، وانظر العبارة التي نقلناها عن مقدمة المنذري لكتابه الترغيب, وانظر ما كتبه الشوكاني في البدر الطالع ص424جزء2 ضمن ترجمته للهيثمي إذ يقول: "أراد ابن حجر أن يتتبع أوهامه فبلغه ذلك فعاتبه فترك التتبع". قال: "وهو كثير الاستحضار للمتون يسرع الجواب بحضرة الزين فيعجب الزين ذلك وكان من لا يدري يظن لسرعة جوابه بحضرة الزين أنه أحفظ منه وليس كذلك، بل الحفظ المعرفة".
أليس في هذا الكلام تعريض بالهيثمي بعدم المعرفة؟..
وأخيراً نأتي إلى ما ذهب إليه الشيخ حماد من التفريق بين حديث في الحلال والحرام وبين حديث في فضائل الأعمال حيث يرى فضيلته أن التشدد في طلب صحة السند لازم ومطلوب في القسم الأول دون الثاني، وأن ذلك مذهب أهل الحديث اعتماداً منه على ما نسبه السيوطي للإمام أحمد وابن المبارك فنقول: إن أهل الحديث أكثر من هذين الإمامين، ثم يا صاحب الفضيلة هناك أمور ينبغي ملاحظتها:
أولاً: هل سمع السيوطي من هذين الإمامين؟ الجواب: "لا؛ لأن الزمن طويل بينهما وبينه فلا سبيل إلى سماعه منهما.(15/362)
هل كتبا ذلك في كتاب اطلع عليه السيوطي؟.. لو كان كذلك لرأينا ذلك الكتاب، أليست مكتبة فضيلتكم يندر أن يوجد كتاب باللغة العربية في أي علم الحديث لا تشتمل عليه؟.. فهل وجدت ذلك مكتوباً بأيديهما أو بيد أحد ممن عاصرهما أو عاش قريباً من عصرهما؟ وهل كل ما قيل يصدق وتبنى عليه أحكام؟ .. وهل السيوطي ثقة في النقل؟ .. الجواب عندنا: "لا", وكيف يكون ثقة وهو يورد أحاديث في كتاب اللآلئ المصنوعة ويحكم عليها بأنها موضوعة، وإذا دعته نفسه إلى إثبات حكم - غالباً ما يكون في الخرافات - أورد ذلك الحديث محتجاً به على صحة ما ذهب إليه، وانظر في فتاواه ترى العجب العجاب في باب التصوف والشعوذة وأنواع الخرافة، فكيف يقال: نقل السيوطي عن الإمام أحمد وابن المبارك ويحتج بهذا في المسائل العلمية الأساسية؟! ...
ثم لو صح ذلك عن أحد أئمة الإسلام فمعلوم أنّ السلف إذا قالوا بالحديث الضعيف أو عدم التشدد في صحة الإسناد فهم يعنون ما سمى بعدهم بـ (الحسن) إذ أن اصطلاح السلف على الحديث قسمان صحيح وضعيف, فما لم يبلغ درجة الصحيح فهو ضعيف في اصطلاحهم وعلى هذا أنزلوا ما نقل عن الإمام أحمد وغيره من قولهم: الحديث ضعيف، أحب إلينا من القياس، وكذا قولهم: "إذا روينا في الحلال والحرام تشددنا وإذا روينا في فضائل الأعمال تساهلنا", فهو لا يعنون حديثاً فرداً من أول سنده إلى آخره وفي سنده راو مجهول العين والحال وحتى راويه ذلك المجهول وهو عبد الرحمن بن أبي الرجال قال فيه ابن حجر في التقريب: "صدوق يهم"فليس هو في الدرجة العليا من رواة الحديث.
أما ما سمي ضعيفاً في الاصطلاح الأخير فهو عند السلف متروك لا يلتفت إليه، انظر مقدمة مسلم لصحيحه.
ثم لو فرض أن نقل السيوطي صحيح وأن الإمامين يعنيان مثل هذا الحديث لقلنا: كل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.(15/363)
ثم إن الناس اليوم ينفقون أوقاتهم وأموالهم على أساس هذا الحديث فترى الحاج الفقير المسكين يقيم في المدينة ثمانية أيام، ولا بد أن يستأجر مسكناً بمبالغ باهظة وقد تنفد نفقته ويبقى يتسول بسبب ظنه صحة هذا الحديث بالإضافة إلى حرمانه نفسه من المقام هذا المدة في مكة يطوف بالبيت الحرام ويصلي بالمسجد الحرام الذي الصلاة فيه بمائة ألف صلاة.
فالعامة وأشباههم يهتمون بالوصول إلى المدينة والإقامة فيها ما أمكن أكثر من حرصهم واهتماهم بالوصول إلى مكة والإقامة فيها لكثرة ما يسمعون هذا الحديث من بعض الوعاظ.
وبعد أن فرغت من تحرير هذه الورقات واطلع عليها بعض طلبة العلم الذين يحبون التحقيق ويكرهون التلفيق قدمت لي ورقة فيها اثنان وأربعون اسماً من رواة الحديث كل واحد منهم ذكره ابن حبان في الثقات, وذكر كذلك ابن حجر في التهذيب وسكت عليه, وفي التقريب ذكر أمام كل واحد منهم أنه ضعيف أو مجهول وغالبهم حكم عليهم بالجهالة, وإليك أيها القارئ الكريم أمثلة منهم لتكون على بصيرة في هذا الأمر, وحتى لا تغتر بقول أحد دون أن تقوم بنفسك بالمراجعة والتحقيق ما أمكن وحتى تعرف أن أكثر الناس يبنون أحكامهم على الوهم والظنون وقد تكون نياتهم حسنة ولكن حسن النية لا يكفي وخاصة بالأمور العلمية.
1 – غيلان بن عبد الله العامري - ذكره ابن حبان في الثقات وسكت عليه ابن حجر في التهذيب وبيّن في التقريب أنه لين.
2 – القاسم بن فياض الصنعاني - ذكره ابن حبان في الثقات وسكت عليه ابن حجر في التهذيب وبيّن في التقريب أنه مجهول.
3 – القاسم بن محمد بن عبد الرحمن- ذكره ابن حبان في الثقات وقال الذهبي: غير معروف.
4 – قدامة بن وبرة العجلي البصري ذكره ابن حبان في الثقات وسكت عليه ابن حجر في التهذيب وبين في التقريب أنه مجهول.(15/364)
5 – كعب المديني أبو عامر - ذكره ابن حبان في الثقات وسكت عليه ابن حجر في التهذيب وبين في التقريب أنه مجهول.
فإلى الله المشتكى, وهو حسبنا ونعم الوكيل ...
كتبه: عبد العزيز بن عمر الربيعان(15/365)
تعقيب لا تثريب
لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
كلية الدعوة وأصول الدين
جولة ثانية مع الدكتور البهي
وعدنا القارئ في التعقيب الأخير أن نعود إلى استكمال مذكراتنا عن شطحات هذا المفكر الفاضل. وها نحن أولاً نعرضها فيمايلي مفصلة رجاء أن يتفضل بإعادة النظر فيها فنلتقي وإياه على الحق الذي يرضي الله إن شاء الله.
1 – في إحدى مذكراتي للأعوام السابقة وجدتني قد سجلت الملاحظات الثلاث التالية تعليقاً على واحدة من مذاعات الدكتور، وكان قد أدارها حول آيات من سورة (الحجر) .
قلت في الملاحظة الأولى: لقد أصر المتحدث على أن إبليس كان من جنس الملائكة ونسي قوله تعالى: {إِلاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ} (الكهف: 50) , وقوله عز وجل: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي} ومعلوم بالضرورة ألاّ ذريةَ من للملائكة.
وقلت في الملاحظة الثاني: فسر المتحدث (الغابرين) في قوله تعالى: {إِلاّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} (الحجر:60) , بمعنى (الرجعية) مؤكداً أن ذلك من مصطلحات القرآن. والذي عليه أهل العلم أن الغابر في كلام العرب مقصور الدلالة على ما مضى وما بقي, وهي في الآية الكريمة بمعنى (الباقين) بدلالة السياق فلا رجعية ولا تقدمية.
وقلت في الثالثة والأخيرة: وقد قرأ معاليه قوله تعالى {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} (الحجر: 64) بمد (أتيناك) وهي من (أتي) الثلاثي لا من (آتى) المزيد.(15/366)
كتبت هذه الملاحظات في أعقاب سماعي للحديث من إذاعة الكويت، وكان في نيتي أن أبعث بها إليه في رسالة خاصة، ثم شاء الله أن ترقد مكانها حتى أيقظها عمل الدكتور الفاضل وهو يحشد أغاليطه العجيبة في تفسيره لسورة الجن، فكان من حقه على كل مؤمن يعي كلام الله أن يتصدى له بما يجب من التنكير الذي أمر به الله. وهكذا يأتي تعقيبنا السابق لتفسيره ذاك تصحيحاً كافياً لتلك الأغاليط, وشاملاً في الوقت نفسه لمضمون الملاحظة الأولى حول جنسية إبليس، إذ كان إصراره على ملائكته في حديثه تكراراً مقصوداً لما قرره من ذلك في تفسيره, وعلى هذا فلا حاجة للكلام في هذه النقطة لأنه لن يعدو أن يكون إعادة لما أثبتناه في تعقيبنا على ذلك التفسير.
وإذن فالتعقيب الآن حول الملاحظتين الأخريين وما يتجاوزهما من أشياء عثرنا عليها في بعض مقرراته الأخرى.
ونقف هنا على تفسيره العجيب لصفة (الغابرين) بأنها من (الرجعية) ولنسأل الدكتور الفاضل عن مستنده في هذا القول، الذي لم يفطن له أحد من أئمة التفسير ولا من مدوني المعاجم، ولم يسبق أن تكلم به لسان قبل البدعة القومية والاشتراكية التي تريد بقوة الإرهاب والأعلام أن تفرض مصطلحاتها على كل شيء حتى المعاني الإسلامية.
لقد وردت هذه الكلمة (الغابرين) سبع مرات في الكتاب الحكيم، وكلها في قصة لوط عليه السلام وامرأته، وكان ثمة إجماع بين المفسرين على أن المراد بها أنها مع (الباقين) الذي قدر لهم العذاب فلم تنج مع آل لوط.
وفي لسان العرب عن (الغابر) أنه الباقي وأنه الماضي، وقد ذيل الشهيد سيد قطب هذه الكلمة في الظلال بقوله: "أي أنها مع القوم – الكافرين - تلقى مصيرهم، وأصله من الغبرة وهي بقية اللبن في الضرع".(15/367)
وأما الرجعية في لغو (التقدميين) و (الثوريين) قد فاتت المتقدمين والمتأخرين من أساطين اللغة, حتى جاء الدكتور البهي يستدرك عليهم بإسباغ هذه الحلة القشيبة على (الغابرين) ليجعلهم في مقابل (التقدميين) , ولعل ذلك مشجع بعضهم على تطوير آخر للكلمة يُلحقها - ذات يوم - باليمين في مواجهة اليسار، وما أحسب ذلك مما يسر فضيلته.
ولا مندوحة هنا عن التساؤل.. ما الذي حفز الدكتور الفاضل إلى إيثار (الرجعية) الدخيلة على (الباقين) العربية الأصيلة؟.. وهل ثمة من علاقة بين المعيبتين تُسَوّغ مثل هذا التوسع على طريقة البلاغيين ... ؟
أما أنا فلا ألمح في أي صلة بين الاتجاهين، لأن مفهوم (الرجعية) في معجم أصحابها يمثل نمطاً من الحياة يرتبط بقيم الماضي، في مقابلة (التقدمية) التي تقوم على تدمير كل الجسور المتصلة به.. فكيف استطاع الدكتور حفظه الله أن يغفل كل هذه التصورات الملصقة بالكلمة ليجعل منها تفسيراً (عصرياً) للكلمة القرآنية! ...
تعليل واحد يمكن له الاحتجاج به هو احتواء كل من الإيمان والكفر على نمط للحياة مضاد للآخر، بمعنى أن الإيمان منطلق القيم السعيدة المنسجم مع سنن الكون، في حين أن الكفر يمثل رأس المنحدر إلى هاوية الاضطراب والشقاء والضياع المنافي لنظام الوجود.. وإنه لتعليل معقول لولا حاجته إلى التفسير المقبول الذي يطهره من اللبس الذي يشد المصطلح إلى اللغو الثوري، ومثل الدكتور البحاثة المؤلف الكبير لا يفوته أن للكلمة - ذات الدلالة الاصطلاحية - ظلالاً هي التي ترسخ صورتها في الذهن، فما أن تمس السمع حتى تشيع صورها الخاصة على لوح الفكر.(15/368)
ومن هنا كان إقبال الكاتب الإسلامية على استعمال المصطلحات الدعائية ذات الارتباط الصميم بالنظم غير الإسلامية أول بوادر الهزيمة، وأولى الخطى في الطريق إلى الفخ.. وإذا جاز لمفكر مؤمن تدوال مثل هذه الألفاظ في معرض الجدال أو البحث فلا عذر له البتة في إقحامها حرم المعاني الشرعية عند تفسير الكتاب الحكيم أو شرح الحديث الكريم.
أما النقطة الثالثة فهي أيسر من ذلك، ولكنها مع يسرها ترسم صورة غير مرضية لتساهل الدكتور بحق العربية على الأقل، ومعلوم أن الفرق غير قليل بين الفعل الثلاثي المجرد (أتى) والمزيد (آتى) فبينما الأول يتعدى إلى مفعوله الثاني بالباء ليفيد المجيء والإقبال مع المصاحبة، نرى في قوله تبارك اسمه: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي} (الحجر: 87) , هذا إلى ما في التعبير الإلهي {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقّ} (الحجر: 64) , من لطائف مناسبة لسياق القصة تُحمِل الفعل (أتى) شيئاً من معاني النجدة التي بشر بها الملائكة نبي الله لوط، إذ استنكر أمرهم فطمأنوه بقولهم: {.. جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} (الحجر: 63) , أي بالعذاب الذي كان يهدد به قومه فلا يبالون وعيده بل يستمرون على فسوقهم مصرّين مكذبين.
ولهذا يردفون البشرى بتوكيدها {وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقّ..} , وقد سمى الله جلت حكمته العذاب هنا بالحق لتضمنه معنى العدل والحسم الذي سيقطع دابر القوم الظالمين, ونحن لا نستطيع استيعاب الصورة التي يرسمها الفعل الثلاثي المقترن بالباء (أَتيناك بالحق) إلا عندما نتصور سريّة من المجاهدين مثلاً قد أحاط بهم العدو، وضيق عليهم المنافذ، وإذا هم يتلقون بشرى وصول النجدة وإحاطتها بالعدو من كل صوب.. وبذلك نعلم أن مجرد زيادة المدة على أول الفعل مؤدٍ إلى تحوير في بلاغة الجملة القرآنية ولا يأتلف مع السياق في قليل ولا كثير.(15/369)
وقد يقال إنها زلة لسان لا تستحق كل هذا التفصيل، وهو قول مقبول لولا سوابق للدكتور حفظه الله تؤكد أن الزلل في أسلوبه من الوقائع التي لا يكاد يسلم منها مقال له.. وبين يدينا الآن واحدة منها ننقلها إلى القارئ من مقالة القيم في (الخلاف بين صاحب العمل والعامل..) الذي سنعرض بعض هفواته في هذا التعقيب وذلك في قوله: "لأن هذا الصراع يعود إلى شحن النفوس بالبغضاء والكراهية ضد بعضها بعضاً" [1] , وبقليل من الانتباه يتضح ألا وجه لنصب (بعضاً) وكان الصواب أن يقول "بعضها ضد بعض".
2 – ومن ملاحظات المفكرة ننتقل إلى مقاله في (الوعي الإسلامي) فنسجل أولا تقديرنا العميق لمعظم الجوانب التي يتناولها, وكم كنا نود لو استقام له الطريق فتجنب تلك الزلقات التي شوهت من محاسن البحث.
أ – يعدد الدكتور وجه الإنفاق بنظر القرآن الكريم فيحدد الإسراف المنهيّ عنه في قوله تعالى: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأنعام: 141) بأنه الإنفاق في محرم ولو كان قليلاً كالإنفاق في الخمر والزنا وفي سبيل موالاة الأعداء.
وهو بذلك يقيد مفهوم الإسراف في حدود الكبائر وحدها، بخلاف ما نجده في القرآن الكريم من اختلاف دلالات هذا اللفظ حسب القرائن، وبديهي أن مفهوم الإسراف في قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} (الأعراف: 31) } هو غير مفهومه في قوله الآخر {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} (غافر: 28) .(15/370)
عرض ابن كثير وصاحب (فتح القدير) لأقوال الأئمة في تفسير {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} فلم يرد منها ما يؤدي مذهب الدكتور في قليل ولا كثير، بل تكاد تتفق على أن المراد بالإسراف هو ما جاوز أمر الله في الصدقات حتى لا يخرج المنفق من المؤمنين عن كل ماله فينتهي إلى الفقر. وهو تقدير لا مندوحة عن قبوله لأنه النتيجة المنطقية لما تقدم في الآية من قوله تعالى {.. وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا..} .
وقد نقل ابن كثير عن ابن جريج أن الآية نزلت في ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه إذ جذّ نخلاً له فقال: "لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته", فأطعم حتى أمسى وليس له ثمرة [2] , وهكذا جاءت الآية تحمل للمؤمنين حكماً ينظم علاقتهم ويضبط تصرفاتهم في نطاق الصالح العام.
ب – ويورد الدكتور في قوله تعالى - من سورة النحل - {وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} (الآية:71) فيقدم للآية بقوله: "إن القرآن الكريم جعل السيد صاحب المال والرقيق المملوك له متساويين في مال السيد..", ثم يستدرك بعدها بقوله: "والمساواة بينهما قطعاً لا تكون في (الملكية) وإنما في المنفعة) ..".(15/371)
وفي هذا التخريج بعدٌ عن التفسير الصحيح للآية الكريمة، فقد تضافرت أقوال المفسرين قديماً وحديثاً على أن هذا مثلٌ ضربه الله لسوء تصرف المشركين في رزق الله، إذ يجعلون لآلهتهم الباطلة جزءاً منه فيقرعهم على ذلك بأن أحداً منكم لا يشارك مملوكه في زوجته وفراشه وملكه فكيف ترضون لربكم ما لا ترضون لأنفسكم؟ [3] ، ويعقب شيخنا المرحوم صاحب (أضواء البيان) على هذا المعنى بقوله: "ويؤيده أن (ما) في قوله: {فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} , نافية, أي ليسوا برادي رزقهم عليهم حتى يسووهم مع أنفسهم، وإذا لم يكن ثمة مجال لصرف (ما) إلى غير النفي فكل محاولة لتقرير غير هذا المعنى لا تعدو أن تكون ضرباً من التحكم.
وإذا هذا ذهب القرطبي وسائر المفسرين قدامى ومحدثين، فالآية إذن تقريع للمشركين على تصرفهم الأحمق الذي لا يستند إلى منطق، وهي كذلك تقريع مستمر لكن من يسلك سبيلهم في صرف حقوق الله إلى سواه، ليس في المال فقط بل في كل شيء على الإطلاق. فمن أين جاءت فكرة المساواة في (الملكية) أو (المنفعة) بين المالك والمملوك؟ لا شك أنها (زلة) استجر الكاتب إليها ضوضاء العملاء الذين يشحنون الجو من حوله بمصطلحات الاشتراكية والماركسية وما إليها..(15/372)
جـ – وتستبد فكرة المساواة بذهن الدكتور حتى ليمدها إلى مصير المؤمنين في الآخرة فيورد الخبر الآلهي: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (الحجر:47) , ثم يفسر مضمون الآية الكريمة بقوله: "إنهم متساوون في المنزلة والدرجة فهم متقابلون في المنزلة", وإنه لتفسير لا سند له من فهوم السلف الذين قرأوا في كتاب الله عن منازل المؤمنين في جنات النعيم أن {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ} (3: 163) ، {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} (46: 19) , و {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} (17: 21) , واستيقنوا بالعلم القطعي الواصل إليهم في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب..".
وفي تفسير ابن كثير وغيره للآية ما يشبه الإجماع على أن المراد بالذين نزع الله ما في صدورهم من غل هم العشرة المبشرون بالجنة من أصحاب رسول الله, وهي رواية ابن عباس رضي الله عنه كما في فتح القدير وغيره, وفد تعددت الروايات عن علي رضي الله عنه أنه قال: "فينا والله أهل الحنة نزلت"وفي إحداها خص بالذكر إخوانه الراشدين الثلاثة. [4]
وفي تفسير {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} جاءت الروايات متضافرة عن جمع من المفسرين وأهل الحديث وكلهم عن زيد بن أبي أوفى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنهم المتحابون في الله في الجنة ينظر بعضهم إلى بعض" [5] ويزيد هذا وضوحاً وتوكيداً ما أخرجه أبو داود والترمذي عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي "يقول الله تعالى: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء" [6] فتكون السرر هي المنابر النورانية.(15/373)
وحول موضوع التفاوت بين درجات المؤمنين في الجنة يقول الشهيد صاحب الظلال معقباً على قوله تعالى: {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} "فمن شاء التفاوت الحق، ومن شاء التفاضل الضخم، فهو هناك في الآخرة وفي ذلك فليتنافس المتنافسون".
وما أعلم أحداً من كبار أئمة التفسير ذهب في فهم الآيات إلى غير هذه الوجهة، أو أشار من قريب أو بعيد إلى ثمة تساوياً بين نزلاء الجنة في المنزلة والدرجة، وهو يعلم أنّ جهنم دركات وأن الجنة درجات، وأن لكل عمل قل أو جل جزاءه العدل.
د – بقيت ملاحظة أخيرة على خاتمة المقال الذي نحن بصدده..
يقول الدكتور حفظه الله: "وأول ما يدعو إليه الإسلام هو رفع الصراع الداخلي في النفس وإزالته بجعل النفس لوامة وليست أمارة بالسوء، فإذا ارتفع الصراع النفسي الداخلي ارتفع تبعاً لذلك صراع الطبقات في المجتمع لأنه لا توجد طبقات عندئذ..".
ففي هذه الخاتمة تقرير حاسم لا يتفق مع الواقع، ولذلك لا يحسن إمراره دون مناقشة.
وأول المآخذ في هذا الكلام حكمه بأن القضاء على الصراع الداخلي في النفس هو رأس الأمر في الدعوة الإسلامية، دون أن يوضح السبيل إلى ذلك، وكان على الكاتب أن يبرز أول كل شيء دور التوحيد الخالص في تصحيح النفس وإنقاذها من التمزق بين مختلف التيارات.
ثم يأتي حصره النفس البشرية بين اللوامة والأمارة، ونسي أن هناك النفس المطمئنة أيضاً، وكل من الثلاث قد ورد ذكرها ووصفها في كتاب الله، وقد سبق الباحثون من مفكري الإسلام قديماً وحديثاً إلى الكلام الشافي في هذه القوى الثلاث بينوا صلة كل منهم بالأخرى، وعملها في سلوك الإنسان وموقف الإنسان منها.(15/374)
ولعل أفضل الأقوال في ذلك أن هذه النفوس تمثل الطاقات التي أودعها الخالق جلت حكمته أعماق هذه النفس لتدفعها إلى التفاعل لعمران الحياة، فالأمارة بالسوء هي منطق الرغبات الشريرة على حين تمثل الأخريان الرغبات الخيرة فإذا اندفعت الأمارة في الطريق الأدنى دون نظر في العواقب، تعرضت لها اللوامة تشدها إلى الاتزان، وتبصرها بالأخطار المتوقعة من ذلك، فإما أن تفلح في جهودها فتكبح جماح الأمارة وتخضعها لأوامر الله، فينتهي الأمر بالإنسان إلى كنف المطمئنة، وإما أن تخفق في علاجها وتلقي إلى الشيطان بزمامها، فيكون الشقاء الغامر في الدنيا والآخرة.
ولكن هل يعني أن ذلك الصراع الداخلي سيخفت نهائياً بانتصار أحد الفريقين؟..
أما أنا فلا أتوقع ذلك لأن إبقاء هذا الصراع ملازم لبقاء الحياة البشرية نفسها، وإنما يخمد حينا ويلهب حيناً, وفي الحديث الصحيح "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم". [7]
وشيء آخر لا مندوحة عن تقديره وأخذه في الحسبان عند تقييم الحياة والإنسان، ذلك أن تصفية النفس البشرية من كدورات التراب مطلب غير متصور في الحياة الدنيا، وكل ما على الإنسان هنا أن يجاهد نفسه بضبطها في نطاق المسلك الشرعي، وأن يكون على حذر من شططها، فيقدعها كلما حاولت التلفت، ويرفعها كلما همت بالهبوط، حتى يخلص إلى المصير الموعود في رحمة الله، حيث يطهر سبحانه من كل غل، وينزه نفسه حتى من خواطر السوء.
هذا موضوع الصراع داخل النفس.(15/375)
3 – أما موضوع صراع الطبقات فله شأن آخر، ذلك أن الدكتور يعتبر بقاء الطبقات نفسها على بقاء الصراع الذاتي, ولهذا يقدر لها الزوال بمجرد تصحيح الوضع النفسي، وهو ما يخالف الواقع، ذلك لأن الإنسان في سعيه من أجل العيش، ثم في جهاده من أجل القيم التي يؤمن بها صائر لا محالة إلى التوزع الطبقي، فضلاً عن التفاوت في ميدان المواهب والقدرات والخبرات التي تسوقه إلى الكينونة الطبقية.
أجل. . ذلك هو المجتمع البشري، جسم واحد إلا أنه كذلك مجتمع من الأعضاء تتفاوت في أقدارها وأحجامها وآثارها, ويكمل بعضها بعضاً في كل ما يتطلب من الجسم الحي, وكل محاولة لإزالة هذا التنوع من جسم المجتمع لا مردود لها سوى تدميره كله.
لقد أزهقت الشيوعية في الاتحاد السوفيتي والصين عشرات الملايين من الأنفس، واجتاحت في فيتنام وكمبوديا مئات الألوف من المعارضين، وبلغ ضحاياها في أنغولا حتى تسيطر هذه الكلمات سبعين ألفاً، وفي أثيوبيا يقوم سفاحها منجبستو بمذابح يومية في صفوف من يسميهم أعداء الثورة.. وستستمر هذه المجازر في كل بلد تسلل إليه هذا الوباء الشيطاني تحت مظلة النضال ضد الطبقية، وبدعوى إقامة المجتمع الخالي من الطبقات سوى طبقة البروليتارية، ومع ذلك فكل ما انتهت إليه هذه المذابح الهائلة لا يتعدى تثبيت أنواع جديدة من الطبقات يلتهم بعضها بعضا، وتستأصل كل واحدة جذور الأخرى كلما وجدت إلى ذلك سبيلاً.(15/376)
على أن ثمة حقيقة كبيرة لا يسع عاقلاً سليم التفكير تجاهلها.. وهي أن الطبقات التي تؤلف المجتمع الإسلامي غيرها في سائر التجمعات البشرية، ومرد ذلك أن أفراد المجتمع الإسلامي قد مُيزوا بتربية ربانية تجعل العلاقة بينهم قائمة على أساس البر والتقوى، فتكون بالتالي دافعاً طبيعياً نحو السمو بالحياة إلى أعلى المستويات، وبالحضارة إلى أقصى المجالات، وهكذا يكون المجتمع الإسلامي أمة واحدة مركبة من طبقات ولكنها (طبقات دون استغلال) كما يقول الدكتور عبد المنعم النمر. [8]
نقرر ذلك ونحن نعلم ما يعانيه عالم الإسلام المعاصر من أمراض تسللت إليه من مفاسد الجاهليات القديمة والحديثة، بيد أنه لا يزال ولله الحمد محتفظاً بالكثير من الخصائص العليا التي بها كان المسلمون خير أمة أخرجت للناس.
والله نسأل لنا والدكتور البهي العصمة من الزلل، والسداد في القول والعمل، إنه خير مسئول..
--------------------------------------------------------------------------------
[1] مجلة الوعي الإسلامي ـ شعبان 1397هـ.
[2] ابن كثير ص111ج3.
[3] انظر بشأن الآية تفسير ابن كثير والقرطبي وفتح القدير و (في ظلال القرآن) .
[4] انظر (فتح القدير) 136 ج3.
[5] انظر (فتح القدير) 136 ج3.
[6] اللفظ من رواية الترمذي.
[7] رواه مسلم في كتاب التوبة.
[8] الوعي الإسلامي ربيع 2/ 98.(15/377)
قرن إفريقيا
يعيش العالم الإسلامي اليوم أحداثاً تجعل الإنسان يحتار إذا أراد أن يتحدث عنها, لتشعبها وخطورتها، ومن أخطر تلكم الأحداث تمكن الشيوعية في قرن إفريقيا.
وعندما أرادت الشيوعية أن يكون لها وجود في المنطقة أنزلت ثقلها في (عدن) فباضت وفرخت في الخليج العدني ثم تسربت إلى قرن إفريقيا فدخلت الصومال بهمجيتها ووحشيتها، دخلت على شعب مسلم خال الذهن سليم القلب ففاجأته الشيوعية بإلحادها، وبادر الشعب أو علماؤهم بالاستنكار فذهبوا ضحية في سبيل عقيدتهم ودينهم إذ قتل منهم عدد يقدر بالعشرات وشرد الآخرون إلى خارج البلاد. هذا ولا تزال الشيوعية تعمل عملها الهدام بشكل أو بآخر مع تغيير الخطة لتخدع السذج من الناس بتلونها، بعد نقلت ثقلها الكبير إلى أثيوبيا ففوجئ المسلمون بماركسية شرسة بجانب نصرانية حاقدة. وقد كان المسلمون يتوقعون الفرج بعد هلاك (هيلاسيلاسي) العدو اللدود للإسلام، ولكنهم فوجئوا بشر منه، فجعلوا يقولون: "كمستغيث من الرمضاء بالنار".
تلون الشيوعية في المنطقة:
ولما علمت الشيوعية الأثيوبية أن الصوماليين ولَّوا وجوههم قبل الدول العربية سياسيا بحكم أنهم أصبحوا عضواً في الجامعة العربية قلبت لهم ظهر المجن فأشبكت معم في قتال مرير وضربتهم ضرباً مؤلماً، فها هي الآن تقاتل القتال الهمجي في إريتيريا، ذلك القتال الذي تقصد من ورائه القضاء على حركة تحرير إريتيريا لو استطاعت.
هكذا أخذت الماركسية خطاً دائرياً في قرن إفريقيا.(15/378)
وليس هدف الماركسية من هذه العملية مجرد استغلال تلك الموانئ الاستراتيجية فحسب (ميناء عدن وميناء مصوع وميناء عصب) ، ولكنها ترمي من وراء ذلك إلى القضاء على العقيدة الإسلامية - لو استطاعت - هذه المنطقة العريقة في الإسلام, والتي دخلها الإسلام في أول صدر الإسلام قبل أن يدخل أي بقعة في العالم بعد مكة المكرمة, إذا كان دخوله إبان أن هاجر إلى الحبشة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره فارين بدينهم ناشدين الحرية في عبادة ربهم، هاجروا حيث النجاشي ملك الحبشة فآواهم وأكرمهم، ثم أكرمه الله بالإسلام حيث اعتنق الإسلام على يد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.
هذا هو قرن أفريقيا وهذا تاريخ إسلامه. فما موقف الدول العربية والإسلامية من هذا الخطر المحدق بالمنطقة؟ !!
ولست بحاجة إلى القول بأن قرن أفريقيا أو أفريقيا كلها ليست الهدف الأول والأخير للشيوعية التي تزحف الآن في المنطقة، بل هي لا تنوي أن تحط عصى السفر حتى تحط قدمها في الجزيرة - لا سمح الله - فليس من الحزم أن تنتظر العدو في عقر دارك, بل الحزم يتطلب أن تهاجمه بعيداً عن دارك لئلا تدور المعركة على الأبواب وبين النساء والصبيان.
فنسأل الله تعالى أن ينصر دينه، وينصر من ينصره ويدافع عنه.
وبعد..
هل يجوز السكوت سياسياً أو شرعياً - والحالة ما وصفت - على ما يجري حالياً في المنطقة..
الجواب: لا بالحرف العريض إذ يتنافى ذلك وتعاليم الإسلام حيث يقول رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام: "من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم" أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
لذا نهيب بقادة المسلمين جميعاً ونلفت أنظارهم نحو هذه القضية الإسلامية ليتصوروا أولاً أنها إسلامية. ثم يفكروا في حل هذا الحصار عن المنطقة بأية طريقة ممكنة حرباً أو سلماً أداءاً لبعض الواجب الإسلامي نحو إخوانهم في المنطقة.
والله من وراء القصد
(قلم التحرير)(15/379)
مواصفات العبد الواصل كما يقدمها الإمام ابن قيم الجوزية
إذ يقول رحمه الله: "إذا عزم العبد على السفر إلى الله تعالى وإرادته عرضت له الخوادع والقواطع:
- فينخدع أولاً بالشهوات، والرياسة، والملاذ، والمناكح، والملابس، فإن وقف معها انقطع وإن رفضها ولم يقف معها وصدق في طلبه ابتلي.
- بوطء عقبه، وتقبيل يده، والتوسعة له في المجلس، والإشارة إليه بالدعاء، ورجاء بركته، ونحو ذلك فإن وقف معه انقطع عن الله وكان حظه منه، وإن قطعه ولم يقف معه ابتلي.
- بالكرامات والكشوفات فإن وقف معها انقطع بها عن الله وكانت حظه، وإن لم يقف معها ابتلي.
- بالتجريد والتخلي ولذة الجمعية، وعزة الوحدة، والفراغ من الدنيا وأن وقف مع ذلك انقطع عن المقصود، وإن لم يقف معه، وسار ناظراً إلى مراد الله منه، وما يحبه منه بحيث يكون عبده الموقوف على محابه ومراضيه, أين كانت, وكيف كانت, تعب بها أو استراح، تنعم أو تألم، أخرجته إلى الناس أو عزلته عنهم، لا يختار لنفسه غير ما يختاره له وليّه وسيده، واقف مع أمره, ينفذه بحسب الإمكان, ونفسه عنده أهون عليه أن يقدم راحتها ولذتها على مرضاة سيده وأمره، فهذا هو العبد الذي وصل ونفذ ولم يقطعه عن سيده البتة.. وبالله التوفيق.
(الفوائد ص163) .
التعليق:
هذا الذي صوره الإمام ابن القيم هو المفهوم الصحيح للوصول إلى الله، وحقيقته - كما يفهم من كلام هذا الإمام - هو قطع الخوادع والقواطع التي طالما خدعت كثيراً من السائرين إلى الله فثبطتهم عن السير وقطعتهم في أثناء الطريق وأخلدوا إلى أرض الراحة والشهوات وحب الرياسة والتطلع إلى الكشوفات حتى تقبّل أيديهم ويوسع لهم في المجالس ويتحرك القاعدون إذا وصلوا إلى المجالس إلى آخر القواطع الكثيرة التي عدد أهمها الإمام ابن القيم رحمه الله.(15/380)
ومن اقتحم العقبات وتغلب على تلك القواطع فصار عبداً لله وحده لا يشاركه فيه أحد سواه فهو العبد الواصل إلى الله لأنه وصل إلى العبودية الخالصة وذاق حلاوتها فأصبح شديد الخشية والحياء من سيده، قوي المراقبة له سبحانه وقوي الأنس به والشوق إلى لقائه.
لا راحة له إلا حين يكون في عبادة ربه وطاعته "أرحنا بها يا بلال"كثير البكاء شوقاً إلى لقاء ربه في دار كرمته.
هذه بعض صفات العبد والواصل إلى الله وهذا تصورالوصول وهذه حقيقته.
من هنا تعلم أن ما يسميه بعض الزنادقة من غلاة المتصوفة بالوصول إلى الله, عندما يمرق بعضهم عن الدين ويتحلل عن التكاليف بدعوة أنه وصل إلى منزلة تسقط عنه فيها جميع التكاليف فيصبح حراً طليقاً يفعل ما يشاء ويذر ما يريد، فإن هذا الذي يسمونه وصولاً فهو في الواقع خروج عن الجادة ومروق عن الدين فهذا الصنف من الناس هم من أبعد الناس عن الله لأنهم يرغبوا عن دينه الذي بعث به رسوله محمداً عليه الصلاة والسلام الذي يطيل القيام في صلاته حتى تتورم قدماه الشريفتان وإذا قيل له في ذلك يكون جوابه "أفلا أكون عبداً شكوراً".
هذا هو أرقى درجات الوصول لأنه عليه الصلاة والسلام أعرف الناس بربه وأتقاهم له سبحانه, وأتباعه يتفاوتون في الوصول, فهم درجات عند ربهم.. والله المستعان.
قلم التحرير.(15/381)
مختارات من الصحف
كتبت جريدة الأخبار المصرية، العدد 8143 الجمعة 17 شعبان سنة 1398هـ مقالاً لأحد كتابها وهذا نصه:
{إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56) .
حول معنى هذه الآية كتب الأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر المفتش السابق بوزارة التربية والتعليم يقول:
إن في الصلاة صلة روحية تمنع الانقطاع, والصلاة بالنسبة للعبد تضرع، واعتراف بالعبودية واتجاه إلى القبلة طلباً للقبول.
أما الصلاة من المولى عز وجل، ففي حسن الاستجابة بتقبل الدعاء بعد التقرب للرضاء.
وقد سألنا رجل صالح عن ادعاء قوم مغالين من أن مدح الرسول لم يرد في القرآن فلا يصح أن نضفي عليه من صفات الكمال ما يبعده عن بشريته.
نقول: إن هذه القولة فتنة ينبغي أن يتحاشاها المسلمون ويشغلوا نفوسهم بتطبيق شرائع الدين الحكيم، ولزومها لتتحقق الاستقامة.
إن مؤدب الرسول الصادق الأمين عز وجل قد أكرمه بجميع صفات المدح بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4) , والتأكيد مع التعبير بالعلو والعظمة يدل على أن كماله البشري ثابت لكن لا يليق أن يقال عنه: (يا كحيل العين.. يا سبط الشعر.. يا دقيق اللحية) كما كان المبتدعون يرددون هذه النداءات في الأذان التي لا تزيد شيئاً من قدر من ثبتت له جميع الفضائل صلى الله عليه وسلم.(15/382)
إن خلائقه الغراء رفيعة، والمحاسن المادية لم ترد في وصف الأنبياء والرسل, فقد وصف سيدنا إبراهيم بأنه كان {صِدِّيقاً نَبِيّاً} (مريم:41) , وموسى بأنه كان {مُخْلَصاً} (مريم:51) , وإسماعيل {صَادِقَ الْوَعْدِ} (مريم:54) , وإدريس {صِدِّيقاً نَبِيّاً} (مريم:41) , أما رسولنا صلى الله عليه وسلم فقد اتصف بصفتين تفرد بهما وهما "الرأفة والرحمة"، فكيف لا يمتدح بكل صفة معنوية غراء ما دام ليس في المدح مغالاة وادعاء؟!
إن هذه الآية الكريمة جاءت بعد قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} (الأحزاب:55) , لعدم تفاوت الأحوال عنده - جل شأنه - فعلمه ثابت غير موقوت بزمن، وكان نداء المؤمنين بالصلاة والتسليم يعطي الدلالة على منتهى التكريم، فالصلاة دعاء بالرحمة, والسلام طلب الأمان بتحية الإسلام.
قالوا: إن بعض الصحابة سأل الرسول - المجمل بالفضائل - بعد نزول هذه الآية: "السلام عليك يا رسول الله عرفناه، فكيف نصلي عليك؟ قال: "قولوا: اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم, وارحم محمداً وآل محمد كما رحمت وباركت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد".
كتبت جريدة الأخبار المصرية في العدد 8143، الجمعة 17 شعبان سنة1398هـ مقالا لأحد كتابها وهذا نصه:
نحن نطلب بأن تكون القدوة هي القدوة عندما تكون مسئولاً عن منصب قيادي في دولة شيوعية تتنكر للأديان وتعمل على هدمها أو - بأقل تقدير - إضعاف شوكتها، فأنت - بإلحادك وطبيعة منصبك - مطالب بأن تلتزم في قطاع عملك بما يعزز هذا (المنهاج) وبما يحفظ لكرسي (الكفر) الذي تجلس عليه أكبر فترة ممكنة من البقاء.(15/383)
ولكن عندما تكون قد ترعرت في رقعة من الأرض كانت يوماً ما مهداً للرسالات السماوية وتشغل - في نفس الوقت - مركزاً محترماً في قمة العمل الوزاري في دولة تشيد - باستمرار بدستورها الإسلامي وبشعارها - العلم والإيمان المعلن في كلن مناسبة واحتفال.. فأنت مطالب بأن تكون على مستوى رفيع من الإدراك الكامل والمسئول بما يحرمه ويحلله دينك، وأن تكون محافظاً لا متساهلا على جوهره، الأصيل بلا مراء، وذلك حتى لا يتشكك العامة في أقوالك ولا تضع الدولة في وضع (الحساب) من تصرفاتك باعتبارك جزءاً لا يتجزأ من المسئولية القيادية في بلد مؤمن المفترض أنه لا يتستر على المعصية أو (يتصالح) على الملأ معها!!
فلقد حدث في الأسبوع الماضي بعد صدور قرار تحريم الخمور بالأندية ـ الذي طالبت به من قبل عقب إهدار دم فنان صحفي كبير بكلمات سوقية في ناد عريق أن اجتمع السيد وزير الدولة للحكم المحلي برؤساء 20 قيادياً رياضياً وقد جاء في سياق حديثه كلمات غرييبة تقول: "إن النادي محراب للرياضة فآمل أن يكتسب الشباب خلال ممارستها الصفات الخلقية والاجتماعية.. ونحن لا نمانع الأعضاء الكبار في السن الذين يتناولون الخمور ولكن فليتم ذلك بعيداً عن الأندية لأنهم القدوة للشباب فيها؟؟ "
هذه هي الكلمات التي خرجت من وزير مسئول في اجتماع عام تحضره قيادات رياضة وشبابية ونشرته إحدى الصحف، وأنا لن أعلق على مثل هذه (التفوهات) المتناقضة التي لم تناقشها قيادات الأندية في هذا الاجتماع ولكنها فضلت المطالبة بالتعويض المالي لأنديتها نتيجة تحريم الخمور بها.(15/384)
فهذه هي بعض التصرفات غير المسئولة والتي لا يعي - للأسف - فاعلوها إلا شيئاً واحداً وهو (تطييب) الخواطر على حساب العقيدة.. حتى ولو كان هذا تناقضاً صارخاً مع شعار الدولة المعلن وما يحرمه الدين وانفلاتاً وقتياً من القصاص المحتوم: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} (البقرة:281) .
فالذي يجب أن يقال إننا بكل وضوح نشجع اهتمام الأندية بالأنشطة الدينية وبإقامة مكتبات دينية متكاملة تكون بمثابة وسائل جذب بفحواها ومحتواها لا أدوات تنفير, ونأخذ على الأندية مؤازرتها المستمرة لحفلات هز البطن حتى مطلع الفجر في قلب الملاعب الرياضية.. بدلاً من إقامة الندوات ذات الطابع الديني والمجتمعي لعلماء لهم القدرة والمرونة على (فهم) وتوجيه نفسية الشباب الذي يلبس (الجينز) .. ورجال أجلاء يخاطبون الشباب بمشاكل مجتمعهم - ويربطونهم بها - بكل جلاء.
نحن نطالب الأندية بأن (تجتهد) في البحث عن مصادر مالية شريفة - وما أكثرها - بدلاً من تمسكها الواهي بترويج الخمور ودون أن يناقش ويتظلم رؤساؤها مما حدث ويقعوا في ما حرمته - وحذرت من عواقبه - الأديان..
نحن نطالب بأن تكون القدوة هي (القدوة) وليست هذا النوع (المستتر) الذي ينادي به مسئول المفترض أنه يعرف جيداً ما يمليه عليه.. دينه ومركزه وضميره!!
محمد عبد المجيد ـ آداب الاسكندرية.
الطريق إلى المدينة
وتحت هذا العنوان كتبت جريدة المدينة المنورة في عددها الصادر في 18 شعبان السبت خبراً هذا نصه:(15/385)
يقوم المعهد الإسلامي في لندن حالياً بمشروع كبير لإجراء بحوث من المأمول ان تكون نتيجتها كتابة ونشر سلسلة من الكتب في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم, والافتراض الأول الذي يقوم عليه المشروع هو أن بعض (الأساليب أو المناهج العلمية) المعاصرة يمكن أن تطبق على فترة حياة النبي كي تزودونا بتبصر وفهم أعمق علاوة عن التفاسير (الدينية) و (التاريخية) المتوفرة حتى الآن.
والافتراض الثاني هو أن نظاماً اجتماعياً - اقتصادياً وسياسياً على غرار مدينة النبي صلى الله عليه وسلم يمكن إقامته كبديل على طراز الأمة - الدولة في بعض الأقطار العربية والإسلامية ربما في المئة القادمة ومن ثم اختيرت عبارة (الطريق إلى المدينة) كاسم يحمله هذا المشروع.
ابتكر هذا المشروع وأعده الدكتور كيم صديقي مدير المعهد الإسلامي الذي يرأس أيضاً الفريق المكلف بالبحوث كما انضم لهذا الفريق الدكتور الطيب زين العابدين من جامعة الخرطوم وقد قدمت منحة دراسية لإعداد أطروحة دكتوراه في إحدى الجامعات البريطانية تستخدم فيها وسائل وأنظمة التحليل العلمي في دراسة المجتمع القبلي في عهد الني صلى الله عليه وسلم.
وفي نفس الوقت سينظر المعهد في الطلبات التي يقدمها الطلاب الذين تخرجوا من جامعات لمتابعة الدراسات في هذا الحقل من البحوث كما يرحب المعهد بالطلاب الذين يمولهم أولياؤهم أو بعض الحكومات, كذلك يحتاج المعهد لمثقفين مشهود لهم ليعملوا كمؤلفين بالاشتراك مع الدكتور صديقي في إعداد كتب أو أجزاء منها في الموضوع.(15/386)
المعهد مستعد للنظر في طلبات العلماء من أي مذهب أو اتجاه فكري ومن أي بلد في العالم والمشروع الحالي الذي يقوم به المعهد الإسلامي تشترك في تمويله وزارة التعليم العالي في المملكة والمؤسسات الدولية الإسلامية، وكذلك العديد من الأفراد الذي قدموا تبرعات بصورة منتظمة هذا ويبحث المعهد عن موارد تمويل جديدة وللحصول على تفاصيل أخرى، يمكن الكتابة إلى مدير المعهد الإسلامي.
عنوان المعهد:
6- endsleigh street london , wcih ods.
التعليق:
إذا كان لا بد لنا من تعليق على هذه الأنباء فإنها تفيد بل تعطي صورة واضحة بأن جمهور المسلمين على استعداد لتفهم الإسلام والعمل به وأن حبه كامن في نفوسهم وأن الذي يعوقهم على تطبيق الإسلام هو عدم القيادة الصالحة - في الغالب - التي تملك السلطة، السلطة التي تحمل على العمل بالإسلام من قد يجرهم سيل الهوى وينحرف بهم عن الجادة، لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
التحرير(15/387)
الفتاوى
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدي بهداه..
أما بعد:
فقد سألني كثير من الأخوان عن حكم الاعتماد على الإذاعة في الصوم والإفطار وهل ذلك يوافق الحديث الصحيح "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " الحديث..؟
وهل إذا ثبتت الرؤية بشهادة العدل في دولة مسلمة يجب على الدولة المجاورة لها الأخذ بذلك؟ وإذا قلنا بذلك فما دليله وهل يعتبر اختلاف المطالع؟
والجواب على هذه الأسئلة أن يقال: قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة أنه قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين", وفي لفظ آخر "فأكملوا العدة ثلاثين", وفي رواية أخرى "فأكملوا عدة شعبان ثلاثين".
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم انه قال: "لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة". والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وهي تدل على أن المعتبر في ذلك هو الرؤية أو إكمال العدة.(15/388)
أما الحساب فلا يعول عليه وهذا هو الحق وهو إجماع من أهل العلم المعتمد بهم، وليس المراد من الأحاديث أن يرى كل واحد الهلال بنفسه وإنما المراد ثبوت البينة العادلة, وقد خرج أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بالصيام"، وخرج أحمد وأهل السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعرابياً قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إني رأيت الهلال فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟ " فقال: "نعم"، قال: "فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غداً", وعن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه خطب في اليوم الذي يشك فيه فقال: "ألا إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألتهم وأنهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، وانسكوا لها, فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين يوماً فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا" رواه أحمد ورواه والنسائي ولم يقل فيه "مسلمان", وعن أمير مكة الحارث بن حاطب قال: "عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرؤيا فإن لم نره وشهد شاهداً عدل نسكنا بشهادتهما"رواه أبو داود والدارقطني وقال: "هذا إسناد متصل صحيح".
فهذه الأحاديث وما جاء في معناها تدل على أنه يكتفى برؤية هلال رمضان بالشاهد الواحد العدل. أما في الخروج من الصيام وفي بقية الشهور فلا بد من شاهدين عدلين جمعاً بين الأحاديث الواردة في ذلك، وبهذا قال أكثر أهل العلم وهو الحق بظهور أدلته, ومن هذا يتضح أن المراد بالرؤية هو ثبوتها بطريقها الشرعي وليس المراد أن يرى الهلال كل أحد، فإذا أذاعت الدولة المسلمة المحكمة لشريعة الله كالمملكة العربية السعودية أنه ثبت لديها رؤية هلال رمضان أو هلال شوال أو هلال ذي الحجة فإنّ على جميع رعيتها أن يتبعوها في ذلك.(15/389)
وعلى غيرها أن يأخذ بذلك عند جمع كثير من أهل العلم لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما, وأخرجه مسلم بلفظ: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمي عليكم فاقدروا له ثلاثين". وأخرج البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن أغمى عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين" وأخرجه مسلم بهذا اللفظ لكن قال: "فإن أغمى عليكم الشهر فعدوا ثلاثين". فإن ظاهر هذه الأحاديث وما جاء في معناها يعم جميع الأمة, ونقل النووي رحمه الله في شرح المهذب عن الإمام ابن المنذر رحمه الله أن هذا هو قول الليث ابن سعد والإمام الشافعي والإمام أحمد رحمة الله عليهم قال - يعني ابن المنذر -: "ولا أعلمه إلا قول المدني والكوفي يعني مالكاً وأبا حنيفة رحمهم الله"انتهى. فقال جمع من العلماء: إنما يعم حكم الرؤية إذا اتحدت المطالع, إما إذا اختلفت فلكل أهل مطلع رؤيتهم, وحكاه الإمام الترمذي رحمه الله عن أهل العلم، واحتجوا على ذلك بما خرجه مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن كريباً قدم عليه في المدينة من الشام في آخر رمضان فأخبر أن الهلال رؤي في الشام ليلة الجمعة فإن معاوية والناس صاموا بذلك فقال ابن عباس: "لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نراه أو تكمل العدة", فقلت: "أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: "لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم". قالوا: فهذا يدل على أن ابن عباس يرى أن الرؤية لا تعم, وأن لكل أهل بلد رؤيتهم إذا اختلفت المطالع، وقالوا: إن المطالع في منطقة المدينة غير متحدة مع المطالع في الشام، وقال آخرون: لعله لم يعمل برؤية الشام لأنه لم يشهد بها عنده إلا كريب وحده، والشاهد الواحد لا يعمل بشهادته في الخروج، وإنما يعمل(15/390)
بها في الدخول.
فقد عرضت هذه المسألة على هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في الدورة الثانية المنعقدة في شعبان عام 1392هـ فاتفق رأيهم أن الأرجح في هذه المسألة التوسعة في هذا الأمر وذلك بجواز الأخذ بأحد القولين على حسب ما يراه علماء البلاد.
قلت: هذا قول وسط, وفيه جمع بين الأدلة وأقوال أهل العلم إذا علم ذلك.
فإن الواجب على أهل العلم في كل بلاد أن يعنوا بهذه المسألة عند دخول الشهر وخروجه وأن يتفقوا على ما هو الأقرب إلى الحق في اجتهادهم ثم يعملوا بذلك ويبلغوه الناس وعلى ولاة الأمر لديهم وعامة المسلمين متابعتهم في ذلك ولا ينبغي أن يختلفوا في هذا الأمر لأن ذلك يسبب انقسام الناس وكثرة القيل والقال, إذا كانت الدولة غير إسلامية. أما الدولة الإسلامية فإن الواجب عليها اعتماد ما قاله أهل العلم، وإلزام الناس به من صوم أو فطر عملاً بالأحاديث المذكورة وأداء للواجب ومنعاً للرعية مما حرم الله عليها, ومعلوم أن الله يزع بالسلطان ما يزع بالقرآن، وأسأل الله أن يوفقنا وجميع المسلمين للفقه في الدين, والثبات عليه, والحكم به, والتحاكم إليه, والحذر مما خالفه, إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.(15/391)
أخبار الجامعة
المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية في دورته السادسة:
أ – انعقد المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية في دورته السادسة يوم الإثنين الموافق 21/7/1398هـ برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد نيابة عن الرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء. وبحث في العديد من الموضوعات التي تضمنها جدول أعمال المجلس. واتخذ فيها قرارات من أهمها ما يلي:
1 – الموافقة على أن توقع شهادات الماجستير والدكتوراه التي تمنحها الجامعة الإسلامية من صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير فهد بن عبد العزيز الرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية.
2 – الموافقة على أن يستمر صرف مكافأة طلاب الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية طيلة مدة دراستهم.
3 – الموافقة على تعديل اسم (كلية اللغة العربية والآداب) , بحيث يصبح اسمها (كلية اللغة العربية) .
4 – الموافقة على اللوائح الجديدة للامتحانات بالجامعة الإسلامية.
ب – أناب الرئيس الأعلى للجامعة صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير فهد بن عبد العزيز سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد لرئاسة المجلس الأعلى للجامعة في الدورة السادسة وما بعدها من دورات تالية في الحالات التي لا يتمكن فيها سموه من الحضور، وفيما يلي نص خطاب الإنابة:
بسم الله الرحمن الرحيم
المملكة العربية السعودية
ديوان رئاسة مجلس الوزراء
فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز سلمه الله:
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية
والإفتاء والدعوة والإرشاد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:(15/392)
نظراًَ لأن الدورة السادسة للمجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ستعقد يوم الاثنين الموافق 21/7/1398هـ وبمناسبة سفرنا خارج البلاد قبل فترة انعقاد هذه الدورة وأثناء انعقادها، وعدم تمكننا من الحضور، فإننا نرغب أن تقدموا فضيلتكم نيابة عنا برئاسة جلسات المجلس في دورته المشار إليها والدورات القادمة التي لا نتمكن من حضورها، ونتمنى لكم/ والله يحفظكم.
نائب رئيس مجلس الوزراء
وفود للدعوة إلى الإسلام:
أوفدت الجامعة الإسلامية كعادتها - عدداً من الوفود إلى خارج البلاد ليقوموا بالدعوة إلى الله خلال العطلة الصيفية - ومن البلدان التي أرسلت إليها هذه الوفود:
1) الولايات المتحدة الأمريكية 2) الفلبين 3) غانا 4) مالي 5) نيجيريا.
- المعسكر الصيفي:
أقامت الجامعة الإسلامية معسكراً طلابياً في خلال هذه العطلة الصيفية في بلدة (نماص) . وقد ضم هذا المعسكر مجموعة من طلاب الجامعة وأساتذتها بتنظيم من إدارة الإشراف الاجتماعي بالجامعة.
والغرض من هذا المعسكر توجيه الطلاب وتثقيفهم وتدريبهم على أساليب الدعوة إلى الله عمليا.
- منح الجامعة لأبناء العالم الإسلامي:
ومن المعلوم أن الجامعة تقوم بترحيل كل طالب أعطته المنحة من بلده إلى المدينة المنورة حيث الجامعة الإسلامية، ثم تؤمن له السكن والتنقلات من وإلى الجامعة علاوة على المكافآت الشهرية التي تتراوح بين 300 الثلاثمائة والسبعمائة 700 تختلف باختلاف المراحل الدراسية وباختلاف الكليات، وهناك تسهيلات أخرى لطلاب الجامعة ومعاهدها ومن أهمها تأمين الكتب الدراسية.
مؤتمرات الجامعة:
ومنذ سنتين تقريباً عقدت الجامعة مؤتمراً إسلامياً واسعاً تحت عنوان (مؤتمر إعداد الدعاة وتوجيه الدعوة) .(15/393)
وهي تأخذ الآن في الإعداد لعقد مؤتمر هام تحت عنوان (مؤتمر مكافحة المسكرات والمخدرات) , وسوف يتم انعقاده في سنة 1399هـ إن شاء الله، وفي الوقت ذاته أن الجامعة مزمعة لعقد المؤتمر الثاني (لإعداد الدعاة وتوجيه الدعوة) في عام 1400هـ.. فنسأل الله لها التوفيق المطرد لتؤدي واجبها في خدمة الإسلام والمسلمين.
أخبار الرسائل الجامعية:
تمت مناقشة رسالتين لدرجة (ماجستير) في قاعة المحاضرات بالجامعة الإسلامية في نهاية العام الدراسي 97- 1398هـ.
الرسالة الأولى:
قدم الرسالة الأولى الطالب السعودي (نايف بن هاشم الدعيس) .. وموضوعها: تحقيق كتاب (بيان خطأ من أخطأ على الإمام الشافعي) للإمام البيهقي.
الإطار العام للرسالة:
قام الطالب بدراسة الكتاب وتحقيقه تحقيقاً علمياً، وتناولت الرسالة ترجمة للإمام البيهقي ترجمة مستفيضة، كما تضمنت ترجمة الإمام الشافعي ترجمة واسعة وهو الذي يدور مادة الكتاب حول مروياته، كما تناولت الرسالة تحليل بعض كتب علل الحديث مطبوعة ومخطوطة، وبيان مكانة كتاب البيهقي من بينها إلخ. هذا القسم الأول.
أما القسم الثاني: فتناول نص كتاب (بيان خطأ من أخطأ على الإمام الشافعي) حيث ضبط المحقق الأعلام الواردة فيه وعرف بها في الحاشية وخرج أحاديث الكتاب وعني بالتحقيق على الفوائد الحديثية والفقهية.. هذا وقد نال الطالب درجة (ممتاز)) فنرجو له دوام التوفيق.
لجنة المناقشة:
وتشكيل لجنة المناقشة كان على الوجه التالي:
1- الدكتور أكرم ضياء العمري رئيس قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية (رئيساً للجنة) .
2- الدكتور أبو شهبة الأستاذ بجامعة الملك عبد العزيز (عضواً) .
3- الدكتور السيد الحكيم الأستاذ بالجامعة الإسلامية (عضواً) .
الرسالة الثانية:(15/394)
قدمها الطالب اليمني (محمد عبد الرحمن الأهدل))
وموضوعها: (مرويات نكاح المتعة) دراسة وتحقيقاً.
الإطار العام للرسالة:
جمع الطالب الروايات المتعلقة بنكاح المتعة من كتب الحديث الشريف، ومن كتب التراجم لمعرفة آراء ومواقف الصحابة والتابعين، ومن كتب الفقه لبيان آراء المدارس الفقهية في نكاح المتعة، ثم تعرض للآثار السيئة لشيوع المتعة في بعض المجتمعات، وقد قام الطالب بنقد الروايات وفق أساليب المحدثين وأظهر استيعاباً للقواعد الأصولية في الترجيح بين الأدلة المتعارضة. وتعتبر دراسة الطالب من أوسع الدراسات الحديثية في الموضوع.
هذا وقد نال الطالب درجة (ممتاز) مع توصية اللجنة بطبع الرسالة على نفقة الجامعة الإسلامية.
وقد تشكلت لجنة المناقشة من كل من:
1- الدكتور أكرم ضياء العمري (رئيساً) .
2- الدكتور محمد محمد أبوشهبة (عضواً) .
3- الشيخ حماد الأنصاري (عضواً) .
عقد المجلس الأعلى للجامعة دورته السادسة بمقر الجامعة في الفترة من 21 إلى 24 رجب سنة 1398هـ برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز نيابة عن صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز الرئيس الأعلى للجامعة. وقد اتخذ المجلس في هذه الدورة عدة قرارات منها:
1- إقرار لائحة الامتحانات في كليات الجامعة.
2- تعيين الشيخ أبو بكر الجزائري عضو هيئة التدريس بكلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية عضواً في مجلس الجامعة لمدة سنتين.
3- تعيين الشيخ عبد الرؤوف اللبدي عضو هيئة التدريس بكلية اللغة العربية عضواً في مجلس الجامعة لمدة سنتين.
4- اعتماد الحساب الختامي للجامعة في العام الحالي 97/1398هـ وتعيين مراقب لحسابات الجامعة لعام 98/1399هـ.(15/395)
5- تعديل كادر المتعاقدين من هيئة التدريس وللمحاضرات والمعيدين ولائحة توظيفهم.
صدرت الموافقة السامية على تعيين أعضاء بالمجلس الأعلى للجامعة لمدة ثلاث سنوات وهم:-
1- فضيلة الشيخ أبو بكر جومي رئيس قضاة شمال نيجيريا.
2- فضيلة الشيخ أبو الحسن الندوي رئيس ندوة العلماء بلكنو في الهند.
3- معالي الدكتور إسحاق الفرحان رئيس الجامعة الأردنية سابقاً.
4- فضيلة الدكتور محمد أديب صالح رئيس قسم علوم القرآن والسنة في جامعة دمشق.
5- فضيلة الدكتور عبد الكريم زيدان الأستاذ بجامعة بغداد سابقاً.
6- فضيلة الأستاذ محمد قطب الأستاذ بقسم الدراسات العليا بكلية الشريعة - مكة المكرمة-.
7- معالي الشيخ يوسف جاسم الحجي وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت.
8- سعادة الأستاذ مندور المهدي عميد كلية التربية بجامعة الخرطوم.
9- فضيلة الشيخ كمال التارزي مدير الشعائر الدينية بتونس.
10- سعادة الدكتور عبد السلام الهراس الأستاذ بجامعة محمد بن عبد الله بفاس.
11- معالي الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين.
12- معالي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي مدير جامعة محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
13- معالي الدكتور بكر بن عبد الله بكر مدير جامعة البترول والمعادن بالظهران.
تقوم الجامعة بإعادة طباعة تفسير الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي لتوزيعه ضمن الكتب التي تطبعها الجامعة للتوزيع.(15/396)
قامت الجامعة بطباعة خمسمائة ألف نسخة من رسالة التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة على ضوء الكتاب والسنة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، وقد وزعت الجامعة هذه الكمية على سفارات جلالة الملك في البلاد العربية لتقوم بتوزيعها على الذين يتقدمون إليها بطلب تأشيرة الدخول للملكة للحج والعمرة.(15/397)
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن
لفضيلة الشيخ أبي بكر الجزائري
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهُ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .
يقدم شرحها - بمناسبة شهر رمضان المبارك -: ... الجزائري.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة على رسول الله..
وبعد فإن هذه الآية الكريمة من سورة البقرة من كتاب هذه الأمة القرآن الكريم لمن أعظم آي القرآن الكريم خيراً وبركة، وذلك لأنها أوجبت صوم شهر رمضان الذي هو شهر البركة والخير، ولأنها أشادت بفضل القرآن العظيم ونوّهت بما فيه من الهدى والفرقان، والقرآن كله بركة وخير، ولأنها قرّرت رخصة الإفطار للمريض والمسافر والرخصة يسر، واليسر بركة وخير، ولأنها أبانت عن مراد الله تعالى لأمة الإسلام، ذلك المراد الكريم وهو اليسر في كل أمور هذه الأمة وشؤونها, والبعد بها عن مواطن الحرج والعسر. وفي هذا المراد الإلهي الخير كله والبركة جميعها، ولأنها بشرت أمة القرآن بهداية الله تعالى لها وهيأتها لشكر نعم ربها عليها وفي ذلك من الخير والبركة ما لا يعلم مداه إلا الله.
ومن هنا كان شرح هذه الآية لقراء المجلة يتطلب بسطة في القول يضيق عنه نطاق المجلة المحدود.(15/398)
وانطلاقاً من مبدأ: (ما لا يُدرك كله، لا يترك جله) فإنا نشرح هذه الآية الكريمة العظيمة شرحاً سنراعي فيه مستويات القراءة الثقافية العلمية المختلفة, وذلك عذرنا لذوي المستوى العلمي العالي؛ إذ هبطنا بالتعبير ليقرب من متناول ذوي العلم الضحل القليل، كما هو عذرنا لقليلي العلم والمعرفة إذا رفعنا العبارة إلى مستوى ما فوق السقوط والهبوط رَبْأً بالكلمات والمعاني من الإهمال والابتذال.
وتيسيراً للفهم، وإمتاعاً للعقل فإنا ننهج في شرح هذه الآية الكريمة نهج التحليل التقسيمي فنشرح ألفاظها أولاًّ، ثم جملها وتراكيبها ثانياً، ثم نسترج أحكامها الشرعية الحاوية لها، ثم نبرز مظاهر هدايتها الكامنة فيها، وبذلك يتم تحليل هذه الآية وشرحها المطلوب لها، والله المستعان، وعليه وحده التكلان..
أ - ألفاظها ومفرداتها:
{شَهْرُ} الشهر: الوقت المعين أو المدة المحدودة من الزمن وهو تسعة وعشرون يوماً، أو ثلاثون ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو في السنن والصحاح.
وقيل في هذه الفترة من الزمن شهر، لشهرتها بين الناس، وذلك لتعلق مصالحهم الدينية والدنيوية بها، إذ العقول لا بد لها من آجال ترتبط بها، ولا تعرف إلا بها.
{رَمَضَانَ} اختلف في هذا اللفظ (رمضان) هل هو اسم جامد مرتجل، أو هو اسم مشتق؟ وإن كان مشتقاً فهل هو من الرمض الذي هو مطر ينزل أول الخريف، سمي به هذا الشهر، لأنه يغسل ذنوب أهله الصائمين له القائمين فيه المعظمين لحرمته؟ أو هو من الرمضاء التي هي شدة الحر المحرق, سمي بها هذا الشهر لأنه محرق ذنوب التائبين فيه ويطهرهم منها كما يطهر الجلد الدباغ؟.
وإن كان اسماً جامداً غير مشتق فهل هو اسم من أسماء الله تعالى لإضافة الشهر إليه في أكثر التعابير الشرعية, ومن ذلك هذه الآية {شَهْرُ رَمَضَانَ} .(15/399)
ولو صح في هذا خبر عن سيد البشر لما جاز القول بغيره، ولكن لما لم يصح كان للناس أن يقولوا. والله أعلم بما هو الحق في ذلك.
{القُرْآنُ} القرآن اسم وضع وضع الأعلام على كتاب الله تعالى المنزل على خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم, وهل هو اسم جامد كما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى؟ أو هو مشتق من قرأ يقرأ قراءة وقرآناً كما ذهب إليه جمهور العلماء والمفسرين؟ وكونه مشتقاً من قرأ إذا جمع يقال: قرأ الماء في الحوض إذا جمعه، ولما كان القارئ للكتاب الكريم يجمع كلماته وتراكيبه عند النطق بها قيل له قارئ, والمقروء قرآن, فهو مصدر بمعنى المفعول, وضع علماً على كتاب الله تعالى ليعرف به بين سائر كتبه تعالى.
{هُدىً} الهدى مصدر هدى يهدي هدىً وهدياً وهداية إذا أرشد إلى طريقة خير، أو سبيل سعادة. وجعل الله تبارك وتعالى القرآن هدى للناس؛ لأنه متى آمنوا به وأخذوا بما فيه من الشرائع والأحكام هداهم إلى سبل السعادة والسلام، ودلّهم على ما فيه صلاحهم وفلاحهم في الدنيا والأخرى، وأرشدهم إلى الخير الذي جبلوا على حبه والرغبة فيه ما استقامت فطرهم وسلمت أرواحهم من الخبث والشر.
{وَالْفُرْقَانِ} هذا اللفظ مصدر فرق يفرق فرقاً وفرقاناً بين الشيئين والأشياء ميز بينها وفصل بعضها عن بعض.
أطلق على القرآن العظيم فصار علماً ثانياً له كالقران، لأنه يفرق بين الحق والباطل, والهدى والضلال, والكفر والإيمان، وبين كل الملتبسات والمتشابهات مما قد تضل فيه العقول ويلتبس عليها، وذلك لما فيه من أنواع الهدايات الإلهية العظيمة التي لا توجد في غيره من الكتب السماوية.(15/400)
{شَهِدَ} شهد هنا هو بمعنى حضر الإعلان عن رؤية هلال رمضان سواء رآه بعينه مشاهداً له أو سمع الأخبار برؤيته، وهو حاضر غير مسافر, وصحيح غير مريض, فليصم على سبيل الوجوب إن كان بالغاً عاقلاً، وإن كانت امرأة اشترط في صومها أن تكون طاهرة من دَمَىِ الحيض والنفاس.
{فَلْيَصُمْهُ} الفاء واقعة في جواب الشرط الذي هو (مَنْ) في قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} , واللام للأمر الذي هو هنا للوجوب.
و (يَصُمْهُ) بمعنى يمسك عن المفطرات من طعام وشراب وغشيان النساء, والضمير عائد على شهر رمضان الذي تقدم في أول الآية، أي يمسك الشهر كله, فلا يفطر فيه إلا إذا مرض أو سافر, أو حاضت المرأة أو نفست.
{وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً} الواو للعطف أو الاستئناف، ومن كان مريضاً أي ومن قام به مرض, والمرض: هو انحراف الأمزجة المسبب لضعف القوة، وذهاب القدرة على تحمل مشقة التكليف الذي هو الصوم هنا.
{أَوْ عَلَى سَفَر} أو حرف عطف، وعلى حرف جر واستعلاء, والسفر مشتق من سفر إذا ظهر, فمن ظهر من البلد الذي يسكنه بحيث خرج منه وتجاوز دياره ولو حكماً جاز له أن يفطر، ودلّ حرف (على) في الآية على أنه لا بد من السفر الفعلي فلا يكفي مجرد النية أو مباشرة بعض أسباب السفر بل لا بد من التمكن من السفر، وذلك لا يتم حقيقة إلا إذا خرج من البلد وتجاوز دياره، وبذلك يكون فد تمكن المسافر من السفر تمكن الراكب من ظهر دابته, أو ما يركبه، وهذا هو السر في حرف (على) في الآية.
والسفر الذي تذكره الآية السفر الشرعي لا اللغوي فليس لمؤمن أن يظهر خارج قريته ويفطر بحجة أنه مسافر، وإنما يفطر في السفر المباح الهادف إلى خير ديني أو دنيوي يتحقق للمسلم، وأن يكون مسافة تحصل معها المشقة الملائمة للرخصة.(15/401)
{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ} العدة بمعنى العدد، والأيام جمع يوم وهو هنا من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وأخر جمع آخر أب غير التي أفطرتم فيها من سائر أيام السنة.
والفاء داخلة على محذوف والتقدير: فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فأفطر فعليه صيام عدة أيام أخر بقدر ما أفطر فيه، ومن هنا كان القضاء واجباً حتمياً. ومن فرط في القضاء بلا عذر حتى دخل عليه رمضان آخر فقضى بعده فإن عليه أن يطعم مسكيناً كل يوم يقضيه كفارة لتفريطه بلا عذر قام به.
{يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} إرادة الله تعالى هنا شرعية قدرية واليسر السهولة وهي ضد الشدة المسببة للمشقة, والجملة خبرية سيقت لتعليل حكم هذه الرخصة للمريض والمسافر, وهي مظهر من مظاهر الرحمة الإلهية.
{وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} العسر: الشدة والمشقة وهو خلاف اليسر والسهولة, والجملة معطوفة على الجملة قبلها ذكرت تقريراً لإرادة الله تعالى اليسر بهذه الأمة المرحومة أمة الإسلام.
{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّة} الواو للعطف والاستئناف، واللام للتعليل, والإكمال: الإتمام، والعدة: مجموعة أيام الشهر، أي رخص الله تعالى في الإفطار للمريض والمسافر وأوجب القضاء عليهما من أجل أن يكمل لهما صوم شهر رمضان فيثابون عليه كله، وفي ذلك من العناية بهذه الأمة وحسن التشريع لها والرأفة بها وإردة الخير لها ما لا يقدر قدره, فالحمد لله تعالى على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة!!!(15/402)
{وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ} الواو للعطف أو للاستئناف, واللام للتعليل, وتكبروا بمعنى تعظموا الله تعالى بلفظ الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد, وذلك ليلة عيد الفطر وعند الخروج إلى المصلى، وعند انتظار الصلاة به بين هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، أي شرع الله تعالى لنا الصوم والإفطار، فنصوم بأمره تعالى ونفطر بإذنه تعالى، وفي ذلك مظهر من مظاهر عظمة الرب تعالى وهنا يتعين التكبير لله والتعظيم، فتنطلق ألسنة المؤمنين لاهجة بأعظم لفظ: الله أكبر، الله أكبر, لا إله إلا الله الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد..
{عَلَى مَا هَدَاكُم} (على) هنا تعليلية بمعنى لأجل, أي تكبرون الله لأجل ما هداكم إليه من الصيام الذي هو من أعظم العبادات، والإفطار الذي هو من أكبر النعم على العباد حيث أباح لهم ربهم تعالى الأكل والشرب وما كان ممنوعاً بالصوم تعبداً لهم وتربية وتهذيباً، فله وحده الحمد والمنة.
{وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} الواو للعطف.. (ولعل) هي الإعدادية كما قال بعض أهل الذوق القرآني أي تعد المؤمن للشكر.. و {تَشْكُرُون} بمعنى تظهرون نعمة الله عليكم بحمده تعالى المنعم بها، والثناء عليه مع طاعته بامتثال أمره واجتاب نهيه، فمن امتثل أمر الله فصام رمضان ثم أفطر يوم العيد ولبس صالح ثيابه وتصدق من طيب ماله، وخرج يلهج بذكر اسم ربه وصلى صلاة العيد فقد شكر الله، وأدّى بعض الواجب الذي خُلق لأجله الذي هو الذكر والشكر.
ب- جملها وتراكيبها:
قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} ..(15/403)
في هذا التركيب العظيم يخبر الله تعالى أنّ ما كتبه على عباده المؤمنين من صيام أيام معدودات بقوله أول السياق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} : هو أيام شهر رمضان المبارك الذي هو سيد الشهور وأفضلها بما خصه الله تعالى به من نزول القرآن سيد الكتب وأفضلها فيه ابتداءً، حيث نزل الروح الأمين بأول آية منه وهي: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ، في رمضان بلا خلاف، وانتهاء حيث نزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وكان ذلك في ليلة القدر من رمضان لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} ، وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} وهي ليلة القدر ويشهد لذلك الاحتفال بها من قبل الملائكة في السماء والمؤمنين من الناس في الأرض كل ليلة قدر من رمضان {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} . كما أن الله تعالى قد أنزل في شأن صيام رمضان قرآناً، به وجب صومه وتحتم على المؤمنين قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، وقال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْه} أي شهر رمضان.
فهذه المعاني الثلاثة أوردناها تندرج كلها تحت لفظ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن.(15/404)
وأما قوله تعالى: {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} فإن هذا الجزء من القول أو التركيب هو حال من القرآن أي أنزله تعالى حال كونه هدىً للناس عامة، فكل إنسان يؤمن به ويقدمه بين يديه, نور هداية اهتدى به فأرشده إلى ما يكمل آدميته ويسعده في الدنيا ويؤهله لسعادة الدار الآخرة وبينات من الهدى والفرقان، حيث حوى من التشريع العاصم من الضلال والمنجي من الردى والهلاك، والموضح لسبل السعادة وطرق الكمال ما لا يوجد في غيره مما سبقه من كتب الله تعالى التي أنزلها على رسله عليهم السلام.
قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} .
في هذا التركيب الكريم يأمر الله تعالى المؤمنين الذي أعلمهم بأنه كتب عليهم صيام شهر رمضان المعظم يأمرهم بأن كل من حضر دخول شهر رمضان؛ عليه أن يصومه أمراً لازماً وقضاءً محتوماً، اللهم إلا من كان مريضاً أو على سفر، فإنّ له أن يفطر دفعاً للمشقة التي قد تلحقه بالصيام، وإذا هو أفطر فإنّ عليه قضاء أيام أخر بعدد الأيام التي أفطرها من رمضان لمرضه أو سفره.
وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر} .
إن هذا الجزء من التركيب في الآية قد سيق لغرض التعليل لرخصة الإفطار في رمضان بسبب المرض أو السفر، كما فيه بشرى تثلج لها صدور المؤمنين وتقرّ بها أعين المسلمين، إذ أخبرهم ربهم أن شأنه سبحانه وتعالى معهم دائماً إرادة اليسر بهم، ونفى العسر عنهم في كل ما يشرع لهم, ويدعوهم إليه ويهديهم إلى فعله والقيام به من سائر العبادات والقرب والطاعات.
وقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ..
تضمن هذا الجزء الأخير من الآية ثلاث تعليلات:(15/405)
الأول: التعليل لقضاء ما أفطر فيه المريض والمسافر من رمضان، فإن العلة في القضاء هي أن يكمل المؤمن عدة صوم رمضان, فيصوم تسعة وعشرين يوماً أو ثلاثين، فيثاب ثواب من صام كل رمضان ولم يفطر فيه، وهذا خير عظيم وفضل كبير حيث أيام القضاء وهي قطعاً من غير شهر رمضان بانضمامها إلى عدة أيام رمضان تصبح ذات فضل وأجر كأنما هي من شهر رمضان.
والثاني: التعليل لهداية الله تعالى لهذه الأمة إلى أكمل الشرائع وأحسنها، وأجلها وأعظمها مع التوفيق للأخذ بها والعمل بما فيها، مما يبعث على تكبير الله تعالى وتعظيمه، فالقلوب تستشعر عظمة الله تعالى من عظمة علمه وتشريعه، والألسن تلهج بذكره وتكبيره: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله الله أكبر ولله الحمد.
والتعليل الثالث: فإنه مسوق لكل ما تقدم من الإنعامات الإلهية على هذه الأمة، فالله تعالى يَخْلُق ليذكر ويُنعِم ليُشكَر، وتلك الغاية التي من أجلها خلق الخلق، فإنه ما خلق ولا رزق ولا أكرم ولا أنعم إلا ليذكر بذلك ويشكر فيما أنعم تعالى على هذه الأمة المسلمة من جزيل النعم، وعظيم الامتنان أعدها لشكره, وهو الشكور الحليم.
ج- استخراج أحكامها:
إنّ هذه الآية الكريمة المباركة تعدّ من آيات الأحكام لاحتوائها على عدة أحكام شرعية منها:
1- وجوب صوم رمضان الدال عليه قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .
2- وجوب ترائي هلال رمضان؛ إذ صيام رمضان يتوقف على رؤية هلاله، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
3- الرخصة في الإفطار لمن لا يطيق الصيام لمرض أو لكبر سنّ، ولمن تلحقه مشقة السفر، أو حمل أو إرضاع الدال عليه قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} .
4- وجوب قضاء ما أفطر فيه صاحب الرخصة لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر} .(15/406)
5- سقوط سائر التكاليف بالعجز الكامل الذي هو انعدام القدرة على أداء الواجب أو الانكفاف عن المحظور, دل على هذا الحكم قوله تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وهو قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} .
6- وجوب تعظيم الرب تبارك وتعالى الدال عليه قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
7- وجوب شكر النعم بحمد الله تعالى والثناء عليه وذكره وطاعته الدال عليه قوله تعالى: {عَلَى مَا هَدَاكُمْ} .
8- مشروعية التكبير ليلة العيد ويومه عند الذهاب إلى المصلى, وهو مظهر من مظاهر تعظيم الرب وشكره وذكره وحسن عبادته، وفي الحديث: "يا معاذ إني أحبك فلا تدعنّ أن تقول دبر كلا صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك". اللهم أعنا على ذلك إنك قوي قدير.
د – ما في الآية من هداية:
إنّ في كل آية من كتاب الله تعالى هداية خاصة تحملها للمؤمنين، وللناس أجمعين إذ كل آية تدل باللزوم على وجود الله وقدرته وعلمه ورحمته وسائر نعوت الكمال له، كما تدل على نبوة محمد ورسالته - صلى الله عليه وسلم -، وأعظم بهذه الهداية من هداية للعالمين, كما تدل بدلالة الخطاب على هداية خاصة وقد تتعدد وجوه الهداية في الآية الواحدة كما في آيتنا المباركة هذه فتبلغ العدد الكثير وهذا طرف مما حملته هذه الآية من هداية لأمة الإسلام:-
1 – جمع قلوب المسلمين على تعظيم ما عظم الله تعالى من شهر رمضان والقرآن العظيم وفي هذا من الهداية والبركة والخير ما لا يقدر قدره، ولا يعرف مداه ولا يُطاق حصره.
2 – رفع قيمة أمة الإسلام، وإظهارها في مظاهر الوحدة والنظام مما يجعلها المثل الكامل بين شعوب العالم وأممه إذا التزمت ذلك.(15/407)
3 – تحقيق مبدأ الإيجابية بين أفراد الأمة الإسلامية، والقضاء على مظاهر السلبية والتواكل, تلك المظاهر التي تزري بالأمم والشعوب، وتقودها إلى هاوية الهلاك والدمار.
4 – المحافظة على ينابيع الخير والجمال والكمال في أمة الإسلام، وذلك بقيامها بشكر الله تعالى بذكره وطاعته، والشكر يقيد النعم الواردة ويجلب النعم الشاردة، كما قيل وصح.
5 – تقرير مبدأ الخير والجمال وهما زينة حياة الأمم والشعوب وسرّ مجدها وعنصر بقائها حية قوية نامية صالحة تنفع وتضر، وتهدي الحيارى إلى سبل الخير والسلام.
وأخيراً نشير إلى مكامن هذه الهدايات الخمس من الآية الكريمة فنقول:
إنها في تعظيم رمضان والقرآن.
إنها في سرعة الامتثال والطاعة الصادقة.
إنها في جلال التشريع وجماله وسره وشموله.
إنها في الوفاء الكامل بالالتزام أي التزام كان مما هو شرع وطاعة لله ورسوله.
إنها في الذكر والشكر وهما علة الحياة وسر كل الوجود.(15/408)
أهل الكتاب في القرآن الكريم
لفضيلة الشيخ معوض عوض إبراهيم
لا يبعد عن الصواب من يرى "المنافقين"جرثومة يهود، وإن أفرد الله في صدر سورة البقرة الحديث عن المنافقين بعد حديثه عن الذين كفروا. والإمام القرطبي يقول في قوله تعالى:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} الآية [1] . ..
"وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت في شأن اليهود، أي وإذا قيل لهم - يعني اليهود - آمنوا كما آمن الناس: عبد الله بن سلام وأصحابه، قالوا: أنؤمن كما آمن السفهاء يعني الجهال والخرقاء" [2] . .
إن اليهود يجامعون المنافقين بما استوجبوه بكفرهم في عاجل أمرهم وآجله، ويذهبون بعد كل خسيسة ونقيضة تطالع القارئ لآيات سورة البقرة تحدثت عن بني إسرائيل باعتبارهم أصل اليهود والنصارى، وكأننا نرى تلكم الآيات تمسك بمخانقهم، وتكشف عن خبيئتهم وتدعهم تفسيراً حياً، وواقعاً بشرياً لما ترويه إلى أبد الدهر من صفاتهم وتصرفاتهم.
فإذا انتهينا من كلام الله عن المنافقين، دورنا بخشوع ويقين على مشاهد وجود الله، وشواهد نسبة القرآن إلى من أنزله معجزة خالدة تالدة على مصطفاه، وفي ذلك ما يسكت المتكلمين بالإنكار والمحاراة في هذه الحقائق المجلوة البينة، وإن كان الذي يعلم من خلق قد قضى فيهم قضاؤه بقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا..} , قال الإمام القرطبي: "وهذا من الغيوب التي يضربها القرآن قبل وقوعها" [3] .(15/409)
واجهنا معجزة القرآن في عرضه لأمور كثيرة تكون بين الغرض الواحد التفاتة عقلية وروحية هادية وتنقلاً يجم الخواطر، وينعش البصائر فتستقبل الكلام في السياق الأول أقدر ما تكون تفهماً واستيعاباً {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [4] .
والمفسرون يرون في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا..} الآية [5]
أن اليهود هم المرادون بقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ بِهَذَا مَثَلاً} .
قال الحسن وقتادة: "لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه, وضرب للمشركين به المثل, ضحكت اليهود، قالوا: "ما يشبه هذا كلام الله فنزلت الآية".
والآيات - بعد - وإن ذكر الله فيها صفات "الفاسقين"الخارجين عن طاعة الله تعالى كفراً أو عصياناً قلا يمتنع أن تكون في يهود [6] فهم - لا ريب - ناقضوا العهود، وما أقطعهم لمن كان ينبغي أن يصلوه وقد عرفوه كما عرفوا أبناءهم، مما تحدثت به كتبهم وأنبياؤهم، وتأمل مثل قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُم} [7] ، {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِه} [8] . حلقات في سلسلة تأخذ من القوم بالنواصي والأقدام..
وكم هي لمحة ذكية أن يقول الإمام القرطبي في قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ..} [9] .
" فإن قيل: كيف يجوز أن يكون هذا الخطاب لأهل الكتاب وهم لم يكفروا به؟!
"فالجواب ما سبق من أنهم لما لم يثبتوا أمر محمد عليه الصلاة والسلام ولم يصدقوه فيما جاء به فقد أشركوا؛ لأنهم لم يقروا بأن القرآن من عند الله, ومن زعم بأن القرآن كلام البشر فقد أشرك، وصار ناقضاً للعهد.." [10] .(15/410)
وتتصل الآيات في بيان مقاصد عليا وغايات رفيعة، ثم ترانا من الآية 40 حتى نهاية كلام الله تعالى عن تحويل القبلة أمام صور إحسان الله إلى بني إسرائيل، وأنعمه عليهم إلى مدى لم يكن من قبل لغيرهم، وإن لم يثن منهم إلى الله عنانا، ورحم الله ابن قيم الجوزية فقد قال: "فالأمة الغضبية هم اليهود، أهل الكذب والبهت والغدر والمكر والحيل، قتلة الأنبياء وأكلة السحت - وهو الربا والرشا -، أخبث الأمم طوية، وأردأهم سجية، وأبعدهم من الرحمة، وأقربهم من النقمة، عادتهم البغضاء، ودينهم العداوة والشحناء، بيت السحر والكذب والحيل، لا يرون من لمن خالفهم - في كفرهم وتكذيبهم الأنبياء - حرمة، ولا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة، ولا لمن وافقهم عندهم حق ولا شفقة، ولا لمن شاركهم عندهم عدل ولا نصَفة، بل أخبثهم أعقلهم، وأحذقهم أغشهم، وسليم الناصية - وحاشاه أن يوجد بينهم – ليس بيهودي على الحقيقة، أضيق الخلق صدوراً، وأظلمهم بيوتاً، وأنتنهم أفنية، وأوحشهم سجية، تحيتهم لعنة، ولقاؤهم طيرة، وشعارهم الغضب، ووثارهم المقت" [11] .
إن ابن القيم رحمه الله يقدم بهذه العجالة دراسة فاحصة مستوعبة عن يهود، مبدؤها ومستمدها كتاب الله، ابتداءً من قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} من سورة الفاتحة، فقد سماهم النبي صلوات الله عليه، وما لعاقل مَعْدِل عما سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم، كما أخرجه الإمام أحمد وغيره بإسناد حسن، وقال الإمام القرطبي: "ويشهد لهذا التفسير قوله سبحانه في اليهود: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ} [12] , وقال: {وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ} [13] ا. هـ وقال: {مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِير} [14] .(15/411)
إنّ القوم محجوبون بقبائحهم عن رضوان الله، فكم حرفوا كلامه، وعصوا رسله وقتلوا أنبياءه والذين يأمرون بالقسط من الناس، وكانوا من خلال كل جريمة خلقية, وكأنما قدت قلوبهم من الحجر، وإن تراءوا في صور البشر, فلا عجب أن يضرب الله فيهم الأمثال في غير مجال وما يزال قيد الخاطر قول الله في المنافقين: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً ... } وما وراءه فهي ليهود أشبه، وهم في قصة البقرة التي أمرهم موسى أن يذبحوها فجادلوا أول الأمر فيها حتى ذبحوها، وما كادوا يفعلون حتى انجلى حكم الله وحكمته.. على طبيعتهم في التعنت وسوء الأدب واللجاج مع نبيهم، ألا تراهم يقولون غير مرة لموسى عليه السلام: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} وهو تعالى، ربه وربهم ورب كل شيء، بعد أن جهلوا أمر نبيهم عن ربهم "لو أن يذبحوا بقرة"ونسبوا إليه الاستهزاء بهم؟! إنها طبيعة القوم مذ كانوا إلى اليوم وما بقي منهم واحد, وشديد عادة منتزعة. وليس عجباً أن ينتهي ذلك السياق بقوله تعالى فيهم:
{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهِ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [15] .
ومهما تعددت أقوال المفسرين في الذين قست قلوبهم ههنا, فإن قوم موسى هم المرادون أولاً وأخيرا وعلى كل حال، فما كان أهل القتيل إلا نفراً من بني إسرائيل، قال ابن عباس: "المراد: قلوب ورثة القتيل لأنهم حين حَيِيَ وأخبر بقاتله وعاد إلى موته أنكروا قتله، وقالوا: كذب بعد ما رأوا هذه الآية العظمى.. أن يضرب القتيل ببعض البقرة بعد ذبحها فيتكلم.. لم يكونوا قط أعمى قلوباً ولا أشد تكذيباً لنبيهم منهم عند ذلك. ." [16](15/412)
والقوم يتجاهلون حقائق وحقوقاً بغياً وعدواً، ويصور لهم ضلالهم، ووهمهم وباطل فهمهم أن الوجود كلّه لهم، وليس لسواهم حق في شيء، فيفضح الله دخيلتهم، ويهتك أستارهم, ويقلل أسرارهم، ويقيض للبشرية من يتابع ذلك من رجال السياسة وزعماء الإصلاح في عصر بعد عصر ليكون الناس من هؤلاء القوم أيقاظاً حذرين من شرور ومكايد تختفي وتبين بحسب الظروف والأحوال.
وإذ اكان الحديث عن أهل الكتاب يهود ونصارى، وهم وكل مبطل اليوم كما كانوا في كل يوم مضى على قلب رجل واحد في العداوة للإسلام والكيد للمسلمين, فلا بأس في أن أورد ههنا كلاماً لمارتن لوثر الذي يذكر على رأس الثورة التي يسمونها ثورة الإصلاح المسيحي في القرن السادس عشر الميلادي فهو يقول: "وأين عقول النصارى - إن كانت لهم عقول؟ ".. مما يقول؟!
"هؤلاء هم الكذابون الحقيقيون, مصاصوا الدماء, الذين لم يكتفوا بتحريف الكتاب المقدس وإفساده, من الدنة إلى الدفة، بل إنهم ما فتئوا يفسرون محتوياته حسب أهوائهم وشهواتهم، وما كل هذه الآهات - والتنهدات والحسرات المتصاعدة من أعماق قلوبهم إلا تعبيراً عن انتظار اليوم الذي يستطيعون فيه معاملتنا، كما سبق أن عاملوا الوثنيين وعبَّاد النار خلال العهود الغابرة أيام الملكة استير في بلاد فارس.
"أواه لكم هم مغرمون بقصة استير لانسجامها مع أمزجة المشغوفة بالدماء، ونفسياتهم المغرمة بالانتقام، ومع تعطشهم لجشع الإجرام.. إن التاريخ لم يعرف بعد شعباً مصاصاً للدماء، ولهاً بالانتقام الدموي كالشعب اليهودي.. أقول وهي اليوم ترمي غيرها بدائها وتذرف دموع التماسيح ودماء غيرهم تتقاطر من بين الأصابع متناسية أن للناس عقولاً وأبصاراً وأفئدة"ويتابع مارتن لوثر قائلاً: "الشعب اليهودي الذي يعتبر نفسه الشعب المصطفى المختار، كذريعة يتخذها مبرراً ليبيح لنفسه قتل الآمنين وسحقهم وشنقهم..".(15/413)
"إن أول ما ينتظره اليهود من "مسيحهم المرتقب"، مبادرته إل ذبح جميع شعوب العالم وإبادتها، مستخدماً سيف الانتقام الدموي "اليهودي"كما حاولوا أن يفعلوا بنا، نحن المسيحيين، وكما يودون لو استطاعوا تكرار المحاولة بنجاح".
وكم هي صيحة تبددت في فضاء الغفلات قول لوثر يومئذٍ "ولن يعرف التاريخ كذلك شعباً بمستوى الجشع الذي يتميز به اليهود، فهكذا كانوا، وهكذا هم اليوم، وهكذا سيبقون إلى الأبد، وهم يمنون النفس الآن.. والرجل كان يتكلم في القرن السادس عشر - بأنه حال ظهور "مسيحهم المرتقب"فسيبادر أيضاً إلى جمع ذهب العالم وفضته ليوزعها بالتساوي عليهم".
ويردف لوثر قائلاً: "وبينما يعفوا الأمراء وأصحاب السلطة والمسئولون في العالم، غافلين عما يدبر حولهم وبين ظهرانيهم يتابع اليهود سرقة وسلب ما يريدون من خزائن هؤلاء وصناديقهم المفتوحة. والمسئولون بذلك إنما يخاطرون بأنفسهم وبرعاياهم حينما يتركون اليهود يمتصون دماءهم ويسلخون جلودهم برباهم الأسطوري الفاحش وأساليبهم الاحتيالية الخادعة.. وهكذا يتحول الأمراء والمسؤلون.. وهم أصحاب المال الشرعيون أصلاً - إلى شحاذين فقراء في بلادهم".
وكأني بالرجل وبيننا وبينه هذه القرون يرى بعض الواقع في ديارنا بخاصة وفي العالم عامة!! "وفي كل واد أثر من ثعلبة"! ..
ثم يقول الرجل بمرارة وأسىً تعتلج بهما أنفس كثيرين وإن كان الداعي اليوم أمعن وأوجع.. "لقد استولى اليهود على أموالنا وأرزاقنا، فأصبحوا أرباب نعمتنا على أرضنا وفي وطننا، وهم المنبوذون "..
أقول: لقد صنع منبوذوا الأمس لأنفسهم وطناً، واتخذوا القدس له عاصمة، وهم يعملون جهرة للانسياب والتسلل إلى مقدسات أخرى وديار، وما كان شيء من ذلك يكون لولا غيبة الدين وما يستتبعه من أنانيات وغفلات يقول في مثلها علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لا قيام للباطل إلا في غفلة الحق"..(15/414)
ومارتن لوثر يذكر يقظة القوم وتناجيهم بصوالحهم الخاصة، ويبرز بعض مبادئهم وأفكارهم التي يتواصون بها باغين فيقول:
"وهم يتهامسون في مجالسهم الخاصة لترسيخ إيمانهم بأنفسهم وكراهيتهم العميقة لنا":
"استمروا في تنفيذ خططنا، وسترون أن الله لن يتخلى عن شعبه المنبوذ المضطهد، إننا لا نبذل جهداً ولا نعمل، بل نحن استمرأنا البطالة والكسل، فمن ليس يهودياً هو الذي يجب أن يعمل ويعرق من أجلنا، ونحن من تجب أن تجنى ثمار كده وأرباح تعبه وعرقه كي نصبح تدريجياً أسياد العالم، وتتحول شعوب الأرض بدورها إلى عبيد لنا وخدَّام.. امضوا في ثبات - هكذا يقول اليهود - يا أبناء إسرائيل الأعزاء، في السير على هذا الطريق فاليوم الذي سنكون فيه أفضل مما نحن عليه الآن، آت لا ريب فيه، إن مسيحنا المنتظر سيظهر إذا واصلنا السير على هذا المنوال، فنكون دائماً من الغانمين الرابحين، بربانا الفاحش، وتظفر أيدينا في النهاية بكل أملاك وأموال الوثنيين والملحدين"ويتحدث لوثر بعد أن أورد من تهامس القوم ما أورد.. فيقول:
"لقد لقنهم آباؤهم وحاخاماتهم منذ نعومة الأظفار الكراهية السامة لكل غريب عن ملتهم، لا يدين باليهودية، وما برحوا حتى يومنا هذا يمضون - دون كلل - تلك الكراهية المجسدة في كل فرد منهم، حتى إن الكراهية تغلغلت - كما جاء في الزمور 109 - في أجسادهم ودمائهم، فسيطرت عليهم، وغلفت عظامهم وأدمغتهم فغدت منهم وفيهم كما هي حياتهم وكيانهم، وكما أنه يستحيل عليهم تغيير أجسادهم ودمائهم وعظامهم وأدمغتهم، كذلك يستحيل عليهم أن يتخلوا عن طباعهم المتأصلة فيهم، كالتكبر والغرور والجشع والحسد، لذلك لا مفر لهم من بقائهم على ما هم عليه: طماعون, حاسدون, مرابون, إلى أن تحل الساعة التي يبيدون فيها أنفسهم أو تقع المعجزة" [17] .
وينتهي الرجل وهو لوثر مصلح نصراني فيقول:(15/415)
"فلتكن أيها المسيحي، على ثقة من أنه ليس هناك من عدو لك مبين، بعد الشيطان سوى اليهودي السامّ ببغضائه، القاسي بحقده، الطافح الناضح بالجشع والطمع والكراهية، الذي يسعى بكل جهده، ويتمنى بكل قلبه ليكون "يهودياً" حقيقياً بكل ما في الكلمة من معنى.
وكل ذ لك يبرهن على أن حكم المسيح فيهم كان عادلاً من وصفهم بالسامّين المنتقمين، الحيات, الأفاعي الضارة، القتلة المأجورين، وأبناء الشياطن, الذين يقتلون ويلحقون الأذى بالآخرين غيلة وكيداً وغدراً؛ لأنهم أضعف وأعجز من أن يفعلوا ذلك علناً وبصورة مكشوفة"ا. هـ[18] .
إن كلام المصلحين النصارى والحكام عبر القرون في "يهود"يطول ويكثر، وكلامهم وكلام اليهود "النصارى"كذلك، وجل الله الذي يقول:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [19] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] البقرة: 13.
[2] تفسير القرطبي ج 1 ص 205 طبعة دار القلم.
[3] الكتاب السابق ج 1 ص 234.
[4] الفرقان: 6.
[5] البقرة: 26.
[6] قال ابن الجوزي في تفسيره للآية: "وفي المراد بالفاسقين هنا ثلاثة أقوال: أحدهما أنهم اليهود كما قال ابن عباس"اهـ ج 1 ص 56 وهم راحلون في القولين الآخرين.
[7] البقرة.
[8] البقرة.
[9] البقرة.
[10] تفسير القرطبي ج1 ص 248-249.
[11] كتابه هداية الحيارى ص 8 توزيع الجامعة الإسلامية.
[12] البقرة: 61.
[13] الفتح/ 6, تفسير القرطبي: 149-150.
[14] المائدة: 63.
[15] البقرة: 74.(15/416)
[16] القرطبي ص 463.
[17] لقد انتهى زمن المعجزات وعلى المؤمنين وهم يودون التفسير أن يذكروا قوله تعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} سورة محمد: 4.
[18] بتصرف من كتاب "اليهود" للأستاذ زهدي الفاتح.
[19] البقرة: 113.(15/417)
في رحاب سورة المائدة
د. إبراهيم عبد الحميد سلامه
أسماؤها:
لهذه السورة الكريمة ثلاثة أسماء: ـ
1 – المائدة، وذلك لأن الله - جل في علاه - قص علينا فيها قول الحواريين لعيسى عليه السلام: {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ..} ؟ وما جرى بين عيسى وبينهم، حيث نصحهم بتقوى الله، وأرشدهم إلى ترك اقتراح الآيات المادية على ربهم، وأنهم بينوا له الغرض من طلبهم هذا فقالوا: {نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} (المائدة: من الآية113) , وهنا رفع عيسى أكف الضراعة إلى ربه قائلاً: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [1] .
2 - سورة العقود، وذلك لقول الله في مطلعها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُم..} الآية. (المائدة: الآية:1)
3 – المنقذة؛ لأنها تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب، يقول القرطبي في تفسيره: "روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سورة المائدة تدعى [2] في ملكوت الله المنقذة، تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب" [3] .
نزولها:
هي مدنية بالإجماع، فقد أخرج ابن المنذر وابن جرير عن قتادة قال: "المائدة مدنية" [4] .(15/418)
بل إنّ سورة المائدة من أواخر سور القرآن نزولاً فقد أخرج أحمد والنسائي والمنذر والحاكم وصححه وابن مردوي ة والبيهقي في سننه عن جبير بن نفير قال: "حججت فدخلت على عائشة فقالت لي: يا جبير، تقرأ المائدة؟ فقلت: نعم فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه, وما وجدتم من حرام فحرموه" [5] .
وأخرج أبو عبيد عن محمد بن كعب القرظي قال: "نزلت سورة المائدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة وهو على ناقته، فتصدعت كتفها، فنزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك من ثقل الوحي" [6] .
وإذاً فمدنية هذه السورة بناء على أرجح مذاهب العلماء وأشهرها من أن المدني ما نزل بعد الهجرة، ولو كان نزوله بمكة أو في الطريق بين مكة والمدينة، فالحد الفاصل بين المكي والمدني هو وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فكل ما نزل قبله من القرآن فهو مكي، وكل ما نزل بعده فهو مدني ولو كان نزوله بمكة [7] .
عدد آياتها:
هي مائة وعشرون آية عند الكوفيين، ومائة وثلاث وعشرون آية عند البصريين، ومائة وثنتان وعشرون آية عند غيرهم.
وسبب هذا الاختلاف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ على أصحابه السورة لأول مرة - بعد أن يكتمل نزولها - يقف على رأس كل آية للتوقيف وإعلامهم برؤوس الآيات والفواصل، فإذا قرأ السورة نفسها مرة أخرى فإنه قد يصل بين آيتين منها؛ لأن الثانية تتم معنى الأولى، فيظن من لم يسمع القراءة الأولى لهذه السورة أن هاتين الآيتين آية واحدة، فيترتب على هذا الاختلاف في عدد الآيات.
وهناك سب آخر لاختلاف الكوفيين والبصريين وغيرهم في عدد الآيات القرآنية، هو الاختلاف في البسملة وهل هي آية من كل سورة أو لا؟ فمن عدّها آية تكون السورة عنده أزيد آية واحدة بالنسبة لغيره الذي لا يعتبرها كذلك [8] .(15/419)
وعلى كل فالخطب في مثل هذا الاختلاف يسير هين، لأنه لا يترتب عليه زيادة ولا نقص في القرآن الكريم، فمن قال: إن سورة المائدة مائة وعشرون آية، لا ينكر ثلاث آيات منها بناء على الرأي الآخر الذي يقول: إنها مائة وثلاث وعشرون آية, وصاحب هذا القول الأخير لا يضيف إلى السورة ثلاث آيات، لا يقول بها صاحب الرأي الأول - وإذاً فلا ضرر في هذا الاختلاف؛ لأنه لا يترتب عليه زيادة ولا نقص في النص القرآني، وإنما هو خلاف في عدد الآيات فقط وإن كان الكل مجمعين على آيات كل سورة بلا خلاف.
علاقتها بسورة النساء:
إن المتأمل في هاتين السورتين ليرى أن الثانية تناسب الأولى وترتبط بها من وجوه عديدة:
الأول: أن سورة النساء قد اشتملت على عدة عقود، صراحة أو ضمناً, فالصريح: عقد النكاح والصداق والحلف والمعاهدة، والضمني: عقد الوصية والوديعة والوكالة والعارية، وغير ذلك مما هو داخل في عموم قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا..} (النساء: الآية: 58) , فناسب ذلك أن تتبع هذه السورة بما يناسب ذلك وهو الأمر بإيفاء العقود والحفاظ عليها والالتزام بموجبها وذلكم في قوله تعالى في مطلع سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ..} (المائدة: الآية:1) , فكأنه قيل: يا أيها الناس أوفوا بالعقود التي فرغ من ذكرها في السورة السابقة وإن كان في هذه أيضاً عقود، ذكر هذا الوجه الآلوسي نقلاً عن الجلال السيوطي [9] .
الثاني: أنه سبحانه لما ختم سورة النساء آمراً بالتوحيد والعدل وإعطاء كل ذي حق حقه، حيث بيّن أنصبة الورثة وحذّر من تجاوز ما شرعه وبينه حيث قال: {يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} (النساء: الآية:176) ناسب ذلك أن تفتتح هذه السورة بالأمر بالإيفاء بالعقود والمواثيق والحفاظ عليها، وعدم التحلل منها بحال.(15/420)
الثالث: أن سورة النساء مهدت السبيل لتحريم الخمر، حيث جاء فيها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون..} الآية [10] , وسورة المائدة حرمتها ألبتة، فكانت متممة لشيء فيما قبلها، وذلكم في قوله تعالى في المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [11] .
الرابع: أن معظم سورة المائدة في محاجة اليهود والنصارى، مع ذكر شيء من أمر المنافقين والمشركين، وذلك ما تكرر في سورة النساء، ولا سيما في آخرها، فذلك من أقوى المناسبات وأظهر وجوه الاتصال بين السورتين، كأن ما جاء منه في المائدة مكمل ومتمم لما جاء في النساء.
هذا وفي كل من السورتين - فوق ما تقدم - طائفة من الأحكام العملية في العبادات، والحلال والحرام، كآيتي التيمم والوضوء، وحكم حل المحصنات من المؤمنات، والأمر بالقيام بالقسط، والشهادة بالعدل, من غير محاباة لأحد، والوصية بتقوى الله تعالى.
وهنا سؤال يفرض نفسه وهو: لماذا يحرص كثير من المفسرين على ذكر العلاقات والمناسبات التي تربط بين سور القرآن الكريم بعضها ببعض؟ وهل يلزم وجود مثل هذه العلاقات والمناسبات بين آيات القرآن بعضها مع بعض؟ على معنى أن تكون هناك مناسبة بين كل آية وسابقتها ولاحقتها ومناسبة وصلة بين كل سورة وسابقتها ولاحقتها كذلك؟(15/421)
والجواب على ذلك: أن المفسرين يحرصون على ذكر هذه المناسبات، ليظهروا للناس كلهم وخاصة من عنوا بالدراسات القرآنية ما في هذا الكتاب العزيز من أحكام وترابط وانسجام وتآلف فهو: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود:1) . أي أنه منظم رصين، متقن متين، لا يتطرق إليه خلل لفظي ولا معنوي, كأنه بناء مشيد محكم، يتحدى الزمن, ولا ينتابه تصدع ولا وهن، مصداقاً لقول الله فيه: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ, لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [12] .
وإذا كان الأمر على ما ذكر فإنه يلزم أن تكون هناك مناسبات وعلاقات بين الآي والسور القرآنية، ويتحتم أن يكون هناك ترابط وانسجام وتآلف بين كل آية وسابقتها ولاحقتها، وكل سورة وسابقتها ولاحقتها كذلك، لأنه كلام الله المعجز للبشر الذي أعجز الفصحاء والبلغاء بأسلوبه الفذ، وأعياهم عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [13] .(15/422)
ومن العجيب أن الإمام الشوكاني وهو علَمٌ في التفسير، يعيب على المفسرين هذا المسلك، ويقلل من قيمة هذا العمل، وهو بيان التزام الربط بين الآيات القرآنية وسورها، بل إنه يصرّح بعدم وجود العلاقة والمناسبة بين آيات نزلت في مناسبات مختلفة وظروف متباينة، ويستدل على قوله هذا بأن ترتيب السور القرآنية في المصحف مغاير لترتيب نزولها، وإذا كان الأمر كذلك: "فأيّ معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعاً أنه قد تقدم في ترتيب المصحف ما أنزله الله متأخراً، وتأخر ما أنزله الله متقدماً، فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن، بل إلى ما وقع الترتيب عند جمعه ممن تصدى لذلك من الصحابة، وما أقل نفع مثل هذا وأنزر ثمرته وأحقر فائدته. ." [14] .
والناظر في كلام الإمام الشوكاني يجد أنه مبني على أمرين اثنين:
هما نزول القرآن مفرقا ومنجماً حسب الحوادث والأسئلة والقضايا التي كانت تثار على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأن ترتيب المصحف مغاير لترتيب النزول, وهو من عمل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
والحق أن ذلك كله لا يمنع من وجود الترابط والانسجام والتآلف بين الآيات والسور القرآنية، التي بلغت أعلى درجة في البلاغة والفصاحة والإحكام.
ذلك أن القرآن الكريم، وإن نزل منجماً ومفرقاً حسب الحوادث والوقائع إلا أن جبريل عليه السلام كان يوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضع الآية من السورة، وكان صلى الله عليه وسلم يرشد أصحابه وخاصة كتّاب الوحي إلى ذلك، فيقول: "ضعوا هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة"، أو بين آيتي كذا وكذا من سورة كذا, وذلك لأن ترتيب آيات القرآن من النظم المعجز، ولذلك لم يقل أحد بأنه من صنع البشر.
وإذا كان ترتيب الآيات في سورها توقيفاً - فإنه من غير شك - يكون على أعلى درجات الإحكام والترابط والانساج والتآلف.(15/423)
وأما ترتيب السور القرآنية في المصحف وكونه من عمل الصحابة, فإن ذلك أيضاً لا يمنع من وجود المناسبات والعلاقات بين السور القرآنية؛ لأن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - كانوا في عملهم ملتزمين الترتيب الذي علموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان يتلو القرآن أمامهم في الصلاة وخارجها.
وخلاصة ما تقدم أن الآيات القرآنية قد رتبت في عهد رسول الله وبتوقيت منه عن جبريل عليه السلام، حفظاً في الصدور وكتابةً في السطور، وأما السور فقد رتبت في عهده حفظاً فقط، ولم ترتب كتابة لعدم جمع القرآن كله في مصحف واحد في عهده صلى الله عليه وسلم، فقام أصحابه رضوان الله عليهم بهذا العمل على النحو الذي كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولعل الإمام الشوكاني يريد أن يقول إن المناسبة بين بعض الآيات قد لا تكون واضحة، أو أن العقول البشرية قد تقصر أو تعجز عن إدراكها, وفي مثل هذه الحالات فإنه يحسن عدم التكلف والتعسف في إظهارها تنزيهاً لكلام الله تعالى عن محض الرأي المنهي عنه.
والذي يدفعني إلى هذا الفهم من كلام الشوكاني أمران:
الأول: أنه إمام من أئمة التفسير وعلم من أعلامه المبرزين فيبعد على مثله أن ينكر المناسبات بين آيات القرآن الكريم وسوره فيما يظهر لي ولو أن كلامه يبدو منه الإنكار.
الثاني: أن الدارس لتفسير الشوكاني يجد أنه كثيراً ما يذكر المناسبات والعلاقات التي تربط آيات القرآن الكريم بعضها ببعض في عبارة واضحة لا لبس فيها ولا خفاء وأكتفي بذكر مثال واحد يؤكد هذه الحقيقة:(15/424)
عند شرحه لقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار..} (البقرة: الآية 25) ، ذكر علاقته بما سبقه فقال: "لما ذكر تعالى جزاء الكافرين عقبه بجزاء المؤمنين، ليجمع بين الترغيب والترهيب والوعد والوعيد، كما هي عادته سبحانه في كتابه العزيز، لما في ذلك من تنشيط عباده المؤمنين لطاعاته، وتثبيط عباده الكافرين عن معاصيه" [15] .
إلى غير ذلك من المثل العديدة البارزة في تفسير الإمام الشوكاني والتي جعلتنا نفهم كلامه على النحو السابق، وإن كانت عبارته ظاهرة في إفادة عدم التناسب بين الآيات حيث يقول: ".. وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الاختلاف، ومتبانية هذا التباين الذي لا يتيسر معه الائتلاف، فالقرآن النازل فيها هو باعتباره نفسه مختلف كاختلافها، فكيف يطلب العاقل المناسبة بين الضب والنون، والماء والنار, والملاج والحادي، وهل هذا إلا من فتح أبواب الشك، وتوسيع دائرة الريب على من في قلبه مرض؟ " [16] .
وفي ختام هذه الدراسة نحب أن نقف وقفة متأنية مع قصة ولدي آدم عليه السلام التي قصها الله علينا في هذه السورة الكريمة لنقف على بعض ما فيها من عظات وعبر، وإليك البيان: ـ(15/425)
قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ, لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِين, َ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ, فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ, فَبَعَثَ اللهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [17] .
معاني المفردات:
{اتْلُ} الأصل في هذه المادة التبع، فالتلو - بالكسر - ولد الناقة والشاة، إذا فطم وصار يتبعها، وكل ما يتبع غيره في شيء يقال له تلوه، والتلاوة - بالكسر -: القراءة, ولا تكاد تستعمل إلا في قراءة كلام الله تعالى، وسميت قراءته تلاوة لأنه مثاني، كلما قرئ منه شيء أتبع بقراءة غيره أو بإعادته أو لأن شأنه أن يُقرأ ليتبع بالاهتداء والعمل به.
{نَبَأَ} : النبأ هو الخبر العظيم الذي له شأنه.
{بِالحقِّ} : أي تلاوة متلبسة بالحق والصحة، لأنها من عند الله.
{قُرْبَاناً} : هو اسم لما تتقرب به إلى الله من ذبيحة أو صدقة أو غير ذلك.
{بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ} : مددتها لقتلي وإراقة دمي.
{تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ} : أي ترجع بإثم قتلك لي، وإثمك الخاص بك، الذي كان من شؤمه عدم قبول قُربانك.
{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} : أي زينته وسهلته، وشجعته عليه.(15/426)
{سَوْءَةَ أَخِيهِ} : أي جسده، وقيل: عورته؛ لأنها تسوء ناظرها، وخصت بالذكر وإن كان المطلوب مواراة جميع الجسد لأن سترها آكد [18] .
علاقة الآيات بما قبلها:
بعد أن ذكر - عز اسمه - موقف اليهود من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإعراضهم عن دعوته على الرغم من وضوح البراهين الدالة على صدقه، حتى همّ قوم أن يبسطوا أيديهم لقتله، وقتل كبار أصحابه، مصداقاً لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ} . [19] وما ذاك إلا حسداً منهم لرسول الله عليه الصلاة والسلام, على ما آتاه الله من الدين الحق، وذكر كذلك تمردهم على نبيهم موسى عليه السلام, ونكوصهم عن قتال الجبارين, وذكر بعد ذلك قصة ولدي آدم عليه السلام اللذين قتل أحدهما صاحبه، بياناً لكون الحسد الذي صرف هؤلاء عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم, وحملهم على عداوته عريقاً في الآدميين، فالداء قديم والشر أصيل، وإن كان هؤلاء اليهود قد ورثوا عن أسلافهم من هذا الداء الحظ الأوفر، والنصيب الأكبر مصداقاً لقوله تعالى فيهم: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [20] . وقوله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [21] .
قال القرطبي: "وجه اتصال هذه الآية بما قبلها، التنبيه من الله على أن ظلم اليهود ونقضهم المواثيق والعهود كظلم ابن آدم لأخيه" [22] .
في ظلال النص الكريم:(15/427)
يأمر الله - جلّ في علاه - رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يتلو على الناس عامة وأهل الكتاب خاصة, ذلك النبأ العظيم، نبأ ابني آدم, تلاوة متلبسة بالحق, مظهرة له، لأنها من عند الله عالم الغيب والشهادة, مبينة لغرائز البشر وطبائعهم وأنهم جُبلوا على التباين والاختلاف, الذي يفضي إلى التحاسد والتقاتل، ليعلموا الحكمة فيما شرعه الله من عقوبات رادعة للبغاة الظالمين, الذين يحاربون الله ورسوله, ويسعون في الأرض فساداً، وليعلم أهل الكتاب صدق محمد صلى الله عليه وسلم, وذلك لاشتمال كتبهم على هذه القصة، وهو لم يطلع على هذه الكتب، فتعين أن يكون علمها عن طريق الوحي، فتقوم بذلك الحجة عليهم ويعرف الجميع أنهم ضلوا على علم، وجحدوا عن بينة.
وخلاصة نبأ ولدي آدم أن كلا منهما قرب لربه قرباناً، فتقبل من أحدهما, لتقواه وإخلاصه وطيب نفسه بما قدم، ورفض قربان الآخر لأنه كان على العكس من ذلك كله، عندئذ ثارت ثائرته ودب الحسد في قلبه، وحمله على البغي والعدوان فقال مهدداً ومتوعداً أخاه الذي تقبل الله قربانه: {لأَقْتُلَنَّكَ} فأجابه بقوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} أي: إنما يتقبل الله الصدقات وغيرها من الأعمال, القبول الحسن المقترن بالرضا والمثوبة من عباده المتقين المخلصين.
فهذا الجواب يتضمن بيان سبب قبول قربان أحدهما ورفض قربان الآخر، وكأن هذا الابن البار يقول لأخيه: إنني لم أرتكب ذنباً في حقك لتقتلني، فإن كان الله تعالى لم يتقبل منك، فارجع إلى نفسك فحاسبها على السبب، فإنما يتقبل الله من المتقين الذين يتقون الله ولا يقعون في المعاصي, فاحمل نفسك على تقوى الله, والإخلاص له في العمل، ثم تقرب إليه بصالح الأعمال فإنه عندئذٍ يتقبل أعمالك, ويرضى عنك، ويجزيك خيراً [23] .(15/428)
ثم بين الابن البار لأخيه الحاقد حقيقة أخرى هي حرمة إراقة الدماء فقال: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} أن يراني باسطاً يدي إلى الإجرام وسفك الدم بغير حق، فإن ذلك يسخطه ويوجب عقابه ونقمته؛ لأنه رب العالمين الذي يغذيهم بنعمه ويربيهم بفضله وإحسانه، فالاعتداء على أرواحهم أعظم مفسدة لهذه التربية.
وهذا الجواب من الأخ البار التقي يتضمن أبلغ موعظة، وألطف استعطاف لأخيه الحاقد العازم على إراقة الدم بغير حق, ثم يواصل الابن البار نصح أخيه وإرشاده عله أن يرعوي ويعود إلى رشده، فكيف عن تهديده وتوعده له بالقتل، مذكراً إياه بعذاب الآخرة فيقول: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} .
قال الفخر الرازي: "كيف يعقل أن يبوء القاتل بإثم المقتول مع أنه تعالى قال: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: الآية: 164) .
والجواب من وجهين:
الأول: قال ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة - رضي الله عنهم - معناه: "تحمل إثم قتلي، وإثمك الذي كان منك قبل قتلي".
والثاني: قال الزجاج: "معناه ترجع إلى الله بإثم قتلي، وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك" [24] .
وهناك وجه آخر في الجواب, وهو أن القاتل يحمل في الآخرة إثم المقتول إن كانت له آثام، وذلك يعارض قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ؛ لأن تحمل القاتل لآثام المقتول إنما هو بسبب قتله له، فالقاتل بهذا لا يحمل إلا أوزار نفسه.
ونلاحظ من هذه المواقف أن الأخ التقي البار قد ترقى في نصح أخيه الحاقد وصرفه عن عزمه على النحو التالي:
1 – بين له أنه أُتيَ من قبل نفسه لعدم تقواه {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} .(15/429)
2 – نزه نفسه عن مقابلة الجناية بمثلها: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} .
3 – ذكره بما يجب عليه من خوف ربه واتقاء عذبه: {إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} .
4 – ذكره بأن المعتدي يحمل وزر نفسه وأوزار المعتدى عليه: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ} .
5 – ذكره بعذاب النار وكونها مثوى للظالمين الفجار {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} .
ولكن هل أثرت هذه المواعظ وتلك النصائح الغالية في نفس ذلك الأخ الحاقد الباغي؟ ذلك ما بينه ربنا بقوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} لقد كان بفطرته البشرية يتخوف من قتل أخيه، ويتهيب هذا الأمر العظيم، ولكن نفسه الأمارة بالسوء ما زالت به تسهل له هذا المنكر, وتزينه وتشجعه عليه، حتى تجرأ وأقدم على هذه الجريمة النكراء، جريمة قتل أخيه ظلماً وعدواناً، بلا تفكر ولا تدبر، فأصبح بعمله هذا من الذي خسروا أنفسهم حيث عرضوها لعقاب الله ونقمته، وخسروا أقرب الناس إليهم, وأبرهم بهم، وخسروا نعيم الآخرة, إذ لم يعودوا أهلاً لدار المتقين، بل صاروا أهلاً لجهنم وبئس مثوى الظالمين.
قال الشوكاني في تفسيره: "وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل" [25] .(15/430)
ولما كانت هذه أول جريمة قتل ترتكب على ظهر الأرض، فإن هذا القاتل الأثيم لم يعرف كيف يتخلص من جثمان أخيه، فشاءت حكمة الله أن يكون تلميذاً للغراب، حيث يتعلم منه سنة الدفن ومواراة جسد الميت في التراب، فكان ما قصه الله بقوله: {فَبَعَثَ اللهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} .
وقول هذا الأخ القاتل: {يَا وَيْلَتَى} يدل على شدة تحسره وتألمه، لأن هذه الكلمة لا تقال إلا عند حلول الدواهي العظام، والمصائب الكبار، ولكن هذا التحسر لم يكن ندماً وتوبة وخوفاً من الله، ولكنه كان لإحساسه لأنه صار دون الغراب علماً وتصرفاً، ولو كان ندمه ندم توبة لقبل الله توبته، ولكن الله أخبر عنه أن صار بعمله هذا من جملة الخاسرين, وكذلك دلت السنة المطهرة على أنه سيحمل كفلاً من دم كل نفس تقتل ظلماً وعدواناً، لأنه أول من سن القتل، فدل ذلك كله على عدم توبته.
وإذاً فتحسر هذا الأخ وندمه إنما كانا لعدم انتفاعه بقتل أخيه, وإحساسه بأنه صار دون الغراب علماً وتصرفاً كما أسلفنا.
قال الفخر الرازي: "فلما كان من النادمين كان من التائبين فلم تقبل توبته؟ أجابوا عنه من وجوه:
الوجه الأول: أنه لما لم يعلم الدفن إلا من الغراب صار من النادمين.
الثاني: أنه صار من النادمين على قتل أخيه، لأنه لم ينتفع بقتله، فضلاً عن أن قتل الابن يثير غضب والديه وإخوته فكان ندمه لهذه الأسباب، لا لكونه معصية.
الثالث: أن ندمه كان لأجل أنه تركه بالعراء استخفافاً به بعد قتله.. فكان ندمه لذلك، لا لأجل الخوف من الله تعالى، فلا جرم أن لم ينفعه ذل ك الندم" [26] .(15/431)
وقد اختلف أهل العلم في ابني آدم المذكورين، هل كانا لصلبه أو لا؟ فذهب الجمهور إلى الأول، وذهب الحسن والضحاك إلى الثاني، وقالا: إنهما كانا من بني إسرائي، فضر ب بهما المثل في إبانة حسد اليهود، وكانت بينهما خصومة فتقربا بقربانين، ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل، والحق أن هذا كلام بعيد عن الصواب.
قال ابن عطية: "وهذا وهم، أي من الحسن والضحاك إذ كيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل حتى يقتدي بالغراب في ذلك" [27] .
ولكن ما هو سبب تقديم ولدي آدم عليه السلام لهذين القربانين، وهو قربان كل منهما؟ وكيف علما أنه تقبل من أحدهما دون الآخر؟ وكيف تم تنفيذ هذه الجريمة وهي الأولى من نوعها على ظهر هذه الأرض؟ ومتى وأين وقعت؟ وما هو اسم كل من هذين الاثنين؟
أسئلة كثيرة لم يعطها القرآن أدنى اهتمام، لأنه لا تتعلق بها فائدة، وإنما ركز القرآن على مواطن العظة والاعتبار التي تفيد البشرية المعذبة لو أنها أرادت لنفسها الهداية والاستقامة على الطريق بتطبيق شريعة الله.
ولكن المفسرين قد أثاروا بعض هذه الأسئلة، وذكروا الإجابة عليها أقوالاً عديدة، واستندوا إلى روايات لا تعلم صحتها وجلها منقول عن أهل الكتاب:
فمثلاً يقول صاحب روح المعاني: "أخرج ابن جرير عن مجاهد وابن جريج أن قابيل لم يدر كيف يقتل هابيل، فتمثل له إبليس اللعين في هيئة طير فأخذ طيراً فوضع رأسه بين حجرين فشدخه فعلمه القتل، فقتله وهو مستسلم"، ويقول كذلك: "واختلف في موضع قتله، فعن عمرو الشيباني عن كعب الأحبار أنه قتل على جبل دير المران، وفي رواية عنه أنه قتل على جبل (قاسيون) وقيل: عند عقبة حراء, وقيل: بالبصرة، في موضع المسجد الأعظم" ( [28] ) .(15/432)
وكذلك ذكر المفسرون روايات كثيرة كهذه يجيبون بها على الأسئلة التي تثار حول هذه القصة القرآنية المنزلة بالحق من عند الله رب العالمين، لبيان أن الحسد يجر على صاحبه خزي الدنيا وعذاب الآخرة، ويجر صاحبه على البغي وقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق.
قال صاحب المنار: "ولكن هذه الرواية من الأخبار الإسرائيلية، وقد اختلفت فيها روايات السلف، وبعضها يوافق ما عند اليهود، وبعضها يخالفه، وليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعول عليه" [29] .
ما ترشد إليه القصة من عظات وعبر
1 - الناس جبلوا على التباين والاختلاف وذلك يفضي إلى البغي والحسد وإراقة الدم ظلماً وعدواناً.
2 – أن الحسد مرتعه وخيم، ويجلب على صاحبه خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
3 – أن الله لا يتقبل الأعمال إلا من عباده المتقين المخلصين.
4 – أن خوف الله تعالى يحجز الإنسان عن محارم الله ومقابلة الشر بمثله، ويضبط سلوكه وتصرفاته وفق ما شرع الله.
5 – حرمة الدماء بغير حق، ووجوب الحفاظ عليها، وعدم الاعتداء على أحد، لأن حياة الإنسان لها حرمتها العظيمة في نظر الإسلام الحنيف.
6 – وجوب مخالفة النفس الأمارة بالسوء؛ لأنها تزين لصاحبها الشرور، وتغريه بالنكرات, حتى تورده موارد الهلكة والبوار.
7 – في اشتمال القرآن على هذه القصة دليل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة، فتكون هذه القصة حجة على أهل الكتاب الذي ضلوا على علم وجحدوا عن بينة مصداقاً لقول الله فيهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة:146) .(15/433)
8 – أن الحسد الذي صرف اليهود عن رسول الإسلام وحملهم على عداوته، عريق في الآدميين فالداء قديم والشر أصيل، وإن كان اليهود المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد ورثوا عن أسلافهم من هذا الداء أكبر حظ وأوفر نصيب والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] راجع الآيات: 112-115 من سورة المائدة.
[2] يبحث عن درجة هذا الحديث.
[3] تفسير القرطبي: 6/30 وانظر الآلوسي: 6/47.
[4] فتح القدير للشوكاني: 2/3، والقرطبي: 6/30.
[5] أخرجه أحمد والنسائي وابن المنذر والحاكم وصححه، انظر فتح القدير: 2/3، وتفسير ابن كثير: 2/2
[6] تفسير الآلوسي: 6/47، وفتح القدير: 2/3.
[7] راجع: مناهل العرفان للشيخ الزرقاني: 1/186-188.
[8] انظر: الإتقان للسيوطي: 1/67، والبيان للشيخ غزلان: 223، ومناهل العرفان للشيخ الزرقاني: 1/337.
[9] الآلوسي: 6/48.
[10] النساء: 43.
[11] المائدة: 90. الخمر كل ما يخمر العقل أي يغطيه ويستره. والميسر: القمار. والأنصاب: الأصنام المصنوعة للعبادة. والأزلام: قداح الميسر.
[12] فصلت: 41-42.
[13] الإسراء: 88.
[14] انظر: فتح القدير للشوكاني: 1/72-73.
[15] المرجع نفسه: 38.
[16] فتح القدير: 1/72-73.
[17] المائدة: 27-30.
[18] انظر: المنار: 6/340، والآلوسي: 6/314.
[19] المائدة: 11.
[20] البقرة: 90.
[21] البقر: 109.
[22] تفسير القرطبي: 6/133.
[23] انظر: تفسير المنار للشيخ رشيد رضا: 6/343.
[24] الفخر الرازي: 12/199.
[25] فتح القدير: 2/32، وانظر القرطبي: 6/140.
[26] الفخر الرازي: 6/202.(15/434)
[27] انظر: فتح القدير: 2/30.
[28] الآلوسي: 6/114-115.
[29] تفسير المنار: 6/343.(15/435)
الصوم ومسلمو اليوم
لفضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي
المدرس بالمعهد الثانوي التابع للجامعة الإسلامية
وقبل الحديث عن الصوم مع مسلمي اليوم، نقدم عنه مع مسلمي الماضي كلمات في قليل الأسطر؛ ذلك لأن الصائب من الأمور لا يقال أو يكتب عنه كثير لوضوحه، خاصة لدى من يعقلون.
فمسلمو الماضي أدركوا رهبة وهيبة نداء عُلْوي وجه مباشرة إلى أهل الإيمان، فلم يأمر نبيه صلوات الله عليه أن يقول لهم بنحو {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، كما ورد في مواضع عدة في القرآن الكريم، وما كان على الموحى إليه صلى الله عليه وسلم إلا نقل هذا النداء المهيب إلى من عنُوا به {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (البقرة: 183) , فأدركوا على الفور خطر الأمر، أدركوا أن هذا المنادي من أعلى لا جواب على ندائه إلا بلبيك يا اجل المنادين، وأدركوا أنه شرَّفهم بندائه المباشر، فأعدوا أنفسهم ليقابلوا هذا التشريف بأسرع ما تكون الطاعة، وأدركوا أنه وصفهم بالإيمان وهو يناديهم، فعزموا على أن يكونوا جديرين بهذا النعت العظيم الذي أضفاه عليهم، ومن هذه الإدراكات من أهل اللب الناهبين، قدروا جلل الأمر الذي كتب عليهم، وأنه لا بد سامق المكانة عند كاتبه سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} فعلموا من المنادي, أنه الآمر المطاع، وعلموا إلى من وُجّه النداء، إلى المؤمنين السبَّاقين إلى الطاعة، وأن المأمور به فرضٌ له عند الله خصوصية "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به". .(15/436)
أدرك مسلمو الماضي هذه المعاني العجب، التي في أول آيات الصوم، فتتبعوا بعد ذلك متلهفين بقية آياته المنظمة لأدائه، حتى قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (البقرة:187) ، فأصبح شهر رمضان عندهم أحب شهورهم، وربيع سنتهم، وخير ما يعيشون من أعمارهم، يتعجلون قدومه ليسعدوا بعز الذكر الذي نزل فيه، وليشمتوا بعدوهم الذي يكبل فيه وليزيدوا من سخاء أكفهم لستزيدوا من مثوبة ربهم وسعة فضله، ويستعيدوا بشهرهم أمجاد نصرهم لما سحقوا فيه عدوهم، فبقيادة نبيهم صلى الله عليه وسلم وقعت فيه اثنتا عشرة ملحمة، اثنتان فاصلتان قادهما بنفسه، بدر والفتح، والباقي سرايا سيرها وحدد وجهتها وعين قادتها، ثلاث منها بقيادة علي، واثنتان بقيادة خالد، وقاد كلاً من الخمس الباقية، عبد الله بن عُتَيْك، وعبد الله بن رواحة، وأبو قتادة، وعمرو بن العاص، وسعد بن زيد رضي الله عنهم أجمعين، صوام الماضي كانوا يتعجلون شهر الصوم ليجعلوا منه لجام المتقين، فتصبح شهور الفرج لديهم ذليلة، ورغبة البطن معافة، والنظرة في دنياهم زهيدة، يتعجلون قدومه ليصوموه ليلاً ونهاراً، ففي النهار صاموه مادة معنى, لما صوّموا معهم آذانهم وأبصارهم وألسنتهم عن اللغو والتأثيم، وفي الليل جعلوا الصوم عن النوم، فتجافت جنوبهم عن مضاجعهم قياماً ودعاء وبكاء، وكان أكثر ما تفيض به أعينهم من الدمع عند وداعه في عشرته الأخيرة، يتحسرون لفراق شهرهم الحبيب، فهو موسم أرواحهم وواصلهم بربهم، لهذا منحو الفرحتين، وجنوا شهي الحسنيين، تلك فكرة ضئيلة عن رمضان مع مسلمي الماضي، وما رمضان مع مسلمي اليوم؟!!(15/437)
أولاً: قيل إن نسبة الذي لا يصومونه مطلقاً في المجموع العددي المنتسب إلى الإسلام بالاسم، تزيد بأكثر من النصف عن الذين يصومون [1] ، إذاً فإلى الأقل الذي نفترض أنه يصوم نوجه حديثنا هذا، لأن هذا الأكثر الذي لا يصوم لا حديث لنا مع بعد ذلك، لما حادّ الله الذي ناداه، فما كان الجواب إلا سمعنا وعصينا, ورفض أن يكون من المنادوْن بالإيمان، فانسلخ منه فأتبعه الشيطان، فلا أملك ولا أحدٌ اعتباره مؤمناً ألبتة، لهذا فلا موضوع له معنا، أما قسم الصوم من مسلمي اليوم، باستثناء القلة من المؤمنة التي لا ينعقد بها الحكم، فنمشي وإياهم مع كلمات القرآن عن رمضان، لنرى قربهم منها أو بعدهم عنها، حيث لا زال نداء الله للمؤمنين لهذه الآيات قائماً، يسمعهم النبأ العظيم عن الصوم، وبعد أربعة عشر قرناً، وسيظل يناديهم بها ما بقي القرآن المجيد يضيء دياجير هذه الدنيا.(15/438)
فهل فهمنا نحن صائمي اليوم، أن الصوم فريضة من القدم منذ وجدت الأمم، {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُم} (البقرة: 183) إذاً فهو أزلي الكتابة، غائر الرسوخ لا يخضع للمنسوخ إلى أن تنسخ هذه الدنيا، ومن هنا كان علمنا بعلو قدره عند مشروعه، وعِلْمُنا بعظيم نفعه لخلقه لما جعله ماكثاً في الأرض بطول مكثها، {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} (الرعد: 17) , ولو لم نعرف كل النفع ولا تفاصيله؛ لأن شرط الإيمان الذي إذا اختل ينحل معه الإيمان كله، هو أن المؤمن يطيع أمر ربه ولا يقول لماذا هذا ولأي شيء تلك، يقينا منه بأن الله لا سميّ له فلا يأمر ولا ينهى إلا لحكمة عليا ثابتة لديه، بدت لنا أو خفيت عنا {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} (البقرة:285) , ولا يجوز السؤال عما هو الخير الناتج عن السمع والطاعة، بل قد يؤدي هذا السؤال إلى بال {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} (المائدة:102) ، وواضح استثناء السؤال للتعلم والتفقه ليعبد الله على علم، ولكن المنهي عنه هو ما لم يظهره الله وأبقاه في غيبه، إذاً فالصوم لما شرع منذ القدم ويبقى إلى أن تصبح الدنيا في العدم له عند الله حكمة بالغة، بعضها بلغنا ومعظمها أو أعظمها يكشف لنا في فرحة اللقاء "وفرحة عند لقاء ربه", فهل صائمو اليوم فهموا ذلك من آيات الصوم ليصوموا بهذه المعرفة رجاء قبول صومهم؟؟ !!.(15/439)
والتقوى وهي خوف ما عند الله من عقاب, ورجاء ما عنده من ثواب، شيء محتم أن يلازم المؤمن طول مقامه في الدنيا، والتجرد منها مهلكة مؤكدة، لهذا قالت الآية بعد ذلك: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ, أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} (البقرة: 184) , ذلك لأن التقوى تقاوم على الدوام، وبأشياء عدة تقوم على ركيزتين، شهوة الإنسان ونزعة الشيطان، وهما مع العبد طول السنة في مدافعة مستمرة، فمرة تغلبها التقوى ومرة يغلبانها؛ لأن البطن يطلب الطعام في أي وقت من ليل أو نهار، فتجده حاضراً من حلال أو من حرام لتمتلئ به معدته، والفرج يظل يطلب الشهوة لأن البطن غذاه وأمده، والشيطان طليق يزين الأمرين فوق ما يغمز وينزع، والتقوى مع هذا كله ترتفع مرة وتنخفض مرات في أغلب أمرها، أما في رمضان فجاءت (لعل) برجائها مصاحبة لكلمة التقوى، حيث المرجو أن تكون التقوى في أقوى أيامها وأعز مواسمها، لما وهنت مقاومة الشهوة بقلة المدد من الطعام والشراب، ووهنت مقاومة الشيطان لما صُفّد نوعه المريد، فخلا الجو للتقوى يعلو بها الصائم على رغائبه السفلى، والتي طالما أخضعته لها، فقد زكته تقواه وأدنته من الله ويستمر يهنأ بحاله الرباني هذا أياماً معدودات هي أيام رمضان، فتمناه العام كله حيث انتقل من ذل المعصية إلى عز الطاعة، فهل فهم صائمو اليوم ذلك لعلهم يتقون أياماً معدودات يحصلون بها ما يزيد عن عديد السنوات؟(15/440)
وبعدئذ تأتي الرأفة والحنان من لدنه، حيث انفرد بصفات هو بها واحد، ليعطي العبد الذي قهره أمر دنيوي عذر التخلي عن الصوم ما بقي في قهره، فإذا ما زال كان فيه من حال، فليس عليه إلا صيام عدد ما غلب على تركه، ولحق في الأجر بمن لم يمنعوا أثناء الشهر وأدركوا معهم مقام الصائمين {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} بل وزادت رأفة الرؤوف بالذين يصومونه فعلاً يصاحب صومهم نوع من النصب والعنت، سواء كان ذلك جسدياً ككبر أو مرض خفيف ملازم، أو نفسياً كمجرد خوف الأم على رضيعها أو جنينها، وهو ما قالت عنه الآية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} ؛ لأن معنى الإطاقة إتيان الشيء بجهد، فهذا النوع وما يشبهه أبيح له الإفطار مقابل شيء زهيد، مدٌّ من أغلب ما يأكله ناس بلده، {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ولكن حسن التعامل مع المحسن سبحانه، يقتضي أن يكون المؤمن معه الله ذا وُدٍّ أكثر من المد، فدعته الآية إلى أن يزيد تطوعاً بأكثر من هذه الحفنة ما دام ذا ميسرة {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} فلن يكون الخير من المخلوق مقابلاً إلا بما يليق بالذي خلق {فَهُوَ خَيْرٌ لَه} ، بل ودعته الآية إلى خير هو أكثر من خير الزيادة على الحفنة، وهو القيام بذات الصوم ولو ببعض المشقة، ما لم تغلبه مشقته على أمره كما أسلفنا {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أي ولو بتعب يتحمل، ويحبب سبحانه في الأخير ويرغب فيه قائلاً: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، إن كنتم تعلمون حقيقة هذا العمل وإثبات المثوبة لعامله فالحرص منكم على إدراكه أقرب وأوجب، فالصوم هو المختار على الفدية يا ذا الأعذار الخفيفة [2] .(15/441)
اختار ذلك صوام الماضي، وصائمو اليوم جعلوا الصداع مرضاً فأفطروا، وجعلوا السفر في مكيف السيارة وبأجنحة الطائرة لساعة أو أقل أمراً شاقاً جداً يفطرون له، والوالدات يرضعن أولادهن من المعلبات ويفطرن على أنهن مرضعات، خوفاً على جمالهن من أن يذبل، وأولات الأحمال في بداية حملهن ولو لأيام كذلك، فقد سمع هؤلاء بأن المرض والسفر والرضاعة والحمل وكبر السن يبيح الفطر، دون تفريق بين الإطلاق والتقييد، لأن القصد اتخاذ الذرائع والتحايل على أحكام الإسلام، وحتى بعد هذا التحليل لا افتداء ولا عطاء.(15/442)
ثم تترى الآيات لتحدد الأيام المعدودات داخل شهر اسمه "رمضان"، قلّ أن تكمل أيامه ثلاثين، وتقدمه الآية بأنه شُرّف بما هو أعظم من الصوم الذي يقع فيه، فقد اختير دون أشهر السنة لينزل فيه كتاب الله، فكتاب الله كل، والصوم فيه جزء، والصوم أمره ينتهي في الدنيا، والقرآن عابر لحدودها فهو الذي نظم أمرها، ومن هنا عظم شأن رمضان بالقرآن {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} ، وما أمر هذا القرآن الذي رفع به ذكر رمضان، لقد عرفت الآية أمره بأوجز بيان وأوسع معان {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} , هدى للناس لما علموا منه بديع هذا الملكوت الهائل بسمائه وأرضه وما بينهما وهم ضمنه، فاهتدوا لما انتهوا بنهيه وائتمروا بأمره، وكرموا بذلك آدميتهم تمييزاً لها عمن هم من الأنعام أضل، رجاء أن يؤمنهم ربهم من خوف الدنيا وفزع الآخرة، وبينات من الهدى التشريعي والحكم التنظيمي، والحد الذي يقف كلٌ عنده، فاستقام أمرهم وطاب زمانهم وتآخى جمعهم، وكما هو بينات من الهدى التشريعي بينات من الفرقان لما وضع لهم الفوارق الواضحة والضوابط الفاصلة بين ما هو صدق وما هو كذب، فأشرقت جوانحهم وأنست أفئدتهم للصدق الذي وضحه، ونفرت من الكذب الذي فضحه ذلك هو القرآن الذي نزل في رمضان، فشمخت به مكانة الشهر وبوركت أيامه، فأفاض الله على صائميه من خزائن رحمته بما شاء.(15/443)
إذاً فمن سمع ما ذكر فهفت نفسه إلى جنى الجنتين، فأتت عليه وهو حي هذه الأيام المعدودات العزيزات، فليصمها على الصورة المشروحة آنفاً {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فليصمه، أمر قاطع بالعمل بعد تفهيم بالقول، محتم تنفيذه لا يجرؤ رسول ولا مرسل إليه أن يبدئ فيه أو يعيد، {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَة} (القصص:68) , ولما كانت الكلمة الإلهية {فَمَنْ شَهِدَ} يخشى معها الظن بأن الله تعالى سلب ما خفف حين رخص لذوي الأعذار الإفطار، ثم القضاء أو الافتداء، أعادها سبحانه ثانية هنا ليعلم عباده بأنه القائل الذي لا ينقض، والمتفضل الذي لا يرجع، والممد الذي لا يسترد، فأكد منحته {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} , فليصمه من شهده معافى مقيماً، ومن كان غير ذلك فرخصتنا له قد أحكمناها وما نسخناها، ولأي شيء؟ {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وبدهي أن إثبات اليسر هنا ونفي العسر ليس قاصراً على ما يتصل بالصوم وحده، وإنما هي إرادة مطلقة، وأرادها المتصف بالتيسير والمنزه عن التعسير في كل ما شرع، وإلا فنبئوني، ما هو العسر في صلاة صورتها أن تؤدى وهو واقف مكانه، ولا عليه إلا أن ينحني وينزل ويجلس، تتم جميعها على هذا النحو المريح في دقائق، عددها خمس في أربع وعشرين ساعة، مجموع زمان الإتيان بهذه الخمس ساعة أو تقل، وقلّ أن تزيد, وما هو العسر في زكاة يخرج بها المزكي اثنين ونصف، ويبقى لنفسه خمسة وسبعين، وقد انتفخت الجيوب الآن بالمال مما لا يدع الحاضر والباد، ونفس التيسير أو أيسر في بقية أنواع الزكاة، وما هو العسر في حج يؤدى مرة واحدة في العمر كله، وهكذا كل دين الله أمراً ونهياً، وعفا الله عن الذين قالوا عن معنى {وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} (الأحزاب:72) , أي لصعوبة أدائها، والتأويل الصحيح هو أن الإشفاق من رهبة العهد خشية عدم الوفاء، وليس(15/444)
بالنسبة للمطلوب صعوبة الأداء، وإلا فهل يمكن التوفيق بين تأويل ذلك بالمشقة وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} (الحج: 78) وقوله في سورة القمر مرات {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر: 17) , أي للعمل به، وقوله سبحانه لمبلغ هذا الدين - صلوات الله عليه - {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} (الأعلى: 8) أي الشريعة السهلة، هكذا بحرفيّة ما في أشهر التفاسير.
وحتى يا من أعذرتم وما قصرتم، لن نتركم أعمالكم بعد أن تقضوا ,أو تفدوا سنُسَوِيكُم في الأجر بمن أتموا الشهر صائمين، ونعتبركم مكملين لعدته مثلهم {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} (البقرة: 185) , فالجملة القرآنية هنا أعطت المثوبة كاملة للحريصين الذين قهرهم العذر، فإكمال العدة إكمال للأجر، وحيث تمت العدة عدداً أو اعتباراً، ووعدتم بمثل الأجر المعد للصائمين، وإنه لأجر كبير، إذاً فجدير بكم أن تكبروا الله شكراً له على هباته {وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} (البقرة: 185) , هداكم لعمل لما أدّيتموه كبّر لكم له به الأجر، كذلك قال العلماء إنه بذلك أصبح من عزم الأمور أن يكثر العبد الصائم من التكبير لعون ربه له على صيام شهره، هكذا صمتم رمضان في الماضي معرفة به وأداء له.
أما صائمو اليوم، فرمضان عندهم موسم البطون، تملأ فتتخم فتمرض، وموسم السهرات في (السينمات) ، وأمام (التلفزيونات) , والجلوس على المقاهي للتلهي بلعب الورق (والدمنة) وما إلى ذلك حتى السحور، وتتحول مباريات لعب الكرة و (التنس) وغير هذا من أنواع الرياضة المختلفة إلى الليل بدل النهار بقرارات حكومية، أما السهر مع صلاة التراويح، أو مع بعض ركعات التهجد، أو مع قراءة القرآن في شهر القرآن، فهذا غير وارد في الأذهان عند صائمي اليوم إلا ما شاء الله.(15/445)
وآية الدعاء توسطت آيات الصوم لأنها وإن لم تكن من صميمه فهي جداً على صلة به وثيقة، لأن الذي صام كما ينبغي بسره وعلنه لا ترد إن شاء الله دعوته بنص أحاديث مشهورة، فإذا كان العبد في صلاته أثناء سجوده إلى ربه أقرب, والدعاء ساعتئذ للإجابة أيضاً أقرب، لما وضع أشرف أعضائه لربه في حذاء قدامه، فيلي حال الساجد حال الصائم, لما قهر شهواته ومقومات حياته طاعة لربه، فكان أن يُعطى ما يطلب، وجاءت لهذه آية الدعاء هذه بين آيات الصوم، ولهذا أيضاً انتهت بقوله عز من قائل: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة: 186) ، فالصائم استجاب مؤمناً بإخلاص لربه، فأعطي الرجاء من الله بالرشد, ورجاء الله محقق، فلما دعا فتحت لدعوته مسالك السماء، وتحقق له بإذن الله الرجاء.(15/446)
ولما كان أشد ما يحرم منه الصائم مجافاة الحليلة، ويتحمل من ذلك العنت الكثير، فهي معه بالمواجهة طول اليوم أو أكثره، ونداء الشهوة المتصلة بالفرج قد يعشى العين ويوقر الأذن، خاصة لدى الإنسان، فالحيوان عندما تحمل أنثاه لأول يوم لا يقربها حتى تضع حملها، والإنسان يظل يباشر أنثاه حتى قبل الولادة بساعة، فشهوة الجنس عنده هي الغالبة على كل شهوة، ولو نودي للشهوة وهو شديد الجوع شديد العطش لأجاب الأولى وترك الأخيريين، وقد طلب من الصوام ألا يقربوا نساءهم بعد العشاء، لكن بعضهم ومنهم مؤمنون أكابر, غلبهم الأمر عند عدوتهم ليلاً إلى نسائهم، فلم يسخط عليهم سبحانه، ولم يحبط لهم عملاً ولم يضيع لهم إيماناً، فنسخ المنع ومنح الإباحة, مكتفياً سبحانه من عبده بعدم طاعة الشيطان الذي من أسهل إغرائه تحريك النصف البهيمي في الإنسان، وهو أقرب ما يلبى ويجاب سحابة نهار الصوم، فنقل إليهم رسولهم عليه الصلوات قول ربهم: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُم} (البقرة: 187) , فهو سبحانه وإن كان قد أحله متجاوز عما سبق، لكن اعتبره رفثاً كان يجمل أن يعافى إبان المنع، {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنّ} (البقرة: 187) . وهذا التصوير باللباس هو ما قوي الدافع إليه وضعف الصبر عنه، حيث أبيحت الملاصقة أصلاً كما يلصق اللباس الجسد، فلم يرض بعد ذلك سبحانه أن يباعد أو يشدد، {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} {عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} (البقرة: 187) , ومع وجود معنى الذم واضحاً في الآية، وهو أن خيانة وقعت منهم خانوا بها أنفسهم وليس سواهم، لما باشر هؤلاء البعض نساءهم حين المنع الليلي، نقول مع ما فهم من ذم في كلمة (تختانون) , فإن وعد الله باليسر هو الذي كان، فتاب عليكم بل ولم يجعل المنع إلزاماً(15/447)
مستمراً، وعفا عما وقع منكم، والعفو معناه إلغاء العقاب المترتب على الإثم {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} (البقرة: 187) بعد علمنا بما كنتم تختانون، فباشروهن ولا حرج، حتى لا يقع بكم كبت أو عنت، وسداً لأسهل مداخل الشيطان فلا يفسد ما تجنون من بركات الشهر، {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} (البقرة:187) ، أطلبوه يقيناً وعملاً تجدوه عند الله خيراً وأعظم أجراً.
ولكي تتم لكم صورة الصوم الكاملة لطريقة العمل في رمضان ليلاً ونهاراً، فكما أبحنا لكم ملامسة نسائكم يكون نفس الأمر مع الأكل والشرب، فلا تفعلوا شيئاً من ذلك بين الفجر والمغرب، وبين المغرب والفجر افعلوه {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر. ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل} (البقرة: 187) أي بدايته وهو المغرب، لأن (إلى) هنا بدائية [3] وليست نهائية, وتم لكم بذلك كيف يكون الصوم، فإذا قصرتم بعد ذلك فعلى أنفسكم وحدها اللوم.(15/448)
ولما كان الاعتكاف من أحلاف الصوم المشابهة له، لأن المعتكف صائم نهاره قائم ليله، إضافة إلى أنه صام عن كل الدنيا التي هي خارج المسجد، وأنه زهد فيها لما حبس نفسه فيه، وضمن هذه الدنيا التي تركها خلفه زوجته، ولأن الصيام يبيح المباشرة في الليل دون النهار، وحتى لا يظن ذلك أيضاً في الاعتكاف وهو أقرب العبادات إلى الصوم كما قلنا، فأفرد له توضيح خاص به غير ما أبيح في رمضان، وهو منع مباشرة النساء البتة في الاعتكاف ليلاً ونهاراً طول المدة المنْوية {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (البقرة: 187) حيث كان المعتكف يغادر المسجد إلى بيته ليتغشى أهله ثم يعود ليعتكف، فينافي ذلك تبتل الاعتكاف والتفرغ لعبادة الله وقد ذهب إليه في بيته يستجديه رحماته، فإن كان ذلك قد وقع منكم قبل فلا يقع منكم بعد {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} .
فبعد هذه الأحكام المحددة والتشريعات الميسرة، نحذركم من أن تتركوها, أو بزيادة أو نقص تقربوها {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} (البقرة: 187) ، وكلمة (تقربوها) مرهبة حقاً، أي الويل لمن يضيف أو يحيف بأي شيء مهما قل، متعللاً بأن المعنى قريب، أو القصد متقارب، وهكذا مما نسمع الآن من قول ابتدع بعد أن أُتي بالبدع، وتأتي كلمة التقوى في النهاية كما أتت في البداية، ذلك لأن قصة الصوم كلها تقوى، لا يتجمل بها إلا من خشي الرحمن بالغيب، حيث كل العبادات ترى من الله والناس إلا الصوم، فقد تُرى الشفاه مطبقة ولكن الله رآها تتحرك بالمضغ متوارية، فلا يرجى من الصائم غير التقوى {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (البقرة: 187) ، هكذا كان صوام الماضي، اتقوا حتى أذلوا دنياهم ليعزوا أخراهم، فكان لهم من الكريم ما تمنوا.(15/449)
وصائمو اليوم عاديون وليسوا عباديين مع قلتهم، يشاركون الكثرة المفطرة في كثير مما يحبط صومهم، ألسنتهم طول النهار عن ذكر الله صامتة، وفي الغيبة والنميمة ونهش العرض صامدة، عيونهم عن النظر في القرآن والتأمل في عظمة هذه الأكوان غضوها، وفي النظر إلى المحرمات وتتبع العورات أطلقوها، خالطوا المفطرين طوال الليل في مجالس لهوهم ونوادي شياطينهم، فالصوم عندهم ساعات محدودة لا تبتلع فيها لقمة ولا تحتسى فيها جرعة، وبعد ذلك انطلاق مع الهوى بغير حدود، بل وعندما يأمرهم حكامهم الذين يحكمونهم بقوانين الكافرين بأن يفطروا - حتى لا يحول الصوم دون القيام بالعمل - كما حدث من حاكم تونس لقومه، أطاعوه مسارعين إلى الإفطار طاعة للمخلوق في معصية الخالق، بل ومن صائمي اليوم من إذا عُزم عليه من صديق السوء بسيجارة قبلها وضيع صومه أو نفسه من أجلها، بل قد يصل الأمر إلى أن يقبل كأس الخمر بعد أن تسحر ونوى وأصبح صائماً، ذلك لأن بلده الإسلامي غارق في نتن مستنقع من الخمر، بل وتنتجها مصانعها وتصدره لدول إسلامية أخرى، إي نعم، ويصوم صائمو اليوم وهم وهُنّ (بالمايوهات) عراة على شواطئ البحار، تتلاصق أثناء ذلك الأجسام فوق وتحت الماء، بل وتراهم في بلادهم الإسلامية صائمين وألسنتهم لا تكف عن سب الله ودينه ورسوله، إي والله، وليسوا بالقلة ولا بالندرة، وإنما هم بالكثرة التي لا يغيب فحشها عن أذنك طويلاً، أما الزواج في شهر رمضان فسرعان ما يتحول من شهر الصوم إلى (شهر العسل9، وهو إصطلاح مشهور عندهم يبيح للعريس أن يظل في ضيافة الشيطان طول النهار، فلا صوم مع العسل، وغير هذا كثير حيث كان ولا بد من تطوير الصوم بما يتناسب والمدنية والتقدمية، وهم وتاركوا الصوم نهائياً في مرتبة واحدة جهنمية، بل قد يكون صائمو اليوم بالصورة الآنفة عقابهم أشد، لتلاعبهم هكذا بأمر ربهم، أما الفئة التي لا تكاد أن تعرف ممن يصومون على طريقة الماضين من السلف، وهم(15/450)
الآن في عصر فيه الفتن، فهم الغرباء وهنيئاً لهم غربتهم، لأنهم غداً سيكونون أهل الدار.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] وهذا إن صح يكون بالنسبة لبعض أقطار معينة، وليس حكماً شاملاً لجميع المسلمين في كل قطر. التحرير
[2] منهم من قال إن هذا إشارة إلى بداية تشريع الصوم ثم نسخ، ومنهم من قال إن الحكم كما أوضحنا ولم ينسخ.
[3] والذي يظهر- كما هي القاعدة - أن (إلى) غائبة للإتمام؛ لأن الاتمام ينتهي إلى الليل أي إلى أوله وهو أمر ظاهر.. والله أعلم. (التحرير) .(15/451)
التنبيه على خبر باطل في أخبار مكة
لفضيلة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري
الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..
وبعد فقد ذكر الأزرقي في أخبار مكة في باب ما جاء في ذكر بناء قريش الكعبة في الجاهلية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمحو الصور التي في الكعبة سوى صورة مريم وعيسى عليهما السلام. وروى الأزرقي ذلك بأربعة أسانيد كلها ضعيفة فلا يغتر بها ولا يعتمد على شيء منها..
الإسناد الأول: قال: حدثني جدي قال حدثنا مسلم بن خالد الزنجي عن ابن أبي نجيح عن أبيه قال: "جلس رجال من قريش - في المسجد الحرام-.."فذكر خبراً طويلاً في بناء الكعبة, وقال في آخره: "وجعلوا في دعائمها صور الأنبياء وصور الشجر وصور الملائكة، فكان فيها صورة إبراهيم خليل الرحمن شيخ يستقسم بالأزلام، وصورة لعيسى بن مريم وأمه وصور الملائكة عليهم السلام أجمعين, فلما كان يوم فتح مكة دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت فأرسل الفضل بن العباس بن عبد المطلب فجاء بزمزم ثم أمر بثوب فبل بالماء وأمر بطمس تلك الصور فطمست، قال: ووضع كفيه على صورة عيسى بن مريم وأمه عليهما السلام وقال: "أمحوا جميع الصور إلا ما كان تحت يدي" فرفع يديه عن عيسى بن مريم وأمه.
الإسناد الثاني: قال: وحدثني جدي قال حدثنا داود بن عبد الرحمن قال أخبرني بعض الحجبة عن مسافع بن شيبة بن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا شيبة امح كل صورة فيه إلا ما تحت يدي" قال فرفع يده عن عيسى بن مريم وأمه.(15/452)
الإسناد الثالث: قال: حدثني جدي عن سعيد بن سالم قال حدثنا يزيد بن عياض بن جُعدُبة عن ابن شهاب أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة يوم الفتح وفيها صور الملائكة وغيرها فرأى صورة إبراهيم فقال: "قاتلهم الله جعلوه شيخاً يستقسم الأزلام" ثم رأى صورة مريم فوضع يده عليها وقال: "امحوا ما فيها من الصور إلا صورة مريم".
الإسناد الرابع: قال أخبرني محمد بن يحيى عن الثقة عنده عن ابن إسحاق عن حكيم بن عباد بن حنيف وغيره من أهل العلم أن قريشاً كانت قد جعلت في الكعبة صوراً فيها عيسى بن مريم ومريم عليهما السلام، قال ابن شهاب: قالت أسماء بنت شقران امرأة من غسان حجت في حاج العرب فلما رأت صورة مريم في الكعبة قالت: "بأبي وأمي إنك لعربية"، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمحو تلك الصور إلا ما كان من صورة عيسى ومريم.
وهذه الأخبار مردودة من وجوه:
الوجه الأول: ضعف أسانيدها:
أما الخبر الأول فإنه منقطع لأن أبا نجيح لم يدرك زمن الجاهلية ولا زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أدرك آخر زمان الصحابة رضي الله عنهم. والمنقطع لا يثبت به شيء، وأيضاً ففي إسناده مسلم بن خالد الزنجي وقد وثقه ابن معين وضعفه أبو داود وقال أبو حاتم: "إمام في الفقه تعرف وتنكر ليس بذاك القوي يكتب حديثه ولا يحتج بهط، وقال النسائي: "ليس بالقوي"، وهذا مما يزيد الخبر وهناً على وهنه.
وأما الخبر الثاني: فإنه أضعف مما قبله لأمرين: أحدهما: أنه مرسل والمرسل ليس بحجة، والثاني: أن في إسناده رجلاً لم يسم، ومثل هذا لا يثبت به شيء، وقد ذكره البخاري في التاريخ الكبير بدون ذكر الزيادة الباطلة فقال: في ترجمة مسافع بن عبد الله عن شيبة بن عثمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا شيبة امح كل صورة في البيت".(15/453)
وأما الخبر الثالث: فإنه أضعف مما قبله لأمرين: أحدهما أنه مرسل, والثاني: أن في إسناده يزيد بن عياض بن جُعْدُبة - بضم الجيم والدال بينهما مهملة ساكنة -. قال الذهبي في الميزان: قال البخاري وغيره: "منكر الحديث"ووقال يحيى: "ليس بثقة", وقال علي: "ضعيف", ورماه مالك بالكذب, وقال النسائي وغيره: "متروك", وقال الدارقطني: "ضعيف", وروى عباس عن يحيى: "ليس بثقة ضعيف"، وروى يزيد بن الهيثم عن ابن معين:"كان يكذب"، وروى أحمد بن أبي مريم عن ابن معين: "ليس بشيء لا يكتب حديثه".
وأما الخبر الرابع: فإنه ضعيف جداً؛ لأمرين: أحدهما: أنه منقطع، والثاني: أن فيه رجلاً لم يسم، ومثل هذا لا يثبت به شيء.
الوجه الثاني: أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يمحو الصور التي في الكعبة وأنه صلى الله عليه وسلم دخلها وما فيها شيء من الصور، قال الإمام أحمد حدثنا روح - وهو ابن عبادة القبسي - حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب يوم الفتح وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، ولم يدخل البيت حتى محيت كل صورة فيه"إسناده صحيح على شرط الشيخين.(15/454)
وقال الإمام أحمد أيضاً حدثنا عبد الله بن الحارث - وهو ابن عبد الملك المخزومي - عن ابن جريج أخبرني أبو اليزيد أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن الصور التي في البيت، ونهى الرجل الذي يصنع ذلك", وأن النبي صلى الله عليه وسلم "أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه زمن الفتح وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها ولم يدخل البيت حتى محيت كل صورة فيه" إسناده صحيح على شرط مسلم. وقد رواه الإمام أحمد أيضاً بإسنادين أحدهما صحيح والآخر حسن. ورواه أبو داود في سننه والبيهقي من طريقه وإسناده حسن. وفي هذا الحديث رد لما جاء في الأخبار الأربعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمحو الصور التي في الكعبة ولم يستثن شيئاً منها، وفي هذا أبلغ رد على من زعم أنه صلى الله عليه وسلم وضع كفيه على صورة مريم وعيسى وأمر بإبقائها ومحو ما سواها.
وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها وفي هذا رد على ما جاء في خبر أبي نجيح أنه صلى الله عليه وسلم أرسل الفضل بن العباس فجاء بماء زمزم.
الوجه الثالث: ما ذكره الزرقاني على المواهب أنه وقع عند الواقدي في حديث جابر وكان عمر قد ترك صورة إبراهيم فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم رآها فقال: "يا عمر ألم آمرك أن لا تدع فيها صورة، قاتلهم الله جعلوه شيخاً يستقسم بالأزلام". ثم رأى صورة مريم فقال: "امحوا ما فيها من الصور، قاتل الله قوماً يصورون ما لا يخلقون". وهذا ظاهر في شدة إنكاره صلى الله عليه وسلم للصور التي رآها في الكعبة ومنها صورة مريم. ويدل على تشديده في الإنكار ثلاثة أمور: أحدها: إنكاره صلى الله عليه وسلم على عمر رضي الله عنه حير ترك بعض الصور فلم يمحها، والثاني: أمره بمحو الصور بدون استثناء. والثالث: دعاؤه على المصورين.(15/455)
وفي معنى قوله: "قاتلهم اللهُ" أقوال:
أحدها: لعنهم الله قاله ابن عباس رضي الله عنهما واختاره البخاري.
الثاني: قتلهم الله قال ابن جريج.
الثالث: أنه ليس على تحقيق المقاتلة ولكنه بمعنى التعجب حكاه البغوي في تفسيره. قال الراغب الأصفهاني: "والصحيح أن ذلك هو المفاعلة, والمعنى صار يحيث يتصدى لمحاربة الله فإن من قاتل الله فمقتول, ومن غالبه فهو مغلوب"انتهى.
الوجه الرابع: أن تصوير الصور واتخاذها من أعظم المنكرات, وتغيير المنكر واجب بحسب القدرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي ومسلم وأهل السنن من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وفي رواية النسائي: "من رأى منكراً فغيره بيده فقد برئ, ومن لم يستطع أن يغيره بيده فغيره بلسانه فقد برئ، ومن لم يستطع أن يغيره بلسانه فغيره بقلبه فقد برئ وذلك أضعف الإيمان".
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس غيرة على انتهاك المحرمات وأشدهم في إنكار المنكرات وتغييرها, ومن المحال أن يرى المنكر وهو قادر على تغييره فلا يغيره، فضلاً عن أن يأمر بإبقائه, ومن ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببقاء شيء من الصور التي في الكعبة ونهى أن يمحى فقد ظن به ظن السوء.
الوجه الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن التصوير كما في المسند وجامع الترمذي عن جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصور في البيت ونهى الرجل أن يصنع ذلك"قال الترمذي: "حديث حسن صحيح".(15/456)
وروى الإمام أحمد أيضاً والبخاري في تاريخه بأسانيد جيدة عن معاوية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن التصاوير". وما كان النبي صلى الله عليه وسلم لينهى عن التصوير ثم يقر بعضه ويأمر بإبقائه، هذا من أبطل الباطل.
الوجه السادس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على عائشة رضي الله عنها ورأى القرام الذي فيه التصاوير هتكه وتلون وجهه, قالت عائشة رضي الله عنها: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل فلما رآه هتكه وتلون وجهه وقال: "يا عائشة أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذي يضاهون بخلق الله" رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه، وهذا لفظ مسلم. وفي رواية النسائي: "بقرام فيه تصاوير", وفي رواية ابن ماجه: "بستر فيه تصاوير", وفي رواية لمسلم قالت: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليّ وقد سترت غطاء فيه تصاوير فنحاه فاتخذت عنه وسادتين".
وإذا كان التبي صلى الله عليه وسلم قد هتك الستر الذي في بيت عائشة رضي الله عنها من أجل التصاوير، فكيف يظن به أنه يقر التصاوير في بيت الله تعالى ويأمر بإبقائها.
الوجه السابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المصورين وأخبر أنهم أشد الناس عذاباً يوم القيامة كما في حديث أبي جحيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "لعن المصورين" رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذي يضاهون بخلق الله"متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس فتعذبه في جهنم"رواه مسلم.
والأحاديث في الوعيد الشديد للمصورين كثيرة جداً، وقد ذكرتها في (إعلان النكير على المفتونين بالتصوير) فلتراجع هناك.(15/457)
وإذا تأمل طالب العلم ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من لعن المصورين وما ثبت عنه أيضاً من الوعيد الشديد لهم لم يشك في كذب ما جاء في الأخبار الأربعة التي ذكرها الأزرقي في تاريخه وتقدم ذكرها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالف قوله بفعله، ولا يقر المنكر الذي هو من أظلم الظلم ومن كبائر الإثم
الوجه الثامن: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر في عدة أحاديث صحيحة أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة. وروى الإمام أحمد والبخاري والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت فوجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم فقال: صلى الله عليه وسلم: "أما لهم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة هذا إبراهيم مصور فما له يستقسم" وهذا الحديث ظاهر في إنكاره صلى الله عليه وسلم لصورة إبراهيم ومريم حين رآهما في الكعبة. وهذا يرد قول من زعم أنه صلى الله عليه وسلم وضع كفيه على صورة مريم وعيس وأمر بإبقائها ومحو ما سواها، وإذا كانت الملائكة لا تدخل البيت الذي فيه صورة فكيف يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه يقر صورة مريم وعيسى في بيت الله الذي هو أشرف البيوت وأعظمها حرمة ويأمر بإبقائها ومحو ما سواها. هذا من أسوأ الظن وأبطل الباطل.
الوجه التاسع: ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده بإسناد جيد عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة ورأى صوراً, قال: فدعا بدلو من ماء فأتيته به فجعل يمحو ويقول: "قاتل الله قوماً يصورن ما لا يخلقون". وهذا الحديث ظاهر في إنكاره صلى الله عليه وسلم لما رآه من الصور في الكعبة وأنه لم يستثن شيئاً منها. وفي هذا رد على من زعم أنه صلى الله عليه وسلم رضع كفيه على صورة مريم وعيسى وأمر بإبقائها ومحو ما سواها.(15/458)
الوجه العاشر: ما رواه ابن ماجه بإسناد صحيح عن علي رضي الله عنه قال: "صنعت طعاماً فدعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء فرأى في البيت تصاوير فرجع"، ورواه النسائي ولفظه: قال: "صنعت طعاماً فدعوت النبي صلى الله عليه وسلم فجاء فدخل فرأى ستراً فيه تصاوير فخرج وقال: "إن الملائكة لا تدخل بيتاً في تصاوير"، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج من بيت علي وفاطمة رضي الله عنهما وامتنع من أكل طعامهما من أجل الستر الذي فيه التصاويرفكيف يظن به أن يقر صورة مريم وعيسى في الكعبة. لا شك أن هذا مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه الحادي عشر: ما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن إلا ابن ماجه عن أبي هياج الأسدي قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبراً مشرفاً إلا سويته" هذا لفظ إحدى روايات مسلم.
وهذا الحديث الصحيح يدل على أنه يجب طمس الصور أينما وجدت وفي أي شيء كانت. وفيه أبلغ الرد على من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع كفيه على صورة مريم وعيسى وأمر بإبقائها ومحو ما سواها.(15/459)
وأما ما رواه الأزرقي عن جده قال حدثنا داود بن عبد الرحمن عن ابن جريج قال: سأل سليمان بن موسى الشامي عطاء بن أبي رباح وأنا أسمع: أدركت في البيت تمثال مريم وعيسى؟، قال: نعم, أدركت فيها تمثال مريم مزوقاً في حجرها عيسى ابنها قاعداً مزوقاً". قال: "وكانت في البيت أعمدة ست سواري وكان تمثال عيسى ومريم في العمود الذي يلي الباب"، قال ابن جريج: فقلت لعطاء متى هلك؟ قال: "في الحريق في عصر ابن الزبير". قلت: أعلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان؟ قال: "لا أدري, وإني لأظنه قد كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم". قال له سليمان: "أفرأيت تماثيل صور كانت في البيت من طمسها؟ "قال: "لا أدري, غير أني أدركت من تلك الصور اثنين درستا وأراهما والطمس عليهما". قال ابن جريج: "ثم عاودت عطاء بعد حين فخط لي ست سواري ثم قال: "تمثال عيسى وأمه عليهما السلام في الوسط من اللاتي تلين الباب الذي يلينا إذا دخلنا".
ثم قال الأزرقي: حدثني جدي قال حدثنا داود بن عبد الرحمن عن عمرو بن دينار قال: "أدركت في بطن الكعبة قبل أن تهدم تمثال عيس بن مريم وأمه".(15/460)
فجوابه: أن يقال قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها ولم يستثن شيئاً من الصور. وثبت أيضاً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت فوجد فيه صورة إبراهيم وصورة مريم فقال صلى الله عليه وسلم: "أما لهم فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة هذا إبراهيم مصور فما له يستقسم". وثبت أيضاً عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة ورأى صوراً قال: فدعا بدلة من ماء فأتيته به فجعل يمحوها ويقول: "قاتل الله قوماً يصورون ما لا يخلقون". وقد تقدم ذكر هذه الأحاديث الثلاثة قريباً. وتقدم أيضاً ما ذكره الزرقاني على المواهب أنه وقع عند الواقدي في حديث جابر وكان عمر قد ترك صورة إبراهيم فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم رآها فقال: "يا عمر ألم آمرك أن لا تدع بها صورة قاتلهم الله جعلوه شيخاً يستقسم بالأزلام"، ثم رأى صورة مريم فقال: "محوا ما فيها من الصور قاتل الله قوماً يصورون ما لا يخلقون"..
وعلى هذا فيحتمل أن تكون صورة مريم وعيسى محفورة في عمود البيت بحيث لا يذهبهما الغسل بالماء، فلهذا بقيت إلى أن احترق البيت في عهد ابن الزبير، ويحتمل أن تكون مصبوغة بصبغ ثابت لا يذهبه الماء أو أنه قد ذهب بعض الصبغ حين محيت بالماء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبقي منه بقية تظهر منه الصورة. وقد تقدم عن عطاء أنه أدرك أيضاً صورتين من الصور التي كانت في الكعبة وأنهما قد درستا وأنه رأى الطمس عليهما. فلعل صورة مريم وعيسى كانت كذلك. ويحتمل أن يكون قد ألزق عليهم ما يمنع من رؤيتهما فخفيت على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الخلفاء الراشدين وعلى غيرهم من الصحابة ورآها عطاء وعمرو بن دينار بعدما أزيل عنها ما يمنع من رؤيتها.(15/461)
ويحتمل أن يكون بعض النصارى وضعها بعد زمان النبي صلى الله عليه وسلم وبعد زمان الخلفاء الراشدين، ولا سيما في زمن الفتنة التي كانت في زمن يزيد بن معاوية فقد يتسمى بعض النصارى بالإسلام بحيث لا يرد عن دخول مكة ودخول الكعبة فيصور صورة مريم وعيسى ليفتن المسلمين بذلك ويوهمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر صورتهما، ويحتمل أن يكون ذلك من عمل بعض من أسلم من النصارى بعد زمان النبي صلى الله عليه وسلم وزمان الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم والله أعلم.
وليس في بقاء صورة مريم وعيسى في الكعبة بعد زمان النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم لا يقر المنكر ولا يرضى به وقد قال الله تعالى في صفته {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَر} (الأعراف: 157) .
والمقصود هنا أنه لا يجوز أن يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه يقر شيئاً من الصور أو يأمر بإبقائها، ومن ظن ذلك فقد ظن بالنبي صلى الله عليه وسلم ما لا يليق به.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
حمود بن عبد الله التويجري
15/4/1398هـ
تعليق:
ذكر فضيلة الكاتب بعد حديث عمر الذي هو أقوى دليل في الموضوع عدة أحاديث تعارضه وحاول التوفيق بينها وبين حديث عمر بذكر عدة احتمالات، ولكن الذي يبدو أن القارئ لا يقتنع بهذا الصنيع، فترى المجلة أن يعيد فضيلة الكاتب النظر في التوفيق بين تلك الأحاديث التي ظاهرها التعارض.
وبالله التوفيق.(15/462)
مفهوم الربوبية
بقلم سعد ندا
المدرس بالجامعة الإسلامية
(المعهد الثانوي)
الحلقة الأولى
الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئآت أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فقد بدا لي أن موضوع (الربوبية) له أهميته من حيث تعلقه بنقطة البدء في حياة المسلم. والمدخل الوحيد للعقيدة الصحيحة - عقيدة التوحيد - التي يتحتم عليه اعتناقها وتنفيذ متضمناتها والتي لا يقبل الله تعالى منه أي عمل يؤسس على غيرها , وكذلك من حيث أنه لا يُعقل أن يوجه فردٌ ما أي عبادة إلى إله لا يؤمن بوجوده، بل إن العبادات توجه دائماً إلى إله يبدأ العابد بالإقرار به وبصفات كماله المطلقة التي لا تماثلها صفة واحد من خلقه.
ومن ثم برزت عندي أهمية هذا الموضوع, وآثرت أن أدخل في شيء من معالجته بقد ما ييسر الله تعالى لي، خاصة وأن موجة الإلحاد وإنكار وجود الله قد اجتاحت معظم بلاد العالم، وزحفت على شطر ليس بالقليل من قلوب من ينتسبون إلى الإسلام، وخاصة القلوب الغضة التي يحملها بين جنبيه شباب الإسلام الذي تحير فتذبذب بدفعات عنيفة من تيارات الملحدين تارة، والمبتدعين تارة أخرى، حتى أصبح كريش تلعب به هبّات الرياح.
وفي معالجتي لهذا الموضوع، أتناول إن شاء الله بحث: معنى الربوبية, وتوحيد الله تعالى في الربوبية إقراراً وإنكارا وأثر ذلك, وبيان نظرة المنكرين للخالق سبحانه والرد عليهم بالأدلة العقلية والنقلية، ثم علاقة توحيد الربوبية بأقسام التوحيد المختلفة.
ومن الله عز وجل أستمد العون والتوفيق.
معنى الربوبية لغة [1] :
الربوبية مصدر رَبَبَ، ومنه الربّ.(15/463)
والربّ هو الله عز وجل، هو ربُّ كل شيء أي مالكه، وله الربوبية على جميع الخلق لا شريك له، وهو رب الأرباب، ومالك الملوك والأملاك.
ورب كل شيء مالكه ومستحقه، وقيل: صاحبه, ولا يقال الربّ في غير الله إلا بالإضافة: فيقال: فلان ربّ هذا الشيء أي ملكه له. وكل من ملك شيئاً فهو ربه. يقال: هو رب الدابة، ورب الدار، وفلان رب البيت، وهن ربات الحمال.
ويقال: رب مشدد، ورب مخفف.
وأنشد المفضل:
وقد علم الأقوال أن ليس فوقه
رب غير من يعطي الحظوظ ويرزق
وفي حديث أشراط الساعة "وأن تلد الأمة ربها أو ربتها" قيل: الرب يطلق في اللغة على المالك، والسيد والمربي، والقيم، والمنعم، ولا يطلق غير مضاف إلى على الله عز وجل.
وقد أريد به في الحديث المولى أو السيد, يعني أن الأمة تلد لسيدها ولداً فيكون كالمولى لها، لأنه في الحسب كأبيه, أراد أن السبي يكثر، والنعمة تظهر في الناس، فتكثر السراري.
وفي حديث إجابة المؤذن "اللهم رب هذه الدعوة التامة" أي صاحبها، وقيل المتمم لها، والزائد في أهلها والعمل بها والإجابه لها.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه "لا يقل المملوك لسيده: ربي" كره أن يجعل مالكه رباً له لمشاركة الله في الربوبية.
أما في قوله تعالى: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} (يوسف: 42) فإنه خاطبهم على المتعارف عندهم وعلى ما كانوا يسمونهم به.
فأما الحديث في ضالة الإبل "حتى يلقاها ربها"فإن البهائم غير متعدية ولا مخاطبة فهي بمنزلة الأموال التي تجوز إضافة مالكيها إليها، وجعلهم أرباباً لها.
وقوله عز وجل: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} (يوسف: 23) قال الزجاج: "إن العزيز صاحبي أحسن مثواي". قيل: ويجوز أن يكون: الله ربي أحسن مثواي.
وربّه يرُبُّه ربّاً: مَلَكَه.
ومربوب: أي مملوك، أي بيّن الربوبية.
والعباد مربوبون لله عز وجل، أي مملوكين.(15/464)
وربَبْت القوم: سستهم، أي كنت فوقهم.
والعرب تقول: لأن يَرُبَّني فلان أحب إلي من أن يربني فلان, يعني أن يكون رباً فوقي وسيداً يملكني.
ويقول ابن الأنباري: "الرب بنفسه على ثلاثة أقسام:
1 – الربّ: المالك.
2 – والرب: السيد المطاع. يقول تعالى: {فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} (يوسف: 41) أي سيده.
3 – والرب: المصلح.
وربَّ الشيء: إذا أصلحه.
وربَّ ولده والصبي يربه ربّاً وربَّبته تربيباً بمعنى ربَّاه.
وفي الحديث "لك نعمة تربها" أي تحفظها وتراعيها وترببها كما يربي الرجل ولده. وتربّاه: أحسن القيام عليه، ووليَه حتى يفارق الطفولية، كان ابنَه أو لم يكن. والصبي مربوب وربيب، والمربوب هو المربَّى.
معنى الربوبية اصطلاحاً:
الربوبية من الربِّ.
والربّ في الاصطلاح الشرعي: هو السيد، المنعم، الخالق، البارئ، المصور، المالك، الرازق، المعطي، المانع، النافع، الضار، المحي، المميت، المدبر لأمر هذا الكون كله.
توحيد الله تعالى في ربوبيته إقراراً وإنكاراً وأثر ذلك:
معنى توحيد الربوبية:
يقصد بتوحيد الربوبية: أن يقر العبد ويشهد بقلبه ولسانه وجوارحه بأن الله تعالى تفرّد بالربوبية المطلقة وخصائصها من: سيادة وإنعام وإبراء وتصوير وملك ورزق ومنع وإعطاء ونفع وضر وإحياء وإماتة وتدبير محكم بديع لأمر هذا الكون كله أزلاً وأبداً, فلا يشركه أحد من خلقه مهما علا مركزه في هذه الحياة دينا ودنيا في أي من خصائص ربوبيته سبحانه ومن ثم فإن العبد ينبغي عليه أن يعتقد:
1 – بأن الله تعالى هو وحده السيد، فلا سيادة في هذا الكون على الخلق إلا له وحده، وإذا أطلق على الإنسان لفظ (السيد) فذلك من باب التجوز في التعبير، وحتى مع إقراره له، فإن سيادته مقيدة بحدود تناسب ذاته، أما سيادة الله جل وعلا فهي سيادة مطلقة لا حدود لها.(15/465)
2 – وبأن الله تعالى هو وحده الخالق، أي المقدر للأشياء على مقتضى مشيئته، فلا يملك مخلوق ما أن يخلق ذرة ولا حبة ولا شعيرة، لذا يقول تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِه} ِ [2] فهذا استفهام إنكاري يؤكد عجز المخلوق عجزاً كاملاً عن خلق أي شيء, وقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة"أخرجاه, فهذا الحديث يقرر أنّ من يحاول مضاهاة خلق الله بالتصوير شديد الظلم له, شديد العقوبة، إذ أنه يعجز أن يخلق ذرة أو حبة أو شعيرة.
3 – وبأن الله تعالى هو وحده البارئ أي المنشئ للمخلوقات، والموجد لها من العدم - فمن من الخلق هذا الذي يزعم أنه يستطيع أن يبرئ من العدم شيئاً؟ - إنه يستحيل عليه ذلك، بل إنه كثيراً ما يعجز عن أن يصنع أشياء من مواد متجمعة لديه, لكن رب العالمين سبحانه يخلق دون حاجة إلى سبق مواد يخلق منها، ونجد إشارة إلى ذلك في قوله تعالى: {أَوَلا يَذْكُرُ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} ؟ [3] .
4 – وبأن الله تعالى هو وحده المصور لصور خلقه على كثرتهم الكاثرة واختلاف أنواعهم وأشكالهم - وهو وحده - بعد خلقه وتصويره يجعل في مخلوقاته الأرواح التي تحصل بها الحياة.
5 – وبأن الله تعالى هو وحده الرازق، وضمن رزق كل مخلوق لديه، فقال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [4] , وقال جل وعلا: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ, فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [5] .(15/466)
وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [6]ـ فلا يملك مخلوق أن يجري لغيره رزقاً لم يقدره الله تعالى له، ولا أن يمنع عنه رزقاً قدر الله تعالى أن يجريه له.
وبأن الله تعالى هو وحده الذي يعطي خلقه من نعمه ما يشاء، وهو وحده الذي يمنعهم إياها كما يشاء، ولا يملك أيّ مخلوق أن يمنع عطاء الله الذي أراد ولا أن يجري ما أراد سبحانه أن يمسك، يقول تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [7] .
6 – وبأن الله تعالى هو وحده النافع لعباده بما يشاء، والضار لمن يستحق منهم الضر بما يشاء سبحانه.
وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في الحديث القدسي الذي رواه عن ربه عن ابن عباس رضي الله عنهما: "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك, جفت الأقلام وطويت الصحف".
7 – وبأن الله تعالى هو وحده المحبى الذي يقدر أن يمنح الحياة لمن يشاء من خلقه، ويحدد مدة هذه الحياة ونهايتها في أجل معلوم لديه، ولا يملك أي مخلوق أن يمنح حياة لغيره - لم يشأها له الله تعالى - ولو للحظات يسيرة.
8 – وبأن الله تعالى هو وحده المميت، الذي يقدر أن ينهي حياة من يشاء من خلقه فيقضي عليه بالموت, ولا يملك مخلوق ما أن ينهي حياة غيره الذي يُقدر الله له بقيةً من حياة.(15/467)
9 – وبأن الله تعالى هو وحده المدبر لأمر هذا الكون كله، فيصرف شؤونه على وجه حكيم فيه صلاح خلقه، بحيث لا يوجد في هذا التدبير تناقضٌ ولا تنافرٌ، ولا يملك أي مخلوق مهما كان مركزه دنيا ودينا أن يدبر من أمر هذا الكون شيئاً, ويشير إلى هذا قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} (السجدة: 5) [8] .
أهمية هذا الإقرار:
تظهر أهمية الإقرار بتوحيد الربوبية في أنه مقدمة لنتيجة، فإذا أقر العبد أن الله سبحانه تعالى هو الرب المتفرد بالربوبية وخصائصها، استلزم ذلك حتماً أن ينتج عن إقراره هذا إقرار آخر بتفرد الرب جل وعلا في ألوهيته، فيُجَرّد له العبادات جميعاً، ولا يصرف شيئاً منها لسواه، إذ أنه لا يصلح أن يُعْبَد إلا من كان رباً، سيداً, خالقاً, بارئاً, مصوراً, مالكاً, رازقاً, معطياً, مانعاً, محيياً, مميتاً, مدبراً لأمر الكون كله، وما دام أن ذلك جميعه لا يثبت إلا له وحده سبحانه، فوجب أن يكون هو وحده المعبود، الذي لا يصح أن يكون لأحد من خلقه شركة معه في أي شيء من العبادات على اختلاف صورها.(15/468)
ولهذا جرت سنة القرآن الكريم على سوق آيات الربوبية، ثم الخلوص منها إلى الدعوة إلى توحيد الألوهية، فيجعل توحيد الربوبية مدخلاً لتوحيد العبادة للإله الذي لا يستحقها بأنواعها جميعاً سواه, كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ, الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [9] , وكما قال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ..} [10] .
وأما توحيد الإلهية فهو متضمن لتوحيد الربوبية, بمعنى أن توحيد الربوبية داخل في ضمن توحيد الإلهية, فإن من عبد الله وحده ولم يشرك به شيئاً، لا بد أن يكون قد اعتقد أن الله هو ربه ومالكه الذي لا رب له غيره ولا مالك له سواه, فهو يعبده لاعتقاده أن أمره كله بيده، وأنه هو الذي يملك ضره ونفعه, وأن كل ما يُدْعى من دونه فهو لا يملك لعابديه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشورا.
ولا ينفع توحيد الربوبية بدون توحيد الألوهية، كما لا ينفع توحيد الألوهية بدون توحيد الربوبية، فإن من عبد الله وحده ولم يشرك به شيئاً في عبادته، ولكنه اعتقد مع ذلك أن لغير الله تعالى تأثيراً في شيء, أو قدرة على ما لا يقدر عليه إلا الله، أو أنه يملك ضر العباد أو نفعهم ونحو ذلك، فهذا لا تصح عبادته؛ لأن أساسها يجب أن يكون الإيمان بالله ربّاً متفرداً بخصائص الربوبية جميعاً.
الإقرار بتوحيد الربوبية:(15/469)
إن الإقرار بهذا النوع من التوحيد وحده لا يكفي لجعل صاحبه موحداً ينجو بتوحيده من عذاب الله تعالى يوم القيامة الذي أعده لغير الموحدين، وإنما هو مدخل لأنواع التوحيد الأخرى التي بها جميعاً يتحقق النجاة من عذاب الله.
وقد أقر المشركون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوحيد الربوبية، وكذلك أقر به الكفار، إذ كانوا يقرون بأن الله تعالى هو المالك، الخالق, الرازق، النافع، الضار، المحي، المميت، المدبر لأمر هذا الكون, ولكن هذا الإقرار وحده لم يجدهم شيئاً ولم ينقذهم من عذاب الله.
وقد أثبت الله جل وعلا إقرارهم هذا في كتابه، فقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [11] ، وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [12] .
وقال: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [13] .
وقال: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ سَيَقُولُونَ للهِ, قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ, قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ؟ سَيَقُولُونَ للهِ، قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ, قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ سَيَقُولُونَ للهِ، قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [14] .(15/470)
وهذا فرعون مع كفره، وادعائه الربوبية العليا، بل والألوهية المتفردة يقر بربوبية الله تعالى، فيقول سبحانه في حق فرعون حاكياً عن موسى عليه السلام {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [15] .
وهذا إبليس اللعين يعترف بربوبية الله تعالى فيقول: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [16] ، ويقول: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [17] ، ويقول: {إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [18] .
فالكفار والمشركون أقرّوا بأن الله خالقهم، وخالق السموات والأرض وربهن ورب ما فيهما ورازقهم, لهذا احتج عليهم الرسل بقولهم: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [19] .
أثر إقرارهم:
ورغم أن الكفرة والمشركين قد أقروا بتوحيد الربوبية لله تعالى، فإن هذا الإقرار لم ينفعهم شيئاً، ولم يخرجهم من كفرهم وشركهم، ولم يصبحوا بهذا الإقرار موحدين لله جل وعلا.
لقد كانوا يوحدون الله تعالى في ربوبيته، وملكه, وقهره، وكانوا يعبدونه ويخضعون له أنواعاً من العبادات وقت الاضطرار، كما يقول تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلاّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [20] . وكانوا يدّعون أنهم على ملة إبراهيم عليه السلام، فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [21] .
بل كان بعضهم يؤمن بالبعث والحساب، وبعضهم يؤمن بالقدر, كما قال زهير:
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر
ليوم حساب أو يعجل فينتقم
وكما قال عنترة:(15/471)
يا عبل أين من المنية مهرب
إن كان ربي في السماء قضاها
ومع هذا الإيمان، فإن دماءهم وأموالهم فد أبيحت، لإشراكهم في توحيد العبادة الذي هو معنى لا إله إلا الله، ولم ينفعهم إقرارهم بتوحيد الربوبية وحده دون توحيد الله تعالى في عبادته.
ولذلك ما اعترضوا على توحيد الربوبية حين ذكرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كان اعتراضهم وإنكارهم وتعجبهم على دعوته لهم إفراد الله تعالى بالعبادة, وذلك فيما حكاه الله جل وعلا عنهم في قوله: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ, أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً؟ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ! وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ, مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاّ اخْتِلاقٌ} [22] .
فكانت النتيجة لاقتصارهم على هذا لإقرار بالربوبية أنه أبيح قتالهم وعدم رفع السيف عنهم حتى يقروا بشهادة أن لا إله إلا الله تلفظاً، وفهم معنىً, وتنفيذ مقتضى, والكفر بما يعبد من دون الله، إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"، وفيما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله", وقد أجمع العلماء على أن من قال (لا إله إلا الله) ، ولم يعتقد معناها، ولم يعمل بمقتضاها، يقاتل حتى يعمل بما دلت عليه من النفي والإثبات.(15/472)
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنهما لما قاتل مانعي الزكاة: "كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله", فقال أبو بكر رضي الله عنه: "والله لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه". فقال عمر رضي الله عنه: "فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق". لفظ مسلم.(15/473)
فأبو بكر رضي الله عنه فهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد مجرد اللفظ بقول (لا إله إلا الله) باللسان فحسب دون التزام بمعناها وأحكامها. وقد سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله عن قتال التتار مع التمسك بالشهادتين، ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام فقال [23] : "كل طائفة ممتنعة من التزام شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم أو غيرهم، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة وعلى ذلك اتفق العلماء بعدهم. فأيما طائفة ممتنعة عن بعض الصلوات المفروضات أو الصيام, أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، أو الأموال أو الخمر, وأو الميسر أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها، التي يكفر الواحد بجحودها فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها. وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء، وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة، بل هو خارجون على الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة".
أما ما ورد في حديث "أمرت أن أقاتل الناس ... "من قوله: "وحسابهم على الله " [24] أي أن تبارك وتعالى هو الذي يتولى حساب هذا الذي يشهد بلسانه بهذه الشهادة، فإن كان صادقاً جازاه بجنات النعيم، وإن كان منافقاً عذبه العذاب الأليم.
وأما في الدنيا فالحكم على الظاهر، فمن أتي بالتوحيد، ولم يأت بما ينافيه ظاهراً والتزام شرائع الإسلام، وجب الكف عنه.
يخلص من ذلك أن الاقتصار على توحيد الربوبية من باب أولى لا أثر له في عصمة الدم والمال.
--------------------------------------------------------------------------------(15/474)
[1] لسان العرب المحيط في معنى كلمة (ربب) .
[2] سورة لقمان آية 11.
[3] سورة مريم آية 67.
[4] سورة هود آية 6.
[5] سورة الذاريات آية 22-23.
[6] سورة الذاريات آية 58.
[7] سورة فاطر آية 2.
[8] سورة السجدة آية 5.
[9] سورة البقرة آية 21،22.
[10] سورة النمل آية 60،64.
[11] سورة الزخرف آية 87.
[12] سورة الزخرف آية 9.
[13] سورة يونس آية 31.
[14] سورة المؤمنون آية 84.
[15] سورة الإسراء آية 102.
[16] سورة الحجر آية 36.
[17] سورة الحجر آية 39.
[18] سورة الحشر آية 16.
[19] سورة النحل آية 17.
[20] سورة لقمان آية 32.
[21] سورة آل عمران آية67.
[22] سورة ص آية 4،5،6،7.
[23] فتح المجيد ص92،93.
[24] المرجع السابق ص 91.(15/475)
العبادة في الإسلام
بقلم أحمد عبد الرحيم السايح
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ, مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ, إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} .. [1]
فهذه الآية الكريمة.. تحدد غاية الخلق.. كما تبين الحكمة الشرعية الدينية من خلق الجن والإنس, والتي هي وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، وإفراده بتلك العبادات.
والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. [2]
وأصل العبادة: التذلل والخضوع.. وسميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات لأنهم يلتزمونها ويفعلونها، خاضعين متذللين لله تعالى. [3]
والعبادة في اللغة من الذلة.. يقال: طريق معبد, أي: مذلل. وفي الشرع: عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف [4] . .
والعبادة في الإسلام.. تؤكد إقرار المرء إقراراً كاملاً بقلبه وجوارحه، وخضوعه خضوعاً مطلقاً، يطفى على كل خضوع, لله الخالق الباقي من وراء كل وجو د زائل [5] ..
ويقوم التصور الإسلامي على أن هناك ألوهية وعبودية.. ألوهية يتفرد بها الله سبحانه.. وعبودية يشترك فيها كل من عداه، وكل ما عداه..
وكما يتفرد الله سبحانه بالألوهية.. كذلك يتفرد تبعاً لذلك بكل خصائص الألوهية.. وكما يشترك كل حي، وكل شيء بعد ذلك في العبودية، كذلك يتجرد كل حي وكل شيء من خصائص الألوهية..
فهناك إذن وجودان متميزان: وجود الله، ووجود ما عداه من عبيد الله, والعلاقة بين الوجودين هي علاقة الخالق بالخلق والإله بالعبيد [6] . .(15/476)
والله سبحانه وتعالى لم يخلق الإنسان في هذا الكون.. ليعبث أو يلهو أو يلعب، أو ليتمرد على الإنسانية.. ولم يخلق الله الإنسان ليطغى ويتمرّغ في وحل الإلحاد.. ولم يخلق الله الإنسان ليعيش في أحضان الجهل والتبعية العمياء.. قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا ل اتُرْجَعُونَ} [7] .. وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ, الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيز ُ الْغَفُورُ} [8] ..
فالإنسان خلقه الله وركب فيه ما ركب من قوى الإدراك والعلم والفهم والتفكير والعمل.. ليكون خليفة في الأرض.. والخلافة في الأرض ليست مجرد الملك والرياسة والقهر والغلبة.. وليس البطش بالأبرياء والزج بهم في المعتقلات وسجون التعذيب.. وليست سفكاً للدماء، وقطعاً لرءوس المؤمنين.. ولا هي كذلك دعوة إلى الإلحاد وعباد ة الطواغيت [9] .. ولا هي التسلط على الناس والتحكم فيهم بغير ما أنزل الله..
إذن هي القيام بمسؤلية التكليف. والتكليف حجة على المكلفين فيما يعينهم من أمر الأرض والسماء، ومن أمر أنفسهم ومن أمر خالقهم وخالق الأرض والسماء.. وهي أداء رسالة الإسلام، وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للإنسانية, قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُم ْ تَتَّقُونَ} [10] ..
والخلافة في الإسلام حقيقة ضخمة، تستغرق النشاط الإنساني كله.. وتوجه النشاط الإنساني كله..(15/477)
فهي قدرة على التفوق العلمي.. وقدرة على مواجهة التحديات الشركية, وقدرة على الصمود أمام الأحداث.. وقدرة على محارة الإلحاد والأحزاب الحمراء.. وقدرة على تحقيق الطمأنينة والأمن والعدل والخير والسلام..
"وإن النظرة القرآنية تجعل هذا الإنسان بخلافته في الأرض عاملاً مهما في نظام الكون.. ملحوظاً في هذا النظام.. فخلافته في الأرض تتعلق بارتباطات شتى مع السموات, ومع الرياح, ومع الأمطار, ومع الشموس والكواكب، وكلها ملحوظ في تصميمها إمكان قيام الحياة على الأرض، وإمكان قيام الإنسان بالخلافة، فأين هذا المكان الملحوظ، ومن ذلك الدور الذليل الذي تخصصه له المذاهب المادية، ولا تسمح له أن يتعداه [11] .
والإنسان أعز وأكرم وأغلى من كل شيء مادي، ومن كل قيمة مادية في هذه الأرض جميعاً. ولا يجوز إذن أن يستعبد أو يستذل لقاء توفير قيمة مادية، أو شيء مادي. ولا يجوز أن يتعدى على أي مقوم من مقومات إنسانيته الكريمة. ولا أن تهدر أية قيمة من قيمه لقاء تحقيق أي كسب مادي أو إنتاج أي شيء مادي أو تكثير أي عنصر مادي..
فهذه الماديات كلها مصنوعة من أجله, من أجل تحقيق إنسانيته، من أجل تقرير وجوده الإنساني.. فلا يجوز أن يكون ثمنها هو سلب قيمة من قيمه الإنسانية، أو نقص مقوم من مقومات كرامته.. [12] .
والإنسان أكرمه الله بالعبادة، وأمره بها ليكون صالحاً مصلحاً، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [13] . .
وإذا كانت العبادة غاية الوجود الإنساني, كما هي غاية كل وجود, فإن مفهومها لا يقتصر على المعنى الخاص الذي يرد إلى الذهن، والذي يضيق نطاقها، حتى يجعلها محصورة بأنواع الشعائر الخاصة التي يؤديها المؤمن، إن حقيقة العبادة تبدو في معنيين.. أولهما عام, والأخر خاص..(15/478)
أما العبادة بالمعنى العام. . فإنها تعني السير في الحياة ابتغاء رضوان الله، وفق شريعة الله. فكل عمل يقصد به وجه الله تعالى، والقيام بأداء حق الناس استجابة لطلب الله تعالى بإصلاح الأرض ومنع الفساد فيها، يعد عبادة, وهكذا تتحول أعمال الإنسان مهما حققت له من نفع دنيوي إلى عبادة إذا قصد بها رضاء الله [14] .
فالعبادة ما تكاد تستقر حقيقتها في قلب المسلم، حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وحركة وبناء.
عبادة تستغرق نشاط المسلم.. بخواطر نفسه، وخلجات قلبه، وأشواق روحه، وميول فطرته، وحركات جسمه، ولفتات جوارحه، وسلوكه مع الناس..
وبه ذا الاستغراق، وهذا الشمول يتحقق معنى الخلافة في الأرض في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأََرْضِ خَلِيفَةً..} [15] .
لأن الخلافة في الأرض هي عمل هذا الكائن الإنساني.. وهي تقتضي ألواناً من النشاط الحيوي في عمارة الأرض والتعرف إلى قواها وطاقاتها وذخائرها ومكنوناتها، وتحقيق إرادة الله في استخدامها وتنميقها، وترقية الحياة فيها.. كما تقتضي الخلافة القيام على شريعة الله في الأرض، لتحقيق المنهج الإلهي الذي يتناسق مع الناموس الكوني العام..
ومن ثم يتجلى أن معنى العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني، أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى.. أوسع وأشمل من مجرد الشعائر, وأن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعاً..
وإن حقيقة العبادة تتمثل إذن في أمرين رئيسيين:
الأول: هو استقرار معنى العبودية لله في النفس, أي استقرار الشعور على أن هناك عبداً ورباً.. عبداً يُعبد.. ورباً يُعبد.. وأن ليس وراء ذلك شيء, وأن ليس هناك إلا هذا الوضع، وهذا الاعتبار, ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود، وإلا رب واحد، والكل له عبيد..(15/479)
الثاني: هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير، وكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الحياة.. التوجه بها إلى الله خالصة، والتجرد من كل شعور آخر, ومن كل معنى غير معنى التعبد لله..
بهذا وذلك يتحقق معنى العبادة.
قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [16] , والعبادة هي العبودية المطلقة، معنى وحقيقة.. وكل ما يأتي به المسلم في طاعة الله فهو عبادة لذا كانت جملة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ..} كلية اعتقادية.. فلا عبادة إلا لله, ولا استعانة إلا بالله..
وفي هذا مفرق طريق.. مفرق طريق بين التحرر المطلق من كل عبودية، وبين العبودية المطلقة للعبيد.
وهذه الكلية تعلن ميلاد التحرر البشري الكامل الشامل.. التحرر من عبودية الأوهام، والتحرر من عبودية النظم، والتحرر من عبودية الأوضاع.. وإذا كان الله وحده هو الذي يعبد، والله وحده هو الذي يستعان فقد تخلص العبد من استذلال النظم والأوضاع والأشخاص, كما تخلص من استذلال الأساطير والأوهام والخرافات [17] .
أما العبادة بالمعنى الخاص: فهي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً.. وهي نوع من التربية على العبادة الكامل ة الحقة [18] ..
ففرائض الإسلام تخاطب كل الجوانب في الإنسانية، وتفي بكل الحاجات، وتصحح كل الاتجاهات..
ومن وراء كل ذلك.. نجد أن العبادات في الإسلام تدعو إلى الوحدة والجماعة، وهي أساس لوحدة التفكير، ووحدة المفاهيم الأساسية في الحياة, بل ووحدة القيم، والمقاييس الخلقية، والنظر إلى الخير والشر، والفضائل والرذائل.. وقواعد السلوك.. [19] .
والعبادات في الإسلام تنتهي إلى نتيجتين:
أولاهما: الاتجاه إلى تربية الوجدان الديني الذي يجعل المؤمن بالإسلام مؤتلفاً مع غيره، ليتكون من هذا الائتلاف مجتمع إنساني متواد متحاب..(15/480)
والثانية: أن غاية العبادات في الإسلام ليست مجرد التقوى السلبية، لأنه تتجه إلى النفع الإنساني العام، وإلى إيجاد مجتمع متحاب، غير متباغض ولا متنازع.. فعلاقة الإخلاص لله فيها أن تكون مطهرة للقلب, قاضية على الشرفية، مؤلفة بينه وبين الناس من غير مراءة ول امغالاة [20] ..
ويود أن يدرك المسلمون حقيقة العبادة في الإسلام.. ويوم أن يقتنع المسلمون بأن الإسلام هو المنهج الأمثل.. ويوم أن تكون الفرائض الإسلامية عملاً بناء.. لا حركات تؤدى.. ويوم أن تكون (لا إله إلا الله) المنطلق الوحيد للمسلمين.. يومها وبكل تأكيد سوف يتحقق للمسلمين بإذن الله تعالى نجاح رائع في كل نواحي الحياة..
والله ولي التوفيق..
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة الذاريات الآيات: 56،57،58.
[2] كلام ابن تيمية. انظر في ذلك كتاب تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد ص 30 للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب. مكتبة الرياض الحديثة.
[3] اجع تفسير القرطبي لسورة الذاريات الآية رقم 56.
[4] فسير القرآن العظيم للإمام ابن كثير.. المجلد الرابع.
[5] عالم الثقافة الإسلامية، للدكتور عبد الكريم عثمان، ص147 الطبعة الثالثة, الناشر: مؤسسة الأنوار بالرياض.
[6] صائص التصور الإسلامي. سيد قطب ص 215 طبع دار الشروق.
[7] ورة المؤمنون الآية 115.
[8] ورة الملك, الآيتان الأولى والثانية.
[9] ال ابن القيم: "الطاغوت ما تجاور به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة الله، فهذه طواغيت العالم..".
[10] ورة الأنعام الآية رقم 153.(15/481)
[11] ظر: تفسير "في ظلال القرآن"للشهيد سيد قطب. المجلد الأول ص 71 الطبعة الرابعة. الدار العربية للطباعة والنشر. بيروت.
[12] ي ظلال القرآن المجلد الأول 70.
[13] ورة الأنعام الآيتان 162،163.
[14] عالم الثقافة الإسلامية. الدكتور عبد الكريم عثمان. ص 148.
[15] ورة البقرة. جزء من الآية رقم 30.
[16] ورة الفاتحة.
[17] ي ظلال القرآن المجلد الأول ص 19.
[18] مبادئ الإسلام. للأستاذ أبو الأعلى المودودي ص 94.
[19] من وحي السماء لأحمد عبد الرحيم السايح ص46،47 الطبعة الأولى القاهرة.
[20] لمجتمع الإسلامي في ظل الإسلام للشيخ العلامة محمد أبو زهرة ص 96.. القاهرة.(15/482)
العدد 42
فهرس المحتويات
1- كلمة العدد من المسئول عن هؤلاء الضائعين: لفضيلة الأستاذ محمد المجذوب
2- من منافع الحج وفوائده: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
3- {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ} : لفضيلة الشيخ أبي بكر جابر الجزائري
4- تفسير آية من كتاب الله: لفضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي
5- المفهوم الصحيح للتوسل على ضوء السنة: لفضيلة الأستاذ حماد بن محمد الأنصاري
6- تصحيح المفاهيم في جوانب العقيدة: لفضيلة الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
7- مفهوم الربوبية (الحلقة الثانية) : بقلم سعد ندا
8- وصايا للحجاج والزوار: لسماحة الشيح عبد العزيز بن باز
9- الحج عرفة: لفضيلة الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
10- هذا هو الطريق: لفضيلة الشيخ أبي بكر جابر الجزائري
11- أثر الحج في النفس والمجتمع: للدكتور عبد الرحمن بله علي
12- خمسة أحكام للحج في آية واحدة: للدكتور عبد الفتاح عاشور
13- الذبائح في مناسك الحج مصادرها ومصارفها: للدكتور أحمد علي طه ريان
14- تأملات في فريضة الحج: بقلم محمد السيد الوكيل
15- ما أدخلته الشيعة في التاريخ الإسلامي: بقلم فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله المحيسن
16- مسئولية التعليم - المنهج بين الماضي والحاضر: بقلم عبد الله قادري
17- قبس من بلاغة الفاروق رضي الله عنه: بقلم الدكتور علي البدري
18- من قيم الإسلام - "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق": بقلم الدكتور عز الدين على السيد
19- آيات الله في الكون: لفضيلة الشيخ أحمد عبد الرحيم السايح
20- مولد رمضان: للشاعر السوري محمد منذر لطفي
21- صحيح المقال في مسألة شد الرحال: بقلم حمود بن عبد الله التوريجرى
22- أحكام يرفضها التحقيق حول إبراهيم عليه السلام والبيت العتيق: لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
23- تعقيب على تعقيب: للشيخ محمدالمجذوب
24- سؤال وجواب: لفضيلة الشيخ عبد العزيز الربيعان
25- الأنفلونزا والكوليرا: بقلم الدكتور حسين كامل طه
26- المؤتمر العالمي بلندن عن حياة المسيح عليه السلام: ترتيب: عبد الرشيد أرشد ترجمة: محمد لقمان
27- كلا.. ليسوا مسلمين..
28- أول مؤتمر يبحث عن قضايا المدارس الإسلامية في الهند حوالي 1952 من المندوبين والعلماء اشتركوا في المؤتمر: نور الحق الرحماني
29- من أعماق الكتب من كتاب زاد المعاد: للإمام ابن القيم
30- من كتاب دور المساجد التاريخي في التثقيف العلمي: تأليف محمد الشاذلي الخولي
31- الفتاوى: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
32- مختارات من الصحف
33- لائحة الامتحانا في كليات الجامعة الاسلامية
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(15/483)
كلمة العدد
من المسؤول عن هؤلاء الضائعين
أسرة التحرير
في طريقنا إلى الفلبين كان لابد لنا من الهبوط في بومباي لتغير الطائرة، وكان علينا أن نقضي معظم الليل في ردهة المطار بانتظار موعد الطائرة التي ستقلنا إلى مدراس.. وبينما أنا أغالب إغفاءة خفيفة أخذ سمعي دوي بعيد ترافقه ضجة موزونة ثم ما زال يقترب شيئاً فشيئاً حتى انجلى لنا عن موكب يضم قرابة العشرين رجلاً، كلهم من العرق الأوربي في الأبيض البشرة، الأزرق العيون، الفارع الهيكل. كان أحدهم حدثاً لا يتجاوز الخامسة عشرة، وبينهم واحد في سحنة الهنود.
وقد استرعى انتباهي من هؤلاء أزياؤهم الغريبة، فهي عبارة عن سراويلات فصلت على الطريقة الباكستانية، وفوقها قمص تنسدل إلى الركب. وكانت رؤوسهم حليقة كلها. إلا امتداداً كذيل الثعلب، يبدأ من وسط الرأس ثم يتدلى إلى مؤخرة الرقبة.
كان بعض هؤلاء يحمل طبولاً على شكل اسطواني، ينتهي طرفاه بفتحتين ضيقتين ألصقت بهما قطعتان من الجلد عليهما يضرب حاملوها..
وينطلق الجميع في أناشيد محفوظة يكررونها وهم يترنحون في انتظام، وكلما انتهوا إلى فقرة منها معينة قفزوا معاً إلى الأعلى، تم يعودون إلى اهتزازاتهم الأولى..
وهكذا جعلوا يبدئون ويعيدون حتى نال منهم الإرهاق، وجعلت أصواتهم تخفت من التعب.. فإذا مما استعادوا بعض قدرتهم أعادوا العمل ضرباً وترنحاً وقفزاً وإنشاداً..(15/484)
لم أستطع بادي الرأي تفسير عملهم.. وخطر في بالي أنهم مجموعة من الضائعين الذين يتكاثرون هذه الأيام في الشوارع أوربة وحواضر أمريكة، قد أقبلوا على الشرق في سياحة ترفيهية، فهم يجوبون شوارع بومباي على هذا الوضع، إعراباً على تمردهم على الحضارة الغربية، التي أعطت الإنسان الغربي كل وسائل الرفاه. وسلبته مقابل ذلك كل أسباب الطمأنينة. إلا أني لم ألبث أن هديت إلى تفسير الصحيح حين أقبل رفيق رحلتي الدكتور ف. عبد الرحيم، فبين لي أن هؤلاء نموذج لكثيرين من الغربيين الذين فرغت قلوبهم من سكينة الإيمان فراحوا يهيمون على وجوههم، حتى احتضنهم دعاة الوثنية الهندية، فاعتنقوا بعض مذاهبها، ثم جاءوا إلى الهند ليمارسوا شعائر دياناتهم الجديدة على النحو الذي ترى.. فهم يؤدون هذه الحركات داخل المعابد، ولعلهم يريدون من إجرائها في الشوارع تذكير الناس بها ودعوتهم إلى إحيائها..
وسرعان ما وجدتني مشدوداً بما شاهدته من هذه الغرائب إلى التأمل في ما وراءها من عبر وأحداث:
لقد وثبت بي الذاكرة إلى منظر الطرقيين في العديد من ديار المسلمين، وقد تحلقوا حول (الراقص المولوى) يعزفون له ويقرعون وينشدون، وراح هذا يدور في وسطهم على قدم واحدة، كخذروف الوليد، وقد انفتحت (تنورته) الواسعة حتى أشبهت مظلة الطيار الهابط من الأعالي..
ثم تتابعت على الرؤى حتى وقفت بخيالي على واحدة منها لم تزل تعمل عملها في صدور الغافلين.. إنها صورة هؤلاء الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً فكان من بين مبتدعاتهم تلك الحلقات الأخرى، التي يتوسطها (قائد السيرك) فتأخذ في التمايل وفق إشارته، وقد تصاعدت من صدورها همهمات تبدأ واضحة باسم الله، ثم ما تنفك تتغلغل في الغموض حتى تستحيل زفيراً وشهيقاً لا مفهوم له، ثم لا تفتر ولا تهدأ إلى أن يأخذها الإرهاق، الذي يأخذ هؤلاء الراقصين في ردهة مطار بومباي..(15/485)
فمن هنا إذن.. من رقصات الهنادك والبوذيين لآلهتهم، قد تسرب هذا الرقص الطرقي، الذي يسميه المضللون والمضللون في بلاد المسلمين (حلقات الذاكرين) !..
ثم ألفيتني أتساءل: هذا الجيل المتمرد على حضارة المادة والشهوات، وعلى تعاليم الكنيسة، بعد أن تمردت الكنيسة نفسها على وحي الله، حتى صارت تعاليمها مجموعة من مقرات رجال الدين..
هذا الجيل الذي تتخطفه البوذية والبرهمية والهيبية.. وو.. لماذا أغفله دعاة الإسلام، فلم يفتحوا أعينه على نور ربه؟ أليس الإسلام هو خاتم رسالات الله إلى عباده؟ ..
فمن المسئول عن تبليغهم حقائقه، إذا لم يقم المسلمون من أولى العلم وهذه المهمة؟.
ولا حول ولا قوة إلا بالله!..
محمد المجذوب(15/486)
هذا هو الطريق
لفضيلة الشيخ أبي بكر جابر الجزائري
عضو هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية
بين يدي الطريق أستعرض مع السالكين الواقع الذي يعيشه المسلمون اليوم، ليعلموا مدى الحجة الماسة إلى سلوك هذا الطريق، وأنه لا خيار لهم في ذلك متى أرادوا النجاة لأنفسهم، وللأجيال الآتية بعدهم.
إن المسلمين اليوم - دويلات كبيرة أو صغيرة، وأقليات كثيرة أو قليلة - يعيشون واقعاً مراً لا يغبطون فيه، ولا يحسدون عليه.
وهذه لمحات خاطفة نلقيها على هذا الواقع المر ونكتفي بها عن الاستعراض الشامل، والعرض التفصيلي الذي لا يزيد القلب إلا كمداً وحزناً، والنفس إلا ألماً وحسرة.
1 - في بلاد العرب:
إن العرب وهم الذين قد اختير آباؤهم السالفون لحمل رسالة الإسلام، وإبلاغها إلى الناس كافة، لينجوا بها، ويسعدوا عليها، وفعلاً فقد حملوها وبلغوها، ونجت بها، وسعدت عليها أمم كثيرة، ولا ينكر هذا إلا جاهل، أو مكابر، جاحد.
لكن هؤلاء العرب الأحفاد قد مزقتهم الأهواء، وعبثت بهم أيدي الأعداء، فتمكن منهم الحانقون على الإسلام، الناقمون منه من كل قوى الشر في الأرض، فسلخوهم من الإسلام، وأبعدوهم عن ساحته، وقد كان درعهم الواقي، وحصنهم المنيع، ومصدر قوتهم الروحية والمادية معاً، فتنكروا - مع الأسف- له، وأصبحوا حرباً عليه من حدثهم عنه ازدروه واحتقروه، ومن دعاهم إليه أخافوه، وعذبوه أحياناً، ونكلوا به.
تقاسمت هؤلاء العرب الأحفاد - الأهواء، ومزقتهم الشهوات، فتفرقوا أيادي سبأ، فأصبحوا لذلك سخرة لأعداء الإسلام وأعداءهم، يسخرونهم كما شاءوا، ولما شاءوا، حتى قال قائل [1] منهم مؤخراً:"يجب أن نحافظ على توازن النفوذين الأمريكي والروسي في المنطقة "أي في بلاد العرب، فيا للعجب! ! !(15/487)
إن معنى هذا القول من هذا المسئول هو بلا شك مساعدة العرب عدوهم على التمكين، له في بلادهم، ومعنى آخر لهذا القول هو مساعدة العدو على احتلال الدار، وبقاء العار، وسبحان الله! ماذا أصاب العرب، وماذا حل بديارهم من ذل، وهون، ودون؟ ! !
إن العرب الذين كانوا بالأمس القريب مثال العز، والكرامة، والمروءة، والشهامة أصبحوا اليوم أمثلة للمذلة، والمهانة، وأصبحت ديارهم التي كانت بالأمس حصوناً منيعة، وقلاعاً رفيعة لا تنالها أيدي الأعداء، ولا يدخلها من لا نأذن له ولا نشاء. أصبحت ساحات لتحارب النظريات وحقولاً لزرع فنون الخبث والعبث، ومباءات لألوان الهون والدون، والفسق والمجون، آه، ثم آه..
إن القلب ليذوب كمداً، وإن النفس لتذهب حسرات عندما نرى هذا ونرى فسلطين أرض قدسنا، ومعقل عزنا، وبها كرائمنا، وفلذات أكبادنا، تدنس برجس الصهاينة اليهود، وتجلل بعار احتلالهم لها، وبخزي انتصارهم على العروبة فيها.
وآه، ثم آه ... أن القلوب لتذوب كمداً وإن النفوس لتذهب حسرات عندما نرى طائفة تمرق منا فتقتطع جزءاً غالياً من جنوب جزيرة إيماننا، ومدار عزنا وكمالنا، وتحوله دار كفر وعدوان، بعد أن كان دار إيمان وإسلام، ثم تجعله - يا للمصيبة - حصناً لأعدائنا وقلعة في أيدي خصومنا، لإذلالنا وتهديد بلادنا، لتدميرها والقضاء عليها، أه، ثم آه.. ماذا دهى العروبة والإسلام، وماذا حل بساحتهما، ونزل بديارهما؟ ؟ ؟(15/488)
إن القلب ليتقطع، والنفس لتتمزق عندما نشاهد رجال مغرب العروبة والإسلام تهدر دماؤهم وتزهق أرواحهم، وتبدد أموالهم، وكل طاقاتهم إرضاء لأطماع الشيوعية البغيضة، التي تريد أن تقتطع من صحراء العروبة والإسلام قطعة كبيرة كقطعة عدن، من جنوب اليمن فتتخذها مركزاً لإدارة الفتن، وقلعة لتهديد أمننا وإيماننا، ثم القضاء على سلامتنا وإسلامنا.. آه، ثم آه! ! ! ماذا أصابنا، وماذا نزل بديارنا حتى أصبحنا خناجر في أيدي أعداء ديننا، وخصوم عقيدتنا يقتلوننا بها، وهم جالسون على أرائكهم آمنون في ديارهم ...
آه، ثم آه.. إن القلب ليذوب كمداً، وإن النفس لتذهب حسرات عندما نشاهد ونرى إخواننا من فلسطيننا ولبناننا يقتلون ويذبحون في مجزرة رهيبة دامت قرابة نصف عقد من السنين يستصرخون فلا يصرخون، ويستغيثون فلا يغاثون حيث عجزت جيوش قرابة عشرين دولة عربية إسلامية عن إنقاذهم، وإطفاء نار الفتنة في ديارهم. ووالله لو كان العرب كما يريد الإسلام أن يكونوا لما دامت محنة لبنان ثلاثة أيام، وذلك بتحويل قوة الردع إلى قوة فتح، ولاحتلت لبنان في ثلاثة أيام، ولألقي القبض على كل عناصر الشر بها، وضرب على أيديهم ولو بالقضاء عليهم، وإن غضب اليهود أو تحركوا جعل من لبنان مجزرة ومقبرة لهم، فيها يجزرون، ويقبرون، ولا يبعثون إلى يوم ينشرون.
ولكن العرب قومنا وإخواننا هداهم الله قد أخطأوا الطريق، طريق الإيمان الذي به يأمنون ويعزون، وضلوا السبيل سبيل الإسلام الذي به يسلمون وينتصرون. وهم مع هذا يا للأسف يحسبون أنهم مهتدون. فمن يهديهم من بعد الله! !(15/489)
إنه قد أصبح من غير السهل أفهامهم، فضلاً عن إقناعهم بأن ما هم عليه ليس من الهدى في شيء، وأن كل يوم يمضي على اقتناعهم بواقعهم، ورضاهم به يخسر فيه الإسلام والمسلمون بل العالم أجمع كل فرصة للخلاص من هوة الشر والفساد، التي تردى فيها أكثر المسلمين والناس أجمعون، وأنه لا منقذ لهم ولا للعالم كله إلا الإسلام، ولا نجاة لهم ولا لغيرهم من بني الناس من خسران الدنيا والآخرة إلا بالإسلام لله رب العالمين.
2- في بلاد العجم:
إن بلاد المسلمين العجم هي أوسع مساحة من بلاد العرب، وشعوبها أكثر عدداً من شعوب العرب، قد أصيبت هي التالية بما أصيبت به بلاد العرب وشعوب العرب، فبالأمس البعيد قد خسر الإسلام دار الخلافة وشعبها على أيدي عصابة مارقة من أبنائها. وبالأمس القريب فقد فقدت دولة الإسلام الكبرى باكستان نصفها حيث شطرها العدو المزدوج [2] إلى شطرين. ومنذ أشهر قليلة قد سقطت أكبر قلعة للإسلام في بلاد العجم وهي أفغانستان بلاد الأبطال والشجعان حيث هدت أركانها على أيدي عصابة مارقة من أبنائها من أبنائها من عملاء الشيوعية صنيعة ولعبة اليهودية العالمية.
ولم يكن كل هذا الذي أصاب ديار العرب والمسلمين إلا نتيجة طبيعية لإعراض العرب والمسلمين عن الإسلام وبعدهم عنه ورضاهم بالحياة خالية منه، بعيدة عن شرائعه وقوانينه التي هي مصادر القوة والخير، وينابيع الرحمة والعدل في الأرض.
والتعليل المنطقي لهذا الذي أصاب المسلمين في ديارهم وعقولهم وعقائدهم هو أن خصوم الإسلام ما فتئوا منذ أن كان الإسلام وهم يكيدون له، ويحاربونه في الظاهر والباطن حتى تمكنوا منه وضربوه حتى كادوا يقضون عليه. وباختصار القول: إن كل ما أصاب الإسلام والمسلمين إنما هو من كيد أعداء الإسلام والمسلمين ومكرهم، وحربهم الباردة والساخنة والمستمرة على الإسلام والمسلمين، إلى كتابة هذه الكلمات وستستمر إلى ما شاء الله تعالى.(15/490)
ومن عجب أن المسلمين كلهم أو جلهم يعلمون هذه الحقيقة، ويصرحون بها، فيقولون إن أعداء الإسلام هم الذين فرقوا المسلمين، وأضعفوهم وأبعدوهم عن الإسلام مصدر وحدتهم وقوتهم، ثم هم لا يحاولون حتى مجرد محاولة أن يخرجوا من هذه الوضعية السيئة، التي وضعهم فيها خصومهم، وأعداء معتقدهم ووجودهم حتى لكأنهم مسحورون أو شبه مسحورين.
وبالجملة فإن المسلمين من غير العرب كالمسلمين من العرب في كل أوضاعهم، وسائر أحوالهم، لا يختلف بعضهم عن بعض، في كل ما أصابهم، وحل بديارهم من إلحاد وشر، وفسق وظلم وفساد، فالدواء واحد، ولهذا لا يكون الدواء إلا واحداً. والسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو ما هو الدواء؟.
والجواب: أن الدواء هو الإسلام، والطريق إليه هو ما سنوضحه فيما يلي:
إلى الحاكمين أولاً:
إن الطريق إلى نجاة الحاكمين في بلاد المسلمين وسعادتهم يتمثل في النقاط الأربع التالية:-
- الاعتراف الكامل بأن أكثر ما هم عليه الآن هو خطأ وباطل أي ليس بصواب ولا حق ولا يجوز قبولهما، ولا الإقرار عليهما، وذلك لحكمهم المسلمين في الجملة بدون رضاهم، وبغير شرع ربهم الذي يكفل لهم نجاتهم وسعادتهم.
- الاعتراف التام بأن الاستمرار على هذا الخطأ والباطل سيؤدى حتماً إلا شقائهم، وشقاء من يحبونهم من المسلمين في دنياهم وأخراهم، لأن الاستمرار على الخطأ والباطل لا ينجم عنه إلا تفاقم الشر والفساد، وازدياد الضعف والنقصان في حال المسلمين ديناً ودنيا إلى أن يتعرض المسلمون كلهم للزوال والفناء.(15/491)
- الإيمان بوجوب تدارك الموقف وتصحيح الوضع للنجاة، ولعودة حياة العزة والقوة، والعدل والرحمة والخير للمسلمين كل المسلمين، ومعنى هذا أنه التوبة المأمورة بها في قول الله تعال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وهي توبة تشمل كل مظاهر الحياة بين المسلمين، فيستبدل بالخبث الطهر، وبالفساد الصلاح، وبالظلم العدل، وبالشر الخير، والحسنات بالسيئات.
- اجتماع الملوك والرؤساء العرب والمسلمين أو من قبل منهم مبدأ التوبة هذا وتاب، يكون اجتماعهم في المدينة النبوية عاصمة الإسلام الأولى، لاتخاذ القرارات الأربع التالية:-
1- الإعلام عن اتفاق المؤتمرين على ضرورة عودة الحياة الإسلامية في بلاد المسلمين عقيدة، وعبادة، وأدباً وخلقاً، وحكماً، ونظاماً، وشرعاً، لإنقاذ المسلمين مما حل بهم، ونزل بديارهم من ضعف، وذل وهون ودون.
2 - تكوين لجنة توسعة من علماء الشريعة في البلاد الإسلامية، وأن يعهد إليها بوضع دستور إسلامي لأمة الإسلام تؤخذ كل بنوده مواده، نصاً وروحاً من الكتاب العزيز، والسنة الصحيحة، والفقه الإسلامي المستنبط من الوحيين في عصر الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام الصالحين.
3 - والإعلان عن استئناف الحياة الإسلامية فور صدور هذه القرارات، وذلك بوجوب إقامة الصلاة بين كل أفراد الأمة الإسلامية إقامة إجبارية. وبوجوب منع الخمر شراباً وتجارة، وإنتاجاً، وصناعة بين كل أفراد المسلمين. وبوجوب إلزام الفتاة المسلمة والمرأة المسلمة الزي الإسلامي والحجاب الإسلامي، ومنع الاختلاط بين النساء والرجال منعاً كلياً وفي كل المجالات. وبوجوب تطهير الإعلام في ديار المسلمين صحافة، وإذاعة، وتلفازاً، ومسرحاً، من نشر وإذاعة وإظهار كل ما يمس العقيدة الإسلامية، والخلق الإسلامي، أن يتنافى مع مبادىء الإسلام، وتعاليمه القائمة على أساس الطهر والكمال النفسي والخلقي.(15/492)
وبوجوب إيقاف سائر المعاملات الربوية، وتصفيتها، والاستبدال بهذه البنوك الربوية مصارف وبنوكاً إسلامية، يسهم فيها كل مسلم ومسلمة، تقوم على أساس منع الربا، وحظر التعامل به، وبوجوب تعقب الملاحدة في بلاد المسلمين واضطرارهم إلى العودة إلى حياة الإيمان، والعمل، والجهاد، ومن رفض منهم ذلك يحكم فيه السيف فهو الحد الفاصل بين الكفر والإيمان.
4 - الإعلان عن موعد بدء تنفيذ مواد الدستور [3] ، والأخذ بها، وتطبيقها يوم الفراغ من وضعه، وتقديمه لأعضاء مؤتمر القمة الإسلامي الذي انعقد أول مرة. فيبدأ بتعيين إمام المسلمين، ومجلس حكومته المكون من ممثلين صالحين لكل الأقاليم الإسلامية التي رضي حكامها بالوحدة الإسلامية في ظل الحياة الإسلامية والدستور الإسلامي، ثم بالتطبيق الحرفي لكل مواد الدستور وبنوده شريعة وسياسة، بكل صدق وجد وإخلاص.
هذا. وكلمة أخيرة نقولها للحاكمين في ديار المسلمين بعد أن بينا الطريق لهم في صدق وإخلاص وولاء: طريق نجاتهم ونجاة شعوبهم وسعادتهم جميعاً وفي الحياتين أيضاً، نقول لهم: والله الذي لا إله غيره ولا رب سواه، إنه لا نجاة لهم مما هم في من حيرة، وقلق، وضعف، وعجز، ولا مما يتوقع لهم من كوارث، ومحن، وبلاء، وعذاب دنيوي، وأخروي وشقاء، لا نجاة لهم من كل ذلك إلا بسلوك هذا الطريق.
كما نقول لهم ونقسم إن سلوك هذا الطريق الذي بينا لكم- أداء لواجب نصحكم- لأيسر وأسهل وآمن من سلوك الطريق المعاكس الذي تسيرون فيه وتفرضون على المسلمين وهم كارهون- سلوكه والسير فيه بقوة الحديد والنار! ! !(15/493)
كما ننصح لهم بأن عليهم- إذا كانوا مجبرين بقوة عالية خفية على السير في هذا الطريق المعاكس للإسلام من أجل إذلال المسلمين وأفنائهم، أو مسخهم في عقولهم وقلوبهم، وفي كل مميزات حياتهم لتبقى بلادهم مناطق نفوذ، أو تمهيداً لاحتلالها من قبل اليهود تحقيقاً لحلمهم في إقامة مملكة إسرائيل على أرض الناس أجمعين.
ننصح لهم بأن يتحرروا في شجاعة وإيمان من سيطرة هذه القوة الخفية، ويرفضوا طاعتها، والسير في طريقها، وليطيعوا الله تعالى، وليسلكوا سبيله، وليمشوا في طريقه، ولن تضرهم تلك القوة الخفية ولن تستطيع أن تنال منهم منالاً أبداً، لأنهم برفضهم طريقها وقبول طريق الله تعالى قد أصبحوا أولياء لله، ومن كان الله وليه فإنه لو اجمع عليه من بأقطارها لم يضروه شيئاً.
وإن هم عجزوا عن التحرر من هذه القوة الخفية بترك طريقها واتباع طريق الإسلام دين الله الذي لا يشقى سالكه ولا يضل في الحياة أبداً، لقوله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} فإن عليهم أن يهربوا من ساحة الحكم، وينجوا بأنفسهم، ويتركوا الأمر لأمة الإسلام تتحمل مسئوليتها بنفسها إن أحسنت فلها، وإن أساءت فعليها، فإنه والله لأن يرضى العاقل بأن يصبح كناساً من كناسي البلديات في ديار المسلمين، بعد أن كان ملكاً أو رئيساً، خير له من أن يبقى على رأس شعب من شعوب الإسلام يحكمه بغير شريعة الله، ويسوسه بسياسة تتنافي في جملنها مع حياة الإسلام وتطلع المسلمين..
وهذه كلمة نصح قدمتها أيها الحاكمون المحترمون بعد بيان طريق النجاة لكم، فإن أخذتم بها نجوتم وسعدتم وذلك ما أريده لكم ولكل المسلمين، وإن كانت الأخرى فحسبي أن تصحت والأمر لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والى الجماعات الإسلامية ثانياً:(15/494)
والى الجماعات الإسلامية العاملة في الحقل الإسلامي في كل أنحاء العالم بيان طريق نجاحها في عملها الإصلاحي ووصولها إلى أهدافها وغاياتها من إقامة المجتمع الإسلامي والحكم الإسلامي؟ ليعبد الله وحده لا شريك له، ولتظهر أمة الإسلام، وتسود وتحكم،.
إليك أيتها الجماعات الطريق واضح المعالم، ظاهر الأعلام، فاسلكيه في صدق، وامشي فيه بجد وحزن، واعملي أنه لا سبيل إلى تحقيق ما تصبين إليه وتهدفين إلى تحقيقه إلا بالسير عليه. وإنه ليتمثل في الأبعاد الثلاثة الآتية:
الأول: الاعتراف بالواقع الذي يعيشه المسلمون كل المسلمين، وهو واقع جد مؤلم ومؤسف ومحزن أيضاً، فليعترف به ولا يتجاهل بحال من الأحوال، وها هي ذي صورة واضحة لهذا الواقع المؤلم فلينظر فيها ولتتأمل ملامحها حتى يكون الاعتراف مبنياً على أساس العلم فيساعد ذلك على قبول هذا الطريق الذي ندعو الجماعات الإسلامية إلى سلوكه، والسير فيه إلى أن تتحقق أهدافها وتصل إلى غاياتها في إيجاد المجتمع الإسلامي وإقامة الحكم الإسلامي فيه.
ملامح الصورة:
إن لصرة الواقع المؤلم الذي يجب على الجماعات الإسلامية الاعتراف به ملامح بارزة ومخيفة منها يتكون وجهه المكفهر الكالح، فلننظر إليها:
1 - الفرقة:
إن مما لا شك فيه أن واقع المسلمين اليوم قائم على أساس الفرقة والاختلاف، فدولتهم دويلات تعد بالعشرات، وجماعاتهم جماعات تعد أيضاً بالعشرات، قانونهم الذي يحكمهم قوانين شتى، وفكرهم الذي تنبع منه سياستهم وتخطيطهم لكل حياتهم أفكار متعددة، ومتناقضة ومتضاربة أيضاً.
2 - العداء:(15/495)
إن العداء الموجود اليوم بين المسلمين عداء مستحكم شديد، وهو قائم بين الحكومات وبين الجماعات كذلك، وحتى بين الأفراد، فلذا لم يوجد أي تعاون صادق بين المسلمين وفي أي مجال من مجالات الحياة. مع أن التعاون بين المسلمين مبدأ أساسي في كمال حياتهم، وطهرها، وسعادتها، لقول الله تعالى لهم: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ومنذ أن حلت العداوة بين المسلمين محل المحبة ترك بينهم واجب قيام الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إذ لا يتم هذا الواجب على وجهه الكامل المثمر إلا بين جماعات متوائمة متحابة، وما دام لا وئام، ولا حب بين المسلمين حكومات، وجماعات وأفراداً، فلا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، وإذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بلد عمه الفساد وهلك أهله لا محالة [4] .
3 - قسوة القلوب:
إن ظاهرة قسوة القلوب بين أفراد المجتمع الإسلامي لظاهرة غريبة، وخطيرة في نفس الوقت.
غريبة، لأن طبيعة العقيدة الإسلامية القائمة على أساس الإيمان بالبعث والجزاء {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} - وعلى مبدأ الرحمة والإخاء {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [5] "الراحمون يرحمهم الله" [6]- "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" [7] .
يتنافى معها قسوة القلوب التي تنجم عادة عن الكفر والظلم.. وخطيرة لأن مجتمعنا حين تنعدم فيه الرحمة حتماً ينعدم منه الخير، ويعمه الشر، ويكثر فيه الفساد، وبالتالي تنتظم أهله التعسة والشقاء.(15/496)
وإن بحثنا عن سبب وجود هذه الظاهرة أو الكارثة في الحقيقة وجدناه فيما أصاب العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين من تخلخل، وضعف نتيجة الكيد المستمر للإسلام والمسلمين، والذي ابتدأ بقتل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وانتهى بإسقاط الخلافة الإسلامية، ثم بنشر مذهبي الإلحاد والإباحية في ديار المسلمين الإلحاد الذي يتزعمه المعسكر الشيوعي الاشتراكي، صنيعة اليهود، والإباحية التي تقوم بنشرها الرأسمالية الغربية بزعامة أمريكا اليهودية، فعن المذهب الأول انتقلت شعارات الكذب، والخداع، والتضليل، كالتقدمية الثورية، والاشتراكية العربية والإسلامية، فأنست المسلمين قيادة الإسلام، وحكم الإسلام وعدالة الإسلام، ورحمته، وعن المذهب الثاني انتقل ما يسمونه حرية الرأي والفكر، والحرية الشخصية، وفصل الدين عن الدولة، وعزل الشريعة الإسلامية عن الحياة كل الحياة والتعليم المخرب للعقول والقاضي على الخلق والكرامة، ثم السفور والفجور وأندية العرى والقمار، وإظهار الأغاني الخليعة وإيجاد المسابح والمسارح في سلسلة جهنمية يطوق بها عنق الإسلام، لخنقه والقضاء عليه، والذي تولى القسط الأكبر من هذه الجريمة هم وزراء الإعلام، والتربية والتعليم، والشبيبة والرياضة في بلاد المسلمين، وجرهم لذلك غفلتهم عما تقدمه لهم الماسونية من سم قاتل، في قوالب مختلفة يطلقون عليهم مسميات الخبرات والاستشارات هم لا يشعرون.(15/497)
وتتجلى ظاهرة قسوة القلوب بين المسلمين في مجالين: الأول: بين الأغنياء والفقراء والثاني: بين ذوي الحاجات من المسلمين وبين من على أيديهم قضاؤها ولو كان من أصغر الموظفين القائمين على بعض مصالح المسلمين. فبين الأغنياء لا يوجد على الحقيقة أي مظهر للرحمة، والبر، والإحسان، يشار إليه بالبنان، فلا يوجد إلا غني يسكن قصور الملوك، وفقير يسكن أكواخ الحطب، وبيوت الصفيح، وغني يركب أحدث أنواع السيارات، وفقير يمشي على رجلين حافيتين، وغني تصنف له أنواع الطعام، وتصفف بين يديه في كلتا وجبتيه، وفقير محروم من كل الكماليات ويعاني آلاماً من فقده الضروريات.
وبين الموظفين وأصحاب الحاجات لا يوجد أيضاً أي مظهر من مظاهر الرحمة والشفقة، أو التقدير أو التكريم، كأن الموظف القائم على المصلحة موعز إليه بأتعاب المواطن ذي الحاجة، وإهانته، وتعذيبه حتى أصبح من المعلوم لكل الناس إن صاحب الحاجة إن لم يكن له وساطة لا تقضى حاجته إلا بعد عناء، ومشقة، وفوت وقت طويل، هذا إن قضيت له، وإلا فما أكثر من تموت حاجاتهم في نفوسهم، وتقبر مصالحهم في مقابر آمالهم وآلامهم.
4 - الكذب والخيانة:(15/498)
إن ظاهرة انعدام الصدق والأمانة بين المسلمين اليوم لظاهرة خطيرة للغاية، حيث شملت أغلب وجوه الحياة بين المسلمين، فلم يسلم منها وجه واحد، فقد ظهر الغش وفشت الخيانة في كل مرافق الحياة، فظهر ذلك بين الرؤساء والمرءوسين، وبين العمال والموظفين، وبين الصناع والتجار والفلاحين، وحتى بين العلماء والمتعلمين حتى لكأن المسلمين لم يؤمروا في شريعة ربهم بأمانة، ولم ينهوا عن خيانة، ولم يدعوا إلى صدق، ولم يحذروا من كذب قط، مع أن نصوص الشرع تقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [8] .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [9] .. ويقول عليه الصلاة والسلام:"أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" [10] .. ويقول: "من غش فليس منا" [11] .. ويقول: "عليكم بالصدق وإياكم والكذب" [12] ومع كل هذه النصوص وغيرها شاع الغش، وانعدمت الأمانة حتى أن المرء لو أراد أوقية من عسل خال من الغش أو سمن أيضاً لم يكد يجدها في أسواق المسلمين والعياذ بالله تعالى.
5 - زيغ القلوب:
إن زيغ القلوب أصبح ظاهرة معروفة بين كثير من المسلمين، لا سيما طبقة الأثرياء والمثقفين، والحاكمين، وظهر ذلك في استخفافهم بشريعة الله، ونقدهم لها، وإعراضهم عنها، وعيشهم بعيداً عن التخلق بأخلاقها، والتأدب بآدابها، وعن مزاولة فرائضها وسننها، كما يظهر بوضوح أكثر في تكييف حياتهم الخاصة تكييفا ألحقهم باليهود والنصارى، وذلك بتشبههم بهم، في كل شأن من شئون حياتهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"من تشبه بقوم فهو منهم" [13] .
6 - كبائر الإثم والفواحش:(15/499)
إن كبائر الإثم والفواحش والتي ما ظهرت في أمة إلا دمرتها، وقضت على طهرها وصفائها، وبالتالي على وجودها بالمرة، قد ارتكبت بين أمة الإسلام بصورة هائلة، مفزعة مخيفة، فالربا وهو من أكبرها قد أصبح مباحاً تتعاطاه الحكومات والمؤسسات وحتى الأفراد تجاراً وموظفين على حد سواء، والزنى وهو من أعظم الفواحش قد انتشر، وظهر بين المسلمين بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ هذا الأمة، نتيجة لتهيئة وسائله، وإتاحة الفرص لطالبه، وذلك بإشاعة الأغاني في بيوت المسلمين، وعرض صور النساء المومسات، وصور الزناة من الرجال على شاشة السينمات والتلفزات، والسماح للنساء وبالسفور والتبرج الجاهلي في الأسواق والشوارع، ودور العمل وما إليها من المدارس والجامعات.
الأمر الذي دفع برجال الأمة ونسائها إلى التكالب على فاحشة الزنى، حتى أصبحت السلامة من هذه الفاحشة نادرة جداً بين شباب هذه الأمة وشاباتها.
وككبيرة الربا وفاحشة الزنى الظلم والجور والقمار والتلصص، والسرقة، وقتل النفس، والرشوة، في الأحكام والمعاملات، كل هذه مرتكبة معمول بها على مرأى ومسمع من كل المسلمين، ولا قلب يحزن، ولا نفس تخاف، ألا فلتعرف هذا الجماعات الإسلامية، وليبينوا بناء دعوتهم الإصلاحية لا يجاد المجتمع الإسلامي، وإقامة الحكم الإسلامي فيه على أساسه والذي هو اعتراف بواقع مر وجد أليم.
الثاني:
إن البعد الثاني من الأبعاد الثلاثة التي يتكون منها طريق الوصول إلى إيجاد المجتمع الإسلامي وإقامة الحكم الإسلامي فيه هو العمل الإصلاحي على أساس الاعتراف بواقع الأمة الإسلامية اليوم وعدم تجاهله، وهو واقع مر، وجد مؤلم كما أسلفنا.
وهو أي العمل على أساس الاعتراف بالواقع يتطلب الإخلاص في العمل، والصبر عليه، والحلم والأناة فيه، والحكمة، والعلم، والتنظيم في كل ذلك.(15/500)
فإن الضجر، وسرعة الغضب، والعجلة لا يتأتى لصاحبها عمل ناجح مثمر أبداً. كما أن الخلط، والفوضى، والجهل لا ينتج عنها، غير ضلال السعي، وخيبة الأمل، كما هو معروف بين العاملين بصدق وجد في هذه الحياة. ومن هذه النقاط الست يتكون الطريق المطلوب بيانه للجماعات الإسلامية، العاملة في الحقل الإسلامي الصحيح.
الإخلاص:
وهو التجرد من كل الخطوط النفسية، والأغراض الدنيوية بحيث لا يكون للجماعة العاملة غرض سوى الإصلاح كما قال نبي الله شعيب عليه السلام فيما قصه القرآن عنه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [14] إذ اتخاذ العمل الإصلاحي وسيلة إلى تحصيل حظ نفسي من سمعة، أو جاه، أو منصب، أو مال، أو أي كسب مادي شرك فيه، والشرك محبط للعمل، مبطل له، لقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [15] . كما أن الناس إذا رأوا العامل المصلح له رغبة فيما في أيديهم من مال أو سلطان رغبوا عن دعوته وأعرضوا عنها، وكلما اتضح لهم ميله إلى دنياهم وحبه لما خولهم الله تعالى من مال، أو دولة، ازداد نفورهم منه، وحذرهم له، ثم لم يلبسوا أن يقاوموه ويحاربوه دفاعاً عن مكانتهم، وما بأيديهم فلهذا وجب على الجماعات الإسلامية أن ينطلق عملها من مبدأ الإخلاص الكامل، وهو كما مر: التجرد التام لله تعالى في عملها، فلا تعمل لأي غرض سوى غرض واحد وهو أن يعبد الله تعالى وحده بما شرع لعباده أن يعبدوه به، مما أنزل به كتابه وأرسل به رسوله ليكمل العابدون ويسعدوا في الحياتين.
الصبر:
والمراد به: حبس النفس على ما تكرهه وتنفر منه، وله مواطن كثيرة منها:(16/1)
1 - حبسها على طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأولي الأمر بما يرضيهما في الجماعة الإسلامية، وذلك بامتثال الأمر، واجتناب النهي، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، في حدود الطاقة البشرية.
2 – حبسها - النفس- بعيدة عن معصية الله، ومعصية رسوله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر، فلا يسمح لها بأن تترك أمراً وهي قادرة على فعله، أو ترتكب أي نهي لم تكره على ارتكابه.
3 - حبسها على الرضا والتسليم بما يقضي الله تعالى به على عبده المؤمن، وما يصيبه به امتحاناً له، أو لذنب ارتكبه، لقوله تعال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [16] ، وقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [17] وقوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [18] .
وعليه فإنه لا ضجر، ولا سخط، ولا خروج عن الطاعة بحال من الأحوال إذ هذه تتنافى مع الصبر المطلوب للسالكين في هذه الطريق، طريق النجاة والسعادة.
4 - الصبر على العمل الإصلاحي بعدم تركه أو التخلي عن بعض واجباته، وتكاليفه فشلاً وضعفاً.
5 - الصبر على بطء سير الدعوة، وعلى تعثرها في طريق نجاحها، وعلى نقد بعض الناس لها، أو معاداتهم لها، ونفرتهم منها، إذ هي طبيعة الناس إزاء دعوات الخير والإصلاح في كل زمان ومكان {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} 184.
6- الصبر على طاعة أولي الأمر من المسلمين، لقوله صلى الله عليه وسلم:"عليكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة " [19] ، فلا خروج على الأمير، ولا محاولة ذلك بحال إلا بشرطين:(16/2)
الأول: أن يظهر منه الكفر البواح أي الظاهر الواضح لقوله صلى الله عليه وسلم:"إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان ".
الثاني: أن يكون للمسلمين شوكة [20] ، وقوة تمكنهم من خلع الكافر ونصب المؤمن بدون إراقة دماء المسلمين، وإزهاق أرواحهم.
الحلم والأناة فيه: أي في العمل الإصلاحي الذي يقوم به الفرد في الجماعة الإسلامية، إذ الحلم والأناة خصلتان يحبهما الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وضد الحلم والأناة سرعة الغضب، والعجلة بالمؤاخذة، وهما مضران بصاحبهما، مفوتان عليه كثيراً من فرص الهداية والإصلاح، وعليه فليكن الفرد في الجماعة حليماً لا يغضب على من يجهل عليه، أو يسيء إليه، ولا يبادره بالمعاقبة والمؤاخذة، ذا أناة لا يستعجل النتيجة إذا عمل، ولا يسارع في إصدار حكم بقول أو عمل، وليكن بعيداً عن التسرع، ومظاهر النزغ والطيش، إذ لا يصلح لهداية الناس، وإصلاحهم إلا من كان أكمل منهم هداية، وأقدرهم على إصلاح.
الحكمة والتنظيم والعلم:
إن الحكمة في العمل الإصلاحي ضرورية، وحقيقتها: هي إعطاء كل شيء ما يناسبه، ووضع كل شيء في المكان اللائق به، وبها يكون السداد في الأمور، والإصابة للأغراض، والوصول إلى الغايات بقليل من الكلفة، واليسير من المشقة، ولا تتم لعبد إلا إذا كان قد أشبعت روحه بعلم الكتاب والسنة، إذ الحكمة فيهما، وهما مصدرها، ولا تطلب إلا منهما.(16/3)
وأما التنظيم في العمل الإصلاحي فإن المراد منه: ترتيب الأعمال، وتقديم بعضها على بعض بحسب وجودها، وافتقار بعضها إلى بعض حتى لا يختلط بعضها ببعض، فتتعقد وتتعطل. إن النظام في العمل الإصلاحي هو بمثابة المفتاح لفتح خزائن الأموال فلو جاء أحد إلا خزانة مال حديدية يريد فتحها بدون مفتاحها الخاص بها لما أمكنه ذلك، ولا نال منها شيئاً أبداً، ومها قلبها وضربها، ولكن بمفتاحها الخاص يفتحها، ويطلع على ما فيها، ويخرج منها ما يشاء.
فالقلوب البشرية أوعية لا يفتحها المصلح إلا بمفاتيحها الخاصة بها وهي الصبر، والحلم، والأناة، والحكمة، والنظام، والعلم.
وأما العلم: وهو شامل لمعرفة طرق الهداية، ولمعرفة الوسائل والغايات، فالذي يجهل طرق الهداية لا يصل بمن يريد هدايته إليها، والذي لا يعرف والوسائل ولا كيفية استعمالها لا يمكنه أن يسلك بأحد طرق الهداية، ويصل به إليها فيهديه، والذي لا يعلم النتائج والغايات لا يتأتى له أن يحدث عنها، أو يصدقها حتى يرغب فيها، ويحمل الناس على حبها، والرغبة في العلم من أجلها، ولذا كان العلم من ضروريات العمل الإصلاحي الناجح، ولا حق لغير العالم في أن ينصب نفسه هادياً للناس مصلحاً لهم، لجهله بما يدعون به من الحكم والوسائل والنظام، ولما يدعوهم إليه من كمال المقاصد، وشريف الغايات، وبل الأهداف المتمثلة في النجاة والسعادة والكمال في الحياتين.
الثالث [21] إتباع خطة العمل التالية:(16/4)
إني أعلم أنه ليس لي من حق في وضع خطة عمل لجماعات المسلمين. وحسبي ما بينته في الأرقام السالفة، إن وضع خطة كاملة للعمل الإصلاحي لجماعات المسلمين ينبغي أن يجتمع عليه عدد من رجال العلم والإصلاح في أمة الإسلام، فتوضع الخطة المتكاملة بناء على خبرات سابقة، وتجارب عديدة في بلاء طويل لأحوال المسلمين، لتكون الخطة ناجحة لدى العاملين بها، والقائمين على تنفيذها، ولكن نظراً لعدم وجود أولئك العلماء المصلحين مجتمعين على هذا الأمر، عاملين على تحقيقه فقد أبحت لنفسي عملاً كهذا، على خطورته، ووعورة مسالكه. وبينت طريقاً إصلاحياً للحاكمين ولجماعات المسلمين، وكلى أمل وثقة أن سلوكه لا ينتهي بالسالكين إلا إلى نجاتهم، وكمالهم، وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
والخطة الموضوعة لسالكي هذا الطريق من الجماعات الإسلامية تتمثل في الخطوات الست التالية:
الخطوة الأولى:
إن الخطوة الأولى هي تكوين جماعة للمسلمين في كل قرية، وفي كل حي من أحياء المدن الكبرى، أو الصغرى، في كل إقليم من أقاليم البلاد الإسلامية تسمى الواحدة من هذه الجماعات: بجماعة المسلمين. ويكون لكل جماعة إدارتها من أمير، ومجلس شورى، وأعضاء عاملين، ويكون لتلك الجماعات في الإقليم مجلس واحد يشرف عليها، وينظم سير عملها، يسمى بالمجلس الأعلى لجماعات المسلمين في ذلك الإقليم الإسلامي، ويكون مقره في عاصمة الإقليم أو إحدى مدنه الكبرى [22] .
الخطوة الثانية:
هي بيان علم جماعة المسلمين ومباشرته:(16/5)
إن لجماعة المسلمين الثابتة الوجود شرعاً بحديث مسلم "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم "فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام الخ.."عملاً معروفاً في كتب الفقه الإسلامي الذي هو شريعة المسلمين ومجمل القول في هذا العمل: أنه كل ما كانت تقوم به حكومة أمام المسلمين عند وجودها وقدرتها من إطعام الجائع، وكسوة العاري، ومداواة المريض، وإرشاد الضال، وتعليم الجاهل، وحماية عقائد المسلمين، وأرواحهم وأعراضهم، وأموالهم، وديارهم. ومن ذلك واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله.
الخطوة الثالثة:
هي العلم الفوري على توحيد كل الجمعيات الإسلامية في البلد الإسلامي، ودمجها في جماعة واحدة، هي جماعة المسلمين، التي تنشأ في كل قرية من القرى الإسلامية، وكل حي من أحياء مدنهم، وهذا التوحيد ضروري للعمل الإصلاحي، ولا مبرر لغيره أبداً، إذ هدف المسلمين واحد، وهو أن يعبد الله وحده لا شريك له، ولا يتحقق هذا الهدف كاملاً إلا في المجتمع الإسلامي، وظل الحكم الإسلامي، وهذا متوقف بدوره على وحدة المسلمين، وتعاونهم على البر والتقوى. ووجود جمعيات متعددة تذهب بريح الأمة، وتضعفها، ويبدد جهدها وطاقتها، فلا تصبح قادرة على العطاء والحياة.
الخطوة الرابعة:
في تفصيل العمل وتنظيمه:
إن هذه الخطوة لمن أهم خطوات هذا الطريق إذ عليها تدور سائر أعمال جماعة المسلمين، فهي الكل في الكل، والبداية والغاية وبيانها كالتالي:
أ - تكوين هيئة الجماعة في القرية أو الحي من المدينة، وهي عبارة عن لجنة رئيسية تحتها لجان فرعية تقوم كل لجنة بعمل خاص. فاللجنة الرئيسية تتكون من أمير الجماعة ومستشارين له لا يقل عددهم عن ثلاثة أنفار من صالحي أهل القرية أو الحي، ومهمة هذه الهيئة الإرشاد، والتوجيه، وإدارة عمل الجماعة.
ب - تكوين لجان العمل وهي:(16/6)
1- لجنة الكتابة. 2- لجنة المالية
3- لحنة الحكم والفتيا 4- لجنة التعليم والتربية.
5- لجنة البر والإحسان. 6- لجنة الأنشطة الرياضية
7- لجنة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
فلجنة الكتابة مهمتها: كتابة رسائل الدعوة، ونشراتها التي تقوم الجماعة بنشرها أداء لمهمة الوعظ والإرشاد، والدعوة إلى البر والمعروف وتسجيل وكتابة أسماء وعناوين كل أفراد الجماعة في الحي أو القرية، وكتابة الدخل المالي لصندوق الجماعة وخرجه ودفع حسابات بيانية بذلك كل شهر.
ولجنة المالية مهمتها: جمع الاشتراكات والتبرعات، والزكوات من أفراد جماعة المسلمين في الحي أو القرية، وحفظها في صندوق الجماعة، والدفع منها عند الحجة بإذن من أمير الجماعة موقعاً بتوقيعه، ومبيناً فيه سبل الإنفاق، والقدر المطلوب إنفاقه بلفظ صريح.
ولجنة الحكم مهمتها: فض النزاع، وإنهاء الخلاف الذي قد يقع بين أفراد جماعة المسلمين في القرية أو الحي، وفي حال استعصاء الخلاف، أو احتدام النزاع، وعجز اللجنة عن إنهائه فإنه يرفع إلى أمير الجماعة ومجلس شوراه فإن أمكن إنهاؤه فذاك، وإلا رفع إلى محاكم البلد، والقضاء فيها.
ولجنة التعليم والإرشاد مهمتها: تعليم أفراد الجماعة أمور دينهم، وإرشادهم إلى ما فيه خيرهم وصلاح أمرهم، ويتم ذلك للبعض بواسطة حلق العلم التي تعقد في المسجد كل يوم، وللبعض الآخر بواسطة الدرس العام الذي يلقيه أمير الجماعة كل أسبوع في مسجد الجماعة.(16/7)
ولجنة الأمر بالمعروف مهمتها: ملاحظة سلوك المسلم في الحي أو القرية فإن رأته ترك معروفاً أمرته بفعله في رفق، وإن رأته ارتكب منكراً نهته عن فعله في رفق كذلك، وتستعمل اللجنة في ذلك أسلوب الوعظ والإرشاد فإن نفع، وإلا رفعت الأمر إلى أمير الجماعة ومجلسه لإصلاح هذا الفرد بما تراه من وسائل مشروعة.
ولجنة البر مهمتها: تفقد أفراد جماعة المسلمين ورعاية أحوالهم، فتطعم جائعهم وتكسو عاريهم، وتداوي مريضهم، وترفع الظلم عن مظلومهم، وتيسر عن معسرهم وترحم ضعيفهم، وتعاونهم على البر والتقوى.
ولجنة الرياضات مهمتها: رعاية شباب القرية أو الحي صحياً، وعقلياً، وذلك بمزاولة ألوان الرياضة المختلفة والتي تثبت جدواها، وتحقق نفعها لمن يأتيها من سائر أنواع الرياضات التي تحفظ الجسم نامياً، صالحاًً يقدر على أداء فريضة الجهاد، والعقل صالحاً رجحاً، يقدر على التفكير، والإبداع، والاختراع.
الخطوة الخامسة: وهي المحافظة على العمل الإصلاحي، وإنجاحه.
إنه بعد هذه الجماعات الإسلامية على النحو الذي سبق بيانه يجب أن تعظم عناية القائمين على هذا العمل بالمحافظة على سيره في طريقه حتى لا يختل، أو يضعف، أو يتعطل لا قدر الله تعالى، فرعايته من أوجب الواجبات وأكدها، فيتعين على القائمين به والمسيرين له التفاني في حفظه، وبقائه نامي العلم، مطرد النجاح، وذلك ببذل كل ما في الوسع، وإنفاق كل رخيص وغال. إذ فشل العلم الإصلاحي للأمة الإسلامية معناه الموت بأتم معناه، وليس هو مجرد تعطل حركة إصلاحية، أو خيبة أمل في مشروع خيري فقط.(16/8)
إن أعداء الإسلام لا يسرهم بحال عمل إصلاحي كهذا يعود بالمسلمين إلى سابق عزهم، وخالد مجدهم، بعد أن يرد إليهم اعتبارهم، في كونهم أمة قائدة، سادت العالم، وقادته إلى الخير والكمال زمناً غير قصير، ولذا فإنهم سوف يشككون في صلاح هذا العمل الحركي الإصلاحي، وفي قيمته الكبيرة، وفي جدواه، فينبغي أن لا يلتفت إليهم حتى ولو حاربوه، فليتذرع بالصبر، والحلم، والشجاعة حتى لا يمكن العدو من إحباطه، إذ لا يسرهم إلا ذاك، وإنهم سوف يتذرعون إليه بكل الوسائل حتى بأخسها فليعرف هذا وليتفطن له، وليحذر منه [23] حتى لا يمكن أعداء الإسلام من إيقاف هذا العمل أو عدم إنجاحه، وليصبر على ذلك إلى أن ينجح هذا العمل الإصلاحي الذي هو المنزع الأخير لأمة الإسلام في هذه الأيام، وإلى أن يظهره الله تعالى وينجحه، ويومها ييأس المطلون المناوئون ويهلكون، أو يتوب الله على من يشاء منهم فينجو بهذه الحركة الإسلامية الإصلاحية ويسعد بها كغيره من سائر العاملين بها الراضين بها.
الخطوة السادسة: إيجاد قيادة عليا لجماعات المسلمين [24]
إن من الضروري لهذا العمل الإسلامي المنظم أن تكون له قيادة عليا، تشرف عليه، وتنظمه وترعاه وتوجهه، وتكون المرجع الأخير لكل جماعات المؤمنين في بلادهم، يتحاكمون إليها، وينهون أمرهم إلى قضائها وحكمها.
فمجرد ما يوجد هذا العمل في إقليمين أو أكثر من بلاد المسلمين، يتعين أن يكون من أمراء جماعات المسلمين في تلك الأقاليم مجلس أعلى لرعاية العلم الإسلامي وتوجيهه، ليتم التعاون بين سائر المسلمين، ولا يتحقق التعاون المثمر إلا بمثل هذه القيادة العليا التي قد تربط بين كل جماعات المسلمين وفصل ما بينهم حتى يشعروا أنهم أمة واحدة، كما أراد الله تعالى لهم أن يكونوا {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [25] .(16/9)
خاتمة:
وأخيراً فهذا هو الطريق قد بينته لأخوة الإسلام، وهو طريق واضح مستقيم، السير عليه مأمون العثرات، وسلوكه محمود النهايات.
وأنه لآمن وأسلم، وأرجى أن يحقق سالكوه ما يصبون إليه من إقامة المجتمع الإسلامي، والحكم الإسلامي، ليعبدوا الله وحده، ولينجو المسلمون ويسعدوا.
إنه لآمن وأسلم وأرجى من طرق شتى سلكها كثير من المؤمنين لهذه الغاية، وما وصلوا إليها، وما فازوا بها.
أقول أن طريق جماعات المسلمين هو الطريق السوي المرضي، المأمون العثرات، المحمود العواقب والنهايات، وإن السير عليه، والسلوك فيه ليس بأصعب من السير على تلك الطرق، التي بعضها ضيق غير قاصد وبعضها مظلم متلف، وقد جريت كلها فلم يجد منها طريق، ولم ينفع منها آخر، فلم يبق إذا إلا طريق واحد هو سبيل جماعة المسلمين الذي هو سبيل المؤمنين الذي قال تعالى فيه:
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [26] .(16/10)
وقال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:"تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام، فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك"، ألا فليستعن بالله وليتقه الإخوة المؤمنون، وليحيوا هذه السنة، وليقيموا هذا الواجب الذي تركه المسلمون من زمن طويل حتى حل بهم ما حل من العجز والضعف، وأصابهم من المحن والفتن، وليعلموا أنه لا نجاة لهم، ولا مخرج مما هم فيه إلا سلوك هذا الطريق، والسير عليه مهما كان شاقاً أو طويلاً، مع أنه لا مشقة فيه ولا طول، ما دام تحقق الهدف شريفاً والوصول إلى الغاية مضموناً بإذن الله تعالى: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] صدر هذا القول في شبه تصريح لمؤتمر قمة جبهة الرفض الذي انعقد مؤخراً بالعاصمة الجزائرية، وحضرته مجموعة دول العرب الدائرة في فلك المعسكر الشيوعي.
[2] المراد به: الهنود الهنادك عبدة البقر، والاتحاد السوفيتي "الروس"الدب الأحمر. ذاك الذي رمى بأسطوله في البحر ث منع قوات باكستان من التحرك. وترك الهنود الكافرين يجزرون باكستان ويسلخونها حتى قسموها بعد مقبلة عظيمة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الإسلام المعاصر.
[3] إن الدستور الإسلامي كفيل بحل كل مشاكل الحياة، وبالإجابة عن كل التساؤلات لأنه من معين الوحي الآلهي الذي لا ينضب ومن علم الله الذي لا يحاط به، وكلماته تعالى التي لا تنفد.
[4] مصداق هذا قوله صلى الله عليه وسلم:" والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعونه فلا يستجيب لكم".. رواه أحمد والترمذي وحسنه.(16/11)
[5] من سورة الحجرات.
[6] حديث صحيح.
[7] حديث صحيح أيضاً.
[8] آية من سورة النساء.
[9] آية من سورة الأنفال.
[10] حديث صحيح.
[11] حديث صحيح.
[12] حديث صحيح.
[13] رواه أحمد.
[14] من سورة هود.
[15] من سورة الزمر.
[16] من سورة القتال.
[17] من سورة الشورى.
[18] من سورة آل عمران.
[19] رواه مسلم بغير هذا اللفظ.
[20] هذا يتهيأ للجماعات الإسلامية إذا كان المسلمون الصالحون في الإقليم يشكلون نسبة كبيرة من الأمة كنصفها أو ثلثيها. أما إذا كانوا أقلية، والفاسدون أكثرية، فلا يتأتى لهم ذلك، وعليهم أن يصبروا حتى تتهيأ الأمة لمثل ذلك، بكثرة الصلاح فيها، والمصلحين والصالحين.
[21] هذا هو البعد الثالث من الإبعاد الثلاثة التي يتكون منها الطريق، وقد تقدم الأول والثاني فليرج إليهما.
[22] الجماعات الإسلامية الموجودة قبل هذا التكوين يجب أن تندرج في هذا التكوين الجديد، ولا ينبغي أن تخرج عنه بحال توحيداً للأمة، والعمل الإصلاحي بينها.
[23] الضمير في قولنا له ومنه، واسم الإشارة قبلهما يعود إلى تشكيك الأعداء، وتوسلهم بكل الوسائل لإحباطه وإفساده.
[24] أن هذه القيادة العليا قائمة مقام الخليفة عند فقده، كما أن جماعة المسلمين قائمة مقام إمام المسلمين عند فقده أو عجزه.
[25] من سورة البقرة.
[26] من سورة النور.(16/12)
أثر الحج في النفس والمجتمع
للدكتور عبد الرحمن بله علي
كلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله الصادق الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد..
فقد فرض الله سبحانه وتعالى الحج مرة في العمر على كل مسلم، لما فيه من الأسرار النفيسة والفوائد الجليلة والمسلم لا يذوق طعم أسراره، ولا يلمس أثر فوائده إلا إذا أداه على الكيفية التي أداه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم شأن كل عبادة لا تؤدي غرضها ولا تحدث في النفوس أثرها إلا إذا جاءت على المنهج المحمدي مظهراً ومخبراً، وهو القائل عليه الصلاة والسلام: "خذوا عني مناسككم".. والقائل صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" والقائل عليه أفضل الصلاة وأزكى التحية: "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك".
والواقع أن في العبادات من الكمالات النفسية والمنافع الاجتماعية ما لو أدركه المسلمون لانعكس على حياتهم خيراً وبركة ووحدة وصلاحاً ورشاداً وعزة وأمناً وسعادة، وتلك غاية لا تدرك إلا بتجويد العبادة وأدائها على حقيقتها، ومما أضر بنا أننا نؤدي عبادتنا صورة لا حقيقة وفرق كبير بين الصورة والحقيقة كالفرق بين صورة الأسد مرسومة على ورقة وبين حقيقته موجوداً في غاية.
وما نال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم ومن تبعهم بإحسان - ما نالوا العزة الباقية على الزمان إلا أنهم كانوا يؤدون عباداتهم على حقيقتها المبينة في الشرع المحمدي تعمقاً في مدلولاتها التربوية وسبراً لأسرارها التشريعية والتماساً لفوائدها الاجتماعية، فلا غرو إن كانوا أعز الأمم وأقواها وأعظم الشعوب وأرقاها.(16/13)
وإذا ذهبنا نلتمس حكم العبادات وأسرارها وآثارها على النفس والمجتمع وجدناها مجملة في القرآن الكريم مبينة في السنة المطهرة حقيقة في حياة السلف الصالح: قال تعالى عن الصلاة: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [1] والفواحش والمنكرات من أقوى أسباب الضعف التي تقود المجتمع إلى المرض والهلاك. يقول سبحانه عن الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [2] فهي تطهر نفوس الأغنياء من الشح والبخل، وتزكي نفوس الفقراء فلا حقد ولا حسد ولا بغضاء، وكفى بالمجتمع قوة وسعادة أن يخلو من هذه الأمراض الخطيرة التي تهد قواه، وتزعزع أمنه، وتصدع وحدته، وتضعضع قوته. ويقول عز وجل عن الصوم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [3] .(16/14)
فالصوم يورث تقوى الله، وهي إذ انتظمت المجتمع رجاله ونساءه وشبابه.. عماله وموظفيه.. زراعه وتجاره.. حكامه وجنوده فأكرم بمجتمع يتكون من المتقين. وعن الحج يقول عز وجل من قائل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجّ} [4] فهو تربية على مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات ورقيات الكمال. وهكذا تتعاون هذه العبادات على تهذيب الخلق، وتزكية النفس، وطهارة الروح كما تتعاون أنواع الطعام على بناء الجسم وصيانة البدن لينشطك في أداء وظائفه، ويؤدي في كفاءة جميع واجباته ومناشطه والمجتمع الفاضل أمنية أقضت مضاجع المصلحين، وأسهرت ليل المفكرين، فماتوا ولما يتحقق منها شيء حتى جاء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بمنهج الخالق ووحي السماء فإذا المجتمع الذي كان أمنية في عالم الخيال حقيقة دنت من الناس، ورمت إليهم بخيراتها وثمارها، وملأت عيونهم بجمالها وقلوبهم بجلالها فإذا هم بها في غبطة وهناء وسعادة وأمن ورخاء روى التاريخ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما ولي قضاء المدينة المنورة على عهد أبي بكر رضي الله عنه مكث عاماً كاملاً لم ترفع إليه فيه قضية واحدة فطلب من الخليفة إعفاءه من منصبه فلما سأله عن السبب قال:"إن قوماً يوقر صغيرهم كبيرهم ويرحم كبيرهم صغيرهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، القوي فيهم ضعيف حتى يؤخذ الحق منه والضعيف فيهم قوي حتى يؤخذ الحق له، إذا مرض أحدهم عادوه وإذا مات شيعوه واتبعوه، قوم هذا شأنهم لا حاجة لهم بقضاء عمر".(16/15)
والحج مؤتمر يقام كل عام على نحو تعجز أقوى أمم العالم وأدقها تنظيماً أن تقيم مثله ولو في العمر مرة ولا تكاد توجد جماعة من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلا وفي هذا المؤتمر من يمثلها. قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [5] .
إذا علمنا أن لكل عبادة غايتها المثلى وهدفها الأسمى فإن للحج من الغايات الكريمة والعوائد المحمودة ما لا يستطيع القلم أن يحصيه عداً، أو يستوعبه دراسة وبحثاً، وعليه سيكون حديثنا قليلاً من كثير وغيضاً من فيض.
إن الحاج إذا عزم على الحج، وشرع في الأعداد له فالذي يجدر به أن يبتعد عن الأخلاق الذميمة فلا يرفث ولا يفسق ولا يجادل ولا يشاحن، ولا يزاحم الناس، ولا يؤذي أحداً، ولا يظن به سوءاً، ولا يضمر له شراً، ولا ينظر إليه بإزادراء، ولا يطلق لسانه في أعراض الناس، ولا يستمع إلى غيبة ولا نميمة، ولا يستمع إلى منكر من القول وزور، ولا يشتغل بسفساف الأمور، ولا يغش، ولا يكذب ولا يرائين ولا يظلم، ولا يتكبر إلى غير ذلك من الأخلاق المذمومة التي نهى عنها الدين، وحذر منها، وهي وإن كانت منهياً عنها في كل وقت وحين إلا أنها في الحج آكد وبالحاج أليق.(16/16)
وفي الوقت الذي يتخلى فيه عن الأخلاق القبيحة يتحلى بالأخلاق الحسنة والخصال الحميدة، فيأمر بالمعروف، وينهي عن المنكر، ويبر والديه، ويصل أرحامه، ويصلح بين الناس، ويصدق في حديثه، وينصح في بيعه وشرائه، ويتصدق من ماله ويخلص في أعماله ويرخص نفسه في سبيل ربه، ويحسن إلى جاره، ويرحم الصغير ويوقر الكبير، ويرفق وبالضعيف، ويرشد الحائر، ويؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة، ويدعو إلى الحق، ويعين عليه، ويقضى به، ويتفانى فيه، إلى غير ذلك من الأخلاق الكريمة التي دعا إليها الدين ورغب فيها، وأمر الناس أن يأخذوا منها بأوفر نصيب لما لها من انعكاسات مدهشة على النفس والمجتمع، وتجاوب كامل مع فطرة الله التي فطر الناس عليها، روى أن أكثم بن صيفي خطيب العرب المشهور وحكيمهم في الجاهلية قال حين علم ما يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم - "إن الذي يدعو إليه محمد لو لم يكن ديناً لكان في أخلاق الناس حسناً ".
والواقع أن المشكلة التي يعاني منها مجتمعنا ليست مشكلة سياسية ولا هي اقتصادية، إنما هي مشكلة أخلاقية، فنحن في زمن كثر فيه الشر وحاملوه وقل فيه الخير وفاعلوه، وماتت فيه الضمائر، وخربت الذمم، وتفشت الأنانية مما كان له أثر سيء على المجتمع فضعف وتفكك، وكف بذله، وخف بين الأنام وزنه فإذا ما حلت هذه المشكلة تداعت جميع المشكلات. وفي الحج تروض نفس المسلم في هذا المؤتمر الإسلامي العظيم فإذا هذه الأخلاق قد تأصلت في نفسه، ونزلت منها منزلة الطبع، فيعود إلى بلاده مدرعاً بها داعياً إليها.(16/17)
ومعلوم أن الحج المبرور يمحو الخطايا، ويغفر الذنوب قال عليه الصلاة والسلام: "من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" حديث صحيح وهكذا يعود الحاج وهو أنقى صفحة وأطهر قلباً، وأسهل للخير قوداً، وأبعد عن الشر قصداً ولا شك أن الذنوب تثقل الكاهل، وتسود القلب، وتضعف العزيمة، وتشل الحركة المباركة، فإذا تطهر المسلم منها نشطت همته، وتوجهت إلى العمل الصالح إرادته، فكان أكثر ما يكون بذلاً وعطاءً.
كما أن الحج يتيح للمسلم مشاهدة تلك الأراضي المقدسة التي شع منها نور الإسلام، وارتفع فوقها علم التوحيد، وتعطرت أجواؤها بالدعوة النبوية. وهذا مما يقوي الإيمان ويمتن العقيدة. والمسلم في حاجة ماسة لذلك لأن الفتن الهائجة لا يكاد يخلو منها زمن، أو ينجو منها وطن، والإيمان أقوى سلاح يستطيع به المسلم مواجهة الموجات المادية والهجمات الاستعمارية ورياح الأفكار الإلحادية، فالإيمان هو حصن الأمان وسفينة النجاة وقارب الخلاص فما أحرى المسلم أن يتفقد إيمانه بفعل كل ما يقويه ويعلى أسواره من الصالحات وترك كل ما يضعفه ويهيض جناحه من المعاصي والموبقات.(16/18)
إن حاجتنا المنشودة وأمنيتنا المطلوبة هي الإيمان بالله واليوم الآخر، ذلك الإيمان المتوهج في النفوس الذي ينمي في الإنسان الملكات الخيرة المباركة. ينمي لبه.. ضميره. وإرادته.. وخلقه، وتأتي تبعاً لذلك ونتيجة له التنمية المادية. إن الذي أضر بالعالم، وجعله ويعيش في قلق دائم وتوتر مستمر، وساقه إلى شفا هاوية حرب ذرية ثالثه كونه متقدماً مادياً متخلفاً روحياً، من هنا يظهر لك خطأ الذين ينادون بالتنمية المادية في مجتمعاتهم قبل التنمية الروحية، بل إن مناداتهم تلك ألصق بالخطأ من ألصق الخطأ بنفسه. إن مثلهم مثل من وجد غريقاً جائعاً يستغيث فتركه للأمواج تبتلعه، وذهب يبحث له عن طعام يقيم به أوده، ويسد به جوعه، وكانت الحكمة تقتضي أن ينقذه أولا من الغرق ثم يذهب فيبحث له عن طعام, ونحن لا نقلل من أهمية الطعام ولزومه للإنسان، ولكن الذي ننكره هو الكلف به والعكوف عليه وترك ما عداه من طعام الروح وحاجاتها، إن الحكمة تقتضي على الأقل أن تسير التنميتان معاً كفرسي رهان أو كركبتي بعير إن لم تتقدم الثانية على الأولى.
وفي الحج يتدرب المسلم على كمال الطاعة لله ورسوله، لأنه يؤدي بعض الشعائر وهو لا يدري ما وراءها من حكمة، وهذا أدخل في باب الطاعة لله تعالى والإقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم، ومما يجب عليه طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مع الرضا التام والتسليم والمطلق في كل شأن وعلى أية حال، فهي دين يثاب المرء على فعله، ويعاقب على تركه وعلى قدر إيمانه تكون طاعته وتسليمه ورضاه.(16/19)
وتأتي بعد ذلك طاعة أميرك الذي بايعته على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فتطيعه في المنشط والمكره والعسر واليسر والغضب والرضا والغنى والفقر قال عليه الصلاة والسلام: "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة". فهي إذن طاعة واعية قائمة على طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وبقدر طاعتك لله ورسوله صلى الله عليه وسلم تكون طاعتك لأميرك قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [6] .
الحاج وهو يؤدي مناسكه يلغي من ذهنه هذه الآماد الزمنية التي تفصل بينه وبين رسوله عليه الصلاة والسلام فكأنه يعيش في زمنه وبين أصحابه يطوف بطوافه ويسعى بسعيه ويقف بوقوفه ويرمي برميه وهكذا يستشعر جلال هذا الموكب النبوي الذي تحف به ملائكة الرحمن، وتهتف معه قلوب المسلمين. بهذا الإحساس المبارك تنمو عند المسلم ملكة الإقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والتمسك بسنته والدفاع عن شريعته والخير كل الخير في الإقتداء بالرسول الأعظم وإحياء سنته والسير على هداه، والشر كل الشر في التخلي عن ذلك ولله در وليد الأعظمى إذ يقول:
مثلى ومنهاجاً سلماً نيرا
ورجعت للتاريخ أنظر سيره
رجلاً يؤثر دون أن يتأثرا
وبلوت أخبار الرجال فلم أجد
وسرت على هداه مكبرا
إلا النبي محمداً فجعلته مثلى
شبراً عليه هوى ولا متأخرا
متمسكاً بهداه لا متقدماً
قلبي ولم أر في الحياة تعسرا
وشعرت أني مطمئن "ساكن"
شر المبادئ ما يباع ويشترى
وهتفت والدنيا تردد عاليا
ويوم أن يرجع المسلمون إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ومبادئ دينهم فقد اهتدوا إلى منبع سعادتهم ومصدر قوتهم.(16/20)
وفي الحج تدريب على حياة الجندية وتحمل المشاق. واذكر أني قرأت خاطرة للدكتور جعفر شيخ إدريس في عدد من مجلة (المسلمون) ، وخلاصة هذه الخاطرة أن الحج أشبه ما يكون بالمناورات الحربية، فهذه اللقاءات الخاطفة والوجبات الخفيفة والحركات السريعة والخيام المضروبة والتوقيت الدقيق والحرص على إصابة الهدف ثم انقضاء المهمة والشوق إلى الأهل والحنين إلى لقائهم، هذا كله يذكر بالمناورات الحربية والتدريبات العسكرية، وهو ما أدركه العسكريون، واعترفوا به، ولم يكونوا يومها يعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحج جهاد لا قتال فيه" [7] في كل ذلك تربية على حياة التقشف ودربة ومران على تحمل المشقات والتحلي بالأخلاق القوية الفاضلة. والمسلم لابد له أن يدفع ضريبة الجهاد في سبيل الله طيبة بها نفسه، فدينه دين جهاد وتضحية وفداء لا دين دعة ووداعة ودعوى، فهو يأمر إتباعه أن يبتعدوا عن الحياة الهشة الناعمة التي لا تكسب المرء إلا الترهل والغفلة وموت الضمير، وأن يتعشقوا حياة الجد والجهاد والجود والحركة الدؤوبة التي لا تهدأ أبداً، دفاعاً عن دين الله ضد العدو الطامع فيهم المتربص بهم.
وإن كان الحج جهاداً لا قتال فيه فإن هناك إخوة لكم مدججين بالسلاح يمسون ويصبحون فيه رابضين كالأسد الضواري مرابطين كأروع ما يكون الرباط في عديد من أراضي المسلمين المحتلة. نسأل الله تعالى أن يثبت أقدامهم، وينصرهم على عدوهم فتعود إلى المسلمين أرضهم السليبة وأقداسهم المطهرة الشريفة.(16/21)
والجهاد لا يكون بالنفس وحدها ولكن يكون بالنفس والمال فالله عز وجل يقول: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [8] .
ومن آداب الحج أن يكثر الحاج من النفقة على المحتاجين، وليكن إنفاقه عن سماحة نفس وطيب خاطر حتى يرتفع لدرجة القبول لأن الإنفاق على كره من صفات المنافقين الذين قال الله فيهم: {وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [9] وهذا منهج في التربية قويم سرعان ما يجعل المرء يسخر نفسه وماله في سبيل الله تعالى بعد أن تعود عليه وتخلق به، وتثبت من نفسه.(16/22)
وإذا نظرت إلى الإحرام وجدت فيه من الحكم والإسرار والفوائد ما يجعله منهجاً تربوياً فريداً في بابه عظيماً في آثاره، فهو نية في القلب قبل أن يكون تجرداً من المحيط والمخيط، وهو إقبال على الله تعالى قبل أن يكون قدوماً للبيت الحرام.. فيه إذن إخلاص العمل لله تعالى والبعد عن الرياء والسمعة من ناحية الباطن وفيه الإقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة الظاهر وهناك تلازم بين الظاهر والباطن، وترابط بين المادة والروح وهذا ما يميز الإسلام عن المسيحية الروحانية واليهودية المادية، فهو دين الكمال ودين الفطرة قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} [10] والسجود مثلاً معنى من المعاني وهو الخضوع ولكن لا بد من وضع الجبهة والأنف على الأرض ليكون أبلغ في الدلالة، وأوضح في الإشارة وهكذا.. الإحرام هو النية والنية محلها القلب ومع هذا لا بد من التجرد والالتزام بالشروط ليكون دائم الذكر حاضر القلب شديد الحرص، وبهذا يرتفع العمل، ويقبل، ويثاب عليه لأنه جمع شرطي القبول وهما الإخلاص والصواب، وقال بعض العلماء في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} قال: أخلصه وأصوبه. قيل له: ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لا يقبل، وكذلك إذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لا يقبل حتى يكون خالصاً صواباً.(16/23)
وتظهر روعة التربية في أن المحرم يحرم عليه الطيب ولبس المخيط والمحيط وإزالة الشعر من جميع بدنه وتغطية رأسه وتقليم أظافره والجماع والمباشرة وعقد النكاح وقتل الصيد ما دام محرماً، وهي فترة يتدرب فيها المسلم على حبس النفس عن شهواتها وصرع سلطان الهوى، ليكسب في النهاية قوة العزيمة وشدة الشكيمة وصلابة الإرادة والخروج عن مألوف العادة وهي فترة قصيرة محدودة ولكن فيها من تهيئة الجو وشدة التركيز ما يجعل أثرها بعيد المدى في النفس البشرية فلا تكاد تنتهي حتى يتخرج المسلم وفي يده شهادة بالمغفرة وقبول عمله - إنه يحصل على نفس صافية وروح طاهرة وبصيرة مشرقة وسلوك قويم وأقدام مصفوفة وجهود مرصودة على طريق الحق والخير والجهاد.
وفي التلبية.. لبيك اللهم لبيك إجابة لداعي الله إجابة بعد إجابة وتجديدها ورفع الصوت بها عند تجدد الحالات دلالة على أنه يجيب داعي الله تعالى في كل الأوقات وعلى مختلف الحالات فلا يمنعه عنها بيع ولا شراء ولا شغل، فتلقاه يجيب على الدوام منادي الصلاة وداعي الجهاد، ويبادر إلى كل عمل فيه صلاح لدينه ودنياه.. وهكذا ينبغي أن يكون المسلم سباقاً إلى المكرمات نهاضاً إلى كل ما يكسبه شرفاً وذكراً حسناً، وشعائر الإسلام وعبادته لا تألو جهداً في تأصيل هذه القيم الرفيعة في نفس المؤمن تذكره بها من وقت لآخر وتمده بها على طول الزمان كأنها محطات منصوبة على الطريق تمد المسافر بالوقود ليواصل المسير، ويقوم بالأعباء، ويحلق بركب المكرمات.
في الإحرام والتلبية إعلان بصوت عال عن حقارة الدنيا وخفة وزنها في نظر المسلم وميزانه الدقيق، وأنها أضعف من أن تستعبده أو تصرفه عن تلبية نداء ربه، وأنها موضوعة في يده لا في قلبه، وفي مقدوره أن يضعها تحت قدميه، ويجعل صوتها الناعم دبر أذنيه.(16/24)
وفي الحج تتجلى المساواة في أبهى حللها وأسمى معانيها، فإن تباعد المسلمون دياراً، واختلفوا ألسنة وألواناً فهاهم متساوون في زيهم وتلبيتهم وطوافهم وسعيهم ووقوفهم ورميهم وفي المباح وفي المحظور، لا فرق بين أحمر وأسود ولا بين غني وفقير، ولا بين سوقة وأمير، وذلك أبعد للنفرة من النفوس، وأنقى للصدور من الإحن والأحقاد، وأدعى لها أن تتقارب وتتآلف، وترتفع عن حزازتها العميقة واختلافاتها القديمة، فيعودوا كما أمرهم الله تعالى إخواناً متحابين.
والمساواة في الإسلام ليست نصوصاً أو بنوداً فحسب كما هي عند بعض الأمم ولكنها واقع معاش يحياه الناس يذوقون طعمه، ويلمسون في المجتمع أثره، إن الناس في نظر الإسلام لا يتفاضلون بأشكالهم ولا بألوانهم. إنما محك التفاضل هو تقوى الله عز وجل فكل من يحمل قلباً تقياً، ويسلك مسلكاً سوياً، ويعمل عملاً يفيد العباد والبلاد كان عند الله أكرم وبفضله أجدر ولرحمته أقرب قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [11] .
وإذا نظرت إلى العبادات في الإسلام نظرة فاحصة، وجدتها معرضاً رائعاً للمساواة في أقصى معانيها وأسمى أبعادها ومراميها ليست هناك عبادة خاصة بالملوك وأخرى لا تليق إلا بالسوقة، إنما هي شرع واضح كالشمس في رابعة النهار مبذول للجميع والكل في سواء أعظمهم أجراً وأرفعهم مكانة من تمسك به واجتهد في، وعول أمره عليه يصرف النظر عن لونه أو جنسه أو مكانته.(16/25)
أما الطواف بالبيت فأمره عجب، هذا البيت الذي جعله الله مثابة للناس وأمناً يستقبله المؤمن في صلاته على البعد خمس مرات في اليوم والليلة، ها هو الآن يقف أمامه وينظر إليه وقد ملأ عينه وقلبه جلاله وهو لا يبعده إنما يعبد ربه جل جلاله الذي جعله مثابة للناس وأمناً ومركزاً تلتف حوله قلوب المسلمين في المشارق والمغارب فيتوحدون في الاتجاهات والأهداف.
والطواف به يرمز إلى التزام شرع الله والعمل به وترك ما عداه من أفكار ومذاهب ونظم أرضية، فهو يلتزم منهج الله تعالى التزامه الطواف حول بيته الحرام عملاً ودعوة إليه والسعي تردد بين الصفا والمروة. والوقوف بعرفة تذكير بيوم القيامة ليأخذ المسلم أهبته ولا يشغله عنه حطام الدنيا ونعيمها الفاني، كما أنه فرصة للوقوف مع النفس لمحاسبتها وتذكيرها ومعاتبتها ومراجعتها فإن وجد خيراً حمد الله تعالى وسأله المزيد منه والثبات عليه وإن وجد غير ذلك بادر بالتوبة والوقوف بين يدي الله الذي يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسطها نهارا ليتوب مسيء الليل.. ورمي الجمرات رمز لرجم الشهوات النفسية والمذاهب البشرية ولك ما يخالف شرع الله ويروم تقويض بنيانه وهدم صروحه وكيانه. أما الذبح فإن الله عز وجل لا يريد منا أن نتقرب إليه بسفك دم الحيوان فإنه لن ينال منا لحومها ولا دماءها ولكن يناله التقوى منا.(16/26)
ولا بد أن يكون الحاج قد أدرك في نفسه الآثار الطيبة للرفقة الصالحة التي صحبها في سفره، وأدى معها مناسك حجه، وتعلم منها الكثير من المزايا السامية والصفات اللازمة للقيام بالواجب نحو الله تعالى والدعوة إليه، فمن آداب الحج ومستحباته أن يختار الحاج رفقة فاضلة الأخلاق طيبة المعشر عالمة بالأحكام راغبة في الخير كارهة للشر لتكون له عوناً على أداء نسكه على وجه ينال به الأجر، ويحظى بالقبول، وقد يتعلم منها أمور الدين والرفق وبين الجانب والإيثار والصبر على ما يطرأ عادة على المسافرين من غلظة، في الكلام وجفاء في الطباع وربما كانت سبباً في هدايته حالاً ومستقبلاً فكأنها فصل في مدرسة الحج الكبيرة. فإذا عاد إلى وطنه اجتهد في الانتماء إلى الجماعة المسلمة الصالحة الداعية إلى الله تعالى فيضع يده في أيديهم، ويضيف ما له وجهده وفكره إلى ما يبذلون في سبيل الله ودعوة الخلق إليه ويظل هكذا مثابراً مرابطاً مجاهداً مستمسكاً بهدي الله ومنهاجه، منصرفاً عن طريق الشيطان وزيغه واتباعه.
ثم على الحاج وقد انتهى من أداء حجه أن يعلم أن الجج بيعة ماضية في العنق إلى يوم القيامة.. إنه بايع الله عز وجل على ألا يشرك به شيئاً، وأن يطيعه ولا يعصيه أبداً، ويطبق منهجه، ويدعو إليه.. يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.. ويقول الحق ولا تأخذه فيه لومة لائم.. سلماً لأوليائه حرباً على أعدائه فلينظر من يبايع، ليصون بيعته، ويحفظ عهده، ولا يكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً.(16/27)
لعلنا ندرك السر في اهتمام الإسلام بالتربية الفردية القائمة على الأسس المتينة، ذلك لأن المجتمع إنما يتكون من الأفراد فإذا كانوا صالحين كان المجتمع صالحاً والعكس صحيح.. إذا أردت بناء سفينة قوية متماسكة تحمل البضائع، وتصارع الأمواج، وتسير إلى غايتها آمنة مطمئنة فاختر لها الألواح الجيدة المتينة، وإلا فإنك لن تظفر إلا بسفينة هشة ضعيفة سرعان ما تحطمها الرياح، وتبتلعها المياه.
فالإسلام يسعى إلى إقامة المجتمع الفاضل المتماسك المتعاون الآمن في ظل كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولا يدع فرصة تؤدي إلى قوته، وتزيد من منعته إلا هيأها واستغلها، والحج من أعظم المناسبات التي يجب على المسلمين استغلالها بما يعود عليهم بالخير والعز والنصر فهاهم قد تلاقوا في هذه الأرض التي باركها رب السماء، ويتلاقون كل عام، وذلك أنفى للشتات وأدعى للوحدة والوئام، وأحمل لهم على أن يتباحثوا ويبرموا الاتفاقيات، ويتبادلوا المنتوجات، ويتدارسوا المشكلات التي تشغل بال شعوبهم، وصولاً إلى الحلول المناسبة لها، واستشرافاً إلى المجتمع الإسلامي المتراحم المتعاون، وتحقيقاً لقول الرسول عليه الصلاة والسلام "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".
وعلى المسلمين عامة وولاة أمورهم خاصة أن يثقوا في دينهم وفي مقدرته على التصدي لمشكلاتهم وحلها حلاً جذرياً فيجعلوه عصمة أمرهم ومركز تجمعهم ونقطة انطلاقهم ومشرق شمسهم، ولا يذهبوا عنه وينظروا لغيره التماساً للحول والعلاج والرخاء فيكونون:
والماء فوق ظهورها محمول
كالعير في البيداء يقتلها الظما(16/28)
محمد عليه الصلاة والسلام موجود ملء السمع والبصر في وحيه الذي أنزل عليه من رب العالمين وفي سنته المطهرة التي صدرت عنه، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي"..
والله تعالى نسأل أن يوفق ولاة أمور المسلمين إلى كل ما فيه نصر لدينهم وعز لأوطانهم ورخاء لشعوبهم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] العنكبوت 45.
[2] التوبة 103.
[3] البقرة 183.
[4] البقرة 197.
[5] سورة الحج 27-28-29.
[6] سورة النساء 58.
[7] الكاتب يشير إلى حديث عائشة حين سألت الرسول صلى الله عليه وسلم:"هل على النساء من جهاد؟ قال: عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة"- المجلة.
[8] التوبة 111.
[9] التوبة 54.
[10] المائدة 3.
[11] الحجرات 13.(16/29)
خمسة أحكام للحج في آية واحدة
للدكتور عبد الفتاح عاشور
الأستاذ المشارك في التفسير وعلوم القرآن بالجامعة الإسلامية
من توجيهات القُرآنِ الْكَريم فِي الْحَجِّ
خَمْسَة أحْكَامٍ للحَج في آيةٍ وَاحدَةٍ مِنْ سُورة الْبقرَة:
1- إتمام الحج والعمرة
2- الإحصار
3- الحلق
4- فدية الأذى
5- التمتع
قال تعالى:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .. (سورة البقرة آية 196)
جاءت هذه الآية من سورة البقرة تبين بعض أحكام الحج وتقرر عدة معايير ومبادىء ربطت الإنسان بخالقه وأرشدته إلى الطريق الواضح المستقيم.(16/30)