وقبل التعقيب على كلمات الشيخ لا نرى مندوحة عن التذكير بالظروف التي تطرح فيها مثل هذه الأسئلة، وموقف الفقيه في تقديرها عندما ينتدب للجواب عليها.. فما زال صحيحا أنّ الحكم في الشيء فرع عن تصوره، وأقل ما يجب التنبيه إليه بإزاء هذا الضرب من الاستفتاءات - بل الاستدراجات - هو ذلك الوضع الذي صار إليه الغناء منذ غياب العهد الراشدي، وما أعقبه من تخلخل الضوابط الإسلامية في حياة المجتمع، حتى غلب اللهو على الجد، واقتحم المجون ميدان التوجيه الشعبي، فزاحم عليه كل المقومات الفضلى، وبذلك أفرغت نفوس العامة من عناصر القوة، ثم انتهت إلى الانهيار الذي دمّر أخيرا حضارة الإسلام، وذهب بقوة المسلمين في غرب العالم الإسلامي وشرقه..
الإسلام والغرائز:
إنّ الغناء في أصله ليس إلا وسيلة فطرية للتنفيس عن النفس، فإليها يلجأ الإنسان في فرحه وحزنه وحيرته وقلقه، وذلك أمر مشهود في الطفل والشيخ، والمحزون والمحبور والمتعب، وحتى في الحيوان، وغير معقول أن يمنع الإسلام هذه الغزيرة من التعبير عن ذاتها عند الحاجة، وهو الذي راعى في نظامه الأقوم وآدابه البنّاءة كل جوانب الفطرة, فأرشد إلى خير السبل في توجيهها واستصلاحها والموازنة بين عناصرها جميعاً.(13/59)
ولنضرب لذلك مثلا بفن الرسم.. إنه دون ريب تعبير فطري عن هوى أصيل في أعماق النفس البشرية، ينزع بها إلى محاكاة الواقع خارج الذات، أو يحفزها إلى تصوير مشاعرها الذاتية من الداخل، وليس هو خاصا بنفس دون أخرى، ولكنه يتفاوت من حيث القوة بتفاوت الأسباب، حتى يكون في واحد أشد بروزا أو خفاء منه في الآخر، وقد عالج الإسلام هذه الموهبة بتوجيهها في الطريق الأسلم، فنهى المسلم عن تصوير ذات الروح، في حين فتح له أبواب الطبيعة على مصراعيها.. يحاكي أشكالها، أو يبدع ما شاء له الخيال من الأشكال الجديدة، حتى امتاز في العالم بفن طريف لا يزال موضع الدهشة والمتعة عند كل ذي حس جمالي.. وبذلك صانه من السقوط في أوحال عبادة الجسد، التي انصرف إليها الفن الوثني وورثته في الغرب والشرق..
وعلى هذه القاعدة الحكيمة عالج الإسلام موضوع الغناء، فلم يقهر غريزة المسلم على تركه نهائيا، ولم يدعه لأهوائه تنطلق به في طريق الشعوب، التي اتخذت منه علما يدرس، وفنا يمارس، ثم صار بها الأمر إلى أن جعلت منه عبادة أقامت لها الآلهة، ونصّبت لها التماثيل.. وأقبل عليها الجميع فلا يحسن سواها، وهاو لا يستطيع عنها فكاكا، فهو ينظر إلى هؤلاء المحترفين للغناء كما ينظر العبد إلى ربه..
الإسلام والغناء:
أجل.. لقد سما الإسلام بالمسلم عن هذا الشذوذ النفسي، فوفر له المجالات التي تشبع غريزته من الغناء ضمن حدود الحكمة.. فأمره بترتيل القرآن، وحسَّن له التغني به، وجعل لهذا الترتيل أصولا تصور معاني القرآن، وتبرز جمال صياغته المعجزة، كما تحفظ في الوقت نفسه للعربية ألقها الباهر، وخصائصها المميزة على مر الدهر.. وبذلك أقام الإسلام للمسلم فنا جديدا يروي ظمأه، ويمتع وجدانه، ويسمو بأشواقه الروحية إلى آفاق لا يحلم بها سواه..(13/60)
هذا إلى أنه لم يضيِّق على النفس من الجوانب الأخرى، فأباح لها التغني في مختلف المناسبات، كالزفاف واستقبال المسافر، وفرص الأعياد، دون أن يفرض عليها قيداً سوى نظافة الكلمة، ورصانة التصرف الذي يليق بالإنسان الكريم.
وهكذا يتخذ الغناء في ظل الإسلام مظهرين يبدو في أحدهما فنا مستقلا له قواعده وقوانينه، وله ثماره وأهدافه التربوية، المتمثلة في تجديد الأشواق الوجدانية، وإعداد النفس للجلوات الروحية.. ويكون الثاني انطلاقا مع الفطرة في الأحوال التي تستدعي ذلك الانطلاق..(13/61)
وطبيعي أن دينا يعد الإنسان لمهمة الهداية الإلهية والقيادة العالمية، يستحيل أن يرضى عن تلك الحفلات الموسيقية التي يحتشد لها عشرات الآلاف، بل الملايين من الناس، عن طريق المشاهدة المباشرة.. وغير المباشرة، وقد رتَّب في صدرها المنقطعون إلى العزف بمختلف الأدوات حتى خشاخيش الأطفال.. وانتصب في وسطهم ذلك المغني أو تلك القينة، تتهاوى على أعين الهواة في تمعج وكبرياء يخيل إليها أنها تحيي وتميت.. وقد يتوهم بعض ناظريها أن بيدها الإسعاد والإشقاء، فلا يتمالك أن يقفز نحوها ليمرِّغ وجهه على قدميها، كما فعل الممسوس الذي نشرت مجلة (العربي) صورته، وجبهته على قدمي أم كلثوم، وهي تغني على المسرح الفرنسي في باريس.. ولم يكن هذا المعتوه بدعا من الخلق، فقبله كان شاعر الفجور الأكبر عمر بن أبي ربيعة إذا أخذه الوجد بالصوت يصرع فلا يصحو إلا أن ينضح بالماء.. وفي الأندلس يبلغ الهيام بالغناء إلى حد أن خليفة لا يتمالك أن ينخلع من وقاره بازائه، فإذا هو ينهض ليتراقص مع ابن شُهيد الشاعر الماجن على ألحان القيان.. ويسري ذلك في العامة حتى يحتشدون بالآلاف حول القصور ليشاركوا في السماع، تماما كما يفعل اليوم مئات الألوف بل الملايين حين يقضون معظم الليل في الاستماع إلى مسجلات تلك المغنية، التي برهن المليون من مشيعي جنازتها أن هذا الضرب من المخلوقات أعلى وأغلى في قلوبهم من عباقرة العلم، وأبطال الجهاد وسائر أصناف البشر دون استثناء..
ولعل قراء هذه الأسطر لم ينسَوا بعد أن زوجة رئيس الوزراء في إحدى دول المسلمين قد تخلّت عن بعلها وأطفالها لتلحق بفنان هامت بألحانه، وسكرت بأنغامه، فلم تصح إلا وقد نقضت غزلها وخربت بيتها بيدها، وخنقت في قلبها المسحور كل مشاعر الأمومة..(13/62)
ومَن مِن الناس لم يسمع بتهارش النسوة على فريد الأطرش، هذه تفضله، وتلك تفضل عليه، حتى ينتهي الأمر بينهما إلى التضارب بل إلى استخدام السكاكين.. أي والله السكاكين!..
واقع الغناء اليوم:
ونعود الآن إلى عبارات الشيخ..
إنه يقر الغناء في نطاق المباحات، إلاّ أن يعرض له ما يخرجه عن ذلك بأن يهيّج شهوة أو يدعو إلى فسق، أو ينبّه إلى شر، أو يتخذ ملهاة عن القيام بالواجب وطاعة الله.
والمفروض في فضيلته أنه ملمّ بروح عصره وبيئته، فلا يفوته واقع الغناء الذي أصبح فنّاً يجتذب الملايين، وله أساطينه الذين لا يقيمون وزنا لهذه الشروط التي أوردها, وها هي ذي أغانيهم المترددة على الألسن، مشحونة بالمهيّجات المفسدات الدافعات إلى كل شر وفسوق، لا تغطّي سوءاتها قصيدة في مدح الرسول، أو أنشودة في الحث على الجهاد.. أمّا إلهاؤها عن الواجب وطاعة الله فيسأل عنه جماهير المفتونين بها، الذين يترقبون فرص تلك المسجلات ليساهروها إلى ثلث الليل الأخير، دون أن يغمض لهم جفن، حتى إذا سكتت سقطوا في فرشهم مخمورين ذاهلين لا يعلمون، ما يعلمون وهم عن ذكر ربهم غافلون، وعن النهوض لصلاة الفجر - حتى لو أرادوها - عاجزون..
ثم هل نسي الشيخ حفظه الله أنّ الغناء الذي يسأله عنه السائل ليس هو ذلك العفوي الذي تستدعيه المناسبات المباحة، بل هو ذلك الفن الذي تعقد له الحفلات العامة، وتنفق فيه الأموال الطائلة، وتسخر لبثه أجهزة الدولة، ويعطي (الأرتيست) كل الفرص لاحتكار الثروات، وامتلاك العقارات، والوصول من الغنى إلى أعلى الدرجات! مما لا يحلم ببعضه عالم مكين ولا عامل أمين.. وهل نسي فضيلته أنّ جوابه، البعيد عن هذا الواقع، سيعطي دعاة هذا المجون فرصا جديدة لترويج سلعتهم، حتى في أوساط البسطاء من أهل الدين!.
الغناء المباح والمنكر:(13/63)
أما استناد الشيخ في حِلّيِة الغناء على خبر الجاريتين اللتين كانتا تغنيان وتضربان الدف في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بد من الوقوف عنده قليلا، ذلك لأنّ الناصرين لفنون الغناء كثيرا ما يلوحون به في وجوه المتحفّظين بشأنه، على حين أن الأمر لا يزيد على دفّ وطفلتين، كما حقّق ذلك أولوا العلم من أئمة الحديث.. ومع ذلك فلا شائبة في غناء النساء بالكريم من القول في مثل تلك المناسبات، على أن يظل ذلك في حدود المشروعات، أمّا حين يصل أمر الغناء إلى ما هو عليه الآن فلن يواجه من الشريعة إلاّ الرفض والإنكار، لما يترتب على شيوعه من توهين للعزائم، وتمييع للنفوس، وتعطيل للطاقات، ونشر للتخنث، ومن هنا جاء الحكم برد شهادة المحترف للغناء في القضاء الإسلامي، كما فعل ذلك القاضي المصري الفاضل حين رد شهادة مغنّ، على الرغم من سخط الفنانين ومَن وراءهم - جزاه الله خيراً -..
الدف والمعازف:
ثم احتجاج بعضهم بالدف لإباحة المعازف، على اختلاف أشكالها فمردود بإجماع الأئمة الأربعة على تحريم آلات اللهو جميعا لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلُّون الحر والحرير والخمر والمعازف"(13/64)
وممّا يسترعي الانتباه في الحديث جمعه صلى الله عليه وسلم بين هذه المنكرات الأربع، بما يشير إلى ارتباط بعضها ببعض، وإلى انسلاخ أصحابها من أخلاق الإسلام، ولهذا لم يرد في سائر الآثار التي عرضت للغناء المباح ذكر لغير الدف - أو الغربال وهما واحد - من أدوات اللهو، مع أنّ العرب قد عرفوا العديد من الآلات الوترية وغيرها أثناء. وإنما دخلت على المسلمين هذه الموسيقي المفلسفة في القرن الثالث على أيدي الفارابي وابن الراوندي وابن سينا وأضرابهم تأثراً بما قرؤوه عنها في تعاليم أرسطو وأتباعه من المشائين، فهي والحالة هذه فن دخيل لا علاقة له بالإسلام، ولا سبيل لإفراغ الصبغة الإسلامية عليه، مهما تكلف المتكلفون، ودبج في الترويج له الكاتبون والمؤلفون!..
وأخيراً أن كثيرين من المخدوعين بدعايات اللهو مأخوذون بالقول أنّ للموسيقي أثرها البالغ في إرهاف الشعور وترقيق القلوب، وتزكية النفوس، وتهذيب الأخلاق، وهو ما ذهب إليه اتباع الفلسفة اليونانية، من المتهمين بدينهم في العصر العباسي وبخاصة أصحاب (رسائل إخوان الصفا) . والواقع أنّ الموسيقي سواء كانت خالصة أو مزيجة بالغناء إنما هي ضرب من وسائل التهييج والتخييل، كأيّ صنف من المخدرات المشتتة للوعي, وهذا ما حفّز هؤلاء إلى أن يدّعوا ما نسبوه إليها من الخصائص، وليس زعمهم هذا إلا كزعم مدمني الخمر والمخدرات حين يقولون: إنها تمنحهم لحظات من السعادة لا سبيل إليها إلا عن ذلك الطريق..(13/65)
والحق أنّ الأمر على خلاف ما يزعم غواة هذه الفنون، ولو صح بعض ما ادعوه للموسيقى من فضيلة لظهر في أخلاق الغربيين، الذين يعتبرونها غذاءهم النفسي، وعبادتهم اليومية..ومع ذلك فهم أقسى الخلق قلوبا، وأشدهم بغيا وظلما واستكبارا على عباد الله، واستهتارا بحقوق الضعفاء.. وقد حدث أن زميلا لي كان يتحدث ذات يوم عن الموسيقى حتى ليقول: إنها تجعل من وحشي الطباع إنسانا رقيقا رفيعا. وكان ذلك أثناء الثورة الجزائرية، وقد انطلق الوحش الفرنسي يدمّر الجزائر على رؤوس أبنائها، فقلت: لذلك ترى الفرنسيين يقتلون إخوانك على أنغام الموسيقى! ولمدمني الغناء المشغولين به يقربهم من الله - عياذا بال له- نقول: على رسلكم فاسمعوا إلى شهادة ابن مسعود رضي الله عنه في هذا الضرب من اللهو إذ يقول: "الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع [1] وأي نفاق أكبر من أن يسمع أحدهم كتاب الله يرتّل، وحديث رسوله يتلى فلا تحنُّ جوارحه ولا يوجل قلبه، ثم لا يتمالك أن يصعق - كابن أبي ربيعة - أو يكاد إذا مرّ بسمعه ترجيع غانية على لحن معزف!.
ولأنصار الغناء وعشّاق نجومه نقول أيضا: بوسعكم أن تستنصروا لقضيتكم بتلاميذ الفلسفة الإغريقية، وبإخوان الصّفا الباطنية، وبسيفا راقصة المعابد الهندية، وحتى بالحواة الذين يستخرجون الثعابين من جحورها بالمعازف والألحان الغنائية.. أمّا أن تحاولوا الاتكاء على الإسلام في ترويج بضاعتكم فجهد مهدور لا حصيلة له سوى الإخفاق ولو أفتاكم المفتون، وخدع بدعايتكم المغفلون..
ومعذرة لفضيلة الشيخ الذي نكنُّ له كل تقدير.
على أبواب السبعين
من شعر فضيلة الشيخ محمد المجذوب
لذاذة عيشة وصلاح جسمِ !
أبعد التسع والستين أرجو
بأحشائي وأعصابي ولحمي
وقد وهت القوى وسرى التلاشي
من أصناف الغذاء بغير دعم
ولست بمستطيع هضم شيء
فلم أهجع ولم أنعم بحلم(13/66)
ولولا (الفاليوم) هلكت سهداً
الصبا عنه - ضياع في خضم
وعمر المرء - إذ ينقض ظلّ
من التقوى - سوى قفر أصم
وما روض الشباب - إذا تعرّى
قليل لو وقفت عليه همي
فحتام التشاغل عن مصير
يزل كالأمس إيماني وعزمي!
وفيم اليأس يغشاني ولما
على نوب الحياة وزاد علمي
وأدبني الزمان فزدت صبراً
بما وسعن من آفاق حِلمِي
وضَيَّقتِ السنون خطاي لكن
من الماضي الذي هو محض وهم
وما أبقت لي الأقدار أغلى
ظفرت من الوجود بخير غنم
فإن أحسن به لله شكراً
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سنن أبي داود ج7 رقم 4759, وقد تقرر لدى المحققين أنه من الآثار الموقوفة عليه, ولكنه من حيث المعنى بمنزلة المرفوع.(13/67)
قطرات من الضوء في رحلة قلم
لفضيلة الشيخ عبد الحميد ربيع
عندما تزدحم الأفكار في ذهن الكاتب، وتتكاثر التجارب أمام رؤيته الوحدانيّة, يحار, أيّها يأخذ, وأيّها يدع. وكل فكرة تطل بعينيها، وتدعوه أن يبدأ بها. وكل تجربة تتحرك أمامه, وتعرض أنواعها وألوانها, لعلها تأخذ مكانها إلى عالم النور, حيث تكون أول ما يعانق سن القلم، وينساب على أسلاته. بيانا أخاذا رائعا.
والكاتب ينظر ويتأمل, وبين هذه النظرات والتأملات يتوقف القلم ويختفي إشراق العبارة بين أمواج الفكر وتيار الوجدان.. ومن هنا يلجأ إلى طريق صريح مريح, هو أن يطلب إلى قلمه أن يحدِّثه، وينقل إليه بعض رحلاته وجولاته في عالم الفكر والحياة.
وهذا ما دار بيني وبين القلم, وما قصّهُ عليّ من إشراقه وانطلاقه, أتحدث به إليك أيها القارئ الصديق.
قلت لقلمي والأفكار تتصاعد إلى خاطري، والأحاسيس تتوافد على وجداني, فأدفعها دفعاً, وأصدّ تيّارها العارم المتدفق في رفق وأناة..
قلت: يا قلمي الحبيب, إني لا أريد أن تنهل مني, ولا أن تأخذ عني. قال القلم: ماذا تريد إذن؟
قلت: أريد أن تتحدث إليّ, وأن تحمل إلى سمعي كيف كنت؟ وكيف رحلة الضوء في حياتك, وأنت تتحرك مع الإيمان, وتنتقل مع قصة الإنسان؟.
قال القلم: إذن سأختار لك قطرات من الضوء, أحملها إلى فكرك ووجدانك حتى أذكرك كيف كنت, وكيف كان لقائي المضيء الجريء مع الأدباء والشعراء.
اسمع يا صديقي لقد كان القلم الأعلى أول شيء خلقه الله، وقد أمره الله أن يكتب, فكتبَ القدر, ودوَّن في تلك الساعة ما كان وما هو كائن إلى الأبد, وقد تحدّر إليّ نوره وفكره, وهأنذا أحدثك بلسانه, قلت: وكيف؟ قال: ألم تقرأ ما قاله الوليد بن عبادة ابن الصامت؟.(13/68)
قلت: بلى, ولكن ذكرّني وبصّرني بما أعطاك الله, وأفاض عليك, قال: سأفعل, ولكن لا تقاطعني حتى أتمّ هذه القطرات واللقطات, من أضواء الإيمان، ونبضات البيان.
قلت: هذا وعد وعهد.
قال: الآن أكمل ما بدأت فأعرني سمعك, والتفت إليّ بوجدانك, وها هي ذي كلماتي تسعى إليك.
أما كيف كنت أوّل شيء خلقه الله, فسأتلو عليك ما قيل في ذلك: فقد قال الوليد بن عبادة بن الصامت: أوصاني أبي عند موته فقال: يا بُنَيَّ اتق الله, واعلم أنك لن تتّقي, ولن تبلغّ العلم, حتى تؤمن بالله وحده, والقدر خيره وشره, سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أوّل ما خلق الله القلم, فقال له: أكتب, فقال: يا رب وما أكتب؟ فقال: أكتب القدر, فجرى القلم في تلك الساعة، بما كان، وما هو كائن إلى يوم الأبد" [1] .
وهكذا أراد الله أن أسجل كلَّ شيء كما أمرني الله.
وقد روى ابن جرير بسنده عن ابن عباس أنه كان يحدث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أوّل شيء خلقه الله القلم فأمره فكتب كلّ شيء" [2] .
وهكذا تحرّكت أول ما تحركت بقدر الله, وجريت أول ما تلألأ النور في منيَّ بما أمر الله, فكانت قطرات الضوء الأولى حين خلقني الله قدرا وأمرا, فكنت غامر السعادة بيِّنَ الجلال والكمال.(13/69)
ثم شاء الله أن أبدأ الرحلة مع خلق الله, فسرت في الوجود, تشرق الحياة على قطرات سِنَّى: علماً وإدراكاً وإيماناً, وتختفي معالمها حين تظلم الحياة في الضمائر, وتعمى بالناس المسالك والمدارك, فينسَوْني, أو يريدون إليّ أن أحيا مع الظلم والظلام, وأن تتحوّل قطرات الحبر بين شِقَّيّ دَماً مسفوحاً وشرعاً مذبوحاً, وأن أنشر الفزع والرعب, والخوف والدمار, بما يذيعونه في الناس: من نذر ثم من مصادرة للأنفاس, ثم من إرهاق للأرواح، ثم تجري قطرات الحبر دموعا، ويتحوّل صريري على الأوراق أنيناً ممزقاً، وتوجعاً محموماً, ثم أنظر إلى الضحايا والحيارى فأراهم ملحمة مأسوية تفيض بنزيف لا ينصب من الدم الشريف البريء. وأتمنى لو كانت هناك قلوب تترجم إحساسي وتدرك لهاث أنفاسي, إذاً لتكاثرت وتآزرت, وأسرعت لتلأم الجراح, وتعيد الصفاء للأرواح, وتطلع بين عناق القلوب فجر الأمان والإيمان, وظللت كذلك بين الأسى الدامع، والألم الفاجع. أنتظر بلهفة المفزع, وأمل المروَّع شعاع رجاء وقبس هداية وإنقاذ.
حتى كانت إطلالة الضوء للرسالة المحمدية, فأيقنت أن يقظة كبرى دَبّتْ في حياتي, وأن أضوائي ستنسج خيوط فجر جديد سعيد.
وبدأت الرسالة الكاملة الشاملة بالدعوة إلى القراءة, قراءة قصة الخلق, وقراءة العلم بالله الواحد, الذي فاض كرمه على الخلق, وزاد فضله عن الخلق، فعلّم الإنسان ما لم يعلم من أسرار الوجود, وآيات الكون.. ولكن كيف علّم الإنسان ما لم يعلم؟.
إنه تعالت قدرته, وتقَدس كماله, علَّمه بالقلم، ليعرف به ذاته، وليدرك أنواره وأسراره، وليبدِّد به الظلمة عن عَيْنَي الوجود، وليفتح به القلوب على آيات الله ونعمه, وليزيل غشاوات الأفكار والبصائر، حتّى يكون الإيمان الصادق المشرق هو لغة الحياة السويَّة النقيَّة.(13/70)
ومن هذا المنطلق السماويّ الصفيّ, سعيت بقطرات الضَوء، وتحرّكت مع الإنسان فسّجلت حياته وتاريخه, ودوّنت انتفاضاته ومعاملاته، كما حرّكْتُ في هالة الضوء إيمانه وبيانه، ونوّرت مع لغة قلبه حنانه ووجدانه, ثم أخذت كل ذلك، ووضعته في ضمير الزمن، ليتحرّك به فمه مع الأجيال وللأجيال, وليتحدث به في أذن التاريخ، وينتقل معه في رحلة الضوء، ومع قطراته الحبيبة الرحيبة، وليتقدم به إلى الكون حياة إنسان، وعهد إيمان، وإشراق علم وعمان، ومعالم حضارة إسلامية, بنت الوجود على العلم والكتاب، وجمعت شتاته على خير لسان وبيان.
ومن هنا كان قسم الله بالقلم وبالكتاب, فقد أقسم الله تعالى بي وبما أتحرك به على الورق ليسطّر وينوَر: من علم وفن وبيان في قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} .
وهو أعظم تكريم لي، ولما أدوّنه في كل زمان ومكان, فقد كان الوجود وما يزال مدينا لدعامتين: قلم وكتاب, يعني مدينا لي ولما أسطره ولا فخر..
وعلى هذا سارت قطرات الضوء في ركب الدعوة الإسلامية, لترى الدعامتين تقويان وترتفعان, حين تسير بهما على الألسنة, وبين الضمائر والخواطر, مشاعل الهداية، ومنائر الإخلاص والخلاص، لتأخذ بيد البشرية، وتمد لها طوق النجاة، لتجذبها من غمار الضلال والبهتان, إلى مراقي الإيمان والصدق والأمان.
ثم تقدمت في خشوع وإجلال لأتحرك بقطرات الضوء في موكب النبوة، فتابعت الرحلة, حينما تنزل الوحي على سيد المرسلين، وحينما تنقّل على أفواه الصحابة, وحينما صحبني الكاتبون، لأدوّن أحلى ما تحرّك به لسان، وأجمل ما نطق به فم, وأعظم ما قرأه رسول. وأقدس ما نوّر به لبان. لأدوّن القرآن الكريم.
فقد كان القرآن ما يكاد يتنزل وحْياً, وما يكاد يُتْلىَ نوراً, حتى تسعى له آذان الكون, وحتى تردده الخواطر والضمائر, وحتى يتحرك على أفواه المؤمنين الموقنين نورا ودستورا.(13/71)
وظلت كذلك في رحلة النور, إلى أن أكمل الله دينه, وثبت بين القلوب يقينه, وأصبح كل أصحاب رسول الله أضواء تسعى بالقرآن، وتمشي بين الناس بالعلم والعمل.
وفي موكب الجلال والكمال أخذت أتابع مشرق الوحي، حين يمضي بركب النبوة إلى ميادين الجهاد والنصر، فتأخذني العزة والفخر إلى منبع الإشراق والهدى. وحين تمت الرسالة بإتمام الدين, مضى الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى حين أتاه اليقين.
وهنا كادت تسيل قطرات الضوء دموعا, وتذيب الضلوع فزعا وهلوعا, ولكن تحركت الآيات وأضاءت الأصوات: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [3] .
من هنا صحوت وآمنت بأمر الله، وأيقنت بحكمة الله، وسرت بقطرات الضوء مع الرسالة حين أخذت طريقها بين الصحابة والتابعين. وأصبح الحفاظ لكتاب الله، والواعين لسنة رسول الله، وأحاديثه الشريفة الجامعة. أخذ هؤلاء وأولئك يسيرون وكأنهم مصاحف بشرية تتحرك بين الناس، وكتب للسنة تنطلق كما كان يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وظل الحال كذلك رغم الخطوب والحروب.
وقد فزعت, وأشتد جزعي وهلعي حينما احتدم الأمر في حرب الرِّدة, وقتل كثير من حفاظ القرآن, ولكني اطمأننت حينما دعاني الخلفاء الراشدون لكتابة القرآن, وأخْذِه من أفواه الحفاظ, وتدوينه على اللخاف [4] والجلود. وكان عملا أسعد حياتي حينما أتم الخلفاء الراشدون كتابة القرآن الكريم كلّه قبل أن ترحل البقيّة الباقية من الحفّاظ.(13/72)
ثم خفتت قطرات الضواء من أفق حياتي - لا تسلني يا صديقي كيف خفتت - إنها اختفت تحت غبار المعارك, وصليل السيوف, حينما ازدحمت الأجواء بالنقع, واختلطت الأشعة في الآفاق بالقتام والسهام. فقد احتدمت الفتن واصطدمت الجيوش, واحمرت المواقع, واصفرت الوجوه, وغاب عني البيان والأمان, فلم أدوِّن بين هذه الملاحم إلا الدموع والدماء, ولم أسجِّل إلا السلاح والجراح, في صراع دموي رهيب, تزهق فيه الأرواح الزكيّة التقيّة بيد أهلها وذويها, فكانت تسيل دماء القتيل لتنهمر دموع القاتل. إنّ قطرات الضوء لتتحرك معي, مندفعة من قلبي مع تصوير الشاعر الإسلامي لهذه المعارك, وما تسفر عنه من الفظائع والفواجع التي تتعانق فيها الدموع بالدماء, فيقول:
عليها بأيد ما تكاد تطيعُها
تقتِّلُ من وتْر ٍ أعزّ نفوسها
تذكرّت القُربي ففاضت دموعها [5]
إذا احتربَتْ يوما ففاضت دماؤها
ثم ماذا أدوِّن بعد هذا, والدماء تسجّل على الرمال آلاف القتلى من عظماء المسلمين، إني أدوِّن لك - يا صديقي والحياء يغلبني - بعض الرسائل والوصايا والمحاورات, في لقاء للمجتمع, هين هادئ رزين.
وظللت بعد ذلك مستريحا, أترك مهمتي للأسماع, تعي ما يدور؛ من الشعر والطُّرَف, وأخبار المجالس, وأحاديث الأسمار.
ثم التقت قطرات الضوء على أوراقي مع إشراقة عهد جديد, طلع على الوجود مع أفواج حضارات غامرة باهرة, بدأت طلائعها تحمل في يديها أولى شعاعات العصر العباسي الأول.
وبدأت قطرات الضوء تشهد للكتابة والشعر ما أصبح صناعة خاصة وبراعة مونقة متقنة. تخصص لها أناس، واحترفها آخرون، وصعد على أشعة الضوء إلى أعلى المناصب كتّاب, وشعراء, وأدباء. عرفوا الكلمة وجعلوها سُلّماً إلى مطالبهم ومآربهم.(13/73)
ومن هؤلاء محمد بن عبد الملك الزيات, وكان أديبا بليغا، وشاعراً محسنا، متكامل الأداء والوفاء, قد استطاع بذكائه وعلمه أن يصعد إلى الوزارة, وأن يعمل وزيرا لثلاثة خلفاء, هم: المعتصم, والواثق, والمتوكل.
وقصة صعوده إلى الوزارة طريفة ظريفة, فقد صنع من علمه ولباقته سُلَّماً من القشِّ الهشِّ وصعد عليه إلى الوزارة.
فقد حدث أن الخليفة المعتصم سأل وزيره أحمد بن عمار البصري عن الكلأ ما هو؟ فقال ابن عمار: لا أدري, فقال المعتصم: أي حكم هذا؟ خليفة أميّ, ووزير عاميّ, ثم قال: انظروا من بالباب من الكتّاب فوجدوا محمد بن عبد الملك الزيات, وأحضروه إليه فسأله عن الكلأ؟ فقال: هو العشب على الإطلاق, فإن كان رطبا فهو الخلي, وإن كان يابسا فهو الحشيش, ثم شرع في تقسيم النبات فاستوزره وارتفع شأنه [6] .
وأصبح له دولة وسلطان, حتى أقبل إليه الشاعر الملهم حبيب ابن أوس الطائي المعروف بأبي تمام, وأخذ يتودد إليه, وليس أجمل في هذا المقام من الحديث عن القلم الذي فضله وأوصله.
أرأيت - يا صديقي - كيف كانت صحبتي؟ وكيف أضاءت هذه الصحبة ذهن ابن الزيات, حتى استطاع أن يقول الكلمة في حينها, وأن يصعد عليها إلى ما يريد؟(13/74)
ولنعد إلى شاعرنا الملهم أبي تمام كيف حيّا صاحبه؟ وكيف تحدّث عني؟ إنه قال له: إنّ قلمه قد علا في منزلته حتى لا يستطيع أن يصل إليه كاتب, وأنه لبراعته إذا تحرّك على الورق متحدثا عن أمر، أصاب خفيّة وجليّة, وأنه لولا ما يكتبه في خلواته, وما يعطيه لقلمه من أسرار بلاغته, لما كان للمُلك تلك العزة والعظمة, التي تقام لها تلك الاحتفالات والمهرجانات, ثم يقول له: على أنَّ قلمك هذا إن شاءت عبارته بشدتها ونفاذها جعلت حبره سُمّاً قاتلا, وإن أرادت أساليبه ببراعتها ورقتها أحالت حبره عسلا مصفى, وإنّ قطرات الحبر التي تسيل على سنَّة يحسبها الغِرُّ الغافل طلا ورذاذا, ولكنها تفعل في الشرق والغرب ما لا يفعله المطر الغزير من الخير الكثير.
وإنّ هذا القلم إذا حملته أصابعك لتكتب به كان أفصح من دبّجَ وأنتج, وإن تخلّت عنه أصابعك كان أخرس لا يهمس, ولكنّه إذا احتضنته أناملك, واستوى بين أطرافها, وأخذ يدعو إلى فمه فرائد المعاني, أقبلت إليه روافد الفكر, الملأى بالمعارف واللطائف, وتفجّرت ينابيع البيان الحافلة بالروائع والعظائم. وعند ذلك تتجه الحرب كما يريد, وتنهزم الجيوش الجرّارة أمام همسة منه آمرة قاهرة.
وإذا أمدّه الفكر النابه, وسعت إليه العبارات تترى, وهي تتبارى في حسنها ورونقها, فأمتلأت بها الأوراق من أعلاها إلى أدناها, وقد بدأت الأفكار كالتيار, لا تنقطع ولا تمتنع, وهو يتحرك في مد زاخر نمامر, هنا تبدو عظمة شأنه, وهو يبدو نحيلا ضئيلا, ولكن أثره يطيح بالسمان العظام, إذا تحرك في حلبة الطعان والبيان.. أخذتني النشوة والعزة وأنا أنثر لك حديث أبي تمام عن القلم. يعني حديثه عني. وأحب أن تقرأ أنت يا صديقي شعره يقول:
تُصابُ من الأمر الكلىَ والمفاصل [7]
لك القلمُ الأعلى الذي بشباتهِ
لما احتفلت للملك تلك المحافل [8]
له الخلواتُ اللاء لولا نجيُّها(13/75)
وأرْيُ الجَنىَ اشْتَارَتْهُ أيد عواسل [9]
لُعَاب الأفاعي القاتلات لعابه
بآثاره في الشرق والغرب وابل [10]
له رِيقَةٌ طلُّ ولكِنَّ وقعِها
وأعجم إن خاطبته وهو راجل [11]
فصيح إذا استنطقته وهو راكب
عليه شعابُ الفكر وهي حوافلُ [12]
إذا ما امتطى الخمسَ اللطافَ وأفرغت
لنجواه تقويضَ الخيام الجحافل [13]
أطاعته أطرافُ القَنَا, وتَقَوَّضَتْ
أعاليه في القرطاس وهي أسافل [14]
إذا استَعْزَرَ الذّهنَ الذكيَّ وأقبلتْ
ثلاث نواحيه الثلاثُ الأنامل [15]
وقد رَفَدتَهْ الخنصران, وسدَّدَتْ
ضَنىً وسَمِيناً خَطْبه وهو ناحل [16]
رأيت جليلاً شأنُه وهو مُرْهَفٌ
وبعد هذا اللقاء الممتع بين الأديبين, وما سجّلاه في دولة الأدب من المهارة والجدارة.
بعد هذا اللقاء ماذا تريد منّي - يا صديقي - أظنك تريد مَزيداً من أخبار أصدقائي, في رحلتي مع قطرات الضوء. حَسَناً, سأرحل بك إلى وزير آخر عمل وزيراً لثلاثة خلفاء أيضا, هم: المقتدر, والقاهر, والراضي.
ذلك الوزير هو محمد بن علي بن حسن بن مقلة [17] الكاتب, صاحب الخط المنسوب إليه, والذي نقل به الخط من الكتابة الكوفية إلى الكتابة المعروفة الآن بجودتها وروعتها, ولهذا ضرب به المثل في براعة الخط والتفوق فيه.
وقد استطاع هذا الشاعر الكاتب, بلباقته وتأنقه, أن يجمع بين روعة البيان, وبراعة البنان, فكان كمن جمع بين السَّعْدَيْن: جمال الخط, وابتسام الحظ, بل إنه كما قيل: "صعد بجمال الخط إلى جمال الحظ", ولكنه في موكب السعد, هل سلم من الحسَّاد, وكيد الحاقدين؟
إنّ حسّاده، والنافيين عليه بيانه ومكانه, قد دسُّوا له: أنّه زوّر كتابا على الخليفة, ووقِّعه عنه؛ فأقصاه الخليفة عن الوزارة, وأقسم ليقطعنّ يده.(13/76)
وقد كان ابن مقلة مع عظم منزلته ومكانته, وصولا ودودا, كثير الأصدقاء والأصحاب, وكانوا يملئون أبوابه ورحابه, ولكنهم ما كادوا يعلمون بمحنته, حتى تفرقوا عنه, ولم يظفر بفرد واحد يواسيه, ويخفّف عنه بعض مآسيه. ومع ذلك لم تمكث هذه المحنة غير بعض يوم, فقد انكشفت المكيدة, وظهر الدسُّ, ووضحت براءة ابن مقلة, فأرسل إليه الخليفة, وخلع عليه، وأخذ يسيرضيه ثم أرجعه إلى ما كان عليه من المناصب والتكريم.
وهنا أقبلت وفود المنافقين, ومواكب المرائين والمداهنين, وتكاثر عليه أصحاب المكائد والموائد, أقبلوا من جديد إلى داره ومزاره, يدعوهم في سخرية إلى مزيد من النفاق والارتزاق فيقول:
فحيث كان الزمانُ كانوا
تحالف الناسُ والزمانُ
فانكشف الناسُ لي وبانوا
عادانيَ الدهرُ نصفَ يومٍ
عودوا فقد عاد لي الزمان
يا أيُّها المعرضون عنّا
أرأيت - يا صديقي - كيف يلقى النابهون والمتفوقون؟ وكيف يتحمّلون كثيرا من المتاعب والمصاعب؟ ولكنها ضريبة المجد, وكم للمجد من ضرائب.
أظنك بعد هذا تريد إليّ أن أمضي بك مع قطرات الضوء إلى موقف آخر لشخصية أخرى. نعم - يا صديقي - سنلتقي بشخصية أخرى من أعز أصدقائي إنه وزير شاعر فارس عرف القلم فامتشقه وآخاه فأهدى إليه ألقه. أتريد أن تعرف حديثه عني, واعتزازه بي إنه صورني بأجمل ما يصورني شاعر يعيش قصة القلم بمعناها ومرماها, ويؤكد أن السيف ظل للقلم, وأن صليله صدى لصريره حينما يتحرك على الورق, وتسعى إليه الدنيا لتسبق. وأنه إذا حمل القلم فحسبه ذلك عزة ومتعة. أرأيت إلى أي حدّ بلغت منزلتي؟ إنه ليهزّني الطرب وأنا أنقل شعر ابن سناء الملك حين يتحدث عن القلم, يعني يتحدث عني في ذلك الشعر الذي ما زال يهز أذن الزمن, ويحرّك النخوة في حملة الأفلام؛ ذلك حيث يقول:
فما ضرَّني ألا أهزَّ المهَّندا
ولي قلمٌ في أنْمُلي إن هززته(13/77)
فإنَّ صليل المشرَفيِّ له صَدَى
إذا صال فوق الطرس وقعُ صريره
أقرأت – يا صديقي - كيف يكون الوفاء والسناء؟ إنه مَجْدٌ وأيُّ مجد.. وإنّي لأحس الآن أنك تطالبني بمزيد من الحديث, وأن أسير مع قطرات الضوء إلى موقف آخر, وشخصية أخرى. ولكني لا أريد أن أكدّر خاطرك, أو أعكر وجدانك. فسأعبر بقطرات الضوء تلك العصور الخامدة الهامدة, التي خفقت فيها أضواء المعرفة, وانزويت في غياهبها إلى حين. وأنا أتطلع إلى فكر يقظ، وبيان رائد, وإيمان يمسح عن عينيه الظلام والإحجام, ويشق حجب الأوهام والآثام, ليُطْلعَ فجر الحقيقة, الذي يزيل الأباطيل ويمحو الأضاليل, ويكشف عن جوهر المسلم السليم المستقيم, الذي يلتقي مع خالقه بالضياء واليقين, ويخوض من أجل دينه ملاحم الجهاد والاستشهاد، هكذا كنت أنْظرُ إلى عصور الاستعمار والاستعباد، ويدفعني الشوق إلى أن أقوم برحلة داخل الأفكار والأبصار، لعلني أصل إلى ملاذ في طريق الإنقاذ.
وقد كان وبدأ ركب الإصلاح يظهر هنا وهناك، حتى بدا فلق الصبح, وظهر الطريق واضحا صريحا, وبدا النبع المحمدي عذبا سائغا، فقصده المسلمون، ينهلون منه، ما يُرْوي البصائر, ويَشْفي القلوب, ويضيء الضمائر, ويدعو الناس في مشارق الأرض ومغاربها إلى مورد الصدق واليقين.
وهنا ألتقي بأحد العلماء [18] الشعراء يتحدث عني, ويذكر أثري في صحوة الحياة حين تمضي قطرات الضوء فتهز النفوس والرؤوس. وحين تدُقُّ أبواب الظلام فتذوب وتزول. ثم حين أقصد إلى الفتن فأطفئها أو أهدِّمُها، وحين أريد أن أشنها حربا أحيل مدادي دما, وحين أريد أن أجعل الدنيا زهرا وعطرا تبتسم فيها أضوائي على فم الزمان, وتبصر السعادة ثمارا تملأ الأعين أفراحا, والأرواح متعة ومِرَاحاً, وحين أبعد بأضوائي تجد الحيرة على الوجوه وتبصر العقول تكاد تزِل وتَضِلّ, وأنا دائما أحمل نضارتي ورونقي بين البستان أو فوق البنان.(13/78)
ولو نظرت إلى قطرات الحبر أبصرت الحياة تتدفق وتتألق, ورأيت الضياء والبناء للحياة في مباراة حتى تبلغ الحياة قمة اكتمالها إيمانا وأمانا.
أظنك الآن تشتاق معي لتقرأ شعره, وهاأنذا أنقله لك حيث يقول:
وأمات اليراع خطبا مثارا؟
كم أثار اليراع [19] خطبا كمينا
فأسالت من الدِّما أنهارا
قطرات من بين شِقّيْهِ سالت
وغصون الخلاف [20] تزهو ثمارا
هو إن شعّ فالليالي ابتسام
وعقول الأنام تكبو انهيارا
وهو إن غضّ فالنفوس حيارى
حين يُسقى الدُّجى فيغدو نهارا
كان غصنا فصار أنضر عود
وبناء في سنِّة تتبارى
هكذا تبصر الحياة ضياءً
وإلى هنا - يا صديقي - نكتفي بهذه القطرات، لنلتقي بها مرة أخرى في رحلة مع قطرات ضوء جديدة سعيدة إن شاء الله.
قلت: ولكن هناك قطرات ولقطات تنتظر الأضواء.
قال القلم: نعم, وموعدنا مع رحلات آنية, تتعدَّد وتتجدَّد.
قلت: هذا لك, وإني لمنتظر رحلتك القادمة, فإلى اللقاء يا قلمي الحبيب.
قال القلم: إلى اللقاء, وأنا عند موعدي بمشيئة الله يا صديقي العزيز.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] مسند الإمام أحمد بسنده, والترمذي بسنده، وقال: "حديث حسن صحيح", وأحكام القرآن للقرطبي الجزء 18 ص 225.
[2] ابن كثير المجلد الثالث ص532 رواه عن ابن جرير.
[3] الآية 144 من سورة آل عمران.
[4] اللخاف: جمع لخفة، وهي الحجارة البيض الرقاق.
[5] ديوان البحتري. قصيدته في مدح المتوكل.
[6] شذرات الذهب ج2 ص78.
[7] شباته: حده.
[8] نجيها: سرها.
[9] لعاب الأفاعي: سمها – الأرى: العسل – اشتارته: جنته – العواسل: جمع عاسلة وهي التي تجني العسل.(13/79)
[10] الطل: الندى والمطر الخفيف_ الوابل: المطر الغزير.
[11] راكب: راكب على أنامل الكاتب – أعجم: ضد الفصيح _ الراجل: الذي يمشي على رجليه.
[12] الخمس اللطاف: أنامل الوزير – شعاب: جمع شعب وهو مسيل الماء – حوافل: مملوءة.
[13] تقوضت: تهدمت – نجواه: حديثه الخفي – الجحافل: الجيوش العظيمة.
[14] استعزر: استعان.
[15] رفدته: أعانته – ثلاث نواحيه: زواياه الثلاث.
[16] مرهف: محدد – سمينا خطبه: عظيما شأنه – ناحل: ضئيل الجسم والحجم.
[17] شذرات الذهب ج1 ص310 – 311.
[18] هو الكاتب العظيم والشاعر المبدع مصطفى لطفي المنفلوطي.
[19] اليراع: القلم.
[20] الخلاف: شجر لا ثمر له.(13/80)
أثر الإسلام في النقد الأدبي عند العرب
بقلم الدكتور عبد الحميد محمد العبيسي
أحمد الله إليكم، وأصلّي معكم على رسول الله، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا، وإليك المصير وبعد:
فإنه لمن دواعي اغتباطي وسروري البالغَيْن أن تتاح لي فرصة الإسهام بهذه المحاضرة ضمن إطار برنامج محاضرات الموسم الثقافي للجامعة الإسلامية المباركة المزدهرة, وقد اقترحت أن يكون موضوعها هو:
أثر الإسلام في توجيه وتهذيب النقد الأدبي عند العرب
وحين أوثر هذا الموضوع بالحديث فإن ذلك مرجعه إلى أسباب قوية أهمها:
1- هذه المزاعم التي رددها نفر من المستشرقين الذين يكيدون للإسلام والتي تقوم على أن هذا الدين الإسلامي قد انتشر بين العرب انتشارا جغرافيا سياسيا منذ انتصار الإسلام الحربي في شبه الجزيرة، ولكن الإسلام الثقافي لم يجد طريقه إلى قلوب المسلمين إلا في العصر العباسي. محتجين بأن الشعر العربي في صدر الإسلام جاء خاليا من الصور الإسلامية المختلفة، وحجتهم تلك واهية لا تستند إلى أساس، ذلك أنّ أيّ متأمل لشعر الإسلام الأول يجد أن الألفاظ والمعاني الإسلامية قد وجدت طريقها، وأخذت سبيلها إلى هذا الشعر العربي منذ قيام دولة الإسلام الأولى هنا في المدينة المنورة بعد الهجرة.(13/81)
2- سوء فهم بعض الباحثين العرب لموقف الإسلام من الشعر، ذلك أنهم زعموا أنّ القرآن يعادي الشعر، ويكره الشعراء، وأن الإسلام لا يرضى عن الفن الشعري، ويذم المشتغلين به، مستندين إلى ظاهر آية الشعراء {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [1] متناسين سياق هذه الآية الكريمة، وأنّ الإسلام لا يحارب الشعر والفن لذاته، بل يحارب المنهج الباطل الذي سلكه الشعراء الذين عارضوا هذا الدين، ولم يؤمنوا به حين دعاهم داعي الإيمان، بدليل هذا الاستثناء {إلأَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [2] فهؤلاء لا يشملهم هذا الوصف العام من الذم، وإلا فهل يستوي عبد الله ابن الزِّبعري، وأبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب اللذان كانا يهجوان رسول الله صلى الله عليه وسلم في جاهليتهما قبل إسلامهما، وحسّان بن ثابت، وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم من شعراء الأنصار الذين مدحوا الرسول صلى الله عليه وسلم، ونافحوا عن دعوته؟
3- أنّ بعض الدارسين من النقاد العرب لم يدركوا نظرة الأصمعي الفاحصة إلى شعر حسان بن ثابت في الإسلام التي تقول: "إن هذا الشعر قد لاَنَ؛ لأن الشعر نِكدٌ لا يقوى إلا في الشر، فإذا دخل في باب الخير ضعُف.."، إذ رتَّبُوا على ذلك حكماً خاطئاً مفاده: أنّ الإسلام كان وراء ضعف الشعر في الصدر الأول عصر النبوة، فإذا ما قست هذا الشعر بشعر الفحول الجاهليين، أو قسته بشعر الفحول الأمويين تجده دونهما: قوة ومتانة، فقد ضعف كمّاً وكيفاً!! هكذا قالوا، وما زالوا يقولون!!.(13/82)
وفات هؤلاء أن جذوة الشعر لم تنطفئ، ولكن في إطار منهج هذه الدعوة الإسلامية الجديدة، فتلاشت أغراض كالهجاء المقذع، والغزل الرخيص الفاحش, ومجالس الشراب والهوى، وغيرها أغراض وجدت واتسعت كشعر الفتوحات، والتعريف بهذا الدين، والدعوة إلى التمسك بمبادئه في توحيد الله تعالى، وعبادته الخالصة، والالتزام بالأخلاق الإسلامية الرفيعة، والمثل الإنسانية الكريمة، مما جعل شعر عصر النبوة يباين شعر الجاهلية، في كثير من اتجاهاته وتصويراته فلا محل للقياس، فضلا عن أن النثر الفني الذي كان قليلا في الجاهلية قد ازدهر كثيرا في الإسلام, ممثلا في البلاغة النبوية، والخطابة الإسلامية, وبهذا اتسعت دائرة العمل الأدبي، شعرا ونثراً في عصر النبوة.
وكلام الأصمعي هذا إنما يمثل الأساس الراسخ المتين لما تعورف عليه اليوم بين النقاد المعاصرين بـ (قضية الالتزام) , هذه القضية التي أصبحت مثاراً للخلاف الشديد بين النقاد في زماننا، حتى ليمكن القول: إنها صارت قضية النقد المعاصر، ولا يستطيع باحث كائن مَنْ كان أن يسوي بين شعر لا يصدر عن نزوة طارئة، أو جمحة عارمة، وبين شعر لا يصدر عن هوى ولا ينصرف عن خير، ومن ثَمَّ فإنّ المنهج الإسلامي الذي استقرت عليه أرواح الشعراء في الصدر الأول، فاتجهوا إلى الواقع يصورونه ويتأملونه رغبة في تعميق الإيمان بالله، والثقة فيه عدلا وفضلا، قد اتسع هذا المنهج لمقتضيات هذه الحياة التي ترامت أطرافها، وتباعدت أرجاؤها، حتى كان ما رأيناه من نكسة الشعر على يد أصحاب النقائص: جرير، والفرزدق، والأخطل من شعراء بني أمية، فإن هذا الثلاثي هو الذي يتحمل وحده مسؤولية هذه الانتكاسة بعودة الهجاء على نحو جاهلي بل أشد، وغير ذلك من فنون القول وأغراضه التي لم تلتزم منهجا أخلاقيا، أو مبدأ إنسانيا، بالفحول الأمويين والفحول الجاهليين- في زعم بعض الدارسين اليوم.(13/83)
4- أن التبعية التي فرضتها ظروف على بعض الدارسين تجعلهم بمنأى عن الواقع الإسلامي الذي كان مسرحا للفن الأدبي حين يتصدون لتقويم هذه الفترة التي لم تكن طبيعة أو مستقرة، فها هو كتاب الله يتنزَّلُ على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم منجَّماً حسب الحوادث، ووفق الأحوال، ينظم شؤون المعاش والمعاد، ويرسم الطريق لفتح القلوب والبلاد، والمؤمنون من حول رسول الله يزدادون إيماناً ووثوقا في نصر الله للمؤمنين، فيدافعون عن قرآنهم بسَنَانهم ولسانهم، ويدفعون الباطل بسلاحهم ونتاج عقولهم، وقد استولى عليهم جو القرآن فأثر في نفوسهم وأفئدتهم، وحَرَّك مشاعرهم وأحاسيسهم، فكان طبيعيا أن يشتغل الناس به يحفظون آياته، ويتدبّرون معانيها، ويدركون مراميها، حتى سيطر جوه الفني على عقولهم وقلوبهم، فكان بمثابة البديل الفني لهذه الأمة عن ذلكم الشعر الذي استولى عليها ردَحا من الزمَن، واستبد بكل جانب من جوانب حياتها طيلة الجاهلية الأولى، وإبان ظهور الإسلام، حتى قيل: إن هذا القرآن - بتأثيره الساحر في نفوس العرب - كان واحداً من أسباب انصراف المسلمين الأوائل عن التعبير الفني فترة من الوقت لأنه أغناهم-مؤقتا- عن جمال الأداء بجمال التلقي والانفعال!!.(13/84)
وقد اتخذت الدعوة الإسلامية من الإعجاز الفني للقرآن مظهرا بارزا من مظاهرها، ومنطلقاً أساسيا من منطلقاتها في الدعوة إلى هذا الدين بالحجة والإقناع، والحكمة والإبداع، مما هيّأ للنقد العربي سبيلا أكثر تقدما نحو الموضوعية، فكان مولد قضية الإعجاز الفني للقرآن، وهي قضية نقية في الصميم، ولقد استتبع البحث فيها ظهور قوانين البلاغة وقضاياها وأحكامها، تصحيحاً للأساليب العربية التي تعرّضت لموجة اللَّحنْ، مع ضعف الملكات وفسادها بفعل الاختلاط بين العرب وغيرهم من شعوب الأرض، وإبرازاً لنواحي الإعجاز التفصيلية في نظم القرآن الكريم, وكشفا عن القيم الجمالية التي تكمن في أساليب هذا الكتاب وآياته، وصولا إلى إثبات إعجاز القرآن بنظمه ونسقه، وروعة نسجه، وتخير لفظه، وتناسق موسيقاه، وعمق معناه، وشرف مغزاه.. في مواجهة الملحدين الذين قالوا بالصَّرفَةِ {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [3]
5- وكذلك فرضت التبعية على هؤلاء أن يطعنوا في أصالة النقد الأدبي عند العرب زاعمين، أن نُقَّاد العرب أفادوا - تبعا لا أصالة - من بعض ما ترجم فلاسفتنا القدامى، دون أن يدركوا النظريات الكلية للنقد اليوناني القديم، وأنّ ما لدى الأجانب (الفرنجة) من أصول النقد، ومناهج الأدب هو المقياس الأقوم، والمثل الأعظم، ومن ثمَّ فلا مفرَّ من إخضاع الأدب العربي لتلك المقاييس الأجنبية، غير عابئين بالمقاييس الأصلية للنقد العربي، متجاهلين حقيقة الاختلاف في طبيعة الفن الأدبي من أمة إلى أمة، وجوهر التفاوت بين المقاييس النقدية لفحص هذا الفن المختلف باختلاف واقعه!!.(13/85)
وقد أذكى هذا الاتجاه حدَّة الصراع بين القديم والجديد التي بلغت ذروتها في عالمنا المعاصر، حتى رأينا بعض أنصار الجديد من العرب المسلمين يقولون بإلغاء ذاتية الفن الأدبي ونقده عند العرب، وهم بهذا يشوِّهون شخصية هذه الأمة المسلمة التي يمثّل فيها الفن الأدبي ونقده أحد معالم شخصيتها البارزة.
هذه الأسباب وغيرها بلا شك كانت وراء اختياري لهذا الموضوع الذي سأتناوله الليلة في وقفة متأنية من أجل المراجعة والتقويم، وقفة تبدو فيها الحقائق عارية عن الأهواء، وتظهر الأمور مجردة عن النزعات والشكوك في إطار من الموضوعية الجادة، والشمولية الهادفة.
ولا أدعي - بهذه الوقفة - الإحاطة المستوعبة لجوانب هذا الموضوع المتعددة بل والمتشابكة، ومن ثمّ فإن حديثي إليكم ومعكم سيكون بمثابة أضواء كاشفة على الطريق، هذا وبالله التوفيق.
أيها الإخوة.. أيها الأبناء:
قد يكون من المفيد حقا أن نعرض بشيء من الإيجاز الوافي لحركة النقد الأدبي في الجاهلية، لكي ندرك مدى البعد الذي حققه الإسلام في توجيه الأفراد الذين شكلوا مجتمع الإسلام هم بذواتهم الذين كانوا يصنعون مجتمع الجاهلية، وهنا يبدو أثر الإسلام في إعادة صياغة حياتهم الفكرية والأدبية والنقدية على نحو جديد لم يألفوه ولم يعرفوه.(13/86)
ذلك أنه على الرغم من تردِّي الحياة الجاهلية الوثنية في بعض جوانبها الاجتماعية، وعلاقات الأفراد والقبائل بعضها مع بعض بما تحفل به كتب التاريخ من قصص المعارك، حتى لتبدو هذه العلاقات في جملتها سيئة؛ لأنها تقوم على العصبية الدموية، والقرابة النسبية، وناهيكم بـ (أيام العرب) التي راح ضحيتها الكثيرون من أبنائهم وشجعانهم، ومن العجيب أن هذه الأيام كانت من بين الأسباب القوية في إنهاض الشعر العربي الجاهلي، تعبيرا عن الحماسة والفخر والتباهي بالأنساب والأحساب، وفق تقاليد الجاهليين، وظل الحال يتصاعد في نمو أدبي مطّرد حتى ظهر نور الإسلام، والعرب أغنى ما يكونون براعة وفصاحة في كلامهم: شعرا ونثرا.
ومن الواضح المتعالَم أن هذا الأدب العربي وُجد أولاً منذ بدأت فترة الجاهلين، تعبيرا عن مفاتن الحياة، وتصويراً لمظاهر الطبيعة آنذاك، ففاضت ملكات الشعراء، وجادت مواهب الخطباء بالجيِّد من القول، والرائع من الكلام.(13/87)
وقد كان لكل قبيلة في الجاهلية شاعراً أو أكثر وخطيب تعز بظهورهم، وتشرف بنبوغهم، وكان حرصهم على الشعر أكثر من النثر، لسهولة حفظه، ودوامه وبقائه، وهم قوم تغلب عليهم الأمية لا يكتبون، ولا يقرؤون من كتاب، ومن ثم كان اتجاههم إلى الشعر الغنائي أو الوجداني فهاموا به، وأغرموا بحبه، يعزفون على قيثارته أشجى الألحان, ويشدون أجمل الأنغام، وينشدون أعذب الأشعار، ثم يعقدون أسواقهم الأدبية التي من أكبرها وأشهرها (عكاظ) الواقع شرقي مكة بين نخلة والطائف، وكانت هذه الأسواق تمثل منتديات النقد ومحافلة في هذه الفترة، فيعرضون فيها نتاجهم الشعري والأدبي على أرباب هذه الصناعة الشعرية والأدبية، طلباً لتقويم ما يعرضون، وتحصيلاً للسبق فيما يتنافسون, وعندئذ تبدو مواطن الجودة منه، وتظهر مواضع الرداءة فيه، وهذا التقويم لتلكم الأساليب الشعرية والأدبية هو ما عُرِف بـ (النقد الأدبي) أو (نقد الأدب) [4] ، وقد مارسه الإنسان العربي بفطرته وذوقه، وطبيعته وإحساسه، وميله ومزاجه، فاستحسن أو استهجن ما يراه دون تحليل أو تعليل يواكب تذوقه الجمالي، مما جعل هذا النقد الجاهلي ينشأ ذاتيا محدوداً في نطاق كل نص على حده إلى الحد الذي يستطيع، على نحو هذه اللمحات النقدية التي ذكرتها أمهات الكتب المعنية.
ولعل أقدم ما حكاه الرواة في إطار ما عُرف من نقد لدى الجاهليين هذه الرواية - على القول بوقوعها - التي كان مسرحها (حِمَى بني طيء) حين كان يقيم فيهم أمير الشعراء الجاهليين امرؤ القيس الذي تزوج هناك من (أم جُنْدب) فدخل عليه يوما علقمة بن عَبَدة التميمي المعروف بـ (علقمة الفحل) ، وهو قابع في خيمته، ووراءه أم جُنْدب وهي بنت عم علقمة الشعر، فقال امرؤ القيس: أنا أشعر منك! وقال علقمة: بل أنا أشعر منك! فقال: قُلْ!، وأقول! ثم تحاكما إلى أمّ جندب، فقال امرؤ القيس قصيدته:
َقَضِّ لُبَانَاتِ الفُؤادِ المُعَذَّبِ(13/88)
خَلِيلي مُرَّابِي عَلَى أُمِّ جُنْدبِ
وأتبعه علقمة بقصيدة التزم فيها الموضوع والقافية، والروي لقصيدة امرئ القيس، فقال في مطلعها:
وَلَم يَكُ حَقَّا كُلُّ هَذَا التَّجَنُّبِ
ذَهَبْت مِنَ الهِجْرَانِ في غيْرِ مذْهَبِ
فلما فرغا من إنشادهما قالت لزوجها: علقمة أشعر منك.
فقال لها: وكيف ذاك؟ قالت: لأنك قلت:
وللزَّجْر فيه وَقْعُ أَخَرَج مُهْذِبِ [5]
فلِلسَّوْطِ أُلهُوبٌ وللِسَّاقِ دِرَّةٌ
فجهدْت فرسَك بسوطك في زجرك، وَمَريْتَه فأتعبْتَه بساقك!! أما علقمة فقد قال:
يَمُرُّ كَمَرِّ الرائح المتَحلِّبِ
فأدْركهُنَّ ثانيا من عِنَانِهِ
فأدرك فرسه ثانيا من عِنانه، لم يضربه بسوط، ولا مراه بساق ولا زجره, ولم يتعبه، فقال امرؤ القيس: ما هو بأشعر مني، ولكنك له وامقٌ أي: محبة.
ويبدو أنها كانت كارهة لزوجها، فضلا عن تعصبها لابن عمها علقمة، فجاء حكمها ممثلا لهواها في بيت واحد من قصيدة طويلة، ولا أعتقد أن فرساً مَّا - بغضِّ النظر عن فرس امرئ القيس - لا يستطيع فارسها أن يمتطي صهوتها إلا إذا حرّك ساقيه، واستخدم سوطه، فأين مزية علقمة على امرئ القيس؟!!.
لكنها المرأة هي المرأة يغلب عليها الهوى، وكثيرا ما تجنح بها العاطفة!!
وفي تقديري أن قيمة هذه الرواية - إن صحت - في أنها تعبر عن أول كلام نقدي ذاتي تأثري يُنبِئُ عن الهوى عُرِف لدى الجاهليين.
فإذا ما انتهينا من هذه المعارضة النقدية التي بدت في شكل مباراة حاسمة تراءات أمامنا صورة القبة الحمراء المصنوعة من الجلد القائمة في سوق عكاظ تظلل النابغة الذبياني، حيث كان يتوافد إليه الشعراء, يقرضون شعرهم، ويعرضون نتاجهم، وكان أوّلهم: الأعشى (أبو بصير) الذي أنشد قصيدة طويلة أوّلها:
وَسُؤالي وما تَرُدُّ سُؤالي
مَا بُكاءُ الكَبيرِ بالأَطْلالِ(13/89)
وبعد أن فرغ الأعشى من إنشاده، قام حسان بن ثابت الأنصاري فأنشد قصيدته التي قال فيها مفتخراً:
وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَة دَمَا
لَنَا الجَفَنَاتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ بالضُّحا
فَأكرِمْ بنا خَالاً، وأَكْرِمْ بنا ابْنَما [6]
وَلَدْنَا بَني العَنَقَاءِ وابنيْ مُحَرِّقٍ
فقال النابغة: "أنت شاعر، ولكنك أقللت جفانك وأسيافك وفخرت بمن ولدت، ولم تفخر بمن أنجبك!! "
هذا وذكر أنّ الخنساء السُّلمية جاءت إلى هذا المجلس، فأنشدته قصيدتها في رثاء أخيها صخر:
أَمْ أَقْفَرَتْ مُذْ خَلَتْ مِنْ أهلها الدار
قذى بِعَيْنك أمْ بالعَيْنِ عُوّارُ
فقال لها النابغة: والله لولا أن سبقك أبو بصير فأنشدني آنفاً لقلت: إنّك أشعر الجنِّ والإنس!! , فقال حسان: والله لأنا اشعر منك، ومن أبيك ومن جدِّكَ!
فقبض النابغة على يده، ثم قال: يا ابن أخي، إنك لا تُحْسن أن تقول مثل قولي:
وإنْ خِلْتُ أن المنَتَا عَنْكَ واسعُ
فإنّكَ كاللَّيلِ الذّي هُوَ مُدْرِكي
ثم قال للخنساء: أنشديه فأنشدته، فقال: والله ما رأيت أنثى أشعر منكِ!! فقالت له الخنساء: والله ولا رجلا!!
ومما تقدم تلمحون صورة النابغة الشاعر الناقد العملاق يجلس للحكم بين الشعراء ثم يقضي قضاءه الفصل بتفضليه شعر الأعشى والخنساء على سائر الشعراء، وخطابه لحسان قائلا له: أنت شاعر، بيد أنك استعملت في البيت الأول لفظتي: الجفنات، والأسياف، وهما ينبئان عن القلة، وكان لزاما عليه في مقام فخره واعتزازه بقومه أن يستخدم مكانهما: الجفانَ والسيوف (صيغتي جمع الكثرة) ، إذ الفخر يناسبه التكثير لا التقليل!!.(13/90)
ولا يغيب عن مثل النابغة إدراك التفاوت بين صيغ الألفاظ، ودلالتها على معانيها، وهذا هو نقده آية حذقه ومعرفته بدلالات الألفاظ على المعاني, ومدى ملاءمة ذلك لمقامات الكلام، فإنّ اللفظ يجب أن ينهض بحق المعنى كله, وحين يقصر اللفظ عن استيعاب المعنى يبدو النقص في التعبير الذي يزري بالأسلوب!!
أما نقد البيت الثاني فقائم على ملحظ لطيف للنابغة، فإنّ عادة الجاهليين في فخرهم أن يذكروا مناقب ومآثر آبائهم وأجدادهم، ولا أن يتباهوا بأبنائهم وأحفادهم، وقد استمرت هذه العادة مسيطرة فترة طويلة حتى لمسنا آثارها لدى شعراء بني أمية، فها هو الفرذدق يقول لجرير متفاخراً:
إذا جمَعَتْنا –يا جريرُ- المجَامِعُ
أُولئك آباَئي فَجئْني بِمِثْلهمْ
ولو كان النابغة يعيش الآن ما عاب حسانا، فإنّ عادة الآباء تجري في هذه الأيام على التباهي بأبنائهم، لا سيما الذين يبرزون، ويتفوّقون، فيحقّقون بهذا سبقا وشرفا يضاف إلى كل آبائهم، فالولد سِرُّ أبيه، كما يقولون.
وأيًّا ما كان الأمر فإنّ نقد النابغة لحسّان ينمُ عن خبرة غير محدودة بتقاليد الجاهليين، وهذا يجعلنا لا نقبل التشكيك من أحد نقادنا المعاصرين لهذه الرواية، حيث قال:
"وبعيد كل البعد عن روح الجاهليين وعن طبيعة العصر الجاهلي ما يضيفه بعض الرواة إلى قصة النابغة مع حسان في (عكاظ) .
فإن الجاهلي لم يكن يعرف جمع التصحيح، وجمع التكسير وجموع القلة، وجموع الكثرة، ولم يكن له ذهن علمي يفرِّق بين هذه الأشياء، كما فرَّق بينهما ذهن الخليل وسيبويه، ولأن مثل هذا النقد لا يصدر إلاّ عن رجل عرف الفروق البعيدة بين دلالة الألفاظ، وألمّ بشيء من المنطق والفلسفة".(13/91)
وبالنظر إلى هذا الكلام يبدو متداعيا، إذ أنّ النابغة - وهو العربي الخالص المحيط بأسرار لغته وأساليبها - ليس بحاجة إلى أن يعرف مصطلحات وضعت في عصور لاحقة له في مواجهة نشو اللحن، وشيوع الخطأ، وفساد الملكات، ولذلك رأينا غلام النابغة لم ينتظم ذكر هذه المصطلحات، وكذلك ليس النابغة بحاجة إلى أن يعرف منطق وفلسفة أرسطو حتى يفكّر وإلا فلنا التفكير الفطري لدى الإنسان، وهذا مما لا يقول به أحد!!.
على أنّ النابغة كان أقرب الجاهليين إلى فترة ظهور الإسلام، وقد حكى عنه الشعراء المخضرمون الذين أدركوا ظهور الإسلام، كالأعشى، وحسّان والخنساء، مما يجعلنا مطمئنين إلى صدق الرواية عنهم.
ومن الطريف أنّ النابغة الناقد لم يسلم هو الآخر من نقد الآخرين، فقد عابوا عليه: (الإقواء) [7] في شعره، فقد ذكر ابن قتيبة في كتابه (الشعر والشعراء) : "وكان يُقْوِي في شعره، فعيب ذلك عليه، واسمعوه في غِنَاء قوله:
عَجْلانَ ذا زادٍ وغَيْرَ مُزَوِّدِ
أَمِنْ آلِ مَيَّةَ رَائحٌ أَو مُغْتَدى
وبذاكَ خبَّرَنا الغُدافُ الأسودُ
زَعَمَ البَوارِحُ أنَّ رِحْلتَنَا غَداً
ولما سمع النابغة بشعره فَطن لهذا العيب الذي يُذْهِبُ التناسق في النَّغم، وتنبّه إلى أنّ الإقواء معيب، وقد تحرّز عنه فيما بعد، ولم يعد إليه، وقال: "قَدِمْتُ الحجاز وفي شعري ضعف, ورحلت عنها وأنا أشعر الناس" [8] .
فإذا ما تركنا النابغة الشيخ شاهدنا طرفة بن العبد البكري الصبي الفتى ينكر على الشاعر المتلمس المسيَّب ابن عَلسَ إطلاقه سمة: الصَّيْعَرِيَّةُ على الجمل في قوله:
بنَاج عَلَيْه الصَّيْعَرِيَّةُ مِكْدَم
وقَدْ أتَنَاسى الهَمَّ عِنْد ادَّكَارِه(13/92)
فقال طرفة: استنوق الجمل، ذلك أن الصَّيْعَرِيَّةُ سمة في عُنق الناقة، فجعلها الشاعر صفة للبعير، واعتبرها طرفة سقطة لغوية من الشاعر، فكانت كلمته الموجزة الوافية معبرة عن إحساسه في سَنٍّ مبكرة بفقه المعاني ووعيها.
على أنه قد وجد نوع من النقد نتيجة ظهور (المعلقات) أو القصائد الطوال، وهو ما عُرِف الآن بـ (النقد الانتخابي) , وطبيعي أن خط النثر الجاهلي الذي عثر عليه قليل، وكذلك نقده، يبدو في بعض توجيهات أكثم بن صيفي خطيب الجاهليين المصقع يقول فيها لكتابه إذا كاتب ملوك الجاهلية: "افصلوا بين كل معنى منْقَضٍ, وصلوا إذا كان الكلامُ معجونا بعضه ببعض " [9] .
أيها الاخوة الأبناء:
ومن خلال هذا العرض نستطيع أن نحدّد ملامح النقد الجاهلي ومعالمه فيما يأتي:
1- أنّ هذا النقد أصيل في نشأته، وقد اعتمد هذا النقد على الذوق والإحساس، فبدا ذاتيا لا تذكر فيه علة، ولا يوضح معه سبب، وإن كنا قد رأينا بعض النظرات الموضوعية المجملة الواضحة، كما في حكومة النابغة على حسان.
2- أنّ هذا النقد الجاهلي كان محصّلة جهد بذله الشعراء النقدة، بل إنّ هذا النقد كان مقصورا على الشعراء المقتدرين، ذلك أنّ درايتهم وخبرتهم بقول الشعر- الذي تعاطوا فنونه وتراكيبه وعرفوا أسراره وأساليبه- قد جعلتهم ينفردون بهذا الجهد النقدي دون غيرهم، وقُدِّر لجماعة الشعراء آنذاك أن تختص به، يستوي في ذلك الفتى والشاب، والشيخ الكبير, ولا نستثني إلا (أم جندب) التي لا أخا لها شاعرة، وعلى ذلك فإنّ تلك الأحكام الذاتية التي جاءت على لسان هؤلاء النقاد على إجمالها هي صادرة عن ذوي بصر ودرية في صناعة الشعر وقوله، مما جعل هذا النقد صادقا لا يخلو من موضوعية.(13/93)
3- أنه مع القول بذاتية هذا النقد قيمكن أن نلمح في بعض الروايات التي مرت بنا آثار الموضوعية، فنجده نقدا معنويا في رواية أم جندب، ورواية النابغة مع حسّان، ونقدا لغويا في رواية طرفة، ونقدا عروضيا في الإقواء الذي عيب به النابغة في الحجاز, ومهما قيل عن آثار تلك الموضوعية وأبعادها فإنها لا تعدو إلا أن تكون نظرات جزئية محدودة ينقصها الشمول والاستيعاب، ويعوزها قواعد المنهج العلمي في التفكير، ومن ثمّ وُجد النقد الجاهلي: "غير مبني على قواعد فنية، ولا على ذوق منظم ناضج، إنما هو لمحة الخاطر، والبديهة الحاضرة" [10] وذوقه بدائي يتبع الشعر، وينساق وراء عاطفته.
4- أنّ قلة هذا النقد راجعة إلى أنه لم يرد عن العرب إلا القليل أو أقله كما يقول محمد بن سلام الجمحي الناقد المتوفى سنة 232هفي كتابه المعروف (طبقات فحول الشعراء) : "فقد حكى عن يونس بن حبيب: قال عمرو بن العلاء: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقلُّه، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعرٌ كثير" [11] .
ومما يؤكد هذه الحقيقة ما رواه ابن رشيق في العمدة مرفوعا إلى الخطيئة أنه سئل عن أشعر الناس، فقال: أبو دُؤَاد، حيث يقول:
فَقْدَ مَنْ رزُئْتُهُ الإعْدامُ!!
لاَ أَعُدُّ الإقْتَارَ عُدُماً ولَكِنْ
ثم يعقب ابن رشيق قائلا: وهواي أبو دؤاد، وإن كان فحلا قديما، وكان امرؤ القيس يتوكأ عليه، ويروي شعره، لم يقل فيه أحد من النقاد مقالة الحطيئه.." [12]
ومهما دار الأمر فإنّ شعر الجاهليين في حساب الزمن لا يجاوز قرنين من الزمان, فهل تناسب هذه المدة مع تراثها مع التاريخ الطويل للعرب قبل الإسلام؟ الأمر الذي يجعلنا بأن نقطع يده بسبب ضياع كثير من أشعارهم، ونقدهم..(13/94)
5- أن هذا النقد مع ذاتيته وقلته فإنه أصدق صورة للبيئة العربية في جاهليتها، حيث ظلت الصراعات الدموية تمزِّقها، والبداوة تحكمها، والأميّة تستبّد بها, والنظرة الجزئية سبيلها إلى فهم الأمور، والارتجال في الأحكام مسلكها، فلم تتوفَّرُ لها عوامل الرّقي الحضاري والفكري، ولم تتهيأ لها وسائل تحقيق المنهجية العلمية التي تعتمد على الدراسة المتأنية داخل إطار الشمولية المحيطة, وبدهي أنّ الدرس والتحليل في العمل النقدي يتطلب درجة من درجات الرقي الفكري تأتي بعد مجرد الاستجابة الذوقية.
وإن كانت الأذواق العربية قد نعمت بجو الحرية والطلاقة، وتمتّعت بروح البساطة التي تميزت بها هذه البيئة، بيد أن الظروف الأخرى التي عاشتها من وثنية متخلفة رانت على قلوبهم، واستولت على عقولهم، ومن عصبية قبلية كانت تحكم مجتمعهم، وتوجه حركتهم قد سَدَّتْ هذه الظروف عليهم منافذ التفكير، فكان جهدهم الذي رأيت في مجال النقد الأدبي..
أيها الاخوة – أيها الأبناء:
إنّ تلك البيئة العربية الغارقة في جاهليتها, السابحة في وثنيتها، المفتونة بشعرائها وشاعريتها, يراد لهذه البيئة أن تكون طليعة التحرُّك بدعوة الإسلام دعوة خالصة كتوحيد الله تعالى، والإيمان به، والطاعة له, والقيام بعبادته, وأن يكون الداعي لها عربيا من أبناء هذه البيئة، إعمالا لسنة الله في إرسال الرسل {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} فكان بزوغ فجر الإسلام، وسطوع شمس هدايته، ونزول القرآن الكريم على قلب الرسول الأمين، ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين، وهو حجة الله المعجزة في الأولين والآخرين حقاً أنها لمهمة شاقة، ومطلب عسير، فمن أين تكون البداية؟ ومع مَنْ تكون؟.(13/95)
العشيرة الأقربون يتأبَّوْن ويمتنعون، بل عِزازهم من أمثال أبي لهب وغيره يكابرون ويعارضون، أما الآخرون فهم أشد تأبِّيا، وأعنف معارضة, فياله من صراع رهيب تشهده أرجاء مكة!!.
ما السبيل والحال هذه؟
هو أن يظل على دعوته في قومه مؤيدا بالقرآن يدعوهم إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلهم بالتي هي أحسن، واتجه الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ويقرأ عليهم آيات القرآن الكريم، فتأثر بسحره الفني كثير ممن حَسُن إسلامهم، وصحت عقيدتهم، وقيل مِمنْ تولوا عن الدعوة وأعرضوا عنها كالوليد بن المغيرة، وخبره معروف تفصيلا في كتب السيرة النبوية الشريفة، وفي ذلك يقول ربنا تعالى من سورة المدثر: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} ..(13/96)
تمرّ الأيام سراعا والمسلمون يكثرون، ويأخذون أنفسهم بمنهاج دينهم القرآني، ويصوغون حياتهم بالأسلوب الرباني, فيجدون متعتهم الفنية في قرآن يتلى، وصلاة تقام لتؤدى، وذكر خاشع للذي خلق فسوى, والذي قدر فهدى, حتى أذن الله بعد ثلاثة عشر عاما مع أهل مكة وجيرانهم أن تنتقل الدعوة إلى طيبة هنا في مدينة الرسول الأعظم حيث التربة الصالحة، فقامت على ربوعها دولة الإسلام الأولى تنشد الخير والعدل والسلام، وتعمل من أجل سعادة البشرية في الحال والمآل، ولكن أعداء الإنسانية من المشركين الجاحدين واليهود الحاقدين جاهروها بالعداء، ونازلوها القتال، فأذن للرسول وصحبة من المهاجرين والأنصار بالقتال ردعا لعدوان، وتأمينا لدعوة, وانتصاراً لحق، ودفعا لظلم!!، فلا تكاد تمضي فترة إلاّ وتقع غزوة أو توجه سرية على مدار عشر سنوات في المدة التي عاشها الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، كل هذا والنظام الإسلامي الشامل يستقر في هذه الدولة، وعملية البناء تسير سيراها العجيب، بناء النفوس والضمائر قبل تشييد البيوت والعمائر، فأتيح للجو الشعري والفني ما يحقق صفاءه ونقاءه, ووفْرته ونماءه، وانبرى هؤلاء الشعراء المسلمون: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، يخوضون معركة الشعر بالإسلام في مواجهة أعدائه، وقُدِّر لدولة الشعر الإسلامي أن تقوم هي الأخرى، دعامة لدولة الإسلام الأولى من بين الدعائم التي ارتكزت عليها، وظهر الشعر الإسلامي خالصا، لتمجيد المعاني الإنسانية النبيلة، ودعم الأخلاق الإسلامية القويمة [13] ، لكن سحر القرآن وتأثيره في النفوس ما زال يسري حتى مع هؤلاء الشعراء، فلم تخلص الحياة للشعر كما كان الحال في الجاهلية، بل شُغِل الناس برواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطبه، ولذلك اتجهت الحركة النقدية في ظلال الإسلام إلى مرحلة أخرى من النمو والتطور أقرب إلى العقل منها إلى العاطفة، فكيف تمت هذه المرحلة؟.(13/97)
يمكن القول: إنه لم توجد هذه المرحلة النقدية من فراغ، وإنما وجَدتْ في تراث الجاهليين ما جعلها تتجه نحو النهج العقلي في تقويمها للأمور، وحكمها على الأشياء، بعد أن كان الاتجاه العاطفي هو السائد في النقد الجاهلي، وذلك راجع إلى طبيعة الإسلام الذي يقوم على الحجية والاقتناع، وينظّم المعايير الدينية والخلقية في السلوك الإنساني: العام والخاص، ولعل أبرز الأمثلة لهذا الاتجاه الديني في النقد ما ذكره الرواة من استحسان الرسول صلى الله عليه وسلم لقول كعب بن مالك:
فَلَيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الغَلاَّبِ
جَاءَتْ سَخِينَةُ [14] كَيْ تُغالِبَ ربَّها
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد شكرك الله يا كعب على قولك هذا [15] "
وكذلك ما وقع من النابغة الجعْدي عبد الله بن قيس، وكان يُكْنىَ أبا ليلى حيث أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنشده:
ويَتْلو كِتاباً كالمَجَرَّةِ نيرّاً
أتيتُ رسول الله إذْ جاءَ بالهُدَى
وإنا لنرجو فوْق ذلكِ مظْهَراً
بَلَغْنَا السَّماء مَجْدَنا وجُدودُنا
فاعترضه الرسول صلى الله عليه وسلم، لشعوره بأنه سينهج في فخره على عادة الجاهليين، قائلا: "إلى أين أبا ليلى؟ "، فقال إلى الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، "إن شاء الله" وأنشده:
بَوَادِرُ تَحْمِي صَفْوَة أن يُكَدَّراَ
وَلاَ خَيْرَ في حِلْم إذاَ لم تَكُنْ لَهُ
حَليمٌ إذا ما أوْردَ الأمْرَ أصْدَراَ
وَلاَ خَيْر فيِ جهْلٍ إذا لم يَكُنْ له
فأعجب الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا القول؛ لأنه يوافق قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، ولذلك دعا المصطفى له بقوله، "لا يَفْضُضِ اللهُ فاكَ"، قالَ: فَبقيَ عُمْرَه لم تنقض له سِنٌّ [16] .(13/98)
وفي حديث البراء الذي ذكره البخاري دليل على طلب الرسول صلى الله عليه وسلم قول الشعر من حسان، فقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان:"أهُجُهم، أو قال هاجِهم وجبريل معك" [17] ، وفي حديث أبيّ بن كعب قوله صلى الله عليه وسلم "إنَّ من الشِّعْر حِكْمةً" [18] 1، حكمٌ نقدي كان له أثره في النهوض بالشعر. وقد روى التِّزمذي وابن أبي شيبة من حديث جابر بن سَمُرة رضي الله تعالى عنه قال: "كان أصحاب رسول الله عليه وسلم يتذاكرون الشعر، وحديث لجاهلية فلا ينهاهم، وربما تبسَّم" [19] ممّا كان لهذا أعظم الأثر في إذكاء جذوة الشعر من جديد، ولقد أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على ابن رواحة من حديث أبي هريرة في البخاري "إن أخاً لكم لا يقول الرفث يعني بذاك ابن رواحة قال:
إذاَ انْشَقّ مَعروفٌ مِن الفَجْرِ ساطعُ
وَفِينا رسولُ اللهِ يتْلو كِتابَهُ
به مُوقِنَرتٌ أنَّ ما قالَ واقِعُ
أَرَاناَ الهُدَى بعدَ العَمى فقلُوبُنا
اسْتَثْقَلَتْ بِالكَافِرينَ المَضاجِعُ [20]
يبيتُ يُجاَفي جَنْبَهُ عنْ فِراشهِ إذاَ(13/99)
فهذا الثناء توجيه نقدي للسمو بالشعر، ونبذ الفاحش منه، ولذلك رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفر منه إذا كان مقذعا، فقد أورد الطحاوي رواية ذكرها العيني: قيل لعائشة: إن أبا هريرة يقول: "لأنَ يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعرا"فقالت عائشة: يرحم الله أبا هريرة حفظ أول الحديث، ولم يحفظ آخره: "إنّ المشركين كانوا يهاجون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعرا من مهاجاة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، هذا ورواية أبي هريرة تلك ذكرها بطريقين البخاري في باب (ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعْرُ حتى يصدَّه عن ذكر الله والعلم والقرآن) ، وفي ذلك تنظيم لحياة الإنسان في ظل الدين الجديد, كي يظل ذاكراً لموالاه حامدا شاكراً..
ومهما دار الأمر فإن هذه الروايات تنمُّ عن إعجابه صلى الله عليه وسلم بالشّعْر الذي يلتزم مبادئ الإسلام, ويعبرُ عن روحه, ومن ثمَّ يقدم هديَّة إلى كعب بن زهير وهي عبارة عن (بُرْدة) ثمينة، بعد إنشاده قصيدته المشهورة التي مطلعها:
مُتَيَّمٌ إِثْرَها لم يُجْزَ مَكْبُولُ [21]
بانَتْ سُعادُ فقَلْبِي اليَوم مَتْبُولُ(13/100)
وتشجيع الرسول صلى الله عليه وسلم لكعب بن زهير دليل عملي على تشجيعه ومكافأته صلى الله عليه وسلم للشعراء المسلمين. أما تنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن كونه شاعرا في قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} فلأن طبيعة الرسالة تأبى الشعر، إذْ لو كان الرسول شاعراً لنسب العرب فضيلته، وحجته البالغة إلى تأثير الشعر، لا إلى فضل الرسالة، ولا يكون إذ ذاك الكلام الذي يلقى إليه وحيا من عند الله، بل إلهاما من شيطان الشعر، ولأمر ما كانت الحكمة في أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما روى بيت شعر كاملا [22] صحيح الوزن، وإذا وردت بعض الأبيات – إذا صحت روايتها - صحيحة فهي إلى النثر أقرب منها إلى الشعر [23] .
وقد ذكر السيوطي تعليلا له وجهته في سبب تنزيه الرسول عن قول الشعر فقال: "إنّ علماء العروض مجمعون على أنه لا فرق بين صناعة العروض، وصناعة الإيقاع إلا أنّ صناعة الإيقاع تقسيم الزمان بالنغم، وصناعة العروض تقسيم الزمان بالحروف المسموعة، فلمّا كان الشعر ذا ميزان يناسب الإيقاع، والإيقاع ضرب من الملاهي لم يصلح ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم [24] .
ومما تقدم يتضح لنا موقف الإسلام من الشعر، الأمر الذي انعكس على النقد فبدا المقياس الديني معياراً جديداً في هذه المرحلة..
وقد أسهم الخلفاء الراشدون في إرساء هذا المقياس الديني في النقد الأدبي وترسيخه فها هو أبو بكر الصديق يثني على لبيد حين قال:
ألا كُلُّ شَيءٍ ما خَلا الله باطِل
فقال الصديق له: "صدقت! "ولّما قال لبيد:
وكُلُّ نعيم لا محالةَ زَائِلُ.
قال الصديق: "كَذَبْتَ! عند الله نعيمٌ لا يزولُ" [25](13/101)
وكذلك صنع عمر بن الخطاب، فقد نعت زهير بن أبي سُلْمى الشاعر الجاهلي بقوله: "كان لا يُماطل بَيْن القولِ، ولا يَتّبع حُوش الكلام, ولا يَمدَحُ الرَّجلَ إلا بما هُوَ فيه".
وهذا الوصف من عمر يعني أنه قرأ شعر زهير كله, قراءة تدبر وتأمل, حتى جاء حكمه هذا الموضوعي عليه.
وإذا كان ابن الخطاب قد أعجب بزهير، لتجنّبه المبالغة في المدح، وهو خلق إسلامي محمود, فإنه لا يعطي الجائزة لسُحيم عَبْد بني الحماس, وكان عبدا حبشيا، حين أنشده:
كَفىَ الشَّيْبُ والإسلامُ للمْرء ناهِيا
عُمَيْرَة وَدِّعْ إنْ تَجَهَّزْتَ غَاديا
فقال عمر له "لو كنت قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك"فقال سحيم: "ما سَعَرْتُ: أي ما شَعَرْت" [26] .
وهكذا أظهر المعيار الديني في النقد، وبدا معه مقياس آخر ينبذ التكلف، ويرفض التعسف، ويؤثر الطبع فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ينعى على الثرثارين المتفقهين المتشدقين، قائلا: "إنّ أحبكم إليّ، وأقربكم منى في الآخرة محاسنكم أخلاقا، وإنّ أبغضكم إليّ وأبعدكم منى في الآخرة مساويكم أخلاقا: الثرثارون المتفقهون المتشدقون" رواه أحمد [27] .
وكذلك فعل الإمام على حين قال: "الإيمان أن تؤثر الصِّدْق حيث يضرُّك على الكذب حيث ينفعك، وألا تكون في حديثك فضل عن عملك، وأن تتقي الله في حديث غيرك" [28]
ولقد التزم الشعراء الإسلاميون بهذه التوجيهات الرشيدة، وتلك التعاليم السديدة، فسهلت عبارتهم، ووضحت فكرتهم، حتى رموا باللين والضعف!!.
أيها الاخوة.. أيها الأبناء:(13/102)
إن هذه الجهود الممتازة من الرسول والخلفاء الراشدين كانت لها آثارها البعيدة في توجيه الفن الأدبي ونقده، والاتجاه به في مساره الإسلامي، بعيدا عن المنعطفات والدروب التي عرفتها الجاهلية، ولذلك رأينا الفاروق عمر يتصدى للمنحرفين الهجَّائين، مستعينا بحسان بن ثابت في تقويم أشعرهم، مع حذقه الشعر وبصره بفنونه، لكنه أراد أن تتاح للعدالة ساحتها, وأن يتولّى القضاء فيها مَنْ هو أهل في هذا الفنِّ، فمن ذلك هاتان الواقعتان اللتان ذكرتا في أمهات الكتب النقدية والأدبية..
أما الواقعة الأولى فمع الحطيئة (جرْول بن أوس) ، وكان رقيق الإسلام، لئيم الطبع، سيّئ الخلق؛ قد آواه الزِّبرْقان بن بدر، فلم يحمد جواره، وانقلب عليه، ثم تحوَّل عنه إلى بَغيض بن عامر من رؤساء بني تميم الذين أدركوا الإسلام، فأكرم جواره, فقال الحطيئة يهجو الزبرقان، ويمدح بغيضا:
ذاَ حَاجَة عَاش في مُسْتَوْعر شَاسِ [29]
مَا كَان ذَنْبُ بَغيض أنْ أَرى رجُلاً
وغادرُوه مُقيماً بين أَرْمَاسِ
جَاراً لِقَوْمٍ أَطَالُوا هُونَ مَنْزله
وَجَرَّحُوهُ بأنياب وأضراسِ
مَلُّوا قراه، وهَرَّتْهُ كِلاَبُهُمُ
واقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتٌ الطَّاعِمُ الكَاسِي
دَع المكَارِمَ لاتَرْحلْ لبغْيتَها
وأنشده آخر الأبيات:
لا يَذْهَبُ العُرْفُ بَين الله والنَّاس
مَنْ يَغْفَلِ الخَيرةَ لاَ يَعْدِمْ جَوَارِيه
فقال له عمر: ما أعلمه هَجَاكَ، أما تَرضى أن تكون طاعما كاسيا؟! قال: إنه لا يكون في الهجاء أشد من هذا، ثم أرسل عمر إلى حسان بن ثابت، فسأله عن ذلك، فقال: لم يهجُه، ولكن سَلَحَ عليه!! فحبسه عمر، وقال: يا خبيث لأشغلنك عن أعراض المسلمين فقال: - وهو محبوس يستعطف عمر-:
حُمر الحواصل لا مَاءُ ولا شجرُ؟
ماذا أقول لأفراخ بذي مَرَخ
فاغْفِرْ عَليْكَ سَلامُ الله يا عُمَرُ(13/103)
أَلقَيْتَ كَاسِبَهُم في قَعْرِ مُظْلمة
فَرَقَّ له قلب عمر وخلّى سبيله، وأخَذ عليه ألاَّ يهجو أحدا من المسلمين [30] .
وأما الواقعة الثانية فقد كانت مع النجاشي الحارثي (قيس بن عمرو بن مالك) ، وكان فاسقاً فاحشا رقيق الإسلام أيضا، فهجا بني العَجْلان، فاستعدوا عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: ما قال فيكم؟ فأنشدوه:
فَعَادَى بني العجْلانِ رَهط ابْنَ مقبل
إذا اللهُ عادى أهل لُوْمٍ وَرِقَّةٍ
فقال عمر! إنما دعا، فإن كان مظلوما استجيب له، وإن كان ظالما لم يستَجب له، قالوا: وقد قال أيضاً:
ولا يَظْلِمُون النَّاس حبَّةَ خَرْدلِ
قُبيِّلةٌ لا يَغْدِرُون بِذِمَّةٍ
فقال عمر: ليت آل الخطَّاب هكذا قالوا: وقد قال أيضاً:
إذا صدر الورّاد عن كل منهل
وَلا يردون الماء إلا عشيّة
فقال عمر: ذلك أقلّ للّكاك أي (الزّحام) قالوا: وقد قال أيضاً:
وتأكل من كعبٍ وعوْفٍ ونهشَل
تعاف الكلاب الضّاريات لحومهم
فقال عمر: أجَنَّ القوم موتاهم، فلم يُضيِّعوهم! قالوا: وقد قال:
خُذِ القَعْبَ [31] ، واحلبْ أيها العَبدُ واعْجَ
وما سُمِّي العجْلانَ إلا لِقِيلهمْ
فقال عمر: خير القوم خادمهم (وكلنا عبيد الله!) ، ثم بعث إلى حسان والحطيئة، وكان محبوساً عنده فسألهما, فقال حسان مثل قوله السابق في شعر الحطيئة, فهدد عمر النجاشي وقال له: "إن عُدتَ قَطَعْتُ لِسَانَكَ".
وفي هاتين الحادثتين يبدو عمر كأنه ليس من الشعر في شيء، ونحن نعلم مدى فهمه ووعيه بفنونه، ولكنه يظهر هنا على خلاف أمره، ولعل موقفه كخليفة، وموقعه كحاكم جعله يستبين الأمر من ذوي الخبرة مشورتهم، فيصدر حكمه الذي لا يقبل نقضاً ولا تجريحا، ومع هذا فإنّ الواقعة الثانية لم تخل من نظرة نقدية لعمر حين تمنى لآل الخطاب هذه الصفات التي أوردها النجاشي في قوله:(13/104)
ولا يظلمون النَّاس حبَّة خَردَل
قبيّلة لا يغدرُون بذمة
وواضح أنّ هذه الصفات التي تمناها عمر كانت مثار الشكوى من بني العَجْلان ضد النجاشي الشاعر، ولا شك أنّ هذا يكشف عن بُعد نظرة عمر الفاحصة!!.
وعمر بهذا التصرف كان يمارس مسؤولياته في تحقيق الطهارة للمجتمع، وصيانة أعراض المسلمين، وتخليص الحياة العربية من ألوان الهجاء المقذع، والسب الفاحش، ومن ثم رأيناه حاسما في القضاء والتنفيذ. أما حسان الناقد في هاتين الواقعتين فقد تميز نقده فيهما بالإيجاز في الحكم من غير تعليل له، شأنه في ذلك ما علمناه في أحكام الجاهليين النقدية وقد يقال: إن جوانب التفكير والبحث قد اتسعت في ظلال الإسلام، وهدي القرآن والسنة مما يستتبع اتساع دائرة النظرة الموضوعية في النقد الإسلامي، بيد أنه عند التأمل نجد أنّ المسلمين الأوائل قد شغلوا بالعديد من القضايا التي تمثل الأهمية بالنسبة لهم, وفي مقدمتها قضية الوجود الجماعي للمسلمين الذي كان مثار حوار كان في مجموعه ساخنا بينهم وبين الكافرين والمرتدين، وقد تجلى هذا الحوار الساخن في المعارك المسلحة التي خاضوها في الغزوات، وحروب الرّدة، وفتوح العراق، والشام، ومصر وغيرها.
كذلك شغلوا بالمجالات الخلقية، والدينية التي ركزوا عليها في بناء ودعم هذه الدولة الجديدة, فراحوا يعطون فيها القدرة العلمية، واهتموا في هذه الآونة بالقرآن الكريم، حفظه، وتلاوته، وجمعه، وتفسيره، وتقرير إعجازه، وقهره لأساطين البلاغة، وأرباب البيان والبراعة.
ولا شك أنّ هذه الأمور كلها في فترة ضيقة من الزمن لم تهيّء لهم المناخ الذي فيه يكُدُّون عقولهم في فهم الأدب ودراسته، وأتي لهم بأدب تمثل غالبيته مظاهر الحياة الجاهلية وأبعادها؟(13/105)
ومع هذا فإن كثيرين من النقاد المعاصرين يطلقون هذا الحكم مرددين أن المسلمين الأوائل لم يُعملوا أفكارهم في دراسة الأدب لاستنباط الأصول الفنية التي يعتمد عليها الحكم، ومن ثم لم يولوا الأدب حظه من الفنية والموضوعية.
وفي تقديري: أن هذه الدولة الإسلامية كانت تمثّل فترة التحول من مجتمع الجاهلية والظلمات، إلى مجتمع الإسلام والنور، ولا يطالب من هذه الفترات الحرجة أن تتسع لمثل هذه المطالب طفرة، وحسب هذه الدولة أنها وضعت أساسين هامين في أسس النقد الأدبي عند العرب وهما:
1- الأساس الديني والخلقي.
2- السهولة في صياغة الأدب وذم الافتعال والتكلف في صنعته.
على أنها لم تهمل الجانب العاطفي في الإنسان, وقد رسمت الطريق ليأخذ العقل دوره الأساسي منه، وينطلق إلى غايته بعد أن سقطت القيود، وزالت السدود.
أيها الاخوة.. أيها الأبناء:(13/106)
هذا هو النقد الإسلامي في عصره الأول ينشد العفة، ويتوخّى السهولة، بيد أنه لما قامت دولة بني أمية على أنقاض الخلافة الإسلامية تبدلت مظاهر الحياة، وتغيرت أحوال المجتمع، وصار لحكام بني أمية ما للأكاسرة والقياصرة فازدانت قصورهم بألوان الفخامة، وأنماط العظمة، مما جعلها مقصدا لأصحاب الحاجات، وطلاّب المنح والهبات، يتخذون من وسائل الزلفى لتحقيق ما يطلبون، فراحت سوق الشعر، واتسعت فنونه وأغراضه, وتأثرت معانيه وألفاظه بجو المنافسة الشديدة، وعاد الهجاء المقذع بين الثلاثي: جرير، والفرزدق، والأخطل, وكان نتاجهم ما عرف بشعر (النقائص) , وعادت الأسواق الأربعة في شكل (مِرْبد البصرة) البديل لـ (عكاظ) في الجاهلية, وجلس الخلفاء الأمويون لسماع الشعراء، ثم منحهم الجوائز، طمعا في الشهرة، وحبا في الثناء، ولا تستثني من هؤلاء الأمويين واحدا إلا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الذي كان ينصح دائما للشعراء بالتزام الصدق، وتجنب الكذب، كما أخبر بذلك مَسْلمَةُ بن عبد الملك فتى العرب آنذاك حين قدم عليه: كثِّير عزه، والأحوص، ونصَيْب يطلبون إنشاء الشعر في مجلس الخليفة عمر فأذن لهم في يوم جمعة بعدما أذن للعامّة، ودار حوار بين الخليفة عمر وبين كثير، قال كثيِّر: طال الثَّواء [32] ، وقلّت الفائدة، وتحدَّثتْ بجفائك إيانا وفودُ العرب، فقال: يا كثيِّر: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} أفي واحد من هؤلاء أنت؟ فقلت: ابن السبيل منقَطَعٌ به، وأنا ضاحك، قال: أو لست ضيف أبي سعيد؟ قلت: بلى، قال: ما أرى مَنْ كان ضيفه منقطعا به، ثم قلت يا أمير المؤمنين: أتأذن لي في الإنشاد؟ قال: نعم، ولا تقل إلاّ حقا، فأنشدت قصيدة نذكر منها:
تَبَيَّنُ آياتُ الهدَى بالتَّكَلُّم(13/107)
تَكَلَّمْتَ بالحقِّ المبين وإنما
على كلِّ لَبْسِ بارق الحقِّ مظْلِم
وأَظْهَرْتَ نورَ الحقِّ فاشْتَّد نوره
بَرِيَّا وَلم تَقْبَل إشَارةَ مجْرِم
وُليتَ فلَمْ تَشْتُم عَلِيًّا وَلم تخِفْ
فأقبل عليَّ، ثم قال: يا كثيِّر، إنك تساءَلُ عما قلْتَ، ثم تقدّم الأحوصُ فاستأذنه في الإنشاد، فقال: قلْ، ولا تقل إلا حقا، فأنشد أبياتا منها:
ولا يَسْرةً فِعْل الظَّلُوم المُخَاتِل
رَأيْناكَ لم تَعْدلْ عن الحقِّ يَمْنَةً
وإن كان مِثْلُ الدَّرِّ في فَتَلْ فاتِل
فإنْ لم يكُنْ للشِّعرِ عِنْدكَ مَوْضعٌ
ومِيراثَ آباءٍ مَشْوا بِالمناصِلِ
فإنَّ لَنا قُرْبىَ وَمحْضَ مودَّةٍ
فقال له عمر: إنك يا أحوص تُسأل عما قلت، وتقدّم نُصَّيبٌ فاستأذنه في الإنشاد فلم يأذن له، وأمره بالغزو إلى (دابق) ، فخرج وهو محموم، وأمر لكثيِّر بثلثمائة درهم، والأحوص بمثلها، وأمر لنُصيب بمائة وخمسين درهما" [33] .(13/108)
ومهما قيل عن عمر بن عبد العزيز فهو خامس الراشدين، وكان عهده فترة متميزة عن الحياة التي ارتضاها الأمويون، ومع هذا فإنا وجدناه في هذه الحادثة يعطي الشعراء المنح، ناصحا لهم بالتزام الصدق في القول، مذكِّراً إياهم بالسؤال عما يقولون، وعلى الرغم من أنه لم يأذن لنُصيب بقول الشعر في مجلسه إلاّ أنه لم يحرمه من عطائه, وهذا التصرف ينبني عن رعاية من عمر للشعراء مع توجيههم إلى الفضيلة، وتذكيرهم بالخير. وسرعان ما تبدلت الحال بعده، وصارت الحياة الأدبية والنقدية مواكبة لحياة البذخ والترف التي سيطرت على حكام الأمويين, ومن تبعهم من العباسيين، ولولا ظهور الطبقة الأولى من اللغويين والرواة والنحاة في عصر بني أمية، والرعيل الأول من النقاد البلاغيين الذين درسوا قضية النظم لإثبات إعجاز القرآن في عصر بني العباس؛ لم يقدّر للنقد العربي الإسلامي أن تقنّن قضاياه وترسى قواعده، وتتضح معالمه، وتتسع دائرته، حيث ظهرت البلاغة كعلم وهي في جملتها وتفصيلها قانون من قوانين النقد الأدبي، وينتهي القرن الخامس الهجري عصر النضج البلاغي لتستمر جهود المسلمين في النقد والبلاغة كان أوفر من حظ النقد، وظل الحال كذلك حتى ظهور النهضة الأوربية، وكانت جهود الأوربيين في مجالات النقد الأدبي ثم قيام مدارسه المتعددة المتعارضة، ومع فجر القرن العشرين الميلادي رأينا من المسلمين من درس النقد الأدبي في بيئته الغريبة الصليبية, ثم عاد إلينا يصب اللعنات، ويوجه الطعنات إلى نقدنا الإسلامي ولقد خُدع بذلك نفر غير قليل من المهتمين بدراسات النقد الأدبي عند العرب، فبدءوا يرددون شكوك أساتذتهم المستغربين!(13/109)
وفات هؤلاء، وأولئك أن الاتجاه التجريبي الذي قامت عليه الحضارة الصناعية الأوروبية الحاضرة لم ينشأ ابتداء في أوربا، وإنما نشأ في الجامعات الإسلامية في الأندلس، والمشرق مستمد أصوله من التصور الإسلامي وتوجيهاته إلى الكون وطبيعته الواقعية، ومدخراته، وأقواته..
ثم استقلت النهضة العلمية في أوربا بهذا النهج، واستمرت تنميه ترقيه، بينما ركد وترك نهائيا في العالم الإسلامي بسبب بُعْد هذا العالم تدريجيا عن الإسلام، نتيجة عوامل بعضها يكمن في تركيب المجتمع، وبعضها يتمثل في الهجوم عليه من العالم الصليبي والصهيوني.. ثم قطعت أوربا بين المنهج الذي اقتبسته وبين أصوله الاعتقادية الإسلامية، وشَردت به نهائيا بعيدا عن الله، في أثناء شرودها عن الكنيسة، التي كانت تستطيل على الناس –بغيا وعدوانا- باسم الله [34] !!.
وكذلك أصبح نتاج الفكر الأوربي بجملته، شأنه شأن نتاج الفكر الجاهلي في جميع الأزمان، والبقاع شيئا آخر، ذا طبيعة مختلفة من أساسها عن مقومات التصور الإسلامي، ومعادية في الوقت ذاته عداء أصيلا للتصور الإسلامي. ولذلك وجب على المسلم أن يرجع إلى مقوّمات تصوره وحدها، وألاّ يأخذ إلاّ من المصدر الرباني إن استطاع بنفسه، وإلاّ فلا يأخذ إلاّ عن مسلم تقي، يعلم عن دينه وتقواه ما يطمئنه إلى الأخذ منه والتلقّي عنه.
ولهذا فإني أوافق الناقد الإسلامي الأستاذ سيد قطب على نظرته العميقة في أن حكاية فصل (العلم) عن (صاحب العلم) 1 لا يعرفها الإسلام فيما يختص بكل العلوم المتعلقة بمفهومات العقيدة المؤثرة في نظرة الإنسان إلى الوجود والحياة والنشاط الإنساني، والأوضاع، والقيم، والأخلاق، والعادات، وسائر ما يتعلق بنفس الإنسان، ونشاطه من هذه النواحي.(13/110)
إن الإسلام يتسامح في أن يتلقّى المسلم من غير المسلم، أو عن غير التقي من المسلمين في علم الكيمياء البحتة، أو الطبيعة، أو الفلك، أو الطب، أو الصناعة، أو الزراعة، أو الأعمال الإدارية والكتابية. وأمثالها، وذلك في الحالات التي لا يجد فيها مسلما تقيا يأخذ عنه هذا كله، كما هو واقع منْ يسمّون أنفسهم المسلمين اليوم، الناشئ من بُعدهم عن دينهم ومنهجهم, وعن التصور الإسلامي لمقتضيات الخلافة في الأرض –بإذن الله- وما يلزم لهذه الخلافة من هذه العلوم والخبرات، والمهارات المختلفة، ولكنّ الإسلام لا يتسامح أبدا في أن يتلقى المسلم أصول عقيدته، ولا مقومات تصوّره، ولا تفسير قرآنه وحديثه، وسيرة نبيه، ولا منهج تاريخه, وتفسير نشاطه, ولا مذهب مجتمعه, ولا نظام حكمه، ولا منهج سياسته، ولا موحيات فنه وأدبه، وتعبيره ونقده.. من مصادر غير إسلامية, ولا أن يتلقى عن غير مسلم يثق في دينه وتقواه في شيء من هذا كله..
أيها الاخوة.. أيها الأبناء:
لا خلاص لنا مما نحن فيه إلاّ إذا رجعنا إلى الينبوع الإسلامي الصافي، وقد حباكم الله بهذه الجامعة الإسلامية التي تقوم برسالتها المعهدية والتبليغية فهي جامعة تعليم ودعوة تدرس الإسلام في مظانه الأصيلة، وتنشر دعوته ذات الخصائص النبيلة.
فهل لنا أن نتخذ منها منطلقا إلى عمل إسلامي خالص من أجل أدب ونقد إسلامي أصيل؟ يتبع وينشأ من تصور الإسلام الخاص للحياة كلها، ولعلاقات والروابط فيها.
إنّ الأمل الكبير في أن تتوفّر الجهود المخلصة من الأساتذة المتخصصين، والدارسين المتعمقين في قاعات البحث والدروس داخل إطار جامعتنا الإسلامية لتحقيق هذا الرجاء، وبذلك تكون هجرتنا إلى هذه المدينة المنورة, وتلك الجامعة التي تقلها أرضها الطيبة هجرة خالصة إلى الله ورسوله..(13/111)
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
د. عبد الحميد العبيسي
--------------------------------------------------------------------------------
[1] آية 224 من سورة الشعراء.
[2] آية: 227 من سورة الشعراء.
[3] آية: 5 من سورة الكهف.
[4] النقد الأدبي العربي "دراسة نظرية تطبيقية للمحاضر"ص11، 12ط عيسى الحلبلي بالقاهرة..
[5] الهوب: من الهب الفرس: اجتهد في السير، وجد فيه حتى آثار الغبار وتطاير الشرر من حافره درة: دفعه، الزجر: الصياح بالفرس فيجري، الأخرج: ذكر النعام.
[6] العنقاء: ثعلبة بن عمرو "مزيقاء"أحد أجداد الأزد القدامى، وقبيلة حسان الخزرج أزدية، محرق: الحارث بن عمرو "مزيقياء"أمير الغساستة في جلق دمشق بالشام لأوائل القرن السادس الميلادي، وهم أيضا من الأزد انظر المصون في الأدب لأبي أحمد العسكري: ص2، 4 ط حكومة الكويت تحقيق هارون..
[7] الإقواء: اختلاف حركة الروي في القصيدة من الكسر إلى الضم
[8] ج1 ص157، ص158.
[9] الضاعنين للعسكري ص440 الحليمي..
[10] النقد الأدبي أحمد أمين ج2 ص418 ط النهضة المصرية..
[11] طبقات فحول الشعراء: ص25.
[12] العمدة لابن سكور: ج1 ص61.
[13] دراسات في الأدب والنقد للمحاضر: ص60 ط عيسى الحلبي بالقاهرة..
[14] سخينة: لقب قريش، لأنها كانت تعاب بأكل السخينة.
[15] خزانة الأدب ج1 ص417 ط دار الكتب.
[16] الشعر والشعراء لابن كتيبة: ج1 ص289.
[17] سيرة ابن هشام: ج2 ص261 ط م الحلبي.(13/112)
[18] الشعر والشعراء لابن كتيبة: ج1 ص289.
[19] المرجع السابق ص182 والطبقات الكبرى لابن سعد ج1 ص69.
[20] عمدة القارئ: ج22 ص187.
[21] الشعر والشعراء لابن قتيبة: ج1 ص154، ص156 وطبقات فحول الشعراء ج1 ص101 والعمدة ج1 ص7 ويروي "لم يفد"، و "لم يشف".
[22] الأغاني: ج15 ص142، العمدة ج1 ص32، السيرة ج2 ص94..
[23] العقد الفريد لابن عبد ربه: ج5 ص82، ج6 ص115، ص116 ط العهان..
[24] الزهر للسيوطي: ج2 ص291 ط السحارة، ص2 ص470 ط دار الكتب.
[25] الموشح للمرزباني ص17.
[26] الخزانة للبغدادي: ج2 ص101 نقلا عن المبرد في الكامل
[27] المسند ج4 من حديث أبي ثعلبة الخشني.
[28] نهج البلاغة: ج2 ص257.
[29] شاس: مسهلة من "شأس"بالهمزة مثل كأس في كأس بمعني: خشن الحجارة: أو غليظا.
[30] الشعر والشعراء لابن قتيبة: ج1 ص327، ص328.
[31] العقب: القدح الضخم الغليظ الجامني..
[32] الثواء: الإقامة..
[33] الشعر والشعراء: ج1 ص504، 507.
[34] معالم في الطريق: ص130، 131.(13/113)
التعليم المعاصر والتربية الإسلامية
لفضيلة الشيخ محمد الشربيني
خبير التعليم بالجامعة
دعت التربية الإسلامية في عهد الرّسالة المحمدية وصدر الإسلام إلى مبادئ وقيم أخلاقية وآداب عامة يلتزم بها كل من معلم الصبيان وطالب العلم في السلوك والمعاملة وطرائق التعليم والتربية في المدارس والمعاهد ودور العلم النظامية وغيرها بمختلف نوعياتها. وإليك طرفاً من هذه الخصائص والفضائل التي يجب أن يتحلّى بها كل من المعلم والطالب.
أولا: الخصائص والشروط التي اشترطها المسلمون الأوائل في المعلمين والمربين:
1- أن يكون المعلّم أو المربي قوي اليقين بالله عز وجل وأن يقو بشعائر الدين وإظهار السنة وإخماد البدع وأن يتخلق بمحاسن الأخلاق.
2- أن يتشبه بأهل الفضل والدين من معلمي الصحابة والتابعين ومن أتي بعدهم من أكابر العلماء والفقهاء والسلف الصالح.
3- ألا ينصِّب نفسه للتعليم حتى يستكمل أهليته ويشهد له أفاضل الأساتذة بذلك.
4- أن يحب تلاميذه ويصونهم عن الأذى ما استطاع، وأن يغفر لهم خطاياهم ويعذرهم على هفواتهم.
5- أن يرحِّب بطلبته إذا حضروا إليه ويسأل عنهم إذا غابوا عنه، وأن يعودهم في منازلهم إذا كانوا مرضى.
6- أن يقول "لا أدري"إذا سئل عما لا يعرفه, وكما قال ابن مسعود رضي الله عنه في وصيته للمعلمين: "يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به، ومن لا يعلم فليقل: "الله أعلم"فإنّ من العلم أن تقول "الله أعلم".
7- أن يتفهّم مستوى طلابه ويخاطبهم على قدر فهمهم وإدراكهم، فيكتفي للحاذق بالإشارة، ويوضح لغيره بالعبارة، ويكرر الكلام لمن لا يعلم، وعليه أن يبدأ بتصوير المسألة أو موضوع الدرس، ثم يوجِّه الأمثلة، ويقتصر على ذلك من غير دليل ولا تعليل، فإن سهل على الطلبة الفهم فعليه أن يذكر التعليل والمأخذ ويبيِّن الدليل المعتمد.(13/114)
8- ألا يعلِّم أحداً ما لا يحتمله ذهنه أو سنُّه، ولا يشير على أحد بقراءة كتاب يقصر عنه فهمه.
9- ألاّ يدرس وهو منزعج النفس، أو فيه ملل أو مرض أو جوع أو غضب فإن ذلك مضرٌّ بنفسه وبطلابه ضرراً بليغاً.
10- أن يكون يقظاً أثناء الدرس وأن يوقظ الغافل من طلابه، وأن ينصحهم بحسن الاستماع من حين لآخر، وأن يحثهم على نظافة الفصل ومكان إلقاء الدرس.
11- أن يجعل للطلاب أوقاتاً معينة يعرضون فيها عليه ما حفظوه من القرآن والعلوم الأخرى وليكن ذلك في نهاية كل أسبوع وذلك سنة المعلمين الأوائل منذ كانوا.
12- أن يستعلم عن أسماء طلبته وحاضري درسه وعن أنسابهم ومواطنهم وأحوالهم لما في ذلك من تقوية الصلات بينه وبينهم والتعرف عليهم بما يسهِّل له أمر تعليمهم بعد الوقوف على مشكلاتهم ومحاولة معالجتها.
13- يجب عليه أن يكون مَثَلاً أعلى لطلابه في هندامه ومظهره ونظافة جسمه وتقصير أظفاره واجتناب الروائح الكريهة والعادات الممقوتة.
14- أن يطرح على تلاميذه أسئلة كثيرة متنوعة يفهم منها مقدار ما استوعبوه من دروس وما فهموه من مقررات، فإن لم يجدهم قد استفادوا بالقدر المطلوب أعاد عليهم الكرّة، وإن وجدهم قد فهموا وحفظوا فعليه أن يثني على البارع منهم ويشجع المتوسط ويأخذ بيد الضعيف والمتخلف, وعليه أن يوصي كل واحد منهم بقراءة الكتب التي تلائم مستواه الفكري وعمره الزمني.
والحق إنّ المعلّمين في كل زمان هم الصفوة المختارة الذين نذروا نفوسهم لتعليم أبناء الأمة وأذابوا حياتهم لإضاءة الطريق أمام الشباب وأجيال المستقبل، قد حملوا أسمى رسالة وعليهم أن يؤدّوها في صدق وأمانة وإخلاص حتى ينالوا رضا الرحمن ويحوزوا القبول من الناس. ويكفيهم فخراً وشرفاً أنهم خلفاء سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد صلوات الله وسلامه عليه.
ثانيا: الآداب والفضائل التي يجب أن يتحلى بها طلاب العلم:(13/115)
1- يجدر بطالب العلم أن يفهم أنه إنما يتعلم العلم لله ولدين الله وللخير والمحبة والسلام وليس لأي عرض زائل.
2- وعليه أن يحافظ على شعائر دينه الحنيف ومكارم الأخلاق وإظهار السنن وأن يخشى الله في كل ما يقول وما يفعل وأن يطهِّر قلبه من الصفات الذميمة كالحسد والرّياء والغش والكذب وما إلى ذلك منم فاسد الأخلاق.
3- يجدر بطالب العلم أن يجدَّ في الدراسة منذ بداية العام وأن ينشط في الحفظ والعمل وألا يتأخر عن مواعيد دروسه.
4- يجب عليه أن لا يسأل أستاذه أسئلة تعنُّت وتعجيز، وأن يهذِّب أسئلته ويعرضها بشكل مقبول وبأسلوب مهذَّب.
5- أن لا يعاشر غير إخوان المجدين، ويبتعد عن أصحاب الأخلاق الفاسدة ورفاق السوء، فإن الطبع سرَّاق.
6- أن لا ينتقل من بحث قديم إلى بحث جديد إلاّ إذا بعد إتقان البحث القديم، إلاّ إذا كان ذا مواهب كبيرة، وبعد استئذان أستاذه ومشورته بذلك.
7- وعليه أن ينظر لأستاذه ومربيه نظرة إجلال واحترام وتقدير وأن يبجِّل أستاذه في حضوره وغيبته، ولا يخاطبه بتاء الخطاب وكافه ولا يناديه من بعيد، بل عليه أن يخاطبه بصفة الجمع ويذكره في غيبته بقوله: قال أستاذنا أو شيخنا كذا وكذا..
8- أن يسبق أستاذه في الحضور إلى مكان الدرس أو الحلقة أو الندوة وأن يجلس في حضرته بأدب، ويتعاهد تغطية قدميه وإرخاء ثيابه ولا يستند في حضرته إلى (جدار) أو مخدة (وسادة) ولا يدبر إليه ظهره وغير ذلك مما هو متعارف عليه في آداب الجلوس.
9- أن يلقى بسمعه إلى الشيخ بحث لا يضطره إلى إعادة الكلام ولا يتمخط ولا يتمطى ولا يتثاءب ولا يتجشَّأ ولا يضحك إلا بقدر وعند المناسبة.
10- أن يقلِّل النوم وينظم مواعيده حتى لا يلحقه الضرر من كثرة النوم في بدنه وذهنه بحيث لا يزيد نومه في اليوم والليلة على ثماني الساعات.(13/116)
11- وعليه أن يعمل دائما على ما ينشِّط ذهنه بالترويح عن النفس وذلك بالسير في الخلوات والمنتزهات وممارسة الرياضة. وأن لا يأكل ما يفسد عليه ذوقه وفهمه أو يضر بصحته أو ينسيه بعض ما درس وكان المسلمون الأوائل يوصون الطالب بتناول بعض الأطعمة وشرب بعض الشراب الذي يعتقدون أنه يقوي الذهن والذاكرة مثل: أكل الزبيب بكثرة، وشرب الجلاب والعسل واستعمال السِّواك.
هذه هي بعض التعاليم الإسلامية الأصيلة التي وردت على لسان العلماء والمربين المسلمين الأوائل لأبنائهم من طلاب العلم في كل زمان ومكان, لتصلح من شأنهم وترفع من قدرهم وتسمو بمستواهم العقلي والخلقي والبدني والاجتماعي, وهي مشاعل تنير لهم طريق الهداية في حياتهم الدراسية، حتى إذا ما خرجوا إلى ميدان الحياة العامة كانوا رجالا عاملين مؤمنين مشبَّعين بروح التربية الإسلامية السمحة التي تعصمهم من الزلل وتهديهم صراطاً مستقيما في حياتهم الدنيوية والأخروية.
النظام التأديبي لطلاب المدرسة الإسلامية:
اهتم المربُّون المسلمون الأوائل بأمر عقوبة الطفل وتأديبه بغية تعليمه وتهذيبه وتقويم سلوكه, وقد اختلفت آراؤهم في الوسيلة التي يعاقب بها الطالب:
1- رأى بعضهم أنه لا بد من العقوبة، على أن لا تتعدى حدود الإنذار، فالتوبيخ، فالتشهير أمام زملائه، فالضرب الخفيف.
2- وقال آخرون بإباحة الضرب والعقوبة الجسدية الشديدة إذا ما تجاوز الطفل حدود المعقول والمقبول ولم ينفع فيه الإنذار والتوبيخ والتشهير والزجر والضرب الخفيف.(13/117)
3- وقال الأكثرون من المربين أن العقوبة تنقسم قسمين: روحية وبدنية, ويجب أن يسبق ذلك النصائح والتوجيهات والإرشادات، فإن لم تجد نفعا فإنه يبدأ بالعقوبة الروحية وهي العبوس في وجه الطالب المعاقب، فاللوم، فالإهانة على انفراد فالتوبيخ أمام الرفقاء. فإن لم تأت العقوبة الروحية بنتيجة ما لجأ إلى العقوبة الجسدية من الوخز والضرب وليتجنب المربي أن يضرب رأس الفتى أو وجهه.
وهم يستدلون على جواز استخدام العقوبة البدنية بالحديث النبوي الشريف القائل: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين واضربوهم عليها لعشر".
ويقول المربي العربي القابسي فيما كتبه عن سياسة المعلمين: "إنه يبيح للمعلّم أن يؤدب أطفاله إذا لم يفد معهم اللطف والإيناس، ويبيح له ذلك على أن يتجاوز ثلاث ضربات إلا إذا كان الطفل سيّئ الخلق قد ناهز الاحتلام فلا بأس من ضربه عشر ضربات وألا يزيد عن ذلك لأن أبناء الناس وديعة في يده. وكما يعاقب المعلّم تلميذه على إهماله دروسه يعاقبه أيضا على الإسراف في لعبه ولهوه وعلى الهرب من الدرس وعلى إيذاء إخوانه".
ويقول في ذلك أيضا المربي القابسي: "إذا أفرط الطالب فتثاقل على الإقبال على العلم، وتباطأ في حفظه أو أكثر الخطأ فيما حفظ أو في كتابة لوحه من نقص حروفه وسوء تهجيته وقبح كتابته وغلطه في نقطه، فنبَّهه مرة بعد مرة فأكثر التغافل ولم يُغن فيه التقريع بالكلام فله أن يعاقبه بالعقوبة البدنية المناسبة وهي الضرب بعصا (ضرباً لا يسبب للطالب عاهة مستديمة أو أذى شديداً وإنما يكفي شعوره بالألم عند توقيع العقوبة عليه) ".
على أنّ كثيراً من المؤدبين والمربّين كانوا يلّحون إلحاحا شديداً بوجوب عدم الضرب والشتم والسب لما فيها من الفساد. فقال أحدهم: "لا تؤدبه إلاّ بالمدح ولطف الكلام وليس هو ممن يؤدب بالضرب أو التعنيف".(13/118)
فهذا يدلنا على أن نفراً من المربّين المسلمين كرهوا الضرب أصلاً, وأوجبوا عدم العنف لما في ذلك من الضرر على المتعلم.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يحب الرفق في الأمر كله وإنما يرحم الله من عباده الرحماء".
العلاقة بين الأستاذ والتلميذ في صدر الإسلام وفي عالمنا المعاصر:
كانت العلاقة بين المعلم والمتعلم في صدر الإسلام قائمة على الحب والوفاء والتكريم والتوقير، فالمعلم والد يؤدب بالحسنى، ويهذِّب بالحكمة، ويقسو حينما تجب القسوة، ولكنها قسوة من يريد الخير لابنه وتلميذه.
وكان المتعلّم ابناً مطيعا بارّاً، يرى في إجلاله لأستاذه مظهراً من مظاهر الأدب وحسن الخلق، وكان التلميذ يعتبر نفسه عجينة في يد أستاذه المحب له الحريص عليه، فهو يشكِلُّها ويصوغها على حسب ما يرى, ويعتقد فيه الصلاح والنجاح. وعلى التلميذ أن يسمع ويستجيب.
وكان الطالب يحافظ على وفائه لأستاذه حتى بعد تخرّجه أو انقطاعه عن حلقة الدرس، أو بلوغه مرتبة ملحوظة في الحياة, فهو يظلّ يذكر مدرسه بالخير، وهو يحتفل لقدومه ولقائه, ويتأدب أمامه ويستحي منه ويزوره ويتودد إليه.
وكان المدرِّسُ من جهته يظلّ على صلة بتلميذه ولو نزل معترك الحياة, وهو يواصل توجيهه وإرشاده بحسب طاقته وإمكاناته وقدراته، وهو يتبع خطواته في المجتمع، ويفرح لتوفيقه ونجاحه في مجال عمله.
هذه العلاقة بين الأستاذ وتلميذه ظلّت قوية ومتينة إلى عهد قريب. ولو رجعنا إلى عهد أبعد، وذهبنا نسترجع تاريخنا الإسلامي لوجدناه عاطراً بقصص الحب والوفاء المتبادل بين المعلّمين والمتعلّمين مليئاً بمواقف التمجيد من جانب التلاميذ للأساتذة والمربّين والأوائل.
ومن أبلغ ما ورد في مجال تكرم الطلاب لأستاذهم هذه القصة:(13/119)
كان المعلّم النحوي الشيخ "الفراء"يقوم بتعليم ولدَيْ الخليفة العباسي المأمون علوم العربية، وذات يوم أراد "الفراء"أن يقوم من درسه، فتسابق الأميران إلى حذائه ليقدِّماه إليه وتنازعا على ذلك لحظة، ثم اتفقا على أن يحمل كل منهما من الحذاء واحدة, ولما علم الخليفة الوالد "المأمون"بالقصة تأثر منها وأعجب بها.
أما اليوم: فإنّ من الطلاب من ينسى حق أستاذه وهو بين يديه يغترف من علمه وفضله، فكيف به إذا بعد عنه وتخرَّج وعمل في ميدان تخصصه, كما أنّ بعض المدرّسين وهم قلة لا يؤدون حق تلاميذهم عليهم, ولا يبذلون الجهد المطلوب في سبيل تعليمهم وتربيتهم ومعالجة مشكلاتهم.
حقاً لقد ضعفت الرابطة بين التلميذ وأستاذه في عالمنا المعاصر، وضعفت العلاقة بينهما في بعض الأحيان ضعفاً يندر بأخطر العواقب؛ إذ بدا الطالب يسرف في الاعتزاز بشخصيته، وقد يعلو صوته على أستاذه أو يخشى في تعبيره معه، أو أن يضع ساقاً على ساق في وجهه أو يصرِّح أمامه في جرأة بما لا يليق التصريح به، ومن الطلاب من يتجرأ فيعصي أمر أستاذه.
فأين هذا مما قاله الشاعر شوقي في فضل المعلم:
كاد المعلّم أن يكون رسولا
قم للمعلِّم وفِّه التبجيلا
يبني وينشئ أنفساً وعقولاً
أرأيت أعظم أوأجلَّ من الذي
وفي تقدير المعلم:
علّمت بالقلم القرون الأولى
سبحانك اللهم خير معلّم
وهديته النور المبين سبيلا
أخرجت هذا العلم من ظلماته
وكما ورد في قوله تعالى جلت قدرته وفي فضل العلم: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} .
وقوله عز وجل لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} .(13/120)
فالتعليم هو وظيفة الأنبياء السامية، والمعلّم هو وريثهم في هذه الرِّسالة. ومحمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم يقول "إنما بعثت معلماً".
حقّا, ً إنّ موضوع العلاقة بين الأستاذ وتلميذه في الوقت الحاضر هو من موضوعات الساعة التي يجب أن تأخذ طريقها إلى الاهتمام والعناية والرعاية والمعالجة السريعة, ولا شك أنّ هذا العلاج يشترك في تقديمه ولاة الأمور من المسؤولين والمربّين والآباء والمدرّسين والمثقفين من العلماء والأدباء، وكذلك نخبة من الطلاب, وحتى نستطيع أن نعود بهذه العلاقة الوثيقة والرابطة المتينة التي كانت تربط الأستاذ بتلاميذه إلى ما كانت عليه من قوة ومحبة ومودة وألفة، وكان لها الفضل الأكبر في تخريج جيل عربي إسلامي من أئمة الفكر والأدب والعلوم ومن كبار العلماء والفقهاء والمحدثين الذين وضعوا الأساس المتين لحضارتنا الإسلامية العربية المجيدة في عصورها الزاهرة.
أهداف التربية والتعليم عند المسلمين الأوائل:
اختلف المؤلفون المسلمون وغير المسلمين في بيان الأهداف التي قصد إليها الإسلام من وراء حضِّه على العلم:
1- فمنهم من قال: إنّ أهدافه من وراء ذلك هي إحياء شعائر الإسلام والقيام بفروضه وعباداته, أي أنها أغراض دينية بحتة.
ويؤكدون على ذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة" ويقصد به التعليم الديني من قرآن وسنة وما إليها.
2- ومنهم من قال: إنّ أهداف الإسلام من التعليم هي أهداف دينية ودنيوية معا, بمعنى أنّ الدين الإسلامي لا يمنع أهله من الإفادة مما في الكون من توجيه العقل إلى اكتساب المال بالطرق المشروعة من تجارة وصناعة وزراعة وما إلى ذلك.
3- ومنهم من قال: إن وراء الهدفين الديني والدنيوي هدفاً ثالثاً هو العلم لذاته بما يدفع صاحبه إلى التعليم والبحث لا لشيء سوى البحث عن الحقيقة والتنقيب عن دفائن المعرفة.(13/121)
وقد لخص بعض علماء التربية المسلمين هذه الأغراض في أربعة أهداف رئيسية وهي:
1. غرض ديني.
2. غرض اجتماعي.
3. غرض مادي (نفعي) لكسب العيش.
4. غرض عقلي وثقافي (العلم لذاته) .
وكان الغرض الأخير هو هدف عشرات العلماء الذين بذلوا أعمارهم في سبيل العلم والبحث, ولم يقبلوا عليه أجراً ولا وظيفة، ولا أباحوا لأنفسهم أن يأخذوا درهما ولا ديناراً في سبيل نشر العلم والبحث والمعرفة, وهؤلاء كثيرون, وفي طليعتهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس وعبد الله بن عمر وأبو حنيفة النعمان والإمام مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من كبار الصحابة والتابعين.
المواد الدراسية عند المسلمين
تبلورت الدروس والمعلومات في مواد دراسية اعتباراً من أيام المدرسة النظامية الإسلامية سواءً في الكتاتيب أو المدارس أو دور العلم أو دور الحكمة.
فقد بحث المسلمون فيها أبحاثاً مستفيضة, وقسّموا العلوم إلى درجات أو مواد أو مقررات دراسية بالمعنى المفهوم حالياً.
فقالوا: إنّ أول ما يجب على الطالب دراسته بعد القرآن الكريم وأصول العلوم الدينية ومبادئ العلوم العربية هو التفسير ثم علم الحديث ثم علم أصول الفقه ثم علم الفقه ثم علم الخلاف بين المذاهب الإسلامية.
وفي ترتيب مواد الدراسة قسَّموا العلوم أربعة أقسام:-
1- علوم مفروضة فرض عين: وهي علوم القرآن الكريم والضروري من علوم الدين أصولاً وفروعاً.
2- علوم مفروضة فرض كفاية: وهي العلوم الدينية كلها بأصولها وفروعها, فإن تعلّمها البعض ففي ذلك كفاية.
3- علوم مباحة: وهي العلوم المفيدة ولكن تعلّمها مفيد في الحياة العامة مثل التوقيع والتذهيب والخط بمختلف أشكاله الخ..
4- علوم محرَّمة: وهي العلوم الباطلة المضرة, مثل السحر والشعوذة والطلسمات.
كما قسَّم بعض العلماء، والمربّين العلوم قسمين فقط وهي:(13/122)
1. العلوم الشرعية.
2. العلوم غير الشرعية.
فالشرعية: وهي ما ورد في القرآن الكريم والسنة وعن طريق الصحابة.
غير الشرعية: تنقسم إلى ما هو محمود وإلى ما هو مذموم, وإلى ما هو مباح وغير المباح. والمحمود هو ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب, وهذا ينقسم بدوره إلى ما هو فرض كفاية وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة.
أما فرض الكفاية فهو كل علم لا يستغني عنه كالطب مثلا إذ هو ضروري في بقاء الأبدان على الصحة, والحساب فهو ضروري في المعاملات والتركات والوصايا والمواريث وغيرها. وكذلك علوم الملاحة والحياكة والحجامة (الصيدلة) وغيرها من العلوم المفيدة في الحياة العلمية, أما المذموم فهو: علم السحر، وعلم الشعوذة والطلسمات.
وقسّم ابن خلدون العلوم إلى:
1- مجموعة المواد الإجبارية.
2- مجموعة المواد الاختيارية.
فالمجموعة الأولى: تشمل مباحث دراسة القرآن وتعليم القراءة والكتابة، وبعض أخبار السنة، ومعرفة أوليات الدين واللغة العربية والحساب وكذلك ترويض الجسم (التمرينات والألعاب الرياضية) .
والمجموعة الثانية (الاختيارية) : وتقوم على التوسع في دراسة علوم القرآن والدين وبحوث اللغة العربية وآدابها، ودراسة الرياضيات والفلك وما إليه من العلوم العامة.(13/123)
ولقد كانت هذه المناهج والبرامج متبعة منذ زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين, وفي عصر الأمويين والعباسيين الأوائل من بعدهم؛ لأنها كانت تلائم البيئة الاجتماعية التي يحياها العرب المسلمون بصورة عامة في تلك الأزمان. فلمّا تطورت الحياة في العصر العباسي الثاني, ومال الناس إلى التعمق في علوم الكلام والعقائد والمذهب والآداب من شعر ونثر وخط وتجويد ظلت هذه المواد في سمو وتطور طوال العصر العباسي إلى أن تدهورت الأمة الإسلامية, وضعف شأنها بعد سقوط بغداد سنة 656هـ؛ إذ انحطت البرامج الدراسية وتراجع الناس إلى برامج ساذجة لا تهتم بتنمية الجسم والعقل, ولا تعمل على إذكاء روح البحث, وإنما ترمي إلى حشو الأدمغة ببعض القشور ومباحث الجدل والتصوف، فهبط المستوى التعليمي بعد أن كان في الحقيقة السابقة يهدف إلى رفع مستوى الطالب الفكري والاجتماعي والعقلي والوجداني. لم تكن الدولة تشرف على المعلّمين وكتاتيبهم الذين يعملون بها في صدر الإسلام، وإنما كانت الرقابة متروكة لضمير المعلّم ووجدانه وخلقه وأصالته، فقد كان الناس في صدر الإسلام - ومنهم المعلمون- يخافون الله فيما يفعلون وفيما يقولون, وكان كثير من المعلمين والمربين يعلِّمون وهم لا يبغون من وراء ذلك إلاّ الاحتساب وطلب الثواب.(13/124)
فلمّا تطورت الحياة في المجتمع الإسلامي, وتسرّب الفساد إلى كيان الدولة واختلط العرب بأجناس مختلفة من مختلف الشعوب والجنسيات صار الآباء وأولياء الأمور يهتمون بانتقاء أفاضل المعلمين لأولادهم كما ينتقون العارفين والمتفقهين في هذه المهنة، وكانوا يطلبون من معلم الكتَّاب شروطاً معينة بأن يكون ذا ثقافة عالية، وأن يكون عارفاً بسياسة تربية الأطفال ودارساً لنفسياتهم (أي ملماً بطرق التدريس وأصول التربية وعلم النفس) وأن يكون ديِّنا ورعاً متزوجا، ولا يجيزون للشبان المراهقين مزاولة هذه المهنة. من هنا نرى الأهمية الكبرى في اختيار وانتقاء المعلّمين الذين يقومون بأقدس رسالة وهي تربية وتنشئة وتعليم الشباب في مختلف أدوار حياتهم, وهي مهمة ليست باليسيرة, وليس من السهل أن يقوم بها كل من أوتي من العلم قسطاً من المعرفة دون أن تتوافر لديه المقومات الأساسية للمعلم الصالح والمربي الفاضل.
مناهج البحث عند المسلمين:
كان تصنيف مناهج البحث عند المسلمين ينقسم إلى أقسام ثلاثة:
1- منهج أهل الحديث: وهم الإمام مالك وأصحابه ممن قالوا بالأصول الأربعة ولكن اعتمادهم كان أساساً على القرآن والحديث والإجماع.
2- منهج أهل الرأي: وهم الإمام أبو حنيفة ممن قالوا بالأصول الأربعة, ولكن جلّ اعتمادهم على القرآن وعلى ما صح من الحديث، وعلى الإجماع والقياس.
3- منهج أهل الظاهر: وهم داود وأصحابه ممن قالوا بالأصول الثلاثة: القرآن والسنة والإجماع، ومنعوا العمل بالتأويل والرأي والقياس.
وقد غلبت بعض هذه المناهج الثلاثة على أقاليم دون غيرها، فمذهب أهل الحديث غلب على أهل مكة والمدينة ومصر ومسلمي أفريقية والأندلس.
ومذهب أهل الرأي غلب على أهل العراق والمشرق ولكنه لم يعمَّر طويلا.
والمذهب الثالث: غلب على بعض الأمصار في الدولة الإسلامية في المشرق والمغرب.(13/125)
هذه نظرات سريعة عن التربية الإسلامية في معظم جوانبها, وهي جديرة بالدراسة والاهتمام من المؤولين على كافة المستويات, ويجدر بإدخال هذه المادة في برامج التعليم وخاصة بالكليات الجامعية حتى يتحقق لشبابنا العربي والإسلامي والعالمي ما نصبو إليه جميعا من غزة وتقدم وأصالة عربية وتربية إسلامية حقة. ولن يكتب لهذه البشرية في عالمنا المعاصر الخير والتوفيق ما لم تتأصل فيها المبادئ والقيم التي نادت بها الشريعة الإسلامية السمحة من قرآن وسنة وإلاّ فلا بد من عاصفة مدمِّرة تهلك الحرث والنسل والعياذ بالله.
وبالله التوفيق..
محمد الشربيني – خبير التعليم بالجامعة(13/126)
العدد 36
فهرس المحتويات
1- افتتاح المؤتمر - كلمة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
2- دليل المؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة
3- بعض سمات الدعوة في هذا العصر: لفضيلة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي
4- كيفية إعداد الداعية: للدكتور أحمد أحمد غلوش
5- إعداد الداعية ومعالجة بعض مشاكل الدعوة: لفضيلة الشيخ محمد محمد أبو فرحة
6- مشكلات الدعوة والدعاة في العصر الحديث وكيفية التغلب عليها؟ : للدكتور محمد حسين الذهبي
7- من هنا.. فلنبدأ أعمالنا للدعوة: لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
8- بين يدي العلاج: للدكتور عبد السلام الهراس
9- رسالة الإعلام في بلاد الإسلام وعلاقتها بالدعوة الإسلامية: لفضيلة الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري
10- الدعوة الإسلامية ووسائل الإعلام: للدكتور عبد المنعم محمد حسين
11- الأساليب التبشيرية في العصر الحديث: للدكتور علي محمد جريشة
12- توصيات المؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(13/127)
افتتاح المؤتمر
كلمة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
بعد عصر يوم السبت الرابع والعشرين من شهر صفر سنة 1397 افتتح المؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة، وقد افتتح المؤتمر سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد نيابة عن صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز نائب جلالة الملك وولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى لجامعة الإسلامية، وهذا نص كلمة سماحته.
بسم الله الرحمن الرحيم(13/128)
الحمد لله رب العالمين الذي خلق الثقلين لعبادته وأمرهم بها في كتابه المبين وعلى لسان رسوله الأمين عليه أفضل الصلاة والتسليم، وأرسل الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ليدعوا الناس إليها وليبينوها لهم، وختمهم بأفضلهم وإمامهم نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وجعل رسالته عامة لجميع العالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، والآمر نبيه أن يدعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة. والذي أمره أن يدعو الناس إلى سبيله، وأخبر أن الدعاة إليه على بصيرة هم أتباعه على الحقيقة فقال عز من قائل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وأمينه على وحيه وصفوته من خلقه، أرسله الله رحمة للعالمين، وقدوة للسالكين وحجة على العباد أجمعين، أرسله شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فهدى به من الضلال وبصّر به من العمى، وجمع به بعد الفرقة، وأغنى به بعد العيلة، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وهدى به العباد إلى صراطه المستقيم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة الكرماء أعضاء هذا المؤتمر. باسم الله العظيم افتتح هذا المؤتمر العالمي ((مؤتمر توجيه الدعوة وإعداد الدعاة)) نيابة عن سمو الأمير الكريم فهد بن عبد العزيز ولي عهد المملكة العربية السعودية ونائب رئيس مجلس الوزراء لمشاغله الكثيرة التي حالت بينه وبين حضور هذا المؤتمر، وأسأل الله عز وجل أن يمنحه التوفيق والإعانة على كل خير، وأن يسدد خطاه، وأن يبارك في أعماله.(13/129)
أيها الإخوة الأعزة أعضاء المؤتمر: يسرني أن أحييكم تحية الإسلام، وأن أرحب بكم أجمل الترحيب، فأقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً وسهلاً بكم في بلادكم وبين إخوانكم في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رحاب مسجد نبيه عليه الصلاة والسلام، وفي مهاجره وفي عاصمة الإسلام الأولى، ومنطلق الدعوة إلى الله على يد رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، وعلى يد أصحابه الكرام، الغزاة الفاتحين، والأئمة المهتدين، وأتباعهم بإحسان رضي الله عن الجميع وأرضاهم، وأسأله سبحانه أن يجعلنا وإياكم من أتباعهم بإحسان وأن ينصر دينه ويعلي كلمته، وأن يصلح أحوال المسلمين جميعا، وأن يولي عليهم خيارهم ويمنحهم الفقه في الدين، وأن يسلك بنا وبهم صراطه المستقيم، إنه سميع قريب.
أيها الإخوة إن هذا المؤتمر بلا شك مؤتمر عظيم، قد دعت الحاجة بل الضرورة إلى عقده، وإن الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة لمشكورة كثيراً على تبني هذه الدعوة إلى المؤتمر وقيامها بالإعداد له، ودعوتها نخبة ممتازة من أقطار الدنيا من العلماء والدعاة إلى الله عز وجل من أكثر من سبعين دولة لحضوره وتبادل الرأي في شؤون الدعوة والدعاة وتذليل الصعوبات والعقبات التي تعترض سبيلها، وللنظر في طرق ووسائل محاربة الدعوات الضالة والمذاهب الهدامة والأفكار المنحرفة، وكل ما يتعلق بشؤون الدعوة وأحوال المسلمين.(13/130)
وإن حكومة هذه البلاد الحكومة السعودية وفقها الله تشكر كثيراً على موافقتها على إقامة هذا المؤتمر، وعلى دعمها له بكل ما يحتاج إليه، وعلى رعايتها له، كما هي بحمد الله تدعم كل ما يتعلق بالدعوات الإسلامية، والقضايا الإسلامية، وجميع ما يتعلق بالإسلام، فلها بحمد الله جهود مشكورة، وأعمال جليلة في دعم قضايا المسلمين وإعانة مؤسساتهم ومدارسهم وجمعياتهم، والدعاة إلى الله عز وجل في كل مكان، فجزاها الله عن ذلك خيراً، وبارك في أعمالها وزادها من فضله، ونشر بها الدعوة في كل مكان، وأصلح لها البطانة، وكتب لها التوفيق من عنده، كما نسأله سبحانه أن يوفق قادة المسلمين في كل مكان وأن يهديهم صراطه المستقيم، وأن ينصر بهم الحق، ويخذل بهم الباطل، وأن يوفقهم للاستقامة على دينه، وإخلاص العبادة لله وحده، والقضاء على كل ما يخالف ذلك، كما نسأله عز وجل أن يوفق قادة المسلمين وعلماءهم في كل مكان والدعاة إلى الحق وعلماء المسلمين والمسؤولين فيهم للتعاون الكامل على البر والتقوى، ونصر دين الله وإعلاء كلمته، وعلى بيان حقيقة التوحيد والعبادة التي خلق الله عز وجل من أجلها الخلق وأرسل الرسل، وعلى بيان حقيقة الشرك الذي هو أعظم الذنوب وأكبر الجرائم، وعلى القضاء عليه وبيان حقيقته للناس، وبيان وسائله وذرائعه للناس، والقضاء عليها بالوسائل التي شرعها الله عز وجل.
كما أسأله سبحانه أن يوفقهم جميعاً لمحاربة البدع التي استشرت في العالم، حتى التبس على أكثر الخلق دينهم بسبب ظهور البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان وبسبب كثرة المروجين لها والداعين إليها باسم الإسلام حتى التبس الحق على كثير من الناس، لقلة العلماء المتبصرين الذين يشرحون للناس حقيقة الدين ويوضحون لهم حقيقة ما بعث به الله نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام، ويبينون لهم معاني كتاب ربهم وسنة نبيهم واضحة جلية كما تلقاها أصحاب رسول الله عن نبيهم وكتاب ربهم.(13/131)
أيها الإخوة الكرام أعضاء المؤتمر:
ليس من الخافي على كل من له أدنى علم أو بصيرة أن العالم الإسلامي اليوم بل العالم كله في أشد الحاجة إلى الدعوة الإسلامية الواضحة الجلية التي تشرح للناس حقيقة الإسلام وتوضح لهم أحكامه ومحاسنه، وتشرح لهم معنى ((لا إله إلا الله)) ومعنى شهادة ((أن محمداً رسول الله)) فإن أكثر الخلق لم يفهم هاتين الشهادتين كما ينبغي، ولذلك دعوا مع الله غيره، وابتعدوا عنه، إن هاتين الشهادتين هما أصل الدين وأصل الملة وأصل الإسلام.
أما الشهادة الأولى فهي تبين حقيقة التوحيد وحقيقة العبادة التي يجب إخلاصها لله وحده سبحانه وتعالى، لأن معناها كما لا يخفى لا معبود حق إلا الله، فهي تنفي العبادة عن غير الله وتثبت العبادة لله وحده، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، من الصلاة والزكاة والصوم والحج والذبح والنذر والدعاء والاستغاثة والسجود وغير ذلك، فهذه العبادات يجب أن تكون لله وحده، ويجب على العلماء أن يبينوا ذلك للناس، وإن صرفها لنبي أو ولي شرك بالله عز وجل، قال الله جل وعلا: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِل} ، وقال سبحانه وتعالى: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ، وقال الله تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ. إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} . والآيات في هذا المعنى كثيرة.(13/132)
وأما شهادة أن محمداً رسول الله فكثير من الناس لم يفهمها على حقيقتها وحكموا القوانين الوضعية وأعرضوا عن شريعة الله، ولم يبالوا بها، جهلا بها أو تجاهلاً بها.. إن شهادة أن محمداً رسول الله تقتضي الإيمان برسول الله عليه الصلاة والسلام، وطاعته في أوامره واجتناب نواهيه، وتصديق أخباره وأن لا يعبد الله إلا بالشريعة التي جاء بها عليه الصلاة والسلام، كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وقال سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، فالواجب على جميع العالم، على جميع الثقلين أن يعبدوا الله وحده وأن يحكموا نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} .
وقال عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} وقال سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} . {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
أيها الإخوة الكرام أعضاء المؤتمر(13/133)
إن الناس اليوم في أشد الحاجة إلى الدعوة، وإلى بيان الداعية الذي ينبغي أن يقوم بهذه الدعوة وبيانها بأخلاقه وأعماله وصفاته، بحاجة إلى الداعية المستقيم في أقواله وأفعاله، الذي يكون قدوة للمدعوين في سيرته وأخلاقه وأعماله ومدخله ومخرجه وكل شؤونه، إن العالم بحاجة إلى تيسير وسائل الدعوة وإيضاحها، وتسهيل العقبات والصعوبات التي تقف في طريق الداعية، المسلمون اليوم في أشد الحاجة إلى الدعاة الصالحين، إلى العلماء المبرزين الذين يدعونهم إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم ويوضحون لهم معاني كتاب الله وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام ويبينون لهم سيرته عليه الصلاة والسلام وسيرة أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.
المسلمون اليوم بل العالم كله في أشد الحاجة إلى بيان دين الله وإظهار محاسنه وبيان حقيقته، والله لو عرفه الناس اليوم ولو عرفه العالم على حقيقته لدخلوا فيه أفواجاً اليوم كما دخلوا فيه أفواجاً بعدما فتح الله على نبيه مكة عليه الصلاة والسلام.(13/134)
أيها العلماء الكرام أيها الفضلاء: إن واجبنا عظيم وإن واجب المسؤولين في جميع العالم الإسلامي من علماء وأثرياء وأمراء وقادة إن الواجب عظيم والمسؤولية عظيمة..علينا أن نتقي الله في عباد الله، وعلينا أن نتعاون صادقين على البر والتقوى أينما كنا وأن تكون هناك علاقات قوية، واتصالات دائمة في شأن الدعوة والدعاة، وفي توجيه الناس إلى الخير، وبالتعاون على البر والتقوى وأرجو أن يكون اجتماعكم هذا تعاوناً على الخير وتبادلا للرأي في كل ما من شأنه انتشار الدعوة الإسلامية وتذليل العقبات والصعوبات أمام الداعية وبيان حال الداعية وصفاته وأعماله وأخلاقه، وبيان ما ينبغي أن تواجه به الدعوات المضلة والمبادئ الهدامة والتيارات الجارفة أرجو أن يكون في مؤتمركم هذا حل لهذه المشاكل وبيان لكل ما يحتاجه المسلمون في سائر الدنيا إنكم والله مسؤولون وإن الأمر عظيم وإني لأرجو الله عز وجل لهذا المؤتمر المبارك أن ينجح في أعماله وأن يوفق في أعماله وأن يجعل العاقبة في حصول ما نرجوه من هذا المؤتمر وما نعلقه عليه من الآمال وأرجو أن يكون في جهودكم وأعمالكم وتبادلكم الرأي ما يحل المشكل وما ينفع الله به عباده المؤمنين في كل مكان وما يرحم الله به عباده، حتى يعرفوا دين الله وحتى يدخلوا في دين الله بأسبابكم، وحتى يكون لكم مثل أجورهم فقد صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام إنه قال: " من دل على خير فله مثل أجر فاعله " وقال عليه الصلاة والسلام: " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً".(13/135)
وأخبر سبحانه وتعالى أن الدعاة إليه على بصيرة هم أتباع النبي عليه الصلاة والسلام فأسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من أتباعه عليه الصلاة والسلام على الحقيقة وأن يعيننا جميعاً على ما يجب علينا من طاعته والاستقامة على أمره، والتواصي بالحق والصبر عليه، وأن يعيذنا وإياكم من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، كما أسأله سبحانه أن يصلح قادة المسلمين وأن يمن عليهم بالتوفيق، وأن يصلح لهم البطانة وأن يردهم إليه رداً جميلاً، وأن يمن عليهم بالتوبة الصادقة حتى يقيموا أمر الله في أرض الله، وإن الحكام اليوم مسؤوليتهم عظيمة جداً وفي كل زمان ولكن في هذا الزمان الذي اشتدت فيه الغربة وكثر فيه دعاة الهدم والتضليل، فالواجب عليهم أعظم من ذي قبل، فالله المسؤول أن يهديهم لذلك، وأن يعينهم على آداء الواجب، وأن يشرح صدورهم للحق، وأن يمنحهم البطانة الصالحة التي تعين على الحق، وتذكرهم إذا نسوا، وتعينهم إذا ذكروا، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ومعنى ذلك كما لا يخفى أنه بدأ غريباً لا يعرفه إلا القلائل، ثم انتشر وعز بحمد الله وظهر على الأديان كلها، ثم عاد غريبا بسبب اختلاف الناس واتباع الأهواء وقلة العلم، ولكن الرسول حث على القيام بإظهاره للناس وبيانه ونشره، حتى يظهر كما ظهر أولاً، حتى يظهر بعد غربته، وحتى ينتشر بعد غربته بين أبنائه، وبين غيرهم، بين المدعين له، المدعون للإسلام اليوم كثيرون، يعدون بمئات الملايين ولكن المتبصر منهم قليل، فنسأل الله عز وجل أن يوفق علماء المسلمين حتى يظهروا دين الله على بصيرة وعلى حقيقته من كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وحتى يوجهوا الناس إلى الخير، وحتى يظهروا بينهم الحق، وحتى يكون بذلك قد أظهروا دين الله وأصلحوا بين الناس، إن الله جل وعلا وعد عباده بالخير العظيم قال عليه الصلاة والسلام: " فطوبى للغرباء(13/136)
" قيل: يا رسول الله من الغرباء، قال: " الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي "، وجاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الصابر على دينه في آخر الزمان كالقابض على الجمرة وأن الذي يدعو إلى الله في آخر الزمان له أجر خمسين من الصحابة وما ذلك إلا لقلة الأعوان وكثرة الشرور والفساد، وعلى الدعاة إلى الله أن يصبروا، وعلى العلماء أن يصبروا، وعلى الحكام أن يصبروا حتى يظهر دين الله وينتصر الحق، وحتى يفهم الناس دين الله وحتى ينيبوا إليه، وحتى يحكموا شريعة الله في عباد الله.
وأسأل الله عز وجل أن يهدينا جميعاً صراطه المستقيم، وأن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين، وأن يكثر في المسلمين دعاة الهدى وأنصار الحق، وأن يهدي حكام المسلمين وقادتهم لما فيه رضاه، وصلاح أمر عباده، إنه سميع قريب، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان.
كلمة معالي وزير التعليم العالي
ثم ألقى الدكتور محمد محمود سفر وكيل وزارة التعليم العالي كلمة معالي الشيخ حسين بن عبد الله آل الشيخ وزير التعليم العالي، فأعلن أن تبني الجامعة الإسلامية لمؤتمر توجيه الدعوة وإعداد الدعاة، وعقد هذا المؤتمر في المدينة المنورة لم يأت اعتباطاً، فهذه الجامعة مهيأة تماما لكل ما من شأنه تبصير الناس جميعاً بهذا الدين الحنيف، وقال: إن المملكة ممثلة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة إذ تستضيف هذا المؤتمر لتؤكد دائما سياستها على أسس الدعوة الإسلامية الرشيدة وهي بهذا تمارس مسؤوليتها إزاء دين الله داعية لهذا المؤتمر ومؤكدة لمنطلقنا نحو الدعوة الإسلامية.
وأضاف: وإذا كان الله قد هيأ لنا الثروة على أرضنا الطاهرة فإن الله قد هيأ لنا بها نصرة كلمة الحق، لتكون العزة لله ولرسوله.(13/137)
وقال في ختام كلمته أن تخبط الإنسانية إنما يعود إلى بعدها عن شريعة الله ولا بد للداعية أن يقوم بواجبه والدعوة إلى الله، بأسلوب متسم بالصبر والأناة وعدم المغالاة ولنا في رسول الله عليه السلام وسلفه الصالح أسوة حسنة.
وقد حان الآن الأوان لأسلوب الدعوة أن يتطور بما وصل إليه العلم الحديث وما حدث من تطورات في المجتمع.
كلمة فضيلة الشيخ عبد المحسن العباد نائب رئيس الجامعة الإسلامية
ثم ألقى فضيلة الشيخ عبد المحسن العباد نائب رئيس الجامعة الإسلامية الكلمة التالية:
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله … وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وخليله وخيرته من خلقه، سيد الدعاة إلى الله، وقدوة الهداة إلى الصراط المستقيم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، الداعين إلى كل خير، الناهين عن كل شر.
أيها الإخوة الكرام أحييكم بتحية الإسلام، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأرحب بكم جميعاً في جامعتكم الإسلامية فأهلاً وسهلاً بكم وعلى الرحب والسعة، وأسأل الله تعالى لكم طيب الإقامة في هذا البلد المبارك.
أيها الإخوة الكرام:
إن الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة نعمة انعم الله بها على حكومة المملكة العربية السعودية، إذ وفقها لإنشائها في طيبة الطيبة، في وقت أحوج ما يكون المسلمون إليها، وهي تضطلع بمسؤولية عظيمة في سبيل الدعوة والتعليم، أسال الله تعالى أن يوفقها لأدائها على الوجه الذي يرضيه، وينفع عباده.
أيها الإخوة الكرام:(13/138)
لقد أدركت الجامعة الحاجة الملحة إلى عقد مؤتمر عالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة ـ فكان هذا اللقاء المبارك الذي نرجو أن يعود بالخير العميم، والعاقبة الحميدة للمسلمين، وإن رعاية حكومة المملكة، وعلى رأسها جلالة الملك خالد بن عبد العزيز حفظه الله، وسمو ولي عهده الأمير فهد بن عبد العزيز، الرئيس الأعلى للجامعة حفظه الله ـ إن رعاية حكومة المملكة لهذا المؤتمر الهادف يعتبر دليلا واضحاً، وتعبيراً صادقاً عن اهتمامها بالدعوة إلى الله، وإلى شريعته التي أكرمها الله بتحكيمها فصارت بحمد الله مضرب المثل في الأمن والاستقرار، وقدمت للعالم في هذا العصر البرهان العلمي، على أن تحكيم شريعة الله هو السبب في أمن الأمم واستقرارها {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
زادها الله توفيقاً وتسديداً، ووفق المسلمين جميعاً حاكمين ومحكومين إلى الرجوع إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.
ليظفروا بالسبب الحقيقي في سعادة الدنيا والآخرة.
أيها الإخوة الكرام:(13/139)
إن مؤتمركم هذا وجه من أجل الدعوة الإسلامية -الدعوة إلى دين الله- الذي لا يقبل الله من أحد سواه الدعوة إلى إخراج الناس من الظلمات إلى النور، من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق، من المعصية إلى الطاعة، من البدعة إلى السنة، الدعوة إلى السير على نهج سلفنا الصالح الصحابة الكرام وتابعيهم بإحسان، الدعوة إلى التقرب إلى الله بالعامل الصالح الذي يكون لله خالصا، ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم موافقاً، الدعوة التي هي الأمر بكل معروف، والنهي عن كل منكر، والتي حصلت الخبرية لهذه الأمة بسببها، وحصل اللعن لبني إسرائيل بالإخلال بها، كما قال عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} وقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ، كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} .
ووجه هذا المؤتمر من أجل الدعوة الخيرة، الهادفة إلى إسعاد البشرية في دنياها وأخراها.
فسيروا في مؤتمركم على بركة الله، واثقين بوعد الله {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} .
أيها الإخوة الكرام:
إن هذه الفرصة التي نلتقي فيها هذا اللقاء المبارك في سبيل الله ومن أجل الدعوة إليه ـ من أسعد الفرص، ولا أستطيع التعبير عن مدى السرور والاغتباط في هذه الفرصة السانحة.(13/140)
وإني أتقدم بالشكر ـ بعد شكر الله عز وجل ـ لجلالة الملك خالد بن عبد العزيز حفظه الله، الذي وافق على عقد هذا المؤتمر، ولسمو ولي العهد، ونائب رئيس مجلس الوزراء، والرئيس للجامعة الإسلامية (الأمير فهد بن عبد العزيز) ـ حفظه الله ـ الذي كان حريصاً على أن يكون معكم في هذا اللقاء لولا مشاغله التي حالت دون ذلك.
وأشكر جميع الأخوة أعضاء المؤتمر على تلبيتهم دعوة الجامعة لحضور هذا المؤتمر والمشاركة فيه.
كما أشكر الإخوة الذين أجابوا دعوة الجامعة لحضور افتتاح هذا المؤتمر، وأسأل الله تعالى أن يثيب الجميع خيراً، وأن يكلل المساعي التي تبذل في الدعوة إلى الله بالنجاح وأن يحسن العاقبة للمسلمين.
إنه سميع مجيب..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
كلمة فضيلة الشيخ أبي الحسن الندوي
نيابة عن أعضاء المؤتمر
هذا وقد اختتم حفل الافتتاح نيابة عن المؤتمرين الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي رئيس ندوة العلماء (بكنهو) بالهند بكلمة قال فيها:
إن هذا المؤتمر يدل على اللا عنصرية في الإسلام، وأنه لا تمييز فيه سواء كان تمييزاً قومياً أو وطنياً أو جغرافياً وقال إن بعثة محمد عليه السلام هي بعثة جامعة شاملة اقترنت بتكليف هذه الأمة بالدعوة إلى الله، ذلك التكليف المشرف الكريم الذي قال فيه الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} .
وأضاف الشيخ الندوي قائلاً: وهذه الدعوة هي مصدر كل خير ومصدر الانطلاقات والنشاطات التي عرفت بها هذه الأمر وقال إن كل ما يعتز به المسلمون من مدينة فاضلة إنما يرجع الفضل فيها إلى ما يعتزون به من دعوة وإن خير هذه الأمة مرتبط ببقاء هذه الدعوة التي ينبغي أن تكون مرافقة لها في جميع أطوارها..(13/141)
وقال فضيلة الشيخ أبو الحسن في كلمته التي أثارت إعجاب الحاضرين: إن مستقبل هذه الأمة مرتبط بقضية هذه الدعوة وإذا انقطع تيار هذه الدعوة بقيت هذه الأمة جسداً بلا روح.
وختم كلمته قائلا: ولولا هذه الدعوة لما استطاع هندي ولد في بلاد بعيدة وسط المشركين والملحدين أن يتكلم العربية في هذا المكان وينطق بكلمات الحق الإلهي مع تعاليم الإسلام وهديه الكريم..
اختيار سماحة الشيخ بن باز رئيساً للمؤتمر
وفضيلة الشيخ العباد نائباً للرئيس
وفضيلة الشيخ الغزالي مقرراً
انتهت الجلسة الأولى من اليوم الثاني للمؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة باختيار سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد رئيساً للمؤتمر، وفضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد نائب رئيس الجامعة الإسلامية نائباً لرئيس المؤتمر، وفضيلة الشيخ محمد الغزالي رئيس قسم الدعوة وأصول الدين بجامعة الملك عبد العزيز مقرراً للمؤتمر.
كلمة رئيس المؤتمر
وقد ألقى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد كلمة قيمة في حفل انتخاب الرئيس ونائب الرئيس والمقرر في المؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة وفيما يلي كلمة سماحته:(13/142)
قال بعد حمد الله تعالى والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم أما بعد: فإن هذا المؤتمر العظيم هو جديد في ذاته، ولم يكن هناك مؤتمر قد سبقه في توجيه الدعوة وإعداد الدعاة، ولا شك أن هذا المؤتمر الذي جمع ممثلي ثلاث وسبعين دولة له شأن عظيم، والمسلمون في كل مكان في الدول الإسلامية، والأقليات الإسلامية في حاجة إلى من يوضح لهم محاسن دينهم، وهذا المؤتمر ـ أرجو أن يكون في توصياته، ومقرراته التي تصدر عنه ما يرسم الخطة التي فيها الخير والصلاح والسداد لجميع الدعاة، وأن يكون فيها ما يعين على تذليل العقبات التي تعترض سبيلهم، وأن يكون فيه بيان واضح لمجابهة الدعوات المضللة، والتيارات المنحرفة، والأفكار الهدامة، التي يبثها وينشرها أعداء الدين ونرجو أن تعنى بها اللجان، والواجب علينا، كل واحد في محله، في مقر عمله، في بلاده، أن يبذل وسعه في الدعوة إلى الله، وتشجيع العلماء في شرح المشاكل التي تعترض الدعاة، وطريقة حلها..
ولا ريب أن كل عالم إذا نشط في محله، وقام بما يجب عليه من توجيه وبيان، وتشجيع ومساندة لدعاة الحق ـ لا شك أن هذا سيكون له أثر عظيم في توضيح الحق للناس وتشجيعهم على الخير، وتوجيههم إلى ما يجب عليهم نحو دينهم وإخوانهم في كل مكان..(13/143)
ومن أهم المهمات أيضاً: العناية بالكتاب الصالح الذي ينبغي أن ينشر بين الناس الذي يشتمل على العقيدة الصالحة وبيان أحكام الله، ومحاسن الإسلام، فإن هذا الكتاب من أهم الكتب التي يجب أن تنشر باللغات المتعددة الكثيرة ويوزع بين الجمعيات والمدارس، والدعاة ليستفيد الناس، وكذلك الجمعيات والمؤسسات جديرة بالتشجيع والمعاونة، وأن ينشر عنها حتى تساعد وتعاون فيما يعينها على تحقيق دعوتها، والعالم غير الإسلامي، في حاجة إلى الدعاة وإلى علماء الإسلام حتى يوضحوا له دين الإسلام، لأنهم في أشد الحاجة إلى ذلك، ولأنهم في حيرة وقلق وشك، لأنهم ما وجدوا من نصرانية وغيرها ما يطمئن قلوبهم ويريح ضمائرهم ويقنعهم بأنهم على دين، وإن لهم عاقبة يريدون حسنها.
فأنتم أيها الإخوة أولى الناس ببيان هذا الأمر، وتشجيع العلماء وغير ذلك من الطرق، وعلينا أن نوضح دين الإسلام بأدلته الواضحة من قرآن وحديث صحيح ونوضح المعنى، ونزيل الشبه، ونكشفها للناس.
ويجب على الدعاة أن يكونوا صابرين، محسنين، يرجون ثواب الله، وعلى أولي الأمر في الدول والأقليات مساعدة العلماء الداعين إلى الله، وإمدادهم بجميع المساعدة..
أيها الإخوة الكرام..
هذا شيء لا يخفى عليكم، أن أولى الأمر عليهم مساندة الدعاة بالمال، وعليهم نشر الكتب المفيدة، وترجمتها إلى اللغات الحية، وتوزيعها بين الناس..
وأسأل الله أن يبارك في هذا المؤتمر، ويوفقه لإصدار توصيات ومقررات تنفع المسلمين، وتعينهم على معرفة دينهم، وعلى محاربة أعدائهم، وعلى الحذر من كل ما يضرهم، إنه سبحانه وتعالى جواد كريم، وهو البر الرحيم..
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
كلمة فضيلة الشيخ العباد بعد انتخابه نائباً لرئيس المؤتمر:(13/144)
ثم ألقى فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد نائب رئيس الجامعة كلمة قيمة بعد انتخابه نائباً لرئيس المؤتمر وفيما يلي نص كلمة فضيلته..
بسم الله والحمد لله
أما بعد.. فإني أشكر للإخوة المؤتمرين للشيخ ابن باز رئيساً لهذا المؤتمر الهادف، الذي هو في الحقيقة يعتبر أول مؤتمر تعقده الجامعة وهو مؤتمر عظيم له ما بعده إن شاء الله.
واختيار الشيخ بن باز اختيار في محله، لأنه هو رئيس هذه الجامعة مدة ثلاثة عشر عاماً، ثم بعد انتقاله عنها ـ إلى رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ـ هو عضو في مجلسها الأعلى، وقد اختاره الأمير فهد في رئاسة الدورة الثانية التي انعقدت في رجب 1396هـ ثم اختاره في رئاسة المجلس الأعلى في هذه الدورة، ثم اختاره لافتتاح هذا المؤتمر وهو اختيار في محله من الناحية الرسمية، ومن الناحية الحقيقية، لأنه هو الداعية المجاهد، ولا نزكي على الله أحداً، وهو في عمل هو في صميم الدعوة، بل هو الأساس والمنطلق في هذه البلاد، فرئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ـ هي المسؤولة في المملكة عن الدعاة إلى الله، وبعثهم داخل وخارج المملكة، ودار الإفتاء والجامعة يتعاونان ويتساعدان، والصلة بينهما أتم صلة، وأعظم وثيقة، لأن الجامعة تخرج الدعاة وترشحهم، ورئاسة البحوث تختارهم وترسلهم.
ثم اختيارهم للغزالي، الكاتب صاحب المؤلفات الكثيرة، صاحب القلم السيال هو اختيار في محله، أما اختياري أنا لهذا المنصب فأعتقد أني لست أهلا لهذا المنصب ولكنه من باب الشكليات، ومن باب الأشياء التي اعتادها الناس، وأعتقد أنه بهذه المناسبة يمكن لي أن أكون في هذا المكان، أما من النواحي الأخرى، فاعتقد أني لست أهلا لذلك..
ثم أشار فضيلته إلى الكيفية التي بها اختيار كل عضو للجنة التي يرغبها..
وعقب بقوله:(13/145)
أود أن أشير إلى أن مهمتنا كبيرة وموضوعنا عظيم وأن الأيام أمامنا قليلة، ونحن في حاجة إلى كسب الوقت وحفظه فيما يعود علينا بالفائدة الكبيرة والنتائج الطيبة، وأرجو من الإخوة ملاحظة ذلك في قاعات اللجان..
كلمة فضيلة الشيخ محمد الغزالي مقرر المؤتمر
السلام عليكم..
نحن في عصر تبرجت فيه الدعوات، وافتتنت في عرض محاسنها أو ما تزعمه لنفسها من محاسن، وحدث ذلك في وقت أصيب العالم الإسلامي فيه بأزمة طاحنة في الدعاة، وقلة مستغربة في الرجال، الذين يفقهون هذا الدين، وينقلونه من قلب إلى قلب، ومن قطر إلى قطر، وكانت نتيجة هذا التفاوت مرة أراجت الشيوعية مثلا، وقلت في كتبي: إن رواج الشيوعية لا يعود إلى جودة السلعة ـ بل إلى نشاط العارضين، وأنه لأمر مؤسف حقاً أن يتخاذل الحق برجال تكاسلوا في عرض مبادئه، وأن يتقدم الباطل ويوغل.. لأن له رجالا نشطوا في عرض مفترياته. الأمر خطير بلا شك، ونحن الذين نعمل في مجال الدعوة، نشعر بأمور كثيرة، لعل أول ما نشعر به: إننا ثمرة لرجال أدوا ما عليهم لله في نشر الدعوة. وكما قال أخونا الندوي (أمس) .
أنا في الهند، من عرفني الإسلام؟ ومن شرح صدري به؟ إنهم دعاة.. من هم؟ الله يعلمهم..
أنا من مصر، من الذي أنار لي حقائق هذا الدين وجعلني ممن يتكلمون ويعيشون له؟ رجال عسكريون، علماء، دعاة، نحن ثمرات جيل مؤمن، ثمرة لجهاد مخلص، قام به رجال قبلنا، أدوا ما عليهم لله، إذ لم يحتكروا نور الإسلام لأنفسهم، بل بسطوا أشعته على دروب العالمين، وجعلوا الناس تتمكن من الدخول فيه والعمل به، إذا كنا نشعر بهذا الجميل لأناس لا نعرفهم، أو نعرف قليلا منهم ـ فحق الأجيال القادمة علينا ـ أن نقدم لها الدين الذي وصل إلينا، وأن نقدمه كاملاً غير منقوص، لنرجو به ثواب الله، كما قدم غيرنا هذا الدين إلينا راجياً ثواب الله.. هذه واحدة..(13/146)
الشيء الثاني أننا نحن المسلمين نبلغ الآن ملياراً من الأنفس. هناك معركة تدور في صمت عن إحصاءات المسلمين في العالم، ربما جعلناهم نصف ذلك أو أكثر قليلاً أو أقل قليلاً -لكن المسلمين يبلغون ملياراً من الأنفس، ويشاء الله أن الكم لا يكون له وزنه إن لم يكن معه كيف له حرمته وله مكانته. إن مسجداً صغيراً يصل فيه ثلاثمائة مسلم ـ أي عدد الذين حضروا معركة بدر- عدد ربما لا يؤبه له. لكن هذا العدد من المصلين هو الذي كسب معركة الإسلام في بدر، وحوّل تاريخ البشرية، إن الأيدي المتوضئة التي قادت زمام العالم قديماً هي التي استطاعت أن تقدم لنا حضارة ضخمة، وأن تصنع الكثير لأن القلة الناشطة لها وزنها، والكثرة العاطلة لا وزن لها، فإذا كان عدد المسلمين الآن ملياراً من الأنفس، فإننا نسأل أنفسنا: كيف يضعف الإسلام ونحن على هذه الكثرة الكاثرة؟؟؟
إن الأمر يحتاج إلى تأمل وإلى دراسة، ولنعترف بالواقع، فإن مجافاة الواقع ليست من العقل! المسلمون الآن موزعون على نحو سبعين جنسية أو أكثر، وهذه الجنسيات التي توزعنا عليها مختلفة في أساليب الحكم، وفي ألوان المجتمع، هناك حكومات مستقلة كما تسمى، وهناك دول المسلمون فيها كثرة ولكن الحكومات فيها لا صلة لها بالإسلام، بل قد تكون صليبية علنا، أو شيوعية علنا، أو علمانية لا لون لها علنا ـ والقاسم المشترك بين جماهير المسلمين ـ أن هناك بيقين انهزاما في تطبيق الإسلام.(13/147)
ربما كانت هذه المملكة من توفيق لها أنها حظيت بملك يعتمد على الدين، ويرى شرفه بأن ينتسب إلى الإسلام، لكن أنواع السلطة في العالم الإسلامي نجح الغزو الثقافي في إبعادها عن الإسلام، فضرب التشريع الإسلامي ضربة انهار لها، وحكم المسلمون الآن بغير ما أنزل الله. ولما كان القانون أو التشريع هو الحزام الذي يشد تعاليم الإسلام ـ فإن هذه التعاليم بقيت بغير رباط يجمعها ويشد عراها، فأخذت تتخلخل وتتراخى وتتساقط، ثم وجدنا من يقول: (التقاليد القديمة لا معنى لها:)
فغرتنا التقاليد الجديدة، الأخلاق الدينية لا الأخلاق المدنية.
ومن يقول: الأخلاق الدينية أهدأ من الأخلاق المدنية والعبادات هي وسيلة لإقامة الأخلاق فلا ضرورة للعبادات. ثم بدأت العقائد نفسها تترنح إثر ضربات وجهت إليها. وبلغ من أن يقال الآن: التثليث والتوحيد سواء من الناحية المادية والأدبية!!!
ولهما حق الوجود، ولهما حق الاقتران، ولهما حق الزحف والدخول في العقول على قدر مشترك!!!
هذه الهزيمة التي نشعر بها ـ يكلف الدعاة الآن بأن يواجهوها! وأريد أن أقول:
أنني لا أكلف داعية بمغامرة! ولنا في سيد الدعاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، نحن لا نتعجل معركة، نخسر الكثير ونكسب فيها القليل.
إن سيد الدعاة صلى الله عليه وسلم ـ بدأ بالتغيير الجذري عندما بدأ بغزو النفوس، وعندما بدأ بشحن العقول بلغ هذا الشحن مدى أسأل نفسي.. هل وصلنا إليه؟ أقول: لا.
أتأمل في هذه الآية: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} ؟(13/148)
ما معنى: آذنتكم على سواء؟ أي تركتكم وعلمكم بالحق كعلمي به، أعلمتكم فأنا وأنتم سواء في معرفة الحقيقة. هذا هو النجاح الحاسم في تبليغ الدعوة: أن توصل الحق إلى الناس فيعرفوه جيداً، ثم إذا انصرفوا عنك بعد ذلك فمن هوى غالب أو جحود حاكم، أو عن رغبة في مشاقة الله ورسوله ـ أنت بعدها أنصفت نفسك وأنصفت ربك وأنصفت دينك.
لكن كثيراً من الدعاة الآن ليس لديهم بيان ولا وضوح الرؤية الذي يستطيع به أن يبلغ حقائق الإسلام للناس.. بل بلغ من هوان الأمة الإسلامية أن اليهود الذين سطوا على البيت وطردوا رب البيت منه واقتحموه ـ استطاعوا أن يقولوا للعالم: إنهم أصحاب البيت!!! وعجز صاحب البيت أن يثبت أنه صاحبه!!
بل بلغ الهوان بنا: أن اليهود يقولون: يهودية.. أما العرب فيقولون: لا إسلام.. ولا نصرانية.. ولا يهودية.. (علمانية) (دولة علمانية) . ومعنى هذا: أننا فرطنا في إسلام بينما بقى غيرنا في ظل علمانية أو قوانين مدنية، بقي مستمسكاً بيهوديته أو نصرانية.
وسبب هذا هزيمة المسلمين: أن العرب خانوا الإسلام، وفصلوا قضية فلسطين عن الدين، وجعلوها عربية. فكانت النتيجة أن انفردت اليهودية (وهي عقيدة) والصليبية (وهي عقيدة) بعرب تركوا الإسلام وراءهم ورفضوا أن يجعلوه شعاراً وأن يعيشوا في ظله. وأي دين باطل إذا التقى بقوم لا دين لهم فالنتيجة واضحة.. إنه سيمرغ وجوههم في الوحل، ولكن هذه المتناقضات كلها يستطيع الدعاة أن يتغلبوا عليها، فنحن لسنا في ظروف أسوأ من الظروف التي بدأ فيها سيد الدعاة رسالته. فقد بدأ والظلام من حوله حالك، وكل شبر من أرض الله يتنكر له، ومع الظلمة السائدة، والعداوة البادية ـ فإن صاحب الدعوة العظيم صلى الله عليه وسلم استطاع أن يغير الدنيا، وأن يطلع بالإسلام فجراً على ظلامها، وصبحا ينسخ كل ما فيها من سواد.
نحن لسنا في ظروف أسوأ من هذه الظروف.(13/149)
لكننا ينبغي أن نعرف الخطة التي سار عليها. وهذه الخطة تتطلب أمرين: الإخلاص ـ والعلم.
والإخلاص وحده لا يكفي، فرب مخلص قتل صديقة كما قتلت الدبة صاحبها. والعلم وحده لا يكفي، فرب عالم استغل علمه في تملق السلطات التي تتطلب الرهبة والرغبة، وعاش للدنيا يطلبها!!! نحن محتاجون إلى الأمرين معا: إلى العلم وإلى الإخلاص.. وتحت هذين العنوانين أمور كثيرة لا نتحدث عنها، لكني أقول لإخواني: إن هذه البداية المباركة في مؤتمر يقوده ناس: أحسن ما نرى فيهم الغيرة على توحيد الله، والرغبة في تجريد العقيدة من أي بدعة، والعمل الدائب على أن نقتدي بسلفنا الصالح.. هذه البداية في هذا المكان، في دار الهجرة تجعلنا نأمل الخير، ونرى أننا هنا نتصارح..
يا إخواني.. نحن هنا نريد أن نصطلح مع الله، ونتوب إليه ونتحدث عن العوائق أمام الدعوة، وعما تنجح به الدعوة، ثم نؤدي ما علينا في مصارحة لا مداهنة..
لقد كان صاحب الرسالة قديما يستطيع أن يمر بشيء {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} لكن الإدهان ليس من صفات الداعية، الداعية صحيح في عرض مبادئه، صريح في توضيح غاياته، وليس لنا من نستحي منه.
نحن في وجه من يقول بالتثليث ـ في وجه من يعطل الوجود عن إله يدبر أمره ويشرف على شؤونه في وجه جاهلية تتبجح بمطاوعة الأهواء وإجابة الشهوات ـ في وجه هذا كله نقول:
نحن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، نوحد ربنا، ونصلح في هذه الدنيا سيرتنا، لأن أساس النجاة إيمان واضح، وعمل صالح، نحن ننتسب إلى الإسلام ونملأ الدنيا. لقد استطاع أصحاب الدعوات المشوهة أن ينالوا نصراً كبيراً لأنهم زوقوا، واستطاعوا في معاركهم معنا أن يشوهوا ديننا، وكما قال القائل في وصف هذا الدين:
كاد الليالي وكادته مجالدة وارتد عدوانها من بعد تقتال.(13/150)
فلنبرز محاسن الإسلام، ولنؤد ما علينا في استنقاذ أمتنا، وأداء رسالتنا، والله الموفق والمستعان. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله.
أعضاء المؤتمر يرفعون برقية شكر إلى سمو نائب جلالة الملك
وقد رفع سماحة رئيس المؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة برقية شكر إلى صاحب السمو الملكي نائب جلالة الملك هذا نصها:
صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز
نائب جلالة الملك والرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة " حفظه الله "
إن المؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة إذ ينعقد في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وفي رحاب المملكة العربية السعودية رائدة التضامن الإسلامي، وفي ضيافتها الكريمة ـ ليسر أعضاؤه الذين يمثلون أكثر من سبعين دولة من سائر قارات العالم أن يتوجهوا إلى جلالة الملك المعظم وإلى سموكم الكريم بوافر الشكر وعظيم التقدير لرعايتكم الكريمة لهذا المؤتمر، الذي سيحقق إن شاء الله أملا عزيزاً ومصالح عظيمة للمسلمين في سبيل الدعوة إلى دينهم وإعلاء كلمة ربهم وتنسيق جهودهم في هذا السبيل كما يشكرون لجلالة الملك المعظم ولسموكم الكريم ما تولونه القضايا الإسلامية كلها من دعم ورعاية مادية ومعنوية.
وأنهم ليضرعون إلى الله تبارك وتعالى أن يحفظ جلالة الملك ويحفظكم ويبارك جهودكم لعزة الإسلام وخير المسلمين. والسلام عليكم.
رئيس المؤتمر عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رد سمو الأمير فهد بن عبد العزيز
1927 صاحب السماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز المدينة..(13/151)
لقد تلقينا برقيتكم التي نقلتم فيها إلينا مشاعر الإخوة الكرام من وفود مؤتمر الدعوة والدعاة تلك المشاعر الطيبة الكريمة ونود أن تشكروا لهؤلاء الإخوة الكرام جميعاً هذه المشاعر وأن تذكروا أننا إنما نؤدي واجباً مفروضاً يمليه ما من الله به علينا من رعاية هذه الأماكن المقدسة كما نود أن تؤكدوا للإخوة الكرام أننا لن ندخر وسعاً في سبيل تدعيم الأهداف النبيلة التي اجتمعوا من أجلها بكل الوسائل المعنوية والمادية بارك الله جهودكم ووفقكم في مهمتكم الجليلة وجعل كلمته هي العليا.
فهد بن عبد العزيز
رئيس وأعضاء المؤتمر يشكرون سمو الأمير فهد بن عبد العزيز
وبعد انتهاء المؤتمر رفع سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز برقية شكر إلى صاحب السمو الملكي نائب جلالة الملك نصها
صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب جلالة الملك والرئيس الأعلى للجامعة حفظه الله
بمناسبة انتهاء جلسات المؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة الذي عقدته الجامعة الإسلامية برعاية سموكم الكريم في المدينة المنورة ـ يسر رئيسه وأعضاؤه جميعاً أن يرفعوا لجلالة الملك المعظم ولسموكم الكريم أصدق آيات الشكر والامتنان لما أوليتموه هذا المؤتمر من رعاية مادية ومعنوية يسرت له بتوفيق الله أسباب نجاحه فيما توصل إليه من توصيات مهمة يرجى في تنفيذها الخير الكبير للإسلام والمسلمين ـ ولما لاقوه من حفاوة وكرم ضيافة، ولما تحقق فيه من تعارف وتوثيق مودة بين أعضاء المؤتمر الذين يمثلون أكثر من سبعين دولة في سائر قارات العالم.
وإنهم ليتوجهون إلى الله عز وجل بالدعاء أن يحفظ بعين رعايته جلالة الملك المعظم وسموكم الكريم، وأن يبارك جهودكم لنصرة دينه وإعلاء كلمته ودعم القضايا الإسلامية ورعايتها. والسلام عليكم.
رئيس المؤتمر
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(13/152)
جواب سمو الأمير فهد بن عبد العزيز
صاحب السماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
سلمه الله المدينة المنورة
نشكركم على برقيتكم بمناسبة انتهاء جلسات المؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة ونحمد الله تعالى على ما وفقكم فيه أنتم وأعضاء الوفود الكرام الذين ساهموا في إنجاح هذا المؤتمر ونسأل الله التوفيق لإنفاذ توصيات المؤتمر ونأمل أن تنقلوا شكرنا وتقديرنا لجميع أعضاء الوفود على ما بذلوا من جهود طيبة لتكون هذه الدورة مثمرة ومفيدة ونتمنى للمؤتمر دائماً كل سداد وتوفيق في كل دوراته ونشاطاته..
فهد بن عبد العزيز(13/153)
الدعوة الإسلامية ووسائل الإعلام
للدكتور عبد المنعم محمد حسين
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وآله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين، وبعد.. فإن الدعوة الإسلامية دعوة جامعة لدعوات الرسل جميعا، بها ختمت تلك الدعوات، وبها تم الدين وكمل، كما قال الله عز وجل {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} [1]
وكما قال سبحانه وتعالى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام} [2]
فالإسلام هو دين الله الذي رضيه لعباده، ليستقيموا به على صراطه المستقيم، قال تعالى {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [3]
والإسلام دين الفطرة، فهو يتفق مع فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهو المثل الأعلى للإنسانية، لأنه حرر العقل، وأطلقه من عقاله إطلاقا يعود على الإنسانية بكل خير، ودفع العقل دفعا ليتفكر في الكون ليسمو الجانب الروحي، وليفكر في تسخير الأشياء للإنسان ليرتقي الجانب المادي.
والإسلام هو النظام الإلهي الكامل الذي لا يمكن للإنسانية في سعيها لبلوغ الكمال الإنساني أن تجد أرقى منه في جميع مجالات الرقي، عقليا ونفسيا وخلقيا وعاطفيا وروحيا، وماديا وفرديا واجتماعيا.
وأساس الدعوة الإسلامية هو الإيمان بالله واحدا لا شريك له، ثم ما يقوم في ظل هذا الإيمان من شريعة شرعها الله تعالى لأمة الإسلام، في تعبدها لله وفي بناء المجتمع الإسلامي المؤمن بالله.(13/154)
ويجب على كل مسلم أن يثبت أركان الإسلام في نفسه، ويحاسبها عليها، ويقيمها على طريقها إن هي مالت أو انحرفت، فإذا سوى المسلم حسابه مع نفسه، كان عليه أن يدعو الناس جميعا أن يشاركوه في نعمة الإسلام، وأن يهدي إليها الحائرين الضالين، فليس من الإيمان أن يحتجز المؤمن الخير لنفسه وفي الناس من هم في حاجة إليه، ولهذا يجب أن تكون أمة الإسلام أمة داعية إلى هذا الدين الذي أكرمها الله تعالى به، وأن تفتح لغير المسلمين الطريق إليه. يقول الله تعالى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [4] ويقول عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [5] .
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو رسالة أمة الإسلام فيما بينها، ثم هو رسالتها في الناس جميعا، وينبغي على الدعاة أن يدعوا إلى سبيل ربهم بكل وسيلة ممكنة في العصر الحالي، بعد أن كثرت وسائل الإعلام، وتنوعت أساليبها واستغلها أعداء الإسلام، في ترويج الفساد، والتشويش على الدعوة الإسلامية، وأصبح لزاما على المسلمين أن يدافعوا على دينهم، وأن يبينوا حقائقه للناس أجمعين، فلقد أصبح الإسلام ـ في العصر الحديث ـ يواجه غزوا رهيبا محملا بوسائل الفساد للمسلمين من وسائل الإعلام من جرائد ومجلات وكتب ومسرحيات وإذاعة مسموعة ومرئية وأفلام سينمائية. وخطورة هذا الغزو أنه يدخل إلى عقول الشباب وقلوبهم دون أن يلتفت الكثير منهم إلى ما دخل عليه من أفكار مسمومة.
إن وسائل الإعلام عدو خفي يحارب المسلمين بالكلمة والصورة والفكرة، وهي أسلحة أشد خطورة من الجيوش الزاحفة بأسلحتها المادية التي يعرف منها وجه العدو الذي يغزوهم.(13/155)
وينبغي أن يوجد إعلام إسلامي يتصدى لهذا الغزو الرهيب من وسائل الإعلام الحالية ويوصل الدعوة الإسلامية إلى عقول الناس وقلوبهم في جميع أنحاء العالم.
وقد أصبح وجود الإعلام الإسلامي واجبا ولازما، لا غنى عنه في العصر الحالي، وتستطيع المملكة العربية السعودية ـ بعون الله ـ أن تنهض بهذا الأمر، وهي الأرض الطيبة التي انطلقت منها الدعوة الإسلامية بعد بعثة رسول الإسلام ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ والتي تهفو إليها قلوب المسلمين في جميع أنحاء العالم، وهي القطر الذي يحمل لواء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث ويبذل غاية الجهد من أجل نصرة الإسلام، وتوحيد كلمة المسلمين، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [6] .
وسأحاول في هذا البحث أن أبين أساس الدعوة الإسلامية ثم أبين خطر وسائل الإعلام بصورتها الحالية في الأقطار الإسلامية، وكيف أنها تتعاون مع أعداء الإسلام في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته، وأن أبين واجب المسلمين في أقطارهم المختلفة نحو وسائل الإعلام وضرورة توجيهها وتحويلها إلى أدوات بناء للمجتمع الإسلامي، بدلا من كونها أدوات هدم وتدمير، ثم أبين ضرورة إيجاد إعلام إسلامي متخصص مع الاستفادة من وسائل الإعلام المختلفة في إيصال الدعوة الإسلامية إلى جميع أنحاء العالم، بمختلف اللغات الرائجة بين الناس وبالله التوفيق..
أولا: أساس الدعوة الإسلامية(13/156)
إن أساس الإسلام هو التوحيد الخالص لله، المصفى من دخائل الشرك كلها، ظاهرها وخفيها، حيث لا يصح إيمان مؤمن إلا إذا أخلص عبادته لله تعالى، مستيقنا أنه لا إله إلا هو سبحانه وتعالى بيده كل شيء، وإليه كل شيء، وعنده كل شيء، لا يملك أحدا معه سبحانه ضرا ولا نفعا لنفسه أو لغيره. قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً} [7] .
فأساس الدعوة الإسلامية هو الإيمان بالله واحدا لا شريك له، ثم ما يقوم في ظل هذا الإيمان من شريعة شرعها الله لعباده في تعبدهم لله، وفي بناء مجتمعهم المؤمن بالله، وينبغي على كل مسلم بعد أن يثبت أركان الإسلام في نفسه أن يدعو الناس جميعا من مسلمين وغير مسلمين إلى الإيمان بالله. وإخلاص العبادة له وحده حتى يحييهم الله حياة طيبة ويجزيهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون.
لهذا يجب أن تكون أمة الإسلام داعية إلى هذا الدين الذي أكرمها الله به، فينبغي على العلماء أن يبين للناس أمور دينهم، ويقوموا فيه آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، فمن آتاه الله علما يجب أن ينفقه فيما ينفع الناس في دينهم ودنياهم، فكما دعا الله إلى طلب الرزق والإنفاق منه، دعا إلى طلب العلم والإنفاق منه، فقال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [8] .
وقال عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [9] .(13/157)
والقرآن الكريم الذي أقام الرسول به أمة الإسلام، ورفعها به إلى درجة لم تبلغها ولن تبلغها أمة من الأمم، من عظمة النفوس، وسمو الأخلاق، وكمال الفضائل الإنسانية، هذا القرآن هو الذي بأيدينا اليوم، لم يتبدل منه حرف، ولم تتغير منه كلمة، ولكن الذي تغير وتبدل هم أصحاب القرآن والداعون به إلى الله.
إن القرآن دواء وشفاء، يداوي يشفي بقدر ما تستجيب له النفوس، وتتقبله العقول، وتتفاعل وتنفعل به المدركات والمشاعر، فإذا لم يجد النفوس الطيبة المستجيبة والعقول السليمة المتقبلة والمدركات والمشاعر المتقبلة المنفعلة فإنه يظل بمعزل عنها أشبه بالنور لا تكتحل به الأبصار المحجبة دونه بحجاب كثيف، يقول الله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [10] .
ولهذا فإن أهم ما ينبغي أن يتصف به الداعي أن يكون على بصيرة ووعي بالطبيعة الإنسانية، وأن يتعرف إلى المسالك الطبيعية التي يسلك بها إلى النفوس حيث يجد لدعوته مكان القبول لها والانتفاع بها، وذلك بأن يكون الداعي معايشاً للحياة مع الناس، وان يرصد الأحداث التي تعرض لهم، والتي تكون مسرحا لأفكارهم، ومدارا لحديثهم، عندئذ تبدأ مهمة الداعي بعرض هذه الأحداث، ومناقشتها على ضوء الشريعة الإسلامية وما تقدمه من حل لمثل هذه الأحداث العارضة، لأن في هذا ما يشد الناس إلى الدين، ويوثق صلتهم به، فيفزعون إليه كلما عرض لهم أمر بعد هذا، ليجدوا فيه كلمة الفصل فيما يهمهم ويشغل بالهم.(13/158)
ويجب ألا يطيل الداعي على الناس في موقف وعظه وإرشاده بل يأخذهم بالرفق واليسر لأن اليسر سمة الإسلام وطابعه، كما يجب على الداعي ألا يتنقل بين موضوعات كثيرة، وحسبة أن يمسك بموضوع واحد، يكشف حقيقته ويبين حدوده، فذلك أجدى على الناس من موضوعات كثيرة تشتت أفكارهم، وتضعف الأثر المنتظر لما سمعوا، فقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتعهد أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ بالموعظة، ويتخير لعظاته الأوقات المناسبة ولا يقدم منها إلا تقتضيه داعية الحال منهم، شأن الطبيب الحكيم، يعطي الدواء في جرعات، ولا يعطيه مرة واحدة، ثم هو لا يعطي الدواء إلا حيث يرى الداء ويتعرف إليه.
روي أن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا.
هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم منطق الحكمة، والنظر إليه، والاستماع إلى كلماته مهفى كل قلب، ورغيبة كل نفس، فأين الدعاة في العصر الحديث من أنفس الناس وقلوبهم حتى يثقلوا عليهم، ويتنقلوا بين موضوعات كثيرة دون أن يصيب السامعين الملل والسآمة إذا أطال الدعاة عليهم في مواقف الوعظ والإرشاد، وجعلوا أحاديثهم تشمل موضوعات شتى.
ثم ينبغي على القائم بالدعوة في الناس أن يعلم أنه يخاطب عقولا متفاوتة في الفطنة مختلفة في المدارك، وهذا يقتضيه أن يسلك طريقا وسطا في عظاته حتى تظل العقول متجهة إليه، والقلوب مقبلة عليه، وهذا موقف يحتاج إلى بصيرة نافذة، وبيان مبين.
وعلى الداعي أن يذكر دائما أنه في أكرم موقف يقفه إنسان في الحياة، وأنه في ميدان جهاد في سبيل الله، وهذا من شأنه أن يبعث فيه عزما قوياً صادقاً في الحرص على هداية الناس، وعلى تعهدهم كما يتعهد الأب أبناءه راغبا في ثواب الله، غير ناظر إلى ما قد يفوته من عرض الدنيا، وبذلك يبارك الله دعوته وينفع بها.(13/159)
الدعوة الإسلامية في العصر الحالي:
والدعوة الإسلامية في العصر الحالي تحتاج إلى مزيد من اليقظة، وتكاتف للجهود واستفادة من جميع الوسائل المبلغة لدعوة الحق، فقد كثرت في هذا العصر القوى المعادية للإسلام، لكثرة التيارات الفكرية بسبب تقدم العلم ومكتشفاته التي غيرت وجه الحياة تغييرا ماديا ونفسيا فقامت مذاهب مادية أثرت في كثير من الناس، فتخففوا من جانب الروح، وأعطوا وجودهم للجسد، واستهلكوا أنفسهم في سبيل إرضاء مطالبه، فكان من نتيجة هذا أن خف ميزان الدين عند كثير من الناس، بل وأخلى الدين مكانه نهائياً من شعوب بأسرها، كما حدث في الشعوب التي خضعت للنظام الشيوعي، أما الشعوب الرأسمالي فأصبحت تجري لاهثة وراء جمع المال بكل وسيلة وإرضاء مطالب الجسد.
وتولدت عن تلك المذاهب الفاسدة من شيوعية واشتراكية ورأسمالية نزعات فاسدة وفلسفات مريضة كالمادية والوجودية، وتسللت من مهاب تلك المذاهب ريح خبيثة إلى الأقطار الإسلامية أصابت مرضى العقول والقلوب من أبناء المسلمين بعدواها، فظهرت أعراضها على أعداد غير قليلة منهم، وخاصة أولئك الذين سافروا إلى أوربا وأمريكا ورأوا أن الدين لم يعد له سلطان هناك، وهو السلطان الذي يلازم الإنسان في سره وجهره في وحدته ومع الجماعة والذي لا يستريح إلى ظله إلا المؤمنون الذين تمتلئ قلوبهم بجلال الله، وخشيته والطمع في رحمته، والخوف من عذابه.(13/160)
وقد ساعد على انتشار هذه المذاهب الضالة ورواج سوقها في العالم أنها دعوة إلى ما في الإنسان من ضعف إزاء شهواته وأهوائه، وما تلوح به من مغريات تتملق هذه الشهوات وتلك الأهواء من زخارف المدنية وألوان الحضارة، كل ذلك تنقله وسائل الإعلام من صحف ومجلات وكتب وإذاعات ومسرحيات وأفلام تعرض على شاشات السينما والتلفزيون صوراً حية شاخصة أمام الأعين متحركة ناطقة، فما يجري في أوربا وأمريكا على مسرح الحياة من هزل أوجد ينقل إلى العالم كله حتى لكأن ما يعيش في الشرق يعيش بين أمم الغرب، وأكثر ما يعلق بأذهان الشباب ومن هم في حكمهم من الكبار إنما هو الجانب الهازل اللاهي من الحياة دون الجاد منها، فالمسلمون في مختلف أقطارهم يواجهون في العصر الحديث غزواً رهيباً من وسائل الإعلام مجملاً بالدعوات الضالة المضللة، الفاسدة المفسدة، فينبغي أن يأخذوا حذرهم ويواجهوها بإعلام إسلامي، يذكر الغافلين، ويرشد الضالين إلى طريق الحق المبين.
والدعوة إلى دين الله ليست مقصورة على علماء الدين وحدهم وإن كان عليهم العبء الأكبر منها، وإنما هي في الوقت نفسه أمر مطلوب من كل مسلم، وذلك بسيرته المحمودة في الناس، وبخلقه الكريم وبسلوكه الطيب الذي يراه غير المسلمين منه في أقواله وأفعاله فإن الدين بأهله، والناس إنما ينظرون إلى الدين فيما يرونه من آثاره في المتدينين به وهذا أمر يجب أن يكون في حساب كل مسلم، وأن يتنبه إلى أهميته كل من يوفقهم الله للدعوة إلى دين الله، وأن يحرص عليه أولوا الأمر الذين يريدون العزة لدينهم وللمؤمنين.(13/161)
إن الدعوة الإسلامية أمانة ينبغي أن يحملها كل مسلم فعلى المسلمين أن يحملوا أمانة الدعوة إلى دين الله بوعي كامل، وعزم صادق، متذكرين دائماً قول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [11] .
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
ثانياً: خطر وجود وسائل الإعلام بصورتها الحالية
إن كل مسلم مخلص لدينه الذي يتفق مع الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليه. يدرك خطر وجود وسائل الإعلام بصورتها الحالية على الدعوة الإسلامية، لما تقوم به وسائل الإعلام من صحافة وإذاعة وكتب منشورة، ودور للسينما ومحطات إرسال تلفزيونية لما تقوم به كل هذه الوسائل في العصر الحديث بالصورة التي هي عليها من ترويج لألوان الفساد والإفساد، واستغلال لما في الإنسان من ضعف أمام شهواته وأهوائه، نتيجة لعدم تزود كثير من أبناء المسلمين في الأقطار الإسلامية المختلفة بثقافة إسلامية تمكنهم من معرفة حقائق دينهم وتمنعهم من الانقياد لشهواتهم، وتعصمهم من الزلل.
لقد أصبحت وسائل الإعلام في الأقطار الإسلامية تشن ـ الآن ـ حرباً شعواء على الإسلام، وحقائقه الناصعة، فهي تنشر الانحراف والتحلل من الأخلاق القويمة على مرأى ومسمع من الناس غير مرتدعة بما يوجه إليها من نقد، ولا متعظة بما يوجه إليها من نصح.
ويواصل أعداء الإسلام استغلال وسائل الإعلام ـ في العصر الحديث ـ في إفساد أبناء ألمسلمين بإبعادهم عن هدي دينهم، والحرص على تضليل من يتتلمذون منهم على أيديهم، بينما المسلمون متهاونون في الدفاع عن دينهم وفي الدعوة إليه، متناسون أن هذا الأمر واجب يفرضه الدين عليهم، وأن الدين دعوة ولا بد لكل دعوة من دعاة يبلغونها، ويكشفون عن الحقائق التي ضمت عليها.(13/162)
إن وسائل الإعلام بصورتها الحالية في الأقطار الإسلامية تتعاون مع أعداء الإسلام في التشويش على الدعوة الإسلامية. فهي عدو خفي يحارب المسلمين بالكلمة والصورة والفكرة وهي أسلحة أشد خطورة من المدافع المنطلقة من الجيوش الزاحفة المعادية التي يعرف المسلمون منها وجه العدو الذي يغزوهم، فوسائل الإعلام المفسدة المضللة غزو رهيب محمل بعوامل الإفساد للمسلمين وتكمن خطورة هذا الغزو في أنه يدخل إلى عقول كثير من المسلمين ما يروجه أعداء الإسلام من مذاهب ضالة مضللة، وأفكار فاسدة مسمومة.
إن وسائل الإعلام تنشر في الأقطار الإسلامية كثيراً من ألوان الفساد والانحلال والإلحاد بما تنقله من صور الحياة في الأقطار الأوربية والأمريكية التي انتشر فيها الإلحاد ـ في العصر الإلحاد ـ نتيجة لاستخفاف الناس بالدين بعد أن كشف الناس عن متناقضات في المسيحية وفي اليهودية لا يقبلها عقل مستنير، ولا يستريح إليها ضمير حي، فأدى انتشار الإلحاد إلى رواج سوق الانحلال والفساد، في حين أن الإسلام ليس فيه متناقضات، فمن نظر فيه بعقله، وجاء إليه بجميع وسائل العلم وجد أنه الحق الذي يلتقي مع العقل التقاء مؤاخياً، وهو يدعو المؤمنين به إلى العزة والجهاد، دفاعاً عن دينهم وأوطانهم وأموالهم وأعراضهم الأمر الذي يشكل خطراً على أعداء الإسلام وخططهم ضد العالم الإسلامي، ويجعلهم يستغلون وسائل الإعلام في تصدير عوامل الإفساد للأقطار الإسلامية لصرف المسلمين عن دينهم، والتشويش على الدعوة الإسلامية.(13/163)
والشيء المؤسف حقاً أن المسلمين في سائر أقطارهم لا يتنبهون إلى خطورة وسائل الإعلام بصورتها الحالية تنبهاً يجعلهم يعملون على القضاء على خطر حقيقي قائم في بلادهم، كما أن الدعاة إلى دين الله لا ينبهون إلى خطورة وسائل الإعلام تنبيهاً كافياً، فلا تبذل محاولات جادة صادقة لتحويلها إلى أداوت بناء للمجتمع الإسلامي بدلاً من كونها في صورتها الحالية أدوات هدم وتدمير.
لقد أصبح لزاماً على من يحملون أمانة الدعوة الإسلامية أن يبينوا خطر وسائل الإعلام بصورتها الحالية على عقائد المسلمين وأخلاقهم، وأن يطالبوا بالوقوف في وجه هذا العدو الخطر ودفعه والقضاء عليه، أما تجاهل وجود مثل هذا الخطر فأمر أشد خطورة وأوخم عاقبة.
ومن غير المعقول أن يتجاهل المسلمون وسائل الإعلام المختلفة الموجودة في العصر الحديث، وهم لا يستطيعون ـ أيضاً ـ أن ينكروا تأثيرها في الناس، كما لا يستطيعون أن يمنعوا الشباب من الإلمام بما تروجه هذه الوسائل المختلفة للإعلام فينبغي على دعاة المسلمين أن يفكروا في خير الطرق لجعل وسائل الإعلام الحديثة عوامل إصلاح لا وسائل إفساد، ولا سبيل إلى ذلك إلا بإيجاد إعلام إسلامي هادف، يمنع شباب المسلمين من التأثر بما تحمله وسائل الإعلام الفاسدة من ألوان الإلحاد والانحلال.
لقد أصبح لزاماً على من يحملون أمانة الدعوة الإسلامية أن يبينوا خطر تجاهل وجود وسائل الإعلام بصورتها الحالية على أخلاق الشباب، وأن يطالبوا بإيجاد إعلام إسلامي يستفيدوا من وسائل الإعلام الحديثة في ترويج الدعوة الإسلامية، وإيصال صوت الإسلام ودعوة الحق إلى كل مكان في العالم، وبالله التوفيق …
ثالثاً: ضرورة إيجاد إعلام إسلامي(13/164)
إن إيجاد إعلام إسلامي أصبح ضرورة لا غنى عنها في العصر الحالي، ولعل أنسب فرصة للمطالبة بإيجاد هذا الإعلام الإسلامي هي فرصة انعقاد المؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة بدعوة من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، لأن هذه المدينة المباركة مهبط الوحي الإلهي، ومشرق نور الله، ومنها انطلقت دعوته إلى مشارق الأرض ومغاربها، والمطالبة فيها بإيجاد إعلام إسلامي يصل حاضرها بماضيها في نشر رسالة الإسلام الصافية، والدعوة إلى تحكيم شريعته، والدفاع عنه، ودحر أعدائه الذين يبذلون جهوداً متعددة، ويستعينون بوسائل الإعلام المختلفة في التشويش على الدعوة الإسلامية.
إن صوت الإسلام لا بد أن يرتفع حتى تختفي أصوات الشرك والضلال، لأن الزبد يذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
إن صوت الإسلام ينبغي أن يعلو حتى تختنق أصوات الملحدين والضالين، وتذهب صيحاتهم أدراج الرياح هذه الصيحات المنكرة التي يحاولون بها التشويش على الدعوة الإسلامية.
فكيف نوجد إعلاما إسلاميا هادفا متخصصا يبلغ الدعوة الإسلامية إلى أنحاء العالم المختلفة؟..
إن إيجاد إعلام إسلامي ليس أمرا صعبا في العصر الحديث، بعد تقدم العلم بحيث أصبح أهل الشرق يستطيعون أن يلموا بما يحدث في الغرب في الوقت الذي يحدث فيه، أو بعد حدوث يقليل، وفي الوقت الذي ضاقت فيه المسافات بين شعوب الأرض بعد تقدم وسائل المواصلات وتطورها بحيث أصبح الانتقال من قطر إلى قطر بل من قارة إلى قارة يتم في وقت قصير يحسب بالساعات لا بالأيام أو بالشهور.(13/165)
لهذا يمكن إيجاد إعلام إسلامي في أي قطر من أقطار المسلمين كالمملكة العربية السعودية عن طريق الإذاعة فتنشأ إذاعة قوية، ليصل صوتها إلى أنحاء العالم المختلفة، وليس هذا بالأمر العسر في هذا الزمان، بعد تقدم صناعة أجهزة الإذاعة والإرسال والاستقبال وتطورها، وهذا من الأمور الملموسة المسلم بها فلا تحتاج إلى دليل أو برهان.
وتخصص محطة الإذاعة القوية هذه للإعلام الإسلامي وتذيع على موجات متعددة بلغات مختلفة تختار من بين اللغات التي يعرفها المسلمون كالعربية والفارسية والأردية والتركية واللغات التي يكثر تداولها بين الشعوب كالإنجليزية والفرنسية أو أية لغة يرى المشرفون على الإعلام الإسلامي ضرورة لاستعمالها.
ويمكن أن تعمل هذه الإذاعة ليلا ونهارا لأن اختلاف التوقيت بين الجهات المختلفة في الشرق والغرب قد يدعو إلى هذا حتى يمكن إيصال صوت الإسلام إلى الشعوب المختلفة في سائر أنحاء الأرض في الوقت المناسب وباللغات التي يفهمها الناس ليحسنوا الاستماع له وتفهمه، والاستجابة له، وتبين حقائق الإسلام الناصعة، والانتفاع بهدى الإسلام، لمعرفة طريق الرشاد.
وغنى عن البيان أن هذا النوع من الإعلام الإسلامي يحتاج إلى كثير من المال والأجهزة العلمية والمادية اللازمة كما يحتاج إلى هيئة على درجة كبيرة من الكفاءة والتخصص لإدارته وتوجيهه والإشراف عليه، وهو يحتاج كذلك إلى مجموعات متخصصة يفقه أفرادها أمور دينهم بدرجة كبيرة، ويكونون على درجة عالية من الفطنة والذكاء وتتقن كل مجموعة منها لغة من اللغات الرائجة بين المسلمين وغير المسلمين من شعوب الأرض كالعربية والفارسية والأردية والإنجليزية والفرنسية وغيرها، حتى يحقق العاملون في هذا الميدان الغاية المرجوة، ويصلوا إلى الهدف المنشود.(13/166)
إن العلم والفقه في الدين والذكاء والفطنة وإتقان اللغات الأجنبية من شرقية وغربية وسائل لا غنى عنها في العصر الحديث في الإعلام الإسلامي حتى يرتفع صوت الإسلام وتصل الدعوة الإسلامية إلى الناس أجمعين فيهتدي بنورها الضالون الحائرون.
وإيجاد الإعلام الإسلامي المتخصص عن طريق الإذاعة أمر ممكن بعون الله تعالى، إذا صح العزم، وهو أمر ضروري في العصر الحالي لمواجهة أعداء الإسلام الكثيرين وتبصير المسلمين بحقائق دينهم، وحمايتهم من الانحراف والانزلاق والانخداع بما يروجه أعداء الإسلام من دعايات مغرضة، وما يلفقونه من أباطيل، ويلقون بها في ساحة الشريعة الإسلامية الغراء، للتشويش على الدعوة الإسلامية وصرف المسلمين عن دينهم.
وليس معنى إيجاد إعلام إسلامي متخصص إهمال وسائل الإعلام الأخرى إذ ينبغي على أولي الأمر في الأقطار الإسلامية المختلفة أن يضعوا حدا للعبث ومظاهر الفساد البادية في وسائل الإعلام بصورتها الحالية بأن يراقبوها ويمنعوها من إغراء المسلمين بالتيارات الضالة المضللة وإشاعة الفساد والانحلال بينهم، وبخاصة بين الشباب ويجب على أولي الأمر ـ أيضا ـ أن يوجهوا وسائل الإعلام الحالية ـ على اختلاف أنواعها وألوانها ـ الوجهة الصحيحة التي لا تتعارض مع روح الإسلام، ولا تتنكر لأصل من أصوله ولا تتعارض مع ركن من أركانه، فالالتزام بالحق أمر واجب، والدعوة إلى تحكيم شريعة الله، ونشر رسالة الإسلام، والدفاع عنه، من الأمور الواجبة على المسلمين كافة وعلى أولياء الأمور فيهم بخاصة، والله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور.
واجب الإعلام الإسلامي:
إن واجب الإعلام الإسلامي ـ بعد إيجاده ـ أن يعمل في ميدانين في وقت واحد، أحدهما دفاعي والآخر تبليغي.(13/167)
أما الميدان الدفاعي فيرد فيه على حملات أعداء الإسلام ويبين ما في هذه الحملات من زيف وأباطيل تهدف إلى تشكيك المسلمين في حقائق دينهم حتى ينصرفوا عنه، وحتى يتوقف الذين يبحثون عن الإسلام لاتخاذه دينا يملأ الفراغ الذي خلت نفوسهم منه عن البحث عنه ويستمرون في ضلالهم وحيرتهم.
ويجب على العامين في ميدان الدفاع عن دين الله عن طريق الإعلام الإسلامي أن يفضحوا أكاذيب أعداء الإسلام ومفترياتهم وما يلفقونه من أباطيل يروجونها بواسطة وسائل الإعلام المختلفة للتشويش على الدعوة الإسلامية، حتى يستطيع المدافعون عن الإسلام أن يردوا كيد أعدائه في نحورهم، ويردوهم على أعقابهم مدحورين خائبين.
وأما الميدان التبليغي فيقوم العاملون فيه ـ عن طريق الإعلام الإسلامي ـ بالدعوة إلى دين الله في المواطن التي خلت من الدين، وفي المواطن التي خف ميزان الدين بين أهلها، لأن الناس في هذه المواطن في أنحاء العالم المختلفة يبحثون عن دين يجدون فيه الحق الذي يتقي مع الفطرة الكامنة في كل نفس، ويتمنون أن يجدوا دينا يجدون فيه الحق الذي يلتقي مع العقل المتشوق إلى الحق، الباحث عن الحقيقة.
ويستطيع الداعون إلى دين الله عن طريق الإعلام الإسلامي ـ أن يبينوا حقائق الإسلام للناس بلغاتهم المختلفة في جميع ربوع العالم، لأن بيان هذه الحقائق كاف في الأخذ بأيديهم إلى طريق الهداية والرشاد والسعادة في الدنيا والآخرة.
ويجب أن يبين الداعون إلى دين الله للناس أن الإسلام دين يتفق مع الفطرة وأنه المثل الأعلى للإنسانية، وأنه حرر العقل وأطلقه ليعود على الإنسانية بكل خير، وأنه حرر الإنسانية من ظلم البشرية وتناقضاتها، ووحد القوى الإنسانية التي تقود العالمين إلى السعادة القصوى، وإن الإسلام هو النظام الإلهي الكامل الذي يسعد الإنسانية في جميع المجالات العقلية والنفسية، والخلقية والعاطفية، والروحية والمادية والفردية والاجتماعية.(13/168)
وينبغي أن يبين الداعون إلى دين الله أن الدين كله لله، وأن دين الله واحد هو الإسلام الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه، وأن الأنبياء كلهم إخوة، دينهم واحد وأن الواجب الإيمان بهم، وبما أنزل إليهم جميعاً. قال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [12] .
ويجب أن يبينوا للناس أن الله ختم بالإسلام جميع الديانات السماوية، وجعل نبي الإسلام ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ آخر لبنة في بيت النبوة العتيد، فتم بها بناؤه وكمل بها رواؤه، وأن العقيدة الإسلامية تقوم على الإيمان بالله إلها واحداً لا تنبغي الإلهية إلا له، وعلى الإيمان بأن له وحده الأسماء الحسنى والصفات العليا.
وينبغي أن يبينوا للناس أن الإيمان باليوم الآخر وبالبعث والجزاء مما يقتضيه العقل، تحقيقاً لقاعدة العدل فلا يعقل أن تكون هذه الحياة القصيرة ـ التي يحياها الناس في الدنيا ـ هي الغاية من خلق هذا العالم الكبير، وأن تكون نهاية المؤمن والكافر سواء، ونهاية الظالم والمظلوم سواء، ونهاية البر والفاجر سواء. قال الله تعالى جلت حكمته: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [13] .
وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [14] .(13/169)
فإذا علم كل إنسان أنه مسؤول عما يعمل ومحاسب على ما يقدم، {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} ، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [15] . سلك في حياته المسلك الصحيح، وحاسب نفسه بنفسه، وابتعد عن المذاهب الضالة، وأخلص في أداء ما وجب عليه، وبهذا تستقيم الأمور في هذه الحياة وهكذا يحقق الإسلام السعادة الإنسانية، وينقذها من الضلال والفناء.
إن الداعين إلى دين الله يستطيعون عن طريق الإعلام الإسلامي أن يبينوا للناس في مختلف أقطارهم وباللغات التي يفهمونها أن العقيدة الإسلامية ترتكز على أسس ثابتة من الفطرة الإنسانية العامة، والمنطق العقلي المستقيم والنصوص الدينية الصريحة الواضحة، فتتفتح عقول الناس وقلوبهم لدين الله، وتنشرح صدورهم بالإسلام يجدون فيه الهداية والرشاد، وحينذاك تختنق أصوات أعداء الإسلام، وتحبط خططهم؛ لأن الإنسان بفطرته يتجه إلى الحق ويتبعه إذا أدرك أنه الحق.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل وبالله التوفيق وهو ـ جل وعلا ـ نصير للمؤمنين.
خاتمة(13/170)
أرجو أن يكون الله تعالى قد وفقني في توضيح فكرة ضرورة إيجاد إعلام إسلامي متخصص عن طريق إذاعة ترفع صوت الإسلام وتبلغ الدعوة الإسلامية للناس في مختلف أنحاء العالم باللغات التي يعرفونها لبيان حقائق الإسلام والدفاع عنه ورد كيد أعدائه وكشف البدع والأباطيل، وفضح دعاوي المارقين الضالين، حتى يتضح الحق، ويكون الدين كله لله والله غالب على أمره، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون كما قال سبحانه وتعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} .
ونسأل الله التوفيق والرشاد، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]- المائدة: آية 3
[2]- الأعراف: آية 19
[3]- الأعراف: آية 85
[4]- آل عمران: آية 104
[5]- آل عمران: آية 110
[6] الحج: آية 40
[7] الفرقان: آية3
[8] الحديد: آية 7
[9] التوبة: آية 122
[10] فصلت: آية 44
[11] آل عمران: آية 104.
[12] البقرة: آية 285.
[13] الجاثية: آية 21.
[14] سورة ص: آية 27-28.
[15] الزلزلة: آية 7-8.(13/171)
الأساليب التبشيرية في العصر الحديث
أهدافها إتجهاتها وعلاقتها بالسياسة والتعاون القائم بينهما
وأهدافه وأثر هذا التعاون على الدعوة الإسلامية والأمة الإسلامية
للدكتور علي محمد جريشة
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
تمهيد
1ـ التبشير الحديث.. صورة العصر للغزو الفكري..
الذي صار بديلا عن الغزو العسكري، بعد أن فشل الأخير في تحقيق أهدافه خلال الحروب الصليبية.
2ـ بيد أن الغزو الفكري أخطر من الغزو العسكري..!
ـ فلئن كان الأخير يحتل منا الأرض والتراب..
فإن الأول يحتل منا العقل والقلب والروح. وهي لعمري أعز على الله من الأرض والتراب.!
ـ كذلك فإن الأخير ينتبه له الغافلون والنوم ويستيقظون، أما الأول فيتدسس ويتدلس فما يحسه النوم والغافلون.. حتى يحتل منهم أعز ما خلق فيهم الله وأكرم!
ـ وأخيرا فإن المتعاونين مع الغزو العسكري.. يوصمون بالغدر والخيانة ويلفظهم بنو أوطانهم أما المتعاونون مع الغزو الفكري.. بل الفاعلون الأصليون فيه ـ فإنهم يوصفون بأوصاف أقلها.. الوطنية، والتقدمية والإصلاح وقد يرتفعون في أوطانهم إلى مقام الزعامة.. الفكرية.. أو السياسة وحقيقتهم.. أنهم.. أشد خيانة من الأولين!
3ـ والتبشير الحديث.. يرتبط بالعمل السياسي ارتباطا لا يقبل التجزئة فالأخير هو الذي يخطط له، ثم هو الذي يتولى الإشراف على تنفيذه، ويحميه بالقوة السياسية والقوة العسكرية إن لزم الأمر.. ثم هو في النهاية الذي يجني ثماره، ويستثمر قطافه.. بما يحقق الغاية المرجوة والهدف المنشود!(13/172)
4ـ وأخيرا.. فلم يعد التبشير الحديث قاصرا على ما يصدره الغرب.. لقد أتقن الشرق كذلك الصناعة وصدر كذلك البضاعة.. واختلف مع الغرب أو اتفق. لكنه شاركه الوسيلة والهدف.. وإن غايره في شيء من التخطيط!
5ـ وهذا البحث جديد بإذن الله.. فيما يحاول أن يكشف من وسائل التبشير الحديثة، وما يكشف عن الغاية منها والباعث من ورائها.. ليعرف المسلمون كيف يحاربون، ومن أين يحاربون.. وليعرفوا بعد ذلك..
إلى أين المفر.. وكيف يكون المستقر..!
ليعرف المسلمون.. موقفهم دعوة، وأمة، ودولة..مما يراد لهم، ومما يراد بهم ليحددوا لأنفسهم.. الطريق.. والهدف
والوسيلة والغاية
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون!
وفي فصل أول نتحدث بمشيئة الله عن:
التبشير في الغرب.. وسائله، وأهدافه، وتعاونه مع السياسة.
وفي فصل ثان نتحدث بمشيئة الله عن:
التبشير في الشرق.. وسائله، وأهدافه، وتعاونه مع السياسة.
وفي فصل ثالث نتحدث عن:
موقف الإسلام.. دعوة وأمة
والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
الفصل الأول
التبشير الحديث.. من الغرب
مقدمة:
6ـ لم يعد سرا.. أن التبشير بدأ حيث انتهت الحروب الصليبية [1] بديلا عنها.. فلقد أنفق الغرب من دمه وماله الكثير.. فما أورثه ذلك إلا صحوة المسلمين.
من هنا أدرك أن الضربة لا ينبغي أن توجه إلى الجسد.. بل ينبغي أن توجه إلى القلب.. إلى عقيدة المسلمين.. علهم يرتدوا عن دينهم.. ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا..}
7ـ بيد أن التبشير بدأ في البداية.. إخراجا للمسلمين من دينهم، وإدخالا لهم في دين آخر.. وقد فشلت تلك الوسيلة.. فقد كان عدد المرتدين من يعدون على الأصابع.(13/173)
من هنا كان تفكيرهم.. في أسلوب آخر.. اكتفوا فيه بالشطر الأول دون الشطر الثاني.. اكتفوا فيه بإخراج المسلمين من دينهم.. دون إدخالهم في دين آخر.. وهو ما استجابوا فيه لنصيحة كبير من كبرائهم:
ولكن مهمة التبشير التي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها ليس في إدخال المسلمين في المسيحية فإن في هذا هداية لهم وتكريما.
وإنما مهمتكن أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقا لا صلة له بالله وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها [2] .
8ـ وحين انتقلت مدارس التبشير إلى الولايات المتحدة الأمريكية.. أخذ شيئا من العصرية تغطى إخراج المسلمين من دينهم وهو ما عالجه الكتاب الأمريكيون تحت عنوان التغيير الاجتماعي [3] .
وصاحبه ثقل الولايات المتحدة الأمريكية العصر.. فلم تلجأ للقوة العسكرية الأجنبية إلا في حالات الضرورة القصوى.. وجعلت بديلا عنها.. القوة العسكرية المحلية.. أو القوة العسكرية المحلية ولعبت في هذا المجال لعبة الأمم أو لعبة الشعوب.. متمثلة جلها في الانقلابات العسكرية [4] .
وأصبح البحث في التبشير فيما كان يحدث في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر.. ضربا من التخلف لا ينبغي لباحث إسلامي أن يقع فه واقتضت المعاصرة أن تبحث فيما يجري الآن بيننا.
تحت اسم التغيير الاجتماعي..
وتحت اسم التغيير السياسي..
لنكشف عن لعبة الجديدة..
لنكشف عن اللعب بمصائر الشعوب.. وبعقائد الشعوب!!!
المطلب الأول
أساليب التبشير الحديث
(التغيير الاجتماعي)
(أو التغريب)
مقدمة:
9ـ إن جزيرة العرب التي هي مهد الإسلام لم تزل نذير خطر للمسيحية [5] متى توارى القرآن، ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه [6] .(13/174)
يجب تبشير المسلمين بواسطة رسول من أنفسهم ومن بين صفوفهم لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أغصانها [7] .
…. هكذا كان الأمر صريحاً في البداية.
ثم توارى تحت الاصطلاحات الجديدة..
إن النخبة العسكرية في الشرق الأدنى.. في مصر والسودان والعراق وتركيا وإيران وباكستان كانت عوامل هامة في جلب التغيير الاجتماعي [8] .
تشترك النخبات العسكرية عميقاً في الاعتقاد بضرورة التغيير الاجتماعي السريع.
أما الآن فقد قبلت التأثيرات الغربية في الشرق الأدنى إلى درجة تجعل من الصعب التحقق من أن امرأ ما قد ذهب أو لم يذهب إلى أوربا أصلا فقد أصبح العرب متغربين بدون أن يتكلفوا عبء الذهاب إلى أوربا
فبينما ترك الحكام الغربيون منطقة الشرق الأدنى، تتحول هذه المنطقة فتصبح أكثر غربية، ويواجه الزعماء العرب طريقين:
فهم يطردون الغرب سياسياً، ويسحبون الكتل الشعبية إلى الغرب ثقافياً
10ـ إذن فالاستراتيجية الجديدة التي رسمت.. لهذه المنطقة هو تغريبها أو إحداث التغيير الاجتماعي فيها.. والتي تتغير معه القيم والمثل والتقاليد.. من قيم ومثل وتقاليد إسلامية.. إلى قيم ومثل وتقاليد غربية أي غير إسلامية..
وبذا يتم إبعاد المسملين عن دينهم
وهو بديل عن إخراج المسلمين عن دينهم
وبديل.. أكثر نجاحاً!
11ـ واستراتجيتهم أو خطتهم في إبعاد المسلمين عن دينهم تقوم على
1ـ التدرج ـ وإن كانوا يتعجلون الأمر أحياناً.. فيطلبونه: سريعاً.
2ـ مخاطبة العقل والقلب..
بوسائل الإقناع المختلفة.
3ـ أن يقوم على ذلك رجال وطنيون أو كما قال المبشرون في مؤتمراتهم يجب تبشير المسلمين بواسطة رسول من أنفسهم لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أغصانها.
أما تكتيكهم لهذا أو وسيلتهم فهي:
أولاً: العلمانية في التعليم
والإعلام
والقانون(13/175)
ثانياً: القومية: في الجانب السياسي
ثالثاً: تحرير المرأة في الجانب الاجتماعي
ونشير إلى هذه الوسائل بالتفصيل..
أولاً: العلمانية
12ـ ليست العلمانية اشتقاقا من العلم.. كما قد يوهم اللفظ.. لأنه لو كان كذلك لكانت العلمانية اشتقاقا من كلمة SCIENCE وهي التي تعني بالإنجليزية العلم لكنها بكل أسف اشتقاق من SECNIOR وهي في الإنجليزية مرادف لـ:
UNRELIGEMS وهي تعني لا ديني..
ومن هنا ندرك.. خبث الترجمة.. إنها قصد إلى تظليل أبناء العربية ليظنوا العلمانية اشتقاقا من العلم! ومن هنا ندرك كثيرا من التصريحات حول إنشاء دولة علمانية.. فإنها تعني دولة لا دينية.. أي لا دين لها من الناحية الرسمية! [9] .
13ـ ولئن حققت العلمانية للغرب كسبا في إبعاد الكنيسة عن التدخل في شؤون الدولة بما وقعت فيه الكنيسة من حجر على العقول ومن قبلها حدر على القلوب فإنها في الشرق الإسلامي تحقق للغرب كسبا أكبر في ابعاد المسلمين عن مصدر عزتهم ومجدهم ونهضتهم في إبعادهم عن الإسلام! والغرب كما سنشير عند حديثنا عن التغيير السياسي إن شاء الله ـ يهمه كثيرا أمر الإسلام.. بعد تجربته المريرة خلال الحروب الصليبية.. وقبلها حين طرق أبواب فيينا في وسط أوربا!
وفي مؤتمر للدعوة والدعاة لا نحسبنا بحاجة إلى بيان كيف نشأ فصل الدين عن الدولة في أوربا، وكيف كان ذلك كسبا لها.. وكيف انتقل الداء إلى الشرق الإسلامي وكيف كان ذلك.. لصالح الغرب المسيحي.. لا الشرق الإسلامي ـ فنحسب أن ذلك من بدهيات علم الدعاة!
وهذه العلمانية حرص عليها أعداء الإسلام في مجالات ثلاثة:
التعليم.. الإعلام.. القانون..
ونشير إلى كل بكلمة
1ـ علمانية التعليم
14ـ كان التعليم أقدم الوسائل للتبشير، ولا يزال أهمها.. ومن هنا كان الحرص على علمنة التعليم.. أي إبعاده عن الدين.. وهو أمر سار في شعبتين:(13/176)
الشعبة الأولى: تضييق مجال التعليم الديني، وتميعه
والشعبة الثانية: توسع مجال التعليم عير الديني وتعضده
وأعقب ذلك… الاختلاط بين الجنسين في مرحل التعليم.
15ـ أما الشعبة الأولى
فقد كان الحرص عليها شديدا.. لما كان سائدا في الشرق الإسلامي من انتشار التعليم الديني حتى أعداء الإسلام بخطورته على مخططاتهم فصرح بذلك كرومر المندوب السامي لإنجليزي ابان الاحتلال البريطاني لمصر:
إن التعليم الوطني عندما قدم الإنجليز إلى مصر كان في قبضة الجامعة الأزهرية الشديدة التمسك بالدين، والتي كانت أساليبها الجافة القديمة!! تقف حاجزا في طريق أي إصلاح تعليمي (!!) وكان الطلبة الذين يتخرجون من هذه الجامعة يحملون معهم قدرا عظيما من غرور التعصب الديني (!!) ولا يصيبون إلا قدرا ضئيلا من مرونة التفكير والتقدير (!!) فلو أمكن تطوير الأزهر عن طريق حركة تنبعث من داخله لكانت هذه خطورة جليلة الخطر …. [10]
كذلك فلقد كان أهم ما بحث المؤتمر التبشير المنعقد في القاهرة سنة 1906 أمر التعليم في الأزهر فنعى أن باب التعليم فيه مفتوح للجميع، وأن أوقاف الأزهر الكثيرة تساعد على التعليم فيه مجاناً، ودعا في مواجهته إلى إنشاء معهد مسيحي لتنصير الممالك الإسلامية [11] .
وقد تم التضييق من التعليم الديني بأكثر من وسيلة
أولا: بالتفرقة الظالمة بين المناصب والمرتبات بالنسبة لخريجي الأزهر وخريجي الجامعات وذلك حتى عهد قريب بالنسبة للمرتبات وحتى الآن بالنسبة للمناصب [12] .
ثانيا: بالسخرية المرة اللاذعة بالنسبة للمنتسبين للتعليم الديني في الرسوم وفي النكات وفي التمثيليات والمسرحيات والأفلام السينمائية.. والقصص المكتوبة وذلك بتصوير العالم الديني أو الطالب الديني تصويرا منفرا والإزراء به والازدراء من شأنه وشكله!(13/177)
ثالثا: امتد التضييق إلى برامج الدين في المدارس العامة أو التعليم العام.. وذلك بالوسيلة السابقة وهي الإزراء بمدرس الدين والازدراء من شأنه وشكله ثم بإقلال أهمية حصة الدين وجعله من المواد التي لا يمتحن فيها الطالب أو يمتحن فيها ولا يرسب!
16- الشعبة الثانية بالنسبة للتعليم غير الديني
فقد رسمت برمجه خارج الوطن الإسلامي ثم نفذت فيه وهو ما يصرح به أكثر من واحد:
يقول جب وفي أثناء الجزء الأخير من القرن التاسع عشر نفذت هذه الخطة لأبعد من ذلك بانماء التعليم العلماني (غير الديني) تحت الإشراف الإنجليزي في مصر والهند [13] .
ويقول الزعيم المبشر زويمر مخاطبا زملائه في مؤتمر التبشير المنعقد بالقدس الإسلامية لقد قبضنا أيها الإخوان في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية..
والفضل إليكم أيها الزملاء..
أنكم أعددتم نشأًً لا يعرف الصلة بالله ولا يريد أن يعرفها وأخرجتم المسلم من الإسلام وفي مؤتمر أدنبرج التبشيري الذي عقد عام 1910 قالت اللجنة الثالثة التي كانت تبحث في الأعمال المدرسية التي يقوم بها المبشرون: اتفقت آراء سفراء الدول الكبرى في عاصمة السلطنة العثمانية على أن معاهد التعليم الثانوي التي أسسها الأوربيون كان لها تأثير على حل المسألة الشرقية، يرجح على تاثير العمل المشترك الذي قامت به دول أوربا كلها.. (!!) [14] .
17ـ وساعد على إنماء التعليم العلماني وعضد قواه.. تلك البعثات التي كانت ولا تزال ترسل إلى الدول المسيحية الأوربية.. التي تصنع هذه البرامج الكفيلة بزحزحة عقيدة الطالب المسلم وإفساده ليعود إلى بلاده بغير دين.. ويحمل علم العلمانية الداعية إلى نبذ الدين! [15] .(13/178)
ونظرة من القديم إلى ما حدث لرفاعة رافع الطهطاوي بعد أن قضى في باريس خمس سنوات.. ونظرة من الحديث إلى شبابنا الذين نبتعثهم إلى دول الكفر في سن المراهقة أو قريبا منها.. فيصيبهم الانحلال في أخلاقهم والتشويش في عقائدهم وأفكارهم، والتعالي والاستكبار في سلوكهم ومعاملاتهم وتقديس كل ما هو غربي، والاستهزاء بكل ما هو شرقي أو عربي.. [16] .
ومع البعثات.. كانت مدارس.. وكليات.. وجامعات.. تفتح في بلاد الإسلام لتنفيذ نفس ما تنفذه البعثات.. داخل الأوطان نفسها [17] وشملت تلك المدارس والكليات والجامعات.. البنين والبنات.
الخطو الثالثة: الاختلاط بين الجنسين
18ـ أدرك أعداء الإسلام ما يؤدي إليه اختلاط الجنسين في سن الشباب وما قبلها في سن المراهقة.. من انحلال الجنسين.. وانشغالهما بأمور العشق والجنس عن أمور العلم والجد والدراسة.. ورسموا لذلك في الشرق الإسلامي وزينوه.
ورفعوا عنه اسم الفسق أو العشق أو الغرام [18] .
2ـ علمانية الإعلام
عندما تكون الدولة دولة فكر Etat d’idee تزداد فيها أهمية الإعلام وإذا كانت الدولة الإسلامية هي الصورة المثلى لدولة الفكر والعقيدة.. فقد كان للإعلام فيها شأن كبير.. وكانت معجزة الإسلام ـ القرآن ـ هي قمة الإعلام الإسلامي {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِد..} [19] . {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ..} [20] .
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً..} [21] .(13/179)
من هنا كان خلو الإعلام من الجانب الإسلامي.. أمر خطير في ذاته فإذا انصرف الإعلام عن الإسلام.. ليغرس في نفوس الناس قيماً غير إسلامية ومثلاً إلحادية أو إباحية أو لا أخلاقية.. فإن الأمر يغدو جد خطير.
19ـ والذين يتولون كبر هذا الأمر.. متخرجون من مدارس غير إسلامية يعرفها الناس ولم يعد سراً أن أكثر المؤسسات الصحفية ـ أقدم وسائل الإعلام ـ أسسها غير المسلمين اسماً وجوهراً.. أو المسلمون اسماً لا وضوعاً.
والقائمون على أحدث وسائل الإعلام.. من سينما وتلفزيون وإذاعة هم أحد الصنفين السابقين.. والأمر لا يحتاج غير مراجعة القوائم!
20ـ ولئن تفاوتت درجات الإفساد بين الوسائل المختلفة السابقة فإنها جميعاً تشترك في قدر من الإفساد..
إنها أولاً لا تنشر قيماً إسلامية.. مع أنها أغنى القيم وأسماها. وإنها ثانياً تنشر جميعاً قيماً غير إسلامية.. وتبلغ بها التفاهة منتهاها عندما تستطرد في تقديم نجم سينما أو نجم كرة.. وتضفي عليه من الأوصاف ما لا تضفيه على سيد الخلق محمد عليه الصلاة والسلام.. ثم إنها بعد ذلك تتفاوت في إشاعة الفاحشة، والإغراء بالجريمة وفي تزيين الخيانة والانحلال للناس!.. فأشدها في ذلك السينما يليه التلفزيون والإذاعة يليها القصص والصحافة.
والأمثلة.. معروضة.. كل يوم.. وفي كل شارع.. وفي كل بيت بغير حاجة إلى سرد أو ضرب!
21ـ كذلك تشترك الأوطان الإسلامية جميعاً.. في وجود وسائل الفساد والإفساد هذه في بلادنا.. لكنها تتفاوت على درجات!
يقول البعض.. لربما كان الفساد في بلاد لا تجاهر به أشد من بلاد تجاهر به ولقد يضربون على ذلك الأمثلة بانتشار الشذوذ الجنسي بين الرجال والنساء، وبشيوع الربا وشرب الخمر والزنا وراء جدران البيوت.(13/180)
ولقد تكون القضية في موضوعها صحيحة.. لكن النتيجة التي تبنى عليها غير صحيحة إنهم يريدون أن يقولوا أن الحدود لم تمنع تلك المنكرات من وراء الجدران وأن.. منعتها من الشوارع.. أي أنها تخفت ولم تختف!
ونحن لا نقر ذلك الوضع.. ومن هنا نادينا وننادي.. شريعة حاكمة ليس بالحدود وحدها..
بل قبلها بالتربية الصحيحة، وبالعلاج الاجتماعي، وبضرب القدوة.. ثم بإقامة الحدود على الشريف قبل الضعيف.. فبهذا.. وبهذا كله ينتهي الفساد.. في الشوراع.. ووراء الجدارن!!
لكننا مع ذلك لا نقر الجهر بالفاحشة.. فإن في ذلك إشاعة لها أيما إشاعة ولا نقر التعالن بالمعصية فإن في ذلك إغراء بها أيما إغراء.. وهو ما يساعد على سرعة الانتشار ويهون على المتردد في الجريمة اقترافها..
ولذا كان لا بد من الحدود ـ يا دعاة الإباحية ـ لا بد منها حتى يرتدع أمثالكم فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن! [22] .
3ـ علمانية القانون
22ـ الإسلام.. مصحف وسيف..
والسيف ينبغي أن يكون في خدمة المصحف..
وبعبارة أخرى.. إنه إذا زعمنا حكم الإسلام.. فلا بد من قانون إسلامي يقوم عليه حكام مسلمون
إن ذلك يولد الرغبة والرهبة
والرغبة تولدها القدوة.. في الحكام المسلمين
والرهبة تولدها السلطة.. التي تحكم بالإسلام..ولم يكن الإسلام عبادة مجردة.. ولا رهبنة تفرض على الناس.. إنه يقام بالشرائع والشعائر معا.
وكما يكون إشراك بالله في الشعائر.. يكون كذلك إشراك بالله في الشرائع!!
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ..} [23] .
وإذا كان الجانب التشريعي يمثل مساحة في الإسلام أوسع مما تمثله فروع القانون المختلفة.(13/181)
فلقد اهتم أعداء الإسلام بزحزحة الإسلام عن هذا المجال.. ليكون الحكم بغير ما أنزل الله.. من الظالمين والفاسقين والكافرين!
23ـ والأمثلة كذلك كثيرة..
من تركيا ومن مصر [24] .
ولم يبق في المجال القانوني بلد لم يطرح الإسلام إلا المملكة العربية السعودية وأفغانستان..
بيد أن الأمانة تقتضي أن نقرر أنه ولئن كان إبعاد الإسلام عن مجال الحكم هو أول خطوة يخطوها أعداء الإسلام في كل بلد يسيطرون عليه.. فقد بدا لهم في الآونة الأخيرة مخطط خطير هو الزحف من المؤخرة إلى المقدمة.. بدلاً من العكس الذي فعلوه من قبل في تركيا ومصر وغيرها ليطبقوا الأثر تنقض عرى الإسلام عروة عروة أولها الحكم وآخرها الصلاة.. .
إن الأمر في البلاد التي لم تتخل بعد عن إسلامها في المجال القانوني يمضي وفقاً لخطة خطيرة تعمد إلى علمانية التعليم لإعداد جيل يؤمن بالعلمانية ومن بينها علمانية القانون.
ثم تعمد إلى علمانية الإعلام لإعداد رأي عام مهيأ لتقبل علمنة القانون بعد ذلك.
ثم يمضي الأمر حثيثاً نحو إحلال النظام محل الشريعة وتضييق دائرة القضاء الشرعي والإفساح للجان التي تطبق النظام الذي يضعه قانونيون يحتلون في أكثر المصالح والوزارات مكان الاستشارة والنصح بما يعملون طبعاً.. من قانون علماني!
وهكذا يمضي التخطيط.. علمنة التعليم.. علمنة الإعلام.. ثم علمنة القانون. لتنقض عرى الإسلام عروة عروة.. أوله الصلاة.. وآخرها الحكم!!
هذه.. عجالة عن العلمانية.. التي تعمل اليوم كمخطط تبشيري لئيم في وطننا الإسلامي!
وننتقل إلى القومية وما تفعل هي الأخرى في مجال التبشير..
ثانيا: القومية(13/182)
24ـ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.. آخى بين المهاجرين والأنصار على أساس من آصرة الإسلام.. وليس على أساس أي آصرة أخرى.. آخى بين بلال بن رباح وخالد بن رويحة الخثعمي، وبين مولاه زيد وعمه الحمزه بن عبد المطلب، وبين خارجة بن زيد وأبي بكر الصديق، وبين عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان..
ولما أراد أحد المسلمين أن يثيرها عصبية ونادى.. يا للأنصار.. فنادى الآخر يا للمهاجرين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غاضباً: "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم..! "وفي حديثه صلى الله عليه وسلم أكد المعنى فقال: " ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبية أو يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية فقتل فقتلة جاهلية..".
وكان من آخر وصاياه يوم حجة الوداع.. "كلكم لآدم وآدم من تراب لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض.. إلا بالتقوى!! ".
25ـ وعلى عهد الراشدين رضوان الله عليهم ضمت أرض الإسلام أكبر إمبراطوريتين على وجه الأرض.. الروم والفرس.. فما فضل عربي.. على عجمي لعروبته أو جنسه أو لونه.. إنما كان الفضل بعد التقوى للعمل الصالح.. والعمل الصالح وحده، وعرفت علوم الإسلام في فروعها المختلفة.. فقهاء وعلماء من الأمصار ليس فيهم من العرب إلا النزر اليسير [25] .
26ـ وفي الحديث.. عرفت أوربا فكرة القومية.. ثم صارت متخلفة عن العصر.. تشير إلى القرن الثامن عشر أو التاسع عشر.. وصارت دعواها بذلك دعوى رجعية لكن الأمة العربية ابتليت بها..
عرفت: مشيل عفلق زعيما لحزب البعث العربي الاشتراكي
وأنطوان سعادة زعيما للقوميين السوريين
وجورج حبش زعيما للقوميين العرب
وقسطنطين زريق أحد الزعماء الآخرين..! [26] .
وهكذا لم تعرف القومية العربية زعيما ممن يحمل أسماء المسلمين إلا.. واحداً لا يزال عمله في ذمة التاريخ.. [27](13/183)
27ـ وعرض الكاتبون في القوميات لما تقوم عليه القوميات من أسس ليكشفوا عن عدم صلاحيتها.. فعرضوا لنظرية العرق التي قامت عليها القومية الألمانية وما يزعمون عن العرق الآري الممتاز.. ليكشفوا عن أن الألمان ليسوا شعباً خالصاً.. بل خالط غيره.
وكذلك الشعب العربي.. خالط الروم والفرس والأتراك.. وفي كتاب كفاحي لهتلر جعل الأمة العربية في الدرجة 13!
وعلى نفس المنوال عنصر اللغة فسويسرا تضم 3 لغات.. والقارة الهندية تضم 300 لغة..
وكذا سائر عناصر القومية من تاريخ وأرض ومصالح مشتركة ليس فيها عنصر خالص تقوم عليه القومية..
هذا كله بالبحث العلمي الهادئ.
28ـ فإذا أضفنا إلى ذلك ما لابس إثارة القوميات من أحداث تاريخية لبان.. ما قدمنا له من أن القومية أحد العناصر التي استخدمها أعداء الإسلام لإبعاد الأمة عن دينها.
إثارة القومية الطورانية في تركيا اقترن بتمزيق تركيا وإبعادها عن الإسلام وإثارة القومية العربية في البلاد العربية.. اقترن بتمزيق دولة الخلافة …
ومؤامرات لورانس مكماهون.. قصداً إلى القضاء على الجسد الإسلامي الذي أسموه يومئذ بالرجل المريض!!
حتى الجامعة العربية.. كانت كما يعرف كل من عاصر أحداث العصر من صناعة وزير خارجية الإنجليز! لتكون بديلاً عن الجامعة الإسلامية.. وفي كتابات حديثة.. لكتاب غربيين.. أشاروا إلى أن القومية العربية التي رفع رايتها في مصر زعيم كبير.. كانت بديلا هاماً عن الشعار الإسلامي الذي كان يهدد بثورة في المنطقة فكان الانقلاب العسكري امتصاصاً لمشاعر الأمة المتوثبة للإسلام [28] !
ثالثاً: تحرير المرأة
مقدمة(13/184)
29 ـ كما كانت العلمانية شعاراً خادعاً.. يخفي وراءه الحرب على الدين.. وكانت لقومية شعاراً خادعاً كذلك.. يستعمل في مواجهة الدين.. فلقد رفع هذا الشعار تحرير المرأة قصداً إلى اجتذاب المرأة المسلمة لاستخدامها حرباً على دينها.
وأول من أوصى به مؤتمر من مؤتمرات التبشير [29] .
وكان الهدف.. أولا تنصير المرأة المسلمة..
ثم انتقل الهدف إلى..
إبعاد المرأة المسلمة عن دينها..
ماذا يقصدون بالتحرير:
30ـ إن التحرير لا يكون إلا من عبودية..؟
فهل كانت المرأة المسلمة مستعبدة.. حتى تحتاج إلى تحريرهم.. أن العبودية لا يعطيها المسلم إلا للخالق ولا يعطيها لمخلوق
وإذا أعطى العبودية للخالق تحققت له الحرية الكاملة.. فلا يحني رأسه لمخلوق! وإذا أعطيت المرأة عبوديتها للخالق تحققت حريتها الكاملة فلا تحني رأسها لمخلوق.. ومن ثم فلا تكون بحاجة إلى تحرير أحد!
وفي مجال الحقوق العملية.. وبعيداً عن الكلام النظري
فقد أعطى الإسلام المرأة المسلمة من الحقوق ما لم تعطها أختها الأوربية!
وإلا فليسألوا المرأة الفرنسية (نموذج التحرر الأوربي) متى استطاعت أن تتصرف باسمها وحدها دون اعتماد التصرف من زوجها؟!
فماذا يعني التحرر..؟
قالوا إنه يعني التحرر من بيتها
والتحرر من زيها..
فماذا يخدمهم تحرير امرأة من بيتها ومن زيها في مجال إبعاد المسلمين عن الإسلام؟
31ـ أما تحررها من بيتها..
فإنه يعني حرمان البيت.. من جامعة تخرج جيلاً.. فتح من قبل.. أوربا وآسيا.. وإفريقيا..!
إنه يعني.. أن هذا الجيل لن يتكرر!
إنه يعني.. أن جيلاً.. آخر.. سوف يتخرج..
ليمسك بزمام الأمة وزمام الأمور
جيل.. ربما لا يعرف أمه.. أو لا يعرف أباه
جيل يتصدره في مجال الفكر أو في مجال السلطة
من كانت أمه راقصة في ناد ليلي(13/185)
أو كانت أمه تعمل في البغاء
وليس بين الاثنين كبير اختلاف
32ـ أما تحريرها من زيها..
فإنه يعني بصراحة كشف ما أمر الله أن يستر..!
يعني إثارة اللحم والدم.. ونتائجه.. معروفة..!
لكن المتحررين.. قد يعنيان فوق النتائج السابقة.. نتائج أخرى
.. أقلها الانحلال.. الذي قال عنه رئيس وزراء فرنسا وهي يومئذ دولة عظمى.. عن فرنسا هزمها الانحلال قبل أن يهزمها الاحتلال!
إن أمة إسلامية.. هي اليوم أمة تبغي بناء نفسها.. ماذا يحدث بها الانحلال.. وقد فعل ما فعل في دولة كانت يومئذ إحدى دولتين كبيرتين..!
33ـ أما المرأة الريفية..
.. فلم يشأ المخططون لتغريب المسلمين أن يتركوها في حالها.. وحيائها.. أصروا على أن يغزوها في عقر دارها.. ليذهبوا بما بقي من حيائها.
فتحت شعار الأمم المتحدة.. يباشر التبشير.. الانحراف بالمرأة الريفية تحت اسم التربية الأساسية التي تعترف أحد سدنتها أنها تعني تغيير الأفكار والنزعات [30] والأمر يجري في قرية سرس الليان.. في محافظة المنوفية ويجري في قرية بياض العرب.. في محافظة بني سويف
تحت اسم.. التنمية الاجتماعية [31]
ويجري في أماكن أخرى في الوطن العربي
34ـ أما قضايا المرأة..
فإثارات متعددة ـ لأمر لا يرتفع إلى مستوى المشكلة لينشغل بها الناس عما يتهدد الإسلام!
فنسبة تعدد الزوجات.. التي يثيرونها.. لا تعدو واحداً في الألف ونسبة الطلاق كذلك ضئيلة!
وحل هذه المشاكل على فرض وجودها ليس بالتشريعات.. ولكن بالعودة:.. إلى أخلاق الإسلام
ثم التزام كل طرف.. بأحكام الإسلام..
{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}
وبعد
35ـ فتلك كانت وسائل التبشير الحديثة
علمانية: في التعليم
والإعلام
والقانون(13/186)
قوميات: تمزق الأمة الواحدة
وتمزق الدولة الواحدة..
تحرير المرأة: ليسقط المجتمع في حماة الرذيلة
ويقضي بنفسه على نفسه
وآثار ذلك كله بادية في مجتمعاتنا
انحراف عن الإسلام
وابتعاد عنه.. تختلف درجته بين بلد.. وآخر..!
ويستجيب لهذا الانحراف:
الطامعون في السلطة.. يدفعون الثمن من مصائر شعوبهم الراغبون في السقوط.. لأنهم لا يقدرون على الارتفاع وأخيراً السذج الجاهلون الذين يحسبون ذلك الانحراف وذلك السقوط تقدماً ومدنية!
لكن.. ما علاقة ذلك كله..
بالتخطيط السياسي.. الذي يجربه أعداء الإسلام هذا ما نحاول الإجابة عنه تحت عنوان: التغيير السياسي
المطلب الثاني
التغيير السياسي
أو علاقة التبشير بالسياسة
تقدمة:
36ـ في البداية كان الأمر واضحاً
السياسة التي حركت الحروب الصليبية.. هي التي تحرك التبشير والمبشرين قصدا إلى تنصير المسلمين وردتهم عن دينهم!
ولم تكن السياسة وقتها غير فرع.. من فروع التعصب الديني المقيت ولا تزال! لكن الأمر ليس بالوضوح السابق.. فقد كثرت ألاعيب السياسة، واكتست بوجه ديبلوماسي رقيق!
وأصبح الأمر بحاجة إلى كثير من البحث والتدقيق..
ونظرة سريعة إلى الماضي القريب.. تكشف الحاضر الأليم!
أولاً: نظرة سريعة إلى الماضي
37ـ حين قرر الغرب العدول عن الحروب الصليبية.. ليحل محلها التبشير لم يعدل عن منطق القوة تماما.. بل رآها لازمة لمساندة الباطل.. فإن الباطل بغير قوة لا يقف على قدمين!
وكان احتلال فرنسا.. للجزائر 1830
وتونس 1881
ولمراكش 1912
وللشام 1920
وكان احتلال بريطانيا.. للهند 1857
ولمصر 1882
وللعراق 1914
ولفلسطين 1920
وغير هذه من أوطان الإسلام. احتلها أعداء الإسلام حتى لم ينج منها إلا السعودية والأفغانستان..(13/187)
38ـ وفي ظل ذلك الاحتلال.. عمل التبشير لقديم في هذه الجهات وفي غيرها من الجهات الأخرى.. التي منيت كذلك بالاحتلال أو بالسيطرة السياسية الأجنبية على أي لون من الألوان!
وطور التبشير أساليبه..
من الدعوة إلى النصرانية.. صراحة إلى ما لازمها وما لحقها من تشويش الإسلام وتشويهه إلى ما تبعها.
من محاولة جر المسلمين إلى قيم جديدة بعدما يتجردون من قيمهم.. الإسلامية طبعا! وهو ما عرف تحت اسم التغير الاجتماعي أو التغريب
وكان تطور آخر.. في مجال.. السياسة.. والقوة! إن الاستعمار.. قد افتضح أمره.. وفل سلاحه.. تماما كما فشلت من قبله الحروب الصليبية في مهمتها! وكان لابد من أسلوب جديد!
ثانيا: الأسلوب الجديد
39ـ لم تعد الشعوب تحتمل.. أن ترى السترة الصفراء الأجنبية تحكمها مهما حاولت أن تدعي الصداقة.. أو حتى أن ترفع راية الإسلام [32]
وكان لابد من أن ترحل السترة الصفراء الأجنبية
لكن الباطل لا يستغني عن القوة.. وإلا تهاوى.. وسقط!
ومن ثم كان لابد أن يبحث عن مصدر للقوة آخر.. حتى يمضي في تنفيذ مخططه الأثيم لإبعاد شعوب الإسلام.. عن الإسلام وهداه شيطانه.. إلى ما نجح فيه إلى حد ما..
40ـ استبدل السترة الصفراء الأجنبية
بالسترة الصفراء المحلية..
وصرح بعض كتابه.. أن هؤلاء اقدر على التغير الاجتماعي المطلوب [33] وعرفت المنطقة الانقلابات العسكرية.. بديلا عن جيوش الاحتلال الأجنبية ومن أمثلة ذلك كما صرح أحد الكتاب الأمريكيين:
سوريا سنة 1949
مصر سنة 1952
السودان سنة 1957
العراق سنة 1958
باكستان سنة 1959
.. ومن قبل هؤلاء:
إيران عام 1920
تركيا عام 1908 [34]
41ـ وفي كل مرة يستفيدون من تجارب المرة السابقة.. فمثلا.. الخطأ الذي وقع فيه كمال أتاتورك في محاولة فرض التغيير الاجتماعي بالقوة..(13/188)
مع وسائل الإعلام المختلفة.. وما يصحبها من وسائل أخرى للتبشير أشرنا إليها.
فقد كان أتاتورك غبيا حين فرض خلع الطربوش بالقوة
فقد خلعه الناس في مصر لما رأوا رجال الانقلاب الجديد الأبطال لا يلبسونه بدون حاجة إلى قانون! وهكذا!
42ـ لكن القوة بقيت لازمة تؤدي أمرين
أولهما قمع.. المعارضة والمعارضين.. خاصة إن كانوا من أصحاب العقائد
ثانيهما: مساندة الباطل والمبطلين.. فيما يمضون فيه من تخطيط أثيم لإبعاد الناس عن الإسلام.
43ـ ولبيان هذين الخطين.. نقدم وثيقة جاءت في حثيثات حكم صدر في بلد إسلامي.. نسقط منها.. أسماء.. الضحايا.. وأسماء المجرمين.. لنصل بها إلى الموضوعية الكاملة.. [35]
تبدأ الوثيقة بالإشارة إلى أسماء أعضاء اللجنة التي قدمت معلوماتها واقتراحاتها.. وأكثرهم من رجال المخابرات والمباحث والأمن..
ثم تلخص معلوماتها بالإشارة إلى أن تدريس التاريخ الإسلامي في المدارس للنشء بحالته القديمة يربط الدين بالسياسة في لا شعور كثير من التلاميذ منذ الصغر.. ثم الإشارة إلى صعوبة التمييز بين معتنقي الأفكار (..) وبين غيرهم من المتدينين.. إلخ
ليصل إلى المطالبة:
1) بمحو فكرة ارتباط السياسة بالدين
2) إبادة تدريجية بطيئة مادية ومعنوية وفكرية للجيل القائم من (0 ـ) ولا يقتصر الأمر على هذه الفئة!
بل يمتد إلى كل المتدينين باعتبارهم يمثلون الاحتياطي الذي يصب في هذه الفئة!
ومن وسائل الإبادة: الإعدام.. والسجن.. والاعتقال ويبلغ الأمر غاية خسته حين تصرح بالنسبة لنسائهم سواء كن زوجات أو بنات فسوف يتحررن ويتعرضن مع غياب عائلهن وحاجتهن المادية.. إلى انزلاقهن.. وهكذا تفقد الأنظمة العسكرية.. حتى الشرف والكرامة!!
44ـ بقي السؤال ـ لماذا يفضلونها.. وطنية؟
نسمع إجابيتين:(13/189)
إجابة من الكاتب الأمريكي مايلز كوبلاند
.. فكان الحكام من طراز ناصر يعطون الأولوية على غيرهم لأن استيلائهم على السلطة يوفر أفضل الفرص ـ أو أقلها سواء ـ لنجاح لعبتنا [36]
وفي مكان آخر أن نمودجا ك (….) كان من الأهمية بمكان بخصوص اللعبة وأنا كنا ملزمين بالبحث عن مثيل له فيما لو لم يكن على قيد الحياة.. [37]
وإجابة من الكاتب الأمريكي مورو بيرجر
.. وكان الجيش من بين كل الجماعات النخبة الوطنية أكثرها دنوا من المشاكل التي تواجهها مصر، دنوا بالمعنى الحسابي، والعلماني، والواقعي، وبهذه الصورة كان الجيش أكثر النخبات تغربا [38]
والواضح من تقرير (…) الموجز أن الضباط كانوا علمانيين يتوقون إلى بث التعاصر في مصر متماشين مع الخط الغربي التكنولوجي.. ولم يكن الضباط على ثبات أيدلوجي، بل كانوا جماعة علمانية في البناء السياسي والاجتماعي للحياة المصرية.. إلا أن قادتهم كانت تضع نصب عينيها صورة من مصر العلمانية كما يتصورونها، ويتحركون صوب هذا الهدف على خط مستقيم.. [39]
ويعمم الكاتب.. وعلى ذلك فبينما يترك الحكام الغربيون منطقة الشرق الأدنى تتحول هذه المنطقة فتصبح أكثر غربية، ويواجه الزعماء العرب طريقين فهم يطردون.. الغرب سياسيا ويسحبون الكتل الشعبية إلى الغرب ثقافيا [40]
فنجيب بعد هؤلاء فنقول بعون الله:
1ـ إن النخبة الوطنية التي حلت محل النخبة الأجنبية وفرت على الأخيرة أولا.
الدم والمال التي كانت تبذل في الحروب الصليبية أو في محاولات الاستعمار.
2ـ وأنها كذلك منعت إثارة المشاعر.. الدينية أو الوطنية.. التي كانت تتحرك حين يرى الشعب الجيوش الأجنبية قادمة.. تتحدى قيمه الدينية.. أو قيمه الوطنية.. ومن ثم فقد ميعت المقاومة أو منعتها!(13/190)
3ـ أنها بلباس الوطنية.. نفذت المطلوب.. ليس فقط دون مقاومة بل أحيانا مع استحسان الجماهير وحماستها!! [41]
4ـ أنها استطاعت أن تقضي على كل معارضة.. من أي فئة.. دون أن يتحرك أحد لنصرة هذه الفئة.. بل مع اعتقادهم بما تذيعه النخبة الوطنية من أن المعارضين.. خوارج ـ أو خونة!!!
45ـ وأخيرا سؤال لا ينفك عن السؤال الأخير
لماذا يفضلونها.. عسكرية ((؟
نقول بعون الله:
1ـ لأنها أسرع في الوصول إلى الحكم، وأكثر شغفا بالسلطة [42]
2ـ لأنها أسرع في تلبية الأوامر الخارجية، والالتزام حرفيا بها فهكذا تعلمهم الحياة العسكرية.
3ـ لأن قبضتها أقوى بالنسبة.. لأية معارضة أو أية مقاومة..
4ـ أن الطبقة العسكرية في أغلبها أعدت إعدادا خاصا.. يجعلها علمانية وغربية.. لا تستنكف الانحلال.. لنفسها ولا لغيرها ومن ثم فهي أنسب الفئات لتنفيذ مخطط الإبعاد من الإسلام
5ـ أنها تزيح بذلك احتمال تقدم عناصر دينية.. إلى الحكم عن الطريق الشعبي العادي [43]
46 ـ وليس معنى اللجوء إلى الانقلابات العسكرية.. انتهاء الوسائل الأخرى إن.. القوى الأجنبية المعادية للإسلام لاتزال محتفظة لبعض أنظمة الرجعية بالبقاء.
أولا لأنها تنفذ ما يطلب منها، وثانيا لأنها أضعف من أن تقف يوما في وجهها
وثالثا لأنه داخل هذه الأنظمة نفسها يجري التغيير.. باستعداء الابن على أبيه والأخ على أخيه بعدما يجرى الاتفاق على الصفقة، ماذا يبيع لكي يجلس على العرش..؟! ورابعا لأنها حين يبدو العصيان.. يكون الردع سريعا وعنيفا وحوادث الاغتيال السياسي في الماضي القريب شاهدة على ذلك، وقد كانت موضع تحقيق الكونجرس في فضائح المخابرات المركزية الأمريكية.(13/191)
وأخيرا.. فإن بقاء هذه الأنظمة ـ في نظر أعداء الإسلام ـ رهين بانتهاء العصبيات التي تستند إليها، وفي المواجهة بزيادة قوة وقدرة القوات المسلحة لتولي الأمر..حينئذ.. سوف تخلعها بيسر وبغير حياء.. ولا احترام للود البادي والوفاء الظاهر!!!
وهكذا نرى اتفاقا غريبا.. على علمنة التعليم، وعلمنة الإعلام، وعلمنة المجتمع كله عن طريق المرأة وعن طريق الشباب.. ليبتعد بذلك عن الإسلام.. نجدها في الدول الإسلامية رغم اختلاف نظم الحكم الحاكمة.. لأن التغيير السياسي وإن.. اختلف أسلوبه..فالهدف لا يختلف وهو التغيير الاجتماعي أو التغريب أو بالعبارة الواضحة: الإبعاد عن الإسلام!
47ـ لكن هل انتهت تماما وسيلة الحروب والاستعمار التي كانت سبيل الغرب من قبل لغرض أهدافه وغاياته؟
لا نستطيع أن نجيب بالنفي.. لأن الحروب انتهت في أغلب البلاد في صورتها العسكرية، واستبدلت بها الحرب الفكرية والنفسية لتحطيم عقيدة الأمة ومبادئها.
ولا نستطيع أن نجيب بالإثبات.. لأنها لا تزال تستعمل في نطاق محدود وهو ما اصطلح الغرب على تسميته بالحرب المحدودة.. واحتلال الجيوش الأمريكية لشواطئ لبنان سنة 1958 مثل قريب وتحركات الأسطول السادس كذلك.
لكن في رأيي أن الحرب المحدودة ارتدت كذلك ثوبا محليا فأصبحت الجيوش العربية أو الإسلامية تسلط لهذا الغرض وتدخل سوريا في لبنان مثل قريب وانفصال بنجلاديش عن باكستان من قبلها مثل قريب كذلك!
الفصل الثاني
الغزو الفكري
من الشرق…!
توطئة
48ـ الغزو الفكري.. من الغرب.. قديم وخطير
لأن تاريخه يمتد إلى تاريخ الحروب الصليبية.. ويمتد بعدها..
وهو خطير.. بما يحويه من هدف فتنة المسلمين عن دينهم.. التي بالردة والتنصير، وانتهت إلى الاكتفاء بالإبعاد والتغيير..
والغزو الفكري.. من الشرق.. حديث.. لكنه خطير!(13/192)
فقد بدأ.. منذ انتصار الثورة البلشفية الشيوعية في روسيا في الربع الأول من هذا القرن لكنه أخطر.. لأنه أشبه بالنار تأكل الهشيم..؟!
فهو في وسيلته أشد تدميرا
وفي غايته أشد كفرا ونفاقا..!
والظروف التي خدمت انتشار الماركسية في بداية الأمر..
تساعد كذلك على انتشارها في شرقنا الإسلامي
ما لم ينتبه المسلمون.. حكاما ومحكومين!
49ـ والحديث عن الماركسية ((.. ربما يكون أكثر تعقيدا
لأن أكثر الناس لم يفهموه.. بعد كمبدأ!
ولم يفهم أكثرهم كذلك وسائلها الحديثة للتبشير بها!
ومن ثم وجب علينا.. أن نفضحها
كمبدأ.. ثم كوسيلة!
ونشير إلى كل في مطلب!
المطلب الأول
الماركسية.. مبدأ
كيف نشأت الماركسية..؟!
50ـ هذا السؤال وارد عقلا ومنطقا.. قبل أن نعرض المبدأ في ذاته.. ذلك أن الإلمام بالظروف التي نشأت فيها الماركسية.. سواء الظروف المحيطة فكريا واقتصاديا.. أو الظروف الخاصة بصاحب المبدأ نفسه كل ذلك يعطي مزيدا من الضوء على السؤال كيف نشأت؟ أو لماذا نشأت..؟ ومن ثم وجب أن نعرض لهذه الظروف لنعرف إجابة السؤال.
أولا: ظروف أوربا وقت ظهور الماركسية
51ـ الماركسية نشأت كفكرة أول ما نشأت في أوربا [44]
وأوربا تعاني محن القرن التاسع عشر
تعاني أولا محنة الدين
فالمسيحية كما نادى بها المسيح لم تعد موجودة أصلا..!
التوحيد فيها ـ وهو أصل كل دين سماوي نزل من عند الله ـ قد انتهى بما زعمه البعض من أن المسيح هو الله!
أو ما زعمه البعض الآخر من أن المسيح إبن الله
أو ما زعمه البعض الثالث من أنه ثالث ثلاثة (الأب والابن والروح القدس) !
والمحبة فيها ـ كأصل كبير جاءت به
قد انتهت..
فباسم المسيحية تزحف الجيوش الصليبية تحمل الصليب لتقتل وتدمر شعوبا بغير حق إلا أن تقول ربي الله(13/193)
وباسم المسيحية كذلك.. تذيق بعض الشعوب ويلاتها..
وباسم المسيحية كذلك تفترق المذاهب.. الكاثولكية، والأرثوذكسية والبروتستنتينية.. وتمضي ليكفر بعضها بعضا، وليحارب بعضها بعضا! وأخيرا.. تنتهي المسيحية إلى مجموعة خرافات
.. صكوك غفران، وقرارت حرمان، وكراسي اعتراف
وحرب على العلم والعلماء لا تفتر ولا تهدأ، ومهادنة بل محالفة للظلمة من الملوك والحكام!
.. فلم يكن غريبا بعد ذلك أن ترتفع الصيحة:
اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس
ولم يكن غريبا أن تجد الصيحة من يسمع لها.. بل من يسارع إلى تنفيذها!!
52ـ وتعاني أوربا بعد محنة الدين محنة الفكر
محنة الفلسفة المغرقة في الخيال، تدعو إلى المثالية البعيدة عن الواقع وتهتف بها..
فكان ذلك التطرف إلى الخيال حربا بتطرف آخر إلى الحس والمادة تمثل فيما اعتنقت الماركسية من فلسفة مادية
53ـ وبعد المحنتين محنة الواقع الاقتصادي والاجتماعي
.. فالإقطاع بكل مظالمه يحكم أوربا.. تحميه الكنيسة ويحميه الحكام!
أصحاب المزارع يملكون الإقطاعيات الكبيرة.. وأكثر الناس يعملون فيها عبيدا أو قريبا من العبيد!
وأصحاب المصانع يملكون المصانع الكبرى.. ويستغلون جهد العمال بغير مقابل عادل
وهكذا ينقسم المجتمع إلى طبقتين..
طبقة صغيرة العدد.. تملك كل شيء وتعيش حياة الترف العامر
وطبقة كبيرة العدد.. لا تملك شيئا ولا تكاد تملك شيئا وتعيش حياة البؤس والشقاء
54ـ فلا غرو بعد ذلك.. أن تجد الصيحة الخبيثة يا صعاليك العالم اتحدوا فأمامكم عالم تغنمونه، وليس عندكم من شيء تفقدونه غير القيود والأغلال [45]
لا غرو.. أن تجد لها آذانا تستمع لها.. وقلوبا بعد ذلك تهواها وتهفو إليها! ولا غرو.. بعد كل هذه الظروف..(13/194)
أن تكون الماركسية هي الوريث الشرعي.. أو غير الشرعي.. لحضارة الغرب المتهالكة.. خاصة وأن أساس الحضارتين (إن صحت التسمية) أساسهما أساس مادي واحد!
أساس المبدأ الماركسي
55ـ من مادية فيورباخ، وجدلية هيجل أقام ماركس فلسفته على أساس من المادية الجدلية، وربطها بأربعة قوانين، وفسر تفسيرا ماديا، كما أرجع كل شيء في الاقتصاد إلى هذا الأساس المادي.
وصارت الماركسية في بصر أتباعها أشبه بالدين تفسر الكون والإنسان والحياة! وتعرض مذهبها في مجال الاجتماع والسياسة والاقتصاد.. وتنطلق من هذا المنطلق المادي محطمة كل أساس روحي!
والتقت مع الغرب على تقديس المادة وعبادتها.. لأنها أخذت عنه ذلك الأساس المادي الجدلي!
وحين واجهت العمل والتطبيق.. أفلست.. واضطرت إلى الخروج على أساسسها المادي الجدلي.
56ـ وفي المادة
اعتدت الماركسية بما تقع عليه الحواس، وأنكرت ما وراء ذلك، لأن ذلك كان المعنى السائد للمادة في القرن التاسع عشر!
واعتبر ماركس الفكر لاحقاً على المادة وتابعاً لها!
وحور لينين التعريف إلى أنها الوجود الموضوعي خارج الذهن..
وتتابعت الاكتشافات العلمية تكشف الماركسية وتعريها من الثوب العلمي وصارت الماركسية في حرج من أمرها.
وفي سنة 1963 اجتمع أكثر من عشرين عالماً بالاتحاد السوفيتي ليضعوا أسس الماركسية اللينينية فقرروا أن النشاط الذهني أو الفكري خاصة مميزة للمادة وليس شكلاً من أشكال المادة
وقرروا أن التوحيد بين الفكر والمادة في الوقت الحالي يعد من المفاهيم المادة المنحطة ـ ولم يوحد بينهما سوى ماركس ـ!
وفي الأعوام الأخيرة.. خرج رجيه جارودي على الناس بكتابه التحول الكبير في الاشتراكية
فأجرى تحريكاً جديداً في الأساس المادي للماركسية.(13/195)
فقرر الحزب الشيوعي الفرنسي فصله بعد أن كان يحتل مركز عضو المكتب الساسي وفيلسوف الحزب.. LE GRAND TOURNANT DE SOCIALISME وأعقب ذلك.. رفض الحزب الشيوعي الفرنسي للدكتاتورية البروليتاريا.
وأعقبه في ذلك الحزب الشيوعي الإيطالي!
57ـ وفي الجدل: أخذ ماركس من هيجل مبدأ التناقض..
أي قيام كل عنصر مادي على نقيضين.. وما استتبع ذلك من تفسير.. للحياة أو للتاريخ..
وربما كان ماركس مغروراً بعمله المحدود يومئذ بالقرن التاسع عشر الذي كان يقوم على اعتبار الطبيعة قائمة على عنصرين: الطاقة والمادة
58ـ المبدأ في الميزان
في ميزان العلم.. لم تعد الماركسية علما بل أنقض أساسها من العلم فالمادة التي عرفها ماركس وبنى عليها ماديته.. لم تعد هي المادة في القرن العشرين لقد عرف القرن العشرين.. مواداً لا تقع عليها الحواس.. بل أن ما تدركه الحواس من مواد يمثل في العلم الحديث 7% من المواد، ويبقى 93% من المواد لا تدركه الحواس [46]
وبالنسبة لما قال به عن الجدلية من احتواء كل مادة على الشيء ونقيضه فإنها قامت أولا على أساس نظر خاطئ.. باعتبار أن الطبيعة تقوم على عنصري المادة والطاقة ولقد أثبت العلم أن المادة والطاقة شيء واحد
وأن المادة ليست إلا طاقة مركزة
والطاقة ليست إلا مادة ـ.. لكنها تسير بسرعة الضوء!
كذلك ثبت خطؤها من القول باضطراد وجود النقيضين..
والحق أن الموجود في كل مادة.. هو التكامل والتزاوج وليس التناقض والتنافر وهذا خطأ آخر في النظرة الماركسية.
إن السالب والموجب.. في الذرة والكهرباء والمغناطيس
والأنثى والذكر.. في النبات والحيوان والإنسان
هذا تكامل وتزاوج.. تتم به الحياة.. وتبقى
وليس تنافرا ولا اختلافا ولا تناقضا
وصدق الله العضيم {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(13/196)
المطلب الثاني
الماركسية.. وسيلة
الماركسية والإسلام
59ـ انتصرت الماركسية في واقعها.. فأقامت دولة في روسيا سنة 1917
وكان لها مع الإسلام والمسلمين تكتيكا متغيرا
خطبت ودهم..
ثم حاربتهم بالسلاح..
ثم تطورت إلى التبشير..
وكان لها خارج الاتحاد السوفيتي وسائلها الأخرى. ونشير لها داخل الاتحاد السوفيتي ثم خارجه.
أولا: داخل روسيا
الشيوعية تخطب ود المسلمين.
60ـ بعد الثورة البلشفية أصدر مجلس قوميسيري الشعب البلشفي نداء مواجها إلى الشعوب الروسية من المسلمين كان من بين من واقعه لينين وستالين (في يوم 7 ديسمبر سنة 1917) وقد جاء فيه.. وفي وجه هذه الأحداث الجسام نتجه بأنظارنا إليكم أنتم يا مسلمي روسيا من الشرق..
أنتم يا من تشقون وتكدحون وعلى الرغم من ذلك تحرمون من كل حق أنتم له أهل
أيها لامسلمون في روسيا
أيها التتر على شواطئ الفولجا وفي القرم
أيها الكرفيز والسارتيون في سبيريا والتركستان
أيها التتر والأتراك في القوقاز
أيها الجبليون في اتحاد القوقاز
أنتم يا من انتهكت حرمات مساجدكم وقبوركم، واعتدى على عقائدكم وعبادتكم وداس القياصرة والطغاة الروس على مقدساتكم..
ستكون حرية عقائدكم وعاداتكم، وحرية نظمكم القومية.. ومنظماتكم الثقافية مكفولة لكم منذ اليوم.. لا يطغى عليها طاغ ولا يعتدي عليها معتد!
إلى أن قال في البيان،:
أيها المسلمون في روسيا..
أيها المسلمون في الشرق.. إننا ونحن نسير في الطريق الذي يؤدي بالعالم إلى بعث جديد نتطلع إليكم لنلتمس عندكم العطف والعون
61ـ الشيوعية تعلن الحرب على الإسلام والمسلمين:
لم يمض على بيان استعطاف روسيا عام 1917 [47]
وفي أبريل سنة 1918 أصدر لينين الأمر بالزحف على البلاد الإسلامية وهي تمثل تسعة أعشار مساحة الاتحاد السوفيتي وتشمل:(13/197)
(1) الأورال
(2) استرخان
(3) سيبيريا
(4) القرم (وهي أغنى المناطق بالخيرات الزراعية)
(5) القوقاز (وهي أغنى المناطق بالبترول وبعض المعادن)
(6) التركستان. ومنها من الثروات البشرية:
إمام السنة البخاري رضي الله عنه، المفسر الزمخسري، النسفي
ومن أئمة البلاغة وإعجاز القرآن: عبد القاهر الجرجاني، سعد الدين التفتازاني
يوسف السكاكي
ومنها الفارابي وابن سينا
ومن علماء الرياضة والفلك خالد والباخي
ومن علماء الهندسة بنو موسى
ومنها البيروني، والماتريدي، والخوارزمي والسرخسي، والجوهري وغيرهم.
ومن الثروات المعدنية:
250 منجماً من الذهب، 16 للفضة، 46 للحديد، 32 للرصاص، 34 للبترول، 70 للفحم، 13 للكبريت، 63 للصوديوم.. عدا الأورنيوم، والفرام، والزئبق والنحاس والقصدير والبلاتين.
وسارت الجيوش الرسمية.. تبيد القرى والمدن، وتهلك الحرث والنسل واستولت عليها الواحدة تلو الأخرى.
واستبسل أحفاد الكرام الصناديد في الدفاع عن ميراث محمد عليه الصلاة والسلام وفي سنة 1921 سقطت جمهورية بخارى بعد قتال مرير، لكنها ظلت بعد ذلك تحارب حرب عصابات مدة عشرين سنة.. لا تمتد لهم يد من أبناء الإسلام.. تبذل دماً أو تبذل مالاً!!
ومثلان مما فعلوا في القرم والتركستان:
في القرم:
مات مائة ألف.. جوعاً
وفي تقرير كالينين يشير إلى
أن من أصابتهم محنة الجوع في شهر يناير 302000 مات منهم 14413
وفي شهر مارس379000
مات منهم 19902
وفي شهر أبريل 377000
مات منهم 12754
وكان سكان القرم في سنة 1917 5ملايين.. وكان مفروضاً (طبقاً لتزايد السكان والمسلمين خاصة في كل مكان)
أن يبلغوا في سنة 1940 عشرة ملايين أو خمسة عشر لكنهم صاروا في سنة 4001940 ألف فقط.(13/198)
(أي أنهم نقصوا إلى أقل من العشر)
وكانت مساجدهم 1558 مسجداً
لم يبق منها إلا عشرات!!
وفي التركستان:
قتلت روسيا سنة 1934.. مائة ألف مسلم ومات ثلاثة ملايين جوعاً!!
62ـ التبشير بالإلحاد
أما الوسائل الحالية.. وبعد أن خضعت كل البلاد الإسلامية داخل الاتحاد السوفيتي ولم تعد تسمع فيها إلا همساً.. بل ربما خاف الكثيرون عاقبة الهمس.. فاحتبست الكلمات في صدورهم.. او في حلوقهم.. ولمعت بها عيونهم دمعاً أو دما!!
تقيم روسيا الآن معاهد علمية لتخريج دعاة الإلحاد
وعن معهد الإلحاد العلمي بأكاديمة العلوم الاجتماعية التابعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي صدر كتاب به وسائل التبشير الحديثة للإلحاد..
1ـ ينصح أولا بدراسة منطقة الدعوة والإلمام بالدين والعادات والتقاليد.
2ـ يشير إلى أن المطلوب إيجاد رأي عام إلحادي.
3ـ ينصح باستخدام الشيوخ المسلمين في نشر الإلحاد بعد استمالتهم وتحويلهم إلى ملاحدة، ويؤكد على من كان له منهم منزلة دينية بين قومه!
4ـ ويلجأ إلى المعلمين.. لنشر الإلحاد بين التلاميذ.
5ـ وإلى الأطباء للتبشر بالإلحاد.
6ـ وإلى النساء لنشر الإلحاد بين بني جنسهن ولتكوين رأي عام ضد الحجاب! وضد تزويج صغار السن من البنات!!
وضد الختان!!
7ـ استخدام إنجازات العلم ضد الإسلام
مثل التحدث بالوصول إلى القمر.. إلخ
وأكثر هذه الوسائل استخدمها الغرب من قبل حين كان يلجأ إلى تنصير المسلمين..
ثانياً: خارج روسيا
63ـ الإبادة في البلاد التي دخلتها الشيوعية
1ـ ومثل من بلغاريا [48]
في معركة خسيسة لتغيير أسماء المسلمين إلى أسماء غير إسلامية
طردوا من الأعمال وحرموا من الرزق من رفض التغيير(13/199)
ألقي الآلاف في السجن وتعرض الكثير من النساء والأطفال لنهش الكلاب البوليسية وصدرت أحكام بالإعدام ونفذت.
وأخرى بالسجن ونفذت..
64ـ 2ـ من ألبانيا
نسبة المسلمين بها بين 80 % إلى 90 %
انضمت أثناء الحرب العالمية مع يوغوسلافيا ضد ايطاليا ثم الائتلاف بينهما ثم انفصلت سنة 1948 ليتولى حكمها اثنان من الشيوعيين
أنور خوجه ـ ويدعى أنه الله
ومحمد شيخو ـ ويدعى أنه رسول الله!
هدموا المساجد
حولوا المناهج الدراسية إلى الإلحاد
ويسومون المسلمين صنوف الإرهاب [49]
3ـ من الصومال
65ـ بعد الانقلاب العسكري الذي أعلن به زياد بري حكم الاشتراكية (العلمية) أو الماركسية أصدر بعض القوانين يعدل بها أحكام الإسلام في الميراث
فعارضه بعض العلماء فقتلهم حرقا بالنار!!!
66ـ الدعوة إلى الشيوعية في البلاد التي لم تحكمها
1ـ في البداية كانت الشيوعية تعلن رأيها في الدين صراحة أنه أفيون الشعوب ومخدر الفقراء وأنه انعكاس لشقاء فعلي، واحتجاج على هذا الشقاء. وربما قال قائلهم.. أنهم يقصدون الدين المسيحي
ولكنهم بشروا بذلك ـ فيما أعلم ـ في بلاد المسلمين كذلك
وقد كان دعاة الشيوعية ـ ولا يزال بعضهم ـ يفتخر بمحادته لله سبحانه وبتركه لشعائر الإسلام، وبممارسته لصنوف الانحلال
وكان لايزال من وسائلهم للتبشير إغراق الشخص بالمال والجنس..
حتى يغرق في الطين إلى أذنيه!
2ـ وبدا لهم أن الشيوعية تلقى مقاومة عنيفة من العقيدة لمجاهرتها بالإلحاد..
فبدا لهم أن يعدلوا من التكتيك فبدأ روجيه جارودي فيلسوف الحزب الشيوعي الفرنسي ـ السابق ـ يعلن عن الأمل في تعاون بين المسيحين والشيوعين لبناء المستقبل دون أن نضيع شيئا من ميراث القيم الإنسانية
(غمزة إلى أنها ليست من عند الله) التي جاءت بها المسيحية منذ ألف عام [50](13/200)
ـ وفي البلاد الإسلامية بوجه خاص
فقد صدرت الأوامر إلى دعاة الشيوعية بأن لا تمس الدين وبأن تنادي بالماركسية مذهبا اقتصاديا مع الإبقاء على العقيدة الإسلامية بل صدرت الأوامر إلى دعاتها.. بأداء الشعائر الإسلامية كالصلاة والحج.. إلخ [51]
ومن هنا شاهد الناس أمثال خالد محي الدين.. وزياد برى الأول يؤدي مناسك الحج والثاني يؤدي مناسك العمرة مع أنهما يعلنان أنهما ماركسيان [52]
وهكذا عمدت الشيوعية أخيرا إلى تلبيس الحق بالباطل، وإلى محاولة تجزئة الإسلام ـ كتكتيك مرحلي ـ والإعلان بقبول عقيدته وشعائره والاقتباس من الماركسية في مذهبها الاقتصادي.. وذلك حتى تتمكن فتقضي على الدين عقيدة كما قضت عليه شريعة
ثالثا: الشيوعية ـ والسياسة.. والإعلام
67ـ مخاطبة القاعدة
كانت الشيوعية بادئ الأمر تغزو البلاد الإسلامية من القاعدة فتنشر مذهبها بين الجموع.. مستغلة ما تعرضت وما تتعرض له البلاد الإسلامية من قحط وتجويع بذنوبها أو بفعل أعداء الله فيها.. لتنشغل بلقمة العيش عن التفكير في واقعها الأليم وأمتها الممزقة.
ومستغلة كذلك ما تقع فيه بعض الأنظمة الحاكمة من بعد عن العدالة الاجتماعية الإسلامية، ومن ترف داعر ترفل فيه الطبقة الحاكمة، وبؤس بائس تعيشه الطبقات الكادحة.
ومستغلة كذلك غيبة الحكم الإسلامي الراشد.. الذي أقامت دعائمه من قبل النبوة الحكيمة والخلافة الرشيدة.
ومستغلة فشل الشعارات الوطنية الكاذبة ومعها شعارات الغرب الجوفاء.
وهكذا عملت الشيوعية لغزو القاعدة.
68ـ وبدأت معها صريحة.. تعلن كفرها إلحادها.
فلما اصطدمت بالعقيدة الإسلامية القوية.. تلوت وتلونت.. وادعت مصالحتها للإسلام ومعايشتها لعقيدته، وغذت ذلك روسيا ببضعة أفراد تعلن عن إرسالهم إلى الحج.. وبضعة أفراد آخرين من البلاد الإسلامية تدعوهم إلى روسيا وتطوف بهم بعض المساجد.(13/201)
وقد حكى بعض هؤلاء.. أنه لوحظ أن المصلين في هذه المساجد.. لا يكادون يتغيرون.. فهم في موسكو الذين يصلون وهو في جمهورية أخرى كالقرم أو القوقاز هم الذين يصلون بل لاحظ أكثر من ذلك أن ملابسهم من نوع واحد وأحذيتهم كذلك من نوع واحد.
وأستدل من ذلك إلى أنهم أشبه بالفرقة المأجورة لتؤدي دورا فهي تنتقل حيثما يقضي الأمر أن تنتقل كما تنتقل الفرقة المسرحية بين مسرح وآخر!!
وإلى جوار ذلك نصحوا عملاءهم في البلاد الإسلامية بآداء الشعائر وإعلان الإسلام (كتكتيك مرحلي) . [53]
69ـ التغيير من القمة
إلى جوار مخاطبة القاعدة.. وهي مستمرة
فقد لجأوا أخيرا إلى لعبة الشعوب التي تلعبها الولايات المتحدة الأمريكية جربوا التغيير من القمة..ونجحوا فيه.. ووجدوه سهلا لا يبذلون الكثير فيه بينما تتولى تلك القمة ـ مقابل تعضيدهم لبقائهم في الحكم ـ تتولى عنهم كل شيء..
سلخ الأمة من دينها
إشاعة الإباحية والانحلال فيها عن طريق وسائل الإعلام وغيرها من الوسائل وأخيرا إشاعة الإلحاد.. شيئا فشيئا
ومثل في مصر في الستينات قريب
ومثل في الصومال في السبعينات أقرب!!
وهم الآن لا يشترطون في القمة التي تتعامل معهم أن تكون معتنقة مبادئهم.
بل يكفي أن تلتزم بنشر.. هذه المبادئ. وإن صلت وصامت وزعمت أنها مسلمة!!
الفصل الثالث
الدعوة الإسلامية
في وجه الغزو الفاجر
((توطئة
70ـ تقف الدعوة الإسلامية، ويقف دعاتها.. صامدة في وجه الغزو الفاجر من غرب.. ومن شرق..
تقف موقف الدفاع..
الدفاع ضد ما يوجه إلى الإسلام من انتقاد..
أو ما يوجه إليه من تحطيم..
وفي الكثير يقف الدعاة موقف التبرير.. حين يهاجم الإسلام
لكن الإسلام كوسيلة لا يكتفي بالدفاع.. وأدناه التبرير(13/202)
وهو كهدف ومبدأ لا يقبل التجزئة ولا التقطيع ولا الترقيع الذي يريده له أعداء الإسلام لتحطيمه خطوة.. خطوة
أو نقضه عروة.. عروة.!
ونشير إلى كل في مطلب
المطلب الأول
وسيلة الإسلام
71ـ قد يقبل الإسلام المهادنة لكنه لا يقبل المداهنة
وقد يقبل الدفاع.. لكنه لا يرفض الهجوم ولا يتركه كوسيلة للدفاع!
وهو بكل تأكيد لا يقبل التخاذل.. ولا التبرير الذي يكشف عن ذلك التخاذل!
ذاك ما أعنيه في حديثي عن وسيلة الإسلام.. في مواجهة الزحف الفاجر للشرق الكافر والغرب الحاقد.. على الإسلام ونفصل الكلمات!
لا يقبل الإسلام المداهنة
72ـ المداهنة لون من النفاق.. لا يرضاه الله للدعوة ولا للدعاة قد يقبل منهم.
إذا ابتلوا أن يهادنوا، لكن لا يقبل منهم أبدا أن يداهنوا! وفرق بين الأمرين عظيم ... !
لقد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية أن يهادن..
وكان ذلك بداية الفتح العظيم الذي نزل فيه قول الله سبحانه {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً..}
وكانت نهايته.. فتح مكة التي نزل بعدها قول الله {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً..}
73ـ ولقد حاول الكفار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يداهن
حتى قالوا له.. نعبد إلهك يوما، وتعبد إلهنا يوما
ورفض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل الوحي يؤيد رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ
لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(13/203)
وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ
وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ.. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}
ونزل قوله تعالى {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}
وفي الإسلام دفاع وهجوم
74ـ دفاع قد يقتضيه التكتيك
وهجوم كذلك قد يقتضيه التكتيك
وقد من وسائل رسول الله صلى الله عليه وسلم الدفاع، وكان من وسائله الهجوم.. والهجوم والدفاع يومئذ دفاع عن الإسلام!
وسواء الدفاع والهجوم في المجال الحربي، أو في المجال السياسي والديبلوماسي.. فكلاهما مشروع
وكما نزل قوله سبحانه وتعالى
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}
فقد كان في نهاية آيات القتال قوله
{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً..}
{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ..}
.. وهو في دفاعه وهجومه لا يعرف التخاذل.. ولا التبرير الذي يكشف عن ذلك التخاذل
{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
75ـ وفي مواجهة أهل الكتاب
فإن الله لا ينهانا عن الذين لم يقاتلونا في دينناولم يخوجونا من ديارنا أن نبرهم ونقسط إليهم..
لكنه سبحانه وتعالى ينهانا عن الذين قاتلونا في الدين وأخرجونا من ديارنا أن نتولاهم.. أن نعطيهم شيئا من محبة القلب أو نعطيهم شيئا من مساعدة اليمين ومن ثم فإننا أمام أهل الكتاب..من أهل الغرب أو من غير أهل الغرب(13/204)
لا نبدؤهم بقتال.. متى كفوا هم عن قتالنا وإخراجنا من ديارنا فإن قاتلونا أو أخرجونا.. فقد أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير!
76ـ وعلى الغرب أن يختار لنفسه..
إما أن يكف عن قتالنا في ديننا.. بحرب عسكرية، أو بحرب فكرية.. وأن يكف عن إخراجنا.. على يده أو على أيدي صنائعه.. فإن فعل فليس في الإسلام ما ينهانا عن بره والإقساط إليه.. وإلا.. فإنه يعرف الأخرى!
أما الشرق الكافر..
فإننا نبشره من الآن..
ليس بيننا وبينه غير القتال..
القتال دفاعا لإخراجه من تسعة أعشار أرضه التي احتلها واغتصبها من أيدي المسلمين..
والقتال هجوما.. باعتباره عقبة في طريق الدعوة الإسلامية
وليس لنا معه طريق ثان..
هكذا..
وبصراحة..!
وعلى الذين يتولونه.. أن يعلموا أنهم منه..
وأن قتالهم.. كقتاله فرض..!
والله متم نوره ولو كره الكافرون
المطلب الثاني
هدف الإسلام
77ـ حديثنا في المطلب الأول كان عن وسيلة الإسلام.. إنه لا يقبل المداهنة وإن قبل المهادنة، ولا يقبل التخاذل وإن وقف موقف الدفاع حينا وموقف الهجوم حينا آخر!
وحديثنا في هذا المطلب عن هدف الإسلام.. إنه لا يقبل التجزئة ولا الترقيع بل لابد أن يكون الدين كله لله.. فذاك هدفه!
أولا: الدين كله لله
78ـ الله خلق الخلق كله..
فأخضع بعضه جبرا وقسرا.. يسبح بحمده، ويسير وفق ناموسه
وجعل للبعض الآخر الاختيار.. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر
وأنزل لمن جعل له الاختيار نظاما كاملا لحياته..
وأنزل مع آخر آيات القرآن {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً}
فصار الإسلام الذي رضيه لنا هو هذا الدين الكامل..
نتعبد الله به.. أفرادا
نتعبد الله به.. أسرا(13/205)
نتعبد الله به.. مجتمعات ـ ويتقرر بناء على ذلك الثواب والعقاب في الآخرة والآخرة خير وأبقى.
79ـ وهو بالنسبة للجميع منهج كامل.. يشمل الحياة كلها..
حتى ليتناول الانسان في حياته وفي موته..
في يقظته وفي نومه..
في عسره وفي يسره..
يجمل الحكم أحيانا.. ليدع مجالا للاجتهاد في ظل ذلك الخط الرئيسي ويفصل الحكم أحيانا.. حتى لا يدع مجالا للاجتهاد لأحد.. فما يختلف أحد حول الحكم الذي جاء.. لأن حكمة الله.. أن مثل هذا الحكم لا يتغير بتغير المكان أو الزمان
وهو بهذا..
دواء متكامل.. فيه الشفاء للانسانية من كل أمراضها
وبناء متكامل.. يناسب أجواء البشرية، ويقيها صروف كل تغير قد يرد عليها وهو بهذا..
لا يقبل التجزئة ولا التفرقة..
ثانيا: لا تجزئة ولا تفرقة
80ـ مضت حكمة الله.. أن يكون الدين دواء متكاملا، وبناء متكاملا.. ومنهجا شاملا يلف الحياة كلها..
وهو بهذا لا يقبل التجزئة ولا التفرقة
ووردت النصوص تنهى عن تلك التفرقة..
وتعتبر تجزئة الدين.. كفرا.. وفتنة.. وجاهلية..
ـ فقرأنا قول الله:
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ..}
ـ وقرأنا قول الله:
{وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ}
ـ وقرأنا قول الله معقبا على التجزئة
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
81ـ وأدركنا بفضل الله بعض الحكمة(13/206)
إن تجزئة شريعة الله ودينه.. قد يكون هو الطريق لهدم الدين كله ومن هنا كانت خطورته.. أنه يتم خطوة.. خطوة.. دون أن يحس الناس..
ثم إن الدواء المتكامل.. قد ينجد بإذن الله في شفاء المريض
أما بتر الدواء.. فقد لا ينجح في الشفاء.. بل قد يؤدي إلى تفاقم المرض.
82ـ ولقد كان لنا من التاريخ عبرة
إن التتار حين غزوا أرض الإسلام أرادوا أن يقيموا حكما بعضه من الإسلام وبعضه من عندهم أو من شرائع أخرى..
فقضت يقظة علماء الإسلام ـ بفضل الله ـ على هذه الفتنة.. إذ اجتمعوا فأجمعواعلى رفض ذلك الميثاق الياسق وأفتوا بكفر من قبله.. ومن ثم.. انتهت الفتنة.
ودخل التتار في الإسلام.. بدلا من أن يخرجوا المسلمين من الإسلام!
ومن هنا كان لنا مع كل من الغرب والشرق كلمة..
كلمتنا للغرب..
83ـ وهي ليست للغرب وحده.. إنها كذلك.. لصنائعه هنا ممن هم جلدتنا ويتكلمون بلساننا!
إننا لانقبل النقل الأعمى
لأن ذلك..
أولا ـ ضد طبائع الأشياء.. فإن النبات يأخذ باختيارفيتخير النخيل ما لا يتخيره البرتقال من عناصر التربة.. أفلا يكون ذلك لمن ميزه الله بالارادة والاختيار!
ثانيا ـ ضد الأصالة.. فإن الأمم الأصيلة تستمسك بتراثها.. استمساكها باستقلالها..
وبغير ذلك تذوب شخصيتها..
والتاريخ خير شاهد..
الأمم التي استمسكت بتراثها.. ظلت حية..
والأمم التي ذابت في الغزاة، ماتت وانمحت شخصيتها
ثالثا ـ لأن ما عندنا خير وأبقى..
والذين أحسنوا دراسة التاريخ.. والذين أنصفوا من أنفسهم من أبناء الغرب يعلمون أن ما عندهم من خير.. كان نقلا من الشرق الإسلامي.. إبان الحروب الصليبية ومن خلال الأندلس.. وجزر البحر الأبيض المتوسط الإسلامية! لكن المسلمين.. تركوا.. الجواهر في خزائنهم.. وراحوا يتكففون الناس.. فيأخذون فتات الموائد.. من الغرب ومن.. الشرق!!(13/207)
84ـ وإن الهجمة الأثيمة على قيم الإسلام تسندها السترات العسكرية المحلية في أكثر بلاد الإسلام..
هذه الهجمة الأثيمة متمثلة في علمانية التعليم والإعلام والقانون
ومتمثلة في إثارة القوميات
ومتمثلة في استخدام المرأة المسلمة مطية لنشر الانحلال ولهدم البيت المسلم من قواعده..
هذه الهجمة الأثيمة بما يساندها من حكم الدكتاتوريات العسكرية
.. قد انكشف أمرها.. وهتك سترها.. وبدا للناس اثمها وسرها ثم أنه لابد لها من رد فعل
مساو لها في القوة.. ومضاد لها في الاتجاه.. وفعلها بشري
ورد الفعل لها.. بشري.. تسنده قوة السماء.. ومن ذا يهزم قوة السماء..؟!
85ـ فليكف الغرب عن حربنا في ديننا
قبل أن يفقد مصالحه الاقتصادية..
بعد أن فقد أماكنه وقواعده العسكرية..
وليعلم أن أبناء الإسلام.. إن كفوا عن حربهم في دينهم أقرب إليهم من أبناء ماركس الذين يسحبون البساط من تحت أقدام الغربيين.. في أماكن كثيرة.. ولن يرحموهم.. يوم يسقطون!
86ـ أما كلمتنا للشرق الكافر
ولمن يدينون له.. ممن يحملون أسماء المسلمين أو أسماء العرب فإنها:
أولا: إننا لانقبل اللعبة الأخيرة الحقيرة.. في الفصل بين العقيدة والنظام فالإسلام عقيدة ونظام..
يعالج الفرد والمجتمع والأسرة
ويعالج شؤون السياسة والاقتصاد والاجتماع
والتخلي عن النظام كالتخلي عن العقيدة سواء بسواء
بل هو تخل عن العقيدة نفسها
لأن من عقيدة الإسلام أن الله هو الحاكم والمشرع كما أنه الخالق والرازق والأخذ بحكم الشرق وشرعه في الاقتصاد أو في غيره..
معناه التخلي عن جزء من العقيدة أن الله هو الحاكم!
فضلا عن النهي الذي قدمنا عند الحديث عن رفض التجزئة والتفرقة.
وثانيا: إن الحرب بيننا وبين الكفر سجال
ليس فقط داخل ديارنا.. لنطهرها من الكفرة الفجرة(13/208)
بل كذلك خارج ديارنا.. لنكبح جماح الكفر الذي يستبدل أبناء المسلمين ولنحرر أولئك المسلمين من نير الاستعباد الشيوعي الكافر!
والجهاد في هذه الحالة فرض عين
حتى تتطهر أرض البخاري والإمام مسلم.. وغيرهم وغيرها من أراضي الإسلام..!
وإن جندنا لهم الغالبون
والحمد لله رب العالمين..
--------------------------------------------------------------------------------
[1] وهو ماصرح به أدوين بلس صاحب كتاب ملخص اتبشير وأشار إليه أ. ل شاتليه في الغارة على العالم الإسلامي وتحاول بعض الكتب أن تنفي عن الحروب الصليبية صفتها الدينية والعصبية خالعة عليها ثوب الحروب الاستعمارية التي تقصد إلى استغلال الثروات.. وذلك الجهل أو التجاهل قصدا إلى تخفيف رد الفعل لدى المسلمين وتظليلهم عما أريد ويراد بهم!
ونظرة إلى ما كتبه كتاب الغرب أنفسهم عن الدافعين إلى هذه الحروب (البابا سلفستر الثاني سنة 1002 م ثم البابا خريفوريس سنة 1075م ثم من أذكوها بعد ذلك من كتاب المسيحية وشعرائها من أمثال: HEYTON SASSUTO, MARINO, PIEN DU BOI, GUILLOMME DE NOGARIT, RAYMO ND LULLE, PATRAQUE.
ثم إلى ما فعله قواد هذه الحروب حين قتلوا من المسلمين بعد دخول بيت المقدس في 15 يوليو 1099 أكثر من سبعين ألف حتى غاصت الخيل إلى صدورها في الدماء وفي طريقهم إلى أنطاكيا قتلوا أكثر من مائة ألف مسلم.. نظرة إلى هذا أو ذاك تكفي للرد (راجع في ذلك كتاب حاضر العالم الإسلامي للمؤلف الأمريكي ستودارد وكتاب تاريخ البابوات تأليف فرنارد هايوارد)
[2] من خطبة كبير المبشرين زويمر في مؤتمر القدس 1935 إبان الإحتلال البريطاني لها.(13/209)
[3] من أفضل الكتب التي كشفت عن هذا الأمر مؤلف للكاتب الأمريكي MORCE BERGEN تحت عنوان THE ARAB WORlD TO – DAY COPYRIGHT 1962 ترجمه للعربية محي الدين محمد ـ طبع في دار مجلة شعر اب 1963 وكتاب الدبلوماسية والمكيافيلية في العلاقات العربية والأمريكية خلال عشرين عاما ـ دراسة وتحليل حول كتاب لعبة الشعوب تأليف محمد صادق.
ـ كذلك مؤلفات الدكتور محمد حسين ـ الإتجاهات الوطنية في أدبنا المعاصر، الحضارة الغربية حصوننا مهدة من داخلها.
ـ الخطر الصهيوني على العالم الإسلامي.
ـ مجلات المجتمع، والدعوة في الكويت وفي السعودية.
[4] لعبة الأمم ـ مايلزكوبلاند THE GAME OF NATIONS
[5] من كلمة لأحد زعمتء التبشير ـ زويمر ـ في مؤتمر التبشير في لنكو بالهند سنة 1913.
[6] من كلمة للمبشر وليم جيفورد بالكراف في مؤتمر التبشير المنعقد بالقاهرة سنة 1906 وكلاهما يكشف عن بعض نية الغرب تجاه الجزيرة مهد الإسلام.
[7] من نصائح زعيم التبشير زويمر في مؤتمر القاهرة للتبشير سنة 1906 ـ ومن النكاية أن يعقد ذلك المؤتمر في منزل الزعيم المسلم أحمد عرابي بعد هزيمته ونفيه!
[8] الكاتب الأمريكي موروبيرجير في كتابه القيم العالم العربي اليوم صفحات 306، 319، 320، 323، 324، 326، 334، 340، 348 ـ ويشير المؤلف الأمريكي إلى زعيم مصري كان مغموراً وقت تأليف الكتاب ـ يشير إلى معيار ذلك الزعيم في الضابط الكفء هو درجة تعرفه إلى الغرب كما ينقل عنه مدحاً لرئيس هيئة أركان الجيش المصري أثناء الحرب العالمية الثانية كان متقبلاً للأفكار الحديثة لكثرة زياراته لفرنسا وأنجلترا وألمانيا صفحة 313، 314، 310 من المؤلف المذكور.(13/210)
[9] أعلنها أخيرا محمد زيادبري في الصومال المسلم حين أعلن قيام الدولة على الإشتراكية العلمية ومن قبل أشار إليها زعيم عربي بغيت كسب عطف اليهود والدولة المسيحية.. لقيام دولة فلسطين (العلمانية!) .
[10] ثم انتهى التقرير إلى أن الأزهر سوف بجد نفسه أمام أمرين فإما أن يتطور وإما أن يموت ويختفي.. والحقيقة أن الأمرين موت أحدهما مقنع والأخر مكشوف وقد تم تطوير الأزهر ومصادرة أوقافه في عهد الرئيس السابق جمال عبد الناصر.
[11] الغارة على العالم الإسلامي ص 32،24.
[12] راجع تقرير كرومر 1906 (الفقرة 3 ص 8) وراجع كذلك MODERN EGYPT 2: 229 حيث يدعو كرومر إلى تمكين الطائفة المثقفة ثقافة غربية من المناصب المسؤولة عن التوجيه السياسي والاجتماعي.
[13] وجهة الإسلام ـ تأليف المستشرق جب وآخرين ترجمة عبد الهادي ابو ريده صفر 1353 ـ مايو 1934.
[14] وحل المسألة الشرقية كان يعني القضاء على الخلافة الإسلامية في ذلك الحين، ومعنى ذلك أن التعليم العلماني أو غير الديني أدى دورا هاما في التمهيد لالغاء الخلافة الإسلامية.
[15] كتب الأستاذ أنيس منصور في مارس 1976 ـ ربيع الأول 1392 يقول عن أحد المبتعثين إلى الخارج: كان ريفيا متشددا.. عاد أوربيا متفتحا ـ وهذا طبيعي.. كما تغيرت ملابسه وتسريحة شعره، لمعت عيناه وأظافره وجزمته (حذاؤه) ولم تعد تراه متصلب الرأي.. ولا الظهر.. إنما هو مجامل فينحني لهذا أو ذاك وللنساء بصفة خاصة ولا يتمسك بارائه كثيرا، وإنما هذه الاراء يحولها إلى أنواع من العجين تلين وتشكل حسب الظروف وفي كثير من اللباقة والادب.. كان لا يدخن ـ وهو الآن يسرف في ذلك.. كان لا يشرب.. وهو الآن خبير في أنواع الخمور وأنواعها وروائحها وترتيبها قبل وأثناء وبعد الأكل..!!(13/211)
[16] الطهطاوي رغم قدمه (1826 ـ 1831) لا يزال مثلا لا يقل عن المثل الذي ضربه أنيس منصور لقد عاد ـ على الأقل ـ بغير العقل الذي ذهب.. عاد يتحدث عن الرقص بأنه نوع من العياقة والشلبنة (أي الاناقة والفتوه) ويتحدث عن المشاعر الوطنية بدلا من المشاعر الدينية ويثير الفرعونية (وغيرها من العصبيات التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوها فإنها نتنة) ويترك الحديث عن أخوة الإسلام التي تجمع الجميع تحت لواء لا إله إلا الله محمد رسول الله وعلى طريق الطهطاوي قاسم أمين الذي درس في مدرسة الحقوق المصرية ذات المناهج الفرنسية وتخرج في سنة 1881 ثم ذهب إلى فرنسا يستكمل تعليمه العالي ونفس المثل طه حسين!!!.
[17] في تقرير للقس ترد بريدج في مؤتمر لكنوا للتبشير أشار إلى الكلية الإنجيلية (الجامعة الأمريكية بعد ذلك، وإلى الكلية السورية الإنجيلية وإلى كلية الأستانة وكلية المبشرين في كدك باشا ـ كذلك سبق إلى توصية مؤتمر التبشير بالقاهرة إلى إنشاء معهد مسيحي بالمواجهة لأزهر وهو ما نفذ بعد ذلك في صورة الجامعة الأمريكية ويشير معرب كتاب لعبة الأمم إلى أن تسعين بالمائة من قادة حركة القومية العربية الأقحاح هم من خريجي الجامعة الأمريكية ببيروت. ولا تزال هذه الجامعة ناشطة في تقديم مثل هذه الخدمات لدول منطقة الشرق الأوسط) .
[18] وفي سلسلة لمؤسسة فرانكلين الأمريكية رسم لأحسن وسيلة للتربية فبدلا من فصل البنين عن البنات يجب أن نعمل على إشراكهم معاً في الأعمال الممتعة ومواقف اللعب وإذا حدث استلطاف بين بعض البنين والبنات فينبغي النظر إليه على أنه نوع من الصداقة (!) وليس غراما أو عشقاً (!)
وفي مكان آخر: إن خروج الفتيات في صحبة الفتيان من الأمور الطبيعية (!) التي يستطيع معظم الآباء تقبلها في الوقت المناسب على أي حال باعتبارها جانب من جوانب النمو الجسمي للمراهق (!)(13/212)
وفي كتاب آخر فالشوق إلى القبلة أو بعض الغزل الرقيق أو الإنصات إلى قصة فيها تلميحات جنسية كل هذه ليست أموراً شائنة (!!!)
[19] سورة إبراهيم آية 53.
[20] سورة آل عمران آية 132.
[21] سورة الأحزاب آية 45/46.
[22] (راجع أمثلة عديدة قدمناها في بحثنا لمؤتمر الفقه الإسلامي الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام _ ذي القعدة سنة 1396هـ) .
[23] الشورى 21.
[24] بحثنا إلى مؤتمر الفقه الإسلامي حول تطبيق الشريعة الإسلامية أو رسالتنا للدكتوراه المشروعية الإسلامية العليا ومؤلفنا شريعة الله حاكمة ليس بالحدود وحدها.
[25] قال ابن أبي ليلى: قال لي عيسى بن موسى وكان ديانا شديد العصبية للعرب.. من كان فقيه البصرة؟ قلت: الحسن بن الحسن قال ثم من؟ قلت محمد بن سيرين قال: فما هما؟ قلت: موليان.. قال
فمن كان فقيه مكة؟ قلت عطاء بن رباح ومجاهد وسعيد بن جبير وسليمان بن بسله قال فما هؤلاء..؟ قلت موالي قال:
فمن كان فقهاء المدينة؟ قلت: زيد بن أسلم ومحمد بن المنكدر ونافع بن أرنجيح قال فما هؤلاء.
قلت موالي ـ فتغير لونه ثم قال:
فمن كان أفقه أهل قباء؟ قلت: ربيعة الرأي وابن أبي الزناد ـ قال فما كانا قلت من الموالي..
فما زال يسأله عن فقهاء اليمن وخراسان والشام.. وهو يجيبه بأسماء من الموالي حتى بلغ فقهاء الكوفة فقال والله لولا خوفه لقلت الحكم بن عقبة وعمار بن أبي سليمان ولكن رأيت فيه الشر فقلت: إبراهيم النخعي والشعبي قال فما كانا قلت عربيان.(13/213)
[26] يشير معرب كتاب لعبة الأمم إلى أن: أكثر من تسعين في المائة من قادة حركة القومية العربية الأقحاح هم من خريجي الجامعة الأمريكية ببيروت. ولا تزال هذه الجامعة (وكانت تسمى الكلية الإنجيلية السورية) ناشطة في تقديم مثل هذه الخدمات لدول منطقة الشرق الأوسط.. ويشير نفس المؤلف إلى أسماء زعماء القومية وكلهم من المسيحين!
[27] عرض المؤلف لبعض هذه الأعمال في كتابه في الزنزانة
وعرض للبعض الآخر في كتابه عندما يحكم الطغيان الذي لا يزال منذ أكثر من عام ينتظر موافقة الرقابة على إصداره.
[28] لعبة الأمم لمايلزكوبلاند ص 63 65.
[29] كان من بين قررات مؤتمر لنكو سنة 1913 بالهند دخول النساء في أعمال التبشير لتنصير النساء المسلمات وأولادهن وفي مؤتمر القاهرة 1906 بشرزويمر المبشرين ألا يقنطوا إذ من المحقق أن المسلمين قد نما في قلوبهم الميل الشديد إلى علوم الأوربيين وإلى تحرير النساء الغارة على العالم الإسلامي ص 61 ـ 83 من نفس المرجع.
[30] من بحث الدكتور حامد عمار ألقاه في مؤتمر أمريكي أشار إليه الدكتور محمد محمد حسين في حصوننا مهددة من داخلها ـ الناشر مكتبة المنار الكويت ص 48 وما بعدها..
[31] هذا أمر اضطرنا لإعلانه في مؤتمر شعبي انعقد في شبراخيت في رمضان 1396 (محافظة البحيرة) بمصر.. بعدما اطلعنا على ما يؤكده رسمياً..
[32] ادعت بريطانيا الصداقة لمصر أثناء احتلالها.. وادعى نابليون من قبل الإسلام وأعلن خليفته في مصر فعلا إسلامه.
وعندما اقتربت جيوش الألمان من مصر كان المنشورات فيها توزع بإسم محمد هتلر!!..
[33] راجع ما كتبه مورو بيرجر ـ الكاتب الأمريكي ـ عن أن النخبات الوطنية أقدر من النخبات الأجنبية في إحداث التغيير الإجتماعي المطلوب.. وتحذيره من الاكتفاء بمجرد فرض التغير بل لابد من تعهده حتى يعمق في نفوس المجتمع(13/214)
[34] المرجع السابق ص 304 ـ 305 ويذكر صراحة مايلزكوبلاند في لعبة الشعوب كان انقلاب حسني الزعيم يوم 30 آذار (مارس) 1949 من اعدادنا وتخطيطنا لعبة الأمم ـ ص 49 ثم يقول في ص 58 وكان قرارنا الأخير ـ أن تكون مصر خطوتنا الجديدة..
[35] هذا الحكم منشور في كتابنا في الزنزانة ـ الناشر دار الشروق ـ 1395هـ
[36] ، 37 لعبة الامم ص27، ص 26
[38] ، 39، 40 العالم العربي اليوم ص 312، ص 314، 340 وراجع ما قدمنا ـ والمقصود بتغربا الميل إلى الغرب في قيمه ومثله بدلا من قيم الإسلام ومثله..
[41] وفي هذا السبيل لاباس أن تسمح الجهات الأجنبية بمهاجمتها لتكسب مزيدا من الصفات الوطنية ولتكسب استحسان الجماهير وحماستها وفي هذا المعنى يقول مايلزكوبلاند.. فإن مساندتنا لأي زعيم للوصول إلى دست الحكم والبقاء هناك حتى يحقق لنا بعض المصالح التي نريدها لابد أن يرتطم بالحقيقة القاسية وهي أنه لابد من توجيه بعض الاساءات لنا حتى يتمكن من المحافظة على السلطة ويضمن استمرارها (ص 55 عن كتاب لعبة الأمم..) ..
وفي الوقت نفسه يقول السياسي الصهيوني مستر سكوثمان في مقال يرثي فيه زعيما عربيا كان الرجل الوحيد الذي اقتنع بضرورة التعايش السلمي مع اسرائيل وكانت لديه الجرأة والسلطة الكافية لايجاد الظروف اللازمة لهذا التعايش ص ز ـ مقدمة كتاب الدبلوماسية والميكانيكية في العلاقات العربية الأمريكية ـ دكتور محمد صادق..
وفي مكان آخر يقول مايلز كوبلاند
إن الهدف الرئيسي من دعمنا (…) هو رغبتنا في توفر زعيم عربي رئيسي يتمتع بنفوذ قوي على شعبه وعلى بقية العرب له من القوة ما تمكنه أن يتخذ ما شاء من القرارت الخطيرة وغير المقبولة من الغوغاء مثل عقد صلح مع اسرائيل (ص 89 لعبة الأمم) .
[42] يقول مايلز كوبلاند: وكان مبتغانا أن ندفع إلى الرئاسة حكاما أكثر شغفا بالسلطة ص 59 من لعبة الأمم(13/215)
[43] ص 63 ـ 65 من كتاب لعبة الأمم.
[44] لاشك أن لها أشكالا قديمة قال بها الفوضويون والهدامون من أصحاب الفلسفات القديمة، ويمكن الرجوع إلى كتب التاريخ وكتب الفلسفة لاستقصاء ذلك ليبين.. أن ما نادى به ماركس لم يكن جديدا.. وإنه في حقيقته لا يحوي شيئا من التقدم أو التقدمية.. بل هو الرجعية شكلا.. بما كرر من صور للفكر قديمة، ثم هو رجعية موضوعاكما سنبين بإذن الله في شرح المبدأ..
[45] راجع أفيون الشعوب للأستاذ عباس محمود العقاد ـ الطبعة الخامسة سنة 1975 الناشر ـ دار الاعتصام ـ القاهرة..
[46] بحثا قيما لوحيد الدين خان في مؤتمر الفقه الإسلامي المنعقد بالرياض في ذي القعدة سنة 1396هـ.
[47] وظهور الماركسية في روسيا يومئذ مجتمع زراعي متخلف كان أول تكذيب عملي لتنبئوات ماركس، الذي تنبأ أن تظهر الشيوعية في مجتمعات متقدمة صناعياً تغلب عليها طبقة العمال مثل ألمانيا وانجلترا..
[48] نقلا عن خطاب اتحاد الطلبة المسلمين في شرق أوربا إلى كل من وزير الخارجية السعودي وإلى الرئيس العام لإدارة البحوث العلمية والافتاء بالمملكة العربية السعودية الأول رقم 42 في 15 جمادى الأول سنة 1396، الثاني في 5 جمادى الأول 1396 هـ.
[49] نقلا عن بيان لاتحاد الطلبة المسلمين في شرق أوربا.
[50] ويؤكد ذلك تصريحه في مكان آخر (ص 163) إلى أن الدين جهد إنساني ويعود فيكذب نفسه حين يسمي الحاد الشيوعية بالحاد القرن العشرين ويميزه عن الحاد القرن الثامن عشر (كان علمويا) يقصد علمي ت ص 143، 144 من ماركسية القرن العشرين وراجع ص 202(13/216)
[51] تقول مجلة كورومويخست السوفيتية الصادرة في أول يناير 64 وإذا اقتضت مراحل التحويل الاشتراكي تعايشا مع العقيدة الدينية.. كما هو الحال في المناطق الإسلامية فان هذا الاهتمام هو من قبيل التدبير المؤقت وفي مكان آخر وفي بعض النظم الاشتراكية الجديدة تجد جماعات من أصحاب المسؤوليات ـ هم اشتراكيون فكرا واقتناعا ـ يمارسون الفرائض الدينية ويؤدونها..
[52] من رأينا أن يحرم على من أعلن أنه ماركسي أو شيوعي دخول المسجد الحرام لأنه باعلانه هذا يكون قد ارتد عن الإسلام وينطبق عليه قول الله {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} (التوبة) ..
[53] راجع هامش الصفحة السابقة(13/217)
توصيات المؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
إن الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة انطلاقا من أهدافها السامية في تبليغ رسالة الإسلام الخالدة إلى العالم عن طريق الدعوة وفي غرس الروح الإسلامية وتنميتها وتعميق التدين العملي في حياة الفرد والمجتمع المبني على إخلاص العبادة لله وحده وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
دعت إلى عقد مؤتمر عالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة بهدف إلى: ـ
أولا: التعريف بالدعوة الإسلامية ومنهاجها الأقوم في توجيه الحياة الإنسانية في كل جوانبها على غايتها الفاضلة التي يسعد بها الإنسان في دنياه وأخراه، وفي توجيه بناء حضارتها بناء متكاملا يلبي دائما مطالب الجسم والروح معا.
ثانيا: الأخذ بأفضل المناهج العلمية وأساليب العملية في إعداد الدعاة، وتمكينهم من أداء رسالتهم.
ثالثا: التطوير العلمي لأساليب الدعوة على ضوء النتائج العملية في حقل الدعوة.
رابعا: دراسة المشاكل والصعوبات التي تعترض مسار الدعوة والعمل على حلها بالوسائل الممكنة.
خامسا: تقوية سبل الاتصال والتعاون بين الهيئات والمؤسسات المعنية بالدعوة الإسلامية، والتنسيق العام لجهود المبذولة في هذا الميدان على الصعيد العالمي، وتنظيم سبل التعاون الإيجابي بين الدعاة.
سادسا: تعزيز الدعوة الإسلامية والتمكين لها من مواجهة التحديات المعادية والتيارات المضادة للإسلام وصدها.
سابعا: المتابعة العلمية لحركة الدعوة الإسلامية وملاحظة اتجاهاتها وتقويم نتائجها وآثارها والعمل المشترك على تعزيزها وتعميق مسارها وتحقيق أهدافها.(13/218)
وقد تم بعون الله وتوفيقه عقده في مقر الجامعة في طيبة الطيبة دار هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعاصمة الإسلام الأولى في الفترة من 24 إلى 29 صفر 1397 هـ واشترك فيه علماء ودعاة من نحو سبعين قطر من أقطار العالم هي: ـ
الأردن ـ إريتريا ـ أثيوبيا ـ الأرجنتين ـ أسبانيا ـ أستراليا ـ أفغانستان ـ ألمانيا الغربية ـ الإمارات العربية ـ إندونيسيا ـ إيران ـ إيطاليا ـ باكستان ـ البحرين ـ البرازيل ـ بريطانيا ـ البرتغال ـ بلجيكا ـ تايلند ـ تركيا ـ تشيلي ـ تنزانيا ـ تونس ـ الجابون ـ جامبيا ـ الجزائر ـ جزر القمر ـ جنوب إفريقيا ـ الدانمارك ـ روديسيا ـ زائير ـ ساحل العاج ـ السنغال ـ السودان ـ سوريا ـ سيلان ـ سيراليون ـ العراق ـ عمان ـ غانا ـ الفلبين ـ فلتا العليا ـ فلسطين ـ قطر ـ كندا ـ الكويت ـ الكنغو برازفيل ـ كينيا ـ لبنان ـ ليبيا ـ ليبيريا ـ مالي ـ ماليزيا ـ محلديب ـ مدغشقر ـ مصر ـ المغرب ـ موريتانيا ـ موريشيس ـ موزمبيق ـ نيبال ـ نيجيريا ـ الهند ـ هولندا ـ الولايات المتحدة الأمريكية ـ اليابان ـ اليمن ـ يوغوسلافيا ـ اليونان.
كما حضر وشارك في أعماله علماء ودعاة كثيرون من المملكة العربية السعودية
وقد انبثق عن المؤتمر خمس لجان لبحث الموضوعات الرئيسية التالية: ـ
(1) مناهج الدعوة الإسلامية ووسائلها وأساليبها وسبل تعزيزها وتطوير أدائها بما يحقق أهدافها في عالمنا المعاصر.
(2) إعداد الدعاة.
(3) مشاكل الدعوة والدعاة في العصر الحديث ووسائل التغلب عليها.
(4) وسائل الإعلام ودورها في توجيه الأفراد والجماعات والمجتمعات وآثارها المضادة للدعوة الإسلامية وما يجب اتخاذه بازائها.
(5) الدعوات والاتجاهات المضادة للإسلام وسبل مقاومتها.
وقد انتهى المؤتمرون على التوصيات التالية: ـ
في مجال الدعوة الإسلامية ووسائلها(13/219)
وأساليبها وسبل تعزيزها وتطوير أدائها
بما يحقق أهدافها في عالمنا المعاصر:
انطلاقا من الإيمان بأن الإسلام نظام متكامل ينبثق من القرآن الكريم والسنة المطهرة، وهو منهج الحياة يشمل العقيدة والشريعة والسلوك، ودعوته تقوم على الحكمة والموعظة الحسنة والمسلمون مكلفون بالسير على منهج سلفهم الصالح في الدعوة إلى دينهم وحراسة تراثهم ولغتهم وقيمهم الرفيعة: ـ
يوصى المؤتمر بما يلي:
(1) مطالبة الحكومات الإسلامية كلها بنبذ القوانين الوضعية والعودة إلى الشريعة الإسلامية {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
(2) التأكيد على وزارات التربية والتعليم في البلاد الإسلامية بتوجيه مزيد من العناية بالقرآن الكريم حفظا وتجويدا ودراسة، وأن تجعل ذلك مادة أساسية وإجبارية في جميع أنواع التعليم ومراحله ربطا للأمة بكتابها العظيم وحفظا لعقيدتها وأخلاقها.
(3) تحذير المسلمين من أعداء السنة الذين يزعمون أن القرآن وحده يكفي في التشريع والاعتقاد والعبادات، فإن هؤلاء أعداء للكتاب والسنة جميعا، والمسلمون يجمعون على أن الإسلام يقوم على الكتاب والسنة معا.. كما قال تعالى {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} والواقع أنه من لم يؤمن بالسنة لم يؤمن بالقرآن.
(4) تنقية مناهج التربية والتعليم ووضعها على أسس إسلامية خالصة والعناية بإعادة كتابة التاريخ الإسلامي بما يبرز أمجاد هذه الأمة بشكل صحيح، وتعميم الدراسات الإسلامية كمادة إجبارية في الجامعات.
(5) إحياء نظام الحسبة في الإسلام وذلك يجعل المجتمع يتحرك في نطاق التعاليم الإسلامية، فتهتم الأمة بإقامة الصلوات وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائر شعائر الإسلام وأحكامه.(13/220)
(6) توجيه العناية الخاصة بالشباب المسلم وتوفير كافة الأنشطة الثقافية والرياضية والاجتماعية وإقامة المعسكرات التي تنميه داخل الإطار الإسلامي.
(7) الاهتمام الخاص بالمرأة من حيث التربية الدينية والثقافة الإسلامية حتى تكون قادرة على القيام بوظيفتها وأداء رسالتها في الحياة.
(8) الاتصال بالجهات المعنية لإنشاء مساجد في كل الجامعات والمعاهد والمصانع وسائر المؤسسات كما تطالب السفارات الإسلامية في الخارج بإنشاء مساجد في مقارها إظهارا لشعائر الإسلام وحفاظا عليها.
(9) العناية بالتوعية الدينية في القوات المسلحة الإسلامية وإنشاء المساجد في ثكناتهم وأماكن تجمعاتهم واختيار أئمة قادرين على التوجيه السليم ومحاربة المذاهب الهدامة.
(10) مطالبة أمانة المؤتمر الإسلامي بجده بإنشاء مسجد في مقر الأمم المتحدة إذ أنه لا يليق أن يسبق اليهود والنصارى إلى إنشاء معبد وكنيسة لهم ويتأخر المسلمون في إقامة بيت الله ويأمل المؤتمر من حكومة المملكة العربية السعودية أن تبادر بذلك.
(11) توحيد يوم العطلة في العالم الإسلامي وجعله يوم الجمعة لا يوم الأحد. واحترام التاريخ الهجري والأخذ به وجعله سابقا على التاريخ الميلادي.
(12) مناشدة الدول الإسلامية أن يكون سفراؤها ممن يمثل الإسلام في خلقه وعمله وأن يعين بكل سفارة ملحق ديني يكون مسؤولا عن شؤون الدعوة.
(13) تعبئة أشرطة علمية تختار بعناية لنشر العقيدة الصحيحة والتعاليم الإسلامية بين الشعوب خصوصا في إفريقيا ويكون ذلك باللغات المحلية وبعض اللغات العالمية الشائعة.
(14) حث الدول الإسلامية على التعاون في بعث الدعاة للبلاد المحتاجة على أن تقدم البلاد التي لديها طاقات بشرية الدعاة. وتقدم البلاد التي لديها القدرة المالية النفقة.(13/221)
(15) تشجيع الجامعيين المتخصصين في الدعوة بالمخصصات المالية المناسبة والحوافز التشجيعية لاستمرارهم في عملهم ورفع مستوى الدعاة بصفة عامة.
(16) حث الحكومات الإسلامية على تخصيص مبالغ في ميزانياتها لنشر الدعوة الإسلامية.
في مجال إعداد الدعاة
الداعية هو العنصر الفعال في الدعوة، ولا تنتصر الدعوة إلا بالداعية الذي يؤمن بها ويحسن عرضها، ويكون نموذجا حيا لتعاليمها. ولهذا تجب العناية بإعداده لأداء رسالته إعدادا متكاملا من جميع الجوانب، وفي ضوء هذه الأهمية للداعية يوصي المؤتمر بما يلي:
(1) ـ العناية بالإعداد العلمي والثقافي للداعية، حتى تكون دعوته على بصيرة، كما أمر الله، بحيث يعرف دعوته، ويعرف عصره، ويعرف من يدعو، وكيف يدعو. وذلك عن طريق منهج متكامل، تشترك في وضعه لجنة من كبار العلماء والدعاة في العالم الإسلامي على أن تتوافر فيه المقومات التالية:
أـ دراسة إسلامية مؤسسة على كتاب الله وسنة رسوله ومنهج السلف الصالح مع العناية بالسيرة النبوية، والحذر من الأحاديث الموضوعة والواهية.
ب ـ دراسة لغوية وأدبية تعين على فهم الإسلام، وحسن عرضه بأسلوب بليغ.
ج ـ دراسة التاريخ الإسلامي، بما فيه من أمجاد وبطولات، واستخلاص العبر منه، وخصوصا من سير الأبطال ورجال الفكر والدعوة في الإسلام، مع التحذير من الزيف والتحريف الذي شاب هذا التاريخ قديما وحديثا.
د ـ القدر المناسب من الثقافة العامة، والعلوم الحديثة، وبخاصة العلوم الإنسانية، على أن يدرسها من يوثق بدينه عقيدة وعملا.
هـ دراسة الأديان والمذاهب المعاصرة، وحاضر العالم الإسلامي وإبراز قضاياه، والقوى المعادية للإسلام، والفرق المنشقة عليه. بحيث يعرف الداعية من معه ومن عليه.
وـ دراسة اللغات الأجنبية حتى يستطيع الدعاة تبليغ رسالة الله بكل لسان تحقيقا لعالمية الرسالة.(13/222)
(2) العناية بالجانب الخلقي للداعية، وذلك بغرس معاني الإيمان وتثبيتها في نفسه، والعمل على إنشاء مناخ إيجابي يعينه على أن يحيا حياة إسلامية قويمة، فإن الداعية يؤثر بخلقه وسلوكه أكثر مما يؤثر بقلمه ولسانه.
(3) إنشاء مدارس ثانوية للدعوة لتربية الدعاة في سن مبكرة مع ضرورة دعم المدارس الموجودة حاليا وبخاصة الموجودة في الأماكن التي فيها النشاط المكثف للحركات المناوئة للإسلام.
(4) إنشاء كليات للدعوة في جهات متعددة من العالم. كلما أمكن ذلك لإعداد الدعاة حسب المناطق التي سيقومون بالدعوة فيها ولسد حاجة كل منطقة حسب متطلباتها.
(5) التنسيق بين كليات الدعوة القائمة حاليا لتوحيد الأهداف والخطط والمناهج والأعمال بالتعاون مع المؤسسات والهيئات القائمة بالدعوة.
(6) إدخال مادة الثقافة الإسلامية في الكليات الجامعية في البلاد الإسلامية على أن تتضمن التعريف بالإسلام عقيدة وعبادة وأحكاما وأخلاقا مع اشتمالها على دراسة واقع الأمة الإسلامية وقضاياها.
(7) التدقيق في اختيار أصلح المتقدمين للالتحاق بمدارس وكليات الدعوة ممن يتوافر الاستعداد المطلوب للداعية من حيث المواهب والصفات الخلقية والخلقية.
(8) تشجيع الطلاب المتقدمين لمدارس وكليات الدعوة بمزايا تعينهم على الالتحاق والاستمرار في دراسة علوم الدعوة.
(9) العناية بانتقاء أساتذة كليات الدعوة من أناس يؤثرون بالقدوة كما يؤثرون بالكلمة بأن يكونوا رجال علم ودعوة معا.
(10) تنظيم دورات تدريبية لمجموعات من الدعاة يمارسون من خلالها مهام الدعوة بطريقة علمية مدروسة مع التعمق في العلوم الإسلامية وتزويد الدارسين بالثقافة العامة الضرورية لمواجهة التيارات المعادية للإسلام.
(11) إقامة دورات تدريبية في مجال الدعوة لغير المتفرغين من الراغبين في العمل للدعوة كالأطباء والمعلمين والمهندسين والتجار وغيرهم.(13/223)
(12) تنظيم لقاءات إسلامية للدعاة للتعارف وتبادل الخبرات ممن يمكنهم من الوقوف على إيجابيات والسلبيات في المناطق التي يدعون فيها.
(13) تزويد الدعاة بما يمكنهم من الوقوف على المذاهب المنحرفة والمبادئ الهدامة لمواجهة التحديات والتيارات المعادية للإسلام.
(14) دعم مراكز والهيئات الإسلامية الموجودة حالياً مع إنشاء مراكز جديدة في البلاد التي بها أقليات مسلمة لإمداد الدعاة بما يحتاجون إليه في أداء رسالتهم.
(15) تزويد مراكز وهيئات الدعوة بالكتب المناسبة والنشرات المتعلقة بالدعوة وأحوال العالم الإسلامي، وإمدادها بالأشرطة التي تسجل فيها محاضرات لكبار المفكرين الإسلاميين.
(16) دعوة الجامعات في البلاد الإسلامية بأن تخصص منحاً دراسية لأبناء الأقليات الإسلامية ليتلقوا علومهم في الكليات النظرية والعملية كالطب والهندسة وغيرهما.
(17) الاهتمام بإعداد الداعيات المسلمات، نظراً لخطورة الميدان النسائي، وتأثير المرأة في الأسرة والمجتمع، واستغلال الحركات الهدامة، والقوى المناوئة للإسلام له، وحرصها على غزوه وكسبه في صفها.
(18) تدريب طلاب كليات وأقسام الدعوة على ممارسة الدعوة إلى الله ممارسة عملية على غرار ما يتم في كليات التربية ودور إعداد المعلمين.
في مجال مشاكل الدعوة والدعاة:
أولاً: تظهر بين الدعاة أفراداً وجماعات خلافات متنوعة منها ما هو في أمور العقيدة ومنها ما هو في فروع الفقه ومنها ما هو في أسلوب العمل ولذلك فإن المؤتمر يوصي بما يلي:-
1ـ اعتماد القرآن والسنة في مجال الدعوة أساساً وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم منهاجاً، وتربية المسلمين تربية عملية على عقيدة التوحيد الخالص الخالي من البدع والخرافات.(13/224)
2ـ توكيد أن الخلافات الفرعية لا يجوز أن تكون مثار خصومة وشقاق وأن توحيد الصف الإسلامي فريضة لازمة تجاه الخصوم الكثيرين الذين تألبوا عليه.
3ـ وضع مناهج عمل مشتركة لتوحيد المفاهيم والأفكار لدى الدعاة على ضوء الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح من قبل لجان متخصصة تدعو إليها أمانة المؤتمر تشترك فيها بعض الحركات والهيئات الإسلامية العاملة في ميدان الدعوة.
ثانياً: إن نقص المعلومات المختلفة في العالم لدى الداعية يقلل من أثر الدعوة ويفقد الدعاة مادة حية لمعالجة أسلوب دعوتهم بما يكفل نجاحها سواء أكانت معلومات جغرافية أو سياسية أو اقتصادية عن بلدان العالم أو عن السكان عدداً ونوعاً أو عن أحوال المسلمين في بلدان العالم الإسلامي أو الأقليات ويوصي المؤتمر بما يلي:-
1ـ العمل على إقامة مراكز معلومات متكاملة تضم معلومات عن العالم وعن الحركات الإسلامية وأحوال المسلمين مستفيدة مما توصل إليه العلم الحديث في تجميعها وتصنيفها.
2ـ توفير هذه المعلومات للمتخصصين لتحليلها وتوفير خلاصات عنها توضع تحت تصرف الدعاة أفراداً وجماعات وهيئات شعبية ورسمية.
3ـ تقوم المراكز بإحصاء الكفايات في مجال الدعوة الإسلامية والعمل على الاستفادة منها إلى أقصى حد ممكن داخل بلادها وخارجها.
4ـ وعلى المراكز تقديم تجارب الحركات الإسلامية في العصر الحديث للعاملين في ميدان الدعوة.
ثالثا: إن غياب المجتمع الإسلامي الذي يكون نموذجاً حياً لأنظمة الإسلام يمثل عقبة صعبة أمام الدعوة، ولكي يقام هذا المجتمع يوصي المؤتمر بالتركيز على مايلي:-
1ـ التركيز على إنشاء المدارس والمؤسسات التعليمية لصياغة المجتمع الإسلامي من خلالها.
2ـ الإهابة بالحركات الإسلامية بوضع برامج بعيدة المدى ذات أهداف مرحلية لإنشاء مجتمعات صغيرة نموذجية في ميدان عملها تشتمل على محاضن أولية للعاملين للإسلام.(13/225)
3ـ مناشدة الهيئات ومنظمات الشباب والطلاب تبنِّي برامج تدريب وصقل لتوفير طاقات وعناصر قيادية للدعوة في مختلف أنحاء العالم الإسلامي.
في مجال وسائل الإعلام:
إن المؤتمرين إذ يقدرون الأثر الخطير لوسائل الإعلام في العصر الحديث ودورها في توجيه الأفراد والجماعات والمجتمعات.. الأمر الذي طويت معه المسافات وتلاشت معه الحدود والذي صار سلاحاً خطيراً تمارسه الدعوات الباطلة بلوغا لأهدافها وغزواً لأوطان غير أوطانها فإنهم في الوقت نفسه يدركون ما تتعرض له أمتنا من غزو إعلامي خطير من الشرق ومن الغرب كل يروج لتجارته وينتصر لمبادئه وعقائده.
ويندد المؤتمر بالهوة السحيقة التي تردَّى إليها إعلامنا ولا يزال يتردى عن جهل من القائمين به أو عليه أو عن علم منهم.. فبدلاً من أن يكون الإعلام في البلاد الإسلامية منارة إشعاع للحق، ومنبر دعوة إلى الخير صار صوت إفساد وسوط عذاب، وخفت صوت الدعوة والدعاة وسط ضجيج الإعلام الفاسد، وسكت القادة فأقروا بسكوتهم أو جاوزوا ذلك فشجعوا وحموا، ورجحت كفة الفساد على كفة الدعوة إلى الله وزلزل الناس في إيمانهم وأخلاقهم وقيمهم ومثلهم..
ولم يعد الأمر يحتمل السكوت من الدعاة إلى الحق.
ومؤتمر الدعوة والدعاة يرفع صوته عاليا لأولي الأمر من الملوك والرؤساء والأمراء في الأمة الإسلامية كلها:
أولا: ليصدروا أوامرهم صريحة إلى أجهزة الإعلام المختلفة ليتقوا الله في الكلمة المنشورة أو المسموعة أو في القصة المكتوبة أو المصورة.. في كل ما يصدر عنهم فيمتنعوا فيه عن الفساد أو الإفساد.. فالحلال بين والحرام بين. وأن يطهروا وسائل الإعلام كلها من إبراز صور النساء لكونها تضر بالمجتمع وتفتنه في عقيدته وأخلاقه.(13/226)
ثانيا: ليصدروا أوامرهم صريحة إلى أجهزة الإعلام المختلفة أن تستقي فيما تقدم من المعين الرباني الصافي ومن الثقافة الإسلامية والمعارف الإنسانية الجادة بحيث يتميز الإعلام الإسلامي بشخصية مستقلة عن سائر أنواع الإعلام العالمية الأخرى.
ثالثا: أن تهتم أجهزة الإعلام المختلفة ـ إلى جانب استقائها من المعين الإسلامي ـ بردِّ الشبه والدعاوى الباطلة الموجهة ضد الإسلام على مستوى العالم كله وأن تولي الأقليات الإسلامية أهمية خاصة وأن يكون البث الإعلامي لا على مستوى البث المضاد بل أرفع منه وبتخطيط علمي مدروس.
رابعا: يراعى اختيار المناهج الصالحة إسلاميا للبث الإعلامي، كما يراعى التوازن بين مناهج التربية وبرامج الترويح المباح بما يضمن عدم طغيان الأخيرة على الأولى، ويركز على وجه الخصوص الاهتمام بالقرآن المرتل مع برامج العقيدة والأخلاق إلى جانب الاهتمام باللغة العربية الفصحى أداء ونشرا وتعليما للأقطار الإسلامية الناطقة بها وشقيقاتها غير الناطقة بها.. وفي كل الأحوال ينبغي التقليل من أوقات الإرسال بما يساعد على حسن أداء الشعائر الإسلامية وبما يتناسب مع حاجة الطلاب إلى التحصيل والمذاكرة.
خامسا: أن تنشأ في البلاد الإسلامية كليات للإعلام الإسلامي وكذلك أقسام للإعلام الإسلامي تتبع الكليات المناسبة لإعداد رجل الإعلام المسلم الصالح الذي يستطيع أن يمد هذا الجهاز الخطير من المعين الإسلامي الصافي.. وحتى تقام هذه الكليات والأقسام لا بد أن تسارع الجامعات الإسلامية القائمة بإدخال مادة الإعلام الإسلامي مع مواد كليات الشريعة والدعوة والقرآن وأصول الدين بالإضافة إلى المواد الإسلامية الحديثة كالفقه السياسي والاقتصاد السياسي وكذلك مادة الغزو الفكري الحديث.
سادساً: يختار رجل الإعلام ممن يطمأن إلى عقيدته وخلقه وسلوكه مع إعداد دورات علمية إسلامية لرجال الإعلام.(13/227)
سابعا: دعم الصالح من الصحافة الإسلامية القائمة، وكذلك وكالات الأنباء الإسلامية والإذاعات الإسلامية المتخصصة، وإنشاء إذاعة عالمية إسلامية ومطابع حديثة كاملة تصدر الكتب الإسلامية والنشرات الإعلامية مع استئجار مساحات في الصحف الأجنبية لنشر الدعوة الإسلامية عن طريقها.
ثامنا: إصدار صحف دورية متخصصة في كل دولة إسلامية تعرض لمشكلات العالم الإسلامي وتدافع عن قضاياه وتبرز المظالم الواقعة على المسلمين المضطهدين بعامة والأقليات المسلمة بوجه خاص.
تاسعا: بما أن المنبر لا يزال له مكان الإعلام الأول فينبغي الاهتمام الزائد بالمسجد وإمامه علميا وأدبيا وماديا مع التركيز على حسن اختيار الأئمة والخطباء الأكفاء وإقامة دورات لهم بما يجعلهم موضع القدوة للمجتمع كله.
عاشرا: العمل على رعاية الإعلام الإسلامي المتخصص للناشئة نشرا وصحافة وبثّّا إذاعيا وتلفزيونيا.. رعاية إسلامية كاملة.
حادي عشر: إنشاء ((نادي القلم الإسلامي)) يضم حامل الأقلام الإسلامية في مواجهة النوادي المنحرفة عقيدة وخلقا.
ثاني عشر: إنشاء اتحاد عام للصحافة الإسلامية لتيسير تبادل الأنباء والموضوعات والأحداث الإسلامية العالمية.
ثالث عشر: مواجهة خطر الكنائس والمدارس التبشيرية ومناشدة القادة المسلمين بالتخلص منها وعدم السماح بإنشائها والترخيص لها وخاصة في دول الخليج وبقية دول الجزيرة.
رابع عشر: إنشاء رقابة في كل دولة إسلامية على الصحف والمجلات والأفلام والمسرحيات حتى تسير على منهج إسلامي.(13/228)
خامس عشر: ونظراً للتعتيم الإعلامي على أخبار العالم الإسلامي فإن المؤتمر يرى أن تقوم رابطة العالم الإسلامي بإنشاء مركز إعلامي يستعين بمعطيات العلم الحديث في أدوات الاتصال ((التلكس وغيره)) ويعتمد في معلوماته على الحركات والجمعيات الإسلامية ومنظمات الشباب والطلاب والدعاة أفراداً وجماعات مع وضع فروع رئيسية في أماكن مهمة لرصد الأخبار والمعلومات وتبليغها فوراً إلى المركز الذي يتولى توزيعها إلى المنظمات والجمعيات.
في مجال الدعوات والاتجهات المضادة للإسلام:
أولا: يرى المؤتمر اعتبار الدعوات والاتجاهات الآتية مضادة للإسلام:
الباطنية، البهائية، القاديانية (الأحمدية) ، التبشير والاستشراق، الرأسمالية الطاغية، الاشتراكية، الشيوعية، الماسونية، اليهودية العالمية (الصهيونية) ، العلمانية، القومية، الإباحية والوجودية.
ثانيا: يوصي المؤتمر بما يلي:
1ـ دعوة الحكومات الإسلامية إلى حل الأحزاب الشيوعية والأحزاب الأخرى المعادية للإسلام وحل الجماعات البهائية والقاديانية والماسونية بفروعها وما شاكلها والقضاء على نشاطها حماية للمسلين من فتنتهم.
2ـ الدعوة إلى تحقيق مبدأ التكافل الاجتماعي الذي جاء به الإسلام عملا بشرع الله وإغلاقا للبواب أمام الدعوات المادية المضادة للإسلام.
3ـ يستنكر المؤتمر التشكيك في نسخ الإسلام للشرائع السابقة فإن الإسلام الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم هو الدين الذي ارتضاه الله لعباده ولا يقبل من أحد سواه وهذا مما لا خلاف فيه بين علماء الإسلام وهو المعلوم من الدين بالضرورة كما قال الله تعالى {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} كما يستنكر استغلال التسامح الديني الذي يتميز به الإسلام لإزالة الفوارق بين الأديان واختلاط الكفر والإيمان وتسوية التوحيد بالتثليث.(13/229)
4ـ توعية المسلمين لإخراجهم من موقف الضعف والمدافعة إلى موقف القوة والمجابهة.
5ـ مناشدة الأمانة العامة للمؤتمر الإسلامي بجده للاتصال بالدول الأعضاء في المؤتمر والأعضاء في هيئة الأمم لكي يعملوا على تمكين المسلمين الذين يعيشون تحت ظل حكم شيوعي من ممارسة شعائر دينهم وإطلاق الحرية الدينية لهم تنفيذا لما جاء في اتفاقية هلسنكي عام 1976، وكذلك العمل على تمكين المسلمين الذين يعيشون في ظل حكم آخر غير إسلامي من ذلك.
6ـ تحذير المسلمين من الدعوة المشبوهة التي روجها أعداء الإسلام لتحديد النسل واستنكار ما تقوم به بعض الحكومات من إجبار المسلمين على تحديد نسلهم بطريق التعقيم الإجباري.
7ـ منع الاختلاط بين الجنسين لصيانة أخلاق المجتمع الإسلامي وإزالة المفاهيم الخاطئة التي روج لها أعداء الإسلام باسم تحرير المرأة.
8ـ العناية باللغة العربية والعمل على نشرها على أوسع نطاق بين المسلمين والتحذير من الدعوات المشبوهة لترويج العامية واستبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية.
9ـ توصية الدول الإسلامية والعربية منها خاصة بإنشاء مراكز ثقافية في مختلف دول العالم لتعليم اللغة العربية ونشر الثقافة الإسلامية.
10ـ يوصي المؤتمر الحكومة السعودية بتبني مشروع دائرة معارف إسلامية على الأساليب العلمية السليمة لتكون مرجعا إسلاميا أصيلا مع العناية ببيان أخطار دائرة المعارف الإسلامية التي وضعها المستشرقون والتي هي حافلة بالأغلاط والمغالطات العلمية في طريقة البحث ومناهجه ومادته فضلا عما فيها من الافتراء على الإسلام وحضارته وتاريخه.(13/230)
11ـ تبصير المسلمين بالمؤامرات اليهودية قديما وحديثا وكشف المخططات الصهيونية التي تعمل للقضاء على الشخصية الإسلامية بنشر الإلحاد والانحلال الخلقي لتصل إلى غرضها في السيطرة على العالم بأسره وحث أهل العلم والفكر على مواصلة النشاط لاطلاع المسلمين على تلك المؤامرات ومجابهتها.
12ـ توصية القائمين على المدارس الإسلامية في إفريقيا وغيرها بإنشاء أقسام مهنية يتدرب فيها الطلاب على بعض الحرف والصناعات التي تمكنهم من كسب رزقهم مع اشتغالهم بالدعوة إلى الله بعد التخرج.
13ـ يذكر المؤتمر بما انتهى إليه المؤتمر الإسلامي المسيحي الذي دعا إليه مجلس الكنائس العالمي المنعقد في جنيف في يونيو 1976 الذي اعترف مبديا أسفه الشديد لأن الإرساليات التبشيرية المسيحية في ديار المسلمين قد تسببت في إفساد الروابط بين المسلمين والمسيحيين كما اعترف بأن تلك الإرساليات كانت تضع نشاطاتها في خدمة الدول الأوربية المستعمرة وتستخدم التعليم وسيلة لإفساد عقائد المسلمين والذي تعهد فيه الجانب المسيحي في المؤتمر بإيقاف جميع الخدمات التعليمية والصحية التي تستخدم لتنصير المسلمين.
ولهذا يوصي المؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة كافة الدول الإسلامية بالعمل على تنفيذ القرار الذي تعهد به المؤتمر الإسلامي المسيحي وذلك بحظر نشاط المؤسسات التبشيرية التعليمية والاجتماعية، وإحلال الهيئات الإسلامية العامة فيها محلها، مع الحذر من السماح بإنشاء المؤسسات مشبوهة تحت أي ستار.
14ـ إحسان اختيار المؤسسات العلمية في الدول الإسلامية لمن يمثلها في كل المؤتمرات التي ترى المشاركة فيها وتزويده بكافة البيانات التي تعينه على أداء مهمته.(13/231)
15ـ تحذير المسلمين من النشاطات المعادية للإسلام التي تتقنع في مؤتمرات بأسماء مختلفة مثل مؤتمر العلوم الإنسانية ونوادي الصداقة والمؤسسات الثقافية والندوات الاجتماعية المشبوهة كالروتاري وليونز واسكان إلى آخره.
16ـ استنكار جميع ما تقدمه وسائل الإعلام في الدول الغربية مثل الروايات المسلسلة التي تظهر المسلمين في صورة مزرية ووضع اسم مكة على نوادي القمار والرقص.
17ـ التحذير بصفة خاصة من البهائية والقاديانية لأن معتنقيها يحاولون التسلل إلى المناصب الهامة في بعض الدول الإسلامية لبث الفرقة وإيقاع الفتنة بين المسلمين والدعوة إلى نحلتهما الكافرة.
18ـ تشجيع الجمعيات الإسلامية التي تعنى بتربية ناشئة المسلمين ودعوتها إلى تنسيق جهودها لصد التيارات المعادية للإسلام.
19ـ مطالبة الحكومات الإسلامية بأن تسعى لدى الدول التي لم تعترف بالإسلام دينا بأن تعترف به لتأمين حقوق المسلمين المقيمين بها وينوه المؤتمر بموقف ((بلجيكا)) بهذا الشأن.
20ـ استنكار ما يجري في بعض الدول من تغيير أسماء المسلمين إجباريا أو حملهم على ذلك بأساليب ملتوية.
21ـ إنشاء اتحاد للهيئات الإسلامية في كل دولة ينظم جهودها ويخطط لها وإعانته بالإمكانات المادية اللازمة تمهيدا لإقامة اتحاد إسلامي أوسع.
22ـ التطبيق العملي ((لمبدأ التناصر بالإسلام)) وذلك:
أـ بمعاونة المسلمين المخلصين على أن يتولوا مراكز التوجيه.
ب ـ وتجميع القوى الإسلامية المبعثرة وتوحيد اتجهاتها.
جـ ـ والدعوة إلى إقامة العلاقات الداخلية والخارجية على أساس الإسلام.
23ـ مطالبة الحكومات الإسلامية ومناشدة المسلمين بمناصرة إخوانهم المضطهدين واستنكار الجرائم البشعة التي ترتكب ضدهم في بعض الدول كالصومال واليمن الجنوبية والفلبين وإريتريا وإثيوبيا وفطاني.(13/232)
24ـ يناشد المؤتمر جميع المسلمين بالاهتمام بتحرير فلسطين وسائر الأراضي المحتلة وتخليص المسجد الأقصى من أيدي اليهود المعتدين.
25ـ حث الجامعات الإسلامية على تتبع افتراءات المستشرقين على الإسلام ونبيه عليه الصلاة والسلام والرد عليهم.
توصيات عامة
يوصي المؤتمر بما يلي:-
1ـ العمل على إيجاد نوع من الحصانة للدعاة لضمان الحفاظ على كرامتهم وحقوقهم وأداء رسالتهم.
2ـ التحري في المساعدات المالية والمنح والعمل على تنظيمها وتوفير الضمانات ليستفيد منها المسلمون المحتاجون إليها.
3ـ ضبط عملية الابتعاث لأبناء المسلمين إلى البلاد الأجنبية بضوابط هي:-
1ـ ألا يكون إلا من ضرورة فلا يبعث في مجال الدراسات الإسلامية والعربية والتاريخ الإسلامي.
2ـ أن يكون بعد الدراسة الجامعية أو بعد ((الماجستير)) .
3ـ حسن اختيار الطالب مع توفير الإشراف الديني الأمين على المبتعثين.
4ـ عمل دورات تثقيفية لتعريف المبتعثين بالمشكلات التي سيواجهونها مثل أنواع الأطعمة والأشربة المحرمة وتقديم أجوبة شافية للشبهات التي يواجهونها.
5ـ مناشدة الحكومات الإسلامية استخدام وسائل الضغط الاقتصادي والسياسي لتوفير الحرية الدينية للأقليات الإسلامية والعمل على تمكينهم من التحاكم إلى الشريعة الإسلامية في قضاياهم الخاصة. وتوجيه إذاعات خاصة لهم. وعقد المؤتمرات في البلاد التي بها أقليات إسلامية لما لها من أثر فعال في نشر الدعوة وتوجيه الأنظار إليها وصد الدعوات المعادية لها.
6ـ إطلاق حرية العمل للجماعات الإسلامية لتسد الفراغ الفكري الملموس في بلاد العرب والمسلمين وهو فراغ تعمل على ملئه الحركات الهدامة المؤيدة من أعداء الإسلام.(13/233)
7ـ ينوه المؤتمر بالجهود التي بذلت لتحقيق التضامن الإسلامي في ميادين العلم والتكنولوجيا ويوصي المؤتمر بمتابعة إقامة المؤتمرات للخبراء والمهندسين والفنيين المسلمين في كافة التخصصات لتبادل المعلومات والاستفادة من الخبرات.
8ـ مطالبة الجهات المسئولة في البلاد الإسلامية وقف المباريات الرياضية وكافة الاجتماعات النيابية والسياسية وغيرها عندما يؤذن للصلاة احتراما لشعائر الله تمكينا لكل مسلم من أداء ما فرض الله عليه في وقته كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} .
9ـ يوصي المؤتمرون إخوانهم المسلمين في لبنان أن يوحدوا كلمتهم على الحق والاستقامة على أمر الله وأن يتكافلوا للوقوف في وجه المؤامرات الخارجية التي تحاك لهم وللمنطقة كلها.
10ـ يوصي المؤتمر بتأليف وفد من أعضائه يحمل توصيات المؤتمر إلى الملوك والرؤساء لاطلاعهم عليها ومطالبتهم بالعمل على تحقيقها أداء للأمانة وإعذارا إلى الله وإبلاغا لدينه.
11ـ يوصي المؤتمر بإنشاء في أمانة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة لمتابعة تحقيق أهداف المؤتمر وتوصياته والاتصال بأعضائه وتلقي مكاتباتهم والعمل على عقد المؤتمر في دورات رتيبة كل ثلاث سنوات.
والمؤتمر إذ ينهي أعماله فيتقدم بالشكر الجزيل لحكومة المملكة العربية السعودية وعلى رأسها جلالة الملك خالد بن عبد العزيز حفظه الله وسمو ولي عهده الأمير فهد بن عبد العزيز الرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية حفظه الله على رعايتهما لهذا المؤتمر وتمكينهما لأعضائه من أداء عملهم الإسلامي في حرية واطمئنان ويسألون الله تعالى أن تبقى هذه الحكومة الجليلة حارسة لشعائر الإسلام ومعلية لمناره في العالمين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(29/2/1397هـ)(13/234)
دليل المؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة
24-29/2/1397هـ / 12-17/1977م
{وَالْعَصْرِ. إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْر. إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ..}
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ..}
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ..}
قال رسول الله صلىّ الله عليه وسلم:
" من دعا إلى هدًى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً.." رواه مسلم
وقال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أناّ خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً. " رواه البخاري
محتوى الدليل
* تقديم.
* الأهداف العامة للمؤتمر.
* الموضوعات الرئيسية للمؤتمر.
* من البحوث المقدمة للمؤتمر، وأسماء الباحثين موزعة على الموضوعات الرئيسية.
* لجان المؤتمر، وأماكنها.
* اللجان التنظيمية للمؤتمر.
* المدعون لحضور المؤتمر: من داخل المملكة وخارجها.
* برنامج المؤتمر.(13/235)
تقديم بقلم عبد المحسن بن حمد العباد نائب رئيس الجامعة الإسلامية
الحمد لله رب العالمين وصلوات الله وسلامه وبركاته على سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
فإن الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة إدراكاً لأهمية رسالتها وقياماً ببعض واجبها وانطلاقاً من أهدافها السامية فكرت في عقد مؤتمر عالمي لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة يلتقي من شاء الله من الدعاة لتدارس شئون الدعوة الإسلامية وسبل أدائها.
وما كان من جلالة الملك خالد بن عبد العزيز حفظه الله إذ رفعت الجامعة لجلالته التماس موافقته السامية على عقده إلا أن أصدر أمره الكريم بتحقيق هذا الرجاء، ثم ما كان من سمو ولي عهده الأمير فهد بن عبد العزيز الرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية حفظه الله، إلا أن تفضل مشكوراً بالموافقة على افتتاحه.
وإن انعقاد هذا المؤتمر الهادف في طيبة الطيبة وفي جامعتها الإسلامية العالمية تحت رعاية سمو رئيسها الأعلى وفي هذا العصر بالذات كل ذلك يضفي على هذا المؤتمر أهمية كبرى، فهو أول مؤتمر تعقده هذه الجامعة وموضوعه أهم موضوعه وهو الدعوة إلى الله التي هي وظيفة الرسل وأتباعهم، ومقره دار هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وعاصمة الإسلام الأولى.
وقد جاء هذا المؤتمر في وقت أحوج ما يكون فيه الناس إلى تضافر الجهود في الدعوة إلى الله عز وجل.
والله المسئول أن يكلل جميع المساعي المبذولة لنصرة دين الله بالنجاح، وأن يوفق المسلمين جميعاً لما فيه عزهم وفلاحهم في دنياهم وأخراهم إنه سميع مجيب.
الأهداف العامة للمؤتمر
أولاً: التعريف بالدعوة الإسلامية ومنهاجها الأقوم في توجيه الحياة الإنسانية في كل جوانبها إلى غايتها الفاضلة التي يسعد بها الإنسان في دنياه وأخراه، وفي توجيه بناء حضارتها بناء متكاملاً يلبي دائماً مطالب الروح والجسم معاً.(13/236)
ثانياً: الأخذ بأفضل المناهج العلمية والأساليب العملية في إعداد الدعاة وتمكينهم من أداء رسالتهم.
ثالثاً: التطوير العلمي لأساليب الدعوة على ضوء النتائج العملية في حقل الدعوة.
رابعاً: دراسة المشاكل والصعوبات العامة التي تعترض مسار الدعوة والعمل على حلها بالوسائل الممكنة.
خامساً: تقوية سبل الاتصال والتعاون بين الهيئات والمؤسسات المعنية بالدعوة الإسلامية، والتنسيق العام للجهود المبذولة في هذا الميدان على الصعيد العالمي، وتنظيم سبل التعاون الإيجابي بين الدعاة.
سادساً: تعزيز الدعوة الإسلامية والتمكين لها من مواجهة التحديات المعادية والتيارات المضادة للإسلام وصدها.
سابعاً: المتابعة العلمية لحركة الدعوة الإسلامية وملاحظة اتجاهاتها وتقويم نتائجها وآثارها والعمل المشترك على تعزيز وتعميق مسارها وتحقيق أهدافها.
الموضوعات الرئيسية للمؤتمر
يتناول المؤتمر بالباحث والمناقشة الموضوعات الرئيسة التالية:
(1) مناهج الدعوة الإسلامية ووسائلها، وأساليبها، وسبل تعزيزها، وتطوير أدائها بما يحقق أهدافها في عالمنا المعاصر.
(2) إعداد الدعاة.
(3) مشاكل الدعوة والدعاة في العصر الحديث، ووسائل التغلب عليها.
(4) وسائل الإعلام ودورها في توجيه الأفراد والجماعات والمجتمعات، وآثارها المضادة للدعوة الإسلامية وما يجب اتخاذه بإزائها.
(5) الدعوات والاتجاهات المضادة للإسلام، وسبل مقاومتها.
من البحوث التي قدمت للمؤتمر
(أ) في إطار الموضوع الأول
عنوان البحث
اسم الباحث
فضل الدعوة إلى الله وحكمها وأخلاق القائمين بها
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الدعوة الإسلامية
سماحة الشيخ عبد الله غوشة
رئيس قضاة الأردن(13/237)
بعض سمات الدعوة المطلوبة في هذا العصر
فضيلة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي
رئيس ندوة العلماء ـ لكهنو ـ الهند
عالمية الرسالة بين النظرية والتطبيق
فضيلة الشيخ محمد الغزالي
رئيس قسم الدعوة وأصول الدين بجامعة الملك عبد العزيز
أهمية الدعوة
اللواء الركن محمود شيت خطاب
الدعوة إلى الله
فضيلة الشيخ مصطفى أحمد العلوي
مدير دار الحديث الحسنية ـ الرباط ـ المغرب
الدعوة والدعاة في منهج القرآن الكريم
فضيلة الشيخ محمد أبو طالب شاهين
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية
الدعوة كما نتبينها في السنة والسيرة
الدكتور أحمد محمود الأحمد
عضو هيئة التدريس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية
دور المسجد في الدعوة
الدكتور محمود ميرة
وكيل عمادة شئون المكتبات بالجامعة الإسلامية
دور المدرسة في الدعوة
فضيلة الشيخ عبد الرؤوف سعيد عبد الغني اللبدي
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية
من هنا فلنبدأ أعمالنا للدعوة
فضيلة الشيخ محمد المجذوب
المحاضر بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية
تحكيم الشريعة الإسلامية
الدكتور إبراهيم جعفر السقا
عضو هيئة التدريس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية
اللغة العربية والدعوة الإسلامية
الدكتور محمد نايل
عميد كلية اللغة العربية والآداب بالجامعة الإسلامية
(ب) في إطار الموضوع الثاني:
عنوان البحث
اسم الباحث
كيفية إعداد الدعاة
الدكتور أحمد أحمد غلوش
عضو هيئة التدريس بكلية التربية بجامعة الرياض
ثقافة الداعية ومصادرها
الدكتور يوسف القرضاوي
رئيس قسم الدراسات الإسلامية بكلية التربية ـ قطر
مراعاة الداعية المسلم لأحوال البيئة والمخاطبين
فضيلة الشيخ محمد المبارك(13/238)
الأستاذ والمستشار بجامعة الملك عبد العزيز
تدريب الدعاة
الدكتور أحمد هاشم
عضو هيئة التدريس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية
دور الجامعة في إعداد الدعاة
فضيلة الشيخ عبد العزيز عمر الربيعان
مدير معهد الدراسة المتوسطة التابع للجامعة الإسلامية
التربية الإسلامية في صياغة الداعية
الأستاذ عابد توفيق الهاشمي
عضو هيئة التدريس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية
واجب الدعاة والمبلغين
الحاج أحمد شيخو
رئيس المنظمة الإسلامية العالمية (جاكرتا) ورئيس نهضة العلماء (بأندونيسيا)
(ج) في إطار الموضوع الثالث:
عنوان البحث
اسم الباحث
مشكلات الدعوة والدعاة في العصر الحديث وكيفية التغلب عليها.
الدكتور محمد حسين الذهبي
الأستاذ بجامعة الأزهر
بين يدي العلاج
الدكتور عبد السلام الهراس
الأستاذ بكلية الآداب جامعة محمد بن عبد الله ـ بفاس ـ المغرب
المشكلات والصعوبات التي تعترض سبيل الدعوة والدعاة
الأستاذ أحمد محمد جمال
أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الملك عبد العزيز
مشكلات الدعوة والدعاة في العصر الحديث
فضيلة الشيخ محمد أمان علي
عميد كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية بالنيابة
إعداد الداعية ومعالجة بعض مشاكل الدعوة
فضيلة الشيخ محمد محمد أبو فرحة
المحاضر بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية
مشاكل الدعوة والدعاة إلى الإسلام في العصر الحديث
فضيلة الشيخ عبد الله عثمان الكوكي
مدير مكتب رابطة العالم الإسلامي (ببرازافيل)
التعليم في بلاد المسلمين وكيف يكون إسلاميا
فضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي
المدرس بالمعهد الثانوي التابع للجامعة الإسلامية(13/239)
التقدم العلمي والحضاري في هذا العصر وما يستتبعه من آثار معاكسة لدعوة الإسلام.
فضيلة الشيخ زهير الخالد
المدرس بالمعهد الثانوي التابع للجامعة الإسلامية
موقف الدعوة الإسلامية من الطرق الصوفية.
الشيخ سعد ندا
المدرس بالمعهد الثانوي التابع للجامعة الإسلامية
(د) في إطار الموضوع الرابع:
عنوان البحث
اسم الباحث
رسالة الإعلام في بلاد الإسلام وعلاقتها بالدعوة الإسلامية
فضيلة الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري
مدير الشؤون الدينية في قطر
الدعوة الإسلامية ووسائل الإعلام
الدكتور عبد المنعم محمد حسنين
الأستاذ بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية
الإعلام والدعوة الإسلامية
الدكتور محمد علي جريشة
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية
أصول الإعلام الحديث وتطبيقاته الإسلامية
فضيلة الشيخ إبراهيم محمد سرسيق
المحاضر بكلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية
نحو إعلام إسلامي
الشيخ محمد المجذوب
المحاضر بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية
رسالة الإعلام في بلاد الإسلام
الشيخ طه عبد الفتاح مقلد
عضو هيئة التدريس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية
(هـ) في إطار الموضوع الخامس:
عنوان البحث
اسم الباحث
أساليب الدعوات المضادة وأهدافها وآثارها وسبل مقاومتها
الدكتور محمد حسن فايد
مدير جامعة الأزهر
الاستشراق وجهوده وأهدافه في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته
الدكتور عبد المنعم محمد حسنين
الأستاذ بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية
الأساليب التبشيرية في العصر الحديث
الدكتور محمد علي جريشة
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية
الخطر الشيوعي في بلاد الإسلام
الدكتور محمد شامة(13/240)
عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للدعوة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود
الشيوعية وتأثيراتها على الدعوة الإسلامية
فضيلة الشيخ إبراهيم محمد سرسيق
المحاضر بكلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية
الخطر الشيوعي في بلاد الإسلام وأثره على الدعوة الإسلامية
فضيلة الشيخ محمود عبد الوهاب فايد
المحاضر بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية
تحالف الصهيونية والمسيحية لمحاربة الإسلام وإضعاف المسلمين
فضيلة الشيخ محمد شريف الزيبق
المحاضر بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية
المذاهب والاتجاهات الإلحادية والمعادية للإسلام والفرق المرتدة والزائغة وتحديد موقف الإسلام والمسلمين منها
فضيلة الشيخ أحمد صالح محايري
مبعوث رياسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد إلى البرازيل
لجان المؤتمر
لجان المناقشة:
ينقسم المؤتمر إلى خمس لجان تختص كل لجنة بموضوع من الموضوعات الرئيسية الخمسة السابقة الذكر كما يلي:
اللجنة الأولى
مناهج الدعوة الإسلامية ووسائلها، وأساليبها، وسبل تعزيزها، وتطوير أدائها بما يحقق أهدافها في عالمنا المعاصر.
اللجنة الثانية
إعداد الدعاة.
اللجنة الثالثة
مشاكل الدعوة والدعاة في العصر الحديث، ووسائل التغلب عليها.
اللجنة الرابعة
وسائل الإعلام ودورها في توجيه الأفراد والجماعات والمجتمعات، وآثارها المضادة للدعوة الإسلامية وما يجب اتخاذه بإزائها.
اللجنة الخامسة
الدعوات والاتجاهات المضادة للإسلام، وسبل مقاومتها.
اختيار أعضاء اللجان:
(1) تقدم لعضو المؤتمر بطاقة (اختيار لجنة مناقشة البحوث) لتعيين اللجنة التي يرغب في الاشتراك فيها. وقد اشتملت البطاقة على رغبتين (أولى، وثانية) لتنسيق الاشتراك في اللجان.(13/241)
(2) ثم تعد كشوف بأسماء حضرات أعضاء المؤتمر موزعين على اللجان، وتقدم لهم قبل انعقاد اللجان.
رؤساء اللجان ومقرروها
يكون لكل لجنة رئيس ومقرر يختارهما أعضاؤها في بداية أول اجتماع لها.
أماكن اللجان
خصصت خمس قاعات بمبنى كلية الشريعة لتكون أماكن للجان المؤتمر.
مواعيد عمل اللجان:
من الساعة العاشرة حتى الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً يوم الأحد 25/2/1397هـ ومن الساعة الثامنة والنصف حتى الساعة الحادية عشرة والنصف من صباح أيام الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء 26 و27 و28 /2/1397هـ
لجنة الصياغة العامة
تتألف لجنة عامة لصياغة توصيات المؤتمر من المقرر العام للمؤتمر ومقرري اللجان الخمس. واثنين تختارهما الجامعة.
وتجتمع لجنة الصياغة العامة عقب صلاة العصر أيام: الأحد، والاثنين، والثلاثاء، 25 و26 و27/2/1397هـ وتنتهي من صياغة التوصيات وتنسيقها وإعدادها للعرض على أعضاء المؤتمر في اجتماعها عقب صلاة العصر يوم الأربعاء 28/2/1397هـ.
اللجان التنظيمية للمؤتمر
اللجنة العامة
الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
الشيح محمد عمر فلاتة
الشيخ عبد الله الفوزان المحمد
الشيخ محمد أحمد بخيت
لجنة الاستقبال
الشيخ عمر محمد فلاتة
الشيخ محمد أمان علي
الدكتور محمد نايل
الدكتور محمود ميرة
الدكتور محمد حمود الوائلي
الدكتور أكرم العمري
الدكتور صالح عبد الله المحيسن
الدكتور أحمد الأحمد
الشيخ عبد العزيز محمد القويفلي
الشيخ أحمد الملاح
لجنة الإعلام:
اللجنة الإدارية والمالية:
الدكتور عبد المنعم محمد حسنين
الشيخ عبد الله الفوزان المحمد
الدكتور أحمد عبد الله هاشم
الأستاذ محمد العثمان العمر
الدكتور علي محمد جريشة
الشيخ عبد الله القادري
الشيخ إبراهيم محمد سرسيق(13/242)
الأستاذ عبد الله الباحوث
الشيخ سعد ندا
الأستاذ محمد عمران دهيثم
الأستاذ عبد الهادي كابلي
لجنة السكرتارية:
الأستاذ محي الدين عزمي
الأستاذ رزيق جابر الرحيلي
الأستاذ محمد عبد اللطيف إبراهيم
الأستاذ محمد اخضر مدني
الأستاذ محمد عيد محسن
الأستاذ حاسن بن محسن الأحمدي
وقد انبثقت من بعض هذه اللجان لجان فرعية أخرى اشترك فيها عدد من أساتذة الجامعة والطلاب والموظفين للمعاونة في تنفيذ خطة المؤتمر.
المدعوون لحضور المؤتمر
(أ) من خارج المملكة العربية السعودية
مسلسل
الدولة
الاسم
الوظيفة
1
الأردن
الدكتور إسحاق الفرحان
رئيس جامعة الأردن
الأردن
الشيخ عبد الله غوشة
رئيس قضاة الأردن
الأردن
معالي الأستاذ كامل الشريف
وزير الأوقاف بالأردن
الأردن
الأستاذ محمد الشقرة
مدير إدارة الأوقاف بالأردن
2
إرتريا
الشيخ عمر إدريس
مبعوث رياسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
3
إثيوبيا
الشيخ جبريل علي الهرري
مبعوث رياسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
إثيوبيا
الشيخ محمد جامع
مبعوث رياسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
4
الأرجنتين
الشيخ أحمد أبو العلا خليل
إمام المسلمين بالأرجنتين ومبعوث وزارة الأوقاف المصرية
5
أسبانيا
الأستاذ رامز الأتاسي
رئيس الجمعية الإسلامية بأسبانيا
6
أستراليا
الدكتور عبد الخالق قاضي
نائب رئيس اتحاد الجمعيات الإسلامية بأستراليا
7
أفغانستان
الأستاذ أسد الله الشنيواري
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بكابل
8
ألمانيا الغربية
الأستاذ عصام العطار
عضو بالمركز الإسلامي بأخن(13/243)
ألمانيا الغربية
الشيخ محمد صديق
عضو بالمركز الإسلامي بأخن
9
الإمارات العربية
أبو ظبي
الشيخ أحمد عبد العزيز المبارك
رئيس القضاة في أبي ظبي
الشارقة
الشيخ عبد الله بن علي المحمود
رئيس المركز الإسلامي بالشارقة
رأس الخيمة
الشيخ محمد العبد الله العجلان
مدير المعهد العلمي برأس الخيمة
10
إندونيسيا
الحاج أحمد شيخو
رئيس المنظمة الإسلامية العالمية (جاكرتا) ورئيس نهضة العلماء بإندونيسيا
إندونيسيا
الدكتور محمد ناصر
رئيس المجلس الأعلى الإندونيسي للدعوة الإسلامية
11
إيران
الشيخ محمد ضيائي بن محمد صالح
داعية إسلامي
12
إيطاليا
الشيخ عبد الحميد حداره
مدير المركز الثقافي بإيطاليا
إيطاليا
الشيخ عدنان عمودي
سكرتير اتحاد الطلاب المسلمين بإيطاليا
13
باكستان
الشيخ طفيل محمد
أمير الجماعة الإسلامية بباكستان
باكستان
الشيخ عبد الرحيم أشرف
داعية إسلامي
باكستان
الشيخ عبيد الرحمن عبد الرحمن
مبعوث رياسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
باكستان
الشيخ خليل أحمد الحامدي
داعية إسلامي
14
البحرين
الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة
وزير الشئون الاجتماعية بالبحرين
15
البرازيل
الشيخ أحمد صالح محايري
مبعوث رياسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
16
بريطانيا
الأستاذ خورشيد أحمد
مدير المؤسسة الإسلامية (لندن)
بريطانيا
الشيخ صهيب عبد الغفار حسن
مبعوث رياسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
بريطانيا
الشيخ عاشور أبو عبيد الله الشامي
سكرتير دار الرعاية الإسلامية بلندن
17
البرتغال
الدكتور سليمان والي محمد(13/244)
18
بلجيكا
الشيخ محمد العلويني
الإمام والمدير للمركز الإسلامي والثقافي في بلجيكا
19
تايلاند
الشيخ علي عيسى
مدير مكتب رابطة العالم الإسلامي بتايلاند
20
تركيا
الشيخ محمد أمين سراج
من علماء تركيا
تركيا
الشيخ زكريا بياز
تركيا
الدكتور مصطفى بلكه
أستاذ بجامعة استنبول
تركيا
الشيخ صالح أوزجان
عضو المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي
21
تشيلي
الشيخ توفيق محمد رومية
22
تنزانيا
الشيخ جابر بن يوسف كاتورا
تنزانيا
الشيخ عباس مصطفى المقبول
مبعوث رياسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
23
تونس
الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة
مفتي الجمهورية التونسية
تونس
الشيخ مصطفى كمال التارزي
مدير الشعائر الدينية
24
الجابون
الشيخ حمادي بوريما
مبعوث رابطة العالم الإسلامي
25
جامبيا
الشيخ أحمد خالد عبد القادر البنا
مبعوث رياسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
26
الجزائر
الشيخ عبد اللطيف علي السلطاني
الجزائر
الشيخ أحمد سحنون
27
جزائر القمر
الشيخ عمر عبد الله
28
جنوب إفريقيا
الشيخ محمد صالح الدين
29
الدنمارك
الشيخ محمد درمنجي مصطفى
مبعوث رابطة العالم الإسلامي
30
روديسيا
الشيخ آدم موسى مكدا
مبعوث رياسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
31
زائير
الشيخ عوام شعبان
مبعوث رياسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
32
ساحل العاج
الشيخ أبو بكر فوفانا
عضو جماعة أنصار السنة بساحل العاج
ساحل العاج
الشيخ محمد الأمين كبا
عضو جماعة أنصار السنة بساحل العاج
33(13/245)
السنغال
الحاج عمر صو أحمد
رئيس الاتحاد الإسلامي في السنغال
34
السودان
معالي الدكتور كامل محمد الباقر
مدير جامعة أم درمان الإسلامية
السودان
الشيخ محمد الحسن عبد القادر
رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية في كسلا
السودان
الشيخ محمد هاشم الهدية
رئيس جماعة أنصار السنة في السودان
35
سوريا
الدكتور محمد أديب صالح
رئيس قسم علوم القرآن والسنة بكلية الشريعة بجامعة دمشق
سوريا
الشيخ محمد ناصر الدين الألباني
عضو المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
سوريا
الشيخ محمد نسيب الرفاعي
داعية إسلامي
36
سيلان
الشيخ محمد قاسم البي
مبعوث رياسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
37
سيراليون
الحاج جبريل سيسي
داعية إسلامي
سيراليون
الشيخ صالح جانيه
مبعوث رياسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
38
العراق
الدكتور أحمد عبيد الكبيسي
أستاذ مساعد بكلية القانون والسياسة بجامعة بغداد
العراق
الدكتور عبد الكريم زيدان
أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية الآداب جامعة بغداد
العراق
الشيخ محمد بهجت الأثري
عضو المجامع العلمية العربية
اللواء الركن محمود شيت خطاب
عضو المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي
39
عمان
الشيخ أحمد حمد الخليلي
مفتي عمان
40
غانا
الشيخ عبد الصمد حبيب الله
مدير المدرسة الصمدانية بغانا
غانا
الشيخ عمر إبراهيم إمام
مبعوث رياسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
41
فرنسا
الدكتور محمد حميد الله
42
الفلبين
الشيخ أحمد بشير
عضو جمعية إقامة الإسلام بالفلبين
الفلبين
الشيخ محمد صالح عثمان(13/246)
مدير إدارة المعارف والنائب الثاني لرئيس جمعية إقامة الإسلام
43
فلتا العليا
الشيخ أحمد محمد صالح
مبعوث رياسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
44
فلسطين
الشيخ سليم سالم شراب
داعية إسلامي
45
قطر
الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري
مدير الشؤون الدينية بدولة قطر
قطر
الدكتور يوسف القرضاوي
رئيس قسم الدراسات الإسلامية بكلية التربية بقطر
46
الكامرون
الشيخ عبد الرحمن نصر
مبعوث رياسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
47
كندا
الشيخ هشام عبد الحكيم بدران
إمام مسجد الملك فيصل (بتورنتو) ومبعوث رابطة العالم الإسلامي
48
الكويت
الشيخ عبد الله العقيل
مدير الشؤون الإسلامية بوزارة الأوقاف
الكويت
الأستاذ أحمد البسيوني
رئيس تحرير مجلة الوعي الإسلامي الكويتية
الكويت
الأستاذ بدر سليمان القصار
رئيس تحرير مجلة المجتمع الكويتية
الكويت
الأستاذ عبد الرحمن راشد الولاياتي
رئيس تحرير مجلة البلاغ الكويتية
الكويت
الشيخ مصطفى محمد الطحان
الكويت
معالي الشيخ يوسف الجاسم
وزير الأوقاف بدولة الكويت
الكويت
الشيخ يوسف الرفاعي
49
لكنغو برازافيل
الشيخ آدم سيسي
داعية إسلامي
لكنغو برازافيل
الشيخ عبد الله عثمان الكوكي
مدير مكتب رابطة العالم الإسلامي (ببرازافيل)
50
كينيا
السر كمال الدين
مبعوث رياسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
كينيا
محمد إبراهيم خليل
مبعوث رياسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
51
لبنان
الأستاذ فتحي يكن
الأمين العام للجماعة الإسلامية في لبنان
52
ليبيا
الشيخ محمد عبد السلام البشتي(13/247)
داعية إسلامي
الشيخ محمود الناكوع
عضو الندوة العالمية للشباب الإسلامي
53
ليبيريا
الحاج أحمد سيكودوري
ليبيريا
الحاج موسى كريسا
مدير مدرسة التربية الإسلامية (كاكانا) وإمام جامع كاكانا
54
مالي
الشيخ أحمد حماه الله
إمام وخطيب مسجد أهل السنة في (باماكو)
55
ماليزيا
الشيخ محمد حاج أحمد ملاك
ماليزيا
الشيخ يحي الحاج عثمان
نائب القائم بأعمال مدير مركز الدراسات الإسلامية العالية بمدينة كلنتن
56
محاديب
الشيخ إسماعيل محمد علي
57
مدغشقر
الشيخ أبو بكر عبد الله جمل الليل
58
مصر
الشيخ حسنين محمد مخلوف
مفتي الديار المصرية سابقاً
مصر
الشيخ عبد العزيز محمد عيسى
وزير شؤون الأزهر السابق (ج. م.ع)
مصر
الأستاذ عمر التلمساني
رئيس تحرير مجلة الدعوة
مصر
الأستاذ عنتر حشاد
رئيس تحرير مجلة التوحيد
مصر
الأستاذ محمد أحمد عاشور
رئيس تحرير مجلة الاعتصام
مصر
الدكتور محمد حسن فايد
مدير جامعة الأزهر
مصر
الدكتور محمد حسين الذهبي
وزير الأوقاف وشؤون الأزهر السابق (ج. م.ع)
مصر
الشيخ محمد علي عبد الرحيم
رئيس جماعة أنصار السنة (ج. م.ع)
مصر
الشيخ محمد متولي شعراوي
وزير الأوقاف وشؤون الأزهر (ج. م.ع)
59
المغرب
الشيخ أحمد الفحصي
من رابطة الجامعات الإسلامية
المغرب
الشيخ الزبير
القاضي بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء
المغرب
الدكتور عبد السلام الهراس
الأستاذ بكلية الآداب بجامعة محمد بن عبد الله ـ فاس ـ المغرب
المغرب
الشيخ محمد اعراب
داعية إسلامي
المغرب
الحاج محمد الحريزي(13/248)
رئيس جمعية الدعوة إلى الله في المغرب
المغرب
الشيخ مصطفى أحمد العلوي
مدير دار الحديث الحسنية بالرباط
60
موريتانيا
الشيخ محمد المختار جبلة
رئيس المحكمة الابتدائية في إطار (الولاية 7)
موريتانيا
الشيخ محمود باه
داعية إسلامي
61
موريشيوس
الشيخ إخلاص أحمد سعيد أحمد
مبعوث رياسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
موريشيوس
الأستاذ حسين الدهال
مدير الدائرة الإسلامية بموريشيوس
62
موزمبيق
الشيخ أبو بكر حاج موسى إسماعيل
مبعوث رياسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
63
نيبال
الشيخ محمد أيوب نيبالي
64
نيجيريا
أبو بكر جومي
رئيس قضاة شمال نيجيريا
نيجيريا
الشيخ آدم عبد الله الالوري
مدير المركز العربي الإسلامي بأغيفي
نيجيريا
الشيخ سليمان نائبي والي
نيجيريا
الشيخ عبد الرحمن بن عوين
الملحق الديني بالسفارة السعودية بنيجيريا
نيجيريا
الشيخ محمد المنتقي
من علماء نيجيريا
65
النيجر
الشيخ برير مختار آدم
مبعوث رياسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
النيجر
الشيخ نوح محمد إدريس
مبعوث رياسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
66
الهند
الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي
رئيس ندوة العلماء بلكهنو ـ الهند
الهند
الشيخ سعيد الرحمن الأعظمي الندوي
مدير مجلة البعث الإسلامي
الهند
عبد الوحيد عبد الحق السلفي
أمين عام الجماعة السلفية ـ بنارس الهند
الهند
الشيخ مختار أحمد السلفي
عضو مجلس الشورى بالجامعة الإسلامية بتكل
الهند
الأستاذ منكلا عبد العزيز
عضو جمعية التعليم لعموم مسلمي الهند في كيرالا(13/249)
الهند
الدكتور نجاة الله صديقي
67
هولندا
الشيخ عبد الواحد خان بوميل
رئيس المركز الإسلامي في هولندا
68
الولايات المتحدة
الدكتور إسماعيل الفاروقي
رئيس رابطة العلماء الاجتماعيين بالولايات المتحدة وأستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة تنبل فيلادلفيا ـ بنسلفانيا
الولايات المتحدة
الدكتور جمال الدين البزنجي
الولايات المتحدة
الدكتور عزت جردات
رئيس اتحاد الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية
69
اليابان
الدكتور علي حسن علي السمني
الأستاذ بقسم اللغة العربية بجامعة طوكيو للدراسات الاجتماعية
70
اليمن
الشيخ عبد المجيد الزنداني
رئيس مكتب التوجيه والإرشاد بصنعاء
اليمن
الشيخ عمر أحمد سيف
من علماء اليمن
اليمن
الشيخ يحي لطف الغسيل
عضو الهيئة العلمية في صنعاء
71
يوغندا
الشيخ أحمد عبده مدخلي
الملحق الديني بسفارة السعودية في يوغندا
يوغندا
الشيخ علي أبو بكر ميانجو
الأمين العام لمعهد النهضة الإسلامية في يوغندا
72
يوغسلافيا
الشيخ أحمد سمايلوفيتش
رئيس المجلس الإسلامي بيوغسلافيا
73
اليونان
الشيخ محمد أمين شنيك
داعية إسلامي
(ب) من داخل المملكة
الهيئات والؤسسات:
الرياسة العامة للبحوث والإفتاء والدعوة والإرشاد:
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي
نائب رئيس اللجنة الدائمة للإفتاء
فضيلة الشيخ عبد الله الغديان
عضو اللجنة الدائمة للإفتاء
فضيلة الشيخ محمد ناصر العبودي
الأمين العام للدعوة الإسلامية
فضيلة الشيخ محمد بن قعود
مدير الدعوة في الخارج(13/250)
فضيلة الشيخ عبد الله بن فنتوح
مدير الدعوة في الداخل ودول الجزيرة
الإشراف الديني بالمسجد الحرام
سماحة الشيخ عبد الله بن حميد
رئيس الإشراف الديني بالمسجد الحرام ورئيس المجلس الأعلى للقضاء
فضيلة الشيخ محمد بن سبيل
نائب رئيس الإشراف الديني بالمسجد الحرام
هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
معالي الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن حسن آل الشيخ
الرئيس العام لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الرياسة العامة لتعليم البنات:
فضيلة الشيخ ناصر بن حمد الراشد
الرئيس العام لتعليم البنات:
رابطة العالم الإسلامي:
معالي الشيخ محمد الحركان
الأمين العام لرابطة العام الإسلامي
معالي الشيخ محمد صالح القزاز
عضو المجلس التأسيسي للرابطة
فضيلة الشيخ إبراهيم الشورى
مدير إدارة الثقافة بالرابطة
الحرس الوطني:
فضيلة الشيخ ناصر عبد العزيز الشثري
مدير الشؤون الدينية بالحرس الوطني
الندوة العالمية للشباب الإسلامي:
الدكتور عبد الحميد أبو سليمان
الأمين العام للندوة
الدكتور أحمد توتونجي
الأمين العام المساعد للندوة
الأستاذ محمد توفيق زناتي
المؤتمر الإسلامي:
الدكتور أحمد كريم جاي
الأمين العام للمؤتمر
البنك الإسلامي:
الدكتور أحمد محمد علي
رئيس مجلس إدارة البنك
الجامعات:
جامعة الرياض:
معالي الدكتور عبد العزيز بن عبد الله الفدا
مدير الجامعة
الدكتور مصطفى حلمي سليمان
عضو هيئة التدريس بكلية التربية
الدكتور أحمد أحمد غلوش
عضو هيئة التدريس بكلية التربية
الأستاذ محمد لطفي الصباغ
عضو هيئة التدريس بكلية الآداب
الدكتور أحمد العسال
عضو هيئة التدريس بكلية التربية(13/251)
جامعة الملك عبد العزيز:
معالي الدكتور محمد عمر زبير
مدير الجامعة
فضيلة الشيخ محمد الغزالي
رئيس قسم الدعوة وأصول الدين بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالجامعة
فضيلة الشيخ محمد المبارك
الأستاذ والمستشار بالجامعة
فضيلة الشيخ محمد محمد أبو شهبة
أستاذ بالجامعة
فضيلة الشيخ سيد سابق
أستاذ بالجامعة
سعادة الدكتور محمد العروسي عبد القادر
عضو هيئة التدريس بالجامعة
الأستاذ محمد قطب
أستاذ بالجامعة
الأستاذ أحمد محمد جمال
أستاذ الثقافة الإسلامية بالجامعة
جامعة الملك محمد بن سعود الإسلامية:
معالي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي
مدير الجامعة
فضيلة الشيخ مناع خليل القطان
مدير المعهد العالي للقضاء
فضيلة الشيخ سعود بن محمد بشر
وكيل المعهد العالي للدعوة الإسلامية
الدكتور محمد مرسي شامة
عضة هيئة التدريس بالمعهد العالي للدعوة الإسلامية
الأستاذ محمد محمد الراوي
عضو هيئة التدريس بكلية أصول الدين
جامعة البترول والمعادن:
معالي الدكتور بكر عبد الله بكر
مدير الجامعة
جامعة الملك فيصل:
سعادة الدكتور محمد سعيد القحطاني
وكيل الجامعة
من الوزارات:
وزارة التعليم العالي:
الدكتور محمود محمد سفر
وكيل الوزارة
الدكتور أحمد باحافظ الله
عضو هيئة التدريس في جامعة الملك عبد العزيز
الدكتور محمد عبد العزيز آل الشيخ
عضو هيئة التدريس في جامعة الرياض
وزارة المعارف:
سمو الأمير خالد بن فهد بن خالد
وكيل الوزارة للشؤون التعليمية والإدارية وعضو المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية
سعادة الدكتور سعود الجماز
وكيل الوزارة للشؤون الفنية وعضو المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية(13/252)
فضيلة الشيخ محمد محمود الصواف
مستشار الوزارة
فضيلة الشيخ حمد الصليفيح
أمين اللجنة العليا للتوعية بالوزارة
وزارة الحج والأوقاف:
فضيلة الشيخ محمد زكي عوض
مدير التوعية بالوزارة بجدة
وزارة الدفاع والطيران:
فضيلة الشيخ عبد المحسن بن عبد الله آل الشيخ
مدير الشؤون الدينية بالوزارة
فضيلة الشيخ عبد الملك بن إبراهيم آل الشيخ
رئيس هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمنطقة الغربية سابقاً.
فضلة الشيخ عبد العزيز بن صالح
إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف ورئيس محاكم منطقة المدينة المنورة
معالي الشيخ صالح بن عبد الرحمن الحصين
عضو المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
من العلماء
فضيلة الشيخ عبد الرحمن الفريان
من العلماء
فضيلة الشيخ محمد عبد الوهاب البنا
داعية إسلامي
فضيلة الشيخ عبد الرحمن الدوسري
داعية إسلامي
فضيلة الشيخ عبد الله بن محمد الزاحم
مساعد رئيس محاكم منطقة المدينة المنورة
فضيلة الشيخ عطية سالم
قاض بالمحكمة الكبرى بالمدينة المنورة
فضيلة الشيخ بكر عبد الله أبو زيد
قاض بالمحكمة الكبرى بالمدينة المنورة
فضيلة الشيخ سيف بن سعيد اليماني
رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمدينة المنورة
فضيلة الشيخ عبد الله بن حمد الخربوشي
رئيس التوعية الإسلامية بمنطقة المدينة التعليمية
الأستاذ عبد الرحمن التونسي
مدير مدارس الثغر بجدة وعضو مجلس الجامعة سابقاً
الأستاذ عمر عبد ربه
مستشار وزارة المالية وعضو مجلس الجامعة سابقاً
من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة:
فضيلة الدكتور محمد أمين المصري
رئيس قسم الدراسات العليا بالجامعة
فضيلة الدكتور محمد نايل(13/253)
عميد كلية اللغة العربية والآداب
فضيلة الدكتور محمد بن حمود الوائلي
عميد كلية الشريعة بالنيابة
فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله المحيسن
عميد كلية الدعوة وأصول الدين
فضيلة الشيخ عبد العزيز القويفلي
عميد كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية بالنيابة
فضيلة الشيخ محمد أمان علي
عميد كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية بالنيابة
فضيلة الدكتور مصطفى زيد
الأستاذ بشعبة التفسير بالدراسات العليا
فضيلة الدكتور سيد الحكيم
الأستاذ بشعبة السنة بالدراسات العليا
فضيلة الدكتور حمد عبيد الكبيسي
الأستاذ المشارك بشعبة أصول الفقه بالدراسات العليا
فضيلة الدكتور إبراهيم جعفر السقا
عضو هيئة التدريس بكلية الدعوة وأصول الدين
فضيلة الشيخ إبراهيم محمد سرسيق
المحاضر في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية
فضيلة الشيخ أبو بكر جابر الجزائري
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة
فضيلة الدكتور أحمد عبد الله هاشم
عضو هيئة التدريس بكلية الدعوة وأصول الدين
فضيلة الدكتور أحمد محمود الأحمد
عضو هيئة التدريس بكلية الدعوة وأصول الدين
فضيلة الشيخ حسن متولي
المحاضر بكلية الشريعة
فضيلة الشيخ حماد الأنصاري
عضو هيئة التدريس بكلية الحديث الشريف والدراسات لإسلامية
فضيلة الدكتور طه عبد الفتاح مقلد
عضو هيئة التدريس بكلية الدعوة وأصول الدين
فضيلة الشيخ عابد توفيق الهاشمي
عضو هيئة التدريس بكلية الدعوة وأصول الدين
فضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة
فضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة
فضيلة الشيخ عبد الكريم مراد
عضو هيئة التدريس بكلية الدعوة وأصول الدين
فضيلة الشيخ عبد الله الغنيمان
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة(13/254)
فضيلة الدكتور عبد المنعم محمد حسنين
الأستاذ بكلية الدعوة وأصول الدين
فضيلة الدكتور علي محمد جريشة
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة
فضيلة الشيخ عوض معوض إبراهيم
المحاضر بكلية الدعوة وأصول الدين
فضيلة الشيخ محمد شريف الزيبق
المحاضر بكلية الدعوة وأصول الدين
فضيلة الشيخ محمد أبو طالب شاهين
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة
فضيلة الشيخ محمد محمد أبو فرحة
المحاضر بكلية الدعوة وأصول الدين
فضيلة الشيخ محمد المختار
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة
فضيلة الشيخ محمد الوكيل
عضو هيئة التدريس بكلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية
فضيلة الدكتور محمد نغش
عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة
فضيلة الشيخ محمد مصطفى المجذوب
المحاضر بكلية الدعوة وأصول الدين
فضيلة الشيخ محمود عبد الوهاب فايد
المحاضر بكلية الدعوة وأصول الدين
فضيلة الدكتور محمود ميرة
وكيل عمادة شؤون المكتبات بالجامعة
فضيلة الشيخ زهير الخالد
المدرس بالمعهد الثانوي التابع للجامعة
فضيلة الشيخ سعد ندا
المدرس بالمعهد الثانوي التابع للجامعة
فضيلة الشيخ عبد العزيز الربيعان
مدير معهد الدراسة المتوسطة التابع للجامعة الإسلامية
فضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي
المدرس بالمعهد الثانوي التابع للجامعة
برنامج المؤتمر
(روعي في وضع البرنامج أن يتمكن حضرات أعضاء المؤتمر من أداء الصلوات الخمس في المسجد النبوي)
اليوم الأول
السبت 24/2/1397هـ ـ (12/2/1977م)
فترة الصباح:
الساعة: 9 تسجيل من لم يسجل من قبل من الأعضاء
حفل الافتتاح
بقاعة المحاضرات بالجامعة
الساعة:4:30 ـ 6 مساء
القرآن الكريم(13/255)
كلمة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد، ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة
كلمة معالي وزير التعليم العالي الشيخ حسن عبد الله آل الشيخ
كلمة الجامعة لفضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد نائب رئيس الجامعة
كلمة أعضاء المؤتمر
الساعة:6:30 (عقب صلاة المغرب) حفل عشاء: تقيمه الجامعة الإسلامية على شرف سمو ولي العهد والرئيس الأعلى للجامعة تكريما لأعضاء المؤتمر
اليوم الثاني
الأحد 25/2/1397هـ ـ (13/2/1977م)
فترة الصباح:
الساعة: 8:30 إلى 9:30 اجتماع عام لأعضاء المؤتمر لاختيار رئيس المؤتمر ونائب الرئيس والمقرر العام
الساعة: 10 إلى 11:30 اجتماع اللجان، وفي بدايته يتم انتخاب الرئيس والمقرر لكل لجنة
فترة المساء:
(أ) عقب صلاة المغرب: زيارة مسجد قباء والصلاة فيه
الساعة: 8:30 إلأى 10:30 محاضرة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
موضوعها: أهم ما يدعو إليه الداعية المسلم.
ثم مناقشة.
اليوم الثالث
الاثنين 26/2/1397هـ ـ (14/2/1977م)
فترة الصباح:
الساعة: 8:30 إلى 11:30 اجتماع اللجان
فترة المساء:
(أ) عقب صلاة العصر: زيارة شهداء أحد.
(ب) عقب صلاة العشاء:
الساعة: 8:30 إلى 10:30 ندوة علمية يشترك فيها عدد من أعضاء المؤتمر موضوعها: إعداد الداعية
اليوم الرابع
الثلاثاء 27/2/1397هـ ـ (15/2/1977م)
فترة الصباح:
الساعة: 8:30 إلى 11:30 اجتماع اللجان
فترة المساء:
(أ) عقب صلاة العصر: زيارة البقيع
(ب) عقب صلاة العشاء:
الساعة: 8:30 إلى 10:30 * كلمة لسماحة الشيخ عبد الله بن حميد رئيس الإشراف الديني بالمسجد الحرام ورئيس المجلس الأعلى للقضاء(13/256)
* محاضرة للأستاذ محمد قطب الأستاذ بجامعة الملك عبد العزيز موضوعها: المستشرقون والإسلام.
اليوم الخامس
الأربعاء 28/2/1397هـ ـ (16/2/1977م)
فترة الصباح:
الساعة: 8:30 إلى 11:30 اجتماع اللجان
فترة المساء:
عقب صلاة العشاء:
الساعة: 8:30 إلى 11:30 ندوة علمية يشترك فيها عدد من أعضاء المؤتمر. وموضوعها: من مشاكل الدعوة
اليوم لسادس
الخميس 29/2/1397هـ ـ (17/2/1977م)
فترة الصباح:
الساعة: 8:30 إلى 10:30 اجتماع عام لإقرار التوصيات
حفل غداء تقيمه الجامعة تكريما لأعضاء المؤتمر الساعة 2 بعد الظهر
فترة المساء:
الاجتماع الختامي
(البرنامج)
القرآن الكريم
كلمة رئيس المؤتمر
كلمة الجامعة
كلمة أعضاء المؤتمر
تلاوة التوصيات
يوم الجمعة
(30 صفر 1397هـ)
صلاة الجمعة بالمسجد النبوي الشريف
ثم توجه الأعضاء القادمين من خارج المملكة إلى جدة ومنها إلى مكة المكرمة لأداء مناسك العمرة.
ويتوجه وفد يمثل أعضاء المؤتمر إلى الرياض للسلام على جلالة الملك المعظم خالد بن عبد العزيز حفظه الله وعلى صاحب السمو الملكي ولي العهد المكرم الأمير فهد بن عبد العزيز نائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة حفظه الله ـ وشكرهما على رعايتهما الكريمة (للمؤتمر العالمي لتوجيه الدعوة وإعدادا الدعاة) وتبنيهما ودعمهما للتضامن الإسلامي.
ثم التوجه من الرياض إلى جدة فمكة المكرمة لأداء مناسك العمرة.
ومن جدة يسافر حضرات الأعضاء إلى بلادهم في رعاية الله عز وجل.
شكر الله ـ عز وجل ـ جهود الجميع، وأحسن جزاءهم وأمدهم بتوفيقه وأعانهم على نصرة دينه وإعلاء كلمته.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه المهتدين بهديه والداعين بدعوته إلى يوم الدين.(13/257)
بعض سمات الدعوة في هذا العصر
لفضيلة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي
رئيس جمعية ندوة العلماء في لكهنو (بالهند)
الحمد رب لله العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد وآله وصحبه أجمعين ومن أتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فإنني سأتحدث في هذه المناسبة الكريمة وهي)) دورة مؤتمر الدعوة ((التي تعقدها الجامعة الإسلامية في مدرسة الدعوة الإسلامية الأولى ومنطلق الدعاة إلى الله في العالم (المدينة المنورة) عن بعض السمات البارزة التي يجب أن تتسم بها الدعوة والدعاة في هذا العصر حتى يستطيعوا أن يقوموا بدور الدعوة في أتم وجه ويبلغوا رسالة الرسل عليهم السلام ويؤثروا التأثير المطلوب(13/258)
أما الدعوة الإسلامية فيجب أن تكون هذه الدعوة جامعة بين تحريك الإيمان في نفوس المخاطبين والمجتمع الإسلامي وإثارة الشعور الديني، وبين إكمال الوعي وتنميته وتربيته، فإن المتتبع لأحوال العالم الإسلامي اليوم وواقع الأقطار الإسلامية وحكوماتها وشعوبها يعرف أن تمسك هذه الشعوب والجماهير بالإسلام وحبها له هو الحاجز السميك والسد المنيع لكثير من القيادات التي خضع للحضارة الغربيةوقيمها ومفاهيمها، وفلسفاتها ونظمها، وآمنت بها إيمانا كإيمان المتدينين بالديانات المؤمنين بالشرائع السماوية، وفقدت الثقة بصلاحية الإسلام لمسايرة العصر الحديث وتطوراته وأحداثه، وكرسالة خالدة عالمية، فإسلام هذه الشعوب والمجتمعات وكونها لا تفهم إلا لغة الإيمان والقرآن ولا تندفع إلا لما يجيء عن طريقهما، ولما يمس قلبها ويخاطب ضميرها، يعوق كثيرا من هذه القيادات عن نبذ الإسلام نبذا كليا وإعلان الحرب عليه، وقد لجأ بعض هذه القيادات في ساعات عصبية إلى إثارة هذا الإيمان والحماس الديني، واستخدامهما لكسب المعركة أو الإنتصار على العدو حين رأت أن لا ملجأ من الله إلا إليه، وإلى إيمان هذه الشعوب السليمة المؤمنة، فرفعت هتفات التكبير)) الجهاد ((و)) الشهادة ((في سبيل الله، ومحاربة العدو الكافر المهاجم كما فعلت الجزائر في حربها مع الفرنسيين وباكستان في حرب 1965م وجربت فائدة هذا الإيمان وقوة هذه العاطفة.(13/259)
فأصبح إيمان هذه الشعوب وتمسكها بالإسلام وتحمسها له، هو السور القوي العاي الذي يعتمد عليه في بقاء هذه البلاد، وكثير من القيادات والحكومات الإسلامية في حظيرة الإسلام، فإذا تهدم هذا السور ـ لا سمح الله بذلك ـ أو تسوره دعاة الكفر واللادينية، أو تيار الردة الفكرية والحضارية فالخطر كل الخطر على الإسلام في هذه البلاد، ولا يمنع هؤولاء القادة المحاربين للإسلام، والمضمرين له العداء والحقد شيء من أن يخلعوا العذار ويطرحوا الحشمة والتكلف، ويجردوا هذه الأقطار والشعوب العريقة في الإسلام من كل ما يمد إلى الإسلام بصلة، فإن الشيء الوحيد الذي يخافون معرته، ويحسبون له حسابا هو ثورة هذه الشعوب على هذه القيادات بدافع الإيمان والحماس الإسلامي، فيفقدهم ذلك ما يتمتعون به من كراسي الحكم ومركز القيادة، فإذا زال الحاجز لم يقف في وجههم شيء.
إذن فيجب على دعاة الإسلام والعاملين في مجال الدعوة الإسلامية الإحتفاظ بهذه البقية الباقية من الإيمان في نفوس الشعوب والجماهير، والمحافظة على الجمرة الإيمانية من أن تنطفي.
ولا يصح الإقتصار على تحريك الإيمان، وإثارة العاطفة الدينية في نفوس الشعوب والجماهير، بل يجب أن تضم إليه تنمية الوعي الصحيح وتربيته والفهم للحقائق والقضايا، والتمييز بين الصديق والعدو وعدم الإنخداع بالشعارات والمظاهر، فقد رأينا أن الشعوب التي يضعف فيها هذا الوعي أو تحرمه يتسلط عليها ـ رغم تمسكها بالإسلام وحبها له ـ قائد منافق، أو زعيم ماكر أو عدو جبار، فيصفق له الشعب بكل حرارة ويسير في ركابه [1] ، فيسوقها بالعصا سوق الراعي لقطعان من الغنم، لا تعقل ولا تملك من أمرها شيأ، ولا يمنعها تمسكها بالإسلام وحبها له من أن تكون فريسة سهلة أو لقمة سائغة للقيادات اللادينية أو المؤامرات ضد الإسلام.(13/260)
وقد كان ما يمتاز به المجتمع الإسلامي الأول المثالي الصحابة رضي الله عنهم بفضل التربية النبوية الدقيقة الشاملة الجمع بين الدين المتين الذي لا مغمز فيه، والإيمان القوي الذي لا يعتريه وهن، وبين الوعي الناضج الكامل فكانوا لا يخدعون ولا ينخدعون، ولا يسيغون شيأ ينافي الإسلام وينافي العقل، والذي يضرهم ويجني عليهم أو يوقعهم في خطر أو تهلكة، قد بلغوا من الرشد واستكملوا الحصافة والنضج، فلا يؤخذون على غرة ولا يقعون في شرك ينصبه العدو الماكر، يخطئون ولا يصرون، ولا تتكر منهم غلطات وتورطات، وقد جاء في حديث صحيح " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين " بخلاف الشعوب الفاقدة الوعي فهي تلدغ مرة بعد مرة، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذهم بتربية وتعاليم أمنوا بها عن الوقوع في الشباك، وامتنعوا بها عن قبول ما لا يتفق مع تعاليم الإسلام, وآدابه والفطر السليمة والعقول المستقيمة، فكان مجتمعا نمودجيا مثاليا في كل شيء.
أعرض لكم ـ على سبيل المثال ـ مثالين من هذا العقل الحصيف والوعي الكامل:
الأول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة " أنصر أخاك ظالما أو مظلوما" وهو مثل جاهلي قديم وعرف من أعراف العرب الأولين، تمسك به العرب في جاهليتهم كما قال العلامة الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث في كتابه الجليل فتح الباري فكان المتوقع المعقول أن يتلقاه الصحابة ـ وقد نشأووا في الجاهلية وعاشوا في الجزيرة ـ إما بالقبول وإما بالسكوت.(13/261)
وقد صدر هذا الكلام من النبي المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} . وقد عرف حبهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم وفداؤهم له بالنفس والنفيس، وكان حبا لا نظير له في تاريخ الديانات والرسالات، وفي تاريخ الحب والطاعة العالمي، وكان تفسيرا للحديث المشهور"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وولده والناس أجمعين " وجاء في بعض الروايات من نفسه ولكن كل ذلك لم يمنعهم كم التساؤل أو الإستيضاح فإن ظاهر الكلام كان ينافي ما فهموه من تعليم الإسلام وما شاهدوه من تربية الرسول وأخلاقه، وما آمنوا به من مبدأ الإنصاف والمساواة وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} وقوله تعالى {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} . فقالوا يا رسول الله، هذا نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ هنالك فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم تفسيرا يتفق مع تعاليمه السابقة الدائمة فقال " تمنعه من الظلم فذاك نصرك إياه [2] ".
هنالك إقتنع الصحابة رضي الله عنهم، وشفيت صدورهم، فازدادوا إيمانا على إيمان، وهو مثال بليغ رائع من أمثلة الوعي الإيماني العقلي الذي كان شعارا لصاحبة الرسول صلى الله عليه وسلم والصدر الأول.(13/262)
والمثال الثاني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل سرية، وأمر الصحابة بطاعة الأمير، وقد كان في هذه السرية ما لم يرض الأمير، وشك في انقيادهم له فأمر بالحطب، فجمع، وأمر بالنار فأشعلت ثم قال خوضوها، فامتنع الصحابة رضي الله عنهم عن طاعته في ذلك لأنه " لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق" وقالوا إنما فررنا من النار ولما رجع إلى المدينة شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصوب فعلهم وقال " لو دخلوا فيها لم يزالوا فيها"وقال: "لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف" [3] .
وكانت نتيجة ضعف بعض الشعوب المسلمة القوية في إيمانها، الغنية في مظاهرها الإيمانية ومراكزها الدينية وثروتها العلمية، أنها كانت فريسة سهلة للهتافات الجاهلية والنعرات القومية أو العصبيات اللغوية والثقافية، ولعبة القيادات الداهية والمؤامرات الأجنبية، وذهبت ضحية سذاجتها وضعفها في الوعي الديني، والعقل الإيماني كما وقع في باكستان الشرقية في (197م) قامت فيها مجزرة إنسانية هائلة، وما ذلك إلا بسحر دعوات العصبية اللغوية والعصبية الوطنية على هذا الشعب المسلم، المؤمن الذي كان له تاريخ مجيد في البطولات الإسلامية وخدمة الإسلام والعلم، ونهض فيه علماء كبار ودعاة إلى الله، وغصت بلادها بالمساجد والمدارس وكانت عاصفة هوجاء هبت ثم ركدت، ونار حامية التهبت ثم انطفأت، ولكنها زلزلت أركان الإسلام في هذه المنطقة، وأضعفت الكيان الإسلامي، وكانت حجة لأعداء الإسلام الذين يقولون إن الإسلام لا يستطيع أن يقاوم العصبيات القومية ولا يقتلع جذورها من نفوس أتباعه.(13/263)
وواجب ثالث مقدس من واجبات العاملين في مجال الدعوة الإسلامية هو صيانة الحقائق الدينية والمفاهيم الإسلامية من التحريف، وإخضاعها للتصورات العصرية الغربية، أو المصطلحات السياسية والاقتصادية التي نشأت في أجواء خاصة، وبيئات مختلفة ولها خلفيات وعوامل وتاريخ، وهي خاضعة دائما للتطور والتغيير، فيجب أن نغار على هذه الحقائق الدينية والمصطلحات الإسلامية غيرتنا على المقدسات وعلى الأعراض والكرامات بل أكثر منها وأشد، لأنها حصون الإسلام المنيعة وحماه وشعائره، وإخضاعها للتصورات الحديثة وتفسيرها بالمصطلحات الأجنبية إساءة إليها لا إحسان، وإضعاف لها لا تقوية وتعريض للخطر لا حصانة ونزول بها إلى المستوى الواطي المنخفض لا رفع لشأنها كما يتصور كثير من الناس، فإذا قلنا الحج مؤتمر إسلامي عالمي، لم ننصف الحج ولم ننصف لمن نخاطبه ونريد أن نفهمه حقيقة الحج وروحه ولما شرع له ولم ننصح لكليهما، وإن روح الحج وسر تشريعه غير ما يعقد له المؤتمرات صباح مساء، ولو كان الحج مؤتمراً إسلامياً عالميا لكان له شأن ونظام غير هذا النظام، وجو غير هذا الجو، ولكان النداء له مقصور على طبقات مثقفة واعية فقط وعلى قادة الرأي وزعماء المسلمين [4] .(13/264)
كذلك حقيقة العبادة وحقيقة الصلاة، وحقيقة الزكاة والصوم، فلا يجوز العبث بهذه المصطلحات والتجني عليها، وإخضاعها للفلسفات الجديدة، وتفسيرها بالشيء الذي لا ثقة به ولا قرار له، وقد استخدمت هذه)) الإستراتيجية الدعائية ((الباطنية في القرن الخامس الهجري فما بعده ففسروا المصطلحات الدينية بما شأوا وشأت أهوائهم ومصالحهم وتفننوا فيه، وأتوا بالعجب العجاب، وحققوا به غرضهم من إزالة الثقة بهذه الكلمات المتواترة التي هي أسوار الشريعة الإسلامية وحصونها، وشعائرها، ونشر الفوضى في المجتمع الإسلامي، والجماهير المسلمة، وإذا فقدت هذه الكلمات التي توارثت فهمها الأجيال المسلمة وتواتر في المسلمين وأصبح فيها مساغ لكل داع إلى نحلة جديدة، ورأي شاذ، وقول طريف، فقد أصبحت قلعة الإسلام مفتوحة لكل مهاجم ولكل منافق، وزالت الثقة بالقرآن والحديث واللغة العربية، وجاز لك قائل أن يقول ما شاء ويدعو إلى ما شاء، وهذه فتنة لا تساويها فتنة وخطر لا يكلفئه خطر.
إن مفاهيم هذه الكلمات معينة على اتساع بلاغتها وعمقها وكثرة معانيها وإن الأمة توارثت هذه المفاهيم المعينة كما توارثت أشكال الصلاة والصوم والحج ونظمها الظاهرة، وتناقلتها وحافظت عليها من غير أقل انقطاع أو أقصر فترة، وإنه معنى قوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} وهو معنى الحديث المشهور الذي صح معناه " لا تجتمع أمتي على الضلالة " [5] وقد أثبت شيخ الإسلام ابن تيمية أن سنة واحدة من السنن الكثيرة لم ترفع من هذه الأمة بشكل كلي، وإنها لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق.(13/265)
والكلمات هي الوسيلة الوحيدة لنقل المعاني والحقائق من جيل إلى جيل ومن عصر إلى عصر، ومن إنسان إلى إنسان، فإذا وقع الشك في مدلول هذه الكلمات ومصداقها، أو صار التلاعب بها هيناً اضطربت دعائم الدين وتزلزلت أركانه، وهذا يعم التاريخ والشعر والأدب، لذلك كانت الفوضى اللغوية Liguistic Anarchy أشد خطراً وأكثر ضراراً من الفوضى السياسية Political Anarchy [6] وليست قضية الأسماء والمصطلحات من البساطة بالمكان الذي يتصوره كثير من الناس، فإنها تؤثر في النفس تأثيراً خاصاً، وتثير معاني وأحاسيس ذات صلة بالماضي وذات صلة بالعقائد والأعراف أحياناً، ولذلك كره رسول لله صلى الله عليه وسلم أن يقال)) العتمة ((مكان العشاء، ويوم العروبة بدل الجمعة، واستبدال كلمة يثرب بمدينة الرسول أو بالمدينة، ولها أمثلة أخرى في الشريعة الإسلامية.
وكذلك أحذركم أيها الإخوان مما لوحظ من بعض الكتاب من الضغط على أن هذه الأركان الدينية وفرائض الإسلام كالصلاة والزكاة والصيام والحج وسائل لا غايات، إنما شرعت لإقامة الحكم الإسلامي وتنظيم المجتمع المسلم، وتقويته وأحذركم من كل ما يحط من شأن روح العبادة والصلة بين العبد وربه وامتثال الأمر، ومن التوسع في بيان فوائدها الخلقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية أحياناً توسعاً يخيل للمخاطب أو القارئ أنها أساليب تربوية أو عسكرية أو تنظيمية، قيمتها ما يعود منها على المجتمع من قوة ونظام أو صحة بدنية وفوائد طبية فإن أول أضرار هذا الأسلوب من التفكير أو التفسير أنه يفقد هذه العبادات قيمتها وقوتها وهو امتثال أمر الله وطلب رضاه بذلك، والإيمان والاحتساب والقرب عند الله تعالى، وهي خسارة عظيمة لا تعوض بأي فائدة، وفراغ لا يملأ بأي شيء في الدنيا.(13/266)
والضرر الثاني أنه لو توصل أحد المشرعين أو الحكماء المربين إلى أساليب أخرى قد تكون أنفع لتحقيق هذه الأغراض الاجتماعية أو التنظيمية أو الطبية لاستغنى كثير من الذين آمنوا بهذه الفوائد عن الأركان والعبادات الشرعية، وتمسكوا بهذه الأساليب أو التجارب الجديدة، وبذلك يكون الدين دائما معرضاً للخطر ولعبة للعابثين والمحرفين.
وهذا لا ينافي الغوص في أعماق هذه الأركان والأحكام والحقائق الدينية، والكشف عن أسرارها وفوائدها الاجتماعية، وقد أفاض علماء الإسلام قديماً وحديثاً في بيان مقاصد الشريعة الإسلامية وأسرار العبادات والفرائض والأحكام الشرعية، وألفوا كتباً مستقلة وكتبوا بحوثاً جليلة، كالغزالي والخطابي وعز الدين بن عبد السلام وابن القيم الجوزية، وأحمد بن عبد الرحيم الدهلوي ولكن كل ذلك من غير تحريف لحقيقة هذه العبادات والأحكام والغاية الأولى التي شرعت لها، وهي امتثال الأمر الإلهي، والتقرب إليه بذلك والإيمان والاحتساب فيها ومن غير إخضاع لها للفلسفات العجمية أو الأجنبية في عصرهم ومن غير خضوع بسحرها وبريقها.(13/267)
وأحذركم ثانية أيها الشباب من كل ما يقلل من شناعة الوثنية العقائدية والشرك الجلي من عبادة غير الله والسجود له وتقديم النذور والقرابين وإشراكه في صفات الله من قدرة علم وتصرف وإماتة وإحياء، وإسعاد وإشقاء، وأحذركم من الاكتفاء بالتركيز على شناعة الخضوع للحكومات والنظم الإنسانية والتشريعات البشرية وتحويل، حق التشريع للإنسان، وأن ذلك وحده هو عبادة الطاغوت والشرك وأن الوثنية الأولى وعبادة غير الله قد فقدت أهميتها، وإنما كانت لها الأهمية في العصر القديم العصر البدائي، وأنه لا يقبل عليها الآن الرجل الجاهل الذي لا ثقافة له، ففضلاً عن أن هذه الوثنية والشرك الجلي لا يزال له شيوع وانتشار، ودولة وصولة يجربه كل إنسان في كل زمان ومكان، فإنها الغاية الأولى التي بعث لها الأنبياء وأنزلت لها الكتب السماوية، وقامت لها سوق الجنة والنار، وكانت دعوة جميع الأنبياء تنطلق من هذه النقطة، وكانت جهودهم مركزة على محاربة هذه الجاهلية والقرآن مملوء بذلك بحيث لا يقبل تأويلاً [7] .(13/268)
وإن كل ما يقال من أهمية محاربة الشرك الجلي وعبادة غير الله سواء أكانوا أشخاصاً أو أرواحاً، أو ضرائح ومشاهد، والعناية بمحاربة النظم والتشريعات والحكومات فحسب إحباط لجهود الأنبياء واتجاه بهذا الدين عن منهجه القديم السماوي إلى المنهج الجديد السياسي وهو تحريف لا محالة هذا من غير أن أقلل من قيمة التركيز على أن التشريع لله وحده، وله الحكم والأمر وحده وأن من يدعو إلى طاعة نفسه الطاعة المطلقة العمياء منافس للرب وطاغوت، وأنه يجب أن يدعى إلى التشريع الإلهي وإلى إقامة الحكم الإسلامي القائم على منهاج الكتاب والسنة ومنهاج الخلافة الراشدة وأن لا يدخر سعي في ذلك على حساب الدعوة إلى التوحيد والدين الخالص ومحاربة الوثنية والشرك، فإنها لا تزال في الدرجة الأولى وهي أكثر انتشاراً، وأعظم خطراً في الدنيا والآخرة، فقد قال الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} وقد قال {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} ..(13/269)
أما ما يتصل بصفات العاملين في مجال الدعوة الإسلامية وجنود الدعوة إلى الله، فإني أركز في هذا الحديث على نقطة واحدة، وهو يجب أن يكون الدعاة يمتازون عن الدهماء والجماهير، ودعاة النظم الجديدة والفلسفات الجديدة، والفلسفات السياسية والاقتصادية بقوة إيمانهم وحرارة قلوبهم، وزهدهم في زخارف الدنيا وفضول العيش ونهامة للمادة، ومرض التكاثر، فإنهم لا يستطيعون أن يؤثروا فيمن يخاطبونهم، ويحملوهم على إيثار الدين على الدنيا والآجلة على العاجلة، وتلبية نداء الضمير والإيمان على نداء المعدة والنفس والشهوات، وإشعال مجامر قلوبهم التي انطفأت أو كادت تنطفئ، إلا إذا شعر الناس فيهم بشيء لا يجدونه في قلوبهم وحياتهم، فإن الناس ما زالوا ولا يزالون مفطورين على الإجلال لشيء لا يجدونه عندهم، فالضعيف مفطور على احترام القوي، والفقير مفطور على احترام الغني، والأمي مفطور على احترام العالم، حتى اللئيم مفطور على احترام الكريم، أما إذا رأى الناس علماء ودعاة لا يقلون عنهم في حب المادة والجري ورائها والتنافس في الوظائف والمناصب والإكثار من الثراء والرخاء، والتوسع في المطاعم والمشارب، وخفض العيش ولين الحياة، فإنهم لا يرون لهم فضلاً عليهم وحقاً في الدعوة إلى الله، وإيثار الآخرة على الدنيا، والتمرد على الشهوات، والتماسك أمام المغريات، وقد قيل)) إن فاقد الشيء لا يعطيه ((وكذلك القلب الخاوي لا يملأ آخر بالإيمان والحنا، وأن الموت لا ينشأ الحياة. وأن البرودة لا تعطي الحرارة وأن الرماد الذي لا تكمن فيه جمرة لا يلهب القلوب الخامدة ولا يحي النفوس الميتة، والكشاف لا ينير الطريق إذا كانت قد نفذت شحنته، فلا بد أن تشحن القلوب بشحنة جديدة، وإذا كانت بطارية من غير شحنة كانت أقل عناء وقيمة من عصا يحملها الإنسان فقيمة البطارية الشحنة وقيمة الشحنة النور، فإذا لم تكن شحنة أو كانت شحنة ولا نور فالعصا خير منه.(13/270)
أسألكم أيها الإخوة أليس هذا العصر هو العصر الذي انتشر فيه العلم وكثرت فيه وسائل الإعلام والتربية، وازدهرت فيه الخطابة والكتابة، وبلغت حد الشعر والسحر، وعمت الجامعات في كل مكان، وتدفق السيل من المطبوعات والمنشورات من المطابع ودور النشر، ونبغ فيها علماء وباحثون ووعاظ ومرشدون. فلماذا فقد العلماء والموجهون التأثير في النفوس والقلوب في صد تيار المادية أو الاستغلال والجشع والنهامة للمال؟ هذه البلاد العربية بما فيه البلاد المقدسة أصبحت مصداقاً لما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى خطبه قبل وفاته " ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخاف أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم ".
وأخوف ما نخافأن تكتسح هذه البلاد الموجة العارمة من التكاثر في الأموال، واستغلال حاجة الناس وضعفهم والانتهازية، وهي الموجة التي لا تعرف الرحمة والهوادة، ومكارم الأخلاق التي عرف بها العرب في العصر الجاهلي، وربما يعود ذلك خطراً كبيراً على الحج ومركزه، ويمكن أن يشكل محنة للوافدين إليه، فيضطر الدعاة في صد هذه الموجة إلى مكافحة خلقية وحملة دعوية تربوية تنظم لإصلاح الحال، وإيقاظ الضمير وإثارة الغيرة الإسلامية والشعور النبيل، وتنطلق من المنابر والصحف، والإذاعة ووسائل الإعلام، وتجند لها الطاقات والألسن والأقلام.(13/271)
وسمة الدعوات الحية المخلصة التي تقتبس النور من مشكاة النبوة، وتسير على نهجها، أنها تجس نبض المجتمع جسا صحيحا أمينا، وتهتدي إلى الداء الحقيقي ومواضع الضعف في جسم هذا المجتمع، وتضع أصبعها عليها، وتضرب على الوتر الحساس، من غير محاباة أو مداهنة، ولا تكترث بألم هذا المجتمع أو ملامه، كما فعل شعيب في دعوته، فوجه دعوته ـ بعد الدعوة إلى التوحيد ـ إلى ايفاء الكيل والوزن بالقسطاس المستقيم، وشنع على التطفيف، إذ كان ذلك عيب المجتمع الذي بعث فيه، وسمته البارزة، وكذلك فعل غيره من الأنبياء.
وهذه كانت سنة الدعاة إلى الله من المخلصين الربانيين في تاريخ الإسلام، فكانوا ينتقدون المجتمع في الصميم، ويصيبون المحز، ولذلك كان وقع كلامهم في النفوس عظيما وعميقا، وما كان يسع المجتمع أن يتاغفل عنهم أو يمر بهم مرا سريعا، أو يسلي نفسه بأنه إنما يعنون غيره من المجتمعات التي لم تخلق بعد، وهذا كان شأن الحسن البصري في مواعظه إذ كان دائماً يشير إلى النفاق الذي داء المجتمع الإسلامي، وهو في أوج مجده ورخائه، ويذم حب الدنيا وطول الأمل، وهذا كان شأن الشيخ عبد القادر الكيلاني، فيدعو إلى التوحيد الخالص وقطع الرجاء، والخوف من غير الله وأنه لا يضر ولا ينفع سواه، أن الناس كانوا قد ربطوا مصيرهم بالخلفاء والأمراء وأصحاب الحول والطول والأمر والنهي في العاصمة، وهذا مان شأن ابن الجوزي في مواعظه، الساحرة، ومجالسة المزحومة، فإنه كان يشنع على الحياة اللاهية الماجنة التي كان يحياها كثير من الناس في بغداد، وعلى الذنوب والمعاصي التي كانت تقترف جهاراً، والمنكرات التي شاعت، فكان مئات وآلاف من الناس يتوبون ويقلعون عن الذنوب وكان نشيج يعلو وقلوب ترق، وعيون تدفع، وموجة من الإنابة والرقة تكتسح الجموع الحاشدة لأنه كان يمس القلوب ويصور الواقع، ولا يكتفي بالكلام العام والوعظ التقليدي [8] .(13/272)
وهنا أنقل إليكم قطعة من كتابنا)) رجال الفكر والدعوة في الإسلام ((والمؤلف يتحدث عن الإمام أحمد بن حنبل وزهده.
وقد رأينا الزهد والتجديد مترافقين في تاريخ الإسلام، فلا نعرف أحداً ممن قلب التيار وغير مجرى التاريخ ونفخ روحاً جديدة في المجتمع الإسلامي أو فتح عهداً جديدا في تاريخ الإسلام، وخلف تراثاً خالداً في العلم والفكر والدين، وظل قروناً يؤثر في الأفكار والآراء، ويسيطر على العلم والأدب إلا وله نزعة في الزهد، وتغلب على الشهوات، وسيطرة على المادة ورجالها ولعل السر في ذلك أن الزهد يكسب الإنسان قوة المقاومة، والاعتداد بالشخصية والعقيدة، والاستهانة برجال المادة وبصرعى الشهوات، وأسرى المعدة، ولذلك ترى كثيراً من العبقريين والنوابغ في الأمم، كانوا زهاداً في الحياة، متمردين على الشهوات، وبعيدين على الملوك والأمراء والأغنياء في زمانهم، ولأن الزهد يثير في النفس كوامن القوة، يشعل المواهب، ويلهب الروح، وبالعكس إن الدعة والرخاوة تبلد الحس وتنيم النفس وتميت القلب.(13/273)
وهناك تعليلات أخرى يوافق عليها علم النفس وعلم الأخلاق، ولا أطيل بذكرها، وأقتصر على هذه الملاحظة التاريخية، وألح على أن منصب التجديد والبعث الجديد يتطلب لا محالة زهداً وترفعا عن المطامع وسفاف الأمور ويأبى الاندفاع إلى التيارات، ويتنافى مع الحياة الوادعة الرخية والعيشة الباذخة الثرية، إنما هو خلافة للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وقد قيل له، {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} وأمر بأن يقول لأزواجه {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} وهذه سنة الله فيمن يختاره لهذا الأمر العظيم، ومن يرشح نفسه ويمنيها بهذا المنصب الخطير، ولن تجد لسنة الله تحويلاً [9] .(13/274)
ومن أبرز سمات الدعوة التي يقوم بها الأنبياء وخلفاءهم أنها تقوم على الإيمان بالآخرة والتحذير من عقابها والترغيب في نعمائها وثوابها ويكون مناط العمل فيها الإيمان والاحتساب والآخرة والثواب، لا على الإغراء بالفوائد الدنيوية والجاه والمنصب والمال والملك فإنه أساس ضعيف منهار ولا يتفق مع طبيعة دعوات الأنبياء، والمساومة فيه سهلة، وقد يملك أعدائهم وخصومهم والقادة السياسيون مثله أو أكثر منه، ومن رضع بلبان هذه المطامع لم يمكن فطامه عنها، ولا يصح الاعتماد عليه، وإنما يبنون دعوتهم على رضي الله وثوابه وما أعده لعباده المؤمنين وما وعدهم به على لسان أنبياءه، من نعيم لا يزول ولا يحول والصحف السماوية ـ غير صحف العهد القديم التوراة [10] مملوءة بالحديث عن الآخرة والاهتمام بها والبناء عليها وقد جعل الإسلام والإيمان بها عقيدة أساسية شرطاً لصحة الإيمان والنجاة وقد جاء في القرآن صريحاً {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} .
وهنا أستعير لنفسي من نفسي ما قلته في إحدى المحاضرات التي ألقيتها في هذه الجامعة العزيزة سنة 1382 هـ تحت عنوان)) النبوة والأنبياء في ضوء القرآن ((وأختم به هذا الحديث مؤملاً في أن تكون هذه السمات التي تحدثت عنها شعار الدعوة التي يقوم بها الدعاة المتخرجون من هذه الجامعة أو القائمون بأعبائها في كل ناحية من نواحي العالم الإسلامي، قلت وأنا أتحدث عن الفرق بين منهج الدعوات النبوية وبين الدعوات الإصلاحية.(13/275)
ولم تكن دعوة الأنبياء إلى الإيمان بالآخرة أو الإشادة بها كضرورة خلقية أو كحاجة إصلاحية لا يقوم بغيرها مجتمع فاضل ومدنية صالحة فضلاً عن المجتمع الإسلامي. وهذا وإن كان يستحق التقدير والإعجاب ولكنه يختلف عن منهج الأنبياء وسيرتهم ومنهج خلفائهم اختلافاً واضحاً. والفرق بينهما أن الأول منهج الأنبياء إيمان ووجدان، وشعور وعاطفة وعقيدة تملك على الإنسان مشاعره، وتفكيره وتصرفاته، والثاني اعتراف وتقدير وقانون مرسوم وأن الأولين يتكلمون عن الآخرة باندفاع والتذاذ ويدعون إليها بحماسة وقوة وآخرون يتكلمون عنها بقدر الضرورة الخلقية والحاجة الاجتماعية وبدافع من الإصلاح والتنظيم الخلقي، وشتان ما بين الوجدان والعاطفة وبين الخضوع للمنطق والمصالح الاجتماعية.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] كما وقع في مصر في عهد جمال عبد الناصر.
[2]ـ حديث متفق عليه..
[3]ـ إقرأ القصة بطولها في سنن أبي داود كتاب الجهاد..
[4]ـ راجع معرفة أسرار الحج ومقاصد الشريعة الإسلامية فيه في كتابنا الأركان الأربعة.
[5]ـ انظر البحث في هذا الحديث في كتابنا "النبوة والأنبياء ".
[6]ـ ومن أمثلة هذا التلاعب بالمصطلحات الدينية، أن أستاذا في إحدى جامعات الهند الكبرى، وهو يدرس اللغة العربية وآدابها، ألقى محاضرة في دورة مؤتمر الدراسات الإسلامية الأخيرة قال فيها أن المراد بكمة الصلاة حيث وردت في القرآن مطلقة الحكومة المحلية أو الإقليمية والمراد بالصلاة الوسطى الحكومة المركزية أو الخلافة العامة وكان المقال باللغة العربية، وقد رددت عليه في حينه وقلت في تعليقي عليه أنه تلاعب بالقرآن وبالعقل وتمهيد لفوضى لغوية فكرية، وفتح الباب للإلحاد على مصراعيه، ونالت هذه الكلمة رضا المستمعين وتلقوها بالقبول والاستحسان..(13/276)
[7] اقرأ على سبيل المثال سورة الأعراف وسورة هود وسورة الشعراء والحديث عن كل نبي ودعوته.
[8]ـ اقرأ تفاصيل مجالس ابن الجوزي وتأثيرها في كتاب صيد الخاطر ورحلة ابن جبير.
[9]ـ رجال الفكر والدعوة الجزء الأول ترجمة الإمام أحمد بن حنبل ص 132.
[10] فقد تجردت بعد التحريف من ذكر الآخرة ونعمائها والترغيب فيها بطريقة عجيبة.(13/277)
كيفية إعداد الداعية
للدكتور أحمد أحمد غلوش
عضو هيئة التدريس بكلية التربية بجامعة الرياض
تمهيد:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد …
فإن أحسن القول الدعوة إلى الله تعالى، وأفضل الأعمال ما يؤدي إلى فهم الدين، وتطبيقه، وتبليغه للناس وصدق الله تعالى {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .
ولهذا كان مؤتمر الدعوة الإسلامية من الأعمال الفاضلة التي تبعث الرضى في نفوس المسلمين الصادقين حيث يرون أمتهم وهي تخطط لنشر دينها وتدرس المشاكل التي تعترض طريقها، وتضع الحلول المناسبة لقضاياها، وتتصدى بواقعية لكيد الكائدين وانحراف المبطلين.
وقد سعدت باشتراكي في هذا المؤتمر، وبرغم قصر المدة فإني استعنت بالله تعالى، وأعددت هذا البحث في موضوع:
(كيفية إعداد الدعية)
لما للداعية من أهمية في تبليغ الإسلام، ولحاجة الدعوة إلى دعاة أكفاء قادرين على القيام بالواجب المنوط بهم.
وسوف يتناول البحث ـ بمشيئة الله تعالى ـ النقاط التالية:
1ـ وجوب تبليغ الدعوة وإعداد الداعية.
2ـ أهم الصفات الواجبة للداعية.
3ـ كيفية إعداد الداعية.
وذلك بإيجاز وتركيز، ولي أمل في الله أن أتمكن من بحثها مستفيضة وافية في مجال يسمح بذلك. والله ولي التوفيق
وجوب تبليغ الدعوة وإعداد الدعاة
كان من رحمة الله بالناس أن جاءتهم الدعوة الإلهية بما اشتملت عليه من أسس صالحة، ونظم كاملة لكافة جوانب الحياة.(13/278)
وقد أوجب الله تعالى تبليغ دعوته للناس حيث أمر رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله تعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [1] والأمر يفيد الوجوب ومن المعلوم الأصل في خطاب الله لرسوله دخول أمته فيه إلا ما استثنى وليس في هذا المستثنى أمر الله تبارك وتعالى بالدعوة لدينه، فبقى وجوب تبليغ الدعوة على المسلمين كما وجب على رسوله صلى الله عليه وسلم وقد وجه الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى هذا الواجب حيث أمرهم وقال:
" ليبلغ الشاهد منكم الغائب" [2] ، كما أن طبيعة الإسلام تؤكد هذا الواجب لأنه دين عام خالد يستلزم استمرار الدعوة إليه وتبليغه للناس.
وواجب تبليغ الدعوة جدير في الحقيقة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومواهبه وإيمانه، وإخلاصه، وبعده يجب أن يستمر على نمطه بواسطة دعاة يعدون لحمل الأمانة، وأداء الواجب المطلوب.
وإعداد هؤلاء الدعاة واجب حيث أمر الله بذلك في قوله تعالى {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [3] فبان بذلك أن على المسلمين أن لا يخرجوا جميعا للجهاد في سبيل الله، وإنما عليهم أن يخصصوا من كل جماعة نفرا يخرجون للدعوة، يتحملون المشقة في فقهها، ومعرفة طرق الإنذار بها، قاصدين من هذا الإعداد إرشاد غيرهم والنصيحة لهم أملا في هدايتهم وإيمانهم.(13/279)
وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [4] والأمة هي طائفة عالمة حيث أمر الله المسلمين من بينهم جماعة تتخصص في الدعوة إلى الخير إذ تعلم المعروف وتأمر به، وتدرك المنكر وتنهى عنه، وتصدير الآية بلام الأمر يفيد وجوب ايجاد هذه الفئة العالمة لتبليغ الدعوة.
وقد ربى الرسول أصحابه على الحق واختار منهم من يصلح للدعوة وبعثهم إلى عدد من الشعوب يدعونهم إلى الله تعالى.
ومن المعلوم أن واجب تبليغ الدعوة لا يتم إلا بواسطة الدعاة، وهذا دليل على وجوب إعدادهم لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما أن سؤال الله للناس في الآخرة يقتضي تبليغ دين الله إليهم والدعوة لا تبلغ وحدها فلزم وجود دعاة يحملونها ويبلغونها للعالمين. وهكذا وجب تبليغ الدعوة، ووجب إعداد الدعاة. ولئن كانت الحاجة إلى الدعاة الأكفاء ملحة دائما فإن هذه الحاجة الآن أشد ليتعلم المسلمون ما جهلوا من دينهم، وحتى يمكن مواجهة خطر التيارات المادية التي إتسع نشاطها بواسطة دعاة المذاهب البشرية، والنحل المحرفة الذين دربوا على الترويج لباطلهم في ذكاء واضح، وخطة مدروسة وهدف محدد.
وليس بجائز أبدا أن يضعف صوت الحق أمام الهوى، وتذاع الشبهات الملحدة في الناس ولا تجد من يتصدى لها ويهدمها بالحجة والبيان، إن إعداد الدعاة واجب يلتزم به المسلمون، وعلى الأمة أن تقوم به أداء لواجب الدعوة، ووفاء للأمانة التي لزمتهم.
الصفات الواجبة للدعاة
تهدف عملية إعداد الدعاة إيجاد نفر من المسلمين متميز بصفات خاصة تمكنه من القيام بالواجب الذي أنيط وهو تبليغ الدعوة.
وهذا النفر ملتزم بتقويم الصلة بالله وبالدعوة والمدعوين، ولذا كانت أهم الصفات التي يجب أن يتمتع الدعاة بها هي:-
أـ الإيمان العميق(13/280)
الإيمان هو الركيزة الأساسية للداعية وهو القاعدة التي يقوم عليها كيانه كله، والواجب أن تكون صلته بالله أوثق، ومعرفته به أوضح وشعوره بجلاله أقوى، وارتباطه بمنهجه أشد.
إن هذا الإيمان يعني التسليم التام لله لأنه النافع الضار، المعز المذل، وأنه لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى. كما ينبغي التيقن بأن دين الله حق كله لا يحتاج لجدل، ولا يقبل شكاً ومراجعة ومن ثم يثبت هذا الإيمان عنده ولا يتزعزع مهما كانت الشدائد. ومهما قوي الأعداء، وكثر الخصوم.
ويجب أن يكون إيمان الداعية إيماناً تفصيلياً على الأدلة والحجة، وأقرب طريق لتأكيد هذا الإيمان مداومة النظر في القرآن الكريم، والعكوف على تلاوته وحفظه وتدبر معانيه وتنفيذ تعاليمه. وتبيين أحكامه من خلال دراسته للسنة المطهرة.
ونتائج هذا الإيمان تفيد الداعية وتعينه على الدعوة، لأنه به يحب الله، ويصير محبوباُ من مولاه. قال تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [5] وقال {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [6] وحب المؤمن لله عبارة عن استغراق مطلق في الطاعة، وتسليم تام بكل ما يجد ويحدث وحب الله للمؤمن يكسبه إعانته، وهدايته، والأخذ بيده نحو الحق والخير، وهذا الحب يستتبع الثقة بالضرورة، لأن الداعية ما دام اعتقد الحق وآمن به، والتزم في كل حياته أوامر الله ونواهيه فإنه يثق حينئذ أن كل ما يحدث له ومعه جزء من الحكمة الإلهية الشاملة.
والإيمان يعين على الدعوة أيضاً حيث يندفع الداعية نحو الإخلاص والعمل ودعوة الناس بلا انتظار أجر مالي، أو الحصول على كسب دنيوي، وكل القصد هو طاعة الله وكسب رضاه بالدعوة لأنه يؤمن بأن أحسن الأقوال وأفضل الأعمال ما كان للدعوة وفي سبيلها.(13/281)
وإن حدث وجوبه الداعية بمعوقات تقف بينه وبين النجاح في الدعوة فإن الإيمان يمده بطاقة من التحمل والصبر تجعله يستصغر كثرة الخبيث، ويستهين بقوة الأعداء، ولا يخشى في الله لومة لائم، أو جور ظالم، ويرفع في الناس شعاره وهو قوله تعالى {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} هكذا الإيمان الصادق يوجد الحب والثقة. ويحقق الإخلاص والتحمل، وعلى الداعية أن يتصف به.
ب ـ العلم الدقيق
دور الداعية يحتاج إلى العلم الوافر والأفق الواسع، لأنه يوضح الدين ويبين للناس سمو مبادئه ونظمه، ويرد الشبهات التي تثار أمامه، ومن هنا كانت حاجته إلى التحصيل الدائم. والمعرفة الشاملة.
وطبيعة الإسلام تتطلب من الدعاة أن يكونوا علماء فاقهين لأنه دين يؤخذ من القرآن الكريم، والسنة النبوية، وكلاهما يحتاج إلى القراءة المستمرة، والتدبر الواعي، والفهم السليم، كما أن تبليغ الإسلام يحتاج إلى معرفة الناس ومعرفة أمثل الطرق لتوجه إليهم وإقناعهم وأهم جوانب علم الداعية ما يلي:-
1ـ العلم بالدعوة: عمل الداعية نشر الدعوة، ولذا كان العلم بها من أساسيات علم الداعية لأن فاقد الشيء لا يعطيه. والدعوة بكافة جوانبها تعرف بمعرفة القرآن الكريم والسنة النبوية وعلى الدعاة أن يتخذوها زادا لهما فيعيشون مع القرآن تلاوة وحفظاً، وفهما، ومع السنة قراءة وتدبراً، وحفظاً، ومع سائر العلوم الإسلامية التي قدم فيها سلفنا الصالح الدراسات العديدة كعلوم القرآن والسنة والفقه والعقيدة.. وبذلك يفهمون الدعوة ويتمكنون من تبليغها للناس.(13/282)
2ـ العلم بالمدعوين: يتنوع المدعوون تنوعاً واضحاً بسبب ما بينهم من اختلاف، ومخاطبة كل نوع يحتاج لطريقة معينةـ لأن ما يؤثر في جماعة لا يؤثر في غيرها. ولذا وجب على الداعية أن يعلم خصائص من سيدعوهم من ناحية العادات والتقاليد والمذاهب والاتجاهات السائدة فيهم.
ويعتبر العلم بالمدعوين من أهم جوانب علم الداعية في العصر الحديث لكثرة المذاهب الوضعية وانتشارها ونشاط دعاتها، وتطاولهم على الواقع وادعاءاتهم الكاذبة في أنهم يمثلون الحق والمستقبل السعيد للناس، ولأن الداعية بهذا العلم يمكنه من مجابهته الباطل ودحضه ورد مفترياته بما في دعوته من حق. ووضوح ويساعد الداعية في هذا الجانب بعض العلوم الحديثة كعلم النفس وعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية وعلم مقارنة الأديان وعلم الجغرافية البشرية وتاريخ العمران والحضارة. إلخ.
3ـ العلم بوسائل الخطاب: وسائل تبليغ الدعوة عديدة. ولكل منها منهج، ولا بد للداعية من معرفة هذه الوسائل، وعليه أن يتقن الطريقة المثلى لتطبيق كل وسيلة مع المخاطبين بعد إعدادها وتنظيمها.
إن وسائل الدعوة عديدة وقد أضاف العلم الحديث إليها العديد من الوسائل حتى عدت المسرحية الهادفة، والتمثيلية المعبرة والراديو والصحف وسائل يمكن بواسطتها تبليغ الدعوة إلى الناس.
وبهذا العلم المحتوي على معرفة الدعوة ومعرفة المدعوين ومعرفة وسائل الخطاب يكتمل للداعية الجانب المعرفي الذي يحتاج إليه لأداء الواجب.
جـ ـ الخلق المتين
الداعية أخ للمدعوين استظهر عليهم بالنصح والتوجيه، وحاجته إلى تقديرهم له، وثقتهم فيه واضحة. ولا يمكنه ذلك إلا بالخلق الكريم البادي من احترامه للناس، وتقديرهم والصدق معهم، والكرم في معاملتهم، والأمانة الشاملة في سائر ما يكون معهم. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم".(13/283)
إن الأخلاق فوق أنها كمال ذاتي للداعية فهي مدعاة لتبوئه قيادة الناس وتوجيههم وللدعاة في ذلك أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم لقد تمتع بالخلق واشتهر في الناس بالصدق والأمانة، والحلم والعفو والكرم وحب الخير للناس، وصدق الله تعالى وهو يقول: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وهكذا يجب أن يكون الدعاة.
كيفية إعداد الدعاة
يحتاج الدعاة الحاليون إلى الإعداد والمساندة سواء في ذلك من يعملون داخل الوطن الإسلامي، ومن يعملون خارجه، لأن مستوى الأداء في عملهم ليس على الصورة المطلوبة، والكثير منهم يعتبر عبئاً على الدعوة لا عوناً لها، مما يؤدي إلى عكس المطلوب، وهذا الواقع يحتم إعداد الدعاة تلافيا لهذا القصور الواضح، على أن يكون شاملاً للعاملين حالياً ولمن يعد للدعوة مستقبلاً.
وعملية الإعداد دقيقة وهامة لا بد لها من جهد كبير، وتخطيط سليم، وإمكانيات واسعة حتى تصل إلى هدفها.
ومؤتمرنا هذا)) مؤتمر توجيه الدعوة وإعداد الدعاة ((خطوة صحيحة على الطريق نرجو له التوفيق والسداد.
ومساهمة في رسم الخطة المثلى لكيفية إعداد الدعاة أقترح ما يلي:-
1) الإشراف المنظم:
أدى التطور الحديث إلى كثرة المؤثرات وتداخل عمليات التغيير الاجتماعي، والداعية في مجمل عمله يقوم بعملية اجتماعية هدفه منها هداية الإنسان وإخراجه من عالم الضلال إلى عالم النور والهدى، وتثبيت عقيدته وسلوكه على الحق وفق تعاليم الإسلام الحنيف. والداعية بذلك يقوم بمهمة عظيمة ودقيقة يحتاج خلالها العون والمساعدة والتخطيط، ولذا كان لا بد من الإشراف على الداعية وإمداده بما يعينه على النجاح. وهذا الإشراف يجب أن يكون موحداً تقوم به هيئة واحدة في كل بلد إسلامي لأن تعدد جهات الإشراف يؤدي إلى التضارب واختلاف الأهداف ويجب أن يكون هذا الإشراف كاملاً بأن يشمل الجوانب التالية:-(13/284)
أـ دراسة التيارات المختلفة التي توجد بين المدعوين، للوقوف على حقيقتها ومعرفة أسبابها، وقياس مدى قوتها، وتحليلها تحليلاً يبين موقعها من الدعوة وبهذه الدراسة يسهل وضع المنهج الأمثل لتبليغ الدعوة.
ب ـ وضع الخطة المناسبة لنجاح الدعوة على ضوء ما يسود المدعوين من تيارات، وما يكتنفهم من اتجاهات ولكل بيئة، لأن الاختلاف بين الأفراد تقتضي الاختلاف في أسلوب الدعوة، وذلك الاختلاف ضروري في فن الدعوة، وإيراده ليس بدعاً أمام الدعاة، لأن تعدد أساليب الخطاب في القرآن الكريم راعت اختلاف المخاطبين، فمن يناسبه الترغيب قد لا يناسبه الترهيب ومن يتأثر بالسور والآيات القصيرة قد لا يتأثر بالآيات الطوال، والمنكر المعاند يحتاج لتأكيد الخبر بعكس العاقل المصدق. وهكذا.
يقول صاحب كتاب القرآن وعلم النفس، والأسلوب المكي يغاير الأسلوب المدني لأن المكي قصير الجمل كثير التكرار، ملئ بالقصص والأقسام فيه مناسبة الفواصل، ورنين السجع، أما المدني فقل أن تجد فيه شيئاً من هذا، والعامل النفسي في ذلك أن القوم في مكة كانوا غير مستقرين، بل كانوا مطاردين قلقة نفوسهم، غير مستعدين لتشريع أو تفصيل، والمشركون أيضاً كانوا منصرفين عن سماع القرآن متأثرة نفوسهم بأدبهم وخطبهم ومنافراتهم، كما أن التشريع يحتاج إلى هدوء ورزانة في العقل، وترو في المنطق، وتقبل للإرشاد، ورغبة في التطور والإصلاح وطاعة للأمر واستجابة للداعي، وكل هذه الحالات غير متوفرة في الحياة المكية مما جعل الأسلوب المكي ينزل مناسباً لأهل مكة، فلما غايرت الحياة المدنية الحياة في مكة جاء الأسلوب المدني مناسباً للحياة المدنية، وبذلك تغاير الأسلوبان في القرآن الكريم [7] وثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يخاطب كل قبيلة بلسانها [8] ، لأن ذلك التناسب من أهم أسباب بيان الدعوة واتضاحها أمام المخاطبين.(13/285)
جـ توجيه الداعية بين الحين والآخر نحو ما يجب عليه عمله للدعوة وخاصة كيفية استخدامه للوسائل الحديثة في تبليغ الدعوة كعقد الندوات المفتوحة، وتقديم التمثيليات الهادفة وهكذا.
د ـ مراجعة أعمال الدعاة. وملاحظة مستوى أدائهم ومتابعة قدراتهم العلمية والأخلاقية للإبقاء على من يرجى صلاحه ووضع غيرهم في أعمال تناسب استعداداتهم.
هـ ـ تنظيم الدراسات التي تقدم للدعاة، ووضع الخطة التفصيلية لها، سواء كانت هذه الدراسات في دورات للعاملين أو في مدارس الدعوة وكلياتها والهدف من هذا التنظيم هو تنسيق المقررات واختيارها لتتجه جميعاً إلى الإعداد المطلوب في انسجام وتكامل.
إن الإشراف بهذا العموم من أسباب نجاح الدعاة في علاجهم أمراض المجتمع بمنهج الإسلام، وفي تصديهم لما يجابههم من شبه وتحديات، ومن أجل أدائه على صورة مثلى فإني أقترح أن تقوم به المؤسسات الرسمية بالاشتراك مع الجامعات الإسلامية المتخصصة، لأن المؤسسات يغلب عليها الطابع التنظيمي، والجامعات يغلب عليها طابع البحث العلمي، وبإيجاد التفاعل بين المؤسسة والجامعة في أي إقليم يمكن الوصول إلى إشراف دقيق يثري كافة الجوانب المطلوبة ويتابع ما يجد بالبحث والتخطيط.
ولعل في هذا المؤتمر مؤشراً على جدوى هذا الاقتراح الذي نرجو له الاستمرار والعموم.
2ـ إقامة دورات للتعليم والتدريب:(13/286)
يجب إقامة دورات تعليمية للدعاة، تأكيداً لما علموا، وتأسيساً لما لم يعلموا لأن العلم يحتاج إلى المحافظة، وحياته مدارسته، كما أن التربية تعتمد في كثير على الخبرة والممارسة وللمسلمين في ذلك أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم فلقد كان شديد الحرص على حفظ ما يوحى إليه حتى طمأنه الله على أن حفظ القرآن الكريم وبيانه متحققان بأمر الله تعالى وذلك في قوله {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَه فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [9] ، وتأكيداً لاستمرار الحفظ والفهم والبيان كان جبريل عليه السلام يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدارسه ما نزل من القرآن مرة، وفي العام الأخير من حياته صلى الله عليه وسلم دارسه القرآن مرتين (( [10] ، وكان عليه الصلاة والسلام يتعهد أصحابه بالتربية والتدريب ولا يكتفي بأنهم علموا فلقد جاء مرة إلى ابن مسعود وقال له: "اقرأ علي شيئاً من القرآن، فقال له ابن مسعود: أأقرأه عليك وعليك أنزل؟! فقال له: نعم. إني أحب أن أسمعه من غيري" [11] .
ومرّ صلى الله عليه وسلم على بلال وهو يقرأ من هذه السورة وهذه السورة. فقال:"يا بلال مررت بك وأنت تقرأ من هذه السورة وهذه السورة. فقال: أخلط الطيب بالطيب. فقال له: أقرأ السورة على وجهها" [12] .
وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه، ويؤكد لهم ما علموا ويوجههم نحو الخير فيما علموا، ويدرهم على القراءة والحفظ أمامه مرة ومرة حتى يتأكد من إتقانهم وقرائتهم وفهمهم للقرآن الكريم.
إن تدريب الدعاة مدارسة لفقههم الدعوة وعلومها، وممارسة عملية على الوسائل الحديثة في فن الدعوة. ومن المستحسن أن ينظم هذا التدريب من خلال دورات تعليمية ينقطع الداعية لها فترة زمنية كافية، ونقترح لهذه الدورات ما يلي:-(13/287)
أـ تنظيم هذه الدورات من قبل كليات الدعوة وأصول الدين في الجامعات الإسلامية بعد أن يوضع للدراسة بها خطة متكاملة تهدف إعداد الدارس كداعية لله تعالى في المجالين النظري والعملي.
إن كليات التربية تقوم بالإشراف على التربية العملية وتقوم بعقد دورات منتظمة للمعلمين تستمر فترات طويلة، وليس هناك ما يمنع تنظيم مثل هذه الدورات للدعاة مع استمرار الدراسة فيها فترة مناسبة على أن يعقد في نهايتها امتحانات نظرية وعملية يحصل الناجح فيها على شهادة معينة تحدد لها المزايا الملائمة تشجيعاً على الدراسة والتحصيل والعناية.
ب ـ يلاحظ تنوع الدراسة كماً وكيفاً تبعاً لمستوى الدعاة وقدراتهم ومستوى الأشخاص الموجهة إليهم الدعوة، واختلاف المهام الموكولة للدعاة. ومن السهل تحديد مستوى الدراسة وذلك بواسطة المشرفين على الدعاة.
جـ ـ تقوم الدراسة النظرية في هذه الدورات على الأساسيات التي يحتاجها الداعية كعلوم القرآن، وعلوم السنة وعلوم العقيدة وأساليب الخطاب وأنواعه، ومما يعمق الاستفادة بدراسة هذه المواد تكليف الدارسين يعمل أبحاث مختصرة في الدراسات الموضوعية من الكتاب والسنة، كما أن هذا النوع من الأبحاث يعلم الداعية كيفية الإعداد والتنسيق وجمع المعلومات وهذا ينفعه في مجال الدعوة.
د ـ لا تكتفي هذه الدورات بالدراسة النظرية، بل إنها تعتمد على الدراسة العملية كعقد الندوات وإقامة حلقات المناقشة وإلقاء الخطب والمحاضرات والتدريب على الإخراج المسرحي والإلقاء التمثيلي. على أن تتم هذه الدراسة تحت إشراف الأساتذة المتخصصين لإصلاح الأخطاء وإتمام القصور، والتعليق المفيد على مستوى آداء الدارس لما كلف به وبذلك يلتقي الجانب النظري مع الجانب العملي. ومن الممكن إقامة الدراسة العملية في تجمع حقيقي للناس كأن تقام في المسجد وفي النادي وفي المصنع.. وهكذا.(13/288)
هـ يهتم برنامج هذه الدورات بدراسة العادات والتقاليد السائدة بين المدعوين، والأديان والمذاهب المنتشرة فيهم، والطبائع والأفكار المسيطرة عليهم.
إن دراسة هذه النواحي تساعد الداعية على فهم المدعوين، وتحدد له طرق مخاطبتهم، ووسائل إقناعهم، كما أنها تجعله يواجههم ويدعوهم بالحكمة المطلوبة، والمجادلة الحسنة،فيأتيهم من حيث حاجتهم وقناعتهم متخيراً المناسب لحالهم، وبذلك ينال ثقتهم ويفوز بهديهم، ويكون ممتثلاً قول الله تعالى {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [13] ونفعها يتم بملاحظة هذه النواحي وأمثالها.
وـ يجب الإهتمام في هذه الدورات بالتركيز على الجانب الإيماني لتعميقه عند الدعاة فهو الركيزة الأساسية لنجاح الدعوة لأن الداعية يظهر للناس ويؤثر فيهم بقوله وعمله وبكل أنشطته وهذا التركيز يتم بما يلي: ـ
ـ إختيار الأساتذة الذين يدرسون في هذه الدورات إختيارا معينا فهم أسوة للدارسين، وقدوة لهم في كافة المجالات، ومن المعلوم أن الطالب يتأثر كثيرا بأستاذه، وهناك العديد من الأعلام تربوا على يد أشياخهم وأخذوا منهم العلم والعمل معا ويجب أن يكون الأساتذة مؤهلين لهذه القدوة حتى يفيدوا ويستفيدوا.
ـ توجيه الدارسين إلى الخلق المتين. والسلوك الحميد مع إبراز الأمثلة الموحية من خلال سيرة النبي الكريم وسيرة الصحابة والتابعين.
ـ العناية بتقديم الدراسات الإسلامية في ثوب قشيب يوجه إلى النظر والتعمق والإخلاص مع ضرورة الدراسة المقارنة وخاصة في مجال الأديان والمذاهب المعاصرة وغيرها
ـ التركيز على بيان صورة المجتمع بنظمه وتقاليده في الإسلام مع بيان موقف الإسلام من مشاكل الحضارة.
ـ مراقبة الجانب العملي للدعاة، والإشراف على حياتهم اليومية للتأكد من محافظتهم على الفرائض والتمسك بالحلال، والبعد عن الحرام في كافة القضايا وجميع الأنشطة.(13/289)
القيام برحلات للدراسة والإعتبار كزيارة مناطق الوحي وأماكن الغزوات ومواطن الأحداث التاريخية، للدراسة والإتعاظ بالنتائج.
إن إيمان الدعاة شرط أساسي لنجاح الدعوة، ويجب أن ينتهي من حياة الناس وإلى الأبد صورة الداعية الذي يعيش حياته العملية بعيدا عن تعاليم الإسلام بصورة كلية أو جزئية، لأن إختلاف عمل الداعية عن قوله يضر ولا يفيد، فهو يدعو الناس بقوله، وينفرهم عن الطاعة بعمله وكأنه يقول لهم لا تصدقوني فيما أدعوكم.(13/290)
إن الناس عامة جبلوا على إحترام الشخصية القائدة التي تتحد قولا وعملا، ويتاثرون بها، يقول الإمام الشاطبي: "إن المفتي أمر مثلا بالصمت عما لا يعني فإن كان صامتا عما لا يعني ففتواه صادقة وإن كان من الخاطئين فيما لا يعني فهي غير صادقة، وإن دلك على المحافظة على الصلاة وكان محافضا عليها صدقت فتياه، وإن لا فلا وعلى هذا سائر أحكام الشريعة. لأن علامة صدق القول مطابقة العمل، بل هو الصدق في الحقيقة عند العلماء، ولذلك قال الله تعالى {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [14] وقال في ضده {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [15] فاعتبر في الصدق مطابقة القول العمل وفي الكذب مخالفته. [16] وحسب الناظر أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم كانت مع أقواله على الوفاء والتمام فحينما نهى النبي عن الربا ووضع الدماء لم يكتفي بالقول بل قرن نهيه بالفعل والتطبيق على نفسه وأهل بيته حيث قال صلى الله عليه وسلم " إن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة وأول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب " [17] ، وقال صلى الله عليه وسلم حين جاءه أسامة بن زيد يستشفعه في حد " أتشفع في حد من حدود الله تعالى والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" [18] .
إن الداعية إذا كان على مستوى الدعوة وتطابق قوله وعمله، فهو أدى إلى النجاح وأقرب إلى التوفيق.
3ـ مكتبة الداعية:(13/291)
لا يستغني الداعية عن القراءة المستمرة والإطلاع الدائم ولذلك فإني أقترح إمداد الداعية بمكتبة إسلامية مناسبة تحوي أهم المراجع في العلوم الإسلامية كالتفسير والحديث والسيرة والفقه والعقيدة، وبذلك يجد الداعية بين يده ما يسهل له إعداد مقولاته وتوجيهاته بصورة حسنة لائقة.
4ـ المؤلفات الموضوعية:
يجد في محيط الدعوة بين الحين والحين قضايا معينة تحتاج إلى بيان موقف الإسلام منها، ولذلك يستحسن تكليف المتخصصين من العلماء بوضع مؤلفات في هذه القضايا على هيئة أبحاث موجزة نافعة للدعاة ليتمكنوا بواسطتها من التصدي للقضايا الجديدة، وبذلك يتضح سمو الإسلام وشموله لكافة جوانب الحياة، ويسهل للدعاة معايشة الواقع بإيجابية وموضوعية، وقدرة.
وتبدو أهمية هذه المؤلفات إذا علمنا كثرة هذه القضايا الجديدة كموضوع تحديد النسل، وشهادات الإستثمار، والسندات، وعمل المرآة… وهكذا. وكلها قضايا تحتاج إلى نظر وتفحص كما أن أعداء الإسلام يتخذونها مدخلا لأنشطتهم ويقدمون فيها حلولا مادية مبتورة. فلو عجز الداعية عن تقديم الحل الإسلامي في صورته المتكاملة المشرقة لأضر وما أفاد، ولذلك كانت ضرورة هذه المؤلفات للدعوة والدعاة.
5ـ المجلة المتخصصة:
يستحسن إصدار مجلات للدعاة شهرية أو موسمية تضم المقالات الإسلامية وأخبار الدعوة والمقترحات المفيدة المتصلة بالدعوة والدعاة، ويمكن لهذه المجلات أن تتصدى لحركات الغزو الفكري الهدام الذي تتراءى صوره وأنشطته داخل المجتمع المسلم وخارجه.(13/292)
إن الصحف والمجلات من الوسائل الإعلامية الحديثة، وليس هناك ما يمنع من إستفادة الدعوة بهذا الأسلوب من زاويته الخيرة وفق خطة مدروسة، وتنسيق معين. وتبدو أهمية هذا المقترح من الإقبال الشديد الذي توليه الجماهير الإسلامية للمجلات الإسلامية الجادة مما يجعلنا إلى أن المجلات الصادقة تعتبر من أنجح وسائل الدعوة في الوقت الذي تفيد فيه الداعية وتعده لعمله الكبير.
إن الهيئات العلمية والمؤسسات الجماهيرية تصدر المجالات الخاصة بها لأهميتها، ومن الأولى للدعاة أن يكونوا من أول المستفدين بهذه الوسيلة شريطة أن يقصدوا بها وجه الله تعالى، ويبتعدوا عن تناول القضايا الجانبية التي تشغلهم عن هدفهم الأصيل، ويجعلوها نبيلة سامية كسمو الإسلام ونبله وعظمته وحكمته.
6ـ تحسين المستوى الإجتماعي للدعاة:
يقوم الدعاة بأسمى عمل يؤديه بشر، ويقصدون أنبل غاية وهدف، فهم يحملون دين الله للناس، ويرجون الهدى والخير للعالمين، إنهم رسل سعادة، وحماة أمن، ورجال حقوق، يحاربون الفوضى، ويعادون الفساد، ويقفون في الخط الأول أمام أعداء الله يتصدون لكيدهم، ويهزمون مكرهم، ويردونهم على أعقابهم خائبين.
إنهم بذلك روّاد عظماء، ورجال أفذاذ، يفتون في كل فعل، ويوجهون كل حال، يسمع رأيهم، ويقتدى بهم، وينالون ما يستحقون من إحترام وتقدير.
ذلك هو الواجب.
لكن أعدائهم من البشر تكالبوا عليهم وعملوا على إبعادهم عن منزلتهم الإجتماعية السامية آملين من ذلك الإساءة إلى أشخاصهم وإلى دعوتهم. وكان لهم بعض ما أرادوا. إن نظرة واقعية لحال الدعاة اليوم في المجتمع المسلم تؤكد أنهم أصبحوا في مؤخرة الصف الإجتماعي. فدخلهم المادي ضئيل، ومركزهم بين الناس هين، وليس لهم من الجاه والسلطان ما يذكر، وحري بمن هذا وضعه أن لا يسمع قوله، ولا تؤثر توجيهاته ومواعظه.. إن الناس قد جبلوا على إحترام ذي المظهر الغني وصاحب الجاه والسلطان.(13/293)
من ذلك أن رجلا حسن المظهر حسن الثياب مر على الصحابة وهم جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم: ـ
ـ "ما تقولون في هذا؟
قالوا: " هذا حري إن خطب ينكح وإن قال يسمع. وإن شفع يشفع له " ورغم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه خطأ حكمهم في نهاية الحديث إلا أنهم رضوان الله عنهم حكموا بما جبلوا عليه البشر من إحترام ذي المظهر الحسن، وتقدير الرجل الغني، وطاعة ذوي الوجاهة والسلطان، وما دام الأمر كذلك فإن وضع الدعاة في صورة حسنة أمام الناس يعتبر جزءاً من الدعوة الواجبة، وعلى المسلمين جميعاً وهو ينفذون واجب تبليغ الدعوة أن يعملوا على تحسين مستوى الدعاة، وأن يبذلوا لهم كل ما يعينهم في عملية الدعوة، أداء لجزء من المسؤولية، ووفاء لأمانة لازمة، ومن أجل تحسين مستوى الدعاة فإني أقترح ما يلي:-
ـ منح الدعاة الرواتب المجزية التي لا تقل عن رواتب نظائرهم من أصحاب المهن الأخرى كالمهندس والطبيب والمدرس وغيرهم، لأن الدعاة درسوا كهؤلاء. ويمكنهم أن يوجهوهم وأهمية عمل الدعاة يفرق أي عمل آخر في قيمته ووسائله ونتائجه.
ـ تمتع الدعاة بكافة الامتيازات التي يتمتع بها كافة موظفي الدولة من علاج مجاني، وإجازات، وفرص للترقية، وضمان للمعاش عند وصولهم لسن معينة أو عند وفاتهم.
ـ استحداث وظائف عليا للدعاة يصلون إليها بالترقي وفق قواعد معينة ثابتة، وليس هناك ما يمنع من إنشاء وظائف المستشار الديني في كل مؤسسة ومصلحة لإبراز رأي الدين وتوجيهاته بجانب غيره من المستشارين.
ـ منح الدعاة السكن المناسب الذي يسمح لهم بالاستقرار العائلي، والهدوء النفسي، ويسمح لهم باستقبال أصحاب الحاجات، وطلاب المعرفة، وذي المقاصد المختلفة لأن عمل الداعية لا يتعين بوقت أو مكان، ويجب أن يكون مستعداً لملاقاة المدعوين كلما جاز ذلك.(13/294)
ـ تيسير وسائل الانتقال للدعاة على أن تكون على وجه لائق مناسب للبيئة التي يعيشون ويتحركون فيها.
ـ تكليف الدعاة ببعض المسئوليات الاجتماعية في المنطقة التي يدعون فيها، وذلك كالفصل في المنازعات، وتوزيع الإعانات المالية على الفقراء والمحتاجين، والإشراف على بعض المؤسسات الشعبية كتعليم الكبار، وهذا من أجل إبرازهم أمام الناس في دور المسؤول الهام.
ـ منع الدعاة من القيام بعمل آخر غير الدعوة، وما دام قد يسرت لهم الحياة الكريمة، والكسب الحلال فلا حاجة بعد ذلك لأي عمل.
وبهذا وأمثاله يأخذ الدعاة منزلتهم اللائقة، ويؤدون دورهم بصورة حسنة ناجحة، وهكذا يمكن إعداد الدعاة القائمين بالعمل فعلاً بتدريبهم، وإعانتهم وإمدادهم بالكتب والمؤلفات، ورفع مكانتهم وكل ذلك وفق خطة منظمة وتحت إشراف دقيق.
وبالنسبة لتهيئة دعاة جدد من أجل القيام بتبليغ الدعوة بعد إعدادهم فإني أقترح لإعدادهم بالإضافة إلى ما سبق من اقتراح للدعاة العاملين ما يلي:-
1) الاختيار المبكر:
يولد الطفل بمجموعة من الصفات الموروثة من والديه، ويكتسب مجموعة أخرى من بيئته الأسرية، فإذا ما بدأ دراسته الأولى في المدرسة أو الكتاب أخذ في اكتساب المزيد من الصفات عن طريق أقرانه وأساتذته.
وكم كنت أتمنى اختيار طلبة الدعوة مع بدء تعليمهم، لكن صعوبة ذلك يدفعنا إلى اقتراح اختيار هؤلاء الطلاب بعد المرحلة الأولى على أن يستفاد من هذه المرحلة بما يدرس فيها كمعرفة أصول اللغة وحفظ بعض القرآن الكريم وتربية بعض الملكات الفطرية عند الولد. وينبغي في هذه المرحلة أن توضع بطاقة لكل طالب تدون فيها ميوله، ورغباته، ومستوى ذكائه، وقدرته على التحصيل الدراسي ومدى استجابته لتوجيه أساتذته أمراً ونهياً، ومدى تأثره بأقرانه وتأثيره فيهم، لأن هذه المعلومات تعتبر مؤشراً على شخصية الطالب واتجاهاته فيما بعد.(13/295)
ومن الممكن اختبار بعض الطلاب لدراسة علوم الدعوة بعد المرحلة الأولى على أساس استعداداتهم وميولهم. يقول ابن سينا: "إذا فرغ الصبي من تعلم القرآن الكريم وحفظ أصول اللغة أنظر عند ذلك إلى ما يراد أن تكون صناعته فوجهه لطريقه بعد أن يعلم مدير الصبي أن ليس كل صناعة يرومها الصبي ممكنة له مواتية لكن ما شاكل طبعه وناسبه" [19] . وتلك ملاحظة هامة لأن وضع الإنسان في موضع يتفق مع ميوله واستعداداته أول شروط النجاح ولنقتد في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي اختار أبا بكر وعمر رضي الله عنهما للشورى واختار أبا عبيدة وخالداً وأسامة للحرب والقتال، واختار علياً ومعاذاً للحكم والقضاء، وهكذا سائر الصحابة الذين وكل إليهم بأعمال متعددة. وما تم ذلك إلا وفق استعداد كل منهم ليقوم بما يعهد إليه من مهام، ومن الممكن أيضاً عقد لقاءات شخصية للطلاب لاختبار قدرتهم واستعدادهم لهذا النوع من الدراسة لأن الاستعداد الشخصي أساس للتفوق العلمي، ولقد كان السلف رضوان الله عليهم يختبرون من يعلمون حتى لا يضعوا البذرة في أرض سبخة، ومن ذلك ما حدث من الخليل بن أحمد عالم العربية حينما أتاه النظام بولده إبراهيم وقال له: علم لي ولدي هذا، فإنه اختبره أولاً، وقال له صف هذا الكأس وأشار إلى كأس في يده فقال الغلام: بمدح أم بذم؟
قال: بمدح.
فقال الغلام: تريك القذى، ولا تقبل الأذى، ولا تستر ما وراء.
قال: فذمها.
فقال الغلام: يسرع إليها الكسر، ولا تقبل الجبر.
ومن ذلك أيضاً أن الحافظ العراقي لما ذهب إلى شيخ ابن البابا ليتلقى عنه الحديث اختبره أولا حيث قال له: من ابن البيع؟
قال الحافظ: الحاكم أبو عبد الله النيسابوري.
فقال له: من أبو محمد الهلالي؟
قال: سفيان بن عيينة.
قال له: هلم يا بني. وعرف مكانته من الوعي والإدراك، واستعداده للتعلم وعلمه.(13/296)
إن مثل هذا الاختبار يتم اليوم في عدد من الدراسات المتخصصة التي تبدأ من وقت مبكر كدور المعلمين والمعلمات، ومعاهد الخدمة الاجتماعية، والمدارس العسكرية المشروعة، وذلك كله لينجح الطالب بعد تخرجه فيما يوكل إليه من أعمال.
وقد أدرك قدر هذا الاختبار المبكر مع الاختيار أصحاب المذاهب الوضعية ورجال الكنائس العالمية فعملوا به وأخذوا يعدون لباطلهم دعاة فيهم الذكاء والنشاط والإخلاص، وغير ذلك من الصفات التي تنتشر بها الأفكار والعقائد.
وإعداد الدعاة إلى الإسلام يجب أن يندرج في هذا الخط الطبيعي، حيث يختارون في سن مبكرة، وتختبر مستوياتهم الذهنية وقدراتهم الشخصية ليسهل إعدادهم، ويكونوا بعد تخرجهم على مستوى أهمية الدعوة، وأهميه العمل لها.
مدارس الدعاة:
بعد انتهاء المرحلة الأولى يلتحق الطلاب بالمرحلة المتوسطة، وأقترح هنا إنشاء مدارس متوسطة وثانوية للدعوة بجانب الكليات الجامعية. يتلقى بها الطلاب الذين وقع عليهم الاختيار كدعاة دراساتهم المتوسطة والثانوية.
ومن المتصور أن الطالب في المرحلة الأولى أجاد القراءة والكتابة وحفظ قدراً كبيراً من القرآن الكريم. وعرف مبادئ عدد من العلوم كالحساب والهندسة، وبعد ذلك يلتحق طالب الدعوة بمدارس الدعوة المتوسطة لتعده مع المراحل بعدها للدعوة وفق خطة تتطور بتطور عمره وعمله، ومناهج هذه المدارس بالضرورة تشتمل على دراسات للإعداد العام، وأخرى للإعداد التخصصي. ويقوم المشرفون بوضع المناهج والمقررات المطلوبة.
وينبغي أن يكون نظام هذه المدارس على أساس الرعاية الكاملة طوال اليوم بحيث يعيش الدارسون بين أساتذتهم وقت الدراسة ويقضون أوقات راحتهم وترويحهم مع الموجهين والمشرفين وبذلك يعيش الطلبة بين الأستاذ والموجه مما يجعلهم يسيرون تلقائياً نحو التربية المقصودة والهدف المنشود.(13/297)
إن النظام الداخلي خلال الدراسة في هذه المدارس هو أحسن ما يحتاجه الدارسون وبخاصة في المجتمعات الحديثة التي كثرت فيها المؤثرات، وتعددت معها الأهداف والغايات، مما جعل الأفراد بسببها في تناقض ذاتي. واضطراب فكري.
ولو كانت المجتمعات الإسلامية تسلك المنهج الأمثل في كافة أنشطتها لقلنا أن أنشطة المجتمع تكمل دور مدارس الدعوة وتساهم بجزء هام في تكوين الشخصية الإسلامية، تماماً كما كان المجتمع الإسلامي في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يسمع الأفراد ويرون تطبيقات الإسلام في مختلف الأنظمة والأنشطة مما جعلهم خير أفراد كونوا خير أمة أخرجت للناس بإيمانها، وأعمالها، وتمسكها بالمعروف، وبعدها عن المنكر.
إنا نتمنى للمسلمين أن يعاودوا سيرتهم الأولى، وحتى يتحقق ذلك نقترح لمدارس الدعاة أن تقوم على الأساس الذي أشرنا إليه من أجل تحقيق تكامل الداعية، وإعداده إعداداً سوياً خالياً من التضارب والسلبية.
إن التفرغ الكامل للدراسين يسهل أمام المسؤولين تكوين الدعاة بالصورة المرجوة في الدين والعلم والخلق، وليس التفرغ للدراسة بالأمر الصعب على من يختار للدراسة لأن نوعيات عديدة من المدارس والمعاهد في جميع أنحاء العالم أخذت بنظام التفرغ خلال الدراسة في مقابل تحقيق بعض المزايا المادية والمعنوية للدراسين وكان الإقبال عليها شديداً، ودلت نتائجها على تحقيقها لأغلب الأهداف التي وضعت البرامج من أجل الوصول إليها.
ويجب أن تشمل مدارس الدعاة على مزايا عديدة، يجدها الدارسون خلال الدراسة وبعدها، وذلك لاختيار أفضل العناصر للقيام بالدعوة، وإعدادهم الإعداد المطلوب، ومن المعلوم أن صناعة الدعاة تعني صناعة الأمة فإذا ما أحسن المسلمون إعدادهم وتربيتهم فقد أدوا بعض ما وجب عليهم، ونفعوا في نفس الوقت أنفسهم وأمتهم بنشر العدل. وتحقيق الأمن. ومحاربة البغي والفساد بواسطة من أعدوا من الدعاة.(13/298)
إن مناهج ومقررات مدارس الدعاة يجب أن تتجه جميعاً إلى بناء شخصية الدعاة بصورة متكاملة، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه نموذجاً لهذه الشخصية لتكون ماثلة أمام المسلمين في مختلف العصور ينشئون أجيالهم على نمطها ويتخذونها المثال لحياتهم ومعاشهم، ولا غرو في ذلك فرسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ليتم مكارم الأخلاق بالهدى ودين الحق، وليوجه الإنسانية إلى ما يصلح شأنها ويعلي قدرها.
إن الدعوة إلى الإسلام تحتاج في كل وقت إلى التكامل في شخصية الدعاة ومن هنا ندرك حرص الرسول على تربية الشخصية والإعتداد بالنفس عند أصحابه رضوان الله عليهم حتى أصبح كل منهم أمة في نفسه، لا يعرف غير الحق، ولا يخشى في الله لومة لائم، وتكامل شخصية الداعية يتم بتمكنه من الصفات الواجبة التي أشرنا إليها وهي إيمان متين وخلق قويم وعلم دقيق. وأفق واسع.
ويجب أن تقدم مدارس الدعوة لطلبتها الدراسات التي تساعد على هذا التكامل وفق خطة مقررة يضعها الإشراف المتخصص على إعداد الدعاة.
وأرى أن تشمل الخطة الدراسية على الدراسات التالية:-
أولاً: الدراسات القرآنية: وتشمل حفظ القرآن الكريم وتفسيره ودراسة علومه وبخاصة ما يحتاجه الدعاة منها.
ثانياً: الدراسات المتصلة بالسنة: وتشمل دراسة الحديث النبوي وعلومه ودراسة السيرة النبوية دراسة تحليلية من خلال نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية.
ثالثاً الدراسات الفقهية: وتشمل دراسة الفقه الإسلامي وتاريخه والأسس العامة لأصوله كما يشمل دراسة النظم الإسلامية في مختلف المجالات.
رابعاً الدراسات المتصلة بالعقيدة: وتشمل دراسة التوحيد، واتجاهات الفرق الضالة في الإسلام. والملل السابقة، والمذاهب الإلحادية المعاصرة. مع تناول الشبه التي تثار حول العقيدة بالتحليل والتفنيد.(13/299)
خامساً الدراسات التاريخية: وتشمل دراسة تاريخ الدعوة والدعاة في مختلف العصور الإسلامية مع بيان دور المؤسسات معهما. كما تشمل دراسة المجتمعات الإسلامية والأقليات المسلمة كما يشمل دراسة المشاكل والقضايا التي جائت بها الحضارة مع بيان موقف الإسلام منها.
سادساً الدراسات الفنية والمسلكية: وتشمل دراسة علم النفس التربوي وفن الدعوة والخطابة والخدمة الاجتماعية وكافة الطرق الفنية التي تساعد في تبليغ الإسلام.
سابعاً دراسة الإعداد العام: ويشمل دراسة قواعد اللغة العربية ومبادئ علم البلاغة والأدب والجغرافيا. وهكذا.(13/300)
ثامناً دراسة اللغات الأجنبية: تعتبر دراسة اللغات الأجنبية من أهم الدراسات اللازمة للدعاة في العصر الحديث لأن أغلب من توجه إليهم الدعوة من غير العرب كما أن العديد من المؤلفات التي تتعلق بالإسلام إيجاباً أو سلباً كتبت بغير اللغة العربية، وحتى يمكن قراءة كل ما يقال عن الإسلام. ومن أجل تبليغ الإسلام لجميع الناس يجب إحاطة الدعاة بصورة تامة بلغات من سيدعونهم، وهذا واجب بديهي لأن مصادر الإسلام نزلت بلغة عربية وحفظها الله للناس كما أنزلها على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وألزم المؤمنين تبليغ الإسلام على وجه بين واضح ولا يتم ذلك باتحاد اللغة بين الداعية والمدعوين أيا كانت هذه اللغة ولهذا المعنى أرسل الله رسله السابقين إلى أقوامهم بلسانهم حيث يقول تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [20] وبسبب كون القرآن نزل في العرب أولاً كان بلغتهم لأنه لو كان بغير لغة العرب ولطلبوا نزوله بلسانهم ليفقهوه لكن الله تعالى بحكمته أنزله عربياً وقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [21] ولعل في قوله تعالى {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [22] إنكاراً للاختلاف اللغوي بين الداعية والمدعوين إذ لا يصح أن يكون الكلام أعجمياً والمخاطب به عربياً لأن ذلك لو حدث لاحتاج المخاطبون إلى التفصيل والبيان.
وتحقيقاً لعالمية الإسلام مكن الله للعرب من إتقان لغات العالم كله. ويجب على الدعاة أن يتمكنوا من ذلك دائما، وقد وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين والدعاة إلى هذا الواجب بما فعله مع الصحابي زيد بن ثابت حيث قال له: "يا زيد أتحسن السريانية؟ إنها تأتيني كتب بها. قال زيد: قلت: لا. قال: تعلمها. فتعلمتها في سبعة عشر يوما"ً [23] .(13/301)
وهكذا وضح الرسول للمسلمين طريق مخاطبة الناس وتوجيههم إلى الله تعالى. ونظراً لكثرة اللغات العالمية فإنه يمكن تقسيم الطلاب إلى مجموعات تختص كل مجموعة بدراسة لغة أو لغتين وبذلك يمكن تخصيص كل مجموعة بدعوة إقليم ما من أقاليم العالم.
وينبغي تعريف كل جماعة بالإقليم الذي ينطق لغة دراستهم من ناحية عاداته وتقاليده والأديان والمذاهب المنتشرة فيه ليكون الدعاة على بينة تامة ممن سيدعونهم وقد أطلت في الحديث عن دراسة اللغات لأهميتها وضرورتها للدعاة أملا في أن تحققها مدارس الدعاة. والله الموفق.
3ـ كليات الدعوة:
تعتبر الدراسة في كليات الدعوة امتداداً للدراسة في المدارس المتوسطة والثانوية من حيث الهدف والغاية مع تميزها بالعمق والتحليل والمقارنة وإجراء البحوث الميدانية والعلمية.
وعلى المسؤولين المشرفين أن يحددوا المقرارات والمناهج المطلوبة لمدارس وكليات الدعوة. من أجل تحقيق التكامل بين الدراسات المقررة، وفي نفس الوقت على المشرفين ملاحظة أن المرحلة الثانوية تكون نهاية الدراسة لعدد من الطلاب مما يحتم اعتبار الدارس المتخرج من هذه المرحلة معداً على مستوى معين، ويمكن الاستعانة بهؤلاء كدعاة في القرى الصغيرة والمجتمعات البسيطة، كما يمكن جعلهم مساعدين للدعاة في المجتمعات الواسعة.
ويجب عدم تكليف من يقل مستواه عن الدراسة الثانوية في علوم الدعوة بأي عمل في مجال الدعوة، وكما جاز اقتصار بعض الطلاب على الدراسة الثانوية فإنه يجوز أن يستمر بعض الطلاب في الدراسات العليا للحصول على الماجستير والدكتوراه في علوم الدعوة. وعلى كليات الدعوة أن تهتم وتخطط لذلك.
وبعدما يتخرج الدعاة يكلفون بما أعدوا له وينضمون إلى من سبقهم من الدعاة وبذا لا تنقطع الصلة بهم بعد عملهم حيث يستمر معهم الإشراف والعون والمساعدة والله الموفق..(13/302)
وبالنسبة للدعاة المبعوثين إلى خارج المجتمع الإسلامي فإنه يجب أن يكونوا متخرجين من كليات الدعوة مع تفوقهم في دراسة البيئات التي سيوجهون إليها ومعرفتهم التامة بلغات من سيدعونهم، وإحاطتهم بمختلف التيارات والمذاهب السائدة بين من سيعيشون معهم. لأنهم بذلك يكونون أقدر على تبليغ الدعوة على وجه بين سديد.
ولهؤلاء الدعاة إضافة إلى ما سبق أقترح ما يلي:-
1ـ العون الواسع:
يحتاج الدعاة الذين يدعون في الخارج إلى الإنفاق المتعدد الجوانب كوسيلة للدعوة. والواجب إعانتهم بالإمكانيات المادية الواسعة ليؤدوا ما وكل إليهم.
ويمكن في هذا المجال الاستفادة بمسلك المبشرين الغربيين الذين يدعون إلى المسيحية في غير بلادهم، إنهم يؤسسون المدارس والجامعات، وينشؤون المستشفيات ويصدرون الصحف والمجلات ويقيمون المؤتمرات والندوات، ويعطون الإعانات، ويمدون الناس بالخدمات المجانية في كل مجال متصور، إنهم يفعلون ذلك وغيره لاستثماره نحو هدفهم بطرق عديدة.
والواجب على الدعاة أن يعددوا أنشطتهم وينطلقوا بدعوتهم إلى كافة الأماكن الممكنة. وبكل السبل. وإمدادهم بالمال اللازم لذلك ضرورة واجبة على الدول الإسلامية جميعاً.
2ـ تعيين مساعدين للدعاة:
مجالات الدعوة في الخارج عديدة كما ذكرنا والداعية وحده لا يقدر على القيام بها، ولذلك كان إمداده بعدد من الدعاة الأكفاء يعملون كمساعدين له وفق خطة معينة وهدف مرسوم. وإذا تيسر ذلك انطلق الداعية ومساعدون كفريق متكامل للدعوة بمختلف الوسائل والأساليب، ومن الجائز أن يكون المساعدين الطبيب والمدرس وهكذا. حتى يمكنهم انتشار بين المدعوين، والتوجه إليهم بصورة مقبولة مقنعة.(13/303)
ويوجد حالياً مراكز للدعوة في الخارج ومن الأفضل الاستفادة بخبرات العاملين فيها مع توسيع نشاطها، وتدعيمها بالمال وإمدادها بالدعاة اللازمين. وليس بمستحسن أبداً وقد من الله على المسلمين بنعمه الوفيرة أن يبقى نشاط المراكز الإسلامية قليلاً، ومنحصراً في بعض العواصم الرئيسية في العالم، إن الواجب يجعلني ألح على ضرورة وجود الدعاة في مجاهل إفريقيا وقراها المتناثرة بين الأدغال والصحراء وفي أنحاء كثيرة من آسيا. وفي العالم كله حتى يخلص المسلمون من الواجب الذي كلفوا به جميعاً وهو تبليغ الدعوة إلى العالمين.
3ـ حماية الدعاة:
دعاة الخارج يعملون في ببيئة غريبة عنهم، وحمايتهم لذلك واجبة تقوية لثقتهم وتمكيناً لهم من العمل السديد.
ويمكن في هذا المجال أن يعطوا الحصانة الدبلوماسية التي يتمتع بها ممثلو الدول وذلك أمر سهل لو حاوله المسلمون، إن المبشرين الغربيين يتمتعون بما هو أقوى من هذه الحصانة فجميع ممثلي دولهم في خدمتهم وسياسة دولهم في عونهم وعلى أمثالهم سائرة دعاة الباطل.
إن الواجب حماية الدعاة في الخارج بواسطة الحكومات الإسلامية، وسفرائها بكل وسيلة ممكنة، حتى يشعر المسلمون أنهم يبلغون دين الله للناس على وجه بين سديد.
الخاتمة
وبعد..
فكل ما أرجوه من الله تعالى أن يوفق العاملين المخلصين لإنجاح الدعوة وتبليغها للناس، كما أسأله أن يجعل عملي هذا خالصاً لوجهه فإليه سبحانه يرجع الأمر كله.
وهو نعم المولى ونعم النصير.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]ـ سورة النحل من آية 125
[2]ـ صحيح البخاري. كتاب العلم باب ليبلغ الشاهد الغائب.
[3]ـ سورة التوبة آية 122
[4]ـ سورة آل عمران آية 104
[5] سورة البقرة من آية165.
[6] سورة المائدة من آية 54.(13/304)
[7] القرآن وعلم النفس للشيخ خلاف ص 21.
[8] الشفا للقاضي عياض جـ 1 ص 278 وقد أورد القاضي عياض أمثلة عدبدة على هذا في كتابه المذكور.
[9] سورة القيامة آية 17، 18، 19.
[10] صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن جـ 6 ص 229.
[11] الاتقان جـ 1 ص 109.
[12] المصدر السابق جـ 1 ص 109.
[13]ـ سورة الأعلى آية 9
[14] سورة الأحزاب من آية 23
[15] سورة التوبة آيات 75ـ77
[16] الموافقات ج4ص252بتصرف
[17] العقد الفريد ج2ص130
[18] صحيح مسلم كتاب الحدود باب قطع يد الشريف
[19] التربية عند علماء المسلمين ص 17 المقدمة.
[20] سورة إبراهيم من آية 4.
[21] سورة فصلت من آية 44.
[22] سورة فصلت من آية 44.
[23] الفتح الرباني.. كتاب العلم باب فضل العلوم والعلماء.(13/305)
إعداد الداعية ومعالجة بعض مشاكل الدعوة
لفضيلة الشيخ محمد محمد أبو فرحة
المحاضر بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله ومن اهتدى بهداه ـ وبعد
فإن الجامعة الإسلامية التي نسعد اليوم بالاجتماع في رحابها الطيبة الفسيحة قامت لتؤدي رسالة الدعوة إلى الله تعالى وإلى الرجوع إلى دينه الحنيف الصافي مما علق به وزاد فيه على مدى القرون السابقة: من شوائب تمس العقيدة ومن تشقيقات تبلبل الفكر في العبادة ومن سلوك مشين يصرف المسلمين رويداً رويداً عن آداب دينهم وأخلاقه.
نعم أقيمت الجامعة لتؤدي هذه الرسالة بعد أن تخلى عن القيام بها أو ضعف التصدي لأعدائها العديد من الجهات. فمنذ تأسست عملت في صمت وسكون على تربية وتدريب أبنائها على القيام بأشرف الأعمال وأعلاها قدراً وأعظمها شأناً وهي الدعوة إلى الله تبارك وتعالى على بصيرة.
فلما بعثت بالكثيرين من أبنائها والمتخرجين فيها إلى العديد من الدول الإسلامية وغير الإسلامية ووضعت لنفسها وللدعوة نقاط ارتكاز في أنحاء مختلفة من العالم وعلى مدى خمسة عشر عاماً من الزمان وهي مدة النضج لها، بدأت بالدعوة إلى مؤتمركم هذا المبارك إن شاء الله تعالى في هذا الزمان وهذا المكان لتشتركوا معها في رسم خطة طويلة الأمد تتبين على ضوئها خير الطرق وأصلحها للقيام بالدعوة.
الظروف مواتية:(13/306)
وأرى أن الظروف متاحة الآن للدعوة ومهيأة للقيام بها في أنحاء مختلفة بعد أن أصبح المفكرون في العالم كله يتطلعون إلى منقذ ينقذه مما تردى فيه من فجور وفسوق واضطراب نفس وبلبلة فكر شملت الكبار والصغار والنساء والرجال واستشرى ـ ضرورة في الريف بعد أن عم المدن ولم يجد المفكرون من أهل الأديان الأخرى في أديانهم التي يتدينون بها. ما يسد فراغهم الروحي الديني وما يسكن نفوسهم المضطربة فبدأوا يبحثوا عن مشعل يهديهم السبيل ويقودهم إلى ما يملأ قلوبهم هداية ونفوسهم أمنا.
والمجتمعات كلها غارقة فيما جد من مذاهب وما استحدث من مبادئ وكلها تتجاذب الناس إلى ناحيتها وتغريهم بما تنمقه من دعايات وما تزوقه من أساليب وتخاطبهم زورا بما تهفوا له النفوس القلقة وتناديهم بالنغمة التي يسمعونها وتلمس مواضع الآلام في نفوسهم وتتبنى مشكلاتهم وتنصب نفسها للدفاع عنهم والمطالبة بحقوقهم تعدهم بتحقيقها مهما اعترضها من صعاب وتمنيهم بنظام متكامل ينقذ العالم مما تردى فيه من أنظمة براقة ومبادئ وعدته بالسعادة في الدنيا. وبالراحة والأمن والاطمئنان فيها. ولكنها لم تحقق له السعادة بل هوى بسببها في الشقاء ولم تهيئ له الأمن فقد أصيب من جرائها بالذعر والخوف. ولم يعد يطمئن على عرض ولا على نفس ولا على مال مما له في الحياة.
نعم العالم اليوم في حاجة إلى الإسلام باعتباره نظاما عاما لشئون الحياة يقي البشرية من ويلات الحروب المدمرة ويقر العدل بين الناس ويطبق الإخاء والمساواة بين البشر وينشل الإنسان مما تردى فيه من وحل المادية الوبيئة الآسنة: بعد أن جرب العقائد الأخرى فانحطت بإنسانيته إلى ما دون ـ الحيوانات وبعد أن جرب نظام الرأسمالية والشيوعية: فاعتصره الأول وأذله ومحا إنسانيته الثاني. وفشلت الأنظمة الأرضية كلها في تحقيق أدنى طمأنينة للإنسان.
أيها الإخوة:(13/307)
إن قضية الدعوة في الزمان الحاضر تختلف تمام الاختلاف عنها في الماضي فمشكلاتها اليوم شملت الأسرة وامتزجت بالمجتمع وتغلغلت في الأنظمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتعليمية كما صبغت بألوان الجنس واللون والوطن والقومية وتعددت المذاهب والمبادئ وخطط للقضاء على القيم الروحية والأخلاقية تخطيط مادي ونفسي واجتماعي يهدف أول ما يهدف إلى تفتيت الأسرة باعتبارها اللبنة الأولى في كيان المجتمع. واستغلت في ذلك وسائل الإعلام والتي يدفع الجمهور المجني عليه منها نفقاته من دمه. سواء في ذلك الصحافة والإذاعة والتلفزة والأفلام المتنقلة داخل البيوت في صمت وخفاء، بما يجعل دعوة الفساد والخروج على روح الأديان كلها وعلى القيم الأخلاقية، يصل إلى النساء والأمهات في خدورهن ومخادعهن وإلى الشباب في معاهدهم ومصانعهم ويصل إلى الفلاحين في حقولهم وإلى المسافرين على سطوح البحار أو على متون القفار. وساعد أصحاب الأغراض والأهواء على إشاعتها وأغمض الحكام وأولوا الأمر (أغلب الدول) عيونهم عن أضرارها: إما لهوى في نفوسهم أو شرا، لعواطف الجماهير أو رغبة في تمييع الشعوب وصرفها عن مناقشة سياستهم ومطالبتهم ـ بالإصلاحات الداخلية وشارك بعض الآباء أولادهم في سيرهم وشجعوهم على انحرافهم إما يأسا من إصلاحهم وإما لهوى في نفوسهم.
كما أن الأنظمة الحكومية التي كانت تبيح النشاطات الإصلاحية قد انتهت أو كادت وحل محلها أنظمة أخرى فيها دكتاتورية جامحة تربي قادتها وأولوا الأمر فيها على الحقد على الإسلام وعلى احتقار المسلمين.
مهمة الداعي(13/308)
مما سبق يتضح أن مهمة الداعي الإسلامي أصبحت شاقة وصعبة ودقيقة جداً لأنه يعيش في هذا الجو بنفسه وبأسرته فأينما يوجه وجهه يرى الفساد ويسمعه ويقرأه. وتعرض عليه نماذجه في كل ميدان من ميادين حياته. بل وتقتحم عليه مسكنه وغرقة نومه، وكلها مداخل يتسرب منها اليأس إلى نفسه وضباب يحجب الرؤية الصادقة والصافية عن فكره ما لم يكن مؤمنا قوي الإيمان بالله ذا عزيمة قوية صلبة منح التوفيق والعون من الله. وأعد الأعداء المناسب من قيادته. وكانت عنده الاستعدادت الفطرية والمكتسبة للعمل العظيم الذي يوكل إليه القيام به.
واجب هيئات الدعوة
ومن هنا كان على كل هيئة تنصب نفسها للقيام بالدعوة أو تقوم بها فعلا أن تأخذ في اعتبارها هذه العوامل فتغير من أسلوبها وحركتها وأنظمتها وأساليب تربيتها لدعاتها وإعدادهم إعدادا سليما ودقيقا يتناسب مع البيئة السابق وصفها لتخريج دعاة، عندهم المقدرة لعرض أفكار الإسلام ومبادئه تناسب العصر الذي نعيش فيه. بأساليب تلفت نظر الحيارى من أهل العصر إلى الإسلام بتوضيح أغراضه من غير تعقيد موئس. ولا تزمت منفر. وبلا تفريط أو تساهل يحطم بنيان الإسلام ويؤدي بالدعوة ويجعلها تنماع في مجتمعها وتصبح رسالة شكلية وصورة بلا حقيقة كما عليه أكثر هيئات الدعوة الآن: إسلاميتها عنوان يكتب ووصف يذكر. وليس لها حقيقة تعرف.
فالإسلام يحتاج إلى دعاة يخاطبون الجماهير بما يؤثر فيهم ويلمسون مواضع العلة في نفوسهم وفي مجتمعاتهم ويصفون لهم من أدوية الإسلام وعلاجاته ما يخفف آلامهم ويضمد جراحهم. كما يخاطبون الناس بمقدار ما يفهمون فينزلون ـ إلى مستوى العامة ويرتفعون إلى مستوى المثقفين, فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن تخاطب الناس على مقدار عقولهم. ولكل مقام مقال يناسبه.
الطريق إلى الدعوة(13/309)
ولعل الطريق الوصل إلى تحقيق الهدف والتغلب على ما سبق بيانه من مشكلات أن تكون الدعوة قائمة على أسس سليمة وأن ترسم لها لطرق بحيث يكون لكل جهة ما يناسبها من أساليب. وأن يكون القائمين بها نماذج حية لما يدعون إليه. وقدوة حسنة تلتزم العمل بما تأمر به وتتجافى عما تنهى عنه نماذج تعلن عن دعوتها بنفسها، وبسيرتها الطيبة ومعاملاتها الحسنة. وعلم أفرادها: العلم الصحيح الفياض وحرصهم على نفع الناس وعطفهم على الضعيف وتعليم الجاهل: وذلك قبل أن تعلن عن هدفها بخطبها ومطبوعاتها.
ولأجل تكوين الداعي الذي يخوض المعركة بنجاح وظفر أرى أن يتبع ما يأتي:
1ـ تكوين هيئة تخطط للدعوة وتشرف على تنفيذ مخططها.
2ـ اختيار من يؤهلون للدعوة.
3ـ تخصيص إحدى الكليات لتأهيل الدعاة.
4ـ التفرقة بين الدعوة في التأهيل.
5ـ العناية بالناحية العملية.
6ـ واجب الدعاة نحو أنفسهم.
هيئة عامة للدعوة
وأرى أن يرشح مؤتمركم الموقر هيئة عامة للدعوة من العالم الإسلامي بعامته ليكون لهذه الهيئة: ـ
1ـ الصفة والصبغة الدولية العامة ويصبح لها من الحقوق القانونية الدولية ما لهيئات التبشير العالمية.
2ـ أن تحصل على المعونات المالية المخصصة لهيئات التبشير العالمية من هيئة الأمم المتحدة التي تشترط لذلك اشتراك ثلاث دول على الأقل في الهيئة.
3ـ ولإزجاء الحماس الديني في نفوس الجماهير والقادة والزعماء والأغنياء من المسلمين إذا شعروا بأن لهم دعوة إسلامية منظمة تشرف عليها هيئة محترمة توجهها وتقوم على رعايتها.(13/310)
ويختار أعضاؤها من الأشخاص الظاهرين في مجال الدعوة ممن يمكن الانتفاع بهم في مجالها والتخطيط لها ومباشرة التنفيد والتطبيق لخططها. على أن يكون عند كل عضو منهم الرغبة الصادقة في العمل وفي تحمل المسؤولية وفي الاستعداد للسفر لأية جهة إذا دعت الضرورة إلى سفره. وإذا كان هناك أشخاص لم تتح لهم الفرصة لحضور مؤتمركم المبارك إن شاء الله تعالى فلتكتب إليه رياسة المؤتمر مرشحة له للاشتراك في هذا العمل الكريم.
ويمكن إجمال الفئات التي تشترك في هذه الهيئة فيما يأتي:-
1ـ كبار علماء الدين.
2ـ كبار المشتغلين بالكتابة عن الدعوة لما لهم من أفق واسع ودراسات في هذا الشأن على المدى الطويل. سواء كان ظهورهم على المستوى العالمي أو المستوى الإقليمي.
3ـ كبار القائمين بالدعوة بالفعل سواء لمعت أسماؤهم أم هم يعملون في صمت وسكون فإن هناك أناساً في قلب إفريقيا يعملون في حقل الدعوة ولا يحس بهم أحد خارج القارة. ولكن تأثيرهم كبير جداً في مناطقهم وهم ملوك غير متوجين فيها وأرى أن نكسبهم في صفوف الدعوة ونختار من بينهم أفراداً في الهيئة ونزودهم بما عساهم في حاجة إليه من معلومات ونمدهم بالمال الذي يمكنهم من العمل ونشد أزرهم بما يحتاجون إليه من دعاة ناشئين.
4ـ أساتذة من علماء النفس والاجتماع ممن استقوا علومهم ومعارفهم من المعين الإسلامي أو هم ممن قعدوا القواعد النفسية والاجتماعية على الأسس الإسلامية.
5ـ بعض المصلحين من خريجي الجامعات الأخرى (عربية أو غربية) .
6ـ ممثلون ماليون عن الدول التي تساهم في التمويل ليطمئن الجميع على أن أموالهم تصرف في مهامها وبنظام مقبول متفق عليه. وليشتركوا في تقدير الميزانيات (إيرادات ومصروفات) .(13/311)
فإن قيام دعوة عامة في العالم يتطلب أموالاً طائلة ونفقات كثيرة. ومن الخير بل من الواجب أن يساهم في نفقات الدعوة جميع قادة المسلمين وزعماؤهم، وأغنياؤهم لأن نشر الدعوة يهم الجميع. فليسهم فيه كل المستطعين مما استخلفهم الله فيه. (وليكن لنا في أوربا وأمريكا وأغنيائهم وشركاتهم في إسهامهم بالأموال السائلة والعينية في التبشير بالنصرانية الزائفة التي تمكن لهم في إفريقية وآسيا: ليكن لنا بذلك درس ونحن أحق منهم بذلك) .
فإن لم تسهم الدول في هذه النفقات قامت المملكة العربية السعودية بالتمويل وأعتقد أن عندها الاستعداد لذلك.
هذا وإن وجود الفئات السابقة في هيئة الدعوة ضروري. فالعمل ضخم جداً لا يستهان به. ويحتاج إلى تعاون في القيام به مع مراعاة الاعتبارات المختلفة التي تحتاج إلى كل هذه القدرات وإلى كل هذه الخبرات أيضاً. بل هي في حاجة إلى المزيد من الخبرات الأخرى مما سيكشف عنه التطبيق العملي إن شاء الله تعالى.
(مهمة الهيئة)(13/312)
ومن المهام الأساسية للهيئة التخطيط المركزي للدعوة وتنسيق جهود الدعاة واقتراح المناهج الدراسية لتأهيلهم والتمرين العملي لهم. والمناطق التي يعملون بها واختيار الأساتذة المتخصصين. ومفاوضة الرسميين من الجهات التي يرسل إليها الدعاة والاتفاق معهم على إيفاد العدد المناسب منهم إليها. وكيفية تمويلهم وتيسير تنقلاتهم وما يمكن أن يمنحوا من امتيازات لمبانيهم وفي انتقالاتهم وفي طبع كتبهم وأوراقهم وفي استئجار الأماكن التي يحتاجونها وفي استيراد ما يحتاجون إليه من الخارج من مطبوعات وملابس وأدوات. إلخ حتى يتهيأ الجو المناسب للعمل. ويكون التخطيط للدعوة على الأمد القريب وعلى الأمد البعيد في الجهات المختلفة. مع البدء بالمناطق الحساسة والتي تصلح أن تكون مراكز تنطلق منها الدعوة في اتجاهات مختلفة ومع مراعاة أن يكون التخطيط مرناً قابلاً للتعديل والتغيير والزيادة أو النقص منه حسب ما تقتضي مصلحة العمل وتحقيق الأهداف كما تدرس الهيئة وبإمعان خطط من سبقونا في الدعايات الدينية من هيئات التبشير العالمية لتأخذ منها ما تراه صالحاً لتطبيقه وتجنب ما باء منها بالفشل أو ترتب عليه أثر سيء مع ملاحظة أن للإسلام مزاياه قد يصلح في الدعوة الإسلامية ما لم يصلح للتبشير بالنصرانية أو البوذية.
مقر الهيئة
ويكون مقر الهيئة المدينة المنورة: لأنها مهبط الوحي ومنزل التشريع ومنطلق مواكب الدعوة لأول مرة في تاريخ الإسلام، ولما لها من تأثير روحي عميق في نفوس الجميع.
وتعمل الهيئة على تكوين مراكز إقليمية لها في المناطق الهامة لدراسة مناطقها ثم يتفرع من المناطق فروع أخرى في الأماكن التي تصلح لذلك لتأخذ هي الأخرى دورها في الاتساع والنمو.(13/313)
أما المناطق فتشرف على توجيه الدعاة في الدولة أو الدول التي تقع في اختصاصها لتشترك معهم في مناقشة ما يعرض لهم من مشاكل وفي دراسة ما يعترضهم من صعاب للوصول إلى الحلول المناسبة التي تتفق مع البيئة ثم تتولى رفعها إلى الهيئة العامة لدراستها وإقرار ما تراه يتفق مع الهدف. وتعميم ما يمكن الانتفاع به في الجهات الأخرى لتلقيح الأفكار وتبادل الخبرات والمعلومات.
وعلى أن تكون الهيئة الإقليمية مركز اتصال دائم بين الدعاة في منطقتها وبين الهيئة العامة المركزية. وأن يتصل الدعاة في المنطقة بعضهم ببعض في اجتماعات دورية بمقر المنطقة وبذلك تكون حلقة الاتصال بين الجميع محكمة وكاملة مع تسلسل القيادات.
ملاحظة: يجب أن تطول مدة إقامة الداعي بمنطقته فكلما طالت مدته كان تأثيره أكبر وكان عمله فيها أرسخ.
هذا وليس من الضروري القيام بكل هذه الأعمال دفعة واحدة فإن التدرج في أعمال الدعوة أكثر فائدة لها وآمن لها من العثار خصوصاً وأنها تتصل بسياسات الدول كما أنها تتصل بعقائد الجماهير. وكلاهما يحتاج إلى معاملة خاصة ودقيقة.
كلية خاصة بالدعوة
تخصص كلية لتكوين الدعاة فيها وصهرهم في بوتقتها وصياغتهم على يد أساتذة متخصصين وتخريجهم فيها بعد تسليحهم بالمواد العلمية المناسبة للبيئة التي يبعثون إليها. على أن تكون مدة الدراسة في الكلية أربع سنوات. يتبعها تخصص في شعب ثلاث.
المدرسون:-(13/314)
يختارون من بين الأساتذة البارزين في مجال الدعوة بالكتابة أو التأليف أو بالقيام الفعلي بالدعوة وسواء كانوا على المستوى الدولي أو الإقليمي. على أن يكون اختيارهم بعيداً عن المجاملات والترضيات الإقليمية أو العصبية ليسير دولاب العمل في جد وحزم وليخرجوا دعاة جادين بعد تمرينهم التمرينات المثمرة، وحتى لا يتخرج في هذه الكلية إلا من كانت عنده الصلاحية الحقيقية للقيام بدوره على الوجه الأكمل. بلا نظر لتحصيل لقمة العيش أو إصلاح الحالة المالية أو التخلص منه للانتفاع بمكانه لغيره.
اختيار الطلاب:
إن هيئة التبشير العالمية تربي دعاتها في مدارس مستقلة يطلق عليها اسم (مدارس اللاهوت) وتبدأ من التعليم المتوسط ثم الثانوي ثم العالي ثم التخصص وتوجد هذه المدارس في بلاد جنوب السودان وفي نيجيريا وفي لبنان.. إلخ. ثم في الفتيكان يتخصص المتخرجون في هذه المدارس ويوجهون إلى الأماكن التي يعملون فيها طبقاً لما تخصصوا فيه وكثيراً ما يستعيرون أطباء أو مهندسين أو عمالاً زراعيين للعمل معهم إذا لزم الأمر. فإذا كان إيجاد هذا النظام متعذر عندنا الآن أو كان الوقت مبكراً عن انتهاجه أو أنه لم يصلح عندنا لأي سبب من الأسباب فإني أضع أمام الهيئة الاقتراح الآتي:(13/315)
أولاً يراقب طلاب الأقسام الثانوية بالمعاهد الدينية مراقبة دقيقة ويجعل لكل منهم ملف خاص تدون فيه مراحل حياته العلمية كما تدون فيه حالته النفسية من ناحية استعداده الفطري وتكوينه العصبي والإرادي وقدراته الفكرية والنفسية. ومن ناحية التحمل والصبر والتجلد أمام المتاعب ومن ناحية التخلق بالتؤدة في مقابلة وحل ما يصادفه من مشاكل تجعل في طريقه عن عمد وبعد دراسة وإحكام. وتفرض عليه فرضاً ليتعود على المجالدة ويتمر على حل ما يصادفه وهو لا يزال غضاً. كما تتكون عنده الإرادة الصلبة وهو لا يزال يافعاً، كما يراقب من ناحية إخلاصه في عمله وجديته فيه واهتمامه به. فإذا انتهى القسم الثانوي يختار لكلية الدعوة من بين الناجحين من ثبتت صلاحيته ولو لم يحصل على درجة الامتياز في المادة العلمية الصرفة.
ثانياً يختار للمعاهد الثانوية طلاب من أبناء البلاد التي ترى الهيئة نشر الدعوة فيها. ويسري على السابقين من إخوانهم. لاختيار العديد منهم في كلية الدعوة. ليعودوا إلى قومهم يدعونهم بلسانهم وينشرون دعوة الله بينهم. وهم أقدر على نشرها هناك من غيرهم وخاصة إذا كان اختيارهم من أبناء أصحاب الجاه والسلطان في بلادهم. ومن هم في درجة عالية من الذكاء الفطري والاستعداد النفسي لنشر الدعوة ثم ليكون هؤلاء مراكز للدعوة من ناحية وللإسلام من ناحية أخرى وسط عشيرتهم وفي بلادهم وفيما يجاورها من بلاد حتى لو انتكست الدعوة في هذه الجهة لأي سبب (ولا قدر الله) فسوف يبقى هؤلاء قائمين بها مبشرين بالإسلام هناك لأن قلوبهم أشربت به وبتعاليمه. وندر أن يخرج الإسلام من قلب استنار وسكن فيه عن علم ومعرفة.(13/316)
ثالثاً كما يسمح بالقبول في الكلية عند الاحتياج إلى الطلاب: لمن توجد عنده أصول صفات الداعي النفسية والذهنية من غير أن يجعل التقدم العلمي وحده وسيلة القبول الوحيدة فيها. إذ ليس التقدم العلمي وحده دليلاً على صلاحية صاحبه للقيام بهذا الواجب المقدس. وخاصة إذا نأى مكان العمل عن مكان الوطن..
كما أنه كثيراً ما يكون الترف حائلاً بين الأفراد وبين انخراطهم في سلك الدعاة في الأماكن التي تتمتع بقسط كبير من البدائية. وكذلك في بيئات المدنية الصاخبة إذ سرعان ما يسقط فيها تاركاً عمله مهملاً رسالته: هارباً من الأولى منماعاً في الثانية.
ويراعى فيكل من يختار من الفيئات الثلاث فصاحة اللسان وترتيب الفكر ليستطيع تصوير ما ينهى عنه بصورة تقبح في نفوس المدعوين. وتصوير ما يدعو إليه بصورة تجذب الجماهير فتأوي إليه وتعيش في كنفه.
المواد الدراسية
يدرس الطلاب في كلية الدعوة العلوم الدينية والثقافة وأهمها ما يلي:-
1ـ حفظ القرآن الكريم كله أو جله على الأقل ليكون على علم بكتاب الله تبارك وتعالى وما جاء فيه من أوامر ونواهي.. إلخ.
وبهذه المناسبة أذكر أنني كنت في زيارة لشمال أوغنده سنة 1954م وسمعت حوار بين رجل يتصدى لوعظ الناس وأحد الخبثاء الذي زور كلاما وادعى أنه آية من كتاب الله تعالى وطلب إلى الواعظ تفسيرها وعندما بدأ الرجل يتكلم في تفسيرها نبهته إلى أن هذا الكلام ليس من كلام الله وانكشفت الحيلة وأحرج الرجلان.
كذلك دراسة علوم القرآن من تفسيره وناسخه ومنسوخه وتنزلاته وأسباب النزول وبعض قراآته.. إلخ وأن يجمع الطالب في قراءته بين ما كتبه الأقدمون ليطلع على ما ورد من آثار وآراء وبين ما كتبه المتأخرون ليطلع على رأيهم اتجاه ما جد من ـ علوم ومعارف وعلى تفسيرهم للظواهر الكونية مع ملاحظة أن منها ما كان على سبيل ـ الاحتمال أو الظن فلا يقول به ومنها ما ظهرت حقيقته وتبين يقينه.(13/317)
2ـ دراسة التوحيد بالقدر الكافي الذي يصحح به عقيدته والذي يستطيع أن ـ يصحح به عقيدة من يدعوهم. فإن الأساس الأول والأخير. في الدعوة إنما هو تصحيح العقيدة، وإذا صحت العقيدة فكل ما يبنى عليها صحيح أما إذا فشلت العقيدة فلا حدود لما يبنى عليها من باطل وضلال.
3ـ دراسة الحديث الشريف وعلومه.
4ـ دراسة السيرة النبوية بتوسع واستقصاء مع دراسة ما أثير حول الرسول صلى الله عليه وسلم من شبه وأراجيف تافهة ضد الإسلام ونبيه برع في نسجها الحاقدون من المستشرقين أمثال (جب. وجولد زيهير. شاخت. دوزي.. إلخ) ودراسة الرد عليها وتفنيدها. وكذلك دراسة سيرة الخلفاء الراشدين.
5ـ دراسة أسس الدعوة ويغرس في نفسه مع دراسة هذه المادة أن ما يدعو إليه هو الحق لا شك فيه وهو أشرف الأعمال وأعلاها قدرا وأعظمها شأنا وأكثرها ثوابا وأنه يقوم بذلك نيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لينفذ المنهج الإسلامي والدور الرئيسي للأمة الإسلامية الذي كلفها الله به في كتابه الكريم وقرآنه الخالد. وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وهو المنهج القائم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى الدعوة لدين الله تبارك وتعالى بالطرق الممكنة والأساليب المؤثرة في مثل قوله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} آل عمران 110، وقوله تعالى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} آل عمران 104. وأنه إن استجاب له ولو فرد واحد فاهتدى فهو خير له لمثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم "لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم ".(13/318)
6ـ دراسة الأديان المشهورة دراسة تستوعب معرفة المحرف منها والمعدل فيها وما اختفى من تشريعاتها وما زيد عليها ومواضع ذلك كله من كتبها. وكذلك تحديد ما نقلته الديانات المنسوبة إلى السماء من الديانات الأرضية لبعض عقائدها وتشريعاتها وتحديد ذلك في كتب الجهتين المنقول منها والمنقول إليها. كنقل اليهودية من البرهمية ونقل النصرانية من البوذية ومن الوثنية اليونانية.
كذلك دراسة ما في الأديان من ثغرات ونقط ضعف ومقارنة ذلك بالإسلام، ليستغلها الداعي في زعزعة عقيدة المنتسبين إلأى هذه الأديان.
7ـ دراسة الفرق الدينية التي تنتسب إلى الإسلام وهي تحاربه.
8ـ دراسة علم النفس. وخاصة قسمي: نفسية الأفراد. ونفسية الجماهير على أن تكون الدراسة على يد أساتذة درسوا المادة من زاوية الإسلام.
فإن الداعي الدارس لعلم النفس في القسمين المذكورين يستطيع أن يتعرف على ما يتنازع النفس من ميول وأهواء وغرائز يستغلها في دعوته. كاستغلال غريزة التدين في نفوس غير المتدينين واستغلال العاطفة الدينية فيمن هم على أديان باطلة لاعتناق الدين الصحيح.
ولقد أمر القرآن الكريم بدراسة النفس البشرية في قوله تعالى {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} كما بين تبارك وتعالى في كثير من آي القرآن الكريم منازع النفس البشرية واتجاهاتها إزاء العديد من مشاكل دعوة الرسل التي قصها القرآن الكريم علينا.
9ـ دراسة علم الاجتماع وعلم التاريخ العام ليتعرف على الكثير من سنن الله تبارك وتعالى مقعدة في قيام الدول وعز الأمم وطول أيامها وأسباب انهيارها وليتعرف على صورة تكوينها وطرق تفكيرها وكيفية التأثير فيها.(13/319)
ولعل ذلك ما يدعو إليه القرآن الكريم في مثل قوله تعالى {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} آل عمران 137 وقوله تعالى {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} محمد 1.
وقوله تعالى {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} الإسراء 16.
10ـ أدب البحث والمناظرة بما يكفي أن ينظم جدله ومناظرته.
التفرقة في التخصص
وبعد انتهاء الدراسة في الكلية يتخصص الطلاب في شعب ثلاث بعد دراسة ميول كل طالب واستعداداته للعمل بالمنطقة التي تناسب ظروفه الصحية والعقلية والعلمية ليلحق بالشعبة التي تناسبه من الشعب الثلاث الآتية:
الشعبة الأولى:
وتخصص لإعداد الدعاة لأهم الميادين. وهو الميدان الداخلي في العالم الإسلامي حيث نقل الأعداء إليهم ميدان دعوتهم. ونجحوا في بلبلة أفكار الكثيرين من أهله. ولا يزالون يقذفون في هذا الميدان بدعاتهم ومطبوعاتهم ورشاويهم ويعملون جادين على إلحاق من يربونهم بوسائل الإعلام المختلفة لينفوا مناهجهم التي رسموها كما يعملون جادين بوسائل مختلفة على رفعهم إلى مكان الصدارة فيها.(13/320)
تخصص هذه الشعبة لإعداد الدعاة للعمل في العالم الإسلامي للرجوع به إلى أسسه السليمة وإلى تعاليم الإسلام الرشيدة. قبل أن يهوي به حكامه بعيدا عن الإسلام بدساتيرهم الصناعية التي تبيح أنواع الكبائر كما تبيح الارتداد عن الإسلام تحت اسم الحرية الدينية وفي الوقت نفسه تحمي القائمين بانتهاك الحرمات والأعراض وتحليل الكبائر والدعوة إلى الإلحادية والزندقية من سخط الجماهير المتدينة تشجيعا للأولين وإذلالا للآخرين.
ولكي يؤدي هؤلاء واجبهم على الوجه المرغوب ويحققوا الثمرة الموجودة من دعوتهم وجب أن يختار لها أوسع العلماء أفقا وأرجحهم عقلا وأقواهم إدراكا وأشدهم تمسكا بالصحيح. فلا تسيطر عليهم تعقيدات المتأخرين من المؤلفين ولا تخريجات ـ المتساهلين التي توقع الناس في الحيرة وتدعهم يسيرون في متاهات من المجادلات تضيع في زحمتها حقائق الإسلام النقية الصافية.
ويدرس هؤلاء في هذه الشعبة عادات وتقاليد البلاد التي سيوفدون إليها وأنواع البدع والخرفات السائدة فيهم ولغتهم إن كانوا يتكلمون بغير العربية وأنظمة الحكومة ومراكز القوة والطرق الصوفية التي تعمل هناك ومواضع مخالفتها للعقيدة الصحيحة وكذلك المذاهب والمبادئ الفاسدة والتي تعمل ضد الإسلام ليكون عند الداعي الإدراك الكامل عما في المنطقة وعن علاجه قبل أن يذهب إلى عمله حتى لا يتعثر إذا عرضت عليه وواجهته على غير علم بها.
الشعبة الثانية:
تخصص هذه الشعبة لتأهيل الدعاة الذين يوفدون إلى البلاد الوثنية أوـ اللادينية ويدرس هؤلاء جغرافية البلاد التي سيعملون بها من ناحية طبيعتها ومناخها ونباتاتها وحيواناتها وأمطارها وأنهارها. وأهم مدنها وقراها. وما فيها من أمن واضطراب وقلق. ومصادر ثروتها الطبيعية والصناعية والزراعية.(13/321)
كما يدرسون تاريخ البلاد وأجناس سكانها وخصائصهم وعباداتهم وعقائدهم وتقاليدهم وعاداتهم وخرافاتهم وما اعترى سكان هذه البلاد من أطوار سياسية وتحولات اجتماعية ومن استعمار وعلاقاتها بالدول المجاورة وبالشعوب الأخرى وبالعالم الإسلامي في الماضي والحاضر وعلاقات الأكثرية الوثنية بالأقلية المسلمة. ثم أحوال المسلمين الدينية ومذاهبهم العقائدية والتعبدية. والطرق الصوفية. ودراسة النشاط الديني (مسيحي أو بوذي أو غيرهما) والإرساليات التي تعمل بهذه البلاد وأجناسها ومذاهبها الدينية وخلافاتها الأصلية وما آلت إليه. وأسباب نجاح الإرساليات أو فشلها ونظرة المواطنين إليها وعلاقتها بالحكام.
كما يدرس هؤلاء لغة أو لغتين من أهم اللغات المحلية. فإنه لا يكفي أن يعرف المبعوث اللغة الأجبنية (إنجليزية أو فرنسية) التي تنتشر في هذه المنطقة لأنه لا يبعث للمثقفين والمتعلمين فقط لأنهم قلة قليلة بل سيخاطب القاعدة الشعبية والمثقفون والجماهير يتكلمون جميعا بلغتهم المحلية والداعي الذي يكلم القوم بلسانهم أقرب إلى قلوبهم وفي استطاعته أن يتسلط عليهم.
ومن أمثلة اللغات المحلية الهامة في بعض المناطق:
1ـ في جنوب السودان: لغة الدينكا والنوير والزاندي.
2ـ في شرق إفريقيا وجنوبها: اللغة السواحلية.
3ـ في غرب إفريقيا: اللغة الهوساوية.
مع مراعاة أن يكون عند المبعوث إلمام بالمبادئ العامة للتمريض. فهو في أشد الحاجة إليها في هذه المناطق. كما أن لها أثراً كبيراً في التأثير على سكانها.
وإذا ضم إلى المبعوث من يعرف بعض الصناعات المناسبة للخدمات الموجودة في البيئة يكون النجاح كبيراً إن شاء الله تعالى.
الشعبة الثالثة:(13/322)
وتخصص لإعداد الدعاة الذين يبعثون إلى أوربا وأمريكا لنقل ميدان الدعوة إلى الإسلام إلى بلادهم. ولوجود البيئة الخصبة لفهم قواعد الإسلام التي يجدون فيها طلباتهم وبغيتهم والذي يؤهل للدعوة في هذه البلاد ينبغي أن يدرس جغرافية البلاد التي يذهب إليها وتاريخها وتطوراتها في الصناعة ومختلف العلوم. وأن يتسلح بالعلوم الحديثة فوق إلمامه بمنطق القرآن وأحكامه وتفسيره وأن يكون ذا دراية تامة بالسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي وإلمامه بحكمة التشريع وتاريخ التشريع بما يجعل موقفه قوياً وسط قوم وصلوا إلى درة عالية من العلم والمعرفة. ثم لا بد من إتقانه إحدى اللغتين الإنجليزية والفرنسية لأنهما المنتشرتان في أوربا وأمريكا أو إتقانه لغة البلاد الخاصة. كما يدرس الخلافات المسيحية التي نشبت بين الكاثوليك والأرثوذكس من ناحية وبين الكاثوليك والبروتستانت من ناحية أخرى ودراسة قرارات المجامع المسيحية التي غيرت وجهها إلى وجه وثني كالح غير مترابط الجزئيات مع مناقضته التامة للمعقول. ودراسة علاقة أوربا بأمريكا والعكس ودراسة الاستعمار القديم والحديث وأثرهما السيئ في المجتمع الإسلامي من تفكك وتخلف وفقر وانحدار. وكذلك دراسة ما أحدثته الحضارة الحديثة في العالم من شرور وآثار سيئة وانحلال خلقي ظهرت آثاره في المجتمعات الغربية (الهيبية وإخواتها) وكذلك دراسة الحروب الصليبية بأسبابها ونتائجها وما اتسمت به من تعصب أعمى وإلى أين انتهت كما يدرس رأي الطبقات المستنيرة هناك عن الدينين: اليهودي والنصراني. وعن الكنيسة والبابوات وتقاليدهما وعاداتهما. ونظرة المثقفين إلى الإسلام من خلال كتبه وفلسفته ومن خلال سلوك المسلمين وأحوالهم وتخلفهم وفقرهم ونظرتهم إلى الأديان الأخرى. ودراسة الصهيونية وموقفها من المسيحية ومن الإسلام وأثرها في تدعيم الاستعمار ووقوفها مع مراكز القوة الدولية من غير مبدأ ثابت. ورغبتها في السيطرة على العالم أجمع.(13/323)
وكذلك دراسة الشيوعية وما يسبقها من نظريات ماركسية وفلسفات لينينة. ثم دراسة ما كتبه.. المستشرقون عن الإسلام وعن نبي الإسلام ودراسة ما نمقوه وزوروه في تلك البلاد التي خلت من مناقش لهم أو محاسب كما خلت من كاشف للحقيقة وفاضح للأكاذيب والكذابين أول بأول. ودراسة الردود الحاسمة على كل ما كتب. ثم لتعقب ما يكتب بعد ذلك والرد عليه في حينه ليطلع الرأي العام والقراء على الاتهام وعلى الرد الصحيح.
(الناحية العملية في تربية الدعاة)
يعنى بتربية الدعاة عمليا من أول يوم يدرسون في الكلية. وتشمل التربية العملية أمرين اثنين:-
1ـ العناية الفائقة بالناحية الروحية فإن الناحية الروحية في أعلى القمة لتربية الداعي. فإنه إذا كان معقود الصلة بالله تعالى. وكان قلبه محرابا لا يعبد فيه غير الله لا يشاركه فيه مال أو جاه أو سلطان. وكانت نيته الخالصة إقامة دين الله تعالى كان عون الله يلاحقه في كل عمل وكان الله لسانه الناطق وقويت فراسته وصدقت ظنونه. وعلا بنفسه وبدعوته عن سفساف الأمور. واستطاع بصفاء نفسه وقوة روحه أن يؤثر في الناس حوله وأن يكون تأثيره فيهم عميقاً ودائما.(13/324)
2ـ العناية بالتدريبات العملية في الخطابة والوعظ في الدروس العامة في البيئات المختلفة تبدأ من البدائية والبدوية ثم في المساجد ليتعود الطلاب على مقابلة الجماهير والتحدث إليهم. ويقضي الطلاب كثيراً من أيام العطلات خارج المدينة في معسكرات بصحبة بعض الأساتذة لتأكيد الناحية الروحية عندهم. وفي الإجازات الصيفية يقضي الطلاب بصحبة بعض الأساتذة جزءاً منها في بعض البلاد الداخلية البعيدة أو في البلاد الخارجية التي تختار لهم ليتعرفوا أحوال الناس وليتعودوا على السفر والإقامة بعيداً عن أهليهم وليتمرنوا على الدعوة. مع مراعاة العناية بالناحية الروحية العالية وفي الصيف الأخير يرسل كل فريق إلى البلاد التي سيكلفون موضعاً لعملهم. للتعرف عليها ولتطبيق ما درسوه على واقع الحياة هناك. وليكون لكل طالب ألف بالبيئة الجديدة.
واجب الدعاة نحو أنفسهم
وعلى الدعاة أنفسهم أن يكونوا مثلا يحتذى فإن وجودهم في البيئة دعوة وسيرهم في الطريق العام للدعوة وكلامهم دعوة وعملهم دعوة.
فليتقوا الله في أنفسهم وليعلموا أنهم محط الأنظار وموضع القدوة وعلى كل داع أن يراعي ما يلي:-
1ـ أن يكون معقود الصلة بالله تبارك وتعالى وأن يكون قلبه معلقاً به وعليه ألا يغفل عن ذكر الله عند كل عمل أو قول وأن يظل دائم الرجاء لله.
2ـ أن يؤمن إيماناً جازماً بأن ما يدعو إليه هو الحق لا شك فيه والصحيح الذي لا خطأ فيه ليكون تأثيره قويا وأن يؤمن كذلك بأنه يقوم بأشرف الأعمال وأعظمها أجرا لأنه يعمل على تحقيق قوله تعالى {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} كما أنه نائب عن رسل الله جميعا.(13/325)
3ـ أن يلتزم التزاما كاملا في قوله وفعله وتفكيره وسلوكه بأحكام الإسلام وتشريعاته. وأن ينظر للحياة كلها بمنظار الإسلام حتى لا يكون مزدوج الشخصية بين ما يدعو إليه وبين ما يأتيه في سلوكه فيهدم دعوته بنفسه.
4ـ أن يتفرغ للدعوة ولا يشتغل بغيرها من التجارة أو الزراعة.. إلخ.
5ـ أن يبتعد عن السياسة مطلقاً حتى لا يكون هدفاً سهلاً لسهام خصومه ويتجرأ عليه الناس [1] .
6ـ أن يكون شجاعاً في مواجهة الأمور من غير تهور في إبداء رأيه وأن يثبت بجانب الحق لا يتلون.
7ـ أن يتجمل بالصبر وعدم استعجال النتائج فقد بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو قومهم فلم يزد عدد من آمن به عن خمسين ومائة فرد.
8ـ أن يتعود التدرج في الدعوة وتقديم الأهم على المهم وتلك كانت دعوة الرسل ودعوة الرسول صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً. يشهد بذلك نصيحة الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل المذكورة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له " أنك ستأتي قوماً أهل كتاب فادعوهم إلى الشهادتين ألا إله إلا الله وأني رسول الله. فإن أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض خمس صلوات في اليوم والليلة. فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم.. الحديث ". وكذلك كانت تشريعات الإسلام.(13/326)
9ـ أن يوطن نفسه بأنه ستسلط عليه حرب الأعصاب من جبهات متعددة فعليه الثبات على حقه في صبر وليقرأ في ذلك ما وجه إلى الرسول منها في مثل ما أشار إليه القرآن بقوله {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.. الآيات} وغيرها. وكذلك حرب الدعايات بين الدول قديما وحديثا والتاريخ الحديث مفعم بالكثير منها وليعلم أن خصوم الإسلام وخصوم العقيدة الصحيحة لن يتركوه يسير على أرض مفروشة بالورود. كما عليه أن يعلم أن المعاكسة له أمر عادي لأن انتزاع الناس من عقيدة امتزجت بدمائهم وتوارثوها جيلاً بعد جيل من أصعب الأمور وأشقاها على النفوس فليكن حكيما في دعوته وطبيبا في علاجه.
10ـ ألا يهاجم غيره ولا يسفه رأي الآخرين. وإنما يعرض الإسلام وتشريعه في مقابلة ما يراه خطأ وألا يهاجم إلا إذا دعته الضرورة القصوى وليكن دستوره في دعوته هو دستور الله تبارك وتعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} حتى لا يتحزب الناس ضده وقد يسلط عليه من يضايقه من سفهاء القوم حتى يفلت منه الزمام وينطلق لسانه بالشتم والقذف والسب. فليعف بلسانه عن النزول إلى هذا الدرك وليعلم أن هذا مقصود لجره إليه ولتكن قدوته برسل الله تبارك وتعالى ومنهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فقد كان يدفع السيئة بالحسنة بل ويعطي من شتمه وفوق ذلك كان يدعو لمن أساءه فيقول اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون.
11ـ ألا يتقيد بزمان أو بمكان في دعوته والا تحول إلى مدرس أو موظف وطبيعة عمل كل منهما تختلف عن طبيعة عمل الداعي ومهمته.
12ـ أن يعف عما في أيدي الناس (وليكن ممن يعطي لا ممن يأخذ) فإن من مد يده إلى ما في أيدي الناس لم يستطع أن يمد لسانه ينهاهم عن منكر يفعلوه.(13/327)
13ـ أن يتواضع وألا يتعالى على الضعفاء وعلى الفقراء وعليه أن يجعل نفسه أباً للجميع يحس بإحساسهم ويتألم لآلامهم ويفرح لفرحهم. لينصره الله وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم.
وهذا جهدي و (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) ..
--------------------------------------------------------------------------------
[1] لا مندوحة للداعية من توجيه النصح إلى رجال السياسة بالحكم والموعظة الحسنة ـ (المجلة) .(13/328)
مشكلات الدعوة والدعاة في العصر الحديث وكيفية التغلب عليها؟
للدكتور محد حسين الذهبي الأستاذ بجامعة الأزهر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد ـ
فالدعوة إلى الله وإلى دينه الحق هي وظيفة الأنبياء والرسل، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ثم هي واجب العلماء من أتباعهم، ومسئولية المؤمنين جميعاً من أممهم.
يقول الحق تعالى مخاطباً رسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} يوسف (108) .
وهكذا حددت الآية السبيل لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكل من اتبعه، وجعلت غايتها الدعوة إلى الله على بصيرة ومعرفة، وأصبحت الدعوة بنص هذه الآية فريضة مستمرة، ينهض بها العلماء، ويضطلع بأعبائها المسلمون في تكافل وتعاون يجعل من عملهم المشترك استمراراً لجهاد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لإعلاء كلمة الله.
الدعوة إلى الله واجب عام، مسئولية الوفاء به في أعناق المسلمين جميعاً، وهي مسؤولية يجب للوفاء بها توفير أمرين لا بد منهما ـ
وأول الأمرين ـ ما يلزم للدعوة ومتطلباتها الشاملة من مال ينفق منه على ما تقتضيه مجالاتها المتعددة ـ من إعداد للدعاة، وتهيئة للوسائل الضرورية من كل ما هو لازم لتوصيل دعوة الحق إلى الناس داخل بلاد المسلمين وخارجها على السواء، فالدعوة إلى الإسلام لا يجوز الوقوف بها عند حدود عالمنا الإسلامي، بل يجب أن تصل هذه الدعوة وتبلغ إلى كل ما طلعت عليه الشمس، وكل ما دخل عليه الليل.
إن كتاب الله تعالى أنزل ليكون نذيراً للناس كافة، وما بدأه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على طريق هذا الإنذار العام من دعوة لملوك الأرض وشعوبها الذين أتيح له أن يدعوهم.(13/329)
ما بدأه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ علينا أن نكمله، فنصل بالدعوة إلى كل مكان نستطيع الوصول بها إليه، تحقيقاً لقول الحق تبارك وتعالى لنبيه وعلى لسانه ـ {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} الأنعام 19 {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} الأعراف 158 وهو معنى التعميم في آية البلاغ ـ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} المائدة 67 ـ بحذف المفعول، فمعناه ـ والله أعلم ـ بلغ كل من يمكن تبليغه.
وإذا كان مجال الدعوة بهذه السعة، وبخاصة في عصرنا الذي يسرت وسائل الاتصال فيه الوصول إلى كل شبر في أرض الله ـ تبين لنا حجم المال الذي لا بد منه للوفاء بمطالب دعوة جادة، تخرج الأمة من دائرة التقصير والتفريط في جنب الله في عالم ضاقت فيه المسافات وألغت الحواجز بين الدول والشعوب.
وثاني الأمرين ـ ما يلزم للدعوة من جهاز متكامل ينهض بها في داخل بلاد المسلمين وخارجها. جهاز تتوافر فيه المقومات والخصائص التي تناسب طبيعة الإسلام من ناحية. وتلائم طابع العصر من ناحية أخرى.
إن الله ـ عز وجل ـ يقول ـ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} إبراهيم 4.
لا بد للدعوة من لسان مشترك بين الداعي والمدعو، واللسان المشترك أوسع دلالة من مجرد معرفة لغة مشتركة بل لا بد من معرفة بما تحويه هذه اللغة من ثقافة المدعو وخصائص بيئته، وما يشكل موقفه من أفكار ومعتقدات وما يحكم تفكيره من عادات وتقاليد، لا بد للداعية من إلمام بها حتى يستطيع إحكام خطته في غزو الحصن من حيث يتمكن من فتحه بإذن الله.
ولا بد في خطاب البشر خطاباً ناجحاً من مراعاة طبيعة البشر العامة فيهم أولا، ومراعاة الخصائص الجنسية والعرقية ثانياً، ثم مراعاة الفروق الفردية في النهاية.(13/330)
إن عقلية الإنسان هي نتاج تشكله عوامل كثيرة تختلف من شعب لآخر، ومن بيئة لأخرى ومن فرد لفرد.
هذه الفروق الجنسية والفردية على مستوى الشعوب والأفراد أصبحت أساسا مقررا وحقيقة مسلمة لدى علماء النفس والاجتماع وخبراء التربية، وقد اعتمدت عليها نظم التعليم في كل الدنيا، وآن لنا أن نستفيد منها في مجال الدعوة الذي رأينا كيف أسسه القرآن الكريم على أساس الفهم المشترك العميق بين الداعي والمدعو، ليتم الاتصال الذي يحقق الغاية كاملة.
لابد للدعوة من توافر هذين الأمرين ـ
التمويل الكافي
والجهاز المقتدر
ويبقى بعد توافر هذين العاملين شرط إذا لم يتوافر هو الآخر ضاعت الآمال المعلقة بالدعوة، وتبخرت الأهداف المنوط بها تحقيقها.
وهذا الشرط يتمثل في توفير مناخ صالح تنطلق فيه الدعوة إلى الله خالصة من كل قيد، متجردة من كل غاية إلا غاية وحيدة هي ـ هداية الخلق إلى صراط الله مستقيم، ومعناه ـ أن ترفع عن أجهزة الدعوة في كل بلاد المسلمين أثقال أجهزة السلطة التي تمنعها حرية الكلمة، وتوجهها في كثير من الأحيان لتتحول من دعوة إلى الله، إلى بوق من أبواق الدعاية أو وسيلة من وسائل الإعلام، أو تجمد حركتها بحيث تصبح مجرد وظيفة اجتماعية تتيح لصاحبها موردا للرزق يصبح الحصول عليه هو الغاية الأخيرة.
تمويل الدعوة، جهازها، مناخها - هذه الثلاثة هي الميادين التي يجب البحث فيها عن مشكلاتها، والتي يمكن معالجة هذه المشكلات في نطاقها أيضاً.
ولنتناول بإيجاز مشكلات كل ميدان من الثلاثة مقترحين ما نراه من علاج ملائم..
أولا: تمويل الدعوة ـ وقد آثرنا البدء به، لأنه يمثل عنق الزجاجة، ويعتبر الصخرة التي تؤسس للبناء أو تصطدم بها وتتحطم عليها الجهود.(13/331)
نحن في عصر تحول فيه صراع الأمم والشعوب من صراع عسكري إلى صراع اقتصادي في جوهره، يتخفى وراء صراع فكري عقدي أو مذهبي، وأصبح من المصطلحات الشائعة في عالم اليوم ما يتردد عن - الغزو الفكري - الذي اشتدت ضراوته، واصطنعت له الأساليب والمناهج التي خدمها العلم بجانبيها النظري والعملي على السواء. هذا الغزو الفكري المتبادل بين الشرق والغرب, وبين مختلف النظم والمذاهب المعاصرة بعضها وبعض، يركز ويكثف جهوده على بلاد العالم الإسلامي بخاصة، وعلى البلاد النامي بوجه عام، فهي- من جهة- مطمح نظره، يرى فيها طلبته التي تحقق مطامعه الاقتصادية، ومن جهة ثانية، يراها مختلفة، وتخلفها يجعلها أكثر طواعية وتقبلا لما يقذف به إليها من فكر، يراد منه أن يكون رباطا وثيقا يشد إليه عقول أبنائها على نحو يجعل منهم تابعين مخلصين، ينفذون له مخططاته في بلادهم دون أن يضطر إلى الكشف عن وجهه القبيح، كما يوفر عليهم الكثير من الجهود والمال لو أنهم اصطنعوا للسيطرة وجه آخر.
هذا الغزو الفكري ترصد له ميزانيات ضخمة، وتقام له مؤسسات وأجهزة تخطط له، وترسم له المناهج والأساليب وتعد له من الوسائل والأدوات ما يجعله قادرا على تحقيق غاياته.
إن المراكز الثقافية وما إليها، والإذاعات الموجهة، مسموعة ومرئية، والسينما، ودور النشر، وفروع الجامعات الأجنبية والمكتبات العامة الأجنبية التي لها إمكانات تجعلها مقصد طلاب البحث العلمي في جامعات كثيرة من بلادنا الإسلامية والعربية وبلاد العالم النامي ـ فضلا عن الصحافة التي تتخذ منبرا يصل صوته إلى كل مكان ـ هذه كلها من أدوات - الغزو الفكري - المباشرة، ولعل غير المباشر من هذه الأدوات أشد خطورة وأخفى آثارا.
لعل هذا يصور لنا حجم التمويل والمال المرصود لهذا النشاط الزاحف الشرس المصر الدءوب.(13/332)
هذا النشاط الضخم بإمكاناته الهائلة يلقي بنتائجه في طريق الدعوة إلى الإسلام داخل بلاده وخارجه على السواء، نتائج هي عقبات وحواجز وسدود تعترض طريقها من ناحية، وهي معاول تخلخل وتهدم من ناحية أخرى.
فإذا رجعنا إلى - الدعوة الإسلامية - وقارنا ما هو مخصص لتمويلها في ميزانيات الدول الإسلامية بما تملكه أجهزة - الغزو الفكري - وما يرصد لها في ميزانيات الدول التي تمارسه، بدا لنا العجز الكبير في امكانات - الدعوة - على المستويين الداخلي والخارجي من حيث القدرة المادية الازمة، والتي بدون توافرها تصبح هذه الدعوة بين موجات الغزو الفكري المضاد قزما بين عمالقة شداد؟؟؟.
إن قصور التمويل عن الوفاء بمتطلبات - الدعوة - وأجهزتها، وفاء يمكنها من أن تصمد في معركة الصراع، وتطور من أسلحتها ووسائلها، وتكيف نفسها بالأساليب الملائمة في حرب المواجهة الفكرية والمذهبية، جعلها كالحمائم بين النسور..
وإذا كان - الغزو الفكري - ينطلق من مرتكز سياسي في الأساس، فهناك حركة أخرى تنطلق من مرتكز مختلف، ونعني بها حركة التبشير الجديد، والتي تلبس في عصرنا ثيابا وأزياء تمعن في التخفي وتعمية ما وراءها وتجد من مصادر التمويل الرسمية من ميزانيات الدول، والشعبية من تبرعات الأفراد، المؤسسات، والجمعيات، ما يجعلها وافرة القدرة بالغة النشاط، تصل بنشاطها إلى كل ركن معلوم أو مجهول في عالمنا..(13/333)
إنه لولا المناعة الذاتة التي يتمتع بها الإسلام كدين، ولولا جوانب ضعف موضوعية في تلك الدعوات المضادة لا تفلح كل وسائل التمويه في سترها.. لكانت نتائج عدم التكافؤ الخطير بين ممكنات الدعوة الإسلامية وامكانات أعدائها أضعاف أضعاف ما هو واقع فعلا ـ وصدق الله العضيم ـ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} ـ الأنفال 32
إن مقارنة بين - الفاتيكان - وحده، بإمكاناته وطاقاته وسلطانه على الشعوب والحكومات المسيحية في العالم الغربي.. وبين أجهزة الدعوة مجتمعة في عالمنا الإسلامي تكشف لنا وتجسد ما تعانيه الأخيرة، وتهيب بنا جميعا أن نبحث عن مخرج لانتشالها من مأزقها..
وهنا نقترح أن تخصص نسبة مئوية من ميزانية كل دولة إسلامية لتمويل الدعوة في الداخل والخارج، نسبة مئوية يتحقق بها لعدل والتضامن في تحمل أعباء هذا الواجب الخطير، وتفي بمتطلبات المهمة الخطيرة التي تنتظر المسلمين اليوم، وفاء بحق دينهم، وبحق الإنسانية التي ضلت طريقها، ولا سبيل لهدايتها إلا عن طريق تعريفها بالدين الذي جاء لهداية البشر جميعا.
إن (1%) واحد في المائة، بل نصفا من المائة من ميزانيات كل الدول الإسلامية الغنية والفقيرة، يحقق حصيلة ضخمة تمول منها حركة الدعوة الإسلامية داخل بلاد المسلمين وخارجها تمويلا جماعيا، يتحدد نصيب كل منها بحسب ما تحتاجه لا بحسب ما أسهمت به.(13/334)
إن بلدا إسلاميا كبيرا هو - أندونسيا - التي تعتبر أكبر دولة مسلمة في عصرنا عددا يتعرض الآن لحركة تبشير ضخمة وشرسة، استطاعت أن تقتطع من أبنائه المسلمين نسبة مئوية عالية، حددها بعض المشغولين فيهم بهذه المشكلة بنحو 40% من جملة السكان، وهو رقم مهما كان فيه من مبالغة فإن ما يتبقى بعد حذف كل ما فيه من مبالغة أو تهويل، يكفي لأن يوقظنا من غفلتنا، ويقتضينا أن نسارع بتنفيد هذا الاقتراح على الفور، وتعبئة جيش من الدعاة القادرين لمواجهة هذه المأساة المروعة..
وما يتعرض له المسلمون في الفلبين ألا يدخل في نطاق ما تطالبنا به الآية الكريمة اتجاه المستضعفين من المسلمين حيث كانوا ـ {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} ؟ ـ الأنفال72.
إن الواجب نصرهم كيفما كانت تبعاته أو أهواله، فكيف بنا إذا لم نتقدم لهم حتى مجرد الدعم الروحي والمعنوي؟
تمويل الدعوة تمويلا يمكنها من الانطلاق دون معوقات هو أول ما يجب التركيز عليه واتخاذ قرار بشأنه، حتى لا يتحول الحديث إلى مجرد أفكار ونظريات لا تجد لها طريقا لأن توضع موضع التطبيق.
ثانيا ـ جهاز الدعوة
وبناء هذا الجهاز بوجهيه البشري، والمادي، رهن بما يتوافر للدعوة من مال تسهم فيه الحكومات بنسبة مئوية كما اقترحنا، ويضم إليه ما يمكن تقديمه من قبل الأفراد والمؤسسات والجمعيات الإسلامية في كل بلاد المسلمين، ومن خلال دعوة جادة ومؤثرة، ندعو للإسهام والتبرع لهذا العمل الجليل..
وجهاز الدعوة يقوم على دعامتين دعامة بشرية هي الأساس وهي القوة الضاربة في الميدان، ودعامة مادية تتمثل في مؤسسات الدعوة مقارها، وأدوات توصيلها ونشرها وكل ما يعتبر وسيلة معينة على تحقيق الاتصال الناجح المؤثر بين الدعاة والمدعوين.(13/335)
ومشكلة جهاز الدعوة الإسلامية اليوم بوجهيه البشري والمادي، تتمثل في عجزه عن الوفاء بمتطلبات الدعوة تحت ظروف العصر عجزا مزدوجا يشمل الكم والكيف معا.. فمن حيث الكم نجد قصورا واضحا في أعداد الدعاة والمشتغلين في مجال الدعوة على وجه العموم، فالمساجد ـ مثلا ـ لا تجد من الأئمة والخطباء من يقومون بهذه الوظائف بأعداد تكفي لتغطية حاجتها جميعا, والواقع حتى في أحسن المجتمعات الإسلامية ظروفا من هذه الناحية ينطق بهذا النقص..ومثل ذلك يقال عن عدد الوعاظ فالمأهلون منهم قلة محدودة جدا، وبجانبهم أعداد هائلة ممن يمارسون الوعظ هواية أو من خلال جمعيات تعد لهم مستويات من الدراسة تتيح لهم حد أدنى من المعرفة الدينية الضرورية التي قد تكفي لمواجهة حاجات البيئات المحدودة الفكرة والثقافة، ولكنها لا تفي بحاجة الإنسان الذي نال قسطا كبيرا من ثقافة العصر، وتعرض لمؤثراته الفكرية والحضارية..إن ساحة الدعوة الإسلامية داخل البلاد الإسلامية نفسها خالية ـ إلا نسبة محدودة منها ـ من دعاة حقيقين، قادرين على حمل أمانتها والوفاء بتبعاتها…
فإذا ألقينا ببصرنا على ساحة الدعوة خارج بلاد المسلمين، وحيث يوجد ملايين البشر مازالوا على فطرتهم، أو شابتهم وثنية انتقلت إليهم بالعدوى، وحيث يوجد ملايين من أصحاب الديانات الأخرى يعانون القلق، ويبحثون عن معتقد تطمئن إليه نفوسهم التي يرهقها الآن أن تتقبل عقائد ومذاهب يصعب على عقل أضاءه العلم وصقلته الحضارة أن يتقبلها.
هؤلاء حيارى يتلمسون الضوء في ظلمات بعضها فوق بعض، ولو أن دعوة الإسلام بلغتهم في خطاب يفهمونه وأسلوب حكيم يفتح لها الطريق الصحيح إلى عقولهم وضمائرهم لكان لهم من الإٍسلام موقف آخر، ولغدوا جنودا مخلصين، يستطيعون ويملكون من وسائل نشر الإسلام بين أقوامهم ما لا نملكه نحن في بلاد المسلمين.(13/336)
إن الإسلام ليس ملكا لنا، وإنما هو أمانة الله في أعناقنا، ومن الوفاء بالأمانة أن تودى إلى من هو أقدر على القيام بها والحفاظ عليها، وهو مغزى قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجة الوداع ـ " ليبلغ الشاهد الغائب " ـ رواه البخاري ـ وقوله ـ " رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " ـ رواه الترمذي وحسنه ـ
لقد انتشر الإسلام في إفريقيا وآسيا على أيدي التجار المسلمين بأكثر مما انتشر على أيدي الدعاة الرسميين، ذلك أن - الاحتساب - غير - الاحتراف - وليس من قبيل المصادفة أن يكون هذا القول الكريم {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} شعارا مشتركا بين رسل الله أجمعين.
نحن بحاجة إلى تأمل المغزى العميق وراء هذا الشعار لنصل إلى معادلة صحيحة نحل بها مشكلة الدعوة العويصة في عالمنا وهي كيف نوفق بين كون الدعاة غاية يجب التجرد لها والتضحية في سبيلها، وبين كونها مصدرا ضروريا لرزق من تناط بهم وظائفها في عالم أصبح توزيع العمل والتخصص في المعرفة سمة من سماته؟..
كم من - الدعاة - يبشرون اليوم بالإسلام على سطح هذا الكوكب الذي نعيش فيه؟ لو تصورنا أن مليون من البشر يكفيهم داعية واحد ـ وهو فرض أقرب إلى الخيال ـ لكان العدد المطلوب من - الدعاة - بضعة آلاف داعية فهل نستطيع أن نحصي على مستوى العالم غير الإسلامي كله أكثر من بضع عشرات؟ تلك حقيقة يجب أن نذكرها وأن نذكر بها..
هذه مشكلة - الدعوة - وجهازها من حيث عدد - الدعاة - وهم العنصر الأساسي فيها. فإذا انتقلنا إلى مشكلة الدعوة من حيث نوعية الدعاة صدمنا الواقع صدمة قاسية ـ إن مستوى الداعية في أحسن حالاته اليوم لا يفي على الإطلاق بحاجة من يدعوهم.(13/337)
إن إنسان العصر يريد أن يجد في - الدين - حلولا لكل مشكلات الحياة التي تعترضه سواء في سلوكه الشخصي، أو في علاقاته الأسرية، أو في معاملاته الاقتصادية، ويريد أن يجد في الدين كلمة تضيء له طريقه في قضايا الحكم، ومسائل السياسة، ومشكلات الاقتصاد.
والشباب ـ بخاصة ـ في حاجة إلى أن يقدم لهم من خلال الدين نظرة متكاملة للحياة، تستطيع إشباع حاجتهم للمعرفة، وتتيح لهم ما يبحثون عنه من سكينة نفس. واطمئنان الضمير.
هذه المطالب المعقدة المتشابكة، يقدم - الدين - حلولا جذرية عميقة لها، ولكن السؤال هو ما مدى إدراك - الداعية - لهذه المشكلات؟ ثم ما مدى قدرته على استنباط حلولها والإجابات الصحيحة عنها من المصدر الأصيل للدين ممثلا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يعتمد عليهما أساسا ويستعين بعد ذلك بما يراه ملائما من الأدوات؟..
هل يملك - داعية - العصر القدرة على الاقتراب المباشر من هذا المصدر، وأخد الأحكام والحلول لقضايا الحياة المعاصرة ومشكلاتها من خلال نصوصه مباشرة؟
هنا يبرز لنا قصور الإعداد ونقصه حتى على مستوى حملة الشهادات العلمية التي تجيزهم بأهلية العمل في مجال الدعوة، وتقرر صلاحيتهم لها…
هذا القصور إذا أردنا تحديد أسبابه وجب أن نتجه على الفور إلى الجهات التي تتولى إعداد هؤلاء الدعاة، ونتفحص مناهج إعدادهم ووسائل تكوينهم …
وأول ما يلاحظ على هذه المناهج والأساليب –
(1) أنها بدلا من وصل الطالب وصلا مباشراً بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلت بديلاً منهما يتمثل في كتب ومذكرات مهما كانت قيمتها فلن تصلح بديلاً في يد داعية لا بد أن يكون على بصيرة في دين الله، يستمدها من مصادره الموثوقة، وليس من آراء البشر، واجتهاداتهم، وشروحهم وتفسيراتهم، مهما بدت قيمتها في نظر من يضعون المناهج..(13/338)
(2) وهذا يقودنا إلى أصل الداء في الدراسات الدينية المعاصرة، ويتمثل في قصور الأدوات التي لا بد من توافرها للتمكن في هذه الدراسات، وفي مقدمة هذه الأدوات - العربية -، وفقه لغة القرآن الكريم والسنة الشريفة.
إن مجتهدي الفقهاء لم يتمكنوا من الاجتهاد الفقهي إلا بعد امتلاك ناصية اللغة امتلاكاً تاماً، وعلم - أصول الفقه - ـ في جملته وتفصيله ـ هو علم لغوي في أساسه..
وهل استطاع أو يستطيع مفسر جاد أن يجلس إلى كتاب الله هو آية بيانية معجزة وأداته اللغوية لم تكتمل، وذوقه اللغوي لم يصل إلى القمة؟ ..
إن فهم مراد الله من كتابه مرهون بالقدرة على النفاذ إليه من خلال أسلوب عربي شاء الله له أن يكون معجزة بلاغية في صياغيته..
وقصارى أمر من يحاول التفسير دون استكمال عدته اللغوية أساساً، أن يكون راوياً لأقوال الآخرين، أو جامعاً منظماً لها، أما أن يكون مفسراً بنفسه، فهذا ما لا سبيل له إليه.. وقل مثل ذلك بالنسبة لمن يفسر أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم..
إن كل خلاف في آراء المفسرين مرده إلى أساس لغوي بالدرجة الأولى، وكل ترجيح بين رأيين فمستنده أساس لغوي كذلك، فكيف يسوغ الترخص في هذا التكوين اللغوي للدعاة وهو أداة الأدوات في يد كل باحث، ومفكر، ودارس، ومعلم يبلغ عن الله ما جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن إعداد الدعاة ـ مهما تضخمت المناهج وتشعبت ـ يضل عاجزاً عن ربطهم ربطاً وثيقاً بمصدر الدين الأساسي طالما بقيت هذه الثغرة.. أعني هبوط المستوى اللغوي في هذا الإعداد.(13/339)
(3) إذا كانت ثقافة العصر تفرض نفسها على عقول الناس وتخلق فيها من المشكلات ما لم يكن في عقول السابقين فالضرورة قاضية بأن يلم الداعية بتيارات هذه الثقافة، ووزنها، وتمييز ما هو حق فيها وما هو باطل، ثم يسلح بأسلحة ملائمة للهجوم وللدفاع في معارك الفكر التي لا بد له أن يخوضها إذا كان يريد أو يراد له ـ حقاً ـ أن يؤدي رسالته على وجهها.
أصالة الثقافة بربطها بالمصدر الأول للإسلام، ومعاصرتها بالتفتح على ثقافات العصر وميادين المعرفة اليوم، كلاهما ضروري لداعية العصر، وإلا كان سطحياً غير عميق الجذور إذا فقد شرط الأصالة، أو منغلقاً ضيق الأفق إذا فقد شرط المعاصرة.
لقد حفل تاريخ الدعوة الإسلامية وتطورها بنماذج فريدة من - الدعاة - المدافعين عن الإسلام، تمكنوا من قديمهم، وتسلحوا بأسلحة عصرهم. فلم يتهيبوا ميدان النزال، بل اقتحموا وصالوا وجالوا، وغلبوا ورفعوا راية الحق عالية يقذفون الباطل من تحتها بقذائف لم تكن لتخطئ مقاتله..
إن هذا التاريخ ليذكر بالفخر والاعتزاز أمثال أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن حنبل رضوان الله عليهم. ويذر أمثال الحسن البصري وابن سيرين وأبي الحسن الأشعري. ويذكر الباقلاني، والغزالي، وابن رشد، ومن إليهم ممن كانوا حصونا ومعاقل تقف لترد عن الإسلام هجمات الطاعنين والمفترين. ويذكر ابن تيمية، وابن القيم، والشاطبي.. وابن كثير..
ويذكر في عصرنا الحديث محمد بن عبد الوهاب والأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا، والكواكبي، ممن كانوا شهبا راصدة تنقض على كل من يحاول النيل من الإسلام بالطعن والتشكيك.(13/340)
إن العودة لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، واستمداد مناهج إعداد الدعاة منهما مباشرة، وتمكين الأساس اللغوي للدعاة، هو نقطة بدأ لا بد من التفكير فيها تفكيراً عميقاً، ومخلصاً، ووثقاً من أن ذلك هو الطريق لنهضة الدعوةا والدعاة والذي لا طريق سواه، ثم يكون بعد ذلك الانفتاح على ثقافات العصر.
(4) كل ما مضى يتصل بالتكوين العلمي أو المعرفي والثقافي للدعاة، ويحدد جوانب النقص فيه.
وبقي جانب وهو أخطر الجوانب كلها في تظرنا، لأن نقصه يذهب بكل النتائج التي نرجيها من وراء تصحيح المسار في التكوين العلمي النظري لمن يوكل إليهم أمر الدعوة ومهامها.
إن فلسفة إعداد الدعاة تبدو لنا ناقصة نقصاً خطيراً، ذلك أنها تعنى بالجانب التعليمي التلقيني، أو بالجانب النظري من الإعداد، بينما هي تهمل إهمالاً شبه كامل الجانب التربوي الذي هو الوجه المكمل للوجه النظري.
إن العلم وحده لا يكفي لتكوين داعية، والمعرفة وحدها لا تصنع داعية كذلك لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أخوف ما أخاف على أمة كل منافق عليم اللسان " رواه ابن عدي عن عمر.
إن العلم إذا لم يستند إلى خلق يحميه من نزوات النفس وطغيان الشهوات ويصونه عن الدنايا وسفاسف الأمور، يصبح كارثة حين يوجه لغايات آثمة، أو يستغل في مآرب خبيثة.
إن تنمية الإحساس بأن - الداعية - صاحب رسالة: هي امتداد لوظيفة النبوة، ومسؤليتها ـ لذلك ـ مسؤلية ضخمة، والتبعة فيها على قدر سموها وجلالها.
تنمية الإحساس بهذه المعاني شرط أولي يجب أن تحرص على التمكين له فلسفة إعداد - الدعاة - ولا تغفل عنه في خطوة من خطوات هذا الإعداد.
يجب أن يختار - الدعاة - اختياراً مدققاً، بحيث تتوافر فيهم مقومات إذا تخلفت كانت البداية خاطئة وغير موصلة إلى الغاية المرجوة.(13/341)
إن المستوى العقلي الجيد، والذكاء بدرجة واضحة ضروري هنا، ومن المقرر: أن الفطانة من صفات الأنبياء عليهم السلام. فلنتعلم جيداً من قول الله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ـ الأنعام 124.
والمستوى الخلقي الممتاز ضرورة فوق كل الضرورات، فالدعوة أمانة لا رقيب على صاحبها سوى ربه وضميره، ومن المقرر كذلك: أن الأمانة من صفات الأنبياء صلوات الله عليهم.
والالتزام الديني بالإسلام فكراً وسلوكاً في كل صغيرة وكبيرة مما يجب تمكينه تمكيناً متأصلا في أنفس الدعاة ومن الخطورة أن نقدم للناس دعاة يقولون ما لا يفعلون أو يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، أو ينهون عن المنكر ولا يتناهون هم عن فعله.
إن الداعية قدوة وشرط القدوة تطابق القول والعمل بعد استقامتها على نهج صحيح.
تربية الداعية دينياً، وتدريبه على تطبيق الإسلام في حياته عملياً، وتزكية نفسه بما يجعلها متأبية على الدنايا، وأخذه أخذاً بما يحصنه ضد فتنة المال وإغراءات الحياة ثم الترقي به ليعيش في المستوى - التجرد - لرسالته مطمئنا ومستعداً للتضحية في سبيلها بكل ما يستطيع.. هذه التربية ضرورية، ولازمة، وبدونها لا يكون هناك معنى للحديث عن دعوة ودعاة: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ـ الأنعام 162. هذا ما ينبغي أن يكون شعار الدعاة.
هذا الجانب التربوي من الإعداد غائب تماماً الآن في بيئات إعداد الدعاة وكيف ننتظر داعية حقيقياً ألف أن تمر عليه مواقيت الصلاة وهو في قاعات الدرس مثلاً مع أساتذته العلماء دون أن يكون من حوله ما يوحي أن هناك التزاماً بقول الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} ـ النساء 103 ـ ويكفينا هذا المثال.(13/342)
هذه التربية العملية للدعاة على قيم الإسلام ومثله وعلى شرائعه وشعائره، وعلى مفاهيمه وعقائده، لا يغني فيها التلقين ولا المعرفة النظرية، بل لا بد لاستكمال هذا الجانب الخطير من تغير جذري يمس فلسفة الإعداد. ويعدل من المناهج والأساليب، ولن يتم ذلك إلا بأن يتم الإعداد والدراسة والتربية من خلال حياة متكاملة، يتخلق كل العاملين في إطارها بخلق القرآن، ويلتزمون التزاماً كاملا بتطبيق الإسلام شعائر وآداباً وقيما وضوابط للسلوك بحيث يترجم ما يدرسه الطالب نظرياً إلى حياة وممارسة.
هل تصلح معاهد إعداد الدعاة الحالية لهذا اللون من التربية؟
بالقطع هي لا تفي بهذا، ولم تصمم مبانيها ومناهجها ولا فلسفاتها على هذا الأساس.
وهنا نقترح:
إنشاء كلية - للدعوة الإسلامية - بتمويل إسلامي عام، ويختار لها الدارسون اختيار دقيقا من كل أنحاء العالم الإسلامي، من خلال نظام محكم للقبول لا يمر منه إلا من تتوافر فيه مقومات خاصة، تؤهله لأن يكون - داعية - بمفهوم الداعية الصحيح.
هذه الكلية يجب أن تختلف كلية عن المألوف في النظم الجامعية أو المدرسية العادية. فالدراسة والتربية فيها متكاملتان، وتبدآن من سن باكرة - 12 سنة مثلا -.
والمراحل فيها مترابطة تسلم كل منها إلى ما يليها. والحياة فيها تصمم بحيث تتيح لأصحابها معايشة الإسلام معايشة حية تحوله إلى نسيج نفسي وعقلي داخل الدارسين، وإلى ظواهر صادقة في سلوكهم.
ونظم التقويم فيها يجب أن تشمل الجانبين العلمي والتربوي أو المعرفي والسلوكي.
وهيئة التدريس وجهاز التربية فيها يجب أن يكون كله من رجال لهم ـ إلى جانب علمهم وخبرتهم ـ اهتمام بالدعوة إلى لله، بدرجة تجعل منهم مجاهدين محتسبين، وليس مجرد موظفين يتقاضون أجورا يتنافسون عليها..
أما المناهج: فيجب أن يتوافر فيها ما يغطي جوانب النقص التي فصلناها هنا وفي مقدمتها: ـ(13/343)
1ـ ثغرة الضعف في التكون اللغوي.
2ـ ثغرة الانفصام عن المصدر الأصلي للإسلام ممثلا في الكتاب والسنة.
3ـ ثغرة الانغلاق وعدم الاقتحام لثقافات العصر وتحديد مواقف منها.
وليس ثمة ما يمنع أن يكون في خطة الدراسة مجال واسع لتدريب عملي على البحث العلمي من ناحية، وعلى ممارسة فنون الدعوة العملية: من خطابة ومحاضرة، ودرس، وحوار، ومناظرة وإذاعة.. إلخ.
إن تركيز جهود الإعداد في - كلية إسلامية - كبرى يمكن تطويرها لتصبح جامعة للدعوة خير بكثير من تفتيت الجهود في وحدات صغيرة الإمكانات، عاجزة عن تطبيق مثل هذه الفلسفة.
ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى ضرورة العناية بتدريس اللغات الأساسية المنتشرة في بلاد العالم الإسلامي غير الناطقة بالعربية، وبلغات العالم المعاصر الحية والواسعة الانتشار.
5ـ بقي جانب مهم لاينال ـ في واقعنا ـ ما يستحق من عناية في مناهج اعداد الدعاة ونعني به الجانب الفني العملي للدعوة في مجال الممارسة والتطبيق.
إن - الدعوة - حين يمارسها الداعية خطابة، ووعظا، وفتيا، ودرسا، ومحاضرة، وحديثا إذاعيا، وحوارا، ومناضرة، وهجوما، ودفاعا..هي في كل ذلك ذات وجه فني يتمثل في أساليبها وطرقها.
وإذا كان الفن في ذاته استعداد بالدرجة الأولى، فإن ذلك لا يغني عن دراسة الأصول العامة التي تكشف عن حقائقه، وتصقل مواهبه، وتعين عل الإبداع والتطوير الناجح خلال الممارسة.
وإذا كانت مناهج الدراسة تزود الداعية بالمضمون الفكري الذي يستمد منه، وإذا كانت التربية المتكاملة التي اقترحناها تكوّن شخصية تكويناً متوازناً يؤهله لرسالته، فإن استكمال هذا الجانب الفني المتصل بالأساليب والأدوات لا بد منه.(13/344)
الخطابة ـ مثلا ـ فنّ، أساسه استعداد فطري لا شك، لكن فهم الخطيب لطبيعة موقف الخطابة، وتكيفه بظروف الحاضرين، وأنها لون من السياسة النفسية للجماهير، وتصلح لتناول موضوعات دون غيرها، وتحتاج لاصطناع أسلوب غير ما يحتاج إليه في محاضرة مثلا، إلى ما يكون للآداء الصوتي من تأثير، بتلوين نبرات الصوت ودرجته، والوقفات والسكتات التي تتخللها، والسرعة والبطء، وطول الجمل وقصرها، وكونها مرسلة أو مسجوعة أو متوازنة.. وكيف يكون تفجير طاقات الناس واستفسارهم، أو استهواؤهم. وتهيئة قابليتهم لما يلقى إليهم، كل أولئك مما يفيد - الداعية - معرفته، ويزيد من بصيرته بفنه الذي يمارسه.
إن القرآن الكريم، حافل بالمناهج، والأساليب، والطرائق التي يتمكن الاستنباط منها والاستهداء بها في كل موقف نوعي يقفه الداعية أو يتعرض له: خطابة، وحواراً، وقصصاً، وموعظة، وتقريراً في تنوع يقدم لكل مقام ما يلائمه، ولكل موضوع ما يناسبه.
وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومواقفه العملية ذخيرة ثمينة وثرية لو تناولها باحث بالدرس والاستقراء، واستنبط منها الأصول النفسية والاجتماعية والدينية التي تفسر نفاذ النبي صلى الله عليه وسلم إلى قلوب الناس وعقولهم. في سنة النبي هذه ما لو تناوله باحث حصيف لقدم لنا ما يمكن أن نسميه: علم نفس الدعوة، على غرار ما يعرف من علم النفس التعليمي أو التربوي. ويعمق أكثر فيما يتصل بطبيعة النفس، إذا كان منهج النبوة في دعوة الناس منهجاً ربانياً ألهمه إياه ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى..
وفي وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لمبعوثيه الذين أرسلهم معلمين هنا وهناك من أمثال معاذ بن جبل، وفي إجاباته عن أسئلة محددة من أشخاص ذوي سمات خاصة مجال واسع لتأمل رشيد، يعود على صاحبه بما يفتح بصيرته على رؤى ومدارك لم يكن يراها من قبل.(13/345)
إن العصر الذي نعيشه ابتكر من وسائل الاتصال والتوصيل ما لم تعرفه الدنيا ولا سمعت به قبل قرن واحد. وكلها مما يتوسل به لتوصيل الكلمة نافذة مؤثرة بأقصى ما تحتمل من هذا التأثير.
والدعوة الإسلامية ـ وأداتها الكلمة ـ لا بد لها من تفكير جاد في دراسة وسائلها التقليدية لتطورها من جهة، ولتكملها بما استحدثه العصر من وسائل تلائمها وتجعله أكثر قدرة على النفاذ إلى القلوب والعقول.
إن نقاء أجهزة الدعوة الإسلامية في عالمنا مقيدة بهذه الحدود والوسائل الضيقة التي دفعت إلى مضايقها دفعاً خلال فترات مختلفة من تاريخ المسلمين، يجعلها متخلفة عن الوفاء بحاجة العصر. والمسلمون طوروا كل أساليب حياتهم تقريباً. واستحدثوا كل جديد رأوه نافعاً في مجالات الحياة، ومن واجبهم أن يعطوا - الدعوة - إلى الله جانباً من هذه العناية.
ثالثا: مناخ الدعوة
وهو الميدان الثالث الذي تنبثق منه مشكلات كثيرة تتصل بالدعوة والدعاة بل لعله أخطر الميادين كلها على الدعوة سلباً وإيجاباً.
إن مناخ - الدعوة - حينما يكون ملائماً يتيح لها من الحرية والانطلاق ما هو شرط ضروري لازدهارها وإيجابيتها، وحين يكون هذا المناخ غير موات بما يسوده من كبت وتقييد تفقد الدعوة أول شرط لحياتها، وتصبح مختنقة محبوسة الأنفاس.
حينما قال الله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ـ الجن 18 فقد قرر حق الدعوة في حرية مطلقة لا قيود عليها، وأوجب على الدعاة ألا يذعنوا لأي نوع من أنواع الضغط أو التوجيه الذي ينال من تجردهم للغاية التي جندوا أنفسهم لها.
وإذا كان من واجب حكام المسلمين أن يوفروا للدعوة هذه الحرية الكاملة فمن واجب الدعاة كذلك ألا يسيئوا استخدام هذه الحرية بما يسئ إلى أممهم ودولهم دون غاية من دين أو دنيا تبرر هذه الإساءة.(13/346)
وإذا كان لا بد هنا من ضابط لهذه الحرية فهذا الضابط يتمثل في أمرين:
1ـ تجريد الغاية كلية لله، فلا هوى ولا غرض، ولا مرض ولا عرض من أعراض الدنيا.
2ـ سمو الأسلوب، واستقامة المنهاج بالالتزام بما أرسته الآية المباركة. {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} النحل الآية 125.
إن حرية الدعوة يقابلها الالتزام بهذا الأدب الإلهي الذي سنه الله تعالى لإمام الدعوة صلوات الله وسلامه عليه.
حرية الدعوة والتزامها على هذا النحو هي الصيغة الوحيدة التي يمكن على أساسها حل المشكلة الأساسية التي تعاني منها - الدعوة الإسلامية - في كثير من البلدان، وهي مشكلة كونها تابعة للحكومات والسلطات.
والمشكلة هنا ذات أبعاد يجب تأملها ليمكن تصورها على نحو صحيح.
ماذا تعني تبعية أجهزة الدعوة في بلد ما للحكومة المسؤولة فيه؟
تعني أولاً: أن ينسحب منطق الوظيفة على هذا الجهاز.. فالعاملون فيه موظفون تحدد عليهم واجبات، وتقرر لهم حقوق، ويخضعون لنظام من التوجيه والرقابة تشبه إلى حد كبير ما يسود مجالات الحياة الأخرى، كما يتعرضون لنظام العقاب والثواب أسوة بغيرهم من موظفي الدولة هنا وهناك.
هذا الإطار الوظيفي إن صلح لأي مجال آخر في الحياة فهو في مجال الدعوة غير صالح على الإطلاق، فالدعوة إنما تقوم أٍساساً على الالتزام أمام الله وليس على الالتزام من جانب السلطات كائنة ما كانت.
ونظام الرقابة في هذا المجال لا يمكن أن يأتي من خارج الإنسان، وإنما يجب أن يتولد من داخله خلال عملية الإعداد والتربية والتكوين.(13/347)
إن ضمير الداعية يجب أن يكون الفيصل في مسألة الرقابة وما يتصل بها وحاجة الدعاة إلى رقابة خارجية معناه: فشل إعدادهم وتربيتهم من ناحية، وعدم صلاحيتهم لمهمتهم من ناحية أخرى، وخير للدعوة ـ ألف مرة ـ أن ينحى عن مجالها كل من يحتاج لرقابة خارجية من بقائه في ساحتها.
وتعني ثانياً: إحساس جهاز الدعوة التابع بأن مصيره وقدره مرتبط بطاعته لأولي الأمر، وأن مخالفته إياهم ـ ولو كان فيها إرضاء الله ـ يعرض حياته وحياة من يعولهم لخطر يتصل بمصدر رزقهم.
هذا الإحساس يهدهد من شجاعة الدعاة في الجهر بكلمة الحق، وينمي، بالتدريج روح الهوينى ويبرر الخمول والكسل، حتى ينتهي الأمر إلى أداء شكلي هزيل …
وتعني ثالثاً: أن يدخل - الدعاة - في معركة المطالبة بتحسين الأوضاع، فهم جزء من جهاز الدولة يتأثر بما حوله، ودخول الدعاة في هذا الجو مشغلة من جهة تصرفهم عن وجهتهم، وتبدد الكثير من طاقاتهم، ومن جهة أخرى ينال من صورتهم ـ كمثل وقدوة ـ في أنظار الناس، وعلى هذه الصورة يتوقف الكثير من استجابة الناس لهم ورفضهم إياهم.
وتعني رابعاً: أن على جهاز الدعوة أن يختار أحد طريقين: إما أن يساير ما يجري في مجتمعه ما دامت القائمة تقره، وإما أن يقول كلمة الحق معلناً أن السلطات تخالف حكم الله في هذا الذي أقرته، هذا الصراع النفسي داخل الداعية موجود مستمر طالما ظل هناك انفصال بين مواقف الحكام في التشريع والتطبيق وتنظيم الحياة، وبين توجيه الإسلام.
والحق أن هذه المشكلة من أعقد مشكلات الدعوة.
فتبعية الدعوة للحكومات تضمن لها وللقائمين عليها مواد يصعب تدبيره عن طريق آخر ومعناه: أن قطع هذه التبعية يقتلها قتلاً!
واستمرار هذه التبعية يعرض الدعوة في كثير من الأحيان لضغوط تشل فاعليتها وتفرغها من مضمونها!
والحل في نظرنا يمكن تحقيقه على النحو التالي:(13/348)
1) توفير ضمانات كافية تؤمن - الدعاة - تأمينا كاملا فيما يتصل بأرزاقهم، بمعنى أنهم لا يصادرون في أرزاقهم مهما كانت المآخذ أو حتى التهم التي توجه إليهم!
2) أن تتولى محاسبة من يرى أنه ارتكب ما يوجب المحاسبة هيئة علمية تحاكمه على أساس واضح من مقررات الإسلام التي لا يجوز للداعية أن يذعن لغيرها، ولا يجوز لغيره أن يحاكمه إلا على أساسها.
3) التفكير في نظام يكفل تمويل الدعوة على مستوى العالم الإسلامي ـ كما اقترحنا في صدر البحث ـ وبحيث لا يكون هناك سلطان مباشر للحكومات على الدعاة.
هذه هي المجالات الثلاثة الكبرى التي تتركز فيها مشكلات الدعوة والدعاة.
وبقيت أمور تمثل عقبات وتحديات تعترض طريقها وسوف نشير إلى أهمها فيما يلي:
أولاً: عقبات داخل مجال الدعوة نفسها:
1) ومن ذلك تعدد أجهزة الدعوة، كيانا، وتوجيها، وإشرافا، وهو أمر له خطره المتمثل في تضارب الاتجاهات، وما يترتب على ذلك من شقاق، وبلبلة تهز ثقة الناس، وتجعلهم يتساءلون: ترى من المحق من كل هذه الطوائف؟ ولماذا يكون بعضها أولى بالحق من الآخرين.
2) ومن ذلك ترك ساحة الدعوة فوضى يتجول فيها هواة، ومشعوذون، ودجالون، ومرتزقة كاذبون، ولعل ما يجري تحت اسم الطرق الصوفية في أنحاء العالم الإسلامي أسوأ ما يعترض طريق الدعوة الحقة!!
3) ومن ذلك مناهضة أجهزة الإعلام والثقافة العامة بوعي وبدونه لأجهزة الدعوة مناهضة تملك من الوسائل والطاقات ما يكاد يذهب بأثر الأخيرة ذهاباً كلياً، ومن أخطر ما يجري في هذا القطاع التعريض بالدعوة ورجالها، والنيل من مكانتهم، ومحاولة التأثير على صدورتهم عند الجماهير بما يضعف استجابتهم لهم.(13/349)
4) ومن ذلك ميل كثير من العاملين في مجال الدعوة إلى الهروب من الميدان، والاتجاه إلى مجالات أخرى يرونها أكثر سخاء في العطاء الدنيوي وهذا أكبر دليل على أن فكرة - الرسالة - والإحساس بها لم تنشأ في نفوسهم، ولم يعن بتنميتها فيهم من خلال مراحل الإعداد!!..
ثانياً تحديات من خارج المجال:
وفي مقدمة هذه التحديات ما يتستر ويتخفى تحت شعار العلم متخذا منه قناعاً من جهة ومعبراً يعبر منه إلى عقول الشباب المعاصر من جهة أخرى! من هذه التحديات:
1) تلك النزعات والمذاهب والفلسفات المادية التي تفد من الشرق ومن الغرب على السواء، والتي تلتقي على غاية واحدة، قلع بذور الدين والتدين من العقول والقلوب وأصحاب هذه الاتجاهات يحاولون إضفاء صفة العلم عليها، لما للعم اليوم من سلطان على العقلية المعاصرة وخاصة في بلاد العالم الصناعي، حيث قدم العلم إنجازات جعلت تلك المجتمعات تقيم منه إلها تعبده، وتتعبد في محرابه.
إن فتنة العلم في عصرنا هي أخطر ما يجب مواجهته، وكشف ما ينطوي عليه من مغالطات وتجن على الحقيقة، وافتعال الادعاء بأن الدين عدو للعلم.
2) ومن فروع هذه الشجرة الآثمة ذلك الاتجاه - العلماني - الذي يدعو إلى فصل الدين عن الدولة، وهو اتجاه قد يكون له ما يبرره في بلاد نبذت الدين كلية، أو فشلت في محاولة التوفيق بين نظرة العلم ونظرة الدين الذي تدين به للحياة، لكن هذا إذا ساغ في أي مجتمع يستظل بأي دين فإنه في مجتمع يستظل بالإسلام لا يزيد عن تقليد جاهل أو محاولة مغرضة تريد حرمان المجتمع الإسلامي من أعظم مقوماته، ومن أعمق دوافعه، ومن أقوى حصونه في الصمود والدفاع عن نفسه في مواجهة أعدائه.(13/350)
في مجتمع الإسلام لا مكان لهذه المشكلة، بالمرة، فالدين الحق والعلم الصحيح أخوان، وفي تعاونهما معاً ازدهار الحياة وتقدمها، والداعون للعلمانية في مجتمعات الإسلام هم ـ بحق ـ الرجعيون الذين ينطلقون من منطلقات جاهلة أو حاقدة..
3) ومن فروع هذه الشجرة الآثمة أيضاً ما نراه من انفصام بين الجامعات والمراكز التي تتولى شئون البحث العلمي في بلاد إسلامية متعددة، وبين روح الإسلام ونظرته للعلم والعلماء، وهي ثمرة مرة جاءت نتاجاً غير صالح لما كان من فصل متعمد بين التعليم الديني والتعليم المدني أرسى الاستعمار قواعده، ورسخ أصوله، وأحدث ثغرة هائلة في بنية المجتمع الإسلامي المعاصر، يجسدها هذا الانفصام بين مراكز التوجيه والقيادة الفكرية فيه، وبين الإسلام على درجات متفاوتة.
4) ومن التحديات التي تواجه الأديان بوجه عام ما يبدو من ميل علم كذلك إلى التحلل من الدين، والتخفف من تبعات التدين، وهي ظاهرة عامة في كل المجتمعات تعكس روح العصر، ومن الغريب أنها بدأت تنحسر في المجتمعات المتقدمة وظهرت فيها نزعات تطالب بالعودة إلى الدين، هذا بينما هي في المجتمعات النامية ما زالت تأخذ صورة المد، ولم تنحسر بعد.
5) وهناك تحد خطير، لأنه يمثل خميرة الشيطان في مجتمعات المسلمين لقد تمكن الملاحدة من الماركسيين وغيرهم في كثير من بلاد العالم الإسلامي من أن يكون لهم وجود منظم أو معترف به، في شكل أحزاب، أو تجمعات تمارس نشاطها علانية أو تحت الأرض.
هذه التجمعات الإلحادية تركز نشاطها على الشباب، وتستثمر الظروف الصعبة التي تعانيها بعض تلك المجتمعات، لحساب مبادئها الهدامة، وأغراضها المشبوهة وقد مكنها ما أضفى عليها من شرعية في بعض تلك البلدان من أن تستعلن، وتفصح عن مبادئها، وتدعو إليها جهاراً نهاراً.(13/351)
وبعد فلعلنا نكون ـ بهذا التفاؤل الموجز ـ قد ألقينا ضوءا كافياً على ما يعترض الدعوة الإسلامية من مشكلات وما يعترض - الدعاة - من عقبات حرصنا على أن نضعها في أطرها العامة ليسهل التعرف عليها، والنفاذ إلى جذورها وأسبابها، بما يهيئ السبل الصحيحة لعلاجها والخلاص منها.
إننا لو استطعنا تحقيق وتطبيق معطيات هذه الآيات الكريمة في محيط الدعوة الإسلامية ومجالاتها لكان لها من هذا التطبيق ما يخلصها من مشكلاتها، ويمنحها قوة دافعة تسرع بها نحو غايتها.
لنرفع قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} شعاراً لتجرد الدعوة والدعاة.
ولنرفع قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} عهداً بالتضحية والفداء.
ولنرفع قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} تذكرة بالاحتساب.
ولنتخذ من قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} معياراً لما يجب أن يكون عليه الداعية تفقهاً في دين الله، ومعرفة بالطريق إليه.
ثم لنتخذ من قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، منهاجاً ودستوراً وأدباً يتخلق به الدعاة.
وأخيراً لنتخذ من قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} مناراً نطل منه على آفاق الدعوة التي يجب أن نبلغ بها إليها.
والله من وراء القصد موفق ومعين، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون.(13/352)
من هنا.. فلنبدأ أعمالنا للدعوة
لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
المحاضر بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
تمهيد:
لو أن راصداً لألوان المحاولات الإصلاحية، في عالم الإسلام الرسمي المعاصر، أراد أن يشير إلى واحد منها يتخذه إطاراً لها جميعاً لكان محقاً أن يختار له اسم (المؤتمرات الإسلامية) فقد تعددت هذه المؤتمرات، وتعددت أغراضها، وتعددت أمكنتها، وتعدد شهودها، من حكام وعلماء ومفكرين واقتصاديين وليس آخرها هذا المؤتمر المقصور على شئون الدعوة. وهي ظاهرة أيا كانت حصائدها من حقها أن تحرك موات الأمل في مستقبل يرجى أن يكون أفضل بما لا يقدر من الحاضر، إذا تولته عناية الله الذي نزل الذكر وتعهد حفظه بقدرتها التي لا يعجزها شيء.
إلا أن من أولى مهام الناهضين بأعباء هذه المؤتمرات أن يتوقفوا بين الحين والحين لمراجعة حساباتهم، وتقدير المسافة التي قطعوها إلى أهدافهم. وعلى ضوء المحصلات يمن تثبيت الخطى أو تعديلها في المسيرة الطويلة.
وأنا كمسلم، تتحد رؤيته للهدف بأنه تحقيق المجتمع الإسلامي، الذي يطلع إليه ضمير الإنسان ـ الذي اضطربت رؤيته، وزاغت بصيرته، فبات كالضارب في صحراء لا مخطط لها ولا دليل عليهاـ لا يغلبني التشاؤم فأنكر على هذه المؤتمرات خيرها، ولا أستسلم للتفاؤل فأبالغ في تضخيم محصولها.. ولكنني أوثر تقويم الواقع للانطلاق منه إلى التي هي أحسن.(13/353)
من هنا أراني مضطرا، بإزاء هذا المؤتمر المرموق، الذي يعقد لبحث متطلبات الدعوة، في الجامعة الإسلامية التي أنشئت لخدمة الدعوة على مستوى العالم الإسلامي، وفي مهبط الوحي الذي منه انطلقت أشعة الوحي لتضيء طريق الإنسانية، أجدني مضطرا إلى التذكير بالحقيقة التالية: إن الإسلام هو دعوة الله الخالدة الشاملة، وكل مؤمن بها فردا أو جماعة مكلف إذا عتها ونشرها في حدود طاقته ووسائله.. ولكن أول شروط الداعي وضوح الرؤية لديه بحيث يعرف من أين يبدأ أو إلى أين يريد أن ينتهي، وما حدود المجال الذي سيعمل فيه.. وعلى هذا لا مندوحة عن الإجابة مبدئيا على هذا السؤال:
من أين نبدأ:
في مطالع البعثة النبوية كان على الداعي الأول (صلى الله عليه وسلم) أن يؤمن بنفسه أولا نبيا مختارا من قبل الله، حتى إذا تضلع من اليقين بهذه الحقيقة جاءه الأمر الأعلى بدعوة الآخرين من عشيرته الأقربين، ومن ثم، وبعد أن أخذ الإيمان مستقره في صدور الصفوة من هؤلاء، استقبلت الدعوة مرحلتها العالمية فراحت تنتشر مع الشمس في كل اتجاه من دنيا الناس، تحملها نفوس صفت التربية الربانية مقوماتها من عوامل الضعف والهبوط، فكانت بنفسها صورة نموذجية للخير الذي تدعوا البشر إليه.
تلك حقيقة يعرفها كل واع لتاريخ الدعوة الإسلامية، ولا مندوحة عن اعتبارها المنطلق الأول لكل تحرك في هذه السبيل: وعي الدعاة لما يريدون دعوة الناس إليه، ثم إيمان يسترخص كل شيء دونه وفي سبيله، ثم تميز بصفاته الواضحة عن كل ما عداه من الدعوات والمذاهب، فلا مساومة ولا مشاركة، ولا أنصاف حلول، وإنما هو تصميم قاطع على التحقق بقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ..} .(13/354)
وعلى هذا فلا مناص للعاملين في نطاق الدعوة من تحديد نقطة البدء في منطلقهم، وهي تكوين أنفسهم، وتنظيم طاقاتهم على روح الدعوة التي آمنوا بها، حتى لا يلحظ الآخرون أي تناقض بين ما يقولون وما يفعلون. فإذا كان الداعي فردا من المثقفين كانت عدته الأولى بالحق الذي يريد إشاعته، وإذا كان الداعي دولة أو حاكما فالتبعة أكبر وأثقل، لأنها تقتضيه أن يكون الحارس الأمين لمبادئ دعوته، يستلهم أحكامها في كل صغيرة وكبيرة من عمله، فلا يحيد عنها في قضاء أو تدبير أو تنفيد.. ويكون في سلوكه الشخصي صورة حية من العدالة والنزاهة، اللتين يتميز بهما الحاكم المسلم، فيستحق أن يكون القدوة الصالة لمن تحت يده من المؤمنين بهذا الدين والجاهلين له على سواء.
أجل.. تلك هي الحقيقة، التي لابد من التزامها لإنجاح العمل، الذي ينعقد هذا المؤتمر المبارك من أجله.. ولذلك كان لزاما على كل مفكر يؤمن بهذه الحقيقة أن يحاول جهده الارتفاع إلى مستواها أولا، لئلا يندرج تحت قوله تعالى {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ..}
الإسلام والجاهليات
منذ انبثق فجر الإسلام بدأت معاركه مع الظلمات الجاهلية، فما تخمد نار إحداها حتى تستعر أخرى وقد استطاعت أن تمد ألسنتها في الكثير من الأحايين إلى قلب حصونه، فتدمر وتشوه، وتزلزل أعصاب الكثيرين من ضعفاء الوعي، فتؤلف منهم عصائب وفرقا، ما زالت بهم حتى جعلت منهم أشد أعداء الإسلام نكاية له، وتصميما على استئصاله.. وفي عصرنا الراهن نماذج رهيبة من هذه المعارك، اختلفت أدواتها، وتباينت أساليبها، ولكنها تلتقي جميعها على الغاية الواحدة التي هي تدمير الإسلام.
ومعلوم لكل ذي لب أن خصوم الإسلام في هذه المرحلة الرهيبة قد حققوا غير قليل من النجاح في صميم العالم الإسلامي، إذ استطاعوا بوسائلهم المدروسة البالغة الدقة أن يتسللوا إلى كل معقل منه، فيعملوا فيه هدما وإفسادا.(13/355)
لقد أخذوا على المسلمين سبل الحياة جميعا، فأفقدوهم الثقة في أنفسهم ومقوماتهم أولا، ثم أقنعوا أولى السلطة منهم ـ إلا من رحم الله ـ ألاّ منفذ إلى أي تقدم إلا عن طريقهم وبتوجيههم.. وهكذا أصبح المسلمون في كل مكان، وبإيحاء هذا الإيهام، رمز الأمة التي قدر لها أن تكون نموذج التخلف في قافلة البشرية، بعد أن كانت رائدة الركب الحضاري، لا عمل لها إلا حراسة الخامات التي أنعم الله بها عليها لتقدمها إلى خصومها بأرخص الأثمان، كي يردوها إليها مصنعة بأضعاف أثمانها.
وعلى دأب المستضعفين في الإعجاب بالمستضعفين أقبل المسلمون على تعقب آثار هؤلاء دون تفريق بين الضار والنافع، والصحيح والفاسد، بل لقد أسرفوا في الجانب الادني من شؤونهم، حتى أوشكوا أن يتميزوا به.. فطرز أبنيتهم صورة مكررة لمنازلهم القائمة على النظام الوثني، الذي لا يقيم وزنا لفضائل الإسلام، ومناهجهم الدراسية نسخ منسوخة من مقرراتهم التي لا تقبل التعامل مع حقائق الوحي، إلا ما بقي من آثار لا وزن لها في نتائج الامتحانات وفي الغالب من ديار الإسلام: وقد اكتسحت بيوت المسلمين فنون الكفرة، فهي تغزوهم بالمنظور والمسموع من الملهيات المنافية لكل ما أمر الله به ورسوله ويألفونها شيئا فشيئا حتى تطرد من حياتهم كل ما يعارضها من الأخلاق الإسلامية كما تطرد العملة الزائفة الصحيحة، وكأنهم بذلك إنما يحققون باختيارهم ما حذرهم منه نبيهم المعصوم بقوله الخالد: "لتتبّعنّ سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم.. " [1]
تصحيح الداخل أولا:(13/356)
هذا الواقع الرهيب هو الذي أطمع بالمسلمين أولئك الأفاكين من أدعياء العلم في الغرب، فراحوا يشنون حروبهم على الإسلام باسم العلم، فيحرفون الكلم من بعد مواضعه، ويقلبون الحقائق، ليدفعوا تلاميذهم من أبناء المسلمين إلى التنكر لدينهم. ثم أولئك الأفاقين الآخرين من دعاة النصرانية، الذين يئسوا من استبقاء دينهم في الأجيال الغربية، التي كفرت بقداسة الكنيسة فألقوا بثقلهم على الشرق الإسلامي، يستغلون الفراغ الذي تعانيه الكثرة من قلوب أبنائه، ليسلخوهم من بقايا هويتهم، الإسلامية، وليجعلوا منهم عصائب جديدة من الحاقدين على الإسلام، المحاربين له كأسلافهم الأولين من المرتدين.
ومن هنا كان تصورنا لهذا الواقع في داخل كياننا حقيقيا بأن يدفعنا دفعا إلى البدء بتصحيحه، قبل أي تحرك إلى الخارج. لا جرم أن من واجب المؤتمر مواجهة كل محاولة تستهدف النيل من الإسلام في كل لغة وكل مكان وذلك هو الطابع الرئيسي الذي يتجلى في كل اجتماع يعقد لخدمة الدعوة، وفي كل بحث يكتبه غيور على حرمتها.. لكن.. أليس من حق الإسلام كذلك أن نوجه بعض هذا الجهد إلى ذلك الواقع الذاتي الذي سيمدنا بكل أسباب الفلاح أو الإخفاق في جهادنا من أجل الدعوة!
من أبسط البديهيات أن الجيش المحارب لا يصلح للعراك إلا بعد التدريب والتنظيم واستيفاء كل الوسائل التي يتطلبها القتال.. فلنبدأ إذن بتنظيم كياننا الأساسي أولا.
إن معظم العاملين في نطاق الدعوة يركزون جودهم على جدال الآخرين لإقناعهم بحقائقها.. على حين يغفلون أقرب الناس إليهم فلا يكادون يعرضون هذه الحقائق عليهم..
في إحدى المدن الإسلامية قدم أربعة من الشباب (المتعلمين) إلى القضاء لمحاكمتهم على السكر وإعلان الإفطار في رمضان، أيام كان لرمضان حرمته في ذلك البلد، وشد ما أدهش الناس أن يعلموا أن كل من الأربعة إبن لعالم مشهور في تلك المدينة.(13/357)
وما أكثر النسوة اللاتي يتجردن من كل أثر للحشمة الإسلامية بمشهد من آبائهن أو أزواجهن، الذين يكثرون من الكتابة والخطابة في شئون الإسلام! أفليس مثل هؤلاء الغافلين أحرياء بأن يتذكروا قول الشاعر الحكيم:
يأيها الرجل المعلم غيره
هلا لنفسك كان ذا التعليم!
فيعلموا يقينا أن أول مسؤلياتهم هي تركيز معاني الإسلام في قلوب أوليائهم، حتى كلمتهم ذات وزن في نفوس الآخرين..
هذه التناقضات:
هذا من ناحية الأفراد المتطوعين للدعوة، أو الموظفين لها.. فإذا نقلنا النظر إلى الصعيد الرسمي ألفينا التناقض أكبر، والمردود أهول وأثقل.
إن غير قليل من حكومات العالم الإسلامي تتنكر للإسلام عملا، وإن شاركت في الاجتماعات المنسوبة إليه كلاما..
إنها بحكم سلطانها على الدولة تهمين على كل مرافق التعليم، وبدلا من أن تقيم مناهجها جميعا على أساس الحقائق الإسلامية، وتحمي الإسلام من كل دعاية مضادة لحقائقه، سواء جاءت من المدرسين المنحرفين، أو من الأعداء التقليدين، نجد واقع الأمر فيها على خلاف ذلك، فالمناهج دخيلة محشوة بما يتنكر لعالم الوحي، والعلوم الإسلامية الحقة إما مطرودة من تلك المناهج نهائيا، وإما معزولة عن التأثير التربوي، بحيث لا يسمح لها بمواجهة أي افتراء يوجه إليها من كتاب مقرر، أو مدرس مضلل، ثم يتم إقصاؤها عن مجال التأثير كليا بإلغائها من مسوغات القبول في الدراسات الجامعية.. ولعل كثيرين حتى من ذوي العلم يجهلون أن بعض الحكومات (التقدمية) قد أغفلت ذكر العلوم الشرعية من كل خطط التنمية التي تمدها للمستقبل القريب.. ولا معنى لذلك إلا التصميم على إلغائها نهائيا.(13/358)
فإذا التفتنا إلى ميدان الإعلام، وجدنا الأبواب مفتحة لكل الأفكار المحاربة للإسلام، ولكل الفنون المدمرة لآدابه وفضائله. وربما عثرنا في بعض الزوايا القصية على بعض الكلمات التي تحاول أن تعرض، في استحياء، بعض معاني الإسلام، ولكن ما يحيط بها من نقائض كافية لأن تجعل منها شيئا غير معقول ولا مقبول.. حتى كتاب الله الذي غير تاريخ البشرية، وعلمها ما لم تكن تعلم من حقوق الإنسان ورسالته العليا، فلما يقدم للناظر أو السامع إلا مصحوبا لسبيل من الأغاني أو المزامير، التي لا داعي لها، سوى إشعار السامع أو المشاهد أن هذا القرآن ليس أكثر من بعض هذه (الألوان) الترفيهية..
تراثنا المهدد:
ولا عجب أن تنحدر معاملة المعاني الإسلامية لدى وسائل الإعلام الرسمية في بعض هذه الدول، إلى مثل ذلك الدرك المؤسف، ما دام بعض كبار المسؤولين فيها لا يتحرجون عن الطعن الصريح في عصمة القرآن، والغمز من رسالة محمد (صلوات الله وسلامه عليه) حتى ليتهمونه على رؤوس الأشهاد بالتقول على الله، والدعوة إلى عبادة ذاته، والاستعانة بالأساطير الوهمية للتأثير على الأتباع.. إلى آخرين لا يسترون سخريتهم بالإسلام، حين يعلنون إيمانهم بالماركسية والإسلام جميعا، ولا يكتفون بذلك لأنفسهم بل يفرضون هذا التزوير على شعوبهم المسلمة بقوة الحديد والنار، ثم لا يستنكفون أن يحرقوا منكري هذا الإفك المبين بالنار على ملأ من العالمين.. ومع ذلك لا يرون بأسا من أن يحضروا مؤتمرا الإسلام، وينيبون عنهم من يتحدث باسمه في كل مناسبة خاصة به..
وقد أعطى هؤلاء أنفسهم حق الإفتاء في كل ما يريدونه من الإسلام، دون ما حاجة سوى أنهم يملكون القوة التي تمكنهم من إذلال شعوبهم، وزج أحرارها في غياهب السجون، والتفنن في ابتداع عجائب التعذيب، يصبونها على كل من يجرؤ على مواجهتهم بكلمة (لا) ..(13/359)
ولعل موقف هؤلاء من المرأة المسلمة يمثل قمة الاستهتار بقداسة الإسلام.. فالسائح في ديارهم أينما اتجه تطالعه اللافتات الصارخة بتحرير المرأة.. وقد أصبح هذا شعار كل حكومة تنعت نفسها بالتقدمية في بلاد الإسلام.
وبقليل من التحقيق يتضح لكل ذي بصيرة أن المراد بهذا التحرير ليس تمكين المرأة من طلب العلم الذي يناسبها ولا رفع المظالم التي ترهقها في بعض الأوساط التي أدارت ظهرها لشريعة الله، بل دفعتها إلى الخروج على كل القيم التي ميزت المسلمة عن سائر النساء، إذ أعطتها من الحقوق ما لم تحلم به امرأة في العالم كله حتى الساعة..
ولا شك أن رافعي شعار (تحرير المرأة) في عالم الإسلام يدركون جيدا أن إفساد المرأة المسلمة باستجرارها إلى التحلل من فضائل الإسلام، إنما هو أقصر طريق إلى تدمير الحصون الداخلية للمجتمع الإسلامي.. لأنه سيجهز على مقومات البيت الذي لم يبق سواه لتربية الأجيال المؤمنة..
ومن أجل ذلك يعبئون كل الطاقات التي يملكونها، لتفريغ المسلمة من كل تقديس لمواريثها الدينية، وفي مقدمة ذلك تشويه القيم الأصلية، وشحن نفسها بالتنفير من كل موحياتها، وأنجح مجال لذلك مؤسسات العلم التي أمكن تجريدها حتى اليوم كل الحصانات الذاتية، ثم مؤسسات الدولة التي ركزت على استخدام المرأة، فأصبحت من أهم العوامل المفتتة لبقايا الأخلاق..
وما أحسبني بمعذور إذا أنا أغفلت بجانب هذه الألغام الناسفة، موضوع الشباب الذي يبتعث لاستجلاب المعرفة من معاقل الكفر، فإذا هو ـ إلا من رحم الله ـ فريسة مكشوفة لكل خبيث النية عليم اللسان.. ثم لا يلبث إلا قليلا حتى يسلخ من الزاد اليسير الذي حمله عن دينه دون تعمق ولا تدبر.. فإذا عاد إلى بلده بعد من الدراسة كان أكبر همه تهديم ما يواجهه من تراث حُشِي صدره بالحقد عليه..(13/360)
وإني لهذا المسكين، الذي سُيّب دون معين، أن يصمد لألوان المغريات التي أعدت لاصطياده منذ الخطوة الأولى.. إذ كان عليه، من أجل إتقان لغة القوم، أن يتخذ سكنه في أسرة لا يسمع ولا يرى فيها إلا ما يخالف مقومات دينه، ثم تأتي الرحلات والحفلات والشهوات.. فلا تبقى من ميراثه النفسي نقيرا ولا قطميرا..
فكيف إذا تذكرنا أن هذا الشباب هو الذي يتولى وسيتولى قيادة المجتمع وتكييفه على الوجه الذي لا يؤمن بغيره!..
من هنا فابدأوا:
تلك صورة مصغرة من وقائع كبيرة لا يجهلها أحد مهتم بشؤون المسلمين، ويعنى بالدعوة إلى الإسلام.. ولابد أن كلا منا قد سأل نفسه بإزائها أكثر من مرة: إذا كان هذا هو واقع المسلمين في بلاد الإسلام، فكيف يتاح لداع إلى هذا الدين أن يقنع به الآخرين؟..
إن أولى الحقائق التي يلتزم الداعي إلى الإسلام عرضها لغير المسلم، بعد كلمة التوحيد، هي إقناعه بأن الإسلام هو النظام الكامل الذي اصطفاه الله لعباده من أجل هدايتهم إلى التي هي أقوم في دنياهم وآخرتهم، ففيه أصول الحياة السعيدة لكل ما تتطلبه فطرة الإنسان من الحكم الرشيد، والآداب العاصمة، والقوانين الضابطة لمسيرة البشرية، أفراد وجماعات وحكومات في الطريق الذي لاعوج له.
بلى.. ذلك ما يفعله كل داع أوتي العلم والحكمة.. ولكن ما محصول دعوته حين يسمع مدعويه يتحدونها بمثل قولهم: إذا كان هذا هو الإسلام حقا.. فما بال دول المسلمين يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، فيقاطعون تشريعاته القويمة، ليأخذوا بقوانيننا المضطربة، وما بالهم يرفضون أنظمته الاجتماعية، في المرأة والتربية والتعليم، ليلهثوا في أثر مجتمعاتنا، التي فقدت الرؤية السليمة، فراحت تتخبط في المجاهل دون هاد ولا دليل!..(13/361)
لقد استحكمت مرحلة الضياع في حياة المسلمين منذ رضي مسؤلوهم بالتخلي عن سياسة الإسلام في الأموال والدماء وأساليب الحكم، ولما ألفوا البعد عن مهيع الشريعة الآلهية تقدم بعضهم مرحلة أخرى فأعلنوا الثورة بكل الخصائص التي تميز المجتمعات الإسلامية وها هم أولاء يصرحون في كل مناسبة بأنهم يريدون تفكيك البنية الاجتماعية لشعوبهم وتحويلها إلى أوضاع مغايرة تماما.. أوضاع يستمدون مخططاتها طبقا من كل مكان وكل نظام إلا الإسلام..
هكذا يتحول هذا الإسلام في ظل هذه العقليات الغربية إلى شيء آخر يمكن إعطاؤه أي اسم إلا الإسلام.
إن إلغاء القوانين الشرعية في معظم العالم الإسلامي قد جرده من كل الحصانات التي تحقق له الأمن، إذ زجه في المتاهات نفسها التي يتخبط فيها العالم الجاهلي من حوله.. وإنشاء الفتاة المسلمة على غير الإسلام قد عطل كل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المحددة لسلوكها، والحافظة لسلامتها وكرامتها، وبهذا وذاك يستحيل كتاب الله بين المسلمين لونا من الصحف الأثرية، إذا قرئت، وقلما تقرأ، فللذكرى أو للتسلي وربما للتبرك على أفضل الاحتمالات.. تماما كما حدث للإنجيل من قبل، إذ أصبح معزولا عن حياة النصارى، حتى لا يكادون يعرفون عنه شيئا، كما يقول المستشرق المبشر بيير ضودج في كتابه (الإسلام بنظر الغرب) ـ ص43ـ.
وإزاء مثل هذا الوضع لا يستغرب القول بأن كل الدلائل تؤكد أن الإسلام في مناطقه هذه مهدد بالزوال خلال سنين.. إذا لم تقيَّض له قوة ترد عليه اعتباره، وتمكن المسلمين أن يمارسوه في أحكامهم ومعاملاتهم وإعلامهم وسلوكهم، في بحبوحة من الحرية لا يهددها عسف ولا إرهاب.
وأمام هذا الواقع المنظور الملموس لا يعذر المفكر المسلم إذا لم يقل لدعاة الإسلام: من هنا، من مناطقكم المحسوبة على الإسلام فابدءوا بالدعوة إلى الإسلام.
لابد من حوار:(13/362)
وكأني بهؤلاء الإخوة المعنيين بشؤون الدعوة، وقد ذكرهم حديثي بما لم ينسوه، يتساءلون في أعماقهم: ذلك هو الحق.. ولكن ما السبيل إلى تحقيق واجبنا نحو الدعوة في هذه المناطق المغلقة بوجهها!..
وأقر سلفا بأني لست أقل منهم حيرة بإزاء هذه المشكلة.. فأنا أعلم ما يعلمون من الأخطار الهائلة التي تنتظر كل ما مر يجرؤ على اقتحام هذا الميدان.. إن هناك ألقاب الخيانة، واختلاف التهم، وتأليب الغوغاء، وحرب التجويع والحرمان، ثم ألوان التعذيب التي يعجز عن تصورها الشيطان والداعي مهما يبلغ من الإيمان لا يعدو أنه إنسان، يعتريه الخوف، كما اعترى نبي الله موسى أمام ثعابين السحرة، وكما اعترى عمارا تحت سياط الكفرة.. وهو يعلم أن كلمة الحق قد تسوقه إلى الشنق، أو تقوده إلى السجون التي لا مخرج منها، والتي دون أهوالها المنون.
فكيف يؤدي هذا الداعي رسالته.. وكيف ينقل خطواته في هذه الظلمات التي بعضها فوق بعض! مرة ثانية أقر بالحيرة.
ومع ذلك فلابد من العمل إعذاراً إلى الله، ولو أن كل شيء هناك يدعو إلى اليأس، فالغيب بيد الله، وهو القائل: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} وقد دلنا على طريق الفرج بقوله سبحانه {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً..} .(13/363)
ومن يدري فقد يجعل الله من هذا المؤتمر ذلك الفرج الذي نترقب، إذا أخلص كل من العاملين نيته لله.. وذلك بأن يكون في رأس مقرراته استنهاض همم الحكام المؤمنين بالإسلام لإقامة حوار مع أصدقائهم حكام المناطق المغلقة، يستهدف إقناعهم بالتساهل مع دعاة هذا الدين فلا يمنعوهم دخول بلادهم، والاتصال بإخوانهم من أهل العلم، والتعاون معهم لتبصير الناس بحقائق الإسلام، وابراز فضائله، وتثبيت مقوماته في نفوسهم. على اعتبار أن في هذا الضرب من التبليغ تشديدا للروابط الأخوية بين شعوبهم، وفي ذلك قوة لهم ولأمتهم لا تقوم بها كل فلسفات الدنيا. وسيكون من بوادر التوفيق في هذا الحوار الإفراج عن أولئك الدعاة الذين تتابعت الأعوام على اعتقالهم دونما ذنب سوى أم يقولوا ربنا الله!..
هذه واحدة. ثم أخرى وهي أن يرضى حكام المناطق المغلقة بالدخول في حوار آخر مع رجال الدعوة أنفسهم، فيعرض كل من الفريقين وجهة نظره وما عنده من حجة لنصرتها.. فإذا كان هدف الحكام حقا مصلحة شعوبهم حسب اجتهادهم، لم يكن مستحيلا اقتناعهم بأفضلية الإسلام نظاما وقانونا وسياسة..
لا منقذ إلا الإسلام:
إن عقدة النقص في أولئك الحكام عائدة إلى جهلهم المطبق بمعطيات هذا الدين، ولقد رأينا عددا من هؤلاء، الذين سجلوا الرقم القياسي في عدائهم له، لا يكادون يفارقون كرسي السلطة، ويجدون الفرصة السانحة للإطلاع على بعض روائعه، حتى ثابوا إلى رشدهم، وأيقنوا الإخلاص وألا عزة ولا قوة إلا في الأخذ به كلا لا يتجزأ..(13/364)
وفي اعتقادي أن أقصر الطرق إلى نصرة هذا الدين الحق في بلاد الإسلام هو الوصول إلى قلوب وعقول هؤلاء الحكام.. وكل نجاح يمكن تحقيقه معهم إنما هو ربح للإنسانية كلها، التي تتطلع في لهفة لاذعة إلى منفذ للخلاص من ضياعها الرهيب، ولا منفذ لها ولا منقذ إلا بالإسلام، الذي لا يخدمه شيء مثل قيام مجتمع نموذجي يطبق أحكامه صحيحة كاملة كما أنزلها الله، في أي بقعة من هذا العالم..
لقد قرأ هؤلاء الكثيرين عن مفتريات الملحدين في تشويه الدين، ولم يكن لديهم من العلم ما يفرقون به بين الإسلام وغيره، فلم يلبثوا أن سحبوا تلك المفتريات على الإسلام نفسه، ومن ثم أقاموا من أنفسهم مشرعين في أهم قضاياه، وهم الذين ـ ربما ـ لم يلموا بحرف من كتاب الله ولا سنة رسوله ولا اجتهاد الأئمة، ومثل هؤلاء لا يبعد أن يتقبلوا تصحيح خطئهم لو أتيح لهم من يدلهم عليه..
وأخيرا:
أن أهم ما ينبغي التوكيد عليه في هذا المؤتمر، وكل مؤتمر يعقد لبحث أمور الدعوة، في هذه الأيام يمكن تلخيصه في النقاط العشر التالية:
1ـ الإلمام الدقيق بواقع الفكر البشري وموقفه من التطلعات الروحية في مسيرته الراهنة.
2ـ دراسة واقع الدعوة الإسلامية ودعاتها في بلاد الإسلام، وبخاصة في الأقطار العربية.
3ـ إيمان الدعاة بدعوتهم أولا، ثم التزام طريقها في النفس والأهل وكل من يقع تحت مسؤليتهم.
4ـ التركيز على دعوة الحاكمين في أقطار الدعاة للاستحواذ على تأييدهم، أو مهادنتهم على الأقل.
5ـ تأمين حق الإسلام في شؤن الإعلام حتى يتاح لعلمائه أن يقدموا حقائقه.
6ـ السعي لدى المؤمنين من حكام المسلمين للإقلال من الابتعاث إلى مناطق الكفر ما أمكن. وإلغاء بعثة كل طالب يثبت إهماله التكاليف الإسلامية، تحت طائلة الحرمان من حق العمل في خدمة الدولة.(13/365)
7ـ العمل لإقناع هؤلاء المسؤولين بقصر مناصب الملحقين الثقافيين على رجال الدعوة من ذوي النشاط الإسلامي، المتضلعين بالثقافتين الإسلامية والعالمية.
8ـ تولية هذه النخبة من الملحقين الدعاة أمر الإشراف على البعثات الطلابية، وتخويلهم كل الصلاحيات المساعدة على إنجاح مهمتهم.
9ـ العمل الجاد لتأمين إذاعة خاصة ـ ولو في نطاق محدود ـ لتبليغ الإسلام في كل دولة إسلامية تشارك في اجتماعات المسلمين.
10ـ اعتبار مكتب الدعوة في الجامعة الإسلامية، مكلفا متابعة هذه المقررات، وإعداد تقرير دوري صريح عن مدى تطبيقها وأمكنة هذا التطبيق، على أن يذاع وينشر بكل وسائل الإعلام الممكنة.
والله قصدنا وإليه المصير..
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أخرجه الشيخان.(13/366)
بين يدي العلاج
للدكتور عبد السلام الهراس.
الأستاذ بجامعة محمد بن عبد الله (كلية الآداب) فاس ـ المغرب
إن في عالم اليوم تيارات امتاز بعضها بأحكام الفكرة وشموليتها وقد أكسبتها الممارسة والتطبيق بريقا وأي بريق. وهكذا لم تعد أفكارها تتردد في مجال النظر والعقل بما تمخضت عنها دول وكتل متميزة بمعالم وملامح انعكست على حياتها وأخلاقها وعلاقاتها فهي مدينة لهذه الإيدلوجية أو تلك ملتحمة بها التحاما شديدا لأنها منذ اعتنقاها لها واتخاذها منطلقا لنهضتها وأسلوبا لحياتها وإطارا لتطورها حدث تغيير عظيم في حياتها الحضارية وهكذا ارتبطت النهضة بالفكرة وتلازم ذكر التقدم الروسي بالماركسية، والتقدم الغربي باللبرالية والرأسمالية.(13/367)
وقد كان للصراع الفكري أثر في عدة مجالات حتى في ميدان الرياضة كما تجلى ذلك في "مونريال"حيث كان التباري والصراع على أشده بين الفريقين الممثلين للفكرتين للبرهنة على التفوق إحدى الإيديولوجيات على الأخرى. ومعنى ذلك أن الفكرة، كأي إنتاج يجب أن تتجاوز الدعوة إليها الاكتفاء بالبرهنة على صلاحيتها نظريا إلى تقديمها في صورة حضارية ملموسة يعيشها الإنسان ويسعد بها، لأن الفكرة الأكثر تأثيرا وإغراءا أو اطرادا وتنفيرا هي التي يعكسها واقعها الملموس، بقطع النظر بأن يكون هذا الواقع انعكاسا حقيقيا لها أو انعكاسا لاختلال أخلاقي وعقائدي للذين يدعون أنهم أصحابها دون أن تكون هي في الحقيقة مسؤولة عنه، ففرق كبير بين فكرة تقدم وتعرض خلال أمة متماسكة، ودولة أو دول عظيمة ومصانع ضخمة وإنجازات مذهلة في مجالات العلوم والاختراعات والتقدم الاجتماعي والحضاري، ومن خلال الحرص على كرامة الإنسان وأمنه وسلامته، وبين فكرة يدعى لها من خلال أمة أو أمم ممزقة ودول ضعيفة أو عجفاء متناحرة ومجتمعات متخلقة راكدة وإنجازات جبارة ولكن في ميدان التفقير ومصادرة الكرامة الإنسانية بل البشرية وخنق الفكر السليم وتناقضات بين القول والعمل وسيطرة جو من سوء الثقة بين الأفراد والجماعات والرعاة والرعية. فالمقياس المتداول أو المستعمل لاختيار صلاحية الفكرة أو عدم صلاحيتها هو مدى ما حققته لأصحابها من حضارة وما أنجزته في ظلها من نهضة أو تقدم أما المقاييس المثالية والتجريدية والمعتمدة على الاستدلال بالماضي والإشادة بعظمته والوعود بمستقبل غامض فأمور أثبتت أنها فاقدة لأهم عناصر التأثير والإلتفات.
فالرواج الإيديلوجي هو لمن يملك رصيدا ملموسا يؤيد دعوته وهذا بالضبط ما ساعد أعداء الإسلام على اقتحام عقول شبابه ومجتمعاته.(13/368)
إذن فأول ما تواجه الدعوة الإسلامية هذه الأجهزة الجبارة التي تهاجمنا من كل صوب مدججة بالقوة والحجة والتنظيم مستعينة بوسائل كثيرة فعالة، تؤازرها دول عظمى وأخرى دونها متعاونة ببيادقها والتي تجاور الرقعة الإسلامية لضرب المسلمين والدعوة الإسلامية التي تتزعم دائما العمل التحرري التقدمي.
ولأعداء الإسلام زيادة على أجهزتها الصريحة والعلنية منظمات وأندية ذات أهداف دينية أو اجتماعية أو إنسانية ولكنها في الحقيقة ذات هدف واحد وهو تهديم القيم الإسلامية وتعويق العمل الإسلامي، فهي إذن نشاط مواز للنشاط الإيديولوجي خادمة لأهدافه، إنه النشاط المستتر والعلني المتخفي وراء عناوين يبدو بعضها بريئا ولكن البعض الآخر مكشوف الأهداف شرس الأطماع مثل البهائية التي أصبح لها دور خطير في بعض البلاد الإسلامية وتتمتع بحماية ودعم يمكنها من التسرب والإشراف والتحرك في أمان وحرية مع وضوح اتصالها بالصهيونية والأجهزة الإمبريالية ومن هذه الأنشطة الأندية الثقافية والتجارية والاجتماعية التي تعمل في كثير من بلاد الإسلام بقيادة جماعة ممن يرتبطون بهذه الأمة اسما ونسبا ولكن بإشراف أجنبي مشبوه. ولهذه الأندية فروع ذات أهمية في بعض البلاد الإسلامية وتتمتع بتقدير خاص وبارز حتى أصبح الانتساب إليها شرفا وقربى، وقد وقع في شراكها بعض ذوي النبات الحسنة الذين لا يعرفون ماذا تدبر هذه الأندية باسمهم واسم أمثالهم من شر لأمتهم على المدى البعيد. وفي الحقيقة أنها خطت خطوات هامة وقطعت مراحل ملموسة مما يجعل منها مراكز قوى توجه وتتدخل من بعيد أو قريب في شؤون البلاد الإسلامية.(13/369)
وهناك دعوات وجماعات من إنتاج محلي مهمتها نشر البدع وتعديم السنن وتتمتع بنفوذ قوي أوساط العوام وربما على مستويات أخرى، وهذه الدعوات تنازع العمل الإسلامي وتناوئه وقد استغلها أعداء الإسلام في بعض الفترات ولكن الذي يقع اليوم زيادة على ذلك أن أجهزة الاستشراق تعمل فيها لمحاربة الإسلام على إحياء نوع خاص من الترات الصوفي لاستغلاله في محاربة الإسلام والتشويش عليه. وهكذا تصبح هذه الدعوات والطرق من أشد المعوقات للدعوة الإسلامية الناصعة.
وهناك حركات ومنظمات سياسية في بلاد المسلمين لا تعادي الإسلام ولكنها لا تتخذه إطارا وسلوكا ودعوة لها ومها من حاول أن)) يعصر ((الإسلام و)) يعصرنه! ((وجعله مبدأ جزئيا من مبادئ دعوته السياسية. وهنا الخطر إذا أصبح الإسلام صالحا لأن يكون تارة في اليمين وتارة في اليسار حسب الموضة السائدة فهو موضوع استغلال لا موضوع قيادة واتباع. وهناك من جعل الإسلام وسيلة للاحتلال على الضمائر والتمويه والتضليل لغايات مرحلية محددة. وهكذا تشكل هذه الاتجاهات معوقا للإسلام حتى عند أصحاب النيات الحسنة الذين يظنون أنهم يحسنون صنعا بهذا التلفيق والترقيع! وهناك تعويق مزمن وهو الذي يتجلى في النزاع بين بعض الدعوات الإسلامية وبين سلطات بعض البلاد الإسلامية ولسنا هنا في موقف الادانة أو اللوم وإنما نحب أن نقول إن هذا النزاع لم يستفد منه إلا أعداء الإسلام.(13/370)
ولكن ثمة معوق خطير يجب الاعتراف به والتنبيه إلى خطورته وهو ذلك التطاحن والصراع السلبي بين بعض الجماعات الإسلامية. مما جعلها مشغولة بانشقاقاتها منصرفة عن رسالتها الأصلية ومهمتها التي من أجلها أسست، ومن المؤسف أن تكون بعض الجماعات مصرة على سلوك هذا السبيل لهدم جماعة أخرى باذلة في سبيل ذلك كثيرا من الجهود والوقت والمال غير ملتفتة لما تبدده من طاقات وما تفوته من فرص وما تبثه من شقاق وما تقدمه لأعداء الإسلام من خدمات جليلة وما تضيعه على المسلمين من خير كثير، بل أكثر من هذا فقد وقعت اختلافات هدامة بين الجماعة الواحدة وكل طرف فيها كان متمسكا بحجج ومتذرعا بمبررات مستدلا بالقرآن والسنة والأصول الأخرى وهكذا استخدم الإسلام لهدم الإسلام!! إن هذا الاختلاف لا يقل خطورة ولا صورة عن ذلك الاختلاف الذي وقع بين أبي عبد الله بن الحسن وعمه أبي عبد الله الزغل لغرناطة بينما كانت هذه المدينة الإسلامية في حالة احتضار ومحاصرة حصارا شديدا من جيوش الملوك الكاثوليك فضاعت الأندلس وضاع الأمراء.. إن هذا الصراع ليس في الحقيقة إلا نوعا من الانتحار وجريمة من أمهات الكبائر التي لا تغتفر.
لقد مرت بالدعوة الإسلامية فترات من المحن القاسية ولكن أعني محنة عانتها هذه الدعوات هو الانشقاق الداخلي الذي شل نشاطها وأخمد جذوتها وسلب عنها كثيرا من الفاعلية والنجاعة وما زالت مضاعفات هذه المحن الداخلية تلاحق الدعوات وتعرقل سيرها.
إن ما بيناه من معوقات الدعوة الإسلامية والحيلولة دون انطلاقها، قبل كل شيء في الداخل أمور مسلمة وهناك معوقات أخرى رئيسية أو ثانوية يدركها كل من زاول الدعوة إلى الإسلام.(13/371)
فما العلاج؟ إنني أستبعد موقف التهرب والانزواء واليأس، فالداعي إلى الله دائما متفائل حتى لو كان في أحلك الظروف وأشد الأحوال ولذلك لابد من البحث الحثيث والدراسة المستفيضة لوضع خطط واقتراح سبل وأساليب للتغلب على هذه المعوقات والعقبات وتحويل بعضها إلى عوامل دعم وقوة ومساعدة.
ومما يزيد في تفاؤلنا هذه التباشير التي تنطوي على إرهاصات بأن المستقبل للإسلام، ومن هذه الإرهاصات الخارجية والداخلية.
(1) الإفلاس الحضاري الذي يتمثل في الجفاف الروحي والتعفن الخلقي والتمزق الأسري والاضطرابات الاقتصادية والفوضى الفكرية مما أوجد تيها وضياعا بالإضافة إلى إصرار الغرب والشرق معا على ظلم الشعوب واستغلالها والحيلولة دون انعتاقها من ربقة التبعة مما جرد هذه الحضارة بشقيها من أهلية القيادة، ورغم ما يبدو من محاولات جبارة للإنقاذ فإن الأمور لا تعدو أن تكون صحوة المحتضر.
(2) أما في الداخل فهناك إفلاس شامل ومذهل لما استوردوه من مذاهب وإيديولوجيات وما ابتدعوه من ترهات القومية وغيرها فقد تعرت حقائقها وانكشفت أهدافها أمام الشعوب الإسلامية بسرعة كبيرة بما جرته عليها من ويلات وما حققته من خيبات وما زرعته من سخط وتذمر وليس بينها وبين إقبارها النهائي سوى توفر بعض الظروف المواتية للإعلان عن الاستجابة السليمة لمطامح هذه الشعوب وإرادتها.(13/372)
(3) وقد صاحب هذا الإفلاس المذهبي الداخلي يقظة مفعمة بالوعي والتطلع والقصد الجميل في أوساط الشعوب الإسلامية ولاسيما على مستوى الشباب والأجيال الصاعدة التي عانت خلال عشرين سنة ما عانت من قهر وإذلال وكبت للحريات وحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية باسم الحرية الديمقراطية والكفاية والعدل إلى آخر القائمة التهريجية المشئومة التي لم تكن في الحقيقة إلا إرهاباً وتسلطاً وتثبيطاً للعزائم وتيئيساً من الحياة وتشتيتاً للجهود وتدميراً للمحاولات الطيبة لتقوية هذه الأمة وإرشادها لأحسن السبل وأقومها. كل ذلك كان خدمة للعدو الرابض في القدس وتمديداً لعمر العدوان والظلم وإغاثة للإمبريالية على إبقاء هيمنتها على مصائرنا وثرواتنا وعواطفنا وبالتالي على إبقاء الأمة الإسلامية منتكسة في المؤخرة بعيدة عن الاهتداء لشروط نهضتها وممارسة حياة حرة كريمة كما يأمرها بها دينها.
إن الإفلاس الخارجي والإفلاس الإيديولوجي الداخلي والوعي الإسلامي الغامر أمور مساعدة للدعوة الإسلامية ومهيئة لها لتنمو بسرعة وثبات وشمول، لذلك فعلى هذه الدعوة أن تتدارك ما فاتها وتسارع إلى تنظيم نفسها تنظيماً مدروساً حتى تتلاءم والأوضاع الجديدة في الداخل والخارج معاً.
وأعود للسؤال السابق: فما العلاج؟ أو بعبارة أخرى: كيف نستطيع تجاوز هذه العراقيل والتغلب على المعوقات التي في طريق الدعوة؟
إنه من الصعب جداً أن يزعم الإنسان أنه قادر وحده على الجواب بسهولة وكفاية وصواب وبخاصة خلال كلمة مستعجلة أو مقالة مرتجلة لكن يمكن القول أن علاج الذات وصيانتها وتحصينها هي الشرط الأساسي لمواجهة الأخطار الخارجية، ويقتضي ذلك ترميم الجبهات الداخلية ولم شملها وإحكام أنظمتها وإنعاش مرافقها ومؤسساتها.(13/373)
إن في العالم الإسلامي الآن مؤسسات وجماعات وأفراداً للدعوة الإسلامية سواء على المستوى الرسمي والمستوى الشعبي وهي في مجموعها ذات إمكانات وطاقات عظيمة تستطيع أن تقوم بأهم مما تقوم به الآن من أداور ومهمات وقد أثبتت كثير من هذه المؤسسات والجماعات قديمها وحديثها فاعليتها في الدعوة بما تركته وتتركه من آثار في المجالات التي تعمل فيها كما أن ثمة أفراداً وأعلاماً يعملون في حقل الدعوة وبث الفكرة الإسلامية بالكتاب والمحاضرة والمقالة والمناظرة وغير ذلك من الوسائل المتاحة، أثبتوا جدارة مما قدموا من نفع عميم في مجال الفكرة والكلمة الإسلامية. ولكي تكون أعمالها أكثر فاعلية وإحكاماً أرى أن يقام جهاز للتنسيق بين هذه المؤسسات والجماعات والمنظمات ذات الأحجام والمواقع المحترمة. وأقترح أن يبادر إلى الدعوة من أجل تنظيم ملتقيات للتوصل إلى أحسن ما يمكن التوصل إليه من صيغة ذات صبغة عملية تنفيذية للتنسيق والتعاون والتكامل. من السهل فيما أحسب أن يتم ذلك بين بعض المؤسسات وبخاصة تلك التي لها إمكانات مهمة، لذلك إذا كان الأمر ينتج بهذه البداية فلنفعل والبقية تأتي. المهم أن يضع المؤتمر الأسس الكفيلة بإرساء قاعدة سليمة لانطلاق هذا التنسيق والتكامل إذ بذلك نكون قد خطونا بالدعوة الإسلامية خطوة محترمة.
أما الجماعات الإسلامية فإنها كما، نقرأ، تقوم بمجهودات ملحوظة من أجل اتحاد أو تنسيق لكن رغم ذلك فإن لخلاصنا لهذه الرسالة المقدسة تقتضينا أن نقول بصراحة أن الهدف لا يزال بعيدا إلا أن العزم الأكيد والمبادرة الجادة تؤتي أكلها دائما، لذلك فإن أول واجبنا الدعوة إلى توحيد الصفوف على الصعيد المحلي بين الجماعات الإسلامية والجمعيات ذات الأهداف المشتركة وتدعيم كل جماعة إسلامية أثبت التاريخ أنها أخلصت لهذه الدعوة وضحت في سبيلها وسارت بها أشواطا كبيرة.(13/374)
وهناك جماعات ناشئة في بعض البلاد الإسلامية لا تزال في مرحلة التكوين والتخلق مجاهدة وحدها، في الميدان تواجه تحديات كثيرة ومتنوعة وليس لها على الحق أعوان كما أنها لا تملك سوى وسائل بسطة وأفراد قلائل لأنها تعتمد على نفسها وامكاناتها الضئيلة، فهي في مسيس الحاجة إلى تشجيع مادي ومعنوي وإلى مؤازرة تشد من أزرها وتنقذها من المصير الذي آلت إليه أمثالها من الجمعيات ذات الأهداف الإسلامية النبيلة التي أجهضت حركتها وهي بعد في طور التكوين والنشوء.
وبعض هذه الجمعيات الإسلامية الصغيرة تقوم بأعمال إذا قيست بما لديها من وسائل وامكانيات لعدت أعمالا كبيرة ولنا أمثلة كثيرة من هذا النوع في البلاد الإسلامية وفي أوربا.
وتوجد عبر العالم الإسلامي كفاءات مهمة في مجال الدعوة الإسلامية ولكنها فردية ومشتتة لا تربط بينها رابطة ولا يقيدها التزام جماعة أو جمعية. من هذه الكفاءات من تعمل في الداخل والخارج استجابة لدعوة موجهة إليها من هنا أو من هناك، فإن لم تجد من يحركها ويستفيد من طاقاتها تجمد وتنزوي بما استغلها المستغلون ومنها من هو ساكن قلما ما يتحرك سيما في بعض الظروف الخاصة!! وهناك من تقيده عن العمل ضرورات الحياة المادية فلو وجدت سبيلا إلى التفرغ للدعوة لسارعت للعمل بحماس وإخلاص ولأعطت إنتاجا وأي إنتاج. لذلك يجب أولا القيام بمحاولة لحصر تلك الكفاءات وإحصائها ودراسة أحوالها دراسة دقيقة للعمل على استثمار طاقاتها وإخراجها من العزلة الانفرادية إلى العمل الجماعي أو على الأقل العمل المخطط المضبوط المتناسق مع العمل الجماعي القائم على دراسة وشورى. لأننا نواجه عدوا بل أعداء يعملون عملا جماعيا منظما كأعظم ما يكون العمل الجماعي المنظم.(13/375)
وأحب هنا أن أعطي مثالا واحدا عن مدى الربح الذي تجنيه الدعوة الإسلامية إن هي استطاعت أن تستفيد من عمل هؤلاء الدعاة الأفراد. لقد كان مالك بن نبي رحمه الله كاتبا كبيرا في بلده وفي فرنسا ولكنه لم يجد آذانا صاغية ولا مناخا متجاوبا إلا في دائرة ضيقة وصغيرة وذلك لأسباب ليس هناك مجال لدراستها، وهكذا ظلت أفكاره مجمدة طيلة ثلاثين سنة وعندما جاء لاجئا للقاهرة سنة 1956لم يلتفت إليه أحد وذات يوم وجد بعض الطلاب مقالة منشورة في مجلة روز اليوسف بقلم رئيس تحريرها تحت عنوان)) الاستعمار في نفوسنا ((يتحدث فيها صاحبها عن زيارة لكاتب جزائري له، لا يتقن العربية ويتكلم الفرنسية بطلاقة ولكنه يفكر بعمق ويتناول مشاكل أمته الإسلامية بعقلية جديدة وأسلوب علمي صارم. وأعطى الكاتب الصحفي صورة سليمة عن فكرته التي تتلخص في أن الاستعمار عرض لمرض داخلي وهو القابلية للاستعمار فللقضاء على العرض لابد من علاج المرض والقضاء عليه وهو القابلية للاستعمار وباختفائها يتخفى الاستعمار منطلقا في فلسفته تلك من قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} . لقد قرأ هذا المقال كثير من القراء ولكن طالبا واحدا أو طالبين هما اللذان تنبها إلى قيمة الرجل ورأيا أن الشباب الإسلامي في أشد الحاجة إليه، وبذلا جهدهما للاتصال به، وأخيرا إتصل به أحدهما وتلك كانت البداية، وهناك اتصل ببعض الطلاب المسلمين المغاربة واللبنانيين واللبيين والسعوديين والجزائريين وغيرهم من طلاب العالم الإسلامي ونتيجة لهذا الاتصال والإعجاب بالرجل قام بعض الطلاب المغاربة واللبنانيين والمصريين بطبع أول كتاب له بمصر بعد أن ترجموه للعربية وهو)) شروط النهضة ((ومن ثم انطلق نشاط مالك بن نبي رحمه الله فكان هذا العطاء المثمر وهذا الإنتاج العضيم الذي نفع الله به المسلمين في هذا الظرف من حياة دعوتهم. وقد كان مالك بن نبي يعيش(13/376)
منذ أن حلّ بالقاهرة في جو الطلبة ويتعامل معهم ويحاورهم ويفيدهم ويستفيد منهم وإن بعض طلابه هم الآن القائمون على جمع آثاره وترجمتها وطبعها ونشرها كما أوصى هو نفسه بذلك.
هذا مثال لمدى ما يمكن أن تفيده الدعوة من الكفاءات الفردية لو أحسنا الاتصال بها وتوجهها وإتاحة الفرصة لها للعمل.
تلك نقطة أولية في سبيل العلاج.
والنقطة الأخيرة:
هو أن الدعوة الإسلامية يجب أن ترتكز قبل كل شيء على الوسائل العلمية في عملها. فالتحديات الخارجية والداخلية لهذا الدين كثيرة ومتنوعة تستعين علينا بالعلوم والخبرات والأدمغة المفكرة، ولها جامعات وأقسام ومؤسسات متخصصة في دراسة العالم الإسلامي دراسة دقيقة في ماضيه وحاضره وإن مراصدها الثقافية والعلمية تمتاز بالدقة والمرونة وطول النفس، وهو يستخدمون حتى طلابنا وبحاثنا الذين يدرسون عندهم في جامعاتهم لغاياتهم المحددة دون أن نشعر نحن بتلك الغايات ولقد تحولت كثير من الدراسات الجامعية بالغرب والشرق لخدمة الدولة في مختلف علاقاتها مع البلاد الإسلامية زيادة على أجهزة أخرى متخصصة.
ونحن نستطيع أن تكون لنا أجهزة ومراصد ومؤسسات تعنى بدراسة هذه التحديات المقتحمة علينا ديارنا من الخارج والأخرى النابتة في أرضنا وهي أخطر علينا من تلك، ولذلك يجب تكوين جهاز علمي يضم اختصاصين مقيمين ومراسلين وجوالين مهمته دراسة هذه التحديات ووضع ملفات دقيقة عنها وجمع الوثائق المتصلة بها ونشر ما يمكن نشره منها ويجب أن يكون هذا العمل في اطار علمي موضوعي بعيد عن الانفعالات والعواطف، فالمعركة طويلة ومريرة {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} .
وبجانب هذا الجهاز ينبغي أن تكون ثمة مؤسسة (معهد أو مركز) أخرى موازية لها مهمتها دراسة تجارب الدعوات الإسلامية في القديم والحديث ونهتم بوجه خاص بالتجارب الحديثة.(13/377)
والدراسة كما في علمكم تعتمد على خطة منهجية موضوعية، يبدأ بتجميع مواد الدراسة من مصادرها ومظانها ثم تصنيف هذه المواد وترتيبها والتنسيق بين أجزائها لوضعها في إطارها الكلي المترابط ثم القيام بدراستها وتحليلها واستخلاص خصائصها ومميزاتها إلى غير ذلك مما يضفي على الدراسة سمة)) العلمية ((بالإضافة إلى ذلك يقوم هذا الجهاز بطبع فهارس للكتب والمقالات والنشرات التي تتصل بالدعوة الإسلامية وتقوم برصد كل ما ينشر أو يطبع في هذا المجال لتزويد مراكز ومؤسسات الدعوة بكل جديد. ويمكن نشر ما تراه مفيداً من تلك الكتب أو النشرات وترجمته إلى لغات العالم الإسلامي وينبغي أن يكون لهذا الجهاز مجلة دورية تنشر منها الجديد في الدعوة الإسلامية.
والحق أن ثمة محاولات طيبة في مجال الإعلام الإسلامي وفي مجالات ثقافية وصحفية ولكنها محدودة وضعيفة الإمكانيات والوسائل ومتعثرة.
وهناك قضايا أخرى على مستوى الدعوة الإسلامية في الداخل والخارج لا أحب إثارتها هنا ذلك أن الأجهزة التي يجب أن تنبثق عن هذا المؤتمر المبارك هي التي تستطيع أن تقوم بدراسة قضايا الدعوة دراسة مستفيضة معتمدة على الوثائق والمشاهدة والاتصال والاستقصاء والتتبع لذلك يسهل وصف العلاج للتغلب على تلك المعوقات ومثيلاتها من أجل انطلاقة سليمة وشاملة وثابتة، إذ متى كانت السبيل واضحة كان السير على بصيرة وهدى {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} .(13/378)
رسالة الإعلام في بلاد الإسلام وعلاقتها بالدعوة الإسلامية
لفضيلة الشيخ عبد الله بن إبراهيم الأنصاري
مدير الشؤون الدينية بدولة قطر
{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي} {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} .
أيها الإخوة:
أحييكم بتحية الإسلام، مباركة طيبة من عند الله فسلام ورحمة من الله وبركات. لقد كانت عملية اختيار الموضوع من أشق الأمور على نفسي، فإن الموضوعات كلها إنما هي مشاكل الساعة ـ كما يقولون ـ بالنسبة للمجتمعات الإسلامية ومن الصعب على من ينفعل لدينه ويخدم أمته وعقيدته أن يتخير في هذه الأمور، فجميع الموضوعات هامة وكلها ينبغي أن تكون موضوعات بحث للإخوة المشاركين في هذا المؤتمر.
أمام هذه الحيرة استخرت الله في هذا الموضوع (عن الإعلام) رغم أنني لست من فرسان هذا الميدان، إلا أنني قد وجدت صدري منشرحاً له ونفسي مقبلة وراضية عنه فتوكلت على الله واعتمدت على توفيقه..
الإعلام هو نشر الكلمة أو الخير أو الرأي أو الفكر أو الصورة على عامة الناس بإحدى الوسائل الآتية:-
أـ الكتابة سواء كانت في كتاب أو في صحيفة يومية أو مجلة أسبوعية أو نشرة عامة.
ب ـ الإذاعة المرئية (التلفزة) .
جـ ـ الإذاعة المسموعة (الراديو) .
ومن هنا تبدو أهمية الإعلام في السيطرة على جمهور الناس وتوجيه مشاعرهم الوجهة التي يراها الموجه إن كانت خيراً فخير، وإن كانت غير ذلك فهي لما وجهت إليه.(13/379)
وقد كان الشعراء والخطباء في الزمن السالف هم جهاز الإعلام القوي على ألسنتهم تدور رحى المعارك قبل أن تدور السيوف على الرقاب وبهم يرتفع شأن القبيلة ويعلو ذكرها إلى السماكين وبهم أيضاً تنحط أسهم قبائل، هاتها في السماء.
وقصة بني أنف الناقة معروفة، عندما احتقرتهم قبائل العرب وسبب تسميتهم بهذا الاسم، فإن أباهم كان لديه عدد من النسوة، لكل منهن أولاد منه، فعقر مرة ناقة وقسمها على كل أولاده ولم يبق سوى واحد حضر متأخراً ولم يكن لدى الأب سوى الرأس فأعطاها له فربطها الولد بحبل من أنفها، وجرها إلى بيت أمه، فسماه من رآه من الناس أنف الناقة فصارت هذه التسمية كنية له ثم لأولاده من بعده، إذ دعوا ببني أنف الناقة. وكثيراً ما تجر الأسماء على أصحابها العار بين قبائل العرب كما تعلمون، إلى أن جاءت وسيلة من وسائل الإعلام هي لسان شاعرنا، به قال بيتين في بني أنف الناقة فمحا عنهم العار والشنار وعلا ذكرهم بين الناس إذ قال:
سيري أمامي فإن الأكثرين حصى
والأكرمون إذا ما أنسبوه أبا
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم
ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا؟
وكان أهم ما يدور على ألسنة الشعراء والخطباء التغني بأمجاد القبائل وذكر مآثرها في الحروب، وفي صفات الشرف الرفيع، كالكرم والنجدة والشهامة والمروءة والإيثار.
وحينما تذم قبيلة فبما هو ضد لهذه الصفات النبيلة الخيرة، من جبن وخداع وخسة إلى غير ذلك من الصفات الرذيلة.
واستمر الأمر كذلك حتى شيوع الكتابة فأضيفت إلى ألسنة الشعراء والخطباء أقلام الكتاب وبدأ الناس يستعينون بالكتابة في نقل أفكارهم إلى جمهور الناس للتأثير فيهم وتوجيههم الوجهة التي يرونها..
ثم تأتي بعد ذلك الصحافة لتلعب دورها الفعال وتعمل عملها في عقول الناس خصوصاً وقد أخذت السياسة نصيبها في معركة الإعلام. والصحافة هي لسان حال السياسة ـ كما يقولون ـ تروج لمبادئها وتدعو لها.(13/380)
وتمر الأيام وتأتي في بداية هذا القرن الأعاجيب باختراع التصوير أولاً، ثم الراديو ثانياً ثم في منتصف هذا القرن تقريباً يتم اختراع التلفزيون (التلفرة) كما يسمونه، فتتم بذلك فصول قصة الإعلام حتى عصرنا هذا، والله أعلم بما سيأتي بعد ذلك من أعاجيب.
والإعلام في جميع بلاد الدنيا ـ ما عدى غالبية البلاد الإسلامية ـ يسير وفق خط مرسوم ومنهج واضح بين، يخدم عقيدة من يسيره.
فنجده في روسيا مثلاً يحبو على المبادئ الشيوعية ويدعو لها ويذب عنها ويبين محاسنها، ويذكر عورات أعدائها ويجعلها ـ من وجهة نظر الشيوعية ـ أسمى ما تصبوا إليه قلوب الكادحين.
وفي الغرب أيضاً نجد الديمقراطية أو الرأسمالية ـ في معركة الإعلام ـ هي الظل الوارف الذي ينبغي أن يتفيأ تحته كل من يصبو إلى الحياة السعيدة في دنياه.
أجل نجد الإعلام في جميع بلاد الأرض ـ عدا معظم البلاد الإسلامية ـ يخدم.. المجتمع بحماية فكره وتراثه وعقيدته فيكون موجها الناس إلى حياة أفضل، أما في معظم بلاد الإسلام فنجد النقيض على طول الخط.
نجد الإعلام تائهاً أو مضللاً يضرب الأمة في الأعماق، ويخرب أغلى مقوماتها ويعمل على تفككها ويسير بها إلى الهاوية. وإليكم الأمثلة على ذلك وهي للتدليل وليست للحصر:
أولاً في ميدان الفكر:
نجد رواجا للكتب الشيوعية والإلحادية منقطع النظير، فهذا الكتاب يطبع بسهولة ويسر، ولا يقف الرقيب أمامه أبدا بدعوى حرية الفكر، فيتم طبعه في أحسن المطابع على أفخم الورق ويقدم إلى القارئ في ثوب أنيق من دقة الإخراج، وبسعر زهيد جدا لا يمكن أن يكون ثمنا للورق فقط..
ثانيا:
في مثل ما نجده في الكتاب نراه أيضا في الصحافة، وهي من الخطورة بمكان، ففي الصحف والمجلات نجد الصور العارية والآراء المتعارضة مع قيمنا وديننا وتقاليدنا وأعرافنا وكل ما يمد إلى مقوماتنا بصلة.(13/381)
نجد كل ذلك في صحافة اليوم ببلادنا ويقرأه ويراه شبابنا وبناتنا، فماذا تكون النتيجة؟
نرى انفصاما تاما بين جيل اليوم وجيل الأمس نرى انحرافا خطرا في شبابنا..
فماذا بالله عليكم العمل؟ وهو يقرأ ويرى عما هو شاذ؟ ـ والممنوع مرغوب (وأحب شيء إلى الإنسان ما منعا) كما يقولون.
هناك مسابقات لملكات الجمال، وأخرى للأزياء.. وثالثة للسباحة إلى غير ذلك من شذوذ عقلي والعياذ بالله.. كل ذلك يقرأه شبابنا، ويراه في الصورة اليوم، وغدا في العيان، فماذا تريدون منه بعد ذلك، ليس هناك سوى الانحراف والعياذ بالله، وهنا تكون الطامة الكبرى.
ثالثا:
ويأتي بعد ذلك دور الإذاعة والتليفزيون وفيهما ما فيهما فأهم ما تتميز به الإذاعة أو التليفزيون إنما هو نشر الأغنية العربية. وماذا في أغنية اليوم من معان نبيلة كريمة؟ لقد خلت من كل ما هو نبيل وكريم ولا نسمع إلا نعيقا ونهيقا في الحب وللحب وكأنما اختيرت أمتنا فقط لهذا الذي يسمونه الحب، فهذا يدعو محبوبته، وتلك تنادي حبيبها وكأن أمتنا خلقت لهذه التفاهة فأصبحت لا ترى للحياة طعما إلا بالتغني بهذا الهراء السخيف الذي أودى بها إلى الحضيض وجعل منها إذاعات للمراهقين.
رابعا:
ويأتي التليفزيون هو الآخر ليلعب دوره في هذا المضمار بالصورة المتحركة المرئية وهو من أهم وأخطر أجهزة الإعلام، إنه سلاح ذو حدين مفيد جدا وضار جدا، مفيد بأنك تشعر أنك ترى جميع الدنيا أمام عينيك فينقل إليك الخبر طازجا تشاهده كأنك تعيش فيه وتلمسه، ترى على شاشته الصغيرة أشياء كثيرة مفيدة كالفروسية والسباق والعلوم والمعارف وغير ذلك هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ترى النقيض أيضا، تشاهد أفلام الحب والغرام، ونرى المسلسلات الأجنبية الخبيثة التي تغذي في أبنائنا غرائز الشر وتنمي فيهم روح التمرد على القيم والأخلاق.. فينفلتوا إلى الهاوية والعياذ بالله.
أيها الإخوة:(13/382)
بعد هذا العرض السريع ـ الذي لابد منه ـ عن وضع المجتمع الإسلامي والتوجيه الإعلامي الخاطئ الذي يسيطر عليه، ما هو العلاج؟
وماذا نفعل إن أردنا التوجيه السليم لمجتمعنا.
هنا مقدمة لابد منها وسؤال يرد في الحال.
ـ من نحن؟
والجواب هو أننا أمة الإسلام..
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}
ما هي خطة هذه الأمة.. وما هو هدفها الأمر بين في الآيتين.. والمنهج واضح سليم.. الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إقامة حدود الله، السعي في هذه الدنيا إلى إقامة مجتمع فاضل من جميع الوجوه، كما أمر الله ورسوله، يحل فيه الحلال، وتحرم فيه الخبائث، وتدور فيه عجلة الحياة دورانا هينا سليما. لتحقق عبادة الله في الأرض، فله وحده تعنو الجباه وتذل الرقاب. وله وحده الحياة، وإليه الممات وعنده المنتهى..
أمام هذا الوضع لابد من رسم طريق واضح يمشي فيه على هدى ونور.
هذا الطريق رسمه لنا القرآن الكريم، وهدى محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أستطيع أن أدخل في هذا الموضوع فالخروج منه صعب بعد ذلك، وسيكون استطراد لا محل له هنا وإنما سأتعرض للأمر من ناحية الإعلام فقط. ولندخل في الموضوع بنظام الآن..
نحو خطة إعلامية سليمة:
هل لدينا في بلاد الإسلام متخصصون إعلاميون مسلمون مؤمنون برسالتهم؟
أظن أن الإجابة على هذا السؤال واضحة بينة. فإن أهم ما يجب أن يتميز به رجل الإعلام في العالم الإسلامي عامة والعربي خاصة هو واحد من ثلاثة: ـ
أـ بالنسبة للكتابة: سواء في ميدان التأليف، أو في الصحافة فالكفاءة التي تظهره فقط هي: عذوبة اللفظ وسهولة العبارة.
ب ـ بالنسبة للإذاعة: فإن ما يبرزه هو حسن الصوت والإلقاء فقط.(13/383)
ج ـ بالنسبة للتلفزة: فإن ما يظهره أمران لا ثالث لهما هما: حسن الصوت والصورة معا. ودعنا بعد ذلك من أهم العناصر التي ينبغي أن تكون الرجل الحق في هذا الميدان مثل: الثقافة وسعة الإطلاع، وحسن السمعة والسيرة والإيمان الحق ـ علما وعملا ـ قولا وفعلا ـ بدينه والتفاني في عقيدته..
كل ذلك لا يهم.. طالما كان شكله وصوته رائق.. ودعنا بعد ذلك من الأمور الباقيات …
إن الإعلام كله وبجميع مظاهره يجب أن يكون في خدمة العقيدة الإسلامية، قولا وفعلا، وحتى نصل إلى هذه الدرجة من السمو النفسي والشجاعة أدعو إلى وجوب رقابة على جميع أجهزة الإعلام.
رقابة جادة وحازمة، لا تأخذها في الله لومة لائم، ولا خشية ظالم، رقابة فعالة ذكية تعرف طعم الحلو من المر، والحلال ن الحرام..
رقابة على الصحافة:
حتى لا تدعو إلى الإلحاد علنا ولا سرا ولا تنشر الصور الفاجرة على أبنائنا وبناتنا فتغويهم، وحتى لا تحبذ الحرية الفوضوية ولا تدعو إلى السفور والاختلاط، وحتى لا تدعو بصفة عامة إلى الرذيلة بجميع وجوهها وصورها المرئية أو المسموعة.
إنني أدعو إلى رقابة دينية على كل ما يقدم للعقل في المجتمع الإسلامي.
رقابة على الكتب:
ولا أريد بذلك ـ أيها الإخوة ـ فرض حصار على الفكر أو على العقل، كلا ما أريده أن أمنع تسمم الأفكار في المجتمع الإسلامي..
الكتب غذاء العقل، ولا أريد أن يكون هذا الغذاء إلا صالحا مزودا بكل أنواع مقومات الغذاء الصحيح.
أما أن يكون هذا الغذاء هو السم في الدسم فهذا ما لا يرضاه أي مصلح لمجتمعه الذي يسعى إلى نموه ومجده وتقدمه..
بالله عليكم دلوني على فائدة واحدة لما حوته مكتبات العالم الإسلامي وبيوته ومحلاته وشوارعه من كتب عن الجنس.
هل الجنس … هل الجنس غذاء للبدن؟ هل الجنس … غذاء للعقل؟ هل الجنس … غذاء للروح؟(13/384)
أظن أن الإجابة واضحة عن هذه الأسئلة، وهي أن الجنس بحالته التي يقدم بها إلى أولادنا وبناتنا إنما هو سم زعاف لا يبني أخلاقا، ولا عقولا ولا فكرا ولا أرواحا إنما يهدم كل شيء يأتي في طريقه ويحطمه..
لهذا أرى أن تكون هناك رقابة صارمة على كل ما يقدم للمجتمع في الكتب من مبادئ ومذاهب ونحل وملل.. وأن لا يقدم لهم إلا كل ما هو صالح ومفيد.
وأظنكم أيها الإخوة لستم بحاجة إلى تدليل عما قلت، فكلها قضايا طرحتها صحافتنا العربية خاصة وخاضت فيها وقتلتها بحثا وسارت في درب المعصية ولا تزال تسير لا أقول جميعها وإنما أقول معظمها أي إلا من رحم ربك.
رقابة على الإذاعات المرئية والمسموعة:
كما أدعو إلى رقابة على الإذاعة والتليفزيون.. رقابة حقة وصارمة فهناك من الأفلام والمسلسلات ما يدعو علنا إلى الرذيلة ويحض عليها ويبررها، وهذه الأجهزة لا يسمعها أو يراها إلا العاقلون فقط، كلا وإنما يسمعها ويراها العامة والخاصة الصغير والكبير الذكر والأنثى.. وماذا فيها؟؟!.
هذه أغنية خليعة تدعو إلى الحب!!! والأغنية العربية اليوم ـ أيها الإخوة ـ أصبحت مدعاة للتساؤل، لقد انفصمت عن أخلاقنا وأعرافنا وتقاليدنا وأضحت في طور من الشذوذ يستدعي للعلاج..
فهذا رجل (أو شبه رجل) يتلفظ بألفاظ سخيفة وينادي حبيبته ببكاء وعويل. وذاك آخر يستجدي صاحبته ويسترضيها لتمن عليه باللقاء..
وغير ذاك من التفاهة المضحكة المبكية..
وشبابنا وبناتنا يرددون هذه التفاهات ترديدا أعمى، فماذا تكون النتيجة بعد.. ذلك؟.
وماذا ننتظر لهذا الجيل وعلى يديه؟؟!!.
إن النتيجة معروفة وظاهرة جداً، وهي خطيرة إن لم نتدارك الأمر من الآن.. إنها انعكاس ذلك على السلوك وظهور جيل مخنث تافه لا هدف له، ولا عقيدة تعصمه ولا إيمان يحميه.
وماذا تفعل المدرسة بعد ذلك؟
أو ماذا يفعل التوجيه التربوي؟(13/385)
إن ما يبنيه المعلم في سنين بعد جهد جهيد وعرق تستطيع أغنية تافهة في الإذاعة أو التليفزيون أن تهدمه في لحظات، والغناء مزمار الشيطان والشيطان لا يدعو إلا إلى الباطل والفساد.
ولله در القائل:
متى يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
لابد أيها الإخوة من وضع حد لهذا العبث وهذا التخريب.. في من؟ في فلذات أكبادنا، رجال الغد، وعتاد الأمة فما هي الخطة إذن..؟
نحو خطة إعلامية هادفة
وتصوري للوضع الإعلامي الصحيح هو أن يكون جهاز الإعلام في كل دولة إسلامية مكونا من شطرين رئيسيين
أـ الموظفون.
ب ـ وجود هدف إعلامي محدد. ألا وهو بناء صرح أخلاقي متين للأمة. ولنبدأ في تصورنا للعنصر الأول.
أـ الموظفون:
والموظف في قطاع الإعلام عصب هام جدا لعملية التوجيه في الدولة، لذلك ينبغي أن يعد إعدادا خاصا لهذه المهمة، وأن يكون كفؤا للقيام بأعبائها.
إن عملية الإعداد ينبغي أن تبدأ منذ البداية في الحياة التعليمية وأن يعد النابغون بعد ذلك إعدادا عاليا في مستواه لكي يصلح لتولي هذه المهمة الخطيرة في أي من أجهزة الإعلام المختلفة.
وإن أول صفة ينبغي أن يتحلى بها موظف الإعلام هي الالتزام الخلقي في كل ما يعطيه للمجتمع من غذاء عقلي أو توجيه، وقضية الالتزام الخلقي هذه أو الديني بمعنى أصح لهي الشيء الوحيد الذي ينقص رجال الأمة الإسلامية اليوم في هذا الميدان والشواهد كثيرة جدا على ما أقول:
صحيفة تنشر إعلانا واضحا جدا في أبرز مكان في صفحاتها عن نوع من السجائر وتجعل من مدخنيه أنهم في قمة الرجولة وغاية الاستمتاع.
فهل هذا منطق؟
وهل هذا صحيح؟(13/386)
إننا لو بحثنا هذا الأمر من الناحية الصحية على الفرد في استفتاء عام لوجدنا إجابة لا يختلف عليها اثنان أبدا هي أن (التدخين ضار وخبيث) ، ولربما صاحب الجريدة أو كاتب الإعلان ومدبجه لا يدخن، ولربما يعرفون أن مثل هذه الإعلانات أصبحت محرمة في صحف الغرب وفي أمريكا بالذات، بل تكتب على علب السجائر عبارة بشعة تجعل العاقل يفر منها كما يفر من الوحش الكاسر.. هذه العبارة هي: ـ
هذا الذي تدخنه يسبب السرطان
من هنا يتضح لنا قضية الالتزام الخلقي أو الديني بمفهومنا نحن ومفهومهم هم.
تغلبت المادة علينا وأصبحنا ندعو إلى السجائر في صحفنا ومجلاتنا بل وإذاعاتنا أيضا، لماذا؟ لنحصل على فائدة مادية، ونسينا أمرا أهم من ذلك نسينا الحفاظ على صحة أبناء وطننا، فقدم لهم الخبثاء السم في الدسم، وأغووهم تماما كما يغوي الشيطان جنوده بالإثم والمعصية، لقد قدمت السجائر وإعلاناتها كمثال وهناك ما هو أدهى من ذلك وأمر كالخمر مثلا لا تجد في بلاد الإسلام دعاية مضادة لها كما يوجد في بلاد الغرب فهم يهاجمونها من جميع الجوانب الأخلاقية والصحية والمادية والاجتماعية وغير ذلك بينما نحن نعلن عنها في بعض صحافتنا وأفلامنا وأجهزة إعلامنا الأخرى وشتان بيننا وبينهم.
ديننا يأمرنا باجتنابها والبعد عن مجالسها فيقبل عليها المنحلون من أبناء أمتنا. أما هم ـ أعني أبناء الغرب ـ فلا شيء ينهاهم عنها إلا ما رأوه فيها من مضار اكتشفوها بالعقل والتجربة، فأعلنوا عليها حربا لا هوادة فيها وهكذا يبدو التناقض فينا واضحا.
أيها الإخوة:
إن قضية الالتزام الديني كما أسميه أو الالتزام الأخلاقي كما يدعوه البعض، إنما هي قضية هامة وفي غاية من الخطورة، وينبغي أن تكون هي الجوهر الذي علينا اكتشافه أولا وقبل كل شيء في رجل الإعلام منا.
فلابد وأن تتوفر فيه صفات شتى: ـ
منها التفقه في دينه ومعرفة أحكامه(13/387)
ومنها الإخلاص لعقيدته
ومنها الإلمام الكامل بثقافة الإسلام من لغة وتاريخ وغير ذلك.
ومنها الإطلاع على ثقافة الغرب للاستفادة من الصالح منها.
ومنها الإيمان المطلق بأننا نحن المسلمون أصحاب رسالة سامية وحملة أمانة السماء إلى الأرض.
وأننا نحن المسلمون ملزمون أيضا دينيا بتبليغها إلى الناس كافة على مختلف ألوانهم وأجناسهم وألسنتهم فإن فعلنا ذلك فقد كنا أوفياء لعقيدتنا وديننا وإلا فنحن مفرطون مضيعون لأمانتنا.
إن رجل الإعلام ينبغي أن يمر تحت منظار دقيق جدا لتعرف سجاياه وأهواؤه وطويته فإنه أخطر على الأمة من أي عدو آخر، أخطر عليها من الجهل والمرض والفقر، لأنه يستطيع وبسهولة جدا أن يوجهها إلى الهاوية التي تؤدي بماضيها وحاضرها ومستقبلها والعياذ بالله.
لهذا فإنني أكرر مؤكدا ضرورة التدقيق جدا في اختيار رجال الإعلام على أن يكونوا متصفين بكل ما يحض عليه ديننا الحنيف من حسن الخلق والتزام كامل، وفضيلة مستقاة من تعاليم السماء.
أما الهدف الذي نرمي إليه من هذه الخطة الإعلامية فهو لب موضوعنا هذا وهو الأساس الذي بنينا عليه هذا البحث.
إن الهدف في غاية من الوضوح ويتلخص في النقاط التالية: ـ
أولا:
نريد من الإعلام الإسلامي أن يشعر بعظم المسؤولية الملقاة على عاتق العاملين به فهم الذين يوجهون الأمة وينيرون لها السبيل بل إن أحدهم وهي الصحافة تسمى بلغة العصر، السلطة الرابعة من سلطات الأمة..
على ذلك فإن المسؤولية عظيمة ولابد أن يتولاها قوم عظام أيضا من ذوي الجباه العالية على مستوى من المسؤولية والخلق وحسن الإدراك والتوجيه والثقافة والإخلاص لعقيدتهم.(13/388)
ومن هذا المنطق لابد وأن تكون الأمة على بينة من أمرها، وينبغي للإعلام حينئذ أن يتحلى بالصدق والأمانة. الصدق في القول والأمانة في التوجيه بحيث لا يؤخد عليه التهويل أو التصغير في الأمور، حتى لا تضطر الأمة لاستقاء أنبائها وأخبارها من مصادر العدو الذي يظللها ويقودها إلى الشك والتفكك كما هو حادث اليوم لشديد الأسف.
ثانيا:
ينبغي أن يكون الإعلام مرآة لماضينا كما يكون وجها لحاضرنا. ولكن نرى أن الأمر غير ذلك في واقعنا المؤلم اليوم، ونظرة عابرة إلى حافتنا العربية، إلا ما نذر منها، توضح لنا هذا القول. ومثال آخر للإعلام في إذاعتنا المرئية (التليفزيون) .
لقد سلط التليفزيون في العالم الإسلامي على واقع الغرب والشرق معا بما فيهما من مرارة مؤلمة، وواقع لا أخلاقي فنقلته لنا كما هو، بل وزينته لشبابنا ليقتدي به..
نرى ذلك في القصص والأفلام والمسلسلات.
نرى ذلك حتى في التاريخ القومي للغرب.
فقد نقل لنا التليفزيون ـ جزاه الله بما يستحق ـ كل شيء نقل لنا الخبيث قبل الطيب والطالح قبل الصالح والمر قبل الحلو، وأصبح ناقلا مقلدا في غاية من التفاهة والسوء، لا يعبر عن أصول حضارتنا ولا عراقة ديننا وتقاليدنا، ولكنه مسخ سيء، تاما كالغراب الذي تخلص من ريشه ليقلد الطاووس في شكله فأضحى مسخا لا يعبر عن هذا ولا ذلك.
هل كان الإعلام أمينا في نقل حضارة الإسلام نقلا صحيحا سويا؟
لا.. وألف مرة لا.. أقولها وأنا حزين وآسف على ذلك.
إن جماهيرنا تعرف عن رجال الغرب أكثر مما تعرف عن عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وأبي عبيدة عامر بن الجراح، وغيرهم من رجالات الإسلام الأولين..
إن شبابنا يعرف عن الخنفسة بفضل إعلامنا ـ جزاه الله بما يستحق ـ أكثر مما يعرف عن سجايا أسلافنا وأخلاقهم.
عن نساءنا يعرفن عن نساء الغرب أكثر مما يعرفن عن أمهات المؤمنين والبطلات الخالدات في تاريخ الإسلام.(13/389)
لقد قام الإعلام في بلاد الإسلام بدوره الذي رسمه له العدو الغادر فقلب المعايير الخلقية لدى جيلنا المعاصر فأصبحت الرذيلة أوفى بالأداء من الفضيلة.
أصبح السفور هو التقدم، والتستر هو الرجعية وصارت الميوعة والتخنث هما علامة على السمو والرجولة هي الجلافة والتوحش..
أجل انقلبت المعايير لأن أعداء الإسلام أرادوا لنا ذلك، فكنا كما أرادوا.. وأضحينا لا نهتم إلا بالسفاسف من الأمور.
إن الإعلام الأعمى في بلاد الإسلام صار متخصصا في دراسات وفلسفات الفكر الغربي والشرقي كالديموقراطية والشيوعية. فمثلا نجد المقالات المدبجة هنا وهناك في معظم صحافتنا الإسلامية، هذا يحبذ وذاك يعارض وآخر يواسي بين الفريقين.. وهكذا.. نجد كل ذلك في صحافتنا منشورا لشبابنا، فيقتنع به فريق، ويعارضه فريق آخر.. ثم تدور الرحى حربا بعد ذلك بين الفريقين.. المتخاصمين فينشغل بال القوم بما بينهم وينسوا دنياهم وآخرتهم على حد سواء وتطحنهم الرحى جميعا، وتفنيهم وهم لا يعلمون من أين توالت عليهم المصارع..
ثالثا:
والإعلام أيضا ينبغي أن يكون أداة من أدوات توحيد الأمة ودعامة قوية من دعامات بنائها الفكري والروحي فاللغة المكتوبة أو المسموعة ينبغي أن تكون سليمة في مبناها ومعناها على حد سواء، صريحة في مغزاها معبرة بصدق عن رأي قائلها، حتى تولد الثقة في عقل سامعها فتستقر في ذهنه وقلبه ويكون لها فعل السحر فتؤتي الغاية المرجوة منها..
والصراحة حرة ومؤلمة في بعض الأحيان..
لقد عرف شبابنا من الإذاعات المسموعة والمرئية على حد سواء كل شيء عن أوربا وأمريكا والصين وروسيا، وقليلا بل ونادرا ما نسمع عن أرضنا الإسلامية وما كان هذا الموقف الحزين المؤسف إلا لأن المسؤولين في الإعلام لا يدرون بذلك، إما لأنهم لا يشاهدوه أو لا يسمعوه، وإما لا يعرفون مقدار التبعة الملقاة على عاتقهم..
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة(13/390)
وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم.
رابعا:
كل مجتمع من المجتمعات به مظاهر حياته كما فيه عوامل موته أيضا، وذلك كما يقول علماء الاجتماع.
ونظرة واقعية على مجتمعنا الإسلامي اليوم نرى ذلك بوضوح، نرى العلل تصرعه من كل جانب.
وواجب الإعلام الإسلامي أن يقوم بدراسة ميدانية لما بالمجتمع من أمراض ويوجه المسؤولين إليها، ويشخص لها الداء ويصف الدواء.. إن هذه النقطة من أهم النقاط التي ينبغي أن يوجه الإعلام نظره إليها، فإن علاج المجتمع جزء من واجب الصحافة والإذاعة المرئية والمسموعة.
خامسا:
تقديم الإسلام للمجتمع العالمي في ثوبه الحقيقي وهذا واجب آخر من واجبات الإعلام الإسلامي.. الدعوة إلى الله على بصيرة، وتقديم هذه الدعوة إلى مجتمعات أخرى في ثوب قشيب ناضر بلغات تلك المجتمعات تقديما مناسبا لجلال دين الإسلام وروعته وموضحا لوظيفة الإسلام والمسلمين في المجتمع الإنساني كافة..
ـ هل يستطيع الإعلام الإسلامي القيام بهذا الدور؟
ـ وهل ينجح في أن ينبه أنظار المسلمين إلى واقع دينهم؟
ـ وهل يستطيع أن يلفت أنظار غير المسلمين إلى روعة دين الإسلام؟
ـ وهل يستطيع أن يتحمل الأمانة ويبلغها للناس كافة بجميع الوسائل المسموعة والمرئية؟
ـ هل يستطيع أن يلم شعث المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها على كلمة لا إله إلا الله، ويعرفهم أنهم أعضاء في جسد واحد إذا ألم بجزء منه مكروه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر؟
ـ هل ينجح في أن يقيم واقع المسلمين ويبين ما به من آلام وأمراض خبيثة من شيوعية وبهائية وقديانية وغير ذلك من ملل ونحل تفتك بجسد الأمة الإسلامية؟(13/391)
ـ وهل يستطيع أن يحارب هذه النحل والملل ويخرجها من دار الإسلام إلى الديار الأخرى التي أنبتتها ثم تخلصت منها بأن صدرتها إلى المسلمين ففككت عرى وحدتهم وسممت أبدانهم، وفرقت كلمتهم وأودت بهم إلى التفرقة ثم إلى العداء والحرب بعد ذلك؟
ـ إننا لو نجحنا في ذلك لاستطعنا أن نخدم عقيدتنا بتسخير وسائل الإعلام كلها لها وهذا واجب ديني يحتم علينا أن ننهج في العمل لديننا وعقيدتنا.. فهل نحن سائرون؟
ـ وهل نحن إلى طريق الخير متوجهون؟
ـ وهل يا ترى سننجح في هذه المهمة العظمى؟
تأكدوا أيها الإخوة أن الأمر من بخطورة بمكان. وأن الإعلام بجميع وسائله المكتوبة والمرئية والمسموعة يتحمل العبء الأكبر.
وذلك واجبكم أنتم أيها الدعاة أن تتجهوا إلى هذا الميدان بالإعداد له، وتوجيه شباب الإسلام لساحته وتعريفهم بمدى أهميته، ويوم أن تنجحوا في تقديم داعية مسلم واع.. لهذا الميدان، بقدر ذلك يكون الانحسار في بحار الباطل وستجدوا أنفسكم في النهاية على شاطئ النصر والأمان.
فهل أنتم واصلون إليه؟
أرجو ذلك.
{وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} . بإذن الله(13/392)
العدد 37
فهرس المحتويات
1- المجلة في عامها العاشر
2- نظرات في كتاب الله الكريم: لفضيلة الشيخ حسين محمد المصري
3- أهل الكتاب في القرآن الكريم: لفضيلة الشيخ معوض عوض إبراهيم
4- مفهوم الجرجاني للإعجاز القرآني: لفضيلة الدكتور أحمد جمال العمري
5- ملامح المجتمع الإسلامي: لفضيلة الشيخ محمد السيد الوكيل
6- الإنسان.. والعصيان..! : لفضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي
7- الإجماع في الشريعة الإسلامية: لفضيلة الدكتور رشدي عليان
8- العبادات في الإسلام وأثرها في إصلاح المجتمع: لفضيلة الدكتور محمود السيد شيخون
9- التشريع الإسلامي: صالح للتطبيق في كل زمان ومكان
10- حول إعادة كتابة التاريخ الإسلامي: لفضيلة الدكتور عبد المنعم حسنين
11- رسائل لم يحملها البريد: لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
12- صفات ربنا حقيقة على الوجه اللائق بكماله: لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
13- تنبيه.. وتحذير..: لفضيلة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري
14- الشعر في ضوء الشريعة الإسلامية: الشيخ محمد عبد الرحمن شميلة الأهدل
15- القدس: للطالب سامي بن رضوان
16- من آيات الله في الآفاق: للطالب محمد الأمين ولد الشيخ
17- كلية الحديث: للطالب أحمد بن حسن المعلم
18- طه حسين حياته.. وأدبه.. في ميزان الإسلام…: لفضيلة الشيخ إبراهيم محمد سرسيق
19- حكم التعقيم … وقطع النسل: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد بن باز
20- أخبار الجامعة
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(13/393)
المجلة في عامها العاشر
نحمد الله على آلائه ونسأله أن يصلي ويسلم ويبارك على أفضل رسله وخاتم أنبيائه نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فبهذا العدد دخلت المجلة عامها العاشر مخلفة وراءها تسعة أعوام من عمرها تضمنت أعدادها الستة والثلاثون مقالات جيدة وبحوثا مفيدة في جوانب مختلفة في الثقافة الإسلامية وتعتبر هذه المجلة جزءا مما تؤدي به الجامعة رسالتها في تبليغ الدعوة الإسلامية والحث على اتباع طريقة السلف الصالح في السير على نهج الكتاب العزيز والسنة المطهرة واعتبارهما مصدر كل خير وأساس كل صلاح وإصلاح وإنه لا سعادة في الدنيا ولا فلاح في الآخرة إلا في الاستضاءة بنورهما وامتثال أوامرهما واجتناب نواهيهما.
ونأمل أن يجد القراء في مستقبل أيام هذه المجلة تحولا من حسن إلى أحسن ومن جيد إلى أجود وأن يكون نفعها عظيما وفائدتها شاملة.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
عبد المحسن بن حمد العباد(13/394)
حول إعادة كتابة التاريخ الإسلامي
لفضيلة الدكتور عبد المنعم حسنين
كثر الحديث في السنوات الأخيرة حول إعادة كتابة التاريخ الإسلامي وتنقيته من الشوائب التي علقت به بفعل المستشرقين وأعداء الإسلام من غير المسلمين ومن المنتسبين إلى الإسلام.
وقد انعقدت مؤتمرات في دول مختلفة إسلامية وغير إسلامية لبحث كيفية إعادة كتابة التاريخ الإسلامي بعامة وكتابة تاريخ جزء من أجزاء العالم الإسلامي بخاصة، ويسر الله لي الاشتراك في أكثر المؤتمرات التي عقدت لبحث هذا الموضوع البالغ الأهمية وأن أسهم في المناقشات التي دارت وفي إعداد البحوث التي قدمت متضمنة اقتراحات معينة رأى مقدموها أنها تفيد في إلقاء أضواء على جوانب الموضوع المختلفة حتى تكون التجربة الجديدة محققة للهدف المنشود، وبعيدة ما أمكن عن أخطاء التجارب السابقة.
ولا أريد التحدث عن المؤتمرات التي حضرتها واشتركت في مناقشتها وبحوثها لأن هذا يحتاج إلى حديث طويل غير أني أرى واجبا عليَّ أن أسجل ملاحظاتي على مثل هذه المؤتمرات وبخاصة ما عقد منها في بعض الدول العربية.(13/395)
وأول ما لاحظته في هذه المؤتمرات أن المدعوين إليها خليط من المسلمين ومن غير المسلمين، بل إن بعض المدعوين لهم كتابات معادية للإسلام ومنهم أشخاص من ورثة الصليبيين الذين يدرِّسون التاريخ الإسلامي بِنِيَّة منعقدة على جمع المطاعن وتلفيق الأباطيل ضد الإسلام وحقائقه الناصعة وهم بذلك يتنكرون للمنهج العلمي الصحيح الذي يحرص على بيان الحقائق وعرضها دون أن تمزج بمرارة الحقد والتعصب، فكيف يدرس هؤلاء إعادة كتابة التاريخ الإسلامي وتنقيته مما علق به من الشوائب، وهم الذين أسهموا في تشويه الحقائق أو طمسها؟!.كيف يبحث غير مسلم التاريخ الإسلامي ويكون منصفا في دراسته؟!..كيف يقول شخص من ورثة الصليبيين كلمة الحق في التاريخ الإسلامي وهو الذي يحرص على رمي الإسلام بتهم باطلة ظالمة؟!. إن إعادة كتابة التاريخ الإسلامي وتنقيته من أباطيل هؤلاء الأعداء المغرضين أمر لازم ينبغي أن يتم في أقرب وقت ممكن ولكنه أمر يجب أن يضطلع به باحثون مسلمون مخلصون يؤمنون بالله ورسوله، وينبغي أن يبعد عنه أعداء الإسلام سواء من كان منهم من غير المسلمين أو من كان ممن ينتسبون إلى الإسلام، حتى يراقب هؤلاء الباحثون الله في أثناء كتابتهم للتاريخ الإسلامي.
نحن لا نطالب إلا بإثبات الحقائق خالصة من كل زيف، غير متأثرة بأي هوى، وهذا ما يتفق مع المنهج العلمي الصحيح، لأن إثبات الحقيقة العلمية هو غاية الدارسين المخلصين الصادقين. أما تشويه الحقائق، والتشكيك فيها، فأمر لا يتفق مع المنهج العلمي السليم، وليس من العلم في شيء.(13/396)
والعجيب أن كثيرا من الدارسين في البلاد الإسلامية يتشدقون بضرورة فصل العلم عن الدين، ويطالبون بإعطاء المستشرقين وأشباههم حق الاشتراك في إعادة كتابة التاريخ الإسلامي، وأن يصدروا من الأحكام ما تنتهي إليه دراستهم دون خوف مما يكتبون، وما يصدرون من أحكام، ونقول لهؤلاء إن ما يقولونه غير صحيح لأن غير المسلمين لا يمكن أن يكونوا منصفين في بحثهم، ولن يستطيعوا أن يتخلوا عن أهوائهم، وأن يتخلصوا من كرههم للإسلام وهم يحاولون إعادة كتابة التاريخ الإسلامي مهما أعلنوا حيادهم، أو تظاهروا بحبهم لإثبات الحقائق العلمية، دون تأثر بأي عامل من عوامل التأثير.
إن هؤلاء كاذبون مضللون يريدون أن يخدعُوا المسلمين بزخرف القول ومعسول الكلام ليضعوا السُّم في العسل ويمزجوا تاريخ المسلمين بما تكنُّه صدورهم من حقد وعداوة، وقد سألت أحد هؤلاء الكاذبين المضللين هل يقبل أن يكتب مؤرخ مسلم تاريخ النصرانية أو تاريخ الكنيسة؟ فبهت الذي كفر. وأمسك عن الجواب، فقلت له أرأيت كيف أنكم تبيحون لأنفسكم ما لا تبيحونه لغيركم؟ وإذا كتب مسلم تاريخ الحروب الصليبية، أو تحدث عن الكنيسة أوسعتموه نقدا بألسنة حداد مع ما عرف به المسلمون من التسامح وعدم التعصب.(13/397)
ولكن العيب ليس عيب هؤلاء المؤرخين غير المسلمين من المستشرقين وورثة الصليبيين الذين يشاركون في المؤتمرات التي تعقد لبحث إعادة كتابة التاريخ الإسلامي وإنما هو عيب من يمكنون لهم من حضور مثل هذه المؤتمرات، والأشدّ عيبا أن يدافع بعض من ينتسبون إلى الإسلام عن حضورهم، وضرورة الاستماع إلى آرائهم وإشراكهم في المؤتمرات التي تعقد في البلاد الإسلامية، بل وفي المطالبة بإشراكهم في كتابة التاريخ الإسلامي من جديد، بحجة أنهم علماء ذوو خبرة، وأن الكثيرين من أساتذة التاريخ في البلاد الإسلامية قد تتلمذوا على أيديهم. أما التشدق بأنهم علماء فمن المسلَّم به في منهج البحث العلمي أن العلم لا يفسده شيء كما يفسده التعصب فلا فائدة من علمهم بعد أن أفسده تعصبهم ضد الإسلام والمسلمين.
وأما أن كثيرا من المؤرخين المسلمين في العصر الحديث قد تتلمذوا على أيدي غير المسلمين من المستشرقين والمستعمرين وورثة الصليبين فإن هذا الأمر قد أفسد العديد من هؤلاء المؤرخين الذين ينتسبون إلى الإسلام، ويرددون آراء أعداء الإسلام، فجعلهم يسيئون إلى التاريخ الإسلامي أكثر مما يسيء إليه غير المسلمين.(13/398)
والواقع أن البلاد الإسلامية يجب أن تغير النظر في سياسة الإبتعاث إلى الخارج فلا ترسل إلى أوربا وأمريكا مثلا أشخاصا لدراسة العلوم الإسلامية المختلفة لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وإذا كان هذا الأمر قد حدث في وقت سيطرة الاستعمار على كثير من الدول الإسلامية فينبغي على هذه الدول بعد التخلص من سيطرة الاستعمار سياسيا وعسكريا، أن تتخلص من سيطرة الاستعمار ثقافيا، وأن تعمل على محو كل أثر من آثار هذه السيطرة الثقافية لأنها أشد خطورة وأعمق أثرا، فلا ترسل إلى أوربا إلا من يريدون دراسة علوم بلغت في هذه البلاد شأواً لم تبلغه بعد في بلادنا الإسلامية، على أن تكون هذه مرحلة مؤقتة تنتهي بانتهاء الأسباب التي دفعت إليها، أما أن ترسل الدول الإسلامية أشخاصا لدراسة التاريخ الإسلامي أو أي علم من العلوم الإسلامية المختلفة في أوربا أو أمريكا فهذا أمر يجب إيقافه ووضع حد له.
وصفوة القول أن تاريخنا الإسلامي في حاجة إلى أن تعاد كتابته وصياغته بحيث يخلو من الشوائب التي علقت به، وبحيث يوضح تاريخ المسلمين في عصورهم المختلفة بكل جوانبه، وبكل ما فيه من إيجابيات وسلبيات، لأننا محتاجون إلى معرفة تاريخنا الإسلامي والاستفادة من أحداثه، وأخذ العبرة من هذه الأحداث، والأخذ بالأسباب التي أدَّت إلى الرقي والازدهار، وتجنب العوامل التي أدت إلى الضعف والاندحار والسير على هدى وبصيرة.
لقد أقام المسلمون حضارة لم يشهد لها التاريخ مثيلا في سمو الأخلاق ونبل الأهداف حين كانوا متمسكين بكتاب الله، مطبقين لأحكام الله، ومهتدين بهدى خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه، فلما تركوا كتاب الله وهدي نبيه وراءهم ظهريا، تبدلت أحوالهم وأصاب الضعف بلادهم وتلك سنة الله في خلقه {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .(13/399)
إن المؤرخين المسلمين المخلصين قادرون بعون الله على إعادة كتابة تاريخهم وتنقيته من الزيف والأباطيل التي ألقى بها أعداؤهم من المستشرقين والمستعمرين وورثة الصليبين وأذنابهم ممن ينتسبون إلى الإسلام، وهم يستطيعون الرد على هؤلاء الأعداء وإخراس ألسنتهم الحاقدة، وتوضيح الحقائق وبيانها لشباب المسلمين، ليستشعروا العزة والكرامة، ويعملوا على إعادة بناء حضارتهم على هدى وبصيرة.
إن الجامعة الإسلامية وهي تحتضن دارسين من أكثر من ثمانين دولة تستطيع أن تربي جيلا من المؤرخين المسلمين المسلحين بالعلم بأمور دينهم وبالخلق القويم، وبالوعي الكامل بحقائق التاريخ الإسلامي، وبالمنهج العلمي الصحيح، ويستطيع هؤلاء المؤرخون المسلمون الصالحون المؤهلون تأهيلا صحيحا أن يعيدوا كتابة التاريخ الإسلامي كتابة صحيحة وينقوه من الشوائب والأباطيل لينتفع بحقائقه المسلمون في سائر أنحاء العالم.
إن الشيء الذي يهم المسلمون جميعا أن يكتب التاريخ الإسلامي كتابة صحيحة ولسنا متعجلين في كتابته، المهم أن نبدأ وأن نسير بخطى ثابتة على هدى وبصيرة، معتمدين على الله، واثقين في نصره وتأييده.
إن علينا أن نعمل بجد وإخلاص حتى نصل إلى الهدف المنشود، والغاية المرجوة {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
وبالله التوفيق.(13/400)
رسائل لم يحملها البريد
لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
تلميذي العزيز:
كتبت إليّ تقول: لقد أنهيت دراستي الثانوية، وأصبحت طالبا جامعيا، وإني لأرى المقررات واسعة ذات شعب، وأن عليّ أن أدرس ساعات طويلة خارج قاعات المحاضرات، فأرجو أن تقدم إليّ شيئا من النصح، وأن تزوّدني ببعض التجارب.
تلميذي العزيز:
لو كنت أعلم أنك قد دخلت الجامعة طمعا في شهادة تكسب بها الرزق، وتنال بها الوظيفة، ثم لا يهمك بعد ذلك علم ولا يشوقك بحث، ما كتبت إليك نصحا، ولا تحدثت إليك عن تجربة.
ولكني عرفتك على مقاعد الدراسة ذا حياة ونشاط وفطنة، وعرفتك في البيت ذا نفس طُلَعة، تجد خير متعة لها أن تقرأ، وخير محدث تصغي إليه الكتاب.
وذلك _ لا شك _ ينبئ برغبة صادقة في العلم، ونزعة فطرية إلى البحث وأول ما يقوم عليه نجاحك في الدراسة هذه الرغبة التي لها بين جنبيك حسيس وغليان، ثم هذا الإحساس الفطريّ غير المتأثر بعوامل خارجية.
أما أولئك الذين يدرسون بعوامل من الخارج، كأن يكون ذلك خوفا من رسوب وهربا من خزي، أو حرصا على مرضاة أهل وأقارب، أو منافسة للأنداد ومفاخرة في المجالس، أو تصيدا لمناصب الدولة، فقد تكون دراستهم ذات نفع، وقد تكون بحوثهم ذات قيمة، ولكن عطاءهم سرعان ما يؤول إلى انقطاع، كما تلمع البروق في السماء، وكما تسقط الشهب على الأرض.
تلميذي العزيز:
لا بد لك في مطلع عامك الدراسي من جدول تسير عليه، إذا ما كنت خارج قاعات المحاضرات، وأنهيت دوام الحصص اليومية.(13/401)
وأنت نفسك الذي ينبغي أن تنظم هذا الجدول، وأن توزع ساعات قراءتك ودراستك على موادك العلمية المقررة، ولا يستطيع أحد غيرك أن ينظم هذا الجدول لك، لأن الساعات التي تجعل للدراسة تطول وتقصر حسب قدرة الطالب عليها، واستعداده لها، ورغبته فيها، فأنت أدرى بقدرتك واستعدادك وما عندك من رغبة وإقبال.
ومهما يكن من أمر فإني أنصح لك ألا تقلّ ساعاتك التي تتفرد بالدراسة عن أربع ساعات كل يوم، على أن يفصل بينها وليس منها أوقات عبادتك وطعامك وراحتك، ولا تنس أن توفر لنومك الهادئ المطمئن ساعات كافية وافية.
على أن الدراسة ليست بكثرة الساعات ولكن بمقدار ما تفيد وتنفع، فهناك طلاب يضطرون إلى أن ينفقوا بعض أوقاتهم في أعمال يكسبون بها الرزق ولا يخصّون الدراسة إلا بساعات قليلة، ومع ذلك تراهم يفوقون طلابا متفرغين للدارسة ليس لهم ما يشغلهم عنها.
وهناك طلاب أذكياء يقرءون بسرعة ويفهمون بسرعة، وهناك طلاب متوسطو الذكاء قراءتهم بطيئة وفهمهم بطيء، وهناك طلاب يدفعهم حب الامتياز والتفوق إلى أن يخصوا دراستهم بسبع ساعات أو ثمان كل يوم.
والذي أنصح به أن يكون جدولك الدراسي عمليا واقعيا يمكنك تنفيذه والسير عليه دون أن تنفق كل ما لديك من نشاط وطاقة، فإن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهر أبقى.
ولا ريب أن الاستمرار في القراءة والدراسة دونما فترات راحة، يجلب التعب والإرهاق، ويبعث الملم والسأم، ويضعف القدرة على الفهم، وقد أثبتت التجارب أن الطالب الجامعي لا يستطيع أن يظل محتفظا بنشاطه الذهني وأن يحصر انتباهه في موضوع محدد، مع قدرة الفهم والهضم، لا يستطيع ذلك أكثر من خمسين دقيقة.
ولقد توصل علماء النفس والتربية بعد إجراء تجارب كثيرة في ميدان توقيت عملية التعليم إلى النتيجة التالية:(13/402)
تتعلم كثيرا، وتتذكر ما تعلمته جيدا، إن كانت ساعات دراستك مختلفة متباعدة، وذلك يفوق ما تتعلمه وتتذكره إن كانت ساعات دراستك متواصلة متوالية.
فلا بد من الراحة بعد كل خمسين دقيقة، على ألا تقل هذه الراحة عن عشر دقائق، ولا تزيد عن خمس عشرة دقيقة، لا بد من هذه الراحة وإن كنت قادرا على الاستمرار في الدراسة، وكنت ذا نشاط وقوة.
وإني لأنصح لك أن تخص كل محاضرة من محاضراتك اليومية في الجامعة بساعة دراسة في البيت، على أن تزيد هذه الساعة وتنقص حسب صعوبة المادة وسهولتها بالنسبة لك، ومن سوء التدبير أن تهمل بعض المواد إهمالا تاما، وأن تقصر الساعات كلها على بعض المواد.
وإن أفضل وقت لدراسة أي موضوع الوقت الذي يكون قريبا من تدريس المدرس لذلك الموضوع، ولهذا ينبغي أن يكون جدول دراستك الخاصة مسايرا جدول التدريس في الجامعة.
ومن المجرّب أن قراءتك الموضوع قبل تدريسه أفضل خطة يمكن أن تسير عليها، وكلما ازداد ما تعرفه عن المحاضرة قبل إلقائها ازدادت الفائدة منها، وازدادت قدرتك على أن تميز فيما يلقيه المحاضر بين ما هو خير وله قيمة وبين ما هو حشو تافه لا خير فيه.
وتعطيك قراءة الموضوع قبل تدريسه قدرة على أن تختار بسهولة وعن علم الملاحظات الجديرة بالتسجيل في دفترك الخاص بالملاحظات، وتعطيك فرصة لأن تسأل المدرس وتباحثه في أمور عرضت حين قراءتك الموضوع.
أما إذا أجَّلت قراءة الموضوع إلى ما بعد تدريسه فسوف تحتاج إلى بذل جهد كبير كي تفهم ما يقوله المدرس، ومن المتوقع أن تشغل نفسك بتسجيل ملاحظات يكون بعضها تافها لا قيمة له، وبعضها جاء في الكتاب المقرر وأنت لا تدري.
ومن سيئات تأجيل قراءة الموضوع إلى ما بعد تدريسه أنك لن تجد فرصة للتعمق فيما يقوله المحاضر، ولا لنقده، ولا لترجيح رأي على رأي.(13/403)
وربما كان في الكتاب المقرر بعض عبارات غامضة، وألفاظ اصطلاحية تحتاج إلى إيضاح، فلا تدري بها إلا بعد فوات الوقت المناسب.
تلميذي العزيز:
قد يكون بين زملائك في الجامعة من يبدد وقته ضياعا وهو لا يدري، يجلس إلى كتبه ليدرس، فيمسك بكتاب إحدى المواد، حتى إذا مضى في قراءته عشر دقائق أو قريبا منها ملّ وسئم، فيلقى به جانبا، ثم يمسك بكتاب مادة أخرى، فلا يلبث بين يديه أكثر من عشر دقائق ثم يعافه وينبذه، ثم ينتقل إلى مادة ثالثة فلا يكون حظها من العناية والصبر أوفر من أختيها، وهكذا دواليك.
فإذا كان بين زملائك مثل هذا ممن لا يستطيعون حصر الذهن في موضوع واحد مدة تقارب الساعة، فأفضل علاج له أن يقسم أوقات دراسته على مواده المقررة بالدقائق، فيخصّ كل مادة في بداية الأمر بعشرين دقيقة، تعقبها راحة لا تزيد على عشر، ثم بعشرين دقيقة مادة أخرى تعقبها راحة كتلك، وهكذا..
حتى إذا درب على ذلك وأصبح له عادة، زاد الوقت المحدّد لكل مادة زيادة صغيرة، لا تقل عن خمس ولا تزيد على عشر، وتستمر الزيادة مع مرور الزمن، ومع ازدياد القدرة على الدراسة وازدياد الرغبة في العلم، إلى أن تصل إلى خمسين دقيقة وهو الحد الأقصى، على أن تظل الراحة التي تعقب دراسة كل مادة عشرا أو تزيد قليلا.
لا أدري أمنفردا تدرس، أم تشرك بعض إخوانك وزملائك في دراستك ومهما يكن من أمر، فبعض المربين يرى الدراسة الجماعية المشتركة إنما تفيد الطالب الضعيف والمتوسط، ولا تفيد الطالب القوي.
وفريق أخر من المربين يرى أنها تفيدهم جميعا، أما الضعيف والمتوسط فالأمر فيهما ظاهر، وأما القوي فله منها فوائد ثلاث:(13/404)
أما الأولى فإن مساءلة إخوانه له، ومباحثتهم إياه، ومحاولته التفهيم والشرح كل أولئك يحمله على أن يدقق النظر ويعمق الفهم، وينبهه لأمور لم تكن لتخطر له على بال، ومن الأقوال المشهورة بين رجال التعليم: إذا أردت أن تتعلم شيئا فحاول أن تعلمه غيرك من الناس".
وأما الفائدة الثانية فإن الدراسة الجماعية تدرب الطالب القوي على أن يعبر عما علم وفهم بطلاقة لسان وحسن بيان، وهذا ليس بالشيء القليل الهيّن، فكثير من الطلاب يقرءون ويفهمون، ولكنهم إذا طولبوا أن يفحصوا عما فهموا تلعثم اللسان واضطرب البيان.
والثالثة أنها تمكن لمعلومات الطالب القوي في ذهنه، وبذلك تخفف عنه عبء المراجعة في آخر العام.
ويشترط لنجاح الدراسة الجماعية أن يتفق أفرادها من قبل أن يبدءوا بها أن يتفقوا على ما يسمى بورقة عمل، فإن لم يكن ورقة عمل يسيرون عليها فلا خير يرجى من تلك الدراسة.
على أن الدراسة الجماعية لا تصلح إلا في أول العام الدراسي، حين يكون المقروء قليلا والوقت طويلا.
تلميذي العزيز:
لا أدري أين تدرس؟ ولا أين تطيب لك الدراسة؟ غير أني أنصح لك أن يكون مكان دراستك بعيدا عن كل ما يشرد بذهنك، ويطير بعواطفك وفكرك، أن يكون خاليا من "الراديو"ومن "التليفزيون"ومن المجلات المصورة وغير المصورة ومن الصحف اليومية وغير اليومية.
ولتعلم أن أشد الناس عداوة لوقتك واعتداء عليه أصدقاؤك وزملاؤك وأقاربك، هؤلاء الذين يزورونك بلا موعد ولا حساب، ويشغلونك عن دراستك بأحاديث فارغة وأمور تافهة.
فاختر لدراستك مكانا يأبى على هؤلاء وأمثالهم أن يغيروا عليه ليلا أو نهارا، وإقبالا وإدبارا.(13/405)
وربما كانت مكتبة الجامعة خير مكان لدراستك إذا هيئت لك فيها الدراسة وصلحت، فللمكتبة نظام يوفر لها الهدوء والسكينة، ويدرأ عنها ما يشتت الخواطر ويكدّر الأذهان، وفي المكتبة تنجو من زيارات فارغة تافهة تسحت وقتك وتفسد دراستك.
وإذا وجدت المكتبة خير مكان تدرس فيه من بعد تجربة، فإياك أن تجلس على مقربة من الباب فتشغل نفسك بمن يدخل ويخرج ولكن وَلِّ وجهك شطر الجدار، فلا ترى أحدا ولا يراك أحد.
وعلى كل حال فالمكان عادة وإلْف، فمن الطلاب من اعتاد الدراسة في المساجد، ومنهم من اعتاد الدارسة في الحدائق العامة، ومنهم من اعتادها في ساح الجامعات وأفنيتها، ومنهم من اعتاد أن يدرس في غرفته الخاصة فخير مكان مكان يحفظ عليك وقتك، ويحول بينك وبين ما يلهيك عن دراستك.
فإذا لم تتيسر لك مكتبة الجامعة، ولم يك في الجامعة قاعة واسعة خاصة بالمطالعة، تخضع للإشراف المهيمن والنظام الصارم، فربما كان أفضل مكان لدراستك غرفتك الخاصة، فإن وجدت فيها راحتك وطمأنينة نفسك فالحذر الحذر أن تدرس وأنت مستلق على الفراش، فالفراش يبعث على التراخي، ويدعو إلى الكسل والنوم، والأفضل أن تجلس على كرسي يكون مستقيم الظهر، وأمامك منضدة خالية من كل شيء، إلا ما تحتاج إليه من كتب مقررة ودفاتر ملاحظات وبعض المعاجم اللغوية، وليكن وجهك إلى الجدار، وحذار أن يكون أمامك نافذة مفتوحة، إنها سترحل بعينيك إلى خارج الغرفة، وتنتزعك من بين كتبك إلى أماكن شتى وآفاق بعيدة.
وإياك والانحناء في أثناء الدراسة، فذلك يتعبك ويضر بصحتك ويجلب عليك الكسل.
تلميذي العزيز:
ليس توفير ساعات معدودة للدراسة كل يوم، وتوزيعها على المواد المقررة، واختيار المكان المناسب، ليس ذلك كل ما تطلبه الدراسة الناجحة، فهناك أمور أخر أرجو أن تهتم بها وترعاها، وإن رآها كثير من الطلاب ليست بذات بال.(13/406)
فدخولك غرفة التدريس في أول الحصة وقبل أن يبدأ المدرس محاضرته أمر يجب أن تحرص عليه وترعاه، كي لا يفوتك شيء من التوجيهات، أو المعلومات أو الإشارة إلى مراجع ذات قيمة، ومن جهة أخرى فهذا الدخول المبكر يوثق الصلة بينك وبين المدرس، ويجعل بينكما مودة ورحمة، فتراه حريصا على فهمك، محتفيا بأسئلتك، لا يعرض عنك ولا يعتذر إليك إن سألته خارج غرفة التدريس أو داخلها.
وأرجو كذلك أن تحرص على حضور كل حصة، فحضور كل حصة يجعل معلوماتك في كل مادة متواصلة متماسكة ليس فيها فجوات ضعف ولا ثغرات جهالة.
أما الأمر الثالث الذي أود أن تحرص عليه فهو أن يجهز مكان دراستك بالنور الكافي، والنور الكافي ضروري لنشاطك ولسلامة عينيك، ولمستقبل حياتك العلمية والعملية، النور الضعيف يبعث الملل ويأتيك بالكسل، وأشد إضرارا من ذلك أنه يتلف عينيك اللتين هما من أعظم ما يعينك على دراستك، وأعظم ما يوفر لك الوقت للبحث المتعمق والإنتاج المثمر.
وما أكثر الطلاب الذين يهملون هذا الأمر، ويدرسون على أضواء شاحبة هزيلة، حتى إذا أصاب أعينهم الأذى ولحق بها الضعف، أخذوا يعضون على أيديهم، ولات ساعة مندم.
تلميذي العزيز:
ما حدثتك عنه من وضع جدول خاص لدراستك، واختيار مكان مناسب لتلك الدراسة، ومن أمور أخر كالتبكير في حضور الحصص، والحرص على حضور كل حصة، والنور الموفور في مكان الدراسة، كل أولئك خطوات تمهيدية للدراسة، أما الدراسة نفسها فلم أحدثك عنها بعد.
ماذا تعني كلمة الدراسة؟
أول ما يخطر بالبال أنها فتح كتاب مقرر، ومحاولة استظهار ما فيه استعدادا للامتحان، وهذا معنى ضيق محدود لما تعنيه كلمة الدراسة، أما الدراسة بمعناها الأعم الواسع فهي: كل مجهود يبذل في سبيل التعلم.
وأياًّ كان معناها، فالدراسة لا بد لها من القراءة، والقراءة أعظم الدعائم التي تقوم عليها الدراسة.(13/407)
والحديث عن القراءة عامة حديث يطول، ولا تتسع له هذه الرسالة، وربما حدثتك عنه في رسالة قادمة، أما اليوم فيكفيني ويكفيك أن أحدثك عن قراءة الكتب المقررة.
الطريقة المثلى في قراءة الكتب المقررة في الكليات أن تقرأ الموضوع الذي تدرسه ثلاث مرات، ولكل قراءة هدف يختلف عن هدف القراءة الأخرى وعليك أن تعرف الهدف أولا ثم تمضي في القراءة من أجله.
فهدف القراءة الأولى أن تعرف الفكرة الأساسية للموضوع الذي تقرؤه وتسمى هذه القراءة قراءة التصفح ولذلك ينبغي أن تكون سريعة.
ثم تعود فتقرأ الموضوع قراءة ثانية ويكون الهدف معرفة المسائل الرئيسية والتفصيلات المهمة، وفي هذه القراءة تكون بطيئا متأنيا متعمقا دقيق النظر.
ثم تعود فتقرأ الموضوع قراءة ثالثة، ويكون الهدف من هذه القراءة أن تجيب عن أسئلة تضعها أنت.
والأسئلة لها حظ عظيم مهم في عملية التعليم والتعلم، الأسئلة تعطي هدفا للتعلم، تجعلنا نفكر ونحن نقرأ وندرس، تجعلنا نفكر فيما نريد أن نتعلمه من هذه الدراسة، وإذا حاولت وأنت تقرأ أن تجيب عن سؤال فإن ذلك يجعل ما تدرسه ذا معنى محدّد.
ومن الثابت بالتجارب أن الطلاب يتذكرون ما يتعلمونه جوابا عن سؤال أفضل من تذكرهم ما يتعلمونه بالقراءة المجردة، وأن الطلاب الذين يقرءون ويدرسون ولا يجعلون قراءتهم مبنية على أساس أن تكون أجوبة لأسئلة ينسون بسرعة، وتختلط في أذهانهم الفكر الرئيسية بالفكر الثانوية ويفقدون الدقة في الإجابة.
ولكن من الذي يضع الأسئلة؟ أنت نفسك أفضل من يضعها، قد يكون هذا في بداية الأمر شيئا صعبا، ولكنك بالممارسة والتكرار سوف تصبح ذا قدرة على وضع أسئلة لما تقرؤه دون عناء.
إن وضع الأسئلة يساعدك على الدراسة والفهم والتعمق، وبهذه الأسئلة تكسب معلومات محددة واضحة لا لبس فيها ولا غموض، لأنك لا تستطيع أن تضع سؤالا إلا بعد أن تصير المعلومات واضحة في ذهنك.(13/408)
ضع أسئلة لكل شيء تقرؤه وتدرسه منذ بدء الدراسة، ولا شك أن وضع الأسئلة لكل ما تقرأ عمل مرهق جدا ويأخذ منك وقتا طويلا، ولكنه يرتفع بمستواك إلى درجة الطلاب الممتازين.
وهناك هدف رابع للقراءة والدراسة هو تقويم ما تقرأ، فيجب أن تكون قارئا ناقدا، ناقدا ما تدرس ولا سيما الموضوعات التي تعرض فيها قضايا قد تباينت فيها الآراء، واشتد فيها الخلاف والجدل، وجاء صاحب كل رأي بدليله وحجته.
فعليك أن تنظر إلى الأدلة والحجج في هذه القضايا نظرة عادلة منصفة وأن تتبع الحق دون أن تتمسك بآرائك السابقة، ودون أن تتعصب تعصبا جاهليا لما تعودته وألفته.
وهناك هدف خامس للقراءة والدراسة هو التطبيق، وأعني بالتطبيق أن تخضع حياتك لما تقرؤه وتدرسه وتراه صوابا، فإذا استطعت أن تطابق بينهما كان حقا أن نقول إنك قد استفدت من قراءتك ودراستك وقطفت الجني وعدت بالغنم.
أما إذا كنت تعلم الصواب ولا تعمل به، وتعرف الحق ولا تتبعه، فقد فقدت دراستك روحها ومعناها، وأصبحت شجرا بلا ثمر وزرعا بلا حصاد.
والقراءة التي هي أعظم دعائم الدراسة بفقد كثيرا من قيمتها وجدواها إذا لم يصحبها استظهار.
ولكن ماذا تعني الكلمة كلمة الاستظهار؟:
الاستظهار أن تعيد على نفسك بدقة ما تتذكره من المعلومات التي درستها، ولا تعني أن تحفظ معلوماتك حرفا حرفا وكلمة كلمة حفظا "فوتوغرافيا"لا تعقل فيه ولا فهم.
والطريقة المجدية في الاستظهار أن يكون مجزَّأً على فترات، فحين تنتهي من دراسة موضوع أو دراسة معلومات بينها صلات وثيقة، فاستظهر ما درست ومن الأفضل ألا تستظهر قدرا كبيرا دفعة واحدة، جزئه أجزاء صغيرة واستظهرها جزءا جزءا، فذلك أيسر وأسهل، وحذار أن تؤجل الاستظهار إلى آخر عامك الدراسي متعللا أن ما يستظهر سوف ينسى، وضيع الجهد فيه سدى.(13/409)
فقد أثبتت التجارب أن المعلومات التي تستظهر ثم تنسى يسهل استظهارها مرة ثانية آخر العام، ويسهل تذكرها ساعة الامتحان.
أما المعلومات التي تستظهر آخر العام ولم تك قد استظهرت من قبل، فمن العسير جدا بقاها حية ثابتة ساعة الامتحان.
يقول بعض العلماء: النسيان عملية تخريبية تسير مع القراءة جنبا إلى جنب فإذا انتهيت من قراءة موضوع أو فصل وحاولت بعد القراءة أن تتذكر المعلومات التي قرأتها فإنك لا تتذكر أكثر من خمسين في المائة، وبعد مضي يوم كامل على تلك القراءة لا تتذكر أكثر من ثلاثين في المائة، ثم يكون النسيان بطيئا بعد ذلك.
وخير وسيلة لمقاومة هذه الأعمال التخريبية التي يقوم بها النسيان أن تستظهر ما تقرؤه وتدرسه.
ولا شك أن نسبة ما تتذكره يعتمد على مقدار ما تقرؤه كثرة وقلة وعدد مرات، وعلى نوعية ما تقرأ، وعلى كيفية القراءة، وعلى الفروق الفردية الفطرية التي وهبها الله للناس.
ولقد تبين من التجارب التي أجريت على آلاف الطلاب أن الجماعات التي كانت تقرأ ولا تستظهر كانت تنسى في يوم واحد أكثر مما كانت تنساه في شهرين جماعات أخر كانت تستظهر ما تقرأ.
ولقد تبين من التجارب أيضا أن الطلاب الذين يستظهرون ما يقرءون يفوقون الطلاب الذين يقرءون ولا يستظهرون.
كثير من الطلاب يظنون أنهم قد حفظوا معلوماتهم، وأنهم يستطيعون أن يتذكروها وقت الحاجة حتى إذا جاء الامتحان وسئلوا عنها وجدوا ما كانوا يظنونه حقا قد أصبح ساعة الامتحان سرابا.(13/410)
وخير طريقة لكي تتوثق من أنك قد فهمت ما درست، وأن استظهارك لمعلوماتك جيد، خير طريقة أن تتوقف من حين إلى حين وتفحص نفسك، بأن تختار بعض الأسئلة التي كنت قد وضعتها من قبل في أثناء دراستك، وأن تجيب عنها كتابة، ثم تصحح لنفسك بأن تقابل إجابتك بما جاء في الكتاب المقرر، وبذلك تستطيع أن تعرف مستوى إجابتك، وقدر استظهارك وتذكرك، وعلى ضوء هذه النتيجة إما أن ترجع القهقرى فتعيد دراسة ما درست من قبل، وإما أن تمضي قدما.
الاستظهار يثبت معلوماتك ويسهل عليك المراجعة آخر العام، ويعطيك نتائج ممتازة في الامتحان، وزيادة على ذلك يعودك حصر الانتباه فيما يقرأ. فكثيرا ما يكون انتباهك ضعيفا، تمر عيناك بالسطور ولكن خيالك يكون شاردا وعيناك لا تدركان ما تقرءان فالاستظهار يحول بينك وبين هذا الشرود، وبينك وبين أحلام اليقظة، ويجعل قراءتك ذات جدوى.
كثير من الطلاب يراجعون ما درسوه واستظهروه في الساعات الأخيرة التي تسبق الامتحان، وهذه مراجعة فيها كثير من الإرهاق والمشقة، ثم هي لا تؤدي إلى الغرض المنشود، وهو تثبيت المعلومات في الذهن إلى أن تحين ساعة الامتحان.
فالمراجعة الأخيرة التي تسبق الامتحان بيوم أو بساعات ينبغي أن تكون للعناية بالنقاط الرئيسية، والتفصيلات المهمة، والتفريعات القيمة، وهي لا تتسع للإحاطة بكل شيء، وإتقان كل جزئية.
ويجب أن تسبق هذه المراجعة الأخيرة مراجعتان على الأقل: مراجعة لكل باب وكل فصل بعد الانتهاء من دراسته واستظهاره، ومراجعة ثانية بعد فترة لا تسمح بنسيانه.
وفي كل فترة يجب أن تختبر نفسك بالإجابة التحريرية عن أسئلة تكون أنت قد وضعتها من قبل في أثناء الدراسة الأولى.
ويجب أن تصحح إجابتك بالرجوع إلى الكتاب المقرر لتعرف ما نسيته وما أخطأت فيه، وما تتذكره من معلومات.(13/411)
ومن الأشياء القمينة باهتمامك تقييد ملاحظاتك، الملاحظات الجيدة الجديرة بالحفظ الجديرة بأن يستفاد منها في المستقبل.
ينبغي أن تقيد ملاحظاتك في إضبارة خاصة بها، يسهل نزع الورق منها، ويسهل إضافة أوراق جديدة إليها.
ويجب أن تقسم أوراق هذه الإضبارة فيكون لكل مادة أو موضوع صفحات محددة متوالية مرقمة مفهرسة، وفي رأس كل صفحة تضع عنوانا يبين الموضوع أو المسألة التي اشتملت عليها تلك الصفحة.
وينبغي أن تصحبك هذه الإضبارة ساعات المحاضرات في الجامعة، وساعات الدراسة في البيت، كي تتمكن من تقييد الملاحظات جميعا في أوقاتها وفي أمكنتها المختصة بها.
وحذار أن تهمل كتابة أي ملاحظة تراها، أو أن تؤجل ذلك اعتمادا على الذاكرة، أو اعتمادا على كتابتها في المستقبل، فما أسهل أن تنسى، وما أكثر ما ينتهي التأجيل إلى سراب، وبذلك تضيع من بين يديك ملاحظات قد تكلفك في المستقبل جهدا كبيرا ووقتا طويلا.
وإذا اضطررت لأمر ما أن تكتب بعض الملاحظات على أوراق مشردة، فيجب أن تنقلها إلى إضبارة الملاحظات وفي مكانها المناسب في أسرع وقت وأقرب فرصة.
ويجب أن تكتب ملاحظاتك وتلخيصاتك بأسلوبك أنت، وهذا يفيدك فوائد شتى:
فهو يدربك على الكتابة العلمية، ويجعلك ذا قدرة على تلخيص ما تقرؤه في الكتب الموسعة، ويثبت المعلومات في ذاكرتك.
ولقد أثبتت التجارب أن الذين يقيدون ملاحظاتهم في الورق أقدر على التذكر ممن لا يقيدون، وأقدر على التعبير عنها، وكثير من الذين لا يقيدون ملاحظتهم يظنون في أنفسهم أنهم قد فهموا موضوعا، أو أنهم قد استوعبوا مسألة، فإذا طولبوا بالتعبير عما فهموه أصابهم العجز وتعثر اللسان.
وينبغي أن تكون ملاحظاتك وتلخيصاتك متقنة دقيقة تغنيك عن الكتاب المقرر حين تراجع المادة في الساعات الأخيرة التي تسبق الامتحان حين لا يتسع الوقت لقراءة المادة في كتابها المقرر.(13/412)
كثير من الطلاب يرون في الامتحانات وحشا مفترسا وسبعا ضاريا، تراهم في قاعات الامتحان قبيل تسلم الأسئلة في زلزلة واضطراب، ومن جراء ذلك ينسون كثيرا من المعلومات، ويخطئون في الإجابة عن أسئلة سهلة.
أما الطلاب الذين درسوا مقرراتهم دراسة، وافية، واستعدوا للإمتحان استعدادا كاملا، فلا يشعرون بخوف ولا يعتريهم قلق، تراهم جالسين في هدوء وسكينة، ويجيبون على أسئلتهم بثقة واطمئنان.
ومما ينصح به رجال التربية أن فترة استجمام وراحة يجب أن تفصل بين تسلم الأسئلة ومراجعة مادة الاختبار.
ويقولون إن المراجعة في هذه الدقائق الأخيرة التي تسبق تسلم الأسئلة لا تكسب علما ولا تجلب فهما، بل ربما خلطت المعلومات بعضها ببعض بعد أن كانت منظمة، وأوقعت فيها الاضطراب من بعد ترتيب.
ويقترح هؤلاء المربون أن يشغل الطالب نفسه قبيل دخول قاعة الاختبار بالتحدث إلى بعض إخوانه في أمور عامة لا علاقة لها بالامتحان أو بقراءة بعض الصحف اليومية.
ومهما يكن من أمر فأنا أنصح لك أن تدخل قاعة الاختبار قبل أن يقرع جرس تسليم الأسئلة بحوالي ربع ساعة، وأن تجلس هادئ البال مستريحا من المراجعة، وحين تتسلم أوراق الأسئلة اقرأها كلها بعناية وأناة ودقة نظر، ومن المتوقع أن تجد فيها ما هو سهل تستطيع الإجابة عنه دون عناء، وأن تجد فيها ما هو صعب تحتاج الإجابة عنه إلى رؤية وأناة ومعاناة.
ابدأ بالإجابة عن الأسئلة السهلة، وإذا ما انتهيت منها فأجب عن الأسئلة الصعبة، بادئا بما هو أقل صعوبة، مؤخرا ما هو أشد وأشق..(13/413)
ومن الأخطاء التي يقع فيها الطلاب أن يؤخروا الإجابة عن الأسئلة السهلة ليوفروا الوقت الكافي للإجابة عن الأسئلة الصعبة، وتكون نتيجة هذا التصرف السيئ أن يجيبوا عن الأسئلة السهلة في آخر الوقت وقد أصابهم الإرهاق والتعب فيكتبوا تلك الإجابات بسرعة ودون عناية، وبذلك يرتكبون أخطاء كثيرة وهو لا يشعرون، ويفقدون درجات كان الحصول عليها متيقنا سهلا لو كتبت الإجابات في أول الوقت وفي أوج النشاط.
ويجب أن يجعل الجزء الأخير من وقت الإجابة لقراءة ما كتبته من أجوبة فتصحح الأخطاء التي وقعت فيها وأنت لا تدري، وتجيب عما عساك قد نسيت الإجابة عنه.
وإذا بدا لك أن تبدل بعض الإجابات فإذا كنت واثقا تمام الثقة بأن ما كتبته كان خطأ، وأن ما تريد أن تكتبه هو الصحيح، فخير لك أن تغير وتبدل.
أما إذا كنت مترددا بين الإجابة التي كتبتها والإجابة التي خطرت ببالك في آخر الوقت، فأبق الإجابة الأولى التي كتبتها على ما هي عليه، فقد دلت التجارب على أن الفكرة التي تسبق إلى ذهن الطالب وهو في أفضل أوقاته نشاطا وفطنة أصح من الفكرة التي تأتيه وقد تعب وأرهق وخبا نور علمه وذهنه.
ومما يخطئ فيه الطلاب أن يجيبوا إجابات تشتمل على زيادات ليست مما يطلبه السؤال، يفعلون ذلك كثيرا إذا عمي عليهم السؤال ولم يستطيعوا تحديد ما يطلبه، وفي أحيان قليلة يفعلون ذلك إظهارا لسعة ما عندهم من علم.
فينبغي أن تقرأ الأسئلة بتروّ ودقة نظر، وأن تجيب بما هو مطلوب، دون أن تزيد على ذلك شيئا، ففي هذه الزيادة دلالة عجز، ومضيعة وقت وجهد عليك وعلى المدرس المصحح معا. ثم إن المدرس سيهمل كل ما كان مزيدا، وإلى جانب ذلك سوف يسيء بك الظن فيتهمك بسوء الفهم في قراءة الأسئلة وبالتهرب من الإجابة الدقيقة.(13/414)
ومما يخطئ فيه الطلاب أن ينظر أحدهم إلى إجابته فيراها قليلة الكلمات قليلة الأسطر، فيعمد إلى تضخيمها بكل وسيلة ظنا منه أن الإجابات في الامتحانات لا ينبغي أن تكون قليلة المقدار صغيرة الحجم، أو توهما أن المدرس ممن يقيس الإجابة بالأشبار.
لا ينبغي لمثلك أن يسلك سبيل الخداع والتمويه والعبث وسوء الظن بالمدرس، مثل هذا لا يحمل منك، ولن يلقى من المدرس إلا الزراية والسخرية.
من الطلاب من يكتب بخط واضح مقروء، ومع الوضوح أناقة وجمال ومن الطلاب من يكتب بخط واضح يقرأن بسهولة ويسر، وإن لم يكن جميلا ومن الطلاب من يكتب بخط بينه وبين الوضوح عداوة وخصام.
وأقل مستوى في الخط يكفل لك أن تأخذ ما تستحقه من دراجات أن يكون خطك واضحا مقروءا بسهولة.
ولقد قامت هيئات تعليمية تربوية بتجارب في هذا الميدان، كان منها أن كتبت إجابات بعض الطلاب بخط سيئ لا يقرأ إلا بجهد ومشقة، وكتبت الإجابات نفسها بخط واضح يقرأ بسهولة، وأعطيت الإجابات لجماعتين من الصحيحين، وطلب إليهم بحزم وشدة ألا يكون للخط أي تأثير على تقدير الدرجات، وكانت النتيجة أن الإجابات التي كتبت بخط واضح أخذت نصيبا من الدرجات أعلى من الإجابات التي كتبت بخط رديء.
قليل جدا أولئك المدرسون الذين يصبرون طويلا ويبذلون جهدا كبيرا في قراءة خطوط الطلاب السيئة المعقدة، ويعطونها الدرجة التي تستحقها، فعليك أن تكتب إجابتك في الامتحان بخط واضح، ومع الوضوح جمال إن اتسع الوقت وتهيأت لك الأسباب.
وإني لأنصح مرة أخرى أن تعني بسلامة كتابة من الأخطاء النحوية والإملائية، فإن سلامة الكتابة من هذه الأخطاء ذات تأثير حسن على المصحح، إنها تشجعه على أن يعطيك الدرجات التي تستحق، وتجعله يحسن الظن فيما تكتب.(13/415)
أما إذا كانت كتابتك مصابة بالأخطاء النحوية والإملائية، ولا سيما الأخطاء القبيحة المنكرة التي لا تتوقع من طالب جامعي في مستواك، فإنها ستؤثر تأثيرا سيئا على المصحح وعلى الدرجات التي تستحقها، سواء أراد المصحح هذا أم لم يرد.
تلميذي العزيز:
أرى رسالتي إليك قد طالت وما كنت أظنها تطول، وأراها لا تتسع اليوم للتحدث عن البحث وما يتصل به، فأساله تعالى أن يعين على ذلك في رسالة قادمة.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
أفكار في المزاد
لا شك أن المبشرين فيما يتعلق بتخريب وتشويه عقيدة المسلمين قد فشلوا تماما ولكن هذه الغاية يمكن الوصول إليها من خلال الجامعات الغربية. فيجب أن نختار طلبة من ذوي الطبائع الضعيفة والشخصية الممزقة. والسلوك المنحل من الشرق. ولا سيما من البلاد الإسلامية ونمنحهم المنح الدراسية، وحتى نبيع لهم الشهادات بأي ثمن ليكونوا المبشرين المجهولين لنا لتأسيس السلوك الاجتماعي والسياسي الذي نصبو إليه في البلاد الإسلامية، لأن اعتقادي القوي بأن الجامعات الغربية يجب أن تستغل استغلالا تاما حصول الشرقيين للدرجات العلمية والشهادات واستعمال أمثال هؤلاء الطلبة كمبشرين ووعاظ ومدرسين لأهدافنا ومآربنا باسم تهذيب المسلمين والإسلام.
من كتاب "المشكلة الشرقية"طبع لندن عام 1957.(13/416)
صفات ربنا حقيقة على الوجه اللائق بكماله
لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
المحاضر بكلية الدعوة وأصول الدين
يقال إن أفلاطون قد سئل ذات يوم كيف آراء أستاذك سقراط، وهو الذي لا تكاد ترفع عليه أحدا من الناس؟ فأجاب: نحب سقراط ونحب الحق، ولكن الحق أحب إلينا من سقراط. وقد رأينا تلميذي أبي حنيفة الأفضلين لا يترددان عن خلافه في كثير من الأمور للغاية نفسها، وهو من أكرم الناس عليهما، رحمة الله على الثلاثة أجمعين.
ذكرت هذا وأنا أستمع إلى فضيلة الأخ الأثير، شيخ الأدباء ومحدث الشعب الأستاذ علي الطنطاوي، في برنامجه المرغوب "مسائل ومشاكل" وذلك في الساعة الثامنة إلا ربعا من مساء الأربعاء الواقع في التاسع والعشرين من ربيع الآخر _ عام _ 1396هـ وكان السؤال الذي أجاب عليه يتعلق بمفهوم "القَدَم" في الحديث الشريف الذي أخرجه البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن النار لا تفتأ تتطلب المزيد من الأشقياء حتى يضع فيها الجبار قدمه _ وفي رواية أخرى رجله _.
لقد رأيت الأستاذ كمن يقدم رجلا ويؤخر أخرى وهو يحاول البحث عن الجواب الجامع المانع.. حتى اتكأ على إحداهما أخيرا وقطع بأن القدم في الحديث ليست على ظاهر اللفظ، وإنما هي لون من الكناية _ التي يراد بها لازم معناها _ وراح يؤكد ذلك بكلام نقله من (لسان العرب) وخلاصته أن المراد بالقدم هنا هم أهل النار، ويروي عن اللسان كذلك ما يثبت هذا التخريج بعبارات تثبت أن العرب يستعملون القدم بمعنى الطليعة، ومقدمة الجيش وما إلى ذلك. ثم مضى فضيلته يفرّع على هذا الأصل بعرض طائفة من مشتقات القدم..(13/417)
ولو أن تقدير الإنسان لآخر يوجب السكوت عن كل ما يقول لكان علي - بالأقل - أن أسكت على ما سمعت فلا أتعقبه بشيء، ولكن الواجب يقتضي غير ذلك، لأن الموضوع أخطر من أن يهمل، ولأن مكانة الأخ العزيز تجعل لقوله وزنا وأثرا يتعذر إقلاعه من النفوس، سواء كان ذلك الأثر سلبا أو إيجابا، وهذا ما حفزني على أن أتناول الموضوع بشيء من التفصيل رجاء أن نتلاقى على القرار الذي يطمئن إليه قلب المؤمن، وملئى اليقين بأن فضيلة الأخ سيكون على غاية من السرور إذا وجد في عرضي هذا الحق الذي لا يعدل به شيئا آخر.
فأول ما أَسترعي إليه انتباه الأخر هو وقوفه في نقوله من لسان العرب على القول المنسوب إلى الحسن وأصحابه وقبوله دون مناقشة، ودون تتبع للمصادر التي استقى منها ابن منظور هذا القول، على خلاف ما عودناه فضيلته من إيثار للتحقيق والتدقيق في مثل هذه الأخبار الهامة، يضاف إلى ذلك إغفاله الرواية الأُخرى المقابلة لتلك عن اللسان نفسه، وهي القول بأن الخبر "متروك على ظاهره ويُؤمَنُ به، ولا يفسر ولا يُكَيَّف" ولو هو قد فعل ذلك لأبرأ ذمته، ولترك للسامعين أن يعرضوا الأمر على مطالعاتهم وفطرهم، فيختاروا أيهما أليق بكماله تعالى، وبما وصف به نفسه في الكتاب الحكيم وعلى لسان رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
وقد لوحظ من خلال محاولاته الوصولَ بالأمر إلى القرار النهائي، شدةُ تعويله على جانب الاشتقاق اللغوي في تفسير "القَدَم" وذلك بحشده الأشتات من الكلمات المحتوية على حروفها.(13/418)
ومع أن اتصال اللفظ بصفات الله يقتضي الرجوع باستيضاحه إلى أئمة الحديث والتفسير والفقه بالدرجة الأولى، فقد أغفل هذا الجانب تماما مكتفيا بالدلالات اللغوية، وهو الأديب البليغ الذي لا يفوته أن اللغة واحدة من وسائل المعرفة الكثيرة في هذا الميدان، وأن كل ما يتعلق بأسماء الله وصفاته يعتمد في تحديده على المأثور من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ومفهوم السلف.. ولو تُرِكَ أمره إلى اللغويين وحدهم لاضطرب الحبل، وضاعت الحقيقة في ركاب المجازات والكنايات وما إليها من معمَّيات..
ثم شيء آخر لا مندوحة عن التوكيد عليه في نقول اللسان.
إن هذا المعجم الموسوعي قد أُلِّفَت أصوله في ظروف متأخرة، ثم جاء ابن منظور رحمه الله ليضم بعضها إلى بعض في عهد تراكمت أثناءه مقررات الفرق وأهل الكلام والمتفلسفة، فابتعدت السبيل بالفكر الإسلامي عن ينبوع الوحي المصفّى، إذ أصبحت آراء الرجال هي الحكَمَ الفصلَ في كل خلاف بين الكثرة من أهل العلم.
وما كان لابن منظور ولا سواه أن يتخلص من آثار ذلك الجو إلا من رحم الله، ومن هنا تسللت إلى أعمالهم اللغوية والثقافية تلك الشواذ التي لم ينقل مثلها عن أحد من أئمة الهدى في خير القرون.
وعلى هذا فإن مجرد إلحاق مثل تلك الرواية بالحسن وأصحابه لا يكفي للقطع بصحتها، لأن الإقدام على تحكيم اللغة والهوى في تأويل صفات الله لم يكن مما يسوغه التابعون أو يسكتون عليه، فضلا عن أن يقبلوه ويقولوا به، وإنما نجم ذلك على لسان بعض المتتلمذين اليهود والصابئة بعد عصر الحسن بزمن، ثم تفاقم الأمر بعد محنة الإمام أحمد، وشرع المتأثرون بمترجمات الفلسفة يطلقون سهامهم لتحريف المفهومات الإسلامية عن صفات الحق سبحانه..(13/419)
ولم يتورعوا عن الكذب على الأئمة بأن ينسبوا إليهم ما لم يقولوه، أو يذهبوا بأقوالهم إلى غير ما أرادوه. وقد نقل شيخ الإسلام بن تيمية عن الطبري عن الإسفرائيني عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة "أن الفقهاء كلهم اتفقوا على الإيمان بالقرآن والأحاديث في صفة الرب عز وجل من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه.."وروى البيهقي بإسناد صحيح عن أبي عبيد القاسم بن سلام أن "هذه الأحاديث التي فيها: ضحك ربنا من قنوط عباده، وأن جهنم لا تمتلئ حتى يضع ربك فيها قدمه.. هي عندنا حق حملها الثقات بعضهم عن بعض، غير أنا لا نفسرها، وما أدركنا أحدا يفسرها [1] . فليت شعري.. ألا يسعنا اليوم ما وسع أمس أولئك السادة من أهل الحق، فنقف حيث وقفوا من أوصاف الله نفسه، وأخبار رسوله عنه، فلا نتجاوز سبيلهم إلى التأويل والتعطيل وما يقاربهما!..
وما الذي يحول بيننا وبين الإيمان بأن لربنا قدما وعينا وسمعا وبصرا وساقا وما إلى ذل مما ثبت من صفاته العُلى في كتابه وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم؟.. وفيم نفتح على أنفسنا أبواب التكلف فنصرفها عن وجوهها إلى المجازات والكنايات وما في سبيلهما؟
إذا كان الباعث على ذلك خوف الوقوع في التشبيه والتجسيم فقد كفنا الله ذلك الخطر بنفي مشابهته لخلقه في أي شيء، فنحن نؤمن بكل ما صح عنه وعن رسوله في صفاته مع كمال تنزيهه عن المشابهة.. فيده وقدمه وعينه مثلا كعلمه وقدرته وحكمته، نثبتها كلها على الوجه اللائق بكماله سبحانه.
فكما أن علمه لا يشبه علم الإنسان، وقدرتهُ وحكمتهُ لا مجال للمشابهة بينهما وبين هاتين الصفتين في مخلوقاته كذلك الأمر في القدم واليد والعين، لا تشبهها قدم، ولا تناظرها عين ولا تقاس بها يد..
ونحن نقرأ في كتاب الله وصفه لألوان النعيم في الجنة فلا نتصور أنها من النوع نفسه الذي نتمتع به في الدنيا، وإنما لكل من النعيمين مزيته المناسبة لبيئته..(13/420)
وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ليس في الجنة من أشياء الدنيا إلا الأسماء. فالاشتراك إذن بين النوعين إنما يقع في اللغة دون الماهية.. وكذلك صفاته تعالى أطلق عليها أسماء أشياء نعرفها، والفرق بين هذه وتلك هو فرق ما بين الفاني والباقي، والناقص والكامل، تعالى ربنا عما يقول المشبهون والمعطلون علوا كبيرا.
وأخيرا.. لنقف قليلا أمام بعض هذه الأحاديث التي هي مدار الحديث.
في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: "يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه، ويقول: أنا الملك، أنا الملك، أين ملوك الأرض؟! "وفي مسلم عن ابن عمر رضي الله عنه "أين الجبارون.. أين المتكبرون؟! ".
وقد ورد هذا الحديث بألفاظ أكثر تفصيلا وأشد تهويلا، كالذي رواه ابن منده وابن خزيمة وغيرهما من الأئمة عن ابن عمر رضي الله عنه، أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو يقول: "يأخذ الجبار سمواته وأرضه.. وقبض بيده وجعل يقبضها ويبسطها ويقول: أنا الرحمن، أنا القدوس، أنا السلام، أنا المؤمن، أنا العزيز، أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئا. أنا الذي أعيدها. أين الجبارون. أين المكبرون؟. ويصف ابن عمر رضي الله عنه رسول الله أثناء ذلك قائلا:
"ويتميل رسول الله على يمينه وعلى شماله حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إني أقول: أساقط هو برسول الله؟ !..".
ومعلوم أن أصل الحديث في قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (39/67) .
فها هنا يمين الله يمسك بها السموات والأرض.. قابضا باسطا مهددا منذرا، وقد أُخِذَ رسول الله بهول الموقف فهو يهتز يمنة ويسرة حتى ليخشى ابن عمر عليه السقوط..(13/421)
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود فقال: يا محمد إن الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيهزهن فيقول: أنا الملك أنا الملك..". يقول عبد الله رضي الله عنه: "فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الخبر، وقال: " {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ} " [2] .
فها هنا أيضا أصابع مضافة إلى الرحمن يسمع رسول الله ذكرها فلا ينكره، بل يقره ويؤيده بتلاوة الآية..
فأي هذه الآثار الثابتة يجرؤ على التردد في قبوله عاقل؟.. وأي معنى غير الحقيقة يستخلصه من خلالها لغوي؟! وهل ثمة من مجال للكناية أو المجازة في هذا العرض الذي يزلزلنا برهبته؟!
إن ربنا في هذه الأخبار القاطعة يمجد نفسه، وله المثل الأعلى، وهو الحقيق بكل تمجيد، فيذكر بعض صفاته المعنوية التي يتفق على الإيمان بها المسلمون قاطبة، فأي فرق بينها وبين قبضه السموات والأرض بيمينه، وهو من صفاته الذاتية؟! إن بعض صفاته الأولى مما يطلق أيضا على بعض خلقه، فيقال: فلان ملك وعزيز وجبار ومتكبر..
ولكننا جميعا متفقون على أنها في المخلوق غيرها للخالق سبحانه. فعلام نختلف في شأن اليمين _ والأصابع _ فنقول إنها على الحقيقة اللائقة بكماله تعالى دون تكييف ولا تحريف، ويقول الآخرون إنها وإنها وإنها، حتى ليكادون ينتهون بها إلى غير شيء!.. ثم يكون حصيلة ذلك الرفض لحقيقة الصفات أن ينجرَّ أصحابه إلى تأويل كل صفة ذاتية لربهم ثبتت له في القرآن أو السنة الصحيحة، كما فعل المعتزلة بتأويل معظم صفات الله، حتى أوشكوا أن يشركوا النصارى في وصف ربهم بأنه "محبة".. أي أنه معنى لا ذات له!..(13/422)
أليس خيرا وأسلم للمسلم أن يقف مع الأولين الأفضلين من سلف هذه الأمة يإزاء هذه الأمور فلا يلقى بنفسه في المتاهات التي سلكها المتأخرون من المتفلسفة والمتكلمين!!.
ألسنا قد أثبتنا لربنا ذاتا لا كالذوات فما المانع من إثبات صفات لا كصفات المحدثات؟!.
يقول سفيان بن عيينة رحمه الله: "كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته والسكوتُ عنه. ليس لأحد أن يفسره إلا الله ورسوله [3] .
وهذا ما ندين الله به فنثبت له سبحانه ما أثبت لنفسه، ونقول ما قاله أهل الحق، من أن المراد باليدين إثبات صفتين ذاتيتين تسميان يدين [4] .
ومثل ذلك نقوله في القدم والساق والأصابع والكف والعين والسمع والبصر، ولا نتجاوزه إلى ما ليس لنا به من علم، ورحم الله مالكا الذي أدرك خطر هذا المنزلق فجاء بالفصل الحاسم في قوله لسائله: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول.."ومثل ذلك روي عن أم سلمة رضي الله عنها وفيه: "والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".
وأخيرا إن القيمة التي توزن بها كلمات الأخ الطنطاوي هي التي حفزت إلى كتابة هذا التعقيب. وهو قد أعلن رأيه لعشرات الآلاف من مستمعيه، فلا أقل من أن يقرأ هذه الكلمات بعض هؤلاء المستمعين، ليستيقنوا أن هناك أفهاما أخرى تنظر إلى الموضوع من غير الزاوية التي أطل منها.
ولا حاجة للاعتذار إلى فضيلته، فأنا وإياه على سواء في إيثار الحق على أي اعتبار آخر إن شاء الله.
والحمد الله ملهم الصواب.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] مجموع الفتاوى ج5 ص50_51 ط 1_الرياض_
[2] انظر (لوامع الأنوار..) للسفاريني ج1 ص99 و231.
[3] انظر (لوامع الأنوار..) للسفاريني ج1 ص99 و231.
[4] المصدر نفسه.(13/423)
تنبيه.. وتحذير..
لفضيلة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري
الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. وبعد فقد رأيت في جريدة الرياض في الصفحة الرابعة من العدد 3408 الصادر في يوم الأربعاء 8 شعبان 1396هـ تحت عنوان "مجنون يحكي وعاقل يفهم"وقد سمى الكاتب نفسه إبراهيم ولم يزد على ذلك. رأيت فيه ما نصه "أم ترى فرنجية يمسك بعصا موسى السحرية"انتهى المقصود من كلامه. وأحب أن أنبه الكاتب خاصة وغيره من قراء الجريدة عامة إلى أن عصا موسى ليست بسحرية وإنما هي آية من آيات الله الكبرى وبرهان من الله تعالى على صدق نبيه موسى عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى في سورة طه: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى. قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى. قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى. فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى. قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى. وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى. لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} وقال تعالى في سورة النازعات: {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى. فَكَذَّبَ وَعَصَى} وقال تعالى في سورة النمل: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ. إِلا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} وقال تعالى في سورة القصص: {وَأَنْ أَلْقِ(13/424)
عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ. اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} .
فالله تبارك وتعالى جعل عصا موسى حية عظيمة تسعى حين ألقاها موسى من يده. ثم أعادها الله تبارك وتعالى إلى حالتها الأولى عصا حين أخذها موسى في يده والله على كل شيء قدير. وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . وليست عصا موسى من قبيل السحر. والقول بأنها سحرية هو قول فرعون وملئه. قال الله تعالى في سورة الشعراء حاكيا قصة موسى معهم: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ. قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ. قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} وقال تعالى في سورة الأعراف: {قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ. وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ. قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} وقال تعالى في سورة النمل: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ(13/425)
كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} وقال تعالى في سورة يونس: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} وقال تعالى في سورة طه: {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} الآية. وقال تعالى في سورة القصص: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} وقال تعالى في سورة الأعراف: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} .
والقول بأن عصا موسى سحرية كفر بإجماع أهل العلم لما فيه من تكذيب ما أخبر الله به عنها في سورة طه أنها صارت حية تسعى. وما أخبر به عنها في سورة الأعراف والشعراء أنها صارت ثعبانا مبينا.
قال القاضي عياض في كتابه الشفاء: "اعلم أن من استخف بالقرآن والمصحف أو بشيء منه أو سبهما أو جحده أو حرفا منه أو آية أو كذب به أو بشيء مما صرح به فيه من حكم أو خبر أو أثبت ما نفاه أو نفى ما أثبته على علم منه بذلك أو شك في شيء من ذلك فهو كافر عند أهل العلم بإجماع". انتهى. فقد صرح بتكفير من كذب بشيء مما صرح به في القرآن من حكم أو خبر أو أثبت ما نفاه أو نفى ما أثبته أو شك في شيء من ذلك وأن ذلك إجماع أهل العلم. فلينتبه الكاتب وغيره لما ذكره القاضي عياض لئلا يقع أحد منهم في الكفر وهو لا يشعر. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
22/8/1396هـ.
حمود بن عبد الله التويجري.(13/426)
الشعر في ضوء الشريعة الإسلامية
بحث كتبه الشيخ محمد عبد الرحمن شميلة الأهدل
الطالب بقسم الدراسات العليا _ شعبة السنة بالجامعة الإسلامية
فهرس البحث
1_خطبة الكتاب.
2_تعريف الشعر.
3_مكانة الشعر العربي.
4_ما ورد في تفسير آيات الشعراء.
5_أضواء على الآيات وفوائد.
6_القرآن الكريم وسر إعجازه.
7_الأحاديث أن من البيان.
8_نبذة من شعر حسان له صلى الله عليه وسلم.
9_استنشاده واستماعه وما تمثل به منه وبيان أنه بمنزلة الكلام.
10_كراهة الشعر لمن غلب عليه.
الحمد الله الذي كرَّم الإنسان. وعلمه البيان فله سبحانه وتعالى جزيل الشكر وعظيم الامتنان، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها الفوز في يوم التناد، وأدخرها سلم نجاةٍ في يوم المعاد، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله أفصح من نطق بالضاد، الذي بين للأمة سبل الهدى والرشاد. فصلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه نجوم الاهتداء ومن قفا إثرهم وترسم خطاهم..
وبعد.. فهذا بحث أقدمه بين أيدي القراء الكرام وموضوعه "الشعر في ضوء الشريعة الإسلامية"ولقد اخترت هذا الموضوع بالذات لما يلي:
طالما سمعت من يردد قول الله عز وجل: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} ويقف بعضهم عند هذه الآية مدللا على أن القرآن ذم الشعراء وشعرهم فيكون بتعميمه هذا مخطئا وكأنه لم ينتبه للاستثناء الوارد بعد هذه الآيات ولم يعرف من هو المقصود بالذم.
لذا اخترت الكتابة في هذا الموضوع بالرغم من قصر باعي وكثرة أشغالي وبالله الإعانة، والأهم في هذه الرسالة هو جمع جملة من الأحاديث الواردة في الشعر وتخريجها وشرحها بمقتطفات من أقوال أهل العلم.(13/427)
تعريف الشعر:
الشعر في اللغة واحد الأشعار، قال الراغب: هو في الأصل اسم للعلم الدقيق في قولهم ليت شعري. وسمى الشاعر شاعراً لفطنته ودقة معرفته" [1] .
وفي اصطلاح الأدباء هو كما قال ابن خلدون [2] : "الكلام الموزون المقفى، ومعناه الذي تتكون أوزانه كلها على روي واحد وهو القافية". قال: "وأساليب الشعر تناسبها اللوذعية وخلط الجد بالهزل والإطناب في الأوصاف وضرب الأمثال وكثرة التشبيهات والاستعارات".
قلت: ومن هنا نعرف الفرق بين الشعر والنثر حيث أن الأول يعتمد على الوزن والقافية ويكسو المعاني من جمال التشبيه وحسن الاستعارة وبراعة الكناية وضروب المجاز حللا خيالية بخلاف الثاني. والغرض المقصود من توحيد الوزن والقافية الحفاظ على جرس اللفظ لسلاسته في النطق وخفته على السمع والارتياح لقبوله.
وربما أطلق العرب الشعر على النثر المسجوع المشتمل على الخيال المؤثر المسجوع المشتمل على الخيال المؤثر في الوجدان، ومنه ما ورد أن حسان بن ثابت رضي الله عنه سمع ابنه يصف زنبورا لسعه بقوله: "كأنه ملتفٌ في يزدي حبره"فقال له: "شعر ورب الكعبة".
والشعر عند العرب صفة قديمة لهم ولا يمكن تحديد بدء ظهوره فإنه ما سمع في التاريخ القديم إلا وهو محكم مقصّد وإن كان تهذب أسلوبه وتشعبت مناحيه وتطور فنه حينما اختلفت العُصُر وبدت الحوادث ورقي بني الإنسان في عالم المادة.
قال الأديب الكبير أحمد حسن الزيات ومما يدل على أن الشعر قديم العهد قول امرئ القيس:
عودا على الطلل القديم لعلنا
نبكي الديار كما بكى ابن حزام
وقول عنترة:
هل غادر الشعراء من متردّم.
وقول زهير:
ما أرانا نقول إلا معارا
أو معارا من قولنا مكرورا [3]
مكانة الشعر العربي(13/428)
مما لا شك فيه أن كثيرا من الشعر العربي له اليد الطولى في المساهمة في تفسير كثير من ألفاظ الشريعة الواردة في الأصلين العظيمين والمصدرين الكريمين الكتاب والسنة إذ بواسطة الشواهد والأدلة من الأدب العربي نستعين على فهم كتاب الله الكريم وسنة صاحب الخُلق العظيم.
وبواسطته بحث علماء اللسان الأساليب المختلفة والتراكيب المتنوعة في الشعر العربي فأرسوا قواعدهم وأصلوا أصولهم مستقين من معينه ومستضيئين بنور مصباحه.
قال الأستاذ محمد أمين حنفي في موضوع الأدب الإسلامي مستعرضا الأسباب التي اقتضت محافظة المسلمين على الأدب الجاهلي ما نصه: "والذي يعن لي في تمسك المسلمين بالأدب الجاهلي عدة أسباب، فالسبب الأول هو حاجة مفسري القرآن الكريم إلى شواهد الأدلة من كلام العرب القديم على صحة التفسير والفهم لكلام رب العالمين، والسبب الثاني هو بحث النحاة واللغويين في عصر التدوين ووضع قواعد اللغة العربية عن الشعر الجاهلي وعن كل كلام عربي قديم وإحيائهم وتسجيلهم لكل ما نقوله أو سمعوه من أجل استنباط القواعد ومعرفة معاني الكلمات.
والسبب الثالث هو اقتداء الشعراء بالشعر الجاهلي وروايتهم له وتقليدهم إياه لأنه كان هو المقياس للقيمة الأدبية لدى النقاد والعلماء في ذلك الوقت.(13/429)
ويضاف إلى ذلك سبب رابع هو ظهور الصراع الشعوبي بين العرب وغيرهم من بعض الأعاجم مما دفع العرب والمسلمين المخلصين إلى التمسك بالتراث العربي وبلغة القرآن والدفاع عنه والتعصب له والتنديد بالشعراء الذين يخرجون على عمود الشعر الجاهلي ولذلك كان للشعر العربي الجاهلي مكانته في النفوس وقيمته لدى العلماء والأدباء مما جعله يحتفظ بعموده وأساليبه ومعانيه دون أن يجرؤ أحد على النيل من مكانته أو قيمته وإن كان يحوي كثيرا مما لا يرضى به الإسلام كالغزل بنوعيه والتشبيب والنسيب والهجاء، وإعلان الفجور والمجون ووصف مجالس اللهو والشراب وما إلى ذلك من الأمور المنكرة" [4] .
قلت ومما لا يجهله كل الناس أن الشعر له الأثر الطيب في إعانة طلاب العلم وحملة الشريعة على جمع ما تفرق ونظم ما تشتت من العلوم والفوائد بل وسائر الفنون فإنه ما من فن من فنون القرآن والحديث وعلوم اللغة إلا وقد نظمت فيه المناظيم وقيلت فيه الأشعار فسهل حفظها على الصغار والكبار وللوسائل حكم المقاصد كما هو معروف.
وأنا لست من المتعصبين للشعراء ولا المبررين لزلات الشعر وهفوات شعرائه ولكني أقول إنه أداة من أدوات الفنون قابل للخير والشر حسنه حسن وقبيحه قبيح كسائر الكلام بيد أن الأشعار الجاهلية والقصائد الأولية التي قيلت في زمن الاحتجاج بأهلها لها الفوائد القيمة التي أشرنا إليها حتى وإن كانت هجوا مقذعا أو غزلا مكشوفا أعني من حيث أنه أسلوب عربي فما يمنعنا والحالة هذه أن نجني من ثمار أشجاره ما طاب ونترك منها ما خبث من توجيه غير حسن أو دعوة إلى غير القيم المثلى، أو افتخار بنزعة من نزعات الجاهلية الأولى. ولذا يقول ابن قتيبة في مقدمة كتابه الشعر والشعراء ما نصه:(13/430)
"وكان أكثر قصدي للمشهورين من الشعراء الذين يعرفهم جل أهل الأدب والدين يقع الاحتجاج بأشعارهم في الغريب وفي النحو وفي كتاب الله عز وجل وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم" [5] .
قلت: والمتتبع لعلماء السلف والخلف يجد أن أكثرهم قد أدلى بدلوه في هذا المضمار ونظم جيد الأشعار ولكنهم يتفاوتون في القلة والكثرة وإنما اتصف بعضهم بالشاعر أو الأديب لكونه صار ديدنه والظاهرة التي تغلب عليه أو لنبوغه فيه وتفوقه على أقرانه يدل على ما ذكرناه ما سجله ابن قتيبة في كتابه الشعر والشعراء حيث يقول: "قَلَّ أحد له أدنى ملكة من أدب وله أدنى حظ من طبع إلا وقد قال من الشعر شيئا ولو أردنا أن ندوِّن في كتابنا هذا كل شاعر لذكرنا أكثر الناس ولاحتجنا أن نذكر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلة التابعين وقوما كثيرا من حملة العلم ومن الخلفاء والأشراف ونجعلهم في طبقات الشعراء".
إذا فللشعر قيمته وللشعراء رتبهم العالية لأنهم حفظوا لسان العرب وغاصوا على مكونات مخدراته حتى أن بعضهم قيل فيه لولا فلان لضاع ثلث اللغة وناهيك بهذه المفخرة، قال عبد الرحمن البرقوقي في مقدمته لشرح التلخيص ما لفظه: "وهل بلغ أئمة الدين هذه المنزلة بفهم أغراض القرآن ومعرفة أسرار الشريعة إلا بعد أن قبضوا على خرائم الأدب وألقيت إليهم مقاليد اللغة ألم يكن مما نجم عند تعدد الآراء بينهم أن كان أحدهم يروي من كلام العرب ما يروي الآخر غيره" [6] .
هذا لفظ القرء مثلا ذهب مالك رحمه الله إلى أنه الطهر وحجته في ذلك قول الأعشى.
أفي كل عام أنت جاشم غزوة
تشد لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة مالا وفي الحي رفعة
لما ضاع فيها من قروء نسائكا
وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنه الحَيض ومستنده قول الآخر:
يا رب ذي ضغن على قارض
يرى له قرء كقرء الحائض(13/431)
قال ومثل هذا كثير لا يكاد يحصيه الاستقصاء حتى لقد اختصه العلماء بالتآليف وأفردوه بالكتاب.
ثم ذكر قصة معزوة إلى الفاروق رضي الله عنه وخلاصتها أن عمر تلا قول الله سبحانه وتعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ} [7] فقال للصحابة ما تقولون فيها فنهض أعرابي وقال هذه لغتنا التخوف التنقص وأنشد قول أبي كبير يصف ناقته:
تخوف الرحل منا تامكا قردا
كما تخوف عود النبعة السفن [8]
فقال عمر رضي الله عنه: "عليكم بديوان العرب فإن فيه تفسير كتابكم". قلت وقد روي عن عمر بن الخطاب أيضا أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: "مر من قبلك بتعلم الشعر فإنه يدل على معالي الأخلاق وصواب الرأي ومعرفة الأنساب". قال شيخنا محمد المجذوب في تعليقه على هذا الأثر: "ولعله رضي الله عنه راعى ما فيه من تسجيل عاداتهم وأخلاقهم وتاريخ وقائعهم وأيامهم وما أودعوه من معادن حكمتهم وكنوز آدابهم" [9] .
وما قال شيخنا يضاف إلى ما سبق من أنه مفسر لكثير من ألفاظ القرآن وغريب الحديث ويقع به الاحتجاج في النحو وغيره من علوم اللسان كما سبق النقل عن ابن قتيبة والله أعلم.
ما ورد في تفسير آيات الشعراء قال الله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ. إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} .
القراءة:(13/432)
{وَالشُّعَرَاءُ} قرأ الجمهور بالرفع على أنه مبتدأ وخبره ما بعده. وقرأ عيسى بن عمر {الشُّعَرَاءَ} بالنصب على الاشتغال، وقرأ نافع {يَتْبَعُهُم} بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد. وقرأ ابن عباس والحسن: أي منفلتٍ ينفلتون بالفاء مكان القاف والتاء مكان الباء من الانفلات بالنون والفاء الفوقية. وقرأ الباقون بالقاف والباء من الانقلاب بالنون والقاف والموحدة والمعنى على قراءة ابن عباس والحسن: أن الظالمين يطمعون في الانفلات من عذاب الله والانفكاك منه ولا يقدرون على ذلك [10] .
عن عكرمة عن ابن عباس: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} فنسخ من ذلك واستثنى فقال: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا} إلى قوله: {يَنْقَلِبُونَ} .
أخرجه أبو داود في الأدب والبخاري في الأدب المفرد.
المفردات
الشعراء: جمع شاعر كجاهل وجهلاء وعالم وعلماء والغاوون: جمع غاوٍ وهو الضال. يهيمون: يقال هام يهيم هيما وهيمانا إذا ذهب على وجهه.
سبب النزول
قال السيوطي:
"أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال: "تهاجى رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما من الأنصار والآخر من قوم آخرين وكان من كل واحد منهما غواة من قومه وهم السفهاء فأنزل الله {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} الآيات"قال: وأخرج ابن أبي حاتم نحوه [11] "(13/433)
قال ابن كثير: "وأخرج ابن أبي حاتم قال حدثنا أبي حدثنا أبو مسلم حدثنا حماد ابن سلمة عن هشام بن عروة عن عروة قال: لما نزلت {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} إلى قوله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله قد علم الله أني منهم فأنزل الله تعالى: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية". ثم قال: "ولكن هذه السورة مكية فكيف يكون سبب نزول هذه الآيات شعراء الأنصار وفي ذلك نظر ولم يتقدم إلا مرسلات لا يعتمد عليها والله أعلم" [12] .
معنى الآيات الكريمات
قال الشوكاني: "قوله عز وجل: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} المعنى أن الشعراء يتبعهم أي يجاريهم ويسلك مسلكهم ويكون من جملتهم الغاوون أي الضالون عن الحق ثم بين سبحانه قبائح شعراء الباطل فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} . والجملة مفسرة لما قبلها والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية. أي ألم تر أنهم في كل فن من فنون الكذب يخوضون وفي كل شعب من شعاب الزور يتكلمون فتارة يمزقون الأعراض بالهجاء وتارة يأتون من المجون بكل ما يمجه السمع ويستقبحه العقل وتارة يخوضون بحر السفاهة والوقاحة ويذمون الحق ويمدحون الباطل ويرغبون في فعل المحرمات ويدعون الناس إلى فعل المنكرات كما تسمعه في أشعارهم من مدح الخمر والزنا واللواط ونحو هذه الرذائل الملعونة ثم قال سبحانه: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} أي يقولون فَعَلْنَا وفَعَلْنَا وهم كذبة في ذلك فقد يدلون بكلامهم على الخير ولا يفعلونه وقد ينسبون إلى أنفسهم من أفعال الشر ما لا يقدرون على فعله كما تجده في كثير من أشعارهم من الدعاوى الكاذبة والزور الخالص المتضمن لقذف المحصنات وأنهم فعلوا بهن كذا وكذا وذلك كذب محض وافتراء بحت.(13/434)
ثم استثنى سبحانه الشعراء المؤمنين الصالحين الذين أغلب أحوالهم تحري الحق والصدق فقال: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي دخلوا في حزب المؤمنين وعملوا بأعمالهم الصالحة. {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} في أشعارهم. {وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} كمن يهجو منهم من هجاه أو ينتصر لعالم أو فاضل كما كان يقع من شعراء النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا يهجون من يهجوه ويحامون عنه ويذبون عن عرضه ويكافحون شعراء المشركين وينافحونهم ويدخل في هذا من انتصر بشعره لأهل السنة وكافح أهل البدعة وزيف ما يقول شعراؤهم من مدح بدعتهم وهجو السنة المطهرة كما يقع ذلك كثيرا من شعراء الرافضة ونحوهم فإن الانتصار للحق بالشعر وتزييف الباطل به من أعظم المجاهدة وفاعله من المجاهدين في سبيل الله المنتصرين لدينه القائمين بما أمر الله بالقيام به وتصرف [13] .
وقال الزمخشري: "استثنى الشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله وتلاوة القرآن وكان ذلك أغلب عليهم من الشعر وإذا قالوا شعرا قالوه في توحيد الله والثناء عليه والحكمة والموعظة والزهد والآداب الحقة ومدح رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة وصلحاء الأمة وما لا بأس به من المعاني التي لا يتلطخون فيها بذنب ولا يتلبسون بشائنة منقصة وكان هجاؤهم على سبيل الانتصار ممن يهجوهم" [14] .
أضواء على الآيات وفوائد تتعلق بها(13/435)
إذا أنعمنا النظر في هذه الآيات الكريمة وما تضمنه سياقها المحكم نجد أنها قسمت الشعراء قسمين ووضعتهم طبقتين الأول قسم غاوون، مائلون عن الطريق السوي، والمنهج الأدبي لأنهم لا ينطقون بالحق، ولا يتكلمون بالعدل فتراهم في كل واد يهيمون، وفي شعاب الكذب والزور يتيهون، لا يَزِنُونَ الكلام إلا بميزان الهوى، ومعيار الغواية، فهؤلاء هم المذمُومون وعن طريق الحق متنكبون وعلى جياد الضلالة راكبون، إن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون.
القسم الثاني: فريق آمنوا بربهم واهتدوا بنور نبيهم عليه الصلاة والسلام فسابقوا إلى الأعمال الصالحات، وأخلصوا لله النيات ووزنوا أشعارهم بميزان الشريعة فهم لا يهجون إلا من هجاهم ولا يمدحون إلا من يستحقه لغنائه في الإسلام أو يذبُّون عن حياض الدين وينافحون عن شريعة سيد المرسلين أو يجمعون العلوم الشرعية النافعة وينظمونها لتحصل من ذلك الفائدة ويسهل تناولها على الآخذين ويحفظها الطلاب فهؤلاء ونحوهم ممن يخرج من عموم لفظ {وَالشُّعَرَاءُ} ويدخل في فريق المستثنى، وعلى هذين تتنزل الأحاديث الواردة في ذم الشعر تارة ومدحه أخرى.
قال المناوي رحمه الله: "وقد انعقد الإجماع على حِلِّ قول الشعر إذا قلّ وخلا عن هجوٍ وكذب وإغراق في مدح وتغزل فيما لا يحل" [15] .
فوائد:
الفائدة الأولى: وصف الله الشعراء بأنهم يقولون ما لا يفعلون فاختلف العلماء فيما إذا أقرَّ الشاعر في شعره بارتكاب حدٍ من حدود الله فهل يقام عليه الحد بحسب إقراره أم لا؟. لأن الله عز وجل قد وصفهم بأنهم يقولون ما لا يفعلون ولأنه يكثر الباطل في أشعارهم: قولان لأهل العلم.
قال بعضهم يقام عليه الحد لأنه مكلَّف أقرَّ بجريمة ارتكبها فلا سبيل إلى تركه والإقرار تثبت به الحدود.(13/436)
وقالت طائفة أخرى إنه لا يقام عليه الحد إن أقرَّ بموجبه في الشعر. قالوا لأن كذب الشاعر في شعره أمر معروف معتاد واقع لا نزاع فيه.
قال شيخنا محمد الأمين الشنقيطي: [16] "أظهر القولين عندي أن الشاعر إذا أقرَّ في شعره بما يستوجب الحد لا يقام عليه الحد لأن الله جل وعلا صرح هنا بكذبهم في شعرهم في قوله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} فهذه الآية الكريمة تدرأ عنهم الحد ولكن الأظهر أنه إن أقرَّ بذلك استوجب بإقراره به الملام والتأديب وإن كان لا يحد به".
واستأنس شيخنا لما ذهب إليه بما روى ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة حيث قال: "وذكر محمد بن إسحاق ومحمد بن سعد في الطبقات والزبير بن بكار في كتاب الفكاهة أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان من أرض البصرة وكان يقول الشعر فقال:
ألا هل أتي الحسناء أن حليلها
بميسان يسقى في زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قرية
ورقاصة تحذو على كل منسم
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني
ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوؤه
تنادمنا بالجوسق المتهدم
قال: فلما بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إي والله إنه ليسوءني ذلك ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته. وكتب إليه عمر: بسم الله الرحمن الرحيم {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} . أما بعد فلقد بلغني قولك:
لعل أمير المؤمنين يسوؤه
تنادمنا بالجوسق المتهدم(13/437)
وأيم الله إنه ليسوؤني وقد عزلتك. فلما قدم على عمر بكته بهذا الشعر. فقال: والله يا أمير المؤمنين ما شربتها قط وما ذلك الشعر إلا شيء طفح على لساني. فقال عمر: أظن ذلك ولكن والله لا تعمل لي عملا أبدا وقد قلت ما قلت".
قال شيخنا: "فلم يذكر أنه حده على شراب وقد ضمنه شعره لأنهم يقولون ما لا يفعلون ولكنه ذمه عمر ولامه على ذلك وعزله به". قلت: وقد احتج الفرزدق بهذه الآية الكريمة عند الخليفة سليمان بن عبد الملك حينما سمع قوله:
فبتن بجانبيّ مصرعات
وبت أفض أغلاق الختام
فقال سليمان: قد وجب عليك الحد. فقال: يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحد بقوله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [17] . قال كاتبه غفر الله له: الظاهر أنه لا يقام عليه الحد لما سبق ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" [18] . فيكون تعلق الشاعر المقر بموجب الحد بهذه الآية الكريمة من أقوى الشبه الدارئة للحد عنه والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفائدة الثانية:
قال ابن العربي: "أما الاستعارات والتشبيهات فمأذون فيها وإن استغرقت الحد وتجاوزت المعتاد فبذلك يقرب الملك الموكل بالرؤيا المثل وقد أنشد كعب بن زهير النبي صلى الله عليه وسلم.
بانت سعاد فقلبي اليوم مبتول
متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا
إلا أغن غضيض الطرف مكحول
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت
كأنه منهل بالراح معلول
فجاء في هذه القصيدة من الاستعارات والتشبيهات بكل بديع والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ولا ينكر عليه حتى في تشبيه ريقها الراح.
وقد كانت حرمت قبل إنشاده لهذه القصيدة ولكن تحريمها لم يمنع عندهم طيبها بل تركوها على الرغبة فيها والاستحسان لها فكان ذلك أعظم لأجورهم" [19] .
الفائدة الثالثة:(13/438)
قال الحافظ ابن حجر: "وأما الشعر فكان نظمه محرما على الرسول عليه الصلاة والسلام باتفاق. قال الله عز وجل: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [20] .
قال: لكن فرَّق البيهقي وغيره بين الرجز وغيره من البحور فقالوا يجوز له الرجز دون غيره وفيه نظر فإن الأكثر على أن الرجز ضرب من الشعر وإنما ادعى أنه ليس بشعر الأخفش وأنكره ابن قطان وغيره وإنما جرى البيهقي ذلك لثبوت قوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين:"أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب". فإنه من بحور الرجز ولا جائز أن يكون مما تمثل به - كما سيأتي - لأن غيره لا يقول أنا النبي، ويزيل عنه الإشكال أحد أمرين: إما أنه لم يقصد الشعر فخرج موزونا وقد ادعى ابن القطاع وأقره النووي الإجماع على أن شرط تسمية الكلام شعرا أن يقصد له قائله وعلى ذلك يحمل ما ورد في القرآن والسنة. وإما أن يكون القائل الأول قال أنت النبي لا كذب، فلما تمثل به النبي صلى الله عليه وسلم غيره والأول أولى. هذا كله في إنشائه ويتأيد ما ذهب إليه البيهقي بما أخرجه ابن سعد بسند صحيح عن معمر عن الزهري قال لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من الشعر قيل قبله أو يروى عن غيره إلا هنا. وهذا يعارض ما في الصحيح عن الزهري أيضا لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات زاد ابن عائذ من وجه آخر عن الزهري إلا الأبيات التي كان يرتجز بهن وهو ينقل اللبن لبناء المسجد وأما إنشاده متمثلا فجائز يدل عليه حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أبالي شربت ترياقا أو تعلقت بتميمة أو قلت الشعر من قبل نفسي" أخرجه أبو داود وغيره.
فقوله: "من قبل نفسي" احترازا عما إذا أنشده متمثلا فقد وقع منه ذلك كما ثبت في الأحاديث الصحيحة".(13/439)
إذا علمت هذا عرفت أن الرسول الأمين لم يكن من أولئك الذين يقولون القصائد أو يجتذبهم حفظ الشعر ولا من الذين يتتبعون مواقعه ويغرمون بنغماته وتواقيعه.
كان الرسول الكريم ذلكم النبي الأمي بعيدا كل البعد عن مثل هذه الأمور لأنه مهيأ لسماع النغمات القدسية والألفاظ الربانية لسماع الوحي المعظم.
لذا لم يكن شاعرا وما ينبغي له. إذ رتبته التي هيئ لها أسمى المراتب على الإطلاق ومنزلته أعلى المنازل بالاتفاق.
القرآن الكريم وسر إعجازه
جرت العادة الإلهية في خلقه أن يبعث إلى كل أمة نبيا مؤيدا بمعجزة خارقة من جنس ما فاقت به تلك الأمة وامتازت به على غيرها من الأمم.
وحين ولد الهدى وآن لديجور الجاهلية أن ينجلي وحان لنور الإسلام أن ينبثق في قلب الجزيرة العربية مطاردا ظلمات الغواية. بعث الله تعالى نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام في أمة امتازت بالبيان حيث مدت عليهم الفصاحة ظلها وأهدتهم بنات البلاغة حليها فكانوا ينبوع الفصاحة ودوحة البلاغة وكان جهابذة الفصحاء منهم أهل المكانة مرموقة ورتب مرفوعة.
فأيد الله نبيه وخليله بمعجزة القرآن فما إن تلاه عليهم ذلك النبي الأمي وطرقت آذانهم آياته وسوره حتى وقفوا مع فصاحتهم أمامه ذاهلين وأيقنوا أن البشر لا يقوون على النسيج على منواله ولا الإبداع على مثاله، هز قلوب بلغائهم نظمه ولم تقو فرسان البيان على مسابقته.
هناك وقف العباقرة أمامه حائرين لأنه من كلام العلي القدير كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير.
جاء القرآن بألفاظ عربية وتراكيب معهودة لدى المخاطبين فجاراهم في أساليبهم وخاطبهم بجنس ما يتخاطبون به بيد أن الذي استرعى انتباههم واستولى على مشاعرهم حتى أدرك الكثير منهم أنه ليس بقول الشعراء ولا سجع الكهناء وإن كان قد قالها بعضهم على سبيل العناد والمكابرة الذي استرعى انتباههم أمور نلخصها فيما يلي:(13/440)
أولا: تفرده بسمو التركيب وعلو الطريقة فتراكيبه أعلا التراكيب وأرفعها وطريقته هي الوحيدة في سموها وقوتها.
ثانيا: امتيازه بالدقة البالغة في اختيار اللفظ لموقعه الذي أريد له والروعة المعجزة في اختياره إلى غير ذلك من أسرار الإعجاز وحسبك أنه قد ألف فيه المؤلفات قديما وحديثا.
أن من البيان لسحرا وأن من الشعر لحكمة والأمر بهجاء المشركين
الحديث الأول:
عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان سحرا" [21] .
معنى الحديث: إن بعض البيان يكشف الحقيقة ويوضح المشكل فيستميل القلوب ويجذبها كما يستمال بالسحر.
وهذا الحديث قاله عليه الصلاة والسلام حين قدم وفد تميم وفيه الزبرقان وعمرو ابن الأهتم فخطبا ببلاغة وفصاحة ثم فخر الزبرقان فقال: يا رسول الله أنا سيد بني تميم والمطاع فيهم والمجاب لديهم أمنعهم من الظلم وآخذ لهم بحقوقهم وهذا يعلم ذلك. فقال عمرو: إنه لشديد العارضة مانع لجانبه مطاع في أذنيه. فقال الزبرقان: والله لقد علم مني أكثر مما قال ما منعه أن يتكلم إلا الحسد. فقال عمرو: أنا أحسدك والله إنك للئيم الخال حديث المال ضيق العطن أحمق الولد والله.
يا رسول الله لقد صدقت فيما قلت أولا وما كذبت فيما قلت ثانيا، ولكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما علمت وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت ولقد صدقت في الأولى والأخرى جميعا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحرا".
قال الميداني: "هذا المثال في استحسان النطق وإيراد الحجة البالغة" [22] .
الحديث الثاني:
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان سحرا وإن من الشعر حكما" وفي رواية: "إن من الشعر لحكمة" [23] .(13/441)
والمعنى أنه ليس كل شعر غواية بل منه ما يتضمن إقامة الحق والحث على الخير، كانت العرب تطلق اسم الحكمة على قوة جامعة لرزانة العقل والرأي وشرافة الخلق ومن هذا سموا الرجل العاقل المهذب حكيما. وكذا يطلقونها على فصل الخطاب وهو القول الواضح عند العقل والقلب والحكم والفضاء حقا كان أو باطلا قال تعالى: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} . {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُون} قال النووي في تعريف الحكمة: "فيها أقوال مضطربة وقد صفا لنا منها أن الحكمة عبارة عن العلم المتصف بالأحكام المشتمل على المعرفة بالله تعالى بنفاذ البصيرة وتهذيب النفس وتحقيق الحق والعمل به والصبر عن الهوى والباطل وقد اتفق العلماء على مدح الإيجاز والإتيان بالمعاني الكثيرة بالألفاظ اليسيرة وعلى مدح الإطناب في مقام الخطابة بحسب المقام. نعم الإفراط في كل شيء مذموم وخير الأمور أوسطها" [24] .
الحديث الثالث:
عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت: "اهجهم وهاجهم وجبريل معك" متفق عليه. وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سمع حسان بن ثابت الأنصاري يستشهد أبا هريرة: أنشدك الله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يا حسان أجب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم أيده بروح القدس؟ ". قال أبو هريرة: نعم". أخرجه مسلم. وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم". أخرجه أبو داود.
عن كعب بن مالك حين أنزل الله تبارك وتعالى في الشعر ما أنزل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله تبارك وتعالى قد أنزل في الشعر ما قد علمت وكيف ترى فيه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه". أخرجه أحمد.
وفي رواية له: "والذي نفسي بيده لكأنما تنضحونهم بالنبل فيما تقولون لهم من الشعر".(13/442)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "استأذن حسان بن ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجاء المشركين فقال رسول صلى الله عليه وسلم: "فكيف بنسبي فقال لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين"متفق عليه. وعن هشام عن أبيه قال: "ذهبت أسب حسان عند عائشة فقالت: لا تسبه فإنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم". أخرجه الإسماعيلي.
في هذه الأحاديث جواز الشعر بل استحبابه إذا كان هادفا إلى صالح الإسلام وتدعيم الدعوة الإسلامية ورفع صرحها ونقض مباني الشرك وعبادة الأوثان.
دخل حسان بن ثابت رضي الله عنه في الإسلام حتى إذا أخذ شعراء قريش في هجاء الرسول وصحبه من المسلمين انبرى لهم بلاذع هجائه وكان رسول الله يحثه على ذلك ويدعو له بمثل: "اللهم أيده بروح القدس".
ولما قال له الرسول: "كيف بنسبي؟ " قال له: "لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين". فكان يهجوهم بأفعالهم وبما يختص عاره بهم.
واستمع الرسول إلى بعض هجائه لهم فقال: "لهذا أشد عليهم من وقع النبل".
وفي حديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أمرت عبد الله بن رواحة بهجاء قريش فقال وأحسن وأمرت كعب بن مالك فقال وأحسن وأمرت حسان بن ثابت فشفى وأشفى".
وما ذلك إلا أنه لم يكن يهجو قريشا بالكفر وعبادة الأوثان إنما كان يهجوهم بالأيام التي هزموا فيها ويعيرهم بالمثالب وهذا طبيعي لأنهم كانوا مشركين فعلا فلو هجاهم بالكفر والشرك ما بلغ منهم مبلغا. وبحق سمى حسان شاعر الإسلام وشاعر ورسوله الكريم فقد عاش يناضل عنه أعداءه من قريش واليهود ومشركي العرب راميا لهم جميعا بسهام مصمية.
نبذة عن شعر حسان
قدم على الرسول وفد بني تميم فقال حسان يرد على شاعر هذا الوفد الزبرقان بن بدر مادحا للمهاجرين مدحا رائعا يقول في تضاعيفه:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم
قد بينوا سنة للناس تتبع
يرضى بها كل من كانت سريرته(13/443)
تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
إن كان في الناس سباقون بعدهم
فكل سبق لأدني سبقهم تبع
أهدى لهم مدَحي قلب يؤازره
فيما أراد لسان حائك صنع
وورد أنه كان ينشد الرسول شعره في المسجد.
ومن هنا تعرف أن القرآن إنما يهاجم شعراء المشركين الذين كانوا يهجون الرسول ويثبطون عن دعوته فالقرآن لم يهاجم الشعر من حيث أنه شعر وإنما هاجم شعرا بعينه كان يؤذي الله ورسوله وهو نفسه الذي قال فيه الرسول الكريم: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له أن يمتلئ شعرا".
ويقول حسان من همزيته التي أجاب فيها أبا سفيان بن الحارث وقد استهلها بمطلع غزلي جميل:
عفت ذات الأصابع فالجواء
إلى عذراء منزلها خلاء
إلى أن يقول:
عدمنا خيلنا إن لم تروها
تثير النقع موعدها كداء [25]
يبارين الأسنة مصعدات
على أكتافها الأسل الظماء [26]
تظل جيادنا متمطرات
تلطمهم بالخمر النساء [27]
فإما تعرضوا عنا اعتمرنا
وكان الفتح وانكشف الغطاء [28]
وإلا فاصبروا لجلاد يوم
يعز الله فيه من يشاء [29]
إلى أن يقول:
ألا أبلغ أبا سفيان عني
فأنت مجوف نَخْبُ هواء [30]
بأن سيوفنا تركتك عبدا
وعبد الدار سادتها الإماء [31]
هجوت محمدا فأجبت عنه
وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفءٍ
فشركما لخيركما الفداء
فمن يهجو رسول الله منكم
ويمدحه وينصره سواء
فإن أبي ووالده وعرضي
لعرض محمد منكم وقاء
والموضوع طويل وحسبنا ما ذكرنا على سبيل المثال.
وقد ذكر البخاري في باب من استنشد الشعر وما سمعه النبي صلى الله عليه وسلم منه وما تمثل به وبيان أنه بمنزلة الكلام.(13/444)
1- عن عمر بن الشريد عن أبيه قال: استنشدني النبي صلى الله عليه وسلم شعر أمية ابن أبي الصلت وأنشدته، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "هيه هيه". حتى أنشدته مائة قافية. فقال: "إن كاد ليسلم" [32] [33] .
ترجمة أمية:
هو أمية بن عبد الله بن ربيعة الثقفي. وعتبة وشيبة أبناء خاله ولذلك رثى قتلى بدر بقصيدته المشهورة وكان ممن حرم الخمر وتجنب الأوثان والتمس الدين وطمع في النبوة لأنه قرأ في الكتب أن نبيا يبعث في الحجاز فرجا أن يكون هو.
فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم حسده وبلغ به الحسد إلى حد الجحود فلم يسلم. توفي بالطائف في السنة الثانية وقيل في التاسعة ومن شعره:
كل دين يوم القيامة عند الله
إلا دين الحنيفة زور
ومن شعره:
إن تغفر اللهم تغفر جما
وأي عبد لك لا ألما [34]
قوله: "هيه هيه" أصله إيه أبدلت الهمزة بالهاء، اسم فعل بمعنى الأمر تقول للرجل "إيه" بغير تنوين إذا استزدته من الحديث المعهود بينكما فإذا نونته استزدته من حديث ما لأن التنوين للتنكير.
قوله "إن كاد" مخففة من الثقيلة. أي قارب الإسلام ولم يسلم. وفي رواية:" آمن لسانه وكفر قلبه".
2- وعن خالد بن كيسان قال: "كنت عند ابن عمر فوقف عليه إياس بن خثيمة قال: ألا أنشدك من شعري يا ابن الفاروق. قال: بلى ولكن لا تنشدني إلا حسنا. فأنشده حتى إذا بلغ شيئا كرهه ابن عمر قال له: أمسك" [35] .
3- عن قتادة سمع مطرفا قال: "صبحت عمران بن حصين من الكوفة إلى البصرة فقلّ منزل ينزله إلا وهو ينشدني شعرا. وقال: إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب" [36] .
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد ألا كل شيء ما خلا الله باطل". وفي رواية: "أصدق كلمة" منفق عليه.(13/445)
المراد بالكلمة هنا القطعة من الكلام كما قال سبحانه: {كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} إشارة إلى قول الكافر: رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت.
ترجمة لبيد:
هو لبيد بن ربيعة بن مالك بن جفر بن كلاب يكنى أبا عقيل قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بني كلاب فأسلم ثم رجع إلى بلاده وقطن بالكوفة ومات بها عاش مائة وأربعين سنة وكان شريفا في الجاهلية والإسلام قيل مات في خلافة عثمان وقيل في خلافة معاوية [37] .
وعجز الشطر الأول. وكل نعيم لا محالة زائل. قوله باطل: أي هالك مضمحل لأنه موافق لأصدق الكلام وهو قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} فلا ريب أن هذه الكلمة أصدق ما تكلم به ناظم أو ناثر. مقدمتها كلية مقطوع بصحتها وشمولها عقلا ونقلا ولم يخرج من كليتها شيء قطعا إلا ما مرَّ استثناؤه وهو الله وصفاته وعقابه وثوابه. وفيه جواز الشعر وإنشاده ما لم يخل بأمر ديني أو يزيل الوقار أو يحصل منه إطراء أو إكثار [38] .
4- عن المقدام بن شريح عن أبيه قال: "قلت لعائشة رضي الله عنها: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟. فقالت: كان يتمثل بشيء من شعر عبد الله بن رواحة ويتمثل ويقول: "ويأتيك بالأخبار من لم تزود" [39] .
قوله: "فقالت"لفظ الطحاوي: "فقالت نعم بشعر ابن رواحة وربما قال هذا البيت ويأتيك الخ". وفي لفظ له: "كان يتمثل بشعر ابن رواحة"أخرجه أحمد من طريق مغيرة عن الشعبي: "إذا استراب الخبر تمثل فيه ببيت طرفة"فنسبتها إلى ابن رواحة مجازية [40] .
عبد الله بن رواحة:
صحابي جليل شهد بدرا وهو أحد النقباء استشهد بمؤتة وكان ثالث الأمراء الذين أخبر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وكان جده أبو سريح عمرو بن امرئ القيس شاعرا فحلا وهو القائل:
يا مال والسيد المعمم قد
يبطره بعد رأيه السرف
نحن بما عندنا وأنت بما عن(13/446)
دك راض والرأي مختلف
قوله ويأتيك الخ هذا عجز بيت وصدره ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا. والمعنى يأتي الزمان إليك بالخبر من غير أن ترسل أحدا أن يأتي به إليك فلا تحتاج أن تعطيه الزاد.
عن البراء بن عازب قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينقل معنا التراب وهو يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
والمشركون قد بغوا علينا
إذا أرادوا فتنة أبينا
ويرفع بها صوته".
وفي رواية: "ورفع بها صوته أبينا أبينا "متفق عليه.
عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة
فاغفر للأنصار والمهاجرة
وفي رواية سهل بن سعد عند مسلم: "فاغفر للمهاجرين والأنصار"وفي رواية: "كانوا يرتجزون ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم وهم يقولون الحديث"منفق عليه.
عن جندب بن سفيان قال: "دميت إصبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك المشاهد فقال:
هل أنت إلا إصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
أخرجه الشيخان.
وعن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزوة حنين: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب". أخرجه الشيخان.
التعليق على الأحاديث(13/447)
قال النووي: "قال المازري: أنكر بعض الناس كون الرجز شعرا لوقوعه من النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَه} وهذا مذهب الأخفش واحتج به على فساد مذهب الخليل في أنه شعر. وأجابوا عن هذا بأن الشعر هو ما قصد إليه واعتمد الإنسان أن يوقعه موزونا مقفى يقصده إلى القافية ويقع في ألفاظ العامة كثير من الألفاظ الموزونة ولا يقول أحد أنها شعر ولا صاحبها شاعر وهكذا الجواب عما في القرآن من الموزون كقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون} وقوله تعالى: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيب} [41] ".
ولا شك أن هذا لا يسميه أحد من العرب شعرا لأنه لم تقصد تقفيته وجعله شعرا. قلت: وقد قال الإمام أبو القاسم علي بن أبي جعفر بن علي السعدي الصقلي المعروف بابن القطاع في كتابه الشافي في علم القوافي: "قد رأى قوم منهم الأخفش وهو شيخ هذه الصناعة بعد الخليل أن مشطور الرجز ومنهوكه ليس بشعر كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الله مولانا ولا مولى لكم". وقوله: "هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت". وقوله: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" وأشباه هذا القول. قال ابن القطاع: "وهذا الذي زعمه الأخفش وغيره غلط بيِّن وذلك لأن الشاعر إنما سمي شاعرا لوجوه منها أنه شعر القول وقصده وأراده واهتدى إليه وأتي به كلاما موزونا على طريقة العرب مقفى فإن خلا من هذه الأوصاف أو بعضها لم يكن شعرا ولا يكون قائله شاعرا".
عن سلمة بن الأكوع قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فتسيرنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: ألا تسمعنا من هينهاتك - وكان عامر رجلا شاعرا - فنزل يحدو بالقوم يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء لك ما اقتفينا
وثبت الأقدام إن لاقينا(13/448)
وألقين سكينة علينا
إنا إذا أصيح بنا أتينا
وبالصياح عولوا علينا
متفق عليه.
قلت: وقد سبق الكلام على ما يتعلق به.
عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام" [42] .
عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: "الشعر منه حسن ومنه قبيح، خذ بالحسن ودع القبيح. ولقد رويت من شعر كعب بن مالك أشعارا منها القصيدة فيها أربعون بيتا ودون ذلك" [43] .
عن جابر بن سمرة قال: "جالست النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة فكان أصحابه يتناشدون الشعر ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت فربما تبسم معهم".
أخرجه الترمذي والطيالسي وأحمد والسياق للترمذي [44] .
ترجمة كعب بن مالك:
أبو عبيد الله المدني أحد الثلاثة الذين نزلت توبتهم في القرآن بعد خمسين ليلة وهو أحد السبعين الذين شهدوا العقبة شهد أحدا وما بعدها مات بالشام في خلافة معاوية.
والمعنى أنه ذا حسن المعنى شرعا فالكلام محكوم عليه شرعا بالحسن ولو كان اللفظ غير فصيح وإذا قبح المعنى شرعا لم يحكم عليه بالحسن وإن كان لفظه فصيحا وهذا حق ولكن الوزن وفصاحة الكلام يزيد الحسن حسنا كالحكمة يزيد القبيح قبيحا كالهجو [45] .
كراهة الشعر لمن غلب عليه
عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قبحا خير له من أن يمتلئ شعرا" [46] .
زاد مسلم: "يريه" بفتح الياء وكسر الراء من الورى وهو داء يفسد الجوف.
قال الطح اوي: "المكروه الشعر الذي يملأ الجوف فلا يكون فيه قرآن ولا تسبيح ولا غيره فأما من كان في جوفه القرآن والشعر مع ذلك فهو خارج من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم" لأن يمتلأ".الحديث [47] .(13/449)
وقال النووي: "المراد أن يكون الشعر غالبا عليه مستوليا عليه بحيث يشغله عن القرآن وغيره من العلوم الشرعية وذكر الله تعالى وهذا مذموم من أي شعر كان فأما إذا كان القرآن والحديث وغيرهما من العلوم الشرعية هو الغالب عليه فلا يضر حفظ اليسير من الشعر مع هذا لأن جوفه ليس ممتلئا شعرا وقال العلماء كافة هو مباح ما لم يكن فيه فحش ونحوه. قالوا وهو كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح وهذا هو الصواب فقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم الشعر واستنشده وأمر به حسان في هجاء المشركين وأنشده أصحابه بحضرته في الأسفار وغيرها وأنشده الخلفاء وأئمة الصحابة وفضلاء السلف ولم ينكره أحد منهم على إطلاقه وإنما أنكروا المذموم منه وهو الفحش ونحوه" [48] .
وفي رواية لمسلم من طريق أبي سعيد الخدري قال: "بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج إذ عرض شاعر ينشد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا الشيطان أو أمسكوا الشيطان لأن يمتلئ ... " الحديث
والعرج: على نحو ثمانية وسبعين ميلا من المدينة.
قال النووي: "وأما تسميته هذا الرجل الذي سمعه ينشد شيطانا فلعله كان كافرا أو كان الشعر هو الغالب عليه أو كان شعره هذا من المذموم".
وبالجملة فتسميته شيطانا إنما هي قضية عين تتطرق إليها الاحتمالات المذكورة وغيرها ولا عموم لها فلا يحتج بها.
وقال المناوي: "وأما قول المصطفى صلى الله عليه وسلم للشاعر الذي عرض له بالعرج خذوا أو أمسكوا الشيطان فلعله علم من حاله أنه اتخذ الشعر حرفة فيفرط في المدح إذا أعطى وفي الذم إذا منع فيؤذي الناس في أموالهم وأعراضهم" [49] .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..
مراجع البحث
القرآن
أحكام القرآن لابن العربي.
الكشاف للزمخشري.
أضواء البيان للشنقيطي.
تفسير ابن كثير لإسماعيل بن كثير.
تاريخ الأدب العربي للزيات.(13/450)
التلخيص الحبير لابن حجر.
سيرة ابن هشام.
سنن أبي داود.
سنن النسائي.
سنن ابن ماجه.
سبل السلام للصنعاني.
الشعر والشعراء لابن قتيبة.
شرح شواهد المغني للسيوطي.
شرح مسلم للنووي.
غريب القرآن.
فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي.
فتح الباري لابن حجر.
صحيح البخاري.
صحيح مسلم.
فضل الله الصمد شرح الأدب المفرد لفضل الله الجيلاني.
لباب النقول للسيوطي.
مسند أحمد والطيالسي.
مجمع الأمثال.
مقدمة ابن خلدون.
مشكل الآثار للطحاوي.
مقدمة شرح التلخيص للبرقوقي.
مذكرة في الأدب لمحمد المجذوب.
مجلة حضارة الإسلام.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] غريب القرآن _ص262 _طبعة المكتبة المرتضوية.
[2] المقدمة ص532.
[3] تاريخ الأدب العربي ص28 _طبعة دار نهضة مصر.
[4] انظر حضارة الإسلام العدد 8 _السنة السابعة ص70 _71 _
[5] ص7_ طبعة دار الثقافة.
[6] ص8_9_طبعة المكتبة التجارية.
[7] سورة النحل 47.
[8] تامكا سناما عظيما. والقرد الذي أمله القراد. والسفن الحديد الذي ينحت به وهو المبرد يقول: إن الرحل أثر سنام الناقة وتنقص منها كما ينقص السفن من العود.
[9] مذكرة في الأدب لطلاب كلية الشريعة.
[10] فتح القدير ج4_ص121_122 مطبعة مصطفى البابي الحلبي.
[11] لباب النقول في أسباب النزول بهامش الجلالين ص237_ج1.
[12] ج3_ص354_دار إحياء التراث العربي.
[13] فتح القدير ج4 ص121 _ مطبعة مصطفى البابي الحلبي.
[14] 123_ ج3_
[15] فيض القدير.
[16] أضواء البيان _6 _ص392.
[17] الكشاف _ص133 _ ج3.(13/451)
[18] أخرجه البيهقي من طريق علي موقوفا والترمذي والحاكم عن عائشة بلفظ "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم "سبل السلام ص4/53.
[19] انظر أحكام القرآن ج3 ص1430.
[20] انظر التلخيص الحبير ج3/128.
[21] أخرجه أحمد في مسنده والبخاري في صحيحه وأبو داود والترمذي.
ووجه المطابقة بين الحديث والترجمة أن البيان أعم من كونه نثرا فيدخل فيه الشعر لما يشتمل عليه من أوجه البيان وصفوف التشبيهات والمحسنات التي تجذب..
[22] الميداني _ مجمع الأمثال والزرقاني _ فيض القدير 2/524.
[23] أخرجه أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه من طريق ابن عباس والجملة الثانية ثابتة في البخاري بلفظ إن من الشعر لحكمة من طريق أبي قاله الزرقاني 2/24.
وانظر ابن حجر فتح_ 10/202 باب أن من البيان سحرا.
[24] ابن حجر فتح 10/202.
[25] النقع: غبار الحرب. كداء: موضع بأعلى مكة وهو غير كدي بالضم.
[26] مصعدات: مسرعات في الصعود. الأسل: الرماح الجيدة.
[27] متمطرات: مسرعات متحفزات..
[28] الفتح: يعني فتح مكة.
[29] الجلاد: المصابرة في القتال.
[30] مجوف: فارغ. نخب: جبان. هواء: فارغ.
[31] عبد الدار: أخو عبد مناف. وحسان يهجو بني عبد الدار لأن النبي صلى الله عليه وسلم من بني عبد مناف.
[32] أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأخرجه مسلم في كتاب الشعر آخر كتاب الحيوان وابن ماجه في الأدب والدارمي في الاستئذان وابن خزيمة في التوحيد والطحاوي في الكراهية وأحمد في مسند ابن عباس.
[33] قال النووي في الحديث جواز إنشاء الشعر الذي لا فحش فيه وسماعه سواء شعر الجاهلية وغيرهم وأن المذموم من الشعر الذي لا فحش فيه إنما هو الإكثار منه وكونه غالبا على الإنسان فأما يسيره فلا بأس بإنشاده وسماعه وحفظه.. شرح مسلم 15/12.
[34] تاريخ الأدب العربي ص75.(13/452)
[35] أخرجه البخاري في الأدب المفرد في باب إن من الشعر حكمة قال حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا أبو عامر قال حدثنا أيوب بن خالد هو ابن كيسان الحديث ص222.
[36] أخرجه البخاري في الأدب المفرد قال حدثنا عمرو بن مرزوق قال أخبرنا شعبة. الحديث.
[37] شرح شواهد المغني للسيوطي 152 _ج1.
[38] فيض القدير 1/529.
[39] أخرجه الترمذي وصححه والنسائي في اليوم والليلة والبخاري في الأدب المفرد والطحاوي في مشكل الآثار.
[40] فضل الله الصمد في توضيح الأدب المفرد 2/316.
[41] شرح مسلم 12/118.
[42] أخرجه البخاري في الأدب المفرد والدارقطني في سننه.
[43] أخرجه البخاري في الأدب المفرد من طريق سعيد بن تليد قال حدثنا ابن وهب قال أخبرني جاب بن إسماعيل وغيره عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قال الحافظ سنده حسن وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة.
[44] وقال حديث صحيح وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ص176/رقم ج/435.
[45] فضل الله الصمد ج2_315.
[46] أخرجه مسلم في كتاب الشعر والدارمي في الاستئذان وأحمد في مسند ابن عمر والبخاري في الأدب المفرد..
[47] معاني الآثار2/372.
[48] شرح مسلم 15/14.
[49] فيض القدير ج1_529.(13/453)
القدس
للطالب سامي بن رضوان
قال الله عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
إن للقدس موقعا جميلا، وسحرا خاصا، وجمالا خفيا لا يحس به الإحساس الكافي إلا من أقام بها مدة، وتذوق هذا الجمال تدريجيا، ولعل من عوامل سحرها، هدوءها، وعمق صداها، وجمال تلالها، ونظافة جوها، وتنمو على هاتيك التلال، أعشاب وزهور متعددة الألوان تغطي تربتها، وتؤلف معلما من معالمها، وأبنيتها شاهقة تخالط سطوحها قباب غير مرتفعة موروثة عن تاريخها الغابر المديد.
موقعها
وتقع القدس على خط العرض (34) شمالا، وعلى خط الطول (35) شرقا، وتبعد عن أريحا مسافة (30) كيلو مترا، وعن نهر الأردن (40) كم، وعن ساحل البحر الأبيض المتوسط (65) كم تقريبا.
وتقع المدينة كلها تاريخية، وقديمة وحديثة على سلسلة جبال القدس ضمن هضبة ذات مرتفعان تعلو نحو (800) متر عن سطح البحر.
وتحيط المدينة كلها جبال مشهورة أهمها جبل المشارف من الشمال، وجبال المكبر من الجنوب، وجبل الطور من الشرق، وجبل صهيون من الغرب.
وتقع القدس القديمة ضمن سور يحيط بها من جميع جهاتها ويبلغ طوله نحو (4) كم، وارتفاعه نحو (12) مترا، وللسور سبعة أبواب كبيرة، مفتوحة يدخل الناس منها إلى المدينة من نواحيها المختلفة، والذي بنى هذا السور هو السلطان سليمان القانوني العثماني، وقد دامت أعمال هذا البناء في السور (5) سنوات.
وقد بلغت مساحة الأراضي التي تحتلها القدس قديمة وحديثة سنة 1367هـ 1948م ما يزيد على (31) كيلو مترا مربعا، أي ما يبلغ (31) ألف دونما، وتبلغ مساحة القدس القديمة نحو ألف دونم.(13/454)
وأهم ما في القدس أماكنها المقدسة وفي مقدمتها الحرم الشريف الذي يحوي المسجد الأقصى ومسجد الصخرة، حيث يقع في الجهة الشرقية الجنوبية من المدينة القديمة.
وفي هذا المسجد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى". وهو مسجد رائع البناء عظيم المساحة، ويحيط به سور عظيم، وقد أسرى الله بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومنه عرج به إلى السماء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل في صلاته المسجد الأقصى إلى أن أمر بتحويل القبلة إلى الكعبة بالمسجد الحرام، فهو أولى القبلتين، وثاني البيتين، وثالث الحرمين، ولهذا فهو محط أنظار المسلمين.
وفي المدينة مساجد أخرى كثيرة يبلغ عددها (35) مسجدا، وبها مقدسات مسيحية وأهمها كنيسة القيامة، ولا يملك اليهود بها آثارا ولا أماكن دينية ولا مقدسات على الرغم من الضجة العالية والعويل الطويل إلا عرفا تقليديا لهم في البكاء خارج القسم الجنوبي من الحائط الغربي للحرم الشريف يسمى حائط المبكى.
عدد السكان
كان عدد السكان سنة 1367هـ سنة 1948م نحو (160) ألف نسمة نصفهم من العرب والآخر من اليهود وجاء عددهم هذا وليد الهجرة الناتجة عن وعد بلفور الجائر، ففي النصف الثاني من القرن السابع عشر لم يكن عدد اليهود سوى (150) شخصا، وفي سنة (1170م) لم يكن في المدينة أكثر من يهودي واحد.(13/455)
والقدس مدينة سياحية عالمية جذابة ولذا فإن بعض السكان يقومون ببعض الصناعات التي يغلب عليها الطابع السياحي مثل صناعات الخشب، الزيتون، والشموع، والقاشاني، والتطريز والزجاج والأدوات الفضية وغيرها، وبعض السكان يقومون بالزراعة حيث خصوبة التربة فيكثر فيها الفواكه والخضروات بأنواعها المختلفة، والتعليم فيها ناشط مزدهر إذ فيها نحو (50) مدرسة عربية و (30) مكتبة منها ما له قيمة تاريخية. كما يوجد بها جميع الدوائر الحكومية.
ما يفعله الصهاينة المحتلون
يعمل الصهيونيون اليهود على توسيع رقعة القدس وزيادة سكانها وتخطيط الحي اليهودي فيها، وقد تضمنت الخطة عمارات متراصة مرتفعة يشبه بعضها ناطحات السحاب، واشتملت على نواد وبارات ليلية كثيرة، وشقق صغيرة تحيل المدينة إلى ما يشبه محطة السكة السوداء داخل مظاهر الزيف والنشاز، وقد عرضت الخطة على ثلاثين من المهندسين والمعماريين والفنانين العالميين فنفروا منها جميعا ورفضوها لمغايرتها طبيعة المدينة المقدسة. وقد فعلوا فيها ما لا يستوعبه المجلدات.
وقد توغلت الحفريات التي يقومون بها في اختراق الحائط الجنوبي للحرم الشريف والأروقة السفلية للمسجد الأقصى في أربعة مواقع الأول، في أسفل محراب المسجد الأقصى والثاني أسفل مسجد عمر، والثالث: تحت الأبواب الثلاثة للأروقة الملاصقة للمسجد الأقصى وهنا توغلت (20) مترا في داخل الحرم، والرابع تحت الأروقة الجنوبية الشرقية للمسجد الأقصى، أصبحت هذه الحفريات تهدد المسجد الأقصى وسور الحرم الجنوبي بالتصدع والانهيار.(13/456)
ورغم كل ذلك فقد واصلت السلطات الصهيونية إخلاء العقارات والأراضي بالقوة وتمكنت من إجلاء ما يقارب من خمسة آلاف عربي من مساكنهم وأماكن عملهم داخل الأسوار وحرست ما لا يقل عن ألف من العمل في الزراعة في الأراضي المصادرة خارج الأسوار يعيلون لا أقل من خمسة آلاف شخص، وإجلاء ما يقرب من ألف عربي من مساكنهم خارج الأسوار، وهي بالإضافة إلى ذلك جادة في ملاحقة الباقين منهم ويقدرون بحوالي الألف بالجلاء والتشرد.
الاستيطان الإسرائيلي
يهدف إلى جعل القدس مدينة يهودية، كشف عن ذلك وزير الإسكان اليهودي عن مؤامرة الاستيطان التي باشروها منذ 1968 خارج أسوار القدس وداخلها وما حولها، وتستهدف بناء (35) وحدة سكن وتتسع لإسكان (122) ألف صهيوني جديد.
وقد نفذت هذا البرنامج خلال السنوات الست الماضية وتم لها إنشاء ستة عشر حيا أو مستعمرة جديدة على أنقاض ما هدم من أحياء وقرى عربية وعلى ما صور أو اغتصب من الأراضي داخل أسوار المدينة وخارجها.
احراق المسجد الأقصى
في يوم الخميس 8 جمادى الثانية 1389هـ أحرقت إسرائيل المسجد الأقصى، وقد دمر الحريق القسم الجنوبي الشرقي منه، كما أتى على المنبر، وقد ادعت إسرائيل أن ماسا كهربائيا سبب الحادث، ثم تراجعت وزعمت أن شابا أضرم النار في المسجد.
هل يحتاج المسلمون بعد ألسنة النار التي التهمت المسجد الأقصى إلى من يوقد حميتهم ويشعل إرادتهم للوقوف صفا واحدا وجبهة واحدة في وجه العدو، ولكن من المؤسف حقا أن إشعال النار في أولى القبلتين وثاني البيتين وثالث الحرمين لم يكن مفاجأة وأن المسلمين والعرب لم يأخذوا على حين غرة عندما أقدمت إسرائيل على حرقه ولن يؤخذوا على غرة إذا فعلت إسرائيل لا قدر الله بمقدساتهم أكثر من ذلك.(13/457)
إن القدس كانت ولا تزال محل أطماع اليهود والصليبيين، أما الصليبيين فقد يئسوا من تحقيق أطماعهم منذ أن هزمهم صلاح الدين الأيوبي واستردها منهم، وأما اليهود فما زالوا يتأمرون عليها وقد استطاعوا بغدرهم وتفكك المسلمين أن يسيطروا عليها ولكن ذلك لن يطول فسنستردها بعون الله منهم وتبقى تراثا إسلاميا مصونا تحوطها القلوب المؤمنة وتحميها صدور المسلمين، وسوف يرتد كل معتد على القدس والمسجد الأقصى خاسئا بإذن الله.(13/458)
من آيات الله في الآفاق
للطالب محمد الأمين ولد الشيخ
المعهد الثانوي - السنة الأولى
أيها الملحدُ الغبيُ تعلَّم
وانظر الكون واعيا وتفهم
وتفكَّر هُنْيهَةً وتدبَّر
وتأمل هذا الوجودَ المُنظم
أنظامٌ ولا مُنظم هَذَا
نحوٌ سخف ظاهر ورأيٌ مُحَطَم
منطقٌ هكذا صغيرٌ حَقير
لا يساوي مدادَه لا يسلَّم
منطقُ البصرة السَّليمة يأبا
هـ ويقضي بردّه إن علم
وُجد الكونُ صدفة لا تقل ذا
أيٌ عقل يُسيغ هذا؟ تكلم
استمعْ ههنا جهازٌ دفينٌ
مُحْكم متقن جميل مصمم
كان من غير صانع أتُرى ذا
منطق العقْل؟ لا وربّى الأكرم
أتُرى ذا الجهازَ وهو صغيرٌ
من جهاز السماء والأرض أحكم!
إنتبه جيدا تفكّر قليلاً
لا تقلّد من عقلُه قد تسمّم
انفرد ساعة إذا الليل أظلم
وسرى الصمتُ في الوجود وخيم
وتساءَلْ أَصدفةً كلُّ هذا
وتساءل وقل لنفسك مهْيم؟
أُترك الكبر جانيا وتواضعْ
واطلب الحق خلصا وتقدم
خطوة خطوة رويدا رويدا
فإذا الكفر كله قد تهدم
وإذا باليقين ينمو وينمو
وإذا النُّور قد أضاء فعمَّم
أسلم _ الكون مسلمُ _ وتَقدَّم
وتشهد شهادة الحق تسلم(13/459)
كلية الحديث
للطالب أحمد بن حسن المعلم
نبأ أهاج كوامنى وأثارا
وهششت عند سماعه استبشارا
كلية باسم الحديث وأهله
تروي الهدى وتعلم الآثارا
ماذا أقول وكيف أنطق بالذي
في خاطري وأوضح الأسرارا
أأقوله نثراً بغير تقيد
أم هل ترون أصوغه أشعارا
ما حجم أبيات القصيدة كي تفي
ما في الجوانح والفؤاد توارى
والقلب لولا ما يضم من الهدى
لفرى الضلوع من السرور وطارا
والنفس يغمرها السرور ومالها
ألاّ تسرو وتلبس النوارا
لم لا أسرو وقد حظيت بغاية
كانت لآمالي الكبار منارا
سأكون من صحب الرسول وآله
سأنال منه قرابة وجوارا
سأعيش في كنف الرسول مصليا
ومسلما ومتابعاً مختارا
سأرى الدليل وسوف أعمل بالذي
دل الدليل على سناه ودارا
أنا لن أكون مقلدا متعصبا
شبه البهيمة رحبت ينعق سارا
أنا لن أكون مقلدا متعنتا
أدع الدليل لما أراه جهارا
إن المقلد في الخسارة والشقا
ما عاش يوما يشبه الأحرارا
إن المقلد كالضرير يقوده
من شاء براً كان أو كفارا
إن المقلد كالصغير مفوضا
إن يعط تمراً يرضه أو نارا
فدع الثعب المذاهب إنه
سجن العقول يتريقها الأصارا
وأراه غلاً في الرقاب وصانعا
ما يقول رسولتا وستارا
يا طالب العلم الصحيح بشارة
منحوك علما نافعا مختارا
أقبل على علم الحديث فإنه
جسر الحياة لمن أراد فخارا
وفذ الصحيح ودع سواه فما بن
من حاجة لتلفق الأقيارا
وتتبع الإسناد وانقد أهله
لا تخش إثما فيه أو أضرارا
وفذ الصحيح بقوى لا تخش في
تطبيقه زيدا ولا عمارا
واضرب بسيف الحق كل مقلد(13/460)
فلقد حملت مهندا بثارا
وأنر بمصباح الحديث ظلامنا
ودع الليالي الحالكات نهارا
وصدع رؤوس الخارجين عن الهدى
من كل مبتدع غدا حفارا
وانف الضعيف وما تبين زيفه
فلقد رأينا منهما الأضرارا
واعمل بما حصلت منه ولا تكن
بعد الدراسة حاملا أسفارا
وادع الأنام إلى طريق واحد
الكل في تطبيقه يتبارى
فلقد أساء لنا التغرف أعصرا
فسبى العقول وقيد الأفكارا
فمتى يخلصنا الحديث من العنا
فنسير تحت لوائه أحرارا
ومتى يوحدنا الحديث على الهدى
فنسير جيشا واحدا جرارا
هذا بعون الله سوف نناله
فلقد رأينا للخلاص منارا
كلية العلم الجليل تقودنا
فنخوض تحت لوائها الأخطارا
فليهن أبناء الحنيفة منهل
بالعذب ينضح طيبا مدرارا
وليهن جامعة المدينة أنها
صارت لطلاب الحديث مزارا(13/461)
طه حسين
حياته.. وأدبه.. في ميزان الإسلام …
لفضيلة الشيخ إبراهيم محمد سرسيق
كلية القرآن والدراسات الإسلامية
طالما سألت نفسي، منذ اشرأبت عنقي إلى بلابل الدوح وهي تشدو في حدائق الأدب..
إذا كانت قيمة كل امرئ ما كان يحسنه، فبأي قيمة من قيم الدين أو الأدب أو الخلق، تسنّم الدكتور طه حسين ذروة الأدب والثقافة والتعليم في مصر؟ وبأي قيمة من قيم الدين أو الأدب أو الخلق تبوّأ مقعد القيادة والتوجيه في دولة الفكر قرابة نصف قرن من عمر الزمان؟
وبأي قيمة من قيم الدين أو الأدب أو الخلق، قد تقبل في كبرياء مصطنع، وشموخ كاذب، وعبقرية مدّعاة أن يصفه أهل البَغاء الفكري، والنفاق السياسي، بأنه: عميد الأدب العربي؟؟
بالله خبروني:
من ذا الذي عمّده للأدب في دنيا العرب..؟؟
وهذا كتاب أخرجه لنا كاتب إسلامي نشيط، هو الأستاذ/ أنور الجندي، ونشرته (دار الاعتصام) بالقاهرة، عام 1396هـ 1976م.
وهذا كتاب يضع طه حسين في ميزان الإسلام، بعد أن وضعه الآخرون في موازين كثيرة. ويشاء الله تعالى أنه بقدر ما ارتفعت به الموازين الأرضية فقد هبط في ميزان الإسلام إلى الحضيض.
جزاء وفاقا، بما فرَّط في جنب الله، وألحد في ذاته، وتهجم على نبيه صلى الله عليه وسلم، وطعن في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
والكتاب يحتوي على حوالي (270) صفحة من الحجم المتوسط، ويقع في مقدمة وثلاثة أبواب:
الباب الأول: حياة طه حسين مرحلة التكوين والإعداد ويتضمن خمسة فصول.
وتدور هذه الفصول الخمسة حول مطالع حياته، رحلته إلى أوربة وأثرها، في أحضان الاستشراق، التبعية للفكر الغربي، الولاء للسياسة الغربية.
أما الباب الثاني: (مرحلة النضوج والتألق) فيتضمن خمسة فصول أيضا(13/462)
في الجامعة، في وزارة المعارف، في الصحافة والسياسة الحزبية، في المجمع والجامعة العربية، وفي المحاضرات والمؤتمرات.
ثم يأتي الباب الثالث والأخير: آراء طه حسين وصراعه مع أهل جيله ويتضمن ستة فصول:
آراء طه حسين، طريقة البحث، ظاهرة التحول والتناقض، الأسلوب والأداء الفني، الاستجواب، صراعه مع أهل جيله.
ثم خاتمة في حوالي سبع صفحات، تلمس لمسا خفيفا أهم ما جاء بالكتاب، وتبرز الدافع إلى تأليفه وتَعِد بتقديم بحث جامع في الموضوع نفسه.
وسنعود إلى إبداء رأينا في المنهج والخاتمة، بعد بحث وتقويم المادة العلمية.
الحجة إلى مثل هذا البحث:
إن الحاجة ماسة جدا إلى مثل هذا النوع من البحوث التي تزن مختلف الشخصيات العلمية والأدبية بميزان الإسلام. ومهما يكن رأينا في المنهج العلمي الذي سار عليه الكاتب في بحثه فإننا نناشد المؤلف وغيره من الباحثين المسلمين أن يتناولوا أولئك الأعلام، الذين ارتفعوا على أسنة الأقلام، أو حملهم العوام فوق الأكتاف والهام لكي يوضعوا في دائرة الضوء الإسلامي فيبدو للملأ ما فيهم من غث أو سمين، ولكي يبرزوا إلى نور الحق بدل أن يضاعفوا أحجامهم ويرفعوا عقائرهم في الظلام. فالقيمة الحقيقية لهؤلاء الأعلام لا توزن بموازين الأرض الزائلة، بل توزن بموازين العدالة الإسلامية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ. وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [1] . والمشكلة دائما هي أن الحق أبلج ولكن الباطل لجلج، وفي هذا العصر نرى أهل الباطل يجعجعون ويصيحون ويصرخون، ويتنادون بالنصرة والأحلاف ويهزون الأعطاف بينما أهل الحق قانعون بالسلامة الذليلة، راضون عن الغنيمة بالإياب.(13/463)
فهل يلام الباطل إذا أرغى وأزبد، وتهدد وتوعّد؟
وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا!!
ومشكلة (طه حسين) أنه رجل ملأ الدنيا وشغل الناس، واستفاض صيته وطارت شهرته في كل الأقطار، وما علم الناس سببا لهذه الشهرة المستفيضة والصيت الذائع! ولكنهم اقتنعوا، فجأة وبزعمهم، بأن هذا الرجل مشهور وما دام مشهورا فلا بد أنه شخصية عظيمة. وهكذا ظلوا مع الآخرين يكذبون ويكذبون حتى صدّق الجميع أنفسهم!!!
لماذا برز ((طه حسين)) وفرض شخصيته على الناس سنين طويلة؟
هل بسبب موقفه المعادي للفكرة الإسلامية؟
هل بسبب نشاطه الحزبي ومغامراته السياسية؟
هل بسبب كتبه الهزيلة، وشخصيته المنافقة؟
هل بسبب ارتمائه الذليل في أحضان المستشرقين، وترديده لأباطيلهم؟
هل بسبب منهجه العلمي الزائف المستعار؟
هل بسبب كراهيته للعرب وتهوينه الدائم من شأن دينهم وحضارتهم؟
هل بسبب اتجاهه إلى الإباحية والأدب المكشوف؟
مرة أخرى:
لماذا استفاضت شهرة طه حسين؟
لماذا ارتفعت منزلته لدى الباحثين عن صنم يعبدونه من دون الله؟ يالله للمسلمين!
متى يكف الناس عن إحاطة بعضهم بعضا بأوصاف القداسة، وهالات العظمة، وهم يعلمون أن العظمة والقداسة لله وحده؟
متى يكف الناس عن كيل عبارات المديح والإطراء لمن يزعمونهم خطأ قد بلغوا قمة العلم أو الحكمة أو البراعة في دنيا المظاهر البراقة والألقاب الخادعة {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} . وصدق الله العظيم: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً} .
فلنسر في دروب البحث المتأني وراء هذا الشبح الغامض، عسانا أن نهتدي بفضل الله تعالى في الوقوف على سرّ هذه الظاهرة العجيبة ظاهرة البرق الذي يلمع في ظلام دامس فزاده غبرة ترهقها قترة.
أولا: عداؤه للفكرة الإسلامية:(13/464)
إن كل من يراجع كتابات طه حسين ابتداء من كتابه (في الشعر الجاهلي) إلى آخر ما أملى يروعه جرأة هذا الرجل على شريعة الله وأحكامه السامية، حتى ليخيَّل إليه أن الرجل قد حمل بكلتا يديه مِعْوَلا مسنونا يهدم به كل بنيان إسلامي، وقد لبس في كل مرة قناعا يتخفى من ورائه وهو يقوم بعمله الموبوء في همة دائمة لا تعرف الكلال.
فهو قد تعمد إحياء الدعوة المنهارة بفصل دراسة الأدب العربي عن الفكرة الإسلامية. ووصف هذه العملية الخبيثة بوصف مثير وخطير كعادته في كل عملية هدم يقوم بها فقال: إنها تحرير الأدب العربي من إطاره الإسلامي. ورفع عقيرته قائلا: "أنا أريد أن أدرس تاريخ الأدب في ((حرية وشرف)) كما يدرس صاحب العلم الطبيعي علم الحياة والنبات!! ". وزعم أن ربط الأدب بالإطار الإسلامي فيه إيحاء بالدعوة إلى الإسلام والتبشير به!!
ومن عجب أن ينزلق صاحب ((الوعد الحق)) و ((على هامش السيرة)) إلى هذا المنزلق الخطير!!
ولئن كانت الدعوة الإسلامية وما زالت - والحمد لله - في غنى عن أمثاله من القردة المقلدين، الذين جعلوا ظهورهم قنطرة عبور لأفكار المستشرقين من كل حدب وصوب فإنا نقول لكل من يحاول إحياء هذه الشبهة التي نعتبرها بحق كالجنين الذي ولد ميتا:
_ وهل الإسلام إلا منهج كامل للحياة، والأدب جزء منها؟ فكيف لا يدخل الأدب في الإطار العام للقيم الإسلامية النبيلة التي تسكن من قلوبنا في السويداء؟
إذا كان العلم الطبيعي كعلم الحياة والنبات يملك سلاحا قويا للتمحيص والتجريب هو التجربة العلمية التي يمكن التحكم فيها، والاحتكام إليها فما المرجع الذي يمكن اللجوء إليه لتصحيح القيم، وتهذيب السلوك، وترقية المشاعر إذا لم نرجع إلى شريعة الله.. رب كل شيء ومليكه؟ {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}
_ يقول علماء النفس: لابد لأي سلوك من دوافع.(13/465)
_ فإذا كان الأمر المتعارف عليه أن يدرس الأدب في ظل القيم والمبادئ السائدة في كل عصر وبيئة باعتبارها (الإطار المرجعي له From Of RefeRence) ، وإذا كان الأدب العربي يدرس في بيئة إسلامية فما الدوافع الخفية وراء السلوك الطارئ المستنكر لدارسة الأدب العربي مقرونا بمبادئ الإسلام؟
_ ثم من ذا الذي يزعم أن دارسة الماديات في علم الحياة والنبات يمكن أن تقارن بدراسة المعنويات من القيم والفضائل والإنسانيات؟؟
أخيرا يعلق المستشرق كامبفاير قائلا: "إن المحاولة الجريئة التي قام بها طه حسين ومن يشايعه في الرأي، لتخليص دراسة العربية من شباك العلوم الدينية، هي حركة لا يمكن تحديد آثارها على مستقبل الإسلام" [2] .
ثانيا: دعوته إلى الجاهلية الفرعونية:
ويتمثل ذلك في إصراره على وضع شعار فرعوني للجامعة المصرية حين كان مديرا لها.
وفي ادعائه المتكرر أن مصر فرعونية وأنها تابعة لليونان في الفكر، وتابعة لمنطقة البحر المتوسط والغرب في السياسة، وأقرب ما تكون إلى الروح الفرعونية في الثقافة والحضارة!!!
وقد أرسل إليه الأستاذ توفيق الفكيكي برقية من العراق تقول:
"إن شعاركم الفرعوني سيكسبكم الشنار، وستبقى أرض الكنانة وطن الإسلام والعروبة، برغم الفرعونية المندحرة!! ".
ماذا - أيضا - يستهدف طه حسين من هذه الدعوة السخيفة إلى جاهلية الفراعنة؟ كيف يدعو مفكر إسلامي إلى العودة الانتكاسية إلى جاهلية الأوثان وبدائية التصور وفطرية السلوك وخرافة المعتقدات؟
وماذا يبتغي من جذبهم إلى الفرعونية الهالكة إلا سلخهم من الانتماء إلى أمة الإسلام ودين الإسلام ونبي الإسلام؟
في أيام هذا المفكر الفرعوني ردّ عليه الدكتور زكي مبارك قائلا:(13/466)
"إنك تعرف أن مصر ظلت ثلاثة عشر قرنا، وهي مؤمنة بالعقيدة الإسلامية، والأمة التي تقضي ثلاثة عشر قرنا في ظل دين واحد لا تستطيع أن تفرّ من سيطرة هذا الدين" [3] .
ومعلوم ما يثبته المؤرخون من ((الانقطاع الحضاري)) الذي أحدثه الإسلام في نفوس المصريين، حين نفضوا أنفسهم تماما من التراث الفرعوني واليوناني والروماني، وتركوا هذه الحضارات تذوب وتضمحل، وآمنوا بالإسلام وتشربوا في معاملاتهم ولغتهم وسلوكهم ولم تكن لهم ثقافة خاصة منفصلة عن الثقافة الإسلامية الأصلية.
ورغم أن هذه الفكرة الساقطة - فكرة الانسحاب من العقيدة القوية المسيطرة، إلى أوهام القرون البدائية المنقرضة - لم يتقبلها المصريون أنفسهم، ولم يكن لها من بينهم دعاة يعتد بهم، فإنه من الواضح أن كثيرا من المستشرقين يحتضنونها في حدب شديد، ويعتبرونها ركيزة أساسية في محاولاتهم المستمرة والمتكررة لهدم الإسلام.
ونحن هنا نلفت الأنظار بقوة إلى أن كل دعوة قومية لإحياء العنصرية العرقية إنما هي دعوة مشبوهة، لأنها ضد الدين في المبدأ والأساس.
ثالثا: ادعاؤه الكاذب أن الدين ((ظاهرة اجتماعية)) :
ارتأى طه حسين - والحقد حشو فمه - أو قل: إنه نقل نقلا حرفيا عن أستاذه اليهودي ((إيميل دوركايم)) ذلك الرأي الخطير الكافر، الذي يطيح بكل تراث طه حسين وشخصيته وتاريخه:
"إن العالم ((الحقيقي)) (!!) ينظر إلى الدين كما ينظر إلى اللغة، وكما ينظر إلى الفقه، وكما ينظر إلى اللباس.. من حيث إن هذه الأشياء كلها ((ظواهر اجتماعية)) يحدثها وجود الجماعة. وإذن نصل إلى أن الدين في نظر العلم لم ينزل من السماء [4] ، ولم يهبط به الوحي، وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها.." [5] .(13/467)
إذن فطه حسين، هذا المنبع الكدر لتيارات الإلحاد والتشكيك، هو السبب في ذيوع هذه الفكرة السامة التي روّجتها ألسنة الأغرار من الناشئة وأدعياء الثقافة والفلسفة، ونشرتها أقلام الكتاب من كل مسلوبي الشخصية وضعاف العقيدة في هذا العصر، الذين روّجوا أن الدين ظاهرة اجتماعية!! ظاهرة اجتماعية تصدر عن الجماعة، وتتطور معها، وليست بوحي سماوي من الله تعالى. وطه حسين أيضا- وقد ازداد بغيا وعتوا، وإفسادا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله – فقد رتّب على هذه النظرة المتحدية للدين ما يلي:
1- "أن الدين يجب أن يُعلّم فقط كجزء [6] من التاريخ القومي، لا كدين إلهي منزل لإصلاح أحوال البشر". ويرى: "أن القوانين الدينية لم تعد تصلح في الحضارة الحديثة كأساس للأخلاق والأحكام، ولذلك لا يجوز أن يبقى الإسلام في صميم الحياة السياسية أو كمنطلق لتجديد الأمة". ويرى: "أن الأمة تتجدد بمعزل عن الدين" [7] . وما من شك هنا أن هذا الملحد الجريء إنما يعرض للإسلام من منظور المسيحية، ويجهل أو على الأصح يتجاهل بخبث شديد الفرق الهائل بين الإسلام والمسيحية. فبينما المسيحية تعطي ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، فالإسلام يتناول الحياة كلها بتشريع كامل لا ينفصل فيه دين عن دنيا (إلا في أذهان العباقرة أمثال عميد الأدب الراحل) … وصدق الله مولانا في كتابه الكريم: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [8] .(13/468)
2-أن النص المثبت في الدستور المصري بأن الإسلام دين الدولة، لا ضرورة له. يقول: "لم أكن في اللجنة التي وضعت الدستور القديم، ولم أكن بين الذين وضعوا الدستور الجديد ولم يستشرني أولئك ولا هؤلاء هذا النص والذي اشتمل عليه الدستور والذي [9] يعلن للدولة المصرية دينا رسميا هو الإسلام.. ولو استشارني أولئك أو هؤلاء لطلبت إليهم أن يتدبروا ويتفكروا قبل أن يضعوا هذا النص في الدستور!!! " [10] .
رابعا: تهوينه من شأن العرب والحضارة العربية الإسلامية..
لكأنما أصيب صاحبنا بحمى قاتلة.. جعلته ينتفض حنقا على العرب وكل ما يمت إليهم بصلة.. ونتساءل مع الأستاذ أنور الجندي: "هل يمكن أن يكون مثل هذا الكاتب عميدا للأدب العربي الذي يزدريه ويتعقبه؟ أو قائدا لأمة هو منكر لمفاهيمها لا يدين لها بولاء..؟ " [11] .
في اعتقاده - عفا الله عنه - أن العرب ليسوا إلا وسطاء بين الأمم والحضارات. وأن الدور الذي قاموا به هو الدور الذي قام به من سبقهم من شعوب البحر المتوسط كالفينيقيين واليونان والرومان. يريد أن يتجه سكان المنطقة إلى الغرب لمواجهة الوحدة الإسلامية! وكان مصر إلى البحر المتوسط لمواجهة فكرة العروبة!! ويدعي أن الفتح العربي الإسلامي لم يكن إلا ضربا من الاستعمار الذي خضع له المصريون كما خضعوا للفرس والرومان وغيرهم.
ومن الواضح أنه في كل ذل يسقط الأثر الديني من حسابه في كل ما يقول.
ادعى أن العرب لم يكن لهم نثر فني. وأنهم لم يجيدوا الإنشاء إلا بعد اتصالهم بالفرس، وأن أول كاتب في اللغة العربية هو ابن المقفع الفارسي الأصل. وكل هذا الشر قد نقله من شرير آخر هو ((المسيوا مرسيه)) الذي كتبه في المجلة الإفريقية التي تصدر بالفرنسية في الجزائر.(13/469)
هاجم العلامة العبقري (ابن خلدون) في رسالة التي تقدم بها إلى السربون، إرضاء لأستاذه اليهودي (دوركايم) الذي كان رئيسا للجنة الدكتوراه، وانتقد علم الرجل وقدره، ووصف جهاد المغاربة ضد الفرنسيين بأنه (معارضة للتمدن) ..؟
رأيه في القرآن الكريم
معاذ الله أن يكون لبشر ما - كائنا من كان - رأي في القرآن الكريم المعجز الذي يعلو ولا يُعلى عليه. فالقرآن ليس من كلام البشر، ولا ينبغي أن تحكم فيه أهواء البشر. {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض} .
ولكن هكذا تقتضينا أمانة العلم أن نكشف على الملأ، مطاعن تلميذ المستشرقين النشيط طه حسين، في الترويج والدعاية لمبادئ أساتذته في (السربون) وفي (الكوليج دي فرانس) أولئك الذين اتخذوا من التظاهر بدراسة الإسلام تكأة للطعن فيه، {حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقّ} .
_ 1_
أول هذه المطاعن [12] يهوي بصاحبه إلى هوة الكفر الصريح والعياذ بالله.
وهذا نص عبارته: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل. وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا. ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلا عن إثبات هذه القضية التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة، ونشأة العرب المستعربين فيها. ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الإسلام واليهود والقرآن والتوراة من جهة أخرى" [13] .
هكذا يفجِّر طه حسين قذيفة الكفر الرهيبة المدمرة هذه دون أن يبالي أي قدر من الخسائر تسببه لضمير الأمة المسلمة وإحساسها المرهف نحو دينها وعقيدتها..! تكذيب صريح القرآن الكريم، وادعاء فاجر بأنه ليس مصدرا تاريخا موثوقا به {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} .(13/470)
والغريب أن هذا الكفر كان يراد له أن يدرس في كلية الآداب بالجامعة المصرية! لولا أن أراد الله أن تموت الفتنة في مهدها ويفصل رأس الكفر من الجامعة.
_ 2 _
في مؤتمر المستشرقين السابع عشر بجامعة أكسفورد (سبتمبر 1928م) ألقى طه حسين بحثا عنوانه (استخدام ضمير الغائب في القرآن) .
وقد ارتأى فيه: أن تأويل ضمير الغائب في معظم آيات القرآن باسم الإشارة فيه حلّ لمشكلة عدم المطابقة بين الضمير وما يرجع إليه. وزعم أنه بهذا الرأي يصحح ما يراه بعض المستشرقين من أن في القرآن خطأ نحويا - حاشا لله - إذ يرون الضمير قد رجع إلى متأخر، أو رجع إلى محذوف مفسّر بما يدل عليه من بعض الوجوه. وقد وصف الرافعي رحمه الله طريقة استبدال اسم الإشارة بضمير الغائب بأنها "بيع الذهب بالملح"! إشارة إلى أن رأي طه حسين الذي نقله عن أسياده المستشرقين بلا فهم وبلا علم إنما هو رأي ساقط بليد تافه، لا تقاس قيمته إلا بقيمة الملح إذا قورن بالذهب في نفاسته.
ويعقب الرافعي قائلا: "وكأنه أخذ تلك القاعدة من ذلك الكتاب الذي عثر به في خرائب روما، فرآه مكتوبا قبل الإسلام بمائة سنة، وفيه آراء في الشعر الجاهلي، وفيه قواعد نحوية ضابطة محكمة لا يشذ عنها إلا شاذ، ولا يختلف عليها إلا ما كان خطأ. وفيه أشياء وأراء يقال أن الدكتور طه لا يردّه عن نشرها إلا أنه يطمع أن يجد تحقيقها في كتاب آخر يعثر به في خرائب أثينا!! " [14] . وهو يشير بذلك إلى ولع الدكتور بالثقافة اليونانية وإغراقه في حب الإغريق، وحُبِّه لهم حبا ملك عليه قلبه حتى نهاية حياته!
ويكاد المريب يقول خذوني:
امتنع الدكتور عن نشر بحثه هذا في اللغة العربية، حتى حصلت عليه صحيفة الأهرام فنشرته مترجما، وانكشفت أباطيل الدكتور وفضحه الله على رءوس الأشهاد!
_ 3 _(13/471)
زعم طه حسين أن القراءات السبع المجمع عليها لدى العلماء لم تنزل من عند الله، وأن العرب كما قرأتها حسبما استطاعت قراءتها لا كما أوحى الله بها إلى نبيه صلى الله عليه وسلم.
وهو بذلك البهتان ينكر أنها مروية عن الله تعالى كما جاءت على لسان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم متجاهلا الآثار المتواترة والصحيحة التي وردت بهذا الصدد في كتب السنة المعتمدة.
كان يرى أن هناك قرآنا مكيا وقرآنا مدنيا، القرآن المكي يتميز بالبعد [15] عن المناقشة والخلو من المنطق (كذا) ! والقرآن المدني يناقش الخصوم بالحجة الهادئة..
والمؤسف ليس هذا الكلام الغث وحده، وإنما المؤسف بالدرجة الأولى هو ما يدل عليه من أن هذا الملحد المجاهر بإلحاده يعتقد أن القرآن الكريم هو من وضع النبي صلى الله عليه وسلم!!! فهل هناك ما هو أصرح من هذا في باب الكفر؟ وليس كلامه هذا صادرا عن استقراء لما يزعمه قرآنا مكيّا ومدنيا.
فالدارسة المتعمقة للقرآن تُبَيِّن أن الآيات المكيّة مليئة بأقوى البراهين وأقمعها للملحدين الجاحدين. وكثيرا ما حاجّ الله سبحانه كفار مكّة وقارعهم الدليل تلو الدليل وتحداهم المرة بعد المرة فأعلنوا عجزهم وتسليمهم ودخلوا في دين الله أفواجا.
أما ما يزعمه قرآنا مدنيا، ويزعم أنه مُلِئَ بالتشريعات والأحكام ومبادئ الأخلاق.. الخ.. فإنه يردّ ذلك كله- قاتله الله - إلى احتكاك المسلمين بيهود المدينة، الخ ما قاله مما يملأ النفس ألما ووجدا على هذا الآدمي الذي ابتلي به المسلمون حينا من الدهر، ولا زالت سمومه تتسرب على أيدي أشياعه ممن وردوا ورده، وشربوا من المستنقع الذي كرَع منه حتى غصّ بريقه..!
_ 5 _
زعم أن عدم وضع النقط على الحروف القرآنية في بدء تدوينه قد أدّى إلى حدوث اختلاف في نطقه، فهناك كلمات تنطق هكذا: فتبينوا، فتثبتوا.. الخ.(13/472)
والحق الذي لا مراء من حوله، مهما أرجف المرجفون، أن القرآن مكلوء برعاية الله إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين وذلك بنص قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
وقد أحاط الكثيرون من الدارسين لعلوم القرآن بالكثير مما يتعلق بهذه الأمور، وما قصد طه حسين بهذا الافتراء إلا أن يكسر القداسة التي خص بها القرآن الكريم، سّيما وهو يعلم أن القرآن يتميز عن التوراة والإنجيل بأنه معجز بلفظه، محفوظ في السطور والصدور بنصّه، متعبد بتلاوته وهو كما قال (جاك بيرك) : "سقف اللغة العربية تقاس عليه ولا يقاس عليها"، فكيف يضعه هذا المخّرف موضع الشك والاختلاف؟
_ 6 _
ادعى أن لفظة (سورة) مأخوذة من كلمة (شورة) العبرية، بمعنى (سلسلة) وأثار الشك في لفظة (قرآن) هل هي عربية أو عبرية أو مأخوذة من لغات أخرى.
ورأى أن (الكتاب) غير (القرآن) ، وأن الكتاب كان موجودا قبل إنزال القرآن، وأن القرآن صورة عربية منه. (نعوذ بالله من ذلك) .
هل سمع السامعون في تاريخ الكفر والنفاق بمثل هذا؟
_ 7 _
ومن أخباره أنه كان يشجع تلاميذه في كلية الآداب على أن ينقدوا القرآن في جرأة ينقدونه باعتباره كتابا أدبيا! يمكن أن يقال فيه هذا كذا، وهذا كذا. ويحاول أن يدرسه دراسة فنية!!
فهل تسلح أولئك الطلاب بالأسلحة العلمية الكافية لدارسة القرآن، فضلا عن ((نقده)) بأمر أستاذهم؟
وهل يملك أستاذهم نفسه، مهما بلغ من علوم اللغة نحوها وصرفها وبلاغتها وأدبها وفقهها ومتنها، أن يمسّ القرآن بكلمة نقد واحد؟
وهل استطاع أساطين البلاغة وفرسان البيان من العرب الخلص إلا أن يسلموا مقاليدهم أمام إعجاز القرآن الكريم وبلاغته فماذا يبلغ هذا الدعيّ من الفقه بلغة الكتاب الكريم وأحكامه العظيمة؟ سبحانك هذا بهتان عظيم.
وقفة أمام تراث طه حسين(13/473)
سنضرب الذكر صفحا عما أوردناه، رغم فظاعته وهوله.
وسنلج مرة أخرى باب البحث في تراث طه حسين، لعلنا قد ظلمنا الرجل وما أنصفناه أن أثبتنا عداوته للدين، وأغفلنا نتاجه في الأدب.
سنلج باب البحث في أدبه على طريقته هو بأن نجرده من القيم الروحية التي كان معاديا لها. ((ونحرره)) - كما يقول - من إطاره الإسلامي!
تميزت كتابات طه حسين بما يلي:
1_ المجافاة لروح البحث العلمي الصحيح:
من الواضح أنه لم يكن من الميسور له أن يستعين بأدوات البحث العلمي، من هنا اكتفى بالنقد الأدبي الذي يقوم على الذوق، والقصة التي تقوم على الخيال، والاستعراض التاريخي والسياسي الذي يستطيعه كل من يمسك بالقلم كما يقول أنور الجندي! وفي الجامعة المصرية يقول أستاذه الشيخ محمد المهدي: "إن رأس هذا الفتى كالقدر الفارغة تحتها النار تتلظى فلا هو يشفق على القدر فيملؤها بما يقيها جور النار، ولا هو يبقى على النار إلى أن يتسنى لها الانتفاع بها في الوقت المناسب" [16] .
وفي الحقيقة إن استعراض النتائج النقدي لطه حسين، يوقفنا على حقيقة خطيرة ومؤسفة، وهي أنه كان في نقده يسير على غير قواعد. كان يكتفي بما يسميه هو نقدا ذوقيا. ومتى كان النقد ذوقا مجردا بلا دراسة؟
ومتى كان الذوق دستورا عاما يستوي فيه كل الناس، حتى تكون الأحكام الصادرة على أساسه أحكاما نهائية وعامة ولها صفة الثبات والصدق؟
هذا ما عابه عليه صديق عمره والمدافع عنه ضد الثائرين عليه عباس العقاد: "نرى الدكتور يقول مرة: إن أصول النقد الأدبي واحدة، قد وضعها اليونان قديما وفرغوا منها، وتلقاها منهم الإنجليز كما تلقاها منهم الفرنسيون فهم لا يختلفون.
ثم أراه يقول بعد أشهر قليلة: إن النقد ليس له أصول مقررة عند الناقد، فضلا عن الأمم الكبيرة والعصور الكثيرة، وأن الناقد يستحسن أو يستهجن، والمرجع إلى ذوقه وحده في استحسانه أو استهجانه! " [17] .(13/474)
وأخطر من هذا أن ينقلب ذوق الناقد إلى صكوك للغفران، بحيث يعطي البركة لهذا وجواز العبور لذاك، أو ينصب من نفسه حاكما عاما في دولة الأدب، يأمر وينهى، ويكافئ ويضطهد، ويقرِّب ويبعد.. ويميل في معظم أحكامه مع الهوى. وهذا هو أيضا ما فعله طه حسين. يقول إسماعيل الأدهم:
"والدكتور طه في نقده للمؤلفات العصرية، والأدباء والشعراء المعاصرين يميل كثيرا مع هواه، لأنه يعتبر النقد عملا أدبيا محضا. فيعمل على إظهار تذوقه، وتتجلى شخصيته بأغراضها وأهوائها في نقداته، ومن السهل أن تكتشف عواطف الدكتور وميوله بل أهواءه وأغراضه من السهل تستكشف أنه متأثر بالحب في هذا الفصل وبالصداقة في هذا الفصل، والبغض والحسد في ذياك الفصل. ومن هنا يرى الكثيرون أنه ليس بعالم، ولا يستطيع أن يكون عالما" [18] .
ولعل هذا الاتجاه القائم على الميل مع الهوى هو الذي دفع طه حسين إلى أن يغير كثيرا من آرائه فجأة وبلا مقدمات، ولذلك سنجده ينقض اليوم ما بناه بالأمس، كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا. وما ينبغي للكاتب الذي يحترم نفسه وفكره وعقل القارئ له أن يبدي أحكاما فجة لم تستقر في عقله ولم تنضج في تفكيره!!
2- اتجاهه إلى الإباحية والأدب المكشوف:
إن الدعوة القوية المشبوهة، التي اتجه بها طه حسين إلى فصل دراسة الأدب العربي عن الفكر الإسلامي، وظل يلح إلحاحا عجيبا في الدعوة إليها لم يناد بها عبثا، ولم يطالب بتطبيقها مطالبة ذاهبة في الهواء.
وإنما كانت هذه الدعوة ستارا فاجرا يخفى من ورائه عملياته الإباحية الداعرة، التي تنطلق من مبدأ الحرية في التعبير الأدبي!
ويا أيتها الحرية..! كم من الفضائح في دنينا ترتكب باسمك!!
انطلق طه حسين باسم الحرية الفكرية يطالب بترك الأبناء على هواهم في طريق حياتهم، وإعطائهم ما يسمى بحق التربية الاستقلالية الحرة …(13/475)
ودعا إلى مطالبة المرأة بالثورة على الرجل، ومخالفتها له، وخروجها على ولايته.. وتشجيع الفتاة على ممارسة جميع أنواع الحرية وتحطيم التقاليد الشرقية.. (أي الآداب الإسلامية) ..
ولا شك أنه، بما استطاع أن يتشرّبه من عادات الغرب في فرنسا، وبما اقتبسه من تقاليد الغرب منذ اقترن بزوجته الفرنسية في باريس، وأنجب منها ولده الذي أسماه اسما فرنسيا هو ((كلود)) _ لا شك أنه بذلك أقدر على تعليمنا كيف يكون التنكر للدين، والتقاليد، والقيم والفضائل الإسلامية.
ونحن نتساءل:
لمصلحة من، يشيع الدكتور في دراسته للعصر العباسي، أنه كله كان عصر شك وزندقة وفجور ومجون. ويتخذ من شعراء معينين ذوي ميول غزلية وجنسية أعلاما منشرة لهذا العصر كله، مسقطا من حسابه كل الاتجاهات الدينية والحماسية والحكمية وأشعار البطولة وأبيات الزهد.. الخ؟
لا غرو أن الناقد الذي يتخذ من كتاب الأغاني ونحوه مصادر رئيسية لنقده الذوقي وإنتاجه الأدبي - ويقضي جل أوقاته مع النتائج الرخيص لأبي نواس، ومسلم بن الوليد، ووالبة بن الحباب، وأمثالهم من شعراء العبث - لا يتوقع منه إلا أن يطلق هذه الغثاثات التي لا تثبت للنقد، ولا تستحق أن تناقش لأن زيفها واضح حتى للمبتدئين في دراسة الأدب [19] .
وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
اعتناقه مبدأ الشك الديكارتي
هل يمكن أن يصل الإنسان عن طريق الشك إلى اليقين؟
هذا هو السؤال الخطير الذي أجاب عنه طه حسين بالإيجاب. بل وجعل منه منهجا علميا، إلتزمه في دراساته الأدبية، وتعصب له تعصبا شديدا. والمهم أن نقرر كما قرر هو:
أن هذا المنهج لم يصطنعه من عند نفسه، بل جارى فيه الفيلسوف الفرنسي ((ديكارت)) صاحب ((الكوجيتو)) الفرنسي المشهور..
(أنا أفكر، فأنا موجود.. (je pense, donc je suis) .(13/476)
وإذا تأملنا هذا المنهج بعمق، ووقفنا عنده طويلا، لوجدناه يتضمن عمليتين ذهنيتين، إحداهما يقينية، وهي النقض أو الهدم.
وثانيهما محتملة، وهي البناء أو اليقين. فالمفكر الفرنسي يفرغ ذهنه تماما من أي فكرة معارضة أو مؤيدة لموضوع بحثه، ثم يبدأ في محاولة البناء من جديد، وهي عملية أشبه ما تكون بالولادة العسرة. فالهدم أسهل ما يكون بضربة معول، بينما البناء يتطلب أدوات وخبرات عديدة ووقتا طويلا وعملا شاقا حتى يرتفع البناء مرة أخرى.
ثم إن هناك مدى محدودا يمكن أن يتحرك فيه هذا المبدأ الشكاك. أما إذا اقتربنا من المقدسات الدينية، والنصوص الثابتة من الكتاب أو السنة. فأي منطق يجيز لمفكر أو باحث مهما علا كعبه في ميدانه أن يستخدم مبدأ الشك الديكارتي كما يستخدم الجراح المشرط في تشريح النصوص وتمزيقها وتفريق وحدتها وهدم مضموناتها؟ إن دون ذلك خرط القتاد!.
لقد بلغ هَوَس الدكتور بتطبيق مبدأ الشك أن جرّبه في كل شيء..
- في إنكار الشخصيات التاريخية، حتى وإن أثبتها القرآن والتوراة والإنجيل. كما فعل في إنكار الوجود التاريخي لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
- في النسب الصحيح للشاعر المتنبي حين ادعى أنه لقيط!
- في الحقائق الثابتة.. حين أنكر عروبة مصر وساق الأباطيل التي يرددها المستشرقون لتأييد هذا الإنكار.
- في وجوب تعظيم النسب الشريف، حين قال: "فلأمر ما، اقتنع الناس بأن النبي يجب أن يكون صفوة بني هاشم، وأن يكون بنو هاشم صفوة بني عبد مناف، وأن يكون بنو عبد مناف صفوة بني قصي، وأن تكون قصي صفوة قريش، وقريش صفوة مضر، ومضر صفوة عدنان، وعدنان صفوة العرب، والعرب صفو الإنسانية كلها" [20] !
- في إنكار الشعر الجاهلي جملة وتفصيلا وهو ديوان العرب، ومصدر ثقافتهم وموضع فخرهم وسجل انتصاراتهم، وتاريخهم المنبئ بأحوالهم في سلمهم وحربيهم، في حلهم وترحالهم، في غدوهم ورواحهم.(13/477)
وفي معرض الرد على مذهب الشك الذي انتهجه طه حسين يقول الأستاذ الغمراوي: "إن الغرب نجا من أن يحاول هدم تاريخه أو تاريخ لغاته هادم عن طريق الشك غير العلمي: لسيادة الرأي العلمي فيه.. واستحواذ الروح العلمي على أهله.. أما الشرق، فليس له مثل هذين السياجين يردّان عنه عادية هذا الباطل الذي يهاجمه باسم الحق، ولا هذا الشك الذي يريد أن يداخله باسم العلم، ولا هذا الهدم والتعطيل اللذين يكرّ عليه بهما نفر من أهله باسم التجديد! ومهما يكن من موقف المؤرخين في الشرق أو في الغرب حيال مبدأ الشك المطلق فإن العلماء لا يأخذون به، وإن العلم لا يقرّه ولا يمكن أن يقره.." [21] .
إن منهج الشك الذي اتخذ منه صاحبنا الشكاك هذا معولا يهدم به التراث العربي والإسلامي، وسلاحا يحاول به تمزيق عقائد الأمة وأخلاقها لا يصلح أن يكون طريقا علميا منهجيا يسلكه الباحثون عامة والباحثون المسلمون خاصة..
وبحسب المرء منا أن يسأل نفسه:
هل يمكنه أن يشك لحظة واحدة فيما جاء في كتاب الله سبحانه أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟
وهل يمكن أن يوصله الشك في الحقائق الثابتة الوطيدة إلا إلى هوة الضياع الأبدي؟
وهل استطاع أن يتوصل من شكه هذا إلى الإيمان، سيما والكل يعلم أن طه حسين ظل يتاجر بتصريحاته الدينية وكتبه التي يزعمها إسلامية إلى آخر حياته؟
إن الدعوة الإسلامية في غنى عن هذا كله.
إن قضية الإيمان لا يهزها ولا يؤثِّر فيها مُدَّعُو الإيمان، والمتاجرون بعقائد المسلمين، ولكن الأمور يجب أن توضع في نصابها الصحيح، فلينهض أُسُودُ الدعوة لينفوا أمثال هذا المأجور الراحل من صفوفهم كما ينفي الكير خبث الحديد!(13/478)
يقول الأستاذ العدوي: "كيف يقدس الحق من يجد في الشك لذة؟ أم كيف يطمئن للحقائق من يجد في القلق والاضطراب رضا؟ إذا كان الشك يلذ للدكتور وأمثاله من المجددين، والاضطراب تستريح إليه نفسه، فكيف يستنتج مجهولا من معلوم، وينتقل من مقدمات إلى نتائج، ومن مبادئ إلى غايات؟ وهل إذا وضحت أمام الدكتور المقدمات وتجلت الحقائق، يأمن أن تساوره شهوة الشك، أو تملك عليه أمره لذة القلق والاضطراب؟ " [22] .
ملاحظات حول منهج البحث الذي ارتضاه المؤلف
من المعروف جيِّدا لدى الباحثين [23] أنه لا بحث بدون منهج، ولا منهج بدون هدف. وهناك أساسيات لدى المشتغلين بالبحث العلمي، وهي أشبه ما تكون بالدستور العام، الذي يتضمن عددا من القواعد الكلية، التي بدونها لا يمكن وضع البحث أيّاً كان صاحبه في دائرة البحوث العلمية المحترمة.
ونحن الآن بصدد المناقشة لبعض الجوانب التي أغفلها الباحث المخلص الأستاذ أنور الجندي، رغم علو كعبه ورسوخ قدمه في الدراسات الأدبية والإسلامية بصفة عامة:
_ 1 _
إن أكبر ما يعاب به الباحث ألاّ يحيل القارئ على المراجع المتخصصة التي استقى منها مادته العلمية. ومؤلفنا ينقل عن العقاد ما يقرب عن صفحة كاملة (ص184) من كتابه دون أن يقول لنا من أين استقى كلام العقاد هذا، لعل القارئ يبغي الاستزادة أو الرجوع إلى الأصل المنقول عنه.
وينقل مثل هذا عن السيد محب الدين الخطيب (ص185) دون ذكر المرجع ومثل هذا كثير في كتابه، إذ يقول مثلا ص202: "وقد دمغه صديق عمره الأستاذ أحمد أمين بهذا التحول والتناقض حين قال في إحدى مقالاته.."والسؤال هنا: أين، ومتى.. قال الأستاذ أحمد أمين ذلك؟؟.
_ 2 _
ومن المعروف أيضا في علم مناهج البحث، وفي علم مصطلح الحديث، أن عدم ذكر الراوي يضعف من صحة الرواية. ومن أجل هذا لا يمكن قبول مثل هذه العبارة التي أوردها المؤلف ص186:(13/479)
"ويتفق هذا مع ما قاله بعض المقربين إليه: لا أدري الزيات، أم أحمد أمين أم غيرهما.."
إذا كنت لا تدري مصدر الخبر، فعلى أي أساس أوردته؟ ومثل ذلك قوله ص171:
"ويقول أحد الباحثين الأعلام.."أحد الباحثين الأعلام، ولا ندري من هو؟ لماذا؟ هل يخجل أن يصرح لنا باسمه؟؟
_ 3 _
ومما يخدش منهج الباحث أن يذكر في صلب بحثه ما يجب أن يذكره في الحاشية. وهي مسألة يجب أن ينتبه إليها الباحثون أجمعهم، لأن ذلك يوقع الباحث في بلبلة وحيرة ويعطل الانتفاع المرجو من البحث بالطريقة العلمية المفيدة. فهو يقول في الصفحة الثانية بعد المائتين:
_ 4 _
"كتب الدكتور زكي مبارك في 11 نوفمبر 1932م في جريدة البلاغ تحت عنوان: الحديث ذو شجون". والمفروض أن يذكر المرجع وصاحبه وتاريخ في هامش الصفحة كما هو المتبع لدى الباحثين.
يقتضي منهج البحث الصحيح أن يقسّم الكتاب من الناحية الموضوعية تقسيما في غاية الدقة، بحيث يكون أشبه بالبناء الهندسي المتماسك، الذي يرتبط بعضه ببعض في قوة وإحكام، وذلك يقتضي ألا يكون فيه تكرار، ولا يحدث في مادته العلمية تداخل، ولكننا نجد المؤلف يكرر الكثير من العبارات في أجزاء مختلفة من الكتاب لأدنى ملابسة، وكان يكفي الإشارة إلى موضعها من الكتاب نفسه. وهذه أمثلة مكررة:
- اتهام طه حسين للمتنبي بأنه لقيط صفحات 213، 215.
- مبالغة طه حسين في حديثه عن ديكارت 216، 189، 208.
- إنكار الدكتور الوجود التاريخي لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام صفحات 6، 209، 220، 255.
- تشكيكه في فضل النسب الشريف صفحات 175، 220.
- تقرير لجنة الأزهر المشكَّلة لدراسة كتاب الشعر الجاهلي صفحات 176، 221.
- تقليد العقاد إمارة الشعر ثم نكران ذلك صفحات 189، 252.
- رأي العقاد في طريقة البحث عند طه حسين صفحات 185، 201.(13/480)
- رأي د. عمر فروخ في أسلوب الدكتور صفحات 201، 207.
- أقوال تكررت نسبتها إلى د. إسماعيل أدهم، وفتحي غانم، وعبد الحميد السحار، ومحمود مراد صفحات 198، 258.
_ 5 _
من المعروف جيدا لدى الباحثين أن كل باحث مسئول عن الآراء والعبارات التي ينقلها عن غيره. كما أن سكوته عنها معناه أنه موافق على ما جاء فيها من ناحية الشكل ومن ناحية المضمون كذلك.
وقد جرت العادة أن يعلق الباحث على ما ينقله من آراء لغيره، وقد يكون هذا التعليق في صورة تصحيح لبعض المعلومات الواردة، في النص المنقول، أو اعتراض مصحوب بالدليل على أجزاء منه، أو استكمال لنقص ورد فيه من الناحية العلمية أو الموضوعية البحتة، أو تصحيح لبعض الأخطاء المطبعية أو الإملائية أو النحوية بالفقرة موضع الاستشهاد.
وقد نقل مؤلف الكتاب عددا من النصوص التي وجدت فيها بعض الأخطاء، وكانت الأمانة العلمية تقتضي تصويب هذه الأخطاء، أو التعليق عليها بما يفيد إدراك المؤلف لموضع الخطأ فيها.
وهذه بعض الأمثلة التي أوردها مع الإشارة إلى موضعها من الكتاب، وصواب ما رأيته صوابا:
- جاء بالكتاب ص 198 (منسوبا إلى فتحي غانم) :
هل طه حسين ملحد أم مؤمن.
وصوابها: ملحد أو مؤمن.
- وجاء منسوبا إلى طه حسين نفسه ص 200 أنا كمسلم أعلن أني.
وصوابها: أنا باعتباري مسلم (لأن الإنسان لا يشبه بنفسه) .
- ونقل عن الدكتور عبد الحميد سعد ص 227:
ومن يتبع حياته العلمية وجد. .
والصواب: ومن يتتبع حياته العلمية يجد. .
- ونقل عن اللواء شيت خطاب ص 173:
إن الله يقول: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ…} .
وصوابها: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} سورة الحجر: آية رقم (9) .
- وكما نقل عن الأستاذ عبد المنعم مراد ص 217.
على هؤلاء النقاد الفضوليون.(13/481)
وصوابها: على هؤلاء النقاد الفضوليين.
- وجاء منسوبا إلى طه حسين قوله ص 116:
كما يقول الفرنسيين.
والصواب: كما يقول الفرنسيون.
- وجاء منسوبا إلى ((جريدة الشعب)) ص 138:
ليس حرب على الدين فقط. .
والصواب: ليس حربا على الدين فقط.
عبارات مضيئة
من الطرق المهمة للاستفادة بما يقرأ: تركيز الانتباه على عبارات بعينها، وإعادة مطالعتها والتأمل كثيرا في مضمونها. ذلك لأن أمثال هذه العبارات يعد بمثابة ((مفاتيح الإنارة العلمية)) التي تكشف لك العديد من الاتجاهات، وتنير لك الكثير من دروب الفكر، وتكون في يدك بمثابة العلامات الهادية على طريق البحث العلمي.
ولقد أعجبني من هذه العبارات ما يلي: إنه كما قال البعض: "أنكر كثيرا ولم يثبت شيئا".
ونحن نعرف أن إثارة الشكوك، وتركها معلقة دون إجابات صحيحة هو لب المنهج التلمودي الذي يسيطر الآن على الفكر الغربي الحديث ص 201 وجاء بالكتاب، نسبة إلى د. زكي مبارك: "إن الأستاذية في الأدب عبء ثقيل لا ينهض به إلا الأقلون. وهي تفرض الاطلاع الشامل على خير ما أبدع العرب في خمسة عشر قرنا، وهي تفرض البصر الثاقب بأصول الأساليب وهي تفرض العناء المطلق في التعرف على فحول الكتاب والخطباء والشعراء". ص84.
ويقول المؤلف: "إن التجارب العديدة أثبتت أن الفنيين في التعليم لم يكونوا إلا قسسا أمثال دنلوب، أو مستشرقون متصلون [24] بالكنائس أو الاستعمار الغربي، ولم يكن هناك الفنيون المتجردون من الهوى والغاية، الذين يفهمون كيف يكون التعليم في بلد مسلم، وليس عندهم إلا مناهج الإرساليات وهي موجودة والحمد لله!! في مصر، والعالم العربي بوفرة، وقد نقلت مناهجها إلى المدارس الوطنية منذ قدوم دنلوب عام 1886م تقريبا" ص 104.
وجاء بالكتاب أيضا قول المؤلف: "إن طه حسين قد تعلم فيما تعلم شيئا هاما [25] جدا بعد التجارب المريرة:(13/482)
ألا يهاجم الدين - بل يهاجم - المؤسسات والأفراد.
فهو حينما يهاجم الأزهر إنما يهاجم الإسلام من الداخل وذلك أسلوب كانت له آثار بعيدة في خلق جوّ من استهانة الناس بعلماء الإسلام، والنظر إليهم على أنهم ليسوا أهلا لأن يقدّموا التوجيه للمسلمين. . " ص 107.
ونقول: هذا ما فعله طه حسين حين هاجم الأزهر وطالب المسئولين بإلغائه وإلغاء المعاهد الدينية العلمية، وتوحيد التعليم على أساس مدني بحت، وجعل الأزهر كلية لاهوتية فقط على النظام الأوربي، فهل أغناه ذلك شيئا في قدومه على ربه سبحانه؟ [26] .
وبعد. .
فإن هذا كتاب جدير بالقراءة لأن هناك آخرين يحملون راية طه حسين ويرددون نفس أقواله، {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ} فلتكن أعينكم مفتوحة على الخطر مهما كان مصدره، ولتكن رؤوسكم مرفوعة في وجه المنحرفين والمشككين مهما كان حجمهم ووزنهم.
ولتكن عقولكم مفتوحة على كل الثقافات لمعرفة الصحيح منها والفاسد، {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} .
وطوبى لمن عرف الحق فاتبعه، وعرف الباطل فاقتلعه، فإنما ينتصر الإسلام بجنود يتحدون الضلال فيصرعونه ولا يتركونه حتى يصرعهم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة البقرة (204_205) .
[2] انظر ص178 من كتاب (طه حسين في ميزان الإسلام) دون تحديد المصدر الذي نقل عنه المؤلف.
[3] أنور الجندي: طه حسين في ميزان الإسلام ص178 دون ذكر المصدر.
[4] تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
[5] لم يذكر المؤلف مصدر هذه العبارة مع الأسف.
[6] الصواب: باعتباره جزءا؛ لأن الشيء لا يشبه بنفسه هو خطأ نحوي فاضح لعميد الأدب.
[7] راجع الفكرة كلها في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) .(13/483)
[8] سورة الأنعام (162،163)
[9] الصواب: الذي. فالواو هنا لا ضرورة لها، لأن الشيء لا يعطف على نفسه. ومعذرة عن التطاول على مقام عميد الأدب بإصلاح أخطائه اللغوية.
[10] صحيفة كوكب الشرق المصرية (12_ أغسطس 1933م)
[11] انظر خاتمة الكتاب موضوع بحثنا.
[12] أرجو أن يتنبه أبناء كلية القرآن الكريم في الجامعة الإسلامية بخاصة إلى هذه المطاعن والشُبَه وأن يتعقبوها في مظانها ليقضوا عليها، لأنها شُبَه ومطاعن لا تموت بموت صاحبها ولكنها تتجدد كلما استشرى نشاط المبشرين الهدام، أو كلما نعق ناعق من أرباب الفتنة في الصحافة المأجورة أو عبر الإذاعات السامة.
[13] طه حسين: في الشعر الجاهلي ص26. وقد أثار هذا الكتاب سخط جميع أفراد الأمة على مؤلفه، وطرد بسببه من الجامعة، وما أغنى عنه شيئا إن عاد فاعترف بأنه مؤمن بالله ورسوله وملائكته وكتبه واليوم الآخر، لأنه إيمان على طريقة فرعون، ولذا رد عليه الشيخ الأزهري عبد ربه مفتاح بمقال عنوانه: الآن وقد عصيت قبل؟؟ انظر صحيفة الأهرام القاهرية الصادرة في 12 مايو 1926م.
[14] صحيفة كوكب الشرق (27-11-1928م) وقد نشر البحث المذكور في عدد هذه الصحيفة الصادرة بتاريخ (15 من أكتوبر عام 1928م) ونشرته الأهرام القاهرية أيضا كما ستأتي الإشارة إلى ذلك.
[15] يستخدم الدكتور كلمة (الهروب من المناقشة) ليبرهن على بعده عن التأدب مع كتاب الله تعالى. فيا حسرتنا على العباد الذين يتخذون من التخريف أمارة على جودة التأليف، ويسمونه - كذبا وبهتانا -: عميد الأدب..
[16] أنور الجندي: طه حسين ص86.
[17] المرجع ص185.
[18] المرجع ص182.
[19] ملأ طه حسين كتابه (حديث الأربعاء) _ الذي كتبه على غرار (أحاديث الاثنين) للناقد الفرنسي (سانت بيف) مع الفارق الكبير بين الرجلين _ بأخبار المجان وشعراء الغزل وأخبار المحبين وأفرط في ذلك إلى حد مقبول.(13/484)
[20] طه حسين: في الشعر الجاهلي ص72.
[21] محمد أحمد الغمراوي: النقد التحليلي لكتاب الأدب الجاهلي ص132.
[22] أنور الجندي: طه حسين ص209.
[23] يجب أن ينتبه الطلاب المشتغلون بإعداد البحوث في الكليات الجامعية إلى هذه الملاحظات لأنها ضرورية لهم في إعداد بحوثهم، وما من شك أن الطريقة المنهجية هي أهم ما ينبغي أن ينتبه إليه طلاب الجامعة بعامة، وطلاب الدراسات العليا بخاصة.
[24] كذا بالأصل، والصواب: مستشرقين متصلين..
[25] الصواب: مهما، ومن الأفضل تغيير كلمة (خلق) الواردة في الفقرة نفسها.
[26] راجع مقالة (الخطوة الثانية) صحيفة الجمهورية المصرية 21_10_1955م وكانت الخطوة الأولى التي هلل لها وفرح بها هي إلغاء المحاكم الشرعية.(13/485)
حكم التعقيم … وقطع النسل
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد بن باز
ماذا يقول علماء الإسلام وفقهاء الدين في مسألة تحديد النسل والتعقيم البشري وقطع عروق التناسل والرجولية لذلك برضى أو إكراه. هل يجوز في دين الله؟ بينوا أثابكم الله الجواب الشافي على ضوء الكتاب والسنة؟ فإن علماء بلادنا الهند قد اختلفوا في هذه المسألة فالبعض أحل والبعض حرم والبعض سكت فنحن مسلمو الهند حيارى في هذه المسألة لا ندري تمس ديننا أم لا؟
وهل يعتبر هذا العمل أي عمل تحديد النسل التدخل في دين المسلمين وديانتهم أم لا؟
وهل يجوز لأي حكومة تنادي بحرية الديانات وعدم التدخل في الشؤون الدينية أن تقوم بتحديد النسل على قدم وساق وتجهد المسلمين في ذلك بإرضاء أو إكراه؟
بينوا ووضحوا أجزل الباري ثوابكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
السائل: أنوار أحمد خان بن ميجر مهر محمد خان
الرئيس العام للحزب المسلم بنجاب
ملبركوئلة. (بنجاب) الهند
الحمد الله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه:(13/486)
أما بعد: فمن المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن هذا العمل المذكور في السؤال منكر وظلم للشعوب بل ظلم للبشرية جمعاء ولا يجوز لأية دولة إسلامية أو غيرها أن تقوم بذلك لأن التعقيم للرجال والنساء ظلم عظيم يترتب عليه فساد كبير وعواقب وخيمة وهو مخالف للأدلة الشرعية من الكتاب والسنة ومخالف للفطرة التي فطر الله عليها العباد ومخالف لما تقتضيه العقول الصحيحة التي ينشد أربابها المصلحة العامة للبشرية وإذا كان ذلك مع المسلمين ففيه من المضار العظيمة تقليل عددهم ضد عدوهم ومخالفة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرشد فيها إلى الأخذ بأسباب كثرة النسل وقال إنه مكاثر بأمته الأمم يوم القيامة وفي ذلك من الفساد أيضا تقليل من يعبد الله وحده ويدعو إلى شرعه ويعين على إقامة العدل في الأرض وبالجملة فالتعقيم المذكور من أقبح الظلم وقد قال الله عز وجل في سورة الفرقان: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" والأدلة على تحريم هذا التعقيم وأنه من أنواع الظلم المحرم فعله من الكتاب والسنة كثيرة جدا، فنسأل الله أن يهدي من فعل هذا الفعل المنكر إلى الرجوع إلى الصواب. وأن يوفق المسلمين في كل مكان لما فيه عزهم وجمع كلمتهم على الحق ونصرهم على من خالف أمر ربهم إنه سميع قريب وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
الرئيس العام
لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(13/487)
نظرات في كتاب الله الكريم
لفضيلة الشيخ حسين محمد المصري
كانت مهمة القرآن الكريم والتشريع السماوي الحكيم إبان توالي نزول الآيات البيِّنات_ تركيز العقيدة السليمة في نفوس الناس ثم بناء الأحكام والتشريعات على العقيدة الحقة.
وهذا الأسلوب الحكيم نجده واضحا في سياق سورة الحج التي اختتمها سبحانه بقوله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} .
وقد تضمنت سورة الحج أمرين هامين أحدهما يتعلق بالله جل جلاله وثانيهما يتعلق بالرسل عليهم الصلاة والسلام، وهذان الأمران هما أساس العقيدة السليمة الصحيحة، وجاءت الآيتان الكريمتان اللتان اختتمت بهما هذه السورة بمثابة النتيجة الصحيحة لهذه المقدمات التي أثبتت العقائد بأسلوب حكيم يخاطب القلب والعقل.
والأمر الأول الذي ركزت عليه السورة الكريمة هو إثبات وجود الله سبحانه وقدرته المطلقة التي لا تحدها حدود، فهو القادر على أن يعيد الناس يوم البعث ليحاسبهم على ما قدموا في هذه الدنيا من خير أو شر، ويسير في التدليل على ذلك بتوضيح وإطناب يتناسب مع حال المنكرين للألوهية والبعث.(13/488)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ..} الآيات ثم تخلص الآيات الكريمة من ذلك إلى نتائج حتمية، وعقائد لا بد أن تستقر في القلب نتيجة الإقناع المنطقي السليم.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ..} .
{وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} .
ويسوق سبحانه أدلة أخرى لتركيز العقيدة ثم يتبعها بالنتائج الثابتة.
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} .
ثم يعدد تعالت أسماؤه آيات قدرته ومظاهر رحمته في ثنايا أدلة وحدانيته
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً..} .
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} .
ثم ينكر عليهم عبادة غيره مع وضوح هذه الأدلة وكثرتها فيقول سبحانه:
{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} .
ثم يبين أن هذا الغير الذي يتجه إليه الضالون بالعبادة والتقديس ضعيف غاية الضعف لا يقوى على خلق ذبابة بل وأكثر من ذلك ضعفا أنه إذا سلبه الذباب شيئا لا يستطيع استرداده فهو إذن أضعف من الذباب فكيف يعبد هذا الضعيف من دون الله القوي القادر.(13/489)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} .
أما الأمر الثاني، وهو مترتب على الأول، فهو إثبات نبوة، ورسالة الرسل عامة لتدخل فيها رسالة نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام دخولا أوليّا فيقول سبحانه.
{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} .
فقد أخذ سبحانه العهد على نفسه تفضلا ورحمة، أن يبين للناس طرق الخير من الشر، وأن يهديهم النجدين، وأن يبعث لهم الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل كما أخذ العهد على نفسه ألا يعذب أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه بإرسال الرسل.
{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} .
فاصطفاء الرسل من الملائكة ومن الناس داخل في حدود قدرته، وهو تفضل ورحمة منه سبحانه حتى تسقط حجة الغاوين حين تصدمهم الحقيقة.
والآن وقد ثبت بالحجة وحدانية الله سبحانه، وقدرته المطلقة على الإيجاد والإعدام والبعث والنشور والحساب والجزاء.
وثبت أن الناس سيقسمون في الآخرة إلى قسمين يختصمان في ربهم، فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم الحميم..
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} .
وثبت بجوار ذلك أن الله سبحانه اصطفى من الملائكة ومن الناس رسلا يبشرون وينذرون.(13/490)
وجب نتيجة لهاتين العقيدتين المستقرتين في النفس المؤمنة أن تظهر آثارهما، وأن تترتب عليهما نتائجهما بأن تكون العبادة المطلقة والخضوع المطلق لهذا الإله القوي القادر الواحد الأحد، بالطريقة التي يرسمها عن طريق هؤلاء الرسل المصطفين فقال سبحانه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِه} .
وقد تضمنت الآية الكريمة بعد ذلك أوامر أربعة، كل منها يعتبر أساسا ودعامة لهذا الدين المتين.
وقد أحاطت الأوامر الأربعة بأنواع التكليف.
منها أمران ينظمان العلاقة بين العبد وربه، وهي أساس الإيمان الصادق، والأمران الآخران يتعدى أثرهما ذلك إلى الناس، فينظمان العلاقة بين أفراد المجتمع لتتكون أمة فاضلة، تعمل لغاية، وتقصد لهدف، وهو تحقيق السعادة في هذه الحياة، وجعلها طريقا موصلا إلى الحياة، وجعلها طريقا موصلا إلى حياة أسعد، فيها الخلود الدائم، والنعيم المقيم.
أما الأمران اللذان ينظمان العلاقة بين العبد وربه فأولهما قوله سبحانه {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} والمقصود بذلك صلوا وإنما عبر عن الصلاة بالركوع والسجود لأنهما أشرف أركانها، وليس هناك ركوع ولا سجود في غير الصلاة، والصلاة مناجاة بين العبد وربه، ترك للترابية المادية وتحليق بالنفس إلى عالم الروحانية المطلقة. ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام:
"أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد".
ولقد تكرر الأمر بإقامة الصلاة والمحافظة عليها في غير ما آية من كتاب الله تنويها بشأنها، وتعريفا بفضلها.
{أَقِيمُوا الصَّلاةَ} .
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} .
{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} .(13/491)
حتى جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم فارقا بين المسلم والكافر، حيث يقول: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة". أخرجه مسلم.
وفي قوله عليه الصلاة والسلام:
"العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر". أخرجه الترمذي.
وهذا التشديد من الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه في أمر الصلاة ليس غريبا فهي عماد الدين، وهي أساس الصلة بين العبد وربه، فمن تركها جاحدا لها فقد كذّب الله ورسوله وخرج بذلك من نطاق المسلمين.
أما من تركها كسلا وتهاونا فيخشى عليه من سوء الخاتمة، فقد جعل سبحانه الصلاة سببا في الاستقامة والبعد عن مواطن الزلل حيث يقول سبحانه: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} والصلاة وإن كانت أهم مظاهر العبادة والخضوع المطلق للمعبود إلا أن هناك أنواعا أخرى من العبادة لا يجوز أن تهمل. فهناك الصدقة والحج والدعاء إلى غير ذلك من أنواع التقرب إلى الله سبحانه. ولذلك جعل هذا العموم في الأمر الثاني بقوله: {وَاعْبُدُوا رَبَّكُم} .
وأصل العبودية الخضوع والذل، والتعبيد التذليل، ومنه طريق معبد أي مذلل، والخضوع المطلق والذلة الكاملة لا تكون لغير المنعم بأصل الحياة، وبجليل النعم ودقيقها فلتخضعوا له، ولتتقربوا إليه بكل ما يشرعه لكم من أوجه القرب، وأنواع العبادة، فهذا تعميم بعد تخصيص، فالصلاة المذكورة أولا داخلة في عموم الأمر بالعبادة، فكأن الأمر بها جاء مرتين.
أما الأمران اللذان يتعدى أثرهما ذلك إلى الناس فأولهما قوله سبحانه: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .(13/492)
وفعل الخير دعامة من دعائم الحياة الراقية السعيدة، فالناس في هذه الحياة متفاوتون في قدراتهم، متفاوتون في مواهبهم، منهم القوي ومنهم الضعيف، منهم الغني ومنهم الفقير، منهم ذو الجاه والسلطان ومنهم الخِلْوُ منهما، الكل محتاج بعضهم إلى بعض، فكل فرد في الأمة يستطيع أن يضع لبنات في صرح مجدها سواء منهم القوي والضعيف والغني والفقير، ولذلك يدعو الإسلام الجميع إلى التسابق في الخيرات فيقول: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} ويقول:
{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} ثم يبين صفة هؤلاء المتقين الذين يستحقون هذه الجنة بأنهم خيِّرون بطبعهم ينفقون في السراء والضراء ويكظمون الغيظ ويعفون عن الناس.
ويزيد عليه الصلاة والسلام طرق الخير بيانا وتوضيحا ويضرب لذلك الأمثال فيقول: "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".
ويقول: "اتقوا النار ولو بشق تمرة".
فيدفع الناس إلى عمل الخير مهما كان ضئيلا، فالقليل إلى القليل كثير.
بل ويجعل عليه الصلاة والسلام واجبا على كل فرد في هذه الأمة المسلمة أن يبذل لغيره معروفا إن استطاع ليكون ذلك له بمثابة الجهاد.
هذا أبو ذر جُندب بن جُنادة رضي الله عنه يقول: "قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل، قال: "الإيمان بالله والجهاد في سبيله"، قلت: "أي الرقاب أفضل"، قال: "أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا"، قلت: "فإن لم أفعل"، قال: "تعين صناعا أو تصنع لأخرق". قلت: "يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل". قال: "تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك". ويعد الله العاملين، ووعده الحق، أن ثوابهم لن يضيع عنده.(13/493)
{إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً}
وأن العمل مهما قلّ سيحفظ لصاحبه.
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} .
وأنه سبحانه مطلع على جميع الأعمال ظاهرها وخفيها وسيجزي عليها
{وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} .
{وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} .
والأمر الذي معنا يشمل كل خير يخطر على البال، ثم يبين سبحانه أن الحكمة في هذه الأوامر هي إرادة الخير والفلاح لمن يحافظ عليها فيقول:
{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
و {لعّل} في أصل وضعها تفيد الشك والرجاء والتوقع، وهذا يليق بحال المخاطبين وكأنه سبحانه يقول افعلوا الخير وأنتم ترجون وتتوقعون الفلاح.
أو تكون {لعل} للتعليل فحسب مجردة عن الشك والرجاء، وهذا يليق بجانبه سبحانه وكأنه يقول: "افعلوا الخير لتنالوا الفلاح".
والمقصود بالفلاح الفوز والبقاء والنجاة، النجاة من عذاب الله، والفوز برضاه والبقاء في رحمته وجنته، ومنه قوله سبحانه {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} . أي فازوا ونجوا، ومنه الدعوة في الأذان حيّ على الفلاح أي أقبلوا على ما فيه فلاحكم وفوزكم ونجاتكم.
الأمر الثاني قوله سبحانه {جَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} . أي جاهدوا في ذات الله من أجل مرضاته جهادا حقا. والجهاد مأخوذ من الجُهْد (ضم الجيم وفتحها) وهو الطاقة والوسع، أي ابذلوا جهدكم أي طاقتكم ووسعكم في الله من أجل مرضاته بذلا حقا وصدقا.
والضمير في قوله: {حَقَّ جِهَادِه} راجع إليه سبحانه أي حق جهاد الله، وإضافة الجهاد إليه سبحانه لاختصاصه به، فالجهاد مختص بالله لأنه مفعول من أجله ولوجهه، ولذلك صحت الإضافة إليه.(13/494)
وقد اختلف في المقصود بالجهاد هل هو جهاد الكفار وقتالهم ونشر الدعوة بينهم؟ أو هو جهاد الظلمة والفساق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أو هو جهاد النفس والهوى وحملها على الخير والسداد؟ أو هو جهاد الشيطان برد وسوسته، والظلمة برد ظلمهم، والكافرين برد كفرهم؟. إلى غير ذلك من أنواع المجاهدة في الله.
والجهاد بهذا المعنى العام أساس استقرار الحكم الصالح، يقول سبحانه: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} .
ولذلك ورد الحث على الجهاد وفروعه المختلفة في كثير من آي الكتاب العزيز وسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام ومن ذلك قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} . وهذا يفيد الجهاد العام كالآية التي معنا.
وجاء في قتال المشركين قوله سبحانه: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} . قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً..} .
وقد سئل عليه الصلاة والسلام:"أي العمل أفضل؟ ". قال: "إيمان بالله ورسوله". قيل: "ثم ماذا؟ "قال: "الجهاد في سبيل الله". قيل: "ثم ماذا؟ ". قال: "حج مبرور".
وروى البخاري أن رجلا قال: "يا رسول الله دلني عن عمل يعدل الجهاد". قال: "لا أجد". ثم قال: "هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟ ". قال: "ومن يستطيع ذلك؟ ".
وجهاد الظلمة من أعظم أنواع الجهاد. سئل عليه الصلاة والسلام: "أي الجهاد أفضل؟ ". فقال: "كلمة عدل عند سلطان جائر".(13/495)
هذه هي الأوامر الأربعة التي فصلَّها سبحانه هذا التفصيل البين، ولو نظرنا فيها نظرة تمعن لوجدنا أن هذه الأوامر تتدرج نحو العموم المطلق.
فالصلاة التي أمر بها أولا تدخل في الأمر الثاني وهو الأمر بالعبادة، فالعبادة تشمل الصلاة وغيرها من أوجه العبادة، ثم تندرج العبادة في الأمر الثالث وهو الأمر بفعل الخير، فالعبادة بجميع مظاهرها نوع من أنواع الخير الذي أمرنا بفعله، وحمل النفس على فعل الخير نوع من أنواع الجهاد العام، ففعل الخير مندرج كذلك في الأمر الرابع وهو الأمر بالجهاد في الله حق جهاده.
ثم بين سبحانه السبب الذي من أجله وجب على الأمة المحمدية أن تتقبل هذه الأوامر التكليفية بقلوب راضية مطمئنة، فهناك أمور ثلاثة كل منها كاف وحده ليكون سببا في وجوب هذا التقبل ففيه رضا للنفس واطمئنان للقلب.
أولها قوله سبحانه: {هُوَ اجْتَبَاكُم} أي اختاركم واصطفاكم وجعلكم خير أمة أخرجت للناس، وأنت إذا اصطفيت لك صديقا تفاني في حبك وتنفيذ أمرك وتحمل المشقة في سبيل مرضاتك، فما بالك بمن اختارهم ربُّ العزة واجتباهم وفضلهم على العالمين وجعلهم أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس. أفلا يجدر بهم أن يكونوا عند هذا التقدير فيتقبلوا التكاليف راضين؟ ثم أنه مع ذلك لم يكلفكم شططا. ولو يحملكم ما لا تطيقون {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} والحرج الضيق والمشقة، وقد نفاهما سبحانه، وجعل لكل عسرٍ يسرا، ولكل فريضة رخصة وذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن الله يحب أن تؤتي رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، ولم يخيَّر عليه الصلاة السلام بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما. فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه.(13/496)
وهناك موجب آخر لقبول هذه الأوامر والتكاليف، وهي كونها في عمومها ملّة أبيكم إبراهيم الذي تحبونه وتنتسبون إليه فكيف يدعي عبدة الأوثان أنهم على دين إبراهيم وهو الذي حطم الأصنام. وأقام صرح التوحيد، ثم إنكم بعد ذلك سميتم بالمسلمين، والإسلام من السلامة فإنكم حملة مشاعل السلام في الأرض تنشرونه في ربوعها، وتركزونه في دولها، وتدافعون المعتدين عليه، هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا. والذي سماكم المسلمين من قبل هو أبوكم إبراهيم فأنتم إجابة دعوة الخليل عليه السلام حينما قال: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} .
والأولى أن يكون الذي سماكم المسلمين من قبل هو الذي اجتباكم واختاركم، وهو الذي سماكم بهذا الاسم ليكون الرسول شهيدا عليكم ولتكونوا شهداء على الناس فأي تشريف يبلغ مبلغ هذا التشريف، وأي تكريم يصل إلى هذا الحد من التكريم؟.
هذه أمور ثلاثة كل منها يوجب _ منفردا _ الطاعة المطلقة للأوامر وهي أنه سبحانه اجتباكم واختاركم، وأن هذه الشريعة امتداد لملة أبيكم إبراهيم الذي تنسبون إليه، وأنه سبحانه سماكم المسلمين في الكتب السابقة وفي القرآن الكريم ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس.
وشهادة الرسول علينا أنه بلغنا الرسالة ولم يكتمنا أمرا ولا نهيا.(13/497)
وشهادة الأمة على الناس تحتمل معنيين: أولهما أن المقصود بالناس الأمم السابقة على أمة محمد عليه الصلاة والسلام فأنتم تشهدون للأنبياء على أممهم يوم القيامة بأنهم بلَّغوا الرسالة، وأدَّوا الأمانة، يشهد لهذا المعنى ما أخرجه البخاري رضي الله عنه عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدعى نوح يوم القيامة فيقول لبيك وسعديك يا رب فيقول: هل بلَّغت؟ فيقول نعم. فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير. فيقول: من يشهد لك؟. فيقول محمد وأمته. فيشهدون أنه قد بلَّغ". وقد ذكر هذا الحديث مطولا في غير البخاري وفيه ردود على الاعتراضات التي تخطر بالذهن عند سماعه ففيه. فتقول تلك الأمم: "كيف يشهد علينا من لم يدركنا؟. فيقول لهم الرب سبحانه: كيف تشهدون على من لم تدركوا؟. فيقولون: ربنا بعثت إلينا رسولا. وأنزلت إلينا عهدك وكتابك، وقصصت علينا أنهم قد بلغوا، فشهدنا بما عهدت إلينا فيقول الرب: صدقوا".
والمعنى الثاني أن المقصود بالناس أفراد الأمة المحمدية، أي أن بعضهم يشهد على بعض بعد الموت.
يؤيد هذا المعنى ما أخرجه مسلم عن أنس رضي الله عنه أنه مرت جنازة فأثني عليها خير، فقال عليه الصلاة والسلام: "وجبت وجبت وجبت". ثم مُرّ عليه بأخرى فأُثني عليها شر. فقال: "وجبت وجبت وجبت". فسأله عمر رضي الله عنه في ذلك. فقال: "أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض".(13/498)
ثم يؤكد سبحانه وتعالى تلك الأوامر التي شملت أنواع التكاليف فيقول: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} فقوله سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} تأكيد لقوله في صدر الآية {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} . وقوله: {وَآتُوا الزَّكَاة} تأكيد لقوله: {وَافْعَلُوا الْخَيْر} لأن الزكاة أظهر معاني الخير، والعصمة معناها المنعة.
فقوله سبحانه: {وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} أي امتنعوا بالله وبحبله وهو قرآنه: امتنعوا من أن تقعوا فيما يغضبه.
أو اعتصموا بدلائله العقلية والسمعية التي ساقها لكم في تلك السورة حتى لا يجد الزيغ والشك والضلال إلى قلوبكم سبيلا.
يقول القفال: "اجعلوا الله عصمة لكم مما تحذرون".
ويقول ابن عباس: "سلوا الله العصمة من كل المحرمات".
وإنما تلجئون إليه ليعصمكم لأنه مولاكم وسيدكم والمتصرف فيكم. والذي يتولاه ربه وينصره فلن يذل ولن يشقى.
وفي الدعاء المأثور: "إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت".
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم المرسلين.(13/499)
أخبار الجامعة
- يعقد المجلس الأعلى للجامعة دورته الرابعة برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة وذلك يوم السبت السادس عشر من شهر رجب المقبل بمشيئة الله وسيدرس المجلس موضوعات مهمة منها اللائحة التنفيذية للجامعة.
- تبدأ امتحانات الدور الأول في قسم الدراسات العليا وفي الكليات والمعاهد التابعة للجامعة يوم السبت 24/6/1397هـ.
- ستقيم الجامعة حفلا لتوزيع الشاهادات على خريجي الدفعة الثالثة عشرة في السادس عشر من شهر رجب ويشرف على الحفل صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة.
- ألف منحة دراسية توزعها الجامعة لعام 97/1398هـ. خصصت الجامعة لأبناء العالم ألف منحة دراسية في الجامعة لعام 97/1398هـ موزعة على أكثر من مائة قطر.(13/500)
أهل الكتاب في القرآن الكريم
لفضيلة الشيخ معوض عوض إبراهيم
أهل الكتاب حيث كانوا في القرآن الكريم، هم أتباع موسى وعيسى عليهما السلام - في عصورهم - ومنذ تحدث إليهم نبينا محمد صلوات الله عليه بآيات الله الصادعة بالحق، الهادية إلى توحيد الله بعد أن اتخذ القوم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم أشركوا مع الله غيره من خلقه ومخلوقاته في العبادة والقصد، وجعلوا له صاحبة وولدا - حاشاه -
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الإخلاص) .
{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} (الجن3) .
{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ. أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِص} (الزمر 2_3) .
والقرآن الكريم يولي أهل الكتاب عنايته، بحفاوته بخطابهم، ودعوتهم إلى الإذعان للحق، الذي جاء به البشرية كلها عربها وعجمها أبيضها وأحمرها الرسول الخاتم، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، انطلاقا من أنهم من أمة الدعوة أولا ثم أنهم أوتوا شيئا من العلم ثانيا وهم يزعمون - ثالثا - اتباعهم لأنبيائهم صلوات الله عليهم، ويستمسكون بما أدوه في أزمنتهم من توجيه إلهي مرحلي لم تدع عصورهم لأكثر منه.(14/1)
ولو أن القوم في عصر الرسالة الخاتمة أنصفوا ما تابع عليه موسى الأنبياء من قبلهم من الدعوة إلى توحيد الله، وما قفَّى على آثارهم فيه نبينا محمد صلوات الله عليه كما يظهر في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} الأنبياء 25. أجل لو أنصف القوم أنبياءهم لآمن اليهود بعيسى ومحمد ولآمن النصارى من بعد بخاتم المرسلين وبالدين والكتاب الذي تعظم منة الله به على هؤلاء، فهو ينصفهم ويذكر أوائلهم من آمن منهم ومن كفر، ومن بَرَّ ومن غدر، ليكون لهم فيهم أسوة حسنة..
ولأَخَذَ هؤلاء وأولئك أنفسهم بدعوة التوحيد، وهي نداء الفطرة بين أعطاف الناس، وُلِدوُا عليها وشبوا ودرجوا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه". ولاسْتَجَابوا إلى توجيه الله تعالى في كتابه الخالد لمصطفاه: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} آل عمران 64.
إن أولى الناس - لا ريب - بالإيمان بالله، ومؤازرة مصطفاه، هم الذين اتبعوا رسله وانتسبوا إلى أنبيائه، وكان لهم ذكرٌ سائر في كتاب الله يوم كانوا يقارعون كفر أصحاب الأخدود، وضلال الشرك بصوره وألوانه المتمثلة في عبادة الكواكب وغيرها من المعبودات الباطلة.
إن حجة القرآن الكريم قائمة على كل ذي مسكة من عقل منذ جاء البشرية به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قوي الحجّة، جامعا لكل ما تفرق في التَّوراة والإنجيل وما تقدمها قبل أن تنالها الأهواء، وتصرفات الأحياء.(14/2)
والنظرة في الآيات التي لا نحصيها هنا توقفنا على نماذج من أهل الكتاب نوه بهم القرآن الكريم وباهى بإيمانهم وأمانتهم وصدق تقريرهم للقرآن الكريم، وجميل إنصاتهم لتلاوته على الوجه الذي يقول فيه رب العالمين: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ، يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ. وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} آل عمران 113/115. ويقول: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} المائدة 84_85.
{إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} الإسراء 107_ 109.(14/3)
إن حفاوة القرآن بأهل الكتاب على هذا النحو الذي جلونا بعضه ونجلوه - إن شاء الله - شهادة بصدق نسبة القرآن إلى الله تعالى، وبأن الإسلام هو دين الله المهيمن وكلمته التي لا يُعْبد الله بحقّ بغيرها، ولا يستمسك أحدٌ بشيء بعده بغير قبض الريح وهو بحث نحرص على استكماله بما يُعين الله من جهد وتوفيق، فقد ينفع تتبع ما يحدث به القرآن عن أهل الكتاب في أن نجتمع على نداء محمد صلوات الله عليه عن ربه تباركت آلاؤه: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ..} .
فذلك هو السبيل القاصد، لا تلك الخديعة التي يتولى كبرها الدعاة إلى فكرة التقريب بين الأديان، ولا إحدى الكبر التي أطلت برأسها من أيام متمثلة في دار كبرى من ديار الإسلام يدعو بعض طوائفها إلى تأليف كتب دينية مشتركة تكون بأيدي الطلاب المسلمين وهم أهل التوحيد، والطلاب الآخرين الذين ليس لعقيدتهم بالتوحيد أدنى صلة ولا أدري كيف يلتقي الحق والباطل ويتناجى الخطأ والصواب؟ ويأتلف النور والظلام؟ ألا أن يذهب خيرها بشرها فيدمغها ويصفوا الجو للنور والحق والصواب والإسلام دين الله الخاتم هو جماع ذلك كله..
إن دعوة التقريب بين الأديان، ودعوة التقريب بين السنّة وغيرها، ودعوة الكتب الدينية الواحدة للإسلام وغيره من أديان القوم من أساليب المكر الموروث، والكيد الذي لم يفتر للإسلام، الذي هو الدين لا ريب فيه، وهل يتعدد الحقّ، ويكون ما عندنا وما عند غيرنا سواء في حتمية الأخذ به والتزامه؟!.
إن الحق أحق أن يتبع {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} يونس 32.
((البحث موصول)) .
معوض عوض إبراهيم
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين _ الجامعة الإسلامية _(14/4)
مفهوم الجرجاني للإعجاز القرآني
لفضيلة الدكتور أحمد جمال العمري
الأستاذ المساعد بكلية الدعوة
يُعد عبد القاهر الجرجاني [1] المتوفى سنة 471هـ حد العلماء القلائل الذين فهموا الإعجاز القرآني فهما خاصا، وتناولوا إبراز وجوهه تناولا دقيقا. استنادا إلى بلاغته، ودقة نظمه، وتآليف كلامه.. لذلك فإن بحوثه حول هذا الإعجاز، وإثارة القضايا المنطقية، ومناقشتها مناقشة تحليلية استدلالية لتبيين تفاوت النتاج الأدبي للعرب، بين الغث والسمين، بخلاف ما عليه القرآن الكريم، الذي يخلو من كل ما يعيبه.
ألفّ الجرجاني في إعجاز القرآن مؤلفَيْن.. كتابا ورسالة..
أما الكتاب فهو "دلائل الإعجاز [2] " وأما الرسالة فقد سماها "الرسالة الشافية"ختم بها بحثه الأصيل.. العميق.
ومن الطبيعي أن يكون تأليف هذه الرسالة في مرحلة تالية. يدفعنا إلى القول بهذا الرأي عدة أمور:
أولها: التسلسل الفكري والموضوعي للبحث في إعجاز القرآن كما وضح من المؤلَّفَيْن.
وثانيها: أنه في مصنفه دلائل الإعجاز أبرز وجوه الإعجاز القرآني فقط.
ثم كان عليه أن يؤكد وقوع الإعجاز ذاته، وإثباته بالبراهين والأدلة، فألف هذه الرسالة العلمية، لتكون شافية كافية بتوضيح ما قصد إليه، لذلك اشتق اسمها من مضمونها ومقصودها، وجاءت الرسالة مكملة لما بدأه في كتابه [3] .
وثالثها: ما تمتاز به هذه الرسالة من التركيز والتكثيف لبعض الموضوعات التي طرقها وتحدث عنها مسبقا في كتابه، فهي عمل علمي متمم "لدلائل الإعجاز" حتى ليمكن القول: أن الرسالة الشافية وحدها لا تعكس مفهومه للإعجاز القرآني مباشرة إلاّ بعد الإطلاع على كتابه.. وإن الكتاب لا يمكن الاستغناء به - في فهم الإعجاز القرآني - عن الرسالة، فكلاهما عمل علمي يكمّل بعضه بعضا.(14/5)
لقد وضح لنا من تتبع الجرجاني بين ثنايا مُؤَلَّفَيْه أنه أحد العلماء النابهين الذين فهموا الإعجاز القرآني فهما خاصا، وكرسوا حياتهم لدراسته، حيث صوّر هذا الإعجاز تصويرا دقيقا، ينمّ عن ملكة حساسة، وعقلية نفاذة، فأوضح معالمه، وأبرز دقائقه، بأسلوب تحليلي أدبي، يتسم بالعمق والدقة والموضوعية معا. ومن هنا اعترف الباحثون المُحْدَثُون بأن بحوثه حول الإعجاز القرآني تُعدّ انتقالا كبيرا في التفكير والبحث، وكشفا دقيقا لأسرار هذا الإعجاز.
لقد ركز الجرجاني في بحوثه على موضوع "النظم"وجعله المحور الأساسي الذي يدور حوله كل موضوع، وينتهي إليه كل طريق، لذلك كان النظم - من وجهة نظره - هو الوجه الوحيد المشرق للإعجاز القرآني.. أما بقية الأوجه التي توصل إليها الباحثون والعلماء السابقون، وسجّلوها في مصنفاتهم ورسائلهم فلم يعرها التفاتا، ولم يعطها اهتماما.
مهَّد الجرجاني لإثبات وجهة نظره هذه بمقدمة هامة، جعلها فاتحة كتابه "دلائل الإعجاز"بيّن فيها أولا ماهية النظم وحقيقته، ثم كيف يحصل، وما هي أسبابه وروابطه.. فيقول:
"معلوم أن ليس النظم إلاّ تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب بعض". ثم يفصح عن مضمون معنى الكلم بقوله: "والكلم ما هو إلا اسم وفعل وحرف. وللارتباط بين هذه الأقسام الثلاثة طرق معلومة لا تعدو ثلاثة أحوال.. تعلق اسم باسم، واسم بفعل، وتعلق حر ف بهما" [4] .
ثم ينتقل الجرجاني بعد ذلك إلى توضيح هذه الأحوال الثلاثة، فيقدم لنا مجموعة من الشواهد لكل منها، ويستعرض بعض الآثار الأدبية التي توضح مقصوده، وتبيّن مفهومه لمعنى الكلم.. وهو يرمي من وراء هذا كله إلى توضيح الفكرة التي توصل إليها وهي ((أن تأليف الكلام ونظمه لا يتعدى هذه الأحوال الثلاثة، سواء كان هذا الكلام وحيا أو كلام بشر)) .(14/6)
إن الجرجاني يهدف من هذا التقرير أن يثير انتباه القارئين.. إنه يضع أمام الأذهان قضية، يحيط بها مجموعة من التساؤلات، ليشرع بعد ذلك في الإجابة عليها.. لذلك نسمعه يقول:
"وإذا كان ذلك كذلك، فما جوابنا لخصم يقول: إذا كانت هذه الأمور وهذه الوجوه من التعلق التي هي محصول النظم موجودة على حقائقها وعلى الصحة، وكما ينبغي في منثور كلام العرب ومنظومه، ورأيناهم قد استعملوها وتصرفوا فيها، وكملوا بمعرفتها، وكانت حقائق لا تتبدل ولا يختلف بها الحال، إذ لا يكون للاسم بكونه خبرا لمبتدأ أو صفة لموصوف أو حالا لذي حال، أو فاعلا أو مفعولا لفعل في كلام حقيقة هي خلاف حقيقته في كلام آخر..
فما هذا الذي تجدد بالقرآن من عظيم المزية، وباهر الفضل، والعجيب من الوصف حتى أعجز الخلق قاطبة، وحتى قهر من البلغاء والفصحاء القوى والقدر، وقيد الخواطر، والفكر حتى خرست الشقاشق [5] ، وعدم نطق الناطق، وحتى لم يجر لسان، ولم يبِنْ بيان، ولم يساعد إمكان، ولم ينقدح لأحد منهم زند، ولم يمض له حد، وحتى أسال الوادي عليهم عجزا، وأخذ منافذ القول عليهم أخذا أيلزمنا أن نجيب هذا الخصم من سؤاله، نرده عن ضلاله وأن نطلب لدائه ونزيل الفساد عن رائه [6] .
وهنا يتصدى الجرجاني للرد على هذه التساؤلات جميعها، مستخدما الأسلوب المنطقي التحليلي، مستعرضا الكثير من الموضوعات اللغوية والبلاغية والمقارنات الأدبية، ليصل من وراء ذلك جميعه إلى غايته.. فنراه يتحدث عن المقصود من النظم، وأنه ليس تأليف الألفاظ، أو تنظيم مخارج الحروف.. وإنما النظم – في مفهومه – يخضع لقواعد وأصول يجب أن يراعها الناظم في نظمه، ليصل إلى قمة الجمال والروعة.(14/7)
وبعد أن يؤكد الجرجاني على هذا الجانب في أكثر من موضع من "دلائل الإعجاز" يصل بقارئه إلى هدفه الأساسي وهو: إثبات حقيقة عجز العرب عن معارضة القرآن الكريم، وانقطاعهم دونه بعد أن تحداهم على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة واحدة من سوره..فعجزوا عن ذلك كله..يقول:
"إنا إذا سقنا دليل الإعجاز فقلنا: لولا أنهم حين سمعوا القرآن، وحين تحدوا إلى معارضته، سمعوا كلاما لم يسمعوا قط مثله، وأنهم قد رازوا [7] أنفسهم، فأحسوا بالعجز عن أن يأتوا بما يوازيه، أو يدانيه، أو يقع قريبا منه، لكان مجالا أن يدعوا معارضته وقد تحدوا وقرعوا فيه، وطولبوا فيه، وأن يتعرضوا لشبا الأسنة، ويقتحموا موارد الموت، فقيل لنا: قد سمعنا ما قلتم، فخبرونا عنهم عماذا عجزوا؟ .. أعن معاني من دقة معانيه وحسنها وصحتها في العقول؟ .. أم عن ألفاظ مثل ألفاظه؟ فإذا قلتم عن الألفاظ.. فماذا أعجزهم من اللفظ؟ أم ما بهرهم منه؟
فقلنا: أعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نظمه، وخصائص صادفوها في سياق لفظه، وبدائع راعتهم من مبادئ آيه، ومقاطعها ومجاري ألفاظها ومواقعها.. وفي مضرب كل مثل، ومساق كل خبر، وصورة كل عظة، وتنبيه وإعلام وتذكير، وترغيب وترهيب، ومع كل حجة، وبرهان، وصفة وتبيان، وبهرهم أنهم تأملوه سورة سورة، وعشرا عشرا، وآية آية، فلم يجدوا في الجميع كلمة يَنْبُوا بها مكانها، ولفظة ينكر شأنها، أو يرى أن غيرها أصلح مكانا أو أشبه، أو أحْرى وأخلق.. بل وجدوا اتساقا بهر العقول، وأعجز الجمهور نظاما والتئاما وإتقانا وإحكاما، لم يدع في نفس بليغ منهم، ولو حكّ بيافوخة السماء موضع طمع، حتى خرست الألسن عن أن تدعى وتقول، وخلدت القروم فلم تملك أن تصول [8] .(14/8)
وهنا يتضح لنا مفهوم الجرجاني لفكرة الإعجاز، وأن مردّها جميعا هو "النظم"لذلك فهو يطلب من الباحث عن حقيقة وكنه هذا الإعجاز أن يُعمل عقله، وأن يكد فكره، ليصل عن طريق ذلك إلى المزايا والخصائص التي امتاز بها نظم القرآن ليقف عليها بنفسه، ونتيجة لإحساسه وذوقه، لا أن يقلد غيره، ويسير مع السائرين وفي هذا المعنى يقول:
"فإذا كان هذا هو الذي يذكر في جواب السائل، فبنا أن ننظر: أي أشبه بالفتى في عقله ودينه، وأزبد له في علمه ويقينه.. أن يقلّد في ذلك، ويحفظ متن الدليل وظاهر لفظه، ولا يبحث عن تفسير المزايا والخصائص ما هي؟..
ومن أين كثرت الكثرة العظيمة، واتسعت الاتساع المجاوز لوسع الخلق وطاقة البشر؟. وكيف يكون أن تظهر في ألفاظ محصورة، وكلم معدودة معلومة؟ بأن يؤتي ببعضها، في أثر بعض لطائف لا يحصرها العدد، ولا ينتهي بها الأمد، أم أن يبحث عن ذلك كله، ويستقصي النظر في جميعه، ويتتبعه شيئا فشيئا، ويستقصيه بابا فبابا، حتى يعرف كلا منها بشاهده ودليله، ويعلمه بتفسيره وتأويله ويوفق بتصويره وتمثله، لا كمن قيل فيه:
يقولون أقوالا ولا يعلمونها.
ولو قيل هاتوا حققوا لم يحققوا" [9]
.(14/9)
بعد كل هذا التمهيد والاسترسال، والتنقل من موضوع إلى موضوع لإبراز الوجه الحقيقي للإعجاز وهو النظم _ يعقد الجراجاني فصلا خاصا للحديث عن ماهية النظم، يتحدث فيه عن الفرق بين نظم الحروف الذي يأتي بحسب تواليها في النطق، وبين النظم الذي يأتي اقتضاء لمعنى وفي ذلك يقرر أن نظم الألفاظ يجب أن يقترن بترتيب المعاني، لأن المعاني هي الأساس الذي يجب أن يراعى عند نظم الكلام، ثم تأتي الألفاظ لتستوعب هذه المعاني، لأنك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك لم تحتج إلى أن تستأنف فكرا في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني وتابعة لها، ولاصقة بها، وأن العلم بمواقع المعاني في النفس، علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها من النطق، وأعلم أنك إذا نفسك علمت علما لا يعترضه الشك إلا نظم في الكلم، ولا ترتيب حتى يعلق بعضها ببعض، ويبين بعضها على بعض، ولا تجعل هذه بسبب تلك [10] .
ويؤكد الجرجاني هذا المضمون في موضع آخر فيقول: "وأعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت، فلا تخل بشيء منها … الخ" [11] .
هذا هو محور بحث الجرجاني في إبراز وجه الإعجاز القرآني، كما وضح في كتابه دلائل الإعجاز. وهو نفس المحور الذي دار حوله لتأكيد وقوع هذا الإعجاز وإثباته في رسالته الشافية.. فلننظر كيف أثبت وقوع الإعجاز القرآني.. وكيف توصّل إلى ذلك في رسالته..(14/10)
افتتح الجرجاني رسالته - كعادته في بحوثه - بمقدمة استعرض فيها علاقة الألفاظ بالمعاني - أو كما يقول البلاغيون: الشكل بالمضمون، وعلى طريقة المدرسين قال: "اعلم أن لكل نوع من المعنى نوعا من اللفظ هو به أخص وأولى، وضروبا من العبارة هو بتأديته أقوم وهو فيه أجلى. ومأخذا إذا أخذ منه كان إلى الفهم أقرب، وبالقبول أخلق، وكان السمع له أوعى، والنفس إليه أميل، وإذا كان الشيء متعلقا بغيره، ومقيسا على ما سواه، كان من خير ما يستعان به على تقريبه من الأفهام وتقريره في النفوس أن يوضع له مثال يكشف عن وجهه، ويؤنس به ويكون زماما عليه يمسكه على المتفهم له، والطالب علمه [12] .
إن المتأمل لهذه المقدمة، يستطيع أن يضع يده بسهولة على ما يرمي إليه الجرجاني خاصة بعد أن درسنا مفهومه..
إنه يودّ أن يقول: إن القرآن الكريم بنظمه وتآليفه، قد حاز هذه الفضيلة، وإن هذا النظم كان مدعاة لأن يعترف العرب الذين تحدوا إلى معارضته، أن الذي سمعوه تقصر دون محاكاته قوي البشر، ويضيق به ذرع المخلوقين لأنه كلام رب العالمين. وتأكيدا لهذا الأمر يقدم لنا جُملا من القول في بيان عجز العرب حين تُحّدُوا إلى معارضة القرآن، وإذعانهم وعلمهم أن الذي سمعوه فائت للقوى البشرية، ومتجاوز للذي يتسع له ذرع المخلوقين، وفيما يتصل بذلك مما له اختصاص بعلم أحوال الشعراء والبلغاء ومراتبهم، وبعلم الأدب جملة.
ثم يتحدث الجرجاني عن بلاغة العرب، وتملكهم لزمام القول.. ولما كان القرآن معجزة الرسول الأميّ، لذا كانت بلاغته فوق بلاغة العرب أنفسهم، الذين دانت لهم الأساليب، وتملكوا كل شيء فيها شعرا ونثرا وخطبا..(14/11)
من هنا سمعنا صوت الجرجاني وهو يتحدث طويلا عن البلاغة العربية، وعن التفاوت والتفاضل بين أساليب العرب من كلام الشعراء والأدباء، وأن لهذا التفاضل غايات ينأى بعضها عن بعض، ومنازل يعلو بعضها فوق بعض، ليصل إلى حقيقة يعرفها وهي: أن العرب (زمن الرسول الكريم) كانوا القدوة في ذلك. ومن عداهم تبع لهم وقاصر فيه عنهم.. يقول:
((ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل ما يدخله التفاضل، وأن للتفاضل فيه غايات ينأى بعضها عن بعض، ومنازل يعلو بعضها بعضا، وأن علم ذلك علم يخص أهله، وأن الأصل والقدوة فيه العرب، ومن عداهم تبع لهم، وقاصر فيه عنهم وأنه لا يجوز أن يدّعى للمتأخرين من الخطباء والبلغاء عن زمان النبي صلى الله عليه وسلم _ الذي نزل فيه الوحي، وكان فيه التحدي، أنهم زادوا على أولئك الأولين، أو كملوا في علم البلاغة أو تعاطيها لما لم يكملوا إليه [13] .
ويقدم الجراجاني شواهد على ذلك من واقع المجتمع العربي يومئذ..
فهذا خالد بن صفوان يعترف بسبقهم، وأنه وأمثاله لا يستطيعون مجاراتهم.. ويقول: "كيف نجاريهم وإنما نحاكيهم، أم كيف نسابقهم، وإنما نجري على ما سبق إلينا من أعراقهم؟ " [14] .
أما الجاحظ فإنه ينسب إلى العرب الفضل على الأمم كلها في الخطابة والبلاغة ويناظر في ذلك الشعوبية، ويجهلهم ويسفّه أحلامهم في إنكار ذلك، ثم يقول: "ونحن أبقاك الله إذا ادعينا للعرب الفضل على الأمم كلها في أصناف البلاغة، من القصيدة والأرجاز، والمنثور والأسجاع، ومن المزدوج ومما لا يزدوج.. فمعنا على أن ذلك لهم شاهد صادق من الديباجة الكريمة، والرونق العجيب، والسبك والنحت الذي لا يستطيع أشعار الناس اليوم، ولا أرفعهم في البيان أن يقول مثل ذلك إلا في اليسير والشيء القليل [15] ..(14/12)
إن الجرجاني يريد أن يقول.. إنه إذا كان العرب الذي نزل فيهم القرآن قد تحدوا به فعجزوا عن الإتيان به – مع ما كان في جعبتهم من أدوات الفصاحة وألوان البيان.. فمن الطبيعي أن يكون ما بعدهم من الأجيال أعجز منهم، وما سوى العرب في ذلك منهم تبع لهم.. وفي الحقيقة فإن هذا الرأي قد سبق إليه الباقلاني ولكن الجرجاني لم يشر إليه..
بعد هذا التمهيد ينتقل الجرجاني غلي توكيد عجز العرب عن معارضة القرآن ولقد اتخذ إلى ذلك سبيلا ملموسا من واقع أحوالهم، ودلائل أقوالهم. فيقول: "وإذا ثبت أنهم الأصل والقدوة فإن علمهم العالم، فبنا أن ننظر في دلائل أحوالهم وأقوالهم حين تلي عليهم القرآن وتحدوا إليه، وملئت مسامعهم من المطالبة بأن يأتوا بمثله، ومن التقريع بالعجز عنه، وبتّ الحكم بأنهم لا يستطيعون ولا يقدرون عليه.. وإذا نظرنا وجدناها تفصح بأنهم لم يشكّوا في عجزهم عن معارضته والإتيان بمثله، ولم تحدثهم أنفسهم بأن لهم إلى ذلك سبيلا على وجه من الوجوه"..
ثم يتناول بالتحليل دلائل الأحوال فيقول:
"أما الأحوال فدلّت من حيث كان المتعارف من عادات الناس التي لا تختلف وطبائعهم التي لا تتبدل أن لا يسلموا لخصومهم الفضيلة، وهم يجدون سبيلا إلى دفعها، ولا ينتحلون العجز وهم يستطيعون قهرهم والظهور عليهم.(14/13)
كيف؟ وأن الشاعر أو الخطيب يبلغه أن بأقصى الأقاليم الذي هو في هـ من يبأى [16] بنفسه ويدل بشعر يقوله أو خطبة يقوم بها أو رسالة يعملها، فيدخله من الأنفة والحميَّة ما يدعوه إلى معارضته، وإلى أن يظهر ما عنده من الفضل، ويبذل ما لديه من المنَّة، حتى إنه ليتوصل إلى أن يكتب إليه، وأن يعرض كلامه عليه ببعض العلل وبنوع من التمحُّل، هذا ولم ير ذلك الإنسان قط، ولم يكن منه إليه ما يهز ويحرك ويهيِّج على تلك المعارضة، ويدعو إلى ذلك التعرض، وإن كان المدعي ذلك بمرأى منه ومسمع، كان ذلك أدعى له إلى مباراته، وإلى إظهار ما عنده، وإلى أن يعرف الناس أنه لا يَقْصُر عنه، أو أنه منه أفضل، فإن تضاف إلى ذلك أن يدعوه الرجل إلى مُمَاتَنَتِه، ويحركه لمقاولته، فذلك الذي يسهر ليله ويسلبه القرار، حتى يستفرغ مجهوده في جوابه، ويبلغ أقصى الحد في مناقضته.
يضرب الجرجاني لذلك مثلا بما حدث في العهد الأموي بين الشعراء عامة، وما حدث بين جرير والفرزدق خاصة، وقد اجتمعا في عصر واحد فيقول:
"كيف جَدَّ كل واحد منهما في مغالبة الآخر، وكيف جعل ذلك همه وكده وقصر عليه دهره، وليس به ولا يخشى إلا أن يُقضى لصاحبه بأنه أشعر منه، وأنّ خاطره أحَدّ، وقوافيه أشرد، لا ينازعه مُلكا، ولا يفتات عليه بغلبته له حقا، ولا يلزمه به أتاوة، ولا يضرب عليه ضريبة..".
وبعد أن يكشف الجرجاني عن هذه الغريزة المتأصلة في النفس البشرية، وكيف أن الناس فُطروا على منافسة بعضهم البعض، وتحدي بعضهم بعضا.. يطبِّق هذه الفكرة على ما حدث في الأمة العربية منذ فجر تاريخهم الأدبي، وكيف استبدت بهم هذه الغريزة يوم سمعوا القرآن، ليصل من وراء ذلك إلى مَرامه وهو:
إظهار موقف العرب من القرآن الكريم الذي جاء يتحدى هذه الغريزة في موطنها وعقر دارها فيقول:(14/14)
"وإذا كان هذا واجبا بين نفسين لا يروم أحدهما من مباهاة صاحبه إلاّ ما يجري على الألسن من ذكره بالفضل فقط.. فكيف يجوز أن يظهر في صميم العرب، وفي مثل قريش ذوي الأنفس الأبيَّة، والهمم العليَّة، والأنفة والحميَّة، من يدَّعى النبوة، ويخبر أنه مبعوث من الله تعالى إلى الخلق كافة، وأنه بشير بالجنّة ونذير بالنار، وأنه قد نسخ به كل شريعة تقدمته، ودين دان به الناس شرقا وغربا، وأنه خاتم النبيين. وأنه لا نبي بعده.. إلى آخر ما صدع به صلى الله عليه وسلم"، ثم يقول:
"وحُجتي أن الله قد أنزل عليّ كتابا عربيا مبينا، تعرفون ألفاظه وتفهمون معانيه، إلا أنكم لا تقدرون على أن تأتوا بمثل، ولا بعشر سور منه، ولا بسورة واحدة. ولو جهدتم جهدكم، واجتمع معكم الجن والأنس، ثم لا تدعوهم نفوسهم إلى أن يعارضوه ويبينوا سَرفه في دعواه، مع إمكان ذلك، ومع أنهم لم يسمعوا إلا ما عندهم مثله أو قريب منه".
"هذا وقد بلغ بهم الغيظ من مقالته، ومن الذي ادّعاه حَدّا تركوا معه أحلامهم الراجحة، وخرجوا له عن طاعة عقولهم الفاضلة، حتى واجهوه بكل قبيح، ولقوه بكل أذى ومكروه، ووقفوا له بكل طريق، وكادوه وكل من تبعه بضروب المكايدة، وأرادوهم بأنواع الشر..".
"وهل سُمع قط بذي عقل ومُسكة استطاع أن يخرس خصما له فقد اشتط في دعواه بكلمة يجيبه بها، فترك ذلك إلى أمور يسفّه فيها، وينسب معها إلى ضيق الذرع والعجز، وإلى أنه مغلوب قد أعوزته الحيلة، وعزّ عليه المخْلَص؟."
"أم هل عُرف في مجرى العادات، وفي دواعي النفوس ومبنى الطبائع أن يدع الرجل ذو اللُّب حجته على خصمه، فلا يذكرها، ولا يفصح عنها، ولا يجلي عن وجهها، ولا يريه الغلط فيما قال، والكذب فيما ادعى، ولا يدعي أن ذلك عنده وأنه مستطيع له، بل يجعل أول جوابه له ومعارضته إياه التسرع إليه، والسفه عليه والإقدام على قطع رحمه، وعلى الإفراط في أذاه؟."(14/15)
"أم هل يجوز أن يخرج خارج من الناس على قوم لهم رياسة، ولهم دين ونحلة فيؤلِّب عليهم الناس، ويدبِّر في إخراجهم من ديارهم وأموالهم، وفي قتل صناديدهم وكبارهم، وسبي ذراريهم وأولادهم، وعمدته التي يحد بها السبيل إلى تألف من يتألفه، ودعاء من يدعوه، دعوى له إذا هي أُبطلت بَطَل أمره كله، وانتفض عليه تدبيره، ثم لا يعرض له في تلك الدعوى، ولا يشتغل بإبطالها، مع إمكان ذلك، ومع أنه ليس بمعتذر ولا ممتنع؟ " [17] ..
هذا عن دلائل أحوال العرب عند بدء الدعوة _ أما أقوالهم التي استشهد بها الجرجاني فكثيرة _ منها ما حَدَّثَ به الوليد بن المغيرة، حين وقف متحيِّرا أمام روعة القرآن. لا يدري ماذا يقول فيه، وقد وفدت جموع العرب _ في الموسم _ من كل مكان، فذهب إلى قومه يشاورهم في الأمر، فلم يجدوا ما يقولونه في هذا القرآن. قاسوه على الشعر وهم أفذاذه، فلم يجدوا فيه ما يشبه شعرهم، وقرنوه بالسجع فلم يتفق معه، فلما أعيتهم الحيلة، قالوا: إنه سحر.. سحر يفرّق فيه بين المرء وزوجه، وبين الأخ وأخيه، الخ ما قالوه [18] .(14/16)
ومن هذه الأقوال أيضا – حديث عتبة بن ربيعة، وكان سيدا حليما _ حين أرسله قومه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم _ ليثنيه عن هدفه، ويعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضا منها، فيعدل عن رأيه، فاستمع الرسول إلى قوله، حتى إذا فرغ من كلامه، تلا عليه الرسول، {حم. . تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ ل ايَسْمَعُونَ} [19] فل ما سمعها عتبة أنصت له، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها، يستمع منه، حتى انتهى رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ إلى السجدة منها فسجد ثم قال له: قد سمعت ما سمعت فأنت وذاك، فقام عتبة إلى أصحابه لينصحهم أن يكفوا عن محاربة محمد صلى الله عليه وسلم [20] .. ومنها حديث أبي ذر في سب ب إسلامه [21] .
ولكي يوضح الجرجاني مراده، ويوسّع دائرة بحثه، فيستطرد بالحديث عن ماذا على ألسنة الناس من وقوع المعجزات عند بعض الناس، دون بعضهم الآخر، وهو ما يقع في الحياة بين الحين والحين من ظهور العباقرة والنوابغ في فن القول من أمثال امرئ القيس وزهير والنابغة والأعشى وغيرهم، ممن أجمع عليهم القول بأنهم شعراء العرب. فهؤلاء الأعلام يكونون عند ظهورهم قمما شامخة بين أبناء عصرهم بل ربما كانوا كذلك بين أبناء العصور السابقة أو اللاحقة، فيأتون من الأعمال أو الأقوال ما يعجز عنهم أبناء جيلهم، أو أبناء أجيال كثيرة قبلهم أو بعدهم، ومع هذا فلم يكونوا من الأنبياء، ولم يدّعو هُمْ _ أو يدّعي لهم أحد أنهم من الأنبياء أصحاب المعجزات [22] .
فما تأويل هذا عند من يؤمنون بالأنبياء، ويؤمنون بما حملوا من معجزات؟ وما الفرق بين ظهور النبي في عصره. واحتلاله بالمعجزة التي بين يديه قمة الحياة.. وبين العبقري أو النابغة حين يظهر فيحتل بعلمه أو عمله قمة أشبه بهذه القمة؟(14/17)
هذا هو محور المناقشة في الفصل الذي خصصه الجرجاني لتولي الرد على هذه التساؤلات وتفنيدها. يقول في مطلعه [23] :
"واعلم أن هاهنا بابا من التلبيس أنت تجده يدور في أنفس قوم من الأشقياء وتراهم يومئون إليه، ويهمسون به، وستهوون الغر الغبي بذكره، وهو قولهم: قد جرت العادة بأن يبقى في الزمان من يفوت أهله حتى يسلموا له، وحتى لا يطمع أحد في مداناته، وحتى ليقع الإجماع فيه أنه الفرد الذي لا ينازع، ثم يذكرون امرأ القيس والشعراء الذين قُدموا على من كان معهم في أعصارهم، وربما ذكر الجاحظ وكل مذكور بأنه كلن أفضل من كان في عصره.. ولهم في هذا الباب خبط وتخليط لا إلى غاية، وهي نفثة نفثها الشيطان فيهم، وإنما أَتُوا من سوء تدبيرهم لما يسمعون وتسرعهم إلى الاعتراض قبل تمام العلم بالدليل ...
وذلك أن الشرط في المزية الناقضة للعادة، أن يبلغ الأمر فيها إلى حيث يبهر ويقهر، حتى تنقطع الأطماع عن المعارضة، وتخرس الألسن عن دعوى المداناة، وحتى لا تحدِّث نفس صاحبها بأن يتصدى، ولا يجول في خلد أن الإتيان بمثله يمكن، وحتى يكون بأسهم منه، وإحساسهم بالعجز عنه في بعضه مثل ذلك في كله [24] . .".
هذا الذي يقرره الجرجاني.. هو مقطع القول في هذا الأمر.. إذ ليس الذي يأتي به العبقري، أو النابغة من قول أو عمل، الشيء الذي يقطع على الناس سبيل النظر فيه، أو المساماة له، أو الغلبة عليه، فلم تشهد الحياة أبدا لإنسان أنه انقطع بعمله أو قوله عن منازعة الناس له، والدخول معه فيما قال أو عمل، فيقصرون عنه في جانب، ويعملون عليه من جانب آخر، فيما خيّل إلى الناس أنه انفرد به..
ويقيم الجرجاني مقارنة أدبية نقدية يجعل محورها امرأ القيس، الذي عرف بأنه أشعر أهل زمانه، ليصل عن طريق ذلك إلى تضحيد أقوال الظّانين وردّها فيقول:(14/18)
"ليت شعري من هذا الذي سَلَّم لهم أنه كان في وقت من الأوقات من بلغ أمره في المزية وفي العلو على أهل زمانه هذا المبلغ، وانتهى إلى هذا الحد _ إن قيل امرؤ القيس فقد كان في وقته من يباريه، ويُمَاتنه، بل لا يتحاشى من أن يدعي الفضل عليه، فقد عرفنا حديث علقمة الفحل، وأنه لما قال امرؤ القيس وقد تناشدا أيٌّنا أشعر؟ قال: أنا: غير مكترث أو مبالٍ حتى قال امرؤ القيس: فقُل وأنعت فرسك وناقتك، وأقول وأنعت فرسي وناقتي، فقال علقمة: إني فاعل، والحكمُ بيني وبينك المرأة من ورائك، يعني أم جندب، امرأة امرؤ القيس، فقال امرؤ القيس:
خليلَيَّ مُرَّا بي على أمِّ جُنْدَبِ.
نُقَضِّ لُبَاناتِ الفُؤاَدِ المعذَّبِ.
وقال علقمة:
ذَهَبت من الهجراَنِ في كل مَذْهَبِ.
ولم يَكُ حَقًّا كلُّ هذا التجنُّبِ.
وتحاكما إلى المرأة ففضلت علقمة [25] .
ويمضي الجرجاني، فيروي ما جرى بين امرؤ القيس وغيره من شعراء عصره من المساجلات والمباريات، التي احتفلت بها كتب النقد والأدب، ليصل في النهاية إلى ما يريد فيقول لقارئه:
"فاعلم أنهم إذا ذكروا في تعلقهم بالتوابع ومحاولتهم أن يمنعوا من الاستدلال مع تسليم عجز العرب عن معارضة القرآن، مَنْ تراخى زمانه عن زمان النبي صلى الله عليه وسلم، كالجاحظ وأشباهه كانوا في ذلك أجهل، وكان النقض عليهم أسهل، وذلك أن الشرط في نقض العادة أن يعم الأزمان كلها، وأن يظهر على مدّعي النبوة ما لم يستطعه مملوك قط..".(14/19)
"وأما تقدم واحد من أهل العصر سائرهم، ففي معنى تقدم واحد من أهل مصر من الأمصار غيره ممن يضمه وإياه ذلك المصر، لا فضل في ذلك بين الأمصار والأعصار، إذا حققت النظر، إذ ليس بأكثر من أنَّ واحدا زاد على جماعة معدودين في نوع من الأنواع، فكان أعلمهم أو أكتبهم أو أشعرهم أو أحذقهم في صنعة، وأبرهم في عمل من الأعمال، وليس ذلك من الإعجاز في شيء..
إنما المعجز ما علم أنه فوق قوى البشر وقدرهم، إن كان من جنس ما يقع التفاضل فيه من جهة القدر، أو في علومهم إن كان من قبيل ما يتفاضل الناس فيه بالعلم والفهم".
ويدعم الجرجاني هذا الرأي بتقديم مثال ملموس من واقع الحياة الأدبية، وهو ما بلغه الجاحظ وأمثاله من مكانة علمية وأدبية، نتيجة لما استقوه من كلام بلغاء العرب الذين تقدموا في الأزمنة.. فيقول:
"وإذا كنا نعلم أن استمداد الجاحظ وأشباه الجاحظ من كلام العرب والبلغاء الذين تقدموا في الأزمنة، وأنهم فجَّروا لهم ينابيع القول فاستقوا، ومثلوا لهم مثلا في البلاغة، فاحتذوا، إذن لم يبلغوا شأو ما بلغوا، ولم يدُرّ لهم من ضروع القول ما درّ، ولو أن طباعا لم تشرب من مائهم، ولم تُغَذ بجناهم، ولم يكن حالهم في الاكتساب منهم، والاستمداد من ثمار قرائحهم، وتشمم الذي فاح من روائحهم. حال النحل التي تغتذي بأريج الأنوار، وطيب الأزهار، وتملأ أجوافها من تلك اللطائف، ثم تمجها أريا وتقذفها مذيا [26]- إذن لكان الجاحظ وغير الجاحظ في عداد عامة زمانهم الذين لم يرووا، ولم يحفظوا، ولم يتتبعوا كلام الأولين من لدن ظَهَر الشعر، وكانت الخطابة إلى وقتهم الذي هم فيه، ولم يعرفوا إلا ما يتكلم به آباؤهم وإخوانهم ومساكنوهم في الدار والمحلة، أو كانوا لا يزيدون عليهم إن زادوا إلا بمقدار معلوم".
"فمن أعظم الجهل وأشد الغباوة أن يجعل تقدم أحدهم لأهل زمانه من باب نقض العادة وأن يُعدّ معدّ المعجز".(14/20)
وهنا تتضح الفكرة التي تبناها الجرجاني وقدّم لها، وسعى إليها من كل هذا العرض والسَّرْدِ والتحليل، لقد فرق بين النبي ومعجزته، وبين العبقري وما تجود به قريحته من آثار أدبية يتميز بها عن عصره، ويفوق بها أنداده ومعاصريه، فيبدو وكأنه في القمة.. هذه القمة التي حَبَتْ بها القدرة الإلهية الأنبياء والرسل وأيدتهم بها دون سائر الخلق.
وعلى الرغم مما توصل إليه الجرجاني حتى الآن من نتائج.. وما وضح من أفكار إلا أنه يبدو غير مقتنع.. فنراه يفرد فصلا جديدا يلحقه بما فات، يذكر فيه ما دار على ألسنة الناس، وكأنه يعير هذا الموضوع اهتماما كبيرا، ويجعل منه منطلقا لتفنيد مَزَاعِمِهم، وردّ ادعاءاتهم.. فيقول:
"إنا قد علمنا من عادات الناس وطبائعهم أن الواحد منهم تواتيه العبارة، ويطيعه اللفظ في صنف من المعاني، يمتنع عليه مثل تلك العبارة وذا اللفظ في صنف آخر فقد يكون الرجل - كما لا يخفى - في المديح أشعر منه في المراثي.. وأنفذ منه في الحِكَم والآداب، ونراه يستطيع في الأوصاف والتشبيهات ما لا يستطيع مثله في سائر المعاني.. وإذا كان كذلك، فلعل العجز الذي ظهر فيهم عن معارضته القرآن لم يظهر لأنهم لا يستطيعون مثل ذلك النظم، ولكن لأنهم لا يستطيعونه في مثل معاني القرآن".
ويورد الجرجاني شواهد كثيرة من الشعر والنثر تؤيد وجهة نظره، وتوضح هدفه. بعد ذلك يرد ردا حاسما يبطل كل ادعاء، ويضحد كل زعم، فيقول: "وإذا كان الأمر كذلك لم يمتنع أن يكون سبيل لفظ القرآن، ونظمه هذا السبيل، وأن يكون عجزهم عن أن يأتوا بمثله عن طريق العجز".
"واعلم أنهم في هذا كَراَمٍ قد أضل الهدف، وبانٍ قد زال عن القاعدة، وذاك أنه سؤال لا يتجه حتى يقدّر أن التحدي كان إلى أن يعبروا عن معاني القرآن أنفسها وبأعيانها بلفظ يشبه لفظه، ونظم يوازي نظمه، وهذا تقرير باطل.(14/21)
فإن التحدي كان إلى أن يجيئوا في أي معنى شاءوا من المعاني بنظم يبلغ نظم القرآن في الشرف أو يقرب منه، يدل على ذلك قوله تعالى:
{قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [27] أي مثله في النظم، وإذا كان كذلك كان بيّنا أنه بناء على غير أساس، ورمي من غير مرمى، لأنه قياس ما امتنعت فيه المعارض من جهة، وفي شيء مخصوص على ما امتنعت معارضته من الجهات كلها، وفي الأشياء جميعها [28] .
وهكذا وضحت فكرة الجرجاني.. العالم الأديب، وهكذا أيضا وضح مفهومه للإعجاز.. لقد جعل الجرجاني نظم القرآن وجها يعلو على كل الوجوه، وبنى عليه كل آرائه، بل لقد جعله محور تآليفه وتصانيفه التي خصصها لدراسة البلاغة العربية عامة، والبلاغة القرآنية خاصة.
ومن الحق أن نقول إن الجرجاني وقد توفي في القرن الخامس (471هـ) قد أفاد إفادة كبيرة من كل الآراء التي طرحت على مائدة البحث، خاصة آراء الجاحظ والرماني والباقلاني، درسها واستوعبها، ولكنه تأثر أكثر ما تأثر بالرماني (المتوفى سنة 388هـ) في آرائه البلاغية، وإرجاعه أسرار الإعجاز القرآني إلى الوجوه البلاغية.
ومن الحق أيضا أن نقول - إن الجرجاني قد التقى مع الرماني فهما وتحليلا، كما التقيا في المنهج إذ أن منهج كل منهما كان يعتمد على الذوق الفني، والتذوق الأدبي، وكلاهما نظر إلى أسلوب القرآن ووقفا على مواطن الحسن والجمال فيه، ويتضح هذا الأمر من تساؤل الجرجاني.. ماذا أعجز العرب؟ وعن ماذا عجزوا؟ أعن معان من دقة معانيه وحسنها وصحتها في العقول؟ أم عن ألفاظ مثل ألفاظه؟ ثم يجيب على هذا التساؤل بقوله: "أعجزتهم مزايا ظهرت لهم في نظمه، وخصائص صادفوها في سياق لفظه، وبدائع راعتهم من مبادئ آيه ومقاطعها، ومجاري ألفاظه ومواقعها، وفي مضرب كل مثل ومساق كل خبر وصورة، كل عظة وتنبيه وإعلام وترغيب في كل حجة وبرهان وصفة وبيان [29] ".(14/22)
ولكن الجرجاني أخذ هذا المنهج الذي وضع أسسه الرماني، فتوسع فيه، وربط بين المعاني والألفاظ، مؤكدا على وجوب تلاؤم الألفاظ مع بعضها من حيث جرسها وموسيقاها [30] .
كما أننا لا نستطيع أن ننكر جهد الباقلاني (المتوفى سنة 431هـ) ومدى تأثر الجرجاني به، فالباقلاني أول من أشار إلى النظم بوصفه أحد وجوه ثلاثة حددها الرجل للإعجاز القرآني، بيد أن هذا الوجه عند الباقلاني لم يكن محدد المعالم، واضح القسمات، إنما الذي وضّحه وأبرز قسماته ومعالمه، وألقى عليها مزيدا من الضوء: الجرجاني.
فلنستمع إلى قوله وهو يوضح مفهومه - بعد أن ردّ على القائلين والزاعمين وفنّد مزاعمهم -: "وإذا امتنع ذلك فيها فلم يبق إلا أن يكون (يقصد الإعجاز) في النظم والتأليف. وكنا قد علمنا أن ليس النظم شيئا غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين الكلم، وأناّ إن بقينا الدهر نجهد أفكارنا حتى نعلم للكلم المفردة سلكا ينظمها، وجامعا يجمع شملها ويؤلفها، ويجعل بعضها بسبب من بعض، غير توخي معاني النحو وإحكامه فيه، طلبنا ما كل محال دونه [31] ".
"فإن قيل: قولك (إلا النظم) يقتضي إخراج ما في القرآن من الاستعارة وضروب المجاز من جملة ما هو به معجز، وذلك ما لا مساغ له..
قيل: ليس الأمر كما ظننت، بل ذلك يقتضي دخول الاستعارة ونظائرها فيما هو به معجز، وذلك لأن هذه المعاني _ التي هي الاستعارة والكناية والتمثيل وسائر ضروب المجاز من بعدها _ من مقتضيات النظم، وعنها يحدث وبها يكون".
وهكذا عمّق الجرجاني مفهومه للنظم، ولم يقف عند حد ما وقف عنده الباقلاني لذلك وضح بين أفكاره هذا الوجه الإعجازي وضوحا جليا، واستحق أن ينسب إليه دون غيره.
د. أحمد جمال العمري.
--------------------------------------------------------------------------------(14/23)
[1] هو أبو بكر عبد القادر بن عبد الرحمن الجرجاني، أحد علماء السنة الموهوبين، كان عالما واسع الثقافة، كما كان متكلما على مذهب الأشعري، وفقيها على مذهب الشافعي، أخذ النحو عن أبي الحسن محمد بن الحسن ابن أخت أبي علي الفارسي المشهور كما أخذ الأدب والنقد عن القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني.
من مؤلفاته: العوامل المائة في النحو، ودلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة، والرسالة الشافية.
أنظر في ترجمته: دمية القصر للباخرزي 108، طبقات الشافعية للسبكي 3/262 النجوم الزاهرة لابن تغري بردي 5/108، بغية الوعاة للسيوطي 310، شذرات الذهب لابن العماد 3/340، وبروكلمان 1/286.
[2] طبع كتاب دلائل الإعجاز في القاهرة عدة طبعات وبتحقيقات متعددة.
[3] طبعت هذه الرسالة ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القران بتحقيق الأستاذين محمد خلف الله ومحمد زغلول سلام _ في دار المعارف بمصر.
[4] دلائل الإعجاز - المقدمة الصفحة ز.
[5] الشقاشق: جمع شقشقة بكسر الشين: لهاة البعير وما يخرج من فمه إذا هاج.
[6] دلائل الإعجاز الصفحة ف. والراء: الرأي.
[7] رازوا أنفسهم: أي اختبروا قوتهم.
[8] دلائل الإعجاز ص29.
[9] دلائل الإعجاز ص29 والبيت منسوب لأنس بن أنيس انظر الكامل للمبرد 1/316 طبع مصر.
[10] دلائل الإعجاز ص38.
[11] الرسالة الشافية ص107.
[12] دلائل الإعجاز ص55 انظر أيضا ص284 من المصدر نفسه.
[13] الرسالة الشافية 108.
[14] الرسالة الشافية 108.
[15] المصدر السابق نفسه.
[16] يبأى: أي يفخر.
[17] الرسالة الشافية ص109 _ 110.
[18] انظر الحديث كاملا في الرسالة الشافية ص111.
[19] سورة فصلت الآيتان 1_2.
[20] انظر نص الحديث كاملا في الرسالة الشافية ص113 وما بعدها.
[21] انظر نص الحديث كاملا في الرسالة الشافية ص114 وما عبدها.(14/24)
[22] عبد الكريم الخطيب، إعجاز القرآن ص67.
[23] الرسالة الشافية ص117.
[24] الرسالة الشافية 117.
[25] الرسالة الشافية ص118.
[26] الأري والمذي من أسماء عسل النحل.
[27] سورة هود الآية 13.
[28] الرسالة الشافية ص129.
[29] دلائل الإعجاز ص28.
[30] انظر دلائل الإعجاز ص31_32.
[31] دلائل الإعجاز 296.(14/25)
ملامح المجتمع الإسلامي
لفضيلة الشيخ محمد السيد الوكيل
تمهيد: لقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم _ والناس فوضى متفرقون، لا تكاد تجد شخصين يلتقيان على كلمة سواء، ولا زوجين يسيران في اتجاه واحد، قبائل متناحرة، وبيوت ممزقة وأسر متفرقة.
مجتمع مهلهل في عقيدته، مشتت في أوضاعه ووجهته، واصدق تعبير عن هذا التمزق قول شوقي:
أتيت والناس فوضى لا تمر بهم.
إلا على صنم قد هام في صنم.
بعث النبي _ صلى الله عليه وسلم _ وهذه حال العرب، بل حال الدنيا كلها، فكانت مهمته _ صلى الله عليه وسلم _ جمع الشتاة، ولَمِ الشمل، ولهذا جاء _ صلى الله عليه وسلم _ بالتوحيد، توحيد العقيدة وتوحيد الوسائل وتوحيد الغاية.
هذا التوحيد الشامل لكل نواحي الحياة المختلفة، هو الغاية العظمى التي من أجلها بعث رسول الله، فقامت أمته على التوحيد، حتى كان التوحيد أساس عقيدتها، وواضع نظمها وثقافتها وروح منهاجها وطريقتها ومنطلق وسائلها وغايتها.
لم يكن هناك شيء يجمع هذه الأشلاء الممزقة إلا التوحيد، حيث عجزت هذه الأمة أن تلتقي على شيء فشلت عروبتها في جمعها، كما عجزت آلهتها عن لَمِ شملها، وبالتالي عجزت صرخات الحنفاء من أبنائها الذين نادوا بالتحذير وحاولوا تبصيرها بعاقبة أمرها.
لقد عجزت كل الوسائل، ولم يبق إلا التوحيد بمعناه الشامل الواسع الذي ذكرته سابقا. ولقد شاء الله _ سبحانه لهذه الأمة أن تكون خاتمة الأمم، كما شاء لرسالتها أن تكون للناس كافة، فهي ليست دعوة إقليمية، ولا هي دعوة شعوبية، بل هي للأمم عامة وللناس كافة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [1] .(14/26)
فكان لا بد لهذه الأمة المصطفاة، التي كتب لها أن تبقى لتشهد مصرع الحياة، كان لا بد لهذه الأمة من ملامح تميزها عن غيرها من الأمم التي ستعاصرها في تلك الحقبة من الزمان، فكانت تلك الملامح مجتمعة في التوحيد: وحدة العقيدة، وحدة الوسائل، ووحدة الغاية.
1_ وحدة العقيدة:
العقيدة أهم الوسائل توحيد الأمة، لأن الأمة إذا كانت موزعة العقيدة متفرقة الدين تتخطفها آلهة شتى، ويتنازعها أرباب متفرقون، كانت أمة مبعثرة الاتجاه، ممزقة الشريعة ضالة الغاية.
فتوحيد العقيدة يتجه أولا إلى توحيد الله _ عز وجل _ إذ يقتضي التوحيد أن يكون إلها واحدا، وأن يكون هو ربها الذي تدين له بالربوبية، وهو سبحانه معبودها الذي تعنو له جباهها.
وتوحيد العقيدة يقتضي صرف العبادة بأنواعها المختلفة إلى ذلك الإله الواحد، فيكون توكلها عليه، ورجاؤها فيه، وخوفها منه، ومحبتها له، كما يكون نذرها وذبحها، واستغاثتها واستعانتها، ودعاؤها وأملها، كل ذلك يكون لذلك الإله الواحد _ جل وعلا _.
وإن أول تفرق الأمة وتمزقها، يأتيها من تفرق عقيدتها، فدعاء الناس مخلوقا لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا هو أول أبواب الشر الكثيرة التي تفتح عليهم وخوفهم من المخلوقين وتوقع الضر والنفع منهم هو أعظم البلاء الذي ينزل بهم، وتوكلهم على ذوي الجاه والمناصب واعتقادهم بأنهم هم الذين يسيِّرون الأمور، ويدفعون الشرور، هو أكبر المخاطر التي تحيق بهم.(14/27)
فإذا تحقق التوحيد _ بهذا المعنى _ في القلوب، وسيطر على النفوس، غير مجرى الحياة كلها، فترى الناس يستمدون قوتهم من الله الواحد، ويستلهمون خطتهم من الإله الواحد، تطمئن قلوبهم إلى نصره، وتطمع نفوسهم في تأييده، وتمتد إليه سبحانه أيديهم بالسؤال، لأنه وحده الذي يملك الإجابة وتعنو جباههم له بالعبادة، لأنه الواحد الذي يستحق العبادة، وتطأطئ رؤوسهم لعظمته، لأنه الواحد المتفرد بالعظمة، وتنحني هاماتهم خضوعا لجلاله، لأنه وحده ذو الجلال والإكرام وتنقطع آمالهم إلا من كرمه لأن خزائنه سحاء الليل والنهار، وتخضع أعناقهم لحكمه، لأنه _ جل شأنه _ لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه.
فهو _ جل جلاله _ الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
إن عقيدة التوحيد تجمع القلوب المتفرقة، وتمد الضعفاء بقوة فوق قوة البشر وتجعل الأمة المبعثرة الممزقة وحدة ترهب الأعداء، وتحقق الآمال، وتنشر العزة بين الصفوف فيواجهون الشدائد بعزة المؤمنين، ويتغلبون على الصعوبات بقوة اليقين بنصر الله.
تلك هي اللمحة الأولى من ملامح المجتمع الإسلامي وهي اللمحة الأهم التي ركز عليها الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ منذ بعثته حتى انتقل إلى جوار ربه.
2_ وحدة الوسيلة:
إذا كانت وحدة العقيدة هي اللمحة الأولى للمجتمع فإن وحدة الوسيلة من أهم أسباب وحدة الأمة لأن الوسائل هي الطرق المؤديَّة إلى الغاية.
والغاية في الإسلام هي إرضاء الله _ عز وجل _ بطاعته فيما أمر ونهى وإخلاص العبادة له وحده دون سواه {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [2] .(14/28)
ولقد شرع الإسلام الوسائل التي تتضمن توجيه الناس إلى الغاية التي خلقوا لها حيث شرع العبادات، وكلَّف بها الجميع على السواء، وهي علاوة على كونها عبادة لله _ عز وجل _ فإنها وسائل تجمع الأمة، وتخط لها طريقا سويا، تسير فيه على هدى وبصيرة حتى تصل إلى غايتها.
والوسائل في الإسلام يجب أن تكون شريفة كشرف الغاية التي تريد الوصول إليها، والإسلام يرفض القاعدة التي اختطها بعض الناس، ورسموا على أساسها منهج حياتهم، وهي (الغاية تبرر الوسيلة) يرفض الإسلام تلك القاعدة، لأن الغاية التي يعمل لها نظيفة وشريفة ولا يمكن الوصول إليها إلا بالوسائل النظيفة الشريفة.
فمهما كانت عظمة الغاية، ومهما كانت حاجة الإنسان إليها، فإن ذلك لا يبرر مطلقا الوصول إليها بوسائل غير مشروعة، لأن الوسائل غير المشروعة، لا توصل إلا إلى غايات غير مشروعة.
فإذا كنت تريد جمع المال الحلال، فإنه لا يمكنك الوصول إليه بطريق الربا، أو الاحتكار أو الرشوة أو القمار.
وإذا كانت غايتك أن تعف نفسك، فلا يمكنك ذلك عن طريق الزنا أو اللواط. وإذا أردت أن تكون شجاعا، فلا يتأتى ذلك بالاعتداء على الناس، وظلم الضعفاء. وفرق واضح بين أولئك الذين يتحرون الحلال في المكسب والمطعم والمشرب، وبين أولئك الذين يريدون جمع المال، ولا يهمهم كيفية الحصول عليه، وبين أولئك الذين يريدون إعفاف أنفسهم، وبين الذين لا هم لهم إلا إشباع رغباتهم، وبين الشجاع الأبي وبين المعتدي الأثيم.
الفرق واضح بلا شك، لأن الغاية الشريفة تأبى أن تٌنال بوسائل خسيسة لهذا فإننا نرفض تلك القاعدة، ونرفض أن تكون منهاج حياتنا، ولهذا أيضا كانت وسائل سامية، تدعو إلى مثل وفضائل عالية، وهي تجتمع كلها في العبادات.
كيف تحقق الوسائل أهدافها؟
سنرى فيما يأتي كيف تحقق هذه الوسائل أهدافها ولنبدأ بالصلاة:(14/29)
الصلاة: فالصلاة تجمع المسلمين في الحي كل يوم خمس مرات، وفي كل أسبوع مرة على صعيد القرية أو المدينة في صلاة الجمعة، ثم في كل عام مرتين في صلاة العيدين على صعيد المدينة.
ولا يجوز لمسلم يسمع النداء، وهو غير معذور، ثم يصلي في بيته، وهذه الصلاة تكون في جماعة ليجتمع المسلمون فتزيد قوتهم، وتقوى روابط المحبة والمودة بينهم.
الصيام: وهو فريضة جماعية من حيث زمانه، فلا يجوز لمسلم أن يصوم شهر شعبان بدلا من شهر رمضان، وفترة الصيام محدودة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وذلك هو عين المعنى الجماعي الذي ينشد الإسلام.
الزكاة: تجمعها الدولة من كافة الموسرين المسلمين الأغنياء يحسون بحاجة إخوانهم الفقراء، فيبذلون من أموالهم، فتتوطد علاقات المحبة، والمودة بين أفراد الشعب، فيعيشون كالجسد الواحد.
ثم الحج: وهو فريضة يظهر فيها الجانب الجماعي واضحا، فالمسلمون يلتقون في يوم واحد، وليس لمسلم إن يتقدمه أو يتأخر عنه، ثم هم يلبسون زيا واحدا، ويؤدون أعمالا جماعية، واجتماع المسلمين في يوم واحد، ومكان واحد، وقيامهم بأعمال واحدة كل ذلك ينمي فيهم الروح الجماعية التي جاء من أجلها الإسلام.
ومن هذا العرض السريع نتبين أن العبادات التي فرضها الله _ تعالى _ على المسلمين، كلها وسائل تجميع للأمة تربي فيهم حب الجماعة، وتنمي فيهم الروح الجماعية.
فالإسلام إذن هو دين التوحيد الخالص، دعا إليه في العقيدة، ورسمه في الوسائل وفرضه على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وتلك هي اللمحة الثانية من ملامح المجتمع الإسلامي فالمجتمع الإسلامي هو المجتمع الذي يعيش بعقيدة التوحيد، ويتوصل إلى غايته بوسائل واحدة.
وهناك لمحة ثالثة موعدنا معها العدد القادم.
--------------------------------------------------------------------------------(14/30)
[1] سورة سبأ الآية (28) .
[2] الذاريات: 56.(14/31)
الإنسان.. والعصيان..!
لفضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي
لقد هممت أن أقلب العنوان فأجعله (العصيان والإنسان) فتصبح كلمة (العصيان) سابقة لكلمة (الإنسان) ، لولا خشيتي من أن أقلب معها ترتيب الخلق الإلهي، حيث كان الإنسان ثم العصيان، وسبب تفكيري في أن أجعل المعصية أولا، هو أن الإنسان من شدة حرصه على أن يذنب، يكاد يجعل عمره بحثا عن الذنب أين يكون ليقترفه، فالإنسان هو اللاحق التابع، وذنبه هو السابق المتبوع، ودليلي فيما ذهبت إليه من هذا التصوير، هو كلام خالق الإنسان سبحانه، حيث يقول: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ} ..(14/32)
فالآيتان الكريمتان تخبران بأن الأهواء هي المتبعة، وأصحابها هم التابعون لها، وقوله أيضا عز من قائل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاه} ، فالآية هنا لم تجعل الذنب متبوعا من الإنسان فقط كما في الآيتين السابقتين، وإنما زادت بأنه قد اتخذه إلها، فالمعروف بأن الإله هو المطاع، والعابد هو المطيع، فهل يكون في الأمر غرابة إذا عكسنا العنوان وقلنا: (العصيان والإنسان) ، بعد أن سمعنا قول العليم بما نخفي وما نعلن، وبما أكد أن الإنسان هو المنقاد لذنبه، بغض النظر عن الدافع لارتكاب الذنب شيطانا كان أو نفسا أمارة، وبغض النظر أيضا عن النسبة القليلة المطيعة في المجموعة البشرية، الذين غلب خيرُهم شرَّهم، ولم يسمحوا للنفس ولا للشيطان عليهم بمطلق السلطان، لأن الشيطان نفسه بادئ أمره في السماء قد أعلن ذله أمام هذه القلة العاقلة من الذرية الآدمية، حين قال لربه: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلاً} ، فقد أدرك أن هؤلاء المطيعين سيكونون مستعدين للمقاومة الدائمة لكل نوازع السوء، فيصبح حديثي عنهم تحصيل حاصل، ولأنهم قليل ما هم حيث أحبوا العمل وكرهوا القول، وأنفوا التحدث عنهم، فلم يعطونا من أنفسهم مادة لنكتب عنهم أو نخطب، أما عكسهم فهم الأكثر والأشهر، فقد قدموا المدد العريض من شرهم ليقول عنهم من شاء بما يشاء، إذا لما جعلت الإنسان والعصيان شيئين لا يفترقان، وعبرت عن الفريق الذي فسق عن أمر ربه لكثرته كأنه الكل، ما غلوت في ذلك، خاصة بعدما سمعنا عن اللعين أبي الشيطان {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ} أي لأستأصلن الخير من كل ذرية آدم ولم يستثن إلا القليل الذي ذكرته الآية، واستثناؤه لهذا القليل هو الدليل على عجزه عن بلوغ قصده، وإلا لأحتنك كل الذرية ولم يستثن أحدا، فقد قيل إنه سئل عن أي شيء أحب إليه فقال: "لو عرض عليّ ملك الدنيا وأن أضل واحدا من ذرية آدم(14/33)
لاخترت الثانية"، إذا فقد أطيع ممن أطاعوه بسهولة منهم ورضا، وهو بنفسه سيقول هذا يومها {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} وعليه فلا يجوز للعصاة قولهم غلبنا الشيطان، والصحيح أن يقولوا دعانا فاستجبنا، حيث لم نستعمل مجرد العقل لندرك به النجاة من الهلكة، وحيث تقرر في الآخرة الحقيقة التي كان يكفي فيها تحكيم العقل قبل النقل، عندما يقال لهم عن حصاد الشيطان معهم: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} ؟ فهو هنا سبحانه اكتفى بذكر العقل الذي هو أساس فهم الأمر ضارّا كان أو نافعا، وما الرسل مع العقل إلا مبشرين لمن عقل، ومنذرين لمن جهل، والعجب في الإنسان أنه ما نقم وكان لربه خصيما، إلا وهو موقن من أنه أكثر المخلوقات استئثارا بما في دنيا الله من نعم، وغمره بما في سمائه وأرضه من خير {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} ولأني مصر على أن الإنسان أذل نفسه للمعصية وجعلها سيدته المتحكمة في أمره، ولم يكرم آدميته المكرّمة من الله، ولا ما أشهده على نفسه يوم أن أخذ من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، أقدم دليلا من قصة أمر رسولنا صلى الله عليه وسلم أن يقصها علينا، {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ، ليعْلِّمنا بها سبحانه أن أول عمل عمله الإنسان على الأرض بعد الإشهاد والتكريم، هو مقابلة الإحسان بإغضاب المحسن تعالى، وبأفحش ما يستجلب به سخطه، فكانت أول معصية وقف أمامها الإنسان أحقر ما يكون، لمَّا فتك بإنسان مثله، وجعل بداية ما تستقبل الأرض هو الدم الأحمر القاني يختلط بثراها، يتفجر من جسد المظلوم هابيل، بيد قابيل أخيه ابن أمه وأبيه، من هنا، كان الشر في الدنيا هو السائد، والذَنب للإنسان هو القائد، واستحق أن يكون ظلوما جهولا، لماّ(14/34)
لم يكن مع عهد الله من الأوفياء، ولا على أمانته من الأمناء، والقصة هي: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ. فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، فالأخ القتيل ذكَّر أخاه القاتل بربه وخوفه منه، لما ذكر له أنه لن يرد سوء العمل بمثله لأنه يخاف الله {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَك} السبب {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} لكن لما كان جانب الشر في الإنسان أقوى وأسبق، وأنه عندما يسيطر عليه شره، يصبح الأسير المطيع لخبث نفسه، وعلى هذه الصورة قدمت إلينا الآية قابيل القاتل بأنه وقد ذكَّره أخوه بربه، ورهبه من ناره التي أعدها لكل أثيم، عندما قال له: {فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} . أقول بعد هذا كله، لم تتحرك شعرة في قابيل نحو أخيه من حنو أو رحمة، ولم يحاول التخلص من طاعة نفسه المتوحشة، وإنما انقاد لها ذليلا بأسرع ما تكون الطاعة {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ} ، وقتل من؟ تقول الآية {قَتْلَ أَخِيهِ} وبهذا قضى عليه بالخسران {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِين} ، ووضع قابيل بإثمه بداية الخُسْرِ على الأرض لما أصبح أول خاسر، فكانت الكثرة والهيمنة فيها من نوع أول ما عمل على ظهورها، وهو الكفر بالله والاقتران بمعصيته، وهكذا انطلق(14/35)
الإنسان في أحقاب الدنيا متقلبا في درْك المنكر ينوعه ويفرعه، لا يرده حياء ولا يخجله فحش، حتى أتي نوعا من الذنب بعد القتل تكاد السماء منه تنهال وتندك له الجبال، ما فعلها كائن من خلق الله ولا عالَما من عالمَِينه، لقد رأى الكثير منا أحط الحيوانات تتناكح، كالقرد والخنزير والكلب، ورأينا كيف تترفع هذه الحيوانات وتتعفف من أن يعتلي الذكر ذكرا مثله، ويرفض أن يقذر نفسه بمفرز الغائط، يحدث هذا من أحط الكائنات التي يسميها العلماء حيوانات غير محترمة، ولكنها أثبتت أنها محترمة عن الإنسان لما تعالت عن هذه الفعلة الوسخة، وراح هو يفعلها ليكون في ذلك أحط من الكلب والقرد والخنزير، وليكون له فضيحة البدء وعار السبق بعمل لم يكن له من قبل وجود في دنيا الله، عندما اعتلى الإنسان الإنسان تاركا أنثاه التي كمَّل الله بها إنسانيته وذرأ بها نوعه، وذلك بما حكى القرآن على لسان نبي كريم {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} ، فالآية هنا لم تقل: أتأتون الكبيرة، لأنها قد تدخل مع أنواع الكبائر على عمومها، وإنما وصفت بأغلظ وصف وضع لكبائر معينة لا يؤجل أمرها إلى لقاء الآخرة، كذلك أثبتت الآية دليلا إلى ما تقدم من أدلة على أن الإنسان أسلم قياده للمعصية، حتى جعلها تسبق وهو يلحق، لما قال لوط عليه السلام لقومه المنصوحين: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} ، والتفسير هنا واضح من أن كلمة {أَحَدٍ} مقصود بها كل كائن حي وليست مقصورة على جنس الإنسان، أي لم يسبقكم إليها كائن ما والدليل قوله: {مِنَ الْعَالَمِينَ} ، فلو كان القصد عالم الإنسان فقط ما جمعت الكلمة على الإطلاق، وحتى كلمة {مَا سَبَقَكُمْ} ، ليس الغرض منها _ والله أعلم _(14/36)
السبق الزمني وحده، وإنما السبق الزمني والفعلي قبل لوط وبعده، فإنه وإن كان الإنسان لم يفعلها قبل إنسان لوط لكنه لا زال يرتكبها نوع من الإنسان حتى الآن، أما الحيوان فلم يفعلها لا قبل لوط ولا بعده، ومن هنا يكون معنى قوله {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} لم يفعلها غيركم من كل العالمين، ولذلك كان عقاب الله فريدا في نوعه لم يقع لقوم أي رسول {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} أي محمية في النار، لأن عملهم بلغ قمة الإسراف بوصف نبيهم لهم {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} ، واليوم نسأل، هل هذا العمل الذي سمعنا عنه الآن ما يرعب، قد قطع دابره اليوم من أمتنا الإسلامية على أساس أننا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولسنا أمة لوط عليه السلام؟ سؤال معلوم جوابه في قصة الإنسان والعصيان.(14/37)
إن المعصية في ذاتها شيء لابد أن يكون، فالعصمة لرسل الله وأنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم، ولكن الذي لا يجوز أن يكون، هو أن تستمر المعصية حتى تشقي صاحبها، وأنواعها شتى لا يحيطها حصر، لكنها جميعها تقع بين دفتي معصيتين، إحداها كبراها وهي التي تلبس صاحبها الكفر عندما يأبى الاعتراف بموجده سبحانه، والثانية صغراها وهي مقترفة اللمم، وهذه سنفصل أمرها بعد إن شاء الله، حيث هي للمسلم الذي تقع منه صغائر وكبائر، أما الكافر فلا صغائر له ولا كبائر، فقد انضوى كل قبحه تحت ذروة ظلمه {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} ، أي لا أحد أظلم منه، فكل ما يصدر منه كفر صغر أو كبر، لكنه وهو في قمة أو قمامة كفره إذا فطن إلى سوء نفسه، وزكاها بعد أن دساها، وفهم بأنه وُجد من موجد واحد يتحتم أن يوجد، فمرحبا به في سعة ربه يكرمه ويفرح به ويقبل عليه وكأنه لم يكفر به يوما، مهما طال كفره وفحشت معصيته، وإليكم من نوع تصحيح الإنسان لإنسانيته عندما يميل عنها، قصتان من وقائع عصر النبوة، أولاهما وقعت من عبد الله بن الزِبَعْرَى لما هرب يوم الفتح إلى نجران، وكان شاعرا حتى قيل إنه أشعر شعراء قريش، وسخر شعره في هجاء المسلمين، فبلغه ما قاله عنه حسان بن ثابت رضي الله عنه في هذين البيتين: _
لا تعد من رجلا أحلك بغضه.
نجران في عيش أخس لئيم.
غضب الإله على الزِبَعْرى وابنه.
وعذاب سوء في الحياة مقيم.(14/38)
فلما بلغه شعر حسان رجع حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في أصحابه، فلما نظر الرسول إليه قال لهم: "هذا ابن الزبعرى ومعه وجه فيه نور الإسلام"، فلما وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: السلام عليك يا رسول الله، شهدت أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، والحمد لله الذي هداني للإسلام، لقد عاديتك وأجلبت عليك، وركبت البعير والفرس ومشيت على قدمي في عداوتك، ثم هربت منك إلى نجران وأنا أريد أن لا أقرب الإسلام أبدا، ثم أردني الله منه بخير وألقاه في قلبي وحببه إلي، وذكرت ما كنت فيه من الضلالة واتباع ما لا ينفع ذا عقل من حجر يعبد ويذبح له لا يدري من يعبده ومن لا يعبده فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله الذي هداك للإسلام، إن الإسلام يجب ما كان قبله"، ثم قال بعد ذلك هذه الأبيات:_
منع الرقاد بلابل وهموم
والليل معتلج الرواق بهي.
مما أتاني أن أحمد لا مني
فيه فبت كأنني محموم
إني لمعتذر إليك من الذي
أسديت إذ أنا في الضلال أهيم
فاليوم آمن بالنبي محمد
قلبي ومخطئ هذه محروم.
فاغفر فدى لك والديّ كلاهما
زللي فإنك راحم مرحوم
وعليك من علم المليك علامة
نور أعز وخاتم مختوم
أعطاك بعد محبة برهانه
شرفا وبرهان الإله عظيم
ولقد شهدت بأن دينك صادق
حق وأنك في العباد جسيم
والله يشهد أن أحمد مصطفى
متقلب في الصالحات كريم(14/39)
والثانية من صحابي منسي قل الحديث عنه، مع أنه ابن عم شقيق الرسول صلى الله عليه وسلم، وشبيهه في الخلقة والخلق، وهو أبو سفيان بن الحارث، غير أبي سفيان بن أمية حتى لا يشتبه الأمر على بعضنا لقلة معرفة صاحب القصة كما ذكرت إلا بكلمات في كتيبات، يقول أهل السِّيَر: كان أبو سفيان بن الحارث بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة، أرضعته حليمة بنت سعد، وكان يألف رسول الله قبل البعثة، فلما بُعث عاداه أبو سفيان عداوة لم يعاد بمثلها أحد قط، فمكث عشرين سنة عدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويهجو المسلمين بشعره ويهجونه، ولا يتخلف عن موضع تسير فيه قريش لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى نصر الله رسوله وتهيأ لفتح مكة، قال أبو سفيان بن الحارث: فقلت: من أصحب ومع من أكون؟ . قد ضرب الإسلام بجرانه، فجئت زوجتي وولديّ فقلت: تهيؤوا للخروج من مكة فقد أظل قدوم محمد، قالوا قد آن لك أن تبصر أن العرب والعجم قد تبعت محمدا وأنت موضع في عداوته كنت أولى الناس بنصرته، فأصاب قولهم موضعا في نفسي، فخرجت متوجها نحوه على قدمي نحوا من ميل، وكان قد نذر دمي، فتنحيت خوفا من أصحابه، فلما طلع في موكبه تصديت له تلقاء وجهه، فلما ملأ عينيه مني أعرض عني بوجهه إلى الناحية الأخرى، فتحولت إلى ناحية وجهه فأعرض عني مرارا، فأخذني ما قرب وما بعد، وقلت: أنا مقتول قبل أن أصل إليه، وأتذكر بره ورحمه فيمسك ذلك عني الخوف، وقد كنت أظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه سيفرحون بإسلامي فرحا شديدا لقرابتي برسول الله. فلما رأى المسلمون إعراضه عني أعرضوا عني جميعا، فلقيني أبو بكر معرضا عني، ونظرت إلى عمر فقال لي: يا عدو الله، أنت الذي كنت تؤذي رسول الله وتؤذي أصحابه، قد بلغت مشارق الأرض ومغاربها في عداوته، ورفع صوته واستطال عليّ، فدخل عليَّ عمي العباس فقلت يا عم قد كنت أرجو أن يفرح بي رسول الله بإسلامي لقرابتي وشرفي(14/40)
وقد كان منه ما رأيت فكلمه فيّ ليرضى عني، قال: لا والله لا أكلمه كلمة بعد الذي رأيت إلا أن أرى وجها، إني أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهابه، فقلت يا عم، إلى من تكلني؟ قال: هو ذاك، فلقيت عليًّا فكلمته فقال لي مثل ذلك، فخرجت فجلست على باب منزل رسول الله حتى راح إلى الجحفة، وهو لا يكلمني ولا أحد من المسلمين، وجعلت لا ينزل منزلا إلا وأنا على بابه ومعي ابني جعفر قائم، فلا يراني إلا أعرض عني، فخرجت على هذه الحال حتى شهدت معه فتح مكة، وأنا في خيله التي تلازمه حتى نزل الأبطح، فدنوت من باب قبته فنظر إليّ نظرا هو ألين من ذلك النظر الأول ورجوت أن يتبسم، ودخل عليه نساء بني عبد المطلب ودخلت معهن زوجتي فرقَّقَته عليّ، وخرج إلى المسجد وأنا بين يديه لا أفارقه على حال، حتى خرج إلى هوازن في حنين فخرجت معه، وقد جمعت هوازن جمعا لم تجمع العرب مثله قط، فلما لقيتهم قلت: اليوم يرى أثرى إن شاء الله، فلما لقيناهم حملوا الحملة التي ذكر الله {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته الشهباء وجرَّد سيفه، فاقتحمت عن فرسي وبيدي السيف صلتا قد كسرت جفنه، والله يعلم أني أريد الموت دونه، وهو ينظر إليَّ لا يعرفني حيث لم يبد إلا عيناي، وأخذ العباس بلجام البغلة وأخذت بالجانب الآخر، فقال: "من هذا؟ "فقال العباس: أخوك وابن عمك أبو سفيان بن الحارث، فارض عنه أي رسول الله. قال:"قد فعلت، فاغفر الله له كل عداوة عادانيها"، ثم التفت إليَّ فقال: "أخي لعمري"، ثم أمر العباس فقال: "ناد يا أصحاب السمرة " (أي شجرة الرضوان) يا للمهاجرين، يا للأنصار، فأجابوا، لبيك داعي الله، وكروا كرة رجل واحد، قد حطموا الجفون وشرعوا الرماح وخفضوا عوالي الأسنة وأرقلوا إرقال الفحول، يؤمون الصوت صائحين، يا لبيك يا لبيك، حتى أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقدم رسول الله في نحور القوم ما يألوا ما تقدم،(14/41)
فما قامت لهم قائمة وتفرقوا في كل وجه"، وذكر ابن عبد البر، بإسناده عن عائشة رضي الله عنها قالت: مر علينا أبو سفيان بن الحارث فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هلمي يا عائشة حتى أريك ابن عمي الشاعر الذي كان يهجوني، أول من يدخل المسجد وآخر من يخرج منه، لا يجاوز طرفه شراك نعله"، فقد روي أنه رضي الله عنه ظل لا يرفع رأسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم حياء منه حتى مات، ولما لحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى بكى عليه كثيرا ورثاه بقصيدة مؤثرة موضحة في كتب السيرة، ولما حضرته رضي الله عنه منيته، بكى عليه أهله فقال لهم: لا تبكوا عليّ، فما تنطفت بخطيئة منذ أسلمت، انتهت القصة أو أكثرها، فابن الحارث إبان كفره لم يكن سلبي الكفر، بمعنى أنه لم يقف عند تكذيب ابن عمه صلوات الله عليه كما فعل كفار غيره، اكتفوا بإعطاء ظهورهم للرسول واتجهوا منكبين على أصنامهم، أما هو فقد جسَّم كفره بلسانه وسيفه يظلمان معه على امتداد عشرين عاما قضاها خصيما لمن هو عند الله أكرم الخليقة حتى نذر دمه، ومع هذا كله وَجد عند الله الترحاب في أوسع رحاب لما فرَّ إليه من كفره {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} ، فما عذر الكافر إذا بقي بعد ذلك على كفره والعاصي إذا بقي على معصيته، وثاني ما في قصة ابن الحارث أن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع إسلام ابن عمه في بوتقة امتحان الإيمان، ابتداء من الإعراض عنه أول ما لقيه إلى أن احمر جمر يوم حنين، فأثبت رضي الله عنه أن الإسلام ألبسه حلة العزة لما قال يومها عن الرسول: والله يعلم أني أريد الموت دونه، وعندئذ فاز بأعلى وسام يوضع على صدور الأعزة على الكافرين، ساعة أن قال له القائد صلوات الله عليه: "أخي لعمري"، فما بال أمتنا اليوم رغبت عن التزين بهذا الوسام، ولماذا نكس علم الجهاد وبقاعنا الغوالي في كل مكان تنادي منقذيها؟ سؤال معلوم جوابه،(14/42)
في قصة الإنسان والعصيان.
ومن المؤسف أن بعض من يتصدرون المجالس والمجامع ليبلغوا عظة الله إلى عباده أن يقدموا إليهم قول الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُم} ، بصورة تفتح للشيطان بابا واسعا ليلج منه إلى نفوس من يسمعونهم، فهذا البعض المتحدث عن هذه الآية يكتفي بتقديم بشرى لسامعيه بأن الصغائر يمحوها ترك الكبائر، فهذا التفسير من حيث السطحية صحيح، ومن حيث فهم الكثير من مستمعيه فهو جد شنيع، حيث يظن أنه لا عليه إذا فعل الصغيرة لأنها تغفر تلقائيا ما دام اجتنب الكبيرة، فيندفع في معاصيه غير مميز بين الصغائر والكبائر مادام قد استثنى السبع الموبقات وما عداها مباح لا إثم عليه في نظره، لكنه لو فهم بأن الآية الكريمة تقرر المغفرة لما سبق من كلا الذنبين إلى يوم التوبة، وأن تحريم الصغيرة قائم ولو بعد التوبة من الكبيرة، وأن عليه وزرها ما لم تقع منه خطأ أو جهلا أو نسيانا وهو حريص على تركها، فيَجُبُّها ترك الكبائر وتغفر إن شاء الله، هنا يعلم أن ما حرّم حرام بأصله وفرعه، أما إن فهم المعنى بغير ذلك أو عملت الصغيرة ولكن فاعليها تقالُّوها غير مبالين، وحسبوها هينة، وأمرها عند الله عظيم فما أظنهم إلا سيزاملون صاحب الكفر الصريح في الآخرة، فيصبح الكافر وقد تأكدت له النار يرافقه المسلم إذا ارتكب الصغيرة باستهتار، ولدينا الوفير من أدلة قرآنية ونبوية يكفي عنها بعضها نقدمها إليكم، ونبدأ المثال بآية تثبت الحرمة في شيء يتصور الناس أنه لا عقاب مطلقا على فاعلها، فهي عندهم في قائمة الحلال أصغر من أن تذكرن وتلك هي الأكلة الشهية يستلذها فيرسل منها الكثير إلى جوفه حتى يَتْخَم، يقول عز من قائل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} ، فما ذكرته الآية من أكل وشرب واضح أنه من مصدر حلال بدليل قوله تعالى: {وكلوا} ، فالله(14/43)
لا يأمر بالفحشاء، ومع أنه حلال طيِّب فقد يتحول الآكل إلى مرتكب حرمة توقع العقاب إذا أفرط في الشبع، بنص نهاية الآية، {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} . فنفي الحب عن العبد من الله يؤدي إلى عقابه، وشبيه بهذا التعبير قوله: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} ، فأهل العلم يقولون بأن نفي الحب يثبت البغض، ولا بغض دون أن ينال المبغض وبال أمره، مع التفاوت في مراتب العقاب حسب الذنب وبما يقضي به الله، فمَلء البطن وهو شر وعاء يُملأ كما ذكر صلى الله عليه وسلم صغيرة ليس لها مقياس عند الكثير من الناس، وقصة القطة التي يستوي في نظرنا أن تموت أو تعيش، هل كان دخول المرأة النار بسببها كما أخبر صلوات الله عليه إلا باستصغار حبسها، وهل كان عذاب صاحبي القبرين إلا باستصغار أحدهما لقطرة بول تنزل في سرواله أو لا يستتر منها، والثاني باستصغار كلمة وشاية يحرك بها لسانه بسهولة ابتلاع ريقه، وهل الذي أنبأ عنه المنبأ صلوات الله عليه بأنه حرم من عافية الله إلا لأنه استصغر المجاهرة والمجانة حيث لم تكونا من الكبائر عنده، ففي الحديث المروي عن البخاري ومسلم: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجانة أن يعمل الرجل بالليل عملا، ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره به، ويصبح يكشف ستر الله عنه"، والعجب أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أنهم من أمته، ومع ذلك أخبر بأن الله أبعدهم وحرمهم من عافيته {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} والآن أصبح أمر المجاهرة والمجون شيئا لا يفعل فقط على أنه صغير ليس بخطير، وإنما أصبح يباهى به ويفاخر، لقد حدث في صدر الإسلام أن البعض ظن عدم المانع من مقارفة بعض الذنوب ما دامت دعائم الإيمان راسخة عنده، فنزلت الآية تصحح خطأ الفهم وضرر ما ظنُّوه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا(14/44)
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ، فالنداء الإلهي أضفى عليهم صفة الإيمان فعلا، ولكنه حذرهم من عدم الطاعة في الصغيرة أو الكبيرة، وإلا بطلت أعمالهم وسلبت صفة الإيمان منهم، لقد كان مجرد رفع الصوت على صوت النبي صلى الله عليه وسلم ولو بقليل، وهو ليس في قائمة الكبائر {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيّ} أيَّ رفع، بل والتحدث إليه بالمستوى الذي يتحدث به الناس إلى بعضهم {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْض} ، إذا وقع الأمران أو أحدهما يقع معه إحباط العمل كله، حيث لم تستثن الآية منه شيئا لما قال سبحانه: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} أي وأنتم لا تشعرون بأن أعمالكم الصالحة قد حبطت وبذنب ظننتموه صغيرا، فيا للداهية، التي تقع اليوم أمام صاحب الحجرة المهاب صلوات الله عليه من صياح وصراخ يسمع من أقاصي المدينة يقود هذا الصراخ نعيق (المزورين) بكلام طويل لا ندري من أين أتوا به من كتبوه، يردده وراءهم المئات من الجهلة الأغرار أمام قبر سيد الأبرار صلى الله عليه وسلم، وقد التصقت جسوم الرجال بلحوم النساء في غير أدب ولا حياء، لا من الله ولا من رسوله الثاوي في حجرته المطهرة، إذا أقول بلا تحرج ولست أهلا للفتوى: إن هؤلاء الذين (زوَّروا وزُوِّروا) قد حبطت أعمالهم وهم لا يشعرون أو يشعرون، وما أظن الذين يسكتون عنهم بمنجى من سؤال الله يوما، لهذا كله كان على مستصغر الصغيرة أن يخشى على نفسه التردي من حيث لا يدري، فالحريق الكبير من شرر صغير كما يقولون، ويقابل مستصغر السيئة مستصغر الحسنة، فكما أهلكت الأولى فاعلها أنجت الثانية مؤديها، فلعقات ماء بلسان كلب رد بها ظمأه رد الله بها ساقيه أو ساقيته عن الإدراك في الهاوية، ونصف التمرة التي تستصغر حجمها وقدرها وإذا أكلت لا تشبع ولا تقنع، هي في حساب الصدقة عند(14/45)
الله تتضخم حتى تسد جميع الأبواب السبعة لجهنم، وما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم هذين المثالين إلا لننسج على المنوال ونتشح بنفس السربال، فلا نستصغر شرا ولا تستقل خيرا، فهو القائل سبحانه: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} .
كنت في بلد ما، ووجه إليّ أحد الضالين سؤالا فقال: لِمَ يعذب الله الناس بذنوبهم وهو الذي شاء لهم أن يفعلوها، وكنت أعلم أن هذا السؤال هو الذي اختاروه ليجروا به البسطاء إلى الشك في عدل الله، وبالتالي يسلبونهم ما لديهم من إيمان، وكنت أعلم أيضا أنه ما سأل ليعلم، وإنما في اعتقاده ليماري ويفحم، ومع ذلك رجوت أن أشده من حفرته، ويكون هو الصيد من حيث أراد أن يصيد، لكنه ما لبث أن سمع بداية الجواب تحمل بعض الأدلة حتى رأيته يتلفت حوله كمن خاف شيئا، ثم يستأذن حتى لا يسمع بقية الجواب وأسرع مختفيا في زحام الشارع، واليوم رأيت من الضروري أن أكمل الجواب بعد أن تردد هذا السؤال على ألسنة البعض، ونعيد سؤال الذي هرب حتى لا يؤمن، لم يعذب الله الناس بذنوبهم وهو الذي شاء لهم أن يفعلوها؟، ونقول إن هذا ومن على شاكلته ممن تاه في عماه يظن أنه أتي بجديد من نضح ضلاله، فقد جهل بأننا علمنا من الله ما لم يعمل، وأن من نوعه من سيظل يتخرص بذلك على طول الدنيا، فليسمع إذا هذه الآية: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ} ، وليسمع الثانية: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}(14/46)
وليسمع الثالثة {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} ، فالآيات في مجموعها هوت بقبضة الحجة البالغة على رؤوس هؤلاء الفسقة فأجهزت على إفكهم، فهم في الآيات الثلاث أرادوا التنصل من عاقبة إجرامهم وظنوا أن كلمة المشيئة درع وقاية لبغيهم، ذلك لأهم لم يعرفوا عنها إلا أنهم يخرصون بغير علم كما سمعنا الآن من القرآن، فحقيقة المشيئة جهلوها لما لم يعلموا أنهم أيضا لهم مشيئة وضعت فيهم يسألون عنها، يأخذون بها من الأمر ما يشاءون ويتجهون بها نحو الطيب أو نحو الرديء كما يريدون فلا قهر ولا جبر {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} فهو سبحانه وضع من مشيئته العظمى في الإنسان جزءا من المشيئة تكفيه، يفصل بها بين المحبوب الذي يفيد والمكروه الذي يؤذي، بعد أن جعله أعرف خلقه على الأرض لما يُحب ولما يُكره، وأظهر له بالحس واللمس الغي من الرشد، ثم ذكره بهذه المشيئة التي وضعها فيه وقدمها بلفظها في القرآن ليستعملها طائعا غير مكره، فقط له أو عليه عاقبة ما شاء {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُر} ، فإن شاء الإيمان فله نعمه، وإن شاء الكفر فعليه خسرُه، ثم أعاد ذكرها مرات، وكررها ليقررها، حتى لا يقول الفاسق إنه سيق أو أرغم فكيف يعاقب على شيء إليه {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} {إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيراً لِلْبَشَرِ(14/47)
، لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} ، فإن كانت مشيئته التقدم سلِم، وإن كانت التأخر ندِم، ولهذا جاء بعد ذكر المشيئة قوله سبحانه: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} ، ما دام الذي شاءوه كان اختيارا منهم وطواعية، لكن لكيلا يظن الإنسان وهو الكفور الغرور، أن مشيئته انفصلت عن المُشِيء الأعلى سبحانه، وليعلمه أنه المهيمن على ملكوته بالغيب والشهادة، ردّ الإنسان بمشيئته الصغيرة التي أعطاها له ليسأل بها عن عمله إلى مشيئته العليا العادلة المنظَّمة، فقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} ، عليما بأعمالكم تجاهها، حكيما فيما يقضي بنتائجها، فإذا ذهب الإنسان ولم يستعمل حرية التصرف التي أعطيت له وكان هو البادئ بطلب الشر راضيا، أفلا يكون له من نوع ما طلب ورضي؟، إن الواحد منهم يقبل عقاب حاكمه الدنيوي إذا خالف أمرا ظالما له، ولا يرضى بحكم المنزه عن الظلم إذا خالف أمره، فلا مصلحة له سبحانه في أن يظلم، وإنما جعل عاقبة الذي أساء السوأى بما سبق أن قدم واختار، فهو الذي اختار ولاية الشيطان وهو يعلم عداوته {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} ، وهو الذي اختار صحبة من أضله {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} ، وهو الذي اختار لنفسه أن تضر نفسه {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} ، وهو الذي اختار لها أن تزيغ {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} ، فهؤلاء إذا أبسلوا بما كسبوا، وعوقبوا بما بدأوا به ورضوا فلم يضطروا ولم يقهروا، أفيكونون قد ظُلموا من أحكم الحاكمين؟، أم أن أمرهم كما قال سبحانه عنهم: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} ، فظلمهم الذي سبق بالمضي(14/48)
بالفعل (كان) ، والمؤكد بالضمير وقوعه ومضيه معا، نفى بالقطع ظلم الله لهم لما جزاهم بسوء ما قدموا {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} ، فلم يستعملوا مشيئة الخير الكامنة في أماكن التعقل الثلاثة، القلب والعين والأذن، فأبطلوا استعمالها بما قال عنهم ربهم: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} ، لقد استعملها ابن الزبعرى السابق الذكر فاهتدى، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} ، لما قال بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم: "وذكرت ما كنت فيه من الضلالة، واتباع ما لا ينفع ذا عقل من حجر يعبد ويذبح له لا يدري من يعبده ومن لا يعبده"، واستعمل حواس التعقل هذه ضال آخر فاهتدى أيضا، نحكي من أمره بقدر الناسبة، يقول الطفيل بن عمرو الدوسي، قدمت مكة قبل أن يصدع الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر ربه، فمشى إليّ رجال من قريش فقالوا لي: إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل الذي بين أظهرنا فرق جماعتنا وشتت أمرنا، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا، قال: فوالله مازالوا بي حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئا، حتى حشوت في أذني كرسفا _ أي قطنا _ فغدوت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة، فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله فسمعت كلاما حسنا، فقلت: واثُكل أماه، والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان ما يقول حسنا قبلت وإن كان قبيحا تركت، فمكثت حتى أتى عليه الصلاة والسلام بيته فتبعته، فقلت: يا محمد، إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا، فوالله ما برحوا يخوفوني أمرك حتى سددت أذني بكرسف، حتى لا أسمع قولك، فأبى الله إلا أن يسمعنيه فسمعت قولا حسنا، فاعرض عليّ أمرك، فعرض عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام وتلا عليّ القرآن، فلا والله ما سمعت قولا قط(14/49)
أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه، فأسلمت وشهدت شهادة الحق، فلما رجعت إلى قومي أتاني أبي فقلت: إليك عني يا أبت فلست مني ولست منك، قال: ولم يا بنيّ؟ قلت: قد أسلمت وتابعت محمدا، قال: يا بني فديني دينك، فقلت: فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك ثم تعال أعلمك ما علمت، ثم أتتني امرأتي فقلت لها: إليك عني فلست منك ولست مني، قالت: لم؟ قلت: فرَّق بيني وبينك الإسلام، فقد تابعت محمدا عليه الصلاة والسلام، قالت: فديني دينك، فقلت لها ما قلت لأبي، ثم دعوت قوم دوس إلى الإسلام فأسلم منهم ثمانون بيتا"، والقصة على روعتها لا نأخذ منها إلا قوله الطفيل: "واثكل أماه، والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى على الحسن والقبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان ما يقول حسنا قبلت، وإن كان قبيحا تركت"، فهو رضي الله عنه استعمل حواس التعقل فيه فشاء لنفسه أن يزكيها، وقد أفلح من تزكى، فهل يبقى هذا السؤال من الزائغين: لماذا يعذب الله أصحاب الذنوب وقد شاء لهم أن يفعلوها؟ لقد أجبت بما استطعت، وسيبقى سؤالهم حتى يحيق بهم قول الله فيهم {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} ، ذلك لأنها قصة الإنسان مع ربه، لما قابل الإحسان بالعصيان.(14/50)
قلنا فيما سبق إننا لا نفرِّق بين الكبائر الكافر وصغائره، فهو بكله أصبح جيفة نتنة، فلم يعد يصله بخالقه شيء حيث انقطع وانفصل، وليس لهذا النوع من الإنسان إلا أن ينالهم نصيبهم من الكتاب في هذه الدنيا، وعند لقاء ربهم يردُّون إلى أشدِّ العذاب بما ليس لهم منه فواق، أما المسلم وقد دخل مع الله في عهد يوم أسلم، فقد صار ملتزما بأوامر ونواهي محددة أخذ نفسه بها فيمسي منذ هذه اللحظة له صغائر وكبائر يعامل تلقاءها، أما الصغائر فقد سبق حديثنا عنها، وعن الكبائر الآن نتحدث، فنقول إنها نوعان، نوع يكفي فيه صحة التوبة وصدق الأوبة فتغفر برحمة من الله وفضل، كالغيبة والكذب وعقوق الوالدين وقطع الرحم وشبه ذلك، ونوع تتحتم فيه الحدود ولا يمحى أثره إلا بها، والنوعان موضحان في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِش} فكبائر الإثم عامة، والفواحش منها موجبات الحدود، والثاني هو ما أريده لأنهي به حديثي إن شاء الله، لأنه إذا لم يؤد ما في الآية من الاجتناب لكليهما فيتم في الأول حكم الله كما يريد ويقام في الثاني حدود الله كما أراد، ويكون ذلك في كل مجتمع ألزم نفسه بالإسلام، ورضي بالحد ليصلح به في أرض الإسلام ما اختل، ويطهر المجتمع الفاضل من كل منحل، فإذا ما اختل الأمن بقاتل أو سارق بانت الرأس وانفصلت اليد، فعاد الأمن إلى رؤوس الملايين ببضعة رؤوس قطعت، واطمأنت نفوس برزقها الذي في حرزها ببضعة أيد فصلت، وإذا ما خيف على العرض من فاسق لاط أو نال من إحصان، فيباد جرثوم الفسق ليبقى الارتباط الأخوي والاطمئنان الأسري نسبا وصهرا، ومن تدنأ بزنية أو قذفة أو خمرة فظهره والحبل اللادغ ليذوق حرقه ما فعل، فيمتنع من كان يريد أن يفعل، خاصة وقد شهده الناس عند إقامة الحد فأحس بأنه فضح بما هو أشد من الجلد، وهكذا كان لنا في الحدود وفي القصاص حياة نعيش فيها سالمين آمنين مِنَّة من الله لأهل دينه، فلا(14/51)
يقلقهم دعيّ إسلام يعكر عليهم صفوهم وينقل مرضه إلى صحتهم، وهكذا كانت العصا لمن عصا، وكثيرا ما كانت العصا ترياقا لمرضى كثيرين، فيصبح أمرهم كصاحب الداء يشكر بعد شقائه من سقاه الدواء المر، فيعيش مع مجتمعه الإسلامي ناعم البال ثم له عند الله حسن المآل، والآن تعطلت حدود الله في أمتنا الإسلامية فملأ المجرمون السجون، ثم يخرج منها القاتل ليقتل، وطلق سراح السارق ليسرق، لأن الرأس التي قتلت لم تقطع فبقيت لتقتل، ولأن اليد التي سرقت ما زال فيها أصابعها لتستأنف السلب من الجيب، وهكذا أمر المجرمين يتمنون أن يظلوا مساجين، ألم يهيأ لهم المأكل والمسكن والملبس فوجدوا في السجن كافة مقومات الحياة بلا مقابل، وسط أزمة اقتصادية خنقت من هم خارج السجن، فانتشر الإجرام وكثرت السرقات والاختلاسات حتى من أموال الحكومات التي تحكم بغير ما أنزل الله، وعم الانحلال من النساء والرجال، وأصبح أهل الفضيلة غرباء في حيرةأول حكم اللهله لللننن لا يدرون كيف يبقون على قيَّمهم، فليهنأ المجرمون بقوانين تدليل المجرمين والتي هدفها تحقير أهل الدين، ولقد رأيت في بعض البلاد يجمع في حي واحد المسجد والكنيسة والدعارة والخمارة، وتمتلئ الثلاثة الأخيرة بقصادها ويبقى المسجد يندر من يلجه، لو قدر لبنائه أن يتحرك لغادر مكان التحقير والإهانة، فلو نفذ حكم الله في تارك الصلاة لعظم المسجد وعادت إليه هيبته، ألم يجمع العلماء على أن يستتاب تارك الصلاة ثلاثا ثم يقتل حدا أو كفرا إن أصر على تركها ما دام قد دخل مع الله في عهد الإسلام، إنه لمن الصعب بما يدمي القلب أن نرى حتى في بلدي الحرمين المعظمين أثناء الصلاة بعض الناس يغدون ويروحون، وجموع السيارات والدراجات بأصواتها وأبواقها المزعجة تملأ الطرقات، وكأننا في مكان عادي ليس فيه كعبة ولا رسول، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(14/52)
والآن نسأل من يحكمون بغير حكم الله، هل بلغكم قول الله فيكم بثلاث آيات متعاقبات، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، كفر وظلم وفسق، فماذا بقي؟ فهل هذا الكلام نسخ أم نسي؟ أم أنه الإنسان والعصيان.
فيا أيها الإنسان، ما غرك بربك الكريم، ألأنه أكرمك، أم لأنه سواك فعدلك، حتى بعد أن أبيت ونأيت، لا زال يمهلك، ويدعوك عسى أن تفيق وتجيب، فعجل ولا تؤجل قبل أن تجتاحك الأيام.
يروي البخاري عن أبي موسى الأشعري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قوما فقال: رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء، فأطاعه طائفة فأدلجوا على مهلهم فنجوا، وكذبته طائفة فصبَّحهم الجيش فاجتاحهم"، فهل قبل فوات الأوان نجيب للنذير العريان؟ أرجو لي ولكم ذلك، ومعيننا هو الله وحده، ونختم بأبيات معدودة مرتبطة بالموضوع تحكى قصة أحد العصاة، وهي:
همس العليل وقال أكتب مابي
فلقد أضعت العمر بعد سراب
بدأت ذنوبي مذ بدأت شبابي
لما نسيت نهايتي وحسابي
وأقول للنصاح دعكم إنني
ما زلت لم أقطف زهور شبابي
فإذا بلغت الأربعين وعندها
سأتوب من ذنبي بخير متاب.
سأتوب عن ترك الصلاة وأصحَبْن
أهل الهداية من ذوي المحراب
وأتوب عن فحش الزنا وكذاك عن
شرب الخمور فلن تكون شرابي
وعن الوشاية حيث صارت بغيتي
فبها أزاول فرقة الأحباب
وكذاك عند الأربعين أكف عن
ما كنت أسرق من وراء الباب
فإذا شبعت من المجون فأرعوي
وأكون توَّا من أولي الألباب
وأعف عن فعل الفواحش كلها
وأفوز بالفردوس دون حساب
حتى إذا ما جاء ليل عابس
فيه بداية شقوقي وعذابي
مرض عضال عم كل جوارحي(14/53)
أعيا الأساة فلم يزيلوا ماب.
فكما تراني هامدا في مضجعي
والفقر ألصق راحتي بتراب
كيف الركوع وأعظمي لا تنثني
أو كيف رد الحق والأسلاب
فالداء جاء ولم أزل في سكرتي
فبما يكون العذر يوم مآبي
أجَّلت يوم التوب حتى إنني
من جرأتي حددت نوع ثوابي
وأمنت مكر الله لما جرني
عوج الشباب إلى افتقاد صوابي
ما زال سن الأربعين بعيدة
والقبر محفور وحان عقابي
قل للذي سمع الرزية يستفد
منها فهذي عبرة الأحقاب
فرطت في جنب الإله وعزني
إبليس ثم غواية الأصحاب.
فأجبت يا حزني عليك فلم يعد
نصح يفيد ولا حديث عتاب
خلت الليالي أسلمتك زمامها
فإذا الخيال خيال عقل مصاب
منك الكثير دعته أصوات الهوى
فإذا هوى فيقول من أغرى بي.
فهل الإله هو الظلوم أم الذي
فعل المظالم كلها متغابي
أفلا يكون العدل سوء جزائه
وجزاء أهل العقل حسن مآب.
يا رب نرجو مطلبا هو غاية
لجميعنا من شيبنا وشباب
أن تحسن العقبى إذا لاقيتنا
فإذا أجبت فذاك خير جواب(14/54)
الإجماع في الشريعة الإسلامية
لفضيلة الدكتور رشدي عليان
الأستاذ المشارك بكلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة الإسلامية
الإجماع من البحوث النافعة والهامة في علم أصول الفقه، استأثر بعناية خاصة من أعلام الأمة ومفكريها لأنه الدليل الذي يلي النصوص في القوة والاحتجاج. فإذا ما عرضت للمجتهد حادثة، وأراد معرفة رأي الشريعة فيها عرضها أولا على كتاب الله تعالى عمدة الشريعة وكليّها، فإذا لم يجد بغيته مال إلى سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام باعتبارها المصدر الثاني للشريعة، فإن أعياه البحث ولم يجد ضالته فيها نظر هل اتفق السابقون على حكم لها؟ فإن وجد عمل به وأفتى بموجبه وهو مطمئن البال، فالأمة لا تجتمع على الخطأ والضلالة كما أخبر بذلك الصادق الأمين عليه أفضل الصلاة والتسليم وإذا لم يسعفه الإجماع لجأ إلى أدلة أخرى معروفة في أصول الفقه كالقياس والاستصحاب والمصلحة..
حدث ميمون بن مهران فقال: "كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه خصم نظر في كتاب الله فإن وجد قضى به، وإلا نظر في سنة رسول الله فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس وجمع رؤساءهم واستشارهم، فإن اجتمع رأيهم على شيء قضى به، وكان عمر يفعل ذلك، فإن أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنة، سأل هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء؟ وإلا جمع الناس واستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به.
وبعد فلمّا كان الإجماع يتكوّن من ركنين:
(1) مجمع عليه.
(2) ومجمعين وهم أهل الإجماع فقد جاءت هذه الدراسة في مبحثين: الأول في المجمع عليه. وفحواه تعريف الإجماع، سنده، حجيته، أنواعه، مخالفة حكمه.
والثاني في المجمعين ((أهل الإجماع)) [1] الصحابة، الخلفاء الأربعة، أهل البيت، أهل المدينة، أهل الكوفة والبصرة، جماعة المجتهدين في أي عصر.(14/55)
المبحث الأول: في المجمع عليه
1- تعريف الإجماع في اللغة وفي اصطلاح الأصوليين.
أ- الإجماع في اللغة:
الإجماع من الألفاظ المشتركة في وضع اللغة بين معنيين: -
الأول: العزم. يقال: ((أجمع فلان على كذا)) إذا عزم عليه، وجاء في الحديث "لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل" [2] أي لم يعزم الصيام من الليل وورد في الكتاب الكريم {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} [3] أي اعزموا. والإجماع بهذا المعنى يصدر عن الواحد كما في المثال الأول، وكما جاء في الحديث، ويصدر عن الجمع كما في الآية الكريمة.
الثاني: الاتفاق، يقال: ((أجمع القوم على كذا)) إذا اتفقوا عليه.
وهو بهذا المعنى لا يصدر إلا عن الجمع، ولا يتصور من الواحد. وقيل إن الإجماع في وضع اللغة هو الاتفاق والعزم راجع إليه، لأن من اتفق على شيء فقد عزم عليه [4] .
وقيل إن الإجماع حقيقة في معنى الاتفاق لتبادره إلى الذهن مجاز في معنى العزم لصحة سلب الإجماع عنه [5] .
ب- الإجماع في الاصطلاح:
عرف كثير من الأصوليين الإجماع بأنه:
"اتفاق المجتهدين من هذه الأمة في عصر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على أمر ديني ".
شرح التعريف وبيان ما يفهم منه من أمور.
1- الاتفاق لفظ مشترك بين القول والفعل والاعتقاد، فلو اتفقوا على قول من الأقوال يكون إجماعا، وكذلك لو اتفقوا على فعل، كما إذا شرع أهل الاجتهاد جميعا في المزارعة أو الشركة، وكذلك لو اتفقوا على عقيدة كإجماعهم على نفي تعدد الآلهة وبطلان عقيدة التثليث.
2-إن اتفاق المجتهدين هو المعتبر في الإجماع الذي هو دليل على الأحكام الشرعية، فلا عبرة في هذا المجال باتفاق غيرهم من المفكرين وعامة الناس ومن العلماء من يرى دخول عامة الناس في أهل الإجماع، وهو رأي باطل لأن أمثال هؤلاء لا يملكون دقة النظر في الأمور الشرعية.(14/56)
3-أن يكون الاتفاق من جميع المجتهدين، فلو اتفق الأكثر على حكم شرعي وخالف الأقل فإنه لا يكون إجماعا وحجة عند جمهور العلماء [6] . ومن العلماء من يرى تحقق الإجماع باتفاق الأكثر [7] ومنهم من يرى أنه يكون حجة وليس بإجماع. وكلا الرأيين مرجوح، لأن الحق قد يكون في جانب الأقل، ولأن الإجماع لا يتحقق مع وجود مخالف لعدم تحقق الاتفاق، ولأن ذلك معارض بدلالة أحاديث عصمة الأمة ككل [8] .
4- أن يكون المجتهدون من الأمة الإسلامية، فلا اعتداد باتفاق المجتهدين من الأمم السابقة، وذلك لقيام الأدلة على اختصاص أمة محمد بالعصمة من الخطأ عند اتفاقهم.
5- أن يكون الاتفاق في عصر واحد، إذ لا يتصور تحقق الإجماع أو العلم به في كل العصور.
6- أن يكون الاتفاق بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إذ لا عبرة باتفاقهم في زمنه عليه السلام في إثبات الأحكام الشرعية، إذ لو حصل الإجماع على أمر فلا يخلو إما أن يوافقهم النبي صلى الله عليه وسلم وحينئذ فالحكم ثابت بالسنة لا بالإجماع، وإما أن يخالفهم وحينئذ يطرح الإجماع لمخالفته النص.
7- أن يكون ما اتفق عليه من الأمور الدينية سواء أكان شرعيا [9] اجتهاديا أم غير شرعي مما يدرك بالحس أو بالعقل لأن الأحكام الحسية قد تكون ظنية فالإجماع عليها يكسبها صفة القطعية، وكذلك بعض المدركات العقلية.
وقيّد بعض العلماء الأمر المتفق عليه بكونه شرعيا، ونفى حجية الإجماع في الأمور الدينية غير الشرعية مما يدرك بالحس أو بالعقل على اعتبار أن المدركات الحسية والعقلية تفيد اليقين فلا يكون الإجماع حجة فيها.(14/57)
ورُدّ بما ذكرت من أن من المدركات الحسية والعقلية ما تفيد الظن فقط فيصير بالإجماع قطعيا، وأطلق بعض العلماء كابن الحاجب [10] والجلال المحلى [11] الأمر ولم يقيدوه بالديني، وعليه يكون الإجماع حجة في كل الأمور دينية كانت أو عادية أو عقلية أو لغوية، وقالوا أن الأدلة الدالة على حجية الإجماع لم تفرق بين الإجماع على أمر ديني أو دنيوي، فإذا ما اتفقوا على أي أمر من أمور التجارة أو الزراعة أو الحروب وغير ذلك، وجب أن يكون حجة.
ونوقش هذا الرأي بما حاصله:
1- أن تحقق الإجماع في غير الأمور الدينية وعدم تحققه سواء لأنه غير ملزم للمسلم فلا يأثم بمخالفته.
2- أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون حجة في الأمور الدنيوية لقوله عليه الصلاة والسلام في قصة تلقيح النخل: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" [12] وكان عليه السلام يرى الرأي في الحروب فيراجعه فيه أصحابه كما في غزوة بدر فيترك رأيه ويعمل برأيهم، فإذا كان قول الرسول في هذه الأمور ليس بحجة، فالإجماع فيها ليس بحجة من باب أولى لأن الإجماع في مرتبة أدنى من قول الرسول صلى الله عليه وسلم [13] .
وبهذا يتضح أرجحية الرأي الذي خص الإجماع بالأمور الدينية سواء أكانت شرعية أم غير شرعية، وعليه أكثر العلماء.
قال الغزالي: "أما تفهيم لفظ الإجماع فإنما نعني به اتفاق أمة محمد عليه السلام خاصة على أمر من الأمور الدينية" [14] .
وقال ابن قدامة: "ومعنى الإجماع في الشرع اتفاق علماء العصر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمر من أمور الدين" [15] .
2- سند الإجماع:
هل الإجماع مصدر مستقل بذاته في إثبات الأحكام الشرعية في مقابل المصادر الثلاثة الأخرى، الكتاب والسنة والقياس؟ أم أنه لا ينعقد ولا يصير حجة إلا بتوسط أحد هذه المصادر؟.
ذهب بعض الأعلام إلى الأول وقالوا باستقلالية الإجماع وعدم حاجته إلى توسط دليل آخر يستند إليه [16] .(14/58)
ودليل هؤلاء:
1- أن الإجماع في نفسه حجة ودليل في إثبات الأحكام فلو توقف على سند لكان هذا السند هو الحجة، وحينئذ لا يكون للإجماع فائدة.
2- لو توقف الإجماع على سند لما وقع بدونه، لكنه وقع فلا يكون السند شرطا في انعقاده، ومثلوا لذلك ببيع المعاطاة فإن العلماء اجمعوا على جوازه بلا دليل.
3- إن العقل لا يمنع من انعقاد الإجماع عن توفيق وذلك بأن ويوفق الله تعالى أهل الإجماع في الأمة لاختيار ما هو الصواب عنده.
وذهب الأكثرون من علماء الأمة إلى الثاني. أي أن الإجماع لا ينعقد إلا عن مستند، لأن حق إنشاء الأحكام الشرعية لله ولرسوله، وليس لأهل الإجماع وقالوا: إن عدم الدليل يستلزم الخطأ في الأحكام لأن الدليل هو الطريق الموصل إلى الصواب.
قال الشيخ الخضري: "لا ينعقد الإجماع إلا عن مستند لأن الفتوى بدون المستند خطأ لكونه قولا في الدين بغير علم، والأمة معصومة عن الخطأ" [17] .
وقال الشيخ أبو زهرة: "لا بد للإجماع من سند لأن أهل الإجماع لا ينشئون الأحكام" [18] . وأجابوا عن أدلة البعض القائل بعدم حاجة الإجماع إلى سند ودليل بما يأتي.
1- لا نسلم عدم فائدة الإجماع مع الدليل. إذ الفائدة موجودة معه وهي سقوط البحث عن ذلك الدليل، والاكتفاء بالإجماع، وحرمة المخالفة الجائزة فيه قبل الإجماع.
2- لا نسلم أن العلماء اجمعوا على صحة بيع المعاطاة بدون دليل وكل ما في الأمر أنهم لم ينقلوه اكتفاء بالإجماع إذ هو أقوى دلالة..
والذي أراه أن علماء الأمة إن اتفقوا على أمر من الأمور الدينية لا بد أن يكون حقا وصوابا لأن العادة تمنع اتفاقهم على شيء بدون دليل. وليس من الضروري لنا أن نعرف سند الإجماع عند المجمعين بل الواجب أن نأخذ بإجماعهم اعتمادا على ورعهم وعلمهم، لاعتقادنا بأنهم لا يجمعون إلا عن دليل.
قطعية السند(14/59)
اختلف القائلون بلزوم السند للإجماع في قطعية السند وظنيته.
فقال أهل الظاهر: إن مستند الإجماع لا بد أن يكون قطعيا كنصوص الكتاب ومتواتر السنة، ولا يجوز أن يكون ظنيا كخبر الواحد والقياس، لأن الإجماع قطعي الدلالة فلا ينعقد إلا عن دليل قطعي إذ غير القطعي لا يفيد القطع.
وقال الأكثرون: إن مستند الإجماع يكون قطعيا، ويكون ظنيا كخبر الواحد والقياس. وقد وضح الشيخ الخضري في كتابه أصول الفقه والشيخ فايد في محاضراته في الإجماع وجهة نظر الأكثرين بما حاصله [19] .
1- إن النصوص الدالة على حجية الإجماع نصوص عامة تفيد انعقاد الإجماع سواء أكان سنده قطعيا أم ظنيا، فاشتراط القطعية تخصيص للنصوص من غير دليل وذلك باطل.
2- وقع إجماع من المجتهدين مستندا إلى خبر الواحد كإجماعهم على حرمة بيع الطعام قبل قبضه لدلالة حديث ابن عمر رضي الله عنهما "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" [20] وكذلك انعقد إجماعهم مستندا إلى القياس كإجماعهم على تحريم شحم الخنزير قياسا على لحمه، وعلى إراقة السيرج ونحوه إذا ماتت فيه فأرة قياسا على السمن [21] وردوا على الظاهرية القائلين بأن الإجماع قطعي فلا يكون إلا عن قطعي بأن قطعية الإجماع لم تثبت من جهة السند، وإلا لكان الإجماع لغوا لأن المثبت للحكم حينئذ هو الدليل القطعي وليس الإجماع.
قال الغزالي: "يجوز انعقاد الإجماع عن اجتهاد وقياس" [22] .
وقال ابن قدامة المقدسي: "يجوز أن ينعقد الإجماع عن اجتهاد وقياس ويكون حجة" [23] .
والذي أراه أنّ الاتفاق إن وجد من علماء العصر فهو دليل وحجة سواء أكان هذا الاتفاق عن دليل قطعي أو ظني، لأن الحجة تنتقل من ذلك الدليل إلى الإجماع، فإن كان في الأصل قطعيا فالإجماع يفيد التأكيد والتعضيد لأنه يكون من قبيل تضافر الأدلة على الحكم الواحد.(14/60)
ومما يدعم هذا الرأي قول جعفر الصادق رحمه الله: "فإن المجمع عليه لا ريب فيه" [24] فقد نفى الريب عن الرأي المجمع عليه مطلقا ولم يقيده بما إذا كان مجمعا عليه بموجب سند قطعي أو ظني خاص أو عام.
3- حجية الإجماع.
ذهب المتكلمون بأجمعهم والفقهاء بأسرهم على اختلاف مذاهبهم إلى أن الإجماع حجة، وحكى عن النظام وجعفر بن حرب وجعفر بن مبشر أنهم قالوا: الإجماع ليس بحجة. واختلف من قال إنه حجة، فمنهم من قال من جهة العقل وهم الشواذ، وذهب الجمهور الأعظم والسواد الأكثر إلى أن طريق كونه حجة السمع دون العقل [25] وسأعرض أهم أدلة جمهور العلماء على حجيته ثم أذكر وجهة نظر القائلين بعدم حجيته.
أ- أدلتهم من الكتاب الكريم.
استدل أئمة المذاهب وجمهور العلماء بآيات عدة من الكتاب الكريم، منها بل أهمها قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [26] .
وجه الاستدلال بهذه الآية:-(14/61)
"إن الله سبحانه جمع بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد، فلو كان اتباع غير سبيل المؤمنين مباحا لما جمع بينه وبين المحظور فثبت أن متابعة غير سبيل المؤمنين عبارة عن متابعة قول أو فتوى يخالف قولهم أو فتواهم، وإذا كانت تلك محظورة وجب أن تكون متابعة قولهم وفتواهم واجبة [27] بدون شرط اتفاق الجميع فمن باب أولى تكون متابعة ما اتفقوا عليه واجبة فثبت أن الإجماع حجة. وتعتبر هذه الآية أوضح الآيات وأقواها دلالة على حجية الإجماع، فقد روي أن الإمام الشافعي رحمه الله عندما سئل عن آية في كتاب الله تدل على أن الإجماع حجة لزم داره ثلاثة أيام مفكرا وقرأ القرآن عدة مرات حتى وجد هذه الآية، ومع ذلك فقد قرر كثير من الأعلام أن الآية ليست نصا في الدلالة على حجية الإجماع [28] . ومنها قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر} [29] .
الاستدلال بالآية: -
1- أن الله تعالى قد وصف هذه الأمة بالخيرية، وهذا الوصف يقتضي أن ما اتفقوا عليه يكون حقا واجب الإتباع، لأنه إذا لم يكن حقا كان ضلالا {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [30] .
قال الشوكاني في وجه الاستدلال بهذه الآية: "هذه الخيرية توجب الحقيقة لما اجمعوا عليه، وإلا كان ضلالا" [31] .
2- إن الله تعالى وصفهم بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وهذا الوصف يقتضي أنهم إذا ما اتفقوا على الأمر بشيء كان معروفا يجب العمل به، وإذا ما نهوا عن شيء كان منكرا يجب الامتناع عنه، وهذا يقتضي أن يكون إجماعهم حجة [32] .
ومنها قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس} [33] .
ومعنى جعلناكم أمة وسطا: أي صيرناكم عدولا، لأن الوسط هو العدل في اللغة. قال الشاعر:(14/62)
هم وسط يرضى الأنام بحمكهم
إذ نزلت إحدى الليالي بمعظم.
أي عدول. وجاء بهذا المعنى في الكتاب الكريم: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُم} [34] أي أعدلهم.
وجه الاستدلال بهذه الآية:
إن الله تعالى وصف هذه الأمة بالعدالة، وجعلهم حجة على الناس في قبول أقوالهم، وهذه الصفة تنافي الكذب والميل إلى جانب الباطل وهذا يقتضي أن يكون ما اتفقوا عليه عدلا وحقا يجب اتباعه والعمل به فيكون إجماعهم حجة.
ومنها قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [35] .
وجه الاستدلال:
"إن الله تعالى نهى عن التفرق، ومخالفة الإجماع تفرق، فكان منهيا عنه، ولا معنى لكون الإجماع حجة سوى النهي عن مخالفته" [36] .
ثانيا أدلة الجمهور من السنة الكريمة:
استدل جمهور العلماء وأئمة المذاهب بجملة أحاديث مروية عن عدد من كبار الصحابة رضوان الله عليهم منها:
1- "لا تجتمع أمتي على الخطأ".
2- "لا تجتمع أمتي على الضلالة".
3- "ولم يكن الله ليجمع أمتي على الضلالة".
4- "لم يكن الله ليجمع أمتي على الخطأ".
5- "سألت الله أن لا يجمع أمتي على الضلالة، فأعطانيه " [37] .
6- "من سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة".
7- "يد الله مع الجماعة، ولا يبالي الله بشذوذ من شذ".
8- "من خرج عن الجماعة أو فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه".
9- "من فارق الجماعة ومات فميتة الجاهلية" [38] .
وقد بين الغزالي وجه الاستدلال بهذه الأحاديث على أن الإجماع حجة قاطعة بعد أن فرغ من تقرير الدليل من آي الكتاب الحكيم.(14/63)
فقال: "المسلك الثاني: وهو الأقوى التمسك بقوله صلى الله عليه وسلم "لا تجتمع أمتي على الخطأ" وهذا من حيث اللفظ أقوى وأدل على المقصود ولكن ليس بالمتواتر كالكتاب. والكتاب متواتر وليس بنص، فتقرير الدليل أن نقول: تظافرت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بألفاظ مختلفة مع اتفاق المعنى في عصمة هذه الأمة من الخطأ واشتهر على لسان المرموقين والثقاة من الصحابة كعمر، وابن مسعود وأبي سعيد الخدري، وأنس بن ملك، وابن عمر، وأبي هريرة، وحذيفة بن اليمان، وغيرهم ممن يطول ذكرهم" وبعد أن ذكر تلكم الأحاديث قال: "وهذه الأخبار لم تزل ظاهرة في الصحابة والتابعين إلى زماننا هذا لم يدفعها أحد من أهل النقل من سلف الأمة وخلفها، بل هي مقبولة من موافقي الأمة ومخالفيها، ولم تزل الأمة تحتج بها في أصول الدين وفروعه" [39] . وقرر الشيخ الآمدي في كتابه الإحكام [40] أن أقرب الطرق لإثبات كون الإجماع حجة قاطعة هو تلك المرويات عن كبار الصحابة بألفاظ مختلفة مع اتفاق المعنى في عصمة هذه الأمة عن الخطأ والضلالة. وقال ابن قدامة بعد ذكره لتلكم الأحاديث: "هذه الأخبار لم تزل ظاهرة مشهورة في الصحابة والتابعين لم يدفعها أحد من السلف والخلف، وهي وإن لم تتواتر آحادها حصل لنا بمجموعها العلم الضروري أن النبي صلى الله عليه وسلم عظم شأن هذه الأمة وبين عصمتها عن الخطأ" [41] .
وقد ختم الشيخ الخضري بحثه في حجية الإجماع بعد أن فرغ من تقرير الدليل من الكتاب الكريم، فالسنة النبوية المشرفة بقوله:(14/64)
"إن الأمة الإسلامية في عصور مختلفة قررت أن الإجماع حجة قاطعة حتى كان فقهاء كل عصر ينكرون أشد الإنكار على من خالف رأي مجتهدي السلف، والعادة تقضي أن مثل هذا الاتفاق لا يكون عن مجرد الظنون. بل لابد أن يكون عندهم دليل مقطوعا به، وهذا يدل على أن الأخبار النبوية التي سقناها كانت عندهم مقطوعا بها حتى لم تكن في نظرهم مجالا للظن والاختلاف" [42] .
ب- وجهة نظر القائلين بعدم حجية الإجماع.
عرفنا أن النظّّام وآخرين ذهبوا إلى أن الإجماع ليس حجة شرعية، وأدلتهم تتلخص في الآتي: -
1- أن تحقق الإجماع وثبوته يتوقف على معرفة كل واحد من أهل الإجماع ثم على وصول الواقعة إليهم، ومعرفة رأي كل منهم، وهذا أمر غير ممكن عادة نظرا لانتشارهم في البلدان الإسلامية وبعد المسافة بينهم [43] .
ورُدّ ذلك: بأن معرفة أهل الإجماع والتحقق من شخصياتهم ممكن وذلك بأن يحصي كل حاكم إقليم ما لديه منهم، ويكتب بذلك إلى الحاكم العام سيما وأن من يبلغ درجة الاجتهاد يكون معروفا جدا في كل إقليم بل قد يطير صيته وآراؤه إلى سائر أقاليم الدولة والدول الإسلامية كافة، ثم إن انتشارهم وتفرقهم وبعد المسافة بينهم لا يمنع من وصول الواقعة إليهم، والإطلاع على آرائهم جميعا، وذلك بأن يجمعهم الحاكم في بلدة واحدة كلما دعا الأمر ويسألهم عما يريد أو يكتب إليهم فيستطلع رأي كل منهم.(14/65)
2- أن معاذا رضي الله عنه لم يذكر الإجماع من المصادر التي يصح الاعتماد عليها في تشريع الأحكام، بل اقتصر على الكتاب والسنة والاجتهاد، وذلك عندما وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضيا إلى اليمن وسأله بماذا تقضي.. [44] وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك ودعا له، وحمد الله على توفيقه. فلو كان الإجماع من مصادر الأحكام لذكره معاذ ولما ساغ له تركه مع حاجته إليه، ولما أقره النبي عليه السلام على تركه ورُدّ ذلك: بأن م عاذا رضي الله عنه إنما ذكر المصادر التي يمكن الاعتماد عليها في تشريع الأحكام في زمن النبي عليه السلام ومعروف أن الإجماع ليس حجة في حياته. وأن تقرير النبي عليه الصلاة والسلام مطابق للواقع في حياته وليس فيه دلالة على عدم حجية الإجماع بعد وفاته صلى الله عليه وسلم -[45] .
3- قالوا: إن الإجماع لا يخلو إما أن يكون عن دليل قطعي أو عن دليل ظني، فإن كان عن دليل قطعي، أحالت العادة عدم الإطلاع عليه، وعلى تقدير الإطلاع عليه يكون هو مستند الحكم وليس الإجماع، وإن كان عن دليل ظني فإن العادة تمنع اتفاقهم لاختلاف القرائح والأنظار [46] .
ورُدّ ذلك: بأن العادة لا تمنع من أن يكون الإجماع بموجب دليل قطعي، ولا يجب نقله بعد انعقاد الإجماع الذي هو دليل أقوى لأن به يرتفع الخلاف الداعي إلى نقل الدليل. كما أنه لا مانع من وقوعه بموجب دليل ظني كخبر الواحد. واختلاف القرائح والأنظار لا يمنع من الاتفاق وغايته أنه قد يقلل من عدد الإجماعات.
وبهذا يتضح لنا تهافت ما أثاره القائلون بعدم حجية الإجماع من شبهات وأنها لا تقوى بحال على معارضة الأدلة الكثيرة التي احتج بها القائلون بحجيته وهم جمهور العلماء من جميع المذاهب الإسلامية.
4- أنواع الإجماع:
أولا: الإجماع البياني والإجماع السكوتي.
أ- الإجماع البياني أو الصريح، وهو يتنوع إلى نوعين إجماع قولي، وإجماع عملي.(14/66)
الإجماع القولي: هو أن يصرح كل واحد من جماعة المجتهدين بما يفيد قبوله للرأي المعلن للاتفاق عليه. فمثلا لو أفتى بعض المجتهدين المعاصرين بحل عقود التأمين، وصرح كل مجتهد معاصر بما يفيد موافقته على ذلك لأصبح إجماعا قوليا وحجة شرعية.
الإجماع العملي: وهو أن يقع العمل من كل واحد من جماعة المجتهدين كعملهم جميعا في المضاربة والاستصناع فإذا وقع منهم ذلك كان إجماعا عمليا وحجة شرعية.
والإجماع البياني بنوعيه القولي والعملي هو الأصل في الإجماع وهو الذي يتبادر إلى الذهن عند إطلاق كلمة الإجماع، وهو ما فرغنا من الاستدلال على حجيته.
ب- الإجماع السكوتي: وهو أن يصرح بعض المجتهدين برأيه في مسألة اجتهادية أو يقوم بعمل كالتأمين على حياته أو أخذ ((خلو رجل)) سرقفلية ويشتهر ذلك بين المجتهدين من أهل عصره ويسكتون بعد علمهم بذلك من غير نكير.
وهذا النوع من الإجماع اختلف أعلام الأمة في تسميته إجماعا كما اختلفوا في حجيته، ولهم في ذلك عدة آراء، أهمها ثلاثة.
الرأي الأول: أنه إجماع وحجة، وهو لأكثر الأحناف، وأحمد بن حنبل وأبي إسحاق الإسفراييني من الشافعية [47] .
الرأي الثاني: أنه ليس إجماعا ولا حجة، وهو للإمام الشافعي وأكثر أتباعه، وأكثر المعتزلة، والمالكية [48] .
الرأي الثالث: أنه حجة وليس إجماعا وهو لبعض المعتزلة [49] .
أ- وجهة نظر أصحاب الرأي الأول تتلخص في الآتي: -
1- لو اشترط لانعقاد الإجماع البيان قولا وعملا من كل المجتهدين لتعذر انعقاد الإجماع أصلا لتوقفه على شرط متعذر عادة، إذ المعتاد أن يتولى كبار المجتهدين الفتيا والقضاء ويسكت سائرهم موافقة لهم، لأنه لو كان الحكم مخالفا عند الساكت لأعلن النكير وأظهر الخلاف لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، وجماعة المجتهدين لا يتهمون بذلك [50] .(14/67)
2- انعقد الإجماع على أن الإجماع السكوتي حجة قطعية في الأمور الاعتقادية فيكون حجة في الفروع العملية من باب أولى.
وقد منع الشيخ الخضري وغيره دعوى الإجماع هذه، لأنه إن كان إجماعا بيانيا فقد بنوا دليلهم الأول على تعذره، وإن كان إجماعا س كوتيا فهو محل النزاع. كما منعوا دعوى انتفاء الإجماع مع شرط البيان من الكل، لأنهم رفضوا هذه الدعوى عند مناقشة النظام في إحالته انعقاد الإجماع [51] . وقالوا إن انتشار العلماء وتفرقهم في الأمصار لا يمنع من التساوي في العلم، ووصول الخبر إليهم.
ب- وجهة نظر أصحاب الرأي الثاني قالوا إن السكوت يحتمل أن يكون للتأمل والنظر، ويحتمل أن يكون خوفا وهيبة من القائل أو المقول، كقول ابن عباس. وقد أظهر مخالفة عمر رضي الله عنه بعد وفاته كان رجلا مهيبا فهبته، ويحتمل أن الساكت لا يرى الإنكار في المسائل الاجتهادية بناء على القول بأن كل مجتهد مصيب، وإذا كان السكوت محتملا لهذه المعاني، فلا يكون دليلا على الموافقة فلا ينعقد الإجماع ولا يكون حجة [52] .
ج- وجهة نظر أصحاب الرأي الثالث قالوا: إن غاية ما يدل عليه السكوت مع الاحتمالات التي تقدمت هو الموافقة في الظاهر فيكون حجة ظنية كخبر الواحد لكنه لا يكون إجماعا.
والذي ترجح عندي أن ما سمي بالإجماع السكوتي ليس إجماعا، لأن السكوت ليس صريحا في الموافقة فلا يكون إجماعا لافتقاره إلى عنصر الموافقة الذي هو قيد رئيس في تحقق الإجماع، وليس حجة لأنه اتفاق بعض الأمة، والعصمة من الخطأ إنما ثبتت للأمة كافة وليس لبعضها فلا يكون حجة والله أعلم.
ثانيا: الإجماع البسيط والمركب.
يتنوع الإجماع إلى نوعين: بسيط ومركب، لأن الأمر لا يخلو: أما أن يتفق أهل الإجماع في عصر على حكم واحد لحادثة ما، أو تتعدد الأحكام وينعقد الإجماع على كل حكم منها وهذا ما يسمى بالإجماع البسيط.(14/68)
وإما أن تعدد الأحكام ولا ينعقد الإجماع على كل منها بل يتحزب كل فريق لرأي يخالف الآخر، وهذا سمي بالإجماع المركب.
مخالفة الإجماع البسيط:
إن الحكم المجمع عليه من علماء عصر يكتسب صفة القطعية، ويكون ملزما لجميع أفراد الأمة يجب عليهم جميعا اتباعه والعمل به، ولا يجوز لأحدهم مهما كان مركزه الديني العمل بخلافه. وكذلك يكون هذا الحكم ملزما لأهل العصور التالية مجتهدين وغير مجتهدين، فلا يحق لأحدهم ولا لهم مجتمعين نقض إجماع من سبقهم أو العمل بخلافه، وإلا كانوا تاركين للحق، متبعين للضلال، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلال} قولا واحدا عند جميع المذاهب الإسلامية، لأن الأمة لا تجتمع عل خطأ. وعلماء عصر كل الأمة بالنسبة على ذلك الحكم.
قال الآمدي: "إذا اتفق إجماع أمة عصر من الأعصار على حكم حادثة، فهم كل الأمة بالنسبة إلى تلك المسألة وتجب عصمتهم في ذلك عن الخطأ" [53] .
وكذلك يكون الإجماع ملزما لمجمعي العصر أنفسهم، فلا يجوز لأحدهم الرجوع عن رأيه وموافقته، واشترط بعض الأعلام [54] انقراض عصر المجمعين، فيما إذا كان مستند الإجماع دليلا ظنيا، لا دليلا قطعيا، حتى يكون الإجماع ملزما للجميع. وهو رأي مرجوح لأن الإجماع يُكسِب الحكم القطعية سواء أكان مستنده قبل انعقاد الإجماع دليلا ظنيا أم قطعيا.
قال الغزالي: "إذا اتفقت كلمة الأمة ولو في لحظة انعقد الإجماع، ووجبت عصمتهم عن الخطأ، وقال قوم: لا بد من انقراض العصر وموت الجميع وهذا فاسد، لأن الحجة في اتفاقهم لا في موتهم" [55] .
مخالفة الإجماع المركب:-
إذا انعقد إجماع مجتهدي عصر على حكمين مختلفين أو أكثر لحادثة. فهل يكون ذلك إجماعا منهم على نفي ما عداها، فلا يجوز لمن بعدهم إحداث حكم سواها، أو لا يكون إجماعا على نفي ما عداها فيجوز إحداث حكم آخر؟.(14/69)
اختلفت أنظار أعلام الأمة في ذلك، فذهب جمهور العلماء إلى المنع مطلقا [56] وذهب بعض إلى الجواز مطلقا [57] واختار الآمدي [58] وابن الحاجب [59] التفصيل، فقالوا: إن كان الحكم الآخر يرفع ما اتفق عليه السابقون امتنع وإلا جاز.
وقبل بيان وجهة نظر كل فريق لا بد من ذكر طائفة من المسائل التي توضح الإجماع المركب.
1- توريث الجد مع الإخوة: اختلف فيه فقهاء العصر الأول فقال أبو بكر وعمر وابن الزبير وابن عباس رضي الله عنهم يرث الجد ويحجب الإخوة. وقال علي وزيد بن ثابت رضي الله عنهما: يرث الجد مع الإخوة. وحينئذ فالقول بتوريث الإخوة وحرمان الجد قول ثالث يرفع ما اتفق عليه من توريث الجد.
2- النية في الطهارات الثلاث: اختلف الفقهاء في حكمها، فقال قوم بلزومها في جميع الطهارات من وضوء، وغسل وتيمم، وقال آخرون: بلزومها في التيمم فقط. وحينئذ فالقول بعدم لزومها في الجميع قول ثالث يرفع ما اتفق عليه من لزومها في التيمم.
3-فسخ النكاح بالعيوب، وهي الجذام، والبرص، والجب، والعنة، والرتق، والقرن: اختلف الفقهاء في ذلك فمنهم من قال: يفسخ النكاح في أي منها. وحينئذ فالقول بالفسخ بالبعض دون البعض قول ثالث ولكنه لا يرفع ما اتفق عليه، لأنه لم ينعقد الإجماع على أحد هذه العيوب.
4- أم وأب وأحد الزوجين: اختلف العلماء في ميراث الأم: فقال فريق: ترث الأم ثلث المال كله، وقال فريق آخر: ترث ثلث الباقي وحينئذ فالقول بأنها ترث ثلث المال كله مع أحد الزوجين وثلث المال كله مع أحد الزوجين وثلث الباقي مع الآخر قول ثالث، ولكنه لا يرفع ما اتفق عليه لأنه يوافق كل فريق من وجه.
وجهة نظر القائلين بالمنع مطلقا:
قالوا: إنه لو جاز إحداث القول الآخر لكان مخالفا للإجماع المنعقد على عدم القول به ومستلزما تخطئة كل الأمة، وهذا لا يجوز لمخالفته لعموم أدلة الإجماع.(14/70)
ولنا أن نقول: إن القول بالمنع لا ينافي القول بالتفصيل لأن الممنوع هو مخالفة الكل فيما اتفقوا عليه كما في مسألة الجد مع الأخوة، أما أن يخالف كل فريق من وجه ويوافقه من وجه فلا يتجه عليه المنع كما في مسألة فسخ النكاح بالعيوب.
وجهة نظر القائلين بالجواز مطلقا: قالوا: إن وقوع الاختلاف في حكم حادثة دليل على أنها من المسائل الاجتهادية التي يصح الاجتهاد فيها، وحينئذ لا مانع يمنع من الاجتهاد فيها بالنسبة لمجتهدي العصور التالية [60] .
وأجيب عن ذلك بأن الاختلاف يكون دليلا على صحة الاجتهاد فيما إذا لم يمنع مانع من الاجتهاد، وهنا المانع موجود، وهو إجماع الفريقين على نفي القول الآخر.
وجهة نظر القائلين بالتفصيل:
قالوا: إن كان القول الآخر يرفع ما اتفق عليه القولان كما في مسألة الجد مع الإخوة، ومسألة النية في الطهارات، فهو ممتنع لما فيه من مخالفة الإجماع. وإن كان القول الآخر لا يرفع ما اتفق عليه بل يوافق كل فريق من وجه ويخالفه من وجه كما في مسألة الأم والأب واحد الزوجين فهو جائز لأنه لم يخالف إجماعا [61] وأشكل عليهم بأن في ذلك تخطئة كل فريق في بعض ما ذهب إليه وتخطئتهم تخطئة للأمة وذلك محال. فأجاب ابن الحاجب عن ذلك بقوله: "المحال تخطئة الأمة فيما اتفقوا عليه وأما تخطئة كل فريق فيما لم يتفقوا عليه فجائز" [62] وبنفس الفكرة وبلفظ مشابه أجاب الآمدي: "المحال إنما هو تخطئة الأمة فيما اتفقوا عليه، وأما تخطئة كل بعض فيما لم يتفقوا عليه لا يكون محالا" [63] .
وبهذا يتبين لنا رجحان ما ذهب إليه المتأخرون والمعاصرون وهو التفصيل وذلك ((لأنه إذا رفع مجمعا عليه فقد خالف الإجماع فلم يجز كمسألة الجد والنية، وإذا لم يرفع مجمعا عليه فلا داعي للمنع لأنه لم يخالف إجماعا ولا مانع سواه [64] .
ثالثا: الإجماع المحصل والمنقول.
يتنوع الإجماع إلى نوعين أيضا: محصل، ومنقول.(14/71)
أ - الإجماع المحصل: هو الذي يحصله الفقيه بنفسه، وذلك بأن يتتبع رأي كل فرد من مجتهدي عصر في الحادثة التي يريد معرفة حكمها فيجدها متفقة في الحكم. والمحصل هو الذي تقدم البحث عنه، وخلصنا إلى أنه حجة عند جميع المذاهب الإسلامية.
ب- الإجماع المنقول: وهو الذي لم يحصله الفقيه بنفسه، وإنما وصل إليه عن طريق النقل، سواء أكان هذا النقل بواسطة أو أكثر، والنقل تارة يكون بالتواتر وحكم المتواتر في الحجية حكم الإجماع المحصل عند الجميع [65] وتارة أخرى يكون بالآحاد، وهو المراد من الإجماع المنقول عند الإطلاق في عرف الأصوليين.
حجية الإجماع المنقول بخبر الواحد
اختلف الأصوليون في حجية الإجماع المنقول على قولين:
1- إنه حجة. 2- إنه ليس بحجة.
وقد ذهب إلى الرأي الأول جمهور العلماء قال ابن الحاجب: "يصح التمسك بالإجماع المنقول بخبر الواحد، وأنكره الغزالي وبعض الحنفية" [66] وقال البناني: "الإجماع المنقول بالآحاد حجة لصدق التعريف به وهو الصحيح في الكل" [67] .
وقال ابن قدامة المقدسي: "الإجماع المنقول بطريق الآحاد يغلب على الظن فيكون ذلك دليلا كالنص المنقول بطريق الآحاد" [68] .
وقال الشوكاني: "الإجماع المنقول بطريق الآحاد حجة وبه قال الماوردي وإمام الحرمين، والآمدي " [69] .
وقال الآمدي: "اختلفوا في ثبوت الإجماع بخبر الواحد فأجازه جماعة من أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة رحمهم الله والحنابلة، وأنكره جماعة من أصحاب أبي حنيفة وبعض أصحابنا كالغزالي مع اتفاق الكل قطعا في متنه" [70] .
وهكذا يلحظ المتتبع أن أكثر العلماء قائلون بحجية الإجماع المنقول بالآحاد [71] .
وخلاصة نظر القائلين بالحجية هي:
1- إن الإجماع المنقول بالآحاد مفيد للظن فكان حجة كالمنقول بالآحاد عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.(14/72)
2- المطلوب من المجتهد أن يحكم بالظاهر، عملا بقول الرسول الكريم عليه السلام "نحن نحكم بالظاهر" والإجماع المنقول ظاهر ظني فيكون حجة.
وإلى الثاني أعني عدم حجية الإجماع المنقول ذهب فريق من العلماء. قال الغزالي: "الإجماع لا يثبت بخبر الواحد خلافا لبعض الفقهاء، والسر فيه أن الإجماع دليل قاطع يحكم به على الكتاب والسنة المتواترة، وخبر الواحد لا يقطع به فكيف يثبت به قاطع وليس يستحيل التعبد به عقلا لو ورد كما ذكرنا في نسخ القرآن بخبر الواحد لكن لم يرد" [72] ولكنه لم يقطع ببطلان العمل به حيث قال: "ولسنا نقطع ببطلان مذهب من يتمسك به في حق العمل خاصة" [73] .
ويمكن تلخيص وجهة نظر القائلين بعدم الحجية بالآتي:
إن الإجماع المنقول بخبر الواحد لا يفيد العلم القاطع فلا يكون حجة. والقائلين بحجية يسلمون بعدم إفادته القطع بل الظن، ويقولون إن الظن يكفي في الأحكام الشرعية كالنصوص المنقولة بخبر الواحد فيكون حجة، ومنهم من يقول إن العمل بالظن الحاصل من الإجماع المنقول خارج عن أصالة حرمة العمل بالظن.
قال ابن قدامة: "ذهب قوم إلى أن الإجماع لا يثبت بخبر الواحد لأن الإجماع دليل قاطع يحكم به على الكاتب والسنة، وخبر الواحد لا يقطع به فكيف يثبت به المقطوع. وليس ذلك بصحيح فإن الظن متبع في الشرعيات والإجماع المنقول بطريق الآحاد يغلب على الظن فيكون ذلك دليلا كالنص المنقول بطريق الآحاد، وقولهم هو دليل قاطع، قلنا قول النبي عليه السلام أيضا دليل قاطع في حق من شافهه أو بلغه بالتواتر وإذا نقله الآحاد كان مظنونا وهو حجة فالإجماع كذلك بل هو أولى" [74] .
خاتمة المبحث الأول
تنشر بين حين وآخر بعض الآراء التي يدعى فيها أصحابها إن الإجماع لم يعد ممكنا وأنه قد فقد قيمته التشريعية بعد عصر الصحابة رضوان الله عليهم ويبنون آراءهم هذه على أمرين:(14/73)
1- تفرق أولى الرأي وأهل الحل والعقد في مشارق الأرض ومغاربها، وعدم إمكان معرفتهم، ومعرفة ما اتفقوا عليه من أحكام وفتاوى وأقضية.
2- اختلاف منازعهم الفكرية والسياسية والشخصية فأنى يتفقون على رأي واحد في مسألة واحدة!!
وأرى أن دعوى تعذر الإجماع لانتشار أهله في البلدان ظاهرة الفساد للأتي: -
1- أن التفرق المكاني والبعد الزماني لم يحل دون الإطلاع على عدم اختلافهم في مسائل كثيرة، ونقلها إلينا جيلا بعد جيل أدلّ دليل على وقوع الإجماع وعلى أنه لم يفقد قيمته التشريعية من ذلك: جمع القرآن وكتابته، وصحة عقود الاستصناع، وبيع المعاط اة، وبطلان زواج المسلمة بغير المسلم، وتحريم الجمع بين المحارم في النكاح، وقيام الإخوة والأخوات لأب مقام الأخوة الأشقاء عند عدمهم.. إلى غير ذلك.
قال الآمدي: "إن جميع ما ذكروه منتقض بما وجد من اتفاق جميع المسلمين فضلا عن اتفاق أهل الحل والعقد، مع خروج عددهم عن الحصر على وجوب الصلوات الخمس، وصوم رمضان، ووجوب الزكاة والحج، وغير ذلك من الأحكام التي لم يكن طريق العلم بها الضرورة" [75] .(14/74)
2- إن كانت تلك الدعوى قد تكون مستساغة في العصور الغابرة فلا مجال لها في عصرنا والعصور التالية، لما حققه الإنسان من تقدم في مجال الاتصالات والمواصلات وأجهزة الإعلام. فبفضل المواصلات الحديثة أصبح من السهل جدا أن يعقد قادة الفكر في الأمة ممن بلغوا درجة الإجتهاد ((أهل الإجماع)) مؤتمرا عاما كلما دعت الحاجة وأن يتبادلو وجهات النظر فيما يجد من أحداث وما يطرأ من مشكلات وما اتفقوا عليه كان إجماعا واجب الإتباع من جميع أفراد الأمة. وبفضل أجهزة الإعلام المتنوعة والمتطورة يمكن الإطلاع على الفتاوى التي تصدرها دور الفتوى في كل قطر إسلامي وعلى آراء المجتهدين أينما كانوا، وما اتفقوا عليه كان إجماعا، وهكذا نضمن حلولا وتشريعات جديدة لكل جديد من المحن والتصرفات وتبقى الشريعة في ظل أحد مصادرها الإجماع حية يجد إنسان العصر فيها الحل المناسب لما يصادفه من وقائع ومشكلات.
وأما بالنسبة لدعوى تعذر الإجماع لاختلاف منازع أهله الفكرية والسياسية فهي كذلك ظاهرة الفساد للآتي:
إن أقصى ما يؤدي إليه اختلافهم هو الحد من الإجماعات ولا يؤدي ذلك إلى استحالة الاتفاق على بعض الأحكام والفتاوى والأقضية بدليل ما نقل إلينا من إجماعات لا زال العمل عليها عند جميع المذاهب الإسلامية حتى عصرنا هذا.
والله أسأل أن يلهمنا الصواب ويوفقنا لخدمة شريعتنا الغراء.
الدكتور رشدي عليان
كلية الدعوة وأصول الدين الجامعة الإسلامية.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سينشر المبحث الثاني من هذه الدراسة في العدد التالي إن شاء الله.(14/75)
[2] روي الحديث بهذا اللفظ تارة وبلفظ لا صيام لمن لم يبيت الصوم.. الحديث. انظر: باب الصوم من سنن النسائي والترمذي والدارمي وأبي داود والبيهقي والدارقطني وابن ماجه ومسند أحمد، وموطأ مالك.
[3] يونس/71.
[4] الشوكانيإرشاد الفحول ص71.
[5] الآمدي/ الإحكام ج1 ص101 والفتوحي/ شرح الكوكب المنير ص225.
[6] الغزالي/ المستصفى ص117.
[7] وهم محمد بن جرير وأبو بكر الرازي وأبو الحسين الخياط، راجع / ابن قدامة روضة الناضر ص71 والآمدي – الإحكام ج1 ص121.
[8] سيأتي بيان ذلك.
[9] الحكم الشرعي هو الذي لا يدرك إلا من خطاب الشارع، وغير الشرعي مما يدرك بالحس أو بالعقل.
[10] انظر منتهى الأصول ص37.
[11] انظر شرحه على متن جمع الجوامع ج2 ص176.
[12] أخرجه البخاري في باب البيوع ومسلم في باب المساقاة.
[13] انظر محاضرات الشيخ محمد حسن فايد في كلية الشريعة والقانون ((مطبوعة علي الرونيو)) .أخرجه البخاري في باب البيوع ومسلم في باب المساقاة.
[14] المستصفى ج ص110.
[15] روضة الناظر ص67.
[16] الآمدي/ الإحكام ج1 ص133 والشوكاني/ إرشاد الفحول ص79.
[17] أصول الفقه ص310 وأمير بادشاه/ تيسير التحرير ج3 ص254.
[18] أصول الفقه ص119.
[19] راجع أصول الفقه ص311 و29 من بحث الشيخ فايد والإحكام للآمدي ج1 ص135.
[20] وردت عدة أحاديث من طرق مختلفة وبألفاظ متفاوتة في هذا المعنى فراجعها في باب البيوع من صحيح البخاري ومسلم ومسند أبي داود والترمذي والنسائي والدارمي وموطأ مالك ومسند أحمد.
[21] الفتوحي/ شرح الكوكب المنير ص237.
[22] المستصفى ج1 ص123.
[23] روضة الناظر ص77.
[24] الصدر/الإجماع في التشريع الإسلامي ص36.
[25] الطوسي/ عدة الأصول ج2 ص64 والشوكاني، إرشاد الفحول ص73.
[26] النساء/114.(14/76)
[27] الشوكاني/ إرشاد الفحول ص77.
[28] الغزالي/ المستصفى ج1 ص11.
[29] آل عمران /110.
[30] يونس/32.
[31] الشوكاني/ إرشاد الفحول ص77.
[32] الشيخ فايد/ محاضرات في الإجماع ص12.
[33] البقرة/142.
[34] القلم/28.
[35] آل عمران/ 103.
[36] الآمدي/ الإحكام ج1 ص111.
[37] الأخبار عن رسول الله عليه السلام بأن هذه الأمة لا تجتمع على الخطأ والضلالة كثيرة وقد رويت بألفاظ مختلفة وصيغ وأسانيد متعددة انظر: مسند أحمد 5/145 وباب الفتن من سنن الترمذي وابن ماجه والدارقطني وباب التحريم من سنن النسائي.
[38] الأحاديث التي تحث على لزوم الجماعة وتذم الخروج عليها كثيرة وقد رويت بألفاظ مختلفة وصيغ متعددة انظر: باب الفتن والتحريم من سن الترمذي والنسائي والبخاري ومسند أحمد والدارمي وأبي داود.
[39] المستصفى ج1 ص111.
[40] ج1 ص112.
[41] روضة الناظر ص68.
[42] أصول الفقه ص316.
[43] الآمدي/ الإحكام ج1ص102.
[44] رواه الترمذي 1/249، وأبو داود 3/303، والدارمي 1/60 وانظر مسند أحمد 5/230.
[45] الآمدي/ الإحكام ج1ص107.
[46] الخضري/ أصول الفقه ص312.
[47] انظر: تيسير التحرير ج3 ص246 وروضة الناظر ص76 والإحكام للآمدي ج1 ص () .
[48] نفسه وأصول الفقه للخضري.
[49] انظر: روضة الناظر ص76.
[50] تيسير التحرير ج3 ص247 ومنتهى الأصول لابن الحاجب ص42 والخضري ص301.
[51] نفسه.
[52] نفسه والإحكام للآمدي ج1 ص129 والمستصفى ج1 ص 121.
[53] الإحكام ج1 ص131.
[54] وهما أحمد بن حنبل وأبو بكر بن فورك، انظر الإحكام للآمدي ج1 ص130 وروضة الناظر ص73.
[55] المستصفى ج1 ص122.
[56] الشوكاني/ إرشاد الفحول ص86.
[57] روضة الناظر ص75.
[58] الإحكام ج1 ص137.
[59] منتهى الأصول ص44.(14/77)
[60] ابن حزم/ الإحكام ج4 ص515.
[61] الآمدي/ الإحكام ج1 ص137 وابن الحاجب/ منتهى الأصول ص44.
[62] نفسهما.
[63] نفسهما.
[64] الخضري/ أصول الفقه ص300.
[65] المظفر/ أصول الفقه ص116.
[66] ابن الحاجب/ منتهى الأصول ص46.
[67] حاشية البناني على شرح جمع الجوامع ج1 ص179.
[68] روضة الناظر ص78.
[69] إرشاد الفحول ص89.
[70] الإحكام ج1 ص143.
[71] انظر بالإضافة إلى المصادر السابقة شرح المنار لابن مالك ص258 وكشف الأسرار على أصول البزدوي ج3 ص265 وفتح الغفار بشرح المنار لابن نجيم ج3 ص6.
[72] المستصفى ج1 ص127.
[73] نفسه.
[74] روضة الناظر ص78.
[75] الإحكام ج1 ص102.(14/78)
العبادات في الإسلام وأثرها في إصلاح المجتمع [1]
لفضيلة الدكتور محمود السيد شيخون
الحمد لله. نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد..
فإن الحديث عن العبادات في الإسلام لا بد أن يسبقه الحديث عن التوحيد فمنزلته من العبادات كمنزلة الأساس من البناء فكما أن البناء لا يثبت ولا يستقر ولا ينتفع به إلا إذا أقيم على أساس متين فكذلك العبادات لا تؤتي ثمارها ولا ينتفع بها إلا إذا بنيت على التوحيد فهو قوامها وعمادها وأصلها وأساسها.
التوحيد
معناه: التوحيد المطلق هو العلم والاعتراف [2] بتفرد الرب بصفات الكمال والإقرار بتوحيده بصفات العظمة والجلال وإفراده وحده بالعبادة.
أقسامه: وقد قسمه العلماء الموحدون إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: توحيد الربوبية: وهو أن يعتقد العبد أن الله هو الرب المتفرد بالخلق والرزق والتدبير الذي ربى جميع الخلق بنعمه [3] .
وهذا القسم لا ينكره المشركون ولا يجعلون لله فيه شريكا بل هم مقرون به.
فهم يقرون بأن الله خالقهم {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} .(14/79)
ويقرون بأن الله خالق السموات والأرض {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} ويقرون بأن الله هو الرازق وهو الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي وأنه الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض وأنه الذي يملك السمع والأبصار والأفئدة {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} .
وهذا فرعون مع غلوه في كفره ودعواه أقبح دعوة ونطقه بالكلمة الشنعاء يقول الله في حقه حاكيا عن موسى عليه السلام: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِر} .
وقال إبليس: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} وقال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} وقال: {فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} .
فكل مشرك مقر بأن الله خالقه وخالق السموات والأرض وربهن ورب ما فيهما ورازقهم.(14/80)
القسم الثاني: توحيد الأسماء والصفات وهو اعتقاد انفراد [4] الرب جل جلاله بالكمال المطلق من جميع الوجوه بنعوت العظمة والجلال والجمال التي لا يشاركه فيها مشارك بوجه من الوجوه وذلك بإثبات ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من جميع الأسماء والصفات ومعانيها وأحكامها الواردة في الكتاب والسنة على الوجه اللائق بعظمته وجلاله من غير نفي لشيء منها ولا تعطيل ولا تحريف ولا تمثيل ولا تكييف ونفي ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من النقائص والعيوب وعن كل ما ينافي كماله.
القسم الثالث: توحيد الألوهية ويقال له توحيد العبادة وهو العلم [5] والاعتراف بأن الله ذو الألوهية والعبودية وإفراده وحده بالعبادة كلها وإخلاص الدين لله وحده.
وهذا القسم يستلزم القسمين الأولين ويتضمنهما لأن الألوهية التي هي صفة تعم أوصاف الكمال وجميع أوصاف الربوبية والعظمة فإنه المألوه المعبود لما له من أوصاف العظمة والجلال ولما أسداه إلى خلقه من الفواضل والإفضال.
فتوحده تعالى بصفات الكمال وتفرده بالربوبية يلزم منه ألا يستحق العبادة أحد سواه [6] .
وهذا القسم هو الذي من أجله أنزل الله الكتب وأرسل الرسل فجميع رسل الله عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم إنما بعثوا لدعوة العباد إلى إفراد الله بالعبادة {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} .
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} .(14/81)
وقال الله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاه} وقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآب} .
ومن أجل ذلك كان كل رسول يفتتح دعوته بقوله لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} .
ومن هنا يعلم أن الإقرار بالربوبية لا يكفي في التوحيد لأن المشركين لم ينفعهم هذا الإقرار مع إشراكهم الأنداد لله في العبادة ولا أغنى عنهم من الله شيئا، وأن عبادتهم هي اعتقادهم فيهم أنهم ينفعون ويضرون وأنهم يقربونهم إلى الله زلفى {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} وأنهم يشفعون لهم عند الله {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} فنحروا لهم النحائر وطافوا بهم ونذروا النذور عليهم وقاموا متذللين متواضعين في خدمتهم وسجدوا لهم ومع هذا كله فهم مقرون لله بالربوبية وأنه الخالق ولكنهم لما أشركوا في عبادته جعلهم مشركين ولم يعتد بإقرارهم هذا لأنه نافاه فعلهم فلم ينفعهم الإقرار بتوحيد الربوبية فمن شأن من أقر لله وحده بتوحيد الربوبية أن يفرده بتوحيد العبادة فإن لم يفعل ذلك فالإقرار الأول باطل وقد عرف المشركون ذلك وهم في طبقات النار فقالوا: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ
إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} مع أنهم لم يسووهم به من كل وجه ولا يجعلوهم خالقين ولا رازقين لكنهم علموا وهم في قعر جهنم أن خلطهم الإقرار بذرة من ذرات الإشراك في توحيد العبادة صيرهم كمن سوى بين الأصنام وبين رب الأنام.(14/82)
وبناء عليه فالتوحيد المنجي من النار إنما يكون بالإقرار لله بالربوبية والعبودية والتفرد بصفات الكمال والعظمة والجلال وهذا يقتضي من العبد أن ينسب إليه جميع النعم {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} وأن يخصه بالعبادة والاستعانة والخوف والرجاء والمحبة والتوكل والإنابة فمن فعل شيئا من ذلك لمخلوق حي أو ميت أو جماد أو غيره فقد أشرك وصار من تفعل له هذه الأمور إلها لعابديه سواء أكان ملكا أم نبيا أم وليا أم شجرا أم قبرا أم جنا أم حيا أم ميتا وصار العابد بهذه العبادة عابد لذلك المخلوق مشركا بالله.
وخلاصة القول في التوحيد أن يحقق العبد كلمة "لا إله إلا الله"وتحقيق هذه الكلمة ألا يعبد بجميع أنواع العبادة إلا الله فلا يخاف سواه، ولا يرجى سواه ولا يتوكل إلا عليه ولا يرغب إلا إليه ولا يرهب إلا منه، ولا يحلف إلا به ولا ينذر إلا له ولا يناب إلا إليه، ولا يطاع إلا أمره ولا يحتسب إلا به، ولا يستعان في الشدائد إلا به ولا يلتجأ إلا إليه، ولا يسجد إلا له، ولا يذبح إلا له وباسمه.
فضائل التوحيد
1- إن التوحيد يحرر العبد من رق المخلوقين والتعلق بهم وخوفهم ورجائهم والعمل لأجلهم وهذا هو العز الحقيقي والشرف العالي. {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} .
2- إن التوحيد إذا تم وكمل في القلب وتحقق تحققا كاملا بالإخلاص التام فإنه يصيِّر القليل من عمل العبد كثيرا ويضاعف أعماله وأقواله بغير حصر ولا حساب فعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال موسى يا رب علمني شيئا أذكرك وأدعوك به. قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهم غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله الله" رواه ابن حبان والحاكم.(14/83)
3- إن التوحيد سبب في تكفير الذنوب ومحو الخطايا فعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشركْ بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة".
4- إن التوحيد يحصل لصاحبه الهدى الكامل والأمن التام في الدنيا والآخرة {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} .
5- إن التوحيد يمنع الخلود في النار إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة من خردل وأنه إذا اكتمل في القلب يمنع دخول النار بالكلية.
فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" أخرجه البخاري ومسلم.
وفي حديث عتبان "فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" ولمسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار".
6- إن الله يدفع عن الموحدين أهل الإيمان شرور الدنيا والآخرة ومن عليهم بالحياة الطيبة والطمأنينة إليه والطمأنينة بذكره {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
ويقول تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} .(14/84)
7- إن التوحيد هو السبب الوحيد لنيل رضا الله وثوابه والفوز بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى مثنيا على المهاجرين والأنصار ومن اتبعهم بإحسان {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
8- إن الله تكفل لأهل التوحيد بالفتح والنصر والعز والشرف وحصول الهداية والتيسير لليسرى وإصلاح الأحوال والتسديد في الأقوال والأفعال.
9- إن جميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها وفي ترتب الثواب عليها على التوحيد فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله كملت هذه الأمور وتمت.
10- إن التوحيد يسهل على العبد فعل الخير وترك المنكرات ويسليه عن المصيبات فالمخلص لله في إيمانه وتوحيده تخف عليه الطاعات لما يرجو من ثواب ربه ورضوانه ويهون عليه ترك ما تهواه النفس من المعاصي لما يخشى من سخطه وعقابه.
11- إن التوحيد إذا كمل في القلب حبب الله إلى صاحبه الإيمان وزينه في قلبه وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان وجعله من الراشدين.
12- إن التوحيد هو السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة ودفع عقوباتهما.
13- إن التوحيد هو الطريق إلى الفوز بمحبة الله عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} .
14- إن التوحيد يخفف عن العبد المكاره ويهون عليه الآلام فبحسب تكميل العبد للتوحيد والإيمان يتلقى المكاره بقلب منشرح وصدر رحب ونفس مطمئنة وتسليم ورضا بأقدار الله المؤلمة.(14/85)
15- إن الله تكفل لأهل التوحيد بالأمن والطمأنينة والولاية ودخول الجنان {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} .
هذه هي فضائل التوحيد ولا ينالها ولا يحظى بها إلا من حققه وتحقيقه ليس بالتمني ولا بالدعاوى الخالية من الحقائق ولا بالحلي العاطلة وإنما ذلك بما وقر في القلوب من عقائد الإيمان وحقائق الإحسان وصدقته الأخلاق الجميلة والأعمال الصالحة الجليلة.
يقول ابن القيم رحمه الله في فضل كلمة التوحيد: "هي الكلمة [7] التي قامت بها الأرض والسموات وفطر الله عليها جميع المخلوقات وعليها أسست الملة ونصبت القلة وجردت سيوف الجهاد وهي محض حق الله على جميع العباد وهي الكلمة العاصمة للدم والمال والذرية في هذه الدار والمنجية من عذاب القبر وعذاب النار وهي المنشور الذي لا يدخل أحد الجنة إلا به والحبل الذي لا يصل إلى الله إلا من يتعلق بسببه وهي كلمة الإسلام ومفتاح دار السلام وبها انقسم الناس إلى شقي وسعيد ومقبول وطريد وبها انفصلت دار الكفر من دار الإسلام وتميزت دار النعيم من دار الشقاء والهوان وهي العمود الحامل للفرض والسنة "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" [8] .
العبادات وأثرها في إصلاح القلوب وتهذيب النفوس
إن الإسلام قد فرض على الناس عبادات لها أثر حسن في إصلاح القلوب وتهذيب النفوس وسنشير في هذه العجالة إلى ما تشتمل عليه هذه العبادات من المثل العالية والمبادئ السامية التي تحقق السعادة في الدنيا والآخرة.
الصلاة وفضائلها:
إن من يدرس هذه الفضيلة دراسة واعية مستفيضة يدرك أنها تشتمل على كثير من الفضائل التي تسهم في سعادة الفرد والمجتمع ومن هذه الفضائل ما يأتي:(14/86)
1- إنها تسهم في حماية العبد من الأمراض التي تفتك به وتعوقه عن العمل لدنياه وأخراه لما فيها من الحث على النظافة فقد جعل الإسلام مفتاحها طهارة البدن والثوب والمكان.
2- إنها تعوِّد المؤمن مراقبة الله وخشيته، إذ يقف العبد فيها فارغا من الشواغل موجها قلبه إلى مولاه يناجيه ويثني عليه بما هو أهله خائفا عقابه طامعا في رحمته طالبا منه العون والهداية فيؤثر ذلك في نفسه ويعوده مراقبة الله وخشيته فيجتنب ما يغضب مولاه عما حرم الله.
{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} .
3- الصلاة تمد المؤمن بقوة روحية تعينه على مواجهة المشقات والمكاره في الحياة الدنيا {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين} .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه [9] أمر فزع إلى الصلاة [10] .
4- إن في الصلاة غذاء روحيا للمؤمن يعينه على مقاومة الجزع عند الشر والمنع عند الخير والتغلب على جوانب الضعف الإنساني {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} .
5- إن الصلاة سبب لمحو الخطايا وغفران الذنوب فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أرأيت لو أن نهرا على باب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات فهل يبقى على بدنه من درنه شيء قالوا: لا قال فذلك مثَل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا" أخرجه البخاري ومسلم.
6- إن الصلاة تعلم العبد بما فيها من الركوع والسجود والثناء والتعظيم كيف يتواضع لله، وكيف يشكر من أحسن إليه ويكافئ من أسدى إليه معروفا.(14/87)
7- إن الصلاة بما فيها من الخشوع ترقق قلب المؤمن وتملأه رحمة وقناعة فيرحم الضعفاء، ويواسي البؤساء، ويرضى عن الله في الشدة والرخاء.
8- إن في الصلاة غذاء للروح لا يغني عنه علم ولا أدب فالصلوات الخمس هي وجبات الغذاء اليومي للروح كما أن للمعدة وجباتها اليومية يناجي المصلي فيها ربه فتكاد تشف روحه وتصفو نفسه فتسمع كلام الله الذي يقول: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي قسمين ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله عز وجل: حمدني عبدي، فإذا قال الرحمن الرحيم قال الله: أثنى عليّ عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين قال: مجدني عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل" رواه مسلم.
9- في الصلاة تدريب للمسلم على النظام وتعويد له على الطاعة ويظهر هذا واضحا في صلاة الجماعة إذ يقف المسلمون في صفوف مستقيمة متلاصقة فلا عوج ولا فرج المنكب إلى المنكب والقدم إلى القدم فإذا كبر الإمام كبروا وإذا قرأ أنصتوا، وإذا ركع ركعوا، وإذا سجد سجدوا، وإذا سلم سلموا، من خرج على هذا النظام فكأنما خرج على الإنسانية وانحط إلى مستوى الحيوانية [11] ففي الحديث الشريف: "ألا يخشى الذي يركع أو يسجد قبل الإمام أن يمسخ الله رأسه رأس حمار" رواه البخاري ومسلم.
10- في صلاة الجماعة مظهر من مظاهر المساواة الرائعة إذ يقف الأمير إلى جانب الفقير والغني في جوار المسكين، والسيد في محاذاة الخادم، فليس في المسجد لائحة تخصص الصف الأول للوزراء والصف الثاني للنواب، والصف الثالث للمدير وإنما الجميع سواسية كأسنان المشط فمن بكَّر في الذهاب إلى المسجد احتل مكانه في مقدمته أيّاً كانت منزلته وأيّاً كان عمله في الناس [12] .(14/88)
11- في صلاة الجماعة دعم لعاطفة الأخوة وتقوية لروابط المحبة وإظهار للقوة فبالاجتماع تذهب الضغائن وتزول الأحقاد، وتتآلف القلوب وتتحد الكلمة.
12- في صلاة الجماعة تظهر عظمة ملك الملوك ورب الأرباب ويعم الخير وتنتشر الرحمة لأن المسلمين إذا اجتمعوا في صعيد واحد وراء إمام واحد إلى قبلة واحدة يعبدون ربّاً واحدا خاشعين خاضعين خائفين عذابه طامعين في فضله غشيتهم رحمته وعمهم إحسانه {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} .
13- الصلاة تعود على البدن بنفع عظيم فهي تقوى العضلات وتسبب اليقظة المبكرة والنشاط لجميع الجوارح فالجسم في الصلاة يعمل قائما وقاعدا وراكعا واللسان يعمل قارئا مكبرا مسبحا مهللا [13] والعقل يعمل متدبرا متفكرا فيما يتلى عليه من القرآن والقلب يعمل مستحضرا رقابة الله تعالى وحشيته والشوق إليه.
عناية الإسلام بالصلاة
لقد عني الإسلام بالصلاة لما فيها من الفضائل ولما تشتمل عليه من الخير والنفع فشدد كل التشديد في طلبها وحذر كل التحذير من تركها أو تأخيرها عن أوقاتها فهي عمود الدين ومفتاح الجنة وخير الأعمال وأول ما يحاسب عليه المرء المؤمن [14] يوم القيامة يذكرها القرآن الكريم في دعاء الخليل إبراهيم. عليه الصلاة والسلام {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} .
ويمدح بها إسماعيل عليه الصلاة والسلام {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} .
ويأمر الله تعالى كليمه موسى عليه الصلاة والسلام بإقامتها أول ما يأمره به في ساعات الوحي الإلهي {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} .(14/89)
ويوحي إليه وإلى أخيه هارون عليهما الصلاة والسلام {أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} .
ومن وصايا لقمان لابنه {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} .
وينطق عيسى عليه السلام وهو في مهده {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} . ويأمر بها خام أنبيائه عليه أفضل الصلاة والسلام {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ} .
ويؤكد الإسلام عليها في الحضر والسفر والأمن والخوف والسلم والحرب {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانا} .
وينذر بالويل والهلاك من يصرف قلبه عنها أو يؤخرها عن وقتها فيضيعها {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} .
ويجعلها الرسول صلى الله عليه وسلم الدليل الأول على التزام عقد الإيمان والشعار الفاصل بين المسلم والكافر ففي الحديث الشريف "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" رواه أحمد ومسلم.
وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم يوما فقال: "من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف" أحمد وابن حبان.
وفي توجيه هذا الحديث كلام حسن خلاصته أن من شغله عن الصلاة ماله فهو مع قارون ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون ومن شغله عنها رياسته ووزارته فهو مع هامان ومن شغله عنها تجارته فهو مع أبي بن خلف.(14/90)
وفي الحديث الشريف "من فاتته صلاة فكأنما وتر أهله وماله" رواه ابن حبان تلك هي مكانة الصلاة في الإسلام ولهذه المكانة كانت أول عبادة فرضت على المسلمين فقد فرضت في مكة قبل الهجرة بسنتين تقريبا، وكانت طريقة فرضيتها دليلا آخر على عناية الله تعالى بها إذ فرضت ليلة الإسراء والمعراج بخطاب مباشر من رب العالمين تبارك وتعالى إلى خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.
الصلاة التي يريدها الإسلام
إن الصلاة التي يريدها الإسلام والتي تشتمل على الفضائل التي سلفت ليست مجرد أقوال يلوكها اللسان، وحركات تؤديها الجوارح بلا تدبر من عقل ولا خشوع من قلب، أو تلك التي ينقرها صاحبها نقر الديك [15] كلا وإنما الصلاة التي يريدها الإسلام هي التي تأخذ حقها من التأمل والخشية واستحضار عظمة المعبود جل جلاله لأن القصد الأول من الصلاة هو تذكير الإنسان بربه عز وجل {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} فالصلاة التي يريدها الإسلام لابد فيها من حضور القلب والعقل معا فالقلب يستحضر عظمة المعبود والعقل يتدبر فيما يتلى من القرآن، وبحضور القلب والعقل تسكن الجوارح ويتم الخشوع، وتؤتي الصلاة ثمارها، ويحظى المصلي بفضلها وثوابها وتقوى صلته بربه فيسعد في الدنيا والآخرة يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساه".
الزكاة وفضلها
ومن العبادات التي تشتمل على كثير من الفضائل ((الزكاة)) ومن فضائلها ما يأتي:
1- إنها تغرس في نفس المؤمن فضيلة السخاء وتطهر نفسه من رذيلة الشح فيفوز برضا الله ويسعد بتوفيقه {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
2- الزكاة فيها سدّ لحاجة الفقراء وتفريج لكربة الغارمين وتيسير لأبناء السبيل وعون على المصالح العامة.(14/91)
3- إنها تخرج الأضغان من قلوب البائسين وحقدهم على الأغنياء المترفين وتملأ قلوبهم بمحبتهم وتمنعهم من الإساءة إليهم وبذلك يسود الأمن وبذلك تكون الألفة والإخاء.
4- الزكاة فيها تطهير للمال من الشر ففي الحديث الشريف "إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره" رواه الحاكم وفي الحديث الشريف أيضا: "حصنوا أموالكم بالزكاة" رواه أبو داود.
5- الزكاة ضمان اجتماعي [16] لأن الإسلام يأبى أن يكون في مجتمعه من لا يجد القوت الذي يكفيه والثوب الذي يواريه والبيت الذي يؤويه فهذه ضرورات يجب أن تتوافر لكل من يعيش في ظل الإسلام الرحيم والمسلم مطالب بأن يحقق هذه الضرورات وما فوقها من جهده وكسبه فإن لم يستطع فالمجتمع يكفله ويضمنه والزكاة مورد أساسي لهذه الكفالة الاجتماعية التي فرضها الإسلام لفقراء والمساكين {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} .
6- الزكاة أمضى سلاح لمحاربة كنز الأموال ولإخراج النقود من مخابئها فالمال المخبوء تأكله الزكاة.
هذه هي بعض الفضائل التي تشتمل عليها هذه الفريضة ولو أن الناس أخرجوا زكاة أموالهم كما أمرهم ربهم لسدت حاجة الفقراء والمساكين ولعاش الناس إخوة متحابين متآلفين ولكن بعض الأغنياء بخلوا بزكاة أموالهم فمنعوها مستحقيها فكانوا سببا في انتشار الأحقاد والضغائن وحدوث كثير من المفاسد والجرائم.
الصيام وفضائله
كذلك من العبادات ذات الأثر الحسن في إصلاح القلوب وتهذيب النفوس (الصيام)) فهو يشتمل على كثير من الفضائل نذكر بعضها:(14/92)
1- في الصيام ضبط للنفس وإطفاء لشهواتها فإنها إذا شبعت تمردت وسعت وراء شهواتها وإذا جاعت خضعت وامتنعت عما تهوى قال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فهو له وجاء" فإنه يكسر من شهوة الشباب حتى لا تطغى عليه الشهوة فيصير إلى العنت والفاحشة فكان الصوم ذريعة إلى كف النفس عن المعاصي.
2- إن الصيام وسيلة إلى إصلاح النفوس وتهذيبها إنه يربي في الإنسان فضيلة الصدق والوفاء والإخلاص والأمانة والصبر عند الشدائد لأن النفس إذا انقادت للامتناع عن الحلال من الغذاء الذي لا غنى لها عنه طلبا لمرضاة الله وخوفا من أليم عذابه فأولى أن تنقاد للامتناع عن الحرام الغنية عنه فلا يكذب الصائم ولا يغدر ولا ينقض عهدا ولا يخلف وعدا ولا يكون مرائيا ولا خائنا فكان الصوم سببا في اتقاء المحارم وقوة العزيمة والتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل وإلى هذا كله أشار جل جلاله بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [17] .
3- الصوم يدعو إلى شكر النعمة إذ هو كف للنفس عن الطعام والشراب ومباشرة النساء وكل هذا من جلائل نعم الله عز وجل على خلقه والامتناع عن هذه النعم من أول اليوم إلى آخره يعرف الإنسان قدرها إذ لا يعرف فضل النعمة إلا بعد فقدها فيعينه ذلك على القيام بشكرها، وشكر النعمة واجب وإلى هذا أشار جل وعلا بقوله: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [18] .
4- الصيام يبعث في الإنسان فضيلة الرحمة بالفقراء والعطف على البائسين فإن الإنسان إذا ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات تذكر الفقير الجائع في كل الأوقات فيسارع إلى رحمته والإحسان إليه.(14/93)
5- في الصيام تمام التسليم لله وكمال العبودية له فالصائم يجوع ويعطش وأسباب الغذاء والري أمامه [19] ميسرة لولا حب الله تعالى والرغبة في رضاه ولهذا جاء في الحديث القدسي "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي يدع شهوته وطعامه من أجلي" رواه مسلم.
6- الصيام يعود على البدن بالصحة ويكون سببا في شفاء كثير من الأمراض إذ فيه راحة للمعدة من عناء الهضم وتخليص للجسم من فضلاته الضارة وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول "صوموا تصحوا" رواه الطبراني.
هذا هو الصيام لم يشرعه الله تعالى تعذيبا للبشر ولا انتقاما منهم وإنما شرعه إيقاظا لأرواحهم وتصحيحا لأجسامهم وتقوية لإرادتهم وتعويدا لهم على الصبر وتعريفا لهم بالنعمة وتربية لمشاعر الرحمة فيهم وتدريبا لهم على كمال التسليم لله رب العالمين [20] .
الحج وفضائله
إن في فريضة الحج كثيرا من الفضائل التي تسهم في تحقيق السعادة في الدنيا والآخرة ومن هذه الفضائل ما يأتي:(14/94)
1- الحج غذاء روحي كبير تمتلئ فيه جوانح المسلم خشية وتقى لله رب العالمين، ففي كل منسك من مناسكه غذاء للروح فما الإحرام إلا تجرد من شهوات النفس والهوى وحبس للنفس عما سوى الله عز وجل وحث على التفكير في عظمة الله جل جلاله وحث على تذكر الموت والاستعداد له بالعمل الصالح فالحاج في لباس إحرامه يذكر بالميت في أكفانه، وما التلبية إلا استجابة وذكر وطاعة وامتثال، وما الطواف بعد التجرد إلا استحضار لعظمة الله تعالى حول بيته، وامتثال لأمره {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وما السعي بين الصفا والمروة إلا تردد بينهما التماسا لرحمة الله تعالى وطلبا لمغفرته، وما الوقوف بعرفة إلا بذل [21] للمهج في الضراعة إلى الله بقلوب مملوءة بالخشية وأيد مرفوعة بالرجاء وألسنة لاهجة بالدعاء وآمال صادقة في أرحم الراحمين، وما الرمي بعد ذلك إلا رمز لاحتقار عوامل الشر ونزغات الشيطان، وما الذبح إلا إراقة للدم الذي أمر الله به أن يراق ورمز للتضحية والفداء.
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
2- في الحج تدريب على ركوب الأخطار وتحمل المشقات ومفارقة الأهل والتضحية بالراحة والدعة في الحياة الرتيبة بين الأهل والأصحاب.
3- في الحج تدريب للمسلم على المبادئ الإسلامية العالية التي جاء بها الإسلام ففي وحدة مظهر الحجاج في إحرامهم معنى المساواة في أجلى صورها وأتمها.
4- في الحج ترى معنى الوحدة الإسلامية جليا كالشمس فشعور المسلمين فيه واحد وشعائرهم واحدة لا إقليمية ولا عنصرية ولا عصبية للون أو جنس أو طبقة فكلهم مسلمون يؤمنون برب واحد ويطوفون ببيت واحد [22] .(14/95)
5- الحج مظهر من مظاهر السلام فأرض الحج هي البلد الحرام والبيت الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا، ومن دخله كان آمنا. إنها منطقة أمان شمل الطير في الجو والصيد في البر والنبات في الأرض فهذه المنطقة لا يصاد صيدها ولا يروع طيرها ولا حيوانها ولا يقطع شجرها ولا حشائشها [23] .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} {حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} .
6- الحج مؤتمر إسلامي عظيم فهناك يجد المسلم إخوانا له في الدين من قارات الدنيا الخمس اختلفت أقاليمهم وألوانهم ولغاتهم وجمعتهم رابطة الإيمان والإسلام [24] فما أجدر المسلمين أن ينتفعوا من هذا المؤتمر السنوي بما يعود عليهم بالخير في أمر دينهم وأمر دنياهم {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم} .
هذه هي بعض الفضائل التي تشتمل عليها العبادات، وهذه الفضائل لا تحصل للعابد إلا إذا أسس عبادته على التوحيد بأن يصرف كل هذه العبادات لله وحده وأن يحسن أداءها بحيث يأتي بها على الوجه الذي شرعه الله تعالى على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
العبادات بين السلف والخلف(14/96)
لقد عرف السلف الصالح قيمة هذه العبادات فأسسوها على التوحيد وأحسنوا أداءها فجنوا ثمارها وانتفعوا بفضائلها فقويت صلتهم بربهم فألّف بين قلوبهم، ووحّد بين صفوفهم فسادوا وعزّوا، وكوَّنوا مجتمعا قويّاً متماسكا أعزَّ الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين ونَعِم الجميع في ظله بالأمن والاستقرار والسعادة، أما اليوم فقد جهل كثير من المسلمين التوحيد فاختلت عقائدهم فاتجهوا إلى المخلوقين يطلبون منهم قضاء حوائجهم، وغَلَوا في ذلك فشدُّوا الرحال إلى الأموات يطوفون بأضرحتهم كما يطوف الحجاج ببيت الله الحرام ويستلمون هذه الأضرحة استلامهم لأركان البيت الحرام ويخاطبون الميت بالكلمات الشركية من قولهم: "على الله وعليك". ويهتفون بأسمائهم عند الشدائد، وقد اتسع نطاق هذه الشركيات في البلاد الإسلامية فأصبح لكل قوم من المسلمين رجل ينادونه، وأصبح في كل قرية أموات يهتفون بأسمائهم، وينادونهم، ويرجونهم لجلب النفع ودفع الضر وفعل هؤلاء هو بعينه فعل المشركين في الأصنام، وهم بهذا المسلك ينسلخون من الإسلام ويعودون إلى الجاهلية.
ولقد صور الإمام المحدث السلفي محمد بن إسماعيل الأمير اليمني الصنعاني فعل هؤلاء في أبيات من قصيدة له يمدح بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ويشيد بدعوته:
أعادوا بها معنى سواع ومثله
يغوت وودٌ بئس ذلك من ودّ
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها
كما يهتف المضطر بالصمد الفرد
وكم نحروا في سوحها نحيرة
أهلت لغير الله جهلا على عمد
وكم طائف حول القبور مقبلا
ويلتمس الأركان منهن بالأيدي(14/97)
كذلك استهان كثير من المسلمين اليوم بهذه العبادات فتركوها فحرموا فضائلها فقست قلوبهم وانقطعت صلتهم بربهم ففسدت أعمالهم، وساءت معاملاتهم وعاداتهم وتدهورت أخلاقهم، وساروا وراء أهوائهم، وفتنوا بزخارف الحضارة المزيفة والمدنية الكاذبة فظنوا الإباحة حرية والخلاعة رقيّاً فتعدوا حدود العقل والدين، وأغضبوا خالق الأرض والسماء فساءت حالهم وسلط عليه عدوهم {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
داء ودواء
لقد جهل كثير من المسلمين اليوم أمر التوحيد واستهانوا بالعبادات وهذا داء عضال سببه عزلة المسلمين عن الكتاب والسنة وعلاجه الوحيد هو إعداد الدعاة الفاهمين للكتاب والسنة وانتشارهم في البلاد الإسلامية لكي يصححوا العقائد ويحرروا العقول من الخرافات والبدع والأباطيل وليكشفوا للناس النقاب عن أسرار التشريع الإسلامي وخصائصه ومزاياه، ويحثوهم على التمسك بكتاب ربهم عز وجل وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ففي التمسك بهما الهداية والخير والسعادة وفي البعد عنهما الضلال والشر والشقاء ففي الحديث الشريف "تركت فيكم ما إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي".
والله الكريم نسأل أن يوفق المؤمنين المخلصين في كل مكان لإعداد هذا النوع من الدعاة فينطلقوا إلى مختلف بقاع الأرض فيعيدوا للإسلام مجده وللمسلمين عزتهم {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} .
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب وهو حسبي ونعم الوكيل..
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ألقيت هذه المحاضرة في منى في معسكر الجامعة الإسلامية صباح يوم الجمعة الموافق 12 من شهر ذي الحجة عام 1396هـ.(14/98)
[2] القول السديد في مقاصد التوحيد ص14.
[3] المرجع السابق ص16.
[4] القول السديد في مقاصد التوحيد ص15.
[5] القول السديد في مقاصد التوحيد ص16.
[6] المرجع السابق ص17.
[7] الجواب الكافي ص170.
[8] رواه أحمد وأبو داود وعن معاذ وهو حديث صحيح.
[9] أي نزلت به شدة.
[10] رواه أحمد وأبو داود.
[11] من محاسن الإسلام للأستاذ أحمد عز الدين ص45.
[12] من محاسن الإسلام للأستاذ أحمد عز الدين ص58.
[13] المرجع السابق ص48.
[14] من محاسن الإسلام للأستاذ أحمد عز الدين ص34.
[15] من محاسن الإسلام للأستاذ احمد عز الدين ص41.
[16] من محاسن الإسلام للأستاذ أحمد عز الدين ص64.
[17] سورة البقرة آية رقم 183.
[18] سورة البقرة آية رقم 185.
[19] من محاسن الإسلام للأستاذ أحمد عز الدين ص69.
[20] المرجع السابق ص71.
[21] من محاسن الإسلام للأستاذ أحمد عز الدين ص79.
[22] من محاسن الإسلام للأستاذ أحمد عز الدين ص82.
[23] المرجع السابق ص83.
[24] المرجع السابق ص84.(14/99)
التشريع الإسلامي صالح للتطبيق في كل زمان ومكان
لفضيلة الشيخ محمد فهمي علي أبو الصفا
موضوعات البحث.
1 المقدمة
2 حكمة انبعاث الإسلام من جزيرة العرب
3 النواحي التي تناولها التشريع الإسلامي
4 النزعة الجماعية في التشريع الإسلامي
5 مميزات التشريع الإسلامي
6 التشريع الإسلامي يحفظ المقاصد التي يقوم عليها أمر الدين والدنيا
7 السنة توضح القرآن
8 التشريع الإسلامي ملائم لكل البيئات
9 أهم المبادئ التي يدعو إليها
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين.
وبعد..
فإن من تمام النعمة على الناس ومن مظاهر حكمة الله تعالى في خلقه بعد أن تخطى العقل البشري دور الطفولة وتهيأ الفكر للتدرج في مراقي الحياة. أن يكون الإسلام هو الدين الذي يتعهد الله به بني الإنسان والشريعة التي يختتم بها شرائعه الأولى.
فلا غرو أن كان تشريعا محكم الأساس وطيد البنيان كامل النظام سامي الأغراض وافيا بحاجات الأفراد والجماعات صالحا للتطبيق في كل زمان ومكان وكيف لا تتسع الشريعة الإسلامية لشئون الناس وهي شريعة الخلود شريعة كتب لها أن تكون خاتمة الشرائع السماوية فلا شريعة بعدها ولا رسالة تخلف رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولا وحي يمكن أن يكون بعد الذي أنزل عليه كما قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} .(14/100)
وليس لأحد أن يشرع غير الله تعالى حتى الأنبياء فإنهم مبلغون عن الله واجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم واجتهاد أصحابه ليس تشريعا بل هو فهم للكتاب والسنة وتطبيق لمبادئ الدين ولذلك انتهى التشريع بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم ابتدأ الفقه يستمد مضمونه من التشريع فشريعة الإسلام هي شريعة السماء الخالدة إلى أهل الأرض ما بقيت وما بقي الناس حتى يوم الدين.
ومن أجل ذلك وجب أن تكون وافية بجميع الأحكام والقوانين التي تحتاج إليها الأمم في تدبير شئونها وتنظيم حياتها صالحة لمسايرة هذه الحياة في جميع تطوراتها ومراحل تقدمها ورُقِيِّها تزودها في كل عصر وكل جيل بما يكفل لها السعادة ويسبغ عليها السلام والأمن وهذا ما يشهد به قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} .
وقوله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله".
وليس معنى أن القرآن تبيان لكل شيء وأنه أحاط بجزيئات الوقائع والحوادث ونص على تفاصيل أحكامها فإن الواقع يشهد بأن في الأغلب لم يعرض لهذه التفاصيل ولم يعن بالجزيئات وإنما أتت الأحكام في صورة قوانين عامة ومبادئ كلية يمكن تحكيمها في كل ما يعرض للناس في حياتهم اليومية فهي قوانين محكمة ثابتة لا تختلف ولا يسوغ الإخلال بشيء منها وعامة كلية يمكن أن تتمشى مع اختلاف الظروف والأحوال.
فالقرآن الذي هو المصدر الأول للتشريع الإسلامي تبيان لكل شيء من حيث أنه قد أحاط بجميع الأحوال والقواعد التي لابد منها في كل قانون وأي نظام وذلك كوجوب العدل والمساواة والشورى ورفع الحرج ودفع الضرر ورعاية الحقوق لأصحابها وأداء الأمانات إلى أهلها والرجوع بمهام الأمور إلى أهل الذكر والاختصاص.
وما إلى ذلك من المباد العامة التي لا يستطيع أن يشذ عنها قانون يراد به صلاح الأمم وإسعادها.(14/101)
وقد تضافرت النصوص الإسلامية وعلم من الدين بالضرورة عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} .
لهذا قام محمد رسول الله بتبليغ هذه الرسالة إلى من استطاع تبليغهم من الأمم متمثلين في الحكام كهرقل إمبراطور الروم وكسرى ملك الفرس والنجاشي ملك الحبشة وغيرهم تاركا لخلفائه من بعده القيام بتبليغ الدعوة إلى بقية الأمم.
وقد اهتدى بعض تلك الأمم فآمن بدعوته إنصافا للحق كما أنصفه من اتبعه من قومه.
حكمة انبعاث الإسلام من جزيرة العرب
كان سكان تلك الجزيرة خليطا على عقائد متباينة وأديان مختلفة فمن عبدة الأوثان إلى عبدة الجن والملائكة إلى معتنقي المجوسية إلى اليهود والنصارى من أهل الكتاب فإذا جاء الإسلام في هذه البقعة ليرد الناس جميعا إلى الدين الحق.
استطاع أن يحاج العقائد جميعها متمثلة في هذا الخليط من أهل الأديان والنحل المختلفة.
وكان من السهل على حامل تلك الدعوة ومبلغها على ضوء هدايته محاجة العقائد في سائر الأمم والشعوب.
يضاف إلى هذا أن أهل المنطقة كانوا متفككي الروابط كثيري المشاحنات فهم أحوج ما يكون إلى من يجمع كلمتهم.
على أن الإسلام لم يكن بدعا في انبعاثه من هذه المنطقة. فقد انبعث منها ومما حولها سائر الأديان السماوية ومنها شريعتا موسى وعيسى عليهما السلام.
النواحي التي تناولها التشريع الإسلامي(14/102)
جاء الإسلام موجها لاستصلاح الناس فيما يتعلق بشئونهم في دينهم ودنياهم، واعتبر الإسلام كل عمل من أعمال الخير عبادة ودعا الإنسان إلى أن يستعمل نعمة الله في تحسين العلاقات بينه وبين الناس ابتغاء لمرضاة الله مع المحافظة على حقوقه نفسه ومن يلوذون به.
وحث على العمل والكفاح لكسب العيش مقترنا بالعمل للآخرة فقد علم الإسلام معتنقيه أن كل عمل من أعمال الدنيا من صميم الدين مادام الباعث عليه حب الخير والحرص على الإنتاج الصالح النافع ومصلحة الجماعة وأن العبادة إذا شغلت عن إصلاح شئون الدنيا والعمل المنتج فيها فليست بعبادة وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فرأى رجلا منقطعا للنسك والزهد وسمع من أصحابه ثناء عاطرا عليه من تلك الناحية فقال لهم: "من ينفق عليه؟ ". قالوا أخوه. فقال: "أخوه أعبد منه".
وفي هذا المعنى الكثير من الآثار الإسلامية التي ألهبت جذوة النشاط والسعي الكادح بين المسلمين في شئون الدنيا النافعة ليتقربوا بذلك إلى الله سبحانه ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها الصوم ولا الصلاة قيل فما يكفرها يا رسول الله قال الهموم في طلب العيش".
ولذا فإن مفهوم كلمة دين في القرآن الذي عبر عن الإسلام بالدين في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} تشمل صلة الإنسان بربه وصلته بنفسه وصلته بالغير فالدين الإسلامي ينظم سلوك الناس ويهذب أساليب تعاملهم بحيث لا يكون في النفوس سبيل إلى التظالم ولا أثر للضغائن والأحقاد.
ولهذا قال الباحثون في التشريع الإسلامي إنه يرجع إلى ثلاث نواح.
1_ الأحكام الاعتقادية.
2_ الأحكام الخُلقية.
3_ الأحكام العملية.(14/103)
وإليك صورة موجزة عن كل ناحية منها:
أولا: الأحكام الاعتقادية.
المراد بالأحكام الاعتقادية معرفة ما يتعلق بالله وصفاته وبالرسل الذين أرسلهم إلى خلقه وشئون اليوم الآخر.
وقد أفرد علماء المسلمين علما خاصا به يسمى علم الكلام أو علم التوحيد.
ثانيا: الأحكام الخُلقية:
المراد بها بيان ما ينبغي أن يكون عليه المسلم من الصفات التي ينتج عنها صدور الأفعال الخيرة بسهولة كالحلم والصفح والتواضع ولِين الجانب وتطهير النفس من الغل والحقد والحسد وما إلى ذلك وهي صفات منبثة في ثنايا القرآن الكريم والسنة النبوية.
وهذه الناحية تعتبر دعامة أصيلة في توجيه الإسلام وهي الأساس لانقياد النفوس للعمل بما جاءت به الشريعة الإسلامية من الأحكام التي تنظم علاقات الناس وتحول بينهم وبين البغي والأثرة اللذين يورثان نيران العداوة والبغضاء ويشيعان الفساد في الأرض.
وقد تدرك جانبا من ذلك التوجيه الخلقي العظيم فيما أدركه منذ بدء دعوة الإسلام رجل من أتباعه وقف موقفا بين يدي نجاشي الحبشة فدعاه الموقف إلى أن يسرد نواحي التوجيه البارزة في دعوة محمد بقضائه على ما كان شائعا بينهم من مفاسد خلقية إذ يقول: "كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة فصدقناه وآمنا به".(14/104)
ولا غرو فقد كان محمد حامل الرسالة الإسلامية أول من تخلَّق بأخلاقها فلقد هذبه الله وقوم خلقه ووصفه بأنه على خلق عظيم ولهذا روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أدبني ربي فأحسن تأديبي". وروي أيضا أنه قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
ثالثا: الأحكام العملية:
ويراد بها ما يتصل بأعمال المكلفين في عباداتهم لربهم وتعاملهم فيما بينهم أفرادا وجماعات.
وتقع هذه الناحية في آخر مراتب التشريع كما هو التدرج الطبيعي فإنه بعد أن استصلح العقائد والأخلاق تمهيدا لاستصلاح هذه الناحية عقب بها لينقاد المسلمون إلى تقبل الأحكام العملية المتعلقة بما يصدر عن الشخص المكلف من أقوال وأفعال وتصرفات فعرفهم من هو المكلف الذي يخاطب بأحكام الشريعة ويلزم بها وما هي العوارض التي تؤثر على الشخص فتجعله غير مكلف كما بين لهم الصحيح والباطل في تصرفاتهم والحلال والحرام في أعمالهم واتصالاتهم أفرادا وجماعات.
كما تناول أحكام العبادات التي يتقربون إلى الله بها من طهارة وصلاة وصوم وزكاة وحج.
وأشار إلى ما يجب في تملك الأموال من حقوق نحو الفرد ونحو المجتمع وما ينبغي أن يكون عليه التعاقد في ضوء تعاليم الإسلام.
كما أشار إلى النظم التي تحكم الأسرة من كافة نواحيها وتوضح علاقاتها في حياة الأفراد وبعد مماتهم.
وبيَّن الجرائم والجنايات وما يقابل ذلك من عقاب وجزاء.
كما أشار إلى نظام الحكم والتقاضي وطرق إثبات الدعاوى وتنفيذ الأحكام إلى غير ذلك من شئون الحياة.
النزعة الجماعية في التشريع الإسلامي
عني التشريع الإسلامي بصالح كل من الفرد والمجتمع ولكنه آثر صالح المجتمع على صالح الفرد وبذا حق أن يوصف بأن نزعته جماعية يوضح هذا أنه يعمل على الحد من سلطان الفرد إذا أساء استعمال حقه فأضر بغيره.(14/105)
فحقوق الأفراد في الإسلام منح إلهية قيدت بمراعاة الصالح العام وعدم الإضرار بالآخرين فلهذا يمنع المرء من عمل هو في الأصل مباح له إذا ترتب عليه إضرار بغيره لأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم روي عنه أنه قال: "لا ضرر ولا ضرار".
ومعنى هذا أنه يجب مقاومة كل عمل يترتب عليه الإضرار بالآخرين وإن كان في الأصل مباحا.
وهناك أحاديث تورد بعض تفصيلات لهذه القاعدة كنهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع أحد على بيع أخيه أو يخطب على خطبته إلا أن يأذن له ومن هذا جاء تشريع الشفعة فإنه حد من حرية المتبايعين وتقييد له يمنع ضرر الشريك أو الجار.
وعدم المضارة بالأفراد الآخرين مما يوفر الطمأنينة ويحقق ناحية من السعادة وفي هذا صلاح للمجتمع أيضا.
وهذه النظرة الجماعية نظرة إصلاحية عامة وهامة تبين ما في الإسلام من أحقية وخلود.
مميزات التشريع الإسلامي:
تبين لنا من نظرة الإسلام الجماعية أنه دين إنساني جدير بالخلود والبقاء وأنه يثبت جدارته بذلك على مر الأيام لما فيه من دعائم ثابتة وبنيان محكم متين وهذا يثبت لك ما يشتمل عليه التشريع الإسلامي من مطالب البشر وحاجات الناس مما يدعو إلى وجوب التمسك بأهدابه والاحتكام إليه فيما دق وجل فإن كل من تأمل فيه يقف على مدى مكانته في معالجة شئون العالم.
فالتشريع الإسلامي وهو خاتم الشرائع السماوية وأمها من عند الله علام الغيوب المنزه عن الخطأ والهوى.(14/106)
فهو تشريع يحيط بكل شئون الناس وحاجاتهم دون قصور أو زيغ بخلاف القوانين التي هي من وضع الناس وتفكيرهم المحدود الذي من شأنه أن يتحكم فيه الهوى أو يشتمل على نقص في المقدمات وأسباب الأحكام لهذا كان التشريع الإسلامي بما يشتمل عليه من التوجيه الروحي والتهذيب النفسي يربي يقظة الضمير والانتفاع بتوجيه القلب الطاهر الذي أصلحته تلك التوجيهات فهو ينبعث بصفاته إلى حب الخير وجلب النفع ومقاومة الشر.
بخلاف قوانين البشر فإنها مقصورة على التوجيه من ناحية الإرهاب والعقاب فكأنما يساق بها الناس سوق الدواب من غير توجيه ضمير إنساني ولا انبعاث خلقي.
التشريع الإسلامي يحفظ المقاصد التي يقوم عليها أمر الدين والدنيا
جاءت الشريعة الإسلامية رحمة بالعباد وفصلا بينهم فيما يختلفون فيه ومحافظة عليهم فيما هم محتاجون إليه.
فقد أحاط القرآن بأصول ما يلزم لحفظ المقاصد التي لم تأت الشرائع السماوية ولم تنشأ القوانين إلا لخدمتها والمحافظة عليها فإن عليها يقوم أمر الدين والدنيا.
وبالمحافظة عليها تنظم شئون الأفراد والجماعات.
وتلك هي المقاصد الخمسة الدين والنفس والعقل والنسل والمال فمهما تنوعت الشرائع واختلفت القوانين فإنها ترمي بأحكامها إلى المحافظة على هذه المقاصد التي عني القرآن بها فوضع من أصول الأحكام ما يحفظ كيانها ويكفل بقاءها ويدفع عنها ما يفسدها أو يضعف ثمرتها.
ثم جاءت السنة تشرح وتفصل وتبيِّن وتكمِّل وتضع للاجتهاد والاستنباط نماذج يحتذيها أولو الأمر فيما يجِّد من الحوادث.
فالدين لابد منه للإنسان الذي يسمو في معانيه المشخصة له عن الحيوانية إذ التدين خاصة من خواص الإنسان ولابد أن يسلم له دينه من كل اعتداء فللمحافظة على الدين وضع القرآن قواعد الإيمان وفرض أنواع العبادات من الصلاة والصوم والحج ثم حاطها بما يمنع عوامل الشر والفساد أن تعبث بها أو تمتد إليها.(14/107)
فأوجب عقوبة من يعتدون على الدين أو يصدون عن سبيله.
والمحافظة على النفس هي المحافظة على حق الحياة العزيزة الكريمة.
والمحافظة على النفس تقتضي حمايتها من الاعتداء عليها بالقتل أو قطع الأطراف أو الجروح الجسيمة كما أن من المحافظة على النفس المحافظة على الكرامة الإنسانية بمنع السب والقذف وغير ذلك من كل أمر يمس كرامة الإنسان وللمحافظة على النفس أباح القرآن جميع الطيبات وأحل البيع والشراء والرهن والإجارة وما إليها من المعاملات ثم شرع ما يمنع الاعتداء عليها فأوجب القصاص وفرض الديات.
والمحافظة على العقل حفظه من أن تناله آفة تجعل صاحبها عبئا على المجتمع ومصدر شر وأذى للناس. وهي تتجه إلى أن يكون كل عضو من أعضاء المجتمع الإسلامي سليما يمد المجتمع بعناصر الخير والنفع فإن عقل كل عضو من أعضاء المجتمع ليس حقا خالصا له بل للمجتمع حق فيه باعتبار أن كل شخص لبنة من بنائه إذ يتولى بعمله سداد خلل فيه فمن حق المجتمع أن يلاحظ سلامته.
وللمحافظة على العقل أباح الشارع كل ما يكفل سلامته ويزيد نشاطه وحرم ما يفسده ويضعف قوته.
ومن أجل ذلك حرم شرب الخمر وتوعد عليه.
ثم وكل أمر العقوبة الزاجرة فيه إلى بيان النبي صلى الله عليه وسلم.
والمحافظة على النسل هي المحافظة على النوع الإنساني وتربية أجياله على المحبة والعطف ليأتلف الناس وذلك بأن يتربى كل ولد بين أبويه ويكون للولد حافظ يحميه.(14/108)
وقد اقتضى ذلك تنظيم الزواج واقتضى منع الاعتداء على الحياة الزوجية كما اقتضى منع الاعتداء على الأعراض سواء أكان بفعل الفاحشة أم كان بالقذف وذلك كله لمنع الاعتداء على الأمانة الإنسانية التي أودعها الله تعالى جسم الرجل والمرأة ليكون منهما النسل والتوالد الذي يجعل حياة الإنسان باقية في هذه الأرض على أن تكون متآلفة قوية تعيش عيشة طيبة عالية فيكثر النسل ويكون قويا في جسمه وخلقه وعقله يكون صالحا للامتزاج والائتلاف بالمجتمع الذي يعيش فيه ومن أجل المحافظة على النسل كانت عقوبة الزنى وعقوبة القذف وغير ذلك من العقوبات التعزيرية التي وضعت لحماية النسل.
وللمحافظة على المال والعناية بأمر تدبيره ووجوه الانتفاع به شرع نظام المعاملات وحرم الغش والتغرير والربا وكل ما فيه أكل أموال الناس بالباطل.
وفرض ضمان المتلفات وشرع الحد في السرقات وهكذا نجد أن الأحكام التي شرعت لخدمة هذه المقاصد الخمسة والمحافظة عليها قصدت في ذلك إلى أمرين: الأول حفظها في أصل وجودها بتقوية أركانها وتمكين قواعدها والثاني حفظ بقائها ونموها لتؤتي الثمرة المرجوة منها وذلك بحمايتها من عوامل الفساد وأسباب الانحلال.
هذه هي المقاصد الخمسة التي تقوم عليها حياة الإنسان وبصلاحها يستقيم أمر الأفراد ونظام الجماعات.
وضع لها القرآن القواعد والأصول وقرر لكل نوع ما يناسبه من الأحكام قرر هذه الأحكام كليات وأتى فيها بعمومات لكنه مع ذلك لم يُغفل ما يراه منها في حاجة إلى تفصيل.
السنة توضح القرآن(14/109)
ثم جاءت السنة توفي ذلك حقه من الشرح والبيان فقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم بأقواله وأعماله أحكام ما كان يعرض للناس من الحوادث يستقيه من الوحي وقد وضع صلى الله عليه وسلم لنا مبادئ حكيمة في الأخلاق وأنواع العبادات وقواعد صالحة في نظام الأسرة وتربية الناشئين وأسسا متينة لأحكام روابط الاجتماع فسنَّ من القوانين في المعاملات والجنايات وعلاقات بعضها ببعض ما هو كفيل بإقرار السلام والأمن في الأرض وحتى آداب الأكل والشرب وآداب السلام وما ينبغي أن يكون في السفر والإقامة والصحة والمرض والغنى والفقر كل ذلك قد عني به وترك لنا فيه مثلا عالية للتربية والتعليم ونماذج صالحة للتهذيب والتثقيف.
ثم كان عليه الصلاة والسلام يجتهد ويجمع في الحكم بين المتماثلات بربط الأشياء بنظائرها ويلحق الفروع بأصولها منبها إلى علل الأحكام وأسرار التشريع وقد علم الصحابة بهذا أن أحكام الشريعة لها حِكمها وأسرارها ولها أسبابها وغاياتها لأنها شريعة خالدة عامة.
فوجب أن تكون أحكامها وافية بهذه الحاجة في كل عصر وهكذا كان رجال الصدر الأول من المسلمين يفهمون الشريعة من مصادرها ويستنبطون الفروع من أصولها فكانوا يجدون في هذه المصادر والأصول الكفاية بأحكام ما يأتون وما يذرون وما شعروا يوما أنهم مع هذه الشريعة عاجزون أن يواجهوا ما كان يتوارد عليهم من الوقائع ومختلف النوازل.
وكثير منها لم يكن لهم به عهد من قبل بل كان من نتائج الفتح الإسلامي وأثر من آثار اختلاط العرب بغيرهم من الأمم التي خضعت لسلطان الإسلام.
التشريع الإسلامي ملائم لكل البيئات
مما لا شك فيه أن التشريع الإسلامي الذي نزل الوحي بقواعده وأصوله الكلية صالح كل وقت ملائم لجميع البيئات.(14/110)
فقد بني على التيسير ورفع الحرج ودفع الضرر. قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقال جل شأنه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر} والنبي صلى الله عليه وسلم: "يسروا ولا تعسروا".
وقد ثبت من سيرته أنه صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.
والمتتبع لأحكام الشريعة الإسلامية يجد مظاهر هذا الأصل في شتى نواحيها فقلة التكاليف إلى مراعاة أعذار المعذورين إلى رفع التكليف أو عدم المؤاخذة في حالة الضرورة كل ذلك يدل في وضوح إلى اليسر وعدم الحرج أضف إلى ذلك أن القرآن في جانب تشريع المعاملات لم يعمد إلى التفصيل بل أتى بقواعد عامة صالحة للتطبيق في كل حين _ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} وقال أيضا: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} .
وهو بهذا يرمي إلى تحقيق مصالح الناس على اختلاف الأزمان والبيئات لأنه تشريع للناس كلهم قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} . فلو لم يكن محققا لمصالح الجميع لكان نقمة عليهم مع أنه جعله رحمة لهم قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} . وهو بحق يحقق العدل والمساواة بين الناس كلهم لأنه ينظر إلى الناس جميعا نظرة المساواة في الخضوع لأحكامه وفي المؤاخذة على مخالفتها لا فرق بين حاكم ومحكوم ولا بين غني وفقير ولا بين شريف ووضيع ولا بين أبيض وأسود. فلا يعفى شخص من المؤاخذة بماله من جاه وسلطان.(14/111)
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} . وقال جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} .
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
وبالجملة فقد قصد الإسلام بتشريعه تحقيق المصالح للناس ودفع المفاسد عنهم وكانت تشريعاته كلها مبنيَّة على أن مصلحة الجماعة مقدَّمة على مصلحة الفرد إذا ما تعارضت المصلحتان وأن دفع الضرر العام مقدم على دفع الضرر الخاص ومن هنا نهى عن احتكار الطعام وأمر ببيعه للناس وقت الحاجة وإن لم يرض صاحبه _ كما حرَّم الربا وشدَّد النكير فيه مع ما يحققه من نفع لصاحب المال حماية للمجتمع من جشع المُرَابِين ورحمة بالمحتاجين الذين يضطرون إلى مد أيديهم طلبا للقرض من أولئك المُرَابِين.
وهذه نزعة جماعية تحمي الجماعة من طغيان الأفراد وتسلط أصحاب الحقوق.
أهم المبادئ التي يدعو إليها الإسلام
الشريعة الإسلامية جاءت بمبادئ سامية تقود الناس دائما إلى الفلاح وتقضي على عوامل الشر والفساد ومن ذلك:(14/112)
أولا: مبدأ العدالة والمساواة فإن أحكامها بُنِيَّت على العدالة المطلقة والتسوية التامة بين الناس {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى".
ثانيا: مبدأ الشورى فقد جعل الإسلام الشورى أساسا للحكم فأمر نبيه بها قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر} وأمتدح المؤمنين بها فقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم} .
ثالثا: مبدأ التسامح فقد جاد الإسلام يدعو إلى التسامح مع الأفراد قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} ومع الجماعات المخالفة قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} .
رابعا: مبدأ التضامن الاجتماعي فقد حرص الإسلام من أول الأمر على أن يقرر حق الفقراء في مال الأغنياء ويحمل الأغنياء مسئولية كفايتهم.
وبما أسلفنا نكون قد أوضحنا أن التشريع الإسلامي صالح للتطبيق في كل زمان ومكان وأن تشريعا يستمد حياته من القرآن والسنة لن يقف في يوم من الأيام عن مسايرة الزمان.
محمد فهمي علي أبو الصفا
20 ربيع الثاني 1396 هـ ـ 19 أبريل 1976م
من سقطات (المنجد) .
ثلاث غلطات في خبر واحد(14/113)
يقول مؤلفو (المنجد) في تعريف الصحابي الجليل سعد بن معاذ رضي الله عنه: "إنه حمل اللواء في وقعة بدر، وضمد جرح النبي بعد وقعة أحد، وأخذ حكما في مصير الأسرى من يهود خيبر، فحكم بقتل رجالهم وسبي نساءهم واقتسام أموالهم".
ولا صحة لأي من هذه الأخبار الثلاثة. فسعد رضي الله عنه كان يحمل راية الأنصار في بدر وهي غير اللواء الذي كان مع مصعب بن عمير رضي الله عنه ولم يذكر سعد في من ضمد جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد. ولقد عاجله الأجل قبل غزوة خيبر. وإنما كان تحكيمه في قريظة عقيب غزوة الأحزاب.
المجذوب(14/114)
العدد 38
فهرس المحتويات
1- افتتاحية العدد - كلمة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز
2- دراسات حول إعجاز القرآن الكريم في القرن الثالث الهجري: لفضيلة الدكتور صادق إبراهيم خطاب
3- القاضي عياض ومفهومه للإعجاز القرآني: لفضيلة الدكتور أحمد جمال العمري
4- رسائل لم يحملها البريد: لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
5- ثمار من غرس النبوة رجال ومواقف: لفضيلة الشيخ محمد الشال
6- فتح العرب للأندلس: لفضيلة الشيخ محمد أبو زيد طنطاوي
7- تعقيب لا تثريب - إبراء للذمة وتذكيرا بالحق: لفضيلة الشيخ: محمد المجذوب
8- الفكر والفلسفات المعاصرة - الاستشراق وجهوده وأهدافه في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته: للدكتور عبد المنعم محمد حسنين
9- الشيوعية في الميزان: لفضيلة الشيخ/ محمد علي عبد السميع
10- ولم يزل أعداء الأمة يمكرون: لفضيلة الدكتور محي الدين رمضان
11- دراسات في التربية والتعليم لمحة عن التربية الإسلامية: لفضيلة الدكتور محمد نغش
12- حديقة الشعر - قال لي صاحبي: لفضيلة الشيخ معوض عوض إبراهيم
13- المكتبة الإسلامية - حول كتاب: الحمد لله هذه حياتي بقلم الدكتور عبد الحليم محمود
لفضيلة الدكتور: عبد المنعم حسنين
14- حكم من يسخر من القرآن وأهله: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
15- أخبار الجامعة - مجلس الجامعة
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(14/115)
افتتاحية العدد
كلمة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز
ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في الحفل السنوي لخريجي الجامعة لعام 96/97هـ مساء يوم السبت 16/7/97هـ بمقر الجامعة.
أيها الإخوة..
أحمد الله - تبارك وتعالى - وأصلي وأسلم على نبيه محمد، خاتم أنبيائه ورسله، وخيرته من خلقه هادي البشرية إلى خير البشرية، ورائدها على طريق سعادتها في دنياها وأخراها، وعلى آله وصحبه.
وبعد:
يسرني أن أحضر هذا الحفل السنوي للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، مهبط الوحي الإلهي الذي عمّ نوره أرجاء الدنيا، وعاصمة الإسلام الأولى التي أعطت المثل الأعلى للحياة الكريمة والحضارة الرشيدة.. هذا الحفل الذي تقيمه الجامعة، بمناسبة تخرج فوج من أفواجها المتتالية، الذين يتزوّدون منها بخير زاد من العلوم والمعارف الإسلامية؛ ليعودوا منها إلى بلادهم في شتى أنحاء العالم مجاهدين في سبيل نصرة دينهم وإعلاء كلمة ربهم، مساعدين أقوامهم وبلادهم على التقدم والازدهار.
وإن المملكة - وعلى رأسها جلالة الملك خالد بن عبد العزيز حفظه الله، من منطلق مسئوليتها الكبرى عن نشر دعوة الإسلام دعوة الحق والخير والسلام، في مشارق الأرض ومغاربها، والعمل بكل إمكانياتها على ما فيه خير المسلمين وعزتهم واستعادة مكانتهم في قيادة ركب الحياة على طريق الخير والهدى - لتولي هذه الجامعة التي أنشئت من أجل الإسهام في تحقيق هذه الغايات السامية كل عنايتها ورعايتها، حتى تؤدي رسالتها، وتحقق أهدافها بعون الله تبارك وتعالى، وإني لأرجو أن يكون لخريجي الجامعة الدور الكبير والأثر المرجوّ في الدعوة إلى الله، وفي تغيير الحياة إلى الصورة المثلى والمستقبل الأفضل.(14/116)
وعلى الشباب المسلم المثقف في كل مكان أن يواجه بإيمانه وعلمه وعمله الجادّ المخلص تحدّيات العصر؛ لتعود سفينة الحياة بقيادته الواعية الرشيدة إلى طريقها المستقيم، الطريق الذي هدى الله عزّ وجلّ إليه عباده ورتّب على سلوكهم إيّاه سعادتهم ورخاءهم في الدنيا وفوزهم ونعيمهم في الآخرة.
وعلى الجامعات أن تبذل كلّ جهودها في إعداد هذا الشّباب تعليما وتثقيفا وتربية؛ يتحمل مسئولياته في غده، على بصيرة بدينه، ومتطلبات عصره، وأهداف حياته.
أسأل الله عزّ وجلّ أن يوفّقنا ويعيننا جميعا على ما فيه خير ديننا ودنيانا؛ إنه سميع مجيب..(14/117)
ولم يزل أعداء الأمة يمكرون
لفضيلة الدكتور محي الدين رمضان
كلية الآداب بجامعة اللآذقية
إن في عالم فكرنا المعاصر ظاهرة لا تخفى على أحد، تلك هي اضطراب المفاهيم الإسلامية لدى أغلب فئات الأمة، حتى كأنها مبتدعات الأفراد والجماعات؛ فلا تكاد هذه المفاهيم تستقل بذاتها ولا بمضمونها، ولا تكاد تأتلف في جزئياتها، ولا تلتئم في أساليبها، وهكذا هي سواء في أمور العقيدة والعبادات التي يرثها المسلم دون مناقشة ولا تمحيص، أم في أمور العلاقات فيما بين الفرد والجماعة، أم في أمور الحكم والتشريع، أم في أمور المعاملات وغير ذلك.
وأسباب ذلك كثيرة تتلخص في فوضى مناهج التربية وتضارب أفكارها ومبادئها، وهو شيء مهّد له منذ أبد، وأنفق الممهدون له جهدا ووقتا طويلا، ولم يكن ارتجالا أو خبط عشواء، وإنما هو النافذة التي فاجأ هؤلاء المتربصون منها هذه الأمة بعد أن أعيت عليهم المذاهب مدى قرون عديدة، وكانت هذه النافذة هي الثقافة والفكر والتربية ومناهجها والتعليم وأساليبه، فأجدى هذا أي جدوى بعد أن فلّ السيف وأُخرس المدفع ودحرت الجيوش.
فكل ما يتصل بالثقافة والفكر وأسباب نشرهما والحرص على إذاعتهما، والعناية بهما وما يستوجب هذا كله كانت مفاتيح بأيدي هؤلاء الناس الذين وجهوا العقول، واستمالوا القلوب حتى أذلوا الرقاب، وخلصوا إلى النفوس، وامتلكوا كل زمام دون أن يتكبدوا ما تكبده أسلافهم جيوشا وعتادا وجهودا وأموالا ثم لم يفلحوا، واتخذت هذه الجهود الماكرة صورا شتى بدأت برجال الثقافة والبعثات العلمية والمعونات الطبية، ثم المعاهد التبشيرية تناثرت هنا وهناك، وانتهت إلى صور أخرى يراها البصر ولا تدركها البصيرة.(14/118)
وقد كثرت وسائل الإعلام من صحف ومجلات ونشرات وسينما وراءٍ [1] ، وتطورات أساليب التوجيه والتأثير، وأنجزت هذه كلها مراحل من المخططات العديدة التي كان همها الأكبر هو تنشئة شخصية ليس لها طابع مميز إلا أن يكون تبعا إمعة، تتنكر لأمتها وماضيها وتستهين بتراثها وتنعى عليه، وتتعلق بالأجانب وبما أتوا به، ويقلدونهم ويرون فيهم أئمة يقتدون بهم، ويحرصون على القوال بآرائهم واعتقادها والتسليم بها، وهؤلاء الذين استطاعت تلك المعاهد والبعثات أن تحتويهم وتربيهم وتعلمهم، وكانوا طلائع فئات من الشباب والرجال صاروا إلى مناصب في طول البلاد وعرضها، وقاموا بما نشئوا عليه وعُلِّموه، بما عوّل عليهم معلموهم ومربوهم؛ فأدوا عنهم ما كان موكولا إلى هؤلاء من الجديد الخطر تربية وفكرا وثقافة، ونابوا عنهم في مهمتهم، وبهذا تواروا عن الأنظار كغرباء، يمكن أن يبعث ظهورهم عند الأمة على الاستيقاظ والانتباه، وهذا من مكرهم وغفلة الأمة عما يدبر لها.
وليس هذا كله من هؤلاء المكيدين بدعا ولكنه صورة متجددة الشكل متفقة المضمون، وهو شيء تشرحه الآية الكريمة وتدل عليه قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَق} (البقرة 109) .
وهذه الرغبة العارمة عند هؤلاء هي الدافع لهم إلى كل محاولة لصرف المجتمع المؤمن عن الجادة بكل وسيلة ودون توان، ورغبة الإفساد سببها الحسد الذي ذكر في الآية، وهذا الحسد إنما هو لخير ما أوحى به تعالى من كتابه العزيز إلى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو ما تقدّم ذكره في آية هي قوله عز وجل: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} (البقرة 105) .(14/119)
ولا يتحقق لهؤلاء ما يرغبون فيه ويسعون إليه بنشر الفساد بين الناس، ولا يتم لهم الفساد ولا يتأتى إلا بأسباب وأساليب، ولا بدّ لهم من سعي وجهد، وأيسر أسباب الفساد وأجدى أساليبه تزيين المعاصي والمباعدة بين الدين وأهله، وتهوين أمر الكفر والعصيان، وهو ما حرض عليه أهل الكتاب من بني إسرائيل بعد أن كفروا وطغوا، فقال فيهم عزّ من قائل: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (المائدة 64) .
وكذلك إشاعة الفاحشة بين المؤمنين وهي إحدى الطوامّ القوا صم التي تحلق الدين، وتوهي أواصر المجتمع، وقد قال سبحانه فيها: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (النور 19) .
وتكفي الملاحظة الخاطفة إلى ما يتصل بهذه الظاهرة من عناية مصممي الأزياء وثياب الجنسين وأشيائهما، وما يتعلق بالرجل والمرأة جنسين متميزين، وما ينشأ من تأثير أحدهما في الآخر إغراء وإثارة، فذلك يكفي في الكشف عن غرض هؤلاء الناس.
وهناك ظواهر كثيرة يجدر بأهل الغيرة من علماء وباحثين وكُتَّاب أن يولوها عنايتهم في رصدها والكشف عنها وتحليلها بما يقف جمهور الأمة على وجهها وينبه أولي الأمر كيما يوجهوا بما يناسب ويحول دون هؤلاء المتربصين وكيدهم.
وينبغي أن يقترن هذا بالتوجيه والتربية الكفيلين بحماية الفرد والجماعة من هذه الأشراك الخفية، ويتم هذا التوجيه وتلك التربية في كل بيئة من بيئات المجتمع، الأسرة والعمل والطريق والمدرسة، وذلك أن هذه البيئات متكافلة متواشجة الصلة جدا.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] هو التلفزيون.(14/120)
دراسات في التربية والتعليم
لمحة عن التربية الإسلامية
لفضيلة الدكتور محمد نغش - كلية الشريعة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد النبي الأمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فالتربية الإسلامية هي الوسيلة للسعادة في الدارين الأولى والآخرة، بها تتكون شخصية المسلم المؤمن بربه، والمطيع لأوامره والمتجنب لنواهيه، المتمسك بدينه، الذي يؤدي رسالته في الحياة بأمانة، ويعمل للآخرة متبعا الكتاب والسنة، محاربا كل بدعة، مطيعا لربه العليم؛ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [1] ، ومقتديا بسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم؛ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِر} [2] .
والتربية معناها التنمية للقوى العقلية والخلقية والجسدية، وكلمة الأدب الواردة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أدبني ربي فأحسن تأديبي" [3] معناها أن الله سبحانه وتعالى هو الذي ربّى نبيه ليكون خير قدوة للبشرية، وقد منحه سبحانه هذه الشهادة الممتازة، {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [4] .
وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تربية الرجال والنساء والأولاد، مثلما جاء في الأحاديث الثلاثة التالية: "أوقفوا أنفسكم وأهليكم بتقوى الله وأدبوهم" [5] ، و"أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم" [6] ، و"مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع" [7] .
التربية الأبوية:(14/121)
إن هذا تقسيم تدريجي، محكم الحلقات في أصول التربية الأبوية الإسلامية، وضعه خير البرية ليساير أرقى النظريات التربوية الحديثة؛ فمعظم ما يقوم به الإنسان مرجعه إلى العادات، والعقوبات الوسيلة الناجحة لمعالجة الانحرافات، وكلما كانت في سن مبكرة أثمرت ثمرة طيبة، والتفرقة بين الآباء والأبناء في المضاجع منذ العاشرة يجعل لهم شخصية مستقلة، ولنستمع إلى قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [8] ، هذا الاستئذان رمز لكل الآداب الأخرى، صغيرة كانت أو كبيرة، فيه توجيه حسن للسلوك الفردي، وتهيئة للسلوك الجماعي اللازم في مواجهة الحياة، وهو أعظم هبة يهبها الله ورسوله المؤمنين في تعليم تلك البراعم الصغيرة، وهو شرع يتوارثه الأخلاف عن الأسلاف، وتقليد فيه خير لكافة الأجيال، فيه يعرف الفرد ما له من حقوق وما عليه من واجبات، وهو الأدب الحسن الذي يسيطر على النوازع والرغبات، وبه تتحقق هذه الأمنية الغالية؛ {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [9] .
والذي يعلّم ولده فيحسن تعليمه، ويؤدبه فيحسن تأديبه فقد عمل في ولده عملا حسنا، {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} [10] .(14/122)
وهذا الواجب يتقاسمه الوالدان بصفتيهما الأبوية، ويشاركهما في هذا الواجب أب روحيّ وهو المدرس، فإذا شعر بمسئوليته تجاه الله والمجتمع، عرف أن التربية أمانة في عنقه، وأن جزاءها تضعيف الأجر؛ {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَة} [11] ، فالآباء هم القدوة للأبناء؛ إذ يقلدونهم في سلوكهم الحسن منه أو الرديء، فليكن الأب لابنه مصباح هداية، وليحذر أن يكون مفتاح غواية، وللموعظة الحسنة أثرها بجانب السلوك السوي، وخير ما نلقنه للأبناء وصايا الرحمن على لسان لقمان لابنه؛ فهي تجمع بين الإيمان والتوحيد، والدعوة إلى الخلق القويم، {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ … يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ، وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [12] .
ولرسول الله صلى الله عليه وسلم وصايا عديدة، من اقتدى بها حصل على مزايا جليلة [13] ، يقول رسول الله صلوات الله وسلامه عليه في وصية له: "اضمنوا لي ستا أضمن لكم الجنة؛ اصدقوا إذا حدثتم، وأدوا الأمانات إذا ائتمنتم، وأوفوا بالعهد إذا وعدتم، غضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم، وكفّوا أيديكم" [14] ، إن هذه الوصية الجليلة من جوامع الكلم، تجمع آداب السلوك الاجتماعية اللازمة لسعادة البشرية.
فالله خلق الإنسان وأنشأ له الإرادة، فعليه الاختيار إما أن يفعل الخير فيصير من الأبرار، وإما أن يفعل الشر فيصبح من الأشرار، والجزاء معروف؛ فلهذا الجنة ولذلك النار.(14/123)
ولذا يحرص الآباء المسلمون على تعليم أبنائهم تعاليم الدين ويبدأون بحفظ القرآن الكريم؛ لتتحد البواعث الدينية في نفوسهم مع البواعث الشخصية منذ نعومة أظافرهم.
وهذه هي الوسيلة السليمة لتنشئتهم النشأة القويمة التي تؤتي ثمارها الطيبة بإذن ربها.
التربية المدرسية:
والمدرسة من أكبر العوامل في تكوين الشخصية، خصوصا في المرحلة الأولى حيث يتصل الطفل بغيره من الصبيان ممن هم في مثل سنه أو ممن يكبرونه أو يقلون عنه قليلا، ويتصل أيضا بالمدرس الذي يعده التلاميذ قدوتهم، ويقلدونهم في سكناته وحركاته، فمحاكاة الحركات والأعمال أسبق من محاكاة المعاني والآراء.
ففي المرحلة الأولى من حياة الصبي يقع سلوكه في دائرة تأثير المعلم، وتأثير الصبيان الذين يختلط بهم، وتأثير آبائه في المنزل، فإن صلحت هذه الدائرة نما الطفل وترعرع بين الفضيلة، وإن فسدت انغمس الصبي في متاهات الرذيلة، ولهذا يجب الحرص على أن يتنفس أبناؤنا - فلذات أكبادنا - في جو إسلامي صحي، فمن الخير للإنسان المبادرة بتكوين العادات الفاضلة في الأبناء حتى تتأصل فيهم، وتنزل منزلة الطبع؛ لأن الإقلاع عن العادات المرذولة إذا تمكنت يكون شاقا عسيرا.
من هذه الصفات الخلقية التي يجب أن يتحلى بها الصبيان الطاعة لله ورسوله أولا وقبل كل شيء ثم لأولي الأمر، وفي القرآن آيات كثيرة تحث على الطاعة بل تأمر بها، فقد أمر الله المرأة أن تطيع زوجها، والابن أن يطيع أباه، والمعلم يحل محل الوالد، ومنزلته هي نفس منزلته، ولذلك تجب طاعة الصبيان له.
ومن الصفات الخلقية التي يجب أن يتعودها الصبيان النظام؛ لأن الفوضى مفسدة للمجتمع، ومضيعة للتعاون الضروري للحياة الإنسانية.(14/124)
ويجب أن يكون للإشراف الاجتماعي والرياضي دوره الفعال في الاستعلاء بالغريزة الجنسية عندهم، وقد حذّر القابسي الفقيه السني من خطورة الاختلاط بين الطلبة بقوله: "وإنه لينبغي للمعلم أن يحرس بعضهم من بعض، إذا كان فيهم من يخشى فساده، يناهز الاحتلام، أو يكون له جرأة".
وهو أسلوب وجيز العبارة، لطيف الإشارة، يدل على عفة في نفس المؤلف، تحمله على الابتعاد عن الإطالة في مواطن الفحشاء والمنكر [15] .
والإعلاء بالغريزة الجنسية والتسامي بها يأتي من استغراق الجهد واستنفاذ الطاقة وتحويلها إلى عمل نافع للفرد والمجتمع، وليكن قول الله رائدنا {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [16] .
فالعبادة - وبخاصة الصوم - وقاية للمؤمن؛ فهي تملأ قلبه بالطمأنينة، وتذهب عنه وساوس الشيطان؛ إذ يتيقن أن ما يفعله هو استجابة لأمر الرحمن حين يقول: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [17] .
وبهذا الأسلوب تنتصر الإرادة على الهوى، والإنسانية على الحيوانية، وإن لنا في قصة يوسف لعبرة.
تربية الدعاة:
ولتخريج الدعاة إلى الله يستلزم الأمر تهيئة بيئة إسلامية سليمة يعيش العاملون فيها ونفوسهم مفعمة بحبّ الرحمن، الذي خلق الإنسان علمه البيان، وقلوبهم مؤمنة بخلود رسالة الإسلام وصلاحيتها لكل زمان ومكان.
يجب أن تكون عقيدة المعلم والمتعلم مبنية على التوحيد لله رب العالمين، وفهم القرآن فهما دقيقا؛ فعلى الإنسان أن يعيش مع آياته الكريمة حتى يكون خلقه القرآن، فهو الكتاب الوحيد الذي يرافقه في رحلته طيلة حياته، يحل به كل مشكلة، وينتصر به على كل معارضة، ويفوز به في الدنيا والآخرة، إنه مفتاح السعادة وباب الرحمة.(14/125)
ويجب أن تدرّس السنة المحمدية؛ فبها ينتظم المجتمع على أسس قويمة، فهي تزكية للنفوس الإنسانية، وهي هادية لفهم الآيات السماوية، إنها الوحي الثاني من رب البرية.
وأن يهتم الدارسون بالكشف عن جوانب العظمة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وصلاحية هذه الشخصية الكريمة لتكون قدوة لجميع الأجيال، وأسوة حسنة لجميع طبقاتها وأفرادها؛ إنها الشخصية التي لا تسعد البشرية ولا تتزن الحياة ولا يقوم المجتمع الصالح إلا بالاقتداء بها واتخاذها إماما ورائدا [18] ، ويتفرع من هذين الأصلين الثابتين كتاب الله وسنة رسوله علوم الدنيا والدين.
فلننظر مثلا في فرع كالشريعة الإسلامية، ولنطبق ما فيها من حكمة بالغة ومقاصد نبيلة، مع مراعاة تطور العصر الحديث، وما جدّ فيه من نظريات وأفكار شملت الحياة بأسرها، وتناولت العلوم كلها.
ولنأخذ بعين الاعتبار أن تكون علوم اللغة العربية أدوات لمعرفة ما في هذين المصدرين من كنوز وضعها الله لعباده؛ رحمة بهم وجعلها خيرا وشفاء لما في صدورهم.
وكما نعلم أن كتاب الله لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها؛ فعلوم البشر النظرية أو العقلية ضئيلة، وهي مستمدة من علم الله الذي لا حدود له، ولا يمكن الإحاطة به، فلنتخذ القرآن سراجنا إلى السعادة.
فالله يرشد عباده في كثير من آياته إلى الحياة الاجتماعية الفاضلة؛ فيحثهم على الزواج وينفرهم من الزنا، وينظم الحياة الأسرية على المحبة والمودة المتبادلة والأواصر المتينة المبنية على أسس سليمة، ولا قيمة للعبادات إذا لم تكن لصالح الجماعات المحتاجة إلى الإعانات، كما في قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [19] .(14/126)
ولما كان المال عصب الحياة فقد ورد في القرآن الكريم الحثّ على الإنفاق في صور شتى، كالصدقة والزكاة وعتق العبد وإطعام المسكين والعناية باليتيم.
وقرن سبحانه وتعالى الإحسان بالوالدين بعبادته الحقة فقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [20] .
والله يعلم أعمالنا كبرت أم صغرت؛ {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [21] ، {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [22] ، بل أكثر من ذلك {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [23] .
والهدف من وراء ذلك هو ألا يعمل الإنسان إلا الخير، ولا يفكر إلا في الخير؛ {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [24] .
أن يعلم كل فرد أن الله رقيب عليه، وأنه أقرب إليه من حبل الوريد، وأنه يحاسبه بالعدل الذي هو أساس ملكه، سبحانه وتعالى لا يظلم أحدا؛ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [25] .
يا أخي اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فالإيمان بالله وحده والتزام عبادته، والاعتصام به سبحانه، هي الوسائل الفعالة في التربية المؤدية إلى حياة الضمير ويقظته، والعبادة العملية هي الطريق الصحيحة إلى تثبيت ذلك وتدعيمه.(14/127)
فالصلاة - وهي الركن الركين في الإسلام - عبادة الغرض منها معرفة الله، وذكره في كل وقت، ودوام الذكر هو السبيل إلى يقظة الضمير، لهذا السبب نصّ الفقهاء على وجوب انصراف المرء في الصلاة إلى ذكر الله، مع عدم الانشغال بأي أمر من أمور الدنيا، والصلاة المفروضة على المسلمين يؤدونها في خمسة أوقات متفرقة من كل يوم لدوام الذكر [26] ، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [27] .
ولا تصح الصلاة بغير وضوء؛ لأنه شرط للصلاة، والوضوء غسل وطهارة ونظافة، والنظافة من الفضائل الشخصية العظيمة الأثر في الصحة، كما تنتقل فائدتها إلى النفس فتطهرها، ذلك أن الشعور بالنظافة الظاهرة يهيئ الإنسان إلى النظر في المعاني بنفس الأسلوب؛ فيعف اللسان ويطهر الفكر، فالإنسان مطالب بطهارة الجسم كما هو مطالب بطهارة القلب والنفس، لذلك ينبغي أن يكون صادقا عفيفا، أمينا، حافظا للعهد [28] .
وأسلوب القرآن حكيم في الترغيب في الدين والترهيب من الخروج على مبادئ الإسلام والمسلمين؛ لعلمه سبحانه بالطبيعة الإنسانية التي فيها التفكير والتدبير، وفيها المحبة والكراهية، وسلوك الفرد يتحرك بدافع من الرأي والنظر، ويتحرك بقوة الخوف والغضب، وقد وصف الله الجنة في محكم آياته ليكون الناس على بصر بما يلقون من ثواب هو النعيم الذي إليه يشتاقون، وفي نفس الوقت صور الجحيم وما فيها من عذاب أليم ليكون المجرمون على علم بما ينتظرهم يوم الدين.
وهكذا يرسم الدين الإسلامي للناس قواعد التربية السليمة التي ينبغي أن يسيروا عليها، ولن يضل الناس طالما تمسكوا بالقرآن والسنة على الرغم مما يسود العالم من فساد رأي يدعى بالحرية، ووقاحة فكر تنعت بالجرأة، وفلسفة مادية ملحدة تحاول تفسير كل شيء على هواها، إنها مضللة مفسدة.(14/128)
إن الدين الإسلامي ينظم أفعال المرء مع نفسه، وأفعال المرء مع غيره، فالله سبحانه ينصح الإنسان بالاقتصاد في المال، كما يقتصد في تناول الطعام والشراب لصلاح حاله وصلاح جسده، فيقول: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْط} [29] ، ويقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [30] ، هذه فضيلة الوسط بين الإفراط والتفريط التي لا تتلاءم مع الحياة الواقعية.
ويرى جولد زيهر: "أنه إذا أردنا الإنصاف ينبغي أن نؤمن أن في مذهب الإسلام قوة صالحة توجه الإنسان نحو الخير، وأن الحياة المتفقة مع التعاليم الإسلامية حياة أخلاقية لا غبار عليها، ذلك أنها تتطلب الرحمة نحو جميع مخلوقات الله، والوفاء بالعهود، والمحبة والإخلاص، وكفّ غرائز الأنانية" [31] .
فالإسلام شريعة سمحة تدعو الإنسان إلى الخير والرحمة، وتحثه على الإخلاص والمحبة، وتقضي على الأنانية التي هي آفة البشرية.
وإذا كان أصحاب الكهف مثلا للشباب المستبصر الذي لم تطمس ظلمات الكفر في بيئته شعاع فطرته، ولم تشب أوضاع الضلال صفاء استقامته فإن المجتمع الإسلامي لا يترك شبابه لهذه المعاناة، ولا يعرضهم لهول هذه المحن، فهو مجتمع يقوم على الإيمان بالله وتحقيق شريعته، ومن هنا فهو حريص على أن يحمي ناشئته من الفتنة، ويقيهم سبل الضلال والغواية، فلا يكل توجيههم إلى قلوب مريضة، ولا يترك زمامهم بأيد ملوثة، بل يوفر لكل ناشئ فيه جوا صالحا تزكو فيه الفطرة وتتفتح أزهارها.
فأئمة الضلال حين يتولون التوجيه والتنشئة يصبغون الأجيال بصبغتهم، ويوجهون بها إلى طريقهم؛ فيضل المجتمع ويشقى [32] ، وهذا مصداق لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" [33] .(14/129)
فإذا شبّ الفتيان على العقيدة السليمة، ورسخت في نفوسهم العادات الحميدة استحقوا أن يوصفوا بما وصف به أهل الكهف من قبلهم ِ {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [34] ، إن أهل الكهف قد راعهم ما تردى فيه قومهم من الشرك بالله، فاعتزلوا بهتانهم، ونجوا بأنفسهم حتى لا يصيبهم ذلك البلاء، ولا تتسرب إليهم تلك الأدواء، إنهم لجأوا إلى الكهف ينشدون من الله الرحمة، وأن يثبت قلوبهم على الإيمان به، ويهديهم بنور الحقيقة، ويفتح لهم أبواب المعرفة؛ ليبنوا بسواعدهم الفتيّة وعزائمهم القوية مجتمعا جديدا خالصا من أدران الوثنية والشرك برب البرية.
والدعاة من الشباب المسلم يصنعون بإذن الله الخير للناس كلهم، فينقذون العالم من الظلام الذي يعمهم، ومن المفاسد التي سرت بينهم إلى حد بعيد؛ حتى أصبح الناس منها في كرب عظيم.
والشباب المؤمن يملك القوة ويتحمل المسئولية مستجيبا لأمر ربه، ناشرا رحمته وعدله.
وأملنا أن يحقق هذا الشباب رسالة السماء ويكسب العالم الأمن والصفاء، ويعيش الناس في سعادة وهناء في ظل شريعة الإسلام السمحاء.
وأخيرا فهذه كلمة كتبتها موجزة، ولكن التربية الإسلامية تحتاج إلى دراسة مستفيضة، أرجو الله تعالى أن يوفقني إلى القيام بها، فالعالم في حاجة ملحّة إليها، وستكون إن شاء الله الهادية له من الضلال والظلام والمنقذة له من الغرق والآلام.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة الحشر الآية 7.
[2] سورة الأحزاب الآية 21.
[3] النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير ج 1 ص 3.
[4] سورة القلم الآية 4.
[5] رواه البخاري.
[6] رواه ابن ماجة.
[7] رواه أبو داود والحاكم واحمد في مسنده.
[8] سورة النور الآية 59.(14/130)
[9] سورة الفرقان الآية 74.
[10] سورة النساء الآية 124.
[11] سورة البقرة الآية 245.
[12] سورة لقمان الآية 13،17،18.
[13] من وصايا الرسول لطه عفيفي (عشرة أجزاء) .
[14] أخرجه أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه.
[15] الدكتور أحمد فؤاد الأهواني: التعليم في رأي القابسي ص 118.
[16] سورة الشرح الآية 7، 8.
[17] سورة النور الآية 33.
[18] نحو التربية الإسلامية الحرة لأبي الحسن علي الحسن الندوي ص 93.
[19] سورة الماعون الآية 7.
[20] سورة الإسراء الآية 23.
[21] سورة يونس الآية 61.
[22] سورة الحديد الآية 4.
[23] سورة ق الآية 16.
[24] سورة البقرة الآية 235.
[25] سورة الزلزلة الآية 7، 8.
[26] الدكتور أحمد فؤاد الأهواني: التعليم في رأي القابسي ص 102.
[27] سورة الذاريات الآية 55.
[28] الدكتور أحمد فؤاد الأهواني: التعليم في رأي القابسي ص 115.
[29] سورة الإسراء الآية 29.
[30] سورة الأعراف الآية 31.
[31] أحمد فؤاد الأهواني: التعليم في رأي القابسي ص 96.
[32] الدكتور مصطفى عبد الواحد: المجتمع الإسلامي ص 167.
[33] أخرجه الطبراني والبيهقي.
[34] سورة الكهف الآية 13.(14/131)
حديقة الشعر
قال لي صاحبي
لفضيلة الشيخ: معوض عوض إبراهيم
كلية الشريعة وأصول الدين
لك ما قصته من الأبناء
قال لي صاحبي وإني لراد
ويجيبون في ارتياح دعائي
أترى القوم يحمدون مقالي
شهوات لا يسمعون ندائي
أم تراهم كما أراهم أسارى
ناصحا للعِدا وللأصدقاء
قلت حدّث فما أظنك إلا
فتن العيش عن حياة النقاء
قال: إن الكثير قد صرفتهم
حسبُه أنه من الأعداء
واستباهم فكر جديد دخيل
ليس يزكو في نور وحي السماء
وهو لو فكروا سراب وزيف
دونها بالحجارة الصَّماء
ويحَ من يترك اللآلي ويرضى
ن أو هدي سيد الأنبياء؟!
واللآلي ماذا تكون من القرآ
أمعنوا في الجهالة الجهلاء
قلت هذا مصابنا في أناس
كالأوالي، ولا النّسا كالنساء
لست ألفي الرجال منهم رجالا
كي يعودوا من عالم الأهواء
فادعهم جاهدا فأني سأدعو
يقتدى الدين في دواعي الفداء
علَّنا أن نكون لله جندا
م نهج السلام والعلياء
ويقيم الحياة في كنف الإسلا(14/132)
المكتبة الإسلامية
حول كتاب: الحمد لله هذه حياتي بقلم الدكتور عبد الحليم محمود
لفضيلة الدكتور: عبد المنعم حسنين - كلية الدعوة وأصول الدين
نشر الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر أخيرا كتابا تحت عنوان (الحمد لله هذه حياتي) ، سجَّلَ فيه جزءا من الأحداث التي مرّت به منذ ولادته إلى حصوله على درجة الدكتوراه، وذكر في نهاية الكتاب أن جزءا ثانيا من الكتاب سيصدر في المستقبل، وقد تتلوه أجزاء أخرى على حسب الأحداث التي مرّت بحياة فضيلته التي جاوزت ثلثي قرن من الزمان.
وأحب أن أقول إن قيام شخص بكتابة تاريخ حياته عمل لا يمكن أن يتم بصراحة وحَيدة وتنزه عن المبالغة؛ لأن الإنسان مهما تجري الدقة والأمانة لا يمكن أن يتخلى عن عواطفه وبخاصة نحو نفسه، فالإنسان يحب نفسه حبا مفرطا يجعله لا يرى عيوبه، ويدفعه إلى مداراة هذه العيوب إذا استطاع إلى ذلك سبيلا، والإفراط في ذكر المحاسن والمزايا؛ فلا يعقل أن ينقد إنسان نفسه أو يذكر عيوبه ونواقصه، ولذلك لم نر كاتبا تحدث عن نفسه وذكر عيبا خطيرا فيه أو منقصة تخل بالشرف أو تقوض دعائم الخلق القويم، وكثيرا ما تنشر المذكرات الخاصة بشخص بعد وفاته، فإذا هي تتناقض ما كتبه في كتاب نشره على الناس في حياته، وهذه هي طبيعة الإنسان في كل عصر وأوان، لا يرى عيوب نفسه، وإذا رأى بعضها لا يذكر عيبه أمام الناس حتى ولو ذكره في مذكراته الخاصة التي يعلم أنها لن تنشر في أثناء حياته، فإن نشر شيئا من مذكراته في أثناء حياته حذف منه ما سجله من عيوب نفسه.(14/133)
وهذا ما نلاحظه في كتاب الدكتور عبد الحليم محمود (الحمد لله هذه حياتي) فهو في هذا الكتاب الذي يعدّ من قبيل الكتابة الذاتية لا يذكر شيئا يعيبه، لا في خلقته ولا في خلقه وسلوكه، ولا في حياته في داخل مصر وخارجها، وحتى الأحداث التي ذكرها وبدا فيها عيب لم ينتبه الشيخ إليه حين ذكره، وظن أن في ذكره نوعا من الظرف أو التظرف، وشيئا من الدعابة التي يمتع بها القارئ، ويسري بها عن الفارق في الاطلاع على تاريخ حياة الشيخ وما جرى فيه من أحداث كلها طيبة في رأيه بدرجة جعلته يحمد الله على حدوثها في الصورة التي حدثت بها.
وفي رأيي أن شيخ الجامع الأزهر كان ينبغي عليه أن يعف عن مثل هذه الكتابات الذاتية التي لا تحمل غير معنى الدعاية لنفسه، والتباهي بماضيه وحاضره، وأن يستعمل قلمه ومواهبه في الدعوة إلى دين الله، وفي إرشاد الحيارى الضالين من أبناء المسلمين، وفي محاربة الفساد والانحراف، وفي إخراس صوت الشيوعيين، وفي دعوة الناس إلى عبادة الله إله واحد لا شريك له وترك عبادة غير الله.
ولكن شيخ الأزهر آثر أن يدعو لنفسه، ويعرف بشخصيته ويظهر نفسه في صورة لم يكن يتمنى لنفسه أفضل منها، ويتحدث عن فرنسا حديثا يشبه ما كتبه طه حسين في كتابه (الأيام) ، وما كتبه كل مبهور بالغرب، مشيد بما فيه من حضارة مادية زائفة، ممسك عن الحديث عن الإلحاد والفساد الخلقي ومحاربة للإسلام والحضارة الإسلامية، وتلفيق الأباطيل والإلقاء بها في ساحة الشريعة الإسلامية الغراء - برغم أن شيخ الجامع الأزهر كتب ما كتب ونشره على الناس في كتابه (الحمد لله هذه حياتي) وهو في موقع المسئولية مسئولية حمل أمانة الدعوة إلى دين الله، وردّ كيد أعدائه وبيان حقيقة الإسلام، وحاجة البشرية إلى دين الحق.
وسأعرض نماذج مما جاء في كتاب شيخ الجامع الأزهر أرجو أن تكون كافية لبيان ما فيه وبالله التوفيق.(14/134)
يقول الشيخ في كتابه المذكور ص 39: "كان يوما مشهودا ذلك اليوم الذي ختمت فيه القرآن الكريم، لقد كان والدي في فرح غامر، وكان البيت كله في بهجة وسرور شاملين، وكانت حفلة حافلة بأطايب اللحم والزبد، ختمت بالذكر شكرا لله تعالى".
ويقول في ص 113 حين ذهب لأداء امتحان العالمية: "أما والدي فإنه قد أسرع إلى ضريح العارف بالله الإمام أحمد الدرديري، واعتكف بمنزله بمسجده يقرأ من القرآن ما تيسر وبخاصة سورة يسن، ويتضرع إلى الله أن يوفقني ويكتب لي النجاح".
فهو في أكثر من مناسبة يبين تعلقه بالفرق الصوفية وبالأضرحة، وهو يعلم علم اليقين أن الفرق الصوفية روّجت كثيرا من البدع والخرافات، ونشرت التواكل بين كثير من المسلمين، وصرفتهم عن العمل الجاد الذي دعا إليه الدين، كما يعلم الشيخ أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ القبور مساجد وبناء المساجد عليها.
والعجيب أن الشيخ يقرر بعد هذا أنه هو الذي صمّم على السفر إلى فرنسا برغم معارضة والده في هذا الأمر، فهو يقول في ص 113-114 من الكتاب: "كان والدي -عليه رحمة الله - يحب أن يراني مدرسا بالأزهر، لقد كان ذلك يسعده كل السعادة، ولكنه فوجئ برغبتي الملحة في السفر إلى فرنسا لإتمام دراستي في جامعاتها، إنه لم يكن يتوقع ذلك، ولا يدور شيء منه في خلده، وأخذ يثنيني عن عزمي بشتى الوسائل، ولكن محاولاته لم تفلح، وأعلنت في عزم مصمم التمسك برأيي في السفر، ولو لم يكن بيدي شيء من المال، وأخيرا رضي والدي بعد لأي".(14/135)
ثم يصف الشيخ نزوله إلى مارسيليا بفرنسا فيقول في ص 117-119 "ويبدو أن الوقت الذي نزلنا فيه كان وقت انصراف العمال للغداء؛ لقد رأيت السرعة في كل اتجاه، ونشاط الحركة في كل ناحية، ورأيت النساء والفتيات وكأنهن يقفزن في سير من السرعة، كما كن يتحدثن في سرعة أيضا، وهن فرحات مستبشرات سعيدات يضحكن في سرور وبشاشة، ولست أدري لماذا وردت على ذهني صور من الشعر العربي تصور الجمال في النساء العربيات، وثب إلى ذاكرتي قول ذلك الشاعر الذي يعبر عن المثل الأعلى في جمال المرأة بقوله: (مشي القطاة ونطقها إيماء) ؟؛ إن المرأة هنا لا تمشي مشي القطاة، وليس نطقها - كما يقول الشاعر - إيماء، فأين إذن نؤوم الضحى؟ ".
ثم يقول الشيخ: "ورأيت في مارسيليا أمرا آخر نحن أشدّ ما نكون حاجة إلى الانتباه له، وإلى الالتزام به؛ لأنه من شُعَب الإيمان، ذلك هو النظافة؛ نظافة الشوارع، ونظافة المحال ونظافة الناس جميعا ذكورا وإناثا، صغارا وكبارا، وتجتمع النظافة مع التنسيق والتناسق، فيبدو الجو كله فتنة للناظرين ".
هذا ما كتبه شيخ الجامع الأزهر بالحرف الواحد، وهو غني عن التعليق؛ فتمجيده للغرب واضح، وكأن الأمر نظافة ظاهرية شكلية، أما نظافة الباطن وطهارة العقيدة وعدم الإضرار بالشعوب الإسلامية والإساءة إلى الإسلام من جانب الغرب فكل هذه الأمور لا تهم الشيخ ولا تلفت نظره في البداية، وإنما الذي لفت نظره فور وصوله الجمال والنظافة الظاهرية.
ومن عجب أن الشيخ بعد حديثه بإعجاب عن هذه النظافة الظاهرية يقول: "ولكن الأمر الهام الذي أحب أن يتنبه إليه الجميع ويفكروا فيه هو أننا - وكنا مجموعة قضى بعضنا سنوات في فرنسا من قبل - بمجرد أن نزلنا إلى مارسيليا وأخذنا نطوف هنا وهناك ننظر إلى واجهات المحال التجارية وإذا ببعضنا يصل وبسرعة إلى إقامة علاقات ببعض الفتيات".(14/136)
ثم يقول في ص 120: "إن الطالب ينزلق إلى الشراب وإلى الصلة الآثمة في مجال الجنس، وإلى التخلي عن كل الفروض الدينية، والأخطر من ذلك سفر الفتيات إلى فرنسا"، إلى أن يقول: "ولا ريب أن الفتاة ستقاوم لأول مرة؛ رعاية بدينها وخلقها وشرفها، ولكن الجو الذي تعيش فيه سيدفعها حتما إلى الصلة الجنسية"، ثم يقول: "إنني هنا لا أتحدث بالمنطق وإنما أتحدث عن واقع محسوس، وما دام الأمر كذلك فإن كل نقاش فيه سيتهافت أمام الواقع".
وكلام الشيخ ليس في حاجة إلى شرح وتفسير، كما أنه ليس في حاجة إلى تعليق؛ فكيف يطلب علما في مثل هذه البيئة الفاجرة، وبخاصة إذا كان العلم الذي يطلبه دينيا؟!
وقد تحدّث الشيخ عن دراسته في هذه البيئة الفاجرة الملحدة؛ فقال إنه بعد حصوله على الليسانس فكر في رسالة الدكتوراه، وأراد اختيار موضوع يتصل بفن الجمال، غير أن الموضوع رفض، ففكر في موضوع يتصل بمناهج البحث، ولكنه رفض أيضا، وأخيرا اتصل بالأستاذ مسينون واتفق على أن يكتب عن التصوف الإسلامي من خلال دراسة الحارث ابن أسد المحاسبي.
يقول الشيخ في ص 171 من كتابه المذكور: "ونعمت في اللحظات الأولى من وصولي بهذا الذوق الراقي في كل شيء، وهذه النظافة التي تجدها أينما تسير"، إلى أن يقول: "وبهرتني الحضارة الأوربية في مظهرها هذا الخارجي الذي يتمثل في النشاط والنظافة والذوق"، ثم يقول في ص 172: "ودخلت الجامعة وبدأت الدراسة في علم الاجتماع ومادة الأخلاق وتاريخ الأديان، وكانت هذه المواد يتزعم دراستها وتدريسها الأساتذة اليهود الذين تتلمذوا على الأساتذة اليهود!.. وكانت هذه المواد كلها تسير في تيار محدد، هو أنها علوم مجتمع، أي أنها لا تتقيد بوحي السماء، ولا تتقيد بالدين على أنه وضع إلهي؛ فهي تدرس في موضوعاتها على أنها مظاهر اجتماعية ومظاهر إنسانية.(14/137)
ثم يقول في ص 173: "ودراسة الدين والأخلاق إذن تتجه إلى النشأة والمظاهر وعوامل التطور، وظواهر التطور، وليس للسماء في الدراسة من نصيب إلا وصف الظاهرة نشأت في المجتمع".
ويقول في ص 174: "ومن هنا كانت الظاهرة التي تجدها في طلبة الجامعات في أوربا من الاستخفاف بكثير من العقائد وبكثير من القيم، وينتهي الطالب بالإلحاد"، ثم يقول في ص 176: "إن اليهود يهدفون من وراء كل ذلك إلى السيطرة على العالم، وألا يقف في وجههم قوة من إيمان أو قوة من خلق"، ويقول الشيخ في ص 177: "ولم يكن من السهل عليّ في أثناء هذه الدراسة الاستمساك الواثق بالقيم والمثل التي نشأت عليها، ولولا عون من الله سبحانه وتوفيق منه لصرت كواحد من هؤلاء الآلاف الذين يدرسون في الجامعات الأوربية ثم يخرجون منها وقد تحطمت في نفوسهم المثل الدينية الكريمة".
هذا ما كتبه الشيخ عن الدراسة في فرنسا بل في الجامعات الأوربية بعامة، والواقع أن ما كتبه ليس جديدا فهو معروف منذ عاد طه حسين من فرنسا وبدأت ظاهرة التشكيك تظهر في كتاباته وفي كتابات كل من درس في أوربا قبل سفر الدكتور عبد الحليم محمود في تصميم وإصرار على الدراسة في فرنسا برغم معارضة والده.
صحيح أن الشيخ يؤكد أنه لم يتأثر بموجة الإلحاد، ويزهو بثباته وتمسكه بمبادئ دينه الحنيف، ولا يثبت لنفسه إلا كل فضيلة على طريقة من يكتبون كتبا عن أنفسهم بأسلوب الكتابة الذاتية كما يسمونها، ولكن الشيخ لم يحاول وهو في موقع المسئولية أن يمنع سفر الطلاب والفتيات للدراسة في أوربا مع علمه بأن الكثيرين منهم يذهبون لدراسة العلوم الإسلامية في هذه البلاد التي تطغى فيها موجة الإلحاد.(14/138)
أنا لا أنكر أن الشيخ تحدث عن بعض جوانب الإسلام ضمن حديثه عن نفسه واستعراضه لتاريخ حياته، وانتقد وجود كليات الحقوق التي تخصص عشرين ساعة في الأسبوع للقوانين الأوربية، أي للفكر الأوربي في التشريع، أي أنها تعرض على الطالب أن يستعمر فكره الأوربيون في مجال التشريع، وأن يلغي ذاتيته الإسلامية في هذا المجال، بينما تخصص هذه الكليات ساعتين فقط للتشريع الإسلامي، وقال: إن منهج الاتباع هو الطريق الذي ينبغي أن يسلكه المسلم في حياته، وإذا سار المسلم فيه فردا - أو سار فيه المسلمون مجتمعا - فإن الله سبحانه وتعالى يكتب له الهدوء والطمأنينة والسعادة، {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
لا أنكر على الشيخ حديثه عن الإسلام ضمن حديثه عن نفسه في كتابه (الحمد لله هذه حياتي) ، ولكن الذي أنكره عليه في هذا الكتاب أنه لا يليق به وهو يشغل منصب شيخ الجامع الأزهر أن يتحدث عن نفسه بهذه الصورة، وأن يباهي بكل ما يصدر عن الصوفية وما يدعو إليه التصوف، وأن يشغل الناس بالحديث عن نفسه في وقت ينبغي أن يصرف فيه جهده في الدعوة إلى دين الله والحكم بما أنزل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاربة البدع والخرافات، ومقاومة موجة الإلحاد، ورد كيد أعداء الإسلام الذين يحاربونه بكل وسيلة ممكنة، ويستغلون وسائل الإعلام المختلفة في حربهم السافرة ضد الإسلام وحقائقه الناصعة.
ولعل شيخ الجامع الأزهر يقلع عن إصدار مثل هذه الكتب، ويصدر كتابا يوضح حقائق الإسلام، ويرشد الحيارى الضالين إلى دين الحق الذي يتفق مع الفطرة؛ {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} .
والله يقول الحق ويهدي السبيل، وبالله التوفيق، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(14/139)
حكم من يسخر من القرآن وأهله
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله.. والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه:
أما بعد: فقد اطلعت على ما نشرته مجلة الدعوة في عددها الصادر في يوم الاثنين الموافق 27/1/1397هـ تحت عنوان (عكاظ تسخر من القرآن وأهله) ، ثم ذكر تحت هذا العنوان ما نصه: وطلعت علينا عكاظ في عددها الصادر بتاريخ 7/4/1396هـ لتسخر من القرآن وأهله، ولتقول ما نصه: "والرجال يعتقدون أن المرأة كائن آخر، والمرأة في تعبيرهم ناقصة عقل ودين، وهم يعتقدون أن الرجال قوامون على النساء". انتهى ما نقلته مجلة الدعوة.
ولقد دهشت لهذا المقال الشنيع، واستغربت جدّا صدور ذلك في مهبط الوحي وتحت سمع وبصر دولة إسلامية تحكم الشريعة وتدعو إليها، وعجبت كثيرا من جرأة القائمين على هذه الجريدة حتى نشروا هذا المقال الذي هو غاية في الكفر والضلال والاستهزاء بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والطعن فيهما، وليس هذا ببدع من القائمين على صحيفة عكاظ؛ فقد عرفت بنشر المقالات الداعية إلى الفساد والإلحاد والضرر العظيم على المجتمع، كما عرفت بالحقد على علماء الإسلام والاستطالة في أعراضهم والكذب عليهم؛ لأنه ليس لدى القائمين عليها وازع إيماني، ولم تردع بوازع سلطاني، فلهذا أقدَمت على ما أقدمت عليه من الكفر والضلال في هذا المقال الذي لا يقوله ولا ينشره من يؤمن بالله واليوم الآخر، ولا يقوله ولا ينشره من يحترم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.(14/140)
ولمزيد التثبت والرغبة في الوقوف على أصل المقال ومعرفة من قاله طلبت الصحيفة المذكورة المنشور فيها هذا المقال، فأحضرت لي، فألفيتها قد نشرت ما نقلته عنها مجلة الدعوة حرفيا، ونسبت ذلك إلى من سمّت نفسها: أمل عبد الله، ولم تعلق الصحيفة شيئا في إنكار هذا المقال، فعلم بذلك رضاها به وموافقتها عليه.
ومعلوم أن الذي جعل الرجال قوامين على النساء هو الله عز وجل في قوله تعالى في سورة النساء: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} الآية، فالطعن في قوامة الرجال على النساء اعتراض على الله سبحانه، وطعن في كتابه الكريم وفي شريعته الحكيمة، وذلك كفر أكبر بإجماع علماء الإسلام، كما نصّ على ذلك غير واحد من أهل العلم منهم القاضي عياض في كتابه (الشفاء) .(14/141)
كما أن الذي وصف النساء بنقصان العقل والدين هو النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عليه الصلاة والسلام أن من نقصان عقلها أن شهادة المرأتين تعدل شهادة الرجل الواحد، وذكر أن من نقص دينها أنها تمكث الليالي والأيام لا تصلي، وتفطر في رمضان بسبب الحيض، وإن كان هذا النقصان ليس عليها فيه إثم، ولكنه نقصان ثابت معقول لا شك فيه ولا اعتراض على الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ لأنه أصدق الناس فيما يقول وأعلمهم بشرع الله وأحوال عباده، فالطاعن عليه في ذلك طاعن في نبوّته ورسالته، ومعترض على الله سبحانه في تشريعه، وذلك كفر وضلال لا ينازع فيه أحد من أهل العلم والإيمان، والأدلة النقلية والعقلية والشواهد من الواقع ومن معرفة ما جبل الله عليه المرأة وميزها به عن الرجل كل ذلك يؤيد ما أخبر الله به سبحانه من قوامة الرجال على النساء وفضلهم عليهن، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من نقصان عقل المرأة ودينها بالنسبة إلى الرجل، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون كل فرد من أفراد الرجال أفضل ولا أعقل من كل فرد من أفراد النساء، وكم لله من امرأة أفضل وأعلم وأعقل من بعض الرجال، وإنما المراد تفضيل الجنس على الجنس، وبيان أن هذا أكمل من هذا، والأدلة القطعية شاهدة بذلك كما سبق.(14/142)
وقد اتضح من كلام صاحبة المقال (أمل عبد الله) أنها أرادت من طعنها على قوامة الرجال على النساء، ومن اعتراضها على نقصهن في العقل والدين أن ذلك يسبب انقسام المجتمع وعدم ترابطه وتعاونه، وذلك يؤيد ما ذكرنا آنفا من كون المقصود بالمقال المذكور هو الطعن في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واتهامها بأنهما سبب التخلف وانقسام المجتمع وعدم تعاونه، ولا شك أن هذا من أوضح الكذب وأبطل الباطل، وليس في اعتقاد ما دلّ عليه كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في قوامة الرجال على النساء ونقص عقول النساء ودينهن ما يوجب الضرر على المجتمع الإسلامي وانقسامه وعدم ترابطه وتعاونه، بل ذلك من تزيين الشيطان وإيحائه إلى أوليائه من الجهال والمشركين ومن سار في ركابهم، كما أنه لا يلزم من ذلك إهدار المرأة من حساب المجتمع، ولا إعفاؤها من المشاركة فيما يصلح المجتمع من النصيحة لله ولعباده، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الحق، وغير ذلك من الأمور الواجبة على الجميع، بل هي مأمورة بذلك ومفروض عليها القيام بما تستطيع في هذا السبيل، كما قال الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} الآية، قال سبحانه: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَ جْراً عَظِيماً} ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم مشورة أم سلمة(14/143)
يوم الحديبية، وحصل بذلك نفع كبير، وقصة خديجة رضي الله عنها في بدء الوحي وما حصل بها من الخير الكثير والتفريج عن النبي صلى الله عليه وسلم معروفة لدى أهل العلم، والوقائع من هذا النوع في التاريخ الإسلامي كثيرة.
وإنه لعجب عظيم أن يجترئ أصحاب هذه الصحيفة على نشر هذا المقال مع انتسابهم للإسلام، وقبضهم المعونات السخية من دولة الإسلام لتشجيع صحيفتهم واستمرار صدورها، ولكن لا عجب في الحقيقة فقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، وفي الأمثال السائرة المتداولة: من أمن العقاب أساء الأدب.
وقد روي عن عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما قالا: "إن الله ينزع بالسلطان ما لا ينزع بالقرآن".
وإن هذه الصحيفة قد تجاوزت الحدود واجترأت على محاربة الدين والطعن فيه بهذا المقال الشنيع جرأة لا يجوز السكوت عنها، ولا يحل لوزارة الإعلام ولا للحكومة الإغضاء عنها، بل يجب قطعا معاقبتها معاقبة ظاهرة بإيقافها عن الصدور ومحاكمة صاحب المقال والمسئول عن تحرير الصحيفة وتأديبهما تأديبا رادعا، واستتابتهما عما حصل منهما؛ لأن هذا المقال يعتبر من نواقض الإسلام ويوجب كفر وردة من قاله أو اعتقده أو رضي به؛ لقول الله سبحانه: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} الآية، فإن تابا وإلا وجب قتلهما لكفرهما وردتهما، ولا يخفى على ذوي العلم والإيمان ان هذا الإجراء من أهم الواجبات؛ لما فيه من الحماية لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وشريعة الله الكاملة، ولما في ذلك من ردع كل من تسول له نفسه أن يفعل ما فعلته صحيفة عكاظ، ويجترئ على ما اجترأت عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(14/144)
أخبار الجامعة
مجلس الجامعة
الدورة الرابعة للمجلس الأعلى للجامعة:
عقد المجلس الأعلى للجامعة دورته الرابعة برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير فهد ابن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة - حفظه الله - في المدة من 16 إلى 18 من رجب 1397هـ بمقر الجامعة بالمدينة المنورة، وافتتح سموه هذه الدورة بكلمة قال فيها:
"بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
ومن دواعي سروري في هذا اليوم أن أفتتح أنا وزملائي أعضاء المجلس الدورة الرابعة للمجلس الأعلى للجامعة، ويسرني في هذه المناسبة أن أنقل تحيات جلالة الملك خالد لأعضاء المجلس، وتمنياته الطيبة لهم بالتوفيق والنجاح في هذا العمل المثمر.
ومما يشرفني أن أساهم في شدّ أزر هذه الجامعة من جميع النواحي؛ سواء إدارية أو مالية أو اجتماعية، وإني لأرجو من صميم قلبي أن تستمر هذه الجامعة في حالة تطوّر مستمر، وأن تكون قدوة إن شاء الله لجميع الأقطار الإسلامية، وأن تمتد إلى جميع النواحي في مشارق الأرض ومغاربها في كافة البلاد الإسلامية، وأن المملكة العربية السعودية ملكا وحكومة وشعبا سوف تبذل ما تستطيع من جهد لدعم هذه الجامعة التي بنيت على أسس سليمة.. وختاما أرجو لكم التوفيق، وأرجو أن نبتدئ عملنا في هذا اليوم بالخير والبركة إن شاء الله، وشكرا لكم".
ومن أهم قرارات المجلس الأعلى في هذه الدورة ما يلي:
اقتراح افتتاح فرعين للجامعة:
أيّد المجلس الأعلى اقتراح الجامعة افتتاح فرع لها في كل من (اندونيسيا) و (نيجيريا) ، على أن تقوم الجامعة بإجراء الدراسات التمهيدية لذلك، وعرض النتيجة في الدورة التالية.
تعيين أعضاء بهيئة التدريس بالجامعة:
وافق المجلس الأعلى على تعيين كل من:
أستاذا مشاركا.(14/145)
- فضيلة الشيخ محمد حماد الأنصاري
أستاذا مساعدا بهيئة التدريس بالجامعة
- وفضيلة الشيخ محمد المختار الشنقيطي
أستاذا مساعدا.
- وفضيلة الشيخ عمر محمد فلاتة
اللائحة التنفيذية، ولائحة المتعاقدين:
أقر المجلس اللائحة التنفيذية للجامعة، وكادر المتعاقدين من أعضاء هيئة التدريس والمدرسين المساعدين (المحاضرين) والمعيدين بالجامعة.
وفود الدعوة في الخارج:
أوفدت الجامعة في العطلة الصيفية هذا العام 96/1397هـ وفودا للدعوة الإسلامية إلى كل من: أندونيسيا، نيجيريا، غانا، تونس، موريتانيا، فرنسا، ألمانيا الغربية، سويسرا، ماليزيا.
تعيين عمداء لبعض الكليات:
تم تعيين كل من:
- فضيلة الدكتور محمد بن حمود الوائلي عميدا لكلية الشريعة.
- الشيخ عبد العزيز محمد القويفلي عميدا لكلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية.
- الشيخ محمد أمان علي الجامي عميدا لكلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية.
محاضرات الجامعة في موسمها الثقافي هذا العام:
ألقيت في هذا الموسم 15 محاضرة من أساتذة الجامعة، ويجري طبع هذه المحاضرات في كتاب مستقل لتوزيعه تعميما للفائدة.
معسكر الجامعة في بلجرشي:
أقامت الجامعة في العطلة الصيفية هذا العام معسكرا لطلاب الجامعة الذين لم يسافروا إلى بلادهم، واشترك فيه عدد منهم من أقطار مختلفة، واستمر مدة شهر في مدينة بلجرشي في المنطقة الجنوبية من المملكة، ومن أهم أهدافه:
شغل أوقات فراغ الطلاب بوجوه النشاط العلمية والعملية التي تنمي معارفهم، وتكشف عن مواهبهم، وتهذب سلوكهم، وتعمق التدين العملي في حياتهم.
تقوية عناصر التعارف وأواصر التآخي والتآلف، وتعزيز سبل التعاون فيما بينهم، وتوثيق صلتهم بأساتذتهم.
تدريبهم على الدعوة إلى سبيل ربهم، وإكسابهم المهارات في هذا المجال.(14/146)
تعريف غير السعوديين ببعض مناطق المملكة التي يتوقون إلى معرفتها.
وقد أمضى الطلبة أوقاتهم في هذا المعسكر في تنفيذ البرامج المعدة لهم من قبل إدارة المعسكر بإشراف بعض الأساتذة من الجامعة، مع الاستجمام والاستمتاع بجو المنطقة.
حفل التخرج:
أقامت الجامعة بعد عصر يوم السبت 16 من رجب 1397هـ بقاعة المحاضرات بها الحفل السنوي لتكريم المتخرجين والمتفوقين في العام الدراسي 96/1397هـ برعاية صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء، والرئيس الأعلى للجامعة.
وقد تفضل سموه الكريم بحضور هذا الحفل، وإلقاء كلمة فيه، نشرت افتتاحية لهذا العدد من المجلة، كما تفضل بتوزيع الشهادات على الخريجين.
وألقى في هذا الحفل كل من فضيلة نائب رئيس الجامعة وفضيلة رئيس قسم الدراسات العليا، وأحد الخريجين كلمة بهذه المناسبة، وفيما يلي كلمة نائب رئيس الجامعة عبد المحسن ابن حمد العباد.
نص الكلمة
الحمد لله رب العالمين، وصلوات الله وسلامه وبركاته على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإنها لفرصة طيبة ومناسبة عظيمة أن تحتفل أسرة الجامعة معبرة عن سرورها واغتباطها بتخرج الدفعة الثالثة عشرة من خريجي هذه الجامعة المباركة، وقد زاد في السرور وضاعف البهجة أن يتم هذا الحفل برعاية صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة.(14/147)
صاحب السمو الملكي الرئيس الأعلى للجامعة: يسرني أصالة عن نفسي ونيابة عن أسرة الجامعة أن أتقدم بالشكر لسموكم الكريم على العناية التامة والتشجيع المستمر الذي تلقاه هذه الجامعة من سموكم الكريم، فبالرغم من كثرة أعمالكم قدمتم هذا اليوم إلى المدينة لرئاسة المجلس الأعلى للجامعة في دورته الرابعة، وفي العام الماضى قدمتم اليها لرئاسة المجلس في دورته الأولى، وفي ذلك تعبير عملي عن حرص سموكم على هذه الجامعة، وتشجيع لهذه الجامعة يزيد في نشاطها ويشد من أزرها؛ لتواصل مسيرتها الخيرة في سبيل تحقيق الأهداف السامية التي أنشئت من أجلها.
إن الجامعة يسرها كثيرا أن تحتفل هذا اليوم بتخرج الدفعة الثالثة عشرة من كلية الشريعة، وتخرج الدفعة الثامنة من كلية الدعوة وأصول الدين، وفي العام القادم بمشيئة الله تحتفل بتخريج الدفعة الأولى من كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، وفي العام الذي يليه يتخرج الدفعة الأولى من كلية اللغة العربية والآداب، وفي العام التالي الذي يليه يتخرج الدفعة الأولى من كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية، ولقد بلغ عدد الخريجين في الدور الأول هذا العام مائة وثلاثة وثمانين جامعيا، منهم مائة وثلاثة وخمسون من خارج المملكة وينتمون إلى خمسة وثلاثين قطرا من أقطار العالم، ثمانية عشر قطرا من آسيا، وسبعة عشر قطرا من أفريقيا، وبإضافة خريجي هذه الدفعة إلى المتخرجين في الأعوام الماضية وعددهم ألف ومائتان وسبعة وسبعون جامعيا يكون عدد الحاصلين على الشهادة العليا (الليسانس) من كلتي الشريعة والدعوة وأصول الدين في الجامعة حتى الآن ألفا وأربعمائة وستين جامعيا ينتمون إلى اثنين وستين قطرا من أقطار العالم.
صاحب السمو الملكي الرئيس الأعلى للجامعة:(14/148)
إن حكومة المملكة - وفقها الله - تقدّم للمسلمين في أنحاء العالم المساعدات المادية والمعنوية، وإن أفضل شيء قدمته وتقدمه للعالم تعليم أبنائه ليقوموا بالدعوة إلى الخير والتحذير من الشر، فهؤلاء الخريجون في الحقيقة أنفس هدية تقدمها حكومة المملكة للعالم، وأي هدية أنفس وأغلى من دعاة إلى الجنة وهداة إلى الصراط المستقيم {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .
وإني لأرجو أن يكتب الله لجلالة الملك خالد حفظه الله، ولسموكم الكريم، ولكل من ساهم في تحقيق أهداف هذه الجامعة مثل أجورهم وأجور من استفاد خيرا بسببهم، فإن من دل على خير فله مثل أجر فاعله، ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا.
صاحب السمو الملكي الرئيس الأعلى للجامعة:
لعالمية هذه الجامعة وشمول نفعها وسمو أهدافها تلقى دائما من حكومة المملكة - وفقها الله - كل تأييد ودعم مادي ومعنوي، وتحظى بالعناية والرعاية، ويتمثل الدعم المادي باعتماد المبالغ الكبيرة في ميزانيتها سنويا، أما التأييد المعنوي فلا حدود له، وأبرز أمثلته أن جلالة الملك فيصل رحمه الله هو الرئيس الأعلى لهذه الجامعة، ثم بعد تولي جلالة الملك خالد حفظه الله تفضل بإسناد رئاستها لسموكم الكريم فانتقلت رئاستها العليا من يد قوية أمينة إلى يد قوية أمينة، وما قدوم سموكم إلى المدينة هذا اليوم لرئاسة المجلس الأعلى للجامعة في دورته الرابعة، وقدوم سموكم في العام الماضي لرئاسة الدورة الأولى إلا نموذج مما تلقاه الجامعة من سموكم الكريم من رعاية وعناية.(14/149)
ومن آثار اهتمام حكومة المملكة - أدام الله توفيقها - بهذه الجامعة وعنايتها بها وحرصها على تعميم نفعها ما حصل لها من توسع في مجال الدراسات العالية وفي مجال الدراسات العليا، فحصل لها نمو أفقي يتمثل بافتتاح ثلاث كليات خلال ثلاث سنوات، فقد افتتحت كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية في عام 94/1395هـ، وافتتحت كلية اللغة العربية والآداب في عام 95/1396هـ، وافتتحت كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية في عام 96/1397هـ، وبحمد الله إن الجامعة الإسلامية سبقت إلى افتتاح كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية وكلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية، في عام 96/1397هـ، وهما أول كليتين من نوعهما في العالم، وحصل للجامعة نمو رأسي بافتتاح قسم الدراسات العليا لمنح درجة الماجستير ثم الدكتوراه، وقد افتتح هذا القسم في أول العام الدراسي 95/1396هـ، وخلال أشهر قليلة بمشيئة الله يبدأ في هذه القاعة بمناقشة الرسائل المقدمة لنيل درجة الماجستير.
أيها الإخوة الخريجون، يسرني أن أهنئكم بإتمام دراستكم العالية في هذه الجامعة، وبهذا التكريم الذي ظفرتم به، وهو رعاية سمو الرئيس الأعلى للجامعة حفل تخرجكم وتفضله بتسليم شهاداتكم لكم، وأحب أن ألفت أنظاركم إلى أن نيل هذه الشهادة لا يعني انتهاءكم من الدراسة، وإنما يعني وصولكم إلى بداية طريق العلم ودخولكم ميدان العمل، ودراستكم في هذه الجامعة إنما هي وسيلة إلى غاية نبيلة هي الدعوة إلى الخير والتحذير من الشر، وأسأل الله تعالى أن يزيدكم علما وهدى وأن يوفقكم لما فيه رضاه ونفع عباده.(14/150)
وفي الختام أشكر الله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، ثم أشكر لحكومة المملكة وعلى رأسها جلالة الملك خالد بن عبد العزيز الرئيس الفخري لهذه الجامعة، وسمو ولي عهده الأمير فهد بن عبد العزيز الرئيس الأعلى للجامعة على رعايتهما وعنايتهما بهذه الجامعة العالمية، ولا يفوتني أن أشكر سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الذي بدأت مسيرة هذه السفينة على يديه، فقادها خلال خمسة عشر عاما إلى بر النجاة وشاطئ السلامة، وكان له الفضل بعد الله في ثباتها واستقرارها على طريق الحق والهدى، كما أشكر العاملين في هذه الجامعة من مسئولين وهيئة تدريس على الجهود الطيبة التي بذلوها في صالح هذه الجامعة، وأسأل الله تعالى أن يثيبهم خيرا وأن يبارك في جهود الجميع إنه سميع مجيب.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم، وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(14/151)
دراسات حول إعجاز القرآن الكريم في القرن الثالث الهجري
لفضيلة الدكتور صادق إبراهيم خطاب
أستاذ البلاغة والنقد بكلية الشريعة
القرآن الكريم منذ أن نزل على النبي الأمين محمد بن عبد الله - صلوات الله وسلامه عليه - كان وما يزال الحجّة الكبرى والمعجزة العظمى التي وقف العرب أمامها مبهورين لا يملكون جواباً وما عساهم يفعلون، لم يكن أمامهم إلا أن يرجعوا إلى أنفسهم لعلّهم يجدون مخرجاً، ولكنّ الحجّة أعيتهم ووقفت ألسنتهم واحتبست أصواتهم وهم يستمعون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يبلغ الناس قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [1] ، وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [2] ، وقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [3] .(14/152)
ولكنّهم عجزوا أن يأتوا بمثله أو بأقصر سورة؛ وهم أصحاب لسن وفصاحة وبيان وإقناع، مع حرصهم البالغ على تكذيب الرسول فيما يدّعيه أنه مرسل به من ربّه، وبدأوا يتخبّطون؛ فقالوا: {مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرى} ، {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} ، ويقولون: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} ، ومع هذا أخذوا يتحاشون سماع القرآن الكريم خوفا من أن يؤثّر في نفوسهم ويهديهم برغم أنوفهم، ولنستمع إلى الوليد بن مغيرة أحد خصوم الدعوة الألدّاء بعد أن استمع إلى بعض آي الذكر الحكيم قال: والله لقد سمعت من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإنّ له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق.(14/153)
كان هذا موقف العرب عند بدء الدعوة، ولكن بعد أن اتّسعت الفتوح وانتشر الإسلام واختلط العرب بغيرهم من أهل البلاد التي فتحوها شُغل الناس بالقرآن الكريم؛ يتدارسونه ويوضحون معانيه ويبحثون عن ألفاظه وتراكيبه وما فيه من علوم وفنون، فأضحت آياته ميدانا لدراسات مختلفة، خاصة البلاغيّة منها؛ يحاولون بذلك بيان الوجه الذي من أجله عجز الناس عن محاكاته أو الإتيان بأقصر سورة منه، وكان لانقسام المسلمين إلى فرق وطوائف أثر بالغ في هذه الدراسات التي تدور حول القرآن وما فيه من معان وأغراض وأسرار، وأقدم ما ظهر من الكتب في هذا الشأن هو كتاب ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة 208هـ، ويقول أبو عبيدة عن سبب تأليفه هذا الكتاب: إن الفضل بن الربيع وزير الرشيد ثم الأمين استقدمه من البصرة، فلما بلغ مجلسه ببغداد وكان به إبراهيم بن إسماعيل الكاتب سأله الكاتب عن معنى قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} وإنما يقع الوعد والوعيد بما عرف مثله وهذا لم يعرف؟ فقال له أبو عبيدة: إنما كلّم الله تعالى العرب على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرئ القيس:
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
أيقتلني والمشرفي مضاجعي
وهم لم يروا الغول قط، ولكنهم لما كان أمر الغول يهولهم ويفزعهم أوعدوا به؛ فاستحسن الحاضرون هذا الجواب.
ومنذ ذلك الحين عزم أبو عبيدة على أن يخرج كتابا يبين فيه ما يشتبه على الناس، فلما رجع إلى البصرة أخذ في تأليف كتابه هذا ((مجاز القرآن)) وهو لا يريد بكلمة (مجاز) ما يقابل الحقيقة كما هو اصطلاح المتأخرين، وإنما يريد الدلالة الدقيقة لصيغ التعبير القرآنية المختلفة، وقد ظهر مراده هذا في السطور الأولى من الكتاب.(14/154)
جاء في فاتحته: قال الله جل ثناؤه: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} مجازه تأليف بعضه إلى بعض، ثم قال سبحانه: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَه} مجازه فإذا ألّفنا منه شيئا فضممناه إليك فخذ به واعمل به وضمه إليك ... وهكذا يمضي في كتابه مسترشدا باستعمالات العرب وما أثر عنهم في أشعارهم وأساليبهم، وأدّاه هذا الاختيار إلى أن يتحدّث عمّا في الآيات من تشبيه وكناية وتقديم وتأخير وحذف وإضمار وتوسّع في تصور الخصائص التعبيرية، كالدلالة بلفظ الخصوص على العموم، وبلفظ العموم على معنى الخصوص، ومخاطبة الواحد مخاطبة الجميع، ومخاطبة الجميع مخاطبة الواحد، كما تنبّه في ثنايا ذلك إلى الصورة العامة للالتفات وإن كان لم يسمّه باسمه؛ يقول: ومن مجاز ما جاءت مخاطبته مخاطبة الشاهد ثم تركت وحوّلت مخاطبته إلى الغائب، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم} أي بكم.
والذي يقرأ كتاب أبي عبيدة يلاحظ أنه اختار الآيات التي تصوّر طرقا مختلفة في الصياغة والدلالة، متمثلا بما يشبهها من أشعار العرب وأساليبهم، وشارحا لما تضمنه من لفظ غريب أو معنى بعيد، وما كان أبدا يعني بكلمة مجاز المعنى الذي أراده البلاغيون؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية [4] : (أول من عرف أنه تكلّم بلفظ المجاز أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه، ولكن لم يعن بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة، وإنما عنى بمجاز الآية ما يعبر به عن الآية) .(14/155)
وفي النصف الأول من القرن الثاني الهجري ظهر أبو عثمان عمرو بن بحر المعروف بالجاحظ المتوفى 255هـ فألف كتبا كثيرة نقف عند اثنين منها، هما: البيان والتبيين، والحيوان، وقد تحدّث في كتابه الأوّل عن الفصاحة والبلاغة عند العرب وعند غيرهم، وأكثر من الحديث عن جزالة الألفاظ وفخامتها ورقتها وعذوبتها ونشر ذلك في كل جوانب كتابه، كما عرض لتلاقي الكلمة مع الكلمة، ملاحظا أن من الألفاظ ما يتنافر بعضه من بعض، وأوجب أن تكون الكلمات كأفراد الأسرة الواحدة التي تقوم بينها واشجة الرحم. وعلى الجملة فقد ألَمّ الجاحظ في كتابه هذا بالصور البيانية المختلفة وبكثير من فنون البديع، غير أنه لم يسق ذلك في تعريفات وتحديدات، فقد كان مشغولا بسوق النموذج البلاغية من غير أن يعنى بتوضيح دلالة المثال على القاعدة التي يقررها.
وكتب الجاحظ وإن لم تكن في موضوعنا الذي نعالجه نصّا إلا أن بالمسلم حاجة إلى قراءتها؛ ليستطيع تمييز الكلام الجيّد من غيره، وكما نعلم فإنه لا يقف على وجوه إعجاز القرآن إلا من عرف معرفة بينة وجوه البلاغة العربية، وتكوّنت له فيها ملكة يقيس بها الجودة والرداءة في الكلام، بحيث يميز بين نمط شاعر وشاعر ونمط كاتب وكاتب، وبحيث يعرف مراتب الكلام من الفصاحة.
ولا شك أن الجاحظ فيما كتب كان خبيرا بالأساليب الفصيحة يميزها ويذكر خصائصها ويكشف عن سبب حسنها أو رداءتها؛ فهو صيرفيّ بارع في هذا الشأن، وسنورد طرفا مما أتى به من تأويل بعض الآيات لنتبين مذهبه في بيان ما أشكل فهمه على الناس.
وكانت عنايته في كتاب الحيوان منصبّة على أنواع الحيوانات، وطبائعها وخصائصها وما جاء في القرآن الكريم عنها وما ذكره العرب في ذلك، وإن كان قد عرض لكثير من النصوص الأدبية وبيّن المراد منها وسبب حسنها أو قبحها.(14/156)
يقول في تأويل آية [5] : حدثني أبو الجهجاه قال: سأل أبو عمرو المكفوف عن قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا} ؟ فقلت: إن تدبيرا يعجب منه نبي من الأنبياء ثم يعظم خطره حتى يضحكه لعجب! قال: فقال: ليس التأويل ما ذهبت إليه؛ فإنه قد يضحك النبي عليه السلام من الأنبياء من كلام الصبي ومن نادرة غريبة، وكل شيء يظهر من غير معدنه - كالنادرة تسمع من المجنون - فهو يضحك؛ فتبسم سليمان عندي على أنه استظرف ذلك المقدار من النملة، فهذا هو التأويل.
ويقول [6] في تأويل قوله تعالى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} : وليس أن الناس رأوا شيطانا قطّ على صورة، ولكن لما كان الله تعالى قد جعل في طباع جميع الأمم استقباح جميع صور الشياطين واستسماجه وكراهته، وأجرى على ألسنة جميعهم ضرب المثل في ذلك رجع بالإيحاش والتنفير وبالإخافة والتفزيع لما قد جعله الله في طباع الأولين والآخرين وعند جميع الأمم على خلاف طبائع جميع الأمم.
ويقول [7] في تأويل قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} ، وقوله عزّ اسمه: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} : إنه قد يقال لهم ذلك وإن شربوا بتلك الأموال الأنبذة ولبسوا الحلل وركبوا الدواب؛ ولم ينفقوا منها درهما واحدا في سبيل الأكل، وقد قال الله عزّ وجلّ: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} .
وقال الشاعر في أخذ السنين من أجزاء الخمر:
وتَبَقّى مُصاصَها المكنونا
أكل الدهر ما تجسم منها
وقال الشاعر:
يأكل منها بعضها بعضا
مرّت بنا تختال في أربع(14/157)
ثم يعلّق على هذه النصوص بقوله: إذا قالوا (أكل الأسد) فإنما يذهبون إلى الأكل المعروف، وإذا قالوا (أكله الأسود) فإنما يعنون النهش واللدغ والعضّ فقط.
ويقول في باب آخر في مجاز الذوق وهو قول الرجل إذا بالغ في عقوبة عبده: ذق! وكيف ذقته؟ وكيف وجدت طعمه؟.
وقال عزّ وجلّ: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} .
ويختم كلامه بقوله [8] : وللعرب إقدام على الكلام؛ ثقة بفهم أصحابهم عنهم، وهذه فضيلة أخرى، وكما جوّزوا بقولهم (أكل) وإنما عضّ، و (أكل) وإنما أفنى، و (أكل) وإنما أحاله، و (أكل) وإنما أبطل عينه جوّزوا أيضا أن يقولوا: (ذقت) ما ليس بطعم، ثم قالوا: (طعمت) لغير الطعام، وقال العرجي:
وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
وإن شئت حرمت النساء سواكم
وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} ، يريد لم يذق طعمه.
وعلى هذا النهج وضّح الجاحظ كثيرا من المعاني التي ربما أشكل فهمها على غير الواقفين على أسرار العربية، وبين المراد منها مستشهدا باستعمالات العرب؛ إذ إن القرآن الكريم نزل بلغتهم؛ فهو يسوق اللفظ ويبيّن المراد منه في القرآن ويستدل على أن العرب يستعملونه هذا الاستعمال، وإن جاء ذكر المجاز في كلامه فيعني به ما عناه أبو عبيدة وما يقصد منه في اللغة، ولا يستطيع منصف أن ينسب للجاحظ أو يأخذ من كلامه أنه قصد من المجاز ما ذهب إليه المتأخرون من أنه قسيم الحقيقة.(14/158)
ولذلك نرى أن الدكتور شوقي ضيف [9] قد جانبه التوفيق حين قال: إن استعماله - يعني الجاحظ لكلمتي الحقيقة والمجاز في كتاب الحيوان - يدخل في استعمال البلاغيين المتأخرين، وقد أدّاه هذا الفهم الخاطئ لكلام الجاحظ إلى أن يحكم على ابن تيمية بالخطأ؛ إذ يقول [10] : إن ابن تيميه أخطأه التوفيق حين زعم أن تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز تقسيم حادث بعد القرون الثلاثة الأولى للهجرة. والنصوص التي سقناها من كلام الجاحظ فيما سبق شاهدة على صدق ما نقول.
وننتقل الآن إلى كتاب آخر ظهر في منتصف القرن الثالث الهجري، هو تأويل مشكل القرآن لأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينورى المتوفى سنة 276هـ، وهو عالم سنيّ محافظ يكره الاعتزال والمعتزلة، وكان غرضه من تصنيف كتاب (تأويل مشكل القرآن) الردّ على الملاحدة الذين يطعنون على القرآن الكريم؛ ويقولون إن به تناقضا وفسادا في النظم واضطرابا في الإعراب، وإنما أدّاهم هذا إلى جهلهم بأساليب العربية وقصورهم عن إدراك أسرارها وفهم مراميها، ومن ثم جاء هذا الكتاب لإظهار الحق وإبطال ما يدعون.(14/159)
وقد عرض ابن قتيبة لبعض آيات الذكر الحكيم وبيّن المراد منها، مستشهداً على ما يراه بنصوص من الشعر العربي؛ ليقيم الدليل على ما يقول ويسقط دعوى الطاعنين وسفه المكابرين، وكان متأثرا بأبي عبيدة في كتابه (مجاز القرآن) يصنع مثل صنيعه وينسج على منواله؛ فيعرض من صور الآيات المشكلة ويبيّن المعنى المراد منها على غرار ما صنع أبو عبيدة، وكأنما يتحدث بلسانه ومضمون آرائه حين يصور مباحث مصنفه وجهل الملاحدة بمعرفة أسرار العربية فيقول: وللعرب المجازات في الكلام، ومعناها طرق القول ومآخذه؛ ففيها الاستعارة، والتمثيل، والقلب، والتقديم والتأخير، والحذف، والتكرار، والإخفاء والإظهار، والتعريض والإفصاح، والكناية والإيضاح، ومخاطبة الواحد مخاطبة الجميع، والجميع خطاب الواحد، والواحد والجميع خطاب الاثنين، والقصد بلفظ الخصوص لمعنى العموم، وبلفظ العموم لمعنى الخصوص ... إلى آخر ما ذكره.
ولفظ المجاز عند ابن قتيبة لا يزال يستخدم بالمعنى العامّ كما هو عند أبي عبيدة، ولم يذهب إلى المعنى الاصطلاحي عند المتأخرين، ولم يشر إليه في كلامه.(14/160)
نراه يعرض لصور قرآنية مما يدخل عند المتأخرين في المجاز المرسل والاستعارة، ويتحدث عن المقلوب؛ وهو أن يوصف الشيء بضد صفته، كتسميتهم اللديغ سليما، والفلاة مفازة، كما يتكلم عن التقديم والتأخير في الآية الكريمة {فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} أي: بشرناها فضحكت، كما تحدّث عن الحذف والاختصار والتعريض والكناية ومخالفة ظاهر اللفظ معناه، وعن الاستفهام يأتي للتقرير أو التعجب أو التوبيخ، وعن الأمر يكون للتهديد أو التأديب أو الإباحة، ومنه عام يراد به خاص وجمع يراد به واحد، وواحد يراد به جمع، وقد يعود الضمير على صنفين وهو لأحد هما، أو على واحد من اثنين وهو لهما جميعا، وهو يفيض في ذكر صور كثيرة من آي الذكر الحكيم عارضا لمعناها، شارحا للمراد منها، موضّحا ما فيها من بيان على الحدّ المعروف عند العرب الذين نزل القرآن بلغتهم.
والواقع أن ابن قتيبة كان متأثّرا كل التأثر بأبي عبيدة معمر بن المثنى؛ حتى لنستطيع أن نقول: إنه لم يزد عليه شيئا ذا بال إلا ما عرف من دقة التبويب، وإلا ما توسع فيه عند الحديث عن بعض الكنايات.
وابن قتيبة يسوّي بين اللفظ والمعنى في البلاغة ويجعل المزية لهما جميعا، وكأنه بذلك يردّ على الجاحظ مذهبه في تقديم اللفظ على المعنى، وجعل المزيّة له حيث يقول: المعاني مطروحة في الطّريق يعرفها العربيّ والعجميّ، ولكن ابن قتيبة يجعل المعنى شريكا للّفظ في الحسن، ويقسم الكلام على هذا الأساس إلى ما حسن لفظه ومعناه، وما حسن لفظه دون معناه، وما حسن معناه دون لفظه، وما ساء وقبح في لفظه ومعناه جميعا، وإن كان لم يقف عند القسم الأخير لأنه لا يدخل فعلا في الكلام البليغ.
ومن هنا نتبين مذهب ابن قتيبة في الحكم على الكلام وسبب الحسن فيه، وأنه لكي يكون الكلام بليغا لا بد أن يجتمع فيه حسن اللفظ وحسن المعنى جميعا.(14/161)
ولا يبقى معنا بعد ذلك لنوفيّ البحث في علماء القرن الثالث الهجري سوى ملاحظات عابرة نثرها الإمام النحوي المبرّد المتوفى سنة 285هـ في كتابه الكامل.
وقد عرض في كتابه هذا نماذج شعرية ونثرية كثيرة متّبعا لها بالشرح اللغوي، ومشيرا أحيانا إلى ما فيها من التفات أو إطناب أو تقديم أو تأخير، وأحيانا يذكر كلمة المجاز ولكن بالمعنى اللغوي، ولعلّ أعظم ما خلفه للبلاغيين للسّير على هديه هو ما وضّحه لهم بشأن الكلام وتنوّعه، ذلك أن الفيلسوف الكندي قال له يوما: إنّي أجد في كلام العرب حشوا؛ يقولون: (عبد الله قائم) و (إنّ عبد الله قائم) و (إنّ عبد الله لقائم) والمعنى واحد! فأجابه المبرّد قائلا: بل المعاني مختلفة؛ (فعبد الله قائم) إخبار عن قيامه، و (إن عبد الله قائم) جواب عن سؤال سائل، و (إن عبد الله لقائم) جواب عن إنكار منكر.
وقد كانت هذه الإجابة سببا في بحث البلاغيين لباب من أبواب علم المعاني سمّوه أضرب الخبر، وسمّوا الضرب الأول ابتدائيا والثاني طلبيا والثالث إنكاريا.
هذا ما يسّره الله مع ضيق الوقت وقلّة المراجع، ونعتذر للقارئ الكريم! وللبحث بقية إن شاء الله تعالى. وبالله التوفيق.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة البقرة 23،24.
[2] سورة هود 13.
[3] سورة الإسراء 88.
[4] كتاب الإيمان.
[5] كتاب الحيوان جـ4 ص 22.
[6] كتاب الحيوان جـ4 ص 39.
[7] كتاب الحيوان جـ5 ص 23 وما بعدها.
[8] كتاب الحيوان جـ5 ص 32.
[9] البلاغة تطور وتاريخ ص 56.
[10] المرجع نفسه ص 56.(14/162)
القاضي عياض ومفهومه للإعجاز القرآني
لفضيلة الدكتور أحمد جمال العمري
كلية الدعوة وأصول الدين
هو عياض بن موسى بن عياض بن عمرون، أبو الفضل اليحصبيّ السبتي الغرناطي الأندلسي [1] القاضي الإمام العلاّمة.
ولد بمدينة سبتة في شهر شعبان سنة ستّ وتسعين وأربعمائة 496هـ؛ لذا فهو أندلسي الأصل، قال ابنه محمد: "كان أجدادنا في القديم بالأندلس ثم انتقلوا إلى مدينة فاس، وكان لهم استقرار بالقيروان، لا أدري قبل حلولهم بالأندلس أو بعد ذلك، وانتقل عمرون إلى سبتة بعد سكنى فاس.
رحلاته العلمية: في سبيل العلم رحل عياض إلى الأندلس سنة تسع وخمسمائة 509هـ طالبا للعلم، فأخذ بقرطبة عن مجموعة غير قليلة من العلماء، وأجاز له بعضهم، ثم انتقل إلى المشرق فأخذ عن مجموعة أخرى من العلماء؛ فهو بذلك جمع إلى جانب علم المغاربة علوم المشارقة حيث نهل من المنبع والمصبّ معا.
أساتذته: تذكر المصادر القديمة عشرات الشيوخ والأساتذة الذين تلمذ لهم الرجل؛ ففي قرطبة أخذ عن القاضي أبي عبد الله محمد بن علي بن حمدين، كما أخذ عن أبي الحسين بن سراج وأبي محمد بن عناب وغيرهم، وأجاز له أبو علي الغساني.
وفي المشرق: أخذ عن القاضي أبي علي حسين بن محمد الصدفي، وأخذ أيضا عن أبي عبد الله المازني، وأجاز له الشيخ أبو بكر الطرطوشي، وذكر ولده محمد مجموعة أخرى من الشيوخ منهم: أحمد بن بقي، وأحمد بن محمد بن محمد بن مكحول، وأبو الطاهر أحمد ابن محمد السلفي، والحسن بن محمد بن سكره وغيرهم، وقال صاحب الصلة البشكوالية - بعد أن ذكر بعض شيوخه -: وقد اجتمع له من الشيوخ بين من سمع منه وبين من أجاز له مائة شيخ.(14/163)
وكانت الحصيلة العلميّة التي استقاها من هؤلاء العلماء كبيرة جدّا؛ يقولون: إنه صار إمام وقته في الحديث وعلومه، والتفسير وعلومه، كما صار من أهل التفنن في العلم، واليقظة والفهم، حتى إنه بعد عودته من رحلاته العلمية أجلسه أهل سبتة للمناظرة في المدوّنة وهو ابن ثلاثين سنة أو ينيف عنها، ثم أُجلس للشورى، ثم ولي قضاء بلده مدة طويلة، حمدت سيرته فيها، ثم نقل إلى قضاء غرناطة في سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة 531هـ.
ولقد أشارت المصادر القديمة بمكانته العلميّة؛ فقالت إنه كان فقيها أصوليا، عالما بالنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم، بصيرا بالأحكام، عاقدا للشروط، بصيرا حافظا لمذهب مالك، ريّانا في علم الأدب، خطيبا بليغا.
كما تحدثت عن كريم أخلاقه، فقالت إنه كان صبورا حليما، جميل العشرة، جوادا سمحا كثير الصدقة، دؤوبا على العمل، صلبا في الحقّ.
ونظراً لمكانته الدينية والعلمية قرّبه الموّحدون، حكّام المغرب في عصره، حيث رحل إلى أميرهم بمدينة سلا؛ فأجزل له العطاء وأوجب برّه، وظلّ عياض في رحابهم إلى أن اضطربت أمور الموحّدين عام ثلاثة وأربعين وخمسمائة 543هـ، حيث رحل إلى مراكش مشرّدا، بعيدا عن وطنه، فكانت بها وفاته في شهر جمادى الثانية، وقيل في شهر رمضان سنة أربع وأربعين وخمسمائة 544هـ، ودفن في باب أيلان. رحمه الله.
مصنفاته: صنّف القاضي عياض مجموعة ضخمة من المصنفات أهمها:
1_ الإعلام بحدود قواعد الإسلام.
2_ الإلماع في ضبط الرواية وتقييد السماع.
3_ ترتيب المدارك وتقريب المسالك، لمعرفة أعلام مذهب مالك.
4_ الشفا بتعريف حقوق المصطفى.
5_ مشارق الأنوار في تفسير غريب حديث الموطأ والبخاري ومسلم.
6_ المعلم في شرح مسلم.(14/164)
وللأسف الشديد ضاع معظم مؤلفاته التي تقدر بعشرين مؤلفا، ولم يبق منها إلا النّزر اليسير، وأهمّ الكتب التي أفلتت من يد الزمن (كتاب الشفا) الذي يبرز عقليّة الرجل ومنهجه في الفهم وطريقته في التأليف، ومن هذا الكتاب نستطيع أن نعرف مفهوم الرجل للإعجاز القرآني.
ولم يخصص القاضي عياض للإعجاز القرآني كتابا مستقلا، ولكنه تناول هذا الموضوع بين ثنايا كتابه (الشفا بتعريف حقوق المصطفى [2] ) صلى الله عليه وسلم، وأثناء حديثه عن معجزات الرسول؛ فقد خصّص فصلا صغيرا جعل عنوانه (فصل في إعجاز القرآن) ذكر فيه أوجه الإعجاز القرآني كما رآها هو.
فهو يرى أن الإعجاز القرآني ينحصر في أربعة أوجه:
أولها: حُسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته، ووجوه إيجازه وبلاغته الخارقة عادة العرب.
وثانيها: صورة نظمه العجيب والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب، ومناهج نظمها ونثرها الذي جاء عليه، ووقفت مقاطع آيِه وانتهت فواصل كلماته إليه، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له.
وثالثها: ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات، وما لم يكن ولم يقع؛ فوُجد كما ورد على الوجه الذي أخبر.
والوجه الرابع: ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة والشرائع الدائرة، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذّ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك.(14/165)
ويعلل القاضي عياض للأسباب التي جعلت من حسن تأليف القرآن التئام كلمه وجها من أوجه الإعجاز التي تميّز بها؛ فيقول: "وذلك أنهم (أي العرب) كانوا أرباب هذا الشأن وفرسان الكلام؛ فقد خُصّوا من البلاغة والحكم بما لم يُخصّ به غيرهم من الأمم، وأوتوا من ذرابة اللسان [3] ما لم يُؤتَ إنسان، ومن فصل الخطاب ما يقيّد الألباب، وجعل الله لهم ذلك طبعا وخلقة، وفيهم غريزة وقوة يأتون منه على البديهة بالعجب، ويُدْلون به إلى كلّ سبب، فيخبُطون بَديهاً في المقامات وشديد الخَطْب، ويَرتَجِزون به بين الطَّعن والضَّرب، ويَمدَحون ويَقدَحون، ويَتوَسَّلون ويَتوصَّلون ويرفعون ويضعون؛ فيأتون من ذلك بالسِّحر الحلال، ويُطوِّقون من أوصافهم أجمل من سمط اللاَّل؛ فيَخدعون الألباب، ويذَلِّلون الصِّعاب، ويُذهِبون الإحَن [4] ، ويُهيِّجون الدِّمن، ويُجرِّؤون الجَبان، ويَبسُطون يَد الجِعد [5] البنان، ويُصيِّرون الناقص كامِلا، ويتركون النّبيه خامِلا، منهم البدويّ ذو اللفظ الجَزْل، والقول الفصل، والكلام الفخم، والطبع الجوهري، والمنزع القويّ، ومنهم الحضريّ ذو البلاغة البارعة، والألفاظ الناصعة، والكلمات الجامعة، والطَّبع السَّهل، والتصرّف في القول القليل الكلفة، الكثير الرَّونق، الرَّقيق الحاشية ...
ولهم في البلاغة الحجّة البالغة، والقوّة الدامغة، والقدح الفالُج [6] ، والمهيع الناهج [7] ، لا يشُكُّون أن الكلام طوْع مرادهم، والبلاغة ملك قيادهم، قد حوَوْا فنونها واستنبطوا عيونها، ودخلوا من كل باب من أبوابها، وعَلَوْا صرحا لبلوغ أسبابها، فقالوا في الخطير والمهين، وتفنّنوا في الغثّ والسمين، وتقاولوا في القلّ والكُثر، وتساجلوا في النظم والنثر ...(14/166)
فما راعهم إلا رسول كريم بكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.. أُحكمت آياته، وفصِّلت كلماته، وبَهَرت بلاغته العقول، وظهرت فصاحته كل مقول، وتظافر إيجازه وإعجازه، وتظاهرت حقيقته ومجازه، وتبارت في الحسن مطالعه ومقاطعه، وحوَت كل البيان مجامعه وبدائعه، واعتدل مع إيجازه حسن نظمه، وانطبق على كثرة فوائده مختار لفظه، وهم (أي العرب) أفسح ما كانوا في هذا الباب مجالا، وأشهر في الخطابة رجالا، وأكثر في السجع والشعر سجالا، وأوسع في الغريب واللغة مقالا، بلغتهم التي بها يتحاورون، ومنازعهم التي عنها يتناضلون، صارخا بهم في كل حينٍ، ومقرعا لهم بضعا وعشرين عاما على رؤوس الملأ أجمعين:
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [8] .
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [9] .
{قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَات} [10] .
ذلك أن المفترى أسهل، ووضع الباطل والمختلق على الاختيار أقرب، واللفظ إذا نبع المعنى الصحيح كان أصعب.(14/167)
فلم يزل يقرّعهم صلى الله عليه وسلم أشدّ التقريع، ويوبّخهم غاية التوبيخ، ويسفّه أحلامهم، ويحطّ أعلامهم، ويشتّت نظامهم، ويذمّ آلهتهم وإياهم، ويستبيح أرضهم وديارهم وأموالهم، وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته، يخادعون أنفسهم بالتشغيب بالتكذيب، والإغراء بالافتراء، والادّعاء مع العجز بقولهم: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} وقد قال لهم الله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} فما فعلوا ولا قدروا ... "
هذا هو الوجه الأوّل من وجوه الإعجاز القرآنيّ كما يراه القاضي عياض.
وعن الوجه الثاني: وهو صورة نظمه العجيب، والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب، يقول القاضي عياض: "إنه لم يوجد قبله ولا بعده نظير له، ولا استطاع أحد مماثلة شيء منه، بل حارت فيه عقولهم، وتدلَّهت دُونَه أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم؛ من نثر أو نظم أو سجع أو رجز أو شعر.
لما سمع كلامه - صلى الله عليه وسلم - الوليد بن المغيرة وقرأ عليه القرآن رقّ، فجاءه أبو جهل منكرا عليه، قال: والله ما منكم أحد أعلم بالأشعار مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا.(14/168)
وفي خبره الآخر حين جمع قريشا عند حضور الموسم، وقال: إن وفود العرب تَرِد فأجمعوا فيه رأيا لا يكذب بعضكم بعضا؛ فقالوا: نقول كاهن! قال: والله ما هو بكاهن؛ ما هو بزمزمته [11] ولا سجعه، قالوا: مجنون! قال: ما هو بمجنون؛ ولا بخنقه ولا وسوسته، قالوا: فنقول شاعر! قال: ما هو بشاعر؛ قد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه، وقريضه ومبسوطه ومقبوضه، ما هو بشاعر، قالوا: فنقول ساحر! قال: ما هو بساحر؛ ولا نفثه ولا عقده، قالوا: فما نقول؟ قال: ما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا وأنا أعرف أنه باطل، وإنّ أقرب القول أنه ساحر؛ فإنه سِحر يفرّق بين المرء وابنه، والمرء وأخيه، والمرء وزوجه، والمرء وعشيرته، فتفرقوا وجلسوا على السُّبل يحذّرون الناس، فأنزل الله تعالى في الوليد: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً. وَبَنِينَ شُهُوداً. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآياتنَا عَنِيداً. سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً. إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ. سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [12] .
والأخبار في هذا صحيحة كثيرة، والإعجاز بكل واحد من النوعين الإيجاز والبلاغة بذاتها، والأسلوب الغريب بذاته، كل واحد منها نوع إعجاز على التحقيق، لم تقدر العرب على الإتيان بواحد منهما؛ إذ كلّ واحد خارج عن قدرتها، مباين لفصاحتها وكلامها، وإلى هذا ذهب غير واحد من أئمة المحققين".(14/169)
أما الوجه الثالث - كما يراه القاضي عياض - فهو الوجه التاريخي الذي عبر عنه بقوله: "ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات، وما لم يكن ولم يقع؛ فوجد كما ورد على الوجه الذي أخبر، كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} ، وقوله تعالى: {آلم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} ، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} ، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} .
فكان جميع هذا كما قال؛ فغلبت الروم فارس في بضع سنين، ودخل الناس في الإسلام أفواجا، فما مات صلى الله عليه وسلم وفي بلاد العرب كلها موضع لم يدخله الإسلام، واستخلف الله المؤمنين في الأرض، ومكّن فيها دينهم، وملّكهم إيّاها من أقصى المشارق إلى أقصى المغارب، كما قال صلى الله عليه وسلم: "زويت لي الأرض؛ فأُريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها".(14/170)
وأما الوجه الرابع من وجوه إعجاز القرآن: فهو يتصل كسابقه بالجانب التاريخي، ولكنه لا يتناول الأمور المستقبلة، ولكنه يتحدّث عن أخبار القرون السالفة والأمم البائدة والشرائع الدائرة، مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذّ من أحبار أهل الكتاب على نصِّه فيعترف العالم بذلك؛ فيورده النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجهه، ويأتي به على نصه، فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه وأن مثله لم ينله بتعليم، وقد علموا أنه - صلى الله عليه وسلم - أمّي لا يقرأ ولا يكتب ولا اشتغل بمدارسة ولا مثافنة [13] ، ولم يغب عنهم ولا جهل حاله أحد منهم ".
ويدلّل القاضي عياض على دقة هذا الوجه فيقول: "وقد كان أهل الكتاب كثيراً ما يسألونه - صلى الله عليه وسلم - عن هذا فينزل عليه من القرآن ما يتلو عليهم منه ذكرا، كقصص الأنبياء مع قومهم، وخبر موسى والخضر، ويوسف وإخوته، وأصحاب الكهف، وذي القرنين، ولقمان وابنه، وأشباه ذلك من الأنباء، وبدء الخلق، وما في التوراة والإنجيل والزّبور وصحف إبراهيم وموسى مما صدّقه فيه العلماء بها، ولم يقدروا على تكذيب ما ذكر منها، بل أذعنوا لذلك ...(14/171)
فمن مُوفَّق آمَن بما سيق له من خبر، ومن شقي مُعاند حاسد، ومع هذا لم يحك عن واحد من النصارى واليهود على شدّة عداوتهم له، وحرصهم على تكذيبه، وطول احتجاجه عليهم بما في كتبهم وتقريعهم بما انطوت عليهم مصاحفهم، وكثرة سؤالهم له صلى الله عليه وسلم، وتعنيتهم إياه عن أخبار أنبيائهم وأسرار علومهم، ومستودعات سيرهم، وإعلامه لهم بمكتوم شرائعهم ومُضمَّنات كتبهم، مثل سؤالهم عن الروح، وذي القرنين، وأصحاب الكهف، وعيسى، وحكم الرّجم، وما حرم إسرائيل على نفسه، وما حرِّم عليهم من الأنعام، ومن طيبات كانت أحلّت لهم فحرِّمت عليهم ببغيهم، وقوله: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ..} وغير ذلك من أمورهم التي نزل فيها القرآن، فأجابهم وعرّفهم بما أوحي إليه من ذلك؛ أنه أنكر ذلك أو كذّبه، بل أكثرهم صرّح بصحة نبوّته وصدق مقالته، واعترف بعناده وحسده إياه، كأهل نجران وابن صوريا وبني أخطب وغيرهم.
هذه هي الوجوه التي اعتمدها القاضي عياض دليلا على إعجاز القرآن، وخصّص لها في كتابه (الشفا) بابا من أربعة فصول.
فإذا نظرنا إلى ما كتبه القاضي وجدنا أن هذه الأوجه ليست جديدة على أذهاننا، أو بمعنى آخر: وجدنا أنه ليس أوّل من أشار إليها، إن هذه الوجوه ليست من كدّ فكره، ولا من إعمال عقله، ولكنها من جمعه وتحصيله، ونقله وتدوينه.
فالقاضي عياض - شأنه شأن علماء عصره - جال جولات واسعة بين ثنايا مؤلفات السابقين وانتقى منها واختصر لبعضها؛ كي يجمع مادة علمية لهذا الباب الذي خصّصه للإعجاز؛ لذلك نستطيع أن نقول بوضوح إنه لم يأت بجديد في بحثه.(14/172)
إن عصره لم يكن عصر إبداع أو إختراع.. وإنما كان عصر تجميع وتهذيب، ثم انتخاب وسرد، إن العلماء السابقين - منذ القرن الثالث الهجري إلى حوالي منتصف القرن الخامس - قتلوا كل هذه الموضوعات بحثا وتدقيقا، وتحليلا وتمحيصا، وتعمّقوا إلى أن توصّلوا إلى آراء كثيرة طيبة وجديدة، أما من جاء بعدهم فكان مجهودهم متواضعا؛ لم يكن في مقدورهم أن يضيفوا شيئا جديدا، ولكنه - نتيجة لما اكتسبوه من ثقافة - استطاعوا أن يختصروا ويهذبوا، وينتقوا ويوفِّقوا.. وفي حقيقة الأمر لم يستطيعوا الإتيان بجديد يذكر في مجال البحث.
من هنا نستطيع أن نقول: إن القاضي عياض كان جمّاعا ناقلا، مختصرا مهذِّبا لآراء السابقين، والدليل على ذلك قوله أحيانا: "وإلى هذا ذهب غير واحد من أئمة المحققين [14] " وقوله: "وقد اختلف أئمة أهل السنة [15] " وقوله: "وقد عدّ جماعة من الأئمة ومقلدي الأمة [16] "، وهو وإن استطاع أن يلبس ما نقله واختصره ثوبا جديدا، إلا أنه لم يستطع أن يخفي حقيقة صاحبه، أو يحجب وجه مؤلفه؛ نستطيع أن نسمع صوت الجاحظ من خلال الوجه الأوّل حين قال عن العرب: "ولهم الحجة البالغة والقوة الدامغة، القدح الناتج والمهيع الناهج..، لا يشكون أن الكلام طوع مرادهم، والبلاغة ملك قيادهم، قد حوَوْا فنونها واستنبطوا عيونها، ودخلوا من كل باب من أبوابها، وعَلَوْا صرحه لبلوغ أسبابها، فقالوا في الخطير والمهين، وتفننوا في الغثّ والسمين، وتقاولوا في القُلّ والكُثر، وتساجلوا في النظم والنثر.. [17] ".
ونستطيع أن نرى صورة الرماني من خلال آرائه البلاغية [18] ، ونستطيع أن نسمع صوت الخطّابي وهو يتحدث بعمق عن الوجه النفسي للإعجاز القرآني [19] ، كما نستطيع أن نقرأ ما كتبه الجرجاني والباقلاني عن نظم القرآن.. وهكذا.(14/173)
فالقاضي عياض وإن كان لم يُشِر إلى مصادره إلا أننا استطعنا بما لنا من خبرة في هذا الموضوع أن نُحدّد مصادره بدقّة، أضف إلى ذلك أن القاضي عياض قد كشف عن حقيقة نقله حين وجد أن هناك كثيرا من الآراء لم يسلكها بين أوجه الإعجاز التي حددها، وخشي أن يفوته ذكرها..؛ لذلك سمعناه يقول بعد الفصول التي اعتمدها للإعجاز: "ومن الوجوه البيّنة في إعجازه من غير هذه الوجوه آيٌ وردت بتعجيز قوم في قضايا إعلامهم أنّهم لا يفعلونها؛ فما فعلوا ولا قدروا على ذلك.. كقوله لليهود: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً..} ، وكذلك آية المباهلة من هذا المعنى، حيث وفد عليه أساقفة نجران، وأبوا الإسلام؛ فأنزل الله تعالى آية المباهلة بقوله: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ} .
ومنها: الرّوعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه.
ثم وجد القاضي عياض أنه رغم ذلك لم يستوف كل وجوه الإعجاز التي ذكرها العلماء السابقون؛ فعقد فصلاً جديدا بدأه بقوله: "ومن وجوه إعجازه المعدودة.. كونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا، مع تكفّل الله تعالى بحفظه، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
كذلك وجد القاضي عياض نفسه لم يستكمل كل جوانب موضوعه، وأن هناك آراء أخرى كثيرة ذكرها العلماء ولم يسجّلها؛ فلم يجد من ذلك بدّا من أن يجمعها معا ويفرد لها فصلاً أخيرا لم يحدّد له عنوانا، بل قال في مطلعه: "وقد عدّ جماعة من الأئمة ومقلدّي الأمة في إعجازه وجوها كثيرة".
ولعل هذا الفصل الأخير خير دليل على صحة ما ذهبنا إليه من أن القاضي عياض كان جمّاعا ناقلا، مختصِرا مهذِّبا؛ فقد أجمل في هذا الفصل الأخير معظم ما قيل من آراء ووجوه حول إعجاز القرآن، وهي وجوه متباينة ليس بينها رابط معيّن، إنما تندرج جميعا تحت باب الإعجاز.
قال: "ومنها أن قارئه لا يَملّه، وسامعه لا يمجّه….(14/174)
ومنها: جمعه لعلوم ومعارف لم تعهد العرب عامة، ولا محمّد صلى الله عليه وسلم قبل نبوته خاصة بمعرفتها، ولا القيام بها…
ومنها: جمعه فيه بين الدليل ومدلوله..
ومنها: أنْ جَعَله في حيّز المنظوم الذي لم يعهد…
ومنها: تيسيره تعالى حفظه لمتعليمه، وتقريبه من متحفظيه..
ومنها: مشاكلة بعض أجزائه بعضا، وحسن ائتلاف أنواعها، والتئام أقسامها.
ومنها: الجملة الكثيرة التي انطَوَت عليها الكلمات القليلة.
وختم القاضي عياض هذا الفصل بقوله: "وهذا كلّه كثير مما ذكرنا أنه ذكر في إعجاز القرآن إلى وجوه كثيرة ذكرها الأئمة لم نذكرها، أكثرها داخل في باب بلاغته".
وكأنّه وجد أن هذا السَّرد سيُخرجه عن نطاق البحث؛ فاستدرك قائلا: "فلا نُحبّ أن يُعدّ فنّاً منفرداً في إعجازه إلا في باب تفصيل فنون البلاغة، وكذلك كثير مما قدّمنا ذكره عنهم يُعدّ في خواصّه وفضائله، لا في إعجازه.
وحقيقة الإعجاز الوجوه الأربعة التي ذكرنا فليعتمد عليها، وما بعدها من خواصّ القرآن وعجائبه التي لا تنقضي…".
هكذا رأينا أن القاضي عياض - في بحثه عن الإعجاز القرآني - قد جَمع الوجوه جميعها، ونَقَل كل ما ذكره العلماء الراسخون في العلم، المبتكرون لأصوله، الذين كدّوا واجتهدوا؛ جَمَع جهودَهم وحصيلة أبحاثهم وخلاصة نتاجهم، ووَضَعها جَنباً إلى جَنب، أردف ما قاله الثاني إلى ما قاله الأول.. وكان حصيلة جمعه خلاصة ما قيل عن الإعجاز القرآني من آراء، وما كتب من بحوث منذ القرن الثالث الهجري حتى عصره.
وقلنا إن هذا العمل لا يرمي إلى مرتبة الإبداع، وإنما هو جمع وانتخاب وتلخيص وتهذيب؛ يظهر من خلاله كثرة قراءات الرَّجل، وسَعة اطّلاعه وصبره أيضا.(14/175)
فإذا درسنا ما سجّله القاضي عياض في كتابه نجد أن التوفيق وإن كان قد حالفه في عملية اللمّ والحصر، إلا أنه لم يحالفه في الفهم والتبويب؛ فهو لم يفطن إلى موضع كل وجه من هذه الأوجه من الآخر، ولم يدرك تحت أيّ الفصول يوضع أو يندرج؛ لذلك ظهر بحثه مفكَّكاً قلقاً غير مترابط؛ لتعدُّد المسارات وتشتّت العبارات، كما ظهر لنا أيضا - أنه هو نفسه متردّد حائر تائه بين مصنَّفات السابقين وآرائهم؛ تَنقصه ثقة العالِم وخبرة الأستاذ.
فإذا نظرنا في وجوهه الأربعة التي اختارها وجدنا أن الوجه الثاني – وهو: (صورة نظم القرآن العجيب والأسلوب الغريب) - ما هو إلا تكرار للوجه الأول: (حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته وبلاغته..) ؛ فكلا الوجهين يندرجان تحت علوم البلاغة، بيد أنّه حين وضعهما على صورتهما هذه قد أضفى عليهما صفة التعميم..؛ فالوجهان الأول والثاني - في حقيقة أمرهما - وجه واحد يتصل ببلاغة القرآن.. هكذا قال الجرجاني.
كذلك الوجه الثالث وهو: (ما انطوى عليه القرآن من الإخبار بالمغيبات) والوجه الرابع: (ما أنبأ به من أخبار القرون السابقة والأمم البائدة..) كلاهما يتدرج تحت الجانب التاريخي، فهما في واقع الأمر وجه واحد يصوّر إعجاز القرآن من حيث الزمن.. واتّصاله بحركة التاريخ في الماضي والمستقبل.
ومعروف أن القاضي عياض كان يهتدي بآراء أهل السُّنة.. ومع ذلك فقد ضلَّله عنصر النقل والاقتباس؛ فوقع في المحظور حين لم يفهم ما ذكره المعتزلة من القول (بالصَّرفة) ؛ فنراه يذكر ما ذهب إليه أبو الحسن الرماني المعتزلي؛ من أن القرآن ممّا يمكن أن يدخل مثله تحت مقدور البشر، ويقدرهم عليه ولكنه لم يكن هذا.. فمنعهم الله هذا وعجّزهم عنه [20] . وهو لا يدري أن هذا الرأي أنكره أهل السنة وحاربوه، وسفّهوا آراء القائلين به، هذا من حيث الشكل العام أو المظهر..(14/176)
فإذا ما درسنا أوجه الإعجاز الأربعة التي اختارها القاضي عياض وأمعنا النظر فيها وجدنا أنّ الوجه الأول في حقيقة أمره ليس من وجوه الإعجاز، وإنما هو في وضعه الدقيق شاهد من شواهد الإعجاز، ودليل من أدلّته القاطعة.
أما الوجه الثاني: الذي يتعلّق بنظم القرآن وأسلوبه فهو ما توافَق عليه جلّ الباحثين والعلماء الذين بحثوا في إعجاز القرآن وحاولوا الكشف عن أسراره؛ لقد أجمعوا على أنّ هذا الأسلوب الذي انفرد به القرآن مخالف لأساليب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها.. وأن نظمه جاء على صورة لم تقع للعرب، وإن جمعت الطيِّب الحسن من كل أسلوب.
وأما الوجه الثالث الذي اختاره القاضي عياض - وهو (الإخبار بالمغيبات) - فهو في حقيقته أمره ليس وجها من وجوه الإعجاز يمكن أن نقطع الخصم عن المعارضة ونمسك به عن العناد واللجاج؛ "إذ كثير من الكهّان كانوا يرجمون بالغيب؛ فيصيبون ويخطئون، ولو كان القرآن حين تحدّى العرب قد أشار إلى هذا الوجه من التحدّي كما أقرّوا بالعجز عنه، ولما شهدت عليهم الحياة به، بل لكان لهم على هذا الوجه سبيل إلى المجادلة والمحاجّة والمعارضة، ولاستدعوا إليهم كهنتهم وأصحاب الرؤى عندهم، ولكان لهم قول إلى جانب هذا القول الذي جاء به القرآن.. وإن بعُد ما بين القولين في مقام الصِّدق واليقين، ولكن الخصم العنيد المتجبّر لا يستسلم حتى يرمي بآخر شيء في يده، ولو كان عودا من الحطب يقاوم به السيوف والرماح" [21] .
وأما الوجه الرابع - (ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة..) - فهو كسابقه؛ لا يمكن أن يكون معجزة قائمة للتحدّي القاطع المفحم.. وإن كان هو وسابقه ممّا يضفي على إعجاز القرآن جلالاً وروعة، ومما يزيده إشراقا وألفا.(14/177)
إذن فالوجوه الأربعة التي اختارها القاضي.. في أغلبها أدلة أو شواهد على الإعجاز، أما الوجه الحقيقي فهو ذلك الوجه الذي ألحقه الرَّجل بهذه الوجوه الأربعة وكأنه يرى أنه نافلة وليس أصلا في باب الإعجاز، وهو: (الرّوعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه) ؛ فهذا الوجه - في رأينا - هو عمدة وجوه الإعجاز القرآني على الإطلاق إن لم يكن وحده وجه الإعجاز، وهو الوجه عينه الذي توصّل إليه الخطابي قبله بنحو قرنين من الزمان؛ فالروعة التي تعتريهم عند تلاوته - هي مناط الإعجاز الحقيقي، وهي المعجزة القائمة فيه أبد الدَّهر وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإن كان القاضي عياض قد جعله حاشية في وجوه الإعجاز، من باب تحصيل الحاصل.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] اليحصبي - بفتح الياء وسكون الحاء وضمّ الصاد وفتحها وكسرها -: نسبة إلى يحصب بن مالك قبيلة من حمير. والسبتي: نسبة إلى مدينة سبتة. والغرناطي نسبة إلى غرناطة؛ المدينة الأندلسية المشهورة.
[2] طبع هذا الكتاب في دار الفكر بيروت، ولكنها طبعة غير محققة وبها بعض الأخطاء والتصحيفات. انظر: ص 258 من الجزء الأول من هذه الطبعة.
[3] ذرابة اللسان: حذقه.
[4] الإحن: جمع إحنة وهي الحقد.
[5] الجعد: الكريم من الرجال، أما إذا قيل جعد اليدين، أو جعد الأنامل فهو البخيل، وربما لم يذكروا معه اليد.
[6] القدح الفالج: السهم الفائز.
[7] المهيع الناهج: الطريق السالك.
[8] سورة البقرة الآية 24.
[9] سورة هود الآية 13.
[10] سورة الإسراء الآية 88.
[11] الزمزمة: صوت خفي لا يكاد يفهم (القاموس) .
[12] سورة المدثر آية 11-26.
[13] المثافنة: المجالسة، والمراد بها هنا مجالسة العلماء لتلقي العلم عنهم.(14/178)
[14] الشفا ج 1 ص 266.
[15] المصدر نفسه 1/266.
[16] المصدر نفسه 1/273.
[17] انظر حجج النبوة للجاحظ ص 144 وما بعدها.
[18] انظر رسالة الرماني (النكت في إعجاز القرآن) وقارن ما كتبه القاضي عياض في الوجهين الأول والثاني.
[19] انظر رسالة الخطابي (بيان إعجاز القرآن) ص 64 وما بعدها، وقارن ما كتبه القاضي في ج 1 ص 273.
[20] الشفا 1/267.
[21] عبد الكريم الخطيب: إعجاز القرآن ص 289.(14/179)
رسائل لم يحملها البريد
لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
الأستاذ المساعد بكلية الشريعة
أخي:
إذا ما التقينا بعرض الطريق علام تشيح بوجهك عني
كأني عبد بسوق الرقيق
وحينا تحدّق عيناك فيّ
وما كنت يوما مضيع الحقوق
فما كنت يوما مسيئا إليك
فأنت بها فاكه لا تريم
زرعت لك الأرض شتى الثمار
وأحرسها في الظلام البهيم
أقوم عليها بياض النهار
وكم صفعتي رياح السموم
وكم لطمتني رياح الشتاء
وآبت يداك بغنم عظيم
فآبت يدايَ بسدّ الكفاف
وقلت مشيئة ربّ حكيم
وما إن حقدت وما إن حسدت
يدايَ على سابحات الغيوم
وهذا بناؤك قد شَيَّدَتْه
لآلئ تضحك فيها النجوم
تخيّرتُ أحجاره زاهيات
وهرّأ كفي طين الشوم
تقوّس ظهري لطول انحناء
بكوخ حقير أقاسي الهموم
وكان نصيبي أني بقيتُ
تفيّأ فيه ظلال النعيم
وكان نصيبك قصرا منيفا
وقلتُ مشيئة ربّ رحيم
وما إن حقدت وما إن حسدت
كساك جمال الشباب النّضر
وهذا الرّداء الذي قد لَبِستَ
تألّق غبّ سحاب مطر
تميس به ميسان الربيع
إطافة برعم ورد عطر
أطاف بجسمك حلوا أنيقا
ولحمته من شعاع القمر
جعلت سداه ضياء النجوم
تمزّق معظمها واندثر
وعشت أنا في زري الثياب
وقلتُ مشيئة باري البشر
وما إن حقدتُ وما إن حسدت
يكاد سناه يزيغ البصر
وهذا حذاؤك تختال فيه
وفي الليل طال عليّ السهر
ظللت مُكبّا عليه النهار
وأُحكِم فيه غروز الإبر
أنسّقه قطعة قطعة
مثال الجمال وملهي النظر
إلى أن تكامل بين يديّ
وأنعلق رجلي الثرى والحجر
مشيت به مشيةَ الكبرياء
وقلت مشيئة رب قدَر
وما إن حقدت وما إن حسدت
بأمري ولا تستبين الرؤى
إلام تظلّ أخي لا تبالي(14/180)
ورحتَ تسير وراء الهوى
نسيت الإله وهديَ الرسول
يودّ إخاءك طول المدى
وإني أخوك أخوك الذي
أم اغتال قلبك حبّ الدُّنا
سواء عطفت وكنت رؤوفا
وأدعو بدعوى رسول الهدى
على دين ربي سأقضي الحياة(14/181)
ثمار من غرس النبوة
رجال ومواقف
لفضيلة الشيخ محمد الشال - كلية الشريعة
ثم عرف الفُرس من أمر العَرب أنهم جادّون، وأنهم في غزوتهم ليسوا طلاب إغارة للتزوّد بزاد أو التبلّغ بمقام؛ فقد وضعوا أيديهم على الكثير من سواد العراق، وهم وإن تريّثوا في الغزو فليس ذلك عن ضعف أو بلوغ غاية، ولكنهم يروون رأيهم ويجمعون جموعهم ويتلمسون نبأ أعدائهم، وقد قابل الفرس نبأ غزو العرب باستخفاف المتكبّر وسخرية المستخفّ، فما كان للعرب في ماضيهم دولة ولا كان لهم في حياتهم هدف، بل كان أمرهم مضيّعا مع هوى الفرس تارة وهوى الروم أخرى، وإنهم راضون من حياتهم بانتجاع الكلأ وتلمّس المرعى والرضا بالكفاف وتوسّد الخيال الشعريّ المهدهد على الأمل والمروّض على الحبّ؛ فما بالهم يغِيرون ولا يخافون، ويغزون ولا يتردّدون، ويقيمون ولا يرجعون، ثم تبلغ بهم الجرأة أن يطلعوا النّزال وأن يراجعوا الرأي.
وهل في دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ما يحي الموات وينبت الأجادب، ويجمع الشتات ويوحّد الرأي، ويقضي على الهوى ويحدّد الأهداف، ويستخفّ بالملك العريض والجاه الواسع، وما كان لأهله من ملك ولا لجماعته من تاريخ؟ !.
نعم راجع الفرس الرأي فيما بينهم، ثم استقرّ أمرهم على لقاء العرب على كره، ونزالهم على هون؛ فجمعوا الجموع القاضية والجيوش الساحقة؛ حتى يبيدوا من العرب الجمع القليل، ويقضوا على الأمل العريض، ثم يتّبعونهم في ديارهم؛ ليبدّدوا منهم الأحلام ويفرقوا منهم الكلمة، ويعيدوهم إلى سيرتهم الأولى من انتجاع الكلأ وتلمّس المرعى واستجداء ذوي الثراء، والميل مع الأهواء.(14/182)
وخرجت جيوش الفرس بقيادة أعظم قوادهم (رستم) ، يحفّ به أمراء للجند مترفون، واتّخذوا أماكنهم غربيّ الفرات على أبواب القادسيّة، ومن ورائهم الثراء العريض والمدن العامرة، وجعلوا بينهم وبين جيش المسلمين رافدا من روافد الفرات يعلوه جسر؛ لسهل حراسته والذود عنه.
ومن ينظر إلى الجيش الكثيف والجند العديد لا يخال إلا أنهم سيقضون على العرب في غدوة نزال أو روحة منه، ولكنهم يقيمون ويطول بهم المقام حتى ليحار الناظر من عددهم وعدّتهم، والمتطلع إلى جيش العرب وعدته، ويتساءل: ما الذي يمنع الفرس من منازلة العرب وليس لهم في ماضيهم جولة مع الفرس رجعوا منها بهزيمة، أو آبوا منها بنصر؟! نعم ما الذي يمنعهم من نزالهم والعدد العربي قليل والزاد يسير والعتاد خفيف؛ والتردّد في اللقاء إنما يكون عند تعادل الجيشين لكل منهما لا يبدأ بحرب عسى أن لا يصبر الخصم على طول الإقامة مع كمال الأهبة؛ فيرضى من الغنيمة بالسلامة ويسعد من المعركة بالعافية؟!.
ويرسل سعد بن أبي وقاص إلى عمر أن القوم لم يبدأوا بنزال، وقد طال المقام واستمرّ التأهب!، ولكن الخليفة الحكيم يأمر قائده بالتريّث والانتظار، ويطلب منه أن لا يبدأ بعدوان، وألا يَملّ من طول المقام.
ونجد أوامر عمر من نفس سعد ونفوس المسلمين سعة وقبولا؛ فيصابرون العدوّ حتى ينفذ صبره، ويطاولونه حتى يمل مقامه؛ فيرسل إلى سعد أن أرسل إلي مِن رسلك مَن نبادله الرأي، ويجمع سعد مجلس الشورى من خاصته، ويعرض عليهم أن تذهب منهم طائفة إلى رستم؛ يبسطون له دعوتهم ويحددون لهم هدفهم، ويتقدم ربعي بن عامر ويقول لسعد: إن الأعاجم لهم آراء وآداب، ومتى نأتِهم جميعا يرَوْا أنا قد احتفلنا بهم؛ فلا تزدهم على رجل! فوافقه الجمع، وأمره سعد بأن يذهب إلى رستم.(14/183)
فيركب فرسا له قصيرة غير مظهمة ولا فارِهة، ومعه سيفه المرهف مغمورا في لفافة من ثوب خَلِق، ورمحه غمده من أديم بال، وترسه من أديم البقر، ودرعه وعمامته مما يجلل به فرسه عند امتطائه.
فلما وصل إلى الجسر حبسه حرّاسه حتى يستأذنوا له، وأرسلوا إلى قائدهم، وعرف من أمره أنه رجل واحد، ولكنه جمع له مجلسه ليستشيرهم في لقاء العربي البادي؛ فأشاروا عليه بأن يهيّئ له من المظهر ما يأخذ بالنفوس إن كانت كنفوسهم، ويرهب الأفئدة إن كانت كأفئدتهم، ويعقد الألسنة إن كانت كألسنتهم، ويغشى الأبصار إن كانت كأبصارهم.
وحسبوا أن هذا المظهر المترف سيكون له في نفس العربي الذي لم يألف النعمة ولم يتقلب في مظاهر الثراء وقعٌ أبلغ من وقعه في نفوسهم؛ إن لم يكن من مبالغة التقدير فسوف يكون من غفلة المفاجأة، ويأمر رستم بأن تبسط البسط وأن تصفّف النمارق، وأن يكثروا من مظاهر الثراء وآثار النعمة، وأن يوضع له سرير من ذهب، ثم يلبس القائد زينته ويتكئ على الوسائد المنسوجة من الذهب.
وأقبل ربعي بن عامر يسير، وهو راكب فرسه، في وسط جموع من جند الفرس وحرس القائد، وهم ينظرون إلى مظهره وبزّته وسلاحه وعدّته في كثير من الاستخفاف أو كثير من الإشفاق، ولعلهم كانوا يتهامسون إذا كان هذا رسول العرب فما أخفّ وزنهم وما أقل شأنهم، ولعلّ غاية العرب أن نَكْسوا عريهم البادي، وأن نشبعهم من جوع ونرويهم من ظمأ.
وربعي لا يلتفت إلى الأبصار الشاخصة، ولا يستمع إلى النفوس الهاجسة، ولكنه يسير على سمته لم ترهبه كثرة الجمع ولم يؤخذ بمظاهر الثراء؛ فلما وصل إلى أدنى البسط قيل له: انزل عن فرسك! فأصمّ أذنيه عن الأمر الذليل، وهمز فرسه؛ فسارت على البسط الوثيرة حتى استوت عليها، ثم نزل عنها وربطها بوسادتين من وسائد الحرير المنسوج بالذهب؛ عمد إليهما فشقّهما ثم أدخل الحبل فيهما.(14/184)
ولقد عقدت المناجأة والجرأة ألسنة القوم وقائدهم؛ فلم يمنعوه وإن أنكروا عليه، وتقدّم إليه أحدهم وقال له: ضع سلاحك! فقال له: إني لم آتيكم فأضع سلاحي بأمركم، أنتم دعوتموني؛ فإن أبيتم أن آتيكم إلا كما أريد وإلا رجعت؛ فأخبروا رستم بمقالة ربعي، فقال: ائذنوا له! هل هو إلا رجل واحد؟!.
ونظر ربعي إلى سمات القوم فوجد عليها سحابات من الغيظ المكبوت والحقد المتأجّج؛ فأراد أن يزيد النار ضراما؛ فأقبل يتوكّأ على رمحه يمشي وئيدا قريب الخطو وهو يزجّ النمارق والبسط برمحه؛ فما ترك لهم نمرقة ولا بساطا إلا أفسده وتركه متهتّكا مخرقا، فلما دنا من رستم تعلّق به الحراس؛ فجلس على الأرض وركز رمحه بالبسط؛ فقالوا له: ما حملك على هذا؟ قال: إنّا لا نحبّ القعود على زينتكم هذه.
وعرف القوم أنهم أخطأوا التقدير حينما حسبوا أن مظاهر النعمة ستبهر ابن الصحراء أو تشتّت عليه رأيه أو تروّع منه فؤاده، وعرف ربعي ما يهدف إليه القوم من المبالغة في إظهار مظاهر الثراء وأسباب الترف، وما خرج ربعي بفعله عن آدابه أو حاد عما تدعوه إليه أخلاقه، ولكنه أراد أن يبصر القوم بغايته قبل أن يتكلم بها، وأن يعرفهم أن هذه المظاهر قد رانت على قلوبهم؛ فلم يصل إليها نداء لحرية أو صوت يدعو إلى كرامة، أو دعوة تحثّ على مساواة، وأنّهم واهمون إن ظنوا أن غاية ربعي ومن خلفه طلب شيء من دنياهم أو الظفر بشيء من ديارهم.(14/185)
ويقول رستم لربعي: ما جاء بكم؟ قال: الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام؛ فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه؛ فمن قبل منّا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نقضي إلى موعود الله. قال له رستم: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي، فقال رستم: قد سمعت مقالتكم، فهل لكم أن تؤخّروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ قال: نعم، كم أحبّ إليكم؛ أيوماً أو يومين؟ قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا.(14/186)
وأراد رستم أن يقرب ربعيا منه وأن يدنيه، وأن يحسن له القول ويزيّن له الحديث؛ لعلّه يجد منه إيناسا به أو ركونا إليه؛ فيمنّيه أو يَعده؛ لعله بهذا يرجع إلى قومه بوجه غير الذي جاء به، ولكن ربعيّا يبدّد الوهم بالجد من القول، فيقول: إن مما سنّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به أئمتنا أن لا نُمكّن الأعداء من آذاننا، ولا نؤجّلهم عند اللقاء أكثر من ثلاث؛ فنحن متردّدون عنكم ثلاثا، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل: اختر الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزية فنقبل ونكفّ عنك، وإن كنت عن نصرنا غنيا تركناك منه وإن كنت إليه محتاجا منعناك، أو المنابذة في اليوم الرابع، ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا، وأنا كفيل لك بذلك على أصحابي وعلي جميع من ترى من قومي! قال: أسيّدهم أنت؟ قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد لبعضهم من بعض؛ يجير أدناهم على أعلاهم، وخلا رستم برؤساء قومه وقال لهم: ما ترون؟ هل رأيتم كلاماً قطّ أوضح ولا أعزّ من كلام هذا الرجل؟ قالوا: معاذ الله لك أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك إلى دين هذا الأعرابي الجائع! أما ترى إلى ثيابه؟! فقال: ويحكم لا تنظروا إلى الثياب ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة؛ إن العرب تستخفّ باللباس والمآكل ويصونون الأحساب، وهم ليسوا مثلكم في اللباس ولا يرون فيه ما ترون.
وعجب القوم من كلام قائدهم، وظنوا به الظنون في تقديره للعرب مثل هذا التقدير، وأرادوا أن يؤيّدوا ظنهم أو يدفعوا وهمهم؛ فتقدموا إلى ربعي وتناولوا سلاحه وهم يزهّدونه فيه، فقال لهم: هل لكم إلى أن تروني فأريكم، ثم أخرج سيفه من خرقه كأنه شعلة نار، فقال القوم: أغمده! فغمده، ثم رمى ترسا لهم فخرقه، ورموا هم وقايته من الأديم فسلمت، فقال لهم: يا أهل فارس إنكم عظمتم الطعام واللباس والشراب، وإنا صغرناهن.(14/187)
وعرف الفرس حينما رأوا بريق سيفه أن له مضاء ولصاحبه عزيمة، فأسرعوا إلى طلب إغماده، كما رأوا عندما انخرق ترسهم وسلمت وقايته مع تفاوت الصلابة أن الذي خرق ترسهم إنما هي قوة عزيمة ربعي وصلابة إيمانه بدعوته، وأن الذي حفظ ترسه الجلدي من رميهم إنها رمية الأذلاء المستضعفين، وأنّى للنفوس الذليلة أن يكون لها قوة، وللمستضعفين من الناس أن يكون لهم مضاء.
ثم رجع ربعي إلى أن ينظر إلى الأجل؛ فلما كان من الغد بعثوا: أن ابعثوا إلينا ذلك الرجل؛ فبعث إليهم سعد حذيفة بن محصن؛ فأقبل في بذة صاحبه وهيأته وسمته وسلاحه، وعملوا له كما عملوا لصاحبه، وعمل هو معهم مثل ما عمله صاحبه؛ فلما وقف على رستم قال له: ما بالك جئت ولم يجئ صاحبنا بالأمس؟ قال: إن أميرنا يحبّ أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء؛ فهذه نوبتي، ثم سأله رستم عما جاء بهم؟ فما زاد ولا نقص عن قول ربعي، فسأله الموادعة إلى أجل؟ فقال له: لكم ثلاثة أيام من أمس، فلما لم يجد عنده إلا ذلك ردّه، وأقبل على أصحابه فقال لهم: ويحكم ألا ترون إلى ما أرى؟ جاءنا الأوّل بالأمس فغلبنا على أرضنا، وحقر ما نعظم، وأقام فرسه على ما نحفل به غالي الحرير وربطه به، وقد ذهب إلى قومه في يمن الطائر مع فضل عقله، وجاءنا هذا اليوم فما رأينا منه إلا ما رأينا من صاحب الأمس، ثم رجع كما رجع أخوه؛ فأغضبهم وأغضبوه، فلما كان من الغد أرسل: أن ابعثوا إلينا رجلا آخر منكم؛ فأرسلوا إليه المغيرة بن شعبة، فعملوا له مثل ما عملوا لصاحبيه، وعمل هو معهم مثل ما عمل صاحباه، ثم زاد أن جلس على سرير رستم واتّكأ على وسادته؛ فوثبوا عليه وأنزلوه، وحقروا فعله وشأنه؛ فلم يغضب المغيرة مما فعل به، ولعلّه أراد أن يرى من فعالهم ما يكون فيه الدليل على مهانتهم وذلتهم وسفاهة رأيهم، ثم يريهم من أمر العرب فيما بينهم ما تتوق إليه نفوسهم، وما يؤلّب عامّتهم على خاصّتهم؛ فيكون عمل بعمله هذا فوق ما يعمله جيش قوي(14/188)
العتاد كثير الجند، فلما رأى منهم ما رأى قال لهم: كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوما أسفه منكم، وإنا معشر العرب سواء؛ لا يستعبد بعضنا بعضا إلا أن يكون محاربا لصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه، وأنا لم آتكم ولكنكم دعوتموني، اليوم علمت أن ريحكم ذاهبة وأنكم مغلبون، وأن ملكا لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول [1] .
وبلغ المغيرة بمقالته ما أراد، وحقّق لنفسه ما قصد، فوصلت مقالته إلى نفوس ظامئة إلى الحرية وإلى قلوب مطوية على ضغينة، وهي وإن تظاهرت بالرضا فما ذلك إلا لضعف حيلتها أو فقدان قيادتها، وقال المستضعفون: صدق والله العربي! وقال السادة: والله لقد رمى العربي بكلام لا يزال عبيدنا ينزعون إليه! ثم قالوا: قاتل الله من سبق منا؛ ما كان أحمقهم حين كانوا يصغّرون أمر هذه الأمة، ثم مازحه رستم ظنا منه أن المغيرة قد كره ما حصل من قومه، ثم مدّ رستم يده إلى كنانة المغيرة فأخرج منها سهما وقال له: ما هذه المغازل التي معك؟ فقال له المغيرة: ما ضرّ الجمرة ألا تكون طويلة؟! ثم قال: وما بال سيفك رثّا؟ قال: رثّ الكسوة حديد المضربة!، واستنبأه نبأ قومه، فقال مقالة صاحبيه، ولكنه تخير من اللفظ ما يثير الحميّة حتى يفضحه على المطاولة، وما ترك رستم إلا وهو متوعّد ومنذر.
ولما انصرف المغيرة خلا رستم بخاصته بعد أن رأى من أمر العربي الجدّ الجادّ فقال لهم: أما ترون من أمر هؤلاء القوم أنهم لم يختلفوا، وسلكوا طريقا واحدا ولزموا أمرا واحدا؟! هؤلاء والله الرجال صادقين كانوا أم كاذبين، والله لئن كان بلغ من أربهم وصونهم لسرهم أن لا يختلفوا فما قوم أبلغ مما أرادوا منهم، ولئن كانوا صادقين ما يقوم لهؤلاء شيء.(14/189)
ولقد ترك المغيرة القوم وقد اختلط عليهم الأمر وتشتت منهم الرأي وتنازع الهوى؛ فالسادة يودّون الإبقاء على أبّهة الحكم والسلطان والرئاسة، والعبيد سمعوا نداء الحرية التي ينزعون إليها، وعرفوا أنهم إن فاتتهم الفرصة المواتية على أيدي المسلمين اليوم فقلّ أن تعود.
ورأى القائد وذوو الرأي معه بوادر التمرّد تسري في جنبات جيشه، فأمر بالقيود والسلاسل فقيدت بها الجند وشدّت بها الرجال، وأنّى لمكره أن يدافع عن ديار؟!، وأنّى لمستعبد أن يدافع عن أوطانه، وليس له في هذا الوطن رأي مسموع ولا حق مصان ولا حياة كريمة؟!.
وما عرف الفرس أن القلوب إذا طويت على ضغن من طول الإذلال فقلّ أن تستجيب لنداء أو تحفّ لنجدة، وما غناء مَن قُيّد بالقيود وقُرِن في السلاسل في الدفاع عن الأوطان والذود عن الحمى؟!.(14/190)
ولقد كشف ربعي وأخواه للفرس عما يدور في المجتمع الجديد من حرية في الرأي ووحدة في الهدف وسموّ في المقصد، وأعلموهم أنهم وإن لم يكن لهم في التاريخ صفحات، ولا بين الأمم وزن إلا أنهم من اليوم سوف يكون لهم منهج من الحرية الصادقة؛ يأخذون أنفسهم به وينشرونه في الناس، وأنهم إن جاءوا إلى بلادهم اليوم وإن ذهبوا إلى بلاد غيرهم غدا فهم لا يتطلّعون فتحا لاغتصاب أرزاق ولا لاستعباد شعوب ولا لاحتلال ديار، وإنما هم يرفعون راية حرية الإنسان أينما حلّوا، وأنهم لِسموّ ما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم - من توحيد الكلمة ونكران الذات وحرية الرأي وأخوة الإنسان لأخيه - لم يرضوا أن يعيشوا ناعمين بالحرية وغيرهم يرسف في أغلال العبودية، وأن الإنسانية التي طال عليها الظلام لا بدّ لها من نور ساطع قويّ ينفذ إلى النفوس المظلومة؛ فيضيء لها السبيل ويوضح الطريق ويحدّد الغاية، وأن العرب قد حملوا الأرواح على الأكفّ في سبيل دعوة الحقّ والعدالة؛ فمن مات في سبيلها مات ونفسه راضية لأنه يدافع عن مبادئ الإسعاد للإنسانية، ومن بقي منهم سرّه أن ينعم الناس بما ينعم به.
ونحن في هذه الآونة التي تمرّ بالعرب والمسلمين نحتاج إلى الكثير من أمثال ربعي وأخويه، والرأي لا ينضج إلى في ظلال الحرية والإيمان لا يقوى إلا في كنف الرحمة، كما نحتاج إلى الكثير من أمثال سعد ممّن يأخذون أمرهم بالشورى المبرّأة من الإرهاب، البعيدة عن الإعجاب بالرأي والاستبداد به؛ لأنه لا يستقيم أمر أمة استبدّ قادتها برأيهم، أو أرهبوا غيرهم حتى لا يجهروا برأي، والطريق لا توضح معالمه إلا إذا كثرت السواعد المتعاونة على تمهيده، وتبودلت الآراء في حرية تامة وأمن كامل.(14/191)
أما أن نقتل في النفوس حبّ الخير بالإرهاب، أو نقضي على الآراء الناضجة بالإهمال، أو نَحول بين الناس وبين إبداء آرائهم بالقسوة؛ فإن هذا أمر يجعل اليأس يتطرّق إلى القلوب؛ فلا تُخلص النصح ولا تنطوي على محبة، وقلّ أن يرتفع شأن أمة وقلوب بنيها متنافرة من القسوة أو متعادية بسبب الحرمان.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] راجع تاريخ الطبري.(14/192)
فتح العرب للأندلس
لفضيلة الشيخ محمد أبو زيد طنطاوي
كلية الدعوة وأصول الدين
بعد أن تمّ لموسى بن نصير فتح بلاد المغرب، وبعد استقرار الإدارة العربية في شمال إفريقيا أخذ يتطلع لفتح أسبانيا، وبدأ يعدّ من مدينة القيروان الخطط لنشر الإسلام في هذه البقعة من أرض أوربا، ويجمع الأخبار عنها، ويستفسر عن أحوالها، وصارت مدينة طنجة مركز عمليات موسى بن نصير في تلك المرحلة الاستطلاعية؛ بسبب قربها من أسبانيا، ولموقعها المباشر على بحر الزقاق (مضيق جبل طريق) المؤدي إلى تلك البلاد الأوربية، وأقام في طنجة منذ تَمّ فتحها أشهر قادة البربر المسلمين؛ وهو طارق بن زياد الذي صار الساعد الأيمن لموسى بن نصير في إعداد خطة فتح أسبانيا، وفي سائر العمليات الحربية الكبرى التي تطلبها تنفيذ تلك الخطة.(14/193)
وساعد طارقا في تلك المرحلة عاملان: أوّلهما أنه من البربر؛ السكان الأصليين لإفريقية والخبيرين بأحوال أسبانيا، وما حفلت به من خيرات وثروات، وثانيهما: أنه ثمرة من ثمار القوة الجديدة للدولة العربية الإسلامية؛ فهو من قبيلة نفزاوة، ومن أسرة اشتهرت بسبقها إلى اعتناق الإسلام؛ إذ أسلم والد طارق أيام عقبة بن نافع الفهري، والتحق هو بعد وفاة والده بخدمة المسلمين، وكان إذ ذاك صغير السن، ولكنه كان يتمتع بقدر كبير من الحماسة والغيرة على الدين الإسلامي، الأمر الذي جعله من أشدّ المقرّبين إلى موسى بن نصير، ومن الطبقة الأولى من رجال البربر الذين اختصّهم بسرّه وثقته المطلقة، وأشركه مشاركة عملية في رفع راية الإسلام، وأثبت طارق بن زياد أنه خير أمين على تنفيذ خطط موسى بن نصير التي بدأ يعدّها لفتح أسبانيا؛ ذلك أن موسى بن نصير - بعد أن فتح طنجة - اتجه إلى مدينة سبتة التي كان يحكمها إذ ذاك رجل من الروم يدعى يوليان، ولكن هذه المدينة استعصت عليه؛ فآثر إرجاء الاستيلاء عليها، وكلّف طارق بن زياد الذي عيّنه على طنجة مهمّة الاتصال بهذا الحاكم وجعل مدينة سبتة نافذة يطلّ منها المسلمون على أسبانيا ودراسة أحوالها، وكشف موسى بن نصير بذلك عن مقدرة سياسية فائقة حين آثر العمل في هذه المرحلة بطريق غير مباشر، وتقديم طارق بن زياد للقيام بالعمل في هذه الجبهة؛ ذلك أن طارقا كان أقدر على الاتصال بالبربر التابعين لحاكم سبتة، وكلهم ممن خبروا أسبانيا وانتقلوا بين أرجائها، ولم تلبث تطورات الأوضاع في سبتة أن هيّأت لطارق بن زياد السير قدما في سبيل تنفيذ خطط موسى بن نصير؛ فقد رأى يوليان حاكم سبتة أن الحكمة تفرض عليه التقرّب من القوة الإسلامية الجديدة التي صارت تجاور أملاكه مباشرة، وأن يقيم معها علاقات ودّية تعوّضه عن الضعف الذي دبّ إلى سلطانه في سبتة، وكان يوليان أصلا عاملا من عمّال دولة الروم، وحكم إقليم مرطانية الطنجية بحكم(14/194)
كونه قائدا عامّا مفوّضا من قبل الامبراطور، وتولّى يوليان إدارة هذا الإقليم وهو صغير السن، ثم طال به الزمن دون أن تتمكّن دولة الروم من عزله أو استبدال غيره به؛ بسبب انشغالها بالحروب ضد العرب المسلمين الفاتحين في شمال أفريقيا، وأصبح يوليان مطلق التصرف في ولايته، وله صلات ودّية كثيرة مع أهلها من البربر وزعماء القبائل المجاورة له؛ حتى صار خبيرا بتقاليدهم وعاداتهم، وأجاد القيام بها إلى درجة جعلته يبدو كأحد أبناء البلاد الأصليين، لا تابعا لإمبراطورية الروم، ولا يمكن كشف حقيقة لونه السياسي في سهولة ويسر؛ فاختلط على كثير من المؤرخين أمر يوليان حتى ذكر البعض أنه من البربر، على حين قال البعض الآخر إنه من القوط دون أن يفطنوا إلى تبعيّته أصلا لإمبراطورية الروم، ولما انهار سلطان الروم في إفريقية بعد الفتوح العربية أخذ يوليان يعمل على تقوية روابطه بدولة القوط في أسبانيا على نحو ما فعل مع جيرانه من البربر؛ ليدعم مركزه ويحفظ أملاكه، ورحّب ملك القوط إذ ذاك - واسمه غيطشة - بولاء يوليان؛ بسبب أهمية سبتة لحماية دولته؛ فهي تتمتع بمركز جغرافي فريد يجعلها مفتاح أسبانيا والحارس الذي يحميها من هجوم قد يشنّ عليها من الجانب الإفريقي؛ فهي قبالة الجزيرة الخضراء من أرض أسبانيا، وتسيطر على المياه التي بينها وبين تلك الرقعة الأسبانية، هذا وتتمتع أسبانيا بموقع طبيعي يجعلها حصنا منيعا في استطاعته أن يقاوم زمنا طويلا أيّ هجوم مفاجئ قد تتعرض له؛ فيوجد على بعد ميلين منها جبل موسى (نسبة إلى موسى بن نصير) ، كما يحيط ماء البحر بها من ثلاث جهات مما زاد في مناعتها وقوتها، هذا إلى أنه قام على مقربة منها دار لصناعة السفن التي استخدمت في العبور إلى الأندلس.(14/195)
ورأى يوليان على الرغم من دعم صلاته بدولة القوط في أسبانيا أنّ تطوّر الأوضاع في بلاد المغرب واستقرار الفتوح الإسلامية بها يفرض عليه حسن الجوار مع الإدارة العربية الجديدة وتجنّب الاصطدام بها؛ ولذا رحّب يوليان بسياسة موسى بن نصير الذي آثر عدم الاستمرار في الاستيلاء على سبتة، وكان موسى قد ترك لقائده طارق بن زياد في طنجة مهمة تنظيم علاقة الجوار مع حاكم هذه المدينة الهامّة الذي يعتبر مفتاح بلاد الأندلس، ونجح طارق في دعم صداقته ليوليان، وبدأ يطلّ من هذه المدينة على أسبانيا ويدرس أحوالها دون أن يثير مخاوف القوط أو يبعث الريبة في نفوسهم باستعدادات المسلمين الحربية، وسارت الأمور بعد ذلك في سبتة بما ساعد موسى بن نصير على أن يكمل دراسته الخاصة بفتح أسبانيا ويعرف المزيد من الأخبار التي تهيّئ للمسلمين القيام بفتوحهم في هذا الميدان الجديد؛ وسبب ذلك أن دولة القوط في أسبانيا تعرّضت لاضطرابات شديدة تردّد صداها في مدينة سبتة، ودفعت بحاكمها يوليان إلى الانتقال من سياسة حسن جواره للمسلمين إلى سياسة التحالف والاتّفاق على تحقيق المصالح المشتركة بينهما، ذلك أن أحد كبار رجال القوط - واسمه رودريك، وهو الذي عرفه العرب باسم لوذريق - استطاع أن يطيح بالملك الحاكم وهو غيطشة، ثم اعتلى العرش، ولم يكتف لوذريق بذلك وإنما أخذ يعمل على إنزال أشدّ ألوان الأذى بأبناء غيطشة وسائر آل بيته، وآتت هذه السياسية الخرقاء من جانب لوذريق ثمرة لم يكن يتوقعها على الإطلاق؛ ذلك أن أبناء غيطشة حين اشتدت بهم المتاعب وسدّت في وجوههم السبل أخذوا يلجئون إلى جهة أخرى يستمدون منها العون والمساعدة على استرداد حقّهم المسلوب، وكان موسى بن نصير قد بدأ يتطلّع إلى أسبانيا عن طريق نافذة سبتة، ولم تلبث الأحداث أن جعلت سبتة تقوم بدور مباشر في نقل صورة كاملة عن تلك الأحوال السائدة في أسبانيا إلى موسى بن نصير، فضلاً عن قيامها بدور الوساطة(14/196)
بين أبناء غيطشة وموسى بن نصير، ووجد أبناء غيطشة من يوليان حاكم سبتة رسولا إلى موسى ابن نصير، وساعِدا ومعاضدا لمشاريعهم؛ بسبب سوء العلاقات التي وقعت إذ ذاك بين هذا الحاكم وبين لوذريق، وتذكر المراجع أن سبب سوء العلاقات يرجع إلى اعتداء لوذريق على شرف ابنة يوليان التي كانت تتعلّم في طليطلة، وكانت العادة قد جرت على أن يبعث كبار رجال الدولة من القوط بأبنائهم إلى طليطلة ليتأدّبوا بآداب البيت المالك، وليكون ذلك سبيلا لتأليف القلوب.
وأسهبت المراجع في قصة ابنة يوليان؛ فوصفتها بأنها بارعة الجمال، فلما صارت عند لوذريق وقعت عينه عليها فأعجبته وأحبّها حبّا شديدا، ولم يملك نفسه حتى أكرهها، فاحتالت حتى أعلمت والدها بذلك سرّا بمكاتبة خفيّة؛ فأحفظه شأنها جدّا واشتدّت حميّته وقال: ودين المسيح لأزيلنّ ملكه وسلطانه، ولأحفرنّ تحت قدميه! ورأى يوليان أن يحتال أوّلا لاستدعاء ابنته من بلاط لوذريق؛ فخرج بنفسه في يوم من أيام الشتاء البارد دون أن يأبه بمخاطر الطريق، وعندما وصل إلى طليطلة أوجس منه لوذريق خيفة بسبب حضوره في ذلك الوقت غير الملائم، وسأله عمّا لديه، وما جاء فيه، ولِمَ جاء في مثل وقته؟ فأجاب يوليان بأن سبب حضوره هو أن زوجته مريضة مرض الموت، وأنها في شدّة شوقها لرؤية ابنتها التي هي عنده، وتمنّيها لقاءها قبل الموت وإلحاحها عليه في إحضارها، وأنه أحبّ إسعافها ورجا بلوغ أمنيتها منه، وانخدع لوذريق بهذه الحجّة وسمح لابنة يوليان بالعودة إلى أبيها بعد أن استوثق منها بألا تطلعه على ما حدث بينهما.(14/197)
وبعد أن استقرّ يوليان ومعه ابنته في سبتة بدأ يكشف نواياه صراحة، وأخذ يساعد أبناء غيطشة والعناصر المناوئة للوذريق في أسبانيا، فأعدّ يوليان حملة نزلت بأسبانيا، واشتركت مع الثوّار في أعمالهم الحربيّة، لكن قوّات لوذريق استطاعت الحصول على النصر، ودمرت حملة يوليان واضطرّتها للعودة إلى سبتة، وما أن انتهت هذه الحروب في أسبانيا عن فوز لوذريق حتى أيقن يوليان أنه لم يعُد أمامه مفرّ من الاتجاه نحو السلطات العربية في القيروان وطلب مساعدتها ضدّ لوذريق، واتصل يوليان بطارق بن زياد طالبا مساعدة العرب له ضدّ لوذريق، ونقل طارق أخبار المفاوضات التي دارت بينه وبين يوليان إلى موسى ابن نصير الذي وجد أن الوقت قد حان لفتح الأندلس، ثم تحقّق موسى من صدق ما نقله إليه طارق حين ذهب يوليان نفسه إلى القيروان ليعرض وجهة نظره على السلطات العربية هناك؛ إذ أكّد يوليان لموسى بن نصير الخير الوافر الذي سيعود على العرب من القيام بغزو الأندلس ومساعدتهم له ضدّ لوذريق، ووجد موسى بن نصير أن كلّ الظروف قد أصبحت سانحة للانتقال إلى ميدان جديد حافل بالمجد والفخار، وأعلن موافقته على مساعدته ضدّ لوذريق، واستطاع بذلك أن يستفيد من الموقف السياسي الذي ساد حكام الأندلس، وأن يسخره لخدمة الجيوش الإسلامية المجاهدة.(14/198)
وكتب موسى بن نصير إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك يستأذنه في فتح تلك البلاد، ويشرح له اضطراب أحوالها وأنّ الفرصة غدت مواتية بعد مؤامرة يوليان ضدّ لوذريق، غير أن الخليفة أمر موسى بأن يختبر الأندلس ويدرس أحوالها بنفسه بإرسال حملات استطلاعية إليها، وعهد موسى بن نصير إلى يوليان نفسه القيام بإغارة على جنوب أسبانيا ليتحقّق بذلك من أمرين: أولهما أن يوليان جادّ في دعواه ضدّ لوذريق، وكراهيته له ولحكومته في أسبانيا، وثانيهما: أن يعرف مِن المقاومة التي يتعرض لها يوليان مدى قوّة القوط وما لديهم من استعداد حربي، وقام يوليان فعلا بإغارة سريعة على جنوب أسبانيا، ورجع منها محمّلا بالكثير من الغنائم والسبي.
فتح جزيرة طريف:(14/199)
وأراد موسى بن نصير أن يقف بعد ذلك بنفسه على أحوال أسبانيا؛ فأعدّ حملة من المسلمين جعل على رأسها أحد قادته المشهورين بالمغامرة والشجاعة، وهو أبو زرعة طريف ابن مالك؛ فبعث هذا القائد إلى الأندلس في أربعمائة من خيرة الفدائيين، وذلك على سفن قدّمها لهم يوليان، ونزل المسلمون في جزيرة صغيرة اسمها بالوماس، وهي التي صارت تحمل بعد ذلك اسم القائد المسلم وعرفت بجزيرة طريف، وبادرت قوّة مكونة من أبناء غيطشة التي اشتركت في الحملة إلى مساعدة المسلمين وحراسة المضيق، وذلك في شهر رمضان عام 92هـ يوليو 711م، وشنّ طريف من مركزه بتلك الجزيرة عدّة حملات استطلاعية على سواحل أسبانيا الجنوبية، حيث درس تحصيناتها وعرف الكثير من أحوال أهلها ومدى علاقتهم بحكامها من القوط، وأخيرا عاد طريف إلى بلاد المغرب؛ فقدّم تقريرا مفصّلا عن إغاراته إلى موسى بن نصير، وشرح له في إسهاب أحوال أسبانيا، وقد أكّدت غارة طريف لموسى بن نصير صدق الأقوال التي نقلها إليه يوليان عن انهيار الأحوال في أسبانيا وافتقارها إلى أسباب الدفاع؛ بسبب انشغال القواد بملاذهم وانصرافهم إلى أعمال الطغيان وسلب ثروات البلاد لأنفسهم؛ فلم يلق طريف نوعا من أنواع المقاومة، كما لم يقابل قوّة من قوات القوط أثناء استطلاعه لأحوال جنوب أسبانيا، هذا إلى أن مبادرة أفراد بيت غيطشة إلى مساعدته وحراستهم لخطوط مواصلات المسلمين جاء دليلا واضحا على الانقسام الذي ساد الطبقة الحاكمة من القوط، وأن لوذريق لا يحكم إلا بالعنف والقسوة، وهو أمر لن يكفل له مقاومة المسلمين طويلا عندما يبدأ الفتح الإسلامي للبلاد، هذا إلى أن يوليان برهن مرة أخرى بما قدّمه من مساعدات لحملة طريف على أنه كاره فعلا للوذريق، وأن المؤامرة التي دبّرها مع أبناء غيطشة ضدّ هذا الحاكم المستبدّ مؤامرة لها خطرها، وأن خيوطها صحيحة وسليمة.(14/200)
وبعودة حملة طريف انتهى موسى بن نصير من دور الحملات الاستطلاعية، وبدأ الإعداد الفعلي للفتح المنظّم لأسبانيا، وأثبت موسى بن نصير مقدرة حربية فائقة في هذا السبيل؛ إذ دارت الاستعدادات الحربية التي قام بها دون أن يتسرّب أمرها إلى القوط، ودون أن يتنبّه يوليان نفسه إلى حقيقة أهدافها وجوهر مراميها؛ فقد استطاع موسى بن نصير أن يوهم يوليان بأن استعداداته الواسعة النطاق التي أعقبت حملة طريف ما هي إلا حملة قوية لمساعدة أبناء غيطشة ضدّ لوذريق، وأخفى عنه تماما أنها ستكون الحلقة الأولى في سلسلة الفتح المنظّم لأسبانيا، وأعدّ موسى بن نصير حملة مكوّنة من خمسة آلاف جندي حتى لا يثير كثرة عددها ريبة يوليان أو مخاوفه، وفي الوقت نفسه سار موسى بن نصير في ذلك الإعداد على النهج الذي سارت عليه الفتوح الإسلامية الكبرى في شتىّ الجهات، وهو القيام أوّلا بإرسال حملة صغيرة العدد يتبعها إمدادات لا تنتهي - سواء من حيث الكثرة أو حسن الاستعداد - حتى يتم تحقيق الأهداف الحربية، وانتدب موسى لقيادة هذه الحملة الأولى على الأندلس أحسن قادة المسلمين إذ ذاك وأشدّهم ثقة به وهو: طارق بن زياد.(14/201)
جاء اختيار موسى بن نصير لطارق بن زياد لقيادة هذه الحملة خطوة موفّقة، وأكّد بُعد نظر موسى وسعة خبرته الحربية؛ فطارق من البربر الذين عرفوا أرض الأندلس معرفة وثيقة؛ لأنهم يرونها امتدادا لبلادهم لا فارق بين بيئتها وبيئتهم، يضاف إلى ذلك أن طارقا هو الذي تولّى بنفسه جمع المعلومات عن بلاد الأندلس، وتولّى مفاوضات يوليان، وصار خبيرا بالميدان الجديد في سائر نواحيه الحربية والسياسية، وعمل موسى بن نصير على أن يشدّ أزر طارق الذي عهد إليه بالقيادة العليا للحملة؛ إذ ضم إليه هيئة من كبار رجال الحرب من العرب والبربر ليكونوا بمثابة مجلسه الاستشاري ومساعديه في إدارة المعارك، ومن أولئك القادة العرب: عبد الملك بن أبي عامر المغافري، وعلقمة اللخمي، وأحد موالي الخليفة الوليد بن عبد الملك واسمه مغيث الرومي، وكان القائد الأخير يعتبر مندوب الخلافة الحربي في تلك الحملة التي أعدّها موسى بن نصير، وحلقة الاتصال بين السلطات المركزية في دمشق ومقرّ القيادة الإسلامية في القيروان، وكلّف موسى بن نصير بعد ذلك يوليان بأن يقدّم للقوات الإسلامية السفن اللازمة لنقلها إلى أسبانيا، كما يتولى حراستها ويقوم بمهمة الدليل لها، وكان السبب في إصرار موسى بن نصير على الاعتماد في نقل الجند بسفن يوليان هو حرصه الشديد على إخفاء تحركات هذه الحملة عن العيون والجواسيس؛ فالأسطول الإسلامي كان قد تمّ إعداده على عهد موسى بن نصير وصارت له قاعدة هامة في تونس، كما ظهر نشاطه في السيطرة على الجزر الهامة في غرب البحر المتوسط، ولذا كانت تحركات هذا الأسطول محطّ أنظار الجميع ولا يمكن إخفاء أمرها، ولما كان موسى بن نصير يستهدف مفاجأة القوط بالأندلس لم يكن أمامه سوى الاعتماد على سفن يوليان التي لا تثير الريبة في نفوس من يشاهدها وهي تعبر بحر الزقاق (مضيق جبل طارق) ، وكان لدى يوليان أربع سفن لا تتّسع لنقل أفراد الحملة مرّة واحدة، ولذا تمت عملية(14/202)
عبور بحر الزقاق على دفعات، وأخذت كل جماعة يتمّ نقلها تختفي في جهات خصّصت لها على الشاطئ الأسباني، حتى انتهى الجميع من العبور وذلك عام 92هـ (711م) .
وبادر طارق بن زياد بتحصين القاعدة الأولى التي استولى عليها في جنوب أسبانيا قبل التوغّل في داخل البلاد، ثم استولى على بلدة الجزيرة الخضراء قبالة جبل طارق، وصار بحر الزقاق (مضيق جبل طارق) في قبضة المسلمين وعلى اتصال وثيق بسبتة قاعدة الاتصال الأولى ببلاد المغرب.(14/203)
وتمت المرحلة الأولى بذلك من نزول الحملة الإسلامية في أسبانيا دون مقاومة تذكر، وكان السبب في ذلك هو أن موسى بن نصير اختار وقت قيام حملة طارق وفق أدقّ المعلومات التي وصلته، وكانت المخابرات الإسلامية تتبع حركات لوذريق وتتحيّن الوقت المناسب لبدء الحملة، وسرعان ما سنحت الفرصة حين ذهب لوذريق إلى أقصى شمال أسبانيا ليخمد ثورة قام بها سكان جبال البرانس المعروفة باسم القبائل البسقاوية، وكانت تلك الجموع القبلية مشهورة بالمراس وقوة الشكيمة، مما جعل لوذريق يأخذ معظم جيشه معه، وأصبح جنوب أسبانيا خاليا تماما من أسباب الدفاع عنها، ولذلك لم تشعر سلطات القوط بنزول المسلمين في جنوب البلاد إلا بعد أن استقرّت دعائمهم ومكّنوا لأنفسهم على بحر الزقاق، فعبأت قوات سريعة وأرسلتها على عجل للهجوم على المسلمين تحت قيادة (بنج) المعروف باسم (بنشو) في المراجع الأسبانية، ولكن القوط لقوا هزيمة فادحة لم ينج منهم إلا واحد استطاع الهرب والذهاب إلى معسكر لوذريق في أقصى الشمال، ونقل إليه أنباء تلك الكارثة وهجوم المسلمين على البلاد، وكان لوذريق يقيم في مدينة بنبلونة بأقصى الشمال حيث يدير الحرب ضد القبائل البسقاوية، ولذا صمّم العودة سريعا إلى الجنوب والهجوم على المسلمين قبل أن يتوغّلوا في داخل البلاد، وكان لوذريق من أشهر رجال القوط في ميدان الحروب؛ إذ قدّر تماما الخطر الذي أحاط بدولته بسبب نجاح المسلمين في اتخاذ قاعدة لهم عند جبل طارق، وأدرك أنهم جاءوا للفتح وليس للإغارة من أجل السلب والنهب والحصول على المغانم كما راجت الإشاعات بذلك، ومن ثم عمد إلى جمع صفوف القوط لمواجهة المسلمين؛ فاتصل بأبناء غيطشة وصالحهم ليكونوا جميعا يدا واحدة، ولكن أعمال لوذريق في تلك السبيل جاءت متأخرة؛ لأن بيت غيطشة ظلّ على ولائه سرّا للخطة التي وضعها يوليان، ولم ينس ما حلّ به من أذى واضطهاد وتشريد على يد لوذريق، وفي الوقت نفسه ظلّ أبناء(14/204)
هذا البيت في اعتقادهم أن المسلمين لم يأتوا للفتح ولكن للحصول على المغانم مقابل مساعدتهم في القضاء على لوذريق، وزحف لوذريق بجيشه سريعا واحتلّ قرطبة؛ ليحول بين المسلمين وبين الاستيلاء عليها؛ لأنها المفتاح الذي يسيطر على سهول الأندلس الجنوبية الشرقية، ويمكن لصاحبها من الاستقرار في البلاد.
وكان طارق بن زياد يريد فعلا الاستيلاء على قرطبة؛ فقد زحف على هذه المدينة بعد انتصاره في جنوب أسبانيا، وسلك الطريق المارّ بجزيرة طريف (الجزيرة الخضراء) ثم زحف شمالا بعد ذلك حتى اقترب من بحيرة الخندق التي يخترقها نهر صغير يسمى البرباط، وفي ذلك المكان مدينة صغيرة سمّاها المسلمون (بكة) ونسبوا إليها النهر الذي صار يعرف باسم وادي بكة، وحرف بعض المسلمين هذه التسمية إلى وادي لكة، وعند وادي بكة عرف طارق ابن زياد عن طريق عيونه أن لوذريق علم بنبأ الحملة الإسلامية وأنه وصل إلى قرطبة واستولى عليها، كما أنه تابع زحفه جنوبا واتخذ معسكره عند بلدة شذونة في سهل البرباط، وأنه صار بذلك على أهبة القتال، وذكرت بعض المراجع أن جيش القوط بقيادة لوذريق بلغ عدده مائة ألف مقاتل وضمّ عددا عظيما من الفرسان، ويرجح أن هذا العدد مبالغ فيه، وأدرك طارق بن زياد أن العدد الذي معه من جند المسلمين لا يكفي لقتال قوات لوذريق الهائلة؛ ولذا أرسل إلى موسى بن نصير يشرح له الموقف ويطلب إليه إرسال الإمدادات بسرعة، فأمدّه موسى بن نصير بحملة عددها خمسة آلاف مقاتل بقيادة طريف بن مالك الذي قاد أول حركة استطلاعية في أرض أسبانيا، ونقل هؤلاء الجنود مرّة واحدة على سفن الأسطول العربي إلى أسبانيا، ووصلت الإمدادات الإسلامية إلى طارق في اللحظة الحاسمة التي كان القوط على وشك شنّ الهجوم على المسلمين، وأعدّ طارق بن زياد قواته للمعركة، ثم وقف بين جنده خطيبا يحثّهم على الاستبسال في القتال، شأنه في ذلك شأن قادة الفتوح العربية الذين دأبوا على رفع روح(14/205)
جندهم المعنوية بإلقاء خطاب حماسي بينهم قبل نشوب المعركة، وتعتبر خطبة طارق من روائع الأدب العربي، ومما جاء في هذه الخطبة: "أيها الناس! أين المفرّ؟ البحر من ورائكم والعدوّ أمامكم، وليس لكم والله إلا الصبر والصدق، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيوشه وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوّكم، وإن امتدّت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمرا ذهبت ريحكم وتعوّضت القلوب عن رعبها فيكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية؛ فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت، وإني لم أحذركم أمرا أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطة أرخص متاعا فيها للنفوس أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشقّ قليلا استمتعتم بالأرفة الألذّ طويلا، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي؛ فما حظّكم فيه بأوفى من حظّي، وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان الرافلات في الدرّ والمرجان والحلل المنسوجة بالعقبان، المصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عربانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارا وأختانا؛ ثقة منه بارتياحكم للطعان واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان؛ ليكون حظّه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم، والله تعالى ولي أنجادكم على ما يكون لكم ذكرا في الدارين.(14/206)
أيها الناس: ما فعلت من شيء فافعلوا مثله؛ إن حملت فاحملوا، وإن وقفت فقفوا، ثم كونوا كهيئة رجل واحد في القتال، وإني عامد إلى طاغيتهم بحيث لا أنهيه حتى أخالطه وأمثل دونه؛ فإن قتلت فلا تهنوا ولا تحزنوا ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وتولوا الدبر لعدوكم فتبدوا بين قتيل وأسير، وإياكم إياكم أن ترضوا بالدنية، ولا تعطوا بأيديكم وارغبوا فيما عجل لكم من الكرامة الراحة من المهانة والزلة، وما قد أجل لكم من ثواب الشهادة فإنكم إن تفعلوا - والله معكم ومفيدكم - تبوءوا بالخسران المبين وسوء الحديث غدا بين من عرفكم من المسلمين، وهاأنذا حامل حتى أغشاه؛ فاحملوا بحملتي".(14/207)
وفي الوقت الذي أثرت فيه خطبة طارق تأثيرا كبيرا في نفوس جنوده ورفعت من روحهم المعنوية كانت العناصر الحانقة على لوذريق تحدث أعمالها وتدفع بكثير من أولئك الغاضبين إلى الانضمام إلى جيش طارق، ووقف الفريقان على ضفتي النهر أخيرا استعدادا للقتال، وكان المسلمون ببساطتهم ويقظتهم موضع الهيبة في النفوس، على حين كان منظر القوط يدعو إلى السخرية والازدراء؛ إذ جلس لوذريق في عربة مطهمة يجرها جوادان وعليه أثواب الحرير البراقة، وهو يحاول عبثا بثّ روح الحماسة في جنده، وكان في جيشه اثنان من إخوة غيطشة، وهما: أبه وششبرت اللذان صالحهما بغية توحيد صفوف القوط، وجعل أحدهما على الخيالة التي كانت عماد جيش القوط، وفي يوم الأحد 28 من رمضان عام 92هـ (19 يوليو 711م) بدأت المناوشات بين الجانبين على وادي البرباط بالقرب من بلدة شذونة، واستمرت المناوشات ثلاثة أيام أظهر فيها كل من الجانبين الكثير من ضروب الشجاعة والبسالة دون أن يحصل أحدهما على نصر يذكر، غير أن أتباع يوليان نشطوا في أثناء القتال وبثّوا رجالاتهم وسط جند لوذريق ليصرفوهم عنه ويؤكدوا لهم أن المسلمين لم يأتوا إلى الأندلس للفتح والاستقرار ولكن للقضاء على هذا الطاغية، وأنه إذا تمّ القضاء على حكم لوذريق عادت البلاد ملكا لهم ينعمون بخيراتها، ونجحت دعايات يوليان بين فرسان القوط، خاصة تلك التي كان يتولى قيادتها أحد إخوة غيطشة ملك القوط السابق الذي قضى عليه لوذريق، وفي اليوم الرابع من المعركة ظهرت نتائج دعايات يوليان بين صفوف جيش لوذريق؛ فقد تخلى عنه جماعات الخيالة التي كانت العامود الفقري للعمليات الحربية، وأدى ذلك إلى وقوع الاضطراب بين سائر جند القوط وهرب الكثيرون منهم طلبا للنجاة، هذا إلى أن غالبية الجيش اشتملت على أعداد كبيرة من العبيد الساخطين على حكم القوط المتمنين زواله، ووجدوا في تلك المعركة فرصتهم للخلاص مما حلّ بهم من ظلم واضطهاد، ولما أخذت(14/208)
مظاهر الفوضى تسود الجيش بسبب انسحاب الخيالة تراخى العبيد عن القتال وانتهت المعركة بانتصار المسلمين، وفرّ لوذريق تاركا عددا كبيرا من القتلى على أرض الميدان، وحسب البعض أن لوذريق غرق في النهر الذي دارت المعركة بقربه؛ لأن الجند وجدوا على الشاطئ بعد انتهاء القتال خفّه دون أن يعثروا له على أثر، غير أن لوذريق أبى الاستسلام بعد الهزيمة الساحقة التي نزلت به، وفرّ إلى داخل البلاد دون أن يكشف أحد أمره، مستهدفا جمع فلول القوط مرة أخرى والانتقام ممن انضمّ من رجاله إلى المسلمين، وبعث طارق بأنباء انتصاراته إلى موسى بن نصير الذي أبلغها بدوره إلى الخليفة الوليد ابن عبد الملك، وبدأت راية الإسلام تعلو خفاقة فوق غرب أوربا للمرة الأولى في التاريخ، وازدادت قوات طارق بن زياد بعد معركة وادي بكة؛ لأن الإمدادات انهالت عليه من المغرب، ورأى طارق أن يتابع زحفه دون إبطاء ليستولي على قرطبة ويقضي على ما بها من بقايا جيش القوط، غير أنه لقي في الطريق إلى هذه المدينة مقاومة عنيفة جعلته يعدل عن خطته ويبادر بالاستيلاء على طليطلة عاصمة دولة القوط ويتوج بذلك انتصاراته في أسبانيا، وكان السبب في هذا التطوّر الجديد هو ما بلغ طارقا من أن أنصار لوذريق حين ترامت إليهم الشائعات بأن ملكهم لم يقتل بدءوا يجمعون صفوفهم مرّة أخرى في طليطلة لمقاومة المسلمين، ومن ناحية أخرى أخذ أنصار الملك السابق غيطشة يجتمعون في طليطلة ويتشاورون فيما بينهم لإعلان أحدهم ملكا مكان لوذريق المهزوم، ولذا عجل طارق بإرسال جزء من جيشه للاستيلاء على قرطبة ليحمي ممتلكاته بجنوب أسبانيا، على حين انطلق بنفسه سريعا إلى طليطلة قبل أن يتمكّن أتباع لوذريق من تحصينها، وقبل أن يصل أبناء غيطشة أيضا إلى قرار يصعب على المسلمين مواجهته، ذلك أن بيت غيطشة ظلّ واهما حتى تلك الأحداث بأن المسلمين ما جاءوا إلا للمغانم مقابل مساعدة أبناء غيطشة للوصول إلى العرش، واستولى(14/209)
طارق بن زياد على مدينة طليطلة في سهولة ويسر؛ لأن القوط آثروا تجنّب لقاء المسلمين انتظارا لما تسفر عنه استعداداتهم، وحاول طارق أن يتتبع فلول القوط الهاربة من طليطلة حتى بلغ مدينة أطلق عليها (المائدة) على مقربة من هنارس، وهناك عثر المسلمون على كنز ثمين، عبارة عن مذبح كنيسة طليطلة المحلى بأغلى ما كان لدى القوط من الذهب والجواهر، غير أن طارقا اضطرّ إلى العودة إلى طليطلة لأن الصيف كان قد انقضى؛ فآثر البقاء في العاصمة دون أن يعرض جنده لبرد الشتاء القارس، وفي طليطلة بلغه أن جيشه الذي بعث به إلى قرطبة قد استولى عليها.(14/210)
وقد شعر موسى بن نصير أن زحف طارق وراء فلول القوط يوشك أن يعرض الفتوح الإسلامية في البلاد الأسبانية المترامية الأطراف لخطر محقّق، ذلك أن خطوط مواصلات المسلمين فيما بين طليطلة والجزيرة الخضراء وبلاد المغرب صارت غير آمنة؛ لأن المعاقل الكبرى المبعثرة على امتداد تلك الخطوط لم تخضع للمسلمين، ولم يسيطر طارق إلا على قرطبة فقط من بين تلك المعاقل المتعددة، هذا إلى أن قرطبة لم يكن بها سوى حامية صغيرة لا تستطيع أن تؤدي رسالتها كما ينبغي إذا انبعثت أية حركة مقاومة بين صفوف القوط، وأول من شعر بالخطر الذي بات يهدّد المسلمين في أسبانيا هو القائد يوليان الذي قام إذ ذاك في الجزيرة الخضراء ليؤمن خطوط مواصلات المسلمين بين أسبانيا والمغرب، وذلك في الوقت الذي اندفع فيه طارق بن زياد إلى طليطلة عاصمة القوط، فقد بعث يوليان مجموعة من رجاله مع المسلمين عند توغّلهم في البلاد، واستطاعت بفضل خبرتها وأهلها أن تدرك ما يدور في نفوس القوط من غدر، وأنهم يتجمّعون وفق خطة مرسومة لإنزال الهزيمة بالمسلمين، أفضى يوليان إلى طارق بما جاءه من أخبار وطلب منه القيام بعمل حاسم لتأمين ظهر جيوشه، غير أن طارقا آثر البقاء في طليطلة دون القيام بأية أعمال توسيعية، ثم كلّف يوليان بأن يتصل بموسى بن نصير في القيروان ويطلب إليه سرعة المجيء إلى أسبانيا لإنقاذ الموقف.(14/211)
ولما جاءت استغاثة طارق إلى موسى بن نصير أدرك أن مخاوفه من انطلاق طارق في فتوحه بعد معركة وادي بكة لها ما يسوغها، وأسرع موسى بإعداد جيش مكوّن من ثمانية عشر ألفا من خيرة جنده، وكان معظمهم من العرب والبربر الذين عرفوا بقوّة الشكيمة وشدّة المراس، وممن اشتهروا ببلائهم في ميدان الحروب ببلاد المغرب، وغادر موسى بلاد المغرب على عجل، وقسّم موسى بن نصير جيشه بحسب القبائل ليسهل عبورها إلى الأندلس دون أن تقع فوضى في صفوف الجند، وفي رمضان عام 93هـ (يونيه 712م) كان موسى ابن نصير قد غادر المغرب ووصل إلى الجزيرة الخضراء في الأندلس، وشيّد بها مسجدا وانتظر هناك حتى تمّ عبور سائر الجند واطمأنّ على سلامتهم وحسن ترتيبهم، وفي تلك الأثناء أسرع يوليان إلى لقاء موسى بن نصير وعقد معه مجلسا حربيا للتشاور في هذا الموقف الخطير، وقرر هذا المجلس الحربي أن الضرورة تقضي بالسيطرة أوّلا على المعاقل التي تركها طارق والتي باتت خطرا يتهدد المسلمين، وبعث موسى بن نصير عقب هذا المجلس الحربي الهام رسالة إلى طارق بن زياد يأمره فيها بالانتظار في طليطلة، وألا يقوم بعمل حربي إلا بإشعار آخر.
وردّدت بعض المراجع أن موسى لم يقدم على هذا العمل والعبور إلى الأندلس إلا منافسةً لطارق ورغبة استبدت به لينال بدوره نصيبا كبيرا من الغنائم، وأن الحسد كان يأكل قلبه، وأنه صمّم على محاسبة طارق على أعماله، وأنه رأى أن يتولى بنفسه فتوحا أخرى أعظم مما قام به هذا القائد.(14/212)
وقد وقعت تلك المراجع في هذا الخطأ الفاحش لأنها صوّرت موسى وطارقا تصوير القائدين المختلفين، وأنّ كلا منهما كان يعمل دون علم الآخر، والمعروف أن طارقا لم يقم بما قام به من أعمال حربية إلا باسم موسى بن نصير الذي تولى القيادة العليا ورسم الخطط، وأمدّ طارقا بكل المساعدات الحربية ولا سيما في ساعة الخطر بعد معركة وادي بكة، هذا إلى أن طارق بن زياد كان يرسل إلى موسى بن نصير عن طريق يوليان أنباء تقدّم المسلمين خطوة خطوة، مما جعل القيادة العليا في القيروان تتابع الأحداث عن كثب، ومن ثمّ لم يكن هناك سبب يدعو موسى لأن يحقد أو يحسد طارقا على ما تم على يديه من فتح؛ لأنه شارك في هذا الفتح وأعدّ خططه، هذا إلى أن موسى لم يكن يتطلع بعبوره إلى الأندلس إلى الحصول على مغانم؛ لأن توزيع الغنائم وغيرها من ممتلكات القوط كان هو المرجع الأخير فيه.
والحقيقة أن موسى بن نصير باعتباره القائد الأعلى قد أفزعه زحف طارق السريع بعد معركة وادي بكة، وتعريضه خطوط مواصلات المسلمين لخطر محقّق؛ بسبب تركه الكثير من المعاقل والمدن الهامة جريا وراء مطاردة القوط، ولذلك بادر موسى برسم خطة للسيطرة أوّلا على المراكز الحربية وغيرها في المدن التي كانت تهدّد خطوط مواصلات المسلمين، وليدعم فتوح المسلمين قبل الذهاب إلى طارق في طليطلة.
وتنهض هذه الخطة التي وضعها موسى دليلا على أنه لم يكن يهدف إلى القيام بفتوح جديدة تغطي أخبارها وعظمتها ما قام به طارق، وأن مجيئه إلى الأندلس كان ضرورة حربية ملحّة وإصلاح خطأ وقع فيه قائده طارق.
فتح إشبيلية وماردة:(14/213)
وعمد موسى بن نصير إلى تأمين خطوط مواصلات المسلمين بين الجزيرة الخضراء التي نزل فيها وبين قرطبة التي تعتبر مفتاح السيادة في جنوب الأندلس؛ فعجل بالسير في بلدة شذونة، ومنها زحف إلى قرمونة ورواق واستولى عليهما، وبذلك أصبحت المحطّات الهامة على الطريق إلى قرطبة في أيدي المسلمين، وصار في استطاعتهم التقدّم من تلك القاعدة نحو الغرب، وفتح مدينة إشبيلية التي كانت أكبر مدن القوط بعد العاصمة طليطلة ومصدر الخطر المباشر على القوات التي كانت تحت قيادة طارق في داخل البلاد، وكانت إشبيلية تعتبر نقطة التقاء للطرق الهامة في جنوب الأندلس، ولا سيما التي تربط الجزيرة الخضراء بداخل البلاد، فكانت هناك طريقان يربطان إشبيلية بالجزيرة الخضراء التي جعلها موسى مركزا لالتقاء جنده في أسبانيا، وكان أحد هذه الطرق بحريا والآخر بريا، وعلى كل منهما محطات كثيرة ومعاقل.
هذا إلى أن إشبيلية اشتهرت بأسوارها الحصينة ومتاجرها الواسعة، وبهذا أصبحت قاعدة كبيرة من قواعد الفتوح الإسلامية في أسبانيا.
وبعد أن استولى موسى بن نصير على مدينة إشبيلية اكتفى بوضع حامية بها، وأسرع إلى الاستيلاء على مدينة ماردة التي كانت معقلا خطيرا في أيدي القوط خلف خطوط المسلمين، ووجد موسى بن نصير مدينة ماردة قوية الحصون وأشدّ منعة من إشبيلية؛ فكان لها أسوار منيعة يعلوها الأبراج والحصون القوية، ثم إن فلول القوط وأنصار لوذريق جعلوا تلك المدينة ملجأ لهم بسبب بعدها عن طريق المسلمين، كما كانت المسالك إليها وعرة صعبة، ولذا استغرق حصار المسلمين لها آخر الصيف والشتاء التالي له دون أن يسيطروا عليها، ودار حولها قتال عنيف سقط فيه كثير من الضحايا، فقد أعدّ موسى بن نصير كمائن كثيرة أخفاها في جهات صخرية مواجهة للمدينة، أنزلت ضربات قاصمة بالقوط كلما رغبوا في الخروج إلى معاقلهم، وقتل كثير من المسلمين أيضا في محاولاتهم ثقب سور المدينة.(14/214)
ولم يستقرّ الأمر لموسى في ماردة إلا بعد جهد شاق بذل فيه الكثير من الوعود لأهلها الذين سلموا بعدها في شوال عام 94هـ (يونيو 713م) .
وبعد أن غادر موسى بن نصير مدينة إشبيلية وبدأ حصار ماردة جمع القوط فلولهم في المدن المجاورة وفاجئوا الحامية الإسلامية في إشبيلية وقتلوا منها ثمانين فردا، وأجبروا الباقين على الخروج من المدينة، وآثر موسى بن نصير الاستمرار في حصار ماردة حتى استولى عليها، ثم بعث بابنه عبد العزيز إلى إشبيلية لطرد القوط منها.
واختار موسى بن نصير بعد ذلك للمدن التي استولى عليها نفرا من خيرة قادته ممن اشتهروا باليقظة والبطولة.
واضطر موسى بن نصير أمام تلك المقاومة العنيفة التي لقيها جيشه إلى أن يريح جنده في مدينة ماردة مدة شهر تقريبا قبل أن يستأنف السير إلى طليطلة لمقابلة طارق، وأدرك موسى بن نصير أن القوط يهدفون إلى الهجوم على المدن التي يستولي عليها؛ من أجل دفع طارق بن زياد إلى مغادرة طليطلة لنجدة موسى بن نصير ثم يستردون مدينة طليطلة في غيبة القوات الإسلامية عنها، ولذا عمد موسى إلى تشتيت خطة القوط بأن يظلّ يقاومهم أطول فترة ممكنة دون أن يطلب إلى طارق مساعدته.
ولكن ما كاد موسى يغادر مدينة ماردة حتى جاءته الأخبار أن لوذريق نفسه - ملك القوط الذي فرّ بعد معركة وادي بكة - بدأ ينظم فلول جيشه ويجمع أتباعه استعدادا للهجوم على المسلمين مرة أخرى، ثم إن لوذريق بعد أن آثر البقاء ساكنا ليضرب ضربته الأخيرة في عنف وشدة، اختار قوات موسى بن نصير لتكون هدفه ليهدم بذلك خطط الفتوح الإسلامية كلها في الأندلس مرة أخرى، واتخذ لوذريق مركز مقاومته في شعاب الهضاب التي تلي وادي آنه إلى الشمال في جبال سيرا دفرانشيا على أبواب قشتالة واستراما دورة في السهل المنبسط الذي يحيط بمدينة سلمنقة.(14/215)
وأجاد لوذريق إخفاء قواته في تلك الجهة الوعرة حتى إن موسى بن نصير اضطرّ أن يتخلى عن خطته، وأن يطلب من طارق بن زياد الخروج من طليطلة وأن يلقاه في منتصف الطريق بين تلك العاصمة وماردة؛ لينقذ المسلمين إذا ما دهمهم خطر مفاجئ.
وسار طارق نحو مائة وخمسين ميلا، واتخذ مكانه في الجهات المعروفة باسم العرض بين التاجة ونهر التتار، وسار موسى بن نصير مع قواته في طريق روماني قديم يصل ماردة وسلمنقة، وبجوار نهر حمل اسمه فيما بعد، وهو نهر (فاموتا) أي نهر موسى، وذلك بعد أن اتخذ كل الاحتياطات حتى لا يؤخذ على غرة.
ولما وصلت القوات الإسلامية إلى منتصف الطريق السالف الذكر اعتقد لوذريق أن الوقت قد حان ليضرب ضربته الأخيرة، وأن المسلمين لن يجدوا من ينقذهم أو يبادر إلى مساعدتهم، وعند ناحية اسمها السواقي على مقربة من ثمامس شنّ لوذريق هجومه دون أن يدري أن موسى بن نصير قد اتخذ كل الوسائل ليحمي قواته ويجنبها الأخطار، ولذا صمد المسلمون لهجوم القوط وأنزلوا بهم خسائر فادحة، وقتلوا كثيرا منهم من بينهم لوذريق نفسه الذي قتله مروان بن موسى بن نصير، وصار الطريق إلى طليطلة مفتوحا أمام موسى بن نصير فسار حيث التقى بطارق بن زياد وقواته التي كانت قد غادرت تلك المدينة في سبيلها إلى مقابلته في عرض الطريق.
استعادة فتح طليطلة:(14/216)
ولما كان هجوم لوذريق على قوات موسى بن نصير شعبة من مؤامرة مزدوجة استهدف طرفها الثاني السيطرة على طليطلة وانتزاعها من المسلمين إذا ما خرج طارق منها لنجدة إخوانه؛ فإن جماعات من القوط انتهزت خلوّ العاصمة من الحامية الإسلامية واستولت عليها إكمالا لحلقة المقاومة ضدّ المسلمين، غير أن القوات الإسلامية المشتركة بقيادة موسى بن نصير وطارق بن زياد تمكنّت من هزيمة القوط والسيطرة على طليطلة مرة ثانية، وبذلك انتهت مقاومة لوذريق وجنده بمجيء قوات موسى بن نصير على عجل، ولولا ذلك لانهارت أعمال طارق وأصيب جنده بكارثة مروعة.
وفي مدينة طليطلة أخذ موسى بن نصير يحاسب طارقا على اندفاعه الذي كاد ينزل بالمسلمين كارثة محقّقة، ولا سيما بعد أن ثبت عمليا أن القوط كانوا قد أعدّوا حركة مقاومة عنيفة، ورددت بعض المراجع أن موسى شدّ وثاق طارق وحبسه وهمَّ بقتله لولا تدخّل مغيث الرومي مندوب الخلافة في الحملة الإسلامية إلى أسبانيا وإسراعه بإبلاغ الحادث إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك الذي أمر موسى بعدم إنزال الأذى بطارق، غير أن هذه الرواية استندت إلى شائعات مغرضة ردّدها القائد مغيث الرومي الذي كان بينه وبين موسى بن نصير سوء تفاهم؛ فانتهز فرصة ذهابه إلى دمشق ليبلغ الخليفة أنباء انتصارات المسلمين وأساء إلى هذا القائد، غير أن المقطوع به هو أن موسى بن نصير عنّف طارقا أو حدث عتاب بينهما؛ لأن طارقا كان قد تقدّم في الفتح أكثر مما ينبغي ولما تثبت أقدام المسلمين في البلاد بعدُ متحديا بذلك أوامر مولاه، لكن موسى كان من الحكمة بحيث أنه سرعان ما اتفق مع طارق واشترك الرجلان اشتركا كاملا في العمل.(14/217)
واستقرّ رأي كل من طارق بن زياد وموسى بن نصير على القيام بمسح شامل لسائر الأراضي الأسبانية التي لم تفتح بعد، ونشر الإسلام بين ربوعها، وتطيهرها تطهيرا شاملا من جيوب القوط وفلولهم، وأثبت موسى بن نصير بذلك أنه ما زال يولي طارق بن زياد ثقته المطلقة.
وأتبع موسى هذه الخطوة بعمل إداري رائع لتنظيم أحوال البلاد؛ فأمر - وهو في طليطلة - بضرب عملة ذهبية دفع منها رواتب الجند العاملين تحت إمرته، ويعتبر سكّ هذه العملة الذهبية دلالة على سيطرة موسى بن نصير على الأوضاع في تلك البلاد الأوربية الجديدة، وعلى مهارته الفائقة في بناء إدارة عربية مستقرة الأركان في أسبانيا منذ الأيام الأولى للفتح الإسلامي بها، وكانت هذه العملة الذهبية على غرار العملة التي سكّها موسى بن نصير في بلاد المغرب؛ فكان على وجه هذه العملة اسم (محمد رسول الله) ، وعلى الوجه الآخر نجمة ذات ثمانية أذرع، وإلى جانب ذلك أمر موسى بن نصير بضرب عملة برنزية صغيرة لمساعدة الناس في تسهيل عملياتهم اليومية.
وبعد أن أتمّ موسى بن نصير تنظيماته الإدارية استأنف الجهاد، واتفق مع طارق ابن زياد على الزحف معا نحو الشمال الشرقي لفتح حوض نهر الإبرو وما فيه من مدن، واشترك طارق مع موسى في هذه الحملة لأن المقاومة الشديدة التي سبق أن أظهرها القوط حملت القيادة الإسلامية على جمع جهودها وتنسيق أعمالها بما يجنب المسلمين الأخطار مرة أخرى.(14/218)
وقصدت القوات الإسلامية بقيادة موسى بن نصير مدينة سرقسطة، واقتربت منها على حين غفلة من أهلها، وأراد أسقف المدينة ومن معه من الرهبان جمع دخائرهم وكتبهم المقدّسة والفرار بها، غير أن موسى بن نصير بعث إليهم رسولا من قبله أزال مخاوفهم وأعطاهم العهود والمواثيق بالأمان، وبذلك استولى المسلمون على المدينة دون قتال، وشيّدوا بها مسجدا صار فيما بعد أحد المراكز الكبرى لنشر الدين الإسلامي وحضارته في أسبانيا، وقام ببناء هذا المسجد أحد التابعين في جيش موسى بن نصير وهو حنش بن عبد الله السبئي الصنعاني.
الزحف شمالا نحو البرانس:
وتابع موسى زحفه بعد ذلك، واستولى على كثير من المدن الهامة في تلك الجهات، وظلّت القوات الإسلامية تتابع زحفها حتى بلغت مشارف جبال البرت (البرانس) ، وشاهد المسلمون سكان تلك الجبال من القبائل البسقاوية (البشكنس) ، واستمعوا إلى لغتهم الغريبة التركيب والأصوات.
وفي الوقت الذي كان فيه موسى بن نصير يبذل كل ما لديه من جهد لتأمين ممتلكات المسلمين شمالي مدينة سرقسطة جاءه مندوب الخلافة وهو مغيث الرومي، ومعه أمر من الخليفة الوليد بن عبد الملك لكل من موسى بن نصير وطارق بن زياد بالمجيء إلى البلاط ومقابلته شخصيا في دمشق، ورأى موسى بحنكته الحربية ومقدرته السياسية أن هذا الاستدعاء جاء في وقت غير مناسب؛ لأن مطاردة القوط لم تنته بعد، كما أن فتح البلاد يتطلب السيطرة على المعاقل الشمالية الجبلية، أضف إلى ذلك أن موسى أحسّ أن أمرا قد دبّر له في دمشق، ويحتمل أن هذا التدبير هو السرّ في استدعائه إلى عاصمة الخلافة، ولذلك ألَحّ على مغيث الرومي أن يؤجل تنفيد طلب الاستدعاء حتى ينتهي من العمليات الحربية، ومنحه قصرا في قرطبة يقيم فيه ريثما يفرغ المسلمون من مهمّتهم.(14/219)
وتقدّم موسى بقواته نحو مدينة قشتاله؛ لأنها تعتبر المركز المباشر الذي يمكن أن يهدّد منه القوط مدينة طليطلة وغيرها من البلاد الإسلامية، ثم إن اقترابها من الجهات الجبلية الوعرة يساعد من يتحصن بها على أن يبقى على المقاومة زمنا طويلا، ولذا قسّم موسى بن نصير قواته قسمين عهد بواحد منهما إلى طارق بن زياد وجعل مهمته السير غربا، على حين قاد هو الشطر الثاني واتجه في البلاد شرقا.
وقصد طارق بن زياد إلى جبال كنتبرية، وأخضع جماعات البسقاوية غربي نهر الأبرو، ودخل كثير من سكان تلك الجهات في الإسلام على يد طارق بن زياد، وصاروا يكوّنون نواة كثير من الأسر الأندلسية الإسلامية التي قدّر لها أن تمثّل دورا هاما في تاريخ البلاد فيما بعد.
وفي الوقت نفسه سار موسى بن نصير على الضفّة الشرقية لنهر إبرو في إقليم قشتالة، ورحّب به زعماء البلاد كذلك، ودخلوا في طاعة المسلمين، غير أن نفرا من فلول القوط آثروا الفرار أمام الزحف الإسلامي إلى المناطق الجبلية الساحلية الشمالية، واعتصموا بمكان اسمه الصخرة، فطارد موسى تلك الفلول حتى بلغ خيخوت، وجعل منها حصنا يحمي ما تم على يديه من فتوح في تلك الجهات القاصية، وصارت تلك الجهات أقصى ما وصل إليه المسلمون في منطقة اشتريس، حيث بدأ موسى بن نصير يعد العدة للعودة من تلك البلاد النائية.
وتمّ في ذلك الوقت أيضا إخضاع المنطقة الساحلية بين مالقة وبلنسية، وإخماد الفتن التي حاول القوط القيام بها، وقام بهذه المهمة عبد العزيز بن موسى بن نصير الذي اشترك مع والده في إكمال الفتوح الإسلامية في أسبانيا، وسار هذا القائد على نهج والده في معاملة أهالي البلاد المفتوحة بالرفق والتسامح والعدل في فرض الضرائب، ومن ذلك ما حدث حين زحف عبد العزيز بن موسى على مالقة ثم غرناطة ثم أريوله، وهي كلها سلمت دون قتال.
ارتياح أهالي الأندلس للحكم الإسلامي:(14/220)
وقد شعر أهالي الأندلس مع امتداد الفتح الإسلامي طلائع المساواة، وخاصة في الضرائب، وهو أمر لم يألفوه منذ زمن طويل، هذا إلى احترام حرية العقيدة وإزالة الاضطهاد الديني، وردّد كثير من الباحثين في التاريخ الأوربي المظاهر الجديدة التي سادت الشطر العربي من أوربا في بلاد أسبانيا عقب الفتح الإسلامي، وسجلت بهذا الدين الحنيف مظاهر الحياة الجديدة التي نفحها في تلك البلاد، وذكروا أن الفتح العربي كان من بعض الوجوه نعمة لأسبانيا، فقد أحدث فيها ثورة اجتماعية هامة، وقضى على كثير من الأدواء التي كانت تعانيها البلاد منذ قرون، وتحطمت سلطة الأشراف والطبقات الممتازة أو كادت تمحى، ووزّعت الأراضي توزيعا عادلا؛ فكان ذلك حسنة سابغة وعاملا في ازدهار الزراعة إبان الحكم الإسلامي، ثم كان الفتح عاملا في تحسين أحوال الطبقات المستعبدة؛ إذ كان الإسلام أكثر معاضدة لتحرير الرقيق من النصرانية كما فهمها أحبار المملكة القوطية، وكذلك تحسّنت أحوال أرقاء الضياع؛ إذ غدوا من الزرّاع وتمتعوا بشيء من الاستقلال والحرية.
وكان موسى بن نصير حريصا على أن يظلّ المسلمون العاملون تحت رايته - سواء من العرب أو البربر - مثلا أعلى أمام شعب أسبانيا؛ فلم يترفّع أولئك الفاتحون المسلمون على أبناء البلاد، وإنما امتزجوا معهم وصاهروهم وشاركوهم أيضا في مباهج البلاد ومسرّاتها؛ يطلبون العيش في سلام جنبا إلى جنب مع أهلها، وكان شعب أسبانيا من العنصر الأيبيري المسالم المحبّ لحسن العشرة، ومن ثم أنس إلى الفاتحين الجدد سواء من العرب أو البربر، وأقبل عليهم طواعية لا عن ضغط وإرهاب، ووجد فيهم محرّرين من بطش القوط وظلمهم الفاحش، ولم يحاول الفاتحون إدخال أبناء الشعب قسرا في الدين الإسلامي، وإنما حرصوا أوّلا على بيان فضائل هذا الدين حتى يتنبّه الناس ويدخلوا في رحابه إيمانا بأركانه وقواعده.(14/221)
ثم إن موسى بن نصير عمد إلى تنظيم الأحوال المالية للبلاد حتى يجنبها الاضطرابات ويهيء لها أسباب الاستقرار، وقد طبق على أسبانيا القواعد التي اتبعها المسلمون الفاتحون في شتى الجهات التي استولوا عليها، فالأراضي التي فتحت عنوة قسمت بين الفاتحين بعد أخذ الخمس لبيت المال، أما الجهات التي فتحت صلحا فتركت بيد أصحابها مقابل دفع العشر من نتاجها، ولا شكّ أن هذا التنظيم المالي لم يكن عملا هيّنا بالنسبة لموسى بن نصير، وبخاصة في تلك الجهات من غرب أوربا التي لم تعرف منذ زمن بعيد لونا من ألوان الإدارة العادلة؛ فالمعروف أن القوط كانوا يستبيحون لأنفسهم ثروات البلاد ويعتبرون السكان أقنانا يعملون في الأرض، ولا همَّ لهم إلا إنتاج ما يحتاج إليه سادتهم من القوط، ولذا جاءت تنظيمات موسى بن نصير في أسبانيا وسيلة جيدة لخلق الامتزاج السليم بين الفاتحين وأهل البلاد الأصليين؛ فالأراضي المنبسطة في الجنوب - أي جنوب الوادي الكبير - اعتبرها موسى ابن نصير أرضا مفتوحة عنوة؛ فقد تم الاستيلاء عليها بعد معارك عنيفة ضد لوذريق، وقسم موسى أربعة أخماس هذه الأراضي إلى قطاعات بين الفاتحين، على حين بقي الخمس ملكا للدولة، أما بقية أرض الأندلس فقد اعتبرت أرض صلح وهي الأراضي الواقعة شمال نهر الوادي الكبير من شبه جزيرة ايبريا، فأخذ كل ناحية لأنفسهم عهدا، وهذا العهد يقرر ما عليهم من مال للدولة، وبذلك سار الاستقرار في بلاد أسبانيا سريعا حيث سار موسى بن نصير، وبدأ العرب والبربر ينتشرون في شتى الجهات في طمأنينة وسلام، واستقر العرب دائما في المناطق المنبسطة والمنخفضات، أي في النواحي الدافئة قليلة المطر في الجنوب والشرق والغرب وفي ناحية سرقسطة، أما البربر فاختاروا المناطق الجبلية التي سبق أن ألفوا مثلها في وطنهم ببلاد المغرب، بينما نزل العرب في المناطق الواطئة بجنوب أسبانيا مثل شذونه واستجة، فضَّل البربر منطقة رنده الجبلية(14/222)
واختاروها سكنا لهم، ونزل بعض البربر في مناطق متفرّقة كذلك أو في بعض الهضاب حسبما راق لهم ذلك، واستطاع كل من العرب والبربر الامتزاج بأهالي البلاد الأصليين وارتبطوا معهم برباط الزواج، وكان للبربر خاصة أثر عظيم جدّا في انتشار الإسلام في الأندلس بسبب قرب مزاجهم وطباعهم من أولئك السكان، هذا إلى أن البربر بسبب حداثة عهدهم بالإسلام كانوا شديدي الحماسة للدين الجديد لأنه صار رمز سيادتهم وعزّهم، وحرص موسى بن نصير على ترك حاميات من جيشه في المدن التي فتحها، وهذا هو الأمر الذي جعل معظم أرجاء أسبانيا تعمر بالفاتحين الجدد وتمهد أسبانيا في سرعة ويسر لاعتناق الدين الإسلامي الحنيف.
واستطاعت الإدارة الإسلامية التي شيّدها موسى بن نصير أن تضع الحجر الأساسي لبناء الحضارة الإسلامية في أسبانيا، وجعلت من تلك البلاد أعظم مركز للإشعاع الحضاري في أوربا في العصور الوسطي، ومن ثم أخذت أسبانيا تخطو سريعا في مضمار الازدهار العلمي وتدخل سجل التاريخ باعتبارها الشريان الذي نقل إلى أوربا ثمار الحضارة الإسلامية ومعارفهم، وهيّأ لسكان غرب أوربا السبيل للخروج من جهالة العصور الوسطي إلى نور الإسلام وضوء الحضارة الإسلامية الساطع.
وقد استغرق الفتح الإسلامي لأسبانيا ثلاث سنوات وبضعة شهور؛ إذ بدأ الفتح الإسلامي لأسبانيا في رجب عام 92هـ وتم في ذي القعدة عام 95هـ.
ويلاحظ أن العرب أطلقوا اسم الأندلس على المناطق التي كانوا يسيطرون عليها من شبه جزيرة أيبريا، ولا زال اسم الأندلس يطلق على الجزء الجنوبي منها.
موسى وطارق يقابلان الوليد في عاصمة الأمويين:(14/223)
سبق أن ذكرنا أن الخليفة الوليد بن عبد الملك استدعى كلا من موسى بن نصير وطارق بن زياد لمقابلته شخصيا في دمشق، وأن موسى بن نصير أجّل تنفيذ هذا الطلب حتى ينتهي من عملياته الحربية، وبعد أن فرغ موسى بن نصير من إتمام الفتح اختار مدينة أشبيلية حاضرة للبلاد وعيّن ولده عبد العزيز واليا على الأندلس، واستخلف على المغرب الأقصى ابنه عبد الملك، كما استخلف على إفريقية ابنه عبد الله، ثم غادر موسى بن نصير الأندلس وبصحبته طارق بن زياد وكبار الجند في ذي القعدة عام 95هـ (714م) ، ويقال إن يوليان كان معهم.
وكان موكب موسى بن نصير إلى دمشق من الموضوعات التي أفاض في وصفها الرواة والإخباريون العرب، ونقلها المؤرخون مثل ابن عبد الحكم وابن قتيبة وابن القوطية والمراكشي وابن عذارى وابن خلكان والمقري وابن الأثير، ويقال إن موكب موسى ابن نصير اشتمل فيما عدا حاشيته الخاصة على أربعمائة من أفراد الأسرة القوطية المالكة وأسر النبلاء؛ تزين رؤوسهم التيجان وتطوق أوساطهم الأحزمة الذهبية، ومعهم جموع من العبيد والأسرى يحملون نفائس الغنائم.
وعندما اقترب موسى من دمشق وصلته رسالتان كان لهما أكبر الأثر في اختتام حياته فيما بعد، أما الرسالة الأولى فكانت من ولي العهد سليمان بن عبد الملك يطلب فيها من موسى بن نصير أن يبطئ في الحضور إلى دمشق لأن الخليفة الوليد بن عبد الملك مريض مرض الموت وفي أيامه الأخيرة، وبذلك يحظى سليمان عندما يعتلي العرش باستقبال أعظم موكب للنصر عرفه الإسلام، ولكن موسى بن نصير رفض الاستجابة لهذا الطلب وتابع سيره إلى دمشق، وبعد ذلك بقليل تسلم الرسالة الثانية وكانت من عند الخليفة الوليد نفسه يأمره فيها بالإسراع بالحضور إلى دمشق حتى لا تحرمه المنية من شرف مشاهدة موكب النصر القادم على عاصمة الخلافة، وليتوج أيامه الأخيرة بهذا النصر المظفر.(14/224)
ودخل موسى بن نصير مدينة دمشق في السادس والعشرين من يناير عام 715م جمادى الأولى عام 96هـ، أي قبل وفاة الخليفة الوليد بأربعين يوما، وحرص موسى على أن يشرف بنفسه على طريقة سير الموكب وارتداء المشتركين فيه بثيابهم وبطريقة عرض الكنوز والغنائم، وأمر موسى بالأموال والجواهر واللؤلؤ والياقوت والزبرجد والجزع والوطاء والكساء المنسوج بالذهب والفضة المحرشة باللؤلؤ والياقوت والزبرجد وضمّها إلى موكب النصر مع رجاله بأرديتهم الجميلة الزاهية، ثم أقبل موسى بالذين ألبسهم التيجان حتى دخل مسجد دمشق والوليد على المنبر يحمد الله، وكان الخليفة يعاني في تلك الأيام من وطأة المرض ومع ذلك أبى إلا أن يخرج إلى المسجد متحملا لأجل قدوم موسى بن نصير، ولما رأى الخليفة هذا الموكب استولت عليه الدهشة والعجب الشديد وصاح الحاضرون من الناس: موسى موسى!، وأقبل هذا القائد المظفّر حتى سلّم على الخليفة ووقف ثلاثون رجلا من أصحاب التيجان في موكب النصر عن يمين المنبر وشماله، على حين وقف أمام الخليفة سائر أفراد الموكب ومراكب الغنائم المقامة على عجل، وهزّ هذا المنظر الباهر قلوب الحاضرين ومشاعرهم كما أثار ذكرياتهم عن فتوح المسلمين الكبرى، وقالوا إن الدولة الإسلامية لم تشهد منذ فتح فارس مثل هذا الموكب الرائع، ومثل تلك الغنائم الوافرة، وأخذ الخليفة يلقي خطبته في هذا المشهد الحافل وأكثر فيه الحمد لله والثناء عليه والشكر لما أيده الله ونصره، وأذهل موسى الناس بما أتى به من الخيرات والغنائم والأسرى، وكان موكب النصر هذا موكبا مشهودا؛ إذ لم ير الناس من قبل مثل هذا العدد من أمراء الغرب والأسرى الأوربيين، وقد جاءوا يقدمون الولاء والطاعة لأمير المؤمنين.(14/225)
وكان من أبرز ما قدّمه موسى بن نصير إلى الخليفة الوليد من الغنائم التذكارية النفيسة مائدة تفوق قيمتها كل تقدير، كان طارق بن زياد قد غنمها من كاتدرائية طليطلة، وكان القوط قد تفننوا في صنعها فنسبها العرب إلى سليمان بن داود، وإنما أطلق عليها هذا الاسم كناية عن قدمها وعظم شأنها.
واختلفت الروايات كذلك في وصف هذه المائدة وبيان هيئتها وسبب وجودها، فذكرت إحدى الروايات أن الأغنياء والموسرين من القوط دأبوا أن يوصلوا للكنائس بقدر معلوم من ثرواتهم عند الوفاة وكلما تجمع المال الوفير بين المشرفين على تلك الكنائس أمروا بصناعة موائد وكراسي من الذهب والفضة تضع القساوسة عليها الأناجيل في أيام الاحتفالات من أجل المباهاة والتفاخر، ونالت كنيسة طليطلة قدرا كبيرا من مال الوصايا، وخاصة أنها كانت مقرّ البيت المالك، ولذا تأنق الملوك في عمل مائدة لهذه الكنيسة فاقت كل الموائد في سائر أسبانيا؛ إذ حرص كل ملك على أن يزيد في مائدة كنيسة طليطلة إعلاء لذكره وتباهيا بعاصمة ملكه حتى صار لها مركز الصدارة في جميع البلاد وتحدث الجميع بجمالها وعلو قيمتها، فكانت مصنوعة من الذهب الخالص مرصعة بفاخر الدر والياقوت والزبرجد.
ومهما يكن من أمر تلك الروايات فمما لا شك فيه أنها أجمعت على شيء واحد هو عظمة هذا الكنز الثمين الذي فاقت أخباره ما عداه في كنوز وجدها الفاتحون في سائر مدن الأندلس، ويرجح أن هذه المائدة كانت مذبح الكنيسة الجامعة في طليطلة، وأنها كانت على درجة خيالية من الجمال حتى تليق بعاصمة القوط، ولتكون رمزا على ثراء دولتهم وغناها الوافر.
وكان مما قدّم للخليفة الدر والياقوت أكيالا والسيوف المحلاة بالجواهر والتيجان الذهبية المرصّعة بالحجارة الثمينة وآنية الذهب والفضة، وغير ذلك مما لا يحيط به وصف.(14/226)
وقد أغدق الخليفة الخلع على موسى ثلاث مرات تشريفا له، كما أغدق المنح لآل بيته، ولما انتهى الخليفة من منح موسى براءات الشرف والتكريم استأذن منه هذا القائد العظيم في تقديم المشتركين معه في موكب النصر فأدخل عليه موسى ملوك البربر وملوك الروم وملوك الأسبان وملوك الفرنجة، ثم أدخل عليه رؤوس البلاد ممن كان معه من قريش والعرب؛ فأحسن الخليفة لهم العطايا والمنح.
وبانتهاء يوم الاستقبال اختتم موسى بن نصير حياته العامة، ذلك أن الوليد ابن عبد الملك توفي بعد ذلك اليوم بأربعين يوما فقط، وخلفه سليمان بن عبد الملك عام 96هـ (715م) ، وأعفى الخليفة الجديد غداة توليه العرش موسى بن نصير - وكان إذ ذاك قد ناهز الثمانين من عمره - من العودة إلى الأندلس، وأراد الخليفة سليمان بن عبد الملك أن يختم حياته بالحجّ إلى بيت الله الحرام واصطحب معه إلى مكة والمدينة موسى بن نصير، وقد توفي موسى بن نصير بالمدينة بعد أداء فريضة الحج ودفن بالبقيع في أوائل عام 97هـ.
أما طارق بن زياد فقد انتهت حياته في غموض، ولا تذكر الرواية الإسلامية أين ومتى توفي، ويقال إن مغيث الرومي وشّى به وخوّف الخليفة منه، وكان الخليفة سليمان ابن عبد الملك يريد أن يوليه الأندلس فعدل عن ذلك.
ولكن إهمال المؤرخين لطارق بن زياد لم يحرمه نصيبه من الخلود، فقد شاءت المقادير أن تحمل اسمه أول بقعة في الأندلس وطئتها قدماه وهي جبل طارق، كما سمي بحر الزقاق باسم مضيق جبل طارق، وانتقلت هذه التسمية إلى اللغات الأوربية جميعها بصيغها محرفة تحريفا بسيطا.(14/227)
ولم تشر الروايات العربية إلى مصير يوليان الذي مهّد لفتح الأندلس، وتذكر بعض الروايات أنه عاد إلى سبتة وأقطع ما حولها من الأرض، وظل أميرا على سبتة نظير خدماته، ولكنه بقي نصرانيا هو وبنوه الأقربون، أما ذريته فيقال إنها دخلت الإسلام بعد ذلك، أما أبناء غيطشة فقد أقطعوا ما كان لأبيهم، كما عين أخ غيطشة حاكما لمدينة طليطلة.
بعض مصادر البحث:
1_ الكامل في التاريخ لابن الأثير.
2_ الحلل السندسية طبعة 1936م لأرسلان.
3_ المغرب في ذكر إفريقية والمغرب طبعة 1911م للبكري.
4_ فتوح البلدان طبعة 1900م للبلاذري.
5_ قيام دولة المرابطين طبعة 1957م لحسن محمود.
6_ فتح العرب للمغرب طبعة 1947م لحسين مؤنس.
7_ فجر الأندلس طبعة 1959م لحسين مؤنس.
8_ تاريخ المغرب العربي طبعة 1965م لسعد زغلول عبد الحميد.
9_ الاستقصا لأخبار المغرب الأقصى طبعة 1804م للسلاوي.
10_ المغرب الكبير (العصر الإسلامي) طبعة 1966م للسيد عبد العزيز سالم.
11_ بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس طبعة 1884م للضبي.
12_ فتوح مصر والمغرب طبعة 1920م لابن عبد الحكم.
13_ العقد الفريد لابن عبد ربه.
14_ الأساطيل العربية طبعة 1957م للعدوى.
15_ البيان المغرب في أخبار المغرب لابن عذارى.
16_ دولة الإسلام في الأندلس طبعة 1943م لمحمد عبد الله عنان.
17_ الآثار الأندلسية طبعة 1956م لمحمد عبد الله عنان.
18_ تاريخ المغرب الكبير لمحمد علي دبوز.
19_ النجوم الزاهرة طبعة 1928م لأبي المحاسن.
20_ نفخ الطيب من غصن الأندلس الرطيب طبعة 1855م للمقري.
21_ معجم البلدان لياقوت الحموي.(14/228)
تعقيب لا تثريب
إبراء للذمة وتذكيرا بالحق
لفضيلة الشيخ: محمد المجذوب كلية الدعوة وأصول الدين
من مسلم ناصح إلى شيخ المقرئين في مصر - ومن ثم في العالم الإسلامي كله - الشيخ محمود خليل الحصري هدانا الله وإياه سواء السبيل.
الحمد لله الذي أكرم المؤمنين فجعلهم نصحة أمناء، وأنقذهم بذلك من صفات الكافرين الغششة السفهاء، وصلى الله وسلم وبارك على صفوته من خلقه محمد وآله وصحبه ومن التزم سبيله، ونهض بدعوته على بصيرة إلى يوم الدين..
أما بعد، فقد سمعتك أمس تتلو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى مقربة من مثواه المبارك قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ..} ؛ فأثار ذلك في نفسي ضروبا من التأملات، وكان من غرائب الاتفاق أن تعتري هذه الحالة كثيرين غيري أيضا؛ فإذا أحدهم يقول لآخر وهو يحاوره: كيف سمح هذا الرجل لنفسه أن يقدم على هذه التلاوة هنا في مهبط الوحي، وهو يعلم أن معصيته للوحي ومبلّغ الوحي لم تتلاش بعد من أذهان الناس، ولم يكد يفرغ الكرام الكاتبون من تسجيلها، أبهذا اللسان نفسه الذي افتتح أمس حفل الذكرى لأم كلثوم بآيات الحي القيوم، يرتل في مسجد رسول الله آيات الله!..(14/229)
وقال آخر: مسكين! ألم يقرأ في كتاب الله غير هذا الويل الموجه إلى الهمزة اللّمزة؟!.. ولم يعلم أن ثمة ويلات كثيرة لكثيرين من العاصين، وبينهم المصلون الذين هم عن صلاتهم ساهون، والقاسية قلوبهم من ذكر الله، والظالمون والأفّاكون الآثمون!!.. ولا سهو عن الصلاة أهول من فقدانها روح التطهير من الفحشاء والمنكر، حتى تصبح عادة يؤديها فاعلها كما يؤدي أي عمل آخر في معزل عن الخشوع والوعي، وأي قسوة أشدّ من أن يقرأ امرؤ كتاب الله، بل يتخذ منه حرفة للارتزاق، ثم لا يتورّع عن اقتراف المنكر الذي يخزي صاحبه في الدنيا والآخرة!.. وهل ثمّة ظلم بعد الشرك أكبر من أن يفتتح مقرئ حفلة غناء بآيات من الكتاب الذي اؤتمن عليه، والذي يقول منزله - تبارك اسمه -: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} ؟! ألا يعلم هذا المسكين أن هذا عين الإفك وجماع الإثم، وأدنى دركات التلاعب بكتاب الله!..
يا شيخ محمود.. هذا ما يقوله عنك كل مؤمن يعي آيات الله، ويفقه تعاليمه سبحانه، فهل علمت ذلك؟.. وهل أتيح لك من يبلغكه يا أبا الافراج؟!..
لقد والله أحدثت فتقا في الإسلام يتعذر - إذا لم يستحل – رتقه؛ بجرأتك على الله، واقتحامك تلك العقبة الخطيرة، يوم رضيت لتلك الهاوية المغفلة أن تقوم مقام هاتيك الفينة الصغيرة بنظر كل فاضل، وإن كبرت في منظار كل سفيه غوي من أهل الباطل، لتتغنى وتتمعج، كي تستثير إعجاب الغواة الهواة من أذناب الشيطان، كما فجرت الخمر من قبل مشاعر مدمنيها، فراحوا ينظمون في مدحها ونعتها أفانين الشعر، وهم الذين بهم وبأضرابهم دمّر الله حصون هذه الأمة في بغداد والأندلس؛ إذ استطاعوا أن يجردوها من مقوماتها، ويصرفوها عن رسالتها، فذلّت بعد عزّ، وطمع بقهرها كلّ ذي عجز.(14/230)
ولو أن أي فارغ من الخلق قدم ابنته لأسماع الغواة وأبصارهم على ذلك النحو ولو في موكب من الآيات والذكر الحكيم لما كان لفعلته سوى أثر ضئيل يذكره الناس ثم لا يلبثون أن ينسوه، أما أن يقدم على ذلك شيخ أزهري يسمى في لغة الدواوين شيخ المقارئ المصرية، فتلك هي البدعة الشنعاء التي سيحمل إثمها وإثم من أخذ بها إلى يوم القيامة.
ولعلك قرأت فيما قرأت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها" رواه مسلم، وليس كل من ارتكب سوءا يعتبر صاحب سنة سيئة، أو يقال إنه أحدث فتقا لا يرتق، فالحشاشون كثيرون، والسكارى أكثر، وتاركو الصلاة.. والمنسلخات من آداب الإسلام بالسفور الذي ملأ ديار الإسلام إلا من رحم الله، هؤلاء كثير كثير، ولكنهم مع ذلك لا يؤلفون السنة التي يلحق وزرها صاحبها إلى يوم القيامة؛ لأنهم عديمو الوزن في قسطاس الناس، فلا يؤبه لهم ولا يتأسى بهم.. وإنما المحدثون المحشورون في زمرة الظالمين لأنفسهم وغيرهم هم الذين يحملون صفة العلم، ويظنّ بهم الفقه والفضل.. ومن أحقّ بأن يكون مظنة العلم والورع - في نظر العامة وأشباههم - من حملة كتاب الله، الهادين به في بيوت الله، الشاحنين به أمواج الأثير إلى عباد الله! …
أجل يا شيخ محمود.. لقد سبقت كل المبتدعين إلى خرق هذا الفتق الرهيب؛ لأن تاريخ الإسلام لم يعرف قطّ واحد قبلك من كبار القراء أو صغارهم قدّم كريمته للغناء في محافل العابثين، وفي موكب من آيات الكتاب المبين!(14/231)
أنا لا أستبعد أن تكون قد ندمت على ما فرطت في جنب الله، وأسفت على ما أسلفت، فآليت أن لا تعود لمثلها - كما قيل على لسانك - ولكن ندمك وأسفك لن يمحو وزرك الكبير أبدا أبدا، إلا أن تعلن بكل ما وسعك من وسائل الإعلام أنك كنت بما فعلت في ضلال، وأنك تشهد الله وعباده على أنك أقلعت عنه إلى غير رجعة، وستعمل على تكفيره بكل ما أوتيت من قوّة، رجاء أن يتداركك الله بعفوه ومغفرته، وما أدري إذا كنت قادرا على ذلك وجارئا عليه.. وحولك من الشياطين من لا يرى في جنايتك بأسا، بل لا يرى فيها إلا سابقة مشكورة إلى العمل الصالح!..
استمع يا شيخ محمود إلى واحدة من فضائل حملة القرآن: في معركة المرتدين من بني حنيفة أصابت المسلمين جولة بسبب اختلاط الطلقاء - ذوي الإسلام الحديث - بأهل السابقة العليا من المهاجرين والأنصار؛ فكان الرأي استبعاد الطلقاء عن مباشرة القتال، وتركه لتلاميذ النبوة الناضجين الصامدين، وعهد بلواء الإسلام إلى خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، فأراد إخوانه أن يلهبوا رجولته فذكروه قائلين: إن الناس إنما يؤتون من قبل راياتهم؛ فحذار أن نؤتى من قبلك، فدفن ساقيه في الأرض، وهو يقول لإخوانه: "بئس حامل القرآن أنا إن أوتيتم من قبَلي".
ذلك شأن حملة القرآن من سلف هذه الأمة، ثبات في وجه الكفر كثبات الأرض في وجه العواصف، وتصميم على التحقق بكل عزائم القرآن حتى الموت.
فقس بهذا الطراز يا شيخ محمود أولئك الذين لا يفقهون من حملهم للقرآن سوى أنه وسيلة للارتزاق، وسبيل إلى التنافس على الدنيا، والحصول على إعجاب الفارغين العاطلين من تلاميذ الشياطين!.(14/232)
يا شيخ.. محمود إن الذين يحاربون الإسلام وينخلعون من ربقته كل يوم كثيرون لا يحصرهم إحصاء، على حين إن الذين يلتزمون سبيله ويتفانون في نصرته هم الأقلون المضطهدون.. ولكنهم وحدهم السعداء بمرضاة ربهم؛ لأنهم الثابتون على عهد نبيّهم؛ لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة، فإلى أي الفريقين تنحاز يا شيخ محمود؟ وبأيهما تلوذ؟ فاختر لنفسك! وتذكر أنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه، فلن تنفعك فتوى فلان، ولا تصفيق فلتان، ولا تهريج علان {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} .
إن الزلّة لكبيرة يا شيخ محمود؛ فأدركها بتوبة تغسلها، وأعلن ذلك على الملأ كما اقترفتها على الملأ.. تلك نصيحتي أبعث بها إليك إبراء للذمة، وتذكيرا بالحق؛ فافتح لها صدرك، وتلقها بمثل الروح التي أملتها، ولا تكن كذلك الذي {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْم} ، {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .
هذه الكلمات كُتبت في أعقاب السقطة الفاجعة، وكان من حقّها أن تصل إليك يا شيخ محمود على صفحات إحدى المجلات الإسلامية منذ ذلك اليوم، ولكن قدّر الله أن تحول الحوائل دون نشرها، حتى تحمل إلى قرائها بعض ذيول القصة التي بدأت بحفلة الذكرى، ولا يعلم غير الله متى وأين وكيف ستنتهي.(14/233)
لقد سمحتم للشيطان أن يستحوذ على تلك المسكينة منذ أغفلتم تحصينها بعواصم الإسلام؛ فلم تجد بأسا في الاستجابة لهواتف الغواية تأخذ بخطمها إلى مهاوي الأخسرين أعمالا من أهل الفن الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وقديما قيل: إن من وضع قدمه في مزلقة الإثم لا يسعه التوقف قبل القاع، وهكذا فتنت بالغناء وغرّها ما قرأته وما سمعت من تمجيد المضللين لأهله، وإكبابهم على مسجلاتهم يستهلكون معها لياليهم، حتى يصرعهم سكر الطرب، فيسلمهم إلى نوم لا يذكرون معه ربا ولا واجبا، ووجدت - وربما وجدتم - في حنجرتها نغما يؤهّلها للحاق بركب النجوم الذين واللواتي استطاعوا أن يفرضوا سلطانهم على قلوب الجماهير العمياء، التي تكاد تتخذهم آلهة من دون الله؛ فيستولون بذلك على ثروات الأمة، ويسلبوا السفهاء وعيهم حتى لا يروا للحياة معنى بغير وجودهم، فيقتلوا أنفسهم حزنا لفراقهم.(14/234)
أجل.. لقد استهوى ذلك قلبها إذ كان كالحصن الذي لا حامية فيه؛ فلم تلبث أن سقطت في حبالة الشياطين، وكانت الخطوة الأولى في هذا المنحدر تلك الحفلة التي أفتاك بعض المعمَّمين من عشاق الطرب، وباركتها أنت يا شيخ محمود بالتقديم لها في زفة من آيات الله، ثم ما لبثن الخطى أن تلاحقت في المنحدر؛ فإذا هي تتخذ لنفسها اسم ياسمين الخيام بدل إفراج الحصري، وكأنّها بذلك تعلن الحرب على ماضيها الإسلامي نفسه بالانتساب إلى ذلك العربيد (الخيام) الذي أصبح مضرب المثل في عالم الضياع والدعوة إلى الاستهتار، وتبع ذلك ما لا مندوحة عنه من طرح للحجاب، وعمل مع الفرق الراقصة، وظهور في المسارح الماجنة.. استجداء لتصفيق المعجبين ومشاركة لصعاليك الفن في تجميع الملايين.. وقد رضيت أن تدفع ثمن ذلك الهُويّ كلَّ ذخيرتها من طمأنينة الحياة الزوجية، وأن يسلبها شططها هذا كل أثر للسكن والمودة والرحمة؛ فأشقت الزوج، وأيتمت البنين، وتناست موقفها القريب الرهيب بين يدي رب العالمين!! ولا عجب فهي الحصيلة الطبيعية لهذا النوع من الشذوذ عن سبيل المؤمنين، وليست مأساة (البيت الأردني) الذي دمره شطط تلك الهاوية الأخرى ببعيدة عن عيني إفراج وأبي إفراج، لو كانوا من المستبصرين المعتبرين..
وأخيرا.. لا أدري والله بأي كلمة يجب أن أختم خطابي هذا إليك، أبالدعاء لك بأن يتوب الله عليك؛ فيوفقك إلى التكفير عما أسلفت في هذه المأساة من آثار يتعذر رصد عواقبها على الأجهزة الحاسبة والحاسبين! أم أدعو عليك بعقاب يكافئ ما قدّمت لدينك من مساءة سررت بها الفاسقين، وكسرت قلوب المؤمنين؟!
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..(14/235)
الفكر والفلسفات المعاصرة
الاستشراق وجهوده وأهدافه في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته
للدكتور عبد المنعم محمد حسنين - كلية الدعوة وأصول الدين
مقدمة
الاستشراق حركة ظهرت في العصر الحديث، وتبدو هذه الحركة علمية في ظاهرها؛ فهي تحاول دراسة التراث الشرقي، ولكنها في الحقيقة تبغي من وراء هذه الدراسة التعرّف على منابع تراثنا الشرقي، ثم تحاول صرف أهله عنه، وليجرفهم تيار الحضارة الغربية الضالّة المضلّلة.
والمستشرقون جماعة من علماء الغرب - من مسيحيين ويهود وملحدين - درسوا اللغات الشرقية من عربية وفارسية وعبرية وسريانية وغيرها، وتوفر كثير منهم على دراسة اللغة العربية والإطلاع الواسع على علومها ومعارفها؛ لاتخاذ هذه الدراسة وسيلة للقاء كثير من المفتريات والأباطيل في محيط الإسلام للتهوين من شأن الدعوة الإسلامية والتقليل من أثرها في الحياة، وفي الارتفاع بالمستوى الإنساني، وبدورها في إنقاذ الإنسانية وتحريرها من العبودية، وإخراجها من الظلمات إلى النور.
كما أن هذه المفتريات والأباطيل تحاول التقليل من شأن الثقافة الإسلامية، ودورها في نشر العلوم والمعارف، وفي نقل أوربا من العصور الوسطى - عصور الجهل والظلام - إلى مشارف العصر الحديث، وما ظهر فيه من علوم ومعارف يفخر بها العالم الغربي.(14/236)
ويواصل الاستشراق بذل جهوده في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته؛ لأن المستشرقين لم يستطيعوا التخلّص من نزعاتهم الموروثة وأهوائهم المعادية للإسلام، بحيث لم يعد خافيا ما يبذله المستشرقون من جهود في محاربة الإسلام بالتشكيك في مصادره وتلفيق الأباطيل والإلقاء بها في ساحة الشريعة الغرّاء، ومحاولة إغراق المسلمين بالتيارات الفكرية المضلّلة، ومحاربة اللغة العربية التي نزل بها القرآن، ومساندة الدعوات المضلّلة التي قامت تحت راية الإسلام، واستغلال وسائل الإعلام في إفساد المسلمين بإبعادهم عن دينهم، والحرص على تضليل أبناء المسلمين الذين يتتلمذون عليهم.
فينبغي أن نبين خطر الاستشراق وجهوده وأهدافه في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته، ويجب أن نكشف الأسلحة التي يستعملها في حربه السافرة والخفية، والوسائل التي نتقي بها شره، ونردّ بها كيد أعداء الإسلام في نحورهم.
وهذا ما سأحاوله في هذا البحث وبالله التوفيق.
أولا: نشأة الاستشراق
يخطئ من يقول إن الاستشراق حركة علمية، لا هدف لها إلا دراسة التراث الشرقي في معتقداته وآدابه؛ لأن الاستشراق في الحقيقة والواقع خادم للاستعمار وأهدافه، وهو يتخذ من دراسة التراث الشرقي وسيلة لمحاربة الإسلام، والتشكيك في مصادره ليصرف المسلمين عن دينهم، فلا تتحقق لهم قوة ولا عزة، بل يظلون تابعين للغرب، مقلّدين كل ما في بلاده من ألوان الفساد والانحلال.(14/237)
إن الاستشراق في الحقيقة امتداد للحروب الصليبية ضدّ الإسلام وحقائقه الناصعة؛ لأن الحروب الصليبية لم تنته، وإنما اتخذت أشكالا وألوانا مختلفة، منها الاستشراق؛ فالمستشرق يجيء إلى الإسلام لابسا العلم الظاهر، ومدّعيا البحث عن الحقيقة، ولكنه في الباطن قد عقد النية على جمع المطاعن الملفقة عن الإسلام؛ فلا يلبث أن يرمي الإسلام بكل ما يحمل صدره من غل، وينفث قلمه من سم؛ فهو يتنكر لمنهج العلم الصحيح الذي من شأنه أن يعرض الحقائق، وأن يترك للناس الحكم عليها، دون أن يمزجها بمرارة حقده، ونفثات عداوته، ودون أن يحاول تشويه هذه الحقائق بصورة من الصور.
والمتتبع لحركة الاستشراق يجد أنه مواكب لحركة الاستعمار الغربي لبلاد الشرق والإسلام، مما يدل على أنه امتداد للحروب الصليبية، وشكل من إشكالها، وقد نشطت حركة الاستشراق وبلغت أشدها منذ قرنين من الزمان في صورة حركة تابعة لحركة الاستعمار.
والاستشراق مصدر الفعل (استشرق) أي: اتجه إلى الشرق ولبس زى أهله، وقد اتخذ المستشرقون من دراسة لغات الشرق وسيلة للاتجاه إليه، فدرس كل منهم لغة أو أكثر من لغات الشرق كالعربية والفارسية والعبرية والسريانية وغيرها، ثم درس بهذه اللغة علوم تلك اللغة وفنونها وآدابها ومعتقدات أهلها، وكانت اللغة العربية المطلب المقصود عند الكثير من المستشرقين.
قد أقبل المستشرقون على دراسة اللغة العربية والتخصص في علومها من نحو وصرف وأدب وبلاغة؛ ليتمكنوا من اللغة، ثم نظروا بعد ذلك في علوم الدين الإسلامي من عقيدة وشريعة؛ لاتخاذ هذه الدراسة وسيلة لتلفيق الأباطيل للتشكيك في حقائق الإسلام، وصرْف المسلمين عن دينهم الذي يهديهم إلى طريق التقدم والعزة؛ فتتحقق بذلك أهداف الاستعمار في مواصلة احتلال بلاد المسلمين.(14/238)
وأوضح دليل على صلة الاستشراق بالاستعمار أن سوق الاستشراق رائجة في أوربا وأمريكا في الدول التي لها مصالح في الدول الشرقية بعامة وفي الدول الإسلامية بخاصة، وأن هذه السوق أكثر رواجا في الدول الاستعمارية التي تحاول غزو الدول الشرقية بأية صورة من صور الغزو والمعروفة في العصر الحديث؛ سواء أكان الغزو عسكريا أم اقتصاديا أم سياسيا أم ثقافيا، بل لا تكاد توجد سفارة من سفارات هذه الدول الاستعمارية في دولة من دول الشرق الإسلامية لا يوجد فيها مستشرق أيّا كانت رتبته بين رجال السفارة والعاملين بها.
إن ارتباط الاستشراق بالاستعمار وتبعته له جعلت الاستشراق يواصل جهوده في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته، ويستعمل كل الأسلحة في حربه؛ لأن هذا الدين الحنيف هو السدّ المنيع الذي يقف في وجه الاستعمار والعبودية لغير الله.
إن المستشرقين يعلمون من دراستهم للإسلام أن العقيدة التي جاء بها ترتكز على أسس ثابتة من الفطرة الإنسانية العامة والمنطق العقلي المستقيم، والنصوص الدينية الصريحة، بحيث لا يمكن لعقول المفكرين والفلاسفة أن ينقضوا أصلا واحدا من أصولها إذا التزموا منهج العلم الصحيح، ولذلك يحاول الاستشراق منذ نشأته التشويش على دعوة الإسلام بتلفيق الأباطيل، واتخاذ البحث العلمي ستارا يلفقون من ورائه هذه الأباطيل.
وقد صار الاستشراق مظلة لكل أعداء الإسلام من المستعمرين والملحدين وغيرهم؛ فأصبح يستظل بها أصحاب العقائد الفاسدة الباطلة من الشيوعيين وأنصار المذاهب الإلحادية الانحلالية في العصر الحديث، فقد جمع هؤلاء بغضهم للإسلام؛ لأن أساسه التوحيد، وهو زبدة الرسالات الإلهية وغايتها، ترتكز كلها عليه وتستند في وجودها إليه، وتبتدئ منه وتنتهي إليه؛ فكل رسول افتتح دعوته لقومه بقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} .(14/239)
والدين فطرة غرزها الله في البشر، وقد كانوا أوّل الأمر متفقين على التوحيد قبل أن تزيّن لهم الشياطين عبادة الطواغيت واتخاذ الأصنام.
والعقيدة الإسلامية عقيدة واضحة بعيدة عن إغراق الوهم، وجموح الخيال، وتحكم الأهواء، وهذا ما يسعى إليه العقل في تفكيره الدائب للوصول إلى الحقيقة التي ينشدها.
من هنا كان الاستشراق هو المطية التي يركبها أعداء الإسلام لعلهم يستطيعون بهذه الوسيلة التشويش على دعوته التي تتفق مع الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها.
وقد بذل الاستشراق منذ نشأته جهودا عديدة متواصلة في محاربة الإسلام، واصطنع وسائل متنوعة في حربه، واستفاد من تقصير المسلمين - أحيانا - في الدفاع عن دينهم، وانخداع بعضهم - أحيانا أخرى - بكلام بعض المستشرقين الذين يضعون السمّ في العسل.
وسأعرض فيما يلي جهود الاستشراق المختلفة في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته، وأبيّن أهدافه من وراء هذه العداوة الشديدة، والله غالب على أمره ولو كره الكافرون.
ثانيا: جهود الاستشراق في محاربة الإسلام بسلاح العلم
ينبغي على المهتمين بتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة أن يكونوا على دراية تامة بالجهود التي يبذلها المستشرقون في محاربة الإسلام؛ لأنهم - في الحقيقة - ألدّ أعداء الإسلام.
والمستشرقون يتخذون العلم وسيلة للتشويش على الدعوة الإسلامية ويتسترون وراء البحث العلمي، وهم يلفّقون الأباطيل، ويلقون بها في ساحة الشريعة الإسلامية، ويحاولون تضليل شباب المسلمين الذين يتتلمذون عليهم، وإقناعهم بآرائهم الفاسدة الخبيثة؛ ليشركوهم معهم في الإساءة إلى الإسلام دون وعي.(14/240)
إن ما يكتبه المستشرقون عن رسالة الإسلام ورسول الإسلام يفضح الحقد الدفين الكامن في قلوبهم، ويكفي أن نذكر - على سبيل المثال - ما كتبه واحد منهم هو (جولد تسيهر) ؛ لينكشف دورهم في الطعن على الإسلام، والتشويش على دعوته متخذين العلم وسيلة لما يهدفون إليه، يقول المستشرق المذكور: "فتبشير النبي العربي ليس إلا مزيجا منتخبا من معارف وآراء دينية عرفها أو استقاها بسبب اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية وغيرها، التي تأثر بها تأثرا عميقا، والتي رآها جديرة بأن توقظ عاطفة دينية حقيقية عند بني قومه" [1] .
وهذا قول آثم، ردّد به هذا المستشرق الحاقد زعما زعمه المشركون منذ أربعة عشر قرنا، وردّ الله تعالى عليه في حينه؛ فما إن قال المشركون هذا القول حتى فضحهم الله به، يقول الله تعالى على لسان المشركين: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} ، ويردّ جل جلاله عليهم بقوله: {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً} ، ثم يقول سبحانه على لسانهم: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأََوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} ، ثم يردّ جل وعلا عليهم بقوله: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} .
ثم تحداهم سبحانه وتعالى بأن يأتوا بسورة من مثله؛ فعجزوا ولم يرفع أحد رأسه، يقول جلّ جلاله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} .(14/241)
إن جولد تسيهر وأمثاله من المستشرقين أعداء الإسلام يردّدون ما كان يردّده مشركو قريش من قبل في موقف العناد والكبر، غير أن مشركي قريش عدلوا عن عنادهم ودخلوا في دين الله وجاهدوا في سبيل الله، وكان منهم سيوف الله على رقاب أعداء الله، أما المستشرقون فمصرّون على محاربة الإسلام والتشويش على دعوته بالتشكيك في القرآن الكريم والإيهام بأنه من عمل محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول كان يتجاوز بعض الوحي القرآني، وينسخ بأمر الله ما سبق أن أوحاه إليه [2] .
والحقد واضح في مقولة هذا المستشرق، بل لقد ذهب الحقد بعقله؛ إذ كيف يستسيغ عقل سليم أن يصف محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه رسول ثم يقول إن هذا الرسول بدّل رسالة ربه بأمر من ربه لظروف اضطرته إلى ذلك! هل يعقل هذا؟!.. فأي رسول يحمل رسالة الله ثم يكذب على الله ثم يظلّ رسولا بعد ذلك؟! أليس ما يقوله ذلك المستشرق اللعين هو الحقد الذي يذهب العقول ويقلب حقائق الأشياء؟!
ألم يقرأ هذا الحاقد قول الله تعالى - ردّا على مفتريات المشركين بأن محمدا يفتري على الله الكذب -: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [3] ؟!(14/242)
إن عداوة المستشرقين للإسلام قد بدت من أفواههم، ومن كتاباتهم المسمومة، وما تخفي صدورهم أكبر؛ فينبغي أن نقف منهم موقف الحذر دائما، وأن نكشف زيفهم وبخاصة الذين يصطنعون الحكمة والتعقّل، ويتظاهرون بالإعجاب برسالة الإسلام ليدخلوا على العقول دخول اللص في غيبة الحارس!! ويدسّوا السمّ في العسل؛ فلتكن عقولنا حاضرة ونحن نسمع أو نقرأ لهؤلاء المستشرقين ما يكتبون عن الإسلام ولو كان حقا وصدقا؛ فقد تندس كلمة هنا وكلمة هناك فتقع موقعا قاتلا لمن لا ينتبه إليها، ولا يأخذ حذره منها؛ فما أكثر الذين خدعوا من المثقفين من المسلمين بهؤلاء المستشرقين، وأخذوا مقولاتهم على أنها أحكام قاطعة لا تقبل نقاشا؛ فاشتركوا مع المستشرقين في محاربة الإسلام والتشويش على دعوتهم، وضلّ سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، والعياذ بالله!.
إن المستشرقين بعامة قد حاولوا دراسة الإسلام بنية منعقدة على جمع المطاعن الملفقة عن الإسلام، وهم يتزيّون بزي العلم والبحث عن الحقيقة، غير أن العصبية تغلبهم عن أن يقولوا كلمة الحق، وأن ينطقوا بما في أيديهم من شواهد؛ فيكابرون ويلجون في الضلال، ويرمون الإسلام بكل ما تحمل صدورهم من غل، وحتى من يقول منهم في الإسلام كلمة حق - ليبعد عن نفسه تهمة التعصب، ويلصق بنفسه صفات العالم النزيه الذي لا يدلس ولا يدجل - لا يمكن أن تسلم كتابته من بعض التعليقات المضلّلة؛ فيجب أن نحتاط ونكون على حذر ونحن نقرأ كتابات المستشرقين أو نقتبس منها؛ لأنهم لم يستطيعوا التخلّص من أهوائهم ونزعاتهم الموروثة منذ أيام الصلبيين؛ فصرفوا جهودهم في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته دعوة الحق التي يزهق أمامها كل باطل.(14/243)
إن الإسلام يواجه عداوات متربّصة من كل جانب، وإن المسلمين في مواجهة حرب من أعدائهم المستشرقين؛ ورثة الصلبيين، وهذا ما يقتضيهم أن يكونوا على وعي ويقظة، وأن يتسلح الدعاة منهم بأسلحة الثقافة الواسعة الشاملة، وأن يتعرفوا على ما عند أعدائهم من أسلحة يحاربونهم بها، حتى يلقوهم بأسلحة من دينهم ومن تراثهم؛ ليردوا كيدهم ويبطلوا تدبيرهم، وما يريدونه من سوء بالمسلمين وبدينهم، والله من ورائهم محيط.
وسأعرض في هذا البحث بعض وسائل الاستشراق في محاربة الإسلام بتضليل المسلمين وصرفهم عن دينهم، ولكن الله ردّ كيدهم في نحورهم وحرس دينه الذي ارتضاه لعباده.
ثالثا: وسائل الاستشراق في التشويش على دعوة الإسلام
للاستشراق وسائل عديدة في التشويش على دعوة الإسلام ينبغي أن يتنبّه إليها المسلمون، حتى يتقوا شرّ أعدائهم ويحبطوا خططهم، وسأعرض في هذا البحث أهمّ هذه الوسائل وأكثرها خطورة؛ والله ولي الذين آمنوا!.
1_ التبشير الصليبي:
إن الشيء الذي يجب أن لا يشك فيه المسلمون هو أن الحروب الصليبية لم تنته، فمنذ خرجت أوربا من ظلام القرون الوسطى تطلّعت إلى الشرق الذي كان الضعف قد دبّ فيه، الأمر الذي جعله فريسة للدول الأوربية؛ فاستعمرت أكثر دوله، وكانت أوطان المسلمين أول ما أحكمت عليه قبضتها.(14/244)
وكان الاستعمار الغربي يهدف من وراء السيطرة على أوطان المسلمين إلى استغلال هذه الأوطان أرضا وبشرا، ثم إلى محاربة العقيدة وإجلائها من قلوب المسلمين، ومحاولة ما عجزت عنه الحروب الصليبية من قبل، وذلك لما يعلمه المستعمرون - بواسطة أعوانهم المستشرقين - من خطر الإسلام على خططهم التي يرسمونها على أساس قتل المعاني الإنسانية في الأوطان المستعمرة حتى تموت مشاعر الناس هناك؛ فلا يحاول أحد أن يثور في وجه المستعمرين له المستغلين لأرضه وجهده، الأمر الذي لا يصبر عليه المسلم الذي يستظلّ براية التوحيد؛ فلا يخفض رأسه إلا لله ولا يحني قامته لغير الله، وهذا من شأنه أن يبعث في نفسه العزة والكرامة وإباء الضيم؛ ولهذا عمل المستعمرون - بواسطة المستشرقين - على محاربة الإسلام حرباً خفية بعد أن حاربوا المسلمين بالحديد والنار.
وظهرت هذه الحرب في صورة تجنيد جيوش من المبشّرين بقيادة المستشرقين، ودفع هؤلاء المبشرين إلى بلاد المسلمين، وحمايتهم بجيوش المستعمرين، والتمكين لهم من التغلغل في المدن والقرى، وإمدادهم بالمال؛ لقيموا المستشفيات والملاجئ والمدارس ليتخذوا منها شباكا لتضليل الناس، مختفين في زي المبعوثين إليهم لإنقاذهم من المرض والفقر والجهل باسم المسيح.(14/245)
وكان مما حاوله المبشرون - بتوجيه من المستشرقين - محاربة اللغة العربية وإجلاؤها من الألسنة؛ حتى تنقطع الصلة بين المسلمين وبين كتاب الله الذي هو دستور دينهم ولسان شريعتهم، وكان من تدبيرهم لتحقيق هذه الغاية أن أشاروا على المستعمرين بأن يقربوا إليهم كل من يحسن لغتهم، وأن يمكنوا لهم من تولى المناصب العالية، الأمر الذي دعا كثيرا من المسلمين إلى تعلّم لغة المستعمر وحذقها، في الوقت الذي انصرف هؤلاء المتعلمون عن لغتهم العربية، معتقدين أن هذا لا ينتقص شيئا من دينهم، ولا يمسّ شيئا من عقيدتهم، وبهذا أصبحت دول كثيرة من الدول الإسلامية التي كان لسانها عربيا لا تكاد تنطلق بتلك اللغة، ولا تعرف من كلماتها إلا ما تؤدي به الصلاة في ركاكة عجمية، كما كان ذلك مشاهدا في البلاد الإسلامية الواقعة في شمالي أفريقية، وهذه البلاد تحاول جاهدة الآن - بعد أن جلا الاستعمار عنها - أن تسترد لسانها العربي بعد تلك الغربة الطويلة التي انقطعت فيها الأسباب بينها وبينه.
وقد استغلّ المبشرون وضعهم في البلاد الإسلامية المستعمرة في التشويش على دعوة الإسلام، مستفيدين من غياب اللسان العربي، الأمر الذي أدّى إلى إضعاف الغيرة الدينية عند كثير من المسلمين، وتراخي أيديهم عن التمسك بشعائر الدين، والتأدّب بآداب الإسلام والتخلق بأخلاقه.
وقد جهل المستعمرون وأعوانهم من المستشرقين والمبشرين أن السرّ في فشلهم في حمل المسلمين على التخلي عن دينهم هو أنهم يعملون في اتجاه مضاد لطبيعة الأشياء؛ لأن الإسلام دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ فلا يمكن للفطرة أن تنفصل عنه، مهما بذل أعداء الإسلام من الجهد والمال.(14/246)
وهذا هو السرّ الذي دخل به الإسلام إلى أوطان كثيرة؛ فغزا القلوب ونفذ إلى العقول، بدون جيوش زاحفة وحملات تبشيرية غازية، وإنما كان الإسلام بذاته هو الذي يفتح أوطانا بأسرها، على يد بعض التجار الذين لم يكن من قصدهم الدعوة إلى الدين، وإنما كانت هذه الدعوة تأتي عرضا في حديث جار، فإذا هي تسري بين الناس سريان العافية في الأجسام العليلة، وإذا الناس على دين الله وعلى فطرة الله.
هكذا دخل الإسلام كثيرا من بلاد إفريقية ومن بلاد آسيا، ودخل بلادا عديدة في أوربا، ودخله كثيرون في أمريكا، ولم يدخل أحد الإسلام في البلاد بحملات حربية أو تبشيرية، وإنما دخله طبيعيا بدعوة من الفطرة؛ لهذا فشلت حملات التبشير في بلاد الإسلام، وتكسّرت نصالهم على صخرة هذا الدين.
لقد كانت أهداف التبشير الصليبي - بعد الحروب الصليبية - التشويش على الدعوة الإسلامية؛ لكسب مواقع جديدة من أرض المسلمين، فلما عجز المبشرون عن بلوغ أهدافهم حاول قادتهم من المستشرقين أن يشوشوا على دعوة الإسلام بإلقاء الأباطيل والمفتريات في ساحة شريعته الغراء، خصوصا بعد أن انتشر الإلحاد في أوربا وأمريكا، بعد أن كشف العلم الحديث للمسحيين ما في دينهم من أمور لا يقبلها العقل، كالتثليث الذي يجعل الإله الواحد ثلاثة: أب وابن وروح قدس.(14/247)
فخشي المبشرون الصليبيون أن يطلّ الإسلام بوجهه المُشرق على أوربا وأمريكا؛ فيجد قلوبا مهيأة له وعقولا متجاوبة معه؛ فشجع رجال الكنيسة حركة الاستشراق، وحمى المستعمرون هذه الحركة؛ فكثر عدد المستشرقين الذين يتصلون اتصالا مباشرا بالكنيسة ليشوشوا على الدعوة الإسلامية لإضعاف سلطان الدين على نفوس المسلمين، فيقلّ عزمهم في محاربة الاستعمار وطرده من بلادهم؛ فتحقق بذلك أهداف الاستشراق في خدمة الصليبيين والمستعمرين، لكن الله بالغ أمره {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [4] .
2_ محاولة إغراق المسلمين بالتيارات الفكرية المضللة:
ومن الوسائل التي يستعملها الاستشراق في التشويش على دعوة الإسلام محاولة إغراق المسلمين بالتيارات الفكرية المضللة، وتصدير هذه التيارات إلى أقطار المسلمين؛ لتضليل الشباب وصرفهم عن دينهم، والتشويش على دعوة الإسلام التي تتفق مع فطرة الله التي فطرهم عليها، وأهم هذه التيارات الفكرية المضللة ما يلي:
أ - المادية:
يتّسم العصر الحديث بتحكم المادية في تفكير الناس وفي سلوكهم، والمادية تنكر المشاعر الإنسانية التي يعمل الدين على غرسها وتنميتها في النفوس؛ من الرحمة والمودة والعطف والإيثار، وكل ما يشيع في كيان الإنسان من عواطف إنسانية نحو أهله وقرابته ومجتمعه والإنسانية كلها.
وأخطر ما في المادية أنها تتملّق شهوات الناس، وتأتي إليهم من الجانب الضعيف فيهم، حيث تميل النفوس دائما إلى العاجل من كل محبوب ومرغوب عندها، وقد بيّن الله جل وعلا طبيعة النفس البشرية في كتابه الكريم فقال تعالى: {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} [5] وقال جلّ شأنه: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [6] .(14/248)
وقد حاول أعداء الإسلام أن يستغلوا هذا الميل إلى المادية في تضليل شباب المسلمين عن حقيقة دينهم، واستفاد الاستشراق في التشويش على الدعوة الإسلامية من أقوال الصوفية الذين ينتسبون إلى الإسلام؛ فالصوفية يروّجون أن الزهد في متاع الدنيا دليل الاتباع الصحيح للدين، وهذا زعم باطل، ولكن المستشرقين استفادوا منه في إغراق شباب المسلمين بتيار المادية ليشوشوا على الدعوة الإسلامية ويشككوا في مقررات الإسلام.
إن المادية تنكر على الدين الدعوة إلى الإيمان بما وراء الحسّ؛ من الإيمان بالله وملائكته واليوم الآخر والحساب والجنة والنار، وكل ما لا يقع في مجال المدركات الحسية التي هي عمدة العقل المادي في الحكم على الأشياء وقبولها أو رفضها، أي أن المادية تغرق الناس في الشهوات ليتخذوا من حبّها دينا وينصرفوا عن دين الحق.
فينبغي على الدعاة الذين يتصدَّون لردّ هذه الدعوة المضلّلة أن يبينوا للشباب - بخاصة - أن الإسلام حينما يدعو الناس إلى الإيمان بالحياة الآخرة لا يحرمهم شيئا من طيبات الحياة الدنيا، بل إنه يطلق كل قوى الخير فيهم؛ ليعملوا جادين في كل ميدان من ميادين الحياة وليقطفوا كل طيب من ثمرات عملهم وجهدهم.(14/249)
إن الإسلام لم يحرم على الناس شيئا من طيبات الحياة الدنيا؛ فالله جلّ وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [7] ، كما يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [8] ، ويقول عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [9] ، ويقول تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [10] .
إن الله دعا الناس إلى العمل الطيب، ووعدهم بالجزاء الحسن في الدنيا والآخرة؛ ولذلك أطلق الإسلام كل قوة من قوى الإنسان الخيرة، ولم يقف حائلا دون أية رغبة من رغبات الإنسان الشريفة؛ فإذا رسم الإسلام للإنسان حدودا لا يتعداها، وإذا وضع على طريق مسيرته في الحياة معالم لا يخرج عنها فما ذلك إلا لضمان سلامة الإنسان في تلك المسيرة، ووقايته من شهوات نفسه التي تقوده إلى الهلاك، أو تلبسه الشقاء الدائم في حياته قبل آخرته، فمن رحمة الله تعالى بعباده أن أخذهم بأدب هذه الشريعة الغرّاء، وأنْ حرم عليهم الخبائث التي تفسد عقولهم وقلوبهم، وتغتال معالم الإنسانية فيهم، وتنزلهم إلى عالم الحيوان الذي تريد المادية إنزالهم إليه.
ب - الوجودية:(14/250)
تقوم الوجودية على دعوة خادعة، وهي أن يجرد الإنسان نفسه بالتحلل من كل ما يربطه بالمجتمع من نظم وقواعد وعادات وتقاليد، وأن يطلق نفسه على هواها تهيم في كل واد، وترعى كل ما يصادفها على طريقها من غير وعي أو تفكير أو تقدير لما يأخذ أو يدع من أمور، ومن غير تقيّد بشيء ما؛ فلا دين ولا بيت ولا زوجة ولا وطن.
إن الوجودية - في الواقع - آخر تيار فكري أوجدته المادية الحديثة؛ فهي دعوة إلى عزل الإنسان عن عالمه الروحي، وجعله جسدا حيوانيا، ولا يجد في كيانه شيئا من العواطف والمشاعر الإنسانية، يقول بول سارتر زعيم الوجودية المعاصرة: "إن ما ينبغي أن تكون عليه حياة الوجودي هو توديع ما يسميه الجبناء وجدانا وضميرا، والاستجابة إلى داعي الحيوانية وتلبية كل ما تدعو إليه شهواته، ونبذ كل التقاليد والتعاليم الاجتماعية، وتحطيم القيود التي ابتدعتها الأديان" [11] .
إن الوجودية تفسد طبيعة الإنسان وتدمّر عقله وقلبه وروحه، وتحوله إلى حيوان بلا عقل ولا قلب ولا روح؛ فهي دعوة خبيثة انتشرت في ربوع أوربا وأمريكا نتيجة لموجة الانحلال عن المسيحية التي انتابت هذه البلاد، وقد حرّكت أصابع الصهيونية تلك الدعوة، وأخذ اليهود يروّجونها لإشاعة الانحلال والفوضى في المجتمعات الأوربية والأمريكية، ثم حاولوا تصديرها إلى بلاد المسلمين بواسطة شباب المسلمين الذين يذهبون إلى بلاد الغرب طلبا للعلم، وهم يوهمون شبابنا بأنها دعوة إلى التحرّر، ويلعب المستشرقون دورا كبيرا في تضليل شباب المسلمين بهذه الدعوة؛ ليتحرروا من الدين ومن العقل ومن الإنسانية، وليصيروا كالأنعام؛ فلا يخشى خطرهم على الاستعمار في أي شكل من أشكاله؛ فتتحقق بذلك أهداف الاستعمار والاستشراق في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته.(14/251)
فيجب أن نحذر شباب المسلمين من هذه الدعوة الخطيرة، ونزوّدهم دائما بزاد كاف من العلم بأمور دينهم؛ ليعصمهم هذا الزاد من الزلل والتأثر بما يروجه أعداء الإسلام من دعوات ضالة مضللة، يتخذونها وسيلة لمحاربة الإسلام ودعوته التي تخرج الناس من الظلمات إلى النور، وتجعل الإنسان أفضل المخلوقات.
ج - العلمانية:
ومن الوسائل التي يشوّش بها الاستشراق على الدعوة الإسلامية إفهام بعض أدعياء العلم من الذين ينتسبون إلى الإسلام بأنه يجب الفصل بين العلم والدين، وهو ما يسمونه (العلمانية) ، وهي دعوة من الدعوات الخادعة المضللة لأنها مشتقة من العلم.
والحقيقة أن العلمانية التي يدعو إليها المستشرقون - ويعنون بها العلم المنعزل عن الدين - حركة ظهرت في أوربا نتيجة للصراع العنيف الذي نشب بين رجال العلم والكنيسة التي كانت بسلطانها القوي في القرون الوسطى متحكّمة في العقل الأوربي؛ فلا يقبل فكر أو رأي لا يكون مصدره الكنيسة ورجال الدين فيها، وكان من السلطان الديني للكنيسة أنها تملك حقّ الغفران للعصاة ومرتكبي الكبائر من المسيحيين، كما أن لها في أتباعها حقّ الحرمان والطرد من ملكوت الله ومن ساحة رحمته.
وقد انتهى هذا الصراع بين العلم والكنيسة بانفصال كل منهما عن الآخر؛ فالعلم له رجاله، ولهم في مجال العلم أن يقولوا ما يشاءون دون أن يكون للكنيسة حق مؤاخذتهم، وللكنيسة رجالها الذين يقولون ما يشاءون في أمور الدين دون أن يكون للعلم وعلمائه موقف معهم.(14/252)
وإذا قام هذا الصراع بين العلم والدين في المسيحية - لأن الكنيسة صادرت كل كلمة يقولها العلم، وعزلت الدين عن الدنيا، فأخذ العلم وجهة غير وجهة الدين - فإنه لا مجال أبدا لأن يقوم مثل هذا الصراع بين العلم والدين في رحاب الإسلام؛ لأن الإسلام يؤاخي بين العلم والدين، ويجعل الدين علما، والعلم رائدا هاديا إلى الدين، وكلمة العلم وما يشتق منها من أكثر الكلمات دورانا في القرآن الكريم؛ فقد ورد ذكر العلم ومشتقاته أكثر من ثمانمائة وعشرين مرّة في الكتاب الكريم.
فالعلم هو رسالة الإسلام، وبالعلم يَعرف الإنسان ربه وخالقه، وما يجب عليه من ولاء لله واستقامة على أوامره واجتناب لنواهيه، حيث لا يكون عمل إلا عن علم، ولهذا كانت دعوة الإسلام إلى طلب العلم، وإلى الاجتهاد الدائب في طلبه، يقول الله جل جلاله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [12] ، ويقول سبحانه وتعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [13] ، ويقول عزّ وجل لنبيّه الكريم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [14] .
فالدعوة إلى العلم دعوة كريمة مستحبة من كل ذي عقل؛ لأن العلم سبيل الإنسان إلى الكمال العقلي والسمو الروحي، حيث يميز به الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والخير من الشر، والنافع من الضار.
أما العلمانية التي يروّج لها المستشرقون فتدعو إلى العلم الذي ينعزل عن الدين؛ فلا مجال لها في الإسلام، ولا ينبغي أن تظهر في المجتمع الإسلامي؛ لأن الإسلام جامعة العلم والمعرفة، الأمر الذي لا يمكن أن تقوم معه جفوة بين العلم والدين أبدا؛ فلا ينبغي أن يقبل مسلم دعوة إلى الفصل بين العلم والدين؛ لأن من يقبل هذه الدعوة يكون جاهلا بحقائق الإسلام؛ فلا يكون مسلما ولا عالما.(14/253)
فينبغي أن نحذر المثقفين من شباب المسلمين من الانقياد الأعمى لمثل هذه الدعوات الضالة المضللة، ومن الغرق في التيارات الفكرية التي يحاول الاستشراق إغراق المسلمين بها؛ للتشويش على عقيدتهم وإبعادهم عن دينهم الذي به صلاحهم وعزتهم {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [15] .
3 - محاربة اللغة العربية:
من الوسائل التي يحارب الاستشراق بها، ويشوش بها على دعوته محاربة اللغة العربية التي نزل بها القرآن، وقد لجأ المستشرقون إلى هذه الوسيلة بعد عجزهم عن النيل من القرآن الكريم؛ فأخذوا يروّجون بين المثقفين من المسلمين من تلاميذهم أن اللغة العربية في حاجة إلى تطوّر وتجديد، وهم يهدفون من وراء دعوتهم هذه إلى إضعاف اللغة العربية؛ لينصرف المسلمون عنها؛ فتنقطع الصلة بينهم وبين كتاب الله وسنة خاتم الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام.
إن المستشرقين يتهمون اللغة العربية بالعجز عن مسايرة ركب الحضارة الحديثة، ويزعمون أن اللغة العربية تعجز بقاموسها اللغوي عن حمل العلوم والفنون التي جاء بها العصر الحديث، وأن التخلّف الذي أصاب المجتمع الإسلامي سببه قصور اللغة العربية وعجزها عن نقل ما جاءت به العقول والقرائح عند الأمم الغربية، ولهذا يجب على أهل العربية - في زعمهم - أن يتركوا هذه اللغة ويبحثوا عن لغة أخرى حتى يلحقوا بركب الحضارة، ويعيشوا مع أهل العصر.(14/254)
وهذه دعوى باطلة من أساسها؛ فاللغة العربية أوسع اللغات وأقدرها على توليد الألفاظ الجديدة، والدليل على هذا أنها حين خرجت إلى ما وراء موطنها العربي إلى دولتي الفرس والروم استوعبت بألفاظها - من مفردات وتراكيب - كل ما وجدته من حضارات، ثم إنها مدّت ذراعها إلى حضارتي اليونان والرومان القديمتين، فترجمت كل ما أنتجته عقول حكمائها وعلمائها، وكان للتراث العلمي المشرق الذي أنتجته العربية أثره البعيد في تنوير أوربا، وإخراجها من ظلام القرون الوسطى وإدخالها إلى هذا العصر الحديث الذي تفخر به؛ فلا يعقل - بعد هذا - أن تعجز اللغة العربية عن نقل العلوم والفنون التي جاء بها العصر.
وقد لقّن المستشرقون بعض تلاميذهم من المسلمين الدعوة إلى العدول عن الكتابة بالحروف العربية إلى الحروف اللاتينية؛ بحجة أن عملية الطباعة بالحروف العربية شاقة بطيئة؛ لأن لكل حرف صورا عديدة بحسب موقع الحرف في الكلمة، أما كتابة الكلمات العربية بالحروف اللاتينية فإنها لا تحتاج إلى جهد ووقت؛ لأن الحروف تكتب متفرقة على صورة واحدة مهما اختلف موقع الحرف في الكلمة.
وهذه دعوة خبيثة تهدف إلى قطع الصلة بيننا وبين تراثنا القديم إذا طال الزمن وأصبحت الكتابة الإفرنجية هي التي تعلمتها الأجيال المتعاقبة، وصارت هي طريقها إلى القراءة والكتابة؛ فإذا رجع واحد من أبنائنا إلى كتاب مكتوب بالحروف العربية لا يحسن قراءته، وبذلك تطوى صفحة مكتبتنا العربية التي تضمّ موروثنا من العلوم والمعارف في الدين واللغة وفنون العلم المختلفة.
كما أن في اللغة العربية حروفا لا مثيل لها في الحروف اللاتينية، مثل الثاء والحاء والطاء والعين والقاف، وهذه الحروف لا يتيسر النطق بها نطقا سليما بالحروف اللاتينية.
فالدعوة إلى العدول عن الكتابة بالحروف العربية إلى الحروف اللاتينية تهدف في الحقيقة إلى إضعاف العربية لغة القرآن، ومحاربة الإسلام بهذه الوسيلة.(14/255)
كما لقّن المستشرقون بعض تلاميذهم من العرب الدعوة إلى استعمال اللغة العامية بدل الفصحى؛ بحجة أن الفصحى لا تستعمل في الحياة العامة حتى بين المثقفين أنفسهم؛ فهي في واد والحياة في واد آخر.
وهي دعوة ظاهرة البطلان؛ لأن اللغة الفصحى هي التي يفهمها من يتكلمون العربية جميعا من مثقفين وغير مثقفين؛ فالعامة حين يستمعون إلى آيات القرآن يفهمون دلالتها وما تحمل من أوامر وزواجر وقصص ومواعظ، أما اللغة العربية العامية فلا تفهم إلا في نطاق ضيق بين المتحدثين بها في إقليم بعينه، وليس عجيبا أن تختلف العامية في بلد عنها في بلد آخر من بلاد اللغة الواحدة، فالإنجليزية تختلف عاميتها في إنجلترا عنها في أمريكا وهكذا..
وهذه الدعوة لا تهدف في الحقيقة إلا إلى محاربة الإسلام؛ لأن اللغة العربية الفصحى هي لغة القرآن الكريم، كتاب هذا الدين الذي يربط بين أتباعه برباط متين، كما أنها اللغة الوحيدة التي يتلقى عنها أهل العربية في جميع أقطارهم في مجال العلوم والآداب والفنون، وفي أخذهم من تراثهم الرائع في فروع المعرفة المختلفة.
وقد لقّن المستشرقون أيضا بعض تلاميذهم من العرب الدعوة إلى ترك الإعراب وتسكين أواخر الكلمات العربية تسكينا لازما في جميع الأحوال، شأنها في ذلك شأن اللغات الأوربية، بحجة أن هذا الأمر ييسر تعلّمها، ويجعل متعلمها في مأمن من الخطأ.
وهذا دعاء باطل يراد به هدم اللغة من أساسها، ومحاربة الإسلام؛ إذ كيف يقرأ كتاب الله جلّ جلاله وتقرأ أحاديث الرسول صلوات الله وسلامه عليه؟!(14/256)
إن الإعراب في اللغة العربية هو أعظم مميزاتها عن اللغات الأخرى، ويكفي اللغة العربيةشرفا أنها حملت المعجزة التي عجز الإنس والجن عن تحديها، وبهذا استحقت هذا الوصف الكريم من الله تعالى في قوله جل شأنه: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [16] .
فليس هناك شكّ في أن محاربة الاستشراق للغة العربية، ومحاولاته العديدة للقضاء عليها أو إضعافها إنما هي محاربة للإسلام وتشويش على دعوته.
وينبغي على الدعاة أن يدافعوا عن دينهم، وعن اللغة التي يتعلمون بها أمور هذا الدين الحنيف، حتى يردوا سهام المستشرقين إلى نحورهم {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [17] .
رابعا: العوامل التي تساعد الاستشراق في محاربة الإسلام
يستفيد الاستشراق - في محاربته للإسلام وتشويشه على دعوته - من مختلف الأسلحة والوسائل التي تمكنه من بلوغ أهدافه التي أهمها صرف المسلمين عن دينهم حتى لا تقوم لهم قائمة، ويستغل الاستشراق ما يجده في المسلمين من عوامل الضعف؛ فيستفيد من هذه العوامل ويتخذ منها أسلحة يحارب الإسلام بها، ويشنّع بها على دعوته، وسأحاول هنا - بعون الله - أن أبين أهمّ تلك العوامل الموجودة في الأمة الإسلامية الآن، والتي تشبه الثغرات في صفوف المسلمين بحيث يستطيع المستشرقون - أعداء المسلمين وورثة الصلبيين - أن ينفذوا منها، ويستفيدوا منها في التشويش على الدعوة الإسلامية.
1 - الدعوات المضللة التي قامت تحت راية الإسلام
يستغلّ المستشرقون ما يبدو من قول أو فعل من بعض الدعوات المضللة التي تنتسب إلى الإسلام في الإساءة إلى الإسلام والتشويش على دعوته، ومن هذه الدعوات المارقة المضللة التي قامت تحت راية الإسلام، وأساء أتباعها بمقولاتهم وسلوكهم إليه: الصوفية، والبهائية، والقاديانية.(14/257)
أما الصوفية فقد زعموا أنهم يريدون سلوك الطريق إلى الله عز وجل، ولكنهم بدل أن يسلكوا طريق الكتاب والسنة - الذي لا طريق غيره - راحوا يشرّعون لأنفسهم من الدين ما لم يأذن به الله تعالى، ويصنعون لأنفسهم قواعد للسلوك تقوم على الزهد والحرمان ورياضة النفس ومجاهدة الشهوات، ولما وجدوا أن المنهج الإسلامي القائم على الاعتدال والتكامل، ومحاربة الغلوّ والتطرف لا يشبع نزعاتهم السلبية الغالية، اقتبسوا من الديانات والمذاهب الأخرى وادّعوا لأنفسهم أحوالا وواردات ومواجد وأذواقا لا يعرفها الدين، وما زال الشيطان بهم يصوّر لهم من الخيالات ما لا حقيقة له حتى أوقعهم في القول بالحلول ووحدة الوجود، وأفضى بهم إلى القول بالجبر وبطلان التكليف والتسوية بين الطاعات والمعاصي، والإيمان والكفر، بدعوى شهود الربوبية في كل موجود [18] .
أما البهائية فقد ظهرت في إيران في القرن الماضي نابعة من الفكر الشيعي؛ فقد بشر الشيرازي الملقب بالباب بقرب ظهور الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري الذي ينتظر الشيعة الإمامية الاثنا عشرية ظهوره، ثم ظهر كذب الباب عند الشيعة حينما قال إن الإمام الغائب سيظهر في تبريز بآذربيجان، والشيعة يعتقدون أنه سيظهر في مشرق إيران عند جبل يسمى (كوه خدا) أي (جبل الله) ؛ فقبضت السلطة على الباب وحوكم وأعدم، وأعلن قبل إعدامه أن الإمام الذي يقصده هو تلميذه (حسين صبح أزل) الملقب ببهاء الله؛ فسميت الدعوة البهائية نسبة إلى بهاء الله هذا الذي خرج هاربا من إيران، وزعم أنه نبي أرسل بدين جديد مجدد للإسلام، كما زعم أن كتابا نزل عليه، وأخذ يدعو لهذه الدعوة المارقة المضلّلة حتى مات ودفن في فلسطين وقبره في الجزء المحتل منها.
ودعوة البهائية شبيهة بالشيوعية؛ فهي تدعو إلى التحلّل من الدين وترك الحرية للمرأة تفعل ما تشاء، وتقسم السنة إلى تسعة عشر شهرا؛ فهي في الحقيقة انسلاخ عن الإسلام وطمس لمعالمه.(14/258)
وقد ساند الاستعمار وأعوانه من المستشرقين هذه الدعوة؛ ليستعينوا بها في تزييف حقائق الإسلام؛ فألفوا كتبا بلغات مختلفة لشرح عقيدة البهائية [19] . وأما القاديانية فهي دعوة مارقة مضلّلة ظهرت في بلاد الهند في أواخر القرن الماضي، وهي تقوم تحت راية الإسلام، وقد دعا إليها ميرزا غلام أحمد، وكان مركزها الهند، وأتباعها من مسلمي الهند، ثم امتدت إلى خارج الهند؛ فظهرت في بعض الدول الآسيوية والإفريقية، وساندها الاستعمار والاستشراق.
وقد ظهرت هذه الحركة في وسط جوّ فكري وسياسي عاصف اجتاح بلاد الهند في أعقاب ثورتها على الاستعمار الانجليزي في سنة 1857م، فقد أصابت المسلمين بعد إخفاق هذه الثورة وحشة الفتح ونكبة الهزيمة، وعانوا وطأة الاستعمار السياسي ووطأة الاستعمار الثقافي، وقامت الدولة الانجليزية المنتصرة بنشر ثقافتها وحضارتها في محاولة لزعزعة العقيدة الإسلامية وإضعاف الثقة بأسس العقيدة ومصادر الشريعة [20] ؛ لأن الدين الإسلامي هو الدين الوحيد في الهند الذي كان يدعو إلى الجهاد في سبيل الدفاع عن الدين والوطن والعرض والمال.
وقد استغل الاستعمار أيضا المحترفين للتصوّف في نشر شطحاتهم وخرافاتهم؛ فاستولى على مسلمي الهند اليأس والقلق، ثم استسلموا للأوضاع الفاسدة، وأخذوا يتطلعون إلى منقذ ينقذهم من الحيرة واليأس ولو بالخرافات والأباطيل.
وفي وسط هذا الجوّ الفكري العاصف دعا ميرزا غلام أحمد إلى القاديانية، وكان غلام أحمد هذا من إمارة البنجاب، وكان والده من أصحاب الإقطاعات، ومن ذوي النفوذ في قومه، كما كان من صنائع الانجليز ومن أخلص الدعاة لهم.(14/259)
وقد عرف عن غلام أحمد أنه كان في مطلع شبابه متصوّفا، ثم ترك العزلة ودخل في معترك الحياة، ونصب نفسه للمناظرات والمجادلات في أمور الدين؛ فلفت الأنظار إليه فاجتمع كثير من العامة عليه، واكتسب شهرة وصيتا ذائعا في أوساط المسلمين؛ فسولت له نفسه أنه ملهم من الله؛ فأخذ يتحدث للناس بما زعم أنه ينزل عليه من إلهامات، ويذكر لهم آيات قرآنية وأخرى محرفة، يحسبها من لا يحفظ القرآن قرآنا، وفي هذا تلبيس وتدليس وكيد عظيم لتحريف القرآن الكريم.
ولم يقف غلام أحمد عند هذا الحد بل ادعى أنه نبي يوحى إليه، وأخذ ينشر مفترياته [21] ، متخذا الدين مدخلا يدخل به إلى قلوب أتباعه؛ ليخدم بذلك أغراضا سياسية، وينفذ خططا رسمها له المستعمرون؛ فإلى جانب ما تتركه هذه الدعوة المجرمة من إفساد للعقيدة الإسلامية في عقول من يصيبهم شررها فإنها حملت في ثناياها دعوة إلى إبطال الجهاد الذي هو فرض على المسلمين حين تدعو دواعيه وتقوم أسبابه، وبهذا مكّن للاستعمار، ودفع عنه كل ما كان يتهدده من ثورة المسلمين في الهند على وجوده.
يقول غلام أحمد في كتاب نشره على الناس تحت عنوان (ترياق القلوب) : لقد قضيت معظم عمري في تأييد الحكومة الانجليزية ونصرتها، ولقد ألّفت في منع الجهاد ووجوب طاعة أولي الأمر (الانجليز) من الكتب والإعلانات والنشرات ما لو جمع بعضها إلى بعض لملأ خمسين خزانة، وقد نشرت هذه الكتب في البلاد العربية ومصر والشام وتركيا، وكان هدفي دائما أن يصبح المسلمون مخلصين لهذه الحكومة الانجليزية، وتمحى من قلوبهم قصص المهدي السفاك والمسيح السفاح والأحكام التي تبعث فيهم عاطفة الجهاد، وتفسد قلوب الحمقى.(14/260)
وهذا يدل على أن غلام أحمد كان يتخذ دعوة القاديانية وسيلة لتثبيط عزائم المسلمين في الهند حتى لا يثوروا على المستعمرين، وحتى يرضوا بالذل والعبودية، أي أن القاديانية منذ نشأتها صنيعة للاستعمار وأعوانه، وهذا هو سرّ بقائها بعد وفاة غلام أحمد في عام 1908؛ فما زال خلفاء غلام أحمد ينشرون دعوتهم بين المسلمين في حركة نشيطة يغذيها أعداء الإسلام بالمال والأفكار، ويفتحون لها الفروع في أوربا وآسيا وإفريقية على أنها داخل إطار الدعوة الإسلامية، ويتعاون في نشرها الاستعمار والاستشراق والصهيونية.
إن القاديانية وهي تنتسب زورا إلى الإسلام، وهي أخطر سلاح يوجه إلى صدر الإسلام، حيث يتخذ منها أعداء الإسلام دعاة لهم، يضعون على أفواههم ما يريدون وما يدبرون من كيد للإسلام والمسلمين بالتشويش على دعوة الإسلام، والله من ورائهم محيط.
2 - وسائل الإعلام تشارك الاستعمار في محاربة الإسلام:
إن وسائل الإعلام بصورتها الحالية في الأقطار الإسلامية تتعاون مع الاستشراق في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته؛ فقد أصبح المجتمع الإسلامي يواجه غزوا رهيبا محملا بعوامل الإفساد للمسلمين، من وسائل الإعلام من جرائد ومجلات وإذاعة مسموعة ومرئية وأفلام سينمائية ومسرحيات وغيرها.
وخطورة هذا الغزو أنه يدخل إلى العقول والقلوب دون أن يلتفت الكثير من المسلمين إلى ما قد دخل عليه من أفكار قد يكون بعضها مسموما مما يروجه المستشرقون أعوان الاستعمار ضد الإسلام، محاربة له وتشويشا على دعوته.
إن وسائل الإعلام عدو خفي يحارب المسلمين بالكلمة والصورة والفكرة، وهي أسلحة أشد خطورة من الجيوش الزاحفة، والمدافع المنطلقة، التي يعرف المسلمون منها وجه العدو الذي يغزوهم.(14/261)
والشيء المؤسف حقا أن المسلمين في سائر أقطارهم لا ينتبهون إلى خطورة وسائل الإعلام، كما أن الدعاة لا ينبّهون إلى خطورتها تنبيها كافيا لتحويلها إلى أدوات بناء للمجتمع الإسلامي بدلا من كونها أدوات هدم وتدمير.
إن وسائل الإعلام تنشر كثيرا من ألوان الفساد والانحلال والإلحاد بما تنقله من صورة الحياة في الأقطار الأوربية والأمريكية التي انتشر فيها الإلحاد في العصر الحديث؛ نتيجة لاستخفاف الناس بالدين، بعد أن كشف من متناقضات في المسيحية وفي اليهودية، لا يقبلها عقل مستنير، ولا يستريح إليها ضمير حيّ، في حين أن الإسلام ليس فيه متناقضات؛ فمن نظر فيه بعقله وجاء إليه بجميع وسائل العلم وجد أنه الحق الذي يلتقي مع العقل التقاء مؤاخيا، وهو يدعو المؤمنين به إلى العزة والجهاد دفاعا عن دينهم وأوطانهم وأموالهم وأعراضهم، الأمر الذي يشكل خطرا على الاستعمار وخططه ضد العالم الإسلامي، ويجعله يستغل وسائل الإعلام في تصدير عوامل الإفساد للأقطار الإسلامية لصرف المسلمين عن دينهم، والتشويش على الدعوة الإسلامية.
3 - الحطّ من شأن العرب الجاهليين:
ومن العوامل التي تساعد الاستشراق في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته أن كثيرا من المثقفين من المسلمين أصبحوا يسايرون المستشرقين في الحطّ من شأن العرب الجاهليين، ظنا منهم أن في هذا خدمة للإسلام، وهم مخطئون كل الخطأ؛ فلقد رمى المستشرقون العرب بتهم مماثلة، فصوروا حياتهم في الجاهلية وكأنهم وحوش ضارية تعيش في أرض قفر ومكان جديب، فكانت قلوبهم أقفر من أرضهم، ومشاعرهم أكثر جدبا منها.. هكذا يتحدث المستشرقون عن الأمة العربية في جاهليتها؛ ليخلصوا إلى القول بأن الإسلام دين بداوة لا يصلح في أحكامه وتشريعاته إلا في تلك المناطق المتبدية المتوحشة المقفرة، فهو - كما يزعمون - ليس الدين العالمي الذي يصلح عليه أمر الناس في البدو والحضر، وفي الحاضر والمستقبل.(14/262)
وقد خدع بهذا القول كثير من المسلمين الذين تصدَّوا للرد على هؤلاء المستشرقين؛ فسلّموا لهم بما قالوه في العرب الجاهليين، وفي أن الأمة العربية لم تكن شيئا قبل الإسلام، وهذا القول فيه حق، ولكن فيه باطل أيضا؛ أما الحق فيه فهو أن الإسلام قد ارتقى بالعرب إلى درجات عالية في عالم الفضائل والكمالات، وجعلهم في سنوات قليلة قادة الأمم وأساتذة الشعوب، وبناة الحضارة في كل موقع نزلوا فيه.
وأما الباطل في ذلك القول فهو أن الأمة العربية لم تكن خلوا من الفضائل؛ فقد كانت تحمل في كيانها أسلم القلوب، ويكفيها فخرا أن الله تخيرها كما تخير موطنها، وكما تخير بنيها لتكون هذه الأمة مطلع شمس دين الإسلام، وأفُقَه الذي يشعّ منه نوره على هذا العالم.
وقد وجد الإسلام في الأمة العربية كثيرا من الفضائل التي زكاها، وأبقى عليها مثل حماية الجار وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم، وإكرام الضيف والغيرة على الحرمات من أموال وديار وأعراض؛ فكان ذلك ركيزة للأخلاق الفاضلة التي بنى الإسلام عليها دولته.
فوصْف الأمة العربية بالسوء، وتجريدها من كل فضيلة لا يتّفق مع الحق، وهو تقليد لما يقوله المستشرقون ليتخذوا منه سلاحا يحاربون به الإسلام، ويشوشون به على دعوته، وينبغي أن ينتبه المسلمون إلى هذا جيدا، وأن يحذروا التقليد والانخداع بأقوال المستشرقين أعداء الإسلام.
ومن الحق أن نقرّر هنا أن الثقافة الإسلامية هي في صميمها ثقافة عربية برسولها العربي، وعربية بلسانها الذي نزل به القرآن دستور شريعتها، وعربية بعروبة من استقبلوا دعوتها ورفعوا رايتها، وأذنوا بشريعتها في العالمين، وعربية بالوطن العربي الذي طلعت فيه شمسها، وتجلت فيه آياتها، وذلك ما يشير إليه قول الله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [22] .(14/263)
ومن فضل الله على العرب أن جعل محمدا - صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء والمرسلين - عربيا، وجعل رسالة الإسلام خاتمة الرسالات، وجعل أهلها الأمة العربية؛ فكانت أكمل رسالة في يد أكمل الرسل في خير الأمم، فكل محاولة للتهوين من شأن العرب، والحط من قدر العرب الجاهليين مجاراة للمستشرقين في محاربة الإسلام بكل وسيلة.
فينبغي على المسلمين في جميع أقطارهم أن يسدوا الثغرات التي تمزّق صفوفهم، وتمكن المستشرقين من اتخاذها وسيلة للتشويش على الدعوة الإسلامية.
وأختم هذا البحث ببيان الوسائل التي نحارب الاستشراق بها؛ حتى نفسد خططهم ونردّ كيدهم في نحورهم، ونردّهم على أعقابهم خائبين خاسرين، وبالله التوفيق.
خامسا: الوسائل التي نحارب بها الاستشراق:
إن ما يقوم به الاستشراق من حرب سافرة وخفية ضد الإسلام لصرف المسلمين عن دينهم يجب أن يقابل بوسائل قادرة على دحر أعداء الإسلام، وكشف زيفهم وأباطيلهم وفضحهم بها؛ ولهذا كان من مهمة الدعوة الإسلامية اليوم أن يعمل دعاتها في ميدانين في وقت واحد، أحدهما دفاعي والآخر تبليغي.
أما الميدان الدفاعي:
ففيه يردّ الدعاة على حملات المستشرقين على الإسلام لمحاولة تشويه حقائقه، وإلقاء ظلال مزيفة من التهم عليه والتشكيك فيه، حتى ينصرف المسلمون عن دينهم، وحتى يتوقف الذين يبحثون عن الإسلام لاتخاذه دينا يملأ الفراغ الديني التي خلت نفوسهم منه.
ويحتاج هذا الميدان إلى أجهزة متخصصة، ودعاة متخصصين ذوي كفاءات عالية في العلم، ومنازل كريمة في الخلق والسلوك، دعاة ينذرون أنفسهم للدفاع عن دين الله مهما كلفهم هذا الدفاع من تضحيات، وإن أولي العزم والإيمان هم وحدهم الذين يقفون هذه الوقفة لله.(14/264)
إن العاملين في ميدان الدفاع عن دين الله يجب أن يكونوا على درجة عالية من الفقه في دينهم، وعلى جانب كبير من العلم والإحاطة بما كتبه أعداء الإسلام من المستشرقين وأشباههم، ولا تتيسر لهم هذه الإحاطة إلا إذا كانوا على قدر كبير من الإلمام باللغات الأجنبية كالانجليزية والفرنسية والألمانية والروسية؛ فيجب أن يتكوّن العاملون في ميدان الدفاع عن دين الله من جماعات، تتقن كل جماعة منها لغة أجنبية، إلى جانب درجتها العالية من الفقه في الدين، وبهذا يستطيع المدافعون عن دين الله أن يصرعوا أعداء الإسلام، وأن يفضحوا أكاذيبهم ومفترياتهم وما لفقوا ويلفقون من أباطيل للتشويش على الدعوة الإسلامية.
أما الميدان التبليغي:
ففيه يقوم الدعاة بالدعوة إلى دين الله في المواطن التي خلت من الدين، وفي المواطن التي خف ميزان الدين فيها؛ فالناس في هذه المواطن في ربوع العالم المختلفة يبحثون عن دين يجدون فيه الحق الذي يلتقي مع الفطرة الكامنة في كل نفس، ومع العقل المتشوق إلى الحق، الباحث عن الحقيقة.
ويحتاج هذا الميدان إلى دعاة يفقهون أمور دينهم بدرجة كبيرة، ويكونون على جانب كبير من الفطنة والذكاء، ويتكونون من جماعات تتقن كل جماعة منها لغة أو أكثر من اللغات الرائجة في أوربا وأمريكا وآسيا وأفريقية، كالانجليزية والفرنسية والفارسية والأردية، حتى يحقق العاملون في هذا الميدان الغاية المرجوة ويصلوا إلى الهدف المنشود.
إن العلم والفقه في الدين والذكاء والفطنة وسائل لا غنى عنها في التصدي للاستشراق، ومواجهة أعداء الإسلام أيا كانت أسماؤهم وصورهم وأشكالهم؛ لأن الذي يعرض حقائق الإسلام إن لم يكن على مستوى عال من العلم والفقه والذكاء والفطنة كان ضرره أكثر من نفعه في هذا المقام.(14/265)
فيجب أن نعدّ الدعاة الذين يفون بالمطلوب لدعوة الإسلام اليوم في ميدانها الدفاعي والتبليغي، وهنا نتساءل: هل أدّى المسلمون حق دينهم عليهم، وهم يعلمون أنه الحق من ربهم؟ الحق أن المسلمين مقصّرون متهاونون في أداء هذا الواجب الذي يفرضه الدين عليهم، إن الدين دعوة، ولابدّ لهذه الدعوة من دعاة يبلغونها إلى الناس، ويكشفون لهم عن وجه الحقائق فيها، وهذه هي الحكمة من إرسال رسل الله إلى الناس مع ما يحملون إليهم من رسالات الله، وإلا لوقف الرسول بمهمته عند وضع الرسالة بين أيدي الناس دون أن يقطع عمره كله واقفا عليها، مناعا عنها، متحملا الأذى والضر في سبيلها، ثم كيف يكون هذا موقفنا والله قد أناط بنا حمل أمانة الدعوة إلى دينه؟ فقال جل وعلا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [23] .
والدعوة إلى دين الله أمر مطلوب من كل مسلم، وذلك بسيرته المحمودة في الناس، وبخلقه الكريم، وسلوكه الطيب الذي يراه غير المسلمين عنه، في أقواله وأفعاله؛ فإن الدين بأهله، والناس إنما ينظرون إلى الدين فيما يرون من آثاره في المتدينين به، قبل أن ينظروا إليه في حقائقه،؛ فينبغي على أولي الأمر في الأقطار الإسلامية أن يحسنوا اختيار المبعوثين إلى أوربا وأمريكا من الطلاب وغيرهم؛ لأنه كثيرا ما يسيء هؤلاء المبعوثين إلى الإسلام بسوء سلوكهم، ويصيرون أخطر على الإسلام من أعدائه.
أما الدعاة المتخصّصون العاملون في الميدانين الدفاعي والتبليغي فيجب عليهم أن يبينوا للناس حقائق الإسلام؛ لأن بيان هذه الحقائق كاف لإخماد أصوات أعداء الإسلام مهما كانت مرتفعة، كما أنه كاف لإحباط خطط هؤلاء الأعداء الذين يقف المستشرقون في مقدمتهم.(14/266)
وينبغي أن يبين الدعاة للناس أن الإسلام دين الفطرة، وأنه هو المثل الأعلى للإنسانية؛ لأنه حرّر العقل وأطلقه من عقاله إطلاقا يعود على الإنسانية بكل خير، ودفع العقل دفعا ليتفكر في الكون ليسمو الجانب الروحي، وليفكر في تسخير الأشياء للإنسان ليرتقي الجانب المادي.
ويجب أن يبين الدعاة للناس أن الإسلام حرّر الإنسانية من ظلم البشرية وتناقضاتها، ووحّد القوى الإنسانية التي تقود العالمين إلى السعادة القصوى؛ ولذلك ختم الله به الديانات السماوية، وجعل نبي الإسلام صلوات الله عليه آخر لبنة في بيت النبوة العتيد؛ فتم بها بناؤه، وكمل بها رواؤه.
وينبغي على الدعاة أن يبينوا للناس أن الإسلام هو النظام الإلهي الكامل الذي لا يمكن للإنسانية - في سعيها المتصل لبلوغ الكمال الإنساني - أن تجد أرقى منه في جميع مجالات الرقي؛ عقليا ونفسيا وخلقيا وعاطفيا وروحيا وماديا وفرديا واجتماعيا.
ويجب أن يبين الدعاة أن الدين كله لله؛ فهو الذي يتعبد عباده بما يشاء، ويشرع لهم من الأحكام والحدود والفرائض والآداب ما اقتضته حكمته مما يعلم أن فيه صلاحهم وسعادتهم؛ فلا يجوز لأحد أن يزيد في دين الله ما ليس منه، أو ينقص منه ما هو منه، وأنّ دين الله واحد، وهو الإسلام الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه، وأنّ الأنبياء كلهم إخوة؛ دينهم واحد وأمهاتهم شتى، وأنّ الواجب الإيمان بهم وما أنزل إليهم جميعا، قال الله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [24] .(14/267)
ينبغي أن يبين الدعاة للناس أن العقيدة الإسلامية تقوم على الإيمان بالله إلها واحدا لا تنبغي الإلهية إلا له، وعلى الإيمان بأن له وحده الأسماء الحسنى والصفات العليا.
ويجب أن يبين الدعاة للناس أن الإيمان باليوم الآخر وبالبعث والجزاء مما يقتضيه العقل تحقيقا لقاعدة العدل؛ إذ ليس في المعقول ولا في الحكمة أن تكون هذه الحياة القصيرة هي الغاية من خلق هذا العالم الكبير، وأن تكون نهاية المؤمن والكافر سواء، ونهاية الظالم والمظلوم سواء، ونهاية البَرّ والفاجر سواء، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ. أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [25] ، وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [26] .
فإذا علم كل إنسان أنه مسئول عما قدم، وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [27] ، سلك في حياته سبيل الجادة وحاسب نفسه بنفسه؛ فلا يمكن أن يصبر على ذنب ارتكبه، ولا أن يقصر في أداء ما وجب عليه، وبهذا تستقيم الأمور في هذه الحياة.
فإذا بيّن الدعاة أن العقيدة الإسلامية ترتكز على أسس ثابتة من الفطرة الإنسانية العامة، والمنطق العقلي المستقيم، والنصوص الدينية الصريحة لم يستطع عدوّ للإسلام من المستشرقين وأشباههم أن يقف في وجهه، أو يشوش على دعوته.(14/268)
وهذه هي الوسائل التي يستطيع المسلمون أن يواجهوا بها أساليب الاستشراق، ويحبطوا بها جهوده في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته، ويحولوا بينه وبين الوصول إلى أهدافه التي أهمّها إضعاف المسلمين بصرفهم عن دينهم.
خاتمة
إن كشف الجهود التي يبذلها الاستشراق في محاربة الإسلام بكل سلاح وبأية وسيلة أمر لازم لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة.
وإذا كان الإسلام قد واجه في جميع أزمانه - منذ مطلع الدعوة حتى اليوم - كثيرا من القوى المعادية له، حتى دخل معارك ضارية متصلة باللسان مرة وبالسنان مرة أخرى، فإن ما يواجهه الإسلام في العصر الحديث من القوى المعادية له أشدّ ضراوة، وأبلغ كيدا مما واجهه من قبل، ويعدّ الاستشراق أخطر القوى التي تحارب الإسلام وتشوش على دعوته؛ لأنه يستعين بالعلم في محاربته للإسلام؛ فيستعمل أسلحة كثيرة متنوعة، ويستفيد من كل وسيلة يمكن أن تصل به إلى أهدافه، وتمكنه من إضعاف المسلمين بصرفهم عن دينهم.
لهذا ينبغي على المسلمين في جميع أقطارهم أن يحاربوا الاستشراق بالعلم والخلق، وأن يحسنوا إعداد الدعاة الذين يتصدون للدعوة في ميدانيها الدفاعي والتبليغي؛ حتى يتمكنوا من إخراس ألسنة أعداء الإسلام الحاقدة بتوضيح حقائق دينهم القويم للناس أجمعين، وبذلك يندحر المستشرقون الذين أرادوا أن يطفئوا نور الله رب العالمين، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [28] .
والله يقول الحق ويهدي السبيل، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
--------------------------------------------------------------------------------(14/269)
[1] جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام، ترجمة الدكتور محمد يوسف موسى وزميله، ص 15.
[2] جولد تسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام ص 41.
[3] سورة الحاقة: آية 44-47.
[4] سورة الصف: آية 8.
[5] سورة القيامة آية 20-21.
[6] سورة الإنسان آية 27.
[7] البقرة آية 132.
[8] المائدة آية 87.
[9] الأعراف آية 32.
[10] النحل آية 97.
[11] وليم جيمس: إرادة الاعتقاد ص 121 ترجمة الدكتور محمود حب الله.
[12] سورة الزمر آية 9.
[13] سورة المجادلة آية 11.
[14] سورة طه آية 114.
[15] سورة المنافقون آية 8.
[16] سورة الشعراء: آية 193-195.
[17] سورة يوسف: آية 21.
[18] يمكن الرجوع إلى كتاب فصوص الحكم لابن عربي - وهو من القائلين بوحدة الوجود - لتتبين ما انتهى إليه أمر الصوفية من الضلال والإلحاد.
[19] أبو الحسن الندوي: القادياني والقاديانية ص 19 وما بعدها.
[20] توجد كتب في شرح البهائية بالانجليزية والفرنسية والفارسية والعربية.
[21] من يريد مزيدا من المعلومات فليرجع إلى كتاب الندوي المذكور.
[22] سورة الأنعام: آية 24.
[23] سورة آل عمران: آية 105.
[24] سورة البقرة: آية 285.
[25] سورة ص: آية 27-28.
[26] سورة الجاثية: آية 21.
[27] سورة الزلزلة: آية 7-8.
[28] سورة التوبة: آية 32-33.(14/270)
الشيوعية في الميزان
لفضيلة الشيخ محمد علي عبد السميع - كلية الدعوة وأصول الدين
الإنسان متدين بطبعه:
لقد خلق الله هذا الكون لغاية فاضلة وحكمة سامية؛ فلم يخلقه لهوا ولا عبثا، وإنما خلقه للدلالة على ذاته وعنوانا على قدرته وإحكامه، ثم اقتضت حكمته تعالى أن أرسل من لدنه رسلا لينقلوا الناس من دياجير الجهل والظلام ومهانة الإفك والضلال إلى نور العلم والعرفان؛ حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} .
وإن الناظر في هذا الكون العجيب ليرى الأدلة ناطقة على حكمة خالقه، والبراهين ساطعة على قدرة موجده، ولقد درج الإنسان من مبدأ الخليقة على التديّن والإقرار بأن للوجود إلها هو مسيّر أمره ومدبّر شأنه، والجماعات الإنسانية على مدى العصور والدهور وإن لم تتفق على من هو ذلك الإله، إلا أن الشعور من قرارة نفس كل فرد يناديه بأن قوة قاهرة هي المسيطرة على الوجود، وبالتالي يسميها الإنسان بالإله.
ومردّ ذلك الاختلاف بين الجماعة الإنسانية هو أن الديانات السماوية وإن أجمعت على أن إله الكون هو الله تعالى الذي لا إله إلا هو، إلا أن كثيرا ما كان ينحرف الناس عن تعاليم تلك الديانات؛ فيرمزون إليه بكوكب تارة، أو بحيوان تارة أخرى، أو غير ذلك من الأشياء التي يرون فيها القوة الخارقة والقدرة الفائقة؛ لاستشعارهم أن الإله لا بدّ أن يكون ذا جبروت لا يبارى واقتدار لا يجارى، وفي بعض الأوقات يرمزون إليه بشيء يجدون احتياجهم إليه شديدا، وأن حياتهم متوقفة عليه، وليس بلازم أن يكون ذا بأس وقوة.
كل هذه المعاني وتلك الاتجاهات من الإنسان تدل على اقتناعه في قرارة نفسه على أن للوجود إلها هو الذي إليه يرجع الوجود في كل أمر من أموره.(14/271)
استمر الأمر على ذلك قرونا وقرونا وأجيالا وأجيالا يسطع نور الحق، حاملا مشعله رسول يرسل أو نبي يبشر، ويخبو نوره تارة أخرى عندما تمتدّ الفترة بين الرسل؛ فتنتكس عقائد الناس ويركسون في الضلالة من جديد، حتى أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم بشيرا ونذيرا، ورسولا إلى الخلق كافة؛ فملأ هداه الخافقين وانتشر نبأ رسالته في المشرقين، وهناك في أوربا وآسيا كانت المسيحية ضارية شرسة في القرون الوسطى، وكان لرجالها سلطان قوي، وكان للقياصرة في روسيا بأس شديد؛ فتسلل أحد قساوسة اليهود إلى صفوف هؤلاء القياصرة، وكان داعرا منحلا؛ فأشاع الدّعر والعهر بين صفوف هؤلاء القياصرة من حكام روسيا، فشوّه بذلك صورتهم ولطّخ بهذا الصنيع سمعتهم، فظهروا في أعين الناس بمظهر منبوذ كريه كما ظهر بهذا المظهر ذلك القسيس، وهنا أصبح رجال الدين والحكم في نظر العامة عنوانا على الفساد الخلقي والانحلال السلوكي؛ فتبرّم الناس بالقياصرة رجال الحكم وبالقساوسة رجال الدين، وقد كان الناس يئنون من بشاعة حكم هؤلاء وتسلّط أولئك؛ فوجدوا الفرصة سانحة لأن ينفضوا عن أنفسهم غبارا طال ما تراكم عليهم، وكتم أنفاس التخلص تغلي في صدورهم؛ فقرّروا أنه لا بد من التخلص منهما معا؛ لأن كلا منهما ظهر بصورة حطّت من شأنه وهوّنت من احترامه في نفوس الناس.
تبديل وتغيير:(14/272)
فقام يتزعم الناس رجل يقال له ماركس، مناديا بسقوط القياصرة؛ فتهلل الناس لندائه واستجابوا له مندفعين ثائرين غير عابئين بما يترتب على ذلك من نتائج، وحتى لا يقوم معارض لتلك الجماعات الثائرة يقف في سبيلهم باسم الدين نادى ماركس وأتباعه بأن الدين خرافة، وأن كلّ منتم إليه مفتر كذّاب، ولكي يذيعوا الرعب في نفوس الناس أعملوا المناصل في رقاب رجال الدين؛ إسكاتا للمعارضين ودحرا للمحتجين على قتل من قتل من الحاكمين، وحتى لا يوجد بعد ذلك من يناصر هؤلاء أو هؤلاء غيّروا نظام البلاد السياسي إلى نظم أخرى سمّوها بأسماء خلابة، ووضعوا عليها لافتات براقة لتستهوي الناس وتستميل البائسين والمحرومين. والحديث عنها يطول وليس هذا مجاله.
أما الدين فلم يغيروه، بل أنكروه مدّعين أن الدين لن يصلح نفوسا ولن يربي أرواحا؛ إذ لو كان كذلك لظهر أثره في رجاله الآثمين الذين تحالفوا مع القياصرة وأباحوا لهم ولأنفسهم ضروبا من الفساد تقشعّر لذكرها الجلود وتتقزز لسماعها النفوس.
إنكار وافتراء:
وحتى لا يحاول بعد ذلك إنسان ما أن يردّد صوت الدين أو نغمة التدين أنكروا وجود الله، وبفريتهم هذه اضطروا إلى القول بأن العالم الذي هو صنعة الله موجود بالصدفة تلقائيا أي: بدون حكمة أو تدبير، أو بالتفاعل أي: بتأثير جزئياته بعضها في البعض بمعنى أن الشيء مؤثر ومتأثر.
وبذلك نخلص إلى أن مبادئ الشيوعية من حيث العقيدة تتلخص في شيئين اثنين:
(1) إنكار وجود الله. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
(2) أن وجود العالم بطريق الصدفة أو التفاعل.
تدليل باطل:(14/273)
ولقد سلك ماركس - عليه اللعنة - في التدليل على دعواه الباطلة مسلكا عجيبا، وتبعه في ذلك لينين ومن نحا نحوه؛ فيرى ماركس أن كل موجود لا بد وأن يُرى، وحيث إن الله لا تراه عيوننا في دار الدنيا فاستنتج من ذلك أنه غير موجود، وكأنه جعل الإقرار بوجود الله كالتسليم بنتيجة نظرية من النظريات الطبيعية المادية؛ لأن المادة عنده مكونه من عناصر، وكل عنصر مغاير للآخر فله خصائصه ومميزاته، وكل عنصر مركب من جزئيات، وكل جزئية لها خصائصها ومميزاتها، إذن كل هذه الأشياء متمايزة متغايرة ولا يمكن معرفة تمايزها وتغايرها إلا برؤيتها بالعين أو إحساسها بإحدى الحواس الأخرى التي بها تميّز الأشياء ويفرّق بينها عند الإدراك، وكأنه يريد بذلك أن يقول - لا بل قال -: إن الله فرد من أفراد المادة يخضع لقوانينها، ويقاس بمقاييسها ويوزن بموازينها، (تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا) .
ولو أنه لو تريّث هنيهة أو تعقل قليلا لوجد الفطرة من أعماقه تناديه إن للعالم إلها إليه تهرع في الملمات وتلجأ إلى رحمته عند النكبات، وهو مغاير لذلك العالم في ذاته وصفاته، وإلا ما كان للجوء إليه دون غيره معنى أو مدلول، وما صرخة ذلك المهندس الشيوعي مستغيثا بالله عندما هوى ابنه من جانبه من أعلى الصرح إلا تعبيرا صادقا ودليلا قاطعا على أن الفطرة مهما طمسها الضلال وطغى عليها الكذب والبهتان لا بد وأن يشعّ وميضها بين تلك الجحافل الآثمة، ويلمع بريقها من خبايا تلك الافتراءات الملحدة معلنا أن للوجود إلها خلقه بقدرته وسيّر أمره بإرادته، ولو أن الملحدَيْن الخبيثين (ماركس ولينين) استجابا لنداء الفطرة لأيقنا بأن للعالم إلها، ولكن كيف يكون منهما ذلك وقد أغرقا في الكذب والافتراء والإلحاد والكفران. ولندع اعتقادهما؛ فذلك لا يعنينا، ونناقش الفكرة والدليل فهي التي في الأمر تهمنا وتعنينا.(14/274)
ففكرتهم أو مبدؤهم هو أنه لا وجود لله، ودليلهم أن الله لم تره أعيننا، وحيث إن الأمر كذلك فهو غير موجود.
نقاش وإبطال:
إننا إذ نناقش هذا الدليل نجد أن بطلانه أهون من أن يوجه إليه طعن، وأن انهياره ليس بمحتاج لعناء.
فنقول: إذا كان لا بدّ من رؤية كل موجود، وأن الشيء الذي لا يُرى لا يكون موجودا فماذا تقولون في الروح التي بها حياة الفرد هل هي موجودة مع كونها لم تُر، أم أنها ليست موجودة؟ إن قلتم بالأول فقد غايرتم بين الموجودات في صفة هي مردّ الحكم، وإن قلتم بالثاني فقد ادّعيتم إفكا وزورا؛ لأنها موجودة بالضرورة؛ إذ بها تكون حياة الفرد. والعقل الذي به نفكر وندرك هل موجود أو معدوم؟ إن قلتم إنه معدوم فقد افتريتم كذبا وقلتم بهتانا وإدا، وإن قلتم إنه موجود - ولا مناص لعاقل أن يقول غير ذلك - فهل ثبتت لديكم رؤيته، أم أنكم تقولون بوجوده والحال أنكم لم تروه؟ فإن قلتم بالأول فالواقع يصفع عقولكم ويبطل دليلكم، وإن قلتم بالثاني فقد أقررتم بوجود شيء لا نستطيع رؤيته، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا تعترفون بحكم بالنسبة لأمر وتنكرونه بالنسبة لآخر؟ وهو أن بعض الموجودات لا يمكن رؤيتها، وبذلك يكون الله تعالى موجودا ومع ذلك لا تراه الأبصار {لا تُدْرِكُهُ الأََبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأََبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} .
تعصب ممقوت:
إن ماركس وأتباعه الذين اتخذوا الشيوعية لهم عقيدة ومبدءا لا يواكبون مسار العلم والعقل، بل يشايعون التعصّب للباطل ومظاهرة الضلال والجهل؛ إذ من القواعد العامة والأمور الثابتة التي لا تقبل نقاشا ولا جدلا أن الأشياء إذا كانت لها صفة توفرت فيها جميعها يكون الحكم عليها باعتبار تلك الصفة واحدا، وتخصيص فرد منها بحكم دون الآخر تعصّب ممقوت وتحيّز مردود.(14/275)
من هذا ننتهي إلى أن العقل والروح كل منهما موجود، ولم يثبت أن إنسانا ما في الوجود رآهما أو رأى واحدا منهما، ولا يوجد إنسان ما ينكر وجودهما، وحيث إن الأمر كذلك فإذاً تقرِّر البديهة أن الشيء يكون موجودا ومع ذلك لا يرى؛ إذ ان عدم رؤيته لا تطعن في وجوده، وقد ثبت ذلك بالنسبة للروح والعقل، إذاً عدم رؤية الله تعالى لا تطعن في وجوده، إذاً فالله موجود وإن لم تره العيون، وإن العقول السليمة تقرر في جلاء ووضوح ودون شك أو ريب أن الله تعالى موجود؛ لأنها تدرك البرهان على ذلك في كل شيء دالا على قدرته، شاهدا بعلمه وحكمته، ناطقا في كل وقت وحين، تبارك الله أحسن الخالقين، {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} ، {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} .
زيادة إيضاح:
إن الأدلة كثيرة ناطقة وعديدة واضحة، وجميعها تدل على وجود الله تعالى؛ فهذا النظام البديع الذي يسير عليه الكون، وهذا الإبداع المعجز الذي وجد عليه العالم يدل على أن للكون إلها، بقدرته خلق الوجود، وبحكمته أبدع كل مخلوق، ووجود تلك الأنواع المتعددة، وكثرة تلك الخصائص المتباينة أصدق دليل على وجوده تعالى.(14/276)
وقولهم إن العالم وجد بطريق الصدفة فهذا أمر لا يسلم به عاقل؛ إذ كيف تنتج الصدفة هذا النظام البديع، والمعلوم أن السمع لا يهبه لفرد إلا عالم بقانون السمع، وكذلك كل صفة من الصفات التي يسعد بها الإنسان والتي لا بدّ لوجودها من تدخل وقدرة عالمة حكيمة مدبّرة، ولا يمكن القول بأن تلك القدرة من جنس تلك الموجودات، وإلا لأمكن غيرها أن ينازعها أو يبطل عملها؛ إذ المفروض أن الجميع متساوون في كل شيء، وإن قانون التأثير والتأثر يحتم تقدم المؤثر على المتأثر، والمفروض أن كلا منهما يساوي الآخر تماما؛ فإذاً يكون الشيء على هذا موجودا ليوجد ومعدوما ليوجد، وهذا باطل، كما وأنه لا بدّ من كون تلك القوة المؤثرة مغايرة لما عداها في كل شيء في ذاتها وفي صفاتها حتى تكون قادرة على الخلق والإيجاد، ولا يصح أن تأخذ تلك الصفات عن غيرها وإلا لكان غيرها مؤثرا فيها، وبذلك يكون شأنها شأن غيرها من المخلوقات، ومعنى هذا أنه لا بدّ وأن يكون وجودها من ذاتها حتى تتمّ المغايرة بينها وبين ما توجد وتخلق.(14/277)
أما قولهم (إن العالم وجد بطريق التفاعل) فنقول لهم مبطلين ما يدّعون: إن المادة التي سيتم التفاعل بين جزئياتها مَنْ الذي أوجدها؟ مَن الذي جعلها قابلة للتفاعل؟ ومَن الذي غاير بينها في الصفات والخصائص؟ لا بدّ من قوة مدبرة حكيمة عالمة بقوانين التفاعل والتغاير، حتى يمكنها أن تعطي ذلك العنصر من الصفات ما يجعله يتفاعل مع ذلك العنصر خاصة بكيفية خاصة؛ لينتج عن تفاعلها شيء خاص، وإلا لو كان التفاعل راجعا إلى عنصرية محضة دون تغاير أو تمايز بين العناصر لكانت نتيجة التفاعل واحدة، ولجاء العالم صورة واحدة متماثلة، كما ينادي بذلك قانون التفاعل في علم الكيمياء؛ لأننا لو وضعنا في مخبر مادتين فتفاعلتا، ثم أحضرنا بعد ذلك آلاف المخابر ووضعنا في كل منها مقدارا من المادتين اللتين وضعتا في المخبار الأول لكانت النتيجة واحدة، ونحن إذا نظرنا إلى العالم وجدنا التغاير بين أفراده وعناصره واضحا ملموسا؛ فلو كان موجودا بالتفاعل بين جزئياته لما وجد ذلك التغاير بين أفراده في خصائصه ومميزاته؛ فهذا معتم وهذا مضيء، وهذا حسّاس نام وذاك جامد لا ينمو، وهذا يعيش في الماء ويموت في اليابس وهذا على العكس من ذلك، إلى غير هذا مما تراه العين، ولا ينكر التغاير بينه وبين غيره إلا مكابر أفّاك ومدّع كذّاب، ولله درّ القائل ردا على منكري وجوده تعالى:
فهرعت ربي أحتمي بحماك
رباه مالي في الكروب سواك
فوجدتها مقرونة بتقاك
رباه إني قد نشدت سعادتي
ينكر وجودك يصبح الأفاك
يا رب أنت الخالق الباري ومـ
موجدا من ذا الذي سوّاك
يا مؤمنا قل للذي زعم الطبيعة
من أبدع الإيجاد في دنياك
يا من تخبط في الضلالة سادرا
متطلعا للخير في أخراك
إن كنت تسعى للحقيقة صادقا
متدبرا ثم احتكم لنهاك
فدع التعصب جانبا وانظر معي
ومن الذي بالنطق قد حلاك(14/278)
من ذا الذي قد شق سمعك محكما
ومن الذي بالحسن قد أولاك
والعين من أعطاك فيها مقلة
وأقام في شتى السهول رباك
ومن الذي يعل الجبال رواسيا
من غير أعمدة ترى عيناك
ومن الذي رفع السموات العلا
طول المدى لا تخطئ الأفلاك
مزدانة بكواكب تجري على
بالخير والإنعام قد ربّاك
هو خالق الأكوان جل جلاله
في الإفك بل والله ما أشقاك
يا منكر الله إنك مغرق
وإلى المهيمن ترشد الإدراك
إن العجائب في الوجود كثيرة
وإذا أصابك بعضه أرداك
فالسم في الأفعى يصون حياتها
والشهد من عاني السقام شفاك
والنحل في زهر الرياض غذاؤه
وإذا طغى يوما يصير هلاكا
بالماء نحيا والحياة رغيدة
واليبس يفني الحوت والأسماك
والحوت يسبح في الخضم موحدا
والطير في كبد السما أشجاك
في الصخر يحيا الدود غير منغص
ينمي الزروع ويقتل الفتاك
والشمس ترسل في النهار شعاعها
وبدونه لن نستطيع حراكا
والليل يمسح بالنعاس عناءنا
والبدر يؤنس في الدجى مسراك
والنجم للسفن المواخر مرشد
وبدونه لن تستبين خطاك
والعقل ينتج للأنام حضارة
عند الذي من فضله أحياك
والروح سرّ في الجسوم وعلمه
للحق والإيمان قد ناداك
والقلب ينبض في المنام ونبضه
لكنها صنع الذي يرعاك
تلك العجائب لا تنظم صدفة
قولي فماذا يا عنيد دهاك
وجميعها فيها الدليل مؤيّدا
وعن الغواية يا شقي نهاك
والعقل يدمغ ما تقول بداهة
لله تقديسا وما جاراك
والكون يلهج بالثناء جميعه
نبذ الورود وفضّل الأشواك
لكنك الغاوي الأثيم ومن غوى
وتجنّبت صوت الهدى أذناك
عطلت عقلك يا غوي حماقة(14/279)
وتسابقت نحو الردى قدماك
وركبت من بحر الضلالة لجة
أو مبدع شيئا فما أغواك
أما التفاعل إن نقل هو موجد
والكون فاض تغاير أخزاك
إن التفاعل في النتائج واحد
فعل الإله ومبطل دعواك
هذا التغاير في الخصائص مثبت
والجهل بالبهتان قد أغراك
فارجع عن الإنكار إنك مفتر
سبحانك اللهم جل علاك
وانهض لربك بالقداسة هاتفا
لا يشبه القدوس ذا أو ذاك
ذات الإله عن المثيل تقدست
فالله في جنح الظلام يراك
ودع المآتم تائبا مستغفرا
ليست بخافية على مولاك
خطرات نفسك في الظلام أو الضحى
عما يفيد النقص والإشراك
لك خالقي كل الكمال منزها
والكون يا رحمان في يمناك
تعطي وتمنع من تشاء بحكمة
وجعله ربي مشرقا بسناك
فاحفظ إلهي القلب من زلاته(14/280)
هذا بيان مجمل عن الشيوعية وما تنادي به، والمؤسف المؤلم أن بعض دول العالم العربي - وهم يدينون بدين الإسلام - ينادون بالاشتراكية، بل اتخذوها لهم شعارا ومبدأ، ونحن نتساءل من أي لون هذه الاشتراكية؟ هل هي اشتراكية علمية أم اشتراكية ديمقراطية؟ بمعنى هل هي عقيدة أم مذهب؟ إن كانت عقيدة فهي تساوي الماركسية تماما في أهدافها وغاياتها، ولا تختلف عنها إلا في الاسم فقط، وهذا الذي نقوله بناء على تعريفها وبيان كنهها عند الماركسيين أنفسهم حتى ولو سموا الماركسية بالاشتراكية؛ لأنهم جعلوا من ضمن مبادئهم الشيوعية أنه لا مانع من التضليل والكذب والبهتان ووضع أسماء على غير مسمياتها ما دام يؤدي ذلك الخداع والكذب إلى الهدف المنشود، أما إن كانت اشتراكية ديمقراطية - أي أنها مذهب اقتصادي فقط لا شأن له بالعقيدة والخلق - فما أغنانا عنه بما عندنا من تراث إسلامي عريق نهض بالعرب من الحضيض إلى أوج السعادة والرقي البشري، يوم أن قاد جماعة المسلمين رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا التراث الإسلامي العظيم ممثل في الفقه الإسلامي، وإن أولئك الذين ينادون بالاشتراكية مذهبا اقتصاديا، ويرهقون أنفسهم في الدعوة له والدعاية إليه لو أنهم اطلعوا على الفقه الإسلامي لأغناهم ذلك عن كل هذا العناء، يا قومنا أجيبوا داعي الله واحكموا بما أنزل على نبيه، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} .(14/281)
إن الإسلام دستور كامل أسعد البشرية يوم أن استظلت بظلاله، ويسعدها اليوم إن هي التزمت أحكامه وارتضت قضاءه؛ ففيه السياسة والاقتصاد والحرب والسِّلم والسلوك والاجتماع والروح والمادة وجميع ما يحتاج إليه بنو الإنسان في حياتهم، إن الإسلام من وضع خالق البشر، العليم بما يصلح شأنهم ويقوّم معوجهم ويسعد جماعتهم، وينهض بهم إلى أسمى درجات السعادة والرقي؛ لذلك أودعه كل ما يحتاجون إليه في معاشهم ومعادهم، قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} . ولله درّ القائل:
وتبددت بجيوشها الظلماء
بالمصطفى الهادي تألق صبحنا
وعلى الأمور يسيطر الجهلاء
قد جاء والإلحاد في طغيانه
فيها لمن يبغي العلاج شفاء
فأقام بالتوحيد أعظم ملة
هي للوجود الكوكب الوضاء
وهي للحياة سدادا ورشادها
هي في الهجير الروضة الغناء
هي للشعوب بلا سم لجراحها
وبغيثه جدب الحياة رخاء
دستورها القرآن فاض هداية
للمسلمين العزة الشماء
في هرم الزمان ولم يزل في هديه(14/282)
يا قومنا اضربوا على أيدي المتطرفين الملحدين الذين يدينون بالشيوعية؛ فإنهم في جسم الأمة الإسلامية كالسرطان، يهدمون كيانها ويقوضون كل مقوماتها، ولا تربطهم بفرد فيها رابطة من خلق أو دين؛ إذ الرابطة بينهم هي مبادئ الشيوعية فقط دون غيرها من روابط اجتماعية أو أسرية أو روحية أو قومية أو وطنية، بمعنى أن الشيوعي في مشرق الأرض أولى بالشيوعي في مغربها من أمه وأبيه أو ابنه وأخيه؛ فكل القيم منهارة في نظر الشيوعي أمام عقيدته التي يبذل في سبيلها كل شيء، فهل يصح ونحن نؤمن بالله وبرسوله أن ندع الخطر يستشري ونحن سكوت زاعمين أننا لن نمكنهم من الوصول إلى مركز القيادة والسلطة، فهذا لا يعفينا من المسئولية، وإلا كان مثلُنا كمثل من أرادوا خرق السفينة ليصلوا إلى الماء دون عناء فإن تركهم من هم في أعلاها غرقوا جميعا وإن منعوهم سلموا جميعا، فنحن إن وقفنا عند هذا الوضع السلبي كان ذلك أخذا للأمور الخطرة بسهولة لا توائم بعض ما يجب أن تؤخذ به من الاهتمام والجدّ.
يا قومنا إن الأمر جدّ خطير؛ فالشيوعية بلاء ومحنة، وهي - كما سبق أن قلت -كالسرطان يعايش الإنسان زمنا طويلا، ولا يظهر له خطر ولا يبدو منه أذى، حتى إذا ما اكتملت قدرته على الهجوم وشرست استطاعته على الفتك انقضّ عاتيا لا يرحم، جبارا لا يتفاهم، كل همه الوصول إلى غايته والحصول على مأربه مهما شرّد أو قتل أو هدم أو دمّر؛ لأن الغاية عنده تبرر الوسيلة، وهل يوجد أحطّ مستوى ممن يبيح لنفسه الخداع والكذب والتضليل والتمويه، بل يجعلها من مبادئه وأخلاقه ما دامت تصل به إلى مقاصده وأهدافه.(14/283)
يا قوم إن الشيوعية في تقديرها لبعض الأمور وخاصة المعنوية منها أخطر من بعض فصائل الحيوان، وإن ادّعى معتنقوها سموّ إحساسهم ورِقَّة وجدانهم، وإن تباكوا على الإنسانية المعذّبة التي يدعون أنهم يريدون إسعادها، وتخليصها من نير الذل والاستعباد، وتحكم الإقطاع والاستغلال، وجموح رأس المال المستبد الذي لا يعرف رحمة ولا شفقة في نظرهم، إلى غير ذلك من العبارات الخادعة الخلابة التي يخدعون بها الشعوب، ويغشون بها الجماعات، حتى إذا ما وقعت في الفخ الذي نصبوه واحتواها الشرك الذي حاكوه ذاقت من الذل ألوانا يشيب لها الولدان وتضطرب لذكرها الأبدان.
أي سعادة في نظام يجعل إنكار الإله عقيدة، والتناحر بين الطبقات مبدأ، وإشاعة الهلع بين الأفراد طابعا، وخيانة الابن لأبيه والزوجة لزوجها بالتلصص عليهما سلوكا ومنهجا، ثم أي سعادة في هذا النظام الذي يسلب الفرد قسرا ما امتلك بحجة التأميم لصالح الدولة؛ لأنها هي التي يجب أن تملك وسائل الإنتاج ورأس المال، أليس ذلك قتلا لغريزة حب الاقتناء التي هي جزء من مقومات الإنسان التي تدفعه إلى العمل راضيا بما يجد من مشقة وعناء؟ ثم هذا الإنتاج الذي هو ثمار شقاء الطبقات الكادحة المحرومة إلى أين يذهب؟ ومن الذي في خيره ونعيمه يتقلب؟ أليست تلك الفئة الباغية الحاكمة التي تقبض على نواصي الأمور بقبضة من حديد، ولا ترى الشعوب إلا سوط الإرهاب تلوح به في الفضاء بدا ليفي والاستعباد لابسة قفازا من الحرير تخدع الشعوب بملمسه، وهي لا تعرف ما بداخله من ظلم وفساد وعتو واستبداد.
لا تصح المقارنة:(14/284)
إنه لا تصح المقارنة بين نظام هذا طابعه وتلك المذكورة آنفا أهدافه وغاياته، وبين الإسلام الذي هو في أسمى درجات الرقي بين النظم الاجتماعية التي سعد بها بنو الإنسان؛ فلا استغلال فيه ولا عسر في العمل والإنتاج، إنما عن اقتناع وإيمان يعمل الإنسان في الإسلام؛ لأن له ثمرة ما يعمل، وهو مع ذلك يؤدي ما عليه من واجبات يسهم بها في بناء المجتمع الإسلامي السعيد الذي هو حلية نافعة في جسمه الكبير، وبهذا يعلن الإسلام بين بنيه ما استحق الحياة من عاش لنفسه فقط؛ فهو بذلك يحقق الخير لنفسه ولغيره، فالإسلام بذلك نظام محكم؛ فليس أنانية محضة كما هي الرأسمالية المستقلة، وليس حرمانا محضا كما هي الشيوعية الملحدة، بل هو وسط بين نقيضين؛ فحرّم الرّبا وحثّ على الإنفاق والصدقة بعد تأدية فرض الزكاة "لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع"، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} .
فهل يداني هذا النظام قانون ما من القوانين التي تستنها الدول تخفيفا لآلام الفقراء والعاجزين؟ ثم هو لا يجرد الإنسان من الامتلاك بل جعل له ذلك الحق بشرط ألا يعتدي على حق غيره أو يسلبه ماله؛ فإن فعل ذلك فله في الدنيا خزي وعار وفضيحة ونكال، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} .(14/285)