ما أعجب شأنكم أيها الرجال!! يجيء أحدكم إلى أهل الفتاة خاطبا وهو يموء كما تموء القطط من حول الموائد، حتى إذا نال ما تمنى ووجد الضالة التي ينشد، وأصبحت الفتاة له زوجة، نظر إليها كما ينظر إلى قطعة أثاث جديدة يزين بها بيته، أو إلى سلعة ذات نفع ومتاع فينتفع بها ويستمع، فإذا ما طال عليها العهد، ونسأل الله لها في الأجل، فوخط الشيب فوديها، وخدّد الكبر جبينها وعارضيها، نظر إليها كما ينظر إلى سيارة ذات طراز قديم، أو إلى متاع له في البيت أصابه العوار ومسته يد البلى، فما أسرع ما يطلق، وما أسهل أن يفارق.
وإذا ما سألت: فأين الدين وأين المروءة؟! وأين حقوق سنوات طويلة من التواد والتعاطف؟! كنت كمن يخاطب صخرة منصوبة أو جدارا قائما.
زوجي الذي كان …
هذه رسالة أكتبها إليك، وأغلب الظن أنها لن تصل إلى يديك، سوف تمزقها الأيدي من حولك شرّ ممزق، وسوف تدوسها الأقدام من فوق التراب بغيظ وحنق، ولكنها على كل حال آهات امرأة مظلومة، ونزيف قلوب مكلومة، وأنفاس مطلقة عجوز تحتضر.
اللهم إني مظلومة.. اللهم إني مظلومة.. اللهم انتصف لي وانتصر، فليس لي في هذا العالم من ألوذ به سواك!!
انتهت الرسالة.(11/307)
القرآن أساس الحكم الصالح
لفضيلة الشيخ محمود عبد الوهاب فايد
المدرس بكلية الدعوة بالجامعة
القرآن هو كتاب الله الخالد أنزله على رسوله الكريم ليوثق العلاقة بين الإنسان وربه وبينه وبين سائر المخلوقات حتى تنتظم عمارة الكون ويتم صلاح العالم.
أشاد القرآن بفضل الإنسان ونوه بمكانته فبين أن الله أعده لمنصب الخلافة قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [1] وقال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} [2] ومن يوم امتحن الله آدم وزوجه وهبط بهما إلى الأرض أعلنهما المولى بالقرار الإلهي الذي أصدره {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [3] .
ومن ذلك الحين توالت الرسالات وتتابعت الرسل ونزلت الكتب حتى انتهى الأمر إلى محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإلى ما أنزل عليه من الكتاب المبين قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [4] .
وهكذا نفذ الله القرار الذي أعلن به آدم وزوجه ونسله فبعث الرسل وأنزل الكتب وأعان أهل الحق وخذل أهل الباطل.(11/308)
وقد اتفقت دعوة الرسل في هدفها وطريقها فكلهم دعا وسعى بالحكمة والموعظة الحسنة لتوحيد القلوب ودفعها إلى الخير وتنفيرها من الشر والتوجه بها إلى إله واحد.
وفي دعوتهم هذه لم ينكروا بل لم ينكر الله عليهم أن ينالوا من الدنيا وطيباتها ما تقتضيه ظروف الحياة في حدود الاعتدال وفق ما رسمه الله قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [5] .
ولحكمة ما قدم الله ما أباحه للرسل من الطيبات على ما أوجبه عليهم من عمل وما كلفهم به من واجبات ليكون هذا باعثا لهم ولسائر الناس على إجابته والإسراع إلى طاعته شكرا لله سبحانه على ما أسبغ من نعمته بهذا جاءت الرسل واتفقت الرسالات فكلهم دعا إلى الله ورغب في العمل الصالح ولذلك أوجب القرآن أن نؤمن برسله جميعا دون تفريق فقال: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [6] .
وبهذا جمع القرآن الناس على مائدة واحدة، وربط قلوب بعضهم ببعض وأزال أسباب النفرة بين أهل الأديان الحقة، واتجه بهم إلى الله الواحد الأحد في وحدة متناسقة.
ومن فضل الله علينا أن القرآن وهو خاتم الكتب جمع بطريق العبارة أو الإشارة كل ما يحتاج إليه الناس وينهض بهم ويعالج شئونهم في كل نواحي الحياة، فهو آية كبرى، وحجة خالدة، وعقيدة صافية، وعبادة هادية وقانون تام وسياسة ناجحة، وإصلاح اجتماعي، ونظام دولي ودائرة معارف يعتمد عليها المسلمون في دينهم ودنياهم.(11/309)
وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [7] {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [8] .
نعم: لقد تمت النعمة وكملت المنة فنحن في غنى عن كل المبادئ والمذاهب والقوانين والدساتير الأجنبية شرقية كانت أم غربية.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [9] .
إن الله الذي خلق الناس لم يدعهم هملا، ولم يتركهم سدى، بل شرع لهم شرائع، وسن لهم قوانين أوجب عليهم أن يلتزموها وألا يحيدوا عنها تطبيقا لقراره القديم: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [10] .
ولا ريب أن ما شرعه الله أحكم وأنفع مما وضعه الإنسان فالمولى هو الذي خلق الإنسان، ويعلم ظاهره وباطنه وما ينفعه وما يؤذيه وما يلائمه وما يجافيه قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [11] .
وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [12] .
وقال: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [13] بل إنه سبحانه يعلم كل شيء في العالم الذي يعيش فيه الإنسان ويتأثر به قال تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [14] .(11/310)
وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [15] .
وقال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [16] .
فما قرره المولى في القرآن ينبني على حكم إلهية، وأسرار ربانية قال تعالى: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [17] .
وأحكام الله سبحانه يسر لاعنت فيها ولا مشقة ولا كلفة فيها ولا حرج قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [18] .
وقال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [19] .
وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [20] .
ولا عجب فالرحمة صفة من صفات الله الذي أوحى بهذه الأحكام قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [21] .
وقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [22] .
وهي صفة من صفات رسوله الذي نزلت عليه.. قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [23] .
وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [24] .(11/311)
وصفة من صفات دستوره الذي نزل بها واشتمل عليها قال تعالى: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} [25] .
فالرحمة كما ترى _ أيها القارئ_ صفة من صفات الله.. وصفات رسوله وصفات كتابه، فلا بدع إذا رأينا آثار هذه الرحمة تتجلى فيما جاءنا من أحكام، وما ألزمنا به من تكاليف وحسب الباحث المفكر أن يقرأ فاتحة الكتاب ويتأمل هذا البدء العجيب الرائع ليرى كيف يفتتح الله القرآن بما يلقى عليه الهيبة، وما يبعد اليأس عن النفوس وبما يقيم الرابطة بين الإنسان وربه على أساس من الحب العميق والرحمة الشاملة التي وسعت كل مخلوقات الله فأول ما يقرع السمع {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فباسم الله صدر هذا الدستور، ولم يصدر باسم ملك متجبر ولا باسم أناس لهم هوى يتحكم فيهم، وشيطان يوسوس لهم، ونفس أمارة بالسوء.
نعم.. صدر باسم الله الذي تنزه عن الهوى وعن العبث وعن السفه.. صدر باسم الله ليكون له وقع في النفوس وهيبة في القلوب تحمل على اتباعه وتقديسه والابتعاد عن التلاعب به، لأنه صادر ممن بيده الملك وهو على كل شيء قدير، ممن يعلم السر وأخفى صدر هذا الدستور باسم الله الرحمن الرحيم. وهكذا يستقبلنا دستور الله باسميه الرحمن الرحيم ليذكرنا برحمته الواسعة، وليطمئننا على أن هذه الأحكام لاعنت فيها ولا مشقة لأنها صادرة من الرحمن الرحيم.
ويثني بعد ذلك المولى بقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فمنزل القرآن هو صاحب النعم جليلها ودقيقها.. أُصولها وفروعها.. المستحق للحمد من جميع الخلائق فهو رب العالمين وليس رب المسلمين وحدهم بل هو رب المسلمين واليهود والمسيحيين وغيرهم من الخلائق يتعدهم بتربيته، ويتولاهم برحمته.(11/312)
وبهذا المطلع يلقى في قلوب الناس جميعا الرضا والاطمئنان إلى أحكامه ومبادئه ففيها ما ينفعهم ويحميهم لا ما يضرهم ويؤذيهم، ومن لطف الله سبحانه أنه يعود بعد ذلك مباشرة فيقول {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فيضع العالمين بين رحمتين رحمة سابقة ورحمة لاحقة.. هذا هو مطلع القرآن وما يوحي به.
أما ختامه فهو إرشاد من الله لنا لنستعيذ به من كل ما يعكر النفوس ويهدد السلام ويثير الخصام ويفسد العلاقات.
في هذا الختام يعلمنا المولى كيف نستعيذ به من كل ما يوحي بالشر إنسيا كان أم جنيا قال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} .
هذا هو بدء القرآن وهذا هو ختامه رحمة من الله تبعد عنا الشر وتجلب لنا الخير وتهدينا إلى الصراط المستقيم فما ظنك أيها القارئ الكريم بما يتخلله من أحكام ومبادئ.. هل يمكن أن تشذ عن هذا المطلع وهذا المقطع.؟
كلا.. إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم.
فإلى الذين يتهيبون الإسلام، ويتخوفون أحكامه نوجه إليهم هذه الكلمة فإن كانوا مخالفين لنا في الدين من اليهود والنصارى قلنا لهم: لا ترتاعوا واطمئنوا فالإسلام يطعمكم من جوع ويؤمنكم من خوف.
وطالعوا التاريخ يخبركم أن عمر بن الخطاب خرج ذات يوم فوجد يهوديا على باب مسجد يتكفف الناس.. فسأله من أنت؟ وما حالك؟ فقال: "يهودي من أهل الكتاب أسأل الحاجة والجزية والسن" فقال: "ما أنصفناك أخذنا الجزية وقت شبابك، وتركناك وقت هرمك"ثم أخذ به إلى أمين بيت مال المسلمين، إي والله إلى بيت مال المسلمين لا بيت مال اليهود. فقال عمر له: "انظر هذا وضرباءه فأعطهم ما يكفيهم وأهليهم بالمعروف".(11/313)
كذلك يحدثنا التاريخ أن عمر بن الخطاب استدعى فاتح مصر ليحاسبه على جريرة ابنه، وليمكن للقبطي من ضرب ولده الذي أساء له وليقول له بعد أن اقتص منه القبطي هذه الكلمة التي دوت في الآذان، ووعتها الأذهان على مر الزمان "يا عمرو متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".
هكذا أطعمهم الإسلام من جوع وآمنهم من خوف وحماهم من ظلم، وحافظ على حرياتهم.
(وبعد) فواجب على المسلمين في أنحاء العالم أن يعودوا إلى كتاب الله ويحلوا حلاله ويحرموا حرامه، ويقيموا أحكامه، عليهم أن يحتكموا إلى الشريعة الإسلامية ففيها ما يغنيهم عن القوانين الأجنبية، عليهم أن يأخذوا بالكتاب كله حتى لا يكونوا ممن قال الله فيهم:
{وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} .
إلى أمثال هؤلاء الذين يتجاهلون أحكام الله أو بعض أحكامه، ويرتابون في حدوده نوجه إليهم هذا السؤال:
هل ترون أن كتاب الله انتهت مهمته، وانقضت مدته وأحيل إلى المعاش والتقاعد فلا وظيفة له اليوم بين الناس لأن ما جاء فيه من أحكام الربا والحدود لا يمكن على زعمكم تطبيقه، ولا يتيسر تنفيذه؟
إذن فلماذا ضمن الله له الخلود والبقاء فقال:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [26] .
هل حفظه الله ليستجدى به الناس على قارعة الطريق، أو ليودع في دار الآثار على أنه أثر عتيق؟؟!.
كلا: بل حفظه الله ليهدى الناس إلى صراط مستقيم، وليحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون قال تعالى:
{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [27] .
وقال سبحانه:(11/314)
{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [28] .
وقال عز وجل:
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [29] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة البقرة آية 30.
[2] سورة الأنعام آخر آية فيها.
[3] سورة طه 123 _ 126.
[4] سورة فاطر 24_26.
[5] سورة (المؤمنون) 51، 52.
[6] سورة البقرة 136.
[7] سورة النحل 89.
[8] سورة المائدة 3.
[9] سورة يونس 57، 58.
[10] سورة طه 123، 124.
[11] سورة الملك 14.
[12] سورة ق 16.
[13] سورة النجم 32.
[14] سورة الإسراء 55.
[15] سورة المجادلة 7.
[16] سورة الحديد 4.
[17] سورة الفرقان 6.
[18] سورة البقرة 185.
[19] سورة البقرة 286.
[20] سورة النساء 28.
[21] سورة الحج 65.
[22] سورة الأعراف 156.
[23] سورة التوبة 128.
[24] سورة الأنبياء 107.
[25] سورة الأنعام 157.
[26] سورة الحجر 9.
[27] سورة الأنعام 19.
[28] سورة المائدة 49، 50.
[29] سورة الأحزاب36.(11/315)
رسالة إلى بيروت
لفضيلة الشيخ محمد مصطفى المجذوب
المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
ماذا أسمع؟ .. ماذا يقول هذا المذيع المشئوم! …
النار تلتهم أحياء بيروت.. لقد عجزت فرق الإطفاء عن تحديد مواطن النيران، فوقفتْ جامدة حائرة …
مستشفيات بيروت، التي كانت حتى أمس القريب، مقصد المرضى والزمنى، يزحفون إليها من كل صوب طلبا للبرء.. تعلن اليوم في هلع رهيب أن لا دواء لديَّ ولا غذاء.. ولا موضع لجريح جديد..
إنه - المذيع - يستنفر الناس الذين ينتظرون مناياهم بالرصاص الطائش.. والصواريخ العمياء … والقذائف الشيطانية.. يستصرخهم ليخرجوا من جحورهم إلى ما بقي من الشوارع، كي يرفعوا عقائرهم بالاحتجاج على العابثين بأرواح الناس.. المفجّرين سدود الموت لتجرف الآلاف بعد الآلاف من الضعفاء والمساكين والجائعين …
أحقا حدث كل هذا؟ … أم أنه كابوس ثقيل يسد علىّ المسالك، فلا أجد سبيلا للتخلص من إيحائه الفاجع.. وهوله الرهيب! …
من يصدق هذه الأنباء التي أسمع؟
من يصدق يا بيروت، يا من يحلو للكثيرين أن يسموك عروس التوسط، أن شوامخك الغارقة في سكرة الخيلاء … ومقاصفك الغائصة في بحار الأهواء، وملاهيك التي حشدت كلَّ مصايد الإغواء، ومتاجرك التي استحالت معارض لأفانين الأزياء، ومصانعك التي تقرع بأزيزها الفضاء صباح مساء.
من يصدق يا بيروت أن هذا كله قد صار ركاما أو يكاد … وأن المتخمين الذين طالما استطالوا بهذه المتارف على المحرومين، قد ساووا في جحيم هذه الكوارث بني غبراء، فعادوا كما خُلقوا لا يملكون نقيرا ولا قطميرا …
يزعم مذيعو السوء أنها الأحقاد الدينية تترجم عن نفسها بهذه المجازر الطائفية بين النصرانية والإسلام …(11/316)
أحقا قد استحال الدين في واقعك يا بيروت أحقادا تدمر كل شيء، وقذائف تمزق أجساد المجرمين والأبرياء على السواء. سواء كانوا شيوخا أو أطفالا أو نساء! …
لقد طالما أشاع رهبان المسيحية وأحبارها أن دينهم محبة ورحمة وتسامح حتى لو ضُرب أحدهم على خده الأيسر لأدار لضاربه الخد الأيمن … وشهد قرآن المسلمين لأهل هذا الدين الحق أنهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا.. {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} .
فكيف انقلبت هذه المثالية المسيحية رأسا على عقب، حتى لتستحيل بيوت المنسوبين إليها ثكنات شيطانية، تدرب الشباب البريء على أحدث وسائل القتل والفتك، ليقطعوا الطريق على الغافلين، فيحصدوا منهم العشرات على حين غرة ودون أي ذنب اقترفوه!..
والإسلام الذي من أبرز شعائره: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} . {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} .
هذا الدين الرباني، الضامن لسعادة الجنس الإنساني.. كيف استحال معولا لتخريب الحياة، وسكّينا لتقطيع الأرحام وأداة لاجتثاث العلائق البشرية.. حتى ليستبيح بعض الزاعمين النسبة إليه إيثار الموت على الحياة، والفساد على الصلاح، ونشر الخراب والرعب على السلم والأمن والبر! …
لا أكاد أصدق هذا يا بيروت.. بل إني لأقطع جازما أن الذين يقدمون على هذا الضرب من الجرائم ليسوا في الحقيقة سوى أعداء ألداء للمسيحية والإسلام.(11/317)
إنها الغرائز الخسيسة، والعصبية الضريرة، هما اللتان تعهدتا إنشاء ذلك الجيل منذ أربعين سنة على القواعد الصليبية، التي دمرت أمن هذه الديار هبل ثمانية قرون، وتريد أن تعيد اليوم دور أسلافها من جديد … ومن أجل تحقيق هذه الغاية الرهيبة تأبى الاعتراف للآخرين من المواطنين بأي حق في المساواة الإنسانية، والعدالة التي لإبقاء لدولة أو أمة تخلت عنها..
وإنها كذلك للغرائز نفسها التي تجردت من سماحة الإسلام، وفتحت وجودها لسموم المذاهب الهدامة التي لا يسرها شيء مثل القضاء على المسيحية والإسلام.. هذه الغرائز هي نفسها التي تنطلق اليوم بكل طاقاتها المدمرة لنسف كل شيء، حتى بقية الوشائج الخيّرة التي تربط بين الإنسان والإنسان.. ثم لا تخجل من الادعاء أنها بذلك إنما تدافع عن حقوق المظلومين، وهي التي تكتسح الظالمين والمظلومين أجمعين …
إن حزني عليك يا بيروت لكبير كبير، يعجز القلم عن تحديد مداه..
وإن ألمي من هؤلاء الغدارين الذين يغتالون أمنك، ويعرضون سكانك لأقسى ألوان الشقاء والتعاسة، لأضخم وأثقل من أن يحتمل أو يتسع لتعزية …
ولكن حزني على كبره، وألمي على ثقله، لن يشغلاني عن هذا التساؤل: ألم يعد بين رجالك وزعمائك من رشيد يدلك على المخرج من هذا البلاء الطام؟ … أطاشت عقول ناسك، فلا تهتدي إلى النور، ولا تتفق على الحل السليم! …
طالما زعم الفارغون من أدعياء البيان في لبنان أنه بلد الإشعاع، وطالما أعلنوا باللافتات الكبيرة ((أن لبنان دائما على حق)) في كل ما يأتي وما يذر …
فأي نور ذلك الذي يعجز عن التخفيف من هذه الظلمات؟ …
وأي حق في هذا التصرف الذي ينكره صغار الأطفال فضلا عن كبار الرجال! …
يا بيروتنا الغالية …
لا أريد أن أجاملك فأكتفي بالبكاء والنحيب عليك..
إن الكارثة لهائلة.. وإن ما يتوقع من كوارث وراءها لأهول وأعم …(11/318)
ولكن في ذلك كله لَنُذُراً، من حقها أن تهب للمفكرين المتألمين عبراً …
لقد حاول بعض العابثين من نزلائك يا بيروت أن يرد أسباب محنتك إلى التفاوت بين طبقاتك، كدأب المضلّلين ممن لا ينظرون إلى الحياء وأحداث التاريخ إلا من خلال الخبز.. لأن أدمغتهم قد غسلت من أثر القيم، فلم تعد تفهم القول الحكيم "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.. بل بكل كلمة تخرج من فم الله [1] ".
إني لأتأمل حاضرك وماضيك، فتقفز إلى ذاكرتي صور سدوم وبومبي وأغادير [2] . . وعشرات المدن والأمم التي {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} .
هل تستطيعين أن تزعمي أنك كنت خيرا من هذا المدن التي ندّت عن سنن الله، وتجاوزت كل حد في حربها لشرائع الله؟ …
ألم تجربي كل ألوان المعاصي التي خاضتها هذه الفواسق وأخواتها … بل لقد أسرفت في إبداع ضروب من الانحراف عن مهيع الفضيلة لم تخطر في أخيلة أي منها … فكيف تستغربين إذا جنيت بعض ما كنت تزرعين؟.
هل تذكرين يوم جورجينا رزق يا بيروت؟ …
جورجينا تلك المستخدمة التي انتدبها لبنان لتمثيلها في أكبر مهزلة للدعارة العالمية، وقد راقت معالمها الجسدية قادة المهزلة فتوجوها ملكة لجمال العالم … ثم أقبل عليها دعاة الفجور يلتقطون صورها ويستفتونها في قضية المرأة، فكان من مفاخر الحكم التي سجلت لها آنذاك: إن على الفتاة ألا تتزوج حتى تجرب الرجال.. ومع ذلك ملأت سيارات مستقبلي عودتها الشارع الموصل لمطارك حتى كادت تحول دون مرور المسافرين الجادّين.
ولم تكتفي يا بيروت بذلك التحدي للأخلاق يومئذ حتى قام رئيسك الأعلى بدعوتها إلى مأدبته، تكريما للمخلوقة التي عززت قيمة لبنان في أسواق النخاسة الدولية!.(11/319)
وقبل أيام قليلة، والدماء لم تجف من أحيائك، والنار لم تخمد في صروحك، والدمار لم يجرف من شوارعك.. انطلق مذيع (كبير) يبشر السائحين باستتباب الأمن، ويحاول اجتذابهم إلى مصايفك، فلم يجد أروع من الفواحش يزيّنها لهم ففي مكان كذا حفلة راقصة حتى الفجر وفي قرية كذا سيجري انتخاب ملكة للجمال. وو..وما إلى ذلك من دعوات شيطانية، لم يخجل من ترديدها وهو يعلم من أعماق قلبه أنك ولبنان كله تعيشين في ظلال الرعب والموت.
فانظري وفكري وتأملي يا بيروت.. هل ترين أي تبدل بين موقفك اليوم وموقفك أمس!.. ألست مستمرة في طريق الضلال حتى وأنت تقاسين أنواع النكال..!!
لقد نسي حكامك، ومتزعموك ومترفوك أنهم مخلوقون لله، وأنهم مسئولون أمام الله، وأن السبيل الوحيدة لاستبقاء النعم ولسلام الحياة لا يكون إلا بالتزام القيم الفاضلة التي يحبها الله.. وسكت السواد الأعظم من بنيك عن هذا الانحدار الذي يتدافع فيه الكبار، بل سلكوا وراءهم مزالقهم.. فكان عين العدالة أن تستقبلي عقاب الله، الذي تصطلين اليوم لظاه..
يا أخت سدوم وبومبي …
لقد رضيت أن تكوني معبر التخريب الخلقي، الذي تصدره مخابر الفكر اليهودي إلى هذا الشرق.. فكل دعوة للإلحاد فعن طريقك، وكل ثورة بالفضيلة فمن صحفك.. وكل هجوم على تراث النبوة فمصدره الأقلام الملوثة، التي اتخذت منك منطلقا ومقرا.
ولقد استشرى فيك وفي ما حولك هذا الوباء، فلم تتورعي أن ترفعي إلى مجالس السلطة العليا مُصَدّري الحشيش الذين استطاعوا أن يرفعوا لك أكبر اللافتات العالمية في أسواق هذه التجارة الشيطانية.. ولم تستثني من هذه المناصب صعاليك الوجودية، الذين يؤثرون التشرد الجنسي على اللقاء الشرعي، ثم لا يتهيبون أن يجهروا بذلك على صفحات الصحف، فيعلن بعضهم بكل فخر، أنه لم يتزوج بعد، ولكنه يتخذ صديقة على طريقة سارتر وبوفوار..(11/320)
وبينما يستعلن فيك كل هذا الفجور والثبور، بوقاحة لا تعرف السدود ولا الحدود، يقف الحق يتيما بإزاء ذلك، فيوشك ألاَّ يجد وسيلة للتعبير عن نفسه إلا في أضيق نطاق وأخفض صوت.. ولولا قلة _ لا تكاد ترى _ من الثابتين منك على سبيل المؤمنين، لم يجد مسمعا يصغي إليه، ولا ضمير ايحرص عليه.. ومع ذلك لا تسلم هذه القلة الراشدة من مفتريات الكثرة الزائفة، فتقذفها بكل منكر من التّهم، لِتُحكم الحصار على عقول العامة فلا تعرف إلى نور الحقيقة سبيلا …
أبكل هذا الإصرار على الكبائر يا بيروت تبارزين مولاك، الذي أحاطك بأصناف النعم، وساق إليك من اليسر ما تغبطك عليه الأمم؟ .. ولو قد نفعك علمك الذي تدَّعين، لأيقنت أن العذاب المهين أقل ما تستحقين، ولولا تلك البقية من الركّع السجود، لما تأخر يومك الموعود، ولكنت من زمان خارج نطاق الوجود …
{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} .
إيه يا بيروت الغالية..
إن مأساتك لَمُروّعة مفتتة للقلوب.. ولكني أخشى أن تكون الحلقة الأولى في سلسة طويلة من أشباهها أو أكبر منها..
لكأني استشف من خلل الغيب مصاير دامية كمصيرك الرهيب، تلف بأعاصيرها ربوعا من وطني الكبير الحائر، تسللت إليها أفانين من سموم حياتك الصاخبة بالخلاعة والترف والتكالب على الشهوات فهي اليوم تمضي مسرعة في الطريق نفسه الذي تسلكين، لتنتهي إلى الهاوية نفسها التي فيها تتخبطين …
لن ينفعك يا بيروت في محنتك المرعبة أسطول يهبط عليك من الغرب، ولا صواريخ يمطرك بها الشرق، ولا مؤتمرون يتباكون عليك، وسكاكينهم تعمل في أحشائك، يعلنون التهادن فيما بينهم، ليعودوا إلى الفتنة أوفر استعدادا، وأشد عنادا …(11/321)
إنما ينفعك فقط أن تحاسبي نفسك على ما فرطت في جنب الله، فتتذكري أن العدالة والمساواة في الحقوق الإنسانية هما الحصانة الروحية من نِقماتِه، والوسيلة الوحيدة للتفاهم والتعاون بين عباده، ثم تُقلعي عن حربك لربك بالتوبة إليه، والجثوّ بين يديه..
لقد جربت المعصية يا بيروت زمنا طويلا..
فهلا جربت الطاعة ولو قليلا!..
وأخيرا.. أيتها العزيزة المغلوبة..
اسمعي إلى هذا القانون الأزلي يخاطب به الله كل ذي لب من خلقه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً..} ، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب..} .
لقد وضح الطريقان، فاختاري لنفسك المعيشة الضنك التي تصارعين، أم المخرج الآمن الذي إليه تتلهفين!..
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عاقبة الظلم
ما تصنعون بمال وردة فيكم؟ .
صَغُر البنون وآلُ وردة غيَّبُ
قد يبعث الأمر الكبير صغيرُه
حتى تظل له الدماء تصبَّب
والظلم فرَّق بين حيي وائل.
بكر تساقيها المنايا تغلب
طرفة بن عبد
--------------------------------------------------------------------------------
[1] العبارة من صحف أهل الكتاب، وإنما أوردها الكاتب لما فيها من دلائل الإجماع على أن الحياة الحقة لا تكون إلا بكلام لله الحق.
وأما تعبيرهم بفم الله عن كلامه سبحانه فهو مما لا يقره الكاتب لأنه غير وارد في المصادر الإسلامية. ولهذا اقتضى التنبيه. المجلة "
[2] سدوم من مدائن لوط، وبومبي: مدينة رومانية في إيطاليا دمرها الله بحمم البركان عام 79م وكشفت آثارها في القرن الثامن عشر م وأغادير مدينة سياحية في المغرب قضى الزلزال عليها قبل سنين، وكل هذه المدن كانت غارقة في الفسوق.(11/322)
توحيد الله (2)
لفضيلة الشيخ عبد الله أحمد قادري
المشرف الاجتماعي بالجامعة
توحيد الألوهية
تعريفه: هو إفراد الله تعالى بالعبادة، ولذلك يسمى بتوحيد العبادة أيضا، كما يسمى بتوحيد القصد والطلب.
والسبب في تسميته بتوحيد الألوهية تعلقه بألوهية الله ووحدانيته، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} .
والسبب في تسميته بتوحيد العبادة، أو توحيد القصد والطلب هو وجوب إفراد العبد ربه بعبادته وقصده إياه وحده، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} .
فالله تعالى متفرد بالألوهية - فلا إله سواه - ويجب على الخلق أن يفردوه بعبادتهم.
قال الأستاذ سيد قطب رحمه الله في كتابه (خصائص التصور الإسلامي) : "يقوم التصور الإسلامي على أساس أن هناك ألوهية وعبودية: ألوهية يتفرد بها الله سبحانه، وعبودية يشترك فيها كل من عداه وكل ما عداه، وكما يتفرد الله سبحانه بألوهية، كذلك يتفرد - تبعا لهذا - بكل خصائص الألوهية وكما يشترك كل حي - وكل شيء بعد ذلك في العبودية، كذلك يتجرد كل حي وكل شيء من خصائص الألوهية. فهناك إذن وجودان متميزان: وجود الله ووجود ما عداه من عبيد الله والعلاقة بين الوجودين هي علاقة الخالق بالمخلوق والإله بالعبيد"اهـ (ص213) .
وهذا القسم من أقسام التوحيد هو الذي أنزل الله من أجله الكتب وأرسل الرسل، وفيه وقع الخصام بينهم وبين المشركين من قومهم في كل زمان.
فما أرسل الله من رسول إلا دعا قومه إليه، بل هو أول نداء لكل رسول إلى كل أُمة، وقد أوضح القرآن الكريم ذلك إجمالا وتفصيلا.(11/323)
فقال على سبيل الإجمال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} . (الأنبياء 25) وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36) .
وقال على سبيل التفصيل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} إلى قوله {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً عَمِينَ} . (الأعراف: 59-64) .
وقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . إلى قوله: {وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} . (الأعراف: 85-91) .
وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} الآيات إلى قوله: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ} إلى قوله: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} الأعراف: (65-72) .(11/324)
وقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} إلى قوله: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} . إلى قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} (الأعراف: 73-78) .
وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ} (الأنعام: 80) .
وقال تعالى عن يوسف عليه السلام: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (يوسف: 39_40) .
وقال عن موسى عليه السلام: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وأنا أخترتك وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} . (طه: 9-14) .(11/325)
وقال عن عيسى عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} (المائدة:116- ومن آية 117) .
وقال عن نبينا عليه الصلاة والسلام: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} . (الأعراف: 158) .
وبهذا يتضح أن تحقيق هذا النوع من أنواع التوحيد كان هدف جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه بالبداءة به في الدعوة، كما قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: "إنك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله"، وفي رواية: "إلى أن يوحدوا الله".
وسبب ذلك أن توحيد الألوهية هو الأساس الذي تقوم عليه جميع شرائع الإسلام وكل عمل صالح ما هو إلا ثمرة له.
قال الأستاذ المودودي وفقه الله في كتابه: (مبادئ الإسلام) :
"وهذا الإيمان بألا إله إلا الله هو الركن المهم الأساسي من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم وهو مركز الإسلام وأصله ومصدر قوته، وكل ما عداه من معتقدات الإسلام وأحكامه وقوانينه إنما تقوم على هذا الأساس نفسه، ولا تستمد قوتها إلا منه. والإسلام لا يبقى منه شيء لو زال هذا الأساس من مكانه"اه .(11/326)
قلت ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى في أعمال الكفار: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} (الفرقان: 23) {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} (إبراهيم:18) .
وهكذا يجب أن يكون تحقيق توحيد الألوهية والدعوة إليه وموالاة أهله، ومعاداة خصومه هدف كل داع إلى الله اقتداء بالرسل عليهم الصلاة والسلام ولا سيما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد سبق أن توحيد الربوبية كان دليل الرسل على توحيد الألوهية ولم يكونوا يدعون الناس إلى الأول - الذي هو الدليل - لأن الناس كانوا مقربين به إذ ذاك، ولكن طائفة الملحدين في هذا العصر أنكرت هذا النوع من أنواع التوحيد (توحيد الربوبية) ، ولهذا يجب التركيز عليه وإبراز الحجج العقلية والنقلية عليه لشباب المسلمين وغيرهم لأنه لا يمكن إقناع الملحد بتوحيد الألوهية ما لم يقتنع بتوحيد الربوبية، لأن الثاني دليل الأول، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} .
وهذا هو معنى: {لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} التي لا يصح إسلام أحد بدونها. كما قال صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها"، وقال: "بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله"الحديث وقال لمعاذ: "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله الله".
معنى لا إله إلا الله.
الإله معناه المعبود الذي يخضع له ويذلك ويحب.
ومعنى: لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله.
وهذا القيد: (بحق) يخرج كل ما عبد من دون الله لأن عبادة غير الله ليست بحق كما هو واضح.(11/327)
فمن عبد الله فقد عبده بحق، ومن عبد غيره فقد عبده بالباطل والضلال، كما قال تعالى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} .
ولهذه الكلمة ركنان:
الأول: نفي الألوهية عما سوى الله.
والثاني: إثبات الألوهية لله وحده.
شروط هذه الكلمة:
وقد ذكر العلماء لهذه الكلمة - أي لصحة إسلام من نطق بها - شروطا كثيرة ومنها:
الشرط الأول: العلم بمعناها، فلو قالها الكافر دون أن يعلم ما دلت عليه لا يكون بذلك مسلما، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} . وقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وفي الحديث: "من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة".
ومقتضى العلم بـ (لا إله إلا الله) الالتزام بما دلت عليه من نفي وإثبات ولقد جهل كثير من المسلمين معنى هذه الكلمة التي يرددها المؤذنون من على رءوس المآذن في جميع المساجد كل يوم مرات ومرات وتنقلها الإذاعات فيسمعها القاصي والداني، ويكررها المصلون في تشهدهم في كل صلاة، ويواظب عليها الذاكرون في أورادهم صباح مساء، أقول: لقد جهل المسلمون معنى هذه الكلمة جهلا فاضحا حتى أصبحوا يرددونها بدون وعي لما دلت عليه، ولذلك تراهم يخالفون مقتضاها مخالفة قد تخرج الكثير منهم عن الإسلام وقد تبعد كثيرين عن فرائضه.
فمنهم من خالف ما دلت عليه في الاعتقاد كمن يدعو غير الله ويذبح له أو يجعل لغيره حق التشريع فيما يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من يخالف ما دلت عليه - عملا - كمرتكبي الزنا وشرب الخمر والتعامل بالربا وغير ذلك مما يدخل في الأول والثاني.(11/328)
ولقد كان المشركون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون معنى هذه الكلمة فلا ينطق بها إلا من تجرد عن كل ما سوى الله وأخلص له الدين فنبذ لك اعتقاد أو عمل أو قول من أمور الجاهلية، وإلا بقى على شركه مستنكرا مضمونها كما قال تعالى: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} عكس ما عليه كثير من المسلمين في الأزمان المتأخرة حيث تجدهم يخالفهم ذلك المضمون وهم يدعون أنهم مسلمون.
الثاني: اليقين الذي ينفي الشك، بأن يكون قائلها على يقين بما دلت عليه دون تردد ولا ارتياب، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} . (الحجرات: 15) .
ومن قال: لا إله إلا الله وهو مرتاب فهم منافق كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} (التوبة:45) .
وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة". وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه بنعليه فقال: "من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد ألا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة".(11/329)
الشرط الثالث: قبول ما دلت عليه وعدم رده، فمن رد ذلك لا يكون مسلما كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} . (الزخرف: 23-24) .
الشرط الرابع: الانقياد لها، أي الاستسلام لله تعالى وترك العناد والاستكبار قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} وقال: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} والعروة الوثقى: لا إله إلا الله.
وقال تعالى في تاركي مدلولها والمستكبرين: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} .(11/330)
الشرط الخامس: الصدق، أي أن يكون قائلها صادقا في قولها بأن يواطئ قلبه لسانه، كما قال تعالى: {أَلم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} . فإذا قالها الشخص وهو غير صادق في قولها فهو منافق، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} وقال: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} .
وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ما من أحد يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله صدقا من قلبه إلا حرمه الله النار"، وقال لضمام بن ثعلبة: "أفلح إن صدق" بعد أن قال ضمام والله لا أزيد عليها ولا أُنقص يعني أركان الإسلام.(11/331)
الشرط السادس: الإخلاص، وهو تصفية العمل بالنية الصالحة عن جميع شوائب الشرك كما قال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وقال: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} وقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه".
وعن عتبان بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله عز وجل".
الشرط السابع: المحبة: أي محبة هذه الكلمة وما تقتضيه من نفي الشرك وفروعه ومحبة أهلها العاملين بها (وكذلك بغض أعدائها) ، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه} ، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} .
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان.. أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار".(11/332)
وعلامة محبة المرء لهذه الكلمة وما تقتضيه متابعته للرسول صلى الله عليه وسلم في امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وتسمى هذه الآية آية المحنة، لأن الله امتحن بها من ادعى المحبة كما هو واضح.
وما أكثر من ادعى هذه المحبة وهو عنها بعيد.
وكل يدعي وصلا لليلى.
وليلى لا تقر لهم بذاكا.
فإن توفرت هذه الشروط في قائل: لا إله إلا الله أثمرت فعل الواجب - والمندوب - وترك المحرم - والمكروه - وقد يقع قائلها في ترك واجب أو فعل محرم فإن تاب تاب الله عليه وغفر له، ومن لم يتب فهو تحت المشيئة الإلهية، إن شاء الله غفر الله له وأدخله الجنة وإن شاء عذبه بقدر ذنبه ثم أدخله الجنة، فدخول الجنة للموحد مقطوع به.
ويتضح مما سبق من النصوص الرد على ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: زعمت أن مجرد معرفة القلب كاف في ضمان دخول الجنة استدلالا بمثل قوله صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة".
وهو زعم مردود، لأن (لا إله إلا الله) كما قيدت بالعلم قيدت بغيره كالنطق بها والإخلاص لله.
الطائفة الثانية: زعمت أن مجرد إظهار الشهادتين كاف في دخول الجنة، وإن لم يحصل اعتقاد، وهم غلاة المرجئة استدلالا بمثل قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة".(11/333)
الطائفة الثالثة: زعمت أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار وإن قال لا إله إلا الله بقيودها المذكورة، وهم الخوارج والمعتزلة، وهو مردود كذلك بدليل حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم عليه ثوب أبيض ثم أتيته فإذا هو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ فجلست إليه فقال: "ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنا وإن سرق؟ قال:"وإن زنا وإن سرق"قلت وإن زنا وإن سرق؟ قال: "وإن زنا وإن سرق"، ثلاثا ثم قال في الرابعة: "على رغم أنف أبي ذر". والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .(11/334)
العيد في الإسلام معناه وحقيقته
لفضيلة الشيخ محمد أمان علي
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
شرع الله للمسلمين عيدين اثنين في الإسلام لا ثالث لهما فشرع كل عيد بعد عبادة عظيمة وركن من أركان الإسلام.
أحدهما عيد الفطر، والآخر عيد الأضحى.
أما عيد الفطر فقد شرع في أول يوم من شهر شوال بعد الفراغ من عبادة الصيام والقيام وغيرهما من أنواع القربات التي يتقرب بها العباد إلى الله في شهر رمضان المبارك.
أوجب الله تعالى صيام هذا الشهر المبارك وجعله ركنا من أركان دين الإسلام ورتب عليه أجرا لم يرتبه على عبادة سواها- إذ يقول الرسول عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربّه: "قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" وفي رواية البخاري: "يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي".
يا لها من إضافة ما ألطفها وما أعظم شأنها "إلا الصوم فإنه لي" إضافة تدل على إكرام الله لعبده الصائم وتشريفه إياه إذ يضيف الرب تعالى عمل عبده إلى نفسه عز وجل ويخبر أن الصوم له وأنه سوف يجزي عليه عبده جزاء لا يقدر قدره إلا الله سبحانه تفضلا وإحسانا إنه جواد كريم، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"، كما صح عنه قوله عليه الصلاة والسلام: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".
هكذا شرع الله لنا الصيام ورتب عليه ذلك الجزاء - جزاء الصابرين {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} كما شرع فيه قيام لياليه سنة مؤكدة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم..(11/335)
وفي ختام هذه النعمة العظيمة التي امتن الله على عباده شرع لهم عيد الفطر.. يفطرون فيه بعد أن كانوا صائمين ويتمتعون فيه بطيبات أحلها الله لهم ويخرجون إلى المصلى بأجمل ما لديهم من اللباس مكبرين الله تعالى ومهللين وحامدين شاكرين هكذا حتى يصلوا ركعتي العيد.
فعيد الفطر إذا شكر لله تعالى على تلك النعمة الجسيمة التي سبق أن وصفناها آنفا هكذا يتم العيد ثم ينصرفون من المصلى بعد أن استمعوا إلى الخطبة التي تلقى بهذه المناسبة العظيمة.. ينصرفون وقد غمرهم الفرح بنعمة الله تعالى - وفقهم إلى الصيام فصاموا فيسر لهم القيام فقاموا ثم أدوا صلاة العيد شكرا لله على هذا التوفيق والتيسير.
نعم ينصرفون من مصلى العيد يهنئ بعضهم بعضا بالعيد السعيد هكذا ينتهي العيد ليتبعوا صوم رمضان بست من شوال تطوعا لعل الله يجبر بصوم الست من شوال ما قد يحصل من النقص والخلل في صيام رمضان بل ليكون الصائم بذلك كصائم الدهر. إذ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان واتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر". ولئلا تتمادى به فرحة العيد إلى حد الإسراف والترف.
هذا هو عيد الفطر - وهذا معناه وحقيقته والله وأعلم.(11/336)
وأما عيد الأضحى فقد شرعه الله لنا بعد عبادة - هي بحق جهاد لا قتال فيه. وهي عبادة حج بيت الله الحرام وقد صح هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها عند البخاري حين سألت رسول الله عليه وسلم: "هل على النساء من جهاد؟ "فقال عليه الصلاة والسلام: "عليهن جهاد لا قتال فيه.. الحج والعمرة". وقبيل الانتهاء من أعمال هذه العبادة العظيمة، حج بيت الله الحرام شرع الله لعباده عيد الأضحى في العاشر من ذي الحجة بعد أن منَّ الله على حجاج بيته بوقوف يوم عرفة متضرعين تائبين خاشعين. وبعد أن أدى غير الحجاج في ذلك اليوم عبادة الصيام. الصيام الذي يكفر الله به السنة الماضية والسنة الباقية. فهو عيد عظيم بعد يوم عظيم يوم شكر لله المنعم المتفضل على ما أنعم به من حج وصيام، وفي هذا اليوم يتقرب عباد الله إلى الله حجاجا كانوا أو غير حجاج بذبح الهدى والأضاحي ليطعموا البائس الفقير بعد أن يأكلوا منها ما تيسر لهم اتباعا لنبيهم محمد عليه الصلاة والسلام وشكرا لربهم، ويقضون هذا اليوم وثلاثة أيام بعده في ذكر الله تعالى مع التنعم والتمتع بطيبات أحلها الله لهم من الطعام والشراب والطيب وغير ذلك من نعم الله التي لا تعد ولا تحصى، هكذا تتجلى المعاني السامية والحكمة البالغة في العيدين الإسلاميين عيد الفطر، وعيد الأضحى.(11/337)
وأما تلك الاحتفالات المبتدعة في مناسبات مختلفة التي ابتدعها بعض الناس بعد انقراض القرون المفضلة المشهود لها بالخير. ابتدعوها ثم أطلقوا عليها اسم (أعياد إسلامية) فليست من الإسلام في شيء بل هي محدثة وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. وهي بعد ذلك كله مجالات لاختلاط الجنسين وميدان للفساد الخلقي ولهو ولعب.. دفوف وطبول ورقص وتصفيق.. وهكذا إلى آخر الأعمال الجاهلية التي يعرفها كل مطلع. وإطلاق اسم (أعياد إسلامية) بعد هذا كله على هذه الاحتفالات المبتدعة يعتبر في نظري جناية على الإسلام. وهو أمر لا يخفى على كل ذي بصيرة في دينه ودارس للفقه الإسلامي، ومن أمثلة تلك الاحتفالات المبتدعة الاحتفال باسم (المولد النبوي) والاحتفال: بليلة الإسراء - وبليلة النصف من شعبان - وأخيرا أُضيفت أعياد جاهلية أُخرى كعيد الحسين - وزينب وعيد البدوي، وغيرها من الاحتفالات الجاهلية التي زينها الشيطان لأهلها وللأسف الشديد أن عوام المسلمين وأشباه العوام أنشط في إقامة هذه الاحتفالات منهم في أداء الفرائض والعبادات المشروعة والله المستعان.(11/338)
نداء من الجامعة الإسلامية
عدوان جديد من اليهود على المسجد الإبراهيمي بمدينة الخليل
إن عداء اليهود للإسلام والمسلمين قديم ومستمر بينه القرآن الكريم في قوله تبارك الله وتعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} وسجل التاريخ أحداثا وصورا لا تحصى لهذا العداء، وما عودتهم إلى فلسطين - الأرض المقدسة - في هذا القرن بعد طردهم منها منذ مئات السنين إلا تنفيذ لمخطط صهيوني خطير، يظاهره أعداء الإسلام في كل مكان، ويستهدف تهويد المنطقة وإزالة المقدسات الإسلامية بالهدم أو التحويل إلى معابد أو مؤسسات أُخرى يهودية، ومحاربة الإسلام بكل الوسائل، وتفتيت قوة المسلمين وتمزيق تضامنهم وتشتيت وحدتهم وتحقيق المطامع الصهيونية والاستعمارية في أوطانهم وثرواتهم.
ومنذ وقت قريب أحرق الإسرائيليون المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث المسجدين ولم يكتفوا بذلك بل هم يحفرون من حوله، ومن تحته بحثا عما يزعمونه - هيكل سليمان - والآن يتجهون إلى المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل يقتسمونه مع المسلمين ويحتلون الجزء الأكبر منه، يشربون فيه الخمر وينفخون الأبواق، ويقيمون الولائم، والحفلات الصاخبة لأعراسهم وختانهم، ويشوشون على المصلين المسلمين في الجزء الذي أبقوه لهم من المسجد بشتى الوسائل، ويمنعونهم من إعلان الأذان وإقامة الصلاة إلا في الأوقات التي يحددونها ويحرمون عليهم دخول المسجد إلا من باب واحد، ويعتدون على أئمة المسجد وسدنته.(11/339)
وإن الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة إذ تستنكر ذلك كل الاستنكار وتعده عدوانا صارخا وآثما على الإسلام والمسلمين، ليس في فلسطين فحسب بل في سائر أنحاء الأرض حيثما وجد مسلم لتهيب بالمسلمين في كل مكان أن يهبوا في وجه هذا العدوان البربري على دينهم ومقدساتهم وأن يواجهوه بكل قوتهم، ولا ترى الاكتفاء باجتماع - لجنة القدس - لصد هذا الخطر.
بل تدعو المؤتمر الإسلامي لعقد دورة خاصة لدراسة الخطوات الإيجابية التي تتبع في مواجهة العدوان الصهيوني، المستمر على المقدسات الإسلامية في فلسطين ووضع خطة عملية لرده، تلتزم جميع الدول الإسلامية حكومات وهيئات بدورها في التنفيذ وعدم الاكتفاء بإصدار التوصيات أو الاستنكارات التي لا يعبأ بها الإسرائيليون، ويسخرون منها، ويمضون في تنفيذ خططهم العدوانية الإجرامية الواحدة تلو الأخرى طالما أنهم لا يجدون أمامهم قوة رادعة تصدهم عن غيهم وتردهم عن بغيهم.
وإن القيام بذلك، والوقوف في وجه الصهيونية بكل قوة لواجب على المسلمين جميعا يأثمون بتركه أو التهاون به أو تأخيره عن وقته، وقد فرض الله على المسلمين الجهاد في سبيله كما قال سبحانه: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِه} وضمن لهم النصر على عدوهم وعدوه كما قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
وقد عودنا الصهاينة في أساليب اعتداءاتهم المتكررة على المسلمين ومقدساتهم أن يخطو خطوتهم الآثمة ويضربوا ضربتهم العدوانية، ثم يتابعوا صداها بين المسلمين فإذا لم يجدوا عملا يردعهم أقدموا على خطوة أُخرى.(11/340)
فليتنبه المسلمون إلى ذلك وليحذروا الأخطار التي تتهددهم في دينهم ومقدساتهم وحياتهم من جانب الصهاينة المعتدين وليتحدوا جميعا في مواجهتها ودرئها والله معهم إذا اتقوه وصبروا كما قال سبحانه: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} .(11/341)
تنزيه الأصحاب عن تنقص أبي تراب (2)
لفضيلة الشيخ حمود عبد الله التويجري
الموضع الثالث: زعم أبو تراب أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ماتا ولم يحفظا القرآن كله وقد حفظ أبو بكر من الأحاديث مائة واثنين وأربعين.. وعمر خمسمائة حديث وسبعة وثلاثين.. ولكن ابنه كان أعلم منه فقد حفظ ألفي حديث وستمائة وثلاثين. وغلب الجميع أبو هريرة فله خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة أحاديث فهل نقول أن أبا هريرة كان أفضل من أبي بكر. كلا.. فالفضل غير العلم والفقه والاجتهاد والحفظ.
والجواب أن يقال: لا يخفى ما في هذا الكلام من الجرأة والتهجم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وما يدري أبا تراب أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ماتا ولم يحفظا القرآن كله. إنا نطالبه بإقامة الدليل على ذلك.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة" رواه مسلم وغيره من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه..
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم من عدة أوجه في الصحيحين وغيرهما أنه أمر أبا بكر رضي الله عنه أن يصلي بالناس في مرضه الذي مات فيه. وقد ترجم البخاري على ذلك بقوله: ((باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة)) . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة فتقدم أبو بكر رضي الله عنه يصلي بالناس. الحديث. وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على فعله ورضي بما صنع. وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره"رواه الترمذي فعلم من هذا أن أبا بكر رضي الله عنه كان أعلم الصحابة بالسنة وأقرأهم لكتاب الله تعالى.(11/342)
وقد ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب عن عبد خير قال سمعت عليا رضي الله عنه يقول: "رحم الله أبا بكر كان أول من جمع ما بين اللوحين".
وقال ابن كثير في البداية والنهاية: "والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أبا بكر الصديق رضي الله عنه إماما للصحابة كلهم في الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام العملية. قال الشيخ أبو الحسن الأشعري: "وتقديمه أمر معلوم بالضرورة من دين الإسلام".
قال: "وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم لما ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يؤم الناس أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأكبرهم سنا فإن كانوا في السن سواء فأقدمهم إسلاما" قال ابن كثير: "وهذا من كلام الأشعري رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق رضي الله عنه وأرضاه"انتهى.
وقد تقدم قول ابن مسعود رضي الله عنه: "إن عمر كان أعلمنا بالله وأقرأنا لكتاب الله وأفقهنا في دين الله"وفي هذا أبلغ رد على أبي تراب في قوله إن أبا بكر وعمر ماتا ولم يحفظا القرآن كله.. وأما قوله وقد حفظ أبو بكر من الأحاديث مائة واثنين وأربعين وعمر خمسمائة حديث وسبعة وثلاثين.
فجوابه أن يقال: وما يُدري أبا تراب أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم يحفظا من الأحاديث سوى ما ذكره. لقد أخطأ أبو تراب وأبعد عن الصواب في هذا القول الذي لم يتثبت فيه. ولو كان الأمر على ما زعمه لكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما من أقل الصحابة علما وهذا معلوم البطلان بالضرورة.(11/343)
ويقال أيضا: من المعلوم أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان ملازما للنبي صلى الله عليه وسلم منذ بعثه الله تعالى إلى أن توفاه وكان لا يفارقه في حضر ولا سفر. وكذلك عمر رضي عنه قد كان ملازما للنبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلم إلى أن توفي الله نبيه صلى الله عليه وسلم وكان لهما من الاختصاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ما ليس لغيرهما فيبعد كل البعد أن تكون روايتهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أقل من رواية من لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا مدة يسيرة ولم يكن لهم من الاختصاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ما كان لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما. فالذي لا يشك فيه أن أبا وعمر رضي الله عنهما قد حفظا عن النبي صلى الله عليه وسلم علما كثيرا.. ولا يبعد أن يكون ما حفظاه من الحديث أكثر مما حفظه بعض المكثرين من الرواية. ومما يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر رضي الله عنه أن يصلي بالناس في مرضه الذي مات فيه وأنه صلى الله عليه وسلم أقره على الصلاة بالناس لما ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم.(11/344)
وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة" فدل على أن أبا بكر رضي الله عنه أعلم بالسنة من جميع الصحابة رضي الله عنهم. وعلمه بالسنة إنما تكون بكثرة الرواية والحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والفهم لأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم والعلم بأفعاله وسيرته وهديه. وكان رضي الله عنه يفتي ويأمر وينهى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن يفعل من ذلك شيئا إلا بما علمه من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وكان الصحابة رضي الله عنهم في زمن ولاية أبي بكر رضي الله عنه يرجعون إليه في المسائل التي يتنازعون فيها فيفصل بينهم ويرتفع النزاع بينهم بسببه ولم يكن يرجع إليهم إلا في القليل النادر. وهذا يدل على غزارة علمه وكثرة روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان أكثر الصحابة أو من أكثرهم حفظا لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله. وقد تقدم ما رواه ابن سعد في الطبقات عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل من كان يفتي الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر وعمر ما أعلم غيرهما.
وأما قلة الرواية عن أبي بكر رضي الله عنه فلها أسباب كثيرة. منها قصر مدته بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث لم يتمكن الناس من إكثار الرواية عنه.
ومنها أن كبار الصحابة رضي الله عنهم كانوا متوافرين في زمن الصديق رضي الله عنه فكان الناس يكتفون بسؤالهم وأخذ الحديث عنهم عن الرجوع إلى الصديق رضي الله عنه لأنه كان مشغولا بالنظر في أمور الرعية عن الجلوس للتحديث.(11/345)
ومنها أن المسلمين نفروا في زمانه إلى قتال المرتدين ثم إلى قتال الفرس والروم ولم يبق من المسلمين في المدينة إلا القليل فكان المسلمون في تلك الأقطار النائية عن المدينة يكتفون بسؤال من عندهم من الصحابة ويأخذون عنهم الحديث ولا يذهبون إلى الصديق ومن كان معه من الصحابة في المدينة.
ومنها أن المكثرين من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم من صغار الصحابة إنما كان جل روايتهم بواسطة كبار الصحابة كالصديق وعمر وغيرهما من كبار الصحابة وكانوا يكتفون بنسبة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يذكرون الواسطة بينهم وبينه إلا قليلا لثقتهم بصحة ما نقل إليهم عنه صلى الله عليه وسلم ولهذا تجدهم يقولون في أكثر رواياتهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يذكرون السماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الرؤية لأفعاله إلا قليلا.
وقد ذكر الحافظ بن حجر في كتاب الإصابة في ترجمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه روى عنه عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وابن عمرو وابن عباس وحذيفة وزيد بن ثابت وعقبة بن عامر ومعقل بن يسار وأنس وأبو هريرة وأبو أمامة وأبو برزة وأبو موسى وابنتاه عائشة وأسماء وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.
وروى عنه من كبار التابعين الصنابحي ومرة بن شراحبيل الطبيب وواسط البجلي وقيس بن أبي حازم وسويد بن غفلة وآخرون انتهى.
ويستفاد مما ذكره الحافظ ابن حجر من رواية هؤلاء عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قد حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة جدا رواها عنه كثير من علماء الصحابة وكبار التابعين ولكن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يكتفون بذكر النبي صلى الله عليه وسلم ولا يذكرون الواسطة بينهم وبينه لأنهم كلهم أهل صدق وعدالة.(11/346)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب ((الوابل الصيب)) : "وهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن مقدار ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ نحو العشرين حديثا الذي يقول فيه سمعت ورأيت. وسمع الكثير من الصحابة وبورك له في فهمه والاستنباط منه حتى ملأ الدنيا علما وفقها"انتهى..
وقد روى البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما فتحت المدائن أقبل الناس على الدنيا وأقبلت على عمر"فكان عامة حديثه عن عمر قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح". وروى الطبراني في الكبير عن حميد قال: "كنا مع أنس بن مالك رضي الله عنه فقال: "والله ما كل ما نحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعناه منه ولكن لم يكن يكذب بعضنا بعضا". قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح". وروى الإمام أحمد عن البراء رضي الله عنه قال: "ما كل الحديث سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدثنا أصحابه عنه كانت تشغلنا عنه رعية الإبل".
قال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح"..
وأما عمر رضي الله عنه فإنه كان أعلم الأمة بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقد تقدم ذكر ما وصفه به ابن مسعود وحذيفة وسعيد بن المسيب وعمرو بن وإبراهيم النخعي من غزارة العلم. وهذا العلم الغزير الذي امتاز به عمر رضي الله عنه على سائر الصحابة إنما كان بالفهم في كتاب الله تعالى وكثرة الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والفهم لأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم والعلم بأفعاله.(11/347)
والأسباب في قلة الرواية عن عمر رضي الله عنه هي نفس الأسباب المذكورة في قلة الرواية عن أبي بكر رضي الله عنه. وتزيد عليها بسبب آخر وهو أن عمر رضي الله عنه كان يحث الناس على قراءة القرآن وحفظه والتفهم لما فيه وينهاهم عن الإكثار من الرواية خوفا من التزيد في الأحاديث والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد كان الناس يهابونه أشد الهيبة فلا يخالفون أمره ولا يرتكبون نهيه ولا يتجاسرون على سؤاله عما عنده من الأحاديث كما يتجاسرون على سؤال غيره من الصحابة فلهذا كان المروي عنه من الأحاديث قليلا بالنسبة لما يروى عن المكثرين من الحديث.(11/348)
وقد قال محمد بن سعد في الطبقات: "قال محمد بن عمر الأسلمي - يعني الواقدي - إنما قلَّت الرواية عن الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم هلكوا قبل أن يحتاج إليهم وإنما كثرت عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب لأنهما وليا فسئلا وقضيا بين الناس. وكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أئمة يقتدى بهم ويحفظ عليهم ما كانوا يفعلون ويستفتون فيفتون وسمعوا أحاديث فأدوها فكان الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل حديثا عنه من غيرهم مثل أبي بكر وعثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبيّ بن كعب وسعد بن عبادة وعبادة بن الصامت وأسيد بن الحضير ومعاذ بن جبل ونظرائهم فلم يأت عنهم من كثرة الحديث مثل ما جاء من الأحاديث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن العباس ورافع بن خديج وأنس بن مالك والبراء بن عازب ونظرائهم. وكل هؤلاء كان يعد من فقهاء الأصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم وكانوا يلازمون النبي صلى الله عليه وسلم مع غيرهم من نظرائهم وأحدث منهم مثل عقبة بن عامر الجهني وزيد بن خالد الجهني وعمران بن الحصين والنعمان بن بشير ومعاوية بن أبي سفيان وسهل بن سعد الساعدي وعبد الله بن يزيد الخطمي ومسلمة بن مخلد الزرقي وربيعة بن كعب الأسلمي وهند وأسماء ابني جارية الأسلميين وكانا يخدمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلازمانه فكان أكثر الرواية والعلم في هؤلاء ونظرائهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم بقوا وطالت أعمارهم واحتاج الناس إليهم ومضى كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله وبعده بعلمه لم يؤثر عنه بشيء ولم يحتج إليه لكثرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.."انتهى..(11/349)
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في ((إعلام الموقعين)) : "إن ما انفردوا به من العلم عنا أكثر من أن يحاط به فلم يرو كل منهم كل ما سمع. وأين ما سمعه الصديق والفاروق وغيرهما من كبار الصحابة رضي الله عنهم إلى ما رووه فلم يرو عن صديق الأمة مائة حديث وهو لم يغب عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من مشاهده بل صحبه من حين بعث إلى أن توفيَ وكان أعلم الأمة به صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله وهديه وسيرته.. وكذلك أجلة الصحابة روايتهم قليلة جدا بالنسبة إلى ما سمعوه من نبيهم وشاهدوه. ولو رووا كل ما سمعوه وشاهدوه لزاد على رواية أبي هريرة أضعافا مضاعفة فإنه إنما صحبه نحو أربع سنين وقد روى عنه الكثير - إلى أن قال - إنهم كانوا يهابون الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعظمونها ويقللونها خوف الزيادة والنقص ويحدثون بالشيء الذي سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم مرارا ولا يصرحون بالسماع ولا يقولون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم". انتهى.
وأما زعم أبي تراب أن ابن عمر رضي الله عنهما كان أعلم من أبيه لأنه حفظ ألفي حديث وستمائة وثلاثين وأن أبا هريرة غلب الجميع فله خمسة آلاف حديث وثلاثمائة وأربعة أحاديث فجوابه أن يقال: لا شك أن ابن عمر رضي الله عنهما كان من علماء الصحابة وحفاظهم ولكنه مع ذلك لا يماثل أباه في العلم فضلا عن أن يكون أعلم منه. وكذلك أبو هريرة رضي الله عنه فإنه وإن كان من علماء الصحابة وحفاظهم فليس أعلم من ابن عمر رضي الله عنهما فضلا عن أن يكون أعلم من عمر رضي الله عنه.
وقد تقدم من الأحاديث الدالة على غزارة علم عمر رضي الله عنه ما يكفي في الرد على أبي تراب. وكذلك ما تقدم عن ابن مسعود وحذيفة وسعيد بن المسيب وعمرو بن ميمون وإبراهيم النخعي أنهم وصفوا عمر رضي الله عنه بغزارة العلم ففيه أبلغ رد على أبي تراب.(11/350)
وقد روى الدارمي في سننه عن عبد الله بن أبي يزيد قال: "كان ابن عباس رضي الله عنهما إذا سئل عن الأمر فكان في القرآن أخبر به وإن لم يكن في القرآن وكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر به فإن لم يكن فعن أبي بكر وعمر فإن لم يكن قال فيه برأيه".
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في ((منهاج السنة)) : "وسعيد بن المسيب كان من أعلم التابعين باتفاق المسلمين وكان عمدة فقهه قضايا عمر وكان ابن عمر يسأله عنها"انتهى.
فهذا حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كان يفتي بقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فيما لم يجده في الكتاب ولا في السنة. وفي هذا أوضح دليل على أنه لم يكن في الصحابة رضي الله عنهم من يماثل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في العلم فضلا عن أن يكون فيهم من هو أعلم منهما. ولو كان الأمر على ما زعمه أبو تراب من أن أبا هريرة رضي الله عنه غلب الصحابة كلهم بعلمه وأن عليا ومعاذا وابن مسعود كانوا أفقه من عمر وأن ابن عمر كان أعلم من أبيه لكان ابن عباس رضي الله عنهما يأخذ بأقوال هؤلاء ويدع قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وفيما ذكره شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى عن سعيد بن المسيب الذي اتفق المسلمون على أنه من أعلم التابعين أن عمدة فقهه قضايا عمر وأن ابن عمر رضي الله عنهما كان يسأله عنها أبلغ رد على أبي تراب فيما زعمه من تفضيل ابن عمر رضي الله عنهما على أبيه في العلم.(11/351)
وظاهر كلام أبي تراب أن العلم ملازم للرواية والحفظ فمن كثرت روايته وحفظه للأحاديث مثل أبي هريرة رضي الله عنه فهو أعلم ممن قلت روايته وحفظه. وهذا خطأ ظاهر فليس العلم ملازما للرواية والحفظ وإنما العلم بالفهم لنصوص الكتاب والسنة واستخراج الأحكام منها وإن كان الموصوف بذلك قليل الرواية. قال ابن وهب عن مالك: "إن العلم ليس بكثرة الرواية وإنما العلم نور يجعله الله في القلب" انتهى..
وقد كانت مرتبة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في فهم النصوص واستخراج الأحكام منها فوق مراتب سائر الأمة فهما أعلم الأمة على الإطلاق وقد تقدم بيان ذلك بالأدلة. وأبو هريرة رضي الله عنه وإن كان من علماء الصحابة وأكثرهم رواية وحفظا للأحاديث فلا يقاس بعثمان وعلي ومعاذ وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم في العلم فضلا عن أن يقاس بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما..
وقد قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه ((الوابل الصيب)) : "وأين تقع فتاوى ابن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوى أبي هريرة وتفسيره. وأبو هريرة أحفظ منه بل هو حافظ الأمة على الإطلاق يؤدي الحديث كما سمعه ويدرسه بالليل درسا فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه كما سمعه. وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه والاستنباط وتفجير النصوص وشق الأنهار منها واستخراج كنوزها"انتهى..
وأما قول أبي تراب إن أبا هريرة رضي الله عنه غلب الجميع أي غلب أبا بكر وعمر وابن عمر رضي الله عنهم بالعلم مع قوله فيما تقدم إن أبا هريرة رضي الله عنه غلب الصحابة كلهم بعلمه..
فجوابه أن يقال: هذا خطأ ظاهر وخصوصا تفضيل أبي هريرة رضي الله عنه بالعلم على الخلفاء الراشدين فإن هذا ليس بالأمر الهين. وكذلك تفضيل علي ومعاذ وابن مسعود وابن عمر على عمر بالعلم والفقه فكل هذا خطأ ظاهر وليس بالأمر الهين.(11/352)
وقد قال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة: "حدثني أبي حدثنا هشيم حدثنا حصين عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "ألا إن خير هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر فمن قال سوى هذا بعد مقامي هذا فهو مفتر، عليه ما على المفتري" إسناده صحيح على شرط الشيخين. ثم قال عبد الله: "حدثني أبي حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن حصين عن ابن أبي ليلى قال: "تدارؤوا في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما"فقال رجل من عطارد: "عمر أفضل من أبي بكر"فقال الجارود: "بل أبو بكر أفضل منه"فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فقال: "فجعل ضربا بالدرة حتى شغر ثم أقبل إلى الجارود فقال: "إليك عني"ثم قال عمر رضي الله عنه: "أبو بكر كان خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في كذا وكذا"ثم قال عمر: "من قال غير هذا أقمنا عليه ما نقيم على المفتري"إسناده صحيح على شرط الشيخين.
قوله حتى شغر معناه اتسع في الضرب وأكثر منه.
وقد اختلف في سماع عبد الرحمن بن أبي ليلى من عمر رضي الله عنه فقال يحي بن معين وأبو حاتم والنسائي: "إنه لم يسمع منه". وقال مسلم في مقدمة صحيحه: "إنه قد حفظ عن عمر" قال ابن كثير: "وهو الصواب إن شاء الله"..(11/353)
قلت وفي مسند الإمام أحمد ما يدل على سماعه من عمر رضي الله عنه ففيه بإسناد حسن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "كنت مع عمر رضي الله عنه فأتاه رجل فقال: "إني رأيت الهلال.."الحديث.. وفيه أيضا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر رضي الله عنه قال: "صلاة المسافر ركعتان"الحديث وفي آخره وقال يزيد - يعني ابن هارون - ابن أبي ليلى قال سمعت عمر. وقد روى البخاري في التاريخ الصغير عن ابن أبي ليلى قال: "ولدت لست سنين بقين من خلافة عمر.."وكذا ذكر الخطيب البغدادي في تاريخه أنه ولد لست بقين من خلافة عمر رضي الله عنه. ومثل هذا السن يعقل فيه الذكي كثيرا مما يراه ويسمعه. بل بعض الأذكياء يحفظ كثيرا من الأشياء لأقل من هذا السن. وعلى هذا فظاهر حديثي ابن أبي ليلى عن عمر رضي الله عنه الاتصال. ولم يصنع شيئا من نفي سماعه منه من أجل صغره والله أعلم.
وروى عبد الله بن الإمام أحمد أيضا في كتاب السنة عن علي رضي الله عنه أنه قال: "لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري".
وروى عبد الله أيضا في كتاب السنة عن علي رضي الله عنه أنه قال على المنبر: "ألا إنه بلغني أن قوما يفضلوني على أبي بكر وعمر ولو كنت تقدمت في ذلك لعاقبت فيه ولكن أكره العقوبة قبل التقدم من قال شيئا من ذلك فهو مفتر، عليه ما على المفتري".
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: "روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري" فمن فضله على أبي بكر وعمر جلد بمقتضى قوله رضي الله عنه ثمانين سوطا.." انتهى.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى أيضا: "ورأس الفضائل العلم وكل من كان أفضل من غيره من الأنبياء والصحابة وغيرهم فإنه أعلم منه قال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} والدلائل على ذلك كثيرة وكلام العلماء في ذلك كثير.."انتهى.(11/354)
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في إعلام الموقعين: "ومعلوم أن فضيلة العلم ومعرفة الصواب أكمل الفضائل أشرفها". انتهى.
وإذا علم هذا فلا يخفى ما في هذا المقال السيئ من الفرى التي يستحق قائلها أن يجلد على كل واحدة منها حد الفرية ثمانين سوطا.
الأولى: تفضيل أُمهات المؤمنين على عمر رضي الله عنه.
الثانية: تفضيل أبي هريرة رضي الله عنه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بالعلم.
الثالثة: زعمه أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ماتا ولم يحفظا القرآن كله. وهذا يقتضي تفضيل عدد كثير من الصحابة عليهما.
الرابعة: تفضيل علي ومعاذ وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم على عمر رضي الله عنه بالعلم والفقه.
الخامسة: تفضيل مرتبة البخاري في العلم على مرتبة أبي بكر وعمر وسائر الصحابة رضي الله عنهم..
وأما قول أبي تراب فهل نقول أن أبا هريرة كان أفضل من أبي بكر كلا.
فجوابه أن يقال: من زعم أن أبا هريرة رضي الله عنه غلب الصحابة كلهم بعلمه لزمه أن يقول إنه أفضل منهم كلهم لأن العلم رأس الفضائل وأكملها وأشرفها كما قرره شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى في كلامهما الذي تقدم ذكره قريبا. قال شيخ الإسلام أبو العباس: "وكل من كان أفضل من غيره من الأنبياء والصحابة فإنه أعلم منه قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} والدلائل على ذلك كثيرة وكلام العلماء في ذلك كثير". انتهى.
وإذا علم هذا فمن قال إن أبا هريرة أعلم من الصحابة كلهم وبعضهم أفضل منه فقوله متناقض كما لا يخفى.(11/355)
وقد ذكرت من الأدلة الكثيرة على غزارة علم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وتفوقهما على جميع الصحابة بالفضائل ما فيه كفاية في الرد على أبي تراب فليراجع. وليراجع أبيضا ما تقدم عن شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه قال: "إن ابن عباس رضي الله عنهما كان أكثر فتيا من علي رضي الله عنه وأن أبا هريرة رضي الله عنه كان أكثر رواية منه. وعلي رضي الله عنه أعلم منهما كما أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أعلم منهما أيضا". انتهى.
وأما قول أبي تراب إن الفضل غير العلم والفقه.. فجوابه أن يقال: إن العلم راس الفضائل وأكملها وأشرفها كما قرره شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى.. قال شيخ الإسلام أبو العباس: "وكل من كان أفضل من غيره من الأنبياء والصحابة وغيرهم فإنه أعلم منه". انتهى..
وقد قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الناس معادن فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر" والآيات والأحاديث في فضل العلم كثيرة جدا وليس هذا موضع ذكرها وإنما المقصود ههنا التنبيه على خطأ أبي تراب حيث فرق بين الفضل وبين العلم الذي هو رأس الفضائل وأكلها وأشرفها.(11/356)
وقد ذكر الحافظ أبو الحجاج المزي في تهذيب الكمال عن الوليد الموقري عن الزهري قال: "قدمت على عبد الملك بن مروان فقال: "من أين قدمت يا زهري"قال: "قلت من مكة"قال: "ومن خلفت يسودها وأهلها"قلت: "عطاء بن أبي رباح" قال: "فمن العرب أم من الموالي؟ "قلت: "من الموالي".. قال: "فبم سادهم؟ "قال: "قلت بالديانة والرواية".. قال: "إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا". قال: "فمن يسود أهل اليمن؟ "قلت: "طاووس بن كيسان".. قال: "فمن العرب أم من الموالي؟ "قال: "قلت: من الموالي".. قال: "فبم سادهم؟ "قلت: "بما ساد به عطاء".. قال: "إنه لينبغي ذلك".. قال: "فمن يسود أهل مصر؟ "قلت: "يزيد بن أبي حبيب"قال: "فمن العرب أن من الموالي؟ "قال: "قلت: من الموالي".. قال: "فمن يسود أهل الشام؟ "قلت: "مكحول".. قال: "فمن العرب أم من الموالي؟ " قال: "قلت: من الموالي عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل".. قال: "فمن يسود أهل الجزيرة؟ "قلت: "ميمون بن مهران".. قال: "فمن العرب أم من الموالي؟ "قال: "قلت: من الموالي".. قال: "فمن يسود أهل خراسان"قال: "قلت: الضحاك بن مزاحم"قال: "فمن العرب أم من الموالي؟ "قال: "قلت: من الموالي.."قال: "فمن يسود أهل البصرة؟ "قال: "قلت: الحسن البصري"قال: "من العرب أم من الموالي؟ "قال::قلت من الموالي".. قال: "ويلك ومن يسود أهل الكوفة؟! "قال: "قلت: إبراهيم النخعي" قال: "فمن العرب أم من الموالي".. قال: "قلت من العرب".. قال: "ويلك يا زهري فرجت عني والله لتسودن الموالي على العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها"قال: "قلت يا أمير المؤمنين إنما هو دين من حفظه ساد ومن ضيعه سقط".(11/357)
ويستفاد من هذه القصة أن العلم رأس الفضائل وأكملها وأشرفها وإن من جمع بين العلم والديانة نال الفضل والشرف والمنزلة العالية والسيادة وإن كان لا نسب له ولا حسب كما حصل لألئك الموالي الذين ذكر الزهري أنهم سادوا أهل الأمصار بالعلم والديانة وكما حصل لغيرهم قديما وحديثا.
الموضع الرابع: زعم أبو تراب أن مرتبة البخاري في العلم تفوق مراتب الصحابة فيه لأنه اجتمع له حديثهم وفقههم أجمع ولكنه لا يفوقهم ولا يدانيهم البتة في الفضل والشرف والمنزلة والكرامة.
والجواب أن يقال: هذا من عجر أبي تراب وبجره ولم أر أحدا سبقه إلى هذا القول الباطل. ولا يخفى ما فيه من الجرأة على الصحابة والغض من قدرهم. وقد تقدم حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "شرار أمتي أجرؤهم على صحابتي" رواه أبو نعيم في الحلية.
ويكفي في رد هذا القول السيئ ما تقدم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "من كان مستنا فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة.. أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا.. قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم والله رب الكعبة"رواه أبو نعيم في الحلية. وروى رزين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نحوه.
وروى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود أيضا رضي الله عنه أنه قال: "إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رأوا سيئا فهو عند الله سيئ "ورواه البزار والطبراني في الكبير قال الهيثمي ورجاله موثقون.(11/358)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في ((إعلام الموقعين)) في الثناء على الصحابة رضي الله عنهم: "إنهم سادات الأمة وقدوة الأئمة وأعلم الناس بكتاب ربهم تعالى وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وقد شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل ونسبة من بعدهم في العلم إليهم كنسبتهم إليهم في الفضل والدين - إلى أن قال - إن ما انفردوا به من العلم عنا أكثر من أن يحاط به - إلى أن قال - فلا ريب أنهم كانوا أبر قلوبا وأعمق علما وأقل تكلفا وأقرب إلى أن يوفقوا لما لم نوفق له نحن لما خصهم الله به من توقد الأذهان وفصاحة اللسان وسعة العلم وسهولة الأخذ وحسن الإدراك وسرعته وقلة المعارض أو عدمه وحسن القصد وتقوى الرب تعالى. فالعربية طبيعتهم وسليقتهم والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم ولا حاجة بهم إلى النظر في الإسناد وأحوال الرواة وعلل الحديث والجرح والتعديل ولا إلى النظر في قواعد الأصول وأوضاع الأصوليين بل قد استغنوا عن ذلك كله فليس في حقهم إلا أمران. قال الله كذا وكذا. وهم أسعد الناس بهاتين المقدمتين وأحظى الأمة بهما فقواهم متوفرة مجتمعة عليهما - إلى أن قال-: والمقصود أن الصحابة رضي الله عنهم اجتمعت قواهم على تينك المقدمتين فقط. هذا إلى ما خصوا به من قوى إدراكها وكماله وكثرة المعاون وقلة الصارف وقرب العهد بنور النبوة والتلقي من تلك المشكاة النبوية. فإذا كان هذا حالهم فيما تميزوا به علينا فكيف نكون أو شيوخنا أو شيوخهم أو من قلدناه أسعد بالصواب منهم في مسألة من المسائل. ومن حدث نفسه بهذا فليعزلها من الدين والعلم - إلى أن قال - وكيف يطيب قلب عالم يقدم على أقوال من وافق ربه تعالى في غير حكم فقال وأفتى بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن بموافقة ما قال لفظا ومعنى قول متأخر بعده ليس له هذه الرتبة ولا يدانيها. وكيف يظن أحد أن الظن المستفاد من فتاوى السابقين الأولين الذين شاهدوا الوحي والتنزيل وعرفوا التأويل(11/359)
وكان الوحي ينزل خلال بيوتهم وينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرهم فمستندهم في معرفة مراد الرب تعالى من كلامه ما يشاهدونه من فعل رسوله صلى الله عليه وسلم وهديه الذي هو يفصل القرآن ويفسره فكيف يكون أحد من الأمة بعدهم أولى بالصواب منهم في شيء من الأشياء.. هذا عين المحال".
وقال ابن القيم أيضا في ((إعلام الموقعين)) : "والمقصود أن أحدا ممن بعدهم - أي بعد الصحابة - لا يساويهم وقد كان أحدهم يرى الرأي فينزل القرآن بموافقته - ثم ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أمثلة من ذلك إلى أن قال - وحقيق بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم لنا خيرا من رأينا لأنفسنا. وكيف لا وهو الرأي الصادر من قلوب ممتلئة نورا وإيمانا وحمة وعلما ومعرفة وفهما عن الله ورسوله ونصيحة للأمة وقلوبهم على قلب نبيهم ولا وساطة بينهم وبينه وهم ينقلون العلم والإيمان من مشكاة النبوة غضا طريا لم يشبه إشكال ولم يشبه خلاف ولم تدنسه معارضة فقياس رأي غيرهم بآرائهم من أفسد القياس".
وقال ابن القيم أيضا في ((إعلام الموقعين)) : "فتاوى الصحابة أولى أن يؤخذ بها من فتاوى التابعين وفتاوى التابعين أولى من فتاوى تابعي التابعين وهلم جرا. وكلما كان العهد بالرسول أقرب كان الصواب أغلب - إلى أن قال - فإن التفاوت بين علوم المتقدمين والمتأخرين كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والدين".(11/360)
وقال ابن القيم أيضا في ((إعلام الموقعين)) : "وأي وصمة أعظم من أن يكون الصديق أو الفاروق أو عثمان أو علي أو ابن مسعود أو سلمان الفارسي أو عبادة بن الصامت وأحزابهم رضي الله عنهم قد أخبر عن حكم الله أنه كيت وكيت في مسائل كثيرة وأخطأ في ذلك ولم يشتمل قرنهم على ناطق بالصواب في تلك المسائل حتى نبغ من بعدهم فعرفوا حكم الله الذي جهله أولئك السادة وأصابوا الحق الذي أخطأه أولئك الأئمة.. سبحانك هذا بهتان عظيم.."انتهى.. المقصود من كلامه رحمه الله تعالى.
وإذا علم هذا فنقول أي إزراء بالصحابة وأي وصمة عليهم أعظم من أن يقال إن مرتبة البخاري في العلم تفوق مراتب الصحابة فيه. سبحانك هذا بهتان عظيم.
وقد تقدم عن عمر رضي الله عنه أنه أنكر على من فضله على أبي بكر رضي الله عنه وضربه ضربا شديدا وقال: "خير هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر فمن قال سوى هذا فهو مفتر عليه ما على المفتري". وتقدم عن علي رضي الله عنه أنه قال: "لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري".
وإذا كان الذي يفضل عمر على أبي بكر أو يفضل عليا على أبي بكر وعمر رضي الله عنهم يعد مفتريا ويجلد حد المفتري ثمانين سوطا فكيف بمن فضل البخاري على أبي بكر وعمر عثمان وعلي وسائر الصحابة في العلم الذي هو رأس الفضائل وأكملها وأشرفها فهذا أولى أن يوصف بالافتراء وإن يعامل معاملة المفتري.
ويقال أيضا: إن الصحابة رضي الله عنهم هم الذين حفظوا القرآن والسنة وبلغوهما إلى الناس فكل الناس بعدهم أتباعهم لهم وعيال عليهم في علم الكتاب والسنة. وقد كان للصحابة رضي الله عنهم من البصيرة النافذة في علم الكتاب والسنة ما ليس لمن بعدهم.(11/361)
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في ((مدارج السالكين)) في الكلام على قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} قال: "يريد أن تصل باستدلالك إلى أعلى درجات العلم وهي البصيرة التي تكون نسبة المعلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر وهذه الخصيصة التي اختص بها الصحابة على سائر الأمة وهي أعلى درجات العلماء". انتهى.
وإذا علم هذا فمن زعم أن مراتب غير الصحابة في العلم تفوق مراتب الصحابة فقد تنقصهم وغض من قدرهم وقابلهم بغير ما يستحقونه من الإجلال والاحترام ولا شك أن هذا من الأذية لهم وأذيتهم ليست بالأمر الهين. وقد تقدم حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله. . الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه" رواه الترمذي. وتقدم أيضا قول محمد بن سيرين: "ما أظن رجلا ينتقص أبا بكر وعمر يحب النبي صلى الله عليه وسلم"رواه الترمذي وقال هذا حديث غريب حسن [1] .
وأما قول أبي تراب: "إن البخاري اجتمع له حديث الصحابة وفقههم أجمع"
فجوابه أن يقال: هذه مجازفة يكذبها الواقع وبيان ذلك من وجوه. أحدها: أن يقال من المستحيل أن تجتمع أحاديث الصحابة وفقههم لرجل واحد ولو بلغ في العلم والفقه ما بلغ، وهذه كتب الحديث والآثار موجودة وليس فيها شيء قد جمع الأحاديث والآثار كلها. ومن أكبر كتب الحديث وأوسعها مسند الإمام أحمد ومع هذا لم تجتمع فيه أحاديث الصحابة كلها ولا الآثار المروية عنهم بل في غيره من كتب الصحاح والسنن والمسانيد ما ليس فيه. وفي كل منها ما ليس في الآخر. وفي هذا أكبر شاهد على بطلان ما زعمه أبو تراب.(11/362)
الوجه الثاني: أن كثيرا من كبار الصحابة الذين طالت صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يلزمونه حضرا وسفرا قد مات كثير منهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بمدة يسيرة فلم يؤخذ عنهم الكثير مما عندهم من الفقه ولم يرو عنهم الكثير مما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم وما شاهدوه من أفعاله وهديه وسيرته. وقد تقدم ما ذكره ابن سعد عن محمد بن عمر الأسلمي أنه قال: "إنما قلَّت الرواية عن الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم هلكوا قبل أن يحتاج إليهم - إلى أن قال -ومضى كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله وبعده بعلمه لم يؤثر عنه بشيء ولم يحتج إليه لكثرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم". وتقدم أيضا قول ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن ما انفرد به الصحابة من العلم عنا أكثر من أن يحاط به فلم يرو كل منهم كل ما سمع - إلى أن قال - وكذلك أجلة الصحابة روايتهم قليلة جدا بالنسبة إلى ما سمعوه من نبيهم وشاهدوه. ولو رووا كل ما سمعوه وشاهدوه لزاد على رواية أبي هريرة أضعافا مضاعفة". انتهى.
وفي هذا أبلغ رد على مجازفة أبي تراب حيث زعم أن البخاري قد اجتمع له حديث الصحابة وفقههم أجمع.
الوجه الثالث: أن في صحيح البخاري وغيره من كتبه أعظم رد على أبي تراب وأكبر شاهد على بطلان ما زعمه عن البخاري أنه اجتمع له حديث الصحابة وفقههم أجمع. فالذي في كتب البخاري من أحاديث الصحابة وفقههم لا يبلغ عشر ما روي عنهم من الأحاديث والآثار ولا نصف العشر. وقد جاء في كتب الصحاح والسنن والمسانيد والمستخرجات والمعاجم من الأحاديث الصحيحة والحسنة التي لم يخرجها البخاري أكثر مما في صحيح البخاري. وجاء فيها من الآثار عن الصحابة أكثر مما جاء في كتب البخاري فكيف يقال والحالة هذه: إن البخاري اجتمع له حديث الصحابة وفقههم أجمع. هذا كلام لا يقوله من له أدنى مسكة من عقل.(11/363)
الوجه الرابع: أن يقال: إن في شيوخ البخاري ومن قبلهم من أكابر العلماء من هم أكثر جمعا لأحاديث الصحابة وفقههم من البخاري ولا سيما الإمام أحمد فقد جمع من الأحاديث وآثار الصحابة أكثر مما جمع البخاري بكثير ومع هذا لا يجوز أن يقال فيه ولا في غيره من علماء التابعين ومن بعدهم من أكابر العلماء: إن مراتبهم في العلم تفوق مراتب الصحابة. بل الصحابة أعلى مراتب في العلم وفي سائر الفضائل من جميع الذين جاءوا من بعدهم.
الوجه الخامس: إن البخاري رحمه الله تعالى قال: "ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني". وإذا كان البخاري قد استصغر نفسه عند علي بن المديني الذي لا تقاس مرتبته في العلم بأدنى مراتب علماء الصحابة فكيف يقال إن مرتبة البخاري في العلم تفوق مراتب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة.. هذا كلام لا يقوله عاقل ولا يرضى به مؤمن. ولو قيل هذا القول السيئ في حياة البخاري لكان حريا أن يجاهد قائله بكل ما يقدر عليه.
وأما قوله: ولكنه لا يفوقهم ولا يدانيهم البتة في الفضل والشرف والمنزلة والكرامة.
فجوابه أن يقال: إذا كان البخاري رحمه الله تعالى لا يداني الصحابة رضي الله عنهم في هذه الأمور فبطريق الأولى أن يقال: إن مراتبهم في العلم تفوق مرتبته ومراتب غيره من التابعين وتابعيهم ومن جاء بعد ذلك من كبار العلماء. وقد تقدم قول شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى أن العلم رأس الفضائل.. وكل من كان أفضل من غيره من الأنبياء والصحابة وغيرهم فإنه أعلم منه. وتقدم أيضا قول ابن القيم رحمه الله تعالى أن فضيلة العلم ومعرفة الصواب أكمل الفضائل وأشرفها.(11/364)
ويقال أيضا لأبي تراب: هل تقول إن العلم شرف وفضيلة ومنزلة عالية وكرامة في حق من يعمل بعلمه أم لا؟ فإن قال إنه شرف وفضيلة ومنزلة عالية وكرامة لزمه أحد أمرين إما أن يقول: إن البخاري قد فاق جميع الصحابة في الفضل والشرف والمنزلة والكرامة.
وإما أن يرجع عما زعمه من رفع مرتبة البخاري في العلم على مراتب الصحابة ويعترف أن مراتب الصحابة في العلم تفوق مراتب العلماء بعدهم وأنهم لا يقاس بهم أحد ممن كان بعدهم كائنا من كان..
وإن قال: إن العلم ليس بشرف ولا فضيلة ولا منزلة عالية ولا كرامة كما هو ظاهر كلامه ههنا وفي قوله أيضا: وليس لإنسان أن يقرن الفضل بالعلم وقوله أيضا إن الفضيلة شيء والعلم شيء آخر.
قيل هذا كلام لا يقوله إلا من رفع عنه التكليف فلا يعول عليه ...
الموضع الخامس: زعم أبو تراب أن الفقهاء يخالفون مذاهب الصحابة في مئات المسائل. وزعم أيضا أن الفقهاء خالفوا الصحابة في المسائل الاجتهادية التي يخالف فيها الصحابة بعضهم بعضا زعم أيضا أن أبا حنيفة قال: "هم رجال ونحن رجال".
والجواب أن يقال: ظاهر كلام أبي تراب في عبارته الأولى أن الفقهاء يخالفون مذاهب الصحابة حتى في المسائل التي أجمع عليها الصحابة رضي الله عنهم وهذا خطأ ظاهر فإن الفقهاء لم يخالفوا ما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم. ولو قدر أن أحدا من الفقهاء خالف إجماع الصحابة فخلافه مردود عليه لأن إجماع الصحابة حجة قاطعة.
وكذلك قول الصحابي إذا لم يخالفه غيره من الصحابة فإنه حجة يجب المصير إليه قاله الشافعي وغيره من أكابر العلماء..(11/365)
ولا أعلم أحدا خالف إجماع الصحابة سوى أبي تراب فإن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على تفضيل أبي بكر ثم عمر رضي الله عنهما على سائر الأمة ولم يستثنوا في التفضيل أحدا من الصحابة لا أُمهات المؤمنين ولا غيرهم ولو يستثنوا في التفضيل شيئا من خصال الفضل لا العلم ولا غيره ولم يخالف هذا الإجماع أحد من التابعين ولا من بعدهم من العلماء حتى جاء أبو تراب في آخر القرن الرابع عشر من الهجرة فشذ عن أهل العلم وخالف إجماع الصحابة حيث فضل أمهات المؤمنين على عمر رضي الله عنه وفضل كثيرا من الصحابة على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في حفظ القرآن وفي العلم والفقه. ولم يكتف بذلك بل فضل البخاري في العلم على سائر الصحابة وقد قال الشاعر:
خلافا لقولي من فيالة رأيه.
كما قيل قبل اليوم خالف لتذكرا.
وهذا البيت مطابق لحال أبي تراب غاية المطابقة.
وأما المسائل الاجتهادية التي اختلفت فيها أقوال الصحابة رضي الله عنهم واختلفت فيها الفقهاء بعدهم بحسب اختلافهم فهذه لا يقال فيها إن الفقهاء قد خالفوا الصحابة كما عبر به أبو تراب لأن ظاهر عبارته يقتضي أن الفقهاء قد خالفوا الصحابة كلهم في المسائل الاجتهادية. وهذا خطأ فإن الفقهاء لم يخالفوا جميع أقوال الصحابة في المسائل الاجتهادية وإنما كانوا يأخذون بأقوال الصحابة أو ببعضها ويختلفون بحسب اختلاف الصحابة وإذا ظهر لهم الدليل من الكتاب أو السنة أخذوا به وتركوا ما سواه من الأقوال. هذا هو المعروف عن المحققين من العلماء وليس في فعلهم نقص على الصحابة ولا غض من قدرهم.(11/366)
قال الشافعي رحمه الله تعالى في رسالته البغدادية التي رواها عنه الحسن بن محمد الزعفراني - وهذا لفظه -: "وقد أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن والتوراة والإنجيل وسبق لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل ما ليس لأحد بعدهم فرحمهم الله وهنأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصديقين والشهداء والصالحين. أدوا إلينا سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاهدوه والوحي ينزل عليه فعلموا ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم عاما وخاصا وعزما ورشادا. وعرفوا من سننه ما عرفنا وجهلنا. وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم واستنبط به وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا. ومن أدركنا ممن يرضى أو حكى لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا أو قول بعضهم إن تفرقوا. وهكذا نقول ولم نخرج عن أقاويلهم. وإن قال أحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله". انتهى.
وقد نقله عنه ابن القيم رحمه الله تعالى في ((إعلام الموقعين)) قال: "وقد صرح الشافعي في الجديد من رواية الربيع عنه بأن قول الصحابي حجة يجب المصير إليه فقال المحدثات من الأمور ضربان أحدهما ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو إجماعا أو أثرا فهذه البدعة الضلالة". قال ابن القيم: "والربيع إنما أخذ عنه بمصر وقد جعل مخالفة الأثر الذي ليس بكتاب ولا سنة ولا إجماع ضلالة وهذا فوق كونه حجة".
وقال ابن القيم أيضا في ((إعلام الموقعين)) : "وقال الشافعي في رواية الربيع عنه والبدعة ما خالف كتابا أو سنة أو أثرا عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم". قال ابن القيم: "فجعل ما خالف قول الصحابي بدعة". انتهى.(11/367)
وأما قوله: "إن أبا حنيفة قال هم رجال ونحن رجال.." فجوابه أن يقال: لم يقل أبو حنيفة هذا القول في حق الصحابة كما توهمه أبو تراب وإنما قاله في حق التابعين. قال الحافظ الذهبي في مناقب أبي حنيفة: "قال نعيم بن حماد: "سمعت أبا عصمة وهو نوح الجامع قال: "سمعت أبا حنيفة يقول: "ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين وما جاء عن الصحابة اخترنا وما كان من غير ذلك فهم رجال ونحن رجال".
وذكر ابن عبد البر في الانتقاء عن إبراهيم بن هانئ النيسابوري قال: "قيل لنعيم بن حماد ما أشد إزراءهم على أبي حنيفة فقال: إن ينقم على أبي حنيفة ما حدثنا عنه أبو عصمة قال: سمعت أبا حنيفة يقول: "ما جاءنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلناه على الرأس والعينين وما جاءنا عن أصحابه اخترنا منه ولم نخرج عن قولهم وما جاءنا عن التابعين فهم رجال ونحن رجال".
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في ((إعلام الموقعين)) : "وقال نعيم بن حماد حدثنا ابن المبارك قال سمعت أبا حنيفة يقول: "إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين وإذا جاء عن الصحابة نختار من قولهم وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم". انتهى.
ومراد أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يقلد أحدا من التابعين وإنما يأخذ بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ويختار من أقوال الصحابة ولا يخرج عنها وإذا لم يجد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه اجتهد رأيه ولم يأخذ بآراء التابعين.
وهذا آخر ما تيسر إيراده والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
حرر في 26-3-1395هـ.
--------------------------------------------------------------------------------(11/368)
[1] قول ابن سيرين هذا من الكلام المأثور وليس بحديث. ولعل عبارة (رواه الترمذي..) أقحمت بعده سهوا. (المجلة)(11/369)
العدد 32
فهرس المحتويات
1- تأييد وشكر لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز: رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
2- أضواء من التفسير: لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
3- تتعين كتابة المصحف على الرسم العثماني: لفضيلة الشيخ عبد الفتاح القاضي
4- حقوق الحيوان والرفق به في الشريعة الإسلامية: لفضيلة الشيخ أحمد عبيد الكبيسي
5- مهمة المسجد في بناء المجتمع الإسلامي: لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
6- رسائل لم يحملها البريد: لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
7- البيان البلاغي عند العرب معناه وأطواره: الدكتور عبد الحميد العبيسي
8- حديث عن التفرقة والتمييز في الماضي والحاضر: الشيخ عبد الفتاح العشماوي
9- توحيد الله - الحكمة في خلق الجن والإنس: لفضيلة الشيخ عبد الله أحمد قادري
10- تفاعل المسلمين مع دينهم يرجع إلى الجانب الروحي فيهم: بقلم الدكتور محفوظ إبراهيم فرج
11- الإسلام دين الأخوة والوحدة: فضيلة الشيخ محمد عبد المقصود
12- صراع مع الملاحدة حتى العظم: لفضيلة الشيخ محمد شريف الزيبق
13- القاعدة الصلبة من المهاجرين والأنصار: لفضيلة الشيخ زهير الخالد
14- نقض القانون المدني: لفضيلة الشيخ إبراهيم جعفر السقا
15- من الصحف والمجلات: إعداد العلاقات العامة
16- جراح الإسلام: شعر: محمد المجذوب
17- من الأدب الإسلامي إليك أيها الداعية: بقلم فضيلة الشيخ إبراهيم محمد سرسيق
18- ندوة الطلبة - الجِّد: للطالب أحمد حسن المعلم
19- أخبار الجامعة
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(11/370)
تأييد وشكر لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: فقد اطلعت على ما كتبه أخونا العلامة الشيخ أحمد محمد جمال في مقالاته الأسبوعية المنشورة في صحيفة المدينة الصادرة بتاريخ 11/ 11/ 95هـ و 18/ 11/ 1395هـ و 25/ 11/ 95 المتضمنة استنكار ما اقترحه بعض الكتاب من إيجاد دور سينمائية في البلاد تحت المراقبة، وما وقع من بعض الشركات وغيرها من توظيف النساء في المجالات الرجالية من سكرتيرات وغيرهن والإعلان في بعض الصحف لطلب ذلك. وإني لأشكر لأخينا العلامة أحمد محمد جمال هذه الغيرة الإسلامية والحرص على سلامة هذه البلاد مما يشينها ويفسد مجتمعها ويعرضها لما أصاب غيرها من التحلل والفساد وانحراف الأخلاق واختلال الأمن وظهور الرذيلة واختفاء الفضيلة، فجزاه الله خيرا وضاعف مثوبته، وإني أؤيده كل التأييد فيما دعا إليه من سد الذرائع المفضية إلى الفساد والقضاء على جميع وسائل الشر في مهدها حماية لديننا وصوناً لمجتمعاتنا وتنفيذاً لأحكام شرعنا الذي جاء بتحصيل المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها، ودعا إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال وبالغ في التحذير من سفاسف الأخلاق وسيئ الأعمال، وإن هذه البلاد كما قال أخونا الأستاذ أحمد هي قبلة المسلمين وأستاذهم وقدوتهم، فيجب على حكامها وجميع المسئولين فيها أن يتكاتفوا على جميع ما يصونها ويصون مجتمعاتها من عوامل الفساد وأسباب الانحطاط، وأن يشجعوا فيها الفضيلة ويقضوا على أسباب الرذيلة وأن يحافظوا على جميع أحكام الله في كل الشئون وأن يمنعوا توظيف المرأة في غير محيطها النسوي، وأن يدعوا مجتمعات الرجال للرجال وأن يمنعوا منعاً باتاً كلما يفضي إلى الاختلاط بين الجنسين في التعليم والعمل وغيرهما، ولا(11/371)
فرق في هذا كله بين المرأة السعودية وغيرها وحسبنا في هذا الباب قوله عز وجل {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} الآية وقوله سبحانه {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} الآية، وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} الآية، وقوله عز وجل {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ففي هذه الآيات الكريمات وما جاء في معناها الأمر بالحجاب وغض النظر وإخفاء الزينة سدا لباب الفتنة وتحذيراً مما لا تحمد عقباه، فكيف يمكن تنفيذ هذه الأوامر مع وجود المرأة بين الرجال في المكاتب والمعارض وميادين الأعمال، وحسبنا(11/372)
أيضاً في هذا المعنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء ".. وقوله صلى الله عليه وسلم أيضاً في الحديث الصحيح: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء". فكيف تتقى هذه الفتنة مع توظيف النساء في ميدان الرجال، ويكفينا عظة وعبرة ما وقع في غيرنا من الفساد الكبير والشر العظيم بسبب السماح بعمل الفتيات في ميدان الرجال. (والسعيد من وعظ بغيره) والعاقل الحكيم هو الذي ينظر في العواقب ويحسم وسائل الفساد ويسد الذرائع المفضية إليه، ومما ذكرناه من الأدلة يتضح لذوي البصائر ورواد الفضيلة والغيورين على الإسلام أن الواجب على حكام هذه البلاد والمسئولين فيها وفقهم الله جميعاً أن يمنعوا منعاً باتاً فتح دور السينماء مطلقاً لما يترتب على السماح بذلك من الفساد العظيم والعواقب الوخيمة، والرقابة في مثل هذه الأمور لا يحصل بها المقصود، ومعلوم أن الوقاية مقدمة على العلاج وأن الواجب سد الذرائع وحسم مواد الفساد وفي واقع غيرنا عبرة لنا كما سلف، كما يجب تطهير الإذاعة والتلفاز من جميع ما يخالف الشرع المطهر ويفضي إلى فساد الأخلاق والأسر.. ويتضح أيضاً أن الواجب على المسئولين منع توظيف النساء في غير محيطهن سواء كن سعوديات أو غيرهن، وفي ذوي الكفاية من الرجال ما يغني عن توظيف النساء في ميادين الرجال، وليس هناك ما يدعو إلى توظيفهن في ميدان أعمال الرجال إلا التأسي بما نهينا عن التأسي بهم من أعداء الله عز وجل، أو قصد إفساد هذا المجتمع الذي يجب أن يحافظ عليه وأن يحمى من أسباب الفساد، ويجب على حملة الأقلام من ذوي الغيرة الإسلامية وعلى أعيان الشعب أن يتكاتفوا مع الحكومة والمسئولين في كل ما يحمي بلادهم ومجتمعهم من وسائل الشر والفساد لقول الله عز وجل {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ(11/373)
اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وقوله سبحانه {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وقوله عز وجل {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} والله المسئول أن يوفق حكومتنا وسائر المسئولين فيها لكل ما فيه رضاه وصلاح عباده وأن يصلح أحوال المسلمين جميعاً وأن يمنحهم الفقه في دينه وأن يوفق علماءهم وكتابهم للتمسك بدينه والغيرة له والحفاظ عليه والدعوة إليه على بصيرة وأن يعيذ الجميع من مضلات الفتن ونزغات الشيطان إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(11/374)
تفاعل المسلمين مع دينهم يرجع إلى الجانب الروحي فيهم
بقلم الدكتور: محفوظ إبراهيم فرج
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
إن شريعة الإسلام الخالدة خصها الله تعالى لأفضل نبي وأكرم رسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، حمل تلك الشريعة الخالدة المسلمون السابقون قوية نقية في إطار جميل من المعاملة الطيبة والاحترام الصادق للحقوق والأموال والأعراض، وساعد على ذلك ما أدركوه وفقهوه في الإسلام من أن الدين المعاملة لأنها وجه الدين وظاهره الذي يتجلى أمام الناس.
ولقد أشبعت الشريعة الإسلامية حاجة الناس الشديدة إلى القواعد العادلة المعتدلة للعلاقات الاجتماعية ولجميع المعاملات، فأيقظت بذلك الضمائر وخوفتها من رقابة الله تعالى، وعلقت الامتياز والخيرية بأمر هو في إمكان الناس جميعاً وهو التقوى قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .
تمتع المسلمون السابقون بتعاليم الإسلام عقيدة وسلوكا فبددت العقيدة ما في القلب من ظلمات ومتاهات، وأشعرته بعظمة الله جل جلاله، وبأن الله معه في سره وعلانيته {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} .
وكان سلوك الواحد منهم في حياته الخاصة والعامة انعكاساً لما يقوم به من طاعة وما يؤديه من عبادة مرتفعاً عن الأغراض والأهواء لا تتحكم فيه الغرائز والميول، وإذا ما قدر له أنه استجاب لداعي شهوة أو غريزة ذكر الله فاستغفره كي تظل حياته عامرة بنور الإيمان، ولا يجد حرجاً أن يعلن عن مخالفته ليرجع إلى الله بالتطهير مما اقترف.(11/375)
فنجد ماعزا رضي الله عنه يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: يا رسول الله زنيت فأقم علي الحد فيراجعه الرسول صلى الله عليه وسلم مرة ومرة ويظل على رأيه لا يحيد عنه فيأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليه.
وتجيء العامرية إلى رسول صلى الله عليه وسلم وتقول له: زنيت، هذا الحمل من سفاح، وتصر على الاعتراف لأنها تريد أن تتطهر مما حلّ بها فيؤخر الرسول صلى الله عليه وسلم إقامة الحدّ عليها حتى تضع حملها وتلد ويستغني الولد عن اللبن بالفطام، وتأتي بعد ذلك ليقام عليها الحد وهي راضية كي تزيل الدنس الذي علق بها فتلقى الله وهي طاهرة.
ويروي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت، فقال: "ما لك"، قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل تجد رقبة فتعتقها"؟ قال: لا، قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين"؟ قال: لا، قال: "فهل تجد إطعام ستين مسكينا"؟ قال: لا، فمكث عند النبي صلى الله عليه وسلم فبينما نحن على ذلك أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر _ العرق المكتل _ قال: "أين السائل"؟ فقال: أنا، قال: "خذ هذا فتصدق به"، فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله، فو الله ما بين لابتها _ يريد الحرثين _ أهل بيت أفقر مني، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: "أطعمه أهلك".
فهذا الصحابي تحت تأثير الشهوة يجامع امرأته في نهار رمضان، ولما أفاق من غمرته تحرك فيه الوازع الديني فجاء إلى رسول صلى الله عليه وسلم معترفاً بذنبه نادماً على أهله قائلا يا رسول الله هلكت، ليجد عند الرسول صلى الله عليه وسلم منقذا لنجاته.(11/376)
هذه أمثلة _ وغيرها كثير _ توضح كيف أن المسلمين حققوا المعاني الإسلامية في تفكيرهم، وأحسنوا تنفيذها في معاملاتهم ورجعوا إليها إذا انحرفوا عنها تحت تأثير شهوة أو غفلة أو ميل لإيمانهم بتلك التعاليم التي اعتنقوها مبدأ وسلوكا، فلا عجب أن يعترف الواحد منهم بجرمه كي يطهر نفسه ولو كان في ذلك قضاء على حياته، لأن مراقبة الله سبحانه وتعالى تمكنت في قلبه ويعلم أن دنياه فانية وأن الدار الآخرة هي الباقية، ويؤمن بقوله تعالى {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} .
تمتع المسلمون وهم على هذا النهج القويم بالقوة والمنعة، ودانت لهم الدنيا وملكوا العالم وسادوا الشعوب، ومكن الله لهم في الأرض وتحقق وعد الله القائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} .
ودار الفلك دورته وعاد الإسلام غريبا كما بدا.
وهذه الفرية نعيشها اليوم في عصر العلم وغزو الفضاء!!!
فمع التفوق العلمي في جميع ميادين الحياة نشاهد طغيان المادة على القيم والمبادئ، كما أننا نلمس أن الغرائز كانت سببا في إضلال عقول الناس لبعدهم عن غذاء النفس وتقويتها، فكان التصدع بين الأفراد والجماعات وبين الدول والشعوب نتيجة ظلم الإنسان للإنسان، وتعدي الجماعة على الجماعة.
في هذا الجو المكفهر المشحون بالمخالفات يتحقق فينا ذلك الحديث الصحيح الذي يرويه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بدأ الإسلام غريباً ثم يعود غريبا كما بدا فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس ".(11/377)
فنجد تعاليم الإسلام غير مألوفة لما عليه الناس في حياتهم الخاصة والعامة، ولم يدركوا تشريعها، ولم يتذوقوا حلاوتها، ولم يتجاوبوا معها، حيث ظهرت الأنانية ووهنت روابط المجتمع وكادت تنعدم الإنسانية في الإنسان وأوشكت الصلات أن تنهار في محيط الأسرة وفي دائرة المجتمع وعاش الناس في أزمة ضمير وقال قائلهم: الدين تخلف وجمود {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} .
من هذه المقارنة بين الماضي والحاضر نجد أن تفاعل المسلمين مع دينهم يرجع إلى الجانب الروحي في الإنسان قوة وضعفا.
ولم يشهد التاريخ قوة للإسلام ولا عزة للمسلمين إلا حينما كانوا يتخلقون بما في مبادئ الإسلام من أخلاق ويتعاملون بما فيها من مبادئ.
والقوة في هذه المبادئ أنها تنظم جميع الأفراد وأنها عامة يتساوى فيها الكبير والصغير والغني والفقير، فليس هناك تفاضل بالأموال والأنساب أو الجاه وإنما التفاضل بالعمل الصالح والتنافس فيه.
ولما بدأ التفاعل بين المسلمين وتعاليم الإسلام يضعف أخذ الإسلام مع الأسف المحض يتحول في نفوس أهله من حياة قوية متوثبة إلى تقاليد وشكليات فكان أن دب الضعف في الصف الإسلامي، ولعب الاستعمار دوره معهم فصرفهم عن دينهم، وقتل فيهم حيويته فتشتتوا بعد تكتل وتمزقوا بعد تجمع، وقلّ الوازع الديني الذي يجمع الصف ويوحد الكلمة، وليس من علاج لعودة المسلمين إلى وضعهم الأول من القوة والثقة إلا كما قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه: "لا صلاح لهذه الأمة إلا بما صلح به أولها".
رجوع إلى الله سبحانه وتعالى في كل الأمور وتمسك بكتاب الله جل جلاله واعتصام بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم _ وما ذلك على الله بعزيز _.
والسعد لا شك تارات وهبات
الناس بالناس ما دام الحياة بهم
تقضى على يده للناس حاجات
وأفضل الناس ما بين الورى رجل(11/378)
ما دمت مقتدرا فالسعد تارات
لا تمنعن يد المعروف عن أحد
إليك لا لك عند الناس حاجات
واشكر فضائل صنع الله إذ جعلت
وعاش قوم وهم في الناس أموات
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم
الإمام الشافعي(11/379)
الإسلام دين الأخوة والوحدة
فضيلة الشيخ محمد عبد المقصود
المدرس بكلية الدعوة بالجامعة
الحمد لله الذي هدانا للإيمان وشرفنا بالإسلام، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.
فقد قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .
الأمة الإسلامية أمة إلهها واحد، ورسولها واحد، ودينها واحد، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وكتابها هو القرآن الذي أنزله الله على رسوله العظيم، دواء للإنسانية من أمراضها وأسقامها، وعللها وآفتها، أفرغ بآياته وشرائعه البينة الواضحة على أتباعه المؤمنين به، المستظلين بظله، صبغة الوحدة والجماعة والأخوة الإنسانية، منحيا عنها عصبيات الجنسية والإقليمية، فلم يؤثر فردا على فرد ولا فئة على فئة، ولا جماعة على جماعة، فأزال العصبية القبلية بقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وأزال العصبية الوطنية بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} .
وأزال العصبية الجنسية بقول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام "ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل".(11/380)
سما بالإنسانية عن هذه الاعتبارات التي كثيرا ما تدفع بأصحابها إلى التفرق والخصام، وتغرى بينهم بالعداوة والبغضاء، فتفصم عرى الإنسانية الفاضلة، وتقضي على روح التعاون والتراحم، وتطمس معالم السعادة والهناءة، ووجه الناس إلى الأخذ بيد الإنسانية الفاضلة، وشهادة الموحد لأبنائه، الوحدة في التوجه إلى الله والإخلاص له وتلقي دعوته.
وأفرغ الإسلام علينا وحدة العقيدة ووحدة العبادة، ووحدة السلوك، ووحدة الأهداف، ووحدة الرحم، ونادانا في ذلك بنداءات إلهية كريمة، تركت في نفوسنا كل معاني الوحدة، وبواعثها مترابطة متعانقة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ، {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ، {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .(11/381)
فكشف الله لنا بهذه النداءات الغطاء عن المعتصم الذي يحب أن نتمسك به ولا نحيد عنه، وهو تقوى الله، والاتجاه إليه، والاستعانة به في تنفيذ أوامره، والعمل بما وضعه من سنن في سبيل الله إسعاد البشرية ورقيها.. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} وبهذا التعارف والارتباط تتقارب المصالح وتتحد المنافع، ويصبح المسلمون في أنحاء الأرض قوة واحدة، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويرعى قويهم حق ضعيفهم، وغنيهم حق فقيرهم، وصحيحهم حق مريضهم، وبذلك ينتظم شملهم وتقوى وحدتهم وتعز بلادهم، وتسود أوطانهم، ويصبح جانبهم مرهوبا، وحقهم محفوظا فتأتلف قلوبهم وتتحد مشاعرهم، وائتلاف القلوب والمشاعر واتحاد الغايات والمناهج من أوضح تعاليم الإسلام، وألزم خلال المسلمين.
ولا ريب ولا عجب في أن توحيد الصفوف واجتماع الكلمة هما الدعامة الوطيدة لبقاء الأمة، ودوام دولتها، ونجاح رسالتها والإسلام يكره للمسلم أن ينأى بمصلحته عن مصلحة الجماعة، وأن ينحصر في نطاق نفسه، وأن يستوحش في تفكيره، وإحساسه.
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" متفق عليه.
وفي الحديث: "ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مؤمن، إخلاص العمل لله، والمناصحة لأئمة المسلمين ولزوم جماعتهم، فإن دعاءهم يحيط من ورائهم" رواه البزار.(11/382)
وإذا كانت كلمة التوحيد باب الإسلام، فإن توحيد الصفوف سر المحافظة عليه والإبقاء على مقوماته، والضمان للقاء الله بوجه متهلل، وصفحة مشرقة، والإسلام قد جعل العمل الواحد في حقيقته وصورته مختلفا في الأجر حين يؤديه الإنسان منفردا وحين يؤديه مع آخرين، إن صلاة الفجر وصلاة العشاء هي هي لم تزد شيئا حينما يؤثر المرء أداءها في جماعة عن أدائها في عزلة، ومع ذلك فقد ضعّف الإسلام أجرها وزاد في ثوابها بضعا وعشرين درجة، أو يزيد عندما يقف المسلم مع غيره لأدائها بين يدي الله.
وتأمل معي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ (الفرد) بسبع وعشرين درجة" متفق عليه.
وفي هذا حرص من النبي صلى الله عليه وسلم على الأخوة الإسلامية والوقوف مع الجماعة والانضواء تحت لوائها ونبذ العزلة، ودفع للمسلم إلى الانسلاخ من وحدته والاندماج في أمته.
وانظر معي وتأمل فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة (أي لا يحضرون الجماعة) فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء" متفق عليه. والعرق: العظم إذا كان عليه لحم.. والمرماة: ما بين ضلع الشاة من اللحم.
وفي هذا التهديد من رسول الإنسانية ومعلم البشرية سيد المرسلين وخير الخلق أجمعين محمد صلى الله عليه وسلم ما يدعو المسلم إلى الامتزاج بالمجتمع الذي يحيا ويعيش فيه، فشرع الله الجماعة للصلوات الخمس اليومية ورغب في حضورها وتكثير الخطا إليها.(11/383)
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا ينزعه إلا الصلاة، لم تزل رجله اليسرى تمحو عنه سيئة، وتكتب له اليمنى حسنة حتى يدخل المسجد، ولو يعلم الناس ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوا" رواه البيهقي في شعب الإيمان والحاكم في مستدركه والطبراني في الكبير.
وشرع الله لأهل القرية أو الحمى الآهل أو المصر أن يلتقوا كل أسبوع مرة لصلاة الجمعة وفي كل عيد دعاهم إلى اجتماع أعظم يؤمهم إمام واحد يقوم فيقومون ويركع فيركعون ويسجد فيسجدون يتجهون إلى إله واحد.، وإلى قبلة واحدة.
والزكاة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم لكي يشعروا جميعا أنهم جسم واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" رواه مسلم وأحمد.
والصيام يوحد بين المسلمين في أوقات الفراغ والعمل، وأوقات الطعام والشراب، ويفرغ عليهم جميعا صفة الإنابة والرجوع إلى الله "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".
ويرطب ألسنتهم بالتسبيح والتقديس، ويعفها عن الإيذاء والتجريح، ويسد عليهم منافذ الشر والتفكير فيه، ويملأ قلوبهم بمحبة الخير والبر بعباد الله، ويغرس في نفوسهم خلق الصبر الذي هو عدة الحياة… "الصوم نصف الصبر، والصبر نصف الإيمان".
والحج الذي يضم أشتات المسلمين في المشرق والمغرب، في مكان معلوم هو مكة المكرمة، وزمان معلوم هو أشهر الحج، يطوفون حول بناء واحد وهو بيت الله الحرام، فيكون اللقاء بين أجناس المسلمين أمرا محتوما {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} .(11/384)
فديننا والحمد لله يدعو المسلمين في جميع تشريعاته التي شرعها الله سبحانه وتعالى لعباده، وتعبدهم بها يدعوهم إلى التعاون والتآزر، والتعاضد والمؤاخاة ليربط المسلمين جميعا برباط واحد وثيق، لتكون أمتهم أمة واحدة قوية، تخشى صولتها الأمم، وتحسب حسابها الشعوب، تغضب الدنيا لها إذا غضبت، وتضحك الدنيا لها إذا رضيت، يرهب الأعداء بأسها، ويخطب الأصدقاء ودها.
وهكذا كانت أمة الإسلام من قبل قوة جبارة وصولة باطشة، وسلطانا قاهرا، وقوة غالبة، وحصنا منيعا. وذلك طبيعي في أمة تجمعت أفرادها واتحدت قواها {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} .
وقد حدثنا التاريخ أن المسلمين بوحدتهم وتجمع صفوفهم استطاعوا أن يدكوا عروش القياصرة والأكاسرة، وأن يطوِّحوا بتيجان الجبابرة.
وإن الأوربيين ما سادوا وخضعت لهم الدنيا، ودان لهم العالم، وأسلمت الحياة قيادها لهم وأصبحوا يهددون أمن المسلمين وسلامتهم، مع خسة في العنصر، ولؤم في الطبع، وإفلاس في الدين، وزيغ في العقيدة، ما وصلوا إلى ذلك إلا بفضل تجمعهم واتحادهم.
ولكن في صفوفهم انضمام
فما سادوا بمعجزة علينا
والإسلام حريص على سلامة أمته، وحفظ كيانها، وهو لذلك يطفئ بقوة الخلاف، ويهيب بالأفراد كافة أن يتكاتفوا على إخراج الأمة من ورطات الشقاق ومصايرة السوء "يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار} .
هذا هو السياج الذي يحفظ على الأمة الإسلامية وحدتها، ويقيها شر العواصف والانهيار، ويمكنها من المحافظة على سلامتها وأمنها، فتتم النعمة ويعود الشعار إلى أصله، أمة واحدة، ورب واحد {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} .
والتاريخ الحديث خير شاهد على أن المسلمين والعرب إذا تمسكوا بدينهم، وعادوا إلى وحدتهم، وجمعوا صفوفهم كان الله معهم، وتحقق النصر لهم.(11/385)
وما وقفة الأمة العربية بقيادة شهيد الإسلام والعروبة المغفور له جلالة الملك فيصل بجانب مصر وسوريا، يشد أزرهما ويقوي عضدهما بوضع جميع إمكانياته تحت تصرفهما حتى تحقق النصر في العاشر من رمضان سنة 1393 على العدو الصهيوني، وأصبح العرب القوة الثالثة في العالم يخشون بأسهم، ويحسبون حسابهم ويخطبون ودهم، ويعترفون لهم بحقوقهم.
ومن رعاية الله العلي القدير للأمة الإسلامية وتوفيقه لها أن خليفة جلالته على العرش الملك المعظم خالد بن عبد العزيز يسير على نهج سلفه العظيم، ويضع يده في يد إخوانه من القواد العرب في سبيل مصلحة الأمة العربية والإسلامية، لا يضن بمال ولا يبخل بجهد ما دام في ذلك رفعة الإسلام ونصر العروبة، والمحافظة على الحقوق، واستعادة الأمجاد وحفظ التراث.
وفق الله العاملين للخير، وجمعهم على الخير إنه نعم المولى ونعم النصير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/386)
صراع مع الملاحدة حتى العظم
لفضيلة الشيخ محمد شريف الزيبق
المدرس بكلية الدعوة بالجامعة
ظهر حديثاً هذا الكتاب ومؤلفه الأستاذ عبد الرحمن حسن حنبكة الميداني، وهو في خمس مائة صحيفة، وهو الحلقة الثانية للمؤلف من "سلسلة أعداء الإسلام "وكانت الحلقة الأولى "مكايد يهودية عبر التاريخ ".
والإلحاد من أبرز سفاهات الإنسان ومن أشنع حماقاته، وقد دفعه إليه قديماً وحديثاً تكبره وفجوره، وظلمه وإجرامه، وغفلته وجهله، وهو قديم في البشر قدم هذه الآفات فيهم، ولكنه فشا في العصر الحديث بصورة تلفت النظر، وتدعو إلى التفكر، وقد بات من الجلي أمام الباحثين أن أبرز من ينشر الإلحاد في هذا الزمان أعداء الله والبشرية (اليهود) ، وأن الشيوعية الملحدة وسيلة من وسائلهم في نشره، وأن مقصدهم من وراء ذلك هدم إنسانية الإنسان ليصير حيواناً بشرياً يمكنهم امتطاؤه وتسخيره لمصالحهم، كما يصرحون بذلك في (تلمودهم) وفي (بروتوكولاتهم) ، كما اتضح أن عداء البابوية للعلم والعلماء في فجر النهضة الأوربية كان من أسباب انتشار الإلحاد أيضاً.(11/387)
والعجيب في إلحاد هذا الزمان أنه يضرب بسيف العلم، ويدفع عقيدة الإيمان بالله سبحانه بحجة أن العلم يأباها، وأن الدين والعلم متناقضان {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} ، ولهذا شن الملحدون معركة ضد الدين عامة وضد الإسلام خاصة، وإن الإنسان ليعجب لهذه الفرية الكبرى فأنى للإسلام أن يتناقض مع العلم؟ أليس العلم قوانين أوجدها الله في كونه، والدين كلمة الله أنزلها على أنبيائه؟ فكيف يتناقض شيئآن مصدرهما الحكيم العليم، وكيف يمكن لإنسان عنده شيء من عقل ووعي أن يزعم أن الإسلام يتناقض مع العلم، وهو الذي يدعو إليه ويشجعه؟ ويقول فيما يقول للبشر: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ويدعوهم للانتفاع بكل شيء في الكون بقوله {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} .
والحق أن الدين الصحيح صديق حميم للعلم، وأن العلم الصحيح عدو مبين للإلحاد، ولكن الملحدين يحلو لهم دائما الكذب والبهتان، واللجاج في الباطل والطغيان.
وقد غزا الإلحاد فيما غزا بلاد الإسلام وقام في ربوعها ناعقون يرددون سفاهاته وينشرون ضلالاته، ثم برز في مؤخرة ركب الملحدين حمال أثقال اسمه ((صادق جلال العظم)) الحائز على لقب ((دكتور)) من الذين دسّوا الكفر في فكره، فجمع ترهات الملحدين في كتاب أسماه (نقد الفكر الديني) وحشاه بالأغاليط والأكاذيب والجهل، ومنته نفسه ورفاقه الملحدون الأماني من وراء مفترياتهم، وطغا عليهم غرورهم، فكان لابد من الرد عليه، ومع اعتقاد المؤلف المفضال أن الإلحاد لا سند له، وأنه أو هي من بيت العنكبوت، إلا أن خوفه من تأثر الناشئة المسلمين بتضليلات العظم وسواه دعاه للرد على العظم رداً أتى فيه على قواعد الملحدين فنسفها بالعلم الصحيح والحجة القوية والاطلاع الواسع.(11/388)
وقد وجد المؤلف في كتاب (نقد الفكر الديني) لصادق العظم أمثلة كثيرة للمغالطات وأنواع السقطات المقصود بها تضليل من يطالع كتابه من مراهقي الفتيان والفتيات من أجيال الأمة الإسلامية، خدمة للماركسية والداروينية والفرويدية وسائر النظريات بل الفرضيات اليهودية دون أن يطرح مناقشات علمية نقدية تتحرى الحقيقة، وقد جمع كل الأديان وكل ما فيها من حق وباطل، وكل ما نسب إليها من ضعيف وقوي وفاسد وصحيح، وقال: هذه هي الأديان، ثم وجه النقد اللاذع للباطل الظاهر وللضعيف البين وللفاسد المعروف فساده، ثم صنع من ذلك مقدمة فاسدة استنتج منها إبطال الدين كله..
وقد أحصى المؤلف جدليات الملاحدة المعتمدة على المغالطات الفاحشة الوقحة، والمقنعة بالحيلة والخداع في هذه العناصر:
1_ تعميم أمر خاص.
2_ تخصيص أمر عام.
3_ ضم زيادات وإضافات ليست في الأصل.
4_ حذف قيود وشروط لازمة، يؤدي حذفها إلى تغيير الحقيقة.
5_ التلاعب في معاني النصوص.
6_ طرح فكرة مختلفة من أساسها للتضليل بها.
7_ تصيد بعض الاجتهادات الضعيفة لبعض العلماء وجعلها هي الإسلام مع أنها اجتهادات مردودة.
8_ التقاط مفاهيم شاذة موجودة عند بعض الفرق التي تنتسب إلى الإسلام، وإطلاق أنها مفاهيم إسلامية مسلم بها عند المسلمين، والإسلام منها بريء براءة الحق من الباطل.
9_ نسبة أقوال أو نصوص إلى غير قائليها.
10_ كتمان أقوال صحيحة وعدم التعرض إليها مطلقاً مع العلم بها وشهرتها.
11_ الإيهام بأن العلوم المادية ملحدة على خلاف ما هي عليه في الواقع.(11/389)
وقد أفرد المؤلف فصلاً من فصول الكتاب الأحد عشر للنقد الذاتي حول مفاهيم المسلمين للإسلام، بيّن فيه المفاهيم الدخيلة الغريبة عن الإسلام التي حاول أعداؤه إلصاقها بتعاليمه الناصعة، وكيف تحولت هذه المفاهيم الدخيلة إلى مواريث ثقيلة، وبدع شنيعة أحسنت ظهور الأجيال، وعرقلت سبيل تقدمها، وهيأت المناخ المناسب لفساد الأجيال التي حملت شعار التخلص منها على غير هدى ولا بصيرة، فتخلصت منها ومن الجوهر النافع الذي هو الأصل السليم، وقد وجدت طائفة من هذه الأجيال بسبب تلك الشوائب الدخيلة مبررات كثيرة تلبي عن طريقها الرغبة في الانطلاق والتحرر والانسياق وراء الأهواء، ومن وراء هذه الطائفة شياطين يمدون خراطيهم في الظلمات من ديار الحرب إلى دار الإسلام، فيوسوسون لها ويمنونها ويكيدون في ذلك لها وللأمة الإسلامية ما يكيدون من شر عظيم، ووسائلهم في ذلك الإغراء بالمال، أو الإطماع بالحكم والسلطان، أو الفتنة بالنساء أو الخمر والميسر والمخدرات وأصناف اللهو، وإضعاف القوى الفردية والاجتماعية عن طريقها والخداع بمظاهر الحضارة المادية الخلابة.
ويرجع انحراف المفاهيم الإسلامية في رأي المؤلف إلى عدة صور مصابة بالخلل أو الفساد أو التزوير، ويذكر لها عشرة أسباب مع طرق علاجها وهي:
1_ الجهل وفتور الهمة عن تفهم تعاليم الإسلام الصحيحة.
2_ اتباع الهوى.
3_ الغلو في الدين غير الحق.
4_ النظر الضيق المحدود الذي يلازمه النظر إلى جوانب خاصة معينة من الإسلام واعتبارها الإسلام كله.
5_ الجمود.
6_ التحلل.
7_ الفتنة بكل جديد قبل اختباره.
8_ التعصب لكل قديم مهما كان شأنه، ولو كان مخالفاً للحقيقة البينة ولأسس الإسلام الصحيحة الصافية.
9_ الأثرة التي تولد الإعجاب الشديد بالرأي، وتولد التعصب والفردية في الأعمال، وتشتت الشمل وتفرق الكلمة.(11/390)
10_ ما يكيده أعداء الإسلام من مكايد، ويدخل تحت هذا السبب صور كثيرة.
وفي فصل آخر من فصول الكتاب يبرز المؤلف الحقائق البينة التي تؤكد موافقة العلم للدين الحق الإسلام، وأن الإسلام يدعو إلى الطرق العلمية في البحث، ويفند مغالطات الملاحدة الذين كثيراً ما يدعون أن فرضية أو نظرية من النظريات قد أصبحت حقيقة علمية غير قابلة للنقض أو التعديل، مع أن هذه النظرية لا تملك أدلة إثبات يقينية تجعلها حقيقة نهائية، أو حقيقة مقطوعا بها، وذلك بشهادة العلماء الذين وضعوا هذه النظرية أو ساهموا في تدعيمها.
ومن أمثلة ذلك الدارونية بالنسبة إلى نشأة الكون وخلق الإنسان فهي لا تملك أدلة إثبات قاطعة أو شديدة الترجيح، ولكن كثيراً من العلماء الماديين يقبلونها تسليماً اعتقادياً لا تسليماً علمياً، إذ ليس لديهم اختيار بعدها إلا الإيمان بالخلق الرباني، وهذا أمر لا يجدون أنفسهم الآن مستعدين له ما دام منطق الإلحاد هو المسيطر على اعتقادهم في بيئتهم.
ويأتي أنصاف المتعلمين، كالعظم فيدعون وجود التناقض بين الدين والحقائق العلمية، استناداً إلى وجود اختلاف بين بعض المعارف الدينية وبعض الفرضيات أو النظريات التي لم تثبت ولم ترق إلى درجة الحقائق العلمية وهم يزعمون كذباً أو يتصورون خطأ أن هذه الفرضيات أو النظريات قد أصبحت حقائق علمية ثابتة بشكل قطعي غير قابل للنقض، وهنا يقعون في غلط علمي فاحش جداً، ويتبع ذلك سقوطهم في ضلال اعتقادي كبير تجاه الدين وأصوله ومعارفه، علماً بأن طائفة من النظريات التي نسبت إلى العلم قد وضعت خصيصاً لدعم قضية الإلحاد والكفر بالله على أيدي يهود أو أجراء لليهود، وصيغت لها المقدمات والمبررات التي ليس لها قواعد منطقية علمية صحيحة.(11/391)
يقول المؤلف: "فالواجب إذن يحتم علينا _ أخذاً بطريق البحث العلمي السليم المحرر الذين أمرنا به الإسلام _ أن نمعن النظر فيما قدمته شهادة العقل ووسائل البحث العلمي الإنسانية، وفيما قدمته شهادة النصوص الدينية، وأن نخضع هذه الشهادات للضوابط العلمية الصحيحة المتفق عليها في أصول العقل وأصول الدين.. وإني لأجزم بكل يقين أننا لن نجد مسألة واحدة يستحكم فيها الخلاف بين شهادة النصوص الدينية اليقينية قطعية الثبوت قطعية الدلالة، وبين الشهادة القاطعة التي يقدمها العقل، أو الشهادة القاطعة التي يقدمها البحث العلمي الإنساني البحت، بل اليقيني من كل ذلك لابد أم يتطابق في شهادته متى استطاع أن يصل إلى الحقيقة التي هي موضوع البحث، فإن وصل بعضها وبعضها الآخر لم يصل أعلن كلّ عن مبلغه من العلم، قصر في المعرفة أو زاد وفي هذا لا يوجد تناقض أو خلاف، ولكن يوجد بيان جزئي، وبيان أشمل وأكمل، أو بيان جزئي من جهة وبيان جزئي من جهة أخرى".
وفي فصل (صراع من أجل قضية الإيمان بالله والفكر الديني الصحيح حولها) يقول: "إن الملحدين جميعاً لم يستطيعوا مجتمعين أو متفرقين أن يقدموا أية حجة منطقية أو واقعية مقبولة عند العقلاء تثبت عدم وجود خالق لهذا الكون، وقد قرأنا ما كتبه هذا الملحد وما كتبه غيره من أساطين الإلحاد فلم نجد لديهم دليلاً واحداً صحيحاً ينفي وجود الخالق جل وعلا، بل لم نجد في كل ما كتبوه دليلاً واحداً يقدم ظناً بعدم وجود الخالق، فضلاً عن تقديم حقيقة علمية.. جلّ ما لديهم محاولات للتشكيك بعالم الغيب، والتزام بأن لا يثبتوا إلا ما شاهدوه من مادة بالوسائل العلمية المادية.(11/392)
وهذا الارتباط بحدود المادة التي لم يشهد العلم حتى العصر الحاضر إلا القليل منها إن هو إلا موقف يشبه موقف الأعمى الذي ينكر وجود الألوان لأنه لا يراها، أو الأصم الذي ينكر وجود الأصوات لأنه لا يسمعها، أو موقف الحمقاء حبيسة القصر التي ترى أن الوجود كله هو هذا القصر الذي تعيش فيه، لأنها لم تشاهد في حياتها غيره.. فما حظ هؤلاء من العلم والأمانة العلمية ومطابقة الحقيقة والواقع؟ كذلك الملحدون لا حظ لهم من العلم والأمانة العلمية ومطابقة الحقيقة والواقع، إذ ينكرون الخالق جل وعلا ويصرون على إنكاره ولا يملكون دليلاً واحداً على نفي وجوده، قد يستخدمون عبارات ضخمة يستغلون فيها أسماء التقدم العلمي والصناعي وتطور مفاهيم العصر، والبحوث العلمية في المختبرات والمعامل للتمويه بها.. مع أن التقدم العلمي والصناعي لم يتوصل إلى قياس شيء من عالم الغيب، بل ما يزال عاجزاً عن قياس أمور كثيرة داخلة في العالم المادي الذي هو مجال كل أنواع التقدم العلمي الذي انتهت إليه النهضة العلمية الحديثة.
والعلماء الماديون الذين يستخدمون المعامل والمختبرات والأجهزة العلمية المتقدمة جداً.. يحاولون تفسير كل ما شاهدوه من ظواهر بنظريات استنتاجية يغررون فيها حقائق غير مرئية وغير مشاهدة، وهي بالنسبة إليهم وبالنسبة إلى أدواتهم ما زالت أموراً غيبية، ومع ذلك فإنهم يضطرون إلى إقرارها والتسليم بها، ويجعلونها قوانين ثابتة يقولون عنها إنها قوانين طبيعية.
وفي هذا الفصل يتناول ما يردده العظم من الحجة الشيطانية القديمة التي تقول في آخر سلسلة التساؤل: ومن خلق الله؟ ويناقش حججه المادية سارداً أقوال بعض علماء المادة مثل إدوارد كيسل الذي يقول: "أثبتت البحوث العلمية دون قصد أن لهذا الكون بداية، فأثبتت تلقائياً وجود الأدلة، لأن كل شيء ذي بداية لا يمكن أن يبتدئ بذاته، ولا بد أن يحتاج إلى المحرك الأول، الخالق الإله".(11/393)
ويعقد المؤلف فصلاً لمناقشة (برتر أندرسل) و (فرويد) وإمامي العظم، مبينا أن الأول صدر في إلحاده عن الهوى التعصب للدين لأنه يجعل ما يقبله من تفسيرات علمية مقبولاً بصفة ترجيحية لضرورة العجز عن الوصول إلى اليقين… وأما الثاني فهو يهودي متعصب للصهيونية وقد وصفت إحدى مساعداته في التحليل النفسي إلحاده بأنه كان زائفاً لأنه تركه بعد ذلك متشبثاً باليهودية الصهيونية، وفيا لها، سائراً في طريقها، منفذاً لخططها.
ويطول الكلام لو وقفنا عند فصل من فصول الكتاب واقتباس بعض عباراته، والإشارة إلى القضايا الفكرية التي يعالجها ببيان مشرق وأسلوب يمتاز بالقوة والرصانة وعمق الفكرة، وأدع للقارئ أن يستمتع بقراءة هذا الكتاب النفيس سائلا الله عز وجل أن يهدي به الضالين، ويثبت المؤمنين ويزيدهم إيماناً وأن يجزي المؤلف فضيلة الشيخ عبد الرحمن حنبكة أحسن الجزاء.(11/394)
القاعدة الصلبة من المهاجرين والأنصار
أمام المحن القاسية وجها لوجه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
لفضيلة الشيخ زهير الخالد
1_ صدى وفاة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
أ_ عند الصحابة رضوان الله تعالى عليهم..
فوجئ الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن رأوه في صلاة الفجر، وأمّلوا شفاءه ومعافاته، فنزل بهم النبأ نزول الصاعقة، فأظلمت الدنيا في عيونهم وغرقوا في بحر من الهم والحزن عميق..
قال أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: "لما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان في اليوم الذي توفي فيه أظلم منها كل شيء"رواه الإمام أحمد.
لقد كان مصاب المسلمين بفقد رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيماً وأليماً.. بل لا يوصف!
لقد فقدوا نبيهم ومربيهم وقائدهم وأسوتهم الحسنة، فقدوا الرجل الذي لا يساويه رجل في الدنيا بأي جانب من جوانب الخير والكمال البشري، وفقدوا للترجمة العملية الحية للقرآن الكريم "كان خلقه القرآن".. ثم إنهم فقدوا نزول الوحي بفقده عليه صلوات الله وسلامه، قيل لأم أيمن رضي الله تعالى عنها حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مواساةً لها ما يبكيك؟ على النبي صلى الله عليه وسلم؟ ما عند الله خير لرسوله، قد أكرم الله نبيه، فأدخله جنته، وأراحه من نصب الدنيا.. فقالت: إني علمت أن رسول الله سيموت، والله ما أبكي أن لا أكون لا أعلم أن ما عند الله خير لرسوله، ولكني إنما أبكي على الوحي الذي رفع عنا، إنما أبكي على خبر السماء كان يأتينا غضاً جديداً كل يوم، فقد انقطع ورفع فعليه أبكي، فهيجت من عندها على البكاء فجعلوا يبكون..(11/395)
وليس هذا فحسب، بل إن الصحابة رضي الله عنهم فقدوا نبيهم عليه الصلاة والسلام في ظرف عصيب، حيث تحيط بهم الأخطار من كل حدب وصوب، وتتهدد كيانهم ووجودهم فهناك المنافقون في المدينة وحولها، وهناك حديثو العهد بالإسلام ممن قال الله تعالى فيهم {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} ، وهناك الطلقاء من زعماء قريش في مكة المكرمة الذين قهرتهم قوة الإسلام، ثم هناك اليهود الموتورون الحاقدون، وكذلك النصارى على التخوم الشمالية للجزيرة العربية، وجيش أسامة بن زيد بن حارثة - رضي الله تعالى عنهما - على الانطلاق إليهم، وأيضاً الفرس، ثم إن هناك المتنبئين الكذابين ومنهم من ما زالت فتنته قائمة كمسيلمة، ومنهم من لم يمض غير وقت قصير بل أيام على القضاء على فتنته كالأسود العنسي.
قال محمد بن إسحاق: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب، واشرأبت اليهودية والنصرانية، ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم حتى جمعهم الله على أبي بكر رضي الله تعالى عنه [1] .
ب_ صدى وفاته عليه الصلاة والسلام في الجزيرة العربية:(11/396)
ما إن انتشر خبر وفاته - صلى الله عليه وسلم - في الجزيرة العربية حتى اضطربت فيها الأمور وظهر المنافقون وذوو الأطماع في الزعامة والملك والرئاسة والمال، وقوي أمر من تكذب وتنبأ كمسيلمة الحنفي وطليحة الأسدي وسجاح بنت الحارث التغلبية، وارتدت القبائل العربية، ولم يبق مكان في الجزيرة العربية إلا وحدثت فيه فتنة وردة أو محاولة ردة، حتى إن اكثر أهل مكة هموا بالردة لولا أن الله سبحانه كفهم وخوّفهم بسهيل بن عمرو رضي الله تعالى عنه [2] وقد اختلفت المظاهر التي اتخذتها ردة كل قبيلة، فمنهم من ادعى النبوة، ومنهم من تزندق، ومنهم من امتنع عن دفع الزكاة… وبقيت المدينة المنورة وحدها في وجه هذه الأمواج المتلاطمة من الفتن العاتية الطاغية.. فهي كسفينة في وسط بحر هائج متلاطم الأمواج يريد أن يبتلعها..
ج_ صدى وفاته - صلى الله عليه وسلم - لدى العلم الخارجي:
كان يسيطر على العالم خارج الجزيرة العربية إذ ذاك قوتان أو دولتان كبيرتان هما الدولة الرومية في الغرب والدولة الفارسية في الشرق، وتشكلان معسكرين متنافسين غربياً وشرقيا، تسيطر على الغربي منهما الدولة الرومية، وعلى الشرقي الدولة الفارسية.
وكان التنافس بينهما مستمراً ومنذ قرون وأجيال، إلا أنه توقف فجأة منذ أن أصبح للمسلمين كيان ودولة في المدينة المنورة تحت قيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصبح كل منهما يحسب لهذه القوة الناشئة ويستعد للانقضاض عليها، إنما ينتظر الفرصة السانحة، بل إن المعسكر الغربي الرومي بدأ يتحرش بالمسلمين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكانت غزوة تبوك ومؤتة، فلما توفي الرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن ينتهز هذه الفرصة لكن جيش أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - كان له بالمرصاد.(11/397)
أما المعسكر الشرقي الفارسي فقد تحرك هو الآخر حين سمع بنبأ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كسرى: من يكفيني أمر العرب؟ فقد مات صاحبهم، وهم الآن يختلفون بينهم، إلا أن يريد الله بقاء ملكهم فيجتمعون على أفضلهم [3] .
لقد وجد الصحابة أنفسهم - رضي الله تعالى عنهم - يقفون وجهاً لوجه أمام محن قاسية شديدة وخطيرة، ومهمات كبرى ومسؤوليات ضخمة تمتحن صلابتهم ووعيهم، وتعجم عودهم وجدارتهم للقيام بالأمانة العظمى بعد نبيهم عليه الصلاة والسلام..
هذه المحن والمهمات يمكن حصرها في نقاط ثلاث وهي:
1_ اجتماعهم قبل كل شيء وبأسرع وقت على رجل منهم خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
2_ الوقوف في وجه الردة الشاملة للجزيرة العربية والمرتدين..
3_ حمل الأمانة العظمى، وتبليغ رسالة الله تعالى إلى العالم كله وتحرير البشر بها، وإيصال الإسلام إلى كل إنسان على ظهر الأرض وإزالة كل العراقيل والعقبات "سواء كانت هذه العقبات والعوائق شبهات تحاك، وضلالات تزيّن، أو كانت قوى طاغية تصد الناس عن الدعوة وتفتنهم في الدين.." {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [4] .
وسنتناول - بإذن الله تعالى - هذه النقاط في الأعداد القادمة.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] البداية والنهاية جزء (5) فصل احتضاره ووفاته عليه الصلاة والسلام..
[2] المرجع السابق.
[3] مختصر السيرة للشيخ محمد بن عبد الوهاب ص 319 ط: 1.
[4] في ظلال القرآن للسيد قطب رحمه الله تعالى ج6 ص29 ط: 4.(11/398)
نقض القانون المدني
لفضيلة الشيخ إبراهيم جعفر السقا
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
لم يتخلف المسلمون عن ركب العالم نتيجة لتمسكهم بدينهم أو تعصبهم لإسلامهم، وإنما بدأ هذا التخلف يوم تركوا هذا التمسك بدينهم وتساهلوا فيه، وسمحوا للحضارة الأجنبية أن تدخل ديارهم، وللمفاهيم الغربية أن تحتل أذهانهم وللقوانين غير الإسلامية أن تحكم بلادهم..(11/399)
بل من يوم أن حاولوا عقد صلات ومشابهات وموافقات بين نظامهم الإلهي الإسلامي والنظم البشرية الأخرى التي صاغها الناس لأنفسهم في معزل عن الله تعالى ذلك أن الإسلام لا يعتز أن يكون بينه وبين النظم العالمية الأخرى مشابهة أو موافقة لأنه لن يزيد فضلاً ولا كمالاً بهذه النسبة أو المشابهة أو الموافقة لأن كماله المطلق في نسبته إلى صاحب الكمال المطلق وحده وهو الله تعالى جل شأنه، فالإسلام قدّم للبشرية نموذجا من النظام الإلهي ولم يحاول أن يقلد نظاماً من النظم بل اختار طريقه متفرداً فذاً، وقدم للإنسانية علاجاً إلهياً كاملاً لمشكلاتها جميعاً ولقد يحدث في تطور النظم البشرية - لا الإسلامية - أن تلتقي بالإسلام تارة وأن تفترق عنه تارة، ومع ذلك فهو نظام مستقل متكامل لا علاقة له بتلك النظم لا حين تلتقي معه، ولا حين تفترق عنه، فهذا الافتراق، وذلك الالتقاء عرضيان ووليدة مصادفات، وفي أجزاء متفرقة، ولا عبرة بالاتفاق والاختلاف في الجزئيات والعرضيات، إنما المعول عليه هي النظرة الأساسية وتصوره الخاص، وعنه تتفرع الجزئيات فتلتقي أو تفترق معه جزئيات من النظم الأخرى ثم يمضي الإسلام في طريقه المتفرد بعد كل اتفاق أو اختلاف، لأن قاعدته الأساسية التي يقوم عليها تختلف كلياً عن القواعد التي تقوم عليها الأنظمة البشرية جميعاً، فالإسلام يجعل السيادة لله وحده، فالأمر والحكم كله لله، وهو المرجع الأعلى في كل شيء والمصدر الوحيد لكل قانون أو دستور.
فالله تعالى وحده هو الذي يشرّع الأحكام في كل شيء، وسائر الأنظمة والقوانين تقوم على أساس أن المشرّع هو الإنسان فهو الذي يشرّع لنفسه، وهما قاعدتان متناقضتان لا تلتقيان.(11/400)
فالقانون الإسلامي يتجلى فيه قدرة الخالق وعظمته، وإحاطته بما كان وبما هو كائن، خلافاً للقانون الوضعي ومنه القانون المدني الذي نحن بصدد نقضه والذي يتمثل فيه نقص البشر وعجزهم وضعفهم، وقلّة حيلتهم وعرضة قانونهم للتغيير والتبديل والتحريف كما سنرى ذلك جلياً في وقوفنا ساعة مع القانون المدني لنكشف عن وجه الحق، ونعرض فيها صواب الرأي بعمق واستنارة حتى تنجلي الحقائق، ويبرز زيف الباطل فلعل مطبقي هذا القانون يبصرون النور، فيثوبوا إلى الحق ويسيروا في طريق الهدى، ويدركوا مدى ما كانوا فيه من ضلال ما بعده من ضلال، ومن أحكام للطاغوت ولغير ما أنزل الله، ويرون أن واجبهم حرب هذا القانون واستعاضته بقانون الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
تعريف القانون:
كلمة القانون اصطلاح أجنبي معناه عندهم: الأمر الذي يصدره الحاكم ليسير عليه الناس، وقد عرّف بأنه: ((مجموع القواعد التي يجبر السلطان الناس على اتباعها في علاقاتهم)) وقد أطلق على القانون الأساسي لكل حكومة كلمة الدستور، وأطلق على القانون الناتج من النظام الذي نص عليه الدستور كلمة القانون، وقد عرّف الدستور بأنه "القانون الذي يحدد شكل الدولة ونظام الحكم فيها، ويبيّن حدود واختصاص كل سلطة فيها"أو "القانون الذي ينظم السلطة العامة أي الحكومة ويحدد علاقتها مع الأفراد، ويبين حقوقها وواجباتهم قِبَلَهم، وحقوقهم وواجباتهم قِبَلَها.(11/401)
هذه خلاصة الاصطلاحات الذي تعنيه كلمتا دستور وقانون، وهو في خلاصته يعني أن الدولة تأخذ من مصادر متعددة سواء أكانت مصدراً تشريعياً أو مصدراً تاريخياً أحكاماً معينة تتبناها وتأمر بالعمل بها فتصبح هذه الأحكام بعد تبنيها من قِبَل الدولة دستوراً إن كانت من الأحكام العامة، وقانوناً إن كانت من الأحكام الخاصة، ومن الجدير بالذكر أن هناك فرقاً بين الدستور الإسلامي والقوانين الإسلامية، وبين غيرها من الدساتير والقوانين، فإن باقي الدساتير والقوانين مصدرها العادات وأحكام المحاكم الخ، ومنشؤها جمعية تأسيسية تسن الدستور ومجالس منتخبة من الشعب تسن القوانين، لأن الشعب عندهم مصدر السلطات كما أن السيادة للشعب لديهم.
أما الدستور الإسلامي والقوانين الإسلامية فإن مصدرها الكتاب والسنة ومنشؤها اجتهاد المجتهدين حيث الحاكم يتبنى منهما أحكاماً معينة يأمر بها فيلزم الناس العمل بها، لأن السيادة للشرع، والاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية حق لجميع المسلمين، وفرض كفاية عليهم.
1_ نقض كلمة القانون المدني:
إن إطلاق اسم القانون المدني على هذا القانون إطلاق خاطئ لأنه قانون ينظم علاقات الناس، وهو قانون معاملات وليس هناك أي صلة بين لفظ المدني والمعاملات، فوصف القانون بأنه مدني وصف غير منطبق على حقيقته لأن حقيقته أنه ينظم علاقات الناس، وهذه معاملات ولا صلة للقانون بالمدنية مهما أريد بها من معان، فإن أريد بالمدنية الرقي ضدّ التأخر فالقانون يوصف بأنه ينظم العلاقات وبأنه قانون معاملات، وقد يكون راقياً وقد يكون غير راق.(11/402)
فالقانون الفرنسي الذي وضع في أيام نابليون قد ظهر للفرنسيين فساده وتأخره، ووضع بدله قانون مدني جديد، ومع ذلك لا يزال يسمى القانون المدني، والقانون الروماني ظهر فساد نظرياته ومع ذلك لا يزال يقال عنه القانون المدني، وليس المراد من وصف القانون بالمدني بيان كونه راقياً أو غير راق بل المراد بيان حقيقته بأنه وضع لينظم المعاملات ولذلك لا علاقة مطلقا بين المدنية وبين المعاملات.
وإن أريد بالمدنية النسبة إلى المدينة فالقانون لم يوضع للمدينة فقط، وإنما وضع للمدينة والقرية ومضارب البدو فتخصيصه بالمدنية لا وجه له مطلقاً، وإن أريد بالمدنية الأشكال المادية المحسوسة فهي عاجلية وهي ليست المنظمة للعلاقات، فلا علاقة للقانون بالأشكال والصناعات، وعليه فلا وجه لتسمية القانون بالقانون المدني ولا لوصفه بأنه مدني، بل هو قانون معاملات.
1_ نقض الأصل الفقهي للقوانين المدنية:
"إن القانون المدني من حيث هو لدى جميع التقنينات اللاتينية [1] والجرمانية [2] والمتخيرة [3] يقوم على نظرية الالتزام، ويبنى كله في إجماله وتفصيله عليها، وبما أن هذه النظريات فاسدة من أساسها، لذلك كان القانون المدني كله فاسداً وهاكم البيان:
لقد عرّف القانون المدني بأنه: ((القانون الذي ينظم علاقات الأفراد بعضها ببعض)) وقسم إلى قسمين رئيسيين: قسم الأحوال الشخصية وقسم المعاملات.
فقواعد الأحوال الشخصية هي التي تنظم علاقة الفرد بأسرته، وقواعد المعاملات هي التي تنظم علاقة الفرد بغيره من الأفراد من حيث المال، وعرّف الحق في المعاملات "بأنه مصلحة ذات قيمة مالية يقررها القانون للفرد".
وقسم الحق إلى قسمين رئيسيين حق يتعلق بعلاقة الشخص ويسمى "الحق الشخصي"وحق يتعلق بعلاقة الشخص والمال ويسمى "الحق العيني"، والحق الشخصي في نظرهم رابطة ما بين شخصين دائن ومدين.(11/403)
والحق الشخصي هو الالتزام، وعلى أساسه عولجت المعاملات الشخصية مثل الحوالة والبيع والمقايضة والشركة والهبة، والصلح، والإجارة، والعارية، والوكالة، والوديعة، والرهان والكفالة.
والحق العيني هو ليس علاقة في نظرهم وإنما هو سلطة أعطاها القانون لشخص معين على شيء معين، وعلى أساسه عولجت المعاملات العينية مثل حق الملكية، وأسباب كسب الملكية، ورهن المنقول، والرهن العقاري، والتأمين على الحياة، وحقوق الامتياز.
هذا هو الأساس الذي يقوم عليه القانون المدني،.. وهذا الأساس فاسد من عدّة وجوه!
أ_ إن الحق في المعاملات ليس مصلحة ذات قيمة مالية بل هو مصلحة مطلقة، فقد تكون ذات قيمة مالية وقد لا تكون ذات قيمة مالية، فتخصيص الحق بالمصلحة ذات القيمة المالية يؤدي إلى شيئين:
أحدهما: أنه لا يشمل المصالح ذات القيمة المعنوية مثل الكرامة والشرف لأنه لا قيمة مالية لها، ولا يمكن تقديرها بقيمة مالية على الإطلاق، ولذلك كانت نظرية التعويض على القذف خاطئة.
وثانيهما: أن تقدير الأشياء بالقيمة المالية يحتاج إلى وحدة تكون أساساً للتقدير، والحق هو ذاته أساس، ولا يمكن إيجاد وحدة لتقدير قيمته، ولذلك كان تعريف الحق على هذا الوجه فاسداً.
ب_ إن تقسيم الحق إلى قسمين: حق عيني، وحق شخصي لا وجه له، ولا يوجد فرق بين ما أطلقوا عليه اسم الحق الشخصي، وما أطلقوا عليه اسم الحق العيني، ولا يوجد فرق بين المعاملات التي فرّعوها عليها، فلا يوجد فرق بين الإجارة ورهن العقار، فكيف جعلت الإجارة من الحق الشخصي، وجعل الرهن من الحق العيني على أن التعريف نفسه فرضي وليس حقيقياً.(11/404)
فحين عرّفوا الحق بأنه سلطة معينة يعطيها القانون لشخص معين على شيء معين لم يفهم من هذا التعريف مطلقاً أن العلاقة ناشئة بين الشخص والشيء، بل هي علاقة ناشئة بين الشخص والشخص وموضوعها الشيء، فالعلاقة ما بين شخصين موجودة في الحق العيني، وحين عرّفوا الحق الشخصي بأنه رابطة بين شخصين دائن ومدين يخول الدائن بمقتضاها مطالبة المدين بإعطاء شيء أو بالقيام بعمل أو بالامتناع عن عمل.
حين عرّفوا الحق الشخصي بذلك لم يفهم من هذا التعريف نفي وجود علاقة بين الشخص والشيء، لأن موضوع العلاقة هو الشيء الذي نشأت من أجله الرابطة بين الشخصين، فتكون هناك رابطة بين الشخص والشيء في الحق الشخصي، وهو كالحق العيني عنصر من عناصر الذمة المالية يتصرف فيه صاحبه بالبيع والرهن سواء، ولذلك كان هذا التقسيم غير وارد ومخالفاً للواقع والحقيقة.
الالتزام: إن الحق الشخصي أي الالتزام يقوم على رابطة قانونية ما بين الدائن والمدين، وقد كانت هذه الرابطة التي يقوم عليها الالتزام تعطي للدائن على جسم المدين لا على ماله، وكان هذا هو الذي يميز بين الحق العيني والحق الشخصي.(11/405)
فالأول سلطة تعطى للشخص على شيء، والثاني سلطة تعطى للشخص على شخص آخر، وبناء على ذلك كانت سلطة الدائن على المدين سلطة واسعة يدخل فيها حق الإعدام، وحق الاسترقاق، وحق التصرف، ثم ظهر فساد هذه النظرية فلجأوا إلى تخفيف السلطة حتى صارت مقصورة على التنفيذ الذي يقول به القانون المدني وهو حبس المدين مثلا، ثم صار التنفيذ على مال المدين لا على شخصه، بالحجز مثلاً وأصبح للالتزام منذ عهد الرومان مظهران: مظهر باعتباره رابطة شخصية فيما بين الدائن والمدين، ومظهر باعتباره عنصراً مالياً يقوم حقاً لذمة الدائن ويترتب في ذمة المدين، وعلى ذلك ظهر فساد نظرية الالتزام ففسرت هذا التفسير حتى تكون لها ناحية شخصية وناحية مالية، فأدى ذلك إلى أن ينشأ اختلاف في الالتزام فنشأ مذهبان: أحدهما يغلب الناحية الشخصية للاحتفاظ بالنظرة الأصلية للقانون الروماني، وهذا ما سارت عليه التقنينات اللاتينية والآخر يغلب الناحية المالية ويجردها من الناحية الشخصية ويتحرر من القانون الروماني، وهذا هو ما سارت عليه التقنينات الجرمانية، وبذلك صارت نظرية الالتزام تفهم فهماً شخصياً عند اللاتينيين، ويترتب على هذا الفهم عدم لحاق المال والاقتصار على الشخص، ولذلك لم يجيزوا حوالة الدين وأخذ بذلك القانون الفرنسي القديم.
وصارت نظرية الالتزام تفهم فهماً مادياً عند الجرمانيين ويترتب على هذا الفهم لحاق المال وليس الشخص، ولذلك أجازوا حوالة الدين فكان في الالتزام مذهبان:(11/406)
المذهب الشخصي، والمذهب المادي ولكل وجهة نظر تخالف الآخر، فالمذهب الشخصي يرى أن الأمر الجوهري في الالتزام هو أنه رابطة شخصية فيما بين الدائن والمدين، ويترتب على هذا أن لا يدخل فيه معاملات كثيرة منها أن لا تدخل فيه الكفالة، ولا يدخل فيه الوعد بجائزة وما شاكل ذلك من المعاملات فيكون مذهباً قاصراً لأنه لا يشتمل المعاملة التي تنشأ من جانب واحد، والمذهب المادي يرى أن العبرة في الالتزام بمحله دون أشخاصه، وأن الرابطة الشخصية ليست هي الأمر الجوهري، ويترتب على هذا أنه يجوز وجود معاملة إذا وجد المال وحده دون شخص، وجعل العلاقة الشخصية غير ضرورية، وهذا لا يجوز إذ لا تتصور أي معاملة تحصل دون وجود شخص آخر حتى الكفالة، والوعد بجائزة، وعقود التأمين لمصلحة الغير والسند لحامله، وكان المذهب الثاني غير واقع هذا بالنسبة لنشوء فكرة الالتزام.
أما بالنسبة لتعريف الالتزام فقد وجدت له عدّة تعاريف وكلّها تدور حول جعل محل الالتزام إعطاء شيء أو القيام بعمل أو الامتناع عن عمل، فقد عرّف الالتزام بأنه اتفاق يلتزم بمقتضاه شخص أو أكثر نحو شخص آخر أو أكثر بإعطاء شيء أو بالقيام بعمل أو بالامتناع عن عمل، وهذا يعني جعل الالتزام اتفاقاً، وهذا التعريف لا يشمل المعاملات التي لا يوجد فيها اتفاق، وعرّف الالتزام بأنه ((حالة قانونية بمقتضاها يجب على الشخص أن ينقل حقاً عينياً أو أن يقوم بعمل أو أن يمتنع عن عمل)) وهذا التعريف جعل الالتزام حالة قانونية مع أن حقيقته هو علاقة يقرّها القانون، فتعريفه بحالة قانونية يجعله فضفاضاً غير مانع من دخول حالات قانونية لا صلة لها بالالتزام.(11/407)
هذه خلاصة الالتزام بوجه عام، وهذا كله خطأ محض؛ إذ لا يوجد في الموضوع التزام لا بالمعنى الشخصي ولا بالمعنى المادي، لأن المسألة ليست رابطة بين دائن ومدين ولا يوجد هذه الرابطة مطلقاً، ولا هي رابطة بين شخص ومال أو سلطة لشخص على مال مطلقاً، وإنما الموضوع يتلخص في أن هناك علاقة بين شخصين موضوعها المصلحة، وقد تكون مالاً وقد تكون غير مال، وقد تكون العلاقة عند الإنشاء وقد تكون عند التنفيذ، وهذه العلاقة يوجدها جلب مصلحة أو رفع مفسدة للإنسان، وينظمها القانون فالبيع علاقة بين شخصين عند الإنشاء موضوعها المال، والوعد بإعطاء جائزة لمن عثر على ضائع علاقة بين شخصين عند التنفيذ موضوعها المال، والزواج علاقة بين شخصين موضوعها المصلحة وهي هنا ليست المال، وعلى ذلك فالالتزام بالمفهوم الذي ذكره القانون المدني غير موجود لا بالمذهب الشخصي ولا بالمذهب المادي، والالتزام من حيث هو بالمعنى الذي أرادوه وهو الحقوق الشخصية غير موجودة، وعلى ذلك ليست المعاملات سلطة من شخص على مال، ولا هي رابطة شخصين، وإنما هي علاقة بين شخصين موضوعها المصلحة التي يقرّها القانون، وينطبق ذلك على المعاملات التي تحصل بين شخصين عند الإنشاء كالإجازة أو بين شخصين عند التنفيذ كالوعد بجائزة لمن يقوم بعمل، وإذا كان الأمر كذلك كان الالتزام بأكمله غير موجود فضلاً عن كونه بالمعنى الذي أوردوه غير صحيح لا فيما ورد بالمذهب الشخصي ولا فيما ورد بالمذهب المادي، ولذلك كان القانون المدني ترتب على الالتزام وبني عليه قانونا غير صحيح.
نظرية الالتزام:(11/408)
تعتبر نظرية الالتزام أهم النظريات الفقهية في التقنينات الغربية جميعها، والناظر في الفقه الغربي وفي التقنينات جميعها يستدل من العناية الكلية بها على ما لها من شأن وخطر، فهي من القانون المدني بل من القانون عامة بمثابة العمود الفقري من الجسم، وهي في نظرهم أصلح النظريات القانونية ميداناً للتفكير وأفسحها مجالا للتعميم وأخصبها تربة لا نبات القواعد العامة، ويرونها بأنها أولى النظريات قابلية للتوحيد في شرائع الأمم المختلفة ولذلك يجعلونها الأصل الذي يتفرع عنه القانون المدني، فإذا ظهر فسادها وعدم صلاحها تبين بوضوح فساد جميع التقنينات التي بنيت عليها، وظهر فساد جميع القوانين المتفرعة عنها ولا سيّما القانون عنها ولا سيّما القانون المدني الذي هو في حقيقته نظرية الالتزام وفروعها، والناظر في هذه النظرية يجد أنها كانت منذ عهد الرومان وأن جميع التقنينات نقلتها عن الرومان واستعملتها في أول الأمر دون تغيير يذكر، لكن لما بدأت مشاكل الحياة تتجدد ظهر فساد هذه النظرية للذين نقلوها وبرز لهم عدم صلاحيتها فاعتبروا هذا الفساد قصوراً عن الإحاطة بالمشكلات، وأخذوا يغيرونها زاعمين أنها تتطور.
والحقيقة أن هناك عوامل متعددة أبرزت فساد النظرية وأثرت عليها حتى تغيرت كثيراً، وتبدلت على مختلف العصور، فالنظريات الاشتراكية التي ظهرت في أوربا قبل ظهور المبدأ الشيوعي أظهرت عدم صلاحية نظرية الالتزام، فاضطر الفقهاء لأن يغيروا نظرتهم للالتزام، فعقد العمل قد أدخلت عليه قواعد وأحكام تهدف إلى حماية العمال وإلى إعطائهم من الحقوق ما لم يكن لهم من قبل كحرية الاجتماع وحق تكوين النقابات وحق الإضراب، ونص نظرية الالتزام الرومانية لا يبيح إحداث مثل هذه القواعد، ولا يبيح مثل هذه الحقوق.
ونظرية العقد ذاتها كانت قوة الالتزام فيها تبنى على إرادة الشخص فصارت تبنى على التضامن في الجماعة أكثر مما تقوم على إرادة الفرد.(11/409)
وهذه نظرية الغبن لم تكن موجودة بل لم تكن نظرية الالتزام تجيزها فقد كانت النظريات الفردية تقضي بوجوب ترك الفرد حراً في تعاقده يلتزم بما أراد مهما أصابه من غبن في ذلك، ولما تبين فساد هذه النظريات أدخلت نظرية الغبن على بعض العقود ثم أخذت تتسع حتى أصبحت في القوانين الحديثة نظرية عامة تنطبق على جميع العقود، وهكذا كان لنشوء أفكار عن الحياة تخالف الأفكار القديمة أثر في بيان نظرية الالتزام ولم يقتصر الأمر على ذلك بل كان استعمالها مختلف الآلات الميكانيكية وتقدم الصناعة ووجود حروب عالمية قد أوجد مسائل عملية تبرز فساد نظرية الالتزام إذ إن استعمال الآلات اقترن بمخاطر جمة يستهدف لها الناس ولم تكن نظرية الالتزام تجعل المسؤولية إلا على الشخص، فظهر عدم صلاحيتها ووضعت المسؤولية على الخطأ المفروض، وصار إلحاق أي أذى في العامل يلزم صاحب العمل بالتعويض وهذا لا تقتضي به نظرية الالتزام، وصار عقد التأمين لا يقتصر على الشخص بل يشمل الغير فوجدت نظرية الاشتراط لمصلحة الغير، كما إذا أمّن شخص على حياته لمصلحة أولاده سواء أكان له أولاد وقت التأمين أم لم يكن له أولاد حين التأمين، وهذا يخالف نظرية الالتزام بأنها رابطة بين شخصين، والأولاد الذين لم يوجدوا لا يدخلون في هذه الرابطة مع أن العقد أصبح يدخلهم، وعلاوة على ذلك فإن نظرية الوفاء بعملة نقص سعرها، وفي التسعير الجبري للسلع والتقدير الجبري للأجر، وفي عقود التزام المرافق العامة ما يناقض نظرية الالتزام ومع ذلك أدخلت في القوانين الحديثة وهي تدل على فساد نظرية الالتزام وعدم صلاحها، وزيادة على ذلك فإن النظرية التي تقضي بأن الغش يفسد العقد، والقاعدة القائلة بأنه لا يجوز الاتفاق على ما يخالف الآداب، والنظام العام والالتزام بوجوب الامتناع عن الإضرار بالغير دون حق والإثراء بلا سبب الذي يمنع الشخص أن ينتفع على حساب غيره، كل ذلك يخالف نظرية الالتزام ويدل على(11/410)
فسادها لأنها تقييد وليس حرية، وهي تناقض الحق الشخصي وتهدمه على اعتبار أنه حق مطلق غير مقيد على أن الالتزام من حيث هو باعتباره الحق الشخصي، وباعتباره الحق العيني يقوم على رابطة قانونية بين الدائن والمدين توجب على الشخص أن ينقل حقا، وهذا يعني عدم اشتراط الرضا بالحوالة دون رضا المحال عليه بحوالة الحق، وعدم اشتراط رضا الدائن بحوالة الدين، لأن الحالة القانونية في الالتزام تلزم الشخص بنقل الحق عيناً أو ديناً، وهذا لا يضمن تحقيق العدل ولذلك ظهر فساده، فمجرد تبليغ المحال عليه لا يكفي بل لابد من قبوله لأن العقد في الحوالة _ كما في غيرها _ يجب أن تكون برضا أطراف العقد.
هذا إجمال في نظرية الالتزام، ومنه يتبين أنها لا تصلح ميداناً للتفكير لأن كثيراً من أنواع العلاقات بين بني الإنسان لا يمكن استنباطها منها بل على العكس هي تمنع استنباطها مثل كون الغش يفسد العقد وهي لا تصلح لأن تكون مجالاً للتعميم لأن المسؤولية على الخطأ المفروض وحوالة الدين، والاشتراط لمصلحة الغير والإرادة المنفردة وما شابه ذلك لا يمكن أن تشملها لا بمنطوق ولا بمفهوم، ولذلك فهي قاصرة وهي لا تصلح لا نبات قواعد عامة بدليل وجود نظريات وقواعد عامة تناقضها مثل قاعدة عدم جواز الاتفاق على ما يخالف الآداب والنظام العام، ومثل نظرية الغبن في العقود وليس فيها قابلية للتوحيد في شرائع الأمم بدليل ظهور قصورها وعجزها حين ظهرت النظريات الاشتراكية، رغم كونها فاسدة، وحين تقدمت الصناعة وهي من أساسها خاطئة لأنها تقوم على حرية الملكية والحرية الشخصية، وهذه الحرية للشخص وفي الملك هي التي تسبب الفساد بين الناس وهي التي تمكن من الاستقلال والاستعمار لأن إعطاء الحرية في التملك وإعطاء الحرية الشخصية يحميه القانون حين بني على نظرية الالتزام وفي ذلك الفساد والشقاء.(11/411)
والذي يبرز فساد نظرية الالتزام أيضاً تعريف مصدر الالتزام وترتيب مصادر الالتزام التي ذكرتها التقنينات القديمة والحديثة كما سنرى في الحلقة المقبلة من هذا الموضوع بمشيئة الله تعالى ذلك جليا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] التقنين اللاتيني مأخوذ عن التقنين الروماني وأول ما وضع من القوانين اللاتينية القانون الفرنسي ثم قلدته قوانين متعددة، ومن التقنينات اللاتينية القانون الإسباني، والقانون الإيطالي، وقوانين أمريكا الجنوبية.
[2] التقنين الجرماني: وقد تحرر من النظريات الرومانية، وغلب النظريات الجرمانية الأصل، وهو يخالف في نظرته الأساسية التقنين اللاتيني، ومن التقنين الجرماني القانون الألماني والنمساوي والسويسري.
[3] التقنينات المتخيرة: وهي التقنينات التي استقت من كلتا المدرستين اللاتينية والجرمانية، وحاولت أخذ محاسنهما، ومن هذه التقنينات القانون البولوني والقانون البرازيلي.(11/412)
من الصحف والمجلات
إعداد العلاقات العامة
إن سن الدراسة الجامعية من الثامنة عشرة إلى الرابعة والعشرين هي فترة الغرس والرعاية وتكوين الإنسان لمبادئه وفيها يتعرض أيضاً لمختلف التيارات الفكرية، ولكننا نبعث شبابنا إلى العدو ليعيدوهم خنجرا مسموما في صدورنا بعد أن يميتوا أواصر المحبة بينهم وبين أهلهم، تلك الفترة التي يجب فيها إعداد الشاب المسلم على منهاج واضح متين.
إنها نظرة الإعجاب التي نحملها للغرب جعلت من الآباء عندنا يعتقدون بأن العلم الصحيح والتدريس الجيد ما هو إلا في جامعات الغرب، أضف إلى ذلك المركز الاجتماعي المرموق الذي هيأه المستعمر لحاملي الشهادة الأوربية والأمريكية (حديثاً) واستمر هذا حتى بعد رحيل الاستعمار حسب تخطيطه.
فقرات من مشاهدات عائد من أمريكا (الحلقة الثالثة) مجلة المجتمع
وهناك انسجام وتفاهم تامين بين فريق من رجال العصابات والشيوعيين في حقل ترويج المخدرات، والتعاون على انتزاع الأسرار العسكرية ومعرفة مواقع الانشاءات التي تنوي حكومة واشنطن إقامتها في ألاسكا والحصول على تصاميمها، وعلى الرغم من طول المسافات الشاسعة التي تفصل ألاسكا عن الولايات المتحدة فإن الأعمال الإجرامية والموبقات قد سبقت المدنية إلى تلك البلاد واستشرى شرها في السنين الأخيرة بشكل فاضح.
ومن الأمور الطبيعية أن تسمع بحوادث تشليح على قارعة الطريق، وسرقات علنية، واقتحام المنازل بقوة السلاح، وهذه الأعمال يقوم بها الجنود وفريق من المدنيين المغامرين.
فقرات من موضوع (فضائح) ((الإمبراطورية الأميركية)) المنشور في كتاب أميركا دولة تحكمها العصابات.(11/413)
ولقد أحدث الشيخ علي عبد الرزاق "ثلمه "في الإسلام سيظل يحمل وزرها أمداً طويلا، فلأول مرة يجرؤ عالم أزهري مسلم إلى القول بأن الإسلام دين روحي، وأنه لا صلة له بنظام الحكم مهما كان سياق الدعوة أو ظروفها السياسية أراد أن يخدم بها حزب الأحرار الدستوريين أو الانجليز أو المعارضين الملك فؤاد، فإنه في سبيل غاية هينة قد استخدم نصوصاً أراد بها أن يحجب حقيقة أساسية هي أن الإسلام نظام مجتمع ومنهج حياة متكامل، فمنذ ذلك اليوم يكتب المستشرقون فيقولون: إن في الإسلام نظريتين: إحداهما تقول بإن الإسلام دين ودولة، والأخرى تقول أن الإسلام دين روحي، وصاحب هذه النظرية هو علي عبد الرزاق ومن سار على طريقه من بعده ومن خريجي الأزهر أيضاً مع الأسف.
من مقال نظريات واحدة كشف الفكر الإسلامي زيفها للأستاذ أنور الجندي
فالتخوف من الاكتساح الماركسي لم يعد مناسبا للمرحلة الراهنة من الصراع الإسلامي الماركسي، لأن الإسلام لم يعد الآن في قفص الاتهام، أو في طور الدفاع لظهور حركة بعث إسلامي تستهدف استئناف الحياة الإسلامية، ولهذا السبب لم يعد يسوغ للإسلاميين أن يكتفوا ببيان محاسن الإسلام، وببيان تناقضه مع الماركسية، وإنما أصبح من اللازم عليهم أن يقوموا بهجومات مضادة تدعم مسيرة الحركة الإسلامية المعاصرة على أساس تقييم جدي لإمكانيات نجاح الماركسية وعوامل إخفاقها.
فقرة من مقال الإسلام الواحد والماركسيات المتعددة للأستاذ عبد الواحد الناصر - مجلة العدد الأول السنة السابعة عشر.
حركات نسائية مريبة
جاء في جريدة الأهرام في 15_4_75م تحقيق صحفي عن جريدة نيويورك تايمز الأمريكية تحت عنوان "الجريمة النسائية زادت مع نمو حركة تحرير المرأة في أمريكا ".(11/414)
تقول الجريدة: خرج أخيرا تقرير عن مكتب التحقيقات الفيدرالية بالولايات المتحدة يشير إلى أن معدل الجريمة بين السيدات أو الجريمة النسائية ارتفع ارتفاعا مذهلا مع نمو حركات التحرر النسائية، وأن الاعتقالات بين السيدات زادت بنسبة 95 في المائة منذ سنة 1969م، بينما زادت الجرائم الخطيرة بينهم بنسبة 52 في المائة، هذا علاوة على أن خطر عشرة مجرمين مطلوب القبض عليهم كلهم من السيدات، ومن بينهن شخصيات ثورية اشتركن في حركات التحرر النسائية مثل جين البرت، وبرنادربن دورن.
ووراء ربط ارتفاع نسبة الجريمة بين السيدات بحركات التحرر النسائية وجهة نظر تقول: إن منح المرأة حقوقاً ومساواتها بالرجل يشجعها على ارتكاب نفس الجرائم التي يرتكبها الرجل، بل إن المرأة التي تحرر تصبح أكثر ميلاً لارتكاب الجريمة.
هذا ما جاء بالنص بالجريدة المذكورة يتبعها وجهات نظر متعددة تتضمن سؤالا في نفس التقرير، والسؤال الآن إذا لم تكن حركات التحرير النسائية هي المسئولة عن ارتفاع نسبة الجريمة بين الأمريكيات فأين تقع المسئولية؟
ونحن نضيف إلى هذا البحث الذي كتبه الدكتور يوسف مراد عن سيكاولوجية الجنس… يؤكد الباحث في كتابه أن النساء اللاتي يتزعمن الحركات النسائية غالباً ما يكون بهن شذوذ بصورة ما دفعتهن إلى الخروج عن طبيعتهن النسوية أو انحدرن من أسر شاذة.(11/415)
وقد استمعنا إلى واحدة من زعيمات الحركة النسائية في مصر، وترأس تحرير مجلة نسائية بصوتها الشبيه بصوت الرجل، قالت هذه السيدة: أنها كانت تعجب بالرجال في فترة مراهقتها ولا بأس أن تحب واحدا بعد الآخر، وفي شهادتها المدرسية رسبت في الأخلاق، ولو امتد الحديث عن زعيمات أخريات وآفاق أوسع لرأينا الهول الشديد عن حياتهن الخاصة، هذه حجارة نلقمها أفواه الرجال والنساء الذين ينادون بحرية المرأة في جميع المجالات ويحتفلون بالسنة الدولية للمرأة، وهم في الواقع أعداؤها، وقد أخرجوها من مملكتها في المنزل عارية الساقين والذراعين.. حشروها في زحمة المواصلات تنهشها العيون الزائغة، وغرائز الشباب الملتهبة في الشوارع والمكاتب ومحال العمل فكان ما كان، وسيأتي ما هو أسوأ خيانات زوجية بالجملة، جيل ممزق ينشأ بدون رعاية أسرية أو جو أسري صحي مشاكل طلاق، وخراب بيوت، إلا من عصم الله، ومع هذا نجد صحفيا يطالب بأن تحتل المرأة مناصب أكبر في الوزارة؟
نحو مجتمع أفضل
قبل بضعة أيام أذاع راديو لندن ترجمة للخطاب الذي وجهه رئيس أساقفة كنيسة كانتربرى للشعب الإنجليزي، وعند سماعي لهذه الترجمة لم أكن أصدق ما أسمع.
فللمرة الأولى في حياتي بالرغم من قضائي عدة سنوات خلت في الغرب أثناء دراستي الجامعية لم أسمع إنسانا غربيا في هذا المستوى يحاول إيقاظ ضمائر شعبه للتنبه لهذا المستوى من الانحطاط والفوضى الخلقية التي تعيشها المجتمعات الغربية.
لقد أعلن رئيس أساقفة كانتربرى في خطابه إلى الشعب الإنجليزي أن أهم أسباب انهيار المجتمع الإنجليزي وضعفه وتفككه يعود لعاملين مهمين هما:
اندثار الأخلاق.
اضمحلال الجانب الروحي لدى الإنسان الإنجليزي.(11/416)
ونبه شعبه إلى أن الاهتمام والتركيز على النواحي المادية فحسب سوف يؤدي إلى النهاية المحتومة لبريطانيا واندثار حضارتها وضياعها إلى الأبد، وأكد رئيس أساقفة كنيسة كانتربرى أن الاهتمام بالأمور المادية يجب أن يصاحبه باستمرار اهتمام مكافئ بالنواحي الخلقية والروحية، وربط بين انحلال الشباب وتفشي الجريمة والعنف وانهيار الأسرة بالاهتمام الطاغي الوحيد بالنواحي المادية للحضارة وتجاهل أهمية الأخلاق والروح في المحافظة على توازن النفس والسلوك والتصرفات البشرية.
وفي الختام دعا رئيس الأساقفة شعبه إلى الوقوف مليا لتأمل الواقع المرير الذي يعيشونه، والمستقبل المظلم الذي ينتظرهم إذا سارت الأمور على ما هي عليه من الانحلال والضياع، واتخاذ خطوات سريعة لرأب الصدع وإجراءات جذرية لتصحيح المسيرة وذلك بإعادة الاهتمام بالنواحي الخلقية والروحية في تربية النشء.
عن مجلة المجتمع الكويتية(11/417)
جراح الإسلام
شعر: محمد المجذوب
(فانقصا من ملامتي أو فزيدا)
قد أبت مقلتاي إلا جمودا
ث عزيزا ولم أؤبن شهيدا
واعذراني إذا وجمت فلم أر
فقد الموت وقعه المعهودا
كثر الموت في الأحبة حتى
في خطوب سدّت عليه الوجودا
ليت شعري ماذا يقول بليغ
ن، وبعض الأنباء يفري الكبودا
أفلا تسمعان أنباء لبنا
فباتت، وهي الجنان، حصيدا
غرقت بالدماء أكنافه الخضر
م فغطت سفوحه والنجودا
وبأرجائه تناثرت الها
على الناطحات حتى تبيدا
وسرت في ربوعه النار تنقضّ
وأحالت عطر الحياة صديدا
والصواريخ زلزلت كل رأس
ء أوحى طغاتها أن تعودا
إنها غدرة الصليبية الرعنا
ن)) ليغدو التوحيد فيها وقيدا
قد تولى إيقادها أمس ((اربا
((وشمعون)) تستجدّ الحقودا
وهي اليوم في قيادة ((إبيير))
وقد جاز في السَّفاه الحدودا
ألبت كل مجرم كره الحق
ن)) _على رغمه_ كتائب سودا
ثم ساقت أوسابهم باسم ((مارو
م والمسلمين دينا سديدا
لا ترى في سوى القضاء على الإسلا
وفي لحظة تخون العقودا
ولكم عاقدت وسيطاً على السلم
أن ترى الكل هالكا أو شريدا
فهي لا ترتوي مدى الدهر إلا
ويرتد دونها مهدودا
فتن يستطار من هولها اللبُّ
ن تزجي على حمانا الجنودا
تتداعى في غمرها ذكرُ الصلبا
كل ضرب من الخطوب فريدا
تتوالى أشباحها حاملات
كوس)) يأبى لها البغاة خمودا
منذ ((فرناند)) لا تزال إلى ((مر
فأذكى أوارها تجديدا
كلما قيل قد خبت هبّ ذو ضغن
العوادي كالدهر غضاً جديدا
غير أن الإسلام ظل على رغم
برار، كيد الفجار إلا صمودا
لم يزده، ولم يزد جنده إلا
نو لنصر في أمتي أو يسودا
ولعمري ما كان للغدر أن ير(11/418)
شد واستلهموا الكتاب المجيدا
لو توخّى الحكام فيها سبيل الر
عليه _ بعد الأسود قرودا
بيد أن الإسلام بدِّل _ والهفا
وشدوا على بنيه القيودا
فتحوا للبغاة أسواره الشُّم
في بلاء يجاوز التحديدا
وتباروا في حربه، فهو منهم
أم تراهم قد استطابوا الرقودا!
يا لقومي.. أليس فيهم رشيد
ن لتمزيقهم يُعدّ الحشودا
شُغلوا بالخلاف، والخصم يقظا
رجموه، أو أوسعوه صدودا
وإذا حثهم على الوعي هاد
ن، ويأبى عن وحيه أن يحيدا
جلهم أسلم الزمام لشيطا
ن يوماً إلا الهلاك الأكيدا
ومحال أن يضمر الكفر للإيما
م منهم قد استمد الوقودا!
هل دَرَوا أن كل غزو على الإسلا
ت تهاوى ليس العقوق الوحيدا
تركنا القدس تستغيث وبيرو
ف المآسي لمن أراد شهودا
فبتايلندا والفلبين إلا
جرح الإسلام ثراً جديدا
وبتركية الشقيقة ما ينفك
إلى الآن لم تجد تضميدا
طعنة ((الدونميّ)) في قلبه البَر
فانبتّ إخاء كان الرباط السعيدا
حطمت دوحة الخلافة
ليس يألو في عقدنا تبديدا
فغدونا مذ يومها في صراع
زت بأحداثها الجسام الوجودا
وضحايا الإلحاد في ((مقدشو)) هز
ولم تلف بيننا مردودا
ردّدت هولها العواصم إنكاراً
يين ليزداد غيهم تصعيدا
بل بذلنا للقائلين الملا
م أعاجيب قد تشيب الوليدا
وبصحراء مغرب العرب اليو
بها للأباة فتحاً مجيدا
أدركتها انتفاضة حقّق الله
ة عادوا فاعلنوا التهديدا
فإذا الإخوة الأولى أعلنوا الحيد
رب ما لا يسرّ إلا الكنودا
ثم لم يكتفوا فصبّوا على المغ
م بتحريضهم تدكّ الحدودا
عُصَب من ذئاب كوبا وفتنا
باركوها وصفقوا تأييدا
كلما أهرقت دماً عربيا
بأبعادها الحليم الرشيدا
محن تضحك الغويّ، وتستبكي(11/419)
ولم يستطع لها تحديدا
لو مضينا في سردها عجز العقل
كلّ زيغ ونرفض التسديدا
سلبتنا السّداد حتى لنرضى
ولم نرع في الإخاء العهودا
فأبحنا أرحامنا لمدى البغي
نا على أهلنا العدو اللدودا
وأضعنا حق الإباء، وآثر
لأذانا وراح يبغي المزيدا
ولذلك اشرأب كلّ غشوم
ع لَوَنَّا سقنا إليه الوعيدا
وهو أهوى من أن يسوق لنا الرَّو
منعناه نفطنا المنشودا!
أيّ حول يبقى لعاد إذا نحن
عنهم رفدنا لخرّوا سجودا
ومطايا ((مارون)) لو قد حجبنا
حين صرنا للترهات عبيدا
غير أنا هِنّا على كل عبد
ني أناجي أطيافهن وحيدا
يا خليليّ.. خلياني وأشجا
في جحيم الأسى يذوب وليدا
قد عصتني الدموع لكنّ قلبي
قاتلاتي وإن بدوت جليدا
وجراح الإسلام من كل صوب(11/420)
من الأدب الإسلامي
إليك أيها الداعية
بقلم: فضيلة الشيخ إبراهيم محمد سرسيق
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
بعد سنوات عديدة قضاها الكاتب يدعو إلى الله تعالى في شرق القارة الإفريقية عاد يقدم خلاصة تجاربه الميدانية في هذا المقال.
وقد اهتم فيه بإبراز الخصائص الهامة في شخصية الداعية الإسلامي وكيف ينبغي عليه أن يضبط تحركاته على نبض الأحداث في بيئته طبقا لمقتضيات الرسالة التي هيأه الله لتبليغها إلى الناس..
أيها الداعية.. من أنت؟ هل أنت مجرد آدمي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق؟ هل أنت مجرد موظف يرتزق من دعوته الناس إلى دين الله؟ أو هل أنت عميل تابع لمذهب سياسي معين، ترتفع بارتفاعه وتنخفض بانخفاضه؟ أو أنك راهب متصوف تنتظر أن يأتيك الناس التماساً للبركة وأملا في "المدد"!!
من أنت على وجه الحقيقة، بين كل هؤلاء؟؟ أم أنك نموذج فريد يختلف عن كل هؤلاء؟
لتكن على بينة أيها الأخ الصالح، أن ظروف الحياة اليوم تختلف كثيرا كثيراً عنها بالأمس، وتلك سنة الله في خلقه، ووسيلة من وسائله سبحانه في تجديد ملكه، ومن ثم فإن طرق الدعوة يجب أن تتكيف مع المتغيرات في هذا الكون، كما أن شخصية الداعي يجب أن تتعدل مع طبيعة الكائنات في هذا العصر، ويحكم على نفسه بالذبول وبالموت، من يظل من الدعاة سالكاً دروبه القديمة، عاكفاً على طرقه العقيمة تاركاً التزود بالمناهج الإرشادية القويمة.(11/421)
ومن أعجب العجب، أن ينتهك ستار الأخلاق والأدب، بأن يلجأ الداعية إلى ترديد القديم البالي من الخطب، فكأنما يصيح بلسان غير لسان عصره، ويقدم العظة لغير أهله ومصره، وكأني بأحد الجالسين يناشده ويعارضه: يا أخانا.. قد حفظنا ما تقول منذ سنين ونسيته! فكيف بالله تنسى اليوم ما قلته بالأمس، ولو شئت لرددناه على مسامعك حتى تغرب الشمس! فغير يا هذا من أسلوبك، واشتغل عن عيبنا بإصلاح عيوبك! وقوّم لسانك وبيانك، فإن اللسان هو ترجمان القلب، وبقدر ما يكون فؤادك تقياً نقيا يكون أسلوبك في الدعوة مؤثرا وقوياً!
واعلم يا أخي رعاك الله وهداك وجعل الجنة مثواك، أن البلاغة في الإلقاء الديني ليست في الأصل تدريباً للسان أو تطويعاً للبيان بقدر ما هي تنقية للقلب وتهذيب لجوارح الإنسان، نعم وإلا فخبرني: كيف ينطق الداعية بما ليس فيه؟ وكيف ينهاك عن المنكر ثم يأتيه؟ إنه والله إذن لمأفون مفتون، وتأمل ما في قول الإله القاهر من سرّ باهر {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} أولست تعلم أن الإيمان دائماً يقترن بالعمل الصالح في كتاب الله الأقدس؟ فكيف بمن نصب نفسه للدعوة إلى الله عز وجل؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} .(11/422)
كيف يتوقع من الداعية أن يكون قدوة لغيره وهو لم يستطع أن يصلح ذات نفسه، إنه والله للإفك المبين! إن على الداعية أن يخجل من نفسه، وأن يرهب عقاب ربه، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} عليه أن يبلغ من تأديب نفسه وزجرها وكبح جماحها ما بلغه الأسلاف الراشدون من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فإنه بغير ذلك لن يكون نافذ التأثير، قوي العظة، محركاً لمشاعر الجماهير الساعية إلى الحق وطلب الهداية، فالجماهير تتأثر بالفعل قبل القول، وبالقدوة قبل الخطبة، وبالسيرة الوضيئة النبيلة قبل المحاضرة الجريئة الطويلة.
واكبر منه جاهل يتنسك
فساد كبير: عالم متهتك
لمن بهما في دينه يتمسك
هما فتنة للعالمين عظيمة
روى الطبراني في معجمه الصغير عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لا أتخوف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً، أما المؤمن فيحجزه إيمانه، وأما المشرك فيقمعه كفره، ولكن أتخوف عليكم منافقاً عالم اللسان، يقول ما تعرفون، ويعمل ما تنكرون! " فليتأمل هذا كل من يجري الشهد في بيانه، بينما يختبئ ثعبان أرقط تحت لسانه! يتكلم بالحكمة شعراً ونثراً، بينما يحمل قلبه شرا وجمرا..
ونستعيذ بالله تعالى من كل شيطان عنيد.
ثم تعال يا صاحب البيان الطلي، والأسلوب الشهي..
ماذا يحمل بيانك الصائب من علم وافٍ وفقه كافٍ وحديث شافٍ..(11/423)
أين التفسير الصريح والحديث الصحيح؟ أين السند القوي، والدليل الذكي؟ من أي المناهل ارتشفت واشتفيت، وعلى أي المصادر اطلعت واكتفيت؟ أقضيت وقتاً طويلاً في البحث والتقصي قبل أن تخرج على الناس بفتواك، وتقدم إليهم من العلم الصحيح نصائحك وهداياك؟ تلك هي وربك قاصمة الظهر التي لا يمحى عارها أبد الدهر، اللهم إلا إذا كنت من عظاتك متثبتاً متيقناً، حتى لا تقع في الهوة التي وقع فيها من قبلك من جعلوا هواهم حكماً في أمور الدين وبئسما صنعوا {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} .
روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة. قال: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ".
وصدق الله العظيم {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
ومن العلم الصحيح يا داعي الحق أن تهجر البدع وتنبّه الناس إلى ضررها، وأن تجانب الفساد وتحذر الناس من استشرائه وانتشاره، فإنها المهمة الكبرى المنوطة بك أن تحذر الناس من النار: نار الدنيا ونار الآخرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} سورة التحريم: 6.
وقد روى ابن بطة بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تركبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل ".
وسبحان من خلق النفوس وهو أدرى بأهوائها ومشاربها وهو قادر على إصلاحها.(11/424)
((الحكمة)) .. جوهرة الداعية.. ويتفرع عن الإيمان بهذه الحقيقة أن يتفهم الداعية نفوس مريديه، فلا يلصق نفسه بهم وقد وهنوا أو سئموا، ولا يتخلى عنهم وقد رغبوا وطلبوا.. ولا ينبغي أن ننسى كيف عاتب الله نبيه من فوق سبع سموات في شأن عبد الله بن أم مكتوم، ذلك الأعمى الذي جاءه يسعى وهو يخشى {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} .
ومن أخطاء الدعاة أن يشنوها حرباً شعواء على مخالفيهم في الرأي أو المذهب أو العقيدة، وينسون أو يتناسون ضرورة التطبيق العملي لتوجيهات القرآن المجيد {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} ، {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} وكم من دعاة أخفقوا في مسعاهم بغلظ طباعهم، وخشونة مسلكهم، وكان يمكنهم أن يؤلفوا حولهم القلوب، ويفوزوا دائماً بالمطلوب وينالوا الثواب المرغوب، ولهذا كانت وصية الله تعالى لموسى وهارون حين وجههما إلى فرعون {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} ، ولم يمدح الله نبيه محمداً بمال أو جمال بل بحسن الخلق {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} ، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ، {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك} .
وما لي لا أجذب ناظريك إلى الكفاح المضني الذي ناء به محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف كان يسوس الناس أفضل سياسة، ويعامل الحضري والبدوي منهم بلطف وكياسة، أفلا يكون لنا قدوة في رسول ربنا وهو الذي جمّله الله بحميد الفعال وكريم الخصال؟(11/425)
يا خلفاء الداعية الأعظم: محمد صلى الله عليه وسلم كم تغنمون من الثواب إذا نشطتم في التبليغ، ولم تكتفوا بالقعود في حرز منيع! يا دعاة الإسلام، لا تنتظروا أن يهب الناس إليكم، ويتزاحموا بالمناكب عليكم! قوموا من نومكم وابحثوا عن الضال لترشدوه كما أرشدكم الله، وعن المنحرف لتقوموه بما علمكم الله {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} ! يا قومنا! لقد كان أمر الله لرسوله بالقيام وتحرير العقول من الأوهام أمرا صريحاً لا تلميح فيه {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} ، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} ، فكيف بكم أيها الدعاة في هذا العصر.. وقد تضخم العبء، ونشطت الدعوات الإلحادية، وصار الدعاة أغراضا ترمى بالسهام!
كيف وقد زادت الثروة، وانكمش عدد المؤمنين، وتفاقم الخطر والضرر على الدعاة الموحدين! تظلون مع هذا كله خدماً لبطونكم، عبيداً لشهواتكم أسارى لنسائكم؟ إذن فاسمعوا ما رواه الديلمي عن علي رضي الله عنه مرفوعاً: "يأتي على الناس زمان همتهم بطونهم، وشرفهم متاعهم، وقبلتهم نساؤهم ودينهم دراهمهم ودنانيرهم، أولئك شر الخلق لا خلاق لهم عند الله".(11/426)
إن الدعوة إلى الله ليست سلعة تقبل أو ترفض! وليست عرضاً يبرم أو ينقض! وإنما هي روح الحياة وحياة الروح، وبدونها يكون المرء مصباحاً بلا شعاع، ومسافراً بلا متاع، وكائنا ممسوخاً ضائعاً شر ضياع {يا أيها الذين ءامنوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} وكلما كان الداعي مخلصاً مناضلا في سبيل رسالته، دائب التبليغ لدعوته نصره الله وأعزه، وأذهب كيد الكائدين له، وهيأ النجاح له أينما حل وحيثما ذهب! {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} فيا أخي هداك الله، لا تهزل وأعداؤك في جد، ولا تصخب وشانئوك في عمل، ولا تنم والمبشرون في يقظة {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} .
أفضل الجهاد: كلمة حق.. عند سلطان جائر..
آه ثم آه يا إخوتي: الحق أقول لكم: كم من المصائب التي طمّت وعمّت في عالمنا الإسلامي، ما كان لها أن تحدث والأمر لله، لو أن كلمة الحق قيلت في وجه طاغية غشوم!
ترك الدعاة الجهر بالحق فجهر فيهم أعداؤهم بالباطل، تخلوا عن تنفيذ أمر الله فسلط الله عليهم بأعمالهم من لا يخافوه ولا يرحمهم، فنعموا بجبنهم، وسمنوا في ظل خورهم وكسلهم وتسبيحهم بحمد ظالميهم.. فاللهم إنا نبرأ إليك مما فعلوا، ونعوذ بجبروتك أن نصنع مثل ما صنعوا.
ونسألك يا ذا النعم أن تلهمنا اللجوء إليك حين يحاصرنا الشيطان وأعوانه من بني الإنسان، فلا نكتم حقاً، ولا نخشى لك رقا، ولا تأخذنا فيك لومة لائم، نجاهر في وجه الظالمين بما قلته وقاله رسولك، نذكرهم بما نسوا من الحق، نخوفهم بجلالك وعظمتك أن يحلوا حراماً أو يحرموا حلالا، نذود الناس أن ينحنوا لغير الله، أو يذلوا رقابهم لما سوى الله.
فما يملك الإنسان نفعا ولا ضرا
من الله فاسأل كل أمر تريده
من الكبر في حال تموج بهم سكرا(11/427)
ولا تتواضع للكبار فإنهم
فقد قيل عنها إنها السجدة الصغرى
وإياك أن ترضى بتقبيل راحة
يا داعية الإسلام.. ارجع البصر فيما حولك من أحوال دنياك: هل ترى إلا دولا تقوم وتنفض، وحكومات تبني وتنقضّ! ورؤساء يجيئون ويذهبون، وملايين يولدون ويموتون؟ هكذا أنت يا صاحبي {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} ، فضع مصحفك بين يديك، واجعل رسالتك نصب عينيك، واعلم أن الدعوة هي حياتك ومماتك، هي ماضيك وحاضرك، هي أعظم ما يبقى من خير لك {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ويقول النبي صلى الله عليه وسلم "فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحداً خير لك من حمر النعم".
فلتكن أعظم أعمالك بركة عليك بعد موتك، أن يتذكر بعض من هديتهم إلى الله، فيدعو لك دعوة صالحة، واجعل مسعاك لله، وإخلاصك كله لله، والتجاؤك دائماً إلى الله، وثقتك كلها في فضل الله، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.(11/428)
ندوة الطلبة
الجِّد
للطالب أحمد حسن المعلم
فاترك معاتبتي بالله يا سامي
بالجد يمكنني تحقيق أحلامي
فيما يؤهلني للموقف السامي
إني لأصرف أوقاتي وأنفقها
حتى أود لو أن اليوم كالعام
يجتاز بي الدهر لا أبغي تصرمه
لذا حرصت على تقييم أيامي
إني أرى العمر مهر المجد أطلبه
فقد نهاني عن التبذير إسلامي
لا أصرف الوقت في لهو وفي لعب
بل راحت النفس في جدي وإقدامي
ولا أرى في لزوم الجد من تعب
فما تسبب تسهيدي بإيلامي
فكم سهرت على أوراك مكرمة
جاء النجاح يداوي جرحها الدامي
بل لو تفطرت الأعضاء من تعب
ينسيك ما كان من جهد وآلام
ما أعذب القصد بعد الجهد تدركه
يسري الطموح إلى أبناء أعمامي؟
هذا شعوري شعور الطامحين فهل(11/429)
أخبار الجامعة
صاحب السمو الملكي ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية يرأس المجلس الأعلى للجامعة في السابع عشر من شهر ربيع الأول القادم
سيعقد بمشيئة الله المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية في السابع عشر من شهر ربيع الأول دورته الأولى للعام الدراسي 95- 1396هـ في مقر الجامعة برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية، ويبحث المجلس في هذه الدورة العديد من الموضوعات ومن بينها مشروع ميزانية الجامعة للعام المالي 96-1397هـ وإنشاء فرع لكلية الشريعة بالجامعة في مقاطعة القصيم لتكون نواة لجامعة في تلك المنطقة في المستقبل القريب بمشيئة الله.
كما سيقوم بدراسة بعض لوائح الجامعة مثل لائحة قسم الدراسات العليا، ولائحة المجلس العلمي، ولائحة مجلس شؤون الدعوة، واللائحة المالية للجامعة، ولائحة المكتبات، كما سيتم في هذه الدورة تعيين عمداء للكليات من هيئة التدريس وأعضاء في مجلس الجامعة، وإنشاء أقسام في الكليات.
وسيتفضل سمو الرئيس الأعلى للجامعة بمناسبة قدومه الميمون إلى المدينة المنورة لرئاسة المجلس الأعلى للجامعة بمناسبة قدومه الميمون إلى المدينة المنورة لرئاسة المجلس الأعلى للجامعة بتفقد أقسام الجامعة وسماع بعض المحاضرات في بعض كليات الجامعة.
وهذه اللفتة الكريمة من سموه نموذج مما تتلقاه الجامعة من سموه باستمرار من رعايته إعلاءً لشأنها وتقديراًً لرسالتها وتشجيعها لها على السير قدماً نحو تحقيق أهدافها السامية.
الدكتور حافظ غانم نائب رئيس الوزراء ووزير التعليم العالي المصري يزور الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة(11/430)
زار الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة صباح الخميس 5 صفر معالي الدكتور محمد حافظ غانم نائب رئيس الوزراء ووزير التعليم العالي بجمهور مصر العربية يرافقه الدكتور صوفي أبو طالب مدير جامعة القاهرة وبعض المسئولين عن التعليم العالي في مصر، وكان في استقبالهم فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد نائب رئيس الجامعة وفضيلة الأمين العام الشيخ عمر محمد فلاتة وعمداء الكليات وعدد من أساتذة الجامعة وقد رحب بهم فضيلة نائب رئيس الجامعة وتحدث إليهم عن الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ورسالتها العالمية وعنايتها بتثقيف الطلاب المسلمين من سائر أنحاء العالم الثقافة الإسلامية الصافية.
وبالدعوة إلى الإسلام وتبليغ رسالته الخالدة إلى العالم أجمع، وأشار فضيلته إلى أهمية الدراسات الإسلامية للطلاب المسلمين في سائر الجامعات.
ثم تحدث معالي الدكتور محمد حافظ غانم عن دور الجامعات في نقل الثقافات من جيل إلى جيل وأشاد برسالة الجامعة الإسلامية.
وبعد انتهاء الاجتماع زار معالي الضيف الكريم ومرافقوه بعض أقسام الجامعة ثم ودعوا بما استقبلوا به من حفاوة وتكريم.
وفي مساء اليوم غادر الوفد المدينة المنورة متوجهاً في رعاية الله إلى جدة وكان في وداعه بالمطار فضيلة نائب رئيس الجامعة والأمين العام والعمداء وبعض المسئولين في الجامعة.(11/431)
أضواء من التفسير
لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَىإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} .
المناسبة:
بعد أن ذكر أطماعهم وشهواتهم، وهم يطمعون أن تشفع لهم هذه الأصنام، أقنطهم من هذه الشفاعة، ببيان أن الملائكة المقربين لا تغني شفاعتهم إلا من بعد إذن الله ورضاه لمن يكون أهلا للشفاعة، فكيف تشفع الأصنام لمن يعبدها؟
القراءة:
قرأ الجمهور {شَفَاعَتُهُمْ} ، وقرئ شفاعته، وقرئ شفاعاتهم.
المفردات:
{كَمْ} خبرية للتكثير. {مَلَك} ٍ واحد من الملائكة مأخوذ من المأْلَكَةَ وهي الرسالة، ومنه قولهم ألكني إلى فلان أي أبلغه عني. وسمي الملك لأنه يبلغ عن الله تعالى {لا تُغْنِي} لا تدفع ولا تنفع. {يَأْذَنَ} أي يبيح للشافع أن يشفع. {تَسْمِيَةَ الأُنْثَى} أي يقولون إنهم بنات الله. {تَوَلَّى} أعرض. {ذِكْرِنَا} أي القرآن. {مَبْلَغُهُمْ} غايتهم. {ضل} حاد.
التراكيب:(11/432)
قوله {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} كم في محل رفع على الابتداء، والخبر لا تغني، وأفردت الشفاعة على قراءة الجمهور لأنها مصدر، ولأنه لو شفع جميعهم لواحد لم تغن شفاعتهم عنه شيئاً. وجمع الضمير في شفاعتهم مع إفراد الملك باعتبار المعنى أي وكثير من الملائكة. وقوله {شَيْئا} مفعول مطلق أي شيئاً من الإغناء. واللام في قوله {لِمَنْ يَشَاء} بمعنى في. والواو في قوله {وَيَرْضَى} لمطلق الجمع. وإذنه تعالى لا يصدر إلا إذا رضي عن عبده المذنب فإذا رضي عنه أذن للشافع أن يشفع له، وهو سبحانه لا يرضى إلا بالتوحيد. وقوله {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى} التعبير بالاسم الموصول لتسجيل كفرهم وللإشارة إلى نوع الخبر وأنه من نوع القبائح. فإن قيل: زعمهم لشفاعة أصنامهم إيمان منهم بالآخرة؛ قلنا: هم لا يجزمون بالحشر ويقولون إن كان حشر فهم يشفعون. وقوله: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} حال من فاعل يسمون، أي يسمونهم والحال ألا علم لهم بما يقولون أصلاً، وعلم مبتدأ مؤخر، ولهم خبر مقدم. وقوله: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} الفاء فصيحة. وكان مقتضى الظاهر أن يقول {فأعرض عنهم} ولكنه وضع الموصول موضع الضمير للتوسل به إلى وصفهم بما في حيز الصلة من الأوصاف القبيحة مع تعليل الحكم بها. وقوله: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْم} قيل الجملة مقررة مضمون ما قبلها من قصر الإرادة على الحياة الدنيا. والإشارة فيه قيل إلى ما هم فيه من التولي وقصر الإرادة على الحياة الدنيا. وقيل الإشارة إلى جعلهم الملائكة بنات الله. وقيل إلى الظن أي غاية ما يعلمون أن يأخذوا بالظن. وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ(11/433)
بِمَنِ اهْتَدَى} تعليل للأمر بالإعراض ووعيد شديد لهم. وإنما كرر {هُوَ أَعْلَمُ} لزيادة التقرير والإيذان بكمال تباين المعلومين.
المعنى الإجمالي:
وكثير من الملائكة الذين هم عباد مكرمون لا يستطيعون أن يطلبوا أن يخفف العذاب عن أحد إلا إذا رضي الله عمن يشفع فيه وأذن للشافع في الشفاعة مع أنه لا يرضى إلا عن أهل التوحيد.
إن هؤلاء الجاحدين للبعث ليصفون الملائكة الذين هم عند الرحمن بصفات الإناث فيقولون هم بنات الله. والحال أنه لا علم لهم بهذا الاسم الذي يطلقونه، فإنهم لم يشهدوا خلقهم، ولم يبصروا أجسامهم.
ما ينقادون إلا للخواطر الشيطانية، وإن الخواطر الشيطانية لا تكون سبيلا للصدق. وإذا كانوا بهذه المثابة فلا تقتل نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا، فإن دأبهم الإعراض، وديدنهم البعد عن مصدر الخير والشرف. وليست لهم أهداف نبيلة، ولا مثل عليا. وإنما همهم بطونهم وما يدور حولها.
هذا الذي وصفناهم به هو منتهى علمهم، وغاية معارفهم، وسيجدون عاقبة كفرهم خزياً ووبالا.. وستجد عاقبة صبرك نصراً وعزا، لأن ربك لا يعزب عنه أحوالهم الخبيثة، ولا يضيع عنده صبرك الجميل.
ما ترشد إليه الآيات:
1_ إقناط الكفار من شفاعة أصنامهم.
2_ لا شفاعة إلا في أهل التوحيد.
3_ لابد للشافع من سبق الإذن.
4_ تسمية الملائكة بنات الله من الرجم بالغيب.
5_ الرمي بالظنون لا يكون علماً.
6_ الأمر بالصبر عليهم.
7_ الوعيد الشديد لهم.(11/434)
قال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} .
المناسبة:
لما قرر أنه عالم بالضال والمهتدي أردف ذلك ببيان أنه مالك لكل ما في السموات وما في الأرض، على سبيل التأكيد للوعيد الشديد.
القراءة:
قرأ الجمهور {لِيَجْزِيَ} الياء، وكذلك {ويجزي} ، وقرئ {لنجزي} {ونجزي} بالنون فيهما.
وقرأ الجمهور {كَبَائِرَ الإِثْمِ} وقرئ {كبير الإثم} .
المفردات:
المفردات: {لِيَجْزِي} ليكافئ، {أَسَاءُوا} أي ارتكبوا القبائح، {أَحْسَنُوا} فعلوا الجميل، {الحسنى} الجنة. {يَجْتَنِبُون} اجتناب الشيء تركه والابتعاد عنه كأنه ترك جانبه وناحيته. {كَبَائِرَ الإِثْم} كبائر جمع كبيرة قيل هي المعصية التي توجب الحدّ، وقيل كل ذنب قرن بالوعيد. وقيل كل ما نص الكتاب على تحريمه. وسميت كبيرة لعظم خطرها وثقل وقعها. وأما من قرأ {كبير الإثم} فقيل أريد الجنس وقيل الشرك. {الإثْمِ} الذنب. {َالْفَوَاحِش} جمع فاحشة وهي ما يشتد قبحه من الذنوب، يقال فحش يفحش فحشا وفاحشة. وأفحش إذا جاء بالقبيح من القول أو الفعل. {اللَّمَم} ما قل وصغر، وقال أبو العباس المبرد: أصل اللمم أن يلم بالشيء من غير أن يرتكبه، يقال ألم بكذا إذا قاربه، ولم يخالطه. وقال الأزهري: العرب تستعمل الإلمام في المقاربة والدنو يقال ألَمّ يفعل كذا بمعنى كاد يفعل، قال جرير:
على ومَن زيارته لمام
بنفسي من تَجَنيّه عزيز
وقال آخر:(11/435)
لقاء أخلاء الصفا لمام
{أَنْشَأَكُمْ} خلقكم وأوجدكم. {مِنَ الأَرْض} من التراب والطين. {أَجِنَّة} جمع جنين وهو الولد في البطن، سمي بذلك لاستتاره. والاجتنان: الاستتار. {فَلا تُزَكُّوا} فلا تمدحوا على سبيل الإعجاب. {اتَّقَى} خاف ربه وعمل بطاعته فاتخذ لنفسه وقاية من عذابه.
التراكيب:
قوله {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} تقديم الجار والمجرور لإفادة الحصر، وأنها لله خلقاً وملكاً، لا لغيره أصلا لا استقلالا ولا اشتراكاً. والتعبير بما التي لغير العاقل للتغليب لكثرة أفراده. وقوله {لِيَجْزِي} قيل اللام متعلقة بما دل عليه معنى الملك في قوله {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ... } الخ. أي فيضل ويهدي ليجزي. وعليه فالواو في قوله {وَلِلَّهِ} للاستئناف. وقيل اللام للصيرورة والعاقبة، لا للتعليل أي عاقبة أمرهم جميعاً للجزاء بما عملوا. وقيل اللام متعلقة بما دل عليه أعلم، كأنه قيل فيعلم ضلال من ضل واهتداء من اهتدى ويحفظهما ليجزى. وعلى هذا فجملة ولله ما في السموات الخ اعتراضية. وتكرير الفعل يجزي لإبراز كمال الاعتناء بأمر الجزاء أو للتنبيه على تباين الجزاءين.(11/436)
وقوله {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ..} الموصول منصوب بدلا من الذين أحسنوا. وصيغة الاستقبال في صلته للدلالة على تجدد الاجتناب واستمراره. أو منصوب بإضمار أعني، أو هو مرفوع خبرا لمبتدأ محذوف أي هم الذين يجتنبون. وقوله: {وَالْفَوَاحِشَ} من عطف الخاص على العام. والاستثناء في قوله: {إِلاَّ اللَّمَم} منقطع لأنه ليس قبله ما يندرج فيه. وقوله {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} تعليل لاستثناء اللمم وتنبيه على أن إخراجه عن حكم المؤاخذة ليس لخلوه عن الذنب في نفسه بل لسعة المغفرة الربانية. وقيل إنما عقب وعيد المسيئين ووعد المحسنين بهذا لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمة الله تعالى. وقوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} استئناف مقرر لشمول علمه وإحاطته سبحانه بأحوال عباده، ووقت إيجادهم من التراب، ووقت استتارهم في بطون أمهاتهم، وأفعل التفضيل فيه لا مانع أن يكون على بابه. والفاء في قوله {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُم} فصيحة. وقوله {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} استئناف مقرر للنهي.
المعنى الإجمالي:
المعنى الإجمالي: ولله كل كائن في العالم العلوي والسفلي خلقاً وملكاً، فيعلم ضلال من ضل واهتداء من اهتدى، ويحفظهما ليكافئ الذين ارتكبوا القبائح بما يسود وجوههم، ويكافئ الذين فعلوا الجميل بالجنة، الذين يتركون عظائم الذنوب، وما اشتد قبحه منها إلا ما قلّ وصغر. إن سيدك ومالكك ومدبر أمرك عظيم التجاوز عن هفوات عباده، هو أعلم بكم وقت إيجادكم من التراب ووقت استتاركم في بطون أمهاتكم، وإذا كان الأمر كذلك فلا تمدحوا أنفسكم على سبيل الإعجاب بها. هو أعلم بمن خاف ربه، وعمل بطاعته، فاتخذ لنفسه وقاية من عقابه.
ما ترشد إليه الآيات:
1_ الكائنات كلها لله.(11/437)
2_ الجزاء من جنس العمل.
3_ اجتناب الكبائر يكفر الصغائر.
4_ سعة عفو الله تعالى.
5_ إحاطة علمه بأحوال العباد.
6_ الإعجاب بالنفس مذموم.
7_ من مدحه الله هو الممدوح.
قال تعالى {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وأن سعيه سوف يرى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} .
المناسبة:
لما بيّن في الآيات السابقة أن الكائنات له، وأنه عالم الغيب، أنكر هنا أن يكون غيره يعلم الغيب، ثم عدد نعمه ونقمه ترغيباً وترهيبا.
سبب النزول:
قال مجاهد وغيره: "نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد سمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرب من الإسلام، ثم عاتبه رجل من المشركين، فقال له: أتترك ملة آبائك؟ ارجع إلى دين آبائك وأنا أتحمل لك بكل شيء تخافه في الآخرة على أن تعطيني كذا من المال فوافقه الوليد على ذلك ورجع عما هَمّ به من الإسلام، وضل ضلالا بعيدا ثم قطع باقي العطاء فنزلت".
القراءة:(11/438)
قرأ الجمهور {وَفَّى} بتشديد الفاء وقرئ بتخفيفها. وقرأ الجمهور {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} بفتح همزة أن. وكذلك ما بعدها من المواضع. وقرئ بالكسر فيهن. وقرأ الجمهور {وَثَمُودَ} بغير تنوين. وقرئ بالتنوين.
المفردات:
{تَوَلَّى} أي أعرض عن الإسلام، {أَكْدَى} أصله من الكدية، يقال لمن حفر بئرا ثم وصل إلى حجر لا يتهيأ له فيها حفر قد أكدى، ثم استعملته العرب لمن أعطى ولم يتم، ولمن طلب شيئاً فلم يبلغ آخره.
قال الحطيئة:
ومن يبذل المعروف في الناس يحمد
فأعطى قليلا ثم أكدى عطاءه(11/439)
ويقال: كديت أصابعه إذا كلت من الحفر، وكدا البيت قل ريعه. وأكدى الرجل قلّ خيره. {وَفَّى} أتم ما أمر به نحو {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُن} . {تَزِرُ} تحمل. {وَازِرَةٌ} نفس آثمة. {وزر} إثم. {سَعَى} عمل وقدم. {يرى} أي يبصر في الآخرة عند العرض. {الأَوْفَى} الأكمل. {الْمُنْتَهَى} المرجع والمصير بعد الموت. {أَضْحَكَ} أفرح حتى انطلقت الأسارير. {أَبْكَى} أحزن حتى سالت العيون. {تُمْنَى} تدفق في الرحم. {النَّشْأَةَ} الإحياء بعد الموت. {أَغْنَى} دفع الحاجة وأكسب المال. {أَقْنَى} أرضى أو أفقر. {الشِّعْرَى} هو الكوكب المضيء الذي يطلع بعد الجوزاء. وطلوعه في شدة الحر ويقاله مرزم الجوزاء. وكانوا يعبدونه في الجاهلية. {عَاداً} قوم هود. {الأُولَى} أي القدماء أو المتقدمون الأشراف. أو أن هناك عادا الأخرى من ولد عاد الأولى. وقيل الأخرى ثمود. {ثَمُودَ} قوم صالح عليه السلام. {فَمَا أَبْقَى} فما ترك فيهم من باقية. {مِنْ قَبْلُ} أي قبل عاد وثمود. {أَظْلَمَ} أكثر تجاوزا للحد في الإيذاء. {وَأَطْغَى} أشد عتوا. {والْمُؤْتَفِكَةَ} هي مدائن قوم لوط من دائرة الأردن. وسميت مؤتفكة لأنها انقلبت. ومنه الإفك لأنه قلب الحق كذبا. {أَهْوَى} أسقط بعد أن رفعها إلى السماء وجعل عاليها سافلها. {فَغَشَّاهَا} فألبسها وكساها وجعل فوقها من الحجارة ما الله به وحده عليم. {آلاءِ} نعم. {تَتَمَارَى} تتشكك، أو تجحد.
التراكيب:(11/440)
قوله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} الهمزة للاستفهام التعجبي. والفاء للعطف على محذوف يقتضيه السياق، ورأى بصرية مفعولها الموصول، وقيل علمية، والمفعول الثاني جملة أعنده علم الغيب، فهي داخلة في حيز الاستفهام المقصود منه الإنكار. ويرى علمية أي فهو يعلم أن غيره يتحمل عذاب الآخرة، وهذه الجملة المقدرة سدت مسد مفعولي يرى. وقوله: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} أم فيه منقطعة بمعنى بل، والهمزة وتقديم موسى في الذكر لأن صحفه عندهم أشهر وأكثر، وقوله: {وَفَّى أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أن هي المخففة من الثقيلة وهي في محل جر بدلا من ما في قوله {بمافِي صُحُفِ مُوسَى} أو في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف، كأن قائلا قال: ما في صحفهما؟ فقيل: ألا تزر وازرة وزر أخرى. وقوله {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} أن فيه مخففة من الثقيلة أيضاً واسمها ضمير الشأن محذوف. ولم يفصل هنا بينها وبين الفعل لأنه لا يتصرف. ومحلها الجر أو الرفع عطفاً على أن قبلها. وقوله {وأن سعيه سوف يرى} معطوف على ما قبله فهو في محل جر أو رفع كذلك. وقوله {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} الضمير المرفوع في يجزاه عائد على الإنسان والمنصوب عائد على سعيه. والجزاء مصدر مبين للنوع. وقد تعدى يجزى إلى المفعول بنفسه هنا. وقوله {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} بفتح أن عطفاً على ما قبله، وكذلك المواضع السبعة الباقية. وعلى هذا فيكون مضمون هذه الجمل موجودا في الصحف المذكورة. وأما على قراءة كسر الهمزة في هذه المواضع الثمانية فعلى الاستئناف، ولا يكون مضمون هذه الجمل موجودا في الصحف المذكورة فيكون ما في الصحف قد تم بيانه وانتهى عند قوله {الْجَزَاءَ الأَوْفَى} وقوله {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} المفعول في هذه الأفعال محذوف لقصد(11/441)
العموم. وقد أتى بضمير الفصل لدفع ما يتوهم من أنها بفعل الإنسان. وكذلك الحال في قوله {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} وأما قوله {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ} فإنه لم يؤكد بالفعل لأنه لا يتوهم إنسان أنها بفعل أحد من الناس. وهكذا الحال في الإنشاء الآخر وإهلاك عاد. والتعبير بعليه في قوله {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى} للإشعار بوجودها لا محالة كأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه. وقوله {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} جيء فيه بضمير الفصل لأن الشعرى لما عبدت من دون الله تعالى نص على أنه تعالى هو ربها وموجدها. وقوله {وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} ثمود معطوف على عاداً. وهو بالصرف اسم لأبي القبيلة. والضمير في قوله {إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} لقوم نوح. وأنهم أطغى من عاد وثمود. ويجوز أن يكون الضمير لجميع من تقدم من الأمم الثلاثة أي كانوا أطغى من قريش. ويكون ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله {هُمْ} يجوز أن يكون توكيداً للضمير المنصوب الواقع اسما لإن، ويجوز أن يكون فصلا، لأنه واقع بين معرفة وأفعل التفضيل. وإنما حذف المفضول بعد الواقع خبر لكان لأنه جار مجرى خبر المبتدأ، وحذفه فصيح فيه فكذلك في خبر كان. وقوله {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} يجوز أن تكون المؤتفكة منصوبة بأهوى، ويجوز أن يكون معطوفاً على ما قبله. وأهوى جملة في محل نصب على الحال لتوضيح كيفية إهلاكهم أي وأهلك المؤتفكة مهوياً بها. وقوله {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} يجوز أن يكون الفاعل ضميرا يعود على الله عز وجل، وقوله {مَا غَشَّى} مفعول به. ويجوز أن يكون الموصول هو الفاعل. والإيهام للتهويل. وقوله {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} الباء للظرفية والخطاب للسامع، والاستفهام للإنكار، وقد سبق ذكر نعم ونقم وقد جعلها كلها آلاء لما في النقم من الزجر والوعظ وهو نعمة لأصحاب العقول.(11/442)
المعنى الإجمالي:
أمددت عينك فأبصرت الذي أعرض عن الإسلام، وأعطى شيئاً قليلا لمن تعهد بتحمل العذاب عنه، وقلّ خيره. ننكر أن يكون لديه علم الغيب، وأنه يعلم أنه غيره يتحمل عنه عذاب الآخرة، بل ألم يخبر بالخبر الذي في أسفار موسى من التوراة، وأسفار إبراهيم الذي أتم ما أمر به، أنه لا تحمل نفس مذنبة ذنب نفس مذنبة أخرى، وأن الحال والشأن ليس لأحد من الخلق ثواب ولا عقاب إلا على عمله، وأن ما يعمله الإنسان سوف يبصره معروضاً عليه في الآخرة، ثم يثاب عليه الثواب الأتم. وأن إلى ربك المصير والمرجع. وأنه سبحانه لا غيره أفرح من شاء حتى انطلقت أساريره، وأحزن من شاء حتى سالت عيونه، وأنه سبحانه لا غيره سلب الحياة ممن شاء ومنحها من شاء، وأنه أوجد الصنفين الذكور والإناث من سائر الحيوانات من مني عند تدفقه في الرحم، وأن الإحياء الآخر بعد الموت حتم لابد من وجوده. وأنه أكسب المال وأرضى أو أفقر.
وأنه سبحانه لا غيره مالك مرزم الجوزاء الذي عبده الجاهلون، وأنه دمر قوم هود وقوم صالح لما كذبوا الرسل، فما ترك منهم باقية. وأهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود. إن قوم نوح كانوا أشد تجاوزا للحد في إيذاء الرسل، وأعتى من قوم هود وقوم صالح. والمدائن المنقلبة من دائرة الأردن أسقطها بعد أن رفعت إلى السماء على طرف ريشة من جناح جبريل فجعل عاليها سافلها، وأمطر عليها حجارة من سجيل. ففي أي أنعم الله المتعددة تتشكك؟.
ما ترشد إليه الآيات:
1_ سوء حال من نزلت فيه الآيات.
2_ أن الغيب لله.
3_ أن صحف موسى وإبراهيم المشتهرة تنص على أنه لا يتحمل أحد وزر أحد.
4_ لا ينال الإنسان غير عمله.
5_ سيعرض عليه عمله فيجازى عليه.
6_ تشريف المحسن وتوبيخ المسيء.
7_ إثبات القضاء والقدر.
8_ لابد من البعث حتماً.
9_ تدمير المكذبين.
10_ ظهور أنعمه تعالى.(11/443)
تتعين كتابة المصحف على الرسم العثماني
لفضيلة الشيخ عبد الفتاح القاضي
الأستاذ بكلية القرآن الكريم بالجامعة
نشرت صحيفة ((المدينة)) بعددها الصادر في 15 من شهر ذي القعدة سنة 1395هـ الموافق 18 نوفمبر سنة 1975م - كلمة تحت عنوان ((من وحي آية قرآنية كريمة)) رسم المصحف على قواعد الإملاء ((للأستاذ الكاتب الكبير علي حافظ)) يحدثنا الأستاذ فيها عن حوار حمي وطيسه بينه وبين صديقيه الدكتور عمر أسعد -والأستاذ سامي كتبي - في تصحيح قوله تعالى في سورة المعارج {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} فالأستاذ يقرؤها {برب المشرق والمغرب} ويصمم على ذلك، ويؤكده نظرا لحذف الألف بعد الشين في المشارق، وبعد الغين في المغارب، ولم ينتبه الأستاذ إلى أن فوق كل من الشين والغين ألفا صغيرة يسميها علماء رسم القرآن.. ((ألف الإشارة)) لأنها تشير إلى الألف المحذوفة، وتقوم مقامها وتدل عليها، واستمر الشجار بينه وبين الأستاذ سامي إلى أن جاء الصديق الدكتور عمر أسعد، ونبه الأستاذ إلى هذه الألف، وأكدله أن صحة الآية {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} فاقتنع الأستاذ برأي صديقه، ورجع إلى الآية يقرؤها على وجه الصواب كما أنزلها الله تعالى.
ثم خلص الأستاذ من الحوار وتصحيح الآية إلى التساؤل لماذا لا يطبع المصحف بالرسم الإملائي المتداول، والذي أصبح علماً يدرس في المدارس، لتسهل قراءة كتاب الله على المسلمين. ثم قال: إننا في حاجة قصوى لطبع القرآن الكريم على قواعد الإملاء.(11/444)
ثم ذكر بعد ذلك أنه - منذ نحو سنتين - تقدم للحكومة بمشروع - ورجا الحكومة الرائدة الموفقة أن تحتضنه وتعمل على تنفيذه، وقد تضمن مشروعه أن تأمر الحكومة بإنشاء مطبعة ضخمة متكاملة خاصة بالمشروع، لا عمل لها إلا طبع المصاحف الشريفة - على قواعد الرسم الإملائي طبعاً - وتجليدها بمختلف الأحجام، ثم توزيعها على العالم الإسلامي كله لتختفي بعد ذلك الطبعات الأخرى التي لا يستطيع القارئون فيها أن يقرءوا بدون أخطاء. الخ ما قال.
أخي الأستاذ الكبير السيد.. علي حافظ.
أحب أن أقص عليك من أنباء سلف الأمة، وأعلام الإسلام، وأئمة القرآن ما يثبت فؤادك، ويثلج صدرك ويملأ قلبك إيماناً ويقينا بوجوب كتابة المصحف على مقتضى الرسم العثماني القديم. وأسوق لك من الأدلة القواطع، والحجج النواهض على ذلك ما فيه الغناء إن شاء الله تعالى:(11/445)
كان للنبي صلى الله عليه وسلم كتّاب يكتبون له الوحي، وقد كتبوا القرآن كله بهذا الرسم، وأقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على كتابته. فانتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وقد كتب القرآن كله على هذه الكيفية المخصوصة لم يحدث فيها تغيير ولا تبديل. ثم ولي الخلافة بعده أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فأمر بكتابة القرآن كله في الصحف على هذه الهيئة، ثم جاء الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه فأمر بنسخ المصاحف من صحف أبي بكر على هذا الرسم أيضاً - ووزع عثمان هذه المصاحف على الأمصار الإسلامية - لتكون إماماً للمسلمين، وأقر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل أبي بكر وعثمان في المصاحف، ولم ينكر أحد منهم عليهما شيئاً بل ظفر كل منهما بإقرار جميع الصحابة لعملهما واستمرت المصاحف مكتوبة بهذا الرسم في عهد بقية الصحابة، ثم في عهد التابعين، وتابعي التابعين، والأئمة المجتهدين، في عصورهم التابعين، والأئمة المجتهدين في المختلفة، ولم يثبت أن أحداً من هؤلاء جميعاً حدثته نفسه بتغيير هجاء المصاحف ورسمها الذي كتبت عليه أولا، وكتابتها برسم آخر يساير الرسم المحدث الذي حدث في عهد ازدهار التأليف في الكوفة والبصرة بل ظل هذا الرسم القديم قائماً مستقلا بنفسه، بعيداً عن التأثر بالرسم الحادث. نعم ظل الرسم القديم منظورا إليه بعين التقديس والإكبار في سائر العصور المختلفة. والأزمنة المتفاوتة، مع أنه قد وجد في هذه العصور المختلفة أناس يقرءون القرآن ولا يحفظونه، وهم في الوقت نفسه لا يعرفون من الرسم إلا هذا الرسم المحدث الذي وضعت قواعده في عصر التأليف والتدوين، وشاع استعمال هذه القواعد بين الناس في كتابة غير القرآن ولم يكن وجود هذا الصنف من الناس مما يبعث الأمة على تغيير رسم المصحف بما تقضي به هذه القواعد الجديدة.(11/446)
وإذا ثبت أن الرسم القديم الذي كتبت عليه المصاحف قد حظي بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم له، وإجماع الصحابة عليه، ورضا أئمة الصدر الأول – وهم خير الأمة - عنه. واتفاق التابعين وأتباعهم، والأئمة المجتهدين عليه، فلا يجوز العدول عنه إلى غيره، لا سيما وأنه أحد أركان القراءة الصحيحة.
وهاك نصوص الأئمة من صدور هذه الأمة وعظمائها.
روى الإمام السخاوي - من أجلاء علماء القراءات - أن مالك بن أنس إمام دار الهجرة سئل: أرأيت من استكتب مصحفاً أيكتب على ما أحدثه الناس من الهجاء اليوم؟ فقال مالك: لا أرى ذلك ولكن يكتب على الكتبة الأولى، قال السخاوي: والذي ذهب إليه مالك هو الحق، إذا فيه بقاء الحالة الأولى إلى أن تعلمها الطبقة الأخرى.
ولا شك أن هذا هو الأحرى، إذ في خلاف ذلك تجهيل بأولية ما في الطبقة الأولى انتهى.
وقال الإمام أبو عمرو الداني: لا مخالف لمالك من علماء هذه الأمة.
وقال الداني أيضاً: سئل مالك عن الحروف في القرآن.. مثل الواو، والياء والألف، أترى أن يغير من المصحف إذا وجد فيه شيء من ذلك؟ قال: لا، قال أبو عمرو: يعني الواو والياء والألف الزائدات في الرسم. المعدومات في اللفظ، نحو: لا أذبحنه، بأييد، وأولو، وهكذا..
وقال الإمام أحمد بن حنبل: تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو، أو ياء.. أو ألف أو غير ذلك.
وقال صاحب المدخل: يتعين على كاتب المصحف أن يترك ما أحدثه بعض الناس في هذا الزمان من نسخ المصحف على غير المرسوم الذي اجتمعت عليه الأمة. انتهى.
وقال الإمام النيسابوري: وقال جماعة من الأئمة إن الواجب على القراء والعلماء وأهل الكتابة أن يتبعوا هذا الرسم في خط المصحف، فإنه رسم زيد بن ثابت وكان أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاتب وحيه. انتهى.(11/447)
وقال الإمام البيهقي في شعب الإيمان: من كتب مصحفاً ينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف، ولا يخالفهم فيه، ولا يغير مما كتبوه شيئاً، فإنهم كانوا أكثر علما، وأصدق قلباً ولسانا، وأعظم أمانة منا، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم.. انتهى.
ونقل الإمام الجعبري وغيره إجماع الأئمة الأربعة على وجوب اتباع رسم المصحف العثماني.
2- إن قواعد الهجاء والإملاء الحديثة عرضة للتغيير والتنقيح في كل عصر، وفي كل جيل، فلو أخضعنا رسم القرآن لهذه القواعد لأصبح القرآن عرضة للتغيير والتبديل، وحيطتنا للكتاب العزيز، وتقديسنا له يضطرنا إلى أن نجعله بمنأى من هذه التغييرات في رسمه وكتابته.
3- إن تغيير الرسم العثماني ربما يكون مدعاة - من قريب أو من بعيد - إلى التغيير في جوهر الألفاظ والكلمات القرآنية، ولا شك أن في ذلك القضاء على أصل الدين. وأساس الشريعة، وسد الذرائع - مهما كانت بعيدة - أصل من أصول الشريعة الإسلامية التي تبنى عليها الأحكام، وما كان موقف الأئمة من الرسم العثماني إلا بدافع من هذا الأصل العظيم، مبالغة في المحافظة على كيان ألفاظ القرآن، وصيانتها من تطرق التحريف إليها، والعبث فيها، ومن طريف ما يذكر في هذا الموضوع أن محكمة استئناف مصر حكمت بمصادرة مصحف، وعللت حكمها بأن هذا المصحف مكتوب حسب قواعد الإملاء، ومخالف للرسم العثماني الذي يجب أن تكتب المصاحف كلها حسب قواعده، وكان من حيثيات حكمها أيضا أن الأمم الراقية تحافظ على آثار سلفها، وتجعلها في المحل الأول من العناية والمحافظة.
ومن ذلك أن الشعب الإنجليزي لم يسمح لطابع ما، ولا لناشر كائنا من كان أن يكتب أشعار "شكسبير"شاعرهم العظيم بغير لغة العصر الذي عاش فيه مع تغير كثير من كلماته وطرق إملائه عن العهد المتداول في عصر الشاعر المذكور.(11/448)
لم يسمح الإنجليز بهذا، لأن شعر الشاعر المذكور أصبح في نظرهم مقدساً لا يجوز المساس به حتى في طريقة إملائه، أفلا يكونا الأجدر بالمسلمين - وهم يقدسون كتابهم أشد من تقديس الإنجليز لشعر هذا الشاعر- أن يحافظوا على رسمه وكتابته؟؟ انتهى.
وأما ما يستند إليه الأستاذ الكاتب، ويتعلل به في وجوب طبع المصحف على قواعد الإملاء من أن أي قارئ – حتى ولو كان طالباً جامعياً – لا يستطيع القراءة في المصاحف المكتوبة على الرسم العثماني دون أخطاء متواصلة، ولو طبع المصحف برسم الإملاء لاستطاع الجميع قراءته مع تفادي الأخطاء، ولكانت تلاوته ميسورة للمسلمين القارئين – فنقول له في صراحة إن ما استندت إليه وتعللت به يجافي الحقيقة، ولا يتلاقى مع الواقع، فإن المصاحف في هذا العصر – وبخاصة المصاحف المصرية – قد ضبطت بالشكل التام، ووضعت فيها علامات مخصوصة تدل على الحروف المحذوفة التي ينطق بها، وأمارات معينة تدل على الحروف الزائدة التي لا ينطق بها، وألف جمهور المسلمين القراءة في هذه المصاحف دون أخطاء، ومرنوا على القراءة فيها دون تعثر أو مشقة.
ومن يقرأ - بإمعان وروية - اصطلاحات رسم المصحف وضبطه الموضوعة في ذيل كل مصحف مصري تحت عنوان "التعريف بالمصحف الشريف "يستطيع أن يقرأ في المصحف بغاية اليسر والسهولة.
4- ذكر أئمة القرآن أن للرسم العثماني مزايا جليلة، وفوائد جمة نقتصر منها على فائدتين اثنتين:(11/449)
الأولى: الإشارة إلى ما في الكلمة من قراءات، فإذا كان في الكلمة القرآنية قراءتان فإنها تكتب بصورة تحتمل كلتا القراءتين، وإذا لم يكن في الكلمة إلا قراءة واحدة كتبت بهيئة لا تحتمل غيرها، ومن أمثلة ذلك كلمة ((سراجا)) وردت في القرآن في سورة الفرقان في قوله تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً} آية 61 وفي سورة الأحزاب في قوله تعالى: {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} آية 46 وفي سورة النبأ في قوله تعالى {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} آية 13 كتبت كلمة ((سراجاً)) في سورة الفرقان بحذف الألف، لأن فيها قراءتين، إحداهما بضم السين والراء من غير ألف بعدها على الجمع، والأخرى بكسر السين وفتح الراء وألف بعدها على الإفراد. فكانت كتابتها بحذف الألف لتحتمل القراءتين، قراءة الإفراد وقراءة الجمع، ولو كتبت بإثبات الألف لم تكن محتملة إلا لقراءة الإفراد.
وكتبت في سورة الأحزاب وسورة النبأ بإثبات الألف لاتفاق القراء على قراءتها بكسر السين وفتح الراء وألف بعدها على الإفراد في الموضعين.
الفائدة الثانية: إفادة بعض لغات العرب، وذلك مثل كتابة هاء التأنيث تاء مفتوحة في بعض المواضع للإيذان بجواز الوقف عليها بالتاء على لغة (طيئ) نحو {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} في الأعراف، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} في إبراهيم، {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} في التحريم، {وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} في الأنفال، {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ} في الدخان.
ومثل: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغ..} في الكهف، كتبت كلمة ((نبغ)) بحذف الياء على لغة هذيل التي تحذف لام الفعل المضارع المعتل من غير دخول جازم عليه.(11/450)
وأخيراً يقول الأستاذ الكاتب: إنني أتحدى أي طالب جامعي فضلا عن الطالب الابتدائي والثانوي أتحداه أن يقرأ القرآن في المصاحف الموجودة دون أخطاء متواصلة، ثم يقول: وأؤكد أن المصحف الشريف إذا طبع برسم الإملاء العلمي استطاع الجميع قراءته مع تفادي الأخطاء.
وأقول أنا: ((إنني مع الأستاذ في هذا التحدي، بيد أني أضيف إلى الطالب الجامعي السواد الأعظم، والكثرة الكاثرة من المثقفين على اختلاف ثقافتهم، وتنوع معارفهم، وتباين استعدادهم، فإن أحداً من هؤلاء مهما علا كعبه في العلم، وسمت درجته في الألمعية والفضل لا يستطيع أن يقرأ في المصحف القراءة الصحيحة السليمة ولو كان المصحف مكتوباً على قواعد الإملاء، فإن في قواعد التجويد، وقوانين الترتيل من الأحكام ما لا يمكن أخذها من المصحف ولا يمكن تطبيقها إلا بالتلقي، والأخذ عن العلماء الأثبات الثقات المبرزين في علوم القرآن، وفنون التجويد والقراءات، وخذ مثلا لذلك: النون الساكنة والتنوين فقد قرر علماء التجويد أنه يجب إظهارهما إذا لقيا حروفاً معينة، ويجب إدغاهما في حروف مخصوصة، ويجب إخفاؤهما عند حروف مخصوصة ولا يمكن أحدا تطبيق هذه الأحكام إلا بواسطة أستاذ ماهر مجيد لعلم التجويد.(11/451)
ومثلا آخر: قرر علماء التجويد قاطبة أن النون في كلمة ((تأمنا)) في قوله تعالى في سورة يوسف {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} تقرأ بوجهين لجميع القراء، وهما الروم والإشمام، وقد وضعت في المصحف علامة فوق النون تدل على الإشمام، ولم توضع علامة أخرى تدل على الروم، ولا يستطيع قارئ ما أن يتعلم كيفية النطق بالإشمام أو الروم من المصحف أياً كانت كتابته ورسمه، وليت شعري هل يستطيع قارئ ما أن يتعلم من المصحف كيف ينطق بفاتحة سورة الأعراف ((المص)) أو فاتحة سورة مريم ((كهيعص)) أو فاتحة سورة القصص ((طسم)) أو فاتحة سورة الشورى ((حم عسق)) لعلك توافقني على أن المصحف لا يعلم أحدا النطق الصحيح بشيء من ذلك، وقصارى القول أن من يريد تلاوة القرآن تلاوة صحيحة سليمة مراعى فيها جودة الترتيل، وحسن الأداء، بحيث تكون مطابقة لمقاييس القراءة، وموازين التلاوة التي وضعها أئمة الأداء وشيوخ الإقراء - من يريد قراءة القرآن - القراءة الموعود عليها بعظيم الأجر وجزيل المثوبة - فعليه ألا يعول على المصحف وحده، بل عليه أن يتعلم أحكام التجويد النظرية العلمية ثم يطبقها عملياً بقراءة ختمة من أولها إلى آخرها على أحد الحفاظ الثقات الأثبات المهرة بالقرآن الكريم، المجيدين للتعليم والتلقين، والله وحده الهادي إلى سواء السبيل.(11/452)
حقوق الحيوان والرفق به في الشريعة الإسلامية
لفضيلة الشيخ أحمد عبيد الكبيسي
طبيعة التشريع الإسلامي:
عن الفقه الإسلامي يقول الدكتور ((أنريكو انساباتو)) في كتابه الإسلام وسياسة الخلفاء: "ولا يجوز قط أن يهدم هذا الصرح العظيم من العلوم الإسلامية، ولا أن يغفل شأنه، أو أن تمسه يد بسوء، وأنه أوجد للعالم أرسخ الشرائع ثباتاً، وأنها لشريعة تفوق الشرائع الأوربية في كثير من التفاصيل".
وهذه الحقيقة التي أدركها انساباتو أدركها العديد من فقهاء الغرب ومشرعيه، وهي ناتجة عن الطابع العام للشريعة الإسلامية الذي يحدد مقاصدها، ويوسع مداراتها، وهو الذي يستلهمه الفقهاء فيما يقررون من أحكام.
وفيما نحن بصدده من الكلام في حقوق الحيوان يتجلى أثر الطابع الجماعي للشريعة الإسلامية في مسألة ((الحق)) أي مدى ما لصاحبه من سلطان في الانتفاع به واستعماله والتصرف به، وما يكون من تقييد الشارع له بألاّ يضر هذا الاستعمال الغير.
وهذا يقوم على قاعدة راسخة ثابتة تقرر من أول الأمر: أن الإنسان وكل ما يملك ملك لله وحده، ومن هنا كان تقييد استعمال ((الحق)) من نواح عديدة، وقد تولد عن هذا التقييد حقوق للغير، والحيوان من جملة هذا الغير، في الوقت الذي نجد فيه أن أعرق القوانين الوضعية قد جعلت الفردية طابعها العام، فإن القانون الروماني _ في مراحله الأول _ مبني على فكرة استبداد صاحب الحق بما يزعمه من حقه الذي يملكه، والقوانين الوضعية _ في مجملها _ تعتبر حق الفرد حقاً طبيعياًله، فهي تعمل على حمايته له، وتمكينه من الانتفاع به على ما يشاء ما دام يتصرف بزعمه في خالص حقه، وبهذا الإطلاق في استعمال ((الحق)) ضاعت بعض حقوق الغير، والحيوان من جملة هذا الغير أيضاً.
أعود إلى موضوعنا فأقول:(11/453)
في عام 1824 تأسست في إنجلترا أول جمعية للرفق بالحيوان، ثم انتشر هذا التقليد بعد ذلك في كثير من أقطار الأرض، فقامت هنا وهناك جمعيات تهدف إلى الرفق بالحيوان عند المصاحبة، والإحسان إليه في المعاملة، والتلطف معه في السلوك.
غير أن هذه الجمعيات جميعاً إنما تقوم على أسس أخلاقية صرفة، وقواعد إنسانية عامة، ليس لها أساس من القواعد التشريعية، أو القوانين الملزمة، وليس لها خلفية فقهية تنظم مسائلها، وتوضح حدودها المتعلقة بحفظ حقوق الحيوان المتعاون مع الإنسان في هذه الحياة، ومن هنا بقيت هذه الجمعيات ذات صفة طوعية اختيارية، وهي لذلك لا ترتب ثواباً لممتثل، ولا توجب عقاباً على مخالف، فماذا فعلت الشريعة الإسلامية في هذا الصدد؟
الرفق مبدأ إسلامي:
يعتمد الإسلام مبدأ الرفق بصورة عامة في جميع شؤون الحياة، فيجعل منه سمة تميز المؤمن، وعنصرا ًيقوي الإيمان، وفضيلة تزين العمل، وفي ذلك يقول رسول الله من حديث عائشة عن البخاري ومسلم: "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله "وفي رواية لمسلم: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه"، وروى مسلم بسنده عن عائشة: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه".
وعن جرير بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق، وإذا أحب الله عبداً أعطاه الرفق، ما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا الخير" رواه الطبراني، ورواه مسلم وأبو داود مختصراً.
وعن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير" رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وروي عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله قال: "الرفق يمن، والخرق شؤم" رواه الطبراني في الأوسط.(11/454)
والأحاديث في ذلك كثيرة متوافرة سقنا بعضها على سبيل التمثيل لا الحصر، وكلها تنص على أن الرفق مبدأ إسلامي يبني التشريع الإسلامي قواعده وأصوله عليه.
نظرة الإسلام إلى الحيوان:
ينظر الإسلام إلى عالم الحيوان إجمالا ًنظرة واقعية ترتكز على أهميته في الحياة ونفعه للإنسان، وتعاونه معه في عمارة الكون واستمرار الحياة، ومن هنا كان الحيوان ملء السمع والبصر في كثير من مجالات الفكر والتشريع الإسلامي، ولا أدل على ذلك من أن عدة سور في القرآن الكريم وضع الله لها العناوين من أسماء الحيوان مثل سورة البقرة، والأنعام، والنحل، والنمل، والعنكبوت، والفيل.
ويعود القرآن بعد ذلك لينص على تكريم الحيوان، وبيان مكانته، وتحديد موقعه إلى جانب الإنسان، فبعد أن بين الله في سورة النحل قدرته في خلق السموات والأرض، وقدرته في خلق الإنسان، أردف ذلك بقوله {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} .
وقد استنبط الفقهاء والمفسرون من هذه الآيات الأربع من سورة النحل ما يلي:
أولا: أن الحيوان شديد الارتباط بالإنسان، وثيق الصلة به، قريب الموقع منه، ومن هنا كان للحيوان على الإنسان حرمة وذمام. (القرطبي 10/69) .
ثانياً: أن أشرف الأجسام الموجودة في العالم السفلي _ بعد الإنسان - سائر الحيوانات لاختصاصها بالقوى الشريفة وهي الحواس الظاهرة والباطنة والشهوة والغضب (الرازي 19/227) .(11/455)
ثالثا: أن الله - سبحانه - قصد بهذه الآيات أن يبتعد بالإنسان عن أن ينظر إلى الحيوان نظرة ضيقة لا تتعلق إلا بالجانب المادي المتعلق بالأكل والنقل واللباس والدفء، فوسع نظرته إليه مشيراً إلى أن للحيوان جانباً معنوياً، وصفات جمالية تقتضي الرفق به في المعاملة، والإحسان إليه في المصاحبة، والإقبال عليه بحب واعتزاز، فقال: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} ، وقال: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} .
قال الرازي (19/228) "واعلم أن وجه التجمل بها، أن الراعي إذا روحها بالعشي وسرحها بالغداة تزينت عند تلك الإراحة والتسريح الأفنية، وتجاوب فيها الثغاء والرغاء، وفرحت أربابها، وعظم وقعهم عند الناس بسبب كونهم مالكين لها".
وقال القرطبي (10/70) : "وجمال الأنعام والدواب من جمال الخلقة، وهو مرئي بأبصار موافق للبصائر، ومن جمالها: كثرتها وقول الناس إذا رأوها: هذه نعم فلان، ولأنها إذا راحت توفر حسنها، وعظم شأنها وتعلقت القلوب بها".
رابعاً: أن ذكر بعض الحيوانات بأسمائها في هذه الآيات لا يعني أن غيرها ليس كذلك، بل إنه ذكرها على سبيل المثال لا الحصر بدليل قوله: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} .
ويقول الرازي في تفسير ذلك (19/231) : "لأن أنواعها وأصنافها وأقسامها كثيرة خارجة عن الحد والإحصاء فكان أحسن الأحوال ذكرها على سبيل الإجمال كما ذكر الله تعالى في هذه الآية".
ثناء الإسلام على بعض الحيوانات:(11/456)
وقد أناط الإسلام وجوب الإحسان إلى بعض الحيوانات بمنافعها المعنوية وصفاتها الحميدة، فأوجب الرفق بها لذلك، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عبد الله بن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة"، ووقع في رواية ابن إدريس عن حصين في هذا الحديث من الزيادة قوله صلى الله عليه وسلم "والإبل عزّ لأهلها، والغنم بركة" أخرجه البرقاني في مستخرجه، ونبه عليه الحميدي، ونقله ابن حجر (فتح الباري 6/395) .
وروى النسائي عن زيد بن خالد الجهني عن رسول الله قوله: "لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة". رواه أبو داود أيضاً وابن حبان في صحيحه، إلا أنه قال: " فإنه يدعو للصلاة" على ما نقله المنذري (5/133) .
الرفق بالحيوان عبادة لله:
توافرت النصوص على أن الإحسان إلى الحيوان والرفق به عبادة من العبادات التي قد تصل في بعض الأحيان إلى أعلى درجات الأجر وأقوى أسباب المغفرة، ومن ذلك حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه الحر، فوجد بئرا ًفنزل فيها فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفرله، قالوا: يا رسول الله إن لنا في البهائم أجرا ً؟ فقال: في كل كبد رطبة أجر" رواه مالك، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن حبان في صحيحه إلا أنه قال: "فشكر الله له فأدخله الجنة".
وأخرج مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة بسنده إلى أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن امرأة بغيا رأت كلبا ًفي يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له بموقها _أي استقت له بخفها _ فغفر لها " فقد غفر الله لهذه البغي ذنوبها بسبب ما فعلته من سقي هذا الكلب.(11/457)
وعن عبد الله بن عمرو أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أنزع في حوضي حتى إذا ملأته لأبلي ورد عليّ البعير لغيري فسقيته، فهل في ذلك من أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في كل ذات كبد أجرا " رواه أحمد ورواته ثقات مشهورون.
وعن محمود بن الربيع أن سراقة بن جعثم قال: يا رسول إن الضالة ترد على حوضي فهل لي فيها من أجر إن سقيتها؟ قال: "أسقها، فإن في كل ذات كبد حراء أجرا ً"رواه ابن حبان في صحيحه، ورواه ابن ماجة والبيهقي.
وأخرج البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسلمة من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر. فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال في مرج أو روضة فما أصابت في طلبها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت أرواؤها وأثارها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقيها كان ذلك حسنات له.."الحديث.
الإساءة للحيوان معصية لله:
وبنفس القدر الذي أوصلت به الشريعة الإسلامية به الإحسان إلى الحيوان والرفق به إلى أعلى درجات العبادة، أوصلت الإساءة للحيوان وتعذيبه إلى أعمق دركات الإثم والمعصية، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أخرجه البخاري ومسلم: "عذبت امرأة في هرة لم تطعمها ولم تسقها، ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض"، وروى البخاري بسنده إلى أسماء بنت أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دنت مني النار حتى قلت: أي رب وأنا معهم، فإذا امرأة حسبت أنه قال: تخدشها هرة _: قال ما شأن هذه؟ قالوا: حبستها حتى ماتت جوعا ً" قال النووي في شرح هذا الحديث عن مسلم (9/89) : "إن المرأة كانت مسلمة وإنها دخلت النار بسببها، وهذه المعصية ليست صغيرة بل صارت بإصرارها كبيرة".(11/458)
وقد حرم الإسلام تعذيب الحيوان ولعن المخالفين على مخالفتهم، فقد روى مسلم بسنده إلى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على حمار قد وسم في وجهه فقال: "لعن الله الذي وسمه" وفي رواية له: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه"، ورواه الطبراني بإسناد جيد مختصرا ً: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من يسم في الوجه"وروى الطبراني أيضا ًعن جنادة بن جراد أحد بني غيلان بن جنادة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بإبل قد وسمتها في أنفها، فقال رسول الله: "يا جنادة فما وجدت عضوا تسمه إلا في الوجه أما إن أمامك القصاص" فقال: أمرك إليها يا رسول الله.
وعن جابر بن عبد الله قال: مرّ حمار برسول الله صلى الله عليه وسلم قد كوي وجهه يفور منخراه من دم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من فعل هذا" ثم نهى عن الكي في الوجه والضرب في الوجه"رواه الترمذي مختصرا ًوصححه، والأحاديث في النهي عن الكي في الوجه كثيرة. وقد حرمت الشريعة الإسلامية تصبير البهائم – أي أن تحبس لترمى حتى تموت _ كما حرمت المثلة _ وهي قطع أطراف الحيوان _ فقد روي عن ابن عمر أنه قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن تصبر بهيمة أو غيرها للقتل". وأخرج البخاري ومسلم عن المنهال بسنده إلى عبد الله بن عمر أنه قال: "لعن النبي صلى الله عليه وسلم من مثّل بالحيوان" قال العسقلاني في شرح صحيح البخاري (8/84) : "واللعن من دلائل التحريم كما لا يخفى".(11/459)
وقال العقيلي: "جاء في النهي عن صير البهيمة أحاديث جياد"، وقال ابن حجر (فتح الباري 12/65) : "وفي هذه الأحاديث تحريم تعذيب الحيوان"والتحريم يقتضي العقاب، والعقاب أثر من آثار الجريمة، وهذا يعني: أن الإساءة إلى الحيوان وتعذيبه وعدم الرفق به يعتبر جريمة في نظر الشريعة الإسلامية، وورد النهي عن خصاء البهائم كما جاء في شرح معاني الآثار للطحاوي من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يخصى الإبل والبقر والغنم والخيل وإذا دعت الضرورة إلى ذلك في الحيوان الذي يخشى عضاضه ووجد طريق آخر لمنع أذاه من غير طريق الخصاء فإنه لا خلاف في منع الخصاء حينئذ، لأنه تعذيب.
تحريم أنواع من التصرفات مع الحيوانات:
من الفنون التي تشيع هنا وهناك ما لا تتم إلا بتعذيب الحيوان بإغراء بعضه على بعض وتهييجه، كمصارعة الثيران، ومصارعة الديكة، والكباش ونحو ذلك، أو نصبه غرضا ًللرماية والصيد، أو قتله بدون فائدة ولا منفعة، أو إرهاقه بالعمل الشاق، وقد اعتبرت الشريعة الإسلامية ذلك من الفعل المحرم الذي يستحق العقوبة. فقد روي عن ابن عباس قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم" رواه أبو داود والترمذي متصلا ًومرسلا عن مجاهد وقال في المرسل: هو أصح.
وروي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أبيه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمّرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تعرش، فلما جاء رسول الله قال: "من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها" وعن الشريد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قتل عصفورا عبثا ًعجّ إلى الله يوم القيامة يقول: يا رب إن فلانا قتلني عبثا ًولم يقتلني منفعة" رواه النسائي وابن حبان في صحيحه.(11/460)
وعن ابن عمر أنه مرّ بفتيان من قريش طيرا ًأو دجاجة يترامونها، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟ لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لعن من اتخذ شيئا ًفيه الروح غرضا" رواه البخاري ومسلم.
قال الصنعاني في سبل السلام (4/86) بعد أن أورد هذا الحديث بلفظ مسلم: "الحديث نهى عن جعل الحيوان هدفا يرمى إليه، والنهي للتحريم لأنه أصله، ويؤيده قوة حديث "لعن الله من فعل هذا"ووجه حكمة النهي أن فيه إيلاما للحيوان.
ومن الرفق بالحيوان تجنب أذيته في بدنه ولطمه على وجهه، فقد روي عن المقداد بن معد يكرب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم "ينهى عن لطم خدود الدواب"، وفي صحيح مسلم: أن امرأة كانت على ناقة فنفرت فلعنتها فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بإعراء الناقة مما عليها وإرسالها، عقوبة لصاحبتها.
تحريم التعسف في استعمال الحق مع الحيوان:
إذا كان الله- سبحانه- قد أجاز للإنسان أن يستعمل حقه في الانتفاع بالحيوان، فإنه اشترط لذلك أن يتم على الوجه المشروع، فإن كان فيه شيء من التعسف فقد ورد النهي عنه في نصوص كثيرة ومن ذلك ما يلي:-
أولا: التعسف في استعمال حق الذبح:
لقد جعل الإسلام من حق الإنسان أن يذبح الحيوان المأكول للاستمتاع بالطيب من لحمه، ولكنه أمر بالإحسان في ذبحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته" وقد وضع فقهاء الإسلام آدابا ًلذبح الحيوان المأكول اقتباسا ًمما جاء في الرفق بالحيوان من أصول، فقال أمير المؤمنين عمر: "من الإحسان للذبيحة أن لا تجر الذبيحة إلى من يذبحها".
وقال ربيعة الرأي: "من الإحسان أن لا تذبح ذبيحة وأخرى تنظر إليها".(11/461)
وقرر الفقهاء أنه على الذابح أن لا يحد شفرته أمام الذبيحة، وأن لا يصرعها بعنف، فعن ابن عباس أن رجلا أضجع شاة وهو يحد شفرته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أتريد أن تميتها موتتين هلا أحددتك شفرتك قبل أن تضجعها" رواه الطبراني في الكبير والأوسط، والحاكم واللفظ له وقال: صحيح على شرط البخاري.
وعن معاوية بن مرة عن أبيه أن رجلا قال: يا رسول الله، إني لأرحم الشاة أن أذبحها، فقال: "إن رحمتها رحمك الله"رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.
وعن الوحين بن عطاء قال: إن جزارا ًفتح بابا على شاة ليذبحها، فانفلتت منه فاتبعها، فأخذ يسحبها برجلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا جزار سقها سوقا رفيقا" رواه عبد الرزاق في مصنفه.
وعن ابن سيرين أن عمر رضي الله عنه رأى رجلا يسحب شاة برجلها ليذبحها فقال له: "ويلك قدها إلى الموت قودا ًجميلا ً"رواه عبد الرزاق أيضا.
ثانيا: التعسف في استعمال حق القتل:
أذن الإسلام في قتل الحيوان المؤذي، كالكلب العقور، والأفعى السام، والفأر المخرب، وما أشبه ذلك، غير أنه أمر بالإحسان في قتله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله كتب الإحسان في كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة"والمعروف أن القتل يستعمل للحيوان الذي لا يؤكل، على خلاف الذبح الذي يستعمل للحيوان المأكول.(11/462)
وعن ابن مسعود قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى قرية نمل قد حرقناها فقال: "من حرق هذه؟ " قلنا: نحن، قال: "إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب العالمين" رواه أبو داود، وقد أمر رسول الله بقتل ((الوزغ)) وهو الكبار من أفعى سام أبرص، إلا أنه أمر بالإحسان في قتله، وذلك بقتله بضربة واحدة دون تعذيبه بضربات متعددة، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل وزغة في أول ضربة فله كذا وكذا حسنة، ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة دون الحسنة الأولى، ومن قتلها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة دون الحسنة الثانية" رواه مسلم، وأبو داود والترمذي وابن ماجة، وفي رواية لمسلم "من قتل وزغا ًفي أول ضربة كتبت له مائة حسنة، وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك".
وفي حديث سقيا الكلب الذي يلهث قال المفسرون: فيه دلالة على وجوب الإحسان إلى الحيوان المؤذي المأمور بقتله، فقد أمر الإسلام بقتل الكلب العقور إلا أنه أثاب من سقاه من البئر بأعلى درجات الثواب فأدخله الجنة، فلا تعارض بين الأمر بقتله والأمر بالإحسان إليه امتثالا لحديث: فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة.
ثالثا: التعسف في استعمال حق الركوب:
سخر الله الحيوان لنقل الإنسان من مكان كما جاء في قوله تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} غير أن هذا الحق ليس مطلقا ًوإنما قيدته الشريعة الإسلامية بقيود ترتكز كلها على أصل الرفق بالحيوان والإحسان إليه ومراعاة حقوقه.
ومن حقوق الحيوان في ذلك:-(11/463)
1_ أن تتاح له فرصة الرعي والاستراحة في السفر الطويل، فقد أخرج البخاري ومسلم من طرق متعددة بالسند إلى أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض"قال النووي في شرح هذا الحديث عند مسلم (8/128) : "ومعنى الحديث الحث على الرفق بالدواب، ومراعاة مصلحتها، فإن سافروا في الخصب قللوا السير وتركوها ترعى في بعض النهار وفي أثناء السير، فتأخذ حظها من الأرض بما ترعاه منها". وقد جاء في أول هذا الحديث من رواية مالك: "إن الله رفيق يحب الرفق".
2_ ومن حق الدابة المعدة للركوب أن لا يركب عليها ثلاثة في آن واحد، فقد أخرج الطبراني في الأوسط عن جابر قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركب ثلاثة على دابة"، وفي رواية أبي سعيد: "لا يركب الدابة فوق اثنين"، وأخرج ابن أبي شيبة من مرسل زاذان: أنه رأى ثلاثة على بغل، فقال:"لينزل أحدكم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الثالث"وأخرج الطبراني عن علي قال: "إذا رأيتم ثلاثة على دابة فارجموهم حتى ينزل أحدهم".
وقد حمل الفقهاء هذه النصوص على ما إذا كانت الدابة غير مطيقة للثلاثة، فإن أطاقتهم جاز. قال ابن حجر في فتح الباري (12/520) : "يحمل ما ورد في الزجر من ذلك على ما إذا كانت الدابة غير مطيقة كالحمار مثلا، وعكسه على عكسه كالناقة والبغلة".
وقال النووي في شرح مسلم (9/135) : "مذهبنا ومذهب العلماء كافة جواز ركوب ثلاثة على دابة إذا كانت مطيقة"وحكى القاضي عياض منعه عن بعضهم مطلقا ً، وقال ابن حجر: "لم يصرح أحد بالجواز مع العجز".
3_ ومن المحرم في الشريعة الإسلامية وقوف الراكب على الدابة وقوفا ًيؤلمها، فقد ورد في سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم أن تتخذوا ظهور دوابكم منابر، فإن الله إنما سخرها لكم لتبلغكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس".(11/464)
4_ ولا يجوز الركوب على ما لم يخلق للركوب كالبقرة، قال القاضي أبو بكر بن العربي: "لا خلاف في أن البقر لا يجوز أن يحمل عليها، وذهب كثير من أهل العلم إلى أن المنع من ركوبها نظرا ًإلى أنها لا تقوى على الركوب، إنما ينتفع بها فيما تطيقه من نحو إثارة الأرض وسقي الحرث".
5_ ولا يجوز أن يكون مقود الدابة ضارا ًبها، فقد ورد في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر إلا قطعت"، فذهب بعض أهل العلم في فهم الحديث مذهب الرحمة بالحيوان وقال: إنه أمر بقطع القلائد من أعناق الدواب مخافة اختناق الدابة بها عند شدة الركض لأنها تضيق عليها نفسها، وكراهة أن تتعلق بشجرة فتخنقها أو تعوقها عن المضي في سيرها.
رابعا ً: التعسف في استعمال حق التحميل:
وحرمت الشريعة الإسلامية الإساءة إلى الحيوان بتحميله من الأثقال ما لا يطيق، وكان الصحابة الكرام يعرفون أن من حمّل دابة ما لا تطيق حوسب على ذلك يوم القيامة، فقد روي عن أبي الدرداء أنه قال لبعير له عند الموت: "يا أيها البعير لا تخاصمني عند ربك، فإني لم أكن أحملك فوق طاقتك"، وعن عبد الله بن جعفر قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ذات يوم..فدخل حائطا ً_أي بستانا_ لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنّ وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه فسكت، فقال: "من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ "فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله، فقال: " أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها، فإنه شكى إليّ أنك تجيعه وتدئبه"أي تعمل عليه عملا متواصلا، رواه أحمد وأبو داود.(11/465)
وروى أحمد أيضا ًمن حديث طويل عن يحي بن مرة قال فيه: وكنت معه – أي مع النبي – جالسا ًذات يوم إذ جاء جمل يخب حتى ضرب بحرانه بين يديه، فقال: "ويحك تنظر لمن هذا الجمل؟ إن له لشأنا" قال: فخرجت ألتمس صاحبه، فوجدته لرجل من الأنصار، فدعوته إليه، فقال: "ما شأن جملك هذا"فقال: وما شأنه؟ لا أدري والله ما شأنه، عملنا عليه، ونضحنا عليه حتى عجز عن السقاية، فأتمرنا البارحة أن ننحره ونقسم لحمه، قال: "فلا تفعل، هله لي أو بعنيه"، وعن سهل بن الحنظلية قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعير قد لصق ظهره ببطنه فقال: "اتقوا الله في هذه البهائم فاركبوها صالحة.." رواه أبو داود وابن خزيمة، إلا أنه قال: "قد لحق ظهره".
وإذا كانت الشريعة قد حرمت ركوب ما لم يخلق للركوب من الحيوان، فقد حرمت أيضاً أن يحمل على ما لم يخلق للحمل منه كالبقر مثلا، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل يسوق بقرة له قد حمل عليها التفتت إليه البقرة فقالت: إني لم أخلق لهذا ولكني إنما خلقت للحرث"قال القرطبي في الجامع (10/72) معقبًا: "فدل هذا الحديث على أن البقرة لا يحمل عليها ولا تركب"ويقول أيضاً في تفسير قوله تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُم} : "في هذه الآية دليل على جواز السفر بالدواب وحمل الأثقال عليها، ولكن على قدر ما تحتمله من غير إسراف في الحمل مع الرفق في السير".
وروى أبو داود بسنده إلى المسيب بن آدم قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب جمّالا وقال: تحمل على بعيرك ما لا يطيق؟ ".
أحكام فقهية تحدد حقوق الحيوان:(11/466)
كتُب الفقه الإسلامي طافحة بالأحكام المتعلقة بالحفاظ على حقوق الحيوان وهي كثيرة لا يتسع المجال لذكرها في هذه المقالة الموجزة، ومن ذلك ما قرره الفقهاء من وجوب القيام على سقي الدابة وإطعامها، وإذا قصر مالك الحيوان في ذلك أجبره القضاء عليه، فإن لم يقم للدابة بما يجب عليه من حسن تغذيتها وسقيها، باعها القاضي ولم يتركها تحت يد صاحبها تقاسي.
ويقول القاضي أبو يعلى في كتابه (الأحكام السلطانية ص 305) : "وإذا كان في أربا المواشي من يستعملها فيما لا تطيق الدوام عليه أنكره المحتسب عليه، ومنعه منه وإن لم يكن فيه مستعد _ أي مخاصم _ إليه، فإن ادعى المالك احتمال الدابة لما يستعملها فيه جاز للمحتسب أن يفكر فيه، لأنه وإن افتقر إلى اجتهاد فهو عرفي يرجع فيه إلى عرف الناس وعادتهم وليس باجتهاد شرعي".
وفي الفتاوى البزازية (6/370) ما نصه: "المختار أن النملة إذا ابتدأت بالأذى لا بأس بقتلها وإلا يكره، وإلقاؤها في الماء يكره مطلقًا"، لأنه تعذيب لا مبرر له، "وقتل القملة لا يكره، وإحراقها وإحراق العقرب بالنار يكره"والهرة إذا كانت مؤذية لا تضرب ولا تعرك أذنها بل تذبح بسكين حاد.
ويقول النويري في نهاية الأرب (9/258) : "وسمعوا بعض المفسرين يقول في قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} أن المحروم هو الكلب".
وقال الصنعاني في سبل السلام: (1/232) بعد حديث المرأة التي دخلت النار في هرة حبستها: "والحديث دليل على تحريم قتل الهرة لأنه لا عذاب إلا على فعل محرّم"ومثل هذه الأحكام في كتب الفقه الإسلامي لا حصر لها.
هذا وقد بلغ المسلمون في الرفق بالحيوان حدًا يكاد يكون متطرفاً، حتى أن عدي بن حاتم كان يفت الخبز للنمل ويقول: إنهن جارات ولهن حق، كما رواه النووي في تهذيب الأسماء.(11/467)
وكان الإمام أبو إسحاق الشيرازي يمشي في طريق يرافقه فيه بعض أصحابه، فعرض لهما كلب فزجره رفيق الإمام أبي إسحاق فنهاه الإمام وقال: أما علمت أن الطريق بيني وبينه مشترك.
وأمثال ذلك في تراثنا كثير، وكان الدافع إلى كل ذلك هو الرغبة الشديدة في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية نصاً وروحاً.
وأخيرا نقول: إن شريعة فيها من ضمان حقوق الحيوان ما ذكرنا بعضه القليل، ماذا يمكن أن تشرع للإنسان من حقوق؟(11/468)
مهمة المسجد في بناء المجتمع الإسلامي
لفضيلة الشيخ محمد المجذوب: المدرس بكلية الدعوة بالجامعة
بحث قدمته الجامعة الإسلامية إلى مؤتمر رسالة الجامعة بمكة المكرمة
في رأس الحقائق البديهية أن عبادة الله هي المهمة الأولى للثقلين الجن والإنس، ويؤكد ذلك قوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} فهاهنا قصر الخلق على صفة العبادة وحدها، فكأنه لا غرض من وجود الجن والإنس سوى عبادة الخالق وحده، وبذلك يصبح مفهوم العبادة أوسع مدى من الشعائر الخاصة كالصلاة والصوم والزكاة والحج وما إليها مما يدخل بداهة في هذا النطاق، حتى يتناول كل تحرك يأتيه الإنسان في حياته، فلا يستثني من ذلك طعامه وشرابه ومختلف تصرفاته، إذ المفروض أن هذا الإنسان على وعي تام لسلطان الخالق ومراده من خلقه، فلا يأتي شيئاً أو يذر شيئاً إلا وفق الأفضل والأرضىله.. ومتى استوفى الإنسان هذه الصفة كان عبداً ربانياً، وكان كل تحرك له عبادةً لله خالصة.
ولقد تكاملت هذه الخصائص العليا في شخص محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رسالته الخاتمة، فكانت الأرض كلها له مسجدا وطهورا، وكان كل عمله من ثم تحقيقاً لفضيلة العبودية الخالصة لله القائم على كل نفس بما كسبت..
والإسلام متتام الأجزاء، أول أركانه بعد شهادة الحق الصلاة، التي عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم عمود الدين، وكما تنهض على العمود عوالي البناء، هكذا كانت الصلاة الصحيحة منطلق البواعث المحركة لطاقة الفرد في طريق الحياة السعيدة، تسكب روحها في كل تصرفاته.. ومن هنا كان للمسجد أثره العظيم في تكوين المجتمع الإسلامي الأمثل، ولهذا رأينا أول عمل يقوم به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد استقراره في المدينة هو تأسيس مسجد قباء، ثم إنشاء مسجده المبارك، الذي شارك بنفسه في بنائه مع صحابته الأكرمين.(11/469)
من هذا المسجد المبارك تفجرت ينابيع العلم والهدى وأصول الحضارة المثلى، التي ما لبثت أن عمت العالم فغيرت معالمه، وشقت له الطريق إلى تاريخ لا عهد له بمثله من قبل.
وأدرك الرعيل الأول عظم الأمانة، فتزود لها بكل ما وسعه من معاني الوحي حتى كان الواحد منهم يغشى سوق المدينة، فيخشى أن يشغل المسلمون بصفقاتها عن ذلك الخير الأكبر، فيهيب بهم أن هلم إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشاركوا في ميراثه الذي يتقاسمه الناس هناك [1] … وما ميراث النبوة سوى العلم الذي به سيشقون الأعين الكمه، ويفتحون القلوب الغلف..
لقد بدأ هذا المسجد مهامه في تنظيم المجتمع من أول يوم، فكان أشبه بمحطة الكهرباء، تمتد أسلاكها إلى كل ناحية، فتضيء وتحرك وتزود الجميع بكل نافع..
في هذا المسجد تلتقي الجماعة المؤمنة للصلوات الخمس خلف إمامها الأعظم صلى الله عليه وسلم فتتعلم منه كيف تؤديها بالخشوع الذي يحقق أهدافها العليا، وفيه تنتظم حول هاديها لتتلقى منه تعاليم السماء، التي تدربها على تنظيم مسيرتها في الطريق اللاحب الذي لا يعتري سالكه ضلال، وإلى هذا المسجد تهرع الجماعة المؤمنة كلما دعاها إمامها إلى (صلاة جامعة) تطرح في أعقابها المشكلة أو المشكلات الطوارئ، ليشاركوا في معالجتها بما أوتوا من خبرة وإخلاص لدينهم ولمصلحة مجتمعهم فيكتسبوا بذلك الدربة التي تعوزهم لضبط سلوكهم في نطاق الخير العام، ومن ثم لقيادة الأمم التي سيستخلفهم الله على إصلاحها وتوجيهها في قابل الأيام.(11/470)
من هذه الأصول الأولى تعرف المسلمون أهمية المسجد في حياتهم فكان لهم على مر الدهر المعبد الذي فيه يجتمعون لإقامة الصلاة، والمدرسة التي يتلقون فيها علم الدنيا والآخرة، والندوة التي يبحثون في ظلها معضلاتهم اليومية والأسبوعية، والمركز الذي يتدربون فيه على تطبيق معاني الإسلام في سلوكهم الفردي والاجتماعي والسياسي، والملاذ الآمن الذي يعمق بينهم روابط الأخوة، ويفتت الفوارق التي يحدثها اختلاف المنازل الاجتماعية بين الناس فيعودون كما يريد لهم الإسلام خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، أمة تجمعها أخوة الإيمان، ويتساوى فيها الأفراد في حق الكرامة والعدالة والحياة، فلا يستكبر فيها قوي على ضعيف، ولا يذل ضعيفها لقوي، لأنهم كلهم أذلة للمؤمنين أعزة على الكافرين…
جامعات شعبية:
وهكذا أخذ المسجد سبيله في ضبط المسيرة الإسلامية، حتى لقد كانت المساجد الجامعة في صدر الإسلام تؤدي بجانب رسالتها الدينية عدة مهام، فمن على منابرها تذاع أوامر الدولة وجيهاتها، وفيها تنعقد مجالس القضاء للحكم بين الناس.
"وقد شاهد ناصر خسرو في جامع عمرو بن العاص رضي الله عنه محرري الصكوك والعقود، كما رأى فيه مجلس قاضي القضاة ويقول إنه: كان في الزيادة الغربية من المسجد، كما كان فيها مجلس قاضي الحكم الشافعي، ومجلس القاضي المالكي…"ٍ، وكذلك عاين ابن رستة وهو من رجال القرن الثالث الهجري، بيت المال الخاص بحفظ أموال اليتامى في هذا المسجد نفسه، ووصفه بأنه كان أمام المنبر، وأنه شبه قبة عليها أبواب من حديد، ثم نقل إلى صحن المسجد، وحتى اليوم لا يزال البناء الخاص ببيت المال قائماً في الجامع الأموي بدمشق، وفي الجامع الكبير بمدينة حماة وإن هو قد خلا من كل مال…(11/471)
أما الجانب التعليمي من حياة المسجد فلا يزال من أبرز مقوماته بعد الصلاة، على الرغم من كل العوائق التي اعترضت طريق الإسلام، وبخاصة في أيامنا هذه، وقلما ترى مسجدا في قرية أو مدينة لا يقوم فيه مدرس أو مدرسون، أو مقرئون يعلمون صغار المسلمين كتاب الله حتى الساعة.
إنها بقية من ماض مجيد، كان المسجد فيه يتخذ صفة الجامعة الشعبية مفتحة الأبواب لكل راغب في المعرفة، لا تقيده بدوام، ولا تفرض عليه مادة دون أخرى، بل تفتح لمواهبه سبيل الانتخاب الطبيعي، فينتقل من حلقة إلى أخرى، حتى يستقر في الاتجاه الذي يتلاءم مع استعداده، وبهذه الطريقة أتيح للمسجد أن يخرج أكبر العباقرة الذين تسنموا مقاعد الإمامة في الدنيا والدين..
ولقد زاحمت المدارس والجامعات النظامية مدرسي المساجد منذ مطلع العصر العباسي، ولكن المسجد لم يتخل عن مهمته لها، بل جعل يضاعف من نشاطه بإزاء ما واجه المسلمين من البدع والفتن والمذاهب التي أحدثتها الفلسفات الوثنية فكان كطوف النجاة وسط الخضم الهائج يفند الباطل، ويدعم الحق، ويعلى رايته فوق كل راية..
ولعل عهود المماليك كانت أحفل عهود الإسلام بالنشاط المسجدي في الشام ومصر، إذ أقبلوا يتنافسون على عمران المساجد، والتفنن في رعايتها وتقويتها، فكان لكل مسجد جامع ملحقاته من الحجرات والمكتبات، يأوي إليها أهل العلم من طلبة وأساتذة فتجري عليهم المساعدات السخية الثابتة لتوفر لهم العيش الكريم، فلا ينصرفوا عن العلم إلى البحث عن الخبز.
وما كاد المسجد يفقد بعض مميزاته في عهود الدول المتتابعة حتى أطل بوجهه الجديد من عاصمة الخلافة العثمانية، يحيي ما اندرس أو كاد يندرس من نشاطه المبارك في خدمة المجتمع المسلم.(11/472)
يصف أحد المستشرقين اثنين من مساجد العاصمة فيقول: "في عهد العظمة التركية كان المسجد مركزاً اجتماعياً، فمسجد محمد الفاتح مثلا كان على جانبيه كليات وفندق ومستشفى ومركز لتوزيع الطعام، وعلى رابية أخرى كان يربض أوسع المساجد إطلاقاً وهو مسجد سليمان القانوني، الذي كان حوله عشر مؤسسات منها كليات أربع، والمدرسة لم تكن خاصة بالدين، بل كانت وحدة للسكن، وكان المسجد نفسه قاعة للدرس والمحاضرات، وكان بوسعك أن ترى لعهد قريب أساتذة في صحن المسجد خلال الصيف، وفي المسجد نفسه أثناء الشتاء، يدرسون جماعات صغيرة من الطلاب".
بين أمس واليوم:
أجل… إن المسجد لم يفقد حتى اليوم تأثيره في حياة المسلمين فهو لا يزال قائماً لاستقبال المصلين، ولا يخلو في كثير من الأحيان والبلدان من مكتبة صغيرة تمد المسجد بنسخ من كتاب الله للتبرك ببعض التلاوة، وقد تحتوي بعض الكتب الإسلامية الأخرى تبرع بها بعض المحسنين دون تفريق بين النافع منها وغير النافع.
على أن قليلا من التأمل في أوضاعها على ضوء الغاية العليا التي من أجلها وجد المسجد في الإسلام يؤكد لنا أن ثمة فجوة هائلة تفصل بين مسجد اليوم ومسجد الأمس.. لا من حيث بناؤه وشكله وأثاثه، فقد توافر لمسجد اليوم من ذلك الشيء الكثير، ولكن من حيث الروح الذي يجب أن يهيمن على واقعه فيجعل منه منطلق حياة وتكوين وتوجيه.(11/473)
لقد جرد المسجد الحديث من الطاقات التي تمكنه من العمل في بناء الفكر والقلب وتصحيح المفهومات الخاطئة، فقلما نجد على منبره الخطيب المزود بسلاح العلم الواسع، وإذا وجد فقلما تجد لديه الإخلاص الذي يجعل الحق أعلى وأغلى في قلبه من الحياة- إلا من رحم الله- لقد سيطر الرعب على خطيب المسجد ومدرسه وضاقت في أعينهما سبل الرزق، فلا يريان سبيلا للوصول إليه إلا بإرضاء المتسلطين على مرافق الحياة، ممن لا يقيم وزنا لدين الله ولا يعرف حقا لشريعة الله.. ويكاد أن يكون هذا هو واقع المسجد في معظم ديار المسلمين، إلا من رحم الله..
ولا عجب في ذلك ما دام المسلمون في تلك الأقطار محكومين بغير نظام الإسلام، فكل محاولة لتوعية المصلين، وتزويدهم بحقائق دينهم ستصطدم برغبات المخالفين لها من أصحاب السلطان وأعوانهم، ممن باعوا أنفسهم للشيطان بأبخس الأثمان..
فكيف إذا أخذنا بعين الاعتبار نوعية الخطباء والمدرسين الذين يقع اختيار أولئك المتسلطين عليهم، حيث يكونون من المرتزقة الذين لا يهمهم إلا منافعهم العابرة، فلا يتورعون عن أن يجعلوا الحق باطلاً والباطل حقاً، والظالم عادلا والصالح باغيا..
التطور المدمر:
إن الإسلام في توكيده على عمران المساجد إنما يستهدف من ذلك توفير وسائل التوعية الدائمة التي لا مندوحة عنها لإقامة المجتمع الصالح.. المجتمع الذي يعرف كل فرد منه ماله وما عليه، ذلك لأن الجماعة المسلمة هي المادة التي منها تتكون دولة الإسلام، وهي القاعدة التي عليها ترتكز، وإذا كانت وظيفة المجتمع المسلم _شعباً ودولة _ هي تبليغ رسالة الله وإقامة الحكم الأفضل، فطبيعي أن يجد هذا المجتمع من الرعاية والحرية ما يمكنه من تحقيق واجبه في الاستعداد للنهوض بأعباء هذه الرسالة في نفسه أولا، ثم في أوساط الشعوب الأخرى ثانياً..(11/474)
ولا شيء أفعل في تحقيق هذه المعاني في قلب المسلم من كلمة الحق يسمعها في بيوت الله مؤيدة بآيات الوحي من كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أدل على ذلك من توكيد الشريعة على حضور الجماعة في صلوات النهار الخمس وظهيرة الجمعة، وإيجاب صلاة العيدين على كل مكلف من ذكر وأنثى، حتى الحيض والعواتق كيلا تفوتهم المشاركة في شهود الخير، والتفاعل مع روحانية الجماعة، لتستمر للفرد صلته الوثقى بأمته وملته، فتظل الأفكار متقاربة، والأذواق متناغمة، فلا يجد الشيطان مجالا للتسلل إلى وحدة الصفوف..
تلك هي رسالة المسجد في أوضح صورها، وحين تؤدى هذه الرسالة على الوجه الصحيح، لن يتعرض المجتمع الإسلامي لمثل هذه الهزات التي تهب عليه من كل صوب، حاملة إلى أجياله جراثيم التشكيك والتخريب تحت مختلف الأسماء والعنوانات…
ولكن المسجد أوشك أن يفقد سلطانه على النفوس بعد هذه التطورات التي سلخته من معظم مقوماته، وسلطت عليه حتى من لا يؤمن برسالته، فهو اليوم في جل ديار المسلمين أداة شلاء لا يكاد يؤدي أي وظيفة اجتماعية هادفة، بل لا نغالي إذا قلنا إنه بما يعتوره من المعوقات المختلفة، لا يزيد الواقع الاجتماعي إلا بلبلة واضطرابا.
لنبدأ من هنا:
على ضوء هذه الأحاديث وجدتني وأنا أهم بكتابة هذا البحث أتساءل: ما الحصيلة التي سيرجع بها المجتمعون في هذا المؤتمر إلى بلادهم؛؟ ... وإلى أي مدى يمكنهم أن يضعوا مقرراتهم في حيز التنفيذ؟ …(11/475)
لقد تكررت المؤتمرات التي عقدت لعرض أحوال المسلمين، ولدراسة أوضاعهم على مختلف المستويات، وإن في مقرراتها الكثير من العلم والخير… غير أني أتطلع في كل اتجاه لأرى آثارها العملية فلا أكاد ألمح شيئا… ولا جرم أن اجتماعا يعقد لتصحيح أوضاع المسجد والمسجديين جدير بكل تقدير واهتمام، إذا كان من شأنه تغيير هذا الواقع الذي انتهى إليه المسجد وأهله… ولكن ما السبيل إلى ذلك وهو الذي لا سبيل إليه إلا عن طريق الذين لا يريدون هذا التغيير…
في اعتقادي أن أعظم خدمة نقدمها لإحياء رسالة المسجد هو أن نبدأ هذا التصحيح في مساجد هذه المملكة أولا… فإذا نجحت المحاولة هنا كانت الخطوة التالية إقناع الأقطار الإسلامية الأخرى بنقل هذه التجربة إلى مساجدها.
إن المملكة السعودية هي البيئة الإسلامية المتميزة، فقضاؤها إسلامي صرف، وتعليمها لا يزال مرتبطاً بأهداف الإسلام، ونشاطها الإسلامي لا يكاد يفوته جانب من أرض المسلمين، وفي إمكاناتها المادية ولله الحمد ضمان لإنجاح أي مشروع إسلامي من هذا النوع.. فلتكن هي المنطلق الأول لتحقيق الأنموذج الأفضل الذي تتطلع إليه أبصار المصلحين وبصائرهم…
لقد كتب الكاتبون، وألّف المؤلفون، وخطب المحاضرون، وتغنى الشعراء الإسلاميون بعظمات الإسلام وإمكاناته العجيبة لإصلاح الإنسان، وبناء الأوطان وإقامة الحكم الصالح، وإعطاء البشرية أفضل الأنظمة في السياسة والاقتصاد والعدالة… ولكن شيئاً من ذلك لم يترجم إلى نطاق العمل المنظور خارج هذه البلاد حتى الآن، لذلك ستظل هذه الكنوز حديثاً ماتعاً يسلي القارئ والسامع، على حين أن المسلمي، ن ومن ورائهم العالم كله يظلون أحوج ما يكونون إلى رؤية هذه الكنوز بارزة في متناول الأيدي والأبصار، فمتى يتاح لهذه الحقائق الإسلامية أن تحتل مكانها في عالم الواقع، ليقتنع العالم أن لدينا ما نقدمه لإنقاذه من مهامه الضياع.(11/476)
إن الضمير الإنساني يطالب المسلمين بإقامة أنموذج صحيح للمجتمع الذي يستطيع الإسلام أن يبنيه بإمكاناته الخاصة وحدها، فيكون مجتمعاً ربانياً يحكمه نظام الإسلام في كل شيء، دون أن يسمح للتيارات الدخيلة بأي تأثير في خصائصه العليا، حتى يكون حجة الإسلام على العالم، الذي مزقته التجارب البشرية المقطوعة عن طريق الوحي..
وما لم يتفق المسلمون على هذه الحقيقة وما لم يتقدم من الشعوب الإسلامية من يحقق هذا الأنموذج، فسيظل كماخض الماء، لا يتجاوز حدود الأحلام.
المسجد الذي نريده:
أما المسجد الأنموذج الذي تتطلع إليه أبصار المفكرين فهو الذي توافرت فيه كل الوسائل المساعدة على استعادة منزلته وتحقيق رسالته التي أنشئ لها من أول يوم أول مسجد أسس على التقوى.
ولن يكون المسجد كذلك إذا قصرنا العناية فيه على الشكل دون المضمون.. أو على المضمون دون الشكل.
إن الذي قدح فكرة إصلاح المسجد في قلوب المصلحين هو شعورهم بحاجة المجتمع العميقة إلى مؤثرات هذه المؤسسة الإسلامية الهامة، ولابد في تحقيق هذه الغاية من مراعاة التطور الاجتماعي الذي تعيشه الإنسانية في كل مكان وزمان.
ومن موحيات ذلك التطور أن يكون المسجد وحدة اجتماعية متكاملة، تؤمّن لمرتاديها كل متطلباتهم الروحية والعقلية، وحين نفعل ذلك لن نبتعد كثيراً عن أوضاع هذه المؤسسات في ظل الخلافة العثمانية أو عهد المماليك مثلا، ذلك لأن أولئك الذين أنشئوا تلك المساجد، وأحاطوها بالمرافق الاجتماعية المختلفة، إنما صنعوا ذلك بحافز من الوعي التام لرسالة المسجد في نطاق الحاجات الاجتماعية الطارئة..
وعلى هذا فالمسجد الذي يراد أن تتمثل فيه الوحدة الاجتماعية المتكاملة هو الذي يجد فيه المصلون على اختلاف مستوياتهم كل الفرص التي يستطيع توفيرها ناد مزود بكل المرغبات الصالحة…(11/477)
إن قاعة الصلاة جزء من هذه الوحدة يفيء إليها روادها كلما دعا إليها الداعي في أوقاتها الخمسة، ثم مكتبة عامرة بأفضل المؤلفات الإسلامية في شتى العلوم والفنون، على أن يعنى فيها باختيار الطبعات الرائعة من كتاب الله، فلا تقع فيها العين ولا اليد على تلك المصاحف التجارية التي طبعت أردأ طبع، وجلدت أسوأ تجليد، فلا يتكرر لمسها حتى تتفتت، وتتحول إلى ركام من الأوراق الممزقة. ثم تلحق بهاتين القاعتين ثالثة للجلوس يجتمع فيها أهل الفكر من أبناء المحلة أو زوار الوحدة، حيث يتداول الرأي في أمورها وأحوال روادها، وما ينبغي عمله لاستمرار تقدمها وازدهارها على أن تكون من السعة بحيث تصلح لإلقاء المحاضرات، وإقامة الندوات الفكرية تحت إشراف المسئول عن الوحدة. وسيكون من الإحياء للسنة إجراء عقود النكاح في هذه القاعة، ليحضرها رواد المسجد والمكتبة والمجاورون، فيكون ذلك مدعاة لتقوية الروابط بين أهل المحلة، وأفضل وسيلة لمكافحة السرف الذي اعتاد الناس أن يتنافسوا به في مثل هذه المناسبات.
ولن ننشد المستحيل عندما نتمنى أن تكتمل هذه الوحدة بإضافة مستوصف يتناسب مع حاجة البيئة، يقوم عليه طبيب أو أطباء بصورة ثابتة أو بالتناوب بين أطباء يخصصون بعض وقتهم لخدمة المترددين على هذا المستوصف على أن تصرف لهم الأدوية الأولية من الصيدلية الملحقة به..
إن مركزاً إسلامياً كهذا من شأنه أن يقدم لبيئته أجل الخدمات، ويهب للإسلام أفضل نماذج الدعاية، التي تعرف الناس قدراً غير قليل من جمال هذا الدين، الذي يهدي للتي هي أقوم، ويهيب بالمؤمنين أن يتعاونوا _ دائماً وأبداً _ على البر والتقوى.(11/478)
على أن كل مجهود يبذل لتوفير هذه المصالح سيظل أبتر معرضاً للخلل فالزوال، إذا لم توجه مثل هذه العناية إلى نوعية الرجال الذين سيشرفون عليها. ولهذا نرى أن أول الشروط التي على أساسها يختارون هو الكفاية الخلقية ثم الكفاية العلمية، فما ينبغي لغير مؤمن بهذا الدين أن يعهد إليه بالإشراف على المسجد وملحقاته، ولا يصح أن يوسد أمرها إلى خبير عليم اللسان فاسد الجنان، لأنه واحد من زمرة الشياطين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، كما أنه سيكون من الجناية على المشروع أن يعين لها الدراويش من ذوي التقوى، الذين لا يملكون نصيباً وافياً من العلم العاصم، لأن تولية أي من هؤلاء سيكون نذيرا بدماره حسب منطوق الحديث الصحيح: "إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة" وقد فهم أولو العلم أن المراد بالساعة هنا ساعة خراب الأمر.
إن المسجد الجديد لا يصلح إلا بما صلحت به أوليات المساجد التي أسست على تقوى من الله، وفي رأس ذلك الجمع بين العلم والإيمان، ولا سبيل إلى ذلك إلا بإصلاح أوضاع المشرفين الأعلين على مصاير المساجد في بلاد المسلمين، فلا يرفع إلى تلك المناصب من لا خشية عنده لله، ولا غيرة على حرمات الإسلام، وإني لأكتب هذه الكلمة وفي رأسي ذكرى يوم رافقت فيه أحد مديري الأوقاف في بلد مسلم إلى أحد المساجد التاريخية، وهناك أدركتنا صلاة العصر فإذا هو يستعجل بفراقنا لأنه لايريد الصلاة _أو لا يعلم كيف يصلي_ وما أكثر هؤلاء في معظم ديار المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
نعم.. لابد من التركيز على نوعية الخطيب والمدرس والإمام والمشرف العام، فكم من إمام لا يحسن إقامة الآية من كتاب الله، وكم من خطيب لا يصلح إلا للتنفير من دين الله، وكم من مدرس يعلم الناس الخير، وهو غارق بالفساد إلى صماخيه….(11/479)
لقد آن للمسئولين عن رعاية المساجد أن يحسنوا لها الاختيار، فلا يقل مؤهل الإمام والخطيب عن الشهادة الثانوية الشرعية في أوساط القرى والبوادي، وأما في المدن والحواضر فلا يصل إلى هذه الأعمال امرؤ يقل مؤهله الدراسي عن مستوى الإجازة من إحدى الكليات الإسلامية، وذلك بعد الاستيثاق الكامل من مؤهله الخلقي، على أن هذا يقتضي أن يوفر للعاملين في خدمة المسجد كل ما يؤمن لهم الحياة الكريمة، وقد درج بعض المحسنين أن يلحقوا بالمسجد منزلاً خاصاً للإمام والخطيب، وإنها لسنة حسنة يجدر بالمؤتمر ألا يغفلها.
وإذا كان هذا صحيحاً بالنسبة إلى كل مسجد في أي مكان، فهو أحق بالتحقيق في المسجد الأنموذج، الذي يراد له أن يكون مناراً للهداية، ومنطلقاً للدعوة إلى دين الله بين مختلف عباد الله.
المراكز الإسلامية:
وبحث كهذا في شأن المسجد لا يستكمل عناصره ما لم نلق من خلاله نظرة إلى ما يسمى اليوم بالمراكز الإسلامية المنشآت خارج أقطار المسلمين…
إن لبعض هذه المراكز نشاطاً ملحوظاً في خدمة المسلمين وفي الدعوة إلى الإسلام، وقد حقق هذا البعض بفضل الله غير قليل من النجاح في أوساط الجاليات الإسلامية، وطلاب الحق والخير من غيرها…
بيد أن الملاحظ أن أكثر هذه المراكز نجاحاًً في خدمة الإسلام هي التي يقوم على خدمتها عناصر حرة من الشباب المؤمن، الذي لا تقيده وظيفة رسمية.. ففي ظل هؤلاء الأحرار يحسن عرض الإسلام لجاهليه من الأجانب، وتنظم برامج تعليم لصغار المسلمين ممن لا يتاح لهم معرفة شيء من دينهم إلا عن طريق هؤلاء المتطوعة..(11/480)
هذا على حين نرى المراكز الأخرى التي تتولى أمرها قيادات رسمية لا يهمها من أمرها إلا تحقيق الدعاية السياسية التي تفرضها الدولة.. ومن هنا رأينا مراكز تنفق عليها الأموال الطائلة، ثم لا مردود لها سوى زيادة البلبلة في أوساط الجاليات الإسلامية.. ولقد حدثني زميل فاضل تولى إمامة أحد هذه المراكز من قبل هيئة خاضعة للحكومة فلم يستطع أن يحقق فيه أي مهمة إسلامية، بل لم يستطع حمايته من المفاسد التي ينكرها أهل الإيمان، لأن الذي عهد إليه بإدارته كان أبعد الناس عن فضائل الإسلام، حتى إنه ليفطر رمضان دون عذر، ويأتي من المنكرات ما لا يكتمه زميلي الفاضل لو سئل عنه.. وقد شكا أمره إلى المسئول الأعلى فلم يجد أي مردود سوى التهديد والوعيد…
وهكذا تذهب آمال المسلمين ببعض هذه المراكز مع الريح.. ولا جرم أن إخفاق أي مركز إسلامي في الغرب يجر معه إخفاقاً أكبر للدعوة الإسلامية، إذ يكون سبباً لتشويه الإسلام، وصرف الراغبين عنه إلى البحث عن علاج حيرتهم في غيره….
طموح مشكور يرجى تحقيقه:
ومرة أخرى أسمح لنفسي بالقول: إن هذه المملكة أحق بلاد الإسلام في عهدنا هذا بإصلاح هذا الوضع، وذلك بإحداث مراكز للإسلام في مختلف حواضر العالم الغربي، يقوم على رأسها رجال جمعوا بين قوة العلم وأمانة التبليغ، كبعض أولئك الذين خرجوا من هنا بدعوة الله قبل قليل إلى أوربة والفاتيكان، فأحسنوا العرض والحوار وعادوا مكللين بالأجر والغار.(11/481)
وفي ظني أن أهم واجب يتحمل تبعته كل مركز إسلامي ينشأ خارج البلاد العربية هو لمُّ شعث الجوالي الإسلامية تحت راية الصلاة، ثم تخصيص برامج أسبوعية لتعليم أبنائهم ما لابد من علمه عن كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم إلى برامج أخرى خاصة لنشر العربية والإسلام بين الأجانب والأعاجم، ودعم كل من البرنامجين بمكتبة صالحة تيسر لطالب العلم الحصول على بغيته من أقرب سبيل، على أن يراعى فيها مستوى كل من القسمين، مع الاهتمام الكبير بنوعية المنشورات والكتب، بحيث تكون مقصورة على عرض الإسلام وتيسير العربية دون انحراف نحو الدعايات السياسية الخاصة.
لقد حدثني قبل أيام فتى سعودي كري، م على اتصال بسمو الأمير المؤمن العامل محمد بن الفيصل منشئ (مؤسسة الإيمان للتربية والتعليم والثقافة الإسلامية) التي تنتشر مدارسها النموذجية حتى الآن في الرياض وجدة والمدينة المنورة، حدثني بخبر يسر كل مسلم هو أن سموه يعتزم أن يوسع دائرة المشروع إلى أبعد من حدود المملكة حتى تشمل أمريكة، فيغزوها بالإسلام عن طريق التعليم، كما تقوم هي بغزو المسلمين بالنصرانية والخنفسة عن طريق المبشرين والهيبيين.
وقد أشار إلى ذلك المنشور الخاص بهذه المؤسسة المباركة، إذ يقول في نهاية الفقرة الرابعة منه: "وتعد المؤسسة مشروعاً لتحويل مدارسها إلى مدارس دولية إسلامية تكون لها نظائر خارج المملكة، سواء في الدول الإسلامية أو الأجنبية".
وقد علمت بعد ذلك من أحد العاملين في هذه المؤسسة أنها ستبدأ خطواتها الأولى على هذا الطريق في القاهرة والإسكندرية، لتكون منطلقاً إلى عمل تعليمي على مستوى العالم الإسلامي…(11/482)
وياله من طموح يستسهل في سبيل الله كل صعب، ويدغدغ الآمال بمستقبل مشحون بالنصر والمجد، وما أحوج مؤتمر رسالة المسجد إلى مثل هذا الطموح، الذي من شأنه أن يرد بفضل الله وتوفيقه إلى المسجد رسالته العظمى، في إيصال هداية الله إلى كل مستحق لها من الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] مضمون حديث حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه(11/483)
رسائل لم يحملها البريد
لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
صديقي الأعز وعدوي الألدّ…
لست أدري بأي اسم من أسمائك الكثيرة أسميك، ولا بأي نداء من نداءتك العديدة أخاطبك، أأسميك باسم الدرهم والدينار، أم أخاطبك باسم الجنيه والدولار، أم أكتب إليك بأقرب الأسماء إلى شفتيّ، وأكثرها وروداً على سامعيّ، وأوسعها أخذا وعطاء أمام ناظرتيّ، فأقول يا أيها الريال؟! أم أترك أسماءك وألقابك إلى أشكالك وصورك، وكم لك فوق الأرض وفي باطنها من شكول وصور تخطف الأبصار وتزيغ البصائر وتهزّ العقائد والقلوب هزا عنيفا.
أنا لا يهمني أسماؤك ولا ألقابك، ولا يعنيني أشكالك ولا صورك، سواء أكنت ورقا مصقولا مكفولا منمنما تتخطفه الأيدي، أم كنت ذهبا أصفر مشعّاً لا يتحرك إلا بتؤدة ولا يجلس إلا مجلساً كريماً، أم كنت تجارة متداولة، أم عمارة متطاولة، أم سائمة تملأ المراعي، أم نباتا يطعمه الناس.
أنا لا يهمني شيء من ذلك، وإنما يهمني حقيقتك ومعناك، يهمني هذا الدور الذي تقوم به على مسرح هذا العالم مذ هبط آدم إلى الأرض إلى أن يدس أبناؤه في التراب.
ولقد دعا هذه الخواطر التي أكتبها إليك داع ربما لم يكن دعاؤه نديا، ولكنه على كل حال قد دعا سواء أكان دعاؤه ندياً أم خفيتاً خفيا، دعاها أبيات قالها النمر بن تولب العكلي لعاذلة أغلب الظن أنها كانت زوجه، ولعلها كانت تلومه في إنفاق، وتعتب عليه بسط يد، وتطلب إليه أن يمسك عليه ماله، قال:
بعيدا نآني صاحبي وقريبي
أعاذل إن يصبح صداي بقفرة
وأن الذي أنفقت كان نصيبي
ترى أن ما أبقيت لم أك ربه
أخو نصب في رعيها ودؤوب
وذي إبل يسعى ويحسبها له
وبدل أحجارا وجال قليب
غدت وغدا رب سواه يقودها(11/484)
ما أكثر ما أنشدت هذه الأبيات التي تتحدث عنك، وما أكثر ما ردّدت هذا الشعر الذي يصور نزاعاً فيك، زوجة تحرص عليك وتضن بك، وتحبك حباً جماً ولا تطيق فراقا، وزوج يعدّك ماله ينتفع بك، ويراك نصيبه حين ينفقك، أما حين يحبسك ويغلق دونك الأبواب فلست له مالا، وإنما أنت مال أناس آخرين ستأتيهم برداً وسلاما، دون أن ينصبوا فيك أو يدأبوا لك أو يقوموا عليك قياما.
وقد تسألني وتقول: وما قضاؤك لو قضيت؟ أي الزوجين كان على حق؟ وأي الرأيين كان صواباً؟
أما عقلي فمع الرجل، وأما هواي فمع المرأة، ويا لله من ذاك الهوى!!
لقد أفسدت عليّ أيها المال حياتي، أفسدت عليّ ديني، وأفسدت عليّ خلقي، وسلبتني الرأي، وباعدت ما بيني وبين الكتب.
شتان ما حالي وقد حرمتك، وحالي بعد أن عرفتك وذقتك، كان لي قبل أن أراك رأي أقوله لا أبالي فيه العواقب ولا أخشى الثبات، أرى الباطل فأقول هذا باطل، واسمع المفتري فأناديه يا ذا الإفك والبهتان، وأحضر مجالس المنافقين والمرائين فيكون لي فيها رأي لا يطيب لهم سماعه، كنت قبل أن تقوم بيننا هذه المودة أشتري بالقليل القليل الذي أجمعه منك كتب علم وأدب أوسع بها معارفي، وأصقل بها ذوقي، وأثقف بها نفسي، وأملأ بها سمعي وقلبي، كنت أفضل ذلك على أن أشتري بك أطعمة لذيذة يتمتع بها حسي، ويتضخم بها جسمي، ويتبلد بها ذهني، ويموت فيها نشاطي، كنت أفضل ذلك على أن أشتري بك ثياباً جديدة جميلة أختال فيها كما تختال الطواويس، وأميس فيها كما يميس الصغار والفتيان في ثيابهم الجديدة أيام أعيادهم السعيدة.(11/485)
كنت من قبل أن تقوم بيننا هذه المودة أعيب أيما عيب أناساً على رغم ما يتسمون به من العلم والفضل يقبلون على جمعك وادخارك بشراهة، لا يعرفون فيك سكينة ولا أمنا، ولا يذوقون فيك راحة ولا نوما، وإذا ما سألت: علام هذا النصب الناصب، وفيما هذا السعي اللاغب؟! قال قائلهم: أريد أن أؤمن مستقبلي ومستقبل أولادي من بعدي، أتريد أن يعيش التجار ورجال الأعمال وأصحاب المهن وسائر الناس في سعة من العيش وخفض، ونعيش نحن رجال العلم في ضيق من العيش وحرمان من الدنيا وزهد في نعيم الحياة؟! ألسنا يا أخي بشراً من هؤلاء البشر؟! أفلا يكون حقاً وعدلا أن نستمتع كما يستمتعون وننعم كما ينعمون؟! لقد وفّر الناس لأنفسهم أموالا ضمنت لهم مستقبلهم، ونالوا من الطيبات ما طابت به أنفسهم، وأخذوا من أسباب الحياة ما نعمت به حياتهم، فإذا وفرنا لأنفسنا ما وفروا، ونلنا من الطيبات ما نالوا، أفنكون بذلك قد اجترحنا السيئات ونلقى من بعد أثاما؟!
كنت قبل أن عرفتك أيها المال أنعم بحياتي، وأحسن التصرف فيما أدع وفيما آتي، وأجد أيامي راضية واسعة مباركة، أعبد الله في طمأنينة وسكينة وحضور قلب، وأحضر دروس غير معجل ولا كاره، وأذهب إلى مكان تدريسي مبكراً، وألقى طلابي هاشاً باشاً نشيطاً، ثم لا أعدم مع هذا أوقاتاً طيبة أصاحب فيها علماء رحلوا عن هذه الحياة الدنيا منذ قرون، وقد شغلوا عن تأمين مستقبلهم ومستقبل أبنائهم في الحياة الدنيا، وعن التمتع بالطيبات من الرزق والرفاه من العيش، قد شغلوا عن ذلك كله بتأمين مستقبلهم في الدار الآخرة، وتأمين مستقبل أبناء المسلمين بتركة مباركة غنية من العلم والأدب والمعرفة.(11/486)
كنت … وكنت … وما أكثر ما كنت … وما أقل ما كنت … ثم ذقت طرفا من حلاوتك، وتمليت بقية عمر في صحبتك، وأصبحت أدور معك حيث تدور، وأقف معك حيثما تقف، قد استعبدني هواك وحبي إياك، حتى لم أعد أبصر الأمور إلا بعينيك، ولا أسمع الأشياء إلا بأذنيك، ولا يطيب لي العيش إلا حيث تكون.
بالأمس أمسكت حزمة سمينة من أوراقك الثمينة، أقلبها تارة وأعدّها تارة أخرى، ثم أرفه عن نفسي بتقسيمها ألفاً ألفا، ثم بتقسيمها ألفين ألفين، ثم أضمها كلها بعضها إلى بعض، وأسرح الطرف إليها في زهو وإعجاب، ثم حملني الزهو والإعجاب على أن أملأ جيبي بتلك الأوراق وأجوب بها الأسواق، ومع أن عينيّ كانتا تلبسان نظارات طبية جديدة، وكان إبصاري بهما قويا حديدا، مع ذلك كنت لفرط زهوي وغروري لا أرى الناس والأشياء إلا أشباحاً وظلالا، وعلى رغم أني فارقت شبابي منذ عهد بعيد، فقد خطوت خطوات الشباب السريعة الواسعة الواثبة، ومضيت في السوق لا ألوي على شيء، ولا أعوج بشيء، وسرعان ما صدمت أحد العابرين فإذا هو لقى على الأرض يئن ويتلوى، ونظرت إليه من عل فوجدت فيه مسكيناً غريباً زريّ الهيأة، فحقرت شأنه، ومضيت لطيّي لا أبالي، والناس يرجمونني بنظرات ملؤها السخط والمقت، وفجأة رأيتني وأنا لا أدري أمام مكتبة ضخمة فخمة تموج بالكتب وبالمشترين موجا، وكاد حنيني الكمين القديم يقذفني إلى الداخل لولا صوت رنّ في أذني يقول: إلى أين؟! أتريد أن تعود إلى عهدك القديم وسيرتك الأولى؟! علام ذلك وفيمه؟! لقد نلت الشهادة منذ سنين بعيدة، وأصبحت بها موظفاً ذا درجة حميدة، فما أنت والكتب والمكتبات؟! تلك أيام قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، وما بك من حاجة أن تعود، أتريد أن تدرس وتطالع؟ وما حاجتك إلى المطالعة والدرس؟! كان ذلك من أجل الامتحانات وقد نجحت في تلك الامتحانات، أتريدها توسيعاً لمعلومتك وتعميقاً لمفهوماتك في تحضير دروسك لطلابك؟ ولكن ما حاجتك إلى ذلك؟!(11/487)
تدبير تجارتك وتربيب أموالك أولى بوقتك واهتمامك، أم تخشى أن يفجأك المفتش فيلقاك مقصراً مهملا، ولكنك تعلم أنه لا تثريب عليك في ذلك ولا تأثيم، فكثيراً ما دعوت رؤساء ذلك المفتش ومن بيدهم الحل والعقد إلى حفلات تقيمها لهم وموائد، وكثيراً ما قدمت إليهم الهدايا والتحف، فأنت بهذا في حصن حصين من غوائل الوظيفة، وفي مأمن أمين من عوادي الإهمال والتقصير.
وهممت أن أجادل وأدافع وأبين ما في قوله من خطأ وجناية وتضييع أمانة، ولكن صوت المؤذن لصلاة العشاء وخروج المشترين من المكتبة إلى المسجد لم يدعا مجالا للجدل ولا للبيع والشراء.
ودخلت المسجد مع الداخلين، وصليت مع المصلين وأنا مشغول البال مهموم القلب ثائر العواطف، وانتهت الصلاة وأنا لا أذكر شيئا من صلاتي ولا شيئا مما قرأه الإمام في تلك الصلاة، ولم تصح نفسي إلا وأنا علة عتبات المسجد أدس قدمي في الحذاء.
وما أسرع ما تعزيت وتخففت من تلك الهموم بتلك اللمسات التي أحسّ بها جيبي وما في تلك الجيب من أوراق نقدية قد ملأت منها كل جانب، وكانت تلك اللمسات متتابعة ما تكاد تنقضي حتى تبدأ، وكثيراً ما كانت عيني تحسد يدي على تلك اللمسات فترسل النظرات وراءها تشارك وتستمتع، وما كانت أذني بمعزل عن تلك المتعة، فما أكثر ما قالت ليدي في رقة واستعطاف: ناشدتك الله يا أختي أن تحركي تلك الأوراق بقوة فإن لها خشخشة مطربة وحفحفة لذيذة!! وقبل أن أخلص من السوق بقليل روعت يدي ترويعاً شديداً حين لمست جيبي فهوت ولم تجد تلك الربوة الصغيرة التي كانت تملأ كفها وتزيد، وكاد يصيبها شلل لولا أن الشلل في تلك اللحظات كان مصيبة أخرى، فاستجمعت قواها وأخذت تروح وتجيء في الجيوب كلها محمومة مرتعشة تظن جيباً أخرى قد استضافت تلك الأموال، ولكن تلك الأموال كان قد استضافها مكان آخر بعيد لا يعلمه إلا الله.(11/488)
ورجعت أدراجي أرسل النظرات هنا وهناك فوق أرض الشارع وفي زحمة الخطأ واشتجار الأقدام، لعل تلك الأوراق سقطت في الطريق.
وبينا أنا ذاهل عما حولي مطرق الرأس إلى الأرض إذا شيء يصدم ذلك الرأس بعنف فيلقيني على الأرض، وتجمع الناس من حولي يساعدونني على القيام ويلومونني ويقولون: هذا الرجل الذي يحمل صناديق الخشب على ظهره كان يصيح بأعلى صوته مراراً وتكرارا يحذر الناس! الخشب الخشب! أفلم تسمع إذا كنت لا ترى؟! أو لم تر إذا كنت لا تسمع؟!
وأقبل الرجل الحامل يعتذر بكلمات أحسست فيها الحسرة وبنبرات صوت شاع فيها الأسف، وقبلت عذر الرجل، فقد بذل في تحذيري كل جهد، وكانت الصدمة منه على غير قصد، وكانت مني غفلة وشرود خاطر.
وسرت إلى البيت وئيد الخطا ظالع المشية، وكانت نفسي تحدثني في أثناء العودة وتقول: كان لابد من قبول عذر الرجل، فقد ضاعت ثروتك وأصبحت ضعيفاً مسكينا لا حول ولا طول ولا مال، ومن كان في مثل هذه الحال فلا ينبغي له أن يفعل غير ما فعلت، أما لو كان مالك لا يزال في جيبك فما كان ينبغي لك إلا أن تلطم وتصدم وتغلظ القول.
ولم يعجبني حديث نفسي هذا، فأعرضت عنه وجعلته دبر أذنيّ وتحت قدميّ، فقد كان في اعتذار الرجل إليّ تكريم لي وتعظيم، وكان في قبولي العذر منه إحسان ومودة، ثم كان فيما قدمه من عذر وفيما قدمته من عفو مؤاخاة أضاءت لها وجوه الناس، وعمل صالح لا يضيع أجره عند الله.
وطرقت باب البيت، واستقبلني أهله وقد راعهم كدم في الجبين، واضطراب في الخطا، وصفرة في الوجه، ونبرات صوت حزينة أليمة خافتة لا تكاد تبلغ الآذان، وأجبت قبل سؤال: لا تراعوا زلة قدم، وسقطة جسم، وكدوم ليست بذات بال.
- ولكن ما بال صوتك يبكي؟! وما بال عينيك قد غامتا؟! وها هو ذا وجهك قد غارت دماؤه!!(11/489)
- أشرت إلى جيبي التي كانت على صدري، كانت خواء مطبقاً بعضها على بعض كأن لم تغن قبل قليل بأوراق ثمينة لم تعرفها جيب عاقل قط.
- أصلحك الله! لقد حذرناك، ولكنك ركبت رأسك واتبعت هواك، وعلى كل حال فنعم الله علينا كثيرة لا تنفذ، ولقد كنا من قبل أن نعرف هذا المال في نعمة، ومن يدري؟! فلربما كان في ذلك المال شر لنا فصرفه الله عنا، فارض بما قضى الله وقدّر، ولا تأس على ما فات، هاهو العشاء محضر فتفضل.
- الحمد لله على كل حال وأسأله تعالى الخير لنا فيما يختار، أما العشاء فأنا متعب وأريد أن أستريح قليلا.
وما كدت أضع رأسي على الوسادة حتى سمعت صوتاً غريباً يرن في أرجاء الغرفة ويقول: إنني أنا المال، أتحدث إليك من أرجاء العالم كلها، ومن أنحاء الأرض جميعاً، إنني أحب الحرية، أحب أن أسيح في الأرض، وأن أنطلق من يد إلى يد، ومن صاحب إلى صاحب أحمل البر والخير، وأنقل الإخاء والرخاء، لا أحب أن يستعبدني إنسان، ولا أن يحبسني مكان، لقد خلقني الله فتنة للناس ومحنة، وتجربة كبرى لهم واختبارا، فكم من أناس يراهم الناس شامخة أنوفهم على ارتفاع ثلاثين أو أربعين ألف قدم، سرعان ما يخرون إلى الأرض يمرغون جباههم بالثرى وأنوفهم بالرغام، حينما يرونني مقبلا من بعيد أو بارقة في الظلام.
وكم من فقير كان يلبس ثياب التقوى ويدعو إلى الدين في حرارة قول وصدق يقين، ثم ساقني الله إليه فنسي الناس ونسي ما كان يعظ به الناس، وتلهى عن حق العباد وحق الله فيما وهب له الله، ثم اتبع خطوات الشيطان وكان عاقبة أمره غيا.
وكم من قاض جلس يحكم بين الناس فكان العدل هو الذي يقضي، وكان الحق هو الذي يحكم، ثم طرقت _ أنا المال _ عليه الأبواب الخلفية، فانفتحت فرجة صغيرة تسللت منها على شيء من الخوف وقليل ثقة واطمئنان ثم كثرت زياراتي، ونجحت وساطاتي وتفتحت ليّ الأبواب.(11/490)
وكم من وزير وموظف كبير تولى مصالح الناس وتصريف شؤون الدولة، جلست _أنا المال _ في كفة ميزان، وجلست مصالح الناس ومصالح الدولة في الكفة الأخرى، فوضع يده في كفتي فثقلت ورجحت، وأعرض عن الأخرى فخفت وشالت.
وكم صيحة صحت يا حسرة على المسلمين حين رأيت ثلة من زعمائهم وفئة من علمائهم لا يفتر لهم لسان عن ذكري، ولا يطيب لهم حديث غيري وليس لهم مشغلة إلا أياي.
قليل قليل جداً أولئك الذين جئتهم فظلت أقدامهم ثابتة لا تزل، وظلت عيونهم مبصرة لا تعشو، وظلت قلوبهم مضيئة لا تلتف بضباب، ولا يغفلها سحاب.
ولقد كرمني الله فجعلني من هذه القواعد التي يقوم عليها المجتمع، ومن هذه الأشياء التي تصلح بها أمور الناس، وأولئك الذين يرمونني بالإثم، ويتهمونني بأنني مثير ضغائن وحروب بين أفراد وشعوب، ويجتهدون أن يقيموا مجتمعاً بدوني، وأن يبنوا أمة ليس لي فيها وجود، أولئك ساء ما يقولون، وضلة ما يحاولون، فأنا مطية ذلول يمتطيني صاحبي على طريق الخير إن كان من أهل الصلاح والبر، ويسوقني صاحبي على دروب الشر إن كان من أهل الفساد والضر.
وعلى رغم ما ألاقيه في هذا العالم من تكريم وتعظيم، فإن حياتي لا تخلو من أحزان، ومما يحزنني في هذه الحياة أن أناسا يجمعونني على غير هدى وإبصار، وأن قوماً يدخرونني ولا يدرون فيما يكون هذا الادخار، وأن أيديا طائشة كثيرة تنفقني على غير حاجة ولا رشدة.
ليت الذين يجمعونني يجمعون كما تجمع أريها النحل، وليت الذين يدخرونني يدخرون لما تدخر له النمل، وليت الذين ينفقونني ينفقون كما أمر الله وفي سبيل الله وكيما ينتفع الناس بي في هذه الحياة.
ولقد نسيت أن أبدي لك رأيي فيما قاله بعض الشعراء ف إنفاق المال، كقول هذا العكلي الذي ذكرت.
وقول حاتم الطائي الذي لم يذكر:
بصير إذا ما مت نهبا مقسّما
أهن في الذي تهوى التلاد فإنه
إذا نال مما كنت تجمع مغنما(11/491)
قليلا به ما يحمدنك وارث
وقول طرفة بن العبد:
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
فإذا كنت لا تستطيع دفع منيتي
فأنا لا يعجبني هذا الذي بعث هؤلاء على…
ويفتح باب ويهتف صوت: لعلك استرحت وزال عنك ما شكوت.
إن العشاء لا يزال ينتظر.
وفررت أيها المال وفر صوتك معك، ليتك اصطبرت قليلا وأتممت ذلك الحديث! هل إلى رجوع من سبيل؟
عبد الرؤوف اللبدي(11/492)
البيان البلاغي عند العرب معناه أطواره
الدكتور عبد الحميد العبيسي
الأستاذ المساعد بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
الحمد لله الرحيم الرحمن علّم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان، والصلاة والسلام على رسول الله أفصح من نطق وأبان وبعد:
فقد وردت كلمة "البيان"في المعاجم العربية بمعنى: ما تبين به الشيء من الدلالة وغيرها؛ تقول بان الشيء بيانا: اتّضح، فهو بيّن، والجمع: أبْيناء، والبيان: الفصاحة واللَّسَن، وكلام بيّن: فصيح، وفلان أبْين من فلان، أفصح وأوضح كلاماً منه، والبيان: الإفصاح مع ذكاء، والبيان إظهار المقصود بأدلّ لفظ، وهو من الفهم وذكاء القلب مع اللَّسَن، وأصله الكشف والظهور.
فمادة البيان تدور حول معنى: الدلالة، والفصاحة، والوضوح، والكشف، والظهور، وقد استمرت هذه المعاني مستقرة حتى ظهرت باكورة الدراسات البيانية المتخصصة متمثلة في كتاب (البديع) لمؤلفه الأمير الشاعر ابن المعتز المتوفى سنة 296هـ؛ استجابة لدعوة الجاحظ المتوفى سنة 255هـ القائمة على تحقيق التأنق في رسم الصورة الأدبية، والكشف عن الوسائل التي تزدان بها تلك الصورة، وتزداد بها وضوحاً وروعة، وكتاباه: (البيان والتبيين) ، (الحيوان) يمثلان أسلوبه ومنهجه في هذه الدعوة إلى النهج البياني، وبهما اعتبره البعض مؤسس البيان العربي.
ولقد كان صنيع الجاحظ حقاً بداية التحوّل بالبيان إلى معنى: الأدب وفنونه، والدلالة على أسباب نضجه الفني، والتعريف بالمقومات التي قد تعترض نموّه؛ إذ لكل موضوع طريقة خاصة في التعبير عنه، فالموضوع الأدبي له العبارات الأدبية، والألفاظ المنتقاة، والتشبيهات، والاستعارات، والكنايات التي تعبر عن العواطف المختلفة [1] ، بل إن لكل صناعة ألفاظها قد حصلت لأهلها بعد امتحان سواها، فلم تلزق بصناعتهم إلا بعد أن كانت مُشَاكِلاً بينها وبين تلك الصناعة.(11/493)
وقبيح بالمتكلم أن يفتقر إلى ألفاظ المتكلمين في خطبة أو رسالة، أو مخاطبة العوام والتجار، أو في مخاطبة أهله وعبده، أو في حديثه إذا تحدّث، أو خبره إذا أخبر، وكذلك من الخطأ أن يجلب ألفاظ الأعراب، وألفاظ العوام وهو في صناعة الكلام داخل، ولكل مقام مقال، ولكل صناعة شكل [2] .
وعلى هذا فالبيان عند الجاحظ هو: الدلالة الظاهرة على المعنى الخفي، وهو اسم جامع لكل شيء كشف لك عن قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير؛ حتى يُفضَى السامع إلى حقيقته، لأن مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع؛ إنما هو: الفهم والإفهام؛ فبأي شيء بلغت الإفهام، وأوضحت عن المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع.
ثم إن أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسة أشياء:
(1) اللفظ، (2) الإشارة، (3) العْقَدْ، (4) الخطّ، (5) الحال الدّالة التي تُسمى: نِصبة (بكسر النون) .
وهكذا ترى أن المعنى اللغوي للبيان هو الذي سيطر على فكر الجاحظ، واستبدّ بخياله، وينتهي القرن الثالث الهجري الذي برز فيه الجاحظ، ويأتي القرن الرابع ليخرج أبو الحسين إسحاق بن وهب الكاتب كتابه: (البرهان في وجوه البيان) مقتفياً طريق الجاحظ في البيان والتبيين ناقداً إيَّاه، من حيث إنه وجد فيه أخباراً منتخلة، ولم يأت فيه بوصف البيان، ولا أتى على أقسامه في هذا اللسان، حتى بات هذا الكتاب غير مستحق لهذا الاسم الذي نسب إليه [3] والبيان عنده على أربعة أوجه:
(1) فمنه بيان الأشياء بذواتها، وإن لم تُبيّن بلغاتها، وهو بيان الاعتبار.
(2) ومنه البيان الذي يحصل في القلب عند إهمال الفكرة واللُّبّ، وهو بيان الاعتقاد.
(3) ومنه البيان: الذي هو نطق باللسان وهو: بيان العبارة.
(4) ومنه البيان بالكتاب: الذي يبلغ من بعُد، أو غاب [4] .(11/494)
وإنك حين تتأمل في هذه الأوجه تجدها قريبة من صنوف البيان التي قالها من قبل؛ إذ بيان الاعتبار، والاعتقاد عند ابن وهب هما معاً: بيان ((النّصبة)) عند الجاحظ، وبيان العبارة هو بيان ((اللفظ)) عند الجاحظ، وبيان الكتاب هو: بيان ((الخط)) عند الجاحظ، فمحاولة ابن وهب إنما هي ترديد لما صنعه الجاحظ، فلا يدع أن يستمر البيان في نطاق معانيه اللغوية، ونجد عالماً آخر هو الرماني في كتابه: (النكت في إعجاز القرآن) يشرح البيان: بأنه الإحضار لما يظهر به تمييز الشيء من غيره، وأقسامه أربعة: كلام، وحال، وإشارة، وعلامة [5] .
ثم يأتي القرن الخامس الهجري عصر النضج البلاغي، ولا نجد غير التعميم لكلمة: البيان، فنجدها مرادفة للظهور في تعريف الفصاحة عند ابن سنان الخفاجي المتوفى سنة 466هـ، كما وردت في معرض كلامه عن الأسباب التي لأجلها يغمض الكلام على السامع، ولا يعني بها إلا الظهور والإيضاح، وكذلك نراها في حديثه عن التشبيه، وحسن الاستعارة [6] ؛ فلم ترد كلمة البيان إلا مرادفة للكشف والظهور والوضوح، وكذلك كان الأمر عند معاصره إمام البلاغة ومؤسسها عبد القاهر الجرجاني في كتابيه: دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، فنراه يجعل البيان مرادفاً للفصاحة، والبلاغة، والبراعة وكلها تعني عنده: وصف الكلام بحُسن الدلالة، وتمامها فيماله كانت دلالة، ثم تبرجها في صورة هي أبهى وأزين، وأنقى وأعجب [7] .(11/495)
ولم يكن ابن رشيق القيرواني المتوفى سنة 462هـ _صاحب (العمدة) [8] الذي عاش في المغرب- أبعد أثرا من معاصريه: الخفاجي، والجرجاني اللذين عاشا في المشرقن فكل ما صنعه أنه عقد باب ((البيان)) في كتابه، ونقل فيه تعريف الرُمَّاني للبيان، ثم ساق أمثلة للبيان الجيّد، وللبيان الموجز، وأتبع ذلك بأنماط من أقوال الخلفاء الراشدين؛ منهياً إلى أن الجاحظ _وهو عَلاَّمة وقته _ استفرغ الجهد وصنع فيه كتاباً لا يُبلَغ جودة وفضلا ثم ما ادّعى إحاطة بهذا الفن لكثرته، وأن كلام الناس لا يحيط به إلا الله عز وجل.
وظلت هذه المفاهيم: البيان، البلاغة، البراعة، الفصاحة، البديع متشابكة لا تحديد فيها، ومختلطة لا تمييز بينها، حتى كان تقسيم علوم البلاغة على يد صاحب (مفتاح العلوم) أبو يعقوب يوسف السكَّاكي المتوفى سنة 626هـ؛ حيث جعل البلاغة علمين هما: المعاني والبيان [9] ، وألحق وجوه تحسين الكلام وتزيينه بهذين العلمين [10] .
وبهذا التقسيم برز البيان الاصطلاحي الذي عرّفه السكاكي بقوله: "هو معرفة إيراد المعنى الواحد في طرق مختلفة بالزيادة في وضوح الدلالة عليه، وبالنقصان؛ ليحترز بالوقوف على ذلك عن الخطأ في مطابقة الكلام لتمام المراد منه" [11] .
ولقد سلم هذا التقسيم وذاك التحديد للسكاكي فكراً وتطبيقاً على الرغم من أن الزمخشري المتوفى في 528هـ هو أول من أطلق هذه التسمية! علم المعاني وعلم البيان، في مقدمة تفسيره المعروف بـ (الكشاف عن حقائق التنزيل، وعيون الأقاويل في وجوه التأويل) ؛ حيث قال: "ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما: علم المعاني، وعلم البيان" [12] .(11/496)
وواضح أن الزمخشري لم تظهر لديه الفروق بين أنواع هذين العلمين، فخلط بين هذه الأنواع، ولم تكن له مزية سوى السبق إلى هذه التسمية، على أنه مما لا شك فيه أن صنيع السكاكي قد شجع الخطيب القزويني على جعل علوم البلاغة ثلاثة: المعاني، والبيان، والبديع، وشرح البيان بقوله: "علم يُعرَف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه" [13] .
وهذا التعريف على وجازته مقتبس من تعريف السكاكي؛ كما ترى.
ولما جاء السَّعد التفتازاني المتوفى سنة 792هـ صاحب المطوّل، والمختصر في شرح: تلخيص المفتاح للخطيب القزويني ذكر في كتابه المطول تعريف الخطيب السابق، وتعريفاً آخر للبيان قائلا: "والأقرب أن يُقال: علم البيان: علم يُبحث فيه عن التشبيه والمجاز، والكناية [14] ..".
والذين جاءوا من بعد السعد من علماء البلاغة المتأخرين لم يزيدوا على ذلك شيئاً عن التعريفين المشهورين لدى البيانيين.
هذا ومن الوضوح بمكان أن ابن المعتز قد سمَّى كتابه ((البديع)) الذي أرسى به أسس البلاغة الفنية الخالصة، وهو غير البديع الذي جعله الخطيب علماً ثالثاً مستقلا عن علمي: المعاني، والبيان، ذلك أنه يعني بالبديع: الجديد المستحسن لطرافته وغرابته لدى النفوس، بل إن البديع تعبير عن مسلك تجديدي في الشعر العباسي كان يقوده الشعراء: مُسلم بن الوليد، وابن المعتز، وأبو تمام، والبحتري، وغيرهم ممن نهج طريق التجديد البديعي والصياغي.(11/497)
ثم ذهب شراح التلخيص إلى القول بأنه يمكن أن تطلق: البديع على علوم البلاغة الثلاثة؛ لبداعة مباحثها وحسنها؛ لأن البديع: وهو الشيء المستحسن؛ لطرافته وغرابته، وعدم وجود مثاله من جنسه، ومباحث هذه العلوم كذلك، كما أنهم ذهبوا إلى أن كثيراً من الناس يسمي الجميع: علم البيان؛ لأن البيان هو: المنطق الفصيح المُعرِب عما في الضمير، ولا شك أن العلوم الثلاثة لها تعلُّق بالكلام الفصيح تصحيحاً وتحسيناً [15] .
وبهذا تكون طرائق البلاغيين في هذا الإطلاق ثلاثة:
(1) التقسيم الثلاثي: المعاني، البيان، البديع، كما يظهر في صنيع صاحب تلخيص المفتاح والإيضاح؛ حيث سَمَّى كل فن منها باسمه.
(2) اتجاه الكثرة إلى إطلاق اسم البيان على العلوم الثلاثة.
(3) اتجاه البعض إلى إطلاق اسم البديع عليها.
ومهما تنوعت الطرائق فإن مفهوم البيان يظل دائراً بين معنيين في حياتنا المعاصرة هما:
1_ معنى أدبي واسع: ينتظم الإفصاح عن كل ما يختلج في النفس من المعاني والأفكار، والأحاسيس والمشاعر؛ بأساليب لها حظها الممتاز من الدقة والإصابة، والوضوح والجمال، وهو بهذا التعميم يجمع فنون البلاغة الثلاثة..
2_ معنى علمي محدود هو: التعبير عن المعنى الواحد بطريق الحقيقة أو المجاز أو الكناية [16] 2 وهو أحد فروع البلاغة عند أهل الاصطلاح.
ولعل التعريف الذي ترتضيه للبيان الاصطلاحي هو: التعبير عن المعنى الواحد بطريق التشبيه، أو المجاز، أو الكناية، ذلك أنها الطرق التي يستخدمها الأدباء في صياغة آثارهم الأدبية الرائعة، بل هي الدلالات الخاصة التي تنتظم أسرار الفصاحة والبلاغة في جو الأساليب التي ينشئها هؤلاء الأدباء؛ تعبيراً عن أفكارهم، وتصويراً لعواطفهم، وهذه الأساليب تتفاوت وضوحاً وخفاء، قوة وضعفا..(11/498)
ولا شك أن البيان العربي تجود به الفكرة، وتتضح به الصورة؛ ومن ثمّ كثر عُشّاقه على مرّ العصور يعمدون إليه، ويحرصون عليه، وقد تأكدّت منزلة البيان الرفيعة مع تعاقب الأيام والأعوام؛ لأهمية موضوعه؛ فما موضوعه ذلك؟ وما مكانه من البلاغة؟ هذا موضوع مقال تال ٍنرجو أن نوفق إليه إذا شاء الله تعالى، هذا وبالله التوفيق.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الحيوان: ج1/45.
[2] المرجع السابق ج 3: 114.
[3] نقد النثر (جزء من البرهان) ص 3 ط 1939 وزارة المعارف مصر.
[4] المرجع السابق ص 9، ص10.
[5] النكت (من ثلاث رسائل في إعجاز القرآن) ص 98 ط دار المعارف بمصر.
[6] سر الفصاحة 55، 211، 235 ط صبيح بمصر 1953م.
[7] دلائل الاعجاز 4، 30 ط الفنية المتحدة بمصر سنة 1961م.
[8] العمدة في الصناعة الشعرية ونقده ج 1 254- 257 ط السعادة بمصر.
[9] مفتاح العلوم من ص 86 إلى ص 224 ط الأدبية بمصر 1317هـ.
[10] المرجع السابق من ص 224 إلى ص 229.
[11] المرجع السابق ص 86.
[12] الكشاف ج 1 ص 14 ط الأميرية سنة 1318هـ.
[13] الإيضاح مع شروح التلخيص ج 3 ص 258 ط الأميرية سنة 1317هـ.
[14] المطول ص 310 ط كامل سنة 1330هـ.
[15] شروح التلخيص ج 1 ص 151 ط الأميرية سنة 1317هـ.
[16] فن التشبيه علي الجندي ج 1 ص 17 ط نهضة مصرية سنة 1952م.(11/499)
حديث عن التفرقة والتمييز في الماضي والحاضر
الشيخ عبد الفتاح العشماوي
الجمع الفاضل الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
عندما أتكلم الآن عن التفرقة أو التمييز، وكلاهما تعبير همجي سخيف، لا أقصد بذلك الحديث عن أولئك الذي أيقظوا هذه الفتنة، وأمدوها بوقود الحقد حتى أصبحت ناراً موقدة وامتد أوارها فلم يعد يسلم مكان من لفحها عن أديم الأرض، فهؤلاء الذين أججوها وهم غير مسلمين، لن يكون حديثي عنهم إلا قليلا، فهو منهم ليس بمستغرب، ولا يحرك الجنان ليتكلم عنه اللسان، فقد اختاروا شقاء الضلال وعناء الكفر، حتى ولو أخذت لهم الأرض زخرفها وازينت، وظنوا قدرتهم عليها، فهؤلاء لا يعنينا أمرهم كثيرا في هذه المحاضرة.(11/500)
ولكن الذي يهيج المسلم ليتكلم، هو ما يقع من أهل دينه من تصرف صارخ مضاد تماماً لتعاليم هذا الدين، ذلك أن افتك وباء أصبنا به نحن مسلمي هذا الزمان، ما سماه الأعداء بالتطور قد شغفنا حبا، فأصبحنا بهم في كل أعمالهم معجبين متيمين، ولو تظاهرنا في ذلك بالتأبي وعدم الرضا، فالمعروف أن صورة العمل تبطل صورة القول، ولم يسلم حالنا مع عدونا من تقليده في بلاء التفريق والتمييز، فظنه الكثير منا أنه طابع من مدنية القرن العشرين الميلادي، فوباء العنصرية والتفريق بدأ يفشو في الأمة الإسلامية، مع علمها بتحريم الإسلام، وهذا بدافع تقليد عدوها المكب على وجهه من جهة، ومن جهة أخرى لفراغ صدور أهلها من معرفة دينها، ولكي تتسم كلماتنا بالإنصاف نقول إن ملازمة هذه الصفة المقيتة للإنسان، ثابت أمرها من أقدم الأزمان، بل هي أول صفة استعملها الشيطان مع أول بشر، في قصة إبليس مع آدم، لما ميز نفسه وتوهم الفرق بين العنصر الذي خلق منه وهو النار، والعنصر الذي خلق منه آدم وهو التراب {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} فأدت به هذه العنصرية إلى الطرد الأبدي من رحمة الله، إذاً فالأصل في العنصرية أنها صفة إبليسية، ومن تلبس بها فقد يؤدي به ذلك إلى الطرد من رحمة الله كما طرد شيطانه، تلك قضية واقعية لا نمارى فيها، لكن انطواء هذه العنصرية أو انطلاقها على مدى الدهور، يكون حسب معرفة الإنسان لصانعه ولأصل صنعته، فإذا ما أدرك قدرة الصانع الأعظم سبحانه عرف ضالة نفسه باعتباره مصنوعاً، وإذا أدرك أصل صنعته وهو التراب عرف تفاهة قدره، وأن أمره كأمر كل الناس، فلا موجب لديه يجعله يميز نفسه عن غيره، فالصانع واحد هو الله، والأصل واحد هو التراب، تدوسه النعال، كلكم لآدم، وآدم من تراب"، فإذا ما علم هذا وسيطر على الأفهام في أي عصر، سيطرت روح التآخي، وهيمنت مشاعر التواصل، وانزوت نزوات التعالي والكبر،(12/1)
فاعتصموا جميعاً بحبل ولم يتفرقوا، أما إذا أخلد الإنسان إلى الأرض واتبع هواه، ونسي ربه الذي سواه، وأصبح فكره حبيس نفس غرور؟ ولم يخطر بباله ذلك الطين الذي خلق منه، حتى ولو ادعى بأن له ديناً فيمسي على الفور عنصريا عصبياً ومفرقاً غريباً، فيبدأ بتمييز ذاته عن ذوات الغير، فإذا انتقل داخل وطنه ميز مسقط رأسه فإذا انتقل إلى وطن آخر ميز وطنه، فإذا انتقل إلى قارة أخرى ميز قارته، ثم لا ينسى أن يميز نفسه بلونه، ولنا في هذا تفصيل يأتي بعد إن شاء الله، بل ووصل الأمر إلى العيب على ما يرتديه الغير من زي، لأنه ليس كما يلبس هو وقومه، على العادات العادية ولأنها تخالف عاداته وقومه، بل وعلى نوع الطعام لأنه مخالف لطريقة ما يطهى عندهم ويطعم، بل وعلى اللهجات يسخر منها حيث لم تكن كما ينطق هو ويتكلم، وهكذا أصبح يعيش في نفس عيابة نسيت عيبها، فقد نسيت بارئها وما منه صُنعت، لأن عنصريته التي قام عليها كيانه، لم تفهم صيحة القرآن في الناس {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} فالنداء المعظم بدأ أولا لكل الناس، يذكركم بأن الأب واحد والأم واحدة، آدم وحواء، أي كلم أشقاء، ولما تكاثرتم نثرناكم في الأرض، فأصبحتم شعوبا وقبائل هنا وهناك، لكن ذلك لا ينسيكم أصل الأبوين، فتعارفوا لتشعروا بأنكم على سواء، والأشقاء في النسب شيء واحد، لكن لن يكونوا شيئاً واحداً إذا ما تحول التعارف بينهم إلى معرفة بربهم، لأن معرفة الله تعطي صفة الإيمان، ومن الإيمان يأتي التآخي وهو أعلى من التعارف، لأن التعارف عام بين كل الناس، والتآخي خاص بين المؤمنين حتى ولو كانوا أشقاء، فقد يكون بين الأشقاء من استقام ومن اعوج، بل قد يكون منهم من آمن ومنهم من كفر، ولهذا سمَت خصوصية التآخي على عمومية(12/2)
التعارف، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} فإن هنا أكدت معنيين، أولهما تأكيد الأخوة، وثانيهما أن تكون فقط بين المؤمنين، ومن تحت ذلك فيقف أمرهم عند التعارف، وأن نبرهم ونقسط إليهم، ما لم يكونوا مقاتلين أو مخرجين من الديار، وإلا فلا بر ولا قسط، والمكرمات عند الله للمؤمنين الأتقياء رتب تتفاوت، وقد جعلت الآية في النهاية أعلى الرتب في المكرمات، لمن انتقل من تقي إلى أتقى، فلم يقل سبحانه تقيكم، وإنما قال {أَتْقَاكُمْ} ، ولهذا جاءت الكلمتان بصيغة تفضيل واحدة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} أما ختام الآية {عَلِيمٌ خَبِيرٌ} فمتصل ذكر فيها_ كما هو في كل آية في القرآن الكريم_ عليم بخلقكم الذي أعلمتكم به، لكن خبرته بأتقاكم ينفرد بها {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} ذلك هو توضيح الآية التي لم نعمل بها، والتي يقرؤها الكثير ولا يعرف قصدها، والله بقصدها أعلم، فلما فهمها أهل القرآن يوماً اتحدوا عليها، فلم يتفاضلوا فيما بينهم، إلا بعمل ما يجعل الواحد منهم يطمع أن يكون من الأتقى، فلما صُمَّت الآذان عن هذه الدعوة المؤلّفة، الأمر الذي كما قلت لم يسلم منه مسلمو اليوم، صار منا العنصريون والمميزون والمفرقون، وأصبحت هذه الكلمات الكريهة لها في أوساط المسلمين وجود، وسنحاول إن شاء الله أن نأخذ من ذلك شيئاً من قديم واقعنا وجديده، كأمثلة فقط تتجمع منها كلمات محاضرة، وليس للإحاطة فهو أمر يطول ولا ضرورة له.(12/3)
الأفاضل المحترمون: _ لما شاء الله تعالى أن ينزل من السماء نوره، وقرن هذا النور بالرسول صلى الله عليه وسلم حاولت هوام الظلام أن تطفي نور الله هذا، فتشعبت جوانب كيدهم منقضة جميعها على النور البازغ حديثاً في شخص الرسول والقلة التي لا تملك من المنعة شيئاً للدفاع عن نفسها وكان من أبرز جوانب هذه المعركة عنجهية الجاهلية، والتي انحدرت متعاقبة منذ القرون الأولى، فكان أول اصطدامها بضدها في عصر نوح عليه السلام، وظل شرها المميز يتوارث ويظهر مع رسالة كل رسول، حتى أتى الرسول الخاتم صلوات الله عليه، فأرادت أن تعمل معه عملها الذي تعودته مع غيره فكان أن لقيت حتفها تماماً على يد نبي الإسلام، بما نزل عليه من وحي قاصم لكل عتل غاشم، وما دمنا قد اكتفينا بضرب المثل بأول الرسل وبآخرهم عليهم جميعاً سلام الله، فلنذكر شيئاً مما وقع لكليهما في ذلك، بادئين بنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم لا تحيزا منا ولا تمييزا، وإنما المرسل سبحانه هو الذي قال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} ، فإنه وإن كان نبينا هو الآخر في ترتيب الأزمنة، لكنه الأول في ترتيب المنزلة، فقد وضعه القرآن قبلهم جميعاً بقوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} فبدأ سبحانه الخطاب به قبل نوح {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} ثم بعد ذلك ذكر نوحاً والنبيين بعده، وفي قوله سبحانه {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} فالآية بدأت بالنبيين عامة، وعند الترتيب وضعت نبينا في أول الدرجات قبل نوح ومن بعده {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} وشمل ذلك رسل أولي العزم، وفي القرآن أمر الرسول أن يقول: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} ، وأمر نوحا أن يقول: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، ولقد عمدت إلى توضيح هذا لتوهم البعض بأننا نميز رسولنا(12/4)
لمجرد التمييز، تعصباً منا كما يفعل أهل الأديان الأخرى مع أنبيائهم، فنحن لا نفضل إلا ما فضل الله {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه} .
أعود فأقول: إن أول ما بدأت تقاوم به دعوة الرسول الكريم كانت العنصرية، تلك الصفة التي لا يتشح بها إلا الجاهليون وكل جاهلي في كل عصر، فقد صور الكفر للغلاظ من أشراف قريش، أن الفارق بينهم ومن أجابوا المنادي صلوات الله عليه من المساكين، يمنع التساوي معهم بالدين الجديد، وعن هذا النوع قدم القرآن قصتهم في غير آية وغير سورة، بما يعلم الكثير، لكني اخترت البعض منها لأتعرض لها بشيء مما نريد الوصول إليه في هذا المقام، فقصة الضعفاء التي أودرها علماء أسباب النزول لآيات سورة الأنعام البادئة بقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} أسندوا روايتها بلفظ يختلف ومعنى يتحد إلى ابن حبان وأحمد والطبراني وابن جرير الطبري وابن أبي حاتم عن الصحابة سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وعكرمة وخباب رضي الله عنهم أجمعين، تقول القصة: جاء عتبة ابن ربيعة، وشيبة ابن ربيعة، ومطعم بن عدي، والحارث بن نوفل، في أشراف بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب فقالوا: لو أن ابن أخيك يطرد هؤلاء الأعبد كان أعظم في صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه، فكلم أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلنا ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون، فنزل قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُون …} إلى قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} ، وكانوا بلالا، وعمار بن ياسر، وسالما مولى أبي حذيفة، وصالحاً مولى أسيد، وابن مسعود، والمقدام بن عبد الله، وواقد بن عبد الله الحنظلي، وغيرهم، فأقبل عمر فاعتذر، فنزلت فيه الآية: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُون …} إلى آخر الآية، انتهى لفظ القصة، ولنقرأ أولاً الآيات كاملة،(12/5)
ثم نتناول بالتفصيل قليلا منها، {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} .(12/6)
فالآية الأولى قدمت قضية الحقيقة أساساً، وهي أن الذي يخاف من يوم المحشر هو الذي يقبل دائماً أن ينذر، والذي لا يخاف هذا اليوم فما تغنيه النذر ولا ينتفع بها، ثم يأتي بعد ذلك موضوع الطرد ليصحح الوضع، فالذين قبلوا الإنذار خوفاً من يوم الحشر دخلوا في رحمة الله، فلا يملك أحد طردهم منها ولا الرسول نفسه، فأمره سبحانه أن يبقيهم في حضرته، حتى لا يحرموا من تلقي الرحمة المهداة، وأخبره أنه سيكون ظالماً لو طردهم، أما المستحق حقيقة للطرد فهو الذي عصى النذير، لأنه لا يخاف أن يحشر فتكبر، فكان أن طرد من مجلس الرسول ومن جنة الله، وهكذا سدد الإسلام وفي أول ظهوره ضربته الماحقة إلى من تحمله العجرفة على تمييز نفسه وتحقير غيره، ودور عمر رضي الله عنه هام في القصة، فقد استولت عليه الرهبة لما نزلت الآيات تخالف رأيه عندما قال: لو فعلنا ذلك حتى ننظر الذي يريدون، فأسرع خائفاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذر إلى الله بين يديه، فتنزل الآية بقبول اعتذاره، لكن بعد أن تذكره أن ما وقع من عمر كان سوءا، فلما علم الله أن هذا السوء غير مَنْوِي، وإنما وقع بغير عمد من صحابي ولي، شرفه في نهاية الآية بالمغفرة له وإحلال الرحمة عليه، فقد خاطب سبحانه نبيه في شأن عمر قائلا: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، فإذا كان ما أراده عمر هو استدراج المتعالين لعلهم يؤمنون، ومع ذلك اعتُبِر عمله سوءا يوجب التوبة، ولم يشفع لعمر منزلته عند الله وعند رسوله إلا التوبة مما قال، فكيف بمن يشمخون اليوم ويتميزون، وبمن يمدونهم في طغيانهم بالملق والزلفى، أما الذين قالوا لنبيهم نوح عليه السلام {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ(12/7)
أَرَاذِلُنَا} وقالوا له: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} ردّ نوح عن الأولى بشجاعة حملة الحق {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} ، ملاقوا ربهم ينتصر لهم ممن يهزأ بهم، أو مني إذا طردتهم، لأنه بعد ذلك قال: {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ} ، فنوح أدرك بأن النصر مؤكد لهؤلاء الذين أزدري بهم، وأن نبوته لن تغني عنه من الله شيئاً إذا عصى الله وطردهم، ثم لكي يغيظهم بدّل كلمة الأرذلين منهم بكلمة المؤمنين منه، لما قال: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} في آية، {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} في أخرى، بل وردّ الإهانة عنهم بأن وصم خصومهم المستهزئين بالجهل مرة، وبعدم التذكر ثانية، {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} ثم {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} ، وبعد الذي قدمه القرآن عن نبينا وعن نوح صلوات الله عليهما، وجب التأسي بهما في الأخذ على يد دعاة الفُرقة العنصريين، بكل ما يمكن الأخذ ويستطاع.(12/8)
الأفاضل المكرمون: وبعد أن طوح الإسلام بقوة بعقبة التفرقة، وأجهز عليها في أول صدام معها، انطلق ضوؤه ينير كل بطاح وبقاع، مُبدلا بلاء الشقاق ببهجة الوفاق، لكن القرآن لم يسكت عن التذكير بشر التفرقة، لعلم منزله سبحانه أن هذه الرذيلة لما استعملها الشيطان في أول مرة في السماء، سيكون أولى أن يستعملها في الأرض، يقدمها بسهولة إلى صدور الغاوين باعتبار أنه الوسواس، وليجعلها من أضر وعيد الإغواء لما قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} لهذا كرر القرآن كلمة التفرقة بوضعها في النهي القاطع بقوله {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وفي أذم المواضع بقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وغيرها، ولنجلس قليلا مع آية منها، ولتكن الأخيرة مثلاً، لنعلم أن أسوأ ضروب التفرقة هو تفريق الدين، فلقد أوضحها المفسرون بقراءتين، {فَرَّقُوا دِينَهُمْ} ، و {فارقوا دينهم} فالقراءة الثانية عن اليهود والنصارى الذي فارقوا دينهم، الذي يأمرهم بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فأصبحوا كفارا بكل دين، والقراءة الأولى وهي الأشهر وإن كانت الثانية لا تنكر فرّقوا دينهم فسرتها كلمة (شيعا) ، أي فِرقاً يتشيع لها، وهذا تحذير بالقرآن بعدم تفريق الدين، وإذا وقع منا هذا كما وقع من غيرنا فلا يربطنا بالرسول سبب ما {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وجاءت هذه الآية الفاصلة في الأمر بعد آية سبقتها بقليل {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي تتقون عقاب متبع السبل،(12/9)
إن حديث الثلاث وسبعين فرقة التي ستنقسم أو انقسمت فعلا إليها الأمة الإسلامية أخبر المنبّأ صلوات الله عليه بأن الناجية واحدة والباقي في النار، نسبة واحدة إلى ثلاث وسبعين، يا لها من نسبة، ويخبر الرسول بأن هذه الفرقة الوحيدة هي القابضة على ما كان عليه هو وأصحابه، ولم يضف إلى ذلك أحد، وهذا الحديث تفسير للآية الآنفة، نعيدها {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فالرجال العظام من هذه الأمة الذين سبقوا عقلوا وصية ربهم جيداً، وعرفوا منها أن الملة لا تقبل القسمة، وأنه أحكم تفصيلها في آيات نزلت وسنة بينت، فبنوا عزهم المنيع على أمرٍ هم فيه كالجسد الوحيد، وخر عدوهم تحت شراك نعالهم، لأنه لم يجد بين صفوفهم فرجة، وأساس بنيانهم المرصوص هذا هو أنهم لم يمزقوا عقيدتهم إلى تجمعات ولا اتجاهات، ولم يجعلوها جذاذا مفتتة بين المذاهب والفرق، كتاب وسنة فقط، فانحنت لهم أمم الأرض خضوعاً لاتحادهم، وأرض الجنة في شوق لقدومهم، فلما خلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب أخذوا عرض هذا الأدنى، ونثروا آياته حسب الرغبة، وبعثروا صفحاته تبعاً للميل، بدأ ذلك في العصر الأموي، ثم تفاحش إلى يومنا هذا، فهذا أشعري وهذا معتزلي وهذا شيعي، إلى آخر ما رزئ به الإسلام، واختفت في أعاصير هذه المذاهب كلمة السني، بل إن الصحابة وهم الراشدون المستن بهم بأمر الله ورسوله، فُرِّق بينهم بل سُبوا وشتموا من عصر يزيد إلى الآن، وذُكر أن رجلا أتى الإمام ابن حنبل رحمه الله وهو في مجلس علمه، وألقى عليه السلام، فلم يبش له الإمام ورد عليه منقبضاً، لأنه كان مشتهراً بالمعصية، فقال الرجل: يا أبا عبد الله لمَ تنقبض مني، فإني انتقلت عما كنت تعهدني برؤيا رأيتُها، قال: وأي شيء رأيت؟ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم كأنه على(12/10)
علُوً من الأرض، وناس كثير أسفلُ جلوس، فيقوم رجلٌ منهم إليه فيقول: ادع لي، فيدعو له، حتى لم يبق من القوم غيري فأردت أن أقوم فاستحييت من قبيح ما كنت عليه، قال لي: يا فلان، لم لا تقوم إليّ فتسألني أدعو لك؟ قلت: يقطعني الحياء لقبيح ما أنا عليه، فقال: إن كان يقطعك الحياء فقم فسلني أدع لك، فإنك لا تسب أحداً من أصحابي، فقمت فدعا لي، فانتهيت وقد بغض الله إليّ ما كنت عليه، فقال الإمام أحمد لمن في مجلسه حدثوا بهذا واحفظوه فإنه ينفع.(12/11)
بل والمذاهب الأربعة المشهورة وهي أقربها صلة بالكتاب والسنة منبعي الشريعة، أتحدى إن كان واحد من هؤلاء الأئمة الراسخين الأربعة، قد طلب أن يكون له مذهب يسمى باسمه، ليقال بعد وفاته أنا مالكي أو حنفي أو حنبلي أو شافعي، إنكم تعلمون أن مالكاً رحمه الله وهو إمام دار الهجرة هذه أبى على الملك العباسي أن يحمل الأمة على موطئه وهو سنة خالصة، وقال للرشيد لا تفعل، فإن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم انتشروا في الأمصار، وكل منهم روى عن رسول الله فهل كان يقبل أن يجعل له مذهبا معينا ويسمى باسمه؟ وهكذا بقية هؤلاء الأئمة الكرام، ما كانوا إلا علماء حكماء يتعلمون من بعضهم، ويأخذ أحدهم مكانه في مجلس أخيه ليسمع منه العلم، وأتخيل انهم لوكانوا يعلمون أن أقواماً ستأتي بعدهم يكونون مذاهب تسمى بأسمائهم لبرئوا منهم، حتى لا يحملوا أنفسهم وزر المذهبية في الدين، وهكذا نرى من أصبح زيدياً وجعفرياً إلى آخر ما لا يعلمه إلا الله، من مذاهب ابتدعت ونسبت إلى ذوات أشخاص، مما يأباه دين سماه التنزيل باسم واحد {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلام} {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} ، ولو جاز تغيير هذا الاسم المقدّس، أو إضافة مذاهب بجانبه، لكان اسم الرسول صلى الله عليه وسلم هو الأولى بأن ينسب إليه مذهب فيقال المذهب المحمدي، أو إلى أصحابه الأبرار، فيقال المذهب البكروي أو العمري وهكذا، وربما سمعتم قصة المسيحي الذي وقع على مسلم غبي ليسلم على يديه، فقال له: على أي المذاهب تريد أن تسلم؟ فقال له المسيحي: حتى أنتم عندكم مذاهب، لقد هربت من (الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت والمارون) ، إذاً دعني فيما أنا فيه، وحتى لا تجول جائلة بخاطر أحدكم فيقول: لماذا لم نعرج على الوهابية؟ وأنا أقول: كنا ونحن خارج هنا نقرأ عن الوهابية أنه مذهب وهابي، ينسب إلى محمد بن عبد الوهاب، وشاء الله أن آتي إلى هنا في عام سبعة وستين الهجري وستة(12/12)
وخمسين الميلادي ومكثت سنوات للعمل لم أسمع فيها شيئاً يذكر عن الوهابية والمذهب الوهابي، بل عجبت عندما أعطى أحد المدرسين موضوعاً إنشائياً لطلابه عن المذهب الوهابي، وظن بذلك أنه يفعل شيئا مرضياً للوسط الجديد الذي قدم عليه، وسرعان ما علم المدير فدعاه، وطلب منه تغيير الموضوع على الفور، مفهماً إياه بأنه لا يوجد هنا ما يسمى بالمذهب الوهابي ولا بالوهابيين، وإنما هو إمام كبقية أئمة المسلمين، غضب لما رأى من إهمال دينه، فقام ليجدده ويحارب ما علق به من بدع وخرافات، وما أنشأ مذهباً جديدا في الإسلام ولا نحن أنشاناه، وأنا لا أظن واحداً منا يقول غير هذا إلى هذه اللحظة، إذاً فمحمد بن عبد الوهاب، أو الأئمة الأربعة ومن على شاكلتهم من أعلام الإسلام، قد جعلهم الله أئمة يهدون بأمره، وينتفع جميعُنا بوابل علمهم جميعهم، وليس لتكون مذاهب بأسمائهم للتعصب لهم والتمييز بينهم، ولقد أعجبني ذلك الشيخ في عصر ما، عندما ذهب إليه خدم المسجد وقالوا له: أدرك الناس فقد كادوا يقتتلون في بيت الله، لأن منهم من يصر على صلاة التراويح عشرين ركعة كمذهبه، ومنهم من يصر على ثمانية، ومنهم من يصر على غير ذلك، فقال: أخرجوهم جميعاً وأغلقوا المسجد، قالوا: كيف؟ قال نعم، لأن التراويح سنة، واتحاد المسلمين فريضة، هذا ما أدين به منذ أشدى، وتحدثت به قبل اليوم، يقينا مني بأن هذا سبيل السالفين رضي الله عنهم، والله أعلم بمن اهتدى.
الأفاضل المؤمنون: نحن عرب وكفى، وليكن بعد ذلك ما يكون، ولو لم نقل نحن مسلمون، أسنا نمضغ كلمة العروبة في الدنيا، ثم في الآخرة ندخل بها الجنة؟ أم أنا لعروبتي تعصبت حتى كذبت؟(12/13)
لقد قضى الإسلام على هذه النعرة أيضاً، كما قضى على غيرها بما ذكرناه في أول المحاضرة، عندما صاح بها النبي الأبي، يرمي بعيداً من يبتغي عصبيته أو قوميته وأهمل عقيدته "لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى"فهنا وضع للأفضلية الدّعامة التي يستحيل أن يكون لها بديل، لأنها أخذ من وحي السماء، وهي التقوى، إنه صلوات الله عليه وهو العربي، لم يلق من العنت والعسف اكثر مما لقي من العرب، بل من أقرب الأقربين من العرب، فأعمامه الذين هم صنو أبيه، أثبت أهل السيّر أنهم كانوا اثني عشر عماً، وأبوه ثالثُ عشرهم، وعماته ست، فيكون المجموع ثمانية عشر دون أبيه، وعُدُّوا جميعاً بالاسم، لم يُسلم منهم إلا حمزة والعباس وصفية رضي الله عن الثلاثة، والباقون شاقوا الرسول وآذوه بأشد ما يكون الإيذاء، وعكس ذلك تماماً ما حدث، فكان من الندر الأول للإسلام ودخلوا في السابقين الذين مجدهم القرآن من ليسوا عرباً على الإطلاق، فسلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي، تاريخهم في الإسلام مضيئ، وارتفعوا حتى نسب بعضهم إلى بيت النبوة، بل ووصل بلال إلى مرتبة ما روى البخاري من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال يوماً: "يا بلال ما تصنع في الإسلام؟، ما دخلت الجنة إلا وسمعت دف نعليك بين يديّ"قال: يا رسول الله لا شيء غير أني إذا توضأت صليت ركعتين بعد الوضوء) ، وهكذا أصبحت هاتان الركعتان سنة في الشريعة، سنها بلال واعتمدها الرسول، فكم من العرب والمسلمين الآن يؤدون هذه السنة التي بدأها هذا الحبشي الغيُر عربي رضي الله عنه، وبلغ الأمر أن سمع الرسول دقة نعله تصطدم بأرض الجنة، وهو لا زال في الدنيا، ومشت على هذا الصراط أمتنا الإسلامية سنين عديدة، لم تقم وزنا لحسب ولا عصب، واختفت الذي حبسته فيه طويلا أخوة الإسلام، إلى أن جاء عصرنا هذا، فحرص الأعداء المستعمرون الذين احتلوا معظم رقعة الأرض الإسلامية أحقاباً طوالا، ألا ينجابوا عنها إلا بعد أن(12/14)
يوقظوا فيها حمية القومية، فنودي على الفور بعد جلاء المفرقين الخبثاء بالقومية العربية، قبل أن يسبق أحد بنداء الأخوة الإسلامية، وساد نداء القومية كل تراب العرب، وكان قد قُدم لها بعمل ثابت، وهو إنشاء الجامعة العربية، ونادت أصوات مسلمة مخلصة تطالب بانتهاز الفرصة وجعلها جامعة إسلامية، لتوصد السبيل على تحريك القوميات مستقبلا، وليجتمع فيها العالم الإسلامي كلّه، عسى أن يكون ذلك تمهيدا لعودة الخلافة، لتعود قوة المسلمين لما وُحِّدوا تحت الحكم بالقانون القرآني، لكن هذه الأصوات أهملت ولم يصغ إليها، وغلبت الجامعة العربية الجامعة الإسلامية، وأتى بعدها تبعاً شعار القومية العربية، وليس الأخوة الدينية، والآن تم للأعداء كل ما أرادوه من إيقاظ التمييز، حيث نظر إلينا بقية العالم الإسلامي نظرة الحذر والخيفة، فلم يشتركوا مع العرب لما بُغي عليهم إلا بالقرارات في المؤتمرات، ولم يطلقوا معنا رصاصة واحدة، والحق لهم، ألم نجعل لأنفسنا جامعة تختص بنا، وقومية تتميز بها، وفي ظل الجامعة العربية والقومية العربية، دخلت الشيوعية عدوة الإسلام الأولى أرض العرب وانتشرت، بل سادت وحكمت، وفي ظل القومية العربية اشتعلت الخصومات بين العرب، وتقاتلت دولهم بالجيوش، وفتك أبناء العم ببعضهم بالآلاف في حروب تتجدد لسنين هنا وهناك، وفي ظل ذلك أيضاً قرأ العالم في صحافة العرب وسمع من إذاعتهم أفحش ما يكتب وما يُقال من قذف وتجريح، وتفضيح للأسرار وتشهير بالأعراض، بما لم ينج منه محكوم ولا حاكم، وهكذا كنا الأمة الوحيدة التي عرف العالم عنها هذا النوع من الأدب العربي الحديث، وفي ظل ذلك وقعت الرزية الكبرى التي أصابت في أحشائها، لما ضاع قدسنا وما حوله من ملك إسلامي عريض، قدمه إلينا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بقوة زنودهم لما جمعتهم جامعة دينية، وأضعناه نحن في ظل القومية العربية [1] وليمشي المكر السيء من أعدائنا بلا توقف، جعلوا قضيتنا(12/15)
مع اليهود إقليمية وليست عقيدية، حتى لا تتحرك لها مشاعر أمة صاحب الإسراء صلوات الله عليه، فدرّجوها من قضية القدس المقدس إلى قضية فلسطين إلى أزمة الشرق الأوسط، ولأننا أصبحنا إقليميين قوميين، تقبلناها منهم بسرعة، واستقر الأمر عند مجرد أزمة وتزول، وأمسينا جميعاً على كل المستويات نرددها، فلم تعد قضية إسلامية ولا حتى عربية، وقلّ أن تذكر فلسطينية، وإنما هي أزمة الشرق الأوسط، على وزن أزمة الشرق الأدنى سابقاً، ولازلنا وجدنا نبتلع غم هذا الكرب العظيم [2] فهل نرى الجامعة العربية يوماً _ ولا يعز على الله أمر _ يتحول فيها بناؤها الفخم المطل على النيل الجميل إلى جامعة إسلامية، فيدخل في نشاطها الحالي نشاط إسلامي، ولو توقن لنا آخر ما يحدث الآن في الصومال، من منع تحفيظ القرآن الكريم والقبض على محفظيه، أليس الصومال عضوا في الجامعة تعرب أخيراً ليأمن لدى العرب غائلة الجفاف والفقر على يد الشيوعية؟ نتمناها جامعة إسلامية، وليست فقط عربية، وفيما نزل بنا من عقاب الله كفاية {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} ولكن من المؤكد أنه سيعز دين الله، واليأس في ديننا كفر؟!
الإخوة الفضلاء:(12/16)
وما قصة التفرقة بسبب اللون، وهي قصة تلطخت بها مدنية المتحضرين فوق تلطخات ومخاز أهلكت بها الكثير في بؤر المظهر،… لقد أعطاني المدرس وأنا صغير درساً في سبب تباين ألوان البشرة! وقال لي: "إن البشرة يسود لونها إذا عاش الإنسان في المناطق التي تشتد فيها حرارة الشمس، وتكون بيضاء في المناطق الباردة"فلما كبرتُ وكبرت معي مداركي بعض الشيء، علمت أولا بأن هذه النظرية منقولة إلينا عبر الماضي من عند غيرنا، وعلى كل حال لا مانع من أن نقبل أي مفيد من أيّ جهة، فلسنا متزمتين، وقد يكون ذلك صحيحاً فالكون لله، والحرّ والبرد وهو مقلبهما، لكني سألت نفسي في مجتمعها القومية وارتقت الربانية، إلى أن بدأ المسلمون ينسلون من دينهم رويدا عصرا بعد عصر، وبدأ ثعبان القوميات والعصبيات يخرج من جحره، إن الأوروبيين عاشوا مئات السنين مستعمرين للمناطق الحارة، ولم يتغير لون بشرتهم.. وزنوج أمريكا عاشوا فيها قرونا ولم يتغير لون بشرتهم، والطفل الأوربي الذي ولد تحت خط الاستواء، وتلقفته الشمس الحارقة وكبر تحتها لم يتغير لونه، والملونون من مستوطني البلاد الثلجية لم تغير الثلوج البيضاء ألوان أطفالهم الذين لونهم الله بها وهم أجنة في بطون أمهاتهم، ثم إن هؤلاء السمر ابتداًء من صعيد مصر إلى آخر القارة الإفريقية هل كانوا جميعاً عراة حتى غيرت الشمس لون كل أجسامهم، أم أنه لو كانت الشمس هي المغيرة للون لكان الوجه وحده الذي يتغير ويبقى الجسم المستور بالثياب بغير تغيير، فمعروف بأن الأبيض كله أبيض، وأن الأسمر كله أسمر، وقد يقول قائل:- إننا نلاحظ تغيير لون الوجه الأبيض إذا تعرض للشمس طويلا، أوافقه، لكنه تغير قليل لا يلبث أن يعود إلى أصل لونه، عندما ينتهي التعرض لحرارة الشمس، ثم هناك ألوان متعددة فاللون الأصفر يغلب على معظم دول آسيا، فهل الشمس هناك صفراء، والبلاد العربية لونها بَيْنَ بَيْنَ؟! وغير هذا من ألوان متباينة، وصور في تكوين(12/17)
الوجه مختلفة، كلنا نراها وخاصة هنا، في موسم الحج الجامع المهيب، إذًا من الذي لون صور؟ {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} .
إننا نرى الأشقاء بل التوائم تتغير صورهم وألوانهم، وما خلقوا جميعاً إلا من نطفة لا يتغير لونها وكوِّنوا في رحم ما نظن أنهم تعرضوا فيه لحرارة الشمس ولا لصقيع البرد، فجعل الله وعز، وعفا الله عن المدرس الذي علمني عكس هذا يوماً، ولكنه أيضا تعلّم قبلي من غيره، والذي قبله كذلك، وهكذا نُسِيَ الخالق ونُسِيتْ صنعته إلى غيره {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْر} .(12/18)
وياليتنا وقفنا عند هذا، بل رحنا نتخذ من صنعة الله هذه تفرقة وتمييزا، ووقع في هذه الفتنة الوافدة مسلمون كثيرون في جهات وأماكن مختلفة أقولها وأنا متأكد منها، ألسنا هائمين إعجاباً بتقليد الأجانب في كل شيء وبدون استثناء؟! حتى ولو عصينا صريح ما في كتاب الله، لما قدم إلينا سبحانه تغير ألواننا على أنه آية من آياته لا يفعلها سواه، لنجعلها من ينابيع الإيمان، المزكية للنفس الفاهمة المدركة، ففي سورة الروم، أسَمِعْنَا؟ في سورة الروم اسم أمة غير عربية سمى الله بها سورة من سور كتابه يقول سبحانه في هذه السورة {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} ، فالآية دليل على التحليل الواقع الذي أسلفته، وأن اختلاف اللهجة واللون بما لا يحصيه غيره، هو خلق له مباشر، وليس بسبب كوني من حرارة أو برودة أو بيئة، ولو شاء لسبب فهو لم يمنع، فالتقدير المجمل للآية هو: ومن دلائل وجوده وقدرته خلق السموات والأرض، وخلق اختلاف لغاتكم وألوان وجوهكم، ومع أن اللغة واللون داخلان في خلق السموات والأرض، لكن اختصتا وحدهما بعبارة منفردة ليلفت سبحانه أنظار عباده إلى عِظَمِ آياته، والعالمين منهم خاصة كما ذكرت الآية، والتي من أعجبها ليس فقط اللغة واللون وإنما اختلافهما، وذكرت كلمة: {إِنَّ فِي ذَلِك} مرتين، في أول الآية وفي آخرها، ولكنها لا تفيد إلا العالمين، الذين علموا أمر الوجود والموجد سبحانه، فما الحال إذا قدم الله إلى خلقه ما ذكرته الآية ليميزوا بها الحقيقة، فعكسوا كما يقولون، وانطلقوا يميّزون بين الناس بلون الجلد، فإن كان أهل النكران مصرين على تسفلّهم هذا الذي ابتدعوه فوق كفرهم بهذه الآيات، ومن في ذلك اتبعهم، فنحن عندنا لهم أيضا تمييز يوم يقال لهم {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} ويلون الوجوه كذلك، فعندنا لوجوههم(12/19)
سواد لن يزول أبدا {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} ولو كانت في الدنيا بيضاء لامعة، فهي يومئذٍ بكفرهم سوداء حالكة، وإذا كانت اليوم سوداء فهي يومئذ بإيمانهم جميلة بيضاء، ثم تسمع أيضاً وصفاً للتمييز بلون الوجوه عندنا فنقرأ {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً} يا لرهبة الوصف!(12/20)
ولو وقف سبحانه عند كلمة الليل لأعطت المعنى، ولكن الليل قد يضيئه قمر وتتلألأ فيه نجوم، فحدد لون وجه صاحب السيئات بالليل المظلم، الذي لا قمر فيه ولا نجوم، عندما يغيب كلاهما في آخر الليل، ونزيد من هذا اللون ما قال كتابنا أيضاً {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} فوجه سواد الوجه في الآية الأولى لأنهم كفروا بربهم، وفي الثانية لأنهم كسبوا السيئات، وفي الثالثة لأنهم كذبوا على الله، بل منهم من سَيُمَّيز بلون لم يسبق أن لون وجه في الدنيا، وهو اللون الأزرق {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} هذه هي قاعدة التفريق والتمييز عندنا، وحتى التفرقة ببياض الوجه لها عندنا أيضاً مقال جميل {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وإذا كان الخلود في الرحمة هنا بمعنى الجنة فإن ما سنسمع في الآية الآتية أحسن من الجنة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فالنظر إلى وجه بارئ الجنة خير من كل الجنة، أما الوجوه التعسة فهي {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} باسرة: شديدة العبوس، فاقرة: داهية تقصمهم، ثم نسمع من القرآن ما لا يشبع منه سمع لنعرف حقيقة القاعدة للتمييز بين الوجوه {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} مسفرة: مضيئة من الفرح، {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} ظلمة، من هم هؤلاء؟ {أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} .
هذه هي قاعدة التفريق والتمييز عندنا تطبع الوجوه بطابع العمل، وليس لبشرة تتلون في دنيا التلون.. ولكن هل في ديننا فرق بين المسلمين وبعضهم؟(12/21)
أقول: نعم وعلى نفس الأساس والمقياس، فحيثما كانت همة المسلم وشأنه مع ربه كان الفارق بينه ومسلم غيره ألم تقل الآية: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} وحتى أهل صدر الإسلام قالت لهم الآية {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} فالكل في الآيتين وُعِدَ الحسنى وسيضمهم سور الجنة ولكن التمييز داخلها في الدرجات بقدر السبق في الخيرات، وأما عن قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً} فهي درجات الدنيا كي يسخِّر بعضنا بعضاً أي يخدمه ويعينه، وليس المعنى هنا السخرية لأن الآية في معرض المنفعة: فلولا درجات الدنيا ما بني بيت ولا أقيم مصنع، ولا حُصِدَ زرع، فالعامل والممول كلاهما مسخر للآخر ومحتاج إليه، وهذا ما تحدينا به بلاد الإلحاد أن يجعلوا له بديلاً، أما السخرية وهي نوع من التمييز، بل من شر أنواعه لأن الساخر من غيره اعتقد أولا الكمال في نفسه، وأكثر ما يكون من الكافر، وأكثر سخريته من المؤمن، لقوله تعالى {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} وقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً} إذًا فالساخر في الأصل هو الكافر،(12/22)
والأصل في المؤمن ألا يسخر وإلا ففيه من الكافر شبه، ولهذا كان النداء منه سبحانه ينهانا عن هذا العمل البغيض {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} والآية محفوظة والهدى هدى الله.
أيها الحضور الكرام:
سأخص بختام المحاضرة الشباب عامة وشباب جامعتنا خاصة، وليس معنى ذلك أن ينتهز الباقي الفرصة ويخرج فيا أولادنا إن الأمل فيكم عظيم بعد الله، فما من جامعة في الدنيا الآن جمعت بين حناياها نحوا من تسعين جنسية إلا هذه الجامعة التي ضمتكم، جمعت هذه الأجناس المختلفة لغة ولوناً وزياً وخلقاً إلى آخر ما أنتم أدرى به مني، والله إنه لعمل جريء من هذه الجامعة في زمان التردي الأخلاقي والشطح الديني تريد به إعادة صور الإسلام الأولى يوم كان ينادى في أي مكان وا إسلاماه، فيردد كل موحد في الأرض صداه وهي في سبيل هذا العمل المتسع الصعب، تدأب جاهدة لأجلكم سخية باذلة، فكونوا عند ظنها وظن ذويكم الذين تحملوا أو تحملتم فراقهم من أجل مأرب كبير، فأزيلوا بفتوتكم المؤمنة ما يحول دون تحقيق الرباط الديني العظيم، واركلوا بأقدامكم أفكاراً لكفار من دناءات التفرقة والتمييز، إننا نأمل فيكم بعد أن تتخرجوا وتطلعكم الجامعة حمائم الإسلام ووئام إلى بلادكم أن تعيدوا إلى الإسلام وحدته وعزته، وأن تصلحوا خطأ جيلنا الذي ارتكبه، فجيلنا الذي أنا منه ومنهم أصغر أو أكبر مني بقليل حملوا على ظهورهم أوزاراً ثقالاً في حق دينهم، فقد تعطلت شريعة القرآن، وحكم حكام المسلمين بقانون الكافرين، وسكت جيلنا وتهجم حكام المسلمين على دين المسلمين ونبي المسلمين، وسكت جيلنا، انطلقت الخرافة والبدعة، وانطوت على نفسها السنة! وسكت جيلنا، جيلنا أطلق المرأة المسلمة في الشوارع متهتكة فاجرة، بل وعانقت الرجال وراقصتهم، وسكت جيلنا، وأسلم جيلنا لها الزمام آمرة ناهية، ترأسه وتوجهه، خربت المساجد وهجرت إلى المساخر من شواطئ وحانات(12/23)
خمر وتلفزة ودور خيانةوسكت جيلنا.
وأخيراً.. لم نسمع في التاريخ كله قيام دولة يهودية بهذه القوة إلا في جيلنا وفي نادينا، ولا يجرؤ مسلم واحد أن يشد الرحال إلى المسجد الذي بارك الله حوله ليصلي فيه ركعتين، كل هذا وقع من الجيل السيء الحظ الذي أنا منه، فلا أبرئ نفسي، وما ذلك يا أولادنا إلا لأننا تفرقنا، فلم يكن إلا أن يلبسنا الله شيعاً ويذيق بعضنا بأس بعض، وانشغلنا بالتقليد فنظرنا إلى ديننا بغير ثقة فلم ينظر الله إلينا، فأحنى الوهن رؤوسنا فلم ندفع الشر عن إسلامنا إلا بأصوات غيورة هي في هذا الضجيج كالهمس لا تعيها أذن، وهكذا كنا سبباً في أن يصاب الإسلام في كبده، بما لم يسبق له في عصر سبق، وها نحن مرجون لأمر الله، إما أن يعذبنا بما جنينا، وإما أن ينالنا بفيض عفوه فهل أنتم على الطريق الحزين سائرون؟ أعندكم بربكم ومن يدري؟ فقد لا نموت حتى نرى جيلكم هو القوم الذين قال القرآن عنهم {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} .
فاطلبوا العلم متآخين وانبذوا الحساسية والعقد النفسية معتزين بما صوركم به الله، ورددوا قولاً واحداً لا غير هو قول الله لكم {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} .
ألف الله بين قلوبنا جميعاً وآخر ما نقوله ما عودتكم عليه من أبيات قليلة تتصل بموضوع المحاضرة بعنوان ((حكاية وعهد)) .
(حكاية وعهد)
ببعض الصحب في مهجر [3]
كأني هاهنا أبصر
وقالوا في المسانسمر
وفي يوم قد اتفقوا
وقيل من الذي يخبر
فلما تم جمعهم
وقال لهم أنا الأشهر
فأوربي تقدمهم
ووجهي لامع يظهر
لأني أبيض اللون
أفوق بلوني الأصفر(12/24)
وقال الأسيوي أنا
يسر العين إذ تنظر
فوجهي فاقع اللون
أنا حظي هو الأوفر
وقال الثالث العربي
بياض اللون والأسمر
لأني أمزج اثنين
لوجهي هكذا أنضر
فذاك مركب مزجي
فقال: جميعكم ثرثر
ورابعهم هو العاقل
نساء الحي لا أكثر
بقول تشبهون به
ووجه الله لم يذكر
تفاخرتم بأوجهكم
وليس لغيره ننظر
ووجه الله غايتنا
لحقاً وجهه مغبر
ومن عن ربه يعرض
بهذا وحده نفخر
فبالتوحيد وحدتنا
يفرق بينه المظهر
ألا سحقاً لمجتمع
حديثك دونه الجوهر
فقالوا أيها العاقل
بتفرقة لنا تضمر
فبعد اليوم لن نرضى
وشانئنا [4] هو الأبتر [5]
وحبل الله واصلنا
بطيبة نورها يبهر
وعهد في منورة
مؤاخى كل ذي عنصر
ففيها خير مبعوث
دعاة الدين لا نقصر
نكون أحبة أبدا
تعاهدنا فلا نغدر
فقال الربع العاقل
فعند الله لا يعذر
ومن ينقض لموثقه
--------------------------------------------------------------------------------
[1] وآخر الحصاد ما يقع الآن من العرب الصلبيين في لبنان بمدد من الصليبية العالمية ليحصروا المسلمين والفلسطنيين بين فكي عبدة العجل وعبدة الصليب دون تقدير لجامعة أو قومية.
[2] وراح من أوقفنا في فخ هذه القومية ينظر ضاحكا متشفيا.
[3] مكان هجرة
[4] كارهنا
[5] المقطوع الذي لا يوصل بشيء(12/25)
توحيد الله
لفضيلة الشيخ عبد الله أحمد قادري
المشرف الاجتماعي بالجامعة
الحكمة في خلق الجن والإنس
وقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم أن الحكمة في خلق الجن والإنس أن يعبدوا الله تعالى، وأن فائدة عبادتهم له عائدة إليهم، وأما الله المعبود فهو الغني المطلق، وأنه هو الذي يرزق عباده. قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} .
وما ذكره بعض العلماء من أن الحكمة هي الاستخلاف في الأرض لعمارتها ماديا ومعنويا لا ينافي ما ذكر، لأن العبادة بمعناها الواسع الشامل الذي سيأتي شاملة لذلك.
وكل خير وصلاح في الأرض يعتبر جزءاً من العبادة، والتعليل المفهوم من الآية السابقة أصرح من قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً} ، بل ظاهر قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} مع قول الملائكة {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} يدل على أنه ليس المرد بالخليفة من تجتمع فيه عمارة الأرض معنوياً ومادياً، وإنما المراد جعل الناس عامة خلفاء في الأرض أي بعضهم يخلف بعضا، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْض} ، وقال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْض} وليراجع تفسير ابن كثير (1/69) وهذه الخلافة المذكورة هي الخلافة الكونية، أما الخلافة الشرعية التي هي تسلم مقاليد أمور الأمم بشروطها فذاك أمر آخر، والله أعلم.
وإذا كانت الحكمة من خلقنا هي عبادة الله فما معنى هذه العبادة؟ وما الذي تشمله؟ وكيف فهمها السلف الصالح في العصور الإسلامية المفضلة؟ وكيف يفهمها الآن عامة الناس؟ وما نتائج الفهمين؟
معنى العبادة(12/26)
أصل العبادة في اللغة: أقصى الطاعة والخضوع.
أما معناها في الشرع: فأحسن ما عرفت به وأجمعه تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله: "العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة".
كما أشار رحمه الله إلى أن العبادة لا تتحقق بوجود العنصر اللغوي، وهو الخضوع والطاعة، بل لابد من إضافة عنصر آخر لتحققها وهو حب العبد ربه المعبود ولذلك قال: "فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له… ومن خضع لإنسان مع بغضه له لا يكون عابداً له، ولو أحب شيئاً ولم يخضع له لم يكن عابدا له.
شمول العبادة
يتضح من تعريف شيخ الإسلام السابق للعبادة أنها شاملة لحياة الإنسان كلها، فكل ما يحبه الله ويرضاه عبادة، فهي شاملة لأصول الإسلام وفروعه، فرضه ونفله، ما يتعلق بالله وما يتعلق بالعبد نفسه وما يتعلق بغيره من المخلوقين.
وهي العبادة التي ترسم للإنسان منهج حياته وتحد سلوكه وعلاقته بالخالق أو المخلوق فلا يتصرف إلا وفق تلك التوجيهات أكان ذلك في الشعائر التعبدية أو في سياسة الأمة في الحكم أو المال أو التعليم والإعلام، أو غير ذلك من شؤون المعاملات في السلم والحرب، داخلياً وخارجيا، محليا ودوليا، وهذا المعنى هو الذي أراده سيد قطب رحمه الله في كتابه "معالم في الطريق" عندما قال: "لا إله إلا الله منهج حياة".
والخلاصة أن كل عمل نافع يعتبر في الإسلام عبادة حتى الأعمال المباحة تنقلب عبادة إذا قصد بها وجه الله، ولذلك قال أحد الصحابة: "والله إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي"أي إني أرجو من الله الأجر على نومي كما أرجوه الأجر على قيام الليل..
وقد دل القرآن الكريم على أن المسلم كله لله كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} .(12/27)
وبهذا الشمول فهم السلف الصالح العبادة فكانت حياتهم كلها عبادة صلاتهم في المسجد وجهادهم في المعركة وقضاؤهم في المحكمة، وتجارتهم في السوق، وتعليمهم وتعلمهم في المسجد، وصيامهم في رمضان أو غيره، ومعاشرة أهليهم، وقيامهم لربهم، أو نومهم في جوف الليل أو في وضح النهار.
آثار هذا الفهم الشامل
وكان لهذا الفهم العميق الشامل آثاره العظيمة التي حققت الخلافة الشرعية في أرض الله كما أراد الله، شملت تلك الآثار أفراد المسلمين وجماعتهم، محكوميهم وحكوماتهم.
وتتلخص تلك الآثار في أمرين:
الأول: صبغ حياتهم وأعمالهم بالصبغة الربانية، فكانوا مشدودين إلى الله في كل حركاتهم وسكانتهم، فما كانت تفارقهم نية العبادة، ولذلك استكثروا من عبادة الله في كل عمل نافع يأتونه، لأن في ذلك زيادة لرصيدهم عند ربهم في ميزان حسناتهم، فعمروا بذلك الأرض والقلوب، وحققوا ما أراد الله من خلقهم على أكمل وجه.(12/28)
الثاني: توحيد وجهتهم، ووحدة غايتهم في حياتهم كلها، يرضون ربا واحداً ويطيعونه ويتجهون إليه، فلا انقسام ولا ازدواج ولا صراع، بل وحدة وإخاء وتعاون وصلاح وإصلاح شاملان، عنوا بأجسادهم كما عنوا بأرواحهم، وبذلك حصل التوازن الذي دفع بهم إلى رضا الله في كل عمل، وما كانوا يعبدون في المسجد فقط كما يفعل عباد النصارى في كنائسهم ثم يعبدون غير الله خارجه في صورة قبر أو وثن حي أو ميت، أو نظام أو غيره، بل كانت قلوبهم مشغولة بذكره في كل وقت، وكانت رقابهم لا تنحني لسواه، وكانت رؤوسهم لا تطأطأ إلا له، عنه وحده يتلقون، وإياه وحده يطيعون، فكان يعبدون ربهم حتى في حال سعيهم ومزاولة وظائفهم التي ظاهرها أنها من أمور الدنيا، كالبيع والشراء والنوم والأكل والجماع، ولذلك وقفوا عند حدود الله ولم يعتدوا، فالحلال ما أحله والحرام ما حرمه، والحسن ما حسنه، والقبيح ما قبحه فكانت حياة القوم كلها عبادة، فشمل أرض الله العدل واختفى فيها الظلم، وانتحى الصراع، وبرز الإخاء، فعاش الناس كلهم مسلمهم وكافرهم في ظل التوجيهات الربانية محققة في واقعهم في طمأنينة ورضا، لا يخافون إلا الله، آمنين على أنفسهم وأموالهم وأهليهم، فكانت فترة نادرة في حياة البشرية في تاريخها الطويل، (وليس غريباً على سواهم أن يقتربوا من ذروة واقعهم إذا فهموا فهمهم وطبقوا تطبيقهم) .
فهم عامة الناس لمعنى العبادة اليوم
إذا كان ذلك هو فهم سلفنا الصالح لمعنى العبادة، وهذه هي آثاره، فما نصيب أمة اليوم من هذا الفهم، وما آثار فهمهم؟(12/29)
لقد انكمش هذا المفهوم لمعنى العبادة عند أغلب الناس فأصبحوا يفهمون معنى العبادة فهما ضيقاً جداً، يجمع هذا المفهوم عند الجميع أن العبادة هي أداء بعض الشعائر التعبدية على وجه خاص، ولذلك انقسموا إلى طوائف متشعبة كل طائفة تركز على جزء من الإسلام، وكأنه هو كل الإسلام ناظرة إلى ما عند غيرها أنه شيء ثانوي إن لم يكن في نظرها تافها.
فاكتفت بعض الطوائف بالعزلة عن المجتمع والعكوف في زوايا المساجد والتفنن في أشكال السبحات وألوانها، وأنواع العمائم أو الجبب أو أي شارة من الشارات زاعمين أنهم يذكرون الله بمجرد تحريك ألسنتهم وأتباع حبات السبحات بعضها بعضا، وأن ذلك الواقع الذي يعيشونه هو المطلوب منهم، لأن المجتمع قد فسد ولابد من اتقاء شره وفساده بذلك الانعزال ليتحقق التقرب إلى الله وصيانة القلوب من صدأ المعاصي ودرن الذنوب.
واكتفت طائفة أخرى بالغوص في متون الفقه المعقدة وشرحها وبيان غامضها والدعوة إلى تفحص حواشيها وتقليد مذهب من المذاهب والانتصار له والغلو في صاحبه غلوا قد يخشى على صاحبه من الوقوع في عدم توحيد مصدر التلقي.
واكتفت طائفة أخرى بالدعوة إلى التزام سلوك معين في بعض الشعائر التعبدية والمظاهر الإسلامية، كإقامة الصلاة وصوم رمضان، وأداء مناسك الحج وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والالتزام بالمظهر الإسلامي كإعفاء اللحية، وعدم استعمال ألبسة الكفار، والحث على تحقيق السنة لمعرفة صحيحها وضعيفها، والدعوة على الاقتصار على قراءة القرآن والسنة والعمل بهما.(12/30)
وفي أفراد هذه الطائفة من يفرط في كثير من أمور الإسلام الهامة، فلا يتعرض لها إلا لماما مع أنها تستحق التركيز والاهتمام البالغين، كالحكم بما أنزل الله وما يتعلق به، كما أن من أفراد هذه الطائفة من يبالغ في التهجم على مذاهب علماء الأمصار، وينفر من قراءة كتب الفقه بل ومن غيرها من الأفكار التي لم يصل هؤلاء الأفراد إلى فهم بعض كتاب الله وبعض سنة رسوله إلا عن طريق مؤلفي تلك الكتب.
واكتفت طائفة أخرى بخوض غمار السياسة والتعمق فيها، وتحليل أحداثها، والمقارنة بين سياسة الشرق والغرب والتعليق عليها، وكثير من أفراد هذه الطائفة بعيدون عن جوهر الإسلام يغلب عليهم الجفاف الروحي.
واكتفت طائفة أخرى بالانسياح في العالم والدعوة إلى أصول محددة هدفها ترقيق القلوب وإقامة الشعائر التعبدية الظاهرة مع عدم التعرض للأمور التي فيها خلافات دينية كانت أم سياسية، ويغلب على هذه الطائفة التصوف وعلى كثير من أفرادها الجهل بكثير من أمور الدين وأهدافه كما تغلب عليهم البدع والخرافات، وكأنهم يطبقون القاعدة المسيحية المزعومة: دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر.
وإذا رجعنا إلى هذه الطوائف الأربع وجدنا أن خيرها الطائفة الثالثة، ومع ذلك فهي في حاجة إلى أن تكمل نفسها بأمور لا غنى لها عنها، وأهمها الفهم الشامل لمعنى العبادة، وتطبيق ذلك عمليا في كل مجالات الحياة.
ولا يمكن أن تحمل الدعوة إلى الله وتنجح في دعوتها إلا طائفة جمعت كل محاسن الطوائف السابقة وسلمت من سلبياتها، وأضافت إلى ذلك الفهم الشامل لمعنى العبادة _ طبقاً لفهم السلف الصالح _ وأظهرته في عالم الواقع.
ويمكننا استنباط بعض مزايا أمة العبادة الشاملة من تعريف شيخ الإسلام الماضي: ((اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة)) .(12/31)
1_ البحث عن الأمور التي يحبها الله ويرضاها، ومعرفتها معرفة تامة من الكتاب والسنة حتى لا يختلط ما يحبه الله بما يكرهه.
2_ عدم التفريط في أي أمر من الأمور التي يحبها الله _ على مستوى الجماعة _ لاسيما فروض العين أو فروض الكفاية التي لم يقم بها أحد.
وليس من التفريط ترك شيء من ذلك للعجز عنه ف {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} .
3_ إصلاح الباطن بالعقيدة الصحيحة والإخلاص لله تعالى.
4_ إصلاح الظاهر بأن يكون السلوك شرعياً في أداء الشعائر التعبدية والمعاملات والملبس والمأكل والمشرب والمنكح، ومن ذلك إعفاء اللحية وترك التشبه بأعداء الإسلام.
5_ الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لكل مسلم.
6_ جهاد أعداء الله والإعداد له إعدادا معنوياً وماديا، والبذل والتضحية بكل غال ونفيس.
7_ السعي لإقامة حكم الله في الأرض، ليستقر العدل وتزلزل قواعد الظلم والطغيان بالوقوف في وجه كل طاغ في الأرض.
8_ الخبرة بأمراض العصر العقائدية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، ومعرفة علاجها النافع وأساليب تقديم ذلك العلاج للناس حتى يكون أكثر قبولا.
9_ لزوم الجماعة والاعتصام بحبل الله، والقضاء على التفرقة وإخضاع النفس للحق وقبوله من أين أتى.
10_ البدء بالأهم فالأهم في كل ما مضى اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته ووصيته بذلك كما في حديث معاذ، ولا شك أن الأمة التي فهمت المعنى الشامل للعبادة وطبقت ما فهمته واقعاً عملياً هي الأنفع والأقوى، وهي التي يجب أن تكون رائدة الدعوة إلى الله تعالى، لأنها تصورت العبادة تصورا صحيحا، كما طبقتها في الواقع سلوكاً وعملا، وهي أقدر على تحمل المسؤولية والنهوض بأعباء الدعوة الثقيلة.(12/32)
ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية الذي فهم ذلك الفهم فكان من آثاره ما يعرفه عدوه وصديقه على السواء.
آثار الفهم الضيق لمعنى العبادة:
وكما أن لفهم العبادة السلفي الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية آثاره العظيمة النافعة في الحياة، فللفهم الضيق أيضا آثاره المنعكسة على الحياة، وهي آثار يكثر ضررها أو يقل حسب بعد الفهم أو قربه من الفهم الشامل الصحيح.
ومن تلك الآثار الضارة:
1_ انزواء كثير من المسلمين في نطاق ضيق من مجالات العبادة مما سبب ترك كثير من الواجبات أو ارتكاب كثير من المحرمات.
فترى منهم من يزعم الإسلام، ولا يرضى بحكم الله الذي أنزله في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وترى من يزعم الاسلام وهو يمنع زكاة ماله مع استكمال شروطها، وترى من يزعم الإسلام وهو يتعامل بالربا دون تحرج، وترى من يزعم الإسلام وهو يشرب الخمر أو يرتكب الزنا، وترى من يزعم الإسلام وهو يحارب الدعاة إلى الله وينكل بهم ويقتل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وترى من يزعم الاسلام وهو يوالي أعداء الله ويعادي أولياءه، وترى من يزعم الإسلام وهو قاعد عن الجهاد في سبيل الله، بل يثبط المجاهدين ويحاول أن يملأ قلوبهم باليأس والقنوط، وكثير من هؤلاء الذين يزعمون الإسلام ويعملون تلك الأعمال أو بعضها يؤدون بعض الشعائر التعبدية أداء ميتاً لا روح فيه.
2_ تعميق الفرقة والاختلاف بين جماعات المسلمين بسبب تركيز كل طائفة على بعض فروع الإسلام مع إهمال الفروع الأخرى التي قد يراها الآخرون أهم من الفروع التي ركزت عليها تلك الطائفة، وذلك يسبب عرقلة سير الدعوة إلى الله، لأن كل طائفة من طوائف المسلمين تشغل نفسها بالرد على الطوائف الأخرى وبيان أخطاء تلك الطوائف، ويبقى الناس الذين أوجب الله تبليغهم دعوته بدون دعاة.(12/33)
ولو فهمت كل الطوائف الفهم السلفي الشامل لمعنى العبادة، والأهم والمهم منها لما حصل ما حصل من التناحر والتنابز، بل كانت الجهود ستوحد وستؤتي ثمارها في وقت أقرب.
3_ تعصب كل طائفة لما فهمت أنه الحق، وتعصب كل فرد لطائفته في كل أمر من أمورها دون تمحيص لما قد يصدر عنها من خطأ، والغفلة عما قد يكون من حق عند الطوائف الأخرى لعدم الاهتمام بذلك، وفي هذا ما فيه من ترك كثير من الحق، ويخشى على أفراد هذه الطوائف من الوقوع في مثل قوله تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} .
4_ الحرمان من أجر كثير من الأعمال المباحة بسبب عدم النية الصالحة، وقصد وجه الله بذلك.
ولنعد مرة أخرى لذكر معنى العبادة حسب تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة"، لنقول: إن العبادة صلاة وصيام وحج وزكاة وأمر بمعروف ونهي عن منكر وجهاد وتضحية وقراءة وتسبيح وإمارة وقضاء وإدارة وتدريس وسفر ونوم وقيام، وبيع وشراء وأكل وشرب وكل حركة يتحركها العبد أو سكنة يسكنها عبادة لله ما دامت مشروعة أو مباحة وقصد بها وجه الله {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} .
سؤالان وجوابها:
السؤال الأول: إذا كانت العبادة كما ذكر شاملة لكل حياة المسلم فلماذا عطف عليها غيرها من أوامر الدين ونواهيه كقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} الآية ولو كانت هذه الأمور من العبادة لما كانت هناك حاجة إلى عطفها عليها.
الجواب: أن هذا من عطف الخاص على العام وذكره للاهتمام به لا لأنه مغاير للمعطوف عليه، وهذا مألوف في اللغة العربية وهو في القرآن كثير.(12/34)
السؤال الثاني: إذا كان الدين كله عبادة فلماذا قسم الفقهاء الأحكام إلى عبادات ومعاملات؟
ولهذا السؤال جوابان:
الجواب الأول: أن تقسيم الفقهاء اصطلاح منهم قصد به تسهيل الأبواب الفقهية لطالب العلم، ولم يقصدوا بها أن الأحكام الأخرى التي تسمى المعاملات ليست عبادة بدليل أن تلك المعاملات يدخلها الثواب والعقاب، لأن فيها الواجب والمندوب وفيها الحرام والمكروه والمباح.
الجواب الثاني: أنهم قصدوا من هذا التقسيم بيان أحكام الشرع على كل نوع: النوع الأول يضم الصور والكيفيات المحددة التي ليس للعبد فيها إلا التلقي من الله ثم التنفيذ، وهذه هي الشعائر التعبدية كالصلاة والصيام والزكاة والذكر، فالله هو الذي ينشئ هذا النوع وليس لغيره أن يخترع شيئاً من عنده ويدعو الناس إلى التعبد به.
النوع الثاني: يشمل الأحكام التي تنظم علاقات الناس بعضهم ببعض في حياتهم، وهذه العلاقات موجودة قبل أن يأتي الشرع، فالشرع لم ينشئها وإنما أقر الصالح منها ونهى عن الفاسد، وبناء على ذلك قررت القاعدة المعروفة: الأصل في العبادات الحظر، والأصل في المعاملات الإباحة.
راجع في تعريف العبادة وشمولها رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية: العبودية، وكتاب العبادة في الإسلام للشيخ يوسف القرضاوي.
تأثير عقيدة التوحيد في حياة الإنسان
الموحد ليس كالمشرك، فللتوحيد آثاره في حياة الموحد، وللشرك آثاره في حياة المشرك، كما أن للعلم آثاره في حياة العالم وللجهل آثاره في حياة الجاهل.
وقد ذكر الأستاذ المودودي في كتابه القيم: مبادئ الإسلام آثار عقيدة التوحيد ص 92-99 وإليك تلخيصا لذلك:
1_ بعد نظر الموحد لإيمانه بالذي خلق السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، ولذلك لا يستغرب شيئا في هذا الكون لأنه يعرف أنه مخلوق لحكيم عليم، وعبد لرب قوي قادر.(12/35)
2_ عزة نفسه لعلمه أن المالك الحقيقي هو الله تعالى القادر على كل شيء ليس لغيره قدرة على ضر أو نفع، ولذلك ينزع من قلبه خوف أي أحد غير الله.
3_ تواضعه لعلمه أن الذي وهبه كل ما عنده من صحة أو قوة أو ولد أو مال أو جاه هو الله، وليس من عند نفسه وأن الذي وهبه ذلك قادر على سلبه في أي لحظة.
4_ الجد في الأعمال الصالحة لعلمه أن فلاحه يكمن في تزكية نفسه وعمله الصالح الذي يتقرب به إلى ربه.
5_ قوة الأمل وطمأنينة القلب، لأنه يؤمن بمن عنده خزائن السموات والأرض، وبيده النفع والضر والعطاء والمنع، وهو لا يغفل عن عبده المؤمن به، بل يرعاه ويؤيده، فلا يعتريه يأس ولا قنوط.
6_ قوة العزم والصبر والثبات لعلمه أن الله معه وأنه مؤيده وناصره، ذاكرا قول الله تعالى: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} التي قالها إبراهيم عندما أريد إلقاءه في النار، ومحمد صلى الله عليه وسلم عندما خوف بصناديد المشركين، وقول هود عليه السلام لقومه: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّه} .
7_ الشجاعة والإقدام، لأن سبب الجبن أمران: الأول حب الإنسان حياته وولده وماله ونحو ذلك.
الثاني: خوفه من انتزاع أحد ذلك منه، والموحد على يقين بأن الذي أعطاه كل ما يحب هو الله تعالى، وهو القادر على أخذ ذلك إذا أراد، وأن غير الله تعالى ليس بيده شيء، ولا يقدر على سلبه ذرة واحدة إلا إذا أقدره الله على ذلك.
8_ الترفع والقناعة لعلمه بأن الرازق المعطي المانع الخافض هو الله، فعليه أن يسعى في حصول ما يريد من خير، والله يعطيه ما يشاء ويمنعه ما يشاء، فلا حاجة إلى سلوك الطرق الدنيئة والأخذ بالوسائل السافلة، لأن النجاح عنده ينحصر في فضل الله، فلا يكون عبداً لغيره من أجل أن ينجح في أي أمر من أموره: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} .(12/36)
9_ التقيد بقانون الله والمحافظة عليه في أي وقت وفي أي مكان أو زمان أو حال، لعلمه أن الله مطلع على كل ما يأتي ويذر، لا يغيب عنه شيء، ولإيمانه بأنه سيجازيه على عمله ولا يفلت من قبضته، ولإيمانه بأن ذلك هو الخير لصدوره عن حكيم عليم غني، وهو في ذلك يتذكر درجة الإحسان: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".(12/37)
العدد 33
فهرس المحتويات
1- افتتاحية العدد: لفضيلة نائب رئيس الجامعة الشيخ عبد المحسن العباد
2- التمسك بالإسلام سبب النصر في الدنيا والنجاة في الآخرة: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
3- أضواء من التفسير: لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
4- رسائل لم يحملها البريد: لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
5- نظرات في التاريخ: لفضيلة الشيخ أحمد محمود الأحمد
6- رسالة الجامعة السعودية نحو اللغة العربية والثقافية والإسلامية: لفضيلة الشيخ محمد مصطفى المجذوب
7- رسالة بدماء القلب إلى صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز: لفضيلة الشيخ إبراهيم محمد سرسيق
8- موازنة بين النثر والشعر في التهنئة بفتح القدس: لفضيلة الدكتور محمد نغش
9- أبو سليمان الخطابي: لفضيلة الشيخ الدكتور أحمد جمال العمري
10- تحية وعهد ودعاء لحضرة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز: لفضيلة الشيخ: عبد الحميد ربيع
11- البيان البلاغي عند العرب موضوعه / مكانه من البلاغة: بقلم الدكتور عبد الحميد العبيسي
12- مع الرعيل الأول: لفضيلة الشيخ: محمود أمين النواوي
13- إتحاف الأحباب بما ثبت في مسألة الحجاب: بقلم الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي
14- نداء من مسلمي الحبشة إلى حكومات العالم الإسلامي
15- من الصحف والمجلات: إعداد العلاقات العامة
16- ندوة الطلبة: قصيدة للطالب: عبد الرحمن شميله الأهدل
17- أخبار الجامعة
18- وفود الجامعة في العطلة الصيفية للدعوة إلى الله:
19- محاضرات الموسم الثقافي
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(12/38)
افتتاحية العدد
لفضيلة نائب رئيس الجامعة الشيخ عبد المحسن العباد
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فبحمد الله وعلى بركة الله تدخل المجلة عامها التاسع من عمرها المديد مواصلة مسيرتها الخيرة في نشر الثقافة والدعوة إلى الخير والحث على الفضائل والتحذير من الرذائل مساهمة في ذلك في تحقيق الأهداف النبيلة التي أسست الجامعة من أجلها والتي من أهمها تبليغ رسالة الإسلام الخالدة إلى العالم عن طريق الدعوة والتعليم الجامعي والدراسات العليا.. ذلك أن الجامعة ليست جامعة تعليم فحسب بل هي جامعة تعليم ودعوة، ولذا فهي تعنى بالدعوة بوسائل مختلفة كطبع الرسائل المفيدة وتوزيعها على نطاق واسع في داخل المملكة وخارجها وإرسال الوفود للقيام بالدعوة والتوجيه إلى الخير وبالمحاضرات التي يعدها ويلقيها بعض أساتذتها في مواسمها الثقافية والتي يستمع لها طلبة الجامعة وغيرهم، ثم تطبعها الجامعة لتعميم النفع بها وبهذه المجلة التي تحتوي على بحوث قيمة ومقالات مفيدة والتي تقوم الجامعة بتوزيعها، والله المسؤول أن ينفع بها وأن تظل دائما منارة إشعاع ومصدر هداية.(12/39)
تحية وعهد ودعاء
لحضرة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز
ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء، والرئيس الأعلى للجامعة للإسلامية.
لفضيلة الشيخ: عبد الحميد ربيع
النور يشرق في لقياك مزدانا
أزاهرا بالسّنا تهدي نحايانا
مثل الحروف مشت في حبِّها طربا
حتى تكون لحفل النور عنوانا
هي القلوب تلاقت في محبتها
حتى تضيء بنور الحب لقيانا
إذا التقينا وحب الله يجمعنا
فقد أتم لنا الرحمن إيمانا
في هالة من رجال الفكر قد سطعوا
مثل النجوم تضيء الآن نجوانا
هم الهداة بأفق الشرق تشهدهم
قلوبنا فيفيض البشر تحنانا
قلوب جامعة الإسلام قد نزلوا
صدورنا فسمت بقدومهم شانا
أعضاء مجلسها.. أهلا بهم وفدوا
على الرئيس أعز الله ضيفانا
ومن غدا الفكر والإيمان يجمعهم
سما الوجود بهم مجدا وعرفانا
وإننا بضياء الحب في مهَج
نقدِّم اليوم عهد الله برهانا
هنا بجامعة الإسلام نرسله
يحرر الكون أوطانا وإنسانا
فقد مضينا سنا التوحيد يقدُمُنا
إلى الجهاد بساح العلم فرسانا
فدعوة الحق تسرى في ضمائرنا
لكي نضيء بنور الحق أذهانا
إذا دعونا وصوت الحق رائدنا
أصغى لنا الكون وجدانا وآذانا
وقد تدفق منهاج الهدى ألقا
بالفكر يقطر نورا في حنايانا
وشرعة الله نادت في عبادتنا
لنلتقي بعباد الله إخوانا
ومنطق النور يهمى من حناجرنا
إلى الوجود بخير الهدى تبيانا
يفيض من لغة الله باركها
لكي تكون لفيض الوحي ميدانا
ومن هنا نشهد القرآن في ألق
يضم كل رحاب العلم إيقانا
تسير آياته تتلى منورة
حتى مشى النور في الطلاب قرآنا(12/40)
إذا دعا النور بالآيات مؤتلقا
هزّ الخلائق: أرواحا وأبدانا
إنا بهذا السّنا نهدي تحيّتنا
لـ ((فهد)) إذ جاء بالإيمان يرعانا
نهدي له عهدنا لله في ثقة
أن يحفظ الله عهدا بين تقوانا
وذلك العهد يهديه الوفاء بنا
لـ ((فيصل)) ماشدا بالحب أوفانا
فإن جامعة الإسلام ما بقيت
ترعى له العهد طلابا وبنيانا
إذا وفى الناس في عهد وفي وطن
عزوا مدى الدهر إيمانا وأوطانا
ومن هنا من ضياء الحق نرسلها
تحية من رحيق الحبّ ألوانا
لـ ((خالد)) ودعاء بين مهجتنا
بطول عمر ونصر في قضايانا
والله خير مجيب من دعا ووفى
ومن يجيب سوى الرحمن مولانا؟
عبد الحميد ربيع
موجه اللغة العربية بالجامعة الإسلامية(12/41)
البيان البلاغي عند العرب موضوعه / مكانه من البلاغة
بقلم الدكتور عبد الحميد العبيسي
الأستاذ المساعد في كلية الدعوة وأصول الدين
أحمد الله تعالى على نعمائه، وأصلي وأسلم على محمد خاتم رسله، وصفوة أنبيائه.
وبعد فوفاء بوعد، واستجابة لرغبة، وإتماما لفائدة أقدم بين يدي القارئ الكريم هذه الدراسة الموصولة بإذنه تعالى في موضوع: البيان البلاغي عند العرب - موضوعه - مكانه من البلاغة.
فأما موضوع البيان فلقد حدده ابن الأثير المتوفى 637هـ في كتابه المثل السائر - بأنه الفصاحة والبلاغة، وصاحبه يسأل عن أحوالهما: اللفظية والمعنوية.
وهو والنحوي يشتركان في أن النحوي ينظر في دلالة الألفاظ على المعاني من جهة الوضع اللغوي، وتلك دلالة عامة.
وصاحب علم البيان ينظر في فضيلة تلك الدلالة، وهي دلالة خاصة والمراد بها: أن يكون على هيئة مخصوصة من الحسن، وذلك أمر وراء النحو والإعراب، ألا ترى أن النحويّ يفهم معنى الكلام المنظوم والمنثور، ويعلم مواقع إعرابه، ومع ذلك فإنه لا يفهم ما فيه من الفصاحة والبلاغة؛ ومن هنا غلط مفسرو الأشعار في اقتصارهم على شرح المعاني، وما فيها من الكلمات اللغوية، وتبيين مواضع الإعراب منها دون شرح ما تضمنته من أسرار الفصاحة ووجوه البلاغة [1] .(12/42)
وعليه فموضوع فنّ البيان هو تلك الدلالات الخاصّة التي تنتظم أسرار الصياغة في جوّ الأساليب التي ينشئها الأدباء، تعبيرا عن أفكارهم، وتصويرا لعواطفهم، وهذه الأساليب تتفاوت وضوحا وخفاء، قوة وضعفا، وهي على تفاوتها وتنوّعها فقد حاول البيانيون المتأخرون حصرها في هذا الثلاثي: (التشبيه - المجاز - الكناية) وتلمّسوا لهذا الحصر ضوابط يبدو فيها التكلف، ويظهر عليها الافتعال؛ وآية ذلك اعتراف السكاكي المتوفى 626هـ رائد الاتجاه التقريري الفلسفي في البلاغة بأن المطلوب بهذا التكلف هو الضبط [2] ، ذلك أن البيان في نظره بمعنى: إيراد المعنى الواحد على صور مختلفة لا يتأتى إلا في الدلالات العقلية، وهي من معنى إلى معنى؛ بسبب علاقة بينهما؛ كلزوم أحدهما الآخر بوجه من الوجوه؛ فمرجع علم البيان: اعتبار هذه الملازمات بين تلك المعاني، واعتبار هاتين الجهتين: جهة الانتقال من ملزوم إلى لازم، وجهة الانتقال من لازم إلى ملزوم، وإذا ظهر لك أن مرجع علم البيان هاتان الجهتان علمت انصباب علم البيان إلى التعرّض للمجاز والكناية؛ ففي المجاز يكون الانتقال من الملزوم إلى اللازم، وفي الكناية يكون الانتقال من اللازم إلى الملزوم، وترى ذلك في الأمثلة المسوقة لهما، فلا علينا أن نتخذ المجاز والكناية: أصلين.
ثم إن المجاز أعني: الاستعارة من حيث إنها من فروع التشبيه لا تتحقق بمجرد حصول الانتقال من الملزوم إلى اللازم، بل لابدّ فيها من تقدمة تشبيه شيء بذلك الملزوم في لازم له تستدعي تقديم التعرّض للتشبيه، فلابدّ من أن نأخذه أصلا ثالثا ونقدِّمه، فهو الذي إذا مهرت فيه ملكت زمام التدرب في فنون السحر البياني [3] .!!!!(12/43)
والمتأمل في كلام السكاكي هذا يلمح التمحل الذي ارتكبه في سبيل ضابط تنحصر فيه مسائل البيان وأصوله؛ وكأنه في غيبة هذا الضابط لن يتحقق حصرها، ولا تعجب فإنه نهج السكاكي الذي أسرف في اصطناع الضوابط الكثيرة!! فضلا عن أننا لا نسلم له هذه التفرقة بين المجاز والكناية؛ ذلك أن اللازم في الكناية لازم مساوٍ؛ فيصحّ أن يسمى اللازم حينئذ ملزوما، والملزوم لازما، على أن التفرقة المعتبرة بينهما إنما تكمن في القرينة؛ فقرينة المجاز مانعة دائما من إرادة المعنى الوضعي، بخلاف قرينة الكناية فإنها مجوزة لإرادة المعنى الوضعي ما لم يقم مانع خارج عن طبيعة الكناية … [4] .
ولا نسلم له كذلك أن التشبيه مقصد غير أساسي في البيان، وأنه وسيلة أو مقدمة لبعض أنواع المجاز، أو أنه أصل ادّعائي!!! وحسبنا ما أبرزه السكاكي نفسه عن قيمة التشبيه البلاغية، وتأثيره النفسي من أنه الأصل الذي إذا أمهرت فيه ملكت زمام التدرب في فنون السّحر البياني!!! [5]
وإذا كان السكاكي قد ارتضى هذا الطريق البعيد فإن الطيبي أحد البلاغيين المتأخرين يسلك سبيلا أقرب في الضبط بقوله: ((اعتبار المبالغة في إثبات أصل المعنى للشيء، إما على طريق الإلحاق أو الإطلاق، والثاني إما إطلاق الملزوم على اللازم، أو عكسه، وما يبحث فيه عن الأول التشبيه، وعن الثاني المجاز، وعن الثالث الكناية، فانحصر الكلام في الثلاثة [6] .
ويذهب كمال الدين البحراني إلى القول: بأن اللفظ إما أن يستعمل في المعنى الموضوع له فهو الحقيقة، أو فيما له علاقة به بحيث ينتقل الذهن من الموضوع له في الجملة - وهو المسمى عندهم باللازم - وهو إما أن تكون علاقته المشابهة أو غيرها، فعلى الأول إن كانت معه قرينة تنافي إرادة المعنى الموضوع له كان استعارة، وإن لم يكن كان تشبيها.
وعلى الثاني أيضا إن كانت معه تلك القرينة المانعة كان مجازا مرسلا، وإن لم تكن كان كناية.(12/44)
فأصول البيان أربعة، فإذا ضمت الاستعارة إلى المجاز المرسل للاشتراك في المجاز صارت ثلاثة.
ويظهر من هذا أن التشبيه أصل حقيقي من أصول هذا الفن؛ ألا ترى أن له مراتب متفاوتة في الوضوح، وأن فيه من النكت واللطائف البيانية ما لا يحصى.
وما يقال من أن المقصود الأصلي في التشبيهات هو المعاني الوضعية فقط ليس بشيء؛ فإن قولك: "وجه كالبدر"مثلا لا تريد به ما هو مفهومه وضعا، بل تريد أن ذلك الوجه في غاية الحسن ونهاية اللطافة، لكن إرادة هذا لا تنافي إرادة المفهوم الوضعي [7] .
ومهما دار الأمر فإن التشبيه أصل من أصول البيان، ودعامة من دعائمه، ومقصد أصيل من مقاصده، وذلك لأمور أهمها:
أولها: أسبقيته في الوجود على الصور البيانية، فهو أقدم صور البيان؛ إذ هو مبني على ما تلمحه النفس من اشتراك بعض الأشياء في وصف خاص يربط بينها [8] ؛ فتعمد إليه النفس بالفطرة حين يسوقها الداعي إليه، والباعث عليه؛ ومن ثمّ كان سرّ شيوعه وذيوعه في سائر الأنواع البشرية واللغات الإنسانية، فهو من الصور البيانية التي لا تختص بجنس ولا لغة؛ كيف لا وهو من الهبات الإنسانية والخصائص الفطرية.
ولقد عرفه العرب الأقدمون منذ لهجت ألسنتهم بفنون القول؛ فكان لأسلوب التشبيه الصدارة من الأساليب التي يستخدمها الفصحاء منهم في كلامهم في كل مكان وزمان، وفي هذا يقول أبو العباس المبرد المتوفى 285هـ في كتابه الكامل: "والتشبيه جارٍ كثير في كلام العرب؛ حتى لو قال قائل: هو أكثر كلامهم لم يبعد..".
ويقول: "والتشبيه من أكثر كلام الناس""والتشبيه كثير، وهو باب كأنه لا آخر له" [9] .
كما يقول ابن وهب في كتابه نقد النثر: "وأما التشبيه فهو من أشرف كلام العرب، وفيه تكون الفطنة والبراعة عندهم، وكلما كان المشبه (بالكسر) منهم في تشبيه ألطف كان بالشعر أعرف، وكلما كان بالمعنى أسبق كان بالحذق أليق.." [10] .(12/45)
ثانيها: تنوع مراتبه في الوضوح والخفاء [11] ، فهو أسلوب يظهر فيه التفاوت على نحو ملموس، فليست درجة الوضوح فيه واحدة، وهذا التفاوت مناط البلاغة وعماد البراعة!!.
ثالثها: القول بمجازيته - في رأي ابن الأثير -؛ فيكون دخوله في البيان بطريق الأصالة، لا بطريق التبعية للاستعارة والتطفل عليها.
وحتى على القول المشهور بحقيقيته فإن القيمة الذاتية للتشبيه كصورة بيانية قد تأكدت وتقررت منذ أمد بعيد؛ مما جعل العلوي المتوفى 749هـ في كتابه الطراز يقرر صراحة: "كونه معدودا في علوم البلاغة؛ لما فيه من الدقة واللطافة، ولما يكتسب به اللفظ من الرونق والرشاقة، ولاشتماله على إخراج الخفيّ إلى الجليّ، وإدنائه البعيد من القريب، فأما كونه معدودا في المجاز أو غير معدود فالأمر فيه قريب بعد كونه من أبلغ قواعد البلاغة، وليس يتعلق به كبير فائدة [12] .."، ذلك أنه باب عظيم من أبواب البلاغة الساحرة، ومسلك رائع للأدباء، منه يلجون في سائر البقاع والأزمنة، وأساس متين للاستعارة التي هي عماد الجمال والكمال في الأساليب!!.
وأسلوب توفرت له هذه اللطائف وتلك المقومات لجدير بأن يكون مقصدا أساسيا من مقاصد البيان، وأصلا عظيما من أصوله!!.
ومما تقدم تدرك أن أصول فنّ البيان عند جمهرة البيانيين أربعة:
منها أصلان ذاتيان: وهما المجاز والكناية، وأصل واحد وسيلة وهو التشبيه، وواحد وهو جزء من أصل وهو الاستعارة.
وبعض البيانيين يعتبر مباحث البيان أربعة: "التشبيه، وليس من أقسام اللفظ، والحقيقة والمجاز اللفظيان، والكناية، والثلاثة من أقسام اللفظ" [13] .(12/46)
وإنما جعلت الحقيقة ضمن مباحثه مع أنها ليست من مقاصده؛ لاتضاح مقابلها وهو: المجاز شدة الاتضاح؛ لأن الشيء تكمل معرفته بمعرفة مقابله [14] ، أو أنها لما كانت كالأصل للمجاز؛ إذ الاستعمال في غير ما وضع له فرع الاستعمال فيما وضع له غالبا جرت العادة بالبحث عنها في هذا الفن.
وأيا ما كان الأمر فإنه لا مناص من البحث في التشبيه والحقيقة، والمجاز والكناية؛ وصولا إلى الكشف عن مسائل البيان وصوره..
(ب) وأما مكان البيان من البلاغة فتكمن في وجود المطابقة التي هي: عماد البلاغة؛ إذ إن هذه الألوان البيانية تستدعيها المقامات، وتتطلبها الأحوال؛ فالإفصاح في موضع الإفصاح، والكناية في موضع الكناية [15] ، والاستعارة في موضع الاستعارة، والمجاز في موضع المجاز؛ فهذه الألوان تمثل وجوها تتحقق بها المطابقة؛ فيبدو الكلام بليغا بوجود تلك المطابقة.
وإذا كان السكاكي قد فصل علم المعاني عن البيان لملاحظة أدركها في ثمرة كل من العلمين؛ فإن الغرض من علم المعاني: هو الاحتراز عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره، كما أن موضوعه: البحث في اللفظ العربي من هذه الجهة التي توصل إلى تلك الغاية.
فعلم المعاني عنده: هو معرفة خواص تراكيب الكلام، أما علم البيان فهو معرفة صياغات المعاني؛ ليتوصل بها إلى توفية مقامات الكلام حقها؛ وذلك احترازا عن التعقيد المعنوي، فإن علم البيان عند السكاكي يتوقف على علم المعاني؛ ذلك أن علم البيان: هو معرفة إيراد الكلام بطرق مختلفة في الوضوح بعد مراعاة المطابقة لمقتضى الحال، ومعنى ذلك أن الأديب شاعرا أو ناثرا إذا أراد أن يصوغ معنى، فيعمد إلى تشبيه أو مجاز أو كناية، فهو حينئذ يكون قد أخذ بجزء من علم البيان، فإذا راعى أن هذا الأداء يطابق مقتضى الحال كان آخذا بالعلم كله؛ وعلى ذلك فالنظر في هذه الصور البيانية: (التشبيه، المجاز، الكناية) من زاويتين:(12/47)
أولاهما: أنها صور يعبر بها عن المعاني.
ثانيهما: أنها تطابق أو لا تطابق.
والنظرة الثانية هي: موضوع علم المعاني، والنظرتان معا هما: موضوع علم البيان.
ومن هنا قالوا: "إن علم المعاني من البيان بمنزلة المفرد من المركب [16] ، لأن رعاية المطابقة لمقتضى الحال التي هي مرجع علم المعاني معتبرة في علم البيان مع زيادة شيء آخر وهو: إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة، ولما كان المفرد مقدما طبعا على المركب كان المركب متأخرا وضعا عن المفرد، ولهذا وضع علم البيان بعد علم المعاني" [17] ، والسكاكي يقرر كذلك: "أنه لما كان علم البيان شعبة من علم المعاني لا تنفصل عنه إلا بزيادة اعتبار جرى منه مجرى المركب من المفرد لا جرم آثرنا تأخيره" [18] .
وتعبير السكاكي بأن: علم البيان شعبة من علم المعاني يوضح مدى الصلة القوية بين العلمين.
وهذا المعنى نراه جليا واضحا عند الإمام عبد القاهر الجرجاني؛ فيقول في معرض كلامه عن الغرض الذي ابتدأه وهو: التوصل إلى بيان أمر المعاني كيف تتفق وتختلف؟.
"وأول ذلك وأولاه وأحقه بأن يستوفيه النظر ويتقصاه القول على التشبيه، والتمثيل، والاستعارة؛ فإن هذه أصول كثيرة كان جل محاسن الكلام - إن لم نقل كلها - متفرعة عنها، وراجعة إليها، وكأنها أقطاب تدور عليها المعاني في متصرفاتها، وأقطار تحيط بها من جهاتها.." [19] .
كما ترى الإمام في كلامه عن النظم، وإعجاز القرآن الكريم يقول: "إن الأمر يقتضي دخول الاستعارة ونظائرها فيما هو به معجز؛ وذلك لأن هذه المعاني التي هي: الاستعارة، والكناية، والتمثيل وسائر ضروب المجاز من بعدها من مقتضيات النظم، وعنها يحدث، وبها يكون.." [20] .(12/48)
ولعل كلام الإمام هذا هو الذي أوحى إلى السكاكي بأن يقول: "إن علم البيان شعبة من علم المعاني …الخ، على أن السكاكي لم يسلم من اعتراضات بهاء الدين السبكي المتوفى 773هـ فيقول: "ثم لا نسلم أن علم البيان يتوقف على معرفة علم المعاني؛ لجواز أن يعلم الإنسان حقيقة التشبيه، والكناية، والاستعارة وغير ذلك من علم البيان ولا يعلم تطبيق الكلام على مقتضى الحال، فليس علم المعاني جزءا من البيان ولا لازما له، وأن تطبيق الكلام على مقتضى الحال كالمادة، وهذه الطرق كالصورة، والمادة ليست جزءا للصورة.." [21] .
وكلام البهاء هذا يصور مدى الفصل بين العلمين عند المتأخرين، وهذا مسلك جرّ على البلاغة انفصالا بين مسائلها المتشابكة، وقضاياها المترابطة؛ فلا مندوحة لقبوله! إذ المطابقة واجبة في كل ألوان البلاغة وفنونها.
ومن المشهور عند أصحاب الاتجاه السكاكي في البلاغة أنك إذا نظرت إلى أسلوب من جهة وجود المطابقة أو عدمها فأنت تسلك طريق علم المعاني، ولو نظرت هذه النظرة إلى الألوان البيانية كنت صادرا في بحثك عن هذا العلم، وكذلك لو نظرت إلى المحسنات البديعية؛ فإن مردّ الحسن الثابت للبديع إلى ارتباط هذا الحسن باقتضاء المعنى له، واستدعاء المقام له؛ فحيث يقتضي المعنى يكون اللون الذي يناسبه [22] ؛ ومن ثم شاع بين علماء البلاغة أن المحسن البديعي إذا اقتضاه المقام صار من علم المعاني؛ لمراعاة المطابقة.
وإذن فالمطابقة تتحقق في الألوان البيانية، والأصباغ البديعية إذا اعتبرها الباحث في نظرته، ولا أعتقد أن باحثا ما لا يملك أن يتجاهل المطابقة؛ فإنه بدونها لن يصل إلى التعرف على بلاغة الأساليب.(12/49)
وحسنا ذهب بعض النقاد المعاصرين إلى نقد من يقصر المطابقة على علم المعاني فقال: "وهنا يتبين الخطأ في قصر تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره على مسائل علم المعاني؛ فإن الحق أن ذلك شامل لفنون البلاغة جميعا.." [23] ، ويقول: "والواقع أن دائرة المطابقة لمقتضى الحال أوسع من هذه الدائرة بكثير، ولا تقف عند تلك المباحث الثمانية المشهورة التي ذكروها في علم المعاني؛ فإن مجالات هذه المطابقة كثيرة.." [24] .
ولا شك أن هذا الاتجاه لتعميم المطابقة الشاملة في فنون البلاغة الثلاثة هو المنهج الأقوم الذي أرساه من قبل الأقدمون من علماء النقد والبلاغة، وما أحوج الدرس البلاغي المعاصر إليه؟!!
وبعد فإن مكان البيان من البلاغة يتوقف على مدى وفاء اللون البياني بالمقام الذي سيق له، وما يكتنف الصور البيانية من قيمة ذاتية تخلع على الكلام حسنا وجمالا، وتكسبه روعة وجلالا، وتشيع الضياء والرونق في كل نظم تحتويه، وتمنحه الصحة والقوة بكل ما تمثله من قيمة ذاتية، وتضمن له الحيوية المتجددة فلا يسقط على مر العصور..
وعلى الله قصد السبيل.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] راجع إن شئت المثل السائر: ج 1 ص 39، والطراز للعلوي ج 1 ص 370.
[2] مفتاح العلوم للسكاكي ص 177 بتصرف.
[3] مفتاح العلوم للسكاكي ص 177 بتصرف.
[4] انظر كتابنا: ((روائع البيان العربي)) ص 266، ص 273 ط دار إحياء الكتب العربية بمصر.
[5] انظر: روائع البيان العربي للكاتب: ص 21-23.
[6] شرح السيوطي لمنظومته عقود الجمان 2-5.
[7] هامش شرح الفوائد الغيائية 195.
[8] دراسات في علم النفس الأدبي للأستاذ حامد عبد القادر ص 41.
[9] رغبة الآمل شرح الكامل للمرصفي ج 6 ص 238، ج 7 ص 37 ص 63.(12/50)
[10] نقد النثر ص 58.
[11] الرسالة البيانية ص 33، وروائع البيان العربي ص 21.
[12] الطراز ج 1 ص 266.
[13] الرسالة البيانية ص 33، 34، 35، 36.
[14] المرجع السابق.
[15] الحيوان للجاحظ ج 12.
[16] المطول للسعد: ص 33.
[17] مفتاح العلوم للسكاكي: ص 86.
[18] المرجع السابق.
[19] أسرار البلاغة: ص 18.
[20] دلائل الإعجاز: ص 255 ط المنار.
[21] عروس الأفراح: ج 3 ص 261 ط الأميرية 1318هـ.
[22] ابن سنان الخفاجي وأثره في النقد والبلاغة للكاتب ص 320، 506.
[23] البيان العربي أ. د بدوي طبانة: ص 342.
[24] المرجع السابق: ص 424.(12/51)
مع الرعيل الأول
لفضيلة الشيخ: محمود أمين النواوي
كان الناس يقولون في عهد التابعين ومن بعدهم: إن فقهاء المدينة سبعة يصدر الناس عن آرائهم، وينتهون إلى قولهم وإفتائهم، ويقول عبد الله بن المبارك في شأنهم، إنهم كانوا إذا جاءتهم المسألة دخلوا فيها جميعا فنظروا فيها ولا يقضي القاضي حتى ترفع إليهم فينظروا فيها، وهؤلاء السبعة هم: سعيد بن المسيب المتوفى سنة 95 للهجرة، وخارجة بن زيد ابن ثابت المتوفى سنة 100، والقاسم بن محمد بن أبي بكر المتوفى سنة 106، وعروة بن الزبير المتوفى سنة 99، وسليمان بن يسار الهلالي المتوفى سنة 109، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ابن عوف المتوفى سنة 94 وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود المتوفى سنة 99.
وجعل ابن المبارك مكان أبي سلمة بن عبد الرحمن سالم بن عبد الله بن عمر المتوفى سنة 106، ونقل العراقي في التبصرة عن يحي بن سعيد أنه بلغ بهم اثني عشر، وعدّ فيهم سعيد بن المسيب الذي لا خلاف في شأنه، كما أنه قلّ من يخالف في أنه سيدهم ومقدمهم، بل هو كما صرح أكثر الأئمة أنه أفضل التابعين على الإطلاق إذا استثنينا أويسا القرني كما تراه في هذه الدراسة.
نقل عثمان الحارثي عن أحمد بن حنبل قال: سمعته يقول: أفضل التابعين سعيد ابن المسيب، قيل له: فعلقمة والأسود؟ فقال: سعيد وعلقمة والأسود، وفي رواية أخرى عنه قال: أفضل التابعين قيس بن أبي حازم وأبو عثمان الفهدي [1] .
ويقول علي بن المديني شيخ البخاري: سعيد عندي أجل التابعين.
ويقول أبو حاتم الرازي: ليس في التابعين أنبل من سعيد.
ويقول ابن حيان: سعيد بن المسيب أنبل التابعين.(12/52)
ويقول جعفر بن ربيعة: قلت لعراك بن مالك الغفاري: من أفقه أهل المدينة؟ قال: أما أعلمهم بقضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضايا أبي بكر وعمر وعثمان، وأفقههم وأعلمهم علما بما مضى من أمر الناس فسعيد بن المسيب.
ويقول الزهري: العلماء أربعة: سعيد بن المسيب بالمدينة، والشعبي بالكوفة، والحسن البصري بالبصرة، ومكحول بالشام، ويقول أيضا: أربعة من قريش وجدتهم بجورا وذكر ابن المسيب أولهم، وقال الزناد بن الأعرج مثل ذلك.
وما أكثر تزكيات العلماء والأئمة ممن شاهدوه وأخذوا عنه، أو من أخذوا عنهم، أو من يليهم غير أنهم ينقلون في هذا المقام ما يفيد ببعض الاختلاف بما لا يخلو عن تقدير إقليمي، قال الإمام أبو عبد الله بن خفيف الشيرازي [2] : اختلف الناس في أفضل التابعين، فأهل المدينة يقولون سعيد بن المسيب، وأهل البصرة يقولون الحسن البصري، وأهل الكوفة يقولون أويس القرني [3] ، فأنت ترى كل إقليم يفضل بحسب ما لمس وانتفع، ولكن رأي أهل الكوفة يستحسنه ابن الصلاح ويصححه العراقي، لما روى مسلم في صحيحه من حديث عمر ابن الخطاب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن خير التابعين رجل يقال له أويس…" الحديث. قال العراقي: إن هذا الحديث قاطع للنزاع، وأما تفضيل أحمد لابن المسيب وغيره فلعله لم يبلغه الحديث أو لم يصح عنده، أو أراد الأفضلية في العلم لا الخيرية، ولا تلازم بين الأمرين.
وهو دفاع مشكور عن أحمد غير أن قوله إن الحديث لعله لم يبلغه أو لم يصح عنده غير سليم، فإنه أخرجه في مسنده من الطريق التي أخرجه مسلم منها، وله فيه رواية أخرى تنص على أن من خير التابعين أويس [4] ، فلم يبق إلا أن يكون تفضيل من فضل سعيدا بحسب العلم ونشر السنة مع مراعاة الرواية الثانية "من خير التابعين".(12/53)
مهما يكن فإن حسبنا في هذه المحاولة أن نعرض في تاريخ هذا العبقري وأمثاله ما هو جدير أن يحقق الأسوة، ويثير الرغبة، ويكبت الرعونة في نفوس طالما ألحت عليها الشهوات، وكبت بها المطامع والنزوات والله المستعان.
ولد هذا الإمام الكريم لسنتين من خلافة عمر بن الخطاب، من أب وجد صحابيين أدركا رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى سعيد عن أبيه المباشر منهما وهو المسيب ابن حزن، وكان عهد عمر بن الخطاب عهدا يتسم بالدين في أبهى حلله وفي أبرز صوره يتفاضل الناس فيه بالعلم النافع والعمل الصالح، ويدركون مآربهم من طريق الدين، ولهذا كان الناس على دين ملوكهم يدركون ما عندهم بما يحبون، وقد عرف عن عمر أنه يقدم الناس بالعلم إلى حد عجيب، فهو يقدم مثل عبد الله بن عباس على كبار الصحابة لذكائه وغزارة علمه، وهو يحتضن عبد الله بن مسعود ويرجع إليه في مشاكله، وهو يأخذ عن علي ويرجع إلى علمه ومعرفته، كان ذلك كالغريزة فيه، والطبع الذي لا تكلف فيه، وهذا لأنه بلغ في العلم مبلغا قلّ من يدانيه حتى قال مسروق بن الأجدع: انتهى العلم إلى ستة من الصحابة: عمر وعلي وعبد الله وأبي بن كعب وأبي الدرداء وزيد بن ثابت.
وكانت المدينة تموج في خلافته بالعلماء من إخوانه الذين كان يدفعهم إلى نفع المسلمين بما عندهم، ولا يأخذهم بهوادة في ذلك ولا لين.(12/54)
وقد رأيت أن سعيدا أدرك أكثر العشرة المبشرين بالجنة وإن كان لم يثبت أنه روى عن أحد منهم سوى سعد بن أبي وقاص أو عمر بن الخطاب إذ سمعه وهو في صباه كما سنعرض عليك حديث الرجم في نقل الحافظ ابن حجر، وقد ادعى الحاكم في علوم الحديث أنه أدرك العشرة وسمع منهم، وهذا غير صحيح يبطله أن سعيدا ولد في خلافة عمر بلا خلاف، فكيف يسمع من أبي بكر، وقال العراقي: إنه لم يسمع من عمر على الصحيح، ثم استدرك بأن أحمد بن حنبل أثبت سماعه منه، وسترى ما يؤيد ذلك في كلام شيخ الإسلام في تهذيب التهذيب وهو يترجم له بعد أن تعلم ما نقله أيضا من أنه روى عن أبي بكر مرسلا وبقية الأربعة كذلك، وحكيم بن حزام وابن عباس وابن عمر وابن عمرو، وروى عن أبيه المسيب وأبي ذر في آخرين من الصحابة والصحابيات، وأن ابن الجوزي ادعى أنه أسند عن عمر وعثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وكثير غيرهم أوردهم ابن الجوزي في صفوة الصفوة، وقوله إنه أسند عن هؤلاء مما يختلف مع ما جزم به آخرون من أنه لم يسند من العشرة إلا عن سعد بن أبي وقاص لتأخر وفاته، ففي النقل اختلاف غير جوهري ولا مغير للهدف المنشود، أما شيخ الإسلام ابن حجر فإنه يقول فيما يتعلق بروايته عن عمر بطريق المباشرة، يقول وهو مغتبط بما يقول: وقد وقع لي حديث صحيح الإسناد لا مطعن فيه، وهو صريح في سماع سعيد بن المسيب من عمر، ثم روى بسنده إلى سعيد أنه قال: سمعت عمر بن الخطاب على هذا المنبر يقول: "عسى أن يكون بعدي أقوام يكذبون بالرجم يقولون لا نجد الرجم في كتاب الله فلولا أن أزيد في كتاب الله ما ليس منه لكتبت أنه حق، قد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجم أبو بكر ورجمت)) ويبدو من ذلك أنه سمع عمر وتحمل عنه وهو صبي، والمحدثون لا يمنعون التحمل في مثل سنه كما هو مقرر في موضعه.(12/55)
أما تلمذته لأستاذه أبي هريرة فإنها مما لا يختلف العلماء والمحدثون فيه فقد اتصل بأبي هريرة ولزمه للأخذ عنه، وتزوج ابنته وكان أبو هريرة أحفظ الصحابة للسنة لأنه كان لا يشغله عن صحبة رسول الله من عمل ولا تجارة كغيره من المهاجرين والأنصار، وله في ذلك أخبار مشهورة نجتزئ بالإشارة إليها، وقاتل الله الملحدين وأجراء المستشرقين الذين حاولوا صرف المسلمين عن دينهم بالطعن في هذا الصحابي العظيم، فإنه متى أصيب فقد أصيبت السنة التي هي ركن الإسلام، وهيهات فالله متم نوره ولو كره الكافرون.
وفي تاريخ سعيد أنه اتصل بأسماء بنت أبي بكر فعرف منها تأويل الأحلام، وكانت تعرفها من أبيها الصديق الذي زكاه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا العلم الذي يدل على صفاء الذهن، وإشراق القلب، وكذلك كان أبو بكر وسترى ما يؤيد معرفة ابن المسيب بالتعبير بعد قليل.(12/56)
ولكنه اشتهر رضوان الله عليه بالحديث والفقه في الدين والفتوى في نوازل المسلمين، فلم تجد معرفته بالتأويل مكانا للشهرة بين تلك المعارف الجليلة، لقد جد سعيد في مواصلة العلم وطلب السنة والفقه حتى صار أعلم الناس بأقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة، ويقول في ذلك تحدثا بنعمة ربه ومن حق العالم ذلك حتى يكون موضع الثقة بين المتعلمين وأهلا للأخذ عنه بينهم "ما بقي أحد أعلم بكل قضاء قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان مني"وكأنه لم يذكر عليا مع أنه كانت له أقضية جليلة وفتاوى كريمة يحفظها ابن عباس وغيره، لأن معارف الإمام علي رضي الله عنه لم تنتشر بالمدينة كما نشر غيرها من معارف الخلفاء الذين أقاموا بالمدينة المنورة حتى ختموا حياتهم المباركة فأخذ الناس عنهم فيها يريدون، ولعل ما يؤكد هذا الخبر ويؤكد هذه الدعوى أن كبار الصحابة وعلى رأسهم الحبر الإسلامي الجليل عبد الله بن عمر كانوا أحيانا يرجعون إليه ويحيلون عليه، نقل ابن حجر في تهذيب التهذيب عن مالك قال: بلغني أن عبد الله بن عمر كان يرسل إلى ابن المسيب يسأله عن بعض شأن عمر وأمره، قال مالك: لم يدرك عمر ولكن لما كبر أكب على المسألة عن شأنه وأمره، أهـ.
فإذا كان عبد الله بن عمر يسأله عن شأن أبيه فما بالك بغيره، ألست ترى معي أن ذلك الرجل كان أعجوبة، ولكن هذا في الحق غير عجيب من شأن رجل كأنه لم يعرف في حياته غير المسجد النبوي للعلم والطاعة سوى ما يباشر به أمر معاشه، على أنه لا يذكر في تاريخ حياته شيء تفصيلي من ذلك أكثر من كلمة عامة إنه كان يتجر في الزيت، ولكن كيف وفي أي وقت وكيف كانت معاملته غير أنهم وصفوه بالتسامح إلى حد كبير كما سيمر بك.(12/57)
إننا مازلنا منذ نشأنا نسمع القائلين ونقرأ للكاتبين أن سعيد بن المسيب كان حمامة المسجد النبوي لأن قلبه تعلق به عملا لا قولا، وانطبق عليه التوجيه النبوي الكريم ورجل قلبه معلق بالمسجد فكيف إذا كان خير مسجد بعد المسجد الحرام، لقد عرف فلزم فكان يواصل الخطا إلى المسجد وينتظر الصلاة تلو الصلاة، ويرى في العلم حق الصلاة وفي الصلاة حق العلم كلاهما مع الطهارة بكامل معناها مؤد إلى الآخر، ومتفاعل معه ورافع لشأن من لزمه، وقالوا إنه لم ينظر في الصلاة إلى قفا أحد لأنه لم يكن أمامه أحد، وقالوا إنه لزم الصف الأول أربعين سنة كان يتابع فيها الصوم ويسرده، وإنه مع فقهه العجيب لم يترخص في قبول هدية أو منحة، ولا قبِلَ عطاء من بيت المال مما كانوا يتقربون به إليه أو إلى أمثاله من الأئمة والعلماء، حتى يكون حرا لا سلطان لغير الله عليه رضي الله عنه، ولعله كان فيه الأسوة الكريمة للعلماء أرباب المواقف من أمثال ابن حنبل الذي أصيب بمحنة خلق القرآن، وأبي حنيفة ومالك وقد أريد كل منهما على القضاء فأبى كل الإباء.
قال ابن حجر في تاريخه: لما بايع عبد الملك للوليد وسليمان أبى سعيد ذلك فضربه إسماعيل بن هشام المخزومي ثلاثين سوطا وألبسه ثيابا من شعر وأمر به فطيف به في الأسواق ثم سجن.
فقاتل الله الظالمين، وجزى الله الثابتين على الحق والدين خير الجزاء آمين.
إنه يخيل إلي أن سعيد بن المسيب مع هؤلاء الظلمة كان أشبه بالمعشوق المعرض والمطلوب المدل، ولكنهم إنما كانوا يعشقون إقباله ليصرفوا قلوب الناس إليهم ويعتزوا بإقبالهم، ولكن له خطة في قلبه رسمها علم الدين، وانتهاج سنة الصالحين.
وبعد فإنني خشيت أن يتشتت بنا القول مع هذا البحر الخضم فلنجمع أهم ما يتصل به في طورين اثنين.(12/58)
أولهما: عهد الطلب والتعلم الذي تمثل في تردده على حلقات العلم، وأخذه عن الصحابة ما تسنى له مما أخذوه عن النبي صلى الله عليه وسلم ليروي عنهم بالسند المتصل غالبا وما كان أكثرهم بالمدينة وإن كان بعضهم تنقل في البلاد منذ عهد الخليفة الثالث رضي الله عنه، ولكنه بقي في المدينة منهم الكثير وفيهم كثير من البدريين رضوان الله عليهم، وقد رأيت في صدر هذا المقال أسماء لبعض من نقل عنهم سعيد، ولهذا لم ير سعيد ابن المسيب أن يرحل في طلب العلم، وهو في أول مركز للعلم وأهم موطن له ولقد كان يزكي انتفاعه بهؤلاء ويظهر ثمرة الإفادة منهم ذلك الاستعداد الخصيب مع ذلك الإقبال العجيب، فتجلى نضجه المبكر وظهر فضله غير متأخر حتى كان يفتي والصحابة شهود، وكانت تعجبهم فتاواه ويقرونها بل يباركونها.
وثاني العهدين لسعيد شأنه منذ ظهر فضله، ولمس في نفسه أنه مطلوب لا طالب، وأن نقله للعلم أول واجب، لا فكاك له منه ولا مندوحة عنه لا يسأل على ذلك أجرا، فأسند ما سمعه من الصحابة إلى من نقلوه عنه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يرسل أحيانا بعض الأحاديث [5] ، وكانت مراسيله في الجملة مقبولة لأنه كان لا يرسل إلا عن الثقات، ولأنها وجدت مسندة في بعض الروايات عنه وليس تفصيل ذلك من همنا اليوم [6] .(12/59)
وفي هذا الطور ظهرت شخصيته الخلقية في هذه الشخصية العلمية، فأقام على عبادة الله وعرف عن الدنيا ومظاهرها إلا ما يقيم به أوده، ويصون به وجهه، وقد أثمر ذلك فيه الثبات على الحق والمضي فيما يعتقد أنه الحق ولو كان السيف مصلتا عليه، ومهما أصيب في دنياه إيثارا لسلامة الدين، وقد تجلى ذلك في خلافة عبد الملك بن مروان حين رفض البيعة لابنيه الوليد وهشام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة كما تقدمت الإشارة، كما تجلى في رفضه لتزويج بنته لولي العهد الوليد بن عبد الملك مع أنهم عذبوه كذلك وطافوا به في أسواق المدينة، وهل كان مثل سعيد وهو من هو في ذلك الدين والورع يقبل أن يصاهر هؤلاء، وهو يعاديهم وينكر عليهم، إذن لتسرب إليه التحليل من قيود التقوى والورع، وهو عليها أحرص ما يكون، ولعل لنا بعد ذلك أن نجمل القول فيما تجلى فيه من صفات تجمع أمره كله وهي صفات ثلاث.. العلم الفياض، والحرص البالغ على الطاعة مع الإعراض عن المظاهر الكاذبة، والصبر على الحق مع الصبر على ما يصيبه في سبيله!(12/60)
أما العلم فقد رأيت صورا منه فيه طالبا ومطلوبا، ولمست مكانته في شهادة السلف الصالح والأئمة وفيهم بعض الصحابة وكثير من التابعين وتابعيهم بإحسان.. وقال مكحول: ما حدثتكم به فعن سعيد بن المسيب والشعبي، وقال ميمون: دخلت المدينة فسألت عن أفقهها فدفعت إلى سعيد بن المسيب، ولابد هنا من الإشارة إلى مبلغ بصره بتأويل الرؤيا كم وعدنا بذلك، فإن المتتبع لشأنه ولاسيما فيما ينقل عنه من ذلك في كتب التراجم والتواريخ ليرى العجب ويتجلى له أنه أوتي ما هو كالوحي مما لا يخطر على بال.. وما يتحقق على غرابته كما قال، روى ابن سعد في طبقاته ما خلاصته: أن رجلا جاء إلى ابن المسيب فزعم له أنه رأى في منامه كأنه أخذ عبد الملك بن مروان فأضجعه إلى الأرض ثم بطحه فدق في ظهره أربعة أوتاد! فقال له: أنت رأيتها؟ قال نعم، قال سعيد: لا، ولا أخبرك أو تخبرني، قال: ابن الزبير رآها وهو بعثني إليك، فقال سعيد إن صدقت قتل عبد الملك ابن الزبير، وخرج من صلبه أربعة كلهم يكون خليفة، فذهب الرجل إلى عبد الملك وأخبره فسر سرورا عظيما، وسأل الرجل عن حال سعيد ثم أجاز الرجل وأغدق عليه، وقال له رجل: رأيت عبد الملك يبول في قبلة النبي صلى الله عليه وسلم أربع مرات، فقال إن صدقت رؤياك قام من صلبه أربعة خلفاء، وجاءه رجل فقال له: رأيت حمامة وقعت على منارة المسجد، فقال: يتزوج الحجاج ابنة عبد الله بن جعفر، وهذه عجائب حقا.
ويرتبط بهذه الناحية ما كان ينضح على لسانه من الحكم العجيبة، ومنها ما نقل عن ابن عيينة قال: سمعت سعيدا يقول: إن الدنيا نذلة وهي إلى كل نذل أقبل وأنذل منها من أخذها بغير حقها، وطلبها من غير حلها، ووضعها في غير سبيلها، وروى أبو نعيم في الحلية أن سعيدا لما جرد عن ثيابه ليضرب قالت امرأة حين رأته: هذا مقام الخزي، فقال سعيد: من الخزي فررنا.(12/61)
نعم لقد فر باستمساكه بالحق من الخزي يوم الفزع الأكبر، وانظر إلى استحضاره العجيب في ذلك الموقف الكئيب، ومن قوله رضي الله عنه: يد الله فوق عباده فمن رفع نفسه وضعه الله، الناس تحت كنف الله يعملون بأعمالهم، فإذا أراد الله بعبد فضيحة أخرجه من تحت كنفه فبدت للناس عورته.
وأما النسك والزهادة ففي ذلك التاريخ الملموس، وتلك المواقف العديدة المشهورة، وفيها آيات بينات على أن طاعة الله وعبادته كانت دعامة حياته، وهي التي غرست في نفسه احتقار الدنيا ومظاهرها حتى ليبدو أن قليلا من كان يستطيع أن ينافسه على ذلك من أمثال، الحسن البصري، وزين العابدين بن الحسين بن علي، وابن سيرين، وكانوا مضرب الأمثال في ذلك المعنى الإسلامي الجليل، فأما سعيد فلم يسمع بمثله دأبا على الصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم لا تفوته تكبيرة الإحرام في أربعين سنة متوالية، ولا يقبل أن يتخلف عن واحدة منها لأية داعية إلا إذا كان في سجن الظالمين، أو في درس من دروس الصابرين، ثم يندفع سريعا إلى وطنه ويطير إلى وكره، ويقولون في هذا المقام إن عينه اشتكت في بعض الأيام فقيل له لو خرجت إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة هناك، فقال: وكيف أصنع بشهود العتمة والعشاء، فهو مع العتمة والعشاء في صنعته الروحية التي يتخذ بها العهد مع الله، ومن أوفى بعهده منه سبحانه، لقد أذاقهم تلك اللذة فما فتئوا يترقبونها، وقالوا إن بعض خلصائه نصح له وقد تأزم الأمر بينه وبين الحكام أن يمتنع عن صلاة الجماعة بضعة أيام، وكان الحاكم يكتفي بأن يرسل إليه فلا يجده تعظيما لشأنه، فقال سعيد: وأنا أسمع الأذان حي على الصلاة حي على الفلاح، لا يكون ذلك أبدا.(12/62)
ثم إنه كان لا يفتر عن تلاوة القرآن في غدوه ورواحه، وفي سفره ومقامه، وهو الكتاب الذي ارتفع بمستوى البشرية، وعرفه الصفوة منهم فكان خير الزاد لهم، وكان يسرد الصوم سردا ثم يكون إفطاره في المسجد على شراب يصنع له في بيته، وحج أربعين سنة لا يشق عليه الحج لنشاطه الروحي العجيب، ولعلك في خلال هذا العرض رأيت كيف كان حظه من الصبر على عبادة الرب، ولقد أثمر ذلك ثمرة الصبر على كلمة الحق وعدم ادهان مع أي أحد، فشأنه الثبات والهدوء مهما عصفت رياح الجور، ولذا كان يتنازل عن عطائه في بيت المال مهما بلغ، ذكروا في هذا المقام أنه كان له من العطاء ما نيف على ثمانين ألفا مما يسيل لعشر معشاره لعاب أهل الدنيا وطلابها، فلما طُلب لأخذه لم يستفره، ولا حرك من رغبته ذرة، ولكنه يقول: لا حاجة لي فيها ولا في بني مروان حتى ألقى الله تعالى فيحكم بيني وبينهم.
كلام البرم بهؤلاء البريء من كل ما يجيء من عندهم، ورحم الله ذلك الإمام العظيم، وكان يعد لذلك الاستغناء عدته بالتجارة التي أسلفت الإشارة إليها، ولا يضيع نصيبه من الطلب فيما يسر الله له، حتى قالوا إنه مات عن ثلاثة آلاف دينار، ولما دنت منيته قال معتذرا إلى ربه وهو أعلم به: اللهم إنك تعلم أني لم أجمع هذا المال إلا لأحفظ به نفسي وأصون به عرضي، وأعود به على جيراني وأهلي.(12/63)
على أنه كان يتسم بسماحة ويسر هي التي أنطقته بهذه الحكمة "لو نازعني أحد ردائي لنزعته له"، وقد آن أن أختم هذا الحديث بقصة طريفة هادئة تحدث عن مقدار ما أثمره فيه العلم والزهد والحصافة وقوة الحق، وهي قصة أوردها المحدثون والحفاظ في تاريخه الحافل، وفيما ينبغي أن يحتذى من المثل في صفات العلماء وأخلاقهم، وهي في شأن ابنته الجميلة الكريمة التي ضن بها على ولي عهد الخليفة وثبت على رفضه مصاهرته مهما لقي من تنكيل، وشأن الطالب الفقير أبي وداعة الذي عرضها عليه وأصر على هبتها له، ولم يملك من حطامها شيئا يذكر، حدّث هذا الطالب بما خلاصته أنه كان يجالس ابن المسيب ففقده أياما، فلما حضر قال له: أين كنت؟ فحدثه بوفاة زوجه، فقال له: ألا أخبرتنا فشهدناها، فلما أراد الانصراف قال الشيخ له: هل استحدثت امرأة؟ قال: رحمك الله ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين، فقال له: أنا أزوجك، ثم حمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم وزوجه على درهمين، قال: فقمت وما أدري ما أصنع من شدة الفرح، ثم عدت إلى بيتي لأتناول إفطاري وكنت صائما وكان طعامي الخبز والزيت، فإذا طارق يقرع الباب، فقلت من؟ قال: سعيد، فأفكرت في كل مسمى بذلك إلا سعيد بن المسيب فإنه لم ير منذ أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد وإذا هو سعيد بن المسيب! فقلت: يا أبا محمد ألا أرسلت إلي فآتيك، قال: لأنت أحق أن آتيك، قلت فما تأمر؟ قال: إنك كنت عزبا فتزوجت فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه امرأتك ثم دفع ابنته وذهب. قال أبو وداعة فسقطت من الحياء، ثم تقدمت إلى القصعة فأخفيتها، ثم صعدت إلى السطح فرميت الجيران فجاءوا.. ثم تطول القصة ولكن من أبرز ما فيها قول أبي وداعة، إنني حين دخلت وجدت أجمل الناس وأحفظهم لكتاب الله وأعرفهم بحق الزوج، فمكثت شهرا لا يأتيني ولا آتيه، ثم عدت إليه فوجه إليّ بعشرين ألف درهم!(12/64)
وهكذا يكون العلماء الأمراء، وهذا ما يصنع العلم النافع في النفوس الخصبة والقلوب الكريمة، فانظر ماذا ترى!
اللهم وفقنا للانتفاع وجنبنا الجهل والانحراف، يالله يا عظيم يا كريم.
أهم المراجع:
طبقات ابن سعد.
تهذيب التهذيب لابن حجر.
إحياء العلوم للغزالي.
صفوة الصفوة لابن الجوزي.
التبصرة والتذكرة للعراقي.
التدريب للسيوطي.
حلية الأولياء لأبي نعيم.
فتحث المغيث للسخاوي.
تراجم إسلامية لمحمود النواوي.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] كلا هذين أدرك الجاهلية والإسلام، فأسلما على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولكنهما لم يلقاه.
[2] كان إماما جليلا لقب بأنه شيخ إقليم فارس، قال السلمي إنه صنف من الكتب ما لم يصنفه أحد، توفي سنة 371.
[3] أويس بن عامر القرني بفتحهما، قال شيخ الإسلام في تهذيب التهذيب: إنه سيد التابعين، روى له مسلم ومات مقتولا بصفين.
[4] انظر شرح الحافظ السخاوي للألفية 145/2.
[5] الحديث المرسل عند جمهور المحدثين هو ما يرويه التابعي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يخصه بالتابعي الكبير من أمثال سعيد والحسن البصري وابن سيرين.
[6] انظر المطولات في حجية المرسل منها علوم الحديث للحاكم، ومقدمة ابن الصلاح وشروحها، وألفية العراقي وشروحها.(12/65)
إتحاف الأحباب بما ثبت في مسألة الحجاب
بقلم الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي
المدرس بمعهد الحرم المكي
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد: فقد اطلعت على سؤال وجه إلى بعض أهل العلم يتعلق بحجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة، وقد طلب إليّ تحضير الإجابة الشافية في ضوء الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، فحررت هذه الإجابة السريعة مستعينا بالله جل وعلا الذي تتمّ به الصالحات وبكتاب الله تعالى الذي نزل به الخير والبركات، وبسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم التي تتنور بها الكائنات، وبإجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين الذين هم قدوتنا في العمل الصالح والحسنات، فما جاء فيها من الصواب فمن فضل الله تعالى، وتوفيقه، وإن كان غير ذلك فهو مني، ومن الشيطان، فأستغفر الله تعالى، وأتوب إليه جل وعلا سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(12/66)
نعم إن المرأة لها دور كبير في إفساد العالم إن خرجت عن مكانتها التي أعطاها الله تعالى، وإن فتنتها أكبر، وأشد، وأعظم من أي فتنة وقعت في الإنسانية بعد فتنة الشرك، وإنها محور أساسي للخير إن صلحت، والشر إن فسدت، وإن صلاح المجتمع الإنساني متوقف على صلاحها من النواحي الاجتماعية، وأن الأمراض الاجتماعية الفتاكة التي يعاني منها الغرب والشرق ومن لف لفهم كانت بسبب خروج المرأة عن دائرتها الأساسية ونشأتها المثالية، ولقد يحدثنا التاريخ الإنساني عن الحوادث الخطيرة التي تعرضت لها المرأة قبل الإسلام، فضاعت فيها معالمها الفكرية، والثقافية، وحريتها الكريمة، وحقوقها المشروعة، فكانت تعامل كالبهيمة العجماء لا رأي لها، ولا نظر، وإلى هذه القضية يشير الحديث النبوي الشريف وهو من حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها، قالت: "جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها، أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا"مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: "لا". ثم قال صلى الله عليه وسلم: "إنما هي أربعة أشهر، وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول"، فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشا، ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيبا، ولا شيئا، حتى تمر عليها سنة، ثم تؤتى بدابة حمار أو طير، أو شاة، فتفتض به " [1] ، فقلما تفتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره [2] .(12/67)
فهذا الحديث الشريف يصور لنا واقع المرأة المرير في الجاهلية، ومدى الإهانة التي كانت تعيش فيها، ثم أكرمها الله تعالى، وأعزها بنعمة الإسلام الخالدة، وأعطاها حقوقها المشروعة كاملة دون شطط، ولا نقص، رحمة بها، وشفقة عليها، ولأول مرة في التاريخ الإنساني الطويل نالت المرأة ما نالت من عز مفقود، واحترام متزايد، ومنزلة سامية كريمة، وكانت حال المرأة الغربية في الجاهلية أدهى وأمر من حال المرأة العربية وغيرها، ولقد سعى الأعداء جاهدين إلى إخفاء مزايا الإسلام منذ أول يوم جاء فيه يخرج الإنسانية الضائعة من ظلام دامس إلى نور الحرية الحقيقية، وإلى مبادئ عادلة، وعالية رفيعة مثالية لم تشهدها الإنسانية في جميع العصور، فوضع هؤلاء الأعداء بمكرهم الخبيث وحيلهم الماكرة، وطرقهم الملتوية تلك المناهج البالية الخبيثة في التربية والثقافة التي لم تتفق أبدا بحال من الأحوال مع فطرة الإنسان الحر الكريم، نعم تلك المناهج التي تكلم عنها مفكرو المسلمين حديثا وقديما، وعلى رأسهم الدكتور محمد إقبال المفكر الإسلامي الكبير فكشف عن خباياها، وزواياها، تكلم عنها بتفكير عميق، وإطناب مفيد، في كتبه، ورسائله، ومقالاته، ونبه الأمة الإسلامية إلى ما خططه الغرب المادي من تخطيط خطير، من السيطرة التامة على العالم الإسلامي من جميع النواحي الحساسة، نعم كانت تلك المناهج التعليمية والتربوية التي وضعها الغرب لإفساد المسلمين، وتحطيم قواهم الفكرية الإسلامية سببا أساسيا لفساد المرأة والشباب، وانحطاطهم خلقيا، واجتماعيا، وثقافيا وفكريا حملت تلك المناهج في طياتها نارا تحرق الأجسام والضمائر والقلوب في شكل خطير لا يحس به أحد إلا من عصمه الله تعالى، مما يجري في الجامعات والكليات في بلاد المسلمين وغيرها تلك الجامعات التي تسير على نظام الاختلاط بين الجنسين حيث جردت المرأة من لباسها وحيائها، وأنوثتها في ضوء هذا النظام المادي اللعين فصب عليها من(12/68)
الفساد العريض الكبير الذي لا تستحيي فيه المرأة ولا تتحشم بل تتلذذ بما غضب الله به على الأقوام السابقة أنها رزية ألا تستشعر الأمة الإسلامية بهذه النكبة السوداء التي حلت بها، وأنها سبب أساسي لفقدان قيادتها، وإمامتها على العالم كله، فو الله العظيم من هنا كان فساد المرأة كبيرا، وشرها مستطيرا وإليه أشار الحديث الصحيح كما أخرجه الإمام البخاري، ومسلم في صحيحهما والترمذي وابن ماجة في سننيهما والإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح من حديث أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تركت بعدي فتنة أضر على أمتي من النساء على الرجال" [3] ، والحديث الثاني أخرجه مسلم أيضا والإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله عز وجل مستخلفكم فيها لينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء" [4] ، ومن هنا كان اهتمام الإسلام اهتماما بالغا بالمرأة من جميع النواحي الحساسة، إذ نظم لها حياة كريمة تضمن لها الشرف الرفيع، ومنزلتها السامية، وحريتها الفكرية، ونشاطها الأصيل لا انحراف فيه، ولا ظلم، ولا عدوان، تمارس أعمالها في حقلها الخاص بعيدة عن التهم، والشكوك، ولا انحراف فيه والزيغ تقف وقفة رائعة مثالية في ميدان التوجيه والتربية الإسلامية، وتنشأ أطفالها في بيتها المبارك على الحق، والصدق، والإخلاص، والجهاد وعلى تلك المعاني السامية التي فقدها الغرب والشرق على حد سواء، وإن تلك المدارس الغربية والشرقية التي بعدت عن حقائق الدين الإسلامي العظيم لم تكن إلا خطة مدروسة مبنية على الظلم، والخيانة، والفاحشة، وكيف تنظم الغرائز الجنسية وغيرها إن لم يكن صاحبها يحمل إيمانا صادقا، وعقيدة قوية راسخة في الله سبحانه وتعالى وفي رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم تنظم الغرائز بحال من الأحوال في ضوء تلك الدراسة التربوية التي وضع مناهجها(12/69)
أفراخ اليهود والنصارى من الشيوعيين المارقين، وإن آراءهم وأفكارهم في التربية الحديثة حسب زعمهم لم تجد شيئا، ولم تحسن موقفا مترديا وقع فيه الغرب والشرق وغيرهما ممن لاحظ لهم في الرسالة السماوية الأخيرة التي أكرم الله تعالى بها الإنسانية كلها، وهي رسالة الإسلام الخالدة.
ولقد درست بعض النظريات الغربية في التربية والتي لا تستحق أن تكون موضع اهتمام وإعجاب في نظر الباحثين المسلمين ولقد درست في نفس الوقت أحوال المرأة الغربية وغيرها التي أخذت بهذه المناهج ممن تعيش بعيدة عن ضوء رسالة الإسلام فوجدت أنها فقدت كل مقومات الحياة الحرة الكريمة، فأصبحت الآن سلعة رخيصة في أيدي الظلمة الغاشمين من دعاة الزنا، والسفور، والانحلال ومن هنا يوجه السائل الكريم هذا السؤال فيقول: وما معنى قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} [5] وما معنى قوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنّ} [6] فقال: فيرى الأستاذ الشيخ أبو الأعلى المودودي أمد الله في عمره: أن المراد بالزينة هي الوجه والكفان فقط فلا يجوز أن تبدي المرأة أكثر من ذلك لمحارمها، على حين أن الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى يرى أنه لا بأس على المرأة أن يبدو منها ما عدا (ما بين السرة إلى الركبة للمحارم) فما هو الراجح الذي تؤيده الأدلة القوية، ويشهد له الواقع، والذي يجب على المسلم أن يعتمده، أرجو الإجابة الوافية ما وسعكم التفصيل، والاستدلال؟(12/70)
قلت: لم يحسن السائل الكريم في توجيه سؤاله، بل لم يفهم ما قاله الأستاذ المودودي، وكان عليه أن يوجه السؤال هكذا: ما المراد بالزينة الواردة في قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} وما المراد من لفظة {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فقد ذهب الأستاذ المودودي إلى أن المراد من هذه اللفظة الوجه والكفين فجاز للمرأة أن تكشفهما أمام الأجانب، وقال السيد قطب رحمه الله تعالى: لا بأس بإظهار المرأة أمام المحارم كل شيء ما عدا ما بين السرة إلى الركبة، أجيبوني بالتفصيل والاستدلال؟ وبينوا لي ما حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة؟(12/71)
ج- نعم قال ذلك الأستاذ المودودي في كتابه تفسير سورة النور، إذ قال: فعورتها (أي المرأة) للرجال جميع بدنها إلا الوجه والكفين، واستدل على ذلك بقوله: فعن عائشة رضي الله تعالى عنها "أن أختها أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: "يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفيه"، رواه أبو داود مرسلا، وقد نقل ابن جرير في تفسيره رواية في هذا المعنى عن عائشة رضي الله تعالى عنها، تقول فيها: دخلت علي ابنة أخي لأمي عبد الله بن الطفيل مزينة فدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فأعرض عنها ثم ذكر الحديث كما جاء في حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما [7] . قلت: وقد رجع الأستاذ المودودي في كتابه ((الحجاب)) عن هذا الرأي إلا أن دليل رجوعه لم يكن قويا، لأنه لم يكن عن طريق النصوص بل كان عن طريق الفهم والاستنباط وواقع الناس، فلم يكن - كما قلت - قويا في نظر من يشتغل بالحديث النبوي الشريف ولذلك رد عليه العلامة المحدث شيخنا الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في كتابه ((حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة)) ، ولا طائل بنقل رده عليه وإنما بيان هذه المسألة في ضوء الكتاب والسنة دون أن أكون وسطا بين الراد والمردود عليه، ولكل واحد منهما جهود مباركة ومساع حميدة في الدعوة إلى الله تعالى فجزاهما الله تعالى عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.(12/72)
نعم رواية أبي داوود هذه المشار إليها أخرجها الإمام أبو داوود في سننه تحت باب (فيما تبدي المرأة من زينتها) ثم ساق الإسناد بقوله حدثنا يعقوب بن كعب الأنطاكي، ومؤمل بن الفضل الحراني، قالا: أخبرنا الوليد، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن خالد قال يعقوب بن الفضل الحراني، قالا: أخبرنا الوليد، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن خالد، قال يعقوب بن دريك عن عائشة، ثم ذكر الحديث بطوله الذي نقله الشيخ أبو الأعلى المودودي في كتابه، وقال الإمام أبو داوود في نهاية الحديث هذا مرسل، خالد بن دريك لم يدرك عائشة [8] .(12/73)
وقال صاحب العون: والحديث فيه دلالة على أنه ليس الوجه والكفان من العورة فيجوز للأجنبي أن ينظر إلى وجه المرأة الأجنبية، وكفيها عند أمن الفتنة مما تدعو الشهوة إليه من جماع أو ما دونه، أما عند خوف الفتنة فظاهر إطلاق الآية والحديث عدم اشتراط الحاجة، ويدل على تقييده بالحاجة اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه لا سيما عند كثرة الفساق قاله ابن رسلان، ويدل على أن الوجه والكفين ليستا من العورة قوله تعالى: في سورة النور {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ، قال في تفسير الجلالين وهو يعني ما ظهر منها الوجه والكفان، فيجوز نظره لأجنبي، إن لم يخف فتنة في أحد الوجهين والثاني يحرم لأنه مظنة الفتنة، ورجح حسما للباب انتهى- وقد جاء تفسير قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} بالوجه والكفين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أخرجه ابن أبي حاتم، والبيهقي، وأخرجه إسماعيل القاضي عن ابن عباس مرفوعا بسند جيد، قال المنذري: في إسناده سعيد بن بشير أبو عبد الرحمن النصري، نزيل دمشق مولى بني نصر، وقد تكلم فيه غير واحد، وذكر الحافظ أبو بكر أحمد الجرجاني هذا الحديث وقال: لا أعلم رواه عن قتادة غير سعيد بن بشير، وقال مرة فيه عن خالد بن دريك عن أم سلمة بدل عائشة. انتهى كلام صاحب العون بلفظه.
قال العبد الفقير: أخرج هذا الحديث الإمام البيهقي في السنن الكبرى من هذا الوجه في موضعين [9] ونقل الإمام البيهقي إرساله عن الإمام أبي داوود، وأورده الإمام ابن كثير في تفسيره [10] وقال في نهاية الحديث قال أبو داوود، وأبو حاتم الرازي هو مرسل خالد ابن دريك لم يسمع من عائشة رضي الله تعالى عنها. والله أعلم أهـ.(12/74)
قلت: قال الحافظ صلاح الدين العلائي: قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي خالد ابن دريك لم يسمع من عائشة، وحديثه في أبي داوود ثم ذكر الحديث [11] وقد أخرجه الحافظ عبد الحق الإشبيلي من هذا الوجه [12] ، وقال الحافظ في ترجمة خالد بن دريك أنه لم يدرك عائشة [13] .
قلت: في إسناده علة أخرى قادحة وهي أن سعيد بن بشير منكر الحديث، قال الإمام الذهبي: سعيد بن بشير صاحب قتادة سكن دمشق وحدث عن قتادة، والزهري، وجماعة وعنه أبو مسهر، وأبو الجماهير، قال أبو مسهر لم يكن في بلدنا أحفظ منه، وهو منكر الحديث، قال البخاري يتكلمون في حفظه، قال عثمان عن ابن معين ضعيف، وقال العباس عن ابن معين ليس بشيء، قال الفلاس: حدثنا عنه ابن مهدي، ثم تركه، وقال النسائي: ضعيف، وقال عبد الله بن نمير يروي عن قتادة المنكرات، وذكره أبو زرعة في الضعفاء، وقال: لا يحتج به وكذا قال أبو حاتم [14] .(12/75)
قلت: هذه الرواية لا تصلح أن تكون صالحة للمتابعات والشواهد فضلا عن أن تكون حجة عند أهل الحديث فكيف تكون فيه دلالة على أنه ليس الوجه والكفان من العورة وحال إسنادها كما ذكر وإن إسنادها عند ابن أبي حاتم في تفسيره وكذا البيهقي في سننه وإسماعيل القاضي في بعض كتبه وكذا الحافظ أبو بكر أحمد الجرجاني في كتابه الكامل في ترجمة سعيد بن بشير دائر على سعيد بن بشير أبي عبد الرحمن النصري وهو منكر الحديث، وضعيف عند ابن معين، والنسائي، وأبي زرعة وعند أبي حاتم الرازي فكيف يكون إسنادهما جيدا مع نقل صاحب العون كلام المنذري في الراوي المذكور وهو سعيد بن بشير؟ فاستدلال الأستاذ المودودي حفظه الله تعالى من هذه الرواية ليس في موضعه كما نقلت لك حال الراوي، وكذا إرسال خالد بن دريك عن عائشة رضي الله تعالى عنها فيكون إسناد هذا الحديث ضعيفا جدا مع إرساله، راجع المراجع الآتية في ترجمة سعيد بن بشير - الكامل لابن عدي، ديوان الضعفاء والمتروكين للإمام الذهبي، كتاب الضعفاء للعقيلي، ولابن الجوزي، والمجروحين لابن حبان، وكتاب الضعفاء للنسائي والتاريخ الكبير للإمام البخاري رحمه الله تعالى، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم الرازي وغيرها من كتب الرجال حتى تقف على حقيقة الرجل والله هو المستعان.
وأما الحديث الذي أشار إليه الأستاذ المودودي بقوله وقد نقل ابن جرير الطبري في تفسيره رواية في هذا المعنى عن عائشة.. فنعم فقد رواه ابن جرير الطبري في تفسيره إذ قال رحمه الله تعالى: حدثنا القاسم حدثنا الحسين، قال ثني حجاج عن ابن جريج، قال: قالت عائشة رضي الله تعالى عنها، دخلت عليّ ابنة أخي لأمي عبد الله بن الطفيل مزينة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنها ثم ذكر الحديث نحو حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما [15] .
قلت: إسناده ضعيف جدا لثلاث علل خطيرة.(12/76)
1-ضعف الحسين، واسمه سنيد بن داود المصيصي المحتسب قال الحافظ: سنيد بنون، ثم دال مصغرا، ابن داؤد المصيصي المحتسب، اسمه حسين ضعيف مع إمامته ومعرفته لكونه كان يلقن شيخه حجاج بن محمد من العاشرة [16] .
قال الإمام الذهبي: قال أبو داود لم يكن بذاك، وقال النسائي: الحسين بن داؤد ليس بثقة وأورده الذهبي في كتابه ديوان الضعفاء والمتروكين، وقال ضعفه أبو داود [17] .
2-والعلة الثانية: ضعف حجاج بن محمد الأعور المصيصي، واختلاطه، اختلاطا فاحشا، قال الإمام الذهبي: قال إبراهيم الحربي: لم قدم حجاج بغداد آخر مرة اختلط فرآه ابن معين يخلط، وقال لابنه: لا يدخل عليه أحد ولذا كان تلميذه سنيد بن داؤد يلقنه [18] كما في التقريب والتهذيب، وكتاب الاغتباط بمن رمي بالاختلاط للإمام ابن سبط العجمي خ.
3-العلة الثالثة: انقطاع هذه الرواية لأن ابن جريج الذي هو عبد الملك بن جريج المتوفى بعد المائة وخمسين لم يدرك عائشة رضي الله عنها، ومع أنه متهم بتدليس التسوية الذي هو من أشر أنواع التدليس، ولذلك قال الإمام الدارقطني فيما نقل عنه الحافظ في التهذيب: تجنب تدليس ابن جريج فإنه قبيح التدليس لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح [19] ، وقال الإمام الحافظ صلاح الدين العلائي ذكر ابن المديني أنه لم يلق أحدا من الصحابة، ثم ذكر العلائي إرساله عن جملة كبيرة من التابعين [20] .(12/77)
قلت: هاتان الروايتان ليستا صالحتين للمتابعات والشواهد فضلا عن أن تكونا حجة ولو كانتا صحيحتي الإسناد لكانتا شاذتين غير محفوظتين فكيف الحال بما ذكر من إسنادهما، وليس هناك حديث صحيح مرفوع في هذا المعنى إلا ما جاء عن عبد الله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في أثر أخرجه الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره [21] والبيهقي في السنن الكبرى [22] قال الإمام ابن جرير الطبري: حدثنا أبو كريب قال: ثنا مروان، قال ثنا مسلم الملائي، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: الكحل، والخاتم.
قلت: إسناده ضعيف جدا، بل هو منكر، قال الإمام الذهبي: مسلم بن كيسان أبو عبد الله الضبي الكوفي الملائي الأعور، عن أنس وإبراهيم النخعي، وقال الإمام الحافظ أبو الحجاج المزي في ترجمة مسلم بن كيسان الملائي روى عن سعيد بن جبير وهو يروي في هذا الإسناد عن سعيد بن جبير [23] ثم قال الإمام الذهبي في ترجمته عنه الثوري، وأبو وكيع الجراح بن مليح، قال الفلاس: متروك الحديث، وقال أحمد: لا يكتب حديثه، وقال يحي: ليس بثقة، وقال البخاري: يتكلمون فيه، وقال يحي أيضا: زعموا أنه اختلط، وقال يحي القطان، حدثني حفص بن غياث قال: قلت لمسلم الملائي عمن سمعت هذا؟
قال عن إبراهيم عن علقمة، قلنا علقمة عمن؟ قال عن عبد الله، قلنا عبد الله عمن؟ قال: عن عائشة وقال النسائي: متروك الحديث [24] وقلت: هذا الإسناد ساقط لا يصلح للمتابعات والشواهد كما لا يخفي هذا على أهل هذا الفن الشريف.(12/78)
وقال الإمام الحافظ البيهقي في السنن الكبرى: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا حفص بن غياث عن عبد الله بن مسلم بن هرمز، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: ما في الكف والوجه [25] .
قلت: إسناده مظلم ضعيف لضعف راويين هما أحمد بن عبد الجبار العطاردي قال الإمام الذهبي: أحمد بن عبد الجبار العطاردي روى عن أبي بكر بن عياش وطبقته، ضعفه غير واحد، قال ابن عدي رأيتهم مجمعين على ضعفه، ولا أرى له حديثا منكرا، إنما ضعفوه لأنه لم يلق الذين يحدث عنهم، وقال مطين: كان يكذب، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي وقال ابنه عبد الرحمن كتبت عنه، وأمسكت عن التحديث عنه لما تكلم الناس فيه، وقال ابن عدي كان ابن عقدة لا يحدث عنه، وذكر أن عنده قمطرا على أنه كان لا يتورع أن يحدث عن كل أحد، مات سنة 272هـ[26] .
وقال الحافظ في التقريب: ضعيف [27] ، وكذا يوجد في هذا الإسناد عند الإمام البيهقي: عبد الله بن مسلم بن هرمز المكي عن مجاهد وغيره قال الحافظ الذهبي: ضعفه ابن معين، وقال: وكان يرفع أشياء، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي وقال ابن المديني: كان ضعيفا ضعيفا (مرتين) عندنا، وقال أيضا ضعيف.
وكذا ضعفه النسائي [28] ، وقال الحافظ في التقريب ضعيف [29] .(12/79)
قلت: هذان الإسنادان ساء حالهما إلى حد بعيد لا يحتج بهما، ولا يكتبان، وهناك أسانيد أخرى لا تقل درجتهما في الضعف والنكارة وبذلك يمكن أن يقال إن هذه النسبة غير صحيحة إلى عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، ولو صح الإسناد إليه لما كان فيه حجة عند علماء أهل الحديث، فكيف في هذه الحال، وقد صحت الأسانيد إلى عم المصطفى صلى الله عليه وسلم وإلى غيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم عكس هذا المعنى الذي رواه ابن جرير الطبري في تفسيره، والبيهقي في سننه، وكذا ابن أبي حاتم في تفسيره وزد على ذلك ما ثبت بأسانيد صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سوف يأتي مفصلا من أمره صلى الله عليه وسلم بالحجاب، والستر.
وإليكم أولا ما جاء عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ومنهم عبد الله ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أخرج ابن جرير الطبري في تفسيره إذ قال رحمه الله تعالى: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني الثوري، عن أبي إسحاق الهمذاني عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: الثياب [30] .
قلت: إسناده في غاية الصحة وأورد هذا الأثر الإمام ابن كثير في تفسيره [31] ثم ساق الإمام ابن جرير الطبري إسنادا آخر بقوله: حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا عبد الرحمن: سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله مثله.(12/80)
وقال الإمام السيوطي: أخرج ابن جرير الطبري، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال: الزينة الظاهرة ((الوجه والكفان)) وكحل العينين، ثم قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فهذا تظهره في بيتها لمن دخل عليها، ثم لا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن، أو آبائهن الآية، ثم قال رضي الله تعالى عنه: والزينة التي تبديها لهؤلاء قرطاها، وقلادتها وسوارها، وأما خلخالها، ومعضدها، نحرها، وشعرها فإنها لا تبديه إلا لزوجها [32] .
قلت: رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذه قد اطلعت على إسنادها عند ابن جرير الطبري في تفسيره ورجالها كلهم ثقات إلا أنها منقطعة لأن فيها علي بن أبي طلحة المتوفى سنة 143هـ يروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ولم يلقه والواسطة بينهما هو مجاهد بن جبر المكي وهو إمام كبير ثقة ثبت كما لا يخفى على أحد، وقد احتج بهذه الرواية، أعني رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما البخاري في الجامع الصحيح إذ أوردها في مواضع عديدة من كتاب التفسير معلقة وإن كانت ليست على شرطه في الجامع الصحيح قال ذلك الحافظ في التهذيب340-7.(12/81)
وقال الإمام المزي في تهذيب الكمال 488-5 مشيرا إلى رواية التفسير هذه ((في ترجمة علي بن أبي طلحة هو مرسل عن ابن عباس وبينهما مجاهد)) واعتمد على هذه الرواية علامة الشام محمد جمال الدين القاسمي في تفسيره 4909-63 والإمام القرطبي في تفسيره 243-14 وكذلك الإمام ابن كثير في تفسيره في مواضع عديدة فكانت قوية ومحتجا بها عند علماء التفسير وغيرهم، وإن ظاهر القرآن والسنة وآثار الصحابة والتابعين تؤيدها فليعتمد عليها ويستأنس بها، قال الله تعالى في سورة الأحزاب في حق أمهات المؤمنين {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} ، وقال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: وكما نهيتكم عن الدخول عليهن، وكذلك لا تنظروا إليهن بالكلية وإن كان لأحدكم حاجة يريد تناولها منهن فلا ينظر إليهن.(12/82)
قلت: وهذا الحكم عام لجميع المسلمات المؤمنات دون تخصيص أمهات المؤمنين به، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُم} الآية، ثم قال جل وعلا: {قُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ} ، وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} ، ولقد عرفنا إن شاء الله تعالى خلال سرد هذه الآيات الكريمات أن الحكم عام لا يختص بأمهات المؤمنين كما نص القرآن الكريم، ولقد أخطأ العلامة القاضي عياض في كتابه ((الشفا في حقوق المصطفى)) إذ قال رحمه الله تعالى: إن هذا الحكم خاص بأمهات المؤمنين وقد رد عليه الحافظ في الفتح إذ قال: قال القاضي عياض: فرض الحجاب مما اختصصن به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها، ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه ضرورة من براز الخ… فرد عليه الحافظ إذ قال: وليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه، ثم أطال الحافظ الكلام على القاضي عياض [33] .
قلت: دعوى الاختصاص لم تدعم بدليل من الكتاب والسنة، بل ظاهر الكتاب والسنة يخالفانها كما سبق.(12/83)
قال العلامة ابن كثير مفسرا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ…} الآية قال: الجلباب هو الرداء فوق الخمار، قاله ابن مسعود، وعبيدة السلماني، وقتادة، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وعطاء الخراساني، وغير واحد وهو بمنزلة الإزار اليوم اهـ، قلت: تلبسه اليوم النساء المورتانيات وبعض السودانيات، ثم قال: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة، وقال محمد بن سيرين سألت عبيدة السلماني عن قول الله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنّ} فغطى وجهه، ورأسه، وأبرز عينه اليسرى أهـ.
أورد هذا الأثر السيوطي في المنثور 221-5 وقال: أخرجه الفريابي، وعبد ابن حميد، وابن جرير الطبري، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين.(12/84)
قلت: أخرجه ابن جرير في التفسير إذ قال: حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن ابن عوف، عن محمد، عن عبيدة، ثم ذكر الأثر بطوله [34] . قلت: رجال إسناده كلهم ثقات: يعقوب هو ابن إبراهيم الدورقي ثقة، ابن علية هو إسماعيل بن علية إمام كبير ثقة، وابن عوف هو عبد الله بن عوف المزني أحد الأعلام ثقة ثبت، ومحمد هو محمد بن سيرين أحد الأعلام التابعين، وعبيدة هو السلماني إمام ثقة زاهد، فكان هذا الإسناد صحيحا وليس بينهم انقطاع كما لا يخفي على من له علم بأسماء الرجال، ولا يخفى على أحد أيضا منزلة عبيدة السلماني العلمية إذ هو علم من الأعلام التابعين الكبار، ومخضرم ثقة، ثبت، قال الحافظ في التهذيب: كان شريح القاضي إذا أشكل عليه شيء من أمر دينه سأله، ورجع إليه، قال الإمام الذهبي: عبيدة بن عمرو السلماني المرادي، الكوفي، الفقيه العلم، كاد أن يكون صحابيا، أسلم زمن الفتح باليمن، وأخذ العلم عن علي، وابن مسعود، قال الشعبي: كان يوازي شريحا في القضاء، وقال العجلي: عبيدة أحد أصحاب عبد الله بن مسعود الذين يقرءون، ويفتون الناس، وقال ابن سيرين: ما رأيت رجلا أشد توقيا من عبيدة، وكان مكثرا عنه [35] ، ومجد شأنه الحافظ المزي في تهذيب الكمال، ورفع منزلته فليرجع إليه من شاء، فهو إمام كبير، يأتي تفسيره هذا موافقا لكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقال الإمام علي بن حزم الأندلسي: الجلباب في لغة العرب التي خاطبنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما غطى جميع الجسم لا بعضه [36] ، وصححه القرطبي في تفسيره، فالعاقل اللبيب يفهم أثناء نظرته في هاتين الآيتين الكريمتين ما أمر الله تعالى به المؤمنين، والمؤمنات من الستر والغطاء، وخاصة أمهات المؤمنين لشدة حرمتهن، وشرفهن وعظمتهن، لكونهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم.(12/85)
وقال جل وعلا: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} نهاهن جل وعلا بضرب الأرجل على الأرض بالشدة، لئلا يسمع صوت الخلاخيل التي في أرجلهن خوفا على شرفهن، وسدا للذرائع، ومنعا لوقوع الفاحشة، فهذا غاية في الصون والحفظ، فإذا كان صوت الخلاخيل ممنوعا بهذا النص الكريم فكيف يجوز للمسلم أن يقول أن الوجه والكفين ليستا من العورة جاز كشفهما أمام الأجانب اعتمادا على تلك الروايات الضعيفة المنكرة والتي لم تصح أسانيدها.
أخرج البخاري ومسلم في صحيحهما والإمام أحمد في مسنده، وابن جرير الطبري في تفسيره، وابن سعد في الطبقات الكبرى، والإمام البيهقي في السنن الكبرى عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت عائشة خرجت سودة بنت زمعة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فقال: يا سودة أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين؟ قالت: فانكفأت راجعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وإنه ليتعشى، وفي يده عرق (هو العظم إذا أخذ منه معظم اللحم) ، فدخلت، فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا، وكذا قالت: فأوحى الله إليه، ثم رفع عنه، وإن العرق في يده، ما وضعه فقال: "إنه أذن لكم أن تخرجن لحاجتكن الحديث".(12/86)
قلت: الشاهد معروف من هذا الحديث وهو أن عمر رضي الله تعالى عنه لم يعرف سودة من وجهها وكفيها، وإنما عرفها من جسامة جسمها فدل على أنها كانت مستورة الوجه والكفين وهذا هو معنى الحجاب أعني تغطية الوجه والكفين وسائر الجسم، وإذا لم يكن هذا المعنى مرادا فماذا كانوا يغطون قبل نزول الحجاب، وهذا أمر في غاية الوضوح والبيان، إذا لم تكن سودة بنت زمعة رضي الله تعالى عنها مستورة الوجه عند خروجها من بيت النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يقال في حقها وحق غيرها من أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن أنهن امتثلن الأمر الإلهي بالحجاب، ومع العلم أن ستر الوجه والكفين له أصل في السنة النبوية وقد كان ذلك معهودا في زمنه صلى الله عليه وسلم كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تتنقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين" والحديث أخرجه البخاري، والنسائي والإمام أحمد في مسنده، والبيهقي في سننه الكبرى، من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا، وحديث آخر، أخرجه البخاري، ومسلم، والإمام أحمد في المسند، وابن جرير الطبري في تفسيره من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها في حديث الإفك، قالت: فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان ابن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج، فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني، فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه (أي قال إنا لله وإنا إليه راجعون) حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي الحديث…(12/87)
قلت: في هذا الحديث شاهد قوي، ودليل واضح على أن الوجه عورة ولذا خمرت وجهها الصديقة بنت الصديق رضي الله تعالى عنهما، ونحو هذا الحديث ما أخرجه الإمام أحمد في المسند، والبيهقي في السنن الكبرى، وأبو داوود في السنن بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان الركبان يمرون بنا، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزناه كشفناه، وكذا حديث أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنها قالت: كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل الإحرام، وقال الحاكم على شرط الشيخين، قال العبد الفقير: وفي الباب أحاديث كثيرة وهي صحيحة الإسناد يجب العمل بها، دون الأحاديث التي مر ذكرها، وهي ضعيفة منكرة ولا يجوز التمسك بها، ولو كانت صحيحة الإسناد لم تكن بحجة، فكيف بهذه الحال كما ذكر آنفا، وهناك حديث صحيح الإسناد أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في السنن وصححه، وكذا الدارمي في سننه قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، ثنا ليث، حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والدخول على النساء"، فقال رجل من الأنصار يا رسول الله: أفرأيت الحمو قال: "الحمو الموت" انظر المسند 149-4 و153-4، فالحديث فيه دلالة واضحة على أنه لا يجوز دخول الأجنبي على الأجنبية وكذا قريب الزوج من أخ، وعم ونحو ذلك، وفي رواية لمسلم في الصحيح عن أبي الطاهر عن ابن وهب، قال: سمعت الليث يقول: الحمو أخو الزوج، وما أشبهه من أقارب الزوج وابن العم ونحوه، وفي الحديث تغليظ شديد، وتنبيه خطير، من الدخول على النساء، وقال الإمام ابن الأثير في النهاية 448-1: لا يخلون رجل بأجنبية، وإن قيل حموها، ألآ حموها الموت، أحد الأحماء، أقارب الزوج، والمعنى فيه، أنه إذا كان رأيه هذا في أخي الزوج، وما(12/88)
شابهه وهو قريب، فكيف بالغريب، أي فلتمت، ولا تفعل ذلك، وهذه الكلمة تقولها العرب كما تقول الأسد، والسلطان، والنار أي لقاءهما مثل الموت، والنار يعني أن خلوة ابن عم الزوج معها أشد من خلوة غيره من الغرباء، لأنه ربما حسن لها أشياء، حملها على أمور تثقل على الزوج من التماس ما ليس في وسعه، أو سوء عشرته، أو غير ذلك اهـ.
قلت: فإذا كان الوجه والكفان ليستا من العورة، وجاز للنساء كشفهما أمام الأجانب، فلماذا هذا التشديد في هذه الأحاديث الصحيحة، ولماذا هذا التناقض بين تلك الأحاديث، وقد سبق أن قلت: تلك الأحاديث غير صحيحة، فلا يجوز أن يقال إنها متعارضة مع هذه الأحاديث الصحيحة التي فيها التغليظ الشديد، والتحريم الموثق، فلو كانت تلك الأحاديث والآثار التي يستدل بها بعض الناس على جواز كشف الوجه والكفين صحيحة الإسناد لكانت شاذة غير محفوظة في أنظار أهل الحديث، فكيف هي ضعيفة منكرة، فلا يحتج بها بحال من الأحوال، فلا ينبغي أن يقال: بعد هذا النقل أن الوجه والكفين ليستا من العورة استنادا على قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه الذي سبق بيانه من ناحية الإسناد، وأما حديث الخثعمية الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والبخاري ومسلم في صحيحهما من حديث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وكذا من حديث الفضل بن عباس وغيرهما من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في حديثه عند الإمام أحمد في مسنده.. واستفتته جارية شابة من خثعم، فقالت إن أبي شيخ كبير قد أفند، وقد أدركته فريضة الله في الحج، فهل يجزئ عنه أن أؤدي عنه، قال: "فأدي عن أبيك"، قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: "ولوى عنق الفضل فقال له العباس: يا رسول الله لم لويت عنق ابن عمك؟ قال: رأيت شابا، وشابة فلم آمن الشيطان عليهما"، ثم ذكر بقية الحديث.(12/89)
قلت: لا حجة في الحديث للذين يقولون بجواز كشف الوجه، والكفين لأنه صلى الله عليه وسلم أنكر على الفضل بن عباس إنكارا باتا، بأن لوى عنقه، وصرفه إلى جهة أخرى، وكان في هذا الصنيع من رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكار واضح لأنه أنكر باليد، وقال الحافظ في الفتح 68-4: مشيرا إلى هذا الحديث، ويقرب ذلك ما رواه الحافظ أبو يعلي بإسناد قوي من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه عن الفضل بن عباس: قال: "كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم، وأعرابي معه بنت له حسناء فجعل الأعرابي يعرضها لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يتزوجها وجعلت ألتفت إليها ويأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأسي فيلويه، فكان يلبي حتى رمى جمرة العقبة"ثم قال الحافظ: فعلى قول الشابة إن أبي، لعلها أرادت جدها لأن أباها كان معها، وكأنه أمرها أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم ليسمع كلامها، ويراها رجاء أن يتزوجها ثم قال الحافظ 70-4: وفي الحديث منع النظر إلى الأجنبيات، وغض البصر، وقال عياض: وزعم بعضهم أنه غير واجب إلا عند خشية الفتنة، قال: وعندي أن فعله صلى الله عليه وسلم إذ غطى وجه الفضل أبلغ من القول اهـ.
ثم قال الحافظ: روى أحمد، وابن خزيمة من وجه آخر عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: للفضل حين غطى وجهه هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره، ولسانه غفر له اهـ.(12/90)
قلت: هناك حديث آخر أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وأصحاب السنن الأربعة بإسناد صحيح فال الإمام الترمذي باب ما جاء في احتجاب النساء عن الرجال، ثم قال: حدثنا سويد، عبد الله نا يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن نبهان مولى أم سلمة، أنه حدثه أن أم سلمة حدثته، "أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وميمونة، قالت فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم، فدخل عليه، وذلك بعد ما أمرنا بالحجاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احتجبا منه"، فقلت: يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا، ولا يعرفنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟ " قال الإمام الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
قلت: إسناده حسن، ونبهان هو المخزومي مولى أم سلمة، قال الحافظ في الفتح بعد أن ذكر هذا الحديث: أخرجه أصحاب السنن من رواية الزهري عن نبهان مولى أم سلمة عنها، وإسناده قوي، وأكثر ما علل به انفراد الزهري بالرواية عن نبهان، وليست بعلة قادحة، فإن من يعرفه الزهري، ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة ولم يجرحه أحد، لا ترد روايته [37] ، ونقله العلامة المباركفوري في تحفة الأحوذي [38] وأيده، وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى [39] .(12/91)
قال الحافظ في التهذيب: نبهان المخزومي، أبو يحي المدني، مولى أم سلمة، ومكاتبها روى عنها، وعنه الزهري، ومحمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، ذكره ابن حبان في الثقات وقال الإمام المزي في تهذيب الكمال 703-8: نبهان القرشي المخزومي، أبو يحي المدني مولى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ذكره ابن حبان في الثقات، ثم ساق إسناده الطويل إلى أم سلمة، ثم ذكر هذا الحديث، وحديثا آخر وهو أيضا من حديث أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان لأحدكم مكاتب، وكان عنده ما يؤدي عنه فلتحتجب عنه" أخرجوه من حديث سفيان بن عيينة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وأخرجه النسائي من وجوه أخرى انتهى كلام الإمام المزي.
قلت: يرى الإمام المزي رحمه الله تعالى كما علمت من سياق كلامه أنه يحتج بهذه الأحاديث التي رواها في ترجمة نبهان المخزومي، ويرى أن نبهان مولى أم سلمة وإن كان لم يوثق من أحد من أئمة الجرح والتعديل فهو ممن يحتج بحديثه في هذا الباب، كما نقل عن النسائي بأنه أخرج حديثه الثاني في الحجاب من وجوه أخرى، وقال الإمام الذهبي في كتاب الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة في ترجمة نبهان، عن مولاته أم سلمة وعنه الزهري، ومحمد بن عبد الرحمن ثقة.
وحديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها هذا أورده الإمام ابن كثير في تفسيره [40] وقال: واحتج به كثير منهم على معناه.(12/92)
وأخرجه ابن حبان في صحيحه [41] ، قلت: هو حديث حسن إسناده، وفيه حكم صريح بالحجاب لأمهات المؤمنين، ولا يختص الحكم بهن كما سبق، وأما حديث الخثعمية فليس على إطلاقه، وإن صح مدلوله على حسب رأى بعض أهل العلم بل يحمل عليه حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها، وهو حديث يؤيده ظاهر القرآن والأحاديث الأخرى الصحيحة، قال الإمام أبو داود في نهاية الحديث:أعني حديث نبهان عن مولاته أم سلمة رضي الله تعالى عنها وهذا لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، ألا ترى إلى اعتداد فاطمة بنت قيس عند ابن أم مكتوم، قد قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: "اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده" اهـ.
قلت: هذا قول ابن قتيبة الإمام في كتابه ((تأويل مختلف الحديث)) [42] والذي تأثر منه الإمام داود رحمه الله تعالى، وليس في حديث فاطمة بنت قيس رضي الله تعالى عنها لفظ يدل على جواز نظر فاطمة بنت قيس رضي الله تعالى عنها أثناء إقامتها عند ابن أم مكتوم فالحديث أخرجه الإمام مسلم في الصحيح وكذا أبو داوود والترمذي، والنسائي في سننهم، ومالك في موطئه، وابن الجارود في المنتقى والإمام أحمد في مسنده بسياق طويل [43] ، وأورده الحافظ في التلخيص برقم 1493 فإني لم أطلع على لفظ يدل على الخصوصية، وقال صاحب العون [44] هكذا جمع المؤلف أبو داوود بين الأحاديث، وقال حديث أم سلمة مختص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وحديث فاطمة بنت قيس لجميع الناس هكذا جمع المؤلف أبو داود بين الأحاديث.(12/93)
قال الحافظ في التلخيص قلت: وهذا جمع حسن وبه جمع المنذري في حواشيه، واستحسنه شيخنا، قلت: لا يعارضون في تصحيح إسناد حديث نبهان، وإنما ادعوا فيه دعوى الخصوصية لأمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن وهذه الدعوى قد تكون معارضة، لأنها -كما قلت - تخلو من وجود ألفاظ فيها معنى الخصوصية، قال الإمام النووي في شرح مسلم ردا على هذه الدعوى [45] ، وقد احتج بعض الناس بهذا على جواز نظر المرأة إلى الأجنبي بخلاف نظره إليها، وهذا قول ضعيف، بل الصحيح الذي عليه جمهور العلماء، وأكثر الصحابة أنه يحرم على المرأة النظر إلى الأجنبي كما يحرم عليه النظر إليها لقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} ، {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِن} ولأن الفتنة مشتركة، وكما يخاف الافتتان به، ويدل عليه من السنة حديث نبهان مولى أم سلمة ثم ذكر الحديث بطوله وصححه، ثم قال الإمام النووي، وأما حديث فاطمة بنت قيس مع ابن أم مكتوم فليس فيه أذن لها في النظر إليه بل فيه أنها تأمن عنده من نظر غيرها، وهي مأمورة بغض بصرها فيمكنها الاحتراز من النظر إليه بلا مشقة بخلاف مكثها في بيت أم شريك. انتهى كلام النووي ثم نقل هذا الكلام العلامة المحدث المباركفوري في تحفة الأحوذي [46] النسخة الهندية وأيده وتكلم على الحديث الشوكاني في النيل [47] أعني حديث نبهان إذ قال: باب نظر المرأة إلى الرجل ثم قال: لأن النساء أحد نوعي الآدميين فحرم عليهن النظر إلى النوع الآخر قياسا على الرجال، ويحققه أن المعنى المحرم للنظر هو خوف الفتنة وهذا في المرأة أبلغ، فإنها أشد شهوة، وأقل عقلا فتسارع إليها الفتنة أكثر من الرجل، قلت: الشريعة عامة شاملة لجميع الأمة دون تخصيص بأحد الناس، أو قبيلة من القبائل.(12/94)
وقال الإمام الترمذي في الجامع: باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة، ثم قال: حدثنا أحمد بن منيع، نا ابن أبي زائدة، ثني عاصم بن سليمان، عن بكر بن عبد الله المزني عن المغيرة بن شعبة، أنه خطب امرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "انظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما"، وفي الباب عن محمد بن مسلمة، وجابر، وأنس وأبي حميد، وأبي هريرة، ثم قال: هذا حديث حسن وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث، وقالوا: لا بأس أن ينظر إليها، ما لم ير منها محرما، وهو قول أحمد، وإسحاق، ومعنى: "أحرى أن يؤدم بينكما"، قال أحرى أن تدوم المودة بينكما [48] ، وقال العلامة المباركفوري أخرجه أحمد، والنسائي وابن ماجة والدارمي وابن حبان في الصحيح [49] ، قلت أخرج البخاري رحمه الله تعالى في الجامع نحو هذا الحديث فقد عقد بابا إذ قال: باب النظر إلى المرأة قبل التزوج، وقال الحافظ في الفتح: قال الجمهور لا بأس أن ينظر الخاطب إلى المخطوبة، قالوا ولا ينظر إلى غير وجهها وكفيها [50] .
قلت: وأما المفهوم المخالف لهذا الحديث فإنه لا يجوز لغير الخطيب أن ينظر إليها، ولا يتحقق ذلك إلا إذا كانت المرأة محجبة وأما في حالة كشف الوجه، والكفين فلا معنى لهذا الحديث بالمفهوم فهذا أيضا دليل على عدم جواز كشف الوجه، والكفين وبهذا المعنى أخرج الإمام أحمد في المسند، وابن ماجة في السنن، وابن حبان في الصحيح، والحاكم في المستدرك وصححه، وسكت عنه الحافظ الذهبي في التلخيص، قال محمد بن مسلمة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا ألقى الله عز وجل في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها".(12/95)
قلت: فهذا الإذن بهذا السياق يدل على تحريم النظر إلى الوجه والكفين لغير الخاطب فإذا كان الوجه والكفان ليستا من العورة كما قال بعض أهل العلم كابن جرير الطبري، وغيره رحمهم الله تعالى فلا يتحقق مفهوم الأمر، أو لا معنى لمفهوم أمره صلى الله عليه وسلم وهذا واضح ظاهر لمن أعطى الفهم الثاقب، والنظر الصحيح، وهناك آراء فقهية كثيرة، تجيز كشف الوجه والكفين، ولا حاجة بنقلها، قالها أصحابها اجتهادا منهم واستنباطا من بعض الأحاديث غفر الله تعالى لهم، وأكرم مثواهم، وجعل الجنة مأواهم وهم مع علمهم وفضلهم قد أخطأوا في الإصابة، فلهم أجر الاجتهاد، وخطؤهم معفو عنهم عند ربهم إن شاء الله تعالى كما صح بذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا اجتهد الحاكم الحديث.
وأما الحديث الذي أخرجه البخاري في الجامع الصحيح في خمسة عشر موضعا وكذا مسلم في العيدين، وأبو داود، والدارمي في سننيهما، والإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح من حديث جابر رضي الله تعالى عنه، قال: "شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم في يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، ثم ذكر الحديث وفيه، ثم مضى إلى النساء، ومعه بلال فأمرهن بتقوى الله تعالى، ووعظهن وحمد الله، وأثنى عليه، وحثهن على طاعته، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "تصدقن، فإن أكثركن حطب جهنم"، فقالت امرأة من سفلة النساء سفعاء الخدين: "لم يا رسول الله؟ "قال: "لأنكن ... "ثم ذكر بقية الحديث.
قال بعض أهل العلم: لو كان الوجه من العورة فكيف اطلع بلال رضي الله تعالى عنه على وجهها ثم وصف وجهها في هذا الحديث وكانت زيادة ((سفلة النساء وسفعاء الخدين)) لم يخرجها البخاري في الجامع الصحيح في خمس عشرة موضعا إلا أن مسلما وأبا داود، والدارمي والإمام أحمد في مسنده قد أخرجوها وإسنادها صحيح.(12/96)
قلت: جوابه إن شاء الله تعالى كما قال الإمام ابن الأثير في النهاية [51] : السفعة نوع من السواد وليس بالكثير، وقيل: هو سواد مع لون آخر أراد أنها بذلت نفسها، وتركت الزينة، والترفه، حتى شحب لونها، وأسود إقامة على ولدها بعد وفاة زوجها، قلت: قد تكون من القواعد اللائي قال الله تعالى في حقهن في محكم كتابه: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [52] ، أو كانت هذه القضية قبل نزول الحجاب، أو كانت هذه الامرأة أمةً كما جاء في مسند الإمام أحمد ((أنها كانت من سفلة النساء)) .(12/97)
وليس في الحديث دليل على جواز كشف الوجه للمسلمة الحرة العفيفة، ولا شبه دليل، وأما شبهة بعض الناس من أهل العلم أن الوجه والكفين لو كانتا من العورة للزم سترهما، وغطاءهما في حالة الصلاة والأمر ليس كذلك، قلت: لقد سبق أن ذكرت حديثا أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، والنسائي في السنن والإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه: "ولا تتنقب المرأة، ولا تلبس القفازين"الحديث، قلت: هذا في الحج وقد ثبت عن عائشة رضي الله تعالى عنها خلاف هذا الحكم في الحج كما أخرج الإمام أحمد في المسند، والبيهقي في السنن الكبرى، وأبو داود في السنن بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قالت: كان الركبان يمرون بنا، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزناه كشفناه، وكذا حديث أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنها، قالت: كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل الإحرام، وقال الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في التلخيص، قلت: إذا أمعنت النظر في هذه النصوص، وأنصفت فسوف يظهر لك الحق واضحا جليا إن شاء الله تعالى وهكذا الأمر والشأن في الصلاة تماما فلا ينبغي للمرأة المسلمة أن تكشف وجهها في الصلاة أمام الرجال، وأما إذا صلت مع النساء بعيدة عن الرجال فلا بأس أن تصلي وهي كاشفة الوجه والأمر في ذلك سهل ميسور بحمد الله تعالى.
وأما قول سيد قطب رحمه الله تعالى: "هؤلاء كلهم-أي الذين ذكروا في الآية- ما عدا الأزواج ليس عليهم، ولا على المرأة جناح أن يروا منها، إلى ما تحت السرة إلى الركبة، لانتفاء الفتنة التي من أجلها كان الستر والغطاء، فأما الزوج فله رؤية كل جسدها بلا استثناء" [53] .(12/98)
قلت: هذا الذي ذكره رحمه الله تعالى مع جهاده الطويل في سبيل الحق قد أخطأ فيه، وهو أنه لا يجوز لذي محرم أن يطلع من ابنته، أو أخته، أو أمه، أو خالته، أو نحوها على ساقيها أو ثدييها أو نحرها أو بطنها، بل جاز له أن ينظر إلى ما كان مكشوفا منها في اللباس الشرعي المعروف، وأما غير ذلك فهو حرام على الأب، والأخ أو نحوهما أن يطلعا وينظرا إلى ما أشار إليه السيد قطب رحمه الله تعالى فإنه قد جاز إلى ذلك نظرا للعرف المصري الذي تسير فيه المرأة المسلمة شبه عارية كما لا يخفى على أحد، وقد سبق أن ذكرت رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من طريق علي بن أبي طلحة وهي أنها تبدي قرطاها، وقلادتها، وسوارها ونحرها لمن دخل عليها في بيتها وأما خلخالها، ومعضدها، ونحرها وشعرها فإنها لا تبديه إلا لزوجها.
قلت: فالأمر فيه واضح بين إن شاء الله تعالى لمن كان له قلب واع، وفهم ثاقب، ورأي سديد، والله هو المستعان والموفق وصلى الله وسلم وبارك على عبده، ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
كتبه وحرره
العبد الضعيف عبد القادر حبيب الله السندي
في 18-6-1395هـ
وبيض مرة ثانية 19-1-96هـ.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أي تكسر ما هي فيه من العدة بأن تأخذ طائرا فتمتسح به وتنبذه فلا يكاد يعيش، قاله ابن الأثير في النهاية 454/3، نقل عنه الفيروزآبادي في القاموس هذه المادة 340/2، والحافظ في الفتح 489-490/9، والفتني في مجمع بحار الأنوار 147-148/4، والسيوطي في تنوير الحوالك 40/2، وجاء شرح هذه الكلمة في الموطأ 40/2، والنسائي في السنن نقلا عن مالك 202/6 بما قاله ابن الأثير.(12/99)
[2] أخرجه في الطلاق 47، 46 والطب 18 (الطلاق 43، وت الطلاق 18، ن الطلاق 55، 63 67، جه الطلاق 34، ط الطلاق 101، حم 292/6، 311/6) .
[3] انظر مسند الإمام أحمد 210/5، 200/5.
[4] مسلم الذكر حديث رقم 99، ومسند الإمام أحمد 22/3.
[5] النور آية رقم 31.
[6] الأحزاب آية رقم 55.
[7] تفسير سورة النور للأستاذ المودودي ص 156-157.
[8] سنن أبي داود مع العون 106/4.
[9] السنن الكبرى 182-183/2 و 86/7.
[10] تفسير ابن كثير 283/1.
[11] جامع التحصيل 363/1.
[12] الأحكام الكبرى 145/1.
[13] تهذيب التهذيب 87/3.
[14] ميزان الاعتدال 128/1.
[15] تفسير ابن جرير الطبري 119/18
[16] التقريب 335/1
[17] ميزان الاعتدال 226/2
[18] ميزان الاعتدال 464/1
[19] تهذيب التهذيب 405/6
[20] جامع التحصيل 538/2
[21] تفسير ابن جرير الطبري 119/18
[22] السنن الكبرى 182-183/2و86/7.
[23] تهذيب الكمال 663/7.
[24] ميزان الاعتدال 106/4.
[25] السنن الكبرى 225/2، 852/7.
[26] ميزان الاعتدال 112-113/1.
[27] التقريب 19/1.
[28] الميزان 503/2.
[29] التقريب 450/1.
[30] تفسير ابن جرير 119/18.
[31] تفسير ابن كثير 283/2.
[32] تفسير الدر المنثور 42/5.
[33] فتح الباري 70/4، 530/8.
[34] تفسير ابن جرير الطبري 33/22 المطبعة الأميرية ببولاق سنة 1329هـ.
[35] تذكرة الحفاظ 50/1.
[36] المحلى ص 217/3.
[37] الفتح 337/9.
[38] تحفة الأحوذي 15/4 ز
[39] السنن الكبرى للبيهقي 91-92/7.
[40] تفسير ابن كثير 283/3.
[41] موارد الظمآن 1458، 968.
[42] تأويل مختلف الحديث ص 225.
[43] مسند الإمام أحمد 414/6.(12/100)
[44] عون المعبود 109/4.
[45] النووي على مسلم 96-97/10.
[46] التحفة 92/2.
[47] نيل الأوطار 132-134/6.
[48] الترمذي 169/2.
[49] التحفة 170/2.
[50] الفتح 182/9.
[51] النهاية 347/2.
[52] سورة النور آية رقم 60.
[53] ظلال القرآن 97/18.(12/101)
نداء من مسلمي الحبشة إلى حكومات العالم الإسلامي
تحية طيبة
نفيدكم والله على ما نقول شهيد إن المسلمين في الحبشة والذين لا يقل عددهم عن اثني عشر مليون نسمة يعانون من الضغط والاضطهاد ما لا يطاق حمله، والعلم والتعليم محاصران بالمبادئ الشيوعية والتعاليم اللادينية ومحافظة هرر الإسلامية التي مدينتها الإقليمية كانت مركزا للتعاليم الدينية أنشبت الشيوعية فيها أظفارها وطبعتها بتوجيهاتها الطاغوتية التي لا تبقي ولا تذر، وهكذا في كل محافظة ومقاطعة فنرجو من الدول الإسلامية تأمين العلم والتعليم لمسلمي الحبشة وحمايتهم بأي إجراءات يفرضها الإسلام على كل دولة إسلامية في إطار التكاتف والتعاون على البر والتقوى وإنصاف المظلوم وحماية الدين من عبث الملحدين، والله المسئول أن يوفق المسلمين في كل مكان لإقامة الدين على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وأن يكفيهم شر أعداء الإسلام أينما كانوا وأن يأخذ بأيدي الحكومات الإسلامية حتى ينصروا إخوانهم ويعينوهم على كل ما يهمهم إنه على كل شيء قدير والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الأستاذ محمد طه محي الدين
عيدروس سعيد عبد الكريم
توفيق محمد خالد
الحاج يوسف إدريس
الشيخ محمد عبد السلام(12/102)
من الصحف والمجلات
إعداد العلاقات العامة
قاضي يحكم على ابن خليفة
في الأحكام السلطانية للماوردي:
"حكى أن المأمون كان يجلس للمظالم يوم الأحد، فنهض ذات يوم من مجلس نظره، فلقيته امرأة في ثياب رثة، فقالت:
يا خير منتصف يهدي له الرشد
ويا إماما به قد أشرق البلد
تشكو إليك عميد الملك أرملة
عدا عليها فما تقوى به أسد
فابتز منها ضياعا بعد منعتها
لما تفرق عنها الأهل والولد
فأطرق المأمون يسيرا، ثم رفع رأسه وقال:
من دون ما قلت عيل الصبر والجلد
وأقرح القلب هذا الحزن والكمد
هذا أوان صلاة الظهر فانصرفي
وأحضري الخصم في اليوم الذي أعد
المجلس السبت إن يقض الجلوس لنا
أنصفك منه وإلا المجلس الأحد
"فانصرفت، وحضرت يوم الأحد، في أول الناس، فقال لها المأمون:
من خصمك؟
فقالت: القائم على رأسك، العباس بن أمير المؤمنين.
فقال المأمون لقاضيه يحي بن أكثم: أجلسها معه، وانظر بينهما.
"فأجلسها معه، ونظر بينهما بحضرة المأمون، وجعل كلامها يعلو، فزجرها بعض حجابه، فقال له المأمون: دعها، فإن الحق أنطقها، والباطل أخرسه –وأمر برد ضياعها عليها".
مجلة الدارة العدد الثاني السنة الأولى جمادى الثانية 1395هـ.
عن (مل) المؤرخ الإنجليزي.(12/103)
"كان المسلمون يقتلون في الشوارع والبيوت، ولم يكن للقدس من ملجأ يلجأ إليه من نتائج النصر، فقد فر بعض القوم من الذبح فألقى بنفسه من أعلى الأسوار، وانزوى البعض الآخر في القصور والأبراج وحتى في المساجد، غير أن هذا كله لم يخفهم عن أعين المسيحيين الذين كانوا يتبعونهم أينما ساروا"ثم يقول: "ولقد اندفع المشاه والفرسان وراء الهاربين، فلم يسمع في وسط هذا الجمع المكتظ إلا نزعات الموت وسكراته، ومشى أولئك المنتصرون فوق آكام من الجثث الهامدة وراء أولئك الذين يبحثون عن ملجأ أو مأوى".
كتاب صلاح الدين الأيوبي- بطل حطين ومحرر القدس من الصلبيين.
بقلم: عبد الله علوان.
الشريعة الإسلامية هي الإنقاذ
جربت الأمة العربية في مجال البحث عن طريق الأسلوب الرأسمالي وكذلك درجات الأسلوب الاشتراكي وعانت منها وأصبحت في ضياع، فكيف ترى الفكرة التي تنقذ الأمة وتصحح المسيرة؟
هذا السؤال سؤال عام فالأمة العربية –حتى تستعيد قوتها ومقدرتها أمامها الشريعة الإسلامية أوسع مدى من أي مبدأ.
ثم ما هي الاشتراكية التي نادوا بها..إنها مجرد شعارات لا فائدة منها وأحسن تسمية لها أنها رأسمالية الدولة.
فالدولة تأخذ كل ثروات البلد وتسميها اشتراكية، ونحن نريد العدالة الاجتماعية بين الناس ولهذا لا يمكن أن نحصل عليها من النظام الروسي الذي لا يتفق مع تقاليدنا وديننا لأنه يقوم على نظرية إلحادية مادية، وإنما نأخذ نظامنا من الشريعة الإسلامية التي هي أوسع مدى من أي اشتراكية في العلم.
من حديث للأستاذ البرادعي نقيب المحامين في مصر مع مجلة البلاغ العدد 337 –11يناير 1976مـ.(12/104)
إن الداعين لإخراج (المرأة) من بيتها وإلباسها لبوسا يكشف الأشياء الحساسة من جسدها بحكم (الموضة) وعرضها هذا العرض (المزري) على كل من هب ودب..كأي (دمية) تضحك.. ولكنها لا تسر!! إنما يهدفون في ذلك لانتزاع ورقة الحياء من على وجهها..لرميها على قارعة الطريق يدوسها من شاء وكيف شاء ويتفرج عليها الغادي والرائح وكأنها في حديقة حيوان.
جريدة النداء العدد 423 للسنة التاسعة.
إن رجلا واحد يعمل ويطبق أفضل من ألف رجل يبحث ويدرس ويخطب، وأن رقعة ضيقة من الأرض تتحرك بالتجربة الأخلاقية عملا وسلوكا أفضل من أقطار شاسعة غارقة في شهادة الجدل الأخلاقي.
توفيق حمد سبع –رئيس قسم اللغويات بكلية اللغة العربية بالرياض.
عن مجلة رابطة العالم الإسلامي
الشباب ليس خيرا محضا أو شرا محضا، الشباب عبارة عن الدم الفائر، عن قابلية اكتساب كل ما هو حديث، عن كائن إذا اقتنع بشيء أنه حقيقي بالاكتساب لا يتأخر عن التضحية بالنفس في سبيله، بغض النظر عما إذا كان ذلك الشيء سيئا أو حسنا.
وقوة الشباب هذه مثلها كمثل حد السيف سواء يستخدمه المجاهد في سبيل الله أو قاطع الطريق.
إن الشباب هم الذين كانوا دعاة المساوئ والمنكرات في أقدم العصور كما كانوا هو الجيش العرمرم لرفع ألوية الخير والصلاح، حسنة كانت أو سيئة، إن الشباب هم أسرع اندفاعا إليها من الشيوخ.
مجلة رابطة العالم الإسلامي.
لقد انتقد اليكسس كاريل ما ارتكبه المجتمع العصري من غلطة جسيمة-على حد تعبيره- باستبداله تدريب المدرسة بالأسرة استبدالا تاما، حيث تركت الأمهات أطفالهن لدور الحضانة حتى ينصرفن لأعمالهن ووظائفهن أو منازلهن وهواياتهن الأدبية والفنية وارتياد دور السينما والمراقص.(12/105)
وبذلك اختفت وحدة الأسرة واجتماعاتها التي يتصل فيها الطفل بالكبار فيتعلم أمورا كثيرة.. لأن الطفل يتشكل نشاطه الفسيولوجي والعقلي والعاطفي مما يتعلمه من الكبار.. وفي المدارس ودور الحضانة لا يستطيع أن يحقق ذلك لأن زملاءه من أمثاله الأطفال لا يمنحون شيئا زائدا عما يملكه هو.. ولذلك يظل غير مكتمل.
عن مجلة رابطة العلم الإسلامي.
ويؤيد هذا الرأي الكاتب الإنجليزي (روبرت ولدالي) في كتابه (قصة إسلامي) إذ يقول: "إن اكتساب المسلمين للثقافة الغربية والعادات الأجنبية البذيئة كتقصير ثياب النساء حتى تتكشف أفخاذهن..ليس من الإسلام، لأنه غاية الفساد".
روبرت ولزلي
عن مجلة رابطة العالم الإسلامي
الإسلام هو المدنية
يقول مستر "ولز"أكبر مؤرخي هذا العصر..
"كل دين لا يسير مع المدنية في أي طور من أطوارها فاضرب به عرض الحائط ولا تبال به، لأن الدين الذي لا يسير مع المدنية جنبا إلى جنب لهو شر مستطير على أصحابه يجرهم إلى الهلاك، وأن الديانة الحقة التي وجدتها تسير مع [1] المدنية أنَّى سارت هي الديانة الإسلامية، وإذا أراد الإنسان أن يعرف شيئا من هذا فليقرأ القرآن.
إن كثيرا من أنظمته تستعمل في وقتنا هذا وستبقى مستعملة حتى قيام الساعة، وإذا طلب منى القارئ أن أحدد له (الإسلام) فإني أحدده بالعبارة التالية: الإسلام هو المدنية.. وهل في استطاعة إنسان أن يأتيني بدور من الأدوار كان فيه الدين الإسلامي مغايرا "للمدنية والتقدم".
مجلة المجتمع في عددها 2495 السنة السابعة – الثلاثاء 13 ربيع الآخر 96هـ.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] التعبير الأصح أن يقال: تسير معها المدنية(12/106)
ندوة الطلبة
قصيدة للطالب: عبد الرحمن شميله الأهدل
الطالب بالسنة الثانية من كلية الشريعة
لله درّ ذوي التفكير والعبر
بدقة بحثوا في الكون في البشر
وراجعوا أنفسا ضلّت برمّتها
إلى الصواب بصدق القول في الخبر
وأفحموا كلّ من يرجو معاندة
دليل عقل مع الآيات والسّور
حتى أقرّوا بأن الرب موجدهم
إقرار صدق بما أبدوه من نظر
إلا الألى مرقوا كالسهم حين رمت
تالله إنهم في معظم الخطر
خذوا قواعدهم فيها تروا عجبا
أو اسمعوا فتروني صادق الخبر
إن الوجود يُرى لا شك عندهم
وعكسه عدم بل كل مستتر
وهكذا حكموا أن لا إله ولا
مدبرا لجميع الخلق ذو ظفر
ثم الطبيعة قالوا أصل خلقتنا
فقلت خلّوا سبيل الكاشح الأشر
أعمى البصيرة مفقود الشعور فلا
يعي كلاما ولا يبدي سوى الهذر
هلاّ تأمّل ما في الكون أجمعه
ومن يسيّره لو كان ذا بصر
من الذي مرج البحرين فالتقيا
عذب فرات وملح طيب الأثر
والمزن تحمل ماء حيثما أمرت
به فتسقي جميع الأرض والمدر
من الذي قادها في أرض مجدبة
فاخضرّ عود وغنّى الطير في الشجر
والليل أكبر آيات مبينة
على وجود عظيم الشّآن مقتدر
وكوكب الصبح عمّ الأرض منه سنا
سبحان من زانه والليل بالقمر(12/107)
أخبار الجامعة
المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية يعقد دورته الأولى برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة
عقد المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة دورته العادية الأولى لعام 1396هـ بمقر الجامعة في المدة من يوم الأربعاء السابع عشر من ربيع الأول إلى يوم الجمعة التاسع عشر منه عام 1396هـ.
وقد رأس الجلسة الافتتاحية لهذه الدورة المنعقدة في الساعة الثانية عشرة ظهر يوم الأربعاء 17 من ربيع الأول 1396هـ صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية، وأناب سموه في رئاسة الجلسات التالية سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز عضو المجلس الأعلى للجامعة، ورئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
وحضر الدورة أعضاء المجلس التالية أسماؤهم وصفاتهم مرتبين حسب حروف الهجاء:
فضيلة الشيخ أبي الحسن الندوي أمين عام ندوة العلماء - لكنو - بالهند.
سعادة الدكتور أحمد عبيد الكبيسي أستاذ مساعد بجامعة بغداد.
سمو الأمير خالد بن فهد بن خالد وكيل وزارة المعارف.
معالي الشيخ صالح الحصين.
سماحة الشيخ عبد الله غوشه رئيس قضاة الأردن.
فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد نائب رئيس الجامعة.
معالي الدكتور عبد العزيز الفدا مدير جامعة الرياض.
فضيلة الشيخ عمر محمد فلاتة الأمين العام.
سعادة الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة عميد الكلية الزيتونية بتونس.
معالي الشيخ محمد صالح القزاز أمين عام رابطة العالم الإسلامي.
معالي الدكتور محمد عمر زبير مدير جامعة الملك عبد العزيز بالنيابة.
فضيلة الشيخ محمد الغزالي أستاذ بجامعة الملك عبد العزيز.(12/108)
فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني من العلماء.
فضيلة الشيخ مصطفى أحمد علوي مدير دار الحديث الحسنية بالرباط.
فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس قسم الدراسات الإسلامية بكلية التربية بقطر.
وتخلف عن حضور هذه الدورة معالي الدكتور كامل محمد الباقر مدير جامعة أم درمان الإسلامية.
وقد بدئت الجلسة الافتتاحية للدورة بتلاوة آيات من الذكر الحكيم، ثم افتتح سمو الرئيس الأعلى للجامعة الدورة بكلمة أكد فيها أن حكومة المملكة العربية السعودية لن تدخر وسعا أو أي مجهود تستطيع أن تقدمه للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة لنشر العقيدة الإسلامية، ومساعدة إخواننا المسلمين في كل مكان، وقال سموه: إن هذا اليوم هو من أعز الأيام إلى نفسي، وقد شرفني جلالة الملك برئاسة هذه الجلسة ورئاسة مجلسها، وإنني لأرجو من الله عز وجل أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يوفقنا لما فيه خير ديننا ثم دنيانا، ويوفقنا لأداء الواجب وأداء الأمانة التي ألقيت على عاتق هذه البلاد إنه على كل شيء قدير، كما أرجو أن نوفق في جلستنا هذه لما فيه خير الإسلام والمسلمين والنهوض بهذه الجامعة الفتية.
ثم ألقى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز كلمة نيابة عن أعضاء المجلس شكر فيها سمو الرئيس، وأشاد بالمنجزات التي حققتها الجامعة بفضل الدعم الذي تلقاه من المسئولين في الدولة وعلى رأسهم جلالة الملك خالد المعظم، وسمو ولي عهده الأمين، كما نوه بجهود المملكة في رفع راية الإسلام والمسلمين في كل مكان.
ثم شرع المجلس في النظر في الموضوعات المدرجة بجدول أعماله، واتخذ قرارات بشأنها ومن أهم ما أقره:
1- الموافقة على ما اقترحته الجامعة من صرف مكافآت شهرية قدرها مائتان وخمسون ريالا لكل طالب من طلاب كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، إضافة إلى الإعانة المقررة لطلاب الكليات الأخرى في الجامعة.(12/109)
2- الموافقة على اقتراح إنشاء كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية بالجامعة ورفعه لجلالة الملك المعظم رجاء التفضل بالموافقة السامية عليه تطبيقا للمادة الرابعة من نظام الجامعة.
3- الموافقة على ترحيل من يرغب من الطلاب الوافدين من خارج المملكة الناجحين في الدور الأول إلى بلادهم ذهابا وإيابا في العطلة الصيفية كل عام على حساب الجامعة مع حسم المكافأة من الطالب المرحل مدة العطلة.
4- تعيين الدكتور محمد أمين المصري رئيسا لقسم الدراسات العليا بالجامعة لمدة ثلاث سنوات.
وتعيين الدكتور محمد نايل عميدا لكلية اللغة العربية والآداب بالجامعة لمدة ثلاث سنوات.
وتعيين الدكتور محمد قناوي الأستاذ بكلية اللغة العربية والآداب بالجامعة عضوا بمجلس الجامعة لمدة سنتين.
وتعيين فضيلة الشيخ عبد الفتاح القاضي الأستاذ بكلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية عضوا بمجلس الجامعة لمدة سنتين.
5- الموافقة على مشروع ميزانية الجامعة للعام المالي 96- 1397هـ.
6- الموافقة على لائحة قسم الدراسات العليا، واللائحة المالية ولائحة مكتبات الجامعة.
حفل بقاعة المحاضرات
بمناسبة زيارة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية للجامعة بمناسبة زيارة سموه للجامعة أقامت الجامعة احتفالا بقاعة المحاضرات حضره أساتذة الجامعة وطلبتها وأعيان المدينة المنورة، وقد بدئ الحفل بتلاوة آيات من الذكر الحكيم رتلها الطالب محمد أيوب أحد طلاب السنة الثالثة من كلية الشريعة، ثم ألقى نائب رئيس الجامعة الإسلامية عبد المحسن بن حمد العباد كلمة، وتلاه الدكتور محمد نائل الأستاذ بكلية اللغة العربية بإلقاء كلمة ارتجالية، ثم ألقى أحد طلبة الجامعة قصيدة، وفيما يلي كلمة نائب رئيس الجامعة وقصيدة الطالب.(12/110)
الحمد لله على نعمه التي لا تحصى وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحابته وأتباعهم بإحسان.
صاحب السمو الملكي الرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية:
يسرني أصالة عن نفسي ونيابة عن أسرة الجامعة أن أرحب برائد العلم في جامعة العلم في مدينة العلم، فأهلا وسهلا ومرحبا بسموكم الكريم في طيبة الطيبة، طبتم وطابت أوقاتكم وأعمالكم ودمتم موفقين لكل ما فيه عزة الإسلام ورفعة شأن المسلمين.
صاحب السمو الملكي الرئيس الأعلى للجامعة:
لقد كانت هذه المدينة المباركة مصدر إشعاع وهداية للبشرية منذ هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، وقد صدرت للعالم رجالا انتشروا في الأرض يوزعون بين الناس ميراث النبوة، ويهدون غيرهم إلى الصراط المستقيم، وهاهي بحمد الله تستعيد سيرتها الأولى بوجود هذه الجامعة المباركة فيها إذ تستقبل أبناء المسلمين من كل مكان لتثقيفهم الثقافة الخالصة النقية على هدى من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح ثم يعودون إلى بلادهم دعاة إلى الخير وهداة إلى الصراط المستقيم والفضل في ذلك لله سبحانه وتعالى ثم لحكومة هذه المملكة أيدها الله وأدام توفيقها لكل خير.
صاحب السمو الملكي الرئيس الأعلى للجامعة:(12/111)
إن لهذه الجامعة أياما تاريخية، وإن هذا اليوم الذين تشرفون فيه الجامعة بهذه الزيارة يعد من أبرز هذه الأيام، ففي صباح هذا اليوم تفضلتم بافتتاح الجلسة الأولى من جلسات المجلس الأعلى للجامعة في أول دورة يعقدها في ظل نظامها الجديد، وفي مسائه الآن نحتفل في هذه القاعة وفي أول اجتماع يجري فيها مغتبطين بلقاء سموكم الكريم معبرين عما تكنه أسرة الجامعة لسموكم الكريم من صادق الود وما تلهج به من جميل الذكر وخالص الدعاء لما تولونه هذه الجامعة من رعاية وعناية تمكنت بها بتوفيق الله تعالى من مواصلة السير والتقدم إلى الأمام في سبيل أداء رسالتها وتحقيق أهدافها، فإن الكل يكن المودة ويعترف بالجميل ويتقدم بالشكر لسموكم الكريم وليس بشاكر لله من لا يشكر الناس.
صاحب السمو الملكي الرئيس الأعلى للجامعة:
إن هذه الرحلة الميمونة من الرياض إلى المدينة لرئاسة المجلس الأعلى للجامعة وتفقد بعض أقسامها من أوضح الشواهد وأبين الأدلة على مدى الاهتمام والعناية التي تحظى بها هذه الجامعة من سموكم الكريم، وذلك لسمو أهدافها وشمول نفعها وكونها والحمد لله جامعة تعليم ودعوة يستفيد طلابها من منحها الدراسية ويستفيد غيرهم ممن يزورها أو يراسلها بما تطبعه وتوزعه من كتب ونشرات مفيدة.
صاحب السمو الملكي الرئيس الأعلى للجامعة:(12/112)
يسرني أن أعلن في هذا الملأ أن الجامعة على الرغم من قصر المدة التي مرت من عمرها خرّجت ألفا وخمسة وتسعين جامعيا ينتمون إلى ستين قطرا تقريبا من أقطار العالم، وإن في الجامعة في كلياتها الأربع وقسم الدراسات العليا والمعاهد ودور الحديث التابعة لها طلبة يزيدون على ثلاثة آلاف طالب ينتمون إلى أكثر من ثمانين قطرا من أقطار العالم، وإن الجامعة قامت خلال السنتين الماضيتين بطباعة خمس وعشرين رسالة من الرسائل المفيدة بكميات كبيرة لتوزيعها، وذلك بفضل الله ثم بالعناية والرعاية التي تلقاها هذه الجامعة من جلالة الملك خالد وسموكم الكريم وسلفكم في الخير جلالة الملك فيصل رحمه الله، وأسأل الله تعالى أن يجزل مثوبتكم جميعا وأن يكتب لكم مثل أجور كل من استفاد خيرا بسبب هذه الجامعة.
ولا يفوتني قبل أن أختم هذه الكلمة أن أشيد بالجهود العظيمة والأعمال المجيدة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز خلال أربعة عشر عاما مضت له في رئاسة هذه الجامعة.
وأسأل الله تعالى أن يثيبه خيرا وأن يتولى الجميع بتوفيقه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
دارة العلم قد أهلّ السناء
مشعل لاح للمعالي يضاء
أقبل الفهد فاطمئنت قلوب
ملؤها الحب دائما والولاء
مرحبا فهد مرحبا في ربوع
تمّ فيها الرضا وتمّ الهناء
هاهنا روضة أتانا شذاها
وتناهى إلى القلوب النداء
فسعينا لنجتني من ثمار
قد رعاها وصانها العلماء
ننشد الحق خالصا في بلاد
لم تخالط ربوعها الأهواء
في ظلال القرآن والدين نحيا
لا نبالي بما يرى الأدعياء
ننهل العلم صافيا ثم نمضي
شرعة الله في هداها الشفاء
من شيوخ قد بارك الله فيهم
وهم اليوم عندنا الأوفياء
نشر النور في الدياجير حتى
يغمر الكون والبرايا الضياء(12/113)
فيموت القُنُوط واليأس فينا
نحن للدين في الرزايا الفداء
يا شبابا توافدوا من بعيد
همّه المجد والعلا والإباء
أنتم اليوم من ثمانين قطرا
بل تزيدون والأماني وضاء
كان وهما وكان حلما جميلا
بل خيالا تقوله الشعراء
فالمنى أصبحت حياة وصدقا
والدّنا أشرقت وطال البناء
يا شبابا نعده خير درع
إن بكى القدس وشكت سيناء
إنما المؤمنون في كل عصر
شأنهم كلهم جميعا إخاء
همُّهم أن يسود لله شرع
تشهد الأرض عدله والسماء
عالم يزدهي بشرع حنيف
كوكب الدين فوقه لألاء
إنما النصر في ثنايا كتاب
يمنح الله نصره من يشاء
صرحنا ((فيصل)) بناه فأعلى
هكذا ينصر الهدى الأتقياء
وتلاه البناة من خير قوم
خالد حكمة، وفهد مضاء
هم يحوطون بالمعالي حمانا
قادة معدن العلاء أقوياء
كلهم ((فيصل)) إذا ما أدلهمت
نازلات الأيام والبأساء
غرس عبد العزيز طابوا أصولا
لهم الحب عندنا والدعاء
ثمانمائة منحة دراسية تقدمها الجامعة لأبناء العالم في عامها الدراسي 96-1397هـ.
تولي حكومة المملكة العربية السعودية الجامعة الإسلامية اهتماما بالغا لعالميتها وشمول رسالتها وسمو أهدافها، وتبذل لها المال بسخاء، لتحقق الأهداف النبيلة التي أسست من أجلها، وقد بلغت المنح الدراسية التي قدمتها الجامعة لأبناء العالم في العام الدراسي القادم 96-1397هـ ثمانمائة منحة موزعة على أكثر من مائة قطر من أقطار العالم.(12/114)
وفود الجامعة في العطلة الصيفية للدعوة إلى الله
من أهداف الجامعة الإسلامية تبليغ رسالة الإسلام الخالدة إلى العالم عن طريق الدعوة والتعليم الجامعي والدراسات العليا، وقد قامت في صيف العام الماضي بإرسال وفود من أساتذتها للدعوة إلى الله وتقديم تقارير عن أحوال المسلمين وذلك إلى الأقطار التالية:
أمريكا - بريطانيا - اليابان - مالي - النيجر - الهند - الباكستان - وأقطار أخرى، وسيتم بميشئة الله إرسال وفود أخرى في صيف العام الحالي إلى كندا وأستراليا وجنوب السودان وتركيا وأقطار أخرى.
أقر مجلس الجامعة الإسلامية مواعيد الامتحانات والعطلة الصيفية للعام الدراسي 95-1396هـ كالتالي:
1- يبدأ امتحان الدور الأول في الجامعة في يوم السبت الموافق 14/6/96هـ.
2- تبدأ الإجازة الصيفية يوم السبت 13/7/1396 وتنتهي في 5/10/96هـ.
3- يبدأ امتحان الدور الثاني يوم السبت 9/10/1396هـ.
4- تبدأ الدراسة للعام الدراسي 96/1397هـ يوم الثلاثاء الموافق 19/10/96هـ.
ستقيم الجامعة بمشيئة الله حفلا لتوزيع الشهادات على الخريجين والجوائز على المتفوقين وذلك في ليلة الخميس الموافق 11/7/1396هـ ومن الجدير بالذكر أن كل طالب يحصل على تقدير ممتاز في الشهادات والنقل يمنح ألف ريال جائزة.
الجامعة تطبع كتبا مفيدة للتوزيع
الجامعة الإسلامية تحقيقا لأهدافها في الدعوة إلى الله ونشر التوعية الإسلامية تطبع سنويا رسائل مفيدة بكميات كبيرة لتوزيعها في داخل المملكة وخارجها وقد طبعت في العام الدراسي 93/1394هـ سبعة كتب، وفي العام الدراسي 94/1395هـ سبعة عشر كتابا، وفي العام الدراسي الحالي 95/1396هـ قامت الجامعة بترسية طباعة كتب مفيدة تبلغ تكاليفها أكثر من نصف مليون ريال.(12/115)
محاضرات الموسم الثقافي
تقيم الجامعة محاضرات ثقافية يقوم بإلقائها بعض أساتذة الجامعة يستمع لها جموع كبيرة من أساتذة الجامعة وطلابها وأهالي المدينة المنورة، وقد بلغ عدد هذه المحاضرات هذا العام والعامين قبله خمسا وأربعين محاضرة، وقد قامت الجامعة بطباعة محاضرات عام 93-1394هـ وعددها خمس عشرة محاضرة في كتاب مستقل، كما قامت بطباعة محاضرات عام 94-1395هـ وعددها خمس عشرة محاضرة في كتاب مستقل أيضا، وستقوم الجامعة بمشيئة الله بطبع محاضرات هذا العام 95-1396هـ وعددها خمس عشرة محاضرة في كتاب، وفيما يلي بيان موضوعات العام الحالي وأسماء المحاضرين:
1- تقوى الله أساس كل خير لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
2- الإيمان منطلق الفكر الإسلامي لفضيلة الشيخ أبي بكر الجزائري المدرس في كلية الشريعة بالجامعة.
3- نظرات في التاريخ لفضيلة الشيخ أحمد محمود الأحمد المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين.
4- نور الإيمان لفضيلة الشيخ عبد المجيد الزنداني أحد علماء اليمن.
5- الدعوة إلى الله في القارة الإفريقية لفضيلة الشيخ إبراهيم سرسيق المدرس بكلية الشريعة بالجامعة.
6- حديث عن التفرقة والتمييز في الماضي والحاضر لفضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي المدرس بالمعهد الثانوي التابع للجامعة.
7- موقف الإسلام من المجتمع الجاهلي للدكتور إبراهيم جعفر السقا المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين.
8- مع أحسن القصص لفضيلة الشيخ محمد أبو طالب شاهين المدرس في كلية الشريعة.
9- أثر الإسلام في توجيه وتهذيب النقد الأدبي العربي لفضيلة الدكتور عبد الحميد العبيسي المدرس بكلية الدعوة.(12/116)
10- سطحية التفكير لدى الملحدين وتخريفاتهم وحقيقة الصراع بين الدين والعلم لفضيلة الشيخ زهير الخالد المدرس في المعهد الثانوي التابع للجامعة.
11- صراع اللغة العربية في سبيل البقاء للدكتور محمد نائل عميد كلية اللغة العربية والآداب بالجامعة.
12- منبع القراءات ومنشؤها والرد على الملحدين لفضيلة الشيخ عبد الفتاح القاضي الأستاذ بكلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية بالجامعة.
13- الإعلام والدعوة الإسلامية للدكتور طه مقلد المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة.
14- تربية القادة للدكتور محمد أمين المصري رئيس قسم الدراسات العليا بالجامعة.
15- الإسلام في أفريقيا عبر التاريخ لفضيلة الشيخ محمد أمان بن علي المدرس بكلية الشريعة.(12/117)
التمسك بالإسلام سبب النصر في الدنيا والنجاة في الآخرة
سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق ليعبد وحده لا شريك له، وأنزل كتبه وأرسل رسله للأمر بذلك والدعوة إليه كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، وقال عز وجل: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} الآية، وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} .(12/118)
فهذه الآيات وأمثالها كلها تدل على أن الله عز وجل إنما خلق الثقلين ليعبد وحده لا شريك له وأن ذلك هو الحكمة في خلقهما، كما تدل على أنه عز وجل إنما أنزل الكتب وأرسل الرسل لهذه الحكمة نفسها، والعبادة هي الخضوع له والتذلل لعظمته بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه عن إيمان به سبحانه وإيمان برسله وإخلاص له في العمل وتصديق بكل ما أخبر به ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا هو أصل الدين وأساس الملة وهو معنى لا إله إلا الله، فإن معناها لا معبود بحق إلا الله، فجميع العبادات من دعاء وخوف ورجاء وصلاة وصوم وذبح ونذر وغير ذلك من يجب أن يكون لله وحده، وأن لا يصرف من ذلك شيء لسواه للآيات السابقات، ولقوله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين} الآية، وقوله عز وجل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وقوله سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ، إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ، وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} .(12/119)
وقال عز وجل: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ، فأبان سبحانه في هذه الآيات أنه المالك لكل شيء وأن العبادة حقه سبحانه، وأن جميع المعبودين من دونه من أنبياء وأولياء وأصنام وأشجار وأحجار وغيرهم لا يملكون شيئا ولا يسمعون دعاء من دعاهم، ولو سمعوا دعاءه لم يستجيبوا له، وأخبر أن ذلك شرك به عز وجل، ونفى الفلاح عن أهله، كما أخبر سبحانه أنه لا أضل ممن دعا غيره، وأن ذلك المدعو من دون الله لا يستجيب لداعيه إلى يوم القيامة، وأنه غافل عن دعائه إياه، وأنه يوم القيامة ينكر عبادته إياه، ويتبرأ منها، ويعاديه عليها، فكفى بهذا تنفيرا من الشرك وتحذيرا منه، وبيانا لخسران أهله وسوء عاقبتهم، وترشد الآيات كلها إلى أن عبادة ما سواه باطلة، وأن العبادة بحق لله وحده، ويؤيد ذلك صريحا قوله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِل} الآية من سورة الحج، وذكر سبحانه في مواضع أخرى من كتابه أن من الحكمة في خلق الخليقة أن يعرف سبحانه بعلمه الشامل وقدرته الكاملة، وأنه عز وجل سيجزي عباده في الآخرة بأعمالهم كما قال عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَّرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأََمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ، وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} ، فالواجب على كل ذي لب أن ينظر(12/120)
فيما خلق له، وأن يحاسب نفسه ويجاهدها لله حتى يؤدي حقه وحق عباده، وحتى يحذر ما نهاه الله عنه ليفوز بالسعادة والعاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة، وهذا العلم هو أنفع العلوم وأهمها وأفضلها وأعظمها، لأنه أساس الملة وزبدة ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، وخلاصة دعوتهم ولا يتم ذلك ولا يحصل به النجاة إلا بعد أن يضاف إليه الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام وعلى رأسهم إمامهم وسيدهم وخاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومقتضى هذا الإيمان تصديقه صلى الله عليه وسلم في أخباره وطاعة أوامره وترك نواهيه، وأن لا يعبد الله سبحانه إلا بالشريعة التي جاء بها عليه الصلاة والسلام… وهكذا كل أمة بعث الله إليها رسولا لا يصح إسلامها ولا يتم إيمانها ولا تحصل لها السعادة والنجاة إلا بتوحيدها لله وإخلاص العبادة له عز وجل ومتابعة رسولها صلى الله عليه وسلم وعدم الخروج عن شريعته، وهذا هو الإسلام الذي رضيه الله لعباده، وأخبر أنه هو دينه كما في قوله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} وقوله عز وجل: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} وبهذا يتضح لذوي البصائر أن أصل دين الإسلام وقاعدته أمران: أحدهما: أن لا يعبد إلا الله وحده، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، والثاني: أن لا يعبد إلا بشريعة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فالأول يبطل جميع الآلهة المعبودة من دون الله ويعلم به أن المعبود بحق هو الله وحده، والثاني يبطل التعبد بالآراء والبدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، كما يتضح به بطلان تحكيم القوانين الوضعية والآراء البشرية ويعلم به أن الواجب هو تحكيم شريعة الله في كل شيء، ولا يكون العبد مسلما إلا بالأمرين جميعا كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ(12/121)
أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} وقال سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} وقال عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} وهذه الآيات تتضمن غاية التحذير والتنفير من الحكم بغير ما أنزل الله، وترشد الأمة حكومة وشعبا إلى أن الواجب على الجميع هو الحكم بما أنزل الله والخضوع له والرضا به، والحذر مما يخالفه، كما تدل أوضح دلالة على أن حكم الله سبحانه هو أحسن الأحكام وأعدلها، وأن الحكم بغيره كفر وظلم وفسق، وأنه هو حكم الجاهلية الذي جاء شرع الله بإبطاله والنهي عنه، ولا صلاح للمجتمعات ولا سعادة لها ولا أمن ولا استقرار إلا بأن يحكم قادتها شريعة الله وينفذوا حكمه في عباده ويخلصوا له القول والعمل ويقفوا عند حدوده التي حددها لعباده، وبذلك يفوز الجميع بالنجاة والعزة في الدنيا والآخرة، كما يفوزون بالنصر على الأعداء والسلامة من كيدهم واستعادة المجد السليب، والعز الغابر كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} وقال سبحانه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ(12/122)
عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} ولما حذر سبحانه من اتخاذ الكفار بطانة من دون المؤمنين، وأخبر أن الكفار لا يألون المسلمين خبالا وأنهم يودون عنتهم قال بعد ذلك: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} وهذا الأصل الأصيل والفقه الأكبر هو أولى ما كتب فيه الكاتبون وعني به دعاة الهدى وأنصار الحق، وهو أحق العلوم أن يعض عليه بالنواجذ وينشر بين جميع الطبقات حتى يعلموا حقيقته ويبتعدوا عما يخالفه، وأن جميع المجلات والصحف الإسلامية لجديرة بأن تعنى بهذا العلم وأن تستكتب فيه خواص الكتاب ونخبة حملة الأقلام حتى ينتشر ذلك بين الأنام ويعلمه الخاص والعام لعظم شأنه وشدة الضرورة إليه، ولما وقع بسبب الجهل به في غالب البلدان الإسلامية من الغلو في تعظيم القبور، ولا سيما قبور من يسمونهم بالأولياء واتخاذ المساجد عليها وصرف الكثير من العبادة لأهلها كالدعاء والاستغاثة والذبح والنذر وغير ذلك، ولما وقع أيضا بسبب الجهل بهذا الأصل الأصيل في غالب البلاد الإسلامية من تحكيم القوانين الوضعية والآراء البشرية، والإعراض عن حكم الله ورسوله الذي هو أعدل الأحكام وأحسنها.. فنسأل الله أن يرد المسلمين إليه ردا حميدا وأن يصلح قادتهم وأن يوفق الجميع للتمسك بشريعة الله والسير عليها والحكم بها والتحاكم إليها والتسليم لذلك والرضا به والحذر مما خالفه إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه ومن سار على طريقه واهتدى بهداه إلى يوم الدين.(12/123)
أضواء من التفسير
لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
قال تعالى: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُُولَى أَزِفَتِ الآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} .
المناسبة:
لما ذكر أحوال الأولين الذين كذّبوا من أنذروهم فأهلكوا، ذكر أن محمدا صلى الله عليه وسلم من جنس هؤلاء المنذرين الأولين، وأن إنذاره كإنذارهم.
المفردات:
{نَذِيرٌ} رسول يخبر عن الله تعالى ويخوف من عقابه.
{الأُُولَى} القدماء السابقون.
{أَزِفَتِ} دنت وقربت، قال كعب بن زهير:
ولا أرى لشباب بائن خلفا
بان الشباب وهذا الشيب قد أزفا
وقال النابغة الذبياني:
أزف الترحل غير أن ركابنا
لما تزل برحالنا وكأنا قد
{الآزِفَةُ} القيامة الموصوفة بالقرب، وقيل الآزفة علم بالغلبة على الساعة هنا.
{كَاشِفَةٌ} أي نفس مجلية لوقتها فإنه لا يجليها لوقتها إلا هو سبحانه أو رفع لضرها على أن كاشفة مصدر كالعافية.
{الْحَدِيثِ} أي الكلام يعني القرآن.
{تَعْجَبُونَ} تستغربون وتنكرون.
{َتَضْحَكُونَ} وتستهزئون.
{تَبْكُونَ} تحزنون، يعني عند سماعه مع أنه لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا.
{سَامِدُونَ} لاهون لاعبون. قال الشاعر:
ألا أيها الإنسان إنك سامد
كأنك لا تفنى ولا أنت هالك
وقال الآخر:
قيل قم فانظر إليهم
ثم دع عنك السمودا(12/124)
وقال أبو عبيدة: السمود الغناء بلغة حمير، يقولون: يا جارية اسمدي لنا أي غني لنا، وكانوا إذا سمعوا القرآن غنوا تشاغلا عنه. وقيل السمود الاستكبار من سمد البعير إذا رفع رأسه، وقيل هو الجمود والخشوع. قال الشاعر:
رمى الحدثان نسوة آل حرب
بأمر قد سمدْن له سمودا
فرد شعورهن السود بيضا
ورد وجوهن البيض سودا
{فَاسْجُدُوا} فصلوا أو خروا له على وجوهكم عند سماع هذه الآية على أن المراد به سجود التلاوة.
{وَاعْبُدُوا} أي أفردوه بالعبادة ولا تذلوا أنفسكم لأحد سواه.
التراكيب:
قوله: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُُولَى} الإشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم الموصوف بعنوان صاحبكم في أول السورة، ونذير على هذا اسم فاعل من أنذر وهو غير قياسي إذ القياس فيه منذر. ووصف النذر بالأولى على معنى الجماعة وإلا فإنه كان مقتضى الظاهر أن يقول الأول، ويجوز أن تكون الإشارة راجعة إلى القرآن، ونذير مصدر بمعنى الإنذار وهو من أنذر وهو غير قياسي أيضا بل القياس فيه إنذار، والتنوين في نذير للتفخيم، ومن متعلقة بمحذوف وهو نعت لنذير.
وقوله: {أَزِفَتِ الآزِفَةُ} قيل اللام في الآزفة للعهد لا للجنس لئلا يخلو الكلام عن الفائدة لأنه لا معنى لوصف القريب بالقرب، وقيل لا مانع أن تكون للام للجنس، ووصف القريب بالقرب يفيد المبالغة في قربه.
وقوله: {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} يجوز أن تكون كاشفة وصفا، والتأنيث فيه لأجل أنه صفة لمؤنث محذوف أي نفس كاشفة، أو التاء للمبالغة كنسابة، أي ليس لها إنسان كاشفة أي كثير الكشف، والأول أقرب، ويجوز أن تكون كاشفة مصدرا كالعاقبة، ومعنى الكشف هنا إما من كشف الشيء أي عرف حقيقته كقوله لا يجليها لوقتها إلا هو، وإما من كشف الضر أي أزاله.(12/125)
وقوله: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} الهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف يقتضيه المقام أي أجهلتم فمن هذا الحديث تعجبون.
وقوله: {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة، أخبر الله عنهم بذلك، ويجوز أن تكون حالا من فاعل {وَلا تَبْكُونَ} أي انتفى عنكم البكاء في حال كونكم سامدين.
وقوله: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} الفاء فيه فصيحة أي إذا كان الأمر كذلك فاسجدوا لله أنزله واعبدوه وتلقوا هذا الكتاب بالخضوع التام والإيمان الكامل.
المعنى الإجمالي:
هذا الرسول المبلغ عن الله تعالى من جنس المنذرين الأولين، وقد علمتم أحوال قومهم لما كذّبوهم، فإن كذّبتم لن تفلتوا من عذاب الله في الآخرة، وقد دنت الساعة ولا يوجد أحد يعلم وقتها إلا الله عز وجل، أجهلتم فمن هذا القرآن تستغربون فتنكرون وتستهزئون، ولا تخشعون عند تلاوته مع أنه لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله، وأنتم لاهون منصرفون عنه، إذا كان هذا حقيقة فصلوا لله وأفردوه بالعبادة وتلقوا هذا الذكر بالإيمان الكامل.
ما ترشد إليه الآيات:
1- تهديد من كذّب محمدا صلى الله عليه وسلم.
2- الإشارة إلى عدم استئصالهم.
3- لا تنفع الكفار شفاعة الشافعين.
4- العجب من عجب قريش من القرآن وإنكارهم له مع أنه كان ينبغي أن يكونوا أول المؤمنين.
5- حضهم على تلقي هذا الكتاب بالخضوع التام والإيمان الكامل.(12/126)
قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرَّ. وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ. وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأََنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ. حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ. خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ. مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} .
المناسبة:
لما ذكر في أواخر السورة السابقة أنه أزفت الآزفة قال هنا اقتربت الساعة.
سبب النزول:
أن مشركي مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية ليؤمنوا فانشق القمر فرقتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشهدوا اشهدوا" فقال المشركون: سحر محمد أعيننا فنزلت.
القراءة:
قرأ الجمهور {يَرَوْا آيَة} ببناء يروا للفاعل، وقرئ {يُروا} بالبناء للمفعول.
وقرأ الجمهور {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} برفعهما، وقرئ بنصبهما.
وقرأ الجمهور {نُكُرٍ} بضم النون والكاف، وقرئ بتسكين الكاف، وقرئ بكسر الكاف فعلا ماضيا مبنيا للمجهول.
وقرأ الجمهور {خُشَّعاً} وقرئ {خاشعا} .
المفردات:
{اقْتَرَبَتِ} ازدادت في الدنو.
{وَانْشَقّ} انفلق.
{يَرَوْا} يبصروا.
{آيَةً} معجزة تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم.
{يُعْرِضُوا} يمتنعوا عن الإيمان بها.
{مُسْتَمِرَّ} أي دائم، وقيل محكم قوي من المرة وهي القوة، وقيل غير ذلك.
{مُسْتَقِرٌّ} أي منته إلى غاية يستقر ويثبت عليها لا محالة.(12/127)
{الأََنْبَاءِ} أخبار تدمير الأمم المكذّبة رسلهم.
{مُزْدَجَرٌ} ارتداع، وأصل مزدجر مزتجر أبدلت تاء الافتعال دالا لأن تاء الافتعال تقلب دالا بعد الزاي والدال والذال.
{حِكْمَةٌ} عدالة، {بَالِغَةٌ} تامة.
{النُّذُرُ} جمع نذير بمعنى المنذر أو مصدر بمعنى الإنذار.
{فَتَوَلَّ} فأعرض، {يَدْعُ} ينادي، {الدَّاعِ} المنادي بالحشر لفصل القضاء وهو الملك الموكل بذلك، {نُكُرٍ} فظيع تنكره النفوس لشدته وهوله، نكر بالبناء للمجهول أي جهل وجحد، يقال نكر فلان الأمر كفرح وأنكره واستنكره وتناكره أي جهله.
{خُشَّعاً} أذلة، {الأَجْدَاثِ} القبور، {مُهْطِعِينَ} مسرعين مادي أعناقهم كالإبل العطاش، قال الشاعر:
بدجلة دارهم ولقد أراهم
بدجلة مهطعين إلى السماع
وقيل المهطع هو من ينظر في ذل وخضوع لا يقلع بصره عن الشيء قال الشاعر:
تعبدني نمر بن سعد وقد أرى
ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع
{عَسِرٌ} أي صعب شديد يعني على الكافرين.
التراكيب:
قوله: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} جيء بالجملة شرطية ليدل على أنهم في الاستقبال على مثل حالهم في الماضي.
وقوله: {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا} جيء بالفعلين فيه بلفظ الماضي للإشعار بأنهما من عادتهم القديمة.
وقوله: {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} مبتدأ وخبر والجملة استئناف مسوق لإقناطهم مما أملوه من عدم استقرار أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأََنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} اللام موطئة للقسم، وما موصولة أو موصوفة وهي فاعل جاء، ومن الأنباء حال منها، وفيه خبر مقدم، ومزدجر مبتدأ مؤخر، والجملة صلتها أو صفتها، ومزدجر اسم مصدر أي ازدجار أو اسم مكان أي موضع ازدجار، وعلى هذا ففي الكلام تجريد.(12/128)
وقوله: {حِكْمَةٌ} بالرفع بدل من ما أو خبر لمبتدأ محذوف أو بدل من مزدجر، وأما على قراءة النصب فهو حال من ما سواء كانت موصولة أو موصوفة لأنها إذا جعلت موصوفة فقد تخصصت بالصفة فساغ مجيء الحال منها.
وقوله: {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} الفاء فيه فصيحة، وما للنفي أو للاستفهام الإنكاري وهي على الثاني منصوبة، إما مفعول مطلق والتقدير فأي إغناء تغني النذر، وإما مفعول به والتقدير فأي شيء من الأشياء النافعة تغني النذر، أي تحصله وتكسبه، والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدد عدم الإغناء واستمراره حسب تجدد مجيء الزواجر واستمراره، وقد حذفت الياء من تغن اتباعا لرسم المصحف وموافقة للفظ.
وقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} الفاء لترتيب الأمر بالتولي على ما قبله وبيان نتيجته وقد تم الكلام.
وقوله: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ. خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ. مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} استئناف لبيان أهوال القيامة وسوء أحوال الكافرين، والظرف منصوب بـ "اذكر"مضمرا أو بـ {يَخْرُجُونَ} بعده، ويجوز أن ينتصب بقوله: {فَمَا تُغْنِ} وعلى هذا يكون قوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} اعتراضا، وحذفت الواو من {يَدْعُ} خطا تبعا للفظ، وحذفت الياء من {الدَّاعِ} تخفيفا، قالوا: وهذا إجراء لـ "أل"مجرى ما عاقبها وهو التنوين، فكما تحذف معه حذفت معها.
وقوله: {نُكُرٍ} بضمتين صفة على فُُعُل وهو قليل في الصفات ومنه روضة أُنُف، ورجل شُلُل أي خفيف في الحاجة، وعلى قراءة {نكر} فعلا مبنيا للمجهول فالجملة في محل جر صفة لشيء.(12/129)
وقوله: {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ. مُهْطِعِينَ} خشعا حال من فاعل يخرجون مقدم عليه، والتقديم لأن العامل متصرف، وأبصارهم فاعل خشعا، والتذكير على قراءة {خاشعا} لأن فاعله ظاهر غير حقيقي التأنيث.
وقوله: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} في محل نصب على الحال من فاعل يخرجون، وقوله: ((مهطعين)) حال منه كذلك.
وقوله: {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} استئناف وقع جوابا عن سؤال مقدر نشأ من وصف اليوم بالأهوال، كأنه قيل: فما يكون حينئذ؟ فقيل: {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} .
المعنى الإجمالي:
دنت القيامة وانفلق القمر، وإن يبصر الكفار برهانا على صدق محمد صلى الله عليه وسلم يمتنعوا عن التصديق به ويقولوا سحر دائم أو محكم قوي، وكذبوا وانقادوا لشهواتهم وميولهم الفاسدة، وسيرون عاقبة هذا التكذيب، ولكل أمر غاية يستقر عليها، ووالله لقد أتاهم من أخبار الأمم المكذبة رسلها الذي يكفي لوعظهم لو كانوا يتعظون، عدالة تامة، فأي شيء تحصله الإنذارات إذا عميت القلوب، فأعرض عنهم، اذكر يوم ينادي المنادي إلى أمر خطير تنكره النفوس لشدة هوله، أذلة عيونهم يبرزون من قبورهم مشبهين بالجراد الموزع في الجو مسرعين مادي أعناقهم كالإبل العطاش إلى هذا المنادي يقول الجاحدون هذا يوم صعب شديد.
ما ترشد إليه الآيات:
1- قرب الساعة.
2- انشقاق القمر.
3- إعراض الكفار عن الإيمان بالآيات.
4- اتهامهم النبي بالسحر.
5- بيان أهوال القيامة وسوء أحوال الكافرين فيها.(12/130)
قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأََرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
المناسبة:
لما ذكر أنه جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر شرع في تعداد بعض هذه الأنباء على سبيل التفصيل.
القراءة:
قرأ الجمهور {أَنِّي} بفتح الهمزة وقرئ بكسرها، وقرأ الجمهور {فَالْتَقَى الْمَاءُ} وقرئ {فالتقى الماءان} ، وقرأ الجمهور {كُفِرَ} مبنيا للمفعول وقرئ {كفر} مبنيا للفاعل.
المفردات:
{وَازْدُجِرَ} انتهر وأوذي، {مَغْلُوبٌ} مقهور، {فَانْتَصِرْ} أي فانتقم لي منهم، {مُنْهَمِرٍ} منصب بشدة وغزارة، {وَفَجَّرْنَا} شققنا، {أَمْرٍ} حال، {قُدِرَ} قضي في الأزل، {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} كناية عن السفينة، والألواح الأخشاب العريضة والدسر المسامير، {آيَةً} عبرة ظاهرة أو علامة واضحة، {مُدَّكِرٍ} معتبر ومتعظ، وأصل مدكر مذتكر أبدلت التاء دالا وكذلك الذال ثم أدغمت الدال في الذال، {وَنُذُرِ} إنذاري، {يَسَّرْنَا} سهلنا وهيأنا، {لِلذِّكْرِ} للحفظ والتذكر.
التركيب:
قوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} التأنيث في كذبت لمراعاة معنى قوم وهو الأمة والجماعة، والضمير في {قَبْلَهُمْ} لقريش.(12/131)
وقوله: {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} الفاء فيه لتفصيل الإجمال كقوله: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ} .
وقوله: {وَازْدُجِرَ} يجوز أن يكون معطوفا على قالوا أي لم يكتفوا بهذا القول بل ضموا إليه زجره ونهره، ويجوز أن يكون من مقول القول المذكور أي قالوا هو مجنون واستطير جنونا أي ازدجرته الجن وذهبت بلبه وتخبطته، والظاهر الأول.
وقوله: {أَنِّي مَغْلُوبٌ} بفتح الهمزة بفتح الهمزة على تقدير بأني مغلوب، وهذا على حكاية المعنى ولو جاء على حكاية اللفظ لقال بأنه مغلوب، ومن قرأ بكسر الهمزة فهو إما على إضمار القول أي فقال إني مغلوب، وإما إجراء للدعاء مجرى القول وهو مذهب الكوفيين.
وقوله: {بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} الباء فيه للتعدية على جعل الماء كالآلة التي يفتح بها مبالغة، ويجوز أن تكون الباء للملابسة، والجار والمجرور في موضع نصب على الحال، وانتصب عيونا في قوله: {وَفَجَّرْنَا الأََرْضَ عُيُوناً} على التمييز المحول عن المفعول به أي فجرنا عيون الأرض وتحويله للتمييز أبلغ من أصله، لأن الأرض جعلت كلها كأنها عيون مفجرة.(12/132)
وقوله: {فَالْتَقَى الْمَاءُ} على قراءة الجمهور بإفراد الماء لإرادة الجنس، كأنه قيل فالتقى ماء السماء وماء الأرض، ولإفادة تحقيق أن التقاء الماءين لم يكن بطريق المجاورة والتقارب بل بطريق الاختلاط والاتحاد، ومن قرأ {الماءان} بالتثنية فلاختلاف النوعين، والضمير المنصوب في {وحملناه} لنوح عليه السلام، وقوله: {تَجْرِي} في محل جر صفة لسفينة المكنى عنها بذات ألواح ودسر، وجمع الأعين في قوله: {بِأَعْيُنِنَا} لإضافته إلى {نا} وقد لوحظ أنه إذا وردت العين أو اليد بلفظ المفرد أضيفت إلى ياء المتكلم أو ضمير الواحد فقط، كقوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} وكذلك إذا وردت بلفظ التثنية، وأما إذا وردت بلفظ الجمع فإنها لابد أن تكون مضافة إلى "نا" التي هي للجمع أو للواحد المعظم كما في هذا المقام، فلا تدل على إثبات أكثر من عينين لله عز وجل لأن الجمع فيها للتعظيم ومناسبة الضمير، والثابت لله تعالى عينان بلا تشبيه ولا تمثيل ولا تكييف ولا تأويل.
وانتصب جزاء في قوله: {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} بفعل مقدر أي أغرقوا جزاء وانتصارا، وقوله: {لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} يعني نوحا عليه السلام، والتعبير بكفر لبيان أنه كان نعمة ساقها الله لهم فجحدوها، ومن قرأ {كفر} بالبناء للمعلوم فتقديره أغرقوا عقابا للكافرين.
وقوله: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} الضمير المنصوب في تركناها قيل للسفينة وقيل للفعلة، ومدكر مبتدأ وخبره محذوف وتقديره فهل مدكر موجود، والمراد من الاستفهام التوبيخ على عدم الادكار مع ظهور أسبابه.
وقوله: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} الاستفهام فيه للتقرير والتعظيم والتعجب، وكيف خبر كان إن كانت ناقصة، وأما إذا كانت تامة فهي في موضع نصب على الحال.(12/133)
وقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} تكررت هذه الآية والآية السابقة في آخر القصص الأربع تقريرا لمضمون ما سبق من قوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌحِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} وتنبيها على أن كل قصة منها مستقلة بإيجاب الادكار فيها، وإشعارا بأن تكذيب كل رسول مقتض لنزول العذاب، وليجددوا عقيب سماع كل نبأ اتعاظا، واستئنافا للتنبيه والإيقاظ لئلا يغلب عليهم السهو والغفلة.
المعنى الإجمالي:
أنكرت قبل قريش جماعة نوح عليه السلام فنسبوا عبدنا الصالح نوحا إلى الكذب والافتراء، وقالوا به مس من الجن، ونهروه فسأل ربه بأني مقهور فانتقم من هؤلاء المكذبين، فاستجبنا له، وجعلنا السماء ترسل عليهم الماء الغزير من جميع أبوابها، وشققنا الأرض عيونا فاختلط ماء السماء بماء الأرض على حال قضاها الله تعالى في الأزل، وحملنا نوحا على سفينة ذات أخشاب عريضة ومسامير تسير بسرعة فائقة فوق الماء تحت أبصارنا فأغرقنا الكافرين انتصارا لعبدنا الصالح الذي كان نعمة الله عليهم فجحدوها، ولقد أبقينا هذه السفينة أو هذه الفعلة برهانا واضحا على قدرتنا وانتقامنا من أعدائنا فهل من متعظ موجود.
لقد نزل بهم عذابي ووقع عقابي موقعه، ولقد هيأنا القرآن وسهلناه للحفظ والتذكر فهل من متعظ موجود.
ما ترشد إليه الآيات:
1- لقريش سلف سيِّء في تكذيب الأنبياء ونسبتهم إلى الجنون.
2- انتصار الله لعباده الصالحين.
3- إغراق المكذبين بعذاب بئيس.
4- إثبات العينين لله عز وجل بلا تشبيه ولا تمثيل.
5- تيسر القرآن للحفظ والتذكر.
من كلمات فقيد الإسلام الملك فيصل(12/134)
لماذا يكون العالم العربي منقسما إلى يمين ويسار ولا يكون عربيا صرفا؟.. لقد كافحنا ضد الغرب ولا نريد بديلا له من الشرق، فالاستعمار واحد سواء من الغرب أو من الشرق، هل ننتظر من أمريكا أو من روسيا أو من إنجلترا أو من فرنسا.. أن تأتي وترتب على ظهورنا وتحل مشاكلنا..
نحن أصحاب تاريخ وتراث وأمجاد.. ديننا خالد، ومجدنا طريف وتالد.. تراثنا أشرف تراث، وتاريخنا أشرف تاريخ، وأمتنا خير أمة أخرجت للناس.
كان مكاننا في مقدمة الشعوب.. فلن نرضى أن نكون في مؤخرتها.(12/135)
رسائل لم يحملها البريد
لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
النبتة الصغيرة
نبتة في الغاب قالت وهي في سنّ الصغر
عجبا للدوح يهوي كلما الريح عبر
أنا إن ملت مع الريح إذا ما الريح مر
لا أرى في الغاب غصنا يدعي فيّ الضلال
إنني نبتة عام لست في الدوح الكبير
ما على مثلي عتب إن دهى أمر خطير
وعوى في الغاب عصف الريح ينهى ويشير
فانثنت قامتي الهيفاء ذلا وابتهالا
سأروض العود أن يقوى على صلب الكفاح
رافع الجبهة لا يعنو إذا مرّت رياح
لا، ولا يصرخ أنّات الثكالى والنواح
هامة كالقمة الشماء تأبى أن تذال
ويمرّ العام إثر العام في الغاب الخصيب
فإذا الأغراس دوح يملأ الأفق الرحيب
وإذا بالنبتة الصغرى لها جذع صليب
وفروع باسقات وثمار وظلال
داعبتها نسمات الصيف في ضوء القمر
فتغنى الورق الأخضر لحنا كالوتر
وانثنت أغصانها اللدن بزهو وأشر
وتعالت في رحيب الجو عُجْبا ودلال
جارة قالت لها إذ قد رأتها تستطيل
أو لست النبتة الصغرى التي كانت تقول
"عجبا للدوح يهوي كلما الريح عبر"
أين أنت الآن يا أختاه من ذاك المقال؟!
ويمر الصيف صيف النسمات الوادعات
والخريف الأحمق المجنون يصحو من سبات(12/136)
فيدوي يملأ الغاب رياحا ذاريات
تسلب الأشجار ثوبا كان مرآة الجمال
كل ما في الغاب يهوي في ابتهال وخشوع
معلنا طاعته العمياء في هذا الركوع
ما لهذي الدوحة الكبرى أبت هذا الخنوع
أبِها لوثة عقل وغشاوات الخبال؟!
نظر الدوح إليها نظرات شزرات
وأطل الحقد يعوي للرياح العابرات:
يا لها من فعلة نكراء في دنيا النبات
قد جنتها هذه الحمقاء كبرا واختيال!
حطّميها أيها الريح ولا تبقي أثر
إنها بادرة السوء على أرض الشجر
حطّميها قبل أن يسري في الغاب الخطر
حطّميها وأذيقيها وبالا ونكال
ثم جاءت عاصفات في شتاء عاصف
جلجلت في الغاب تدوي مثل رعد قاصف
فهوى الغاب على الأرض بدمع واكف
وأبت دوحته الكبرى ركوعا وابتهال
قالت العاصفة الهوجاء والغاب سجود
أي شيء أنت يا حمقاء في هذا الوجود؟!
أوَ عصيان لأمري وتعدٍّ للحدود؟!
عن قريب سترين الموت في ساح القتال
دمدم العاصف في الجو رعودا قاصفات
ومضى في الغاب يلوي بالجذوع الآبيات
صرخة نكراء تعني رحلة عن ذي الحياة
ردّدت أصداءها المرّة هامات الجبال
فرح الدوح لها إذ قد رآها تصرع
لم يعد في الغاب جذع ثائر لا يخضع
كل أشجارك يا غاب سجود ركعٌ(12/137)
فلتعيشي اليوم يا أشجار في أنعم بال!!(12/138)
نظرات في التاريخ
لفضيلة الشيخ أحمد محمود الأحمد المدرس بكلية الدعوة بالجامعة
يقول أبو بكر محمد بن محمد بن خميس في مقدمة كتابه ((تاريخ مالقة)) [1] منوها بعلم التاريخ: "إن أحسن ما يجب أن يعتنى به، ويلم بجانبه بعد الكتاب والسنة معرفة الأخبار، وتقييد المناقب والآثار، ففيها تذكرة بتقلب الدهر بأبنائه، وأعلام بما طرأ في سالف الأزمان من عجائبه وأنبائه:
ونحن، وإن كنا لا نأخذ بحرفية كلامه [2] رحمه الله، فإنا نقر بما لعلم التاريخ من قيمة جليلة، وأثر بعيد في صياغة الأمة، وتكوينها على نحو ما، سواء في ذلك أفرادها. أو كتلتها العامة، كوجود اجتماعي، ينبثق منه وجود سياسي هو الدولة.
وقصاراي -الآن- أن ألمس هذا العلم الجليل في ضوء الحقائق الإسلامية، وفي ضوء أصولنا الحضارية لمسات، وأن أنظر إليه نظرات، توفي بنا -إن شاء الله -على أفكار ما أحسبنا في غنى عنها.
سؤال أريد أن أطرحه الآن في سياق لمساتنا ونظراتنا هذه، ما التاريخ؟ ما التاريخ لغة؟ وما التاريخ حقيقة، وإن شئنا قلنا القولة التقليدية: ما التاريخ اصطلاحا؟
التاريخ لغة هو تعريف الوقت، والتوريخ مثله، يقال: ((أرّخ الكتاب ليوم كذا أي وقته ليوم كذا. [3]
وذهب الأصمعي إلى أن بني تميم يقولون: ورّختُ الكتاب توريخا، وأن قيسا يقول: أرخته تأريخا.. مما يؤكد عربية هذه الكلمة، فهي أصيلة في لهجات القبائل، ولهم فيها من التصرف ما يعرفه اللغويون من تصرفهم بأصل كلامهم، يقول العلماء ((المعجميون)) كابن منظور في لسان العرب: إن كلمة التاريخ مأخوذة من ((الأرْخ)) وهو ولد البقرة الصغير، كأنه شيء حادث كما يحدث الولد…
ومع ذلك فقد ذهب ناس إلى أن الكلمة فارسية الأصل، مأخوذة من قولهم: ((ماه روز)) بمعنى حساب الشهور والأيام، فعربوها وقالوا: ((مؤرخ)) ، وجعلوها مصدرا فقالوا: ((التاريخ)) [4] .(12/139)
وعندي أن هذا المذهب ضعيف مستبعد، وفيه كثير من التكلف، وليس هناك من تقارب بين اللفظ العربي ((تاريخ)) وبين الأصل الفارسي المدَّعى، وإذا لبعضهم أن هناك نوعا من تقارب، فليس هو عندي بالذي يسوغ الحكم بفارسية أصل هذه الكلمة، على أن التقارب في النطق بين لفظين –مهما كان قويا وواضحا- لا يعني بحد ذاته أن أحد هذين اللفظين المتقاربين مأخوذ من الآخر، بل لابد من ثبوت هذا الأخذ بالتقصي والدليل العلميين، ألسنا نجد في بعض اللغات كلمات متقاربة في النطق تقاربا يلفت النظر، ومع ذلك فلا يمكن لمجرد هذا التقارب أن يقال: إن هذه الكلمات مأخوذ بعضها عن بعض، ولأضرب لذلك مثلا كلمة ((نَيِّف)) بمعنى الزيادة، أو ((نايف)) بمعنى عالٍ مرتفع، فإنهما تتقاربان في النطق وكلمة ((KNIFE)) الإنكليزية التي تعني مدية أو سكينًا تقاربًا كبيرا، ولكن أيسوغ هذا التقارب وحده الإذعان بأن إحدى اللغتين العربية أو الإنكليزية قد (أخذت كلمتها عن الأخرى) ، دون توفر ((التقصي والدليل العلميين)) ؟
ولست أقول ذلك تعصبا مني من شعوب الإسلام على شعب آخر، إني –بحمد الله- من المسلمين إسلاما مطلقا لقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [5] .
ولقول رسوله صلى الله عليه وسلم: "لا فضل لعربي على عجمي، ولا عجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، الناس لآدم، وآدم من تراب" [6] .
على أن ذلك لا يحرم الرأي العلمي حقه، بل يوفيه إياه، ويمنحه فسيح المجال على مستوى التفكير، والتعبير، والعمل.
والخلاصة أن كلمة ((تاريخ)) عربية الأصل، وأنها لغة شمالية عدنانية، لا جنوبية كما يقول بعضهم، ولها في لغات القبائل العدنانية جذرها ومأخذها الواضحان، ولها تصرف هذه القبائل بها تصرفها بأصيل كلامها… هذا هو التاريخ لغة، أما التاريخ حقيقة أو اصطلاحا، فإني مبينه فيها يأتي بمقدار ما يفتح الله سبحانه ويعين.(12/140)
لقد عرف المؤرخون التاريخ تعريفات شتى تختلف عمقا، ودقة، وشمولا، وبعدا من الصواب أو مقاربة له، وإليكم نمادج منها.
أولا: قال ابن خلدون [7] (732-808هـ-1332-1406م) :
((فن التاريخ…هو في ظاهره لا يزيد على أخبارٍ عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول، وباطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة [8] وعريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق)) .
ثانيا- يقول محيي الدين محمد بن سليمان الكافيجي [9] (788-879هـ-1386-1974مـ) : "وأما علم التاريخ فهو علم يبحث فيه عن الزمان وأحواله، وعن أحوال ما يتعلق به من حيث تعيين ذلك وتوقيته".
ثالثا: -يقول محمد بن عبد الرحمن السخاوي [10] (831-902هـ-1427-1497مـ) : "التاريخ في الاصطلاح التعريف بالوقت الذي تضبط به الأحوال من مولد الرواة والأئمة، ووفاة.. ورحلة وحج، وحفظ وضبط وتوثيق، وتخريج، وما أشبه هذا مما مرجعه الفحص عن أحوالهم في ابتدائهم وحالهم واستقبالهم، ويلتحق به ما يتفق من الحوادث والوقائع الجليلة، من ظهور ملمة، وتجديد.. خليفةٍ ووزير، وغزوة، وملحمة، وحرب، وفتح بلد، وانتزاعه من متغلَّب عليه، وانتقال دولة، وربما يتوسع فيه لبدء الخلق، وقصص الأنبياء، وغير ذلك من أمور الأمم الماضية وأحوال القيامة، ومقدماتها مما سيأتي، أو دونها كبناء جامع أو مدرسة، أو قنطرة، أو رصيف، أو نحوها، مما يعم الانتفاع به، مما هو نافع مشاهد، أو خفي سماوي، كجراد، وكسوق، وخسوف وكسوف، أو أرضي كزلزلة، وحريق، وسيل، وطوفان، وقحط، وطاعون، وموتان، وغيرها من الآيات العظام، والعجائب الجسام، والحاصل أنه فن يبحث فيه عن وقائع الزمان من حيثية التعيين والتوقيت بل عما كان في العالم".(12/141)
رابعا-يذهب سيد قطب [11]-رحمه الله- إلى أن التاريخ ليس هو الحوادث وإنما هو تفسير هذه الحوادث، والاهتداء إلى الروابط الظاهرة والخفية التي تجمع شتائها، وتجعل منها وحدة متماسكة الحلقات، متفاعلة الجزئيات، ممتدة مع الزمن والبيئة امتداد الكائن الحي في الزمان والمكان.
وبذلك يستحيل التاريخ عملية استبطان وتجاوب في ضمائر الأشياء والأشخاص والأزمان والأحدث، ويتصل بناموس الكون ومدارج البشرية ويصبح كائنا حيا ومادة حياة".
هذه التعريفات التي ذكرناها مختلفة- كما قلنا- عمقا ودقة وشمولا، فتعريفا الكافيجي والسخاوي يتفقان في التركيز على ((التعيين والتوقيت)) أو على تعيين زمان ((الأحوال والوقائع)) وينفرد السخاوي في النص على شمول مفهوم التاريخ لما عدَّد من الأمور، أما ابن خلدون فيركز على ما يسمى في عصرنا بفلسفة التاريخ، حين ينص على الاهتمام بتعليل الكائنات ((الحوادث والموجودات"وتعرف أسباب وجودها وكيفيته، مما يفضي إلى معرفة نتائجها، ومعرفة علاقتها بالوقائع والأحوال التي تسبقها أو تلحقها أو تواكبها تأثرا وتأثيرا، بحيث يبدو التاريخ سلسلة منطقية من الوقائع والكائنات المترابطة بمبدأ الأسباب والمسببات… وهذا المعنى من ملاحظة واستنتاج ابن خلدون، وقد أدرك به أو كاد المعنى الحقيقي للتاريخ، وبذلك سبق علماء الغرب في هذا المضمار سبقا جديرا بالتقدير والإعجاب، واعتبر رائد علم الاجتماع، والبحث التاريخي العلمي…، وقد علق ((إيف لاكوست)) صاحب كتاب ((ابن خلدون واضع علم ومقرر استقلال [12] على هذه الناحية بقوله: "يستهل ابن خلدون مقدمته بمقطع رائع يشعر قراءه أنه أمام نفحة ستقود ديكارت [13] بعد ذلك بثلاثة قرون، وليس مثال ذلك السبق بنادر بين تراث الأدب العربي (الإسلامي) الذي خلفه لنا العصر الوسيط".(12/142)
ولست أسوق قول: ((لاكوست)) هذا للتَّقَوِّي به، فنحن –بحمد الله- في غنى عنه، وأرجو أن يكون إدراكنا لروائع تراثنا، وفضائل رجالنا ذاتيا استقلاليا، وجل ما في الأمر أني سقته لبيان أن عبقرية ابن خلدون قد فرضت نفسها حتى على الباحثين الأجانب، وقادتهم إلى الاعتراف بفضلها وتوجيهها لواحد من عباقرتهم المعدودين…
أما سيد –رحمه الله- فقد أقر ما ذهب إليه ابن خلدون، مضيفا إليه فكرة إتصال التاريخ –إذا فسر على النحو الذي نصه- بناموس الكون ومدارج البشرية، وصيرورته كائنا حيا، ومادة حياة، وقد استقل-رحمه الله- في كتابات أخرى له في الموضوع نفسه برسم منهج متكامل يضع دراسة التاريخ الإسلامي في نصابها الصحيح، ويواجه مواجهة ظافرة مستعلية عبث المستشرقين وأتباعهم في كتابة تاريخنا ودراسته…
ولعلنا بعدما تقدم نستطيع أن نقول في تعريف التاريخ: "إنه علم تبحث فيه الوقائع والكائنات المختلفة التي تحدث على مسرح الحياة بحثا يحدد زمانها، ويبين أسبابها وكيفياتها، ونتائجها، وآثارها في مجرى الحياة والأحياء، بحيث يظهرنا هذا البحث على السنن الله التي لا تحويل لها ولا تبديل، والتي تسير الحياة تسييرا سببيا منظما، خاليا من الاعتباط، حتميا، ولكن في نطاق مشيئة الله تعالى وقدرته، وفي نطاق قضائه وقدره".
هل التاريخ علم؟
قبل الإجابة عن السؤال لابد من بيان المعنى الاصطلاحي ((للعلم)) الذي نورد هذا السؤال بناءًا عليه، إن هذا المعنى يراد به المعرفة التي تقوم على مبادئ كلية ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، ويمكن الاستشفاف (التنبؤ) على أساسها، كعلم الكمياء، الفيزياء، والرياضيات…
ويذهب فريق من الباحثين إلى أن التاريخ هو علم بهذا المعنى، منهم المؤرخ الفرنسي
foustel de coulange الذي يقول: "إن التاريخ ليس فنا ولكنه علم محض" [14] .(12/143)
ويقول هؤلاء إن للتاريخ قواعد ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان [15] ، ويذكرون منها مايلي:
أ-إن العبقرية لا تظهر إلا إذا توفرت لها ظروف ملائمة، فعندهم أن هذه القاعدة تحفظ بصحتها في كل زمان ومكان، فعمر بن الخطاب –مثلا- لولا الظروف التي هيأها ظهورها الإسلام لما كان بالإمكان أن يكون عمر الذي نعرفه، جل ما هنالك، أنه كان من الممكن أن يكون رجلا كبيرا من رجالات قريش، وكذلك سيف الله خالد بن الوليد- رحمه الله- لولا الظروف المواتية التي هيأها الإسلام، لما أمكن أن يكون أكثر من فارس بارز بين فرسان قريش أو فرسان العرب، فهذه القاعدة- عندهم- تنطبق على كل عبقرية لمعت في الشرق أو في الغرب، وعندي أنه لابد من تخصيص هذه القاعدة بغير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنهم لا يخضعون لهذه القاعدة، وإنما يقوم أمرهم على ما يؤيدهم به الله تعالى من حق، وعون، وإعجاز…
ب- إن تعليم الشعوب والعناية بشؤونها الحيوية إذا سارا معا جنبا.. هذه الشعوب الهزات العنيفة، والقلاقل والثورات، وأنالها حياة الاستقرار والرفاهية، ووضعاها على درب التقدم والإسهام في تصحيح مسيرة البشرية وإسعادها، وأما إذا عُلمت دونما عناية جدية بشؤونها كان حدوث هذه الهزات في حياتها أمرا حتميا…
ونستطيع أن نجد لهذه القاعدة تطبيقات كثيرة على مدى حياتنا الإسلامية، أذكر منها تطبيقين اثنين، الأول في عهد عمر بن عبد العزيز، لقد نشر العلم والتوعية والهداية في أرجاء بلاد الخلافة، وعُني في الوقت نفسه بشؤون الأمة، فأخلدت إلى السكينة، وجعل الخوارج يجنحون إلى الهدوء، ولو قد طال عمره رحمه الله -لنعمت البلاد والعباد باطمئنان واستقرار تغير منهما مجرى الحياة الإسلامية، بل مجرى حياة العالم كله.. ولنسأ –والأمر بيد الله- في عمر الدولة الأموية ذاتها.(12/144)
والتطبيق الثاني هو ما نلاحظه في إحدى الدول الإسلامية المعاصرة، فبينما تبنى في ربوعها المدارس، وتشاد المعاهد، وتؤسس الجامعات، وتتزايد المشروعات التي تعنى بشؤون الشعب، فمن مشروعات زراعية إلى مشروعات صناعية، ومن برامج إسكانية إلى أخرى تتعلق بالتوعية الإسلامية، وتعمل على تنظيم النهضة، وضبط مسيرتها، وبوتقتها وحمايتها من الآفات المضيعة المعرفة كالانحراف والجنوح.
وهذا في نظر علم التاريخ من الرشاد في السياسة، والله هو المسؤول أن يوفق إلى مزيد من وضوح الرؤية، وسداد الخطى، على أنه من الملاحظ أن الدول المعاصرة كثيرا ما تعمل على التسابق في هذه الحلبة نتيجة القيمة المتزايدة التي تحتلها الشعوب على نحو ما في برامج الحكام العقلاء مسلمين كانوا أو غير مسلمين.
ويبدو أن القائلين بأن التاريخ ((علم محض)) كالفيزياء والكيمياء، والرياضيات قد بالغوا، إنه لما يبلغ هذه المنزلة، وربما بلغها يوم تنضج العلوم العديدة التي يعتمد عليها، والتي يسمونها ((بالعلوم المساعدة)) كاللغات، وفقهها، وعلم قراءة الخطوط، وعلم النميات (علم النقود والمسكوكات) والاقتصاد، والآدب، وعلم النفس [16] …
ويوم تتهيأ الشروط اللازمة للهيمنة على اكتشاف سنته (قوانينه) ونواميسه… على أنه في وضعه الراهن له من خصائص ((العلم)) إمكان الاستشفاف به أو التنبؤ به كما يقال، وإلى ذلك يشير ابن الأثير [17] (555-630هـ-1160-1232مـ) رحمه الله بقوله:
"ومنها (أي من فوائد علم التاريخ) مايحصل للإنسان من التجارب، والمعرفة بالحوادث، وما تصير إليه عواقبها.
وأيًّا ما كان الأمر فلعلنا نستطيع أن نقول أن التاريخ –كما هو الآن- هو علم باعتبارين على الأقل:
الأول: كون وقائعه تحدث حسب سنن ((إلهية ثابتة)) ، وإن لم نحط علما بالكثير منها كما أحطنا بسنن العلوم الأخرى، كالفيزياء، والكيمياء، والرياضيات.(12/145)
الثاني: كونه ذا منهج للبحث يسهم في تحرير مسائله، ونقدها، وتخليصها من الشوائب، وخلاصة هذا المنهج ما يلي:
1-جمع مواد البحث من روايات ونقول وأخبار.
2-نقدها سندا ومضمونا، وإسقاط ما لا يثبت على هذا النقد.
3-دراسة الباقي وتفهمه وتحليله.
4-تنظيمه وتنسيقه، ومقارنة بعضه ببعض، وتبين ما بين أجزائه من روابط…
5-استنتاج النتائج على شكل مبادئ وضوابط.
والخلاصة أن التاريخ لما يبلغ مرتبة العلوم البحتة، بالرغم من تقدم الدراسات التاريخية تقدما كبيرا، وما تزال آخذة بالتقدم، وربما أصبح التاريخ علما محضا حين تنضج- كما قلنا- علومه المساعدة، ويوم تتهيأ الشروط اللازمة للهيمنة على اكتشاف سننه ونواميسه، ولعلنا ننصف التاريخ في مرحلته الحالية إذا قلنا عنه:
إنه اليوم علم بحسب الاعتبارين السابقين على الأقل، كما أنه-في الوقت نفسه- حكمة في فحواه، أدب في طريقة عرضه وأدائه، وفي تأثيره وإمتاعه.
فوائد علم التاريخ:
لهذا العلم فوائد جوهرية منها ما يلي:
أولا –إنه يغذي العقل، وينمي الفكر، ويخصب التجارب، بحيث يكون من عرفه كمن عاش الدهر كله، وجرب الأمور بأسرها، وباشر بنفسه كل ما باشر السابقون من الأحوال، ومن هنا نرى عباقرة الحكام في الإسلام، كمعاوية -رضي الله عنه- يعنون بدراسة التاريخ عناية فائقة، فلقد كانت له أوقات معينة من كل ليلة تقرأ عليه فيها أخبار الأمم والدول الماضية، وأخبار سياساتها ومعالجاتها لشؤون الحكم، وكان لديه رجال مختصون بتهيئة هذه المجالس، وما يكون فيها أحاديث…(12/146)
وأبو جعفر المنصور لما هم بقتل عبد الرحمن بن مسلم (أبو مسلم الخرساني) سقط -كما يقول الجاحظ- بين الاستبداد برأيه، والمشاورة فيه، فأرق في ذلك ليلته، فلما أصبح دعا بإسحق بن مسلم العقيلي وسأله عن خبر الملك الفارسي سابور الأكبر مع أحد كبار رجال دولته، وما أن سمع هذا الخبر التاريخي وتملاه حتى خرج من تردده، وصمم على قتله، لما استبان له من وجه الاتعاظ في تلك السابقة التاريخية [18] .
وكان الأشرف برسباي من حكام مصر (825-8461هـ) يطلب من البدرالعيني أن يقرأ عنده التاريخ، وقد قال الأشرف ما معناه، إنه ما عرف الإسلام إلا منه [19] .
وممن كانوا يعنون بدراسة التاريخ السلطان العظيم محمد الفاتح (1451-1481مـ) والسلطان المحنك عبد الحميد الثاني، ومن يقرأ مذكراته يَرَ أنه قبل أن يقدم على اتخاذ الخطوة الأخيرة بحق مدحت باشا، قد استعرض بدقة وحصافة السوابق التاريخية كسابقة المنصور مع أبي مسلم، وسابقة الرشيد مع البرامكة… ثم أرسل من بعدُ مدحت باشا إلى قلعة الطائف.
وما يزال رجال السياسة الكبار، ولن يزالوا يعنون بدراسة التاريخ والتعلم منه، حتى قيل عنه: ((إنه علم رجل الدولة)) ، ويلاحظ أن المسابقات التي تجريها وزارات الخارجية في العالم لاختبار موظفين دبلومسيين لا يمكن أن تخلو البتة من مادة ((التاريخ)) .
ولا يقتصر الاهتمام به على رجال السياسة، بل يشاركهم في ذلك رجال الدعوة، وكل مشتغل بالأمور التوجيهية من معلمين، وإداريين، وقادة أحزاب، ورؤساء جمعيات.(12/147)
ومن ثم نرى أئمة الدعوة يستعينون بالتاريخ في تحقيق مهامهم، فها إن شيخ الإسلام أحمد بن تيمية -رحمه الله- يعمد إلى دراسة تاريخ قبة الصخرة حين أراد أن يسوق الأدلة على أنه لا يشرع تعظيم هذه الصخرة، ولا الصلاة عندها [20] ، وكلنا يعلم أن مجدد القرن الثاني عشر محمد عبد الوهاب، وابنه الشيخ عبد الله -تغمدهما الله برحمته- قد ألفا في السيرة كتابين قيمين - والسيرة أصل التاريخ الإسلامي [21] ليستعينا بهما في الدعوة إلى استئناف الحياة المسلمة…
وبناء على ذلك نقول: إن التاريخ هو علم رجل الدعوة، ورجل الإدارة، ورجل الإرشاد والتوجيه، كما أنه علم رجل الدولة [22] …
ثانيا: إن دراسة التاريخ والإطلاع على سير الهداة من أنبياء وأئمة ومصلحين، تشد من عزمات القارئ، وتبعث من همته، وتقذف في نفسه الصبر والقوة والصمود، ولنا أن نستلهم ذلك من قوله تعالى: {وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [23] .
ثالثا: إن دراسة التاريخ تؤثر تأثيرا بالغا في نظرة الأمم إلى ذاتها، فإذا ما درست أمة من الأمم تاريخها دراسة صحيحة أمكنها أن تعرف نفسها، وأن تدرك ذاتها الحقيقية إدراكا صحيحا، فالأمة الإسلامية مثلا إذا درست تاريخها دراسة سليمة عارية من دس الأعداء، وتحريفهم، وعبثهم في تفسيره، أدركت ذاتها، أو هويتها الإسلامية، وعرفت أنها أمة دعوة، وأنها أمة مسلمة قبل كل شيء، وبعد كل شيء، بل عرفت أنها مسلمة وحسب.
أما إذا تسلطت على دراستها لتاريخها عوامل التشويش، والتحريف، وفسر على غير وجهه، فإنها تضل عن ذاتها، وتضيّع ((هويتها)) وتصبح فكرتها عن نفسها، ونظرتها إلى ذاتها مشوشة، محرفة، مهزوزة مزيفة…(12/148)
وقد أدرك أعداؤنا أثر تشويش التاريخ الإسلامي في ((ضياع)) الأمة الإسلامية فراحوا يدرسونه دراسة عميقة منظمة، ويتلاعبون في تفسيره، ويعطونه من المفاهيم والعلل والنتائج ما يخدم مآربهم، وما يحرفه عن مواضعه، وقد بلغ الأعداء غايتهم من هذا النحو إلى حدٍ كبير، فأضاع المسلمون هويتهم الإسلامية الأصلية أو كادوا.
يقول أحد الذين درسنا عليهم التاريخ [24] : "ونحن العرب أحق الناس أن نذكر أن التقهقر ابتدأ فينا منذ أن طغت العناصر الأعجمية علينا، وإننا إذا شئنا أن ننهض فيتوجب علينا إزالة هذا العامل بادئ ذي بدء".
وقد غاب عن هذا الأستاذ أن التقهقر ابتدأ فينا منذ أن بدأنا نحن العرب -نضيع هويتنا المسلمة الأصيلة، وجعلنا نغادر الخط النبوي الراشدي في التصور والسلوك، على اختلاف ضروبه في شؤوننا الداخلية والخارجية، ولن نقال من عثارنا حتى نستعيد تلك الهوية، ونراجع ذلك الخط.
ولكن لا تثريب على هذا الأستاذ، فإنه لم يعرف التاريخ إلا من خلال أساتذته في الجامعات الأجنبية، أي لم يعرفه من خلال دراسة موضوعية علمية تتفهم الأشياء بمنطق طبائع الأشياء ذاتها، لا بمنطق مستعار يفرض عليها فرضا، وما أكثر المشتغلين بالتاريخ في أيامنا هذه، ممن يذهبون مذهب أستاذنا هذا؟
وقد ترتب على ضياع الأمة هذا الضياع ضعف بنيتها الإسلامية، وزوال مناعتها إلى حد بعيد، وقد كان إيمانها بدينها، واعتصامها بهويتها الإسلامية مصدرا لقوة بنيتها ومناعتها في الوقت ذاته.
إن الجسم الذي تضعف بنيته، وتزول مناعته يصبح مضيافا للجراثيم، مفتح الأبواب أمام مختلف الأمراض، وهكذا أضحت الأمة الإسلامية مضيافة لمختلف الأفكار، مفتحة الأبواب أمام أي عقيدة، أو فلسفة، أو نزعة…فالقومية، والعرقية، والإقليمية، والعلمانية، والانحلالية، كلها تجد في كيان هذه الأمة مراعي خصبة…(12/149)
والواجب الآن على العناصر السليمة الواعية من المسلمين أن تجهد في تهيئة الغذاء الصحيح المقوي الذي يرد على الأمة صحتها، ويقوي بنيتها ومناعتها، ويريح عليها هويتها الأصلية المضاعة.
وهذا الغذاء يتمثل في أمور، في مقدمتها دراسة التاريخ الإسلامي دراسة أصلية من خلال العقيدة الإسلامية المستقاة من الكتاب والسنة، ومن واقع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وواقع تاريخ أصحابه، وخلفائه الراشدين، ومن نحا نحوهم دون تأول أو انحراف أو عبث…
رابعا- ومما يدخل في بيان فوائد التاريخ أن الاشتغال به يفضل الاشتغال بكثير من مسائل علم الكلام، والجدل، والفلسفة، التي لا تعود على المسلمين بغير التشكيك وضياع الوقت، وتشويش الأذهان، كالكلام في الزمان هل له ابتداء وانتهاء، وأول وآخر، وهل كان هنالك شيء قبل خلق الله للزمان، وهل الزمان فان أو باق، وأمثال ذلك من المسائل التي لا ينتهي العقل بشأنها إلى مفيد أو مطمئن، وخير من ذلك أن ينصرف المسلم إلى دراسة التاريخ الذي يغذي مداركه، وخصب تجاربه، ويزيد من خبراته، ويصله بسير الأنبياء والصالحين، وعظماء الرجال، مما يأخذ بيده إلىملء الوقت بالأعمال الإيجابية التي تعود على الأمة وأبنائها بالخير في دنياها وآخرتها.
خامسا-إن للتاريخ فائدة إجتماعية أخلاقية، وإن شئت فقل: ((فضيلة قضائية)) ذلك أنه ينصف الرجال الذين ظلمهم دهرهم، وتنكر لهم معاصروهم، فأساؤوا القالة فيهم، والحكم عليهم، فيجيء التاريخ بدوره ويعدل فيهم، بإظهار حقيقتهم وتفنيد المظالم التي وقعت عليهم، كما أنه قد يفعل العكس فيميط اللثام عن واقع أشخاص استطاعوا أن يستأثروا بتعظيم معاصريهم، بسبب ما توفر لديهم من مال وسلطان، أو ذكاء استعملوه في غير وجهه.(12/150)
فها إن أحمد بن تيمية رحمه الله (661-728هـ-1263-1328مـ) يلاقي ما يلاقي في حياته ويموت حبيسا في قلعة دمشق، ثم ينصفه التاريخ بعد ذلك، ويميط اللثام عن فضائله وخصائصه، فيكون من أكبر الأئمة المقدرين في صفوف المتدينين الدعاة في أيامنا هذه، وها إن السلطان عبد الحميد (1842-1942) يظلمه عصره حسب خطط أجنبية محكمة، ولكن بدأ التاريخ يميط اللثام عن حقيقته، وشرع يعطيه المكانة التي يستحقها، وفي التاريخ الأفرنسي نجد الملك لويس الخامس عشر (1710-1774مـ) يعيش محفوفا بالتبجيل والتعظيم، مع أنه من أسوأ الحكام الذين عرفتهم فرنسا، غير أن التاريخ كشفه فيما بعد، وحقق ما كان يقوله فيه معاصره الفيلسوف الفرنسي النابغة فولتير (1694-1778مـ) : ((مجدوه مجدوه فسيلعنه التاريخ)) وقد لعنه فعلا…
سادسا-من فوائد التاريخ أنه يخدم الدين، ألم تر أنه يدلنا كيف يتقلب الزمان بأهله، فكم من دول تظهر ويشتد ساعدها، وأخرى تسقط ويتهاوى بنيانها، وكم من أغنياء يفتقرون، وفقراء يغنون، وأعزة يذلون، وأذلة يعزون، ومدبر الجميع ومحول الأحوال باقٍ لايحول ولا يزول… أليس في ذلك ما يبعث على التوحيد، الاعتراف بوحدانية البارئ عز وجل، وكمال قدرته، وبالغ حكمته وعظيم سلطانه؟!، يقول ابن الساعي المؤرخ المعروف بابن أنجب (193-674هـ -1197-1275مـ) :
إن في تدبر مجاري الأقدار، وتقلب الأدوار، واختلاف الليل والنهار، وتوالي الأمم وتعاقبها، وتداول الدول وتناوبها، عظة للمتقين، وتنبيها للغافلين، قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} ولو لم يكن في ذلك إلا ما ينتفع به المعتبر، من قلة الثقة بالدنيا الفانية، وكثرة الرغبة في الآخرة الباقية لكفى ما تتوجه إليه البصيرة من جميل الأفعال، وتحث عليه من صالح الأعمال.(12/151)
ويذهب الحافظ السخاوي في بيان قيمة التاريخ، وشرح فوائده إلى أنه فن من فنون الحديث النبوي، وأداة لحفظ الكثير من أحكام الدين، ومدعاة للاحتفاظ بمآثر الصالحين، كما يذهب إلى أنه فرض من فروض الكفاية.. واستمع إليه يقول [25] :
علم التاريخ فن من فنون الحديث النبوي، وزين تقرّ به العيون، حيث سلك فيه المنهج القويم المستوي، بل وقعه من الدين عظيم، ونفعه يتعين في الشرع؛ إذ به يعلم أهل الجلالة والرسوخ ما يفهم به الناسخ من المنسوخ، ويظهر زيف مدعي اللقاء.. وتحفظ به الأنساب.. ولذا نعلم منه آجال الحقوق، واختلاف النقود والأوقات التي ينشأ عنها من الاستحقاق ما هو معهود، وينتفع به الاطلاع على أخبار العلماء والزهاد والفضلاء، والخلفاء والملوك والأمراء والنبلاء، وسيرهم ومآثرهم في حربهم وسلمهم، وما أبقى الدهر من فضائلهم.. بعد أن أبادهم الحدثان، وأبلى جديدهم الملوان… ولهذا صرح غير واحد من العلماء بأنه فرض من فروض الكفايات والراجح ارتقائه على فرض العين، للاندفاع بقيامه به عن غيره التأثيمات.
سابعًا-من فوائد التاريخ أن دراسته مسلاة، فإذا نزل بالإنسان هم أو غم، وقرأ تواريخ الأنبياء، والعظماء، وما انتابهم من أرزاء فصبروا عليها، ولم ينهاروا أمامها شعر بقوة في نفسه، وراحة في قلبه، ووجد في قصصهم مسلاة وعزاء، وجلاء لهمه، وذهابا لغمه… بل يجد فيه فوق ذلك مسرة ومتاعا.
ثامنًا- إن التاريخ يحقق التعارف الذي تندبنا إليه الآية الكريمة، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [26] .(12/152)
وأي فرق بين أن نتعارف نحن والمعاصرين أو بين أن نتعارف نحن والماضين عن طريق دراسة تاريخهم؟! إن كلا التعارفين سيجر- في أحوال معينة كثيرة- إلى إعجاب، فحب، وهذان يجران إلى التأسي والإقتداء… فإذا درسنا تاريخ الأنبياء، والأصحاب، والهداة، والأبطال عرفناهم، وأعجبنا بهم، وانتهينا إلى الاقتداء بهم على نحو من الأنحاء، وإذن فالتاريخ أداة تعارف، وحب، وأسوة، ومن ثم أداة ((تربية)) فعالة عظيمة أيضا، وهو -كما قلنا- أداة لتطبيق الآية الكريمة الآنف ذكرها.
والخلاصة أن التاريخ علم جم الفوائد، لا يكاد يستغنى عنه أحد، ولا سيما إذا كان ذا شأن أو مسؤولية، وكيف يستغنى عنه وهو -كما عرفنا- حكمة في فحواه، علم في منهج بحثه وتمحيصه، فن في عرضه وأدائه، وتأثيره وإمتاعه.
في دراسة التاريخ الإسلامي:
إن دراسة التاريخ الإسلامي-ولا سيما تاريخ الصدر الأول- دراسة تعليل واستبطان، لا تستقيم إلا لمن عرف العقيدة الإسلامية معرفة تذوق وممارسة، وعرف إشعاعاتها، وفيوضها، ومبلغ تأثيرها في تكوين شخصيات أصحابها، وتحديد معالم سلوكهم على مستوى الفرد والجماعة.
إن هذا التاريخ في حقيقته -إنبثاق من هذه العقيدة، وثمرة من ثمراتها، فهي منه بمنزلة السبب، وهو منها بمنزلة النتيجة، وأنى لباحث أن يعلل أمرا، وبينه وبين علته حجاب، فهو غريب عنها غربة معرفة، وتذوق، واستيطان، وممارسة.
إن أي باحث يحاول تفسير التاريخ الإسلامي-ولا سيما تاريخ الصدر الأول- سيأتي تفسيره مجانبا للصواب، ولعلنا لا نبالغ حين نقول: سيأتي تفسيره تخبطا ورجما بالغيب إلا إذا سلك فيه أو إليه طريق العقيدة الإسلامية وخصائصها، وإيحاءاتها، وما أودع الله تعالى فيها من نواميس قادرة على صياغة الحياة، وتكوين الإنسان على نحو ليس في متناول سواها من العقائد أو المبادئ…(12/153)
التاريخ الإسلامي- ولا سيما تاريخ الصدر الأول- فذ في التواريخ، إنه لئن أمكن تعليل هذه التواريخ بالعوامل الجغرافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وما إليها، فإن التاريخ الإسلامي لا سبيل إلى تعليله إلا بالعقيدة الإسلامية وإيحاءاتها، وتأثيراتها…أما العوامل الأخرى التي ذكرناها، والتي اعتاد المؤرخون أن يعللوا بها التواريخ، فها إن وقعت في شيء من تعليل التاريخ الإسلامي فإنما تقع في منزلة تالية للعقيدة.
إن التعليل الجوهري لتاريخ الصدر الأول، ولمراحل تاريخية إسلامية أخرى متفرقة جاءت على غراره إنما تلتمس- من حيث الأصل- في مثل ما يلي:
1- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} سورة محمد-47.
2- {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) } سورة غافر.
3- {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} سورة الحج-40.
4- {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} المائدة 56.
5- {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} سورة الأعراف 196.
6- {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} سورة آل عمران 681.
7- {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} سورة الجاثية 19.(12/154)
8- {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ (11) } سورة محمد-10.
9- {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} سورة غافر 60.
10- {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} سورة الأنفال-60.
علما بأن تولي الله تعالى هو نصره، ونصر دينه، وطاعته في نهيه وأمره في توحيده، وعبادته، والصبر على الجهاد في سبيله، والجد والاستيعاب في الإعداد لهذا الجهاد.
ولعلنا نلاحظ في الآيات الآنف ذكرها أن الله سبحانه قد ربط ربطا وثيقا ظاهرا بين تولي المؤمنين إياه ونصره وبين توليه سبحانه إياهم ونصرهم، وعلى أساس هذا الربط، ومن خلال هذا الربط انبثق التاريخ الإسلامي، ولا سيما تاريخ الصدر الأول.
والخلاصة أن التاريخ الإسلامي-كما أسلفنا- هو ثمرة عقيدة، ولا تستقيم دراسته دراسة تعليل واستبطان إلا من خلالها.
ما هي المؤهلات الواجب توفرها فيمن يتصدى؟
للاشتغال بالتاريخ الإسلامي؟
إن التاريخ الإسلامي-كما عرفنا- ذو خصائص يتميز بها عن سواه، إنه انبثاق من عقيدة، وثمرة من ثمراتها، ومن ثم بات من الضروري أن تتوفر فيمن يتصدى للاشتغال به شروط خاصة منها:(12/155)
أ-معرفة العقيدة الإسلامية على وجهها الذي بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي عرفه الأصحاب كأبي بكر وعمر، وأبي عبيدة، ومعرفة قدراتها، ومناحيها وإيحاءاتها في صياغة الإنسان على مختلف المستويات الفردية والاجتماعية، الداخلية والخارجية.
ب-تجربة العيش في ظل العقيدة، وممارسة الحياة التي تنبثق منها، وتذوقها، والشعور بمعطياتها، والتفاعل بها…
جـ-الإلمام بالعلوم الإسلامية من تفسير، وسنة، خصوصا ما يتعلق منهما بالسير والجهاد، وأهدافه، وآدابه، والإلمام بعلم مصطلح الحديث، وتمثل قواعده في النقد والتقويم، والجرح والتعديل [27] .
د- التمكن من اللغة العربية بالدرجة الأولى، والتمرس بفهم مختلف أساليب المؤرخين المسلمين، ومذاهبهم في تدوين التاريخ.
هـ-العدالة والضبط، ومخافة الله تعالى، بحيث يراعي الصدق والأمانة فيما يرويه أو يدونه، دون محاباة قريب لقرابته، أو ذي سلطان لسلطانه، ودونما جورٍ على بغيضٍ، أو منافس، أو معاصر.
و الشجاعة، ونبل النفس، والترفع عن مفاتن الحياة الدنيا، مما يسهل عليه التزام الحق، واجتناب الباطل.
ذلك إلى جانب ما يجب أن يتوفر في المؤرخ من حيث هو من جدٍ في البحث وصبرٍ على تقصي الحقائق، وذكاء، وزكانة [28] ، ودقة ملاحظة، وقد أشار ابن خلدون إلى هذه الشروط فقال [29] :(12/156)
يحتاج صاحب هذا الفن إلى العلم بقواعد السياسة، وطبائع الموجودات، واختلاف الأمم والبقاع والأعصار في السير والأخلاق، والعوائد والنحل والمذاهب، وسائر الأحوال، والإحاطة بالحاضر من ذلك (أي يجب أن يحيط بأحوال عصره) ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون (بعد) ما بينهما من الخلاف، وتعليل المتفق منهما والمختلف، والقيام على أصول الدول…ومبادئ ظهورها، وأسباب حدوثها، ودواعي كونها، وأحوال القائمين بها وأخبارهم، حتى يكون مستوعبا لأسباب كل حادث، واقفا على أصول كل خير، وحينئذ يعرض المنقول على ما عنده من القواعد والأصول فإن وافقها، وجرى بمقتضاها كان صحيحا، وإلا زيفة، واستغنى عنه.
وبناء على هذه الشروط، وغيرها مما رأى العلماء توفره في المؤرخ ولا سيما المسلم نرى أن التاريخ علم جليل القدر، وأن التصدي للاشتغال به يحتاج إلى مواهب فطرية فذة، وطاقات عظيمة، وأخلاق رفيعة، ودين صحيح.. فكيف وقد صار الاشتغال به في هذه الأيام -غالبا- إلى العلمانيين، والمستشرقين الكاشحين، وأتباعهم المقلدين؟!!
منطلقات في دراسة تاريخ الصحابة:
لابد للمشتغل بالتاريخ الإسلامي من دراسة الدور الذي قام به الصحابة (رضي الله عنهم) في هذا التاريخ، ولا غرو، فدورهم هذا، مع دور الرسول (صلى الله عليه وسلم) هو أساسه ونبراسه، وقد كثر في دورهم الخلاف، وتشابكت فيه وجهات النظر في كثير من الأحيان.. وقد انتهيت - بعد تأمل- إلى منطقات في دراسة هذا الدور الجليل الدقيق الحساس أذكر خلاصتها فيما يلي، ولعلي قد أصبت الحق فيها:
أ-عندما ندرس تاريخ الصحابة يجب ألا يغيب عنا أنهم هم الطبقة المثلى التي فهمت الإسلام على حقيقته، وعملت به.
ب-إن الروايات في خلافاتهم يجب أن نقف منها موقفا غاية في الحذر والتحقيق، والنقد والتمحيص، لأن حقبتهم أضحت مجالا كبيرا لدس ذوي الأغراض المنحرفة والمآرب النفعية من سياسية ودينية وما إليها…(12/157)
جـ- إذا درسنا ما نسب إليهم من خلاف، أو غلط، على الأساس المتقدم اضطررنا أو هدينا إلى رد أكثره، وما يتبقى منها فهو قليل جدا…وهذا القليل إذا درسناه دراسة استبطانية ألفيناه قائما على الاجتهاد في طلب الأفضل، والأرضى لله…والمجتهد إما مصيب فله أجران، أو مخطئ فله أجر واحد.
د-يجب ألا يغيب عن البال أن الخطأ الاجتهادي الذي لم يخل منه تاريخ الصحابة -ومن الطبعي ألا يخلو منه- والذي بولغ في روايته لنا على شكل فتن وزعازع إذا قيس بفضائلهم بدا شيئا يسيرا لا يكاد يستحق الذكر، على أنهم ليسوا بالمعصومين والله سبحانه لم يتعبدنا بأفعالهم، ولسنا ملزمين باتباعها إلا من خلال الكتاب والسنة، اللذين هما مصدرا الدين [30] وهما المقياس الذي نقيس به كل ما عداهما من أقوال البشر وأفعالهم، فما وافقهما قبلناه، وما خالفهما فارقناه إليهما…
وعلى كل حال فحسن الظن بالأصحاب واجب، والاعتقاد بعدالتهم يستلزمه الدين، والبحث العلمي الدقيق.
هذه المنطلقات أرى أن تراعى حين ندرس ما يتعلق من التاريخ الإسلامي بهذه الفئة، خير الناس بعد الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ، عسى أن تكتب لنا الإصابة والسلامة.
نظرة إلى تقسيم العصور التاريخية:
من المنافذ التي نفذت إلينا من خلالها وجهة نظر الغرب في تفسير تاريخنا، تقسيم العصور التاريخية المنقول عن المؤرخين الغربيين.
وغير خاف، أن هؤلاء المؤرخين، ومن نحا نحوهم، قد درجوا على تقسيم العصور التاريخية إلى ثلاثة أو أربعة هي:
1-العصور القديمة:
وتبدأ باختراع الكتابة قبل الميلاد بنحو خمسة وأربعين قرنا [31] ، وتنتهي بسقوط الإمبراطورية الرومانية على أيدي البرابرة سنة 476مـ.
2-العصور الوسطى:
وتبدأ سنة 476مـ، وتنتهي بفتح القسطنطينية سنة 1453مـ، أو باكتشاف العالم الجديد سنة 1492مـ.
3-العصور الحديثة:(12/158)
وتبدأ بنهاية العصور الوسطى، وتستمر حتى أيامنا هذه، وبعضهم يقسم العصور الحديثة إلى قسمين، الأول يدعى العصور الحديثة وتبدأ بنهاية العصور الوسطى حتى مطلع القرن التاسع عشر الميلادي، والثاني يدعى التاريخ المعاصر، ويبدأ من مطلع القرن التاسع عشر حتى أيامنا هذه.
ويعتبر المؤرخون الغربيون، ومن تابعهم من الشرقيين العصور الوسطى عصور ظلمات وجهالة وتأخر، حتى أضحت مثلا شرودا في ذلك، فإذا ما أريد غمز شيء أو عيبه قيل فيه: "أنه من بضاعة القرون الوسطى)) وإذا دققنا النظر في هذا التقسيم ألفيناه قائما على نظرة غربية بحتة، وإذا صلح فإنما يصلح لتاريخ الغرب دون التاريخ الإسلامي، ومن الظلم لحقائق العلم والتاريخ أن نعممه على التاريخ الإسلامي، ألم تر أن الإسلام قد ظهر، وأدى رسالته العظمية في هداية البشرية، وتمدينها، وآتى حضارته الفذة خلال الحقبة التي يدعونها بالقرون الوسطى، والتي ينعتونها بالنعوت المنافية تماما لما كانت عليه الحياة الإسلامية، وإن كانت مناسبة لما كانت عليه حياتهم هم.
ومن هنا بات من الواجب أن يعاد النظر في هذا التقسيم على أساس ((أكثر علمية)) وأكثر إنصافا للحقائق التاريخية، وأن يعطى الوجود التاريخي الإسلامي مكانه الطبعي الحق في التاريخ، وحين نعمد إلى تقسيم التاريخ الإسلامي ينبغي أن نبني هذا التقسيم على المراحل التي اجتازها هذا التاريخ نفسه، لا على المراحل التي مر بها تاريخ غيره، وهو التاريخ الغربي.
وقد ألفت لجنة إسلامية [32] لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي وفق مقتضيات العقيدة ومعطياتها، واقترحت تقسيم بحث التاريخ الإسلامي إلى خمس مراحل هي:
1-مقدمات التاريخ الإسلامي.
2-التاريخ الإسلامي على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
3-المد الإسلامي.
4-الانحسار الإسلامي.
5-العالم الإسلامي اليوم.(12/159)
ولا شك أن لهذا الاقتراح وجاهته ومسوغاته، وإذا كان فيه من مآخذ فإن التنفيذ الواجب على الجميع يكشفها، ويساعد على تداركها وإصلاحها..
نظرة في مصطلح ((التاريخ الإسلامي)) .
هذا المصطلح هو مصطلح جديد، يطلق على الحقبة التاريخية التي تبدأ بظهور الإسلام وتنتهي سنة 1517مـ، وهي السنة التي اجتمعت فيها سورية ومصر وما إليهما مع البلاد الإسلامية الأخرى التي كانت تابعة للدول الإسلامية العثمانية بمساعي السلطان سليم الأول [33] .
وهذا الاصطلاح ليس مسلما، بل هو موضع مناقشة، ومجال شك، ولنا أن نتساءل متى يجوز لنا أن نصف تاريخا ما بأنه إسلامي أو غير إسلامي.
ولعله من الواجب، ومن الدقة العلمية أن نقول في تاريخ ما أنه إسلامي عندما يكون ناس هذا التاريخ مسلمين، وعندما تكون الاعتبارات الإسلامية هي المهيمنة عليهم، وعندما يكون النظام العام الذي يعيشون في ظله، ويمنحونه ولاءهم عائدا إلى الإسلام، ومشتقا منه، وعندما يكون انتماؤهم –حين تترك لهم الحرية- انتماء إسلاميا…
وهذه الشروط ما تزال متوفرة في تاريخنا حتى يوم الناس هذا، فبرغم جميع المخططات والجهود التي بذلت، ومازالت تبذل لتغيير الواقع، فإن المسلمين ما انفكوا مسلمين عقيدة وانتماءا، أملا وألما وولاء، وإن لم يكونوا من الناحية التطبيقية سواء، وكما ينبغي أن يكونوا.(12/160)
وإذا تعمقنا الأحداث الكبرى التي جرت في ((تاريخنا المعاصر)) ودققنا في اكتشاف دوافعها وبواعثها وجدناها إسلامية، فمن نشوء الكيان السنوسي في ليبيا الذي أبلى بلاءه المعروف في مقارعة الاستعمار الإيطالي إلى قيام الدولة السعودية الثالثة بقيادة الملك عبد العزيز رحمه الله إلى الثورات التحررية في العالم الإسلامي كالثورة السورية سنة 1925، والثورة الجزائرية 1954، والحركات الاستقلالية في المغرب.. التي انتهت باستقلاله إلى نشوء دولة باكستان إلى استنهاض الزعماء مشاعر الأمة في حرب رمضان 1393هـ (تشرين الأول 1974مـ) .
فالدوافع والبواعث التي كانت تحرك الجماهير في هذه الأحداث تحريكا رئيسيا إنما كانت إسلامية.
وإذا سلمنا بسداد هذا الاصطلاح فماذا نقول في الإمبراطورية المغولية الإسلامية التي ظهرت في شبه القارة الباكندية (1526-1857مـ) والتي عرفت مثل الإمبراطور محي الدين أورنكزيب (1068-119؟ هـ-1657-1707مـ) الذي يلحقه بعضهم تديناً، وكفاية، وعزيمة، وتنظيما بالخلفاء الراشدين، بل ماذا نقول في التجديد الكبير الذي قاده المحمدان: محمد بن سعود، ومحمد بن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر؟ أفنجعل ذلك كله خارج التاريخ الإسلامي؟!
والحق أن الإسلام ما زال أكبر محرك يستطيع أن يؤثر في سير التاريخ ((المعاصر)) في العالم الإسلامي، برغم جميع المخططات والجهود الجبارة، والتي بذلت وتبذل –كما قلنا- لإبطال فعاليته، وعلى ذلك فتاريخنا كله هو تاريخي إسلامي، ولكنه مرَّ ويمر في مراحل يقترب في بعضها من حيث التطبيق- من الإسلام، ويزور في بعضها الآخر عنه، ولكنه لا يتنقل إلى سواه البتة برغم جميع المخططات والجهود المشار إليها…(12/161)
ثم نفرض جدلا أن سنة 1517مـ أدخلت البلاد العربية في طور انتهت معه مسوغات وصف تاريخنا فيها بأنه إسلامي، فهل- يا ترى- كان لهذه السنة الأثر نفسه بالنسبة إلى العالم الإسلامي كله، أظن أن الأحداث التي أشرنا إلى بعضها آنفا تأبى ذلك، وتؤكد استمرار إسلامية تاريخنا…
وإذن فإن الحكم على تاريخ هذه الأمة بأن ((إسلاميته)) قد انقضت بدخول العثمانيين هذه المنطقة هو حكم تعوزه مقومات الحكم العلمي السليم…
والصواب الذي لا ريب فيه هو وجوب نسبة تاريخ أمتنا إلى مناط انتمائها وولائها، إلى مفزعها في آلامها وآمالها، إلى الإسلام، وبناء على ذلك يجب أن يقال: أن التاريخ الإسلامي بدأ بظهور الإسلام وما يزال بحمد الله مستمرا، غير أنه لابد من تقسيمه إلى مراحل على نحو ما ذكرنا من اقتراح اللجنة التي ألمعنا إليها…
والخلاصة أن التاريخ علم جليل، يتناول بالبحث- كما قلنا- مختلف الوقائع والكوائن، ومختلف ألوان النشاط البشري التي تحدث على مسرح الحياة، ولا يقف بحثه إياها عند رواية أخبارها، بل يشمل تحديد زمان وقوعها، والوقوف على الروابط الظاهرة والخفية التي تنتظم شتاتها، وبيان كيفية وقوعها، وأسبابه ونتائجه وأثره في حياة الإنسان فردا أو جماعة، حالا أو مالا.
والتاريخ حكمة في فحواه، علم في منهج بحثه، وفي وقوع حوادثه حسب سنن إلهية لا تبديل لها ولا تحويل، أدب أو فن في إمتاعه العواطف البشرية ومناغاتها ومبلغ تأثيره فيها…
وهو ذو فوائد عظيمة جعلت منه علم رجل الدولة، وعلم رجل الدعوة، وعلم رجل التربية، وعلم رجل الإدارة، بل علم كل ذي مسؤولية ذات بال.(12/162)
والتاريخ الإسلامي هو ثمرة العقيدة الإسلامية بكل خصائصها ومقوماتها وإشعاعاتها وقدرتها على صياغة الإنسان والمجتمع صياغة متميزة متفوقة، ولا تستقيم دراسته ولا كتابته، كما لا يستقيم تعليله إلا من خلال هذه العقيدة ذاتها…وهذه النقطة هي محور الخلاف بين الإسلاميين والعلمانيين الذين يريدون تقسيم تاريخنا وتعليله على أسس تنافي جوهره وطبيعته الذاتية…
وأنا لا ألومهم بمقدار ما ألوم الإسلاميين الذين طالما أغمضوا العين عن العناية الجادة بالتاريخ هذه المادة التوجيهية العظيمة الفعالة، ولكن ما يزال هناك مجال للاستدراك.
لقد آن الأوان لأن ننظر إلى التاريخ النظرة الجدية التي يستحقها، وأن نؤمن بأنه ليس مجرد حكايات كحكايات العجائز في ليالي الشتاء الطويلة!!
هذا ولا بد لمن يريد الاشتغال بالتأريخ من أن تتوفر فيه مؤهلات هامة فطرية وكسبية، أشرنا إليها فيما سلف…
إن تاريخنا الإسلامي يحتاج إلى كتابة جديدة، وتفسير جديد في ضوء العقيدة الإسلامية كما جاءت في الكتاب والسنة، وكما تحققت في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وحياة أصحابه، وفي العهود التالية المتفرقة التي ائتمت بهاتين الحياتين المثاليتين، كعهد عمر بن عبد العزيز رحمه الله… بحيث تكون هذه الكتابة، وهذا التفسير متحررين من الأفكار المبترة، ومن الاتجاهات التي يريد الآخرون أن يفرضونها عليه لتحريف ((الشخصية الإسلامية)) ، وتفريغها من محتواها الأصيل…
لقد أورثتنا جهود سلفنا في حقل التاريخ ثورة علمية تاريخية لا أحسب أن أمة من الأمم الأخرى في القديم أو الحديث قد حظيت بمثلها.. والواجب علينا الآن أن نكمل جهود ذلكم السلف البر العظيم، فنخدم تاريخنا خدمة جادة حسب الظروف والمقتضيات التي تواجهنا.(12/163)
وهناك نواح أخرى في موضوعنا، ما تزال حقيقة بأن ينظر إليها، وبأن تلمس اللمسات المناسبة، ولكن ضيق الوقت حال دون ذلك، وعسى أن يتاح لنا الوقت المناسب في المستقبل.
وإنا لنرجو ونتوقع أن يكون هذه الدولة التي يرفرف علمها بكلمة التوحيد أثرها الخالد في خدمة التاريخ الذي انبثق من كلمة التوحيد، كما نرجو ونتوقع أن يكون لمؤسساتنا العلمية من جامعات وغيرها دورها التاريخي في هذا المجال… على أننا ننيط بجامعتنا الإسلامية العتيدة أكبر الرجاء ونحملها أضخم المسؤوليات في هذا الشأن وأنها لذلك لأهل إن شاء الله.
على قدر أهل العزم يأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
والله سبحانه هو المدعو أن يشد العزائم، ويعلي الهمم إلى مستوى المسؤوليات، ويعين على وضوح الرؤية، ويهدي القافلة إلى السير على طريق رشيد هادف، كما أنه هو المدعو أن يتقبل عمل العالمين المخلصين.
والحمد لله أولا وآخرا…
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر: السخاوي: الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ص 25، ومحمد عبد الغني حسين علم التاريخ عند العرب ص 12.
[2] نعتقد أن أحسن ما يجب أن يعتنى به ويلم بجانبه بعد الكتاب والسنة هو العلوم التي تقتضيها مصلحة الدعوة وأمتها في ضوء الظروف والأحوال المواجهة، ويبدو أنه كان من مصلحة الدعوة وأمتها منذ قرون أن يعطي المسلمون بعد فقه الكتاب والسنة وبعد العلوم الضرورية له عناية كافية لما نسميه اليوم بالعلوم كالرياضيات والكيمياء والفيزياء..الخ، أنها علوم أساسية في الحياة، وإن تفوق الأعداء علينا في هذه الحقبة من التاريخ يرجع إلى حد بعيد إلى عنايتهم بها، وتفوقهم فيها، والله أعلم.
[3] ابن منظور لسان العرب ج 3 مادة ((أرّخ)) .
[4] سيد عبد العزيز سالم، التاريخ والمؤرخون العرب ص 18.(12/164)
[5] سورة الحجرات 13.
[6] ابن تيمية، كتاب الزيارة من الجامع الفريد ص 419.
[7] المقدمة ص 3 طبعة المكتبة التجارية الكبرى القاهرة.
[8] الحكمة علم بأعيان الموجودات وأحوالها على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية… ومن علوم الحكمة علم الأخلاق، وعلم تدبير المنزل، وعلم السياسة المدنية، وعلم الجبر والمقابلة، وعلم الطب، وعلم الكيمياء، وعلم الفلاحة (محمد علي التهانوي موسوعة اصطلاحات العلوم ج1 ص 37، 49، 41، 43) .
[9] هذا النص منقول من ((فرانز روز نثال)) علم التاريخ عند المسلمين ص 327.
[10] السخاوي الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ص 7 ط القدس 1349هـ.
[11] مجلة المجتمع العدد 228، 19 ذي الحجة 1394 ص 26 و 30.
[12] ص 32 ترجمة زهير فتح الله بيروت 1958.
[13] ديكارت فيلسوف فرنسي اشتهر بكتابة ((مقالة الطريقة)) الذي كان له الأثر البليغ في الفكر الغربي، وفيه مبدؤه المعروف ((أنا أفكر إذن أنا موجود)) ، وهو مصدر الفلسفة الحديثة. (فرديناند توتل، المنجد في الأدب والعلوم ص 205) .
[14] ع – حمادة، الشرق والغرب ص: ز
[15] ع – حمادة، المرجع السابق ص: د - ز
[16] حسن عثمان منهج البحث التاريخي ص 3.
[17] الكامل في التاريخ ج 1 ص 7 ط بيروت 1385هـ – 1965م.
[18] أحمد فريد الرفاعي عصر المأمون ج 1 ص 98-99.
[19] السخاوي الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ص 43.
[20] الجامع الفريد كتاب الزيارات ص 454.
[21] بل إنها الحقبة التاريخية المثلى في التاريخ كله، ماضيه وحاضره، ومستقبله (د. د.) .(12/165)
[22] يذهب العالم المربي الانجليزي ج بريستل J.BRIECTLY (1733-1804) إلى أن التاريخ هو المادة الضرورية لإعداد كل مواطن يمتاز بوعي اجتماعي، وكان بريستلي هذا إلى عنايته بالتربية من العلماء المكتشفين، فهو الذي اكتشف غاز الأوكسجين وغيره من الغازات، وكان واسع الثقافة، يحاضر في اللاتينية والإغريقية، والإفرنسية، والإيطالية، نشر خريطتين زمانيتين، إحداها للسير، والأخرى للتاريخ، وهو من الخارجين على الكنيسة الإنجليزية المعروفين باسم
non conformists، ولو كتب له ولأمثاله أن ينشؤوا في كنف الإسلام الصافي الأصيل لألفوا فيه رعاية وتشجيعا يغنيانهم عن مثل الخروج الذي خرجوه على الكنيسة.
[23] سورة هود 120.
[24] أغفلنا اسمه إيثارا للموضوعية دون الشخصانية.
[25] الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ص 44-45.
[26] سورة الحجرات 13.
[27] أرى أن تدريس هذا العلم في أقسام التاريخ ولاسيما الإسلامي في الجامعات على اختلاف ألوانها أمر أساسي لا تكتمل دراسة هذه المادة دونه (د. د) .
[28] الزكانة: الفراسة، وأن يظن الشخص فيصيب.
[29] المقدمة ص 28 ط المكتبة التجارية الكبرى القاهرة.
[30] والمصادر الأخرى كالإجماع والقياس يعود اعتبارها إلى هذين المصدرين: الكتاب والسنة.
[31] أقدم كتابة نعرفها حتى الآن هي الكتابة المصرية القديمة، وقد عرفت بعد اكتشاف حجر رشيد، وقراءة رموزه، وقد اكتشف هذا الحجر سنة 1789م (محمد مبروك نافع، عصر ما قبل الإسلام ص 1) ..
[32] أعضاء هذه اللجنة هم: الشيخ صادق عرجون، والدكتور محمد يوسف موسى، والدكتور عبد الحميد يونس، والدكتور محمد النجار، وسيد قطب، ومحي الدين الخطيب، وأبو الحسن الندوي، وقد انتقل بعض أعضاء هذه اللجنة إلى رحمة الله.(12/166)
[33] كان السلطان سليم (1512-1520) من عباقرة الحكام، وقد أراد تعريب المملكة العثمانية كلها، واستبدال اللغة العربية باللغة التركية وغيرها من اللغات المعروفة في تلك المملكة، وأحسب أنه لو طال حكمه لنفذ فكرته هذه، لأنه كان في توقد ذهنه، ومضاء عزمه شيئا عجبا، يضاف إلى ذلك أنه كان شاعرا بالعربية، ولما دخل سورية ومر في حماة نزل في دار آل الكيلاني، وقد أطربه مناخ حماة، وأعجبه ما كان عليه الكيلانيون من الوهاجة والكرم، فانطلق لسانه بهذين البيتين:
أرى من دونه السبع الطباقا
بني كيلان هنئتم بعيش
كشرف بالجوار حلا وراقا
أطاع لديكم العاصي ولما
والعاصي هو النهر المعروف الذي يمر في حماه، وفي ذلك تورية لطيفة..(12/167)
رسالة الجامعة السعودية نحو اللغة العربية والثقافية والإسلامية
لفضيلة الشيخ محمد مصطفى المجذوب
بحث قدمته الجامعة الإسلامية إلى مؤتمر رسالة الجامعة المنعقد بجامعة الرياض
الحمد لله الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على رسوله الصادق الأمين، المبعوث رحمة للعالمين، الذي شرفه بخاتم رسالاته المنزلة بلسان عربي مبين، وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.
القرآن والعرب:
المبدأ الذي لا ينبغي الاختلاف عليه هو أن العرب في استمرار وجودهم كأمة متميزة بخصائصها وقيمها ولغتها، مدينون للقرآن العظيم.. إذ هو الذي صان لهم كيانهم على الرغم من كل العقبات التي اعترضت مسيرتهم التاريخية حتى الساعة.
لقد بعث محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن خاتم كتب الله والعرب قبائل متمايزة لا تدين واحدة لأخرى وقد تفرقت بها المنازل، فلا تلتقي إلا على غزو أو ثأر، أو حلف لهما وبذلك تشقق لسانها حتى كاد يستحيل لغات مستقلة، لولا أثارة من روابط احتفظت بها الأسواق والمواسم إلى حد غير قابل للاستمرار، فبنزول القرآن واندماج العرب في الإسلام تمت لهذه الوحدات المتفرقة شروط التوحد، إذ وجدت نفسها مشدودة إلى وحدة البيان بالتزامها سبيل الوحي، الذي لا سبيل إلى فهمه وتحقيق دعوته إلا عن طريق هذه اللغة التي شرفها الله بالرسالة الخاتمة.(12/168)
واستهوت بلاغة الكتاب الحكيم نفوس العرب الذين استولى عليهم سحر الكلمة إذ واجههم بما لم يألفوه في سوامق بيانهم من روائع المعاني، وبدائع الصياغات، فاستهانوا بأساليبهم بجانب أسلوبه الأعلى واستخفوا خطراتهم الفكرية بإزاء علومه الشاملة.. فإذا هم يقبلون عليه حفظا ودرسا، ويتنافسون في استيحائه نثرا ونظما وسلوكا.. وبذلك تفتت حواجز الفروق اللغوية والاجتماعية بين هاتيك الفرق، ثم ما لبثت أن انتهت إلى الانسجام الذي جعل منها خير أمة أخرجت للناس.. ومن هنا كان عظم فضل القرآن على العرب والعربية إذ نقل لهجاتهم من قيود الوحدات المحلية إلى آفاق اللغات العالمية، وأحال كياناتهم القبلية وحدة اجتماعية متكاملة لها أقوى ما لأعظم الأمم من وشائج القربى والاستمرار.
أثر اللغة في مصاير الأمم:(12/169)
كان مستحيلا على تلك القبائل ذات الخصائص المستقلة سياسيا واقتصاديا ودينيا أيضا أن تحتفظ ببقائها في عزلة عن مسيرة الركب البشري، إذ يستحيل البقاء لأسباب هذه العزلة في عالم متغير، تتطور فيه كل يوم أساليب المواصلات وتضيق مساحات الأرض حتى تقترب كل مجموعة سكانية من الأخرى بحيث تصبح أخيرا وكأنها منطقة واحدة ضيقة لا سبيل معها لواحدة إلى مقاطعة الأخرى، فالصحاري التي صدت من قبل جحافل الإسكندر عن غزو الجزيرة لم تعد شيئا مذكورا أمام البوينغ وسفن الفضاء ومراكز الإرسال الفضائية، وعشرات الوسائل الأخرى المحطمة لحواجز الفرقة البشرية والعزلة القبلية… وهذا يعني أنه يستحيل في ظل مثل هذه التطورات أن تظل القبائل العربية محصنة ضد الذوبان في الأجناس الأكثر قوة.. لأن اللغة التي هي ملاك هذه الحصانة ستكون خاضعة لقوانين التغير، حتى تتركز عوامل الفصل ما بين حدود اللهجات بصورة نهائية، فتكون كل لهجة أمة متمايزة، كالذي حدث للغة السامية إذ أدى بها تنائي المنازل وتباعد الزمن إلى الانفصام فالتعدد، حتى كانت اللغة لغات، وحتى بات الناطق بالعبرية لا يفقه من العربية شيئا، وكذلك الأرامي والحبشي والبابلي وسائر الفروع المنحدرات من الأصل الواحد.(12/170)
ولو نحن رحنا نتقصى مسارب التطور اللغوي وما استتبع من الانفصام القومي لرأينا ذلك القانون هو الحاكم الحاسم في تمايز الشعوب وتكوّن الأمم، وهل كان الناس في أصولهم البعيدة سوى أمة واحدة، ذات لغة واحدة، فجرفتها سيول التطور حتى صارت أمما ولغات تتعدى الإحصاء.. وأقرب الأمثلة على ذلك الأمم التي يلفها حزام الشرق الأقصى، ومثلها المتفرعات من الأصل اللاتيني في أوروبة حيث تمخضت الأمة فنتجت أمما لا يفهم بعضها عن بعض إلا بترجمان… ولا جرم أن العرب هم الأمة المتميزة التي استعصت على هذا القانون، فاحتفظت بوحدتها وخصائصها وتصوراتها على الرغم من عشرات العوامل التي اعترضتها وكانت حرية بتمزيق الأمم مهما بلغت مقوماتها من المناعة.. وإنما مرد ذلك الامتياز إلى القرآن الذي بحفظه لغة الأمة حفظ وجودها فاستعلت على الذوبان في غيرها من الأمم واللغات.. وهي ميزة لم تتح لِلاَّتين ولا لسواهم، إذ لم يكن لهم الكتاب المقدس الذي يجمع الأشتات على الوحدة، فتمزقت أمتهم أمما على الرغم من وحدة الدين وتقارب المصالح فيما بين أجزائها.. على حين قيض القرآن لهذه اللغة مجالا للنمو البشري ما كان ليتصور لولا أثره إذ اجتذبت لغته شعوبا، دخلت العروبة بمجرد اعتناقها الإسلام، فنسيت لغتها الأم على الزمن، مؤثرة عليها لغة الكتاب الذي آثرت هدايته ولغته على كل شيء آخر…
العربية والإسلام:(12/171)
ومن هنا كان التلازم قائما إلى الأبد بين العربية والإسلام حتى ليعتبر المسلم الأعجمي هذه العربية لغته الأولى، فيحاول إتقانها ويعتز بإجادتها، لأنها اللغة التي تكلم بها الله في آخر رسالاته المقدسة.. وقد يتساهل في لغته القومية دون غضاضة، ولكنه لا يسمح لنفسه بالتساهل في العربية لغة أدبه ودينه وشريعته.. وبسبب من ذلك تماسكت لغة القرآن فاحتفظت بحيويتها وطلاقتها في أقطار غير عربية، في حين جمدت حتى الخمود في الأقطار العربية نفسها أثناء الفترة التي سبقت عصر النهضة الحديثة.
فبالقرآن إذن صار العرب أمة مميزة، وبالقرآن دخلوا أبواب التاريخ، لا عالة يتكففون كما يحلو لبعض الملاحدة المعاصرين أن يزعموا، بل كما يدخل فريق الإسعاف الصحي بمجالات الوباء، أو كما تقتحم وحدات الإطفاء مناطق الحريق، تحمل إلى المنكوبين أسباب العافية والأمن.
وعلى هذا فمن أوليات الوفاء لهذا الكتاب العزيز أن يعرف العرب حقه، فيصونوا لغته ويلتزموا منهجه في حياتهم كلها، ليظلوا الطاقة البناءة في كيان هذه الإنسانية المهددة كأمسها بالخراب والشقاء..
خصائص العربية في التفوق:(12/172)
ولأمر عظيم شاءه الله تبارك وتعالى كان للعربية خصائصها المتفوقة التي تجعلها أصلح اللغات للاستجابة إلى حاجات الحضارة، فكأن السنن الكونية جمعاء كانت متجمعة تحت بصر أهلها الأولين، فلم يعجزهم أن يضعوا لكل ظاهرة رمزها المميز المرن، الذي يتابع تحرك الحياة فلا يتخلف عنه ولا يضيق به.. فبالنحت والاشتقاق والاصطلاح والتعريب والمجاز تمددت هذه اللغة من نطاقها الصحراوي المحدود إلى منطلق العالمية، فلم تعي بعلم، ولم تعجز بإزاء فن، ولم تستغلق أمام فلسفة وبذلك تركت بصماتها بارزة غالبة على مقومات الحضارة كلها، فلا علم يزهو به هذا العصر إلا وللعربية فيه الأثر الدال على جلالها، الذي يتضاءل بجانب ضوئه كل جلال، سواء في ذلك خطرات الوجدان وما عملته اليدان، أو ما تكشف للإنسان الحديث من أسرار الكون.
ولا مندوحة عن القطع بأن الذي وهب للعربية خصائص القابلية للنماء إنما هيأها بذلك لاحتواء المعاني الكلية التي ادخرها للرسالة الخاتمة، فكانت لها القوة الدافعة لاستيعابها كل معطيات الحضارة دون استثناء.
الإسلام مفجر المواهب:(12/173)
وقد اتضح لكل ذي عينين أن الإسلام هو الذي فجر طاقات العرب فانصرفوا إلى الاهتمام بالكون علوا وسفلا، وانطلقوا يبحثون ويكتشفون ويصححون مناهج السابقين، تحقيقا للوعد الإلهي بالاستخلاف في الأرض، وتوجيه الفكر البشري إلى الحق والانسجام مع قوانين الكون، الذي أنبأهم كتاب ربهم أنه مخلوق لمصلحتهم مسخرا لمنفعتهم.. لقيموا في أكنافه ملكوت العلم الذي ميز به بنو آدم.. ومن هنا جاء التحرك الجديد لمواهب الإنسان، إذ أخذت طريقها للانطلاق وراء الحقائق الكونية في منجاة من قيود الكهنوت الذي أقام نفسه وصيا على العقل البشري طوال حقب التاريخ السابق للبعثة النبوية، واستجابت لغة القرآن للدوافع الجديدة إذ برزت عبقريتها في الانتفاع بكل ما انتهى إليه البحث والكشف والاقتباس، فلم تضق ذرعا بأي مفهوم ولم تقصر يدا عن أي معلوم.. بل أمدت الفكر الإسلامي بكل ما أعانه على النماء في جو من التعاون المتكامل بين مختلف روافد الثقافة الدافقة، وهكذا تسنمت العربية عرش التفوق العالمي، حتى باتت لغة العلم والأدب، يشرف بمعرفتها أساطين الفكر على اختلاف مشاربهم وأديانهم وجنسياتهم.. وحتى راح القسس ينعون لغة اللاتين لما واجهوه من إقبال شباب أوروبة على العربية، وتنافسهم في إتقانها، إيمانا منهم بأنها لغة الجنس الممتاز.. تماما كما يفعل اليوم الكثيرون من الناشئين على فتات الغرب، إذ يرفعون عقائرهم بإكبار لغاته وإصغار لغتهم، حتى يكادوا ينكرون عليها كل فضيلة.. وإن براهين ذلك الماضي لماثلة في الكثير من صنائع الغرب وعلومه، شاهدة على هذه الحقيقة بالمصطلحات العربية الناطقة بعظمتها، المؤكدة أنها على أتم الاستعداد لاستئناف مسيرتها الصاعدة في خدمة الحضارة، إذا وجدت من أبنائها العناية التي تشق لها سبيل النهوض.
العربية وأعداؤها:(12/174)
ولقد فطن أعداء هذه الأمة إلى الرباط الوثيق بين العربية والإسلام.. فلما يئسوا من إمكان التغلب على دين الله في مواجهة مكشوفة عمدوا لتحقيق مآربهم إلى تفكيك العربية، ففي المناطق التي غلبوا عليها من وطن الإسلام لجئوا إلى تعطيل الدراسة العربية أو تعويقها، فألغوها نهائيا من أوساط الحكم، وأحلوا مكانها لغاتهم، ثم التفتوا إلى الحرف العربي فنفوه من ميدان التعامل، وأقروا محله الحرف اللاتيني في كل قطر تمكنوا من إخضاعه لإرادتهم في هذا الميدان.. فبعد أن كان الحرف العربي هو أداة التسجيل لثقافات الشعوب الإسلامية جميعا تقلص عن معظم أقطارها، كما حدث لأندونسية وتركية، والدول الناطقة بالفرنسية والانجليزية من إفريقية، ولا تزال الجزائر تتخبط في بحران من الاضطراب بين الحرف العربي والحرف اللاتيني بل بين العربية نفسها والفرنسية التي لا تزال تأوي إلى أنصار كبار وكثار من أبناء المسلمين الذين يرفضون العودة إلى لغة القرآن في الجزائر والمغرب ويتشبثون بتلابيب اللغة الغازية على اعتبار أنها بنظرهم الأداة الوحيدة لاستمرار اتصالهم بالحضارة.
ومما يدعو إلى الكثير من الأسى أن دعاة الأجنبية في الشمال الإفريقي من موريتانية إلى تونس يتنافسون عامدين أو غافلين فضل لغة القرآن في صون شعوبهم من الذوبان أمام موجة الغزو التي بلغت من الشراسة أقصى ما يتصور الخيال، وكان عليهم لو أنصفوا أنفسهم وهويتهم أن يجاهدوا ليل نهار لتثبيت سلطان العربية في كل مجال، حتى تسترد قدرتها على تحقيق حاجاتهم الحضارية جميعا، فيتاح لهم أن يتحرروا من اللغة التي تتجسد فيها ذكريات الهوان والرزايا والمجازر التي عاشوا في غمرتها الحقب الطوال.
بعض مؤامراتهم:(12/175)
وبديهي أن أولئك المستغربين الذين يتشبثون بلغة المستعمر ويؤثرونها على لغة أمتهم، إنما يفعلون ذلك بدافع من مركب النقص الذي يعانونه بسبب جهلهم للغة الضاد، ثم لسبب أهم وهو انطباعهم بأسلوب التفكير الدخيل الذي تفرضه تلك اللغة الغربية، ذلك لأن اللغة ليست أداة تخاطب وتعبير فقط، بل هي إلى هذا عملية تصور نفسي ومنهج تفكير عقلي، فنشوء النفس في ظل لغة ما صائر بها إلى التفاعل مع مؤثراتها الخاصة، حتى لا تكاد تتذوق سواها إلا في كثير من التكلف.. وما دام القوم قد عاشوا لغة أعدائهم حتى خالطت جوارحهم وطبعت مشاعرهم دون أن يتزودوا من بيان العربية بما يحصنهم من الذوبان في غيرها، فعسير عليهم إن لم يكن مستحيلا أن يتخلصوا من إيحائها، لأن ذلك يكلفهم ما لا طاقة لهم به.
وقد شجع انحراف هؤلاء أخيرا حكومتي الصومال وماليزية، فإذا هما تقتحمان العقبة وتنبذان الحرف العربي، في الوقت الذي لا تنفكان تتحدثان فيه عن الإسلام بكل مناسبة، وتحضران المؤتمرات الإسلامية دون أن تريا في ذلك أي تناقض مع هذا الجفاء الخطير لآخر العلائق الأخوية بين بلادهما ولغة القرآن.. ولم تكن الهجمة على العربية مقصورة على جبهة دون أخرى.. بل كانت من الأحكام بحيث ألفت سلسلة متصلة الحلقات لا تسكت قذائفها من جانب حتى تنطلق من جوانب..(12/176)
وليست الدعوة إلى أقلمة اللغة في البلاد العربية نفسها باستعمال العامية مكان الفصحى في نطاق الأدب إلا وجها من هذه المعارك التي لم تخمد.. وهكذا القول في الدعوة إلى تيسير القواعد بمسخها، وتغيير المألوف على القرون من مصطلحاتها إنما هو واحد من عشرات الذرائع لقطع صلة الأجيال العربية بماضيها المشرق كي تجد نفسها أخيرا كفقاع القاع لا يربطها بأصولها رباط من تفكير أو تصور أو منهاج.. ومثل هذا وذاك ما تثيره عصائب المضللين من المتنكرين لقيم العربية من حملات تستهدف تشويه الأدب العربي، والتهوين من شأنه بإزاء الآداب الأجنبية، التي لا ينفكون يضخمونها بمختلف وسائل التضخيم والتعظيم…
وظلم ذوي القربى:(12/177)
ومن المحزن المزعج أن تسري عدوى الاستخفاف بالعربية إلى أوساط دارسيها ومدرسيها.. حتى نرى أوفر الناس علما بها أكثرهم تهاونا بإعزازها.. حتى لا يسمحون لأنفسهم باستعمالها خارج حدود الكتابة أو الخطابة.. وفي ما عدا ذلك فهم أكبر مروجي السوقية حتى في حلبات الدرس، حيث يتوقع منهم التزام جانبها، لا يكادون يلجئون إليها إلا بعد تنبيه قد يصل إلى حدود الشكوى.. ولا أكشف سترا إذا قلت إن طلابا من مسلمي الأعاجم يفدون إلى البلاد العربية لاكتساب ملكة اللغة، فيفاجئون بخيبة لاذعة، إذ يجدون أنفسهم بإزاء مدرسين لا يحترمون لغة قرآنهم، بل كل منهم يلوذ بسوقيته فيفسر ويشرح ويقدم بها حتى دروس القواعد العربية.. ومهما أَنس لا أنس يوم لقيت طالبا ثانويا من أبناء أحدهم فسألته عن صحة والده وعن اختباره فلم يفهم مني حرفا لأني كنت أكلمه بلغة العرب.. ومن طريف الأحداث كذلك أن طالبا أعجميا وفد إلى إحدى الجامعات العربية لاستكمال دراسته بلغة القرآن فإذا هو بمدرسين لا يكادون يعرجون عليها، ولا يكاد يفهم منهم، فراح يستوضح عن كل كلمة يعجز عن فهمها حتى تبين أخيرا أن اللغو الذي يسمعه ليس من العربية، فاضطر إلى تذكيرهم بأنه لم يهاجر من بلاده القاصية ليتعلم غير اللغة التي تعينه على فهم كلام الله وكلام رسوله … ومع أن تذكيره لم يذهب سدى إلا أنه ظل مضطرا إلى تكراره بين الحين والحين، لأن لسان هؤلاء المدرسين قد طبع على العامية فلا يكاد يستطيع مفارقتها إلى الفصحى.. ولعل شيئا من هذا قد حدث لطه حسين أثناء دراسته الأزهرية فدفعه إلى القول بأن الأزهريين لا يحترمون لغة القرآن حتى في تدريسهم للقرآن.. وهو تعميم مسرف لا ينطبق على الواقع كله ولله الحمد.(12/178)
وتذكرني هذه المفارقات بطرفة أخرى ذلك أن مؤتمر وزراء التعليم العرب عقد في أحد مصايف لبنان الشمالي في مطلع أيام جامعة الدول العربية فراح كل منهم يرطن بسوقيته فلا يفهم أحد عن أحد.. حتى تذكروا أن لديهم لغة كريمة تستطيع إنقاذ الموقف.
العربية ووسائل التعليم:
وحتى وسائل الإعلام من صحف وإذاعة وتلفزة وهي التي كان بوسعها تدارك الكثير مما فات والقضاء على الكثير من الآفات قد أسهمت إلى حد كبير في إيذاء العربية، والترويج لأفكار أعدائها.. ولو تتبعنا برامج الإذاعة والتلفزة في معظم الربوع العربية لوجدنا نسبة ما تبثه باللغات السوقية يزيد كثيرا على ما يقابله بالفصحى.. ونشير من ذلك بخاصة إلى التمثيليات الشعبية التي تقدم باللهجات المحلية، وإلى الأغاني التي يندر فيها الفصيح، فضلا عما تحتويه من معان توافه تفسد الذوق العام وتسمم الضمير العربي حتى تجعله مستعدا للاستخفاف بكل القيم الفاضلة.
وكثيرون يذكرون مثلي تلك المقالة التي تصدرت ذات يوم إحدى كبريات المجلات الصادرة في بلاد العرب يتحدى بها كاتبها الشهير لغة العرب، إذ ينبزها بالعجز عن مجاراة التطور، بدليل أنه لا يستطيع أن يجد فيها اسما لكل جزء من سيارته الفارهة.. وما أحسب الرجل إلا مدركا مقدار المغالطة في تهمته، لأن المفروض بمثله العلم بأن حيوية كل لغة نابعة من حيوية أهلها.. فإذا جمدوا على أعتاب التخلف لم يطلب إليها أن تسبقهم إلى الأعلى.. ولقد كان الأحرى به أن يعمل قلمه في إلهاب المشاعر لمسابقة الزمن في إعمال المواهب المعطلة المحبوسة في معتقلات التقليد، لتستعيد مكانتها في موكب الحضارة ولتنقلب من محض مستهلك إلى منتج، يقدم للناس مصنوعاته الناجحة مغلفة بطابعه حاملة سماته مسماة بلغته.(12/179)
ولعمر الله لا يرمي العربية بالعجز لسبب من ذلك إلا جاهل لا يفرق بين الأصل والفرع، ولا يحسن تجاوز الظواهر إلا ما وراءها، أو مدخول النية لا يقصد إلى غير التضليل.
العرب المقصرون لا العربية:
لقد أثبتت العربية قدرتها الخارقة على الاستجابة لكل طارئ مهما دق وأمعن في الخفاء.. وحسبها حجة على ذلك اتساعها لكلمات الله التي تنفذ دونها البحار، ثم استجابتها لدواعي المدنية التي أظلت نصف البسيطة، واستوعبت كل مفهومات الأمم التي اختزنت تراث الإنسانية في ميادين المعرفة السابقة للإسلام.. فإذا تعثر أهلها فيما بعد حتى وقفوا عند حدود الاجترار لما ورثوا كان ظلما أي ظلم أن تتهم العربية بالعقم لأن مثلهم ومثلها كشأن إنسان يملك الملايين ولكنه لا يستعمل منها سوى القروش، على حين نرى فقيرا إلى جانبه لا يملك سوى القروش، ولكنه بنشاطه وخبرته يحرك بها السوق..
فمن المسئول عن تعطيل الملايين، وإلى من يعود الفضل في تحريك القروش وتمكينها من التأثير الكبير؟ أجل.. إن مظاهر القصور في لغتنا ليس إلا توكيدا للقصور في نشاطنا.
وأول سؤال يتبادر إلى الذهن بإزاء هذا الواقع الكئيب هو على من تقع تبعة هذا التخلف العقلي والعملي؟.. وما السبيل إلى تداركه وتحويله؟..
وهنا نتذكر التقويم الفكري الذي صوره الكاتب الإسلامي الكبير المرحوم مالك ابن نبي بما مؤداه: إننا أمة خرجت من الحضارة.. وبهرها تقدم عدوها، فلم تفعل شيئا سوى الإعجاب بمصنوعاته ثم الخضوع لكل مؤشراته..(12/180)
ولا جرم أن الخلاص من هذا الوضع الشاذ يقتضي أن نستعيد الإحساس بذاتنا أولا، فندرك واقعنا ثم نتعاون على تغييره بالارتفاع إلى مستوى المسئولية، ويومئذ فقط سنعرف أن الخطوة الأولى لتصحيح مسيرتنا تبدأ من دائرة الاكتفاء الذاتي.. الاكتفاء أولا بمعطيات الرسالة التي مكنت لسلفنا الصالح من ناصية الأرض، إذ كونت من خامات الجاهلية المعطلة خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف الذي يضيء للإنسانية الحائرة مسالك النجاة، وتنهى عن المنكر الذي يتمثل في كل زيغ يدفع بأصحابه إلى الهاوية … وبذلك يتاح لنا أن نتحرر من دوامة الضياع التي أغرقتنا بدعوات تتكشف كل يوم عن ضلال جديد … وهناك فقط نشعر أننا استعدنا مكاننا المفقود … فعدنا إلى صفوف القادة بعد التيه الطويل في صحراء التبعية، ثم الاكتفاء ثانيا بمقدرتنا على إنتاج الحاجات التي تتطلبها دواعي الحضارة التي لا حياة لأمة بدونها، وهي أحد الأهداف المنشودة من الرسالة الإلهية التي تقرر في أصولها الكبرى أن كل شيء في هذا الكون مسخر لمصلحة الإنسان، وكلا الأمرين على جلاله في متناول الإرادة لو استطعنا تحريرها من مركب النقص الذي ساقتنا إليه أحداث لم نكن بالخليين من تبعاتها …
مخططات للتدمير:
ولكن … من الذي سيتولى قيادة الأمة إلى الاكتفاء الذاتي في نطاق القيم والإنتاج!..
قبل أيام سمعت من بعض الإذاعات العالمية الخبر التالي: ((لقد تبين أن مئات الملايين من قروض حصل عليها أحد الأقطار العربية منذ سنوات لم يستعمل منها للمصالح التي تم من أجلها الاقتراض سوى النزر.. والتحقيق جار لمعرفة الأسباب … وقد يكشف التحقيق عن أن ثمة تواطؤا مع تجار السوق السوداء هو الذي قضى بتعطيل هذه المئات من الملايين عن القيام بمهمتها …(12/181)
هذا الخبر ذكرني بمثل له نشرته صحف ذلك البلد من قبل، وخلاصته أن عشرات البعثات الدراسية التي وجهت إلى الغرب، قد خصص خمس بالمائة منها للعلوم العملية كالطب والهندسة والتكنولوجية، ووزعت الأخريات كلها على العلوم النظرية والفنية وما يسمى بالعلوم الإنسانية! ..
وتقول هذه الصحف إن عشرات الآلاف من الطالبات لم تتسع لهن جامعات القطر، فأحيل معظمهن إلى إلى معاهد لتخريج السكرتيرات! وما ندري كم هؤلاء الفتيات قد ألحقن بمعاهد الرقص والفنون الترفيهية!.. ولا غرو فهناك معهد لرقص الباليه يحمل المتخرج فيه شهادة البكالوريوس [1] ومعاهد للفنون والموسيقى على هذا المستوى أيضا.. وقبل ذلك احتفت بعض الصحف العربية بفتى يماني حصل على دكتوراه في الغناء الصنعاني… الذي لم يعد لليمن من حاجة إلى غيره لاستكمال بنيانها المتهدم!..
ما أحسب مفكرا يتردد في الحكم بأن تصرفا كهذا يتوقف عليه مصير الأمة لا يمكن أن يحدث اعتباطا ودون تخطيط يقصد به إلى استبقائها في هوة التخلف، ومع ذلك نتساءل: لماذا نظل حيث نحن نراوح مكاننا، ولماذا تظل لغتنا مقصرة عن اللحاق بعالم الإبداعات الذي لم ندخل أبوابه بعد!..
فمن الذي حال حتى اليوم بيننا وبين التقدم الصحيح؟!.
ومن الذي منعنا حتى الساعة من إقامة المصانع الكبرى، ونحن الذين لا نعلم سبيلا لتشغيل فوائض أموالنا إلا عن طريق أعدائنا!.. ولا نعرف طريقا للانتفاع من خاماتنا المستوعبة لكل حاجات الصناعات إلا تسليمها بأرخص الأثمان لأولئك الذين يبيعوننا إياها مع أسمائها الأعجمية الجديدة بأرفع الأثمان! من وراء هذا التصرف الأحمق؟ … من وراء هذا التخطيط المدمر!..
فوضى لابد من تداركها:(12/182)
كنت مكبا على كتابة هذا البحث عندما سمعت من الإذاعات أنباء الخطوات الجديدة التي شرعت بها هذه المملكة الغالية في طريق التصنيع، الذي قررت أن تقيمه على أرقى الأصول التكنولوجية.. وقد عودتنا هذه المملكة أن للكلمة عندها مضمونها العملي الحتم.. ومعنى هذا أننا بإزاء مرحلة تحولية هامة لا مفر من أن تؤثر على الكثير من جوانب الحياة في هذا المجتمع … وهي إما أن تنطلق على عفويتها فلا تستقيم على الجادة، فتجر الخير مع الشر، وتعمل في الهدم والبناء على غير هدى.. وإما أن يرسم لها المخطط السليم فتكون مسيرتها على هديه بحيث تكون خيرا لا شر معه إن شاء الله.. ولكن … من الذي سيضع للغد القريب هذا التخطيط النجيب!..
إن المرحلة التاريخية القادمة ستحمل في طواياها مصانع ومعامل وفيوضا من الإنتاج الراقي … فمن الذي سيضع لهذه المصانع نظمها الاجتماعية؟.. ومن الذي سيمد منتجاتها بالمسميات العربية المحكمة!..
ليسمح قراء هذا البحث أن أذكرهم بظاهرة يمرون بها كل يوم، بل لعلهم منفعلون بها كما ينفعل بها جمهور الشعب دون تمييز بين جاهل وعالم.(12/183)
السيارة التي نستخدمها في مختلف الحاجات وعلى مختلف الأحجام والأشكال كان معقولا أن تستعمل أسماؤها النوعية المميزة بين صنف وصنف، وكذلك من حقها أن نستعمل مسميات أجزائها كما وردت من مصانعها، لأننا مضطرون أبدا إلى استيراد هذه الأجزاء فلا سبيل إلى طلبها من مصانعها بأسماء معربة كحجرة التبخير وشمعة الاشتعال والكابح، وأنبوب التصريف والمكبس ومحور المحرك … وما إلى ذلك من عشرات الأسماء التي لا يفهمها أحد غيرنا … فطبيعي إذن أن تظل أسماؤها الأعجمية على ألسنتنا وفي حوانيتنا، ريثما تقوم مصانعنا بإنتاجها فنصنع لها الاسم الملائم ونصدرها للخارج مميزة به ... ولكن هناك أشياء لا يحسن بنا أن نستبقيها على أصولها الأعجمية لأنها من حاجات الجمهور كله لا المستوردين وحدهم، ومع ذلك فنحن نقول ونسمع في مختلف المناسبات أسماء الكَفَر والبنشر والوايت والوانيت والتكسي والباص والأتوبيس وما إلى ذلك من مسميات لسنا ملزمين باجترارها مع وجود أجمل منها وأدلّ على وظيفتها في الكلام العربي، كالعجلات وإصلاح العجلات والتنفيس والصهريج والشاحنة الكبيرة والشاحنة الصغيرة وسيارة الأجرة والحافلة ونصف الحافلة.. وهلم جرا … حتى في نطاق الحاجات اليومية والمحلية التي لا علاقة لها بالاستيراد يقلد بعضنا بعضا في تسميتها، كالبتر والماصة والكنبة والطبلة وعشرات المسميات، وأجمل منها وأدل وأخف العمود والركيزة والمنضدة والأريكة والبيان.. ولكن من المسئول عن وقف هذه الفوضى.. وما السبيل إلى التنظيم الذي يضع الاستعمالات الصحيحة تحت تصرف الجمهور!..
الحكمة ضالتنا:(12/184)
أما بعثاتنا الموجهة إلى الدراسات الأدبية والفنية وما يسمونه بالعلوم الإنسانية.. فهي هي التي تتولى اليوم تدمير حصوننا من الداخل إلا من رحم الله … إن كل ما تعلّمه هؤلاء ويتعلمونه لا يعدو نطاق التقديس لكل ما نبت في دنيا الغرب من نظريات يكذب بعضها بعضا، ويسخر بعضها من بعض.. وهاهي ذي حصائد علومها نجنيها كفرا بقيمنا وطعنا في ديننا وشتما لأسلافنا وتنكرا لرسالتنا واستهزاء بلغتنا وأدبنا.
ولا عجب فإن القيم الروحية والمثل العليا التي تصور علائق الإنسان بالكون والحياة إنما هي من الخواص التي لا تجتلب من الخارج إلا إذا أريد اقتلاع الأمة من جذورها وسلخها من مقوماتها … بخلاف العلوم الرياضية التي لا سلطان لها على السلوك الروحي فهي حق مشاع لكل أمة ولكل فرد، يأخذ منها المعوز ويعطي منها المليء.. فتظل أبدا بين الأخذ والعطاء دون غضاضة ولا منّ.. إنها حصيلة الجهد البشري كله، فالانتفاع بها حق كالجنس كله.
أليس من الطرائف المضحكة المبكية أن ترى حامل دكتوراه في الخدمة الاجتماعية من أميركة مثلا، لا يكاد يعرف شيئا عن هذا المرفق الهام في أنظمة الإسلام، وهو الذي يملأ حيزا كبيرا من فقه القرآن والسنة تحت عنوان الحسبة والحبوس الخيرية ونحوهما.. ولو هو قد درس بيئته المحلية على الطبيعة لواجهته بقايا الآثار الكثيرة لألوان الخدمات الاجتماعية، والضمان الاجتماعي، والتكافل الاجتماعي مما لم يصل إلى أقله تفكير كبار المفكرين الغربيين حتى اليوم!..
أوليس من الطرائف الغريبة أيضا أن تلقى امرءا يحمل أعلى المؤهلات من هناك وهنالك في التربية وعلم النفس ويكاد يعرف كل شيء عن ديوي وهربرت ومونتاني.. ثم لم يسمع شيئا عن ابن مسكويه والغزالي وابن جماعة وابن خلدون والقابسي في هذا المضمار!..
أفكار مستوردة:(12/185)
وتجيء في أعقاب ذلك ثالثة الأثافي ممثلة في المناهج الدراسية على اختلاف مراحلها، إذ لا تزيد على أن تشحن الأجيال بمركبات النقص، بما تترجمه من نظريات كثيرا ما تكون قد هجرت في الغرب والشرق على السواء، ولكنها فرضت على أبنائنا كأنها تنزيل من التنزيل… ومن هنا تزدوج المحنة، إذ على طالبنا أن يتجرع أخطاء الأمم دون رحمة، ثم عليه في الوقت نفسه أن يظل مؤمنا بأنه من أمة كتب عليها أن تتجرد من كل أثر للاستقلال الفكري، وسأكتفي بمثل لعله يساعد على إيضاح فاعلية المناهج في شخصية الطالب العربي، لما استحكمت الدعاية إلى الاشتراكية كان لابد من انعكاس آثارها على مناهج الدراسة.. فبعد أن كانت كلاما يقال في الأندية الحزبية وفي نطاق بعض الصحف المعزولة إذا هي قوانين تفرض ويساق الناس للتصفيق لها ولدعاتها على أنهم رسل الإنقاذ وعباقرة الفكر.. وما هي إلا خطوة إثر خطوة حتى كان لها الحصص الطوال في مواد الدراسة والتوجيه.. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل سرعان ما ولدت نظريات تؤكد أن الاشتراكية هي نظام الإسلام الأصيل مستوحى من القرآن والسنة.. ثم جاءت المرحلة الآخرة لتقول: إن الاشتراكية وليدة القرمطية، وأن القرمطية زبدة النظام الإسلامي في المال والحكم! ودون حياء أو تحفظ أخذت هذه المفتريات سبيلها إلى مناهج التعليم حتى في أعرق المعاهد الإسلامية، وفي صحف تصدر عن أكبر المؤسسات الرسمية التي تحمل شعار الإسلام!..
وبقليل من التأمل يدرك المفكر مدى التحول النفسي الذي ستثمره هذه التطورات الخطيرة.. لقد بدأت تلك الأفكار كمحاولة للتعريف بخصائص الاشتراكية ولكنها انتهت إلى أن تصبح عملية تغيير في مفهوم الإسلام نفسه حتى بتنا نسمع أصواتا ذات وزن أدبي وديني تعلن أن الإسلام هو الاشتراكية والاشتراكية هي الإسلام.(12/186)
وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر النظريات الواغلة علينا من هنا وهناك وهنالك.. وقد أحالت مناهجنا معرضا للتناقض الذي من حقه أن يمزق نفس الطالب بين مختلف الاتجاهات… ولا مندوحة هنا عن التذكير بأننا لا نريد بكلامنا هذا أن ندعو إلى وضع الحجر على الفكر الإسلامي بحيث نقطعه عن خبرات الأمم في هذا أو ذاك من التخصصات، بل إننا لندعو إلى الانتفاع بكل ذلك عملا بالحكمة القائلة: خذوا الحكمة من أي وعاء خرجت لأن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها، ولكننا نريد أن تكون دراستنا لتجارب الآخرين في مثل هذه القضايا محاولة لإغناء روافدها الأصيلة في تراثنا العريق.
وبذلك نصون شخصيتنا المتميزة من الذوبان الذي يسوقنا إليه بكل وسائل الإغراء أولئك الخارجون على قيمنا من المبهورين بأضواء الأعداء.. وبذلك أيضا نعيد للغتنا المقدسة إشراقها وعزها، إذ نستغني بمصطلحاتها الجميلة المبنية عن رموز اللغات الأخرى التي نلوكها دون أن نعرف الأصول البعيدة من مدلولاتها اللغوية، التي كثيرا ما تعود إلى لغة بائدة يريد أصحاب هذه النظريات الغربية استبقاءها في دائرة الحياة.
السبيل إلى التصحيح:
لقد حاولت فيما أسلفت من حديث أن أوجز واقع العربية وما يحيق بها من أخطار، وما تتعرض له من مضار لابد لها إذا استمرت في سبيلها من أن تترك جراحا عميقة في قلبها قد يتعذر شفاؤها منها فيما بعد.(12/187)
وقد بقي على أن أدلي بما أحسبه وسائل صالحة لخدمة هذه اللغة الحبيبة، وإعطائها ما تستحقه من الرعاية لغة شرفها الله بكلامه، وأنزل بها خاتم رسالاته، وجمع بها أشتات العرب في وحدة خالدة بعد أن كانت مزقا متباينة، فوطأ لها بكل أولئك طريق القيادة العالمية … وطبيعي أن يكون في مقدمة هذه الوسائل التنويه بدور الجامعات العربية والإسلامية في هذه السبيل، لأنها مراكز التوجيه الكبرى للعقل والضمير واللسان، فلديها من الإمكانات ما يتيح لها أن تصنع الأعاجيب.
وأول ما نتطلع إليه من جهود هذه الجامعات هو اتخاذ العربية لغة التدريس في سائر موادها وكلياتها خارج نطاق اللغات الأجنبية، وهو الأمر الذي عليه أكدت مقررات المؤتمرات العلمية العربية في مختلف المناسبات وسبق إلى تنفيذه بعض الجامعات العربية بنجاح كبير، على أن بعض الجامعات الأخرى لا تزال تتردد في قبوله تحت ضغط المستغربين، الذين خيل لهم جهلهم بلغة العرب أنها عاجزة عن مجاراة التطورات المستمرة، في حين أثبتت جامعة دمشق التي سبقت إلى تعريب هذه المادة منذ عهد الانتداب الفرنسي أن العربية أوسع صدرا مما يظنون إذ حققت شأوا بعيدا من النجاح يصلح أن يتخذ أسوة في سائر ديار العرب.. وعلى قدر إيمان هذه الجامعات بحق العربية عليها سيكون اهتمامها باستعمالها في قاعات الدرس، بحيث يكون التزام الفصحى قانونا لا يتساهل بالخروج عليه فلا يسمح لمدرس أن يعمد إلى لغته السوقية بأي حال حفاظا على كرامة الفصحى، وتدريبا لألسنة الطلاب على إلفها، وإنقاذا لهم من التشويش الذي يحدثه اختلاف لهجات المدرسين ولغاتهم المحلية، ولاسيما إذا كانوا وافدين من أقطار عربية متعددة..(12/188)
وعلى الجامعات العربية أن توجه مثل هذه العناية إلى لغة التخاطب بين الطلاب أنفسهم، سواء في قاعة الدرس أو خارجها.. فلا تفتأ تذكرهم بواجبهم نحو لغتهم، ولا أجدى عليهم في هذا الصدد من الندوات التي توفر لهم جو التعبير عن أفكارهم بالأساليب العربية السليمة.. ولا يبعد عن ذلك إعلان الجامعة بين الحين والحين عن بعض الكتب النافعة ذات الصلة بموضوع اللغة والأدب والأخلاق، ترغيبا لهم في مطالعتها، والكتابة عنها وتلخيصها، ومناقشة أفكارها أثناء بعض الندوات..
دور الجامعات في خدمة البيان العربي:
وهنا أراني مضطرا إلى وقفة قصيرة للتذكير بالواجب الكبير نحو الكتاب الذي رفع الله به ذكر العرب وفتح لهم أوسع أبواب التاريخ.
إن الله يصف معجزته الخالدة هذه بأنها المتفوقة أبدا على كل فكر وكل طريقة وكل فلسفة.. ذلك بأن {هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} فلا أدب إلا وهو فوقه، ولا علم إلا وهو سابقه لأنه الأقوم والأهدى …..(12/189)
ولقد عرف الصدر الأول من هذه الأمة عظمة القرآن فاتخذوه منهاج حياة يقوّمون به أخلاقهم، ويؤدبون أبناءهم، وينظمون دولتهم، ويوجهون طاقاتهم.. فأعطاهم من مردود المجد والعزة والقيادة العالمية خلال أقل من قرن ما لم تبلغه أمة قط سابقا ولا لاحقا خلال القرون.. وقد استطاعت تعاليم هذا الكتاب المعجز أن تفتت الحواجز ما بين الشعوب حتى ردتهم إلى الأخوة التي نسوها في غمار الجهل والمظالم.. فإذا هم أمة واحدة ربها واحد وقائدها واحد ونظامها واحد ولغتها واحدة، هي لغة هذا الكتاب العظيم، آثرتها على ألسنتها الموروثة، لأنها لغة نبيها ووسيلتها إلى فهم شريعته الحكيمة.. وهكذا تسابق أولو المواهب من أقصى الصين إلى غرب أوربة لإتقانها والانطباع ببيانها، فكانت ملايين المؤلفات التي وضعت بأقلام عربية لم تمت من قبل إلى العرب بأدنى سبب.. ولو استمرت المسيرة في سبيلها السليم لالتقت القارات كلها على هذه الوحدة العجيبة، ولكن كواكب العرب تعبت من أعباء المجد فانصرفوا عن هدفهم الأعلى ليشاركوا الغافلين في ملاهيهم المتبرة.. ثم لم يلبثوا أن نسوا أنفسهم ورسالتهم، فإذا هم محطمو القوى مسلوبو الأوطان قد اصطلح عليهم كل شيء، وسلط عليهم حتى من لا يستطيع دفعا عن نفسه..(12/190)
ونفتح أعيننا اليوم لنرى العالم الإسلامي وقد شرع يتمطى ليسترد بعض يقظته التي طال بها عهده.. ولكنه يجد نفسه أثناء ذلك محاطا بأكداس المطبوعات، ومأخوذ السمع بآلاف الصيحات، وكلها يدعوه إلى غير سبيل القرآن، إنها أشبه شيء بالطريق الذي حدّث به ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحذيرا للمؤمنين من مغويات المفسدين فذكر أنه صلى الله عليه وسلم خط خطا ثم قال: "هذا سبيل الله مستقيما وخط عن يمينه وشماله ثم قال: هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه … ثم قرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} " [2] .
فالمسلمون إذن على مفترق طرق، وخلالها طريق واحد هو المؤدي إلى النجاة والقوة والعزة، طريق القرآن الذي _ كما ورد في الأثر _ هو المخرج من الفتنة ((فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم.. من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله … من قال به صدق ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم..)) [3] .(12/191)
وقد أسلفت فيما تقدم أن اللغة لا تقتصر على التخاطب والتعبير، وإنما هي عملية تصور ومنهج تفكير.. وما دام القرآن هو قمة البيان العربي وحارسه على امتداد الزمن، فهو إذن مكون التصور، ومنظم الفكر، ومهذب التعبير.. ومن هنا كانت هيمنته على أدب العرب بعد الإسلام، بحيث ترك طابعه على إنتاجه كله إلى أحقاب مديدة.. وإذا اتفق أولو العلم على هذه الحقيقة لم يختلفوا على أن للجامعات العربية دورها الهام في ربط الجيل العربي بعروة هذا الكتاب المرهف للطاقات، الحافظ لذاتية الأمة، الجامع بين ماضيها وحاضرها ومستقبلها، ولتحقيق هذا الواجب العظيم لابد من توافر قدر مشترك من الاهتمام به في كل كلية مهما يكن تخصصها، وذلك بإعطائه عددا من الحصص الأسبوعية لدراسة نصوص منه دراسة بيانية، تساعد الطالب على تذوق بلاغته بعد التبصير بمعانيها، وبذلك تسد الفجوة القائمة بين الدراسات العلمية والنظرية، حتى يتخرج كل طالب مزودا بقدر لا غنى عنه من الذوق البياني.
وعندما نتذكر أن خريجي الجامعات هم أصحاب المناصب الإدارية والقيادات الفكرية والإذاعية في كل بلد أدركنا أي خدمة تقدمها الجامعات لصالح العربية عن طريق هؤلاء الذين أكسبتهم من الخبرة والدراية ما يجعلهم قدوة حسنة تشيع حب العربية في مختلف الأوساط.
العالم الإسلامي يتلهف إلى العربية:(12/192)
وحق القرآن ولغته ليس مقصورا على بلاد العرب وحدها وإن تكن الأحق برعايته من بين سائر البلاد، إنما القرآن مرجع أمة تنتشر في قارات العالم، ويضطرب في مئات ملايينها الإحصاء، وهي تتطلع إلى كل حرف من لغة القرآن متلهفة إلى نطقه وفهمه، وقد بلونا الكثيرين من أبناء هذه الشعوب الغريبة عن العربية، فإذا هم أشد حماسة لها من أبنائها، بل لا أغالي إذا قلت إنهم أكثر إقبالا على دراستها وأوفر إتقانا لقواعدها من العرب أنفسهم.. وما أسعدهم بإخوتهم بل أساتيذهم أبناء الضاد لو بذلوا لهم ما يستحقونه من العون لدراسة هذا اللسان الحبيب..
ولعمر الله إنه لعجب من العجب أن نرى أمم الغرب ترصد في ميزانياتها القناطير المقنطرة من الأموال لنشر ألسنتها بين شعوب الإسلام، وتعقد الدورات السنوية لتدريب المتخصصين لتدريسها في كل مكان، وتبذل الجهود الجبارة لابتداع الوسائل الكفيلة بتيسيرها بأحدث وسائل الإعلام.. على حين تقف الحكومات العربية مكتوفة اليدين أمام حاجة هؤلاء الأخوة إلى لغتها، وهم حلفاؤها الطبيعيون في كل مأزق عالمي.. وهي التي ينفق بعضها من الكنوز على أتفه الأشياء ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة.. ولو أن كل حكومة عربية رصدت خمسة في المائة من ميزانيتها على نشر العربية في أوساط الشعوب الإسلامية لعدت مقصرة، لما يتوقف على هذا المرفق من مصالح سياسية تتجاوز حدود التخمين..
عبرة من باكستان:(12/193)
دعوني أذكركم أيها الإخوة الأفاضل بمأساة باكستان القريبة.. لما لها من صلة بموضوع اللغة، لقد كانت هذه الدولة هبة الإسلام، كما صرح أول رئيس لوزرائها لياقات علي خان.. ولكنها لم تستمر سوى القليل من السنين حتى انشقت إلى دولتين لكل منهما لغتها، ولا تزال المخاطر تهدد الأصلي من شقيها بضروب من الانقسام الذي يمهد له تعدد اللغات، إلى جانب الأسباب الاجتماعية والسياسية الأخرى، ولقد لاحظ أحد زعماء باكستان منذ أيامها الأولى مطالع الفتنة التي تتمخض بها الأحداث بسبب اختلاف الألسنة بين سكانها.. فراح يحذر أمته من مخاطر المستقبل إذا هي استمرت في تجاهلها لمشاكل اللغات المتنازعة في باكستان.. وكان مما قاله يومئذ: (إن البنغاليين لن يرضوا سيادة الأوردية، ولا السندية براضية عن سيادتهما.. ولكن هؤلاء جميعا مستعدون للتنازل عن كل حقوقهم في السيادة للغة للقرآن، لأنها لغة دينهم ولسان نبيهم، ولن يكلفنا تمكين العربية من ألسنة الأمة الباكستانية أكثر من ربع قرن إذا نحن أسرعنا إلى وضع التخطيط المساعد لتحقيق هذه الغاية) ، ولكن صيحة الآغاخان الجدّ هذه لم تبلغ آذان المسئولين يومذاك لانشغالهم عنها بالتنافس على السلطان.. حتى انتهى الأمر إلى ما نشاهده اليوم من بنغلادش وباكستان.. وما لا يعلمه إلا الله في قابل الزمان.. ولئن فاتت العرب فرصة الأمس فما زالت أمامهم فرص في باكستان وبنغلادش والأفغان وفارس وأندنوسية وتايلاند وماليزية والعشرات من مناطق أفريقية المسلمة، لقد وضع الله في أيديهم مفاتيح الدنيا بما يملكونه من الذهب الأسود، ولو هم أجمعوا أمرهم على نشر دينهم ولغتهم في جماهير المسلمين على الأقل لما وجدوا حتى من الحكام غير المسلمين من يحول دون إرادتهم، بل لألفوا أبواب الأرض مفتوحة لهم على مصاريعها، ولو لم يكن ذلك بدافع الحب للإسلام ولغة الإسلام، لكان بدافع الحفاظ على مصالحهم في نفطهم وأموالهم … ولعل كثيرين غيري(12/194)
من الزملاء الأفاضل قد سمع ما سمعت قليل من تشمير باكستان لنشر العربية، بل لمضاعفة العناية بها في مدارسها.. وفي الجامعة الإسلامية اليوم بعثة رسمية من أساتذة المدارس الباكستانية أوفدت للتدريب عليها والتمرس بنطقها وتعليمها فما الذي يمنع العرب أن يقابلوا باكستان وغيرها في وسط الطريق فيرسلوا إليها بعثاتهم لتعليم عربيتهم على مستوى أكثر جدوى وأعم نفعا!..
إن الحكومات العربية مسئولة عن هذا الواجب ولكن للجامعة العربية أيضا مسئولياتها نحوه، وإذا كان هذا حقا بالنسبة إلى سائر الجامعات العربية في كل بلد عربي فهو أحق بالنسبة إلى جامعات المملكة الغالية التي شاء الله أن يأتمنها على مقدسات الإسلام.. الذي لا يمكن فصله عن لغة القرآن..
ولعل من بواعث التفكير الجدي في هذا الجانب من البحث أن أعرض لأعين الزملاء خلاصة رسالة تسلمتها قبيل أيام.. إنها من أستاذ يتولى تدريس العلوم العربية في معهد حكومي بساهي وال الباكستانية، ويريد الاستزادة من هذه المادة، لذلك يريد مني أن أتخذه تلميذا بالمراسلة لتحقيق متمناه الذي يعتبره منة وفضلا.. أظن من حق هذه الكلمات أن تحرك عواطفنا نحو هؤلاء الإخوة فنوفد إليهم من يروي ظمأهم إلى لغة القرآن، مما لا يمكن تأمينه عن طريق المراسلة إلا عند متفرغ لا يشغله شاغل عن هذا الواجب، أو عن طريق برنامج خاص لتعليم هذه اللغة على الهواء كما تفعل إذاعة لندن في برنامجها المعروف لتعليم الإنجليزية، وهو أقل ما يجب ابتداء على وزارات المعارف في كل دول العرب.
أدبنا.. ما هو؟ وكيف يجب أن يكون؟
وكما أن الفرد لا يتصور له وجود خارج نطاق الجماعة، كذلك اللغة، بدأ من الكلمة المفردة إلى النصوص المختلفة، لا وجود لها منفصلة عن الصياغة الأدبية، لأننا بالأدب الأصيل نتعلم ونعلم طريقة البناء الفني للكلمة، وبالأدب نعين مدلولاتها المختلفة حسب موقعها في ثنايا التعبير.(12/195)
وعلى هذا فلا مندوحة من إلمامة قصيرة بواقع الأدب العربي، لنرى ما يمثله من أصالة أو غرابة، وإلى أي مدى يسهم في خدمة هذه اللغة الكريمة…
وسأحاول أولا تعيين مدلول موجز لكلمة الأدب بغض النظر عن التعريفات المختلفة المتموجة، ففي يقيني أنه البيان بالكلمة المناسبة عن مضمون النفس والنفس والعقل والشعور وسائر مصادر النشاط العاطفي عناصر لا يمكن عزلها عن موحيات البيئة على اختلاف مركباتها الاجتماعية والثقافية والتاريخية والطبيعية، يقول ألكسيس كاريل في كتابه النفيس: الإنسان ذلك المجهول: إننا عاجزون عن حماية أنفسنا من تأثير المجتمع لأن حدود النفس مفتوحة لهجوم المحيط العقلي والروحي …) ، فالأديب إذا من حيث كونه فردا في جماعة لا يستطيع تحرير أفكاره ومشاعره من سلطان البيئة، ولا مندوحة لها من أن تفرض عليه آثارها ولكنه من حيث كونه إنسانا مزودا بقابلية التطلع إلى الأبعد، والتفكير فيما وراء حدود الواقع، يتجاوز بهذا الامتياز حدود الترديد لما يتلقاه، إذ يأبى بطبعه أن يكون صدى محضا لهتفات البيئة.. ومن هنا كان التفاوت بين زمر الأدباء إذ كلهم منفعل بمؤثرات المجتمع، إلا أنه في الوقت نفسه متطلع إلى ما يتصوره الأصلح والأجمل لمجتمعه، انسياقا مع غريزة التجديد، التي هي الحافز الغرزي لتطوير الحضارة البشرية.
والآن بوسعنا أن نرجع البصر في منطلقات الحركات الأدبية على امتداد الأقطار التي تغتذي بالكلمة العربية من شواطئ الأطلسي إلى مشارف دجلة وأقاصي الخليج..(12/196)
أول ما يتراءى لنا هنا هو تباين المستويات والنزعات والروافد التي من شأنها أن تصنع هذه الاتجاهات.. وأكثر هذه المواطن اتصالا بحضارة العالم الصناعي أشدها تحركا في نطاق الفكر والإنتاج الأدبي.. وأوفرها تفاعلا مع التيارات الغازية التي تكاد تغطي على أصالة الشخصية العربية حتى في نطاق التعبير الذي بات مثقلا بالمصطلحات المقحمة والصور البيانية الغريبة، والأساليب المهزوزة..
وكان للاستعمار الغربي آثاره العميقة في صبغ هذا الإنتاج إذ تركت لغة كل مستعمر طابعها على أدب الجيل الناشئ في ظلها …
ولقد بدأت النهضة الأدبية في القرن الماضي أصيلة الطابع إلى حدّ بعيد، إذ كانت ثورة إحياء للغة والأساليب والتراث، ثم أعقبت ذلك ثورة التغريب في مناهج التعليم، فكانت الطامة التي خربت مراكز الثقل في الشخصية الإسلامية إذ أبعدت التعليم كليا عن سلطان القرآن الذي كان المنطلق الأول والأكبر لكل حركة ثقافية في العالم الإسلامي غير منازع، فبات معزول الأثر عن البصر والفكر، لا يعدو أن يكون كأقل مادة دراسية حظا من العناية والتأثير خارج هذه المملكة، حتى أن بعض الأقطار العربية قد ألغت قيمته التأثيرية نهائيا، بجعلها مادة التربية الدينية غير ذات أثر في معادلات القبول للدراسة الجامعية …
بين الأصالة والتزوير:(12/197)
وطبيعي أن الأجيال الناشئة في هذا المناخ غير القرآني لن تجد في مكتساباتها الفكرية ما يحصنها بوجه التيارات الدخيلة إذ تصبح على أتم الاستعداد للاندماج في أي اتجاه مؤيد بالمغريات.. وفي هذا الجو المرجوح برزت الطبقة الجديدة التي سحرها بريق الفكر الدخيل على اختلاف مذاهبه، فراحت تتبع آثاره وتنشر أخباره، وتزين للناشئين أوزاره حتى لم يستنكف بعض دعاة هذا الاستغراب أن يدعو إلى تحطيم القيم الإسلامية، فيجرئ السفهاء على التنكر لحقائق القرآن، والإقبال على مسالك الغرب دون تفريق بين النافع منها والضار، لأن الحضارة بزعمهم كل لا يتجزأ، فلا مندوحة عن أخذه بعجزه وبحره..
وانفرجت زاوية الانحراف تبعا لاتساع نطاق التواصل الفكري العالمي، سواء عن طريق البعثات التي أتم معظمها حلقة التطويق على القيم الإسلامية باندماجها العملي في الحضارة التي دمرت سعادة الإنسان واطمئنانه _ بشهادة أساطينها _ أو عن طريق المترجمات والمنشورات التي أغرقت العالم العربي بسيول الفكر الدخيل، ثم عن طريق الوسائل الإعلامية المنظورة والمسموعة التي اقتحمت البيت الإسلامي دون استئذان، فعودته ما لم يعتد من المشاهد وقربت إلى قلبه كل ما من شأنه أن يسلبه بقية امتيازه الروحي …
وهكذا كان على الأدب الحديث أن يمثل مجموع هذه التيارات التي تخضّ المجتمع العربي الإسلامي فيكون له ألوانه ولكل لون دعاته، وكلهم مشدود إلى هذا أو ذاك من الجواذب الغريبة عن شخصيتنا الأصيلة.(12/198)
على أن من الغفلة أو الجهل أن ننسى تلك الفئة العملاقة من حملة القلم الإسلامي الذين حفظوا للأدب العربي الأصيل جانبه المشرق.. وقد تتابعوا على خدمة الكلمة المؤمنة جيلا يقفو جيلا، وما زالوا ولله الحمد، يزودون القراء بالغذاء الدسم المستمد من مائدة القرآن، حتى لكأن التاريخ يعيد اليوم ما شهده في عصور العباسيين من تدفق الفكر الدخيل الذي استهوى كثيرين فانساقوا في تجاربه يتفلسفون ويتصوفون ويتمنطقون ويتزندقون، ويشغلون العقل المسلم بالمناقضات من الحقائق والأباطيل، فكان أن نهض لغربلة هذه الأخلاط رجال أضاء الله قلوبهم بنور القرآن فثبتوا في وجه الأعاصير حتى أعلى بهم كلمته وأقام على المضلِّلين والمضلَّلين حجته …
وهاهي ذي المعركة ما تفتأ على أشدها بين الأصالة والتزوير.. وإنها لمعركة متعددة الجبهات، متنافسة الأسلحة يخوضها الفكر المسلم بالبيان القرآني المتألق، يخترق بأشعته الهادية ضباب التهريج، فيغنم كل يوم مساحة جديدة، ويكسب في كل مناسبة مؤمنين جددا يستردون في أضوائه حقيقتهم الضائعة.
تغيير جذري:(12/199)
وطبيعي أن الأدب الذي تجب نصرته هو هذا الذي ينبع من معين الإسلام إيمانا بالحق، وتصورا للجمال، ودعوة إلى الخير، ولكن نصرة هذا الضرب من الأدب لا يمكن أن تؤتى أكلها إلا في جو من التوعية العميقة في أوساط القراء وهي مهمة ضخمة تقتضي تعبئة عامة في مجال الإعلام والتعليم جميعا، فينحّى عن دفة التوجيه الإعلامي كل ذي فكر لقيط وثقافة مدخولة لا تصلح للانصهار في قيمنا الأصيلة.. وبذلك تتوافر على هذا المرفق الخطير الأيدي النظيفة التي ستعيد للكلمة المسلمة حق المرور إلى القلوب والأسماع بكل الوسائل الجمالية … ثم تأتي الخطوة التالية من التوعية في ميدان التعليم، وهذه تنحصر في تحرير إرادتنا من التبعية لموحيات الفكر الغربي، الذي عبث بنا طويلا حتى كاد يسلخنا نهائيا من خصائصنا الذاتية، ويجعل من شبابنا المتعلم مجموعة من الإمّعات لا تسمع إلا بإذنه، ولا تبصر إلا من وراء نظاراته.
إن التوعية التي نريدها في ميدان التعليم تتطلب جرأة فائقة تخلص مناهجنا من التقليد الذي يكاد يحصر مهمة المدرسة والجامعة في حدود مكافحة الأمية الفطرية لينقل أبناءنا إلى أمية أخرى هي أمية الجهل بدينهم وتاريخهم وأنفسهم، وإنه لضرب من الجهل عجيب يشحن الرؤوس بأكداس المعلومات الممزقة دون أن يمكن لقدراتنا الذاتية من العمل الذي يجعل للحياة أي قيمة، لأن غرضه المخطط من وراءه هو إعداد جيل يصلح للاستهلاك دون الإنتاج … وحين تتحقق أمنية التوعية هذه فستكون لدينا المناهج التي تساعد الإنسان العربي بل المسلم، على أن يكون الروح التي تكافح لبلوغ مثل أدبي عال، وتبحث عن النور في الظلمات، وتسير قدما في الطريق الذي يكشف لها الأساس غير المنظور لهذا العالم كما يقول مؤلف الإنسان ذلك المجهول.(12/200)
أجل.. إن مناهج من هذا المستوى ستفسح الطريق لإغناء الفكر العربي بالمعاني الربانية، التي من اختصاصها دائما وأبدا تكوين الصفوة البشرية المزودة بكل الفضائل التي تجعل منها أمة لا تعرف الفصل بين حدود الدين والدنيا، فهي تنظر إلى كل علم وفن وعمل بنور الله فتملك بذلك الفكر الموسوعي الذي يعرف حلول الإسلام لكل جوانب الأزمات العالمية، ولا يفوته الإحاطة بكل ما انتهت إليه التجارب البشرية من خطأ وصواب …
وفي كنف هذا الضرب من التغيير الجذري سينطلق من جديد مارد الأدب العربي الأصيل أكثر قوة ومضاء، ليستأنف جهاده في توجيه الحياة إلى الأعلى، وليمد الفكر العالمي بما عهد عنده من عطاء لا تزال آثاره دالة على نفسها في كل خير عرفته حضارة الغرب والشرق على السواء..
إن واقع العرب اليوم ليجعل من هذه الأفكار صنفا من الأحلام العصية على التحقيق… ولكنها على الرغم من ذلك حقيقة لابد من الإيمان بها والكدح لإخراجها إلى حيز الوجود، إذا نحن صممنا على استعادة مكاننا من قيادة الفكر البشري، وتذكرنا أننا الأمة الوحيدة التي تملك برسالتها الآلهية مقاليد الإنقاذ لسفينة العالم الضالة … وفي يقيني أننا في الطريق إلى هذه الحقيقة لابد لنا من التركيز على المبادئ التالية:
1) تعديل مناهجنا الدراسية بردها إلى منطلقات القرآن والصحيح من السيرة النبوية حتى يكونا هما المهيمنين على شعب المنهج جميعا، وقد بدأ ذلك يأخذ طريقه إلى مخططات التعليم في هذه المملكة المؤمنة ولله الحمد، وبقي إعداد المعلم المنسجم مع هذه المخططات، سواء كان وطنيا أو مستعارا..
2) مضاعفة الاهتمام بالبيان العربي، وتلقيح العقول بخصائصه الجمالية التي لا يعجزها التعبير عن أية خلجة أو خطرة أو كشف …(12/201)
3) الإقلال من الابتعاث إلى الغرب حتى أدنى الحدود الضرورية، مع إلزام المبتعثين ممارسة الحياة الإسلامية تحت إشراف الأكفاء، على أن يسترد كل من يثبت شذوذه عن قيم الإسلام، حماية لصحة الأمة الروحية من التلوث بأوباء الجاهلية الجديدة..
وأخيرا إنشاء مؤسسة فكرية باسم نادي القلم الإسلامي تكون قاعدتها مكة المكرمة أو طيبة المباركة، ويشارك في عضويتها كل ذي غيرة على رسالة الله من أدباء المسلمين، على أن تعقد اجتماعاتها الدورية في العشرة الأواخر من ذي الحجة لكل عام، حيث تدرس أوضاع المسلمين والحركات الثقافية العالمية، ويصار إلى الاتفاق على الخطط الصالحة لخدمة الكلمة المؤمنة بكل وسائل الإعلام.
ومرة أخرى أعترف بأنها أفكار أشبه بالأحلام، لما يعترض طريقها من عقبات جسام.. غير أنها ليست مستحيلة التحقيق إذا لامست موضع القناعة من قلوب الرجال الذين آمنوا بألاّ استقرار ولا بقاء ولا صلاح إلا بالإسلام..
العربية والأدب الشعبي:
في مؤتمر الأدباء السعوديين الأول بوادر نشاط مشكور، من شأنه أن يضاعف جهود الأقلام المشهورة، ويحرك الكثير من المواهب المغمورة.. وقد اتخذت فيه مقررات إذا نفذ نصفها كان ربحا كبيرا، فكيف والمتوقع أن توضع كلها في حيز التنفيذ إن شاء الله، على أن واحدا من هذه المقررات لا أزال حائرا بإزائه، ذلك الذي يحمل الرقم السابع عشر، ويتضمن توصية المجلس الأعلى للفنون والآداب بأن يولي اهتمامه بالأدب الشعبي، ويعلل القرار هذه التوصية بالرغبة في تمكين الباحثين والدارسين من الاستفادة منه في دراسة تاريخ المملكة ولهجاتها وفقه لغتها.(12/202)
والأدب الشعبي قديم في كلام العرب حتى الجاهلية لم تفقده، لأن ألسنة القبائل لم تكن على مستوى واحد من حيث الصحة والجمال.. فكان منها اللغات العالية التي بها نزل القرآن، وعليها تنهض علوم العربية التي ركزت فيما بعد، وكان منها لغات مشوشة لم يعن بها رواة اللغة ولا مدونوها بعد الإسلام، ولم يصلنا منها سوى النزر من شواهد احتفظ بها علماء اللغة للدلالة على اللغات الشاذة أو الضعيفة.
وبنزول القرآن العظيم وإقبال العرب عليه قلّ استعمال تلك اللغات النوادر إلا في سياق التخاطب بين أبنائها وإلا في الأمثال التي ألِف العرب روايتها دون تعديل ولو اعتورتها الأغاليط، ثم تسلل الضعف إلى سلائق أبناء الفصحاء مع تفاقم الاختلاط بشعوب البلاد المفتوحة، مما اضطر العلماء إلى تدارك ذلك الفساد بوضع القواعد وإقامة الشواهد.. ولكن طبيعة التطور أدت إلى تشقيق العربية، فكان فيها فيما بعد لغة الأدب المحتفظة بخصائصها، وكان منها لغة العامة التي شابها اللحن وكثرت فيها الكلمات الدخيلة، ثم انتهت إلى أن كونت لنفسها ما يسمونه اليوم بالأدب الشعبي.. وهو طراز من الكلام كان من آثاره البارزة خلخلة الكيان العربي، إذ جعل لكل جماعة لسانها الخاص، بحيث لا يكاد فريق يفهم لغة فريق، إلا إذا عمد إلى اللغة الجامعة الأصيلة، التي لم يعد يحسنها إلا خواص المتعلمين.. ولا عجب فالسوقية في كل إقليم مزيج من العربية وما سبقها من لغات محلية أو غازية، وبما أن لكل إقليم ماضيه التاريخي الخاص كان لكل عامية لهجاتها ومفرداتها الخاصة أيضا.. وفي مستطاع كل منا أن يلمس هذا الواقع من خلال سماعه لهجات العرب الوافدين إلى موسم الحج من مختلف أقطارهم … وما أظن عربيا منا مهما تبلغ معرفته باللهجات وتطورها بقادر على أن يفهم لهجة مغربي أو جزائري أو حتى يماني من سكان المناطق النائية … فإذا نحن رحنا نتتبع نصوص هذه الحكايات أو المنظومات الشعبية في بلد عربي لم(12/203)
نزد على أن مكنا لهذه الفرقة من الرسوخ، وبالتالي لم نقدم لقارئ الأدب العربي سوى نماذج لا تقل غرابة عن أي نص من الصينية أو اليابانية مثلا … ومن هنا يتضح لنا ما أهدرناه من جهود ووقت في غير فائدة، بل في ضرر مؤكد..
مع أن واقع الجزيرة العربية يمتاز على غيره من واقع الأقطار العربية الأخرى من حيث أن لغاتها العامية أكثر اتصالا بأصول العربية، وأكثر حفاظا على جوها، فالمشهود الملموس أنها تشترك مع غيرها من عاميات العرب بقيامها على اللحن، وتسرب الكثير من الدخيل إلى صميمها … ولاسيما في عهدها الراهن، حيث كثر اتصالها بديار الغرب ولغاته ومصنوعاته، فضلا عن تعدد أصول السكان والوافدين الذين يمثلون أكثر من نصف لغات العالم.
أجل.. إن الدعوة إلى تنشيط الأدب الشعبي لا تختلف بنظري عن الدعوة إلى ما يسمونه بإحياء الفولوكلور، ويريدون به كل ما كان لأي شعب من فنون متميزة من الرقص إلى الأغاني إلى الأزياء.. وما إلى ذلك.. وقد فقه أولو العلم حقيقة ما وراء هذا الفولوكلور من محاولات للعودة بالشعوب الإسلامية إلى جاهلياتها السابقة للإسلام.. فالفولوكلور إذن حركة مناوئة للإسلام نفسه الذي أخرج الأمم من الظلمات إلى النور، ووضع الإنسانية الجديدة في الطريق المؤدي إلى الحضارة الربانية المتميزة بأنها لا شرقية ولا غربية..(12/204)
وإذن فالاهتمام بالأدب الشعبي كتابة وإذاعة وتنويها ودراسة هبوط بالفكر العربي عن المستوى الذي يجب أن يؤكد عليه في مسيرته الجديدة، وعندي أن السعي لرفع النظامين الشعبيين إلى مستوى العربية الصحيح أجدى عليهم وعلى أوساطهم وعلى أقطارهم من تشجيعهم على ما أخذوا به من قول ملحون.. ولا جرم أن في تجاربهم الشعورية وتوهجاتهم الخيالية لظواهر مواهب لو أخذ بيدها إلى الطريق السوي لجاءت بالبديع الرفيع، ولزادت ثروتنا الأدبية جمالا وتألقا.. وإلا فإن كل مجهود في غير هذا الطريق السوي منته إلى الإخفاق الذريع، لأن طبيعة الفكر العربي لا تسمح بالخلود والبقاء لأي فكر أو شعور لم يسجل بلغة القرآن.. والأدلة على ذلك تواجهنا في محاولات المتفرعنين بمصر والمتفينقين بلبنان، الذين بذلوا ويبذلون الجهود والأموال لكتابة أفكارهم باللغات السوقية، فأخفقوا ولا يزالون يخفقون..
من أجل تيسير التعليم:(12/205)
ونعود إلى موضوع نشر العربية في المجال العالمي فنذكر بأن ذلك يقتضي الاهتمام بوسائل هذا النشر، فمعلوم أن شكاوى كثيرة تصاعد في كل مكان عن صعوبة العربية.. وليس هذا موضع الرد أو النقد لهذه الشكاوى، إذ من الطبيعي ألا تكون على مستوى واحد من حيث الدوافع.. فهناك المغرضون الذين يريدون مجرد التنفير من العربية باختلاق المعايب لها، وربما جاهدوا لقلب فضائلها نقائص.. ولكن هناك أيضا المخلصون الذين يمارسون تجربة التعليم منذ عشرات السنين، فيواجهون في طريقهم الكثير من المصاعب؛ ذلك أن الوسائل التي يستعان بها لتعليم العربية لا تزال ضمن نطاق الموروثات القديمة لم يعترها التعديل أو التطوير إلا قليلا، وتستيقظ الآن في أعماقي ذكرى أيام كنت أتلقى فيها علوم العربية على أحد الشيوخ من خريجي الأزهر.. فأضطر إلى العض على راحتي بكل ما أملك من قوة لأمنع نفسي النوم خشية أن تفوتني خفية من الدرس لا أستطيع تداركها.. ولا أريد بذلك أن طريقة التنويم هذه هي نفسها طريقة كل مدرس للعربية اليوم، بل أقول: إننا لم نفد كثيرا من التطورات الحديثة التي طرأت على طرائق التعليم الخاصة باللغات، لقد سمعنا وشاهدنا الكثير من مؤتمرات العرب في القانون والهندسة والزراعة والأدب والشعر والفن.. ولكننا لم نسمع قط عن مؤتمر عقد للبحث في الانتفاع بخبرات الحضارة لتعليم لغة العرب.. أجل لقد سمعنا عن محاولات لتيسير القواعد، وقرأنا مؤلفات تقوم على استبدال مصطلحاتها على وجه لا يراد به على أفضل الاحتمالات أكثر من التلاعب بالألفاظ، واستقطاب الأنظار إلى عبقريات أصحابها.. هذا إذا لم نقل إن وراء الأكمة ما وراءها من محاولات الإساءة للعربية، والذي أؤمن به في هذا الصدد هو أن لغة الأمة جزء أساسي من ذاتيتها، عليها أن تتقبله كما تلقته، ثم تسلمه أجيالها القادمة كما تسلمته، دون أي مساس بأصولها المميزة كالإعراب ومخارج الحروف والتزام التراكيب الأصيلة،(12/206)
لأن اللغة أشبه بالكيان الحي، كل تغيير في تركيبه الطبيعي قاتل له أو مشوه، غير إن التزام الأصول لا يمنع تطوير وسائل الصيانة لصحة هذا الكيان، ولتوسيع دائرة نشاطه.. تماما كما نعامل الجسم إذ نحصنه من السوء بكل المبتكرات الصحية ولكن دون أن نحاول إحداث أي تغيير في تركيبه الطبيعي…
وهذا يقتضي أمورا أهمها:
1) الانتفاع بأحدث الوسائل الفنية التي توّصل إليها ذوو الخبرات العالمية في تعليم اللغات، كالمسجلات الفردية، والمعامل الجماعية، ومختلف وسائل الإيضاح العملي.
2) إعداد المدرس الخبير باللغة والنفس، المحب لمهنته، القادر على الاستفادة من تجاربه اليومية.
3) عقد مؤتمرات دورية يشهدها المدرسون المتفوقون لإعطاء زبدة تجاربهم وتعميم ما يتفق عليه بشأنها على المدارس والمعاهد في نشرات صالحة.
4) تمكين سلطان العربية من سائر مواد الدراسة، فلا يسمح لمدرس أي مادة باستعمال لغته السوقية أو الملحونة أثناء الدرس، ولا يقبل من الطالب سؤال ولا جواب بغير اللغة الصحيحة.
5) توجيه عناية خاصة لطالبي العربية من غير العرب، بحيث تقدم إليهم في كتب تعتمد الإيضاح بكل الوسائل المعقولة ويراعى فيها التدرج من الأسهل إلى الأصعب، مع العناية الكبيرة بجمال المظهر وأناقة الطبع.
6) بناء مناهج المعاهد الخاصة بتعليم العربية للأعاجم على أساسين:
الأول: تصحيح مخارج الحروف وضبط الألفاظ ومراعاة التركيب العربي.
الثاني: العناية بالقصة في تزويد الطلاب بالمفردات العربية، على أن لا يقل مجموع الكلمات التي يجب عليهم حفظها وإتقان استعمالها عن خمسمائة كلمة خلال العام الدراسي الواحد.
7) العناية بتزويد الفصول بالكتب الملائمة لمستويات الطلاب وبخاصة القصص الموجهة على أن يلزم الطالب قراءة عدد منها، وتلخيصها وبيان قيمتها شفهيا وكتابيا.(12/207)
8) وأخيرا إعطاء العربية مثل ما تعطى الأجنبية اليوم من العناية على الأقل.. وعدم تمكين أي مادة من الحيف عليها.
مخطط نبوي ضد الجهل:
وبحث في العربية وحقوقها سيظل أبتر، إذا أغفل الإشارة إلى موضوع ما يسمونه بمكافحة الأمية، ويحاول بعض المعنيين به تهذيب عنوانه باسم: تعليم الكبار، ومهما تختلف الأسماء في هذا الشأن فالمقطوع به أن الإسلام أول مكافح للأمية خلال التاريخ.
ولا غرابة فهو دين العلم الذي يعتبر اعتناق أي إنسان له هجرة من الجهل إلى المعرفة، ومن الظلمات إلى النور، وحسبه سموا أن أول آياته النازلة في حراء على قلب محمد صلى الله عليه وسلم كانت تبشيرا بالعلم وتنويها إلهيا بفضل القراءة والكتابة.
ولقد كانت أولى حملات الإسلام على الأمية في أعقاب غزوة بدر لما جعل رسول الله فداء الأسير الكاتب من المشركين تعليم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة … ثم جاءت المرحلة التالية يوم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين وكان من خطبته تلك قوله: "والله ليعلمنّ قوم جيرانهم ويفقهونهم ويعظونهم ويأمرونهم وينهونهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون أو لأعاجلنهم العقوبة.."، وعلم الأشعريون وهم المتعلمون أنهم المقصودون بالإنذار، فجاءوا رسول الله يسألونه المهلة، فأمهلهم سنة ليحققوا واجبهم في تعليم جيرانهم من جفاة الأعراب [4] ، وكان ذلك تشريعا نبويا بإيجاب التعليم والتعلم على كل قادر كضرب من التكافل الاجتماعي الذي يستهدف رفع سوية الكافة إلى المستوى اللائق بالإنسان المسلم، وهي سابقة عظيمة تعطي ولي أمر المسلم حق تحويلها إلى قانون يلزم كل خريج في الجامعة مثلا ألا يتولى عملا إلا بعد أن يقدم البرهان على أنه استنقذ واحدا على الأقل من ظلمات الجهل، ويلزم كل جاهل أن يقبل على التعلم تحت طائلة العقوبة.
سلاح ذو حدين:(12/208)
على أن من حق البحث علينا أن نتساءل عن الغاية من حركة مكافحة الأمية في أوساط المسلمين خاصة.. لا شك أن سؤالا كهذا من شأنه أن يبعث الدهشة أو الضحك لأن جوابه من أقرب البديهيات، فالمشروع قائم على قدم وساق في كل مكان، وقد أجمعت عليه البشرية كلها ممثلة في هيئة الأمم ومؤسساتها الثقافية، وتتسابق الدول على اختلافها لتسجيل الأرقام القياسية في هذا الميدان.. ومع ذلك يأتي من يسأل عن غايته وأغراضه؟ ولكن كثيرا من الأمور التي تظن من البديهيات يتعذر على المفكر إيضاحها، وليس موضوعنا هذا إلا واحدا من هذه البديهيات.
إن وراء حملة مكافحة الأمية في العالم أهدافا شتى.. فهي كما تستهدف تأهيل الإنسان الأمي لتحسين واقعه، وتوسيع آفاق حياته، بالاطلاع على ما كان محجوبا عنه من عوالم الوحي، والاستمتاع بثمرات الفكر المبدع للحضارات.. كذلك وراءه الأصابع التي تريد اقتلاعه من عالم الفطرة، لتقذف به في تيه المغويات الشيطانية.. أجل أيها الإخوة الأعزة إن مشروع مكافحة الأمية سلاح ذو حدين، ففيه الإعداد للخير الكبير الذي يريده الإسلام وأهله، وفيه كذلك التحضير لشيوع الفساد المدمر لهناءة الإنسان.. والمؤسف أن وسائل الشر المتربصة خلف هذا المشروع أقوى وأرقى وأكبر فاعلية من وسائل الخير.(12/209)
إن ذوي الفكر الشرير قابضون على ناصية الإعلام وفنونه المغرية في كل مكان، وقد أعدوا لكل مستوى عقلي ما يلاءمه من هاتيك الوسائل.. تساعد على تحقيق أغراضهم الطاقات الهائلة الموضوعة تحت تصرفهم من دول الإلحاد ومنظمات الإفساد، على حين لا يكاد الفكر البناء المؤمن يجد سبيله إلى الظهور إلا في أردأ المظاهر.. لأنه في الغالب مجهود أفراد فقراء لا مدد لهم ولا عُدد، فإذا نحن في عالمنا الإسلامي نجحنا في القضاء على الأمية، وسننجح بمشيئة الله فماذا أعددنا لاستقبال هذه الجماهير التي ستكون مستعدة لالتهام كل ما تقع عليه من مطبوعات تلاءم مستواها الفكري؟
ذلك هو السؤال الذي يجب على كل ذي غيرة على عروبته ودينه أن يطرحه على نفسه، وأن يفكر بجوابه الأفضل، ومن أجل أن يكون نجاحنا صحيحا في هذا الميدان لابد لنا من تهيئة الغذاء الفكري الصالح لبنية هؤلاء الوافدين حديثا إلى مائدة المعرفة..
قبل أن يخرج الله تبارك وتعالى الإنسان إلى هذه الدنيا أعدها لاستقباله بكل ما يساعده على بناء المدنيات، فلما أطل عليها وجد كل شيء على أتم الاستعداد لمساعدته على مهمته في إعمار الأرض، وعلينا نحن أن نتعلم من هذه السنن الإلهية كيف نهيئ الضرورات الأساسية لذلك الجيل الذي فتحنا أعينه على عالم القلم.. وهذا يقتضي في مفهومي أن يجد مادة القراءة الصالحة لتحسين واقعه النفسي، صحفا تقدم له وجباته الأولية من الثقافة الصحيحة، وكتبا تتدرج معه في مختلف المستويات، قصة ومقالة وبحثا … ثم تخصيصه ببرامج من الإذاعة اليومية مسموعة ومرئية، تأخذ بيده في طريق التطور الصاعد.. ولا حاجة إلى التذكير بأن ذلك كله يجب أن يستمد من معين الإسلام، في أساليب مبسطة من البيان العربي السليم..(12/210)
أما إذا اكتفينا من هذه المهمة بتمكين الأمي من فك الحرف دون أن نزوده بالمقومات التي تصونه من السقوط في حبائل الشياطين، فمعنى ذلك أننا حررناه من أمية الفطرة لنسلمه لقمة سائغة لأمية أخرى هي أخطر عليه وعلى مجتمعه وعلى البشرية من الجهل، وأمامنا نماذج لا تحصى من أولئك الذين عبدت لهم الطرق إلى أعلى الشهادات، فكانوا كما وصف الله زملاء لهم سابقين بقوله الحكيم: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً..} ، أو كما قال سبحانه في عالم إسرائيلي اشترى بآيات الله ثمنا قليلا: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (7-147) .
وهل أنا بحاجة للإشارة إلى هؤلاء المساكين الذين اجتالهم الشيطان، فاتخذوا من ألقابهم العلمية الوهمية ذريعة للطعن على دين الله، فراحوا يعقدون المؤتمرات للدعوة إلى تهديم ما بناه الله! أجل.. أجل إنها أمية جديدة تتبجح بالشهادات ولا مندوحة لحماية الناس، ولاسيما أولئك الذين فارقوا الأمية من مخاطر دعواتهم الخبيثة رحمة بأمتنا وبإخوتنا.. وبإنسانيتنا على الأقل، ومن لهذه المهمة الضخمة سوى معاقل العلم العالية، تسهم في إعداد الحصانة اللازمة لهؤلاء الوافدين على العلم!.
وإنها لأعباء ثقيلة.. ولكنها جديرة بعاتق الجامعات العربية، ولاسيما في هذه المملكة الناهضة، وفي عصر التيارات الفكرية المتضاربة.
ورطة لابد من علاجها:(12/211)
وثمة قضية على جانب كبير من الغرابة والخطورة معا، تلك هي إجماع وزارات المعارف في كل بلد عربي على تعليم الأجنبية في المرحلتين الإعدادية والثانوية، وهو أمر لا يزال يثقل كاهل التلاميذ بأعباء غير يسيرة، على حساب العربية والدين وغيرهما من المواد الرئيسية.. وقد أثبتت التجربة الطويلة أن المردود الوحيد الذي جنيناه من هذا الاتجاه هو ضحالة الثقافة مطلقا، وشحن نفوس الشباب بشعور التبعية للأمم التي فرضت عليهم لغاتها.. يضاف إلى ذلك أن هذا الطالب المسكين لا يكاد يطأ أرض العالم الغربي للدراسة الجامعية حتى يفاجأ بصدمة الجهل التام للغة المفروضة، فيلجأ إلى المعهد الخاص لإعداد أمثاله، وقد تستغرق هذه المحاولة زمنا غير يسير ليتمكن من الالتحاق بالقسم الذي يريد.. ولو نحن أمعنا الفكر في قوادم هذا الوضع وخوافيه لأدركنا عظم الخطأ الذي اقترفناه بذلك التقليد غير الواعي.. إذ أضعنا جزءا كبيرا من حياة هذا الطالب دون ثمرة، سوى ما أسلفناه من شعور التبعية، والإحساس بصغار الجنس الذي ينتمي إليه، بإزاء الأمة التي أكره على إذابة الكثير من طاقاته في التشمم للغتها.. ولعل هذا أشد ما يكون بروزا في دور إعداد المعلمين للمرحلة الابتدائية، حيث يهدر الزمن غير القصير من حياة الطالب في دروس الأجنبية، دون أن يحتاج إلى كلمة منها طوال جهاده في تعليم الصغار.
أجل.. إنني بكل صراحة، وبعد تجربة ثلث قرن في ميدان التعليم، أرفع صوتي بهذا الاقتراح وهو إنقاذ الجيل العربي من هذه الورطة.. وبديهي أن اقتراحي يشمل الدراسة الجامعية نفسها التي سبق أن أشرت إلى ضرورة وقفها على العربية وحدها إلا في الأقسام الخاصة باللغات الأجنبية …(12/212)
وما دمنا في حاجة إلى الدراسات الأجنبية في نطاق العلوم العملية فبالإمكان تدارك ذلك بافتتاح معاهد خاصة لتعليم اللغات الأخرى ضمن سنتين، لينطلق بعدهما لمتابعة دراسته في المادة المرادة دون تعثر.. وذلك على غرار مدرسة اللغات التي أنشأها محمد علي لإعداد البعثات التي رأى ضرورة إرسالها إلى الخارج.. وعلى شاكلة دار الترجمة التي أنشأها المأمون لنقل العلوم عن اليونانية إلى العربية دون أن يكره الناس على تعلمها في المدارس أو الجامعات، ولا أذهب بعيدا للتدليل على سداد ما أشير إليه، ففي الكثير من تجارب المملكة مع بعثاتها إلى الخارج ما يؤكد أن تأخير دراسة الأجنبية إلى ما بعد الثانوية خير وأجدى على المبتعث من أن يلزم دراستها قبل ذلك.. وفي المملكة _ ولعل منهم بيننا الآن _ حملة دكتوراه من الغرب كانوا قد تخرجوا في المعاهد العلمية، حيث انقطعوا إلى دراسة دينهم ولغتهم والعلوم التي لا غنى عنها للمثقف دون أن يدرسوا حرفا من الأجنبية إلا بعد أن توجهوا إلى بلادها … على حين أن كثيرين ممن درسوا الأجنبية طوال المرحلة الإعدادية والثانوية لم ينتفعوا منها بشيء إلا بعد أن تفرغوا لها في بيئتها، فأقبلوا على دراستها من جديد.
وقل اعملوا:
ولعل من غير البعيد عن مهمة الجامعات ولاسيما في هذه المملكة الغالية أن تعمل لإنشاء مجمع علمي للغة العربية إلى جانب مجمع كبار العلماء، يحشد له أساطين العربية والمتخصصين في مختلف العلوم ذات الصلة بها سواء من داخل المملكة أو خارجها، يكون من مهامه متابعة التطورات العلمية، وإمداد الجامعات ومؤسسات الإعلام بما يسد الحاجة إلى المستحدثات اللغوية عن طريق الاشتقاق أو الاصطلاح أو النحت أو المجاز، وما يتصل بذلك مما تضمنته المعاجم القديمة من أصول يمكن الانتفاع بها إلى مدى بعيد في تنمية البيان العربي.(12/213)
إن عملا جليلا كهذا لا يتجاوز حدود الممكنات إذا تضافرت عليه جهود الجامعات العربية وكلياتها.
وإذا كان ذلك حقا على كل جامعة في بلاد العرب فهو حق أكبر على جامعات البلاد التي منها انطلقت لغة العرب إلى الدنيا، ومن حرميها المكرمين تدفقت أشعة الوحي، الذي أمد هذه اللغة بما أهلّها للمكان العالمي الذي تبوأته في عهود المجد والازدهار، ولا جرم أنها حين تتداعى للنهوض بهذا العبء ستجد من العون الكريم لدى حكومة جلالة الفيصل ما يؤمن لها كل وسائل النجاح إن شاء الله.
وما أسعدنا ببشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تخبرنا أن طائفة من أمته لا تزال ظاهرة على الحق لا يضرها من خالفها حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون، وقد ذهب أكابر علماء السلف إلى أن الطائفة الظاهرة هذه هي العرب، حملة رسالة القرآن بلغة القرآن إلى أهل الأرض.
وليس في الدنيا من يزاحم أهل هذه الديار العزيزة على مركزها من قلب العروبة وصميمها وذؤابتها.
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} .. والحمد لله رب العالمين.. وصلاته وسلامه على أكرم المرسلين سيد الأولين والآخرين، محمد وعلى آله وصحبه وذريته الطاهرين ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أذاع صوت أميركا تقريرا عن الفن بمصر يوم 11-4-76 فجاء فيه أن أربعين راقصا قد تخرجوا من معهد الباليه، وقد التحقوا أو التحقن بالفرقة الفنية …
[2] رواه أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[3] انظر جمع الفوائد ج 2 ص 162 رقم 6704.
[4] من حديث طويل رواه الطبراني في الكبير عن علقمة، ويرى العلماء سنده في مرتبة الحسن. انظر: الترغيب والترهيب ج رقم 205.(12/214)
رسالة بدماء القلب
إلى صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز
رئيس الهيئة العليا للدعوة الإسلامية
ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام
لفضيلة الشيخ إبراهيم محمد سرسيق
يا صاحب السمو الملكي … أعزك الله بالإسلام وأعز الإسلام بك، وأرشدك إلى الحق وأرشد الحق إليك، ورغبك سبحانه وتعالى في الخير ورغب الخير فيك، وجعلك من الدعاة إلى الدين الحق لا تبتغي بذلك سوى وجهه الكريم {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ..؟
أما بعد فإني أحمد إليك الله الذي لا إله هو، وأصلي وأسلم على نبيه ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم وأستفتح إن شاء الله تعالى بما هو خير..
يا صاحب السمو الملكي:
حينما ترامت إلينا الأنباء من جميع الأنحاء، تزفّ إلينا بشرى تنصيبك رئيسا للهيئة العليا للدعوة الإسلامية بالمملكة العربية السعودية فرحنا واستبشرنا وامتلأت قلوبنا بالأمل والغبطة لأسباب عدة:
أولها: هو تأسيس هذه الهيئة نفسها للدعوة الإسلامية في شتى أنحاء الأرض، فهذا واجب وضعته المملكة على عاتقها منذ إنشائها، بل هو الأساس الصلب الذي قامت عليه حين أسسها البطل القوي الأمين الملك عبد العزيز طيب الله ثراه وجعل الجنة مأواه.
ثانيها: هو اختيارك على رأس هذه الهيئة المباركة، وأنت رجل مخلص لهذه الدعوة الخالدة، وقد بدا هذا في تصريحاتك التي أدليت بها للصحفيين غداة إعلان تأسيس هذه الهيئة، حيث أعربت عن سرورك بالمشاركة في العمل على نشر الدعوة الإسلامية والقيام بهذا الواجب، لأن الدعوة إلى الله فيها عز هذه الأمة.
وثالثها:(12/215)
إن مئات الملايين من مسلمي العالم اليوم، في كل القارات تقريبا، يتلفتون في كل الاتجاهات بحثا عن الجهة التي يمكنهم أن يشعروا بالانتماء إليها، ثم يولون وجههم شطر المملكة العربية السعودية، وكلهم ثقة أن هذه الأرض التي شهدت تفجر النور الإسلامي لابد أن تظل تحتضنه وترعاه، ولا تتخلى عنه قيد شعرة، وإنه لواجب مقدس أن تنهض هذه المملكة بالذات ـ وتتصدى لنشر الدعوة الإسلامية واللغة العربية في كل مكان ـ هذا دورها وتلك رسالتها التي قدّر لها أن تنهض بها بحكم قيادتها للعالم الإسلامي.
فلهذه الأسباب وغيرها آثرت أن أكتب لكم هذه الرسالة بدماء قلبي، لأن ما شاهدته وعانيته وأنا أدعو إلى الإسلام في قارة إفريقية وكل مشاكل المسلمين فيها متشابهة يجعل أي غيور على الإسلام ينتفض غضبا لما يراه ويسمعه، وسأنقل إليكم الآن بعض ما يهمكم أن تعرفوه بحكم منصبكم الجديد، وبحكم رسالتكم في هذا العالم، وبحكم ما تقتضيه الأخوة الإسلامية من واجب الرعاية والحماية والنصح والإرشاد.
أولا: مشكلات الدعاة..
يا صاحب السمو الملكي..
إن من أكبر معوقات النجاح بالنسبة للدعاة في الخارج اختلاف الجهات التي تبتعث الدعاة، وبالتالي اختلاف المستويات الاقتصادية بينهم، ولكي أزيد الأمر وضوحا أقول:
إن هناك حاجة ماسة لتجميع الجهات التي تتولى إرسال الدعاة في هيئة إسلامية دولية واحدة، وليس ذلك بعسير على الإطلاق ما دامت النية الصادقة معقودة على خدمة الدعوة الإسلامية والعمل على نشرها بشتى الوسائل، انظروا بارك الله فيكم كيف يتم إرسال عدد من الدعاة إلى منطقة واحدة من عدة منظمات إسلامية مثل:
أ- دار الإفتاء بالمملكة العربية السعودية.
ب- إدارة البعثات بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر بمصر.
ج- هيئة الدعوة الإسلامية بالجمهورية العربية الليبية.(12/216)
هذا بالإضافة إلى جهود تطوعية يقوم بها عدد من المدرسين وغيرهم من العرب وغيرهم، وكلهم ذوو اتجاهات متعددة إن لم تكن متباينة، وقد يخدم بعضهم أغراضا غير دينية، بينما يتوقع الناس أن يكون لهم جميعا صوت إسلامي واحد.
هذا بالإضافة إلى أن تفاوت مرتباتهم يجعلهم مختلفين على أنفسهم، ما بين أناس شغلتهم الدنيا عن الآخرة، وآخرين أغرقوا أنفسهم بما لا يجوز لهم من انهماك في تعويض ضالة المرتبات بالاشتغال ببعض الأعمال الإضافية التي تؤثر في صورتهم المثالية باعتبارهم دعاة مخلصين، والآن أتساءل: لماذا لا تكون هناك هيئة متخصصة في تدريب الدعاة، وفي تقويم ألسنتهم وفي تثقيف عقولهم وتنقيتها من البدع والخرافات، ثم ابتعاثهم إلى بلاد الله لنشر دين الله؟ ثم لماذا لا تكون المملكة هي المركز الأول الذي تتبعه جميع المراكز والمعاهد التي تتكفل بشؤون الدعوة في بلادها؟ لماذا لا تكون هناك وحدة في الإعداد والتوجيه بدلا من هذه الازدواجية في الإشراف والمتابعة والتمويل؟ ألا نستطيع أن نقضي على الفوارق الضارة في مجال الدعوة، امتثالا لقوله تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [1] .
لا جرم أن هذه الاختلافات في جهات الابتعاث تؤدي إلى آثار ضارة ووخيمة، وتقود إلى نتائج لا تحمد عقباها في مجالات الهداية والتأثير، أهمها ما يأتي:
1- أن الاختلافات المذهبية بين الدعاة تؤثر في نفور الناس منهم بلا استثناء، كما أنهم قد يتباعد بعضهم عن بعض كما قد يكيد بعضهم لبعض، وقد سجنت إحدى الحكومات الإفريقية مبعوثا ثم طردته من أرضها، لأنه أحدث الفرقة بينه وبين إخوانه، ثم أحدث بلبلة في نفوس المسلمين فكان جزاؤه الطرد لما تسبب فيه من شحناء بين المسلمين [2] .(12/217)
إن الاختلافات بين المستويات الاقتصادية للدعاة نتيجة تفاوت المرتبات يجعل بعضهم ينأى عن بعض، وقد يتسبب هذا في إثارة حفيظة بعضهم على بعض.. ومن الواجب حفظ الكرامة الشخصية للدعاة، ومنع بعضهم من التطاول على بعض، لأن ذلك قد يحدث ولو بطريقة غير شعورية نتيجة المعاملة المالية غير العادلة التي يعامل بها بعض المبعوثين، لاسيما إذا أدخلنا في الاعتبار ما طرأ على أسعار السلع الأساسية، وما طرأ على إيجارات العقارات من ارتفاع جنوني في مختلف بلاد العالم.
تتفاوت جهات الابتعاث في مدى الجدية أو التهاون في متابعة نشاط المبعوثين، ومن هنا قد ينشط بعضهم تلقائيا، وقد لا يظهر بعضهم إلا في المناسبات الرسمية الدينية، وقد يكتفي بعضهم بأداء وظيفة المدرس في إحدى المدارس الدينية لمدة قليلة كل يوم، أو يوما بعد يوم.
ومن الناحية العلمية:(12/218)
قد ينسى بعضهم كل ما تلقاه أو بعضه إزاء تكاسله عن أداء واجبه المقدس، حتى ليستفتيه الناس فلا يفتيهم، وما أكثر هؤلاء الآن في حقل الدعوة، وما عادوا يستحقون أن يلقبوا بالدعاة، ولذلك فإن من أوجب الواجبات على جهات الابتعاث أن يكون لديها تقريرات وافية ومفصلة عن نشاط الداعي، وتحركاته طوال شهر كامل، ومدى فاعليته في تبليغ الدعوة، وعدد من أسلموا عليه، وهل استطاع أن يربط قلوب الناس بالإسلام؟ ولا مانع مطلقا من رصد حوافز مادية أو أدبية للداعي، لأنه مهما كان مثاليا فهو قبل كل شيء بشر، أما أن نرسل الداعي إلى المنطقة التي اختير لها دون دراسة مسبقة عن شخصيته وملامح ثقافته، وما يعرف من لغات أو لهجات، وما يتحمل من صعاب أو مكائد، فذلكم هو العبث بعينه، وقد نستطيع أن نتعلم الكثير إذا أحطنا علما بطرق تدريب المبشرين، ووسائلهم في التنقل من مكان إلى مكان، وفي التأقلم مع ظروف كل بيئة على حدة، وفي دراسة لهجات القوم كأنهم عاشوا معهم منذ نعومة أظفارهم، أما نحن فنزود الداعية بطائفة من النصائح الشفهية غير الكافية، ثم نقذف به في خضم الموج ونقول له: لا تغرق، وهو لذلك في العادة يحيا على هامش المجتمع الذي نرسل به إليه، وإلا فكم من الدعاة أجرى مسحا شاملا اجتماعيا أو دينيا أو جغرافيا للإقليم الذي عاش فيه، وكم منهم من كتب بحثا مستفيضا عن عادات الشعوب وتقاليدها وخصائصها النفسية، وكم منهم استطاع أن يحقق أغلبية إسلامية في المدينة التي يقطنها، وكم منهم من استطاع أن يترك مؤسسات تعمل من بعده في الدعوة أو التعليم أو تحقيق التضامن الإسلامي.
يا صاحب السمو الملكي..
إن كل نجاح في ميدان الدعوة الإسلامية يبدأ من الداعي وينتهي به، وبقدر ما تنجح الهيئة العليا للدعوة الإسلامية في تدريب الداعي وتوسيع أفقه وتهذيب روحه فسوف يكون نجاحه كاملا بإذن الله، مع ضرورة وضع النقاط التالية موضع الاعتبار:(12/219)
1- ليس كل متخرج من الجامعات الإسلامية صالحا لأن يكون داعيا إلى الإسلام، والمفروض أن الدعوة تتطلب نوعية خاصة من الرجال العلماء العاملين، الأذكياء المقتدرين، الراغبين في الدعوة والمتحمسين لها والساعين إليها أو من يمكن أن يكونوا كذلك بعد حضورهم تدريبا معينا.
2- التدريب الذي أقترحه:
يستهدف تحويل الطالب إلى داعية، ويستغرق ما لا يقل بأي حال من الأحوال عن ستة أشهر كاملة، يدرس فيها:
(أ) الصفات العقلية والجسدية والعلمية التي يجب أن تتوفر في الدواعي، مستقاة من حياة وجهاد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم.
(ب) بعض النظريات السكلوجية المستمدة من علم النفس الاجتماعي وسيكلوجية الجماهير وعلم النفس الكلينيكي وسيكلوجية الفرد.
(ج) دراسة مستوعبة وشاملة للمنطقة التي يختار الداعية للعمل بها، تاريخيا وجغرافيا واجتماعيا وحضاريا بما في ذلك العادات والتقاليد.
د) استيعاب كامل وشامل لتجارب الدعاة السابقين، وكتب الرحالة المسلمين من أمثال فضيلة الشيخ العامودي في كتابه في أفريقية الخضراء، وفضيلة الشيخ الصواف في كتابه رحلاتي في الديار الإسلامية وغيرهما من كتب الرحلات وكتب الدعوة الإسلامية، حتى يكون لدى الداعية خبرات واسعة تملأ عقله وقلبه وسمعه وعينه وأذنيه، فيكون محيطا بما يمكن أن يصادفه من مخاطر، وما أكثر المخاطر التي تقع في طريق الدعاة المجاهدين!.(12/220)
هـ) الدراسة لإحدى اللغات الحيّة مسألة لا يختلف فيها اثنان على أهميتها للداعي، وكم من الدعاة قد تعرضوا لمواقف مخزية نتيجة عدم إلمامهم لا باللغة الرسمية التي يتكلم بها المثقفون، وتقدّم بها البرامج الإعلامية والصحف الرسمية، ولا باللهجة المحلية التي يستطيع الداعية عن طريقها أن يدخل في حياة الناس الاجتماعية اليومية ويشاركهم أحاديثهم ومحاوراتهم، ويمكنه إفهاهمهم ما يريده من أحاديث دينية سواء في المساجد أو الأماكن العامة أو غير ذلك من أماكن التجمعات العامة أو الخاصة.
ثانيا: تخطيط شئون الدعوة:
صحيح أن النجاح مرهون بقوة الداعي وأمانته.. ولكن.. هل يكفي ذلك وحده لتحقيق الأهداف المطلوبة من وراء نشر الدعوة الإسلامية؟ كلا، على الإطلاق، إذن فالواقع أننا محتاجون، يا صاحب السمو الملكي إلى قادة أشبه بقادة الفتح الإسلامي، يجلسون معا، ويفكرون معا، ويخططون معا، وبيد كل منهم معلومات مفصلة، وأرقام دقيقة، ومسح جغرافي شامل لأماكن الأقليات الإسلامية وأسباب انكماشها، ووسائل إنعاشها، وتقريرات مفصلة عن جهود الدعاة هناك، وأسباب تقدمها، ومعوقات نجاحها، وهلم جرا..
نحن في حاجة إلى تخطيط شئون الدعوة، وتخطيط شئون الدعوة يستلزم بالضرورة وجود خبراء ومتخصصين في شئون الدعوة وهؤلاء الخبراء نعثر عليهم من بين:
أ- الدعاة السابقين والحاليين المتمرسين بالدعوة، وأصحاب السبق والفضل فيها، والمشهود لهم بالنشاط والحركة الإيجابية والقوة والجرأة في التبليغ.
ب- كبار المفكرين الإسلاميين في العالم الإسلامي، ممن لهم نظرة أفقية مستعرضة لمشكلات المسلمين وجذورها الفكرية والحضارية، وهم أصحاب فلسفة يجدر الاستفادة بها في تخطيط شئون الدعوة.
ج) كبار العلماء والفقهاء الذين يستطيعون تقديم خلاصات مركزة مستوحاة من التراث الفقهي والسيرة النبوية، ودروس من حيوات الإعلام ودعاة الإسلام على مدى عصور التاريخ.(12/221)
وهؤلاء الخبراء يستطيعون أن يتقدموا في مجال تخطيط شئون الدعوة بأعمال ممتازة، وهذه بعض النماذج:
- إعداد خرائط دعوة.. تتضمن بعض المعلومات عن مناطق تركيز الدعاة، ومناطق ندرتهم، ومناطق تناوب العمل فيما بينهم، الخ..
- تقديم بعض المعلومات عن الشكل الأمثل الذي يبرز فيه الداعي، والطريقة المثلى التي يعرض بها دعوة الحق، والتي تختلف باختلاف المناطق والقارات، طبقا لما تتميز به بعض الشعوب من طباع وتقاليد ونفسيات خاصة.
- إخراج مجلة أكاديمية متخصصة يتم تعميمها على الدعوة بوجه خاص، تتناول أخبار نشاطهم، وأبرز أعمالهم، وتبادل المشورة بينهم، وعقد مؤتمر عالمي يضم البارزين منهم، وتعرض فيه بحوثهم ومشكلاتهم، (والدعاة في جميع أركان الأرض محتاجون إلى كلمة تجمعهم أو صحيفة تضم خبراتهم والعوائق التي توضع في طريقهم وقد تعطل بالكلية عملهم) على أن تصدرها جهة مركزية واحدة يحملون لها في قلوبهم الإجلال والاحترام، ولن تكون هذه الجهة سوى الهيئة العليا للدعوة الإسلامية بالمملكة العربية السعودية.
- إنتاج سلسلة من كتب الدعوة الإسلامية في الجانبين النظري والتطبيقي يتوفر على كتابتها كل مشهود له بالعلم والإخلاص وبذل الخير للناس، بحيث يجد فيها الدعاة تجديدا لفكرهم، وحلا لمشكلاتهم، وتنويرا لأذهانهم، وحبذا لو قامت هذه السلسلة على مشكلات حية بالفعل، يعرضها الدعاة على أهل الذكر ليكونوا معهم على البعد، يأخذون بيدهم ويقودونهم دائما إلى الطريق الصحيح.
يا صاحب السمو الملكي …(12/222)
إن ترك شئون الدعوة للارتجال، أو ترك الحبل على الغارب لأولئك الرجال في كل جزء من أجزاء المعمورة أمر يجب أن يتوقف فورا، ومنذ أنشئت هذه الهيئة المباركة فإن الدعاة الإسلاميين بعامة، والمبتعثين من دار الإفتاء بخاصة يتوقعون أن يتلقوا المزيد من الدعم والتأييد، وأن يجدوا زادا من الإرشاد يحملهم على العمل الدائب، ويزيح عنهم شبح الكسل الرهيب، ويشعل في داخل صدورهم ذبالة الأمل في متابعة العمل.
وإني أقدم لسموكم بعض الملاحظات الضرورية في هذا الصدد على ضوء ما عاينته وعانيت منه:
أ- موقف السفارات من الدعاة:
إن الشكوى مرة في حلوق الدعاة من بعض السفارات والقنصليات العربية في الخارج، (أقول من بعضها ولا أقول كلها، فهناك والحمد لله نماذج مشرفة للتعاون الإيجابي) لأن بعض هذه السفارات أو القنصليات لا تحترم عمل الداعي، إما قولا أو سلوكا، وإلا فدعوني أتساءل: هل من المروءة أن يدعو الداعية في المسجد أو غيره إلى طاعة الله والعمل بكتابه وسنة رسوله، بينما يعكف الديبلوماسيون على الخمر، ويتهاونون في أداء الصلاة، ويعبثون بكرامة الوطن وقدسية الدين؟ وما مقام الداعية حينئذ بينهم؟ وما موقفه أمام ربه؟ ثم أمام المساكين من أبناء قومه؟ هل يرفع عليهم السلاح؟ هل يجاهر بالإنكار لما يعملون؟ ثم ماذا يكون حاله لو سوّل لهم الشيطان فشوهوا صورته أمام جهة الابتعاث وكالوا لهم التهم جزافا؟ أو جعلوه سلفا ومثلا للآخرين؟ إن الدعاة محتاجون إلى ملحق ديني في كل سفارة يتابع عملهم، وينسق بينهم، ويحفظ كرامتهم ويحل مشكلاتهم، حتى ولو كلف أحد الدعاة بهذا العمل لتتحقق التبعية اللازمة المحققة لآمال الدعاة في تخطيط سليم ومباشر على أرض المعركة.(12/223)
وغير خاف: من هو الشخص الذي يوكل إليه أمر الدعاة؛ إنه لابد أن يكون داعية في الأساس أو فيه روح الداعية، من حب الدين والرغبة في العمل به، على أن يكون الداعية للدعوة فقط لا للعمل في أي مجال آخر سوى الدعوة نفسها، وبكل الإمكانات المتوفرة للداعي دون تعويق أو تثبيط ودون تهاون أو تجاهل.
ب- وضع خطة عمل للدعاة..
وسواء وضعت هذه الخطة في مكتب ((الملحق الديني)) أو غيره، فالهدف منها ينبغي أن يكون واضحا، وهو تغطية الدولة كلها بالمبعوثين حسب الجدول الزمني للخطة؛ بحيث يتحرك الدعاة في كل ركن، ويلتقوا بجميع الناس، ويناقشوا كل مثقف أو داعية مسيحي أو وثني، ويتصدوا لأرباب المذاهب الضالة التي تجد صيدها في البلاد ذات الأقليات الإسلامية، وينبغي أن يكون ارتياد المساجد خاضعا لجدول زمني وموضوعي كذلك؛ بحيث لا تتكرر الموضوعات العامة التي يعالجها كل داعية لا يقدّر المسئولية، ولا يحمل نفسه على الاطلاع وبذل الجهد في الاستزادة من العلم، ويخرج إلى الناس وهو أشبه بالطبل الأجوف، بل ينبغي أن يسمع الناس اليوم ما لم يسمعوا بالأمس، وأن يكون حديث الدعاة حديثا في قلب الدين وجوهر أحكامه، لا في ترديد شعارات عامة مجردة يحسنها كل من له ثقافة ضحلة ولم يتلق قسطا وافرا من علوم الدين.
وبهذا يعتبر الدعاة مسئولين عن هذه الرعية التي تبحث عما يحييها من هدى الله وشرعه، فهناك للأسف الشديد مناطق واسعة تقع على الحدود المشتركة لمختلف الدول لم تبلغها الدعوة إلى الآن! ولا يزالون عاكفين على الأصنام أو عبادة الأنهار أو الأشجار، أو تقديس الكواكب والنجوم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
ج- ازدواجية التعليم وأخطارها(12/224)
ما جنى المسلمون على أنفسهم وأولادهم في كثير من الدول الإفريقية والآسيوية بمثل ما جنوه حين عزلوا أولادهم عن نظام التعليم الرسمي في دولهم، اكتفاء بما أقاموه من مدارس متهاوية أو كتاتيب مختفية بين الغابات وفي المغاور وسموها مدارس إسلامية، وكان يمكنهم أن يفعلوا الشيء نفسه لأولادهم عقب انتهائهم من دراستهم اليومية في المدارس الرسمية الحكومية، التي تكفل لهم العمل بوظائف الحكومة، والانخراط في سلك الجندية، والرقي إلى المناصب الوزارية وبذلك يكونون أقدر على نشر دينهم، وخدمة بنيهم وذويهم، والإسهام في خدمة دينهم ودنياهم، ولكنهم للأسف وبدافع من الحب المكين لدينهم، فعلوا ذلك ثم التمسوا العون في إصلاح ما فعلوه.
عرضت هذه المشكلة لأنها من أخطر ما يصادف عمل الدعاة ويعوق انطلاقهم مع من ابتعثوا إليهم، حيث يبقى الجميع في معظم الدول وراء ستار، لا يتحركون إلا بصعوبة، ولا يملكون التأثير في غيرهم إلا بحذر شديد وجهد أشد، وكل هذا محسوب على عمل الدعاة ومقلل من أثره.
يا صاحب السمو الملكي.
هذا أوان الملحمة.. اليوم يبدأ العمل الجاد لخدمة أهداف الدعوة الإسلامية العالمية.
اليوم نترقب، ونحن في غاية الشوق واللهفة، إلى ما يعيد مجد الإسلام في ديار الإسلام على يد دعاة الإسلام.
سوف تدب الروح إن شاء الله تعالى في هذا الجسد الذي طالما أثخن بالجراح وهبت عليه سوافي الرياح، حتى كاد أن يقعد عن مواصلة الكفاح.
يا صاحب السمو الملكي، يا صاحب السمو الملكي، البدار البدار، قبل أن يرين اليأس على القلوب، فكم من نفوس تزايدت فيها الأنفاس، وكم من جماعات اشرأبت فيها الأعناق، وكم من دعاة طال عليهم الليل قد لمحوا أشعة الفجر، وهاهو ذا نور الدعوة يترامى في الآفاق، لا يحتاج في حمله إلى قلوب الناس إلا دعاة أخلصوا لله همتهم وعملهم، ليجزل الله ثوابهم ويضاعف أجرهم ويحسن عاقبتهم.(12/225)
كان الله في عونكم، وسدد على طريق الخير خطاكم، والله معكم ولن يتركم أعمالكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إبراهيم محمد سرسيق
داعية سابق إلى الإسلام في إفريقية
ومدرس بكلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المؤمنون 52.
[2] انظر رحلاتي في الديار الإسلامية للشيخ محمد محمود الصواف 1-588.(12/226)
موازنة بين النثر والشعر في التهنئة بفتح القدس
لفضيلة الدكتور محمد نغش
في التهنئة بفتح القدس
لم تحظ موقعة في تاريخ الدولة الأيوبية بالفرحة بالنصر مثلما حظي بذلك فتح بيت المقدس، فقد انبرى الشعراء في مختلف أنحاء الأقطار الإسلامية ينظمون القصائد الكثيرة في هذه الموقعة الشهيرة.
وكان من أوائل الذين وصلوا إلى مخيم السلطان صلاح الدين من مصر الجواني المصري، وقصيدته مطلعها:
أتُرى مناما ما بعيني أبصر
القدس يفتح والفرنجة تكسر
وأتى إلى مخيم السلطان أيضا الشاعر المصري ابن سناء الملك، وهنأه بقصيدة مطلعها:
لست أدري بأي فتح تهنا
يا منيل الإسلام ما قد تمنى
كما نظم ابن الساعاتي شاعر مصر والشام في زمانه قصيدة منها:
أعيا وقد عاينتم الآية العظمى
لأية حال ندخر النثر والنظما
وكان من شعراء مصر الذين هنئوا السلطان بيوم الفتح ابن الجويني فخر الكتاب، وقصيدته تبدأ هكذا:
جند السماء لهذا الملك أعوان
من شك فيهم فهذا الفتح برهان
ومن المصريين أيضا ابن المجاور الوزير العزيزي هنأ السلطان صلاح الدين بقصيدة جاء فيها:
بالنصر المهدي والهادي إلى
سبل الجهاد أتى المظفر يوسف
والفرق بين ما كتبه القاضي الفاضل بشأن القدس في رسالته الطويلة إلى الخليفة العباسي وبين ما كتبه هؤلاء الشعراء جميعا أن القاضي الفاضل وصف المعركة وصفا مفصلا، بينما هؤلاء الشعراء أتوا بوصفهم مجملا، فالنثر الذي تكتب به الرسائل الديوانية بطبيعته أقدر على استيعاب التفصيلات الدقيقة، لأن الكاتب يدبجه بغرض الإبلاغ بحوادث معينة، مستقصيا فيها أطراف الموضوعات، بخلاف الشعر الذي يعبر عن خلجات نفسية ولمحات فنية، فكل شاعر يركز على معنى أو أكثر من المعاني التي بهرته ويفرغ فيها طاقاته.(12/227)
ولنقارن بين رسالة القاضي الفاضل وما وصلنا من أبيات القصائد السالفة الذكر، فكلاهما الرسالة والقصائد قيلا في غرض واحد وهو فتح القدس.
ولنبدأ بذكر بناء كل منهما، ونثني بذكر المعاني الواردة فيهما، ثم نختم بالصور الفنية التي يشتملان عليها، فمقدمة القاضي الفاضل طويلة، وفيها تفاصيل كثيرة، وإليك نصها:
((أدام الله أيام الديوان _ العزيز النبوي الناصري _ ولا زال مظفر الجِد [1] بكل جاحد، غنيا بالتوفيق عن رأي كل رائد، موقوف المساعي على إقناء مطلقات المحامد، مستيقظ النصر والنصل في جفنه [2] راقد، وارد الجود والسحاب على الأرض غير وارد، متعدد مساعي الفضل وإن كان لا يلقى بشكر واحد، ماضي حكم القول بعزم لا يمضي إلا بنسل [3] غوى وريش [4] راشد، ولا زالت غيوث فضله إلى الأولياء أنواء [5] إلى المرابع [6] وأنوارا إلى المساجد، وإلى الأعداء خيلا إلى المراقب [7] وخيالا وإلى المراقد)) .
وهو يمدح بها الخليفة بأنه رجل موفق دائما، منصور دائما، جواد يعم بجوده جميع الناس، ذو عزم قوي ينفع نفعا محققا إذا أراد، ويضر ضررا محققا إذا كانت الحكمة في ذلك، ذو هيبة في قلوب أعدائه، تفزعهم في اليقظة، وتقض مضاجعهم في النوم، والقاضي الفاضل يحرص في مقدمته على الالتزام بالسجع والطباق والجناس، بينما نرى الشعراء المصريين في تهنئتهم للسلطان صلاح الدين يتركون التقديم لقصائدهم بمقدمات غزلية، وينهجون نهج القاضي الفاضل في رسالته هذه وفي غيرها من الرسائل، فهم يقدمون لقصائدهم بديباجة تعد بمثابة المقدمة الموسيقية فهي تدور مباشرة في جو القصيدة، وهو التهنئة بهذا الفتح العظيم.
وإليك ما قاله ابن سناء الملك في هذه المناسبة:
لست أدري بأي فتح تهنا
يا منيل الإسلام ما قد تمنى
أنهنيك إذ تملكت شاما
أم نهنيك إذ تملكت عدنا
قد ملكت الجنان قطرا فقطرا
إذ فتحت الشام حصنا فحصنا(12/228)
إن دين الإسلام منّ على الخلق (م)
وأنت الذي على الدين منا
مقدمة رائعة وإن كانت قصيرة بالنسبة لمقدمة القاضي الفاضل، كما أنها لا تحمل من المعاني ما حملته مقدمة القاضي الفاضل، وفيها نرى الشاعر في حيرة جميلة أمام بطل إسلامي فاز بالفخار في الدنيا بانتصاراته الرائعة، وفاز بثواب الله في الآخرة.
وهذه المقدمة رغم روعتها في التصوير إلا أن المحسنات البديعية قليلة فيها، فهي لا تعدو الجناس الناقص الذي يأتي عرضا دون تكلف.
وتختم رسالة فتح بيت المقدس بخاتمة ديوانية ليست فيها صور بلاغية ولا محسنات بديعية، وهي: ((والله الموفق إلى الصواب، والحمد لله رب العالمين، وعليه توكلت وإليه أنيب)) .
بينما إحدى القصائد التي وصلتنا كاملة وهي قصيدة ابن سناء الملك تختم ببيتين بليغين من الشعر، وهما:
قد ملكت البلاد شرقا وغربا
وحويت الآفاق سهلا وحزنا
واغتدى الوصف في علاله حسيرا
أي لفظ يقال بل أي معنى؟
فالشاعر هنا أمام هذا الملك العظيم أصبح لا تسعفه الألفاظ ولا المعاني ليصف أمجاده التي يجل عنها الوصف، وتشخيص ابن سناء الملك للوصف بأنه أصبح حسيرا يعطي لهذه الخاتمة حسنا وبهاء.
ولما كانت التهاني التي أنشدها الشعراء للسلطان صلاح الدين وليست للخليفة العباسي فسنترك مدح القاضي الفاضل للخليفة وكذلك تبشيره بالفتح جانبا، لننتقل إلى الفقرة التي جاءت في رسالة القاضي الفاضل في الإشادة بالسلطان صلاح الدين وهي:(12/229)
"وكان الخادم لا يسعى سعيه إلا لهذه العظمى، ولا يقاسي تلك البؤسى إلا رجاء هذه النعمى، ولا يناجز من استمطله في حرية، ولا يعاتب بأطراف القنا من تمادى في عتبه، إلا لتكون الكلمة مجموعة، والدعوة إلى سامعها مرفوعة فتكون كلمة الله هي العليا، وليفوز بجوهر الآخرة لا بالعرض الأدنى من الدنيا، وكانت الألسنة ربما سلقته [8] فأنضج قلوبها [9] بالاحتقار، وكانت الخواطر ربما غلت عليه مراجلها فأطفأها بالاحتمال والاصطبار، ومن طلب خطيرا خاطر، ومن رام صفقة رابحة تجاسر، ومن سما لأن يجلى [10] غمرة [11] غامر، وإلا فإن القعود يلين تحت نيوب الأعداء المعاجم [12] فتقضها، ويضعف في أيديها مهر [13] القوائم فتقضها [14] ، هذا إلى كون القعود لا يقضى فرض الله في الجهاد، ولا يرعى به حق الله في العباد، ولا يوفى به واجب [15] التقليد الذي تطوقه الخادم من أئمة قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون".
ولما كان الكتاب مرسلا إلى الخليفة، فقد رأى القاضي الفاضل برأيه الحصيف أن ينسب فضل الجهاد إلى الخلفاء العباسيين ولكنه لم ينس الإشادة بصلاح الدين الذي جاهد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، رعاية لحق الرعية، وحق التقليد الذي في عنقه للخلافة العباسية التي تقضي بالحق والعدل.
وهو يقرر في هذه الفقرة سعي صلاح الدين لهذه الغاية، ومقاساته الأهوال من أجلها، وهو يعلم أن من الناس من ربما سلقوه بألسنتهم من أجل نهوضه بالجهاد، فما لهؤلاء عنده من جواب غير الاحتقار، وأن منهم من يتغيظون تغيظا كبيرا، فلا يقابل ذلك منهم إلا بالحلم والاصطبار.
والفن الفاضلي يتجلى في هذه العبارة "وكانت الألسنة ربما سلقته، فأنضج قلوبها بالاحتقار"فالمراد بقلوبها هنا هو قلوب أصحاب الألسنة، فهنا مجاز لطيف من إبداع القاضي الفاضل.(12/230)
ولما كانت هذه الرسالة مرسلة إلى الخليفة العباسي والمدح معظمه له، فنستعين بكتاب آخر صادر عن القاضي الفاضل إلى السلطان صلاح الدين في التهنئة بفتح القدس وهذه الفقرة التي نوردها منه في مدح السلطان صلاح الدين، وهي:
"نحن أصدق أفئدة، وأقصر ألسنة أن نتولى شكر مولانا والأولى به الأنبياء الذين أظهر آثارهم، والملائكة الذين روح من سماع الكفر أسرارهم، والإسلام الذي رفع غمامته، وثبت دعامته، ورد إلى داره زعامته، والبيت الحرام الذي فك أخاه من الأسر، ومكان المسرى النبوي الذي كان ينتظر من مولانا مطلع الفجر، وأبواب الرحمة التي فتحها، وكان دونها غلق التاج، والمسجد الأقصى وكان عنه التصريح وإن كان منه المعراج.
فليهن مولانا أنه قد أصبح مولاي ومولى كل مسلم، وأنه قائم بوعد الله للدين القيم، وأنه نور الله الذي أضاء به كل فجر للكفر مظلم، وأن الله أنهضه بما أقعد عنه ملوك الأمم، وحرس به الإسلام في أصلاب رجال العرب والعجم".
فالقاضي الفاضل يقف موقف الشعراء في حيرتهم اللطيفة، التي يبغون من ورائها التعبير عن قصورهم في تأدية الشكر لممدوحهم، والكاتب هنا يقول:
إن السلطان أحق بشكر الأنبياء والملائكة والإسلام والبيت الحرام والمسجد الأقصى، فكل هؤلاء مدينون له بتطهير بيت المقدس من رجس الكافرين والمعتدين. ولهذا فليهنأ السلطان بمكانته كزعيم للمسلمين وبنصره للدين، فهو النور الذي أضاء كل فجر للكفر مظلم، وأنه أتى بما عجز عنه ملوك الأمم، فبه حفظ الله الإسلام في أصلاب رجال العرب والعجم.
والفن الفاضلي يتجلى في أنه جعل للإسلام غمامة يكنى بها عن الاحتلال لأرضه ثم رد السلطان صلاح الدين له زعامته، والبيت الحرام يفك أخاه المسجد الأقصى من الأسر، وما إلى ذلك.
فهذه صور من التشخيص للجمادات والتجسيم للمعنويات التي ذاع صيت القاضي الفاضل في الإتيان بها متلاحقة في هذه الرسالة وفي غيرها من رسائله.(12/231)
ونعرض الآن المعاني والصور التي وردت في قصائد هؤلاء الشعراء السابق الإشارة إليهم، لنرى أنهم لا يخرجون عن كونهم تلاميذ للقاضي الفاضل، يدورون في فلكه ويعجزون عن اللحاق به، فهذا الجواني المصري يقول:
قد جاء نصر الله والفتح الذي
وعد الرسول فسبحوا واستغفروا
يا يوسف الصديق أنت لفتحها
فاروقها عمر الإمام الأطهر
ملك غدا الإسلام من عجب به
يختال والدنيا به تتبختر
فهذه الأبيات في مدح السلطان صلاح الدين فيها الحيرة التي رأيناها عند القاضي الفاضل، عن أي معنى يقال ويذكر لهذا البطل الإسلامي، ونعته السلطان بأنه كالنبي يوسف عليه السلام، وكالقائد المظفر عمر بن الخطاب، وأن الإسلام به يفخر ويتبختر من الفرحة بهذا النصر الكبير، لا يساوي كل هذا ما أضفاه القاضي الفاضل على هذا القائد المظفر من التمجيد والتقدير.
وانظر إلى حل الجواني لآيتين من القرآن الكريم في بيت واحد من الشعر، وهما:
{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} و {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْه} ، ثم انظر إلى هذه الاستعارة اللطيفة في قوله:
ملك غدا الإسلام من عجب به
يختال والدنيا به تتبختر
وهذا ابن سناء الملك يمدح السلطان صلاح الدين بقوله:
لست أدري بأي فتح تهنا
يا منيل الإسلام ما قد تمنى
أنهنيك إذ تملكت شاما
أم نهنيك إذ تملكت عدنا
قد ملكت الجنان قطرا فقطرا
إذ فتحت الشام حصنا فحصنا
إن دين الإسلام منّ على الخلق
وأنت الذي على الدين منّا
لك مدح على السموات ينشا
ومحل فوق الأسنة يبنى
تخرج الساكنين منه ورب البيت (م)
في بيته أحق بسكنى
كم تأنى النصر العزيز على الشا (م)
م ولما نهضت لم يتأنى
قمت في ظلمة الكريهة كالبدر سنا (م)
ءً والبدر يطلع وهنا(12/232)
لم تقف قط في المعارك إلا
كنت يا يوسف كيوسف حسنا
يجتنى النصر من ظباك كأن الـ (م)
عضب قد صحفوه فصار غصنا
قصدت نحوك الأعادي فرد الله (م)
ما أملوه عنك وعنّا
وكما احتار القاضي الفاضل والجواني المصري، فكذلك يحتار ابن سناء الملك، ووصف الشاعر فضل السلطان على الإسلام وعلى المسلمين وإتيانه بالنصر الذي عجز عنه ملوك الشام من قبل، وما النصر إلا من عند الله الذي ينصر عباده المؤمنين.
كل هذه المعاني كما ترى جزء مما جاء في تهنئة القاضي الفاضل للسلطان صلاح الدين.
أما الصور الفنية فتتمثل في التشخيص، فالدين يمنّ على الخلق، والنصر يتأنى عن الشام وعن السلطان صلاح الدين لم يتأن، واجتناء النصر من ظباه، ثم استخدامه للمصطلحات اللغوية في قوله: "كأن العضب قد صحفوه فصار غصنا"وهذا بخلاف إتيانه بالجناس التام والناقص ليتخذ منه جرسا موسيقيا في شعره.
وابن الساعاتي يقول:
أعيا وقد عاينتم الآية العظمى
لأية حال ندخر النثر والنظما
وقد شاع فتح القدس في كل منطق
وشاع إلى أن أسمع الأسل الصما
فليت فتى الخطاب شاهد فتحها
فيشهد أن السيف من يوسف أصمى
وما كان إلا الداء أعيا داؤه
وغير الحسام العضب لا يحسن الحسما
وأصبح الثغر للدين جزلان باسما
وألسنة الأغماد توسعه لثما
سلوا الساحل المخشى عن سطواته
فما كان إلا سلاحا صادف اليما(12/233)
فهي حيرة أيضا بنفس الطريقة السابقة، ونفس المعاني مشتقة من تهاني القاضي الفاضل، فهذا الفتح الذي ذاع صيته حتى أسمع الجماد، ويذكر الشاعر اسم البطل الإسلامي عمر بن الخطاب، ويتمنى أن يكون حاضرا ليشهد مقدرة القائد المظفر صلاح الدين، وهكذا يبتسم الدين من الفرحة الكبرى، وكما ترى يغلب على هذه القصيدة التشخيص كذلك، واللجوء إلى الجناس في مثل قوله ((الصما)) و ((أصمى)) كل واحدة قافية لبيت.
أما قصيدة ابن المجاور فما بين أيدينا منها كله في مدح السلطان صلاح الدين البطل المغوار والرجل المتدين، فمما قاله عن صفات السلطان الكريمة:
ملك إذا ملك الملوك جنابه
لاذوا بأكرم من يؤم وأشرف
وإذا أتوا أسرى إلى أبوابه
وقفوا بأعظم من يصول وأردف
مولى غدا للدين أكرم والد
حدب على أبنائه مترفرف
ثم يمدح الأتراك الذين ينتسب إليهم السلطان صلاح الدين، فيقول:
هم فتية الأتراك كل مجفجف
يغشى الكريهة فوق كل مجنجف
قوم يخوضون الحمام شجاعة
لا ينظرون إليه من طرف خفي
إن صبحوا الأعداء في أوطانهم
تركوا ديارهم كقاع صفصف
أنت اصطفيتهم لنصرة ديننا
لله در المصطفى والمصطفي
والشاعر هنا يأتي بالجناس التام بين كلمتي ((مجفجف)) أي فارسي، و ((مجنجف)) أي حصان أصيل، وبين كلمتي ((المصطفى)) أي النبي محمدا و ((المصطفي)) أي المختار، وتظهر الثقافة الدينية لديه في حله للقرآن الكريم، من مثل ((ينظرون من طرف خفي)) و ((قاع صفصف)) .
ثم نأتي إلى وصف الحرب التي انتهت بظفر المسلمين ببيت المقدس، ولنبدأ بما قاله الشعراء في هذا الصدد، فالجواني المصري يقول:
وقمامة قمت من الرجس الذي
بزواله وزوالها يتطهر
ومليكهم في القيد مصفود ولم
ير قبل ذاك لهم مليك يؤسر
نثر ونظم طعنه وضرابه
فالرمح ينظم والمهند ينثر(12/234)
حيث الرقاب خواضع حيث العيو (م)
ن خواشع حيث الجباه تعفر
غاراته جمع فإن خطبت له
فيها السيوف فكل هام منبر
إذ لا ترى إلا طلى بسنابك
تحذى نعالا أو دماء تهدر
وصوائنا تختار أن تطأ الثرى
فبصدها عنه طلى وسنور
تمشي على جثث العدا عرجا ولا
عرج بها لكنها تتعثر
والشاعر يعبر في قصيدته عن فرحة المسلمين بالنصر وبتطهير بيت المقدس، ووقوع ملك الصلبيين في الأسر، والفرحة بالانتقام بقتل العدو الذي لا حصر له، حتى غدت الجياد تتعثر في جثثهم، وكأنها تعرج وما بها من عرج.
وأهم ما في هذه الأبيات من الصور الفنية هو تشخيص الشاعر للمعركة، حيث الرمح كالشاعر ينظم، والسيف كالكاتب ينثر، ووصفه الغارات بأنها كأيام الجمع، وأن السيوف تخطب فيها على المنابر ويعني بها الرؤوس …الخ.
هذا بخلاف حرص الشاعر على أن يتوافر الجناس في أبياته.
ويصف ابن سناء الملك المعركة بهذه الأبيات:
حملوا كالجبال عظما ولكن
جعلتها حملات خيلك عهنا
جمعوا كيدهم وجاءوك أركا (م)
نا فمن قد فارسا هد ركنا
لم تلاق الجيوش منهم ولك (م)
نك لاقيتهم جبالا ومدنا
كل من يجعل الحديد له ثو (م)
با وتاجا وطيلسانا وردنا
خافهم ذلك السلام فلا الرو (م)
ح يغني ولا المهند طنا
وتولت تلك الخيول فكم يث (م)
ني عليها بأنها ليس تثني
وتصيدتهم بحلقة صيد
تجمع الليث والغزال الأغنا
وجرت منهم الدماء بحارا
فجرت فوقها الجزائر سفنا
صنعت فيهم وليمة عرس
رقص المشرفي فيها وغنى
ظل معبودهم [16] لديك أسيرا
مستشافا فاجعل النار سجنا
واللعين الإبرنس أصبح مذبو (م)
حا بيمني لم يعدم الدين يمنا(12/235)
وابن سناء الملك يزيد في الصورة السالفة بأن يصف بلاء المسلمين في مقاتلة الصلبيين الذين جمعوا الأعداد الهائلة، والعدد المدمرة القاتلة، ولكن جيش المسلمين أسال دماءهم بحارا، واستحالة الموقعة إلى وليمة عرس، يرقص فيها السيف، ويغني فيها الرمح، وأسر صليب الصلبوت المقدس لديهم.
وأخيرا يبر السلطان صلاح الدين بيمينه فيقتل البرنس أرناط الذي كان يسخر من الدين الإسلامي الحنيف.
والصور الفنية نراها في تشبيه الشاعر جيش العدو بالجبال في ضخامته، وأن حملات السلطان صلاح جعلتها كالعهن، وهي صورة مقتبسة من القرآن الكريم في وصفه ليوم القيامة، حيث قوله تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} .
وهنا يخونهم سلاحهم، وفي هذا المجاز عن غلبتهم، وتفر خيولهم، ويتصيدهم السلطان ورجاله، وهنا تجري دماؤهم بحارا، وتستحيل الموقعة كما قلنا إلى وليمة عرس، يرقص فيها السيف ويغني الرمح..
وبعد أن استعرضنا ما قاله الشعراء في وصف المعركة نستطيع أن نقول بالرغم مما حملته هذه القصائد من معان مما أبدعه الشعراء من صور فنية، إن هذا كله لا يصل إلى مرتبة القاضي الفاضل الذي أعطى بوصفه لهذه المعركة لوحة فنية رائعة، مليئة بالزخارف والصور البديعية، بالإضافة إلى ما تحتويه الصور الدقيقة من تفاصيل المعركة، وقد رأيت هنا أن أعرض لفقرة من هذا الوصف لنستشف منه الصور الفنية لدى القاضي الفاضل، وهو: ((وكتاب الخادم هذا وقد أظفر الله بالعدو الذي تشظت [17] قناته [18] شفقا [19] ، وطارت فرقة فرقا، وفل سيفه فصار عصا، وصدعت حصاته [20] وكان الأكثر عددا وحصى، فكلت حملاته، وكانت قدرة الله تصرف فيه العنان بالعيان [21] عقوبة من الله ليس لصاحب يديها يدان.(12/236)
وعثرت قدمه وكانت الأرض يقظة تريق [22] نطف [23] الكرى من الجفون، وجدعت أنوف رماحه، وطالما كانت شامخة بالمنى أو راعفة [24] بالمنون، وأضحت الأرض المقدسة الطاهرة وكانت الطامث، والرب المعبود الواحد وكان عندهم الثالث.
فبيوت الشرك مهدومة، ونيوب الكفر مهتومة [25] ، وطوائفه المحامية مجتمعة على تسليم البلاد الحامية وشجعانه المتوافية، مذعنة ببذل المطامع الواقية لا يرون في ماء الحديد لهم عصرة [26] ، ولا في فناء الأفنية لهم نصرة، وقد ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وبدل الله مكان السيئة الحسنة، ونقل بيت عبادته من أيدي أصحاب المشأمة إلى أيدي أصحاب الميمنة.
نرى القاضي الفاضل يقابل بين السيف والعصا وبين المنى والمنون، وبين ذلة الكافرين وعزة المسلمين، ويجانس بين ((فرقه)) بمعنى جموعه و ((فرقا)) بمعنى خوفا، وبين العنان بمعنى اللجام، والعيان بمعنى الرؤية.
انظر إلى التشخيص لدى القاضي الفاضل، فقد جعل للسيوف والرماح عيونا تكسف بالهزيمة، وجعل لهذه العيون جفونا نامت وكانت تذود النوم من عيون المسلمين.
وانظر كيف جعل للسيوف أنوفا جدعت، وكانت تشمخ بالأمل وترعف بالدماء التي تقطر من أجساد المسلمين المجاهدين، ثم كيف جعل من الكفر شخصا له أنياب أصبحت مهتومة بعد الهزيمة.
ويبلغ القاضي الفاضل بتشخيصه الذروة في وصفه للمنجنيقات التي تتولى عقوبات الحصون، ومعاول النقابين التي تمضغ بأنيابها الصخور، ووصفه لحال الصخور والخراب الذي حل بها في فقرة أخرى من رسالته، كما استغل الكاتب فيها القرآن الكريم لنفسه استغلالا فنيا صرفا، فاتخذ منه صبغا من أجل الصياغة الفنية التي ألف بينها بطريقة فنية فاتنة.(12/237)
أرأيت إذن إلى أسلوب القاضي كيف يمتاز بالسجع والطباق والجناس، وهي أمور يشترك فيها مع غيره من أصحاب الأساليب الأدبية، ثم يمتاز بتجسيم المعاني وتشخيص الجماد ونثره للقرآن الكريم، وهي أمور أربى فيها على من شاركه فيها من الأدباء، كما امتاز بتلك المعادلات اللفظية التي توحي إلى القارئ بأن ذهن القاضي الفاضل كان ذهنا رياضيا أو به استعداد للتفوق في الرياضة.
ويشهد المؤرخون للقاضي الفاضل بأنه امتاز في النثر والشعر معا، فهذا ابن حجة الحموي يقول: "نظمه ونثره رضيعا لبان وفرسا رهان".
ويقول السبكي: "إنه كتب من الإنشاء الفائق الرائق ما يربو على مائة مجلد".
والقاضي الفاضل كما نعرف صاحب مدرسة، ورائد فن الترسل في عصره وبعد عصره.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الجد: الحظ.
[2] جفن السيف غلافه.
[3] مأخوذ من نسل الريش والشعر: سقط.
[4] راش الصديق: أطعمه وسقاه وكساه.
[5] أنواء: جمع نوء، وهو المطر.
[6] المرابع: جمع مربع، منزل القوم في الربيع.
[7] المراقب: جمع مرقب، المكان المشرف يقف عليه الرقيب.
[8] سلقه بالكلام: أذاه.
[9] يقال أنضج قلبه: كأنما الاحتقار كوى القلب بالنار حتى نضج.
[10] جلى الأمر: أذهبه.
[11] الغمرة: الشدة.
[12] المعاجم: مفعول به ليلين، جمع معجم اسم مكان من عجمه لاكه.
[13] المهر: الغضاريف.
[14] قض الشيء: دقه.
[15] واجب: أي ما يوجبه التقليد.
[16] معبودهم: يعني صليب الصكلبوت.
[17] تشظت: تطايرت شظايا.
[18] القناة: الرمح.
[19] الشفق: الخوف.
[20] الحصاة: الحجر الصغير والجمع حصاة.
[21] عنان الدابة: بكسر العين، لجامها، وعيان بكسر العين رؤية.
[22] تريق: تصب.(12/238)
[23] نطف: قطرات ماء العين.
[24] الرعاف: الدم يخرج من الأنف.
[25] مهتومة: مكسورة.
[26] العصرة بالضم: المنجاة.(12/239)
أبو سليمان الخطابي
لفضيلة الشيخ الدكتور أحمد جمال العمري
شغل موضوع الإعجاز القرآني الفكر الإسلامي والعربي منذ القديم، وتصدى لهذا الموضوع مجموعة من العلماء على اختلاف العصور وتباين الثقافات، وأغلب الظن أن من أوائل من تصدى لهذا الموضوع في القرن الثاني هو أبو عبيدة (210هـ) في كتابه مجاز القرآن، ثم تابعه مجموعة غير قليلة من العلماء يختلفون في نوع الاهتمامات والتخصصات، من هؤلاء أبو سليمان الخطابي (319-388هـ) ، وقبل أن نتناول مفهوم الخطابي لهذا الإعجاز نود أولا أن نتعرف على الرجل.
أولا: الرجل:
اسمه حَمْد بن محمد بن إبراهيم [1] أبو سليمان الخطابي، البستي الخطابي، نسبة إلى زيد بن الخطاب أخي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، والبستي نسبة إلى مدينة بُسْت من بلاد كابل التي أقام فيها في أخريات حياته إلى أن انتقل إلى بارئه.
كان إماما فاضلا، كبير الشأن، جليل القدر، عفّا صالحا كريما، ثقة فيما يرويه، وكانت له مكانة مرموقة، وسمعة حسنة لدى معاصريه، أثنى عليه الجميع، ولهجوا بفضله وأشادوا بعلمه، وسعة اطلاعه، ومقدرته على تحليل القضايا العلمية، وأطلقوا عليه مجموعة من الصفات مثل العالم الأديب اللغوي المحدّث.(12/240)
لقد بذل الخطابي حياته في سبيل العلم، وطوّف شرقا وغربا من أجل التزود بالعلم من أفاضل العلماء في بقاع العالم الإسلامي المترامي الأطراف، رحل إلى العراق، وتلقى العلوم المختلفة بالبصرة وبغداد، ثم انتقل إلى الحجاز وعاش في مكة ردحا من الزمن يسمع ويدون، ثم عاد إلى خراسان واستقر به الحال في نيسابور ما يقرب من سنتين، حيث تفرغ للتصنيف والتأليف، فأنتج مجموعة من الكتب العلمية، جاءت حصيلة تجواله في الأمصار الإسلامية، وفي أخريات حياته انتقل إلى بلاد ما وراء النهر، ومنها إلى مدينة بست حيث انتهى به المطاف والمقام إلى أن توفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة للهجرة.
شيوخه:
اتصل أبو سليمان الخطابي بمجموعة كبيرة من العلماء المشهود لهم بالثقة والعلم، ونهل من فيوض علمهم كثيرا، ولم يقصر اهتمامه على العلوم الدينية فحسب، بل وجهه أيضا صوب علوم اللغة والأدب والنقد والبلاغة، فنجد من شيوخه نخبة كبيرة من علماء بغداد في عصره، منهم: إسماعيل الصفار، وأبو عمر الزاهد، وأبو العباس الأصم، وأحمد بن سليمان النجار، وأبو عمرو السماك وغيرهم من علماء اللغة، كذلك تتلمذ الخطابي لأبي بكر القفال الشاشي وأبي علي بن أبي هريرة وغيرهما من فقهاء الشافعية.
أما تلاميذه:
فقد ذكرت له المصادر عددا غير قليل، منهم أبو مسعود الحسن بن محمد الكرابيسي، وأبو بكر محمد بن الحسن المقرئ، وأبو الحسن الفقيه السجزي، وأبو عبد الله محمد بن علي النسوي، وأبو حامد الاسفراييني والحاكم النيسابوري وغيرهم.
آثاره:
ألف الخطابي مجموعة ضخمة من الكتب يغلب عليها الطابع الديني، أهمها:
1_ معالم السنن: وهو شرح لكتاب سنن أبي داود، وتوجد منه نسخة خطية بدار الكتب المصرية.(12/241)
2_ غريب الحديث: وهو كتاب صنفه للاستدراك على أبي عبيد القاسم بن سلام وأبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة في مصنفيهما ((غريب الحديث)) وتوجد منه نسخة مخطوطة بمكتبة عاشر أفندي باستانبول.
3_ تفسير أسماء الرب عز وجل.
4_ شرح أسماء الله الحسنى.
5_ شرح الأدعية المأثورة.
6_ شرح البخاري.
7_ كتاب العزلة ـ أو الاعتصام ـ وتوجد منه نسخة مخطوطة بالاسكوريال.
8_ إصلاح غلط المحدثين، وتوجد منه نسخة مخطوطة بمكتبة الأستانة.
9_ كتاب أعلام الحديث.
10_ كتاب الغنية عن الكلام وأهله.
11_ كتاب معالم التنزيل.
12_ بيان إعجاز القرآن، وقد طبع هذا الكتاب في دار المعارف المصرية ضمن ثلاث رسائل لأعجاز القرآن.
مفهومه للإعجاز القرآني:
فهم الخطابي الإعجاز القرآني فهما خاصا، يختلف عما فهمه كثير من العلماء والباحثين في عصره، لذلك نراه ينعى على هؤلاء السابقين قصور فهمهم عن إدراك كنه ومعرفة حقيقة هذا الإعجاز، لقد رأى الخطابي أن الناس قديما وحديثا أي في عصره ذهبوا في فهمهم وبحثهم حول هذا الإعجاز كل مذهب من القول، ولكنهم لم يصدروا عن ريّ، وذلك لتعذر معرفتهم الوجه الحقيقي للإعجاز القرآني، أو معرفة الأمر في الوقوف على كيفيته.(12/242)
فكون القرآن معجزا للخلق ممتنعا عليهم الإتيان بمثله، فهذا الأمر لا شك فيه، ولا موضع للجدال حوله، والأمر في ذلك أبين من أن نحتاج إلى أن ندل عليه بأكثر من الوجود القائم المستمر على وجه الدهر، من لدن عصر نزوله إلى الزمان الراهن، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تحدى العرب قاطبة بأن يأتوا بسورة من مثله، فعجزوا عنه، وانقطعوا دونه، وقد بقي صلى الله عليه وسلم يطالبهم به مدة عشرين سنة، مظهرا لهم النكير، زاريا على أديانهم، مسفها لآرائهم وأحلامهم، حتى نابذوه وناصبوه الحرب، فهلكت النفوس، وأريقت المهج، وقطعت الأرحام، وذهبت الأموال، وقد كان قومه _ قريش خاصة _ موصوفين برزانة الأحلام، ووفارة العقول والألباب، وقد كان فيهم الخطباء المصاقع، والشعراء المفلقون، وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بالجدل واللدد، فقال سبحانه: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} ، وقال سبحانه: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} .
ثم يناقش الخطابي جماعة أخرى من العلماء حول فكرة الصّرفة التي عللوا بها إعجاز القرآن فيقول: "وذهب قوم إلى أن العلة في إعجازه الصّرفة أي صرف الهمم عن المعارضة وإن كان مقدورا عليها غير معجوز عنها، إلا أن العائق من حيث كان أمرا خارجا عن مجاري العادات صار كسائر المعجزات".
ويفند الخطابي هذا الرأي قائلا: "وليس ينظر في المعجزة إلى عظم حجم ما يأتي به النبي، ولا فخامة منظره، وإنما تعتبر صحتها بأن تكون أمرا خارجا عن مجاري العادات ناقضا لها، فإذا كانت بهذا الوصف كانت آية دالة على صدق ما جاء بها".(12/243)
ويرى الخطابي أن هذا الوجه وإن كان في ظاهره قريبا إلا أن القرآن الكريم يضم من الآيات البينات ما تشهد بخلافه، من مثل قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [2] .
ثم ينتقل الخطابي إلى تحليل فكرة أخرى رآها البعض وجها هاما من وجوه إعجاز القرآن وهي فكرة تضمن القرآن الكريم للأخبار والأحداث المستقبلة التي حدثت بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم وثبت صدقها وصحتها، فيقول: "وزعمت طائفة أن إعجازه إنما هو فيما تضمنه من الأخبار عن الكوائن في مستقبل الزمان نحو قوله سبحانه: {أَلَمْ غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} [3] ، ولقوله سبحانه: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [4] . تلك الأحداث والأخبار التي ثبتت صحتها وحدوثها بعد عشرات السنين".
والخطابي لا يشك في أن هذا الأمر وما أشبهه من أخبار القرآن نوع من أنواع إعجازه، إلا أنه ليس بالأمر العام الموجود في كل سورة من سور القرآن فقد جعل الله سبحانه وتعالى في صفة كل سورة أن تكون معجزة بنفسها، لا يقدر أحد من الخلق أن يأتي بمثلها، فقال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [5] من غير تعيين أو تحديد، فدل سبحانه على أن المعنى فيه غير ما ذهبوا إليه.
وينتقل الخطابي بعد ذلك إلى مناقشة أشهر الآراء، وأكثرها شيوعا وهو الذي يذهب إلى أن إعجاز القرآن إنما يرجع إلى بلاغته.(12/244)
ولما كان الخطابي أديبا لغويا فإننا نراه يوافق مبدئيا على هذا الرأي، ولكنه يحمل على القائلين به، وينعى عليهم جمودهم وسطحيتهم، ووقوفهم عند حد التقنين والتقليد، كما ينعى عليهم عدم تحليل الأمور وتحقيقها، وقصور كلامهم عن الإقناع ذلك أنهم "صاروا إذا سئلوا عن تحديد هذه البلاغة التي اختص بها القرآن، الفائقة في وصفها سائر البلاغات، وعن المعنى الذي يتميز به عن سائر أنواع الكلام الموصوف بالبلاغة قالوا: إنه لا يمكننا تصويره ولا تحديده بأمر ظاهر نعلم مباينة القرآن غيره من الكلام وإنما يعرفه العالمون به عند سماعه ضربا من المعرفة لا يمكن تحديده، وأحالوا على سائر أجناس الكلام الذي يقع منه التفاضل، فتقع في نفوس العلماء به عند سماعه معرفة ذلك، ويتميز في أفهامهم قبيل الفاضل من المفضول منه"، فيقول: "وهذا لا يقنع في مثل هذا العلم، ولا يشفى من داء الجهل به، وإنما هو إشكال أحيل به على إبهام".(12/245)
من هنا تصدى الخطابي لتحليل موضوع بلاغة القرآن الكريم على طريقته، وحسب مفهومه لتذليل هذا الأمر عليهم، فنراه يذكر الأقسام الثلاثة للكلام المحمود ومراتبها في نسبة التبيان، ودرجاتها في البلاغة، "فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها الفصيح القريب السهل، ومنها الجائز الطلق الرسل، فالقسم الأول أعلى طبقات الكلام وأرفعه، والقسم الثاني أوسطه وأقصده، والقسم الثالث أدناه وأقربه فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، وأخذت من كل نوع من أنواعها شعبة، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة، وهما على الانفراد في نعومتهما كالمتضادين، لذلك كان اجتماعهما في نظم القرآن فضيلة خص بها، يسرها الله بلطيف قدرته من أمره لتكون آية بينة لنبيّه، وإنما تعذر على البشر الإتيان بمثله لأن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وبألفاظها، ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ، ولا تكمل معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظوم التي بهايكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض".
ويختم الخطابي تحليله لهذا الرأي بقوله: "إنما صار القرآن الكريم معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف، متضمنا أصح المعاني من توحيد الله له عزت قدرته، وتنزيه له في صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان بمنهاج عبادته من تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ وتقويم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق، وزجر عن مساوئها، واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه، ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور والجمع من شتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر تعجز عنه قوى البشر".(12/246)
فعمود البلاغة القرآنية التي تجتمع لها هذه الصفات كما يقرر الخطابي هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به، ومن هنا كاع القوم وجبنوا عن معارضة القرآن لما قد كان يؤودهم ويتصعدهم منه.
وبعد أن يفند الخطابي ما أورده المعترضون من شبه ضد أسلوب القرآن، يحلل كثيرا من النصوص تحليلا جميلا، يكشف فيه عن ذوق الأديب وبصر العالم، وبصيرة المتذوق الفاهم لمواطن جمال الكلام وكماله.
ولكن الأمر الجديد حقا الذي وضعه الخطابي أمام أذهان وأبصار الناس في عصره هو ذلك الفهم الجديد لفكرة الإعجاز القرآني.(12/247)
لقد أضاف الخطابي إلى كل الوجوه السابقة التي تداولها وتناقلها العلماء وجها جديدا غفل الناس عنه، هذا الوجه يتصل بالعامل النفسي الوجداني، ذلك هو صنيع القرآن بالقلوب وتأثيره في النفوس، "فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن، منظوما ولا منثورا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها من الوجيب والقلق، وتغشاها الخوف والفرق، تقشعر منه الجلود، وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس وبين مضمواتها وعقائدها الراسخة فيها، فكم من عدو للرسول صلى الله عليه وسلم من رجال العرب وفتاكها أقبلوا يريدون اغتياله وقتله، فسمعوا آيات من القرآن، فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته، ويدخلوا في دينه، وصارت عداوتهم موالاة وكفرهم إيمانا، خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمد لقتله، فسار إلى دار أخته وهي تقرأ ((سورة طه)) فلما وقع في سمعه لم يلبث أن آمن، وبعث الملأ من قريش عتبة بن ربيعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليوافقوا على أمور أرسلوه بها، فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات من ((حم السجدة)) فلما أقبل عتبة وأبصره الملأ من قريش قالوا: أقبل أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، ولما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن في الموسم على النفر الذين حضروه من الأنصار آمنوا به وعادوا إلى المدينة، فأظهروا الدين بها، فلم يبق بيت من بيوت الأنصار إلا وفيه قرآن، وقد روي عن بعضهم أنه قال: "فتحت الأمصار بالسيوف وفتحت المدينة بالقرآن"، ولما سمعته الجن لم تتمالك أن قالت: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِه} [6] ، ومصداق ذلك ما جاء في القرآن نفسه في أمر القرآن من مثل(12/248)
قوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [7] ، وقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [8] ، وقوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [9] ، وقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقّ} [10] ، في آي ذوات عدد منه، وذلك لمن ألقى السمع وهو شهيد وهو من عظيم آياته ودلائل معجزاته".
هذه هي الفكرة التي تبناها الخطابي ويتضح منها مفهومه للإعجاز القرآني، ولقد أخذ هذه الفكرة وتبناها من بعده كثير من العلماء، مثل السيوطي في الإتقان [11] وغيره من العلماء، ومن المهم أن نعرف أن هذه الفكرة هي عينها التي أدار الجرجاني حولها بحثه في أسرار البلاغة إذ اعتبر مصدر البلاغة في الكلام هو تأثيره في النفوس.
د. أحمد جمال العمري
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ذكره ياقوت في معجم الأدباء باسم أحمد، وقال إنه سئل عن اسمه أحمد أو حمد فقال: سميت بحمد وكتب الناس أحمد.
[2] سورة الإسراء 17.
[3] سورة الروم 1-3.
[4] سورة الفتح 16.
[5] سورة البقرة 23.
[6] سورة الجن 21.
[7] سورة الحشر 21.
[8] سورة الزمر 23.
[9] سورة العنكبوت 51.
[10] سورة المائدة 83.
[11] انظر الجزء الثاني ص205 وما بعدها.(12/249)
العدد 34
فهرس المحتويات
1- رسالة من نائب رئيس الجامعة الإسلامية
2- التقوى سبب كل خير: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
3- أضواء من التفسير: لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
4- رسائل لم يحملها البريد: لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
5- أبو ألحسن الرماني ومفهومه للإعجاز القرآني: للدكتور: أحمد جمال العمري
6- تعقيب لا تثريب - ملاحظات إسلامية حول كتاب (أبي ذر والشيوعية) : لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
7- الجبال في القرآن آية من الرحمن: الدكتور محمد نغش
8- تراث الحديث والسنة في الهند: لفضيلة الشيخ تقي الدين الندوي
9- التعليم المعاصر والتربية الإسلامية: لفضيلة الشيخ محمد الشربيني
10- القاعدة الصلبة الواعية من المهاجرين والأنصار: لفضيلة الشيخ زهير الخالد
11- جوانب من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم: الدكتور عبد الباقي علي قصة
12- الندوة العالمية عن المسكرات: تلخيص فضيلة الشيخ محمود فايد
13- الأسلوب الإسلامي لوقاية المجتمع من الخمر والمسكرات: الدكتور أحمد عبيد الكبيسي
14- تكذيب الوصية المنسوبة لخادم الحرم: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
15- الغناء من علل المجتمع المسلم: بقلم فضيلة الشيخ معوض عوض إبراهيم
16- الإخاء الإسلامي قوة وعطء وانتصار: لفضيلة الشيخ أحمد عبد الرحيم السايح
17- نعمة العمل بالتشريعات الإسلامية: لفضيلة الشيخ محمد المهدي محمود
18- التهاب الزائدة الدودية: للدكتور كايد أحمد الكايد
19- موكب النور: لفضيلة الشيخ عبد الحميد ربيع
20- أخبار الجامعة
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(12/250)
رسالة من نائب رئيس الجامعة
الشيخ عبد المحسن العباد
حضرة الأخ المكرم الشيخ حفظه الله
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد.
فإني أحمد إليك الله عز وجل، الذي هداك لطريق الخير فقدمت إلى هذه الجامعة الإسلامية ترجو التفقه في دينك، والتزود من التقوى في مدينة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم سدد - بفضله - خطاك، فأتممت دراستك ومنحت الشهادة العالية من جامعتك في هذا العام 95 /1396 لتبدأ مرحلة جهادك في كتائب الدعوة إلى ربك: هداية للناس، وتقويما لمناهج حياتهم، وتحقيقا لسعادتهم في دنياهم وفوزهم في أخراهم.
ومرحلة جهادك هذه هي - كما تعلم - رسالة جامعتك وهي الغاية التي من أجلها جئت من بلدك، ونفرت من قومك، وجهدت السنين لبلوغها وقد بلغتها، وهي أسمى الغايات في حياتك. والعمل لتحقيقها هو أشرف أعمالك، والجهد الذي تبذله في سبيلها يفوق في قيمته وأجره وأثره كل جهد آخر يبذل في سبيل غيرها، وحسبك ما يعيه قلبك من قول ربك في كتابه العزيز {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
فعليك أيها الأخ الكريم أن تعد نفسك، وأن تصرف همتك لأداء هذا الواجب بكل طاقتك، في أي مكان كنت، وأي عمل أو منصب توليت.
عليك أن تكون القدوة الصالحة لغيرك، في عقيدتك وخلقك، في فعلك وقولك، في كل شؤون حياتك، وأن تكون الرائد الأمين في جماعتك، والداعية الحكيم في مجتمعك: مستهديا كتاب ربك، وسنة نبيك، وهدى سلفك الصالح، لا تبتغي بعملك إلا مرضاة ربك، ليهديك ويعينك، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} .(12/251)
تذكر دائما- حيث كنت - أنك إمام يستمع لقوله، ويقتدى بفعله وأنك أحد الشهداء فانظر أي شهيد أنت، وتحقق بهذه الشهادة، وكن مدركا لمسئولياتها، ملتزما بها.
وكن - أيها الأخ الكريم - على صلة مستمرة بجامعتك، التي وضعت فيك، وفي كل زملائك أملها، وحملتكم جميعا أمانة الدعوة إلى الله على بصيرة، وهي معكم دائما: أمامكم برسالتها ومن ورائكم بكل جهودها، تؤازركم، وتساندكم وتعاونكم، وترجو لكم النجاح في كل خطواتكم على طريق جهادكم في سبيل ربكم.
ووثق صلتك بإخوانك من أسرة جامعتك، وتعاونوا جميعا على أداء رسالتكم، رسالة الإسلام الخالدة {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} ، وفقك الله، وأعانك، وسدد خطاك على طريق الهدى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،،
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
عبد المحسن بن حمد العباد(12/252)
القاعدة الصلبة الواعية من المهاجرين والأنصار
لفضيلة الشيخ زهير الخالد
لقد رأينا في الحلقة السابقة الأثر العميق والواسع الذي تركته وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصابة رضوان الله تعالى عنهم، فقد تركت فيهم حزنا عميقا وأسى بالغا إلى درجة الذهول كما حدث مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى القبائل العربية في الجزيرة العربية حيث تفاوتت انعكاساته، فمنهم من حزن، وهم الصادقون، وهم قلة قليلة، أما أكثرهم ممن قال فيهم رب العزة والجلال: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} فقد تركت لديهم سرورا وفرحا وردة عن الإسلام. وإن اختلفت الصورة التي ظهرت فيها ردة كل فريق..
أما اليهود الموتورون، والمتنبئون الكذابون والنصارى ودولتهم الرومية، الذين يمثلون المعسكر الغربي، والفرس ودولتهم المجوسية الذين يمثلون المعسكر الشرقي. فقد دفعتهم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن يتحضروا ويعدوا العدة للانقضاض عل دولة المسلمين في المدينة المنورة، حتى أصبح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب وفاة نبيهم - عليه الصلاة والسلام - كما تصفهم أم المؤمنين السيدة عائشة - رضي الله عنها - فتقول: "لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب قاطبة وأعربت النفاق وسار أصحاب محمد كأنهم معزى مطيرة في ليلة شاتية مطيرة، بأرض مسبعة.(12/253)
لقد كان الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم - يدركون هذه الأخطار والتحديات التي نجمت عن وفاة نبيهم عليه الصلاة والسلام وكانوا يدركون أيضا المهمات الكبرى التي تنتظرهم وتمتحن صلابتهم ووعيهم، وفي مقدمتها مغالبة آلامهم الشديدة، وأحزانهم العميقة، والمسارعة لانتخاب خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمعون عليه للوقوف في وجه هذه المحن المتلاحقة والتي تقف في وجههم.
ضرورة البت السريع في انتخاب خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
إن اجتماع الأمة على رجل يخلف قائدها المتوفى أمر في غاية الأهمية، وله تأثيره الكبير على حاضر الأمة ومستقبلها، وعلى تماسكها وقوتها والحيلولة دون تفرق كلمتها وتمزق وحدتها، ومن هنا نجد أن الأمم ومنذ زمن قديم حتى العصر الحاضر تحرص أن يكون لقائدها، ملكها أو رئيسها نائبا يخلفه إذا نزل به الموت، ويسارع أهل الحل والعقد لتنصيبه أو لتأكيد تنصيبه خلفا لقائدها الراحل فور موته وقبل الاشتغال بمراسم دفنه، وهذا ما تقضي به مصلحة الأمة وأمنها.(12/254)
لكن شأن النبوة يختلف عن شأن الرئاسات الدنيوية، ومن ثم لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم خليفة معينا صراحة من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذا فقد وجد الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - أن عليهم أن يقوموا بهذه المهمة الكبيرة، وعلى وجه السرعة والحكمة لأن الأحداث المنتظرة والمتوقعة تقتضي منهم هذا البت السريع، والزمن لا يتنظر فإن لم تقطعه قطعك. ومن ثم فقد رأيناهم - رضي الله عنهم - يسارعون إلى ذوي السن والمكانة والقيادة فيهم للتشاور معهم على هذا الأمر الجلل فذهب فريق منهم إلى أبي بكر رضي الله عنه وهم كثرة المهاجرين وأسيد بن حضير في بني عبد الأشهل من الأنصار، وذهب بعض المهاجرين إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومعه الزبير بن العوام رضي الله عنه في بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها، وذهب فريق ثالث وهم كثرة من الأنصار إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه في سقيفة بني ساعدة.
لقد حدثت هذه الاجتماعات نتيجة مبادرات قام بها المجتمعون، ولم تكن نتيجة دعوة رسمية أو عامة حتى يستعيد أحد أو يقرب غيرهن ولكن هذا قد يؤدي إلى نتائج خطرة إذ قد تخرج كل مجموعة برأي لا سيما إذا كانت تشمل أو تمثل عددا كبيرا من أهل الحل والعقد، ثم تطلب من عامة المسلمين الموافقة على ما اتخذته من قرار فإذا اختلف القراران فتح بذلك المجال لأن تبذر بذور الفتنة..
وخطورة هذه الحال لم تكن غائبة عن الصحابة - رضوان الله تعالى عنهم -، ومن ثم لمل علم بعضهم باجتماع المهاجرين ومن معهم من الأنصار إلى أبي بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - واجتماع الأنصار في سعد بن عبادة رضي الله عنه سارع إلى أبي بكر وعمر وأخبرهما باجتماع الأنصار.(12/255)
قال ابن إسحاق: فأتى آت إلى أبي بكر وعمر فقال: إن هذا الحي مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، قد انحازوا إليه فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا الناس قبل أن يتفاقم أمرهم.
قال عمر: فقلت لأبي بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار حتى ننظر ما هم عليه 1. لقد كان هناك من الصحابة من يرى أن المهاجرين هم أولى الناس باختيار الخليفة، ومن ثم كان يكفيهم أن يرسلوا إلى إخوانهم الأنصار ليأتوا إليهم للتشاور في هذا الأمر الخطر لكن تجرد الصحابة وإخلاصهم لله سبحانه أملا عليهم إلا أن يتجاوزوا هذه الاعتبارات التي يلتصق بها كثير من الناس، وإلا أن يرتفعوا إلى أعلى درجات السمو والتواضع والحرص على جمع كلمة المسلمين، فقام المهاجرون ومشوا إلى إخوانهم الأنصار، في سقيفة بني ساعدة.. وفي الطريق يلتقي المهاجرون بمعن بن عدي وعويم بن ساعدة الأنصاريين فيقولان لهم: إلى أين يا معشر المهاجرين؟ فيجيب عمر: نريد إخواننا هؤلاء الأنصار. فيقولان لهم: لا عليكم ألا تقربوهم، وقضوا أمركم يا معشر المهاجرين.
لقد كان هذان الأنصاريان - رضي الله تعالى عنهما - ممن يرون أن المهاجرين هم أولى الناس باختيار الخليفة، ولا حرج عليهم فيما لو نفروا في البت في هذا الأمر، ولم يأتوا الأنصار. لكن المهاجرين أرادوا أن يكون الأمر عن إجماع من الصحابة كلهم - رضي الله تعالى عنهم - ولذلك سعوا إلى السقيفة حيث الأنصار.
الاجتماع التاريخي في سقيفة بني ساعدة(12/256)
1-موضوع البحث في السقيفة: إن الذي يدرس الأقوال التي طرحت في اجتماع السقيفة، كما نقلتها الروايات الصحيحة يدرك من خلالها الموضوع الذي كان يبحثه الصحابة المجتمعون في السقيفة، وهو: المستوى الذي يقضي الإسلام أن ينتخب الخليفة منه: هل هو من المهاجرين؟ أم من الأنصار؟ أم من العرب كافة؟ أم من المسلمين عامة؟.. الخ. فإذا اتفقوا على المستوى الذي تدل عليه توجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم أو بعض الظواهر العامة التي لها وزنها في هذا المجال.
فقام رجل من الأنصار فحمد الله تعالى وأثنى عليه وأدلى بوجهة نظره وهي أن الإسلام يقضي بأن يكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار، لوجود عدة ظواهر وإشارات من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن هذه الظواهر والإشارات:
كون المدينة المنورة هي بلد الأنصار وكونهم أنصار الله تعالى وكتيبة الإسلام، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر إليهم، وكذلك المهاجرون هاجروا إليهم، فأصبحوا رهطا من الأنصار، ثم ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ولو سلك الناس واديا وشعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار" [1] .
لكن وجهة النظر هذه لم تكن تمثل رأي الأنصار كلهم ولا غالبيتهم بدليل وجود آراء أخرى أدلى بها الأنصار في السقيفة أو عبروا عنها بمواقفهم، فقد كان فيهم من يعتقد أن هذه الإشارات والظواهر التي تدل على فضل الأنصار لا تعني أن الخليفة يجب أن يكون منهم، فهذه فضائلهم عند الله سبحانه وأجرهم فيها على الله تبارك وتعالى ثم إن للمهاجرين - لا سيما السابقين منهم - فضائل كثيرة تربو على فضائل الأنصار - رضي الله تعالى عن المهاجرين والأنصار جميعا - ولذا فقد كان في الأنصار من يرى أن المستوى الذي يجب أن ينتخب الخليفة من هو.
(قاعدة الإسلام) وقد عبر قائلهم عن وجهة النظر هذه بقوله: منا أمير ومنكم أمير.(12/257)
هذا وقد رأينا آنفا أن مجموعة من الأنصار سعت إلى المهاجرين واجتمعت إليهم وهم أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل - رضي الله تعالى عنه وعنهم - معبرا بذلك عن وجهة نظره وهي أن المستوى الذي يجب أن ينتخب الخليفة منه هو المهاجرون، بل كان منهم من يرى أن ينفرد المهاجرون باختيار الخليفة كما رأينا من قول عويم بن ساعدة، ومعن بن عدي - رضي الله تعالى عنهما -.
المهم أن هذه وجهات نظر كان يراها بعض الأنصار - رضوان الله تعالى عليهم -.
في المستوى الذي يجب أن يختار منه الخليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بناء على ما لديهم من ظواهر وإمارات ولا يقدح ذلك في إخلاصهم ولا يخدشه بدليل أنه حين تبين لهم على لسان الصديق رضي الله عنه أن هناك نصا يقطع كل شبهة ويحدد المستوى الذي يجب أن يكون منه الخليفة وهو قريش سلموا به وأجمعوا عليه ولم يتخلف منهم أحد - رضي الله تعالى عنهم - وما أعمق فهم العلامة ابن كثير - رحمه الله تعالى - لما توخاه الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - من الأقوال التي طرحت في اجتماع السقيفة، وما أروع قوله الذي عبر به عن فهمه العميق هذا حين قال: "ووقعت شبهة لبعض الأنصار وقام في أذهان بعضهم جواز استخلاف خليفة من الأنصار". "وتوسط بعضهم بين أن يكون أميرا من المهاجرين وأميرا من الأنصار.. حتى بين لهم الصديق أن الخلافة لا تكون إلا في قريش، فرجعوا إليه وأجمعوا عليه" [2] .(12/258)
بعد أن أدلى الأنصار بوجهات نظرهم هذه أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يتكلم وكان قد أعد كلمة في نفسه لإلقائها في هذا الاجتماع لولا أن أبا بكر سبقه بالكلام، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم بدأ بذكر ما للأنصار من فضل ولم يترك شيئا أنزل فيهم، أو ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عرفه المسلمون إلا ذكره اعترافا بفضل الأنصار، ولكنه لم يكن يرى أن ذلك يفيد أن يكون الخليفة منهم، لوجود نص صريح قاطع من الرسول صلى الله عليه وسلم يحدد المستوى الذي يجب أن يختار منه الخليفة وهو قريش.
وكان مما قاله رضي الله عنه: أما بعد فما ذكرتم من خير فأنتم أهله وما تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا. وقال أيضا: لقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار واديا لسلكت وادي الأنصار.."
ثم وجه الكلام إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه يذكره بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقطع كل شبهة في هذا الشأن فقال: ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد: "قريش ولاة الأمر فبر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم" [3] .
وبناء على هذا فالمستوى الذي يجب أن ينتخب الخليفة منه هو المهاجرون لأنهم من قريش، ولكن هذا لا يعني إغفال دور الأنصار ومكانتهم، بل أن دورهم دور أساسي، فهم مساعدوا الخليفة وأعوانه ووزراؤه، وهم بطانته الخيرة.(12/259)
ولما كان المهاجرون والأنصار - رضي الله تعالى عنهم - يتوخون امتثال أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في تحديد المستوى الذي يكون منه الخليفة، ولما كان الإخلاص لله تعالى والتجرد من كل شيء سوى ذلك هو الذي يسيطر عليهم ويحركهم، سرعان ما سلموا بما ذكره الصديق رضي الله عنه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبر سعد بن عبادة رضي الله عنه عن قناعة الأنصار بقوله: "صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء".
ولما فرغ أبو بكر رضي الله عنه من خطابه، وظهرت القناعة على الجميع بما أدلى به من وجهة النظر الصحيحة، وهو أن يكون الخليفة من المهاجرين، وكان أفراد هذا المستوى الجديرين بهذا المنصب الكبير متوفرا، لا سيما من السابقين منهم، وكان الأمر يقتضي البت السريع، وعدم التأجيل، وكان في جانب أبي بكر عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح - رضي الله تعالى عنهما -، أخذ أبو بكر بأيديهم ورشحهما للانتخاب وقال: لقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أيهما شئتم [4] .
فكره عمر ذلك، كره أن يرشح وأن يقدم على أبا بكر، وقد قال عمر معبرا عن كراهته لأن يتقدم على أبي بكر: فلم أكره مما قال أي أبي بكر غيرها والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك إلا أثم، أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر إلا أن تغير نفس عندي الموت. ولذلك خاطب الأنصار قائلا: يا معشر الأنصار ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر أبا بكر أن يؤم الناس، فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟.فقال الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر [5] .
وقال: يا معشر المسلمين، إن أولى الناس بأمر نبي الله، ثاني اثنين إذ هما في الغار، وأبو بكر السباق المسن، وقد رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لدينكم أفلا ترضونه لدنياكم.(12/260)
ويروي البيهقي: فقام خطيب الأنصار فقال: أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، وخليفته من المهاجرين، ونحن كنا أنصار رسول الله ونحن أنصار خليفته كما كنا أنصاره [6] .
ويروي البيهقي أيضا: أن زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه أخذ بيد أبي بكر وقال: هذا صاحبكم فبايعوه.
فأراد عمر أن يبايع أبا بكر، فسبقه غليها بشير بن سعد الخروجي والد النعمان بن بشير - رضي الله تعالى عنهما - ثم بايعه عمر وأبو عبيدة، ويسابق المجتمعون من المهاجرين والأنصار وبايعوا أبا بكر بالخلافة. واضطر الصديق لقبولها خوفا من أن ينفض المجلس بدون بيعه فيفتح باب للفتنة.
روى الإمام أحمد عن رافع الطائي رفيق أبي بكر في غزوة ذات السلاسل، قال: وسألته عما قيل في بيعتهم، فقال وهو يحدثه عما تقاولت به الأنصار وما كلمهم به عمر بن الخطاب الأنصار، وما ذكرهم به من إمامتي إياهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه فبايعوني لذلك وقبلتها منهم وتخوفت أن تكون فتنة بعدها ردة [7] .
ويعقب ابن كثير على هذا الخبر بقوله: "وهذا إسناد جيد قوي، ومعنى هذا أنه رضي الله عنه إنما قبل الإمامة تخوفا أن تقع فتنة أربى من تركه قبولها رضي الله عنه"فخوفه من وقوع الفتنة أشد عليه من قبولها.
وخطب أبو بكر مرة مبينا للناس أنه لم يكن طامعا بالخلافة ولا راغبا بها ولا حدث بها نفسه في ليل أو نهار، فقال كما يرويه عنه موسى بن عقبة في مغازيه: "ما كنت حريصا على الإمارة يوما ولا ليلة، ولا سألتها في سر ولا علانية [8] . وتمت بذلك بيعة أبي بكر البيعة الخاصة وكان ذلك في بقية يوم سنة 11هأي في بقية اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أهله عليه الصلاة والسلام قد أغلقوا الباب دونه [9](12/261)
أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد سبق أن ذكرنا أنه كان مع من انضم إليه من المهاجرين في بيت فاطمة رضي الله تعالى عنها ولم يكن فيما يبدو قد علم اجتماع السقيفة، كما أن الذين حضروا اجتماع السقيفة لم يكونوا قد علوا بمكانه، وقت اجتماعهم، لأن الاجتماع إنما تم كما ذكرنا نتيجة مبادرات قام بها المجتمعون، ولم تكن نتيجة دعوة عامة أو رسمية تحدد المكان والزمان، حتى يكون هناك مجال لأعداء الإسلام من المتزندقين والمستشرقين والمتأثرين بهم من المغفلين لينفذوا منه للطعن بأصحاب السقيفة فيتهمونهم بالتآمر، أو الطعن بعلي والزبير ومن كان معهم فيتهمونهم بالتخلف أو الحرص على المنصب، فلم يكن هذا ولا ذاك، فحاشاهم جميعا من ذلك ورضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
البيعة العامة في المسجد، وبيعة علي والزبير لأبي بكر - رضي الله تعالى عنهم:
فلما كانت صبيحة اليوم الثاني الثلاثاء 13 / 3 / 11هاجتمع الناس عامة في المسجد، وقام عمر وتكلم قبل أبي بكر - رضي الله تعالى عنهما - فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: إني قد قلت بالأمس مقالة، ما كنت، وما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهدا عهده إلي رسول الله، ولكن كنت أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدبر أمرنا، أي يكون أخرنا وفاة.
وأن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هو هدى رسول الله، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هدى هذه الأمة له، وأن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقاموا فبايعوه [10] .(12/262)
ثم قال عمر لأبي بكر: اصعد المنبر ن ولم يزل به حتى صعد المنبر، وتقدم الناس إليه فبايعوه، وحضر كل من علي والزبير بن العوام - رضي الله تعالى عنهما - فبايعا أبا بكر الصديق رضي الله عنه علنا أمام الملأ من الناس [11] وتمت البيعة العامة لأبي بكر الصديق، وأصبح بذلك خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر رضي الله عنه.
خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه
بعد أن تمت البيعة، ألقى أبو بكر الخطبة التالية التي رسم فيها سياسته ومنهجه في الحكم فقال: أيها الناس فإني قد وليت عليكم، ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني. والضعيف منكم قوي عندي حتى أزيح علته إن شاء الله، والقوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق إن شاء الله.
لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل.
ولا يشيع قوم قط الفاحشة إلا عمهم الله بالبلاء.
أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله [12] .
رأي علي والزبير في الصديق وانتخابه:
أما ما روى من تأخر علي بن أبي طالب والزبير - رضي الله تعالى عنهما - من أن يكونا في مقدمة المبايعين لأبي بكر الصديق رضي الله عنه كما هو المتوقع منهما فسبب ذلك - فيما يبدو لنا والله تعالى أعلم - ظنهما أنهما أخرا عن المشورة قصدا، ورفضا عمدا أن يؤخذ رأيهما فيمن هو جدير بخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أمر طبيعي وفطري أن يغضب الإنسان إذا كان بمكانة علي والزبير إذا رفض عمدا أن يؤخذ رأيهما في القضايا الخطيرة والهامة التي لا يستغنى فيها عن مثل رأيهما حتى يؤديا واجبهما في مثل هذه القضايا الكبرى التي لها أثرها على حاضر الأمة ومستقبلها.(12/263)
فلما تبين لهما أن الأمر لم يكن مقصودا، وأن الاجتماع إنما تم بناء على مبادرات أسرع إليها المجتمعون، ولم يكن نتيجة تنادي بعضهم بعضا حتى يقدم البعض ويؤخر البعض، ذهب ما شعر به من الغضب، لا سيما وهما يعلمان ضرورة البت السريع في مثل هذا الأمر الخطير، وقد انتخب من كان يريان، أنه أولى الناس بالانتخاب ولذلك جاءا إلى المسجد وبايعا علنا أمام الملأ من الناس. وصرحا بسبب غضبهما وأكد هذا المعنى فقال: ماغضبنا إلا لأنا أخرنا عن المشورة، وإنا نرى أن أبا بكر أحق الناس بها، وأنه لصاحب الغار، وإنا لنعرف شرفه وخيره، ولقد أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي بالناس وهو حي.
ويعقب ابن كثير على هذا الخبر فيقول: إسناد جيد ولله الحمد والمنة [13] .
ويروي ابن كثير عن سفيان الثوري عن عمرو بن قيس عن عمرو بن سفيان قال: لما ظهر علي على الناس قال: يا أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئا، حتى رأينا من الرأي أن نستخلف أبا بكر فأقام واستقام حتى مضى لسبيله [14] .
وروى البيهقي عن أبي وائل، قال: قبل لعلي أبي طالب، ألا تستخلف علينا؟ فقال: ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستخلف ولكن إن يرد الله بالناس خيرا فسيجمعهم بعدي على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم.
ويعقب عليه ابن كثير فيقول: إسناد جيد ولم يخرجوه [15] .
وهكذا نجد أن انتخاب الصديق قد تم بإجماع الصحابة - رضوان الله تعالى عليهم- ولم يتخلف عنه أحد. ويقول العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى: "ومن تأمل ما ذكرناه ظهر إجماع الصحابة والأنصار على تقديم أبي بكر ".
وظهر له برهان قوله عليه الصلاة والسلام:"يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ".(12/264)
وظهر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينص على الخلافة عينا لأحد من الناس لا لأبي بكر كما قد زعمه طائفة من أهل السنة، ولا لعلي كما تقوله طائفة من الرافضة، ولكن أشار إشارة قوية ليفهمها كل ذي لب وعقل إلى الصديق [16] .
تحديد علي للبيعة لأبي بكر مرة ثانية رضي الله عنهما:
حدثت بعض الملابسات، دفعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأن يرى أن الحكمة ومصلحة الأمة تقضي بأن يجدد بيعته لأبي بكر الصديق رضي الله عنه مرة ثانية وذلك بعد وفاة وزوجته فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله وأرضاها.
وقد أشار ابن كثير - رحمه الله - إلى هذه الملابسات فقال: ولكن لما حصل من فاطمة- رضي الله عنها- عتب على الصديق، بسبب ما كانت متوهمة من أنها تستحق ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تعلم بما أخبرها به أبو بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: "لا نورث ما تركناه صدقة "فحجبها وغيرها من أزواجه ومنهم عائشة بنت أبي بكر - رضي الله عنها - وكذلك عمه عن الميراث بهذا النص الصريح فسألته أن ينظر علي في صدقة الأرض التي بخيبر وفدك، فلم يجبها إلى ذلك لأنه رأى أن حقا عليه أن يقوم في جميع ما كان يتولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق البار الراشد التابع للحق رضي الله عنه فحصل لها وهي امرأة من البشر ليست براجية العصمة عتب وتغضب، ولم يتكلم الصديق حتى ماتت، واحتاج علي أن يراعي خاطرها بعض الشيء فلما ماتت بعد ستة أشهر من وفاة أبيها صلى الله عليه وسلم رأي علي أن يجدد البيعة مع أبي بكر صلى الله عليه وسلم مع ما تقدم له من البيعة قبل دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم [17] .(12/265)
ولعلنا لا نبتعد في التعليل إذا أضفنا إلى هذا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر فاطمة رضي الله عنها أنها أول أهل بيته لحاقا به، ومعنى هذا أن وفاتها ستكون قبل وفاة زوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقينا فاحتاج علي أن يكثر من ملازمتها في بيتها دون أن يمنعه ذلك من حضور الصلاة خلف أبي بكر رضي الله عنه في وقت من أوقاتها أو يتغيب عنه في مشهد من المشاهد، ويشهد لذلك خروجه معه إلى ذي القصة، حين خرج الصديق شاهرا سيفه يريد قتال أهل الردة، وما كان من إصرار علي أن يرجع الصديق إلى المدينة المنورة ليدير شؤون المسلمين وقول علي لأبي بكر: لا تفجعنا بنفسك يا أبا بكر.. الخ وأن ينيب مكانه القادة لقتال المسلمين، ففعل أبو بكر ذلك وأخذ بنصيحة علي رضي الله تعالى عنهما.
فلعل هذه الظاهرة وهي كثرة ملازمة علي لفاطمة- رضي الله عنهما -في بيتها وما يستلزمه من غياب علي من مجلس أبي بكر في المسجد، دفع بعض الناس لأن يتوهم أو يظن بسبب عدم رضا علي بن أبي طالب على انتخاب الصديق خليفة أو شيئا من هذا القبيل، فلما توفيت فاطمة - رضي الله عنها - زالت تلك الأسباب ولازم علي مجلس أبي بكر ولكي يقطع تلك الظنون والأوهام جدد البيعة لأبي بكر - رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما- وقطع بذلك الطريق على كل وهم أو ظن خاطئ، وسد كل منفذ لكل متقول أفاك.
بيعة أبي بكر الصديق كانت إلهاما من الله تعالى للصحابة:
لقد كان واضحا إلهام الله تعالى وتوفيقه للمهاجرين والأنصار في اختيارهم للصديق رضي الله عنه خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد كان واضحا في السرعة التي تمت فيها، وروح الإخلاص والتجرد التي سادت المناقشة في اجتماع السقيفة والتي قادت إلى سرعة الاقتناع والتسليم للحق لمل تبين على لسان الصديق.(12/266)
وتجاوز بعض الاعتبارات المعهودة في مثل هذه الاجتماعات والمناقشات التي تنشأ عن وهم أو غير ذلك مما لا تنزل بصاحبها عن مستوى العدالة، إلا أنها ليست في ذاك المستوى الساحق الذي تسامى عليه المهاجرون والأنصار - رضي الله تعالى عنهم - في اجتماعهم التاريخي الذي عقد في السقيفة، والذي جاء بالخير الكثير بعد نبيهم - عليه الصلاة والسلام -.
ولقد أدرك الصحابة هذا الخير العميم الذي نشأ عن ذلك الاجتماع التاريخي، والذي جاء به اختيار أبي بكر خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال أبو هريرة رضي الله عنه معبرا عن ذلك: والله الذي لا إله غيره، لولا أن أبا بكر استخلف ما عبد الله! ثم قال في الثانية، ثم قال في الثالثة.
فقيل له: مه يا أبا هريرة. فقال أبو هريرة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام فلما نزل بذي خُشب قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب حول المدينة، فاجتمع إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا بكر رد هؤلاء، توجه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة؟ فقال: والذي لا إله غيره، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رددت جيشا وجههه رسول الله ولا حللت لواء عقده رسول الله.
فوجه أسامة، فجعل لا يمر بقبيلة يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم. فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين، فثبتوا على الإسلام [18] .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكأنه يرد على وسوسة منافق أو مشكك أراد نشرها، قال:.. فلا يغترن امرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة، ألا وإنها كانت كذلك، ألا وإن الله عز وجل وقي شرها، وليس فيكم اليوم من يقطع الأعناق مثل أبي بكر.(12/267)
ثم قال: "أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمرا هو أقوى من مباعة أبي بكر " [19]
هذا وقد دلت الأحداث وتصرفات أبي بكر الحكيمة المحكمة، ومواقفه الموفقة، على فضل اجتماع السقيفة وانتخاب الصديق، وأن ذلك كان بإلهام وتوفيق من الله تعالى للمهاجرين والأنصار - رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم - وذلك برهان قوله عليه الصلاة والسلام: " يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ".
عبد الله بن سبأ اليهودي هو أول من وضع عقيدة: وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن من تمام هذه الحلقة، من هذا البحث، أن نشير إلى ما يذكره التاريخ عن عقيدة "الوصي لرسول الله صلى الله عليه وسلم " كيف نشأت ومن وضعها، ومن أول من اعتنقها وصدقها.(12/268)
يذكر المحققون من مؤرخينا الأفذاذ كابن جرير الطبري - رحمه اله تعالى- أن أول من وضع عقيدة "الوصي لرسول الله صلى الله عليه وسلم " هو الماكر اليهودي الخبيث عبد الله بن سبأ اليهودي، وذلك كجزء من مخطط اليهود، حينذاك لبذر بذور الفتنة بين المسلمين، وهذا ما عرفا به منذ القدم حين يعجزون عن مواجهة أعدائهم ومجابهتهم مجابهة مكشوفة صريحة، فيستديرون من الخلف بين أعدائهم ليفرقوا صفهم بالاستحواذ على الجملة منهم والسذج ذوي التفكير السطحي ممن يسهل خداعهم وتضليلهم. وهذا ما فعلوه بالمسيحيين والمسيحية التي جاء بها عيسى عليه الصلاة والسلام وفي عهدها الباكر على يد الماكر اليهودي الخبيث شاؤول، الذي دخل بالمسيحية "أو تظاهر بالدخول فيها "واتخذ اسم (بولس) فحرفها ووضع للنصارى عقيدة التثليث وسواها من الخرافات والشركيات والضلال.. فضاع بذلك التوحيد الذي جاء به عيسى عليه الصلاة والسلام وما زال النصارى حتى اليوم على الشرك الذي وضعه لهم اليهودي شاؤول. وهذا ما يعترف به كتاب النصارى أنفسهم، فيقول: "إن العقيدة والنظام الديني الذي جاء في الإنجيل ليس الذي دعى إليه السيد المسيح بقوله وعمله، إن مرد النزاع القائم بين المسيحيين اليوم بين اليهود والمسلمين ليس إلى المسيح بل إلى دهاء بولس ذلك المارق اليهودي والمسيحي ".(12/269)
ثم يقول: "إن بولس في تقليده لاسطفانوس داعي المذهب الإيساني قد ألصق بالمسيح التقاليد البوذية، إنه واضع ذلك المزيج من الأحاديث والقصص المتعارضة التي يحتوي عليها الإنجيل اليوم والتي تعرض المسيح في صورة لا تتفق مع التاريخ أصلا ليس المسيح بل بولس، والذين جاءوا بعده من الأحبار والرهبان هم الذين وضعوا تلك العقيدة والنظام الديني الذي تلقاه العالم المسيحي كأساس للعقيدة المسيحية [20] . الخ. ومن ثم فهو أو غيره يقول: إنه من الأولى أن تسمى المسيحية اليوم بالديانة البوليسية (نسبة إلى بولس) وليس المسيحية!
لقد حاول اليهود أن يعيدوا نفس التجربة مع الإسلام والمسلمين، فأوعزوا لهذا الماكر الخبيث الذي خرج من اليمن والذي عرف في كتب التاريخ باسم عبد الله بن سبأ اليهودي وبابن السوداء. فتظاهر بالإسلام وجعل يتنقل بين أمصار المسلمين، يبحث عن فلول المرتدين الذين قهرتهم قوة الإسلام ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم ممن قال الله تعالى فيهم: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} وكذلك جعل يصطاد السفهاء والحمقى، والجهلة والبسطاء والسذج ذوي التفكير السطحي المحدود ممن يسهل خداعهم، وأيضا جعل يتصل بمن عرفوا بالانحراف في السلوك فأوقفهم عثمان بن عفان رضي الله عنه عند حدهم وباتوا ينتظرون الفرصة كي ينتقموا لأنفسهم، فجاءتهم بفتنة عبد الله بن سبأ اليهودي.
مخطط ابن سبأ اليهودي لبذر بذور الفتنة بين المسلمين:
إن الذي يبدو لنا مما يرويه المؤرخون المسلمون عن تحركات ابن سبأ اليهودي واتصالاته ودعوته أنه كان يهدف لأمرين اثنين كهدفين أوليين مرحلتين وهما
1-إثارة الناس على الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه(12/270)
2-تمزيق صف المسلمين بالدعوة لأكثر من واحد من أبرز الصحابة وهم علي بن طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله - رضي الله تعالى عنهم - حتى إذا نجحت دعوته بإثارة الغوغاء على خليفة المسلمين عثمان رضي الله عنه لا يتمكن المسلمون بعده من الاجتماع على شخص واحد، وإنما ينقسمون إلى ثلاثة أحزاب.
ومن ثم بث الدعوة في البصرة لطلحة بن عبيد الله، واتصل لهذا الغرض برجل لص قهره عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو: حكيم بن جبله [21] ، فنزل عليه ابت سبأ اليهودي، واجتمع إليه نفر من أمثال حكيم وممن أشرت إلى نوعهم آنفا "فطرح لهم ابن سبأ اليهودي ولم يصرح فقبلوا منه، واستعظموه". [22]
لكن عبد الله بن عامر، والي البصرة أخرجه منها، فخرج إلى الكوفة، والتقى بأمثال من التقى بهم في البصرة، وبث فيهم الدعوة للزير بن العوام رضي الله عنه لكن مالي الكوفة أخرجه منها.. فخرج حتى جاء الشام فلم يجد فيها من يستجيب له، فتابع الطريق إلى مصر فوجد فيها تربة خصبة لفتنته فاستقر فيها، والتقى بأمثال من التقى بهم في البصرة والكوفة ولكنه جعل الدعوة فيها لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وصار يكاتب من استحوذ علهم في البصرة والكوفة ويكاتبونه.. وفي مصر وضع عقيدة الوصاية أي الوصي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولعله مثل ذلك في البصرة والكوفة، إلا أنه جعل الوصي لرسول الله صلى الله عليه وسلم في البصرة هو طلحة بن عبيد الله، وفي الكوفة هو الزبير بن العوام وفي مصر هو علي أبي طالب رضي الله عنه بغرض تفريق صف المسلمين كما قدمنا وأكتفي في هذه الحلقة بما ذكره ابن جرير الطبري في هذا الخصوص بما يلقي الضوء على ما نحن بصدده وهو الإشارة إلى أن أول من وضع عقيدة الوصي لرسول الله صلى الله عليه وسلم - من بعده – فيما نعلم - هو اليهودي الماكر عبد الله بن سبأ اليهودي.(12/271)
يقول ابن جرير: "فيما كتب به إلى السري عن شعيب، عن سيف [23] عن عطية، عن يزيد الفقعسي قال: "كان عبد الله بن سبأ يهوديا من أهل صنعاء أمه سوداء، فأسلم زمان عثمان، ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم، فبدأ بالحجاز، ثم البصرة، ثم الكوفة، ثم الشام، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام فأخرجوه حتى أتى مصر فاعتمر فيهم، فقال لهم فيما يقول: لعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب أن محمدا يرجع، وقد قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} فمحمد أحق بالرجوع من عيسى."قال:: فقبل ذلك منه. ووضع لهم الرجعة، فتكلموا فيها.. "ثم قال لهم بعد ذلك: إنه كان ألف نبي، ولكل نبي وصي، وكان علي وصي محمد. "ثم قال لهم: محمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء. "ثم قال لهم بعد ذلك: من أظلم لم يجز وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ووثب على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتناول أمر الأمة.
"ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حق، وهذا وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم فانهضوا في هذا الأمر فحركوه، وابدءوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس، وادعوهم إلى هذا الأمر [24](12/272)
وهكذا نجد أن الذي وضع عقيدة الوصي لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو عبد الله بن سبأ اليهودي بقصد تفريق كلمة المسلمين، وإفساد اعتقادهم.. وقد تابع عمله بغاية المكر والدهاء بحيث استطاع أن يستحوذ على عدد غير قليل من البسطاء والسذج ووجد الذين قهرتهم قوة الإسلام من فلول المرتدين، وكذلك من قهرهم حزم خليفة المسلمين عثمان بن عفان رضي الله عنه في إقامة العدل وحدود الله تعالى.. وجد هؤلاء وأولئك في دعوته متنفسا لحقدهم ومجالا لانحرافهم، فقاموا بفتنة كبيرة وجريمة نكراء أدت إلى استشهاد ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه وخروج طوائف من الإسلام مرقوا منه مروق السهم من قوسه.
زهير إبراهيم الخالد
مدرس التاريخ الإسلامي بالجامعة الإسلامية
--------------------------------------------------------------------------------
1 سيرة ابن هشام ج 4 ص 656 (القسم الثاني) تحقيق القازوميلية الطبعة الثانية 1375هـ- 1955م.
[1] السيرة النبوية لابن كثير تحقيق مصطفى عبد الواحد ج 3 ص 678. ط 1.
[2] السيرة النبوية لابن كثير تحقيق مصطفى عبد الواحد ج 4 ص 485 ط 1 1385هـ- 1966م.
[3] السيرة النبوية لابن كثير ج 1 ص 391.
[4] المصدر السابق ص 488
[5] المصدر السابق ص 490.
[6] المصدر السابق 494 – 495.
[7] المصدر السابق ص 491.
[8] المصدر السابق ص 496.
[9] سيرة ابن هشام تحقيق محي الدين عبد الحميد ج 4 ص 336.
[10] السيرة النبوية لابن كثير ج 1 ص 492 – 493.
[11] المصدر السابق ص 494. ويعلق ابن كثير على ذلك فيقول: وفيه فائدة جليلة، وهي مبايعة علي بن أبي طالب، وأما في أول يوم أو في اليوم الثاني من الوفاة وهذا حق، فإن علي بن أبي طالب لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات ولم ينقطع في صلاة من الصلوات خلفه.(12/273)
[12] المصدر السابق ص 493 ويعقب ابن كثير على قول الصديق ((وليتكم ولست بخيركم)) فيقول من باب الهضم والتواضع فإنهم مجمعون على أنه أفضلهم وخيرهم رضي الله عنهم.
[13] السيرة النبوية لابن كثير ج 1 ص 496.
[14] المصدر السابق ص 497.
[15] المصدر السابق ص 493 – 498.
[16] المصدر السابق ص 496.
[17] المصدر السابق ص 495 – 496.
[18] البداية والنهاية لابن كثير ج 6 ص 305. ط: 1 مصدره.
[19] مسند الإمام أحمد – رحمه الله تعالى - ج 1 ص 323 – 327 رقم 391. ط: 4.
[20] كتاب رجال الفكر والدعوة في الإسلام للشيخ أبي الحسن علي الحسيني الندوي ص 19 – 20 ط 3 1389 هـ- 1969م طبع بدار القلم.
[21] ورد في تاريخ الطبري برواية السري ما يلي: وكان حكيم بن جبلة لصا، إذا قفل الجيوش خفس عنهم، فسعى في أرض فارس، فيغير على أهل الذمة ويتنكر لهم، ويفسد في الأرض، ويصيب ما شاء ثم يرجع، فشكاه أهل الذمة وأهل القبلة إلى عثمان ن فكتب إلى البصرة حتى تأنسوا منه رشدا، فحبسه فكان لا يستطيع أن يخرج منها فلما قدم ابن السوداء نزل عليه "ج 4 ص 326 طبع دار المعارف 1963م تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
[22] المصدر السابق ص 326
[23] لقد اعتمدت رواية سيف فيما رواه عن الفتنة التي أوقعها استشهاد عثمان بن عفان t لأنها فيما يبدو لي حتى الآن أنها أصح الروايات.
[24] تاريخ ابن جرير الطبري ج 4 ص 340 – 341 طبع دار المعارف بمصر 1963م. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.(12/274)
جوانب من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم
الدكتور عبد الباقي علي قصة
أهم ما يميز الرسالة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، وهي رسالة الإسلام إنها تاريخية جامعة كاملة عملية، أما أنها تاريخية، فلأن التاريخ لم يقف عند حد تدوين سيرته، بل تناول كل ما يتعلق به من جميع النواحي، وحفظ الله ما نزل عليه من آيات القرآن الحكيم. .
ووقف جماعة من المسلمين حياتهم منذ العصر النبوي على حفظ أقواله وأفعاله وتقريراته، فكان رواة الحديث والمحدثين وأصحاب السير طبقات من الصحابة والتابعين، وتابعيهم حتى نهاية القرن الرابع من الهجرة، فلما اكتملت السنة جميعا وكتابة وتدوينا، كتب العلماء سير هؤلاء الرواة من الصحابة فيما عرف بعلم الرجال، وكانت هذه الرسالة كاملة لأنها شملت جميع أطوار حياة الرسول صلى الله عليه وسلم منذ البعثة، فحياة محمد منذ بعثته إلى وفاته معلومة، وهو في حياته، لم يحتجب عن عيون قومه، وقد روى التاريخ من سيرته اشتغاله بالتجارة وكيفية زواجه، ثم علموا حاله بعد أن نزل عليه الوحي، وحين واجههم وحين خالفوه، وعرفوا جهاده في سبيل إعلاء كلمة الله، وبذله النفس والنفيس في سبيل تبليغ دعوة الإسلام، وقد جمع علماء المسلمين من شؤون حياة النبي وأحواله حتى لم يبق شيء لم يذكروه، فقد "وصفوه في قيامه وجلوسه ونهوضه من النوم وهيئته في ضحكه وابتسامه وعبادته في ليله ونهاره" [1] ووصفوا حياته العائلية، وطهارته من الغسل والوضوء. بل أنهم تحدثوا عن هديه في تناول الطعام والشراب وركوب الدواب والبيع والشراء والتعامل مع الناس ومع أهله [2] وتناولوا المأثورات من أدعيته [3] .(12/275)
وعلى الجملة فقد أذن النبي لمن يحضر مجالسه أن يبلغوا عنه، وهو إذن عام يشمل ما يكون في بيته أهله وعياله وكان أصحابه وأزواجه يتناولون ذلك، ويسأل بعضهم بعضا عنه، وقد استمر الأمر على هذا منذ بعثه إلى انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخف عن أصحابه أمرا من أموره، ويكفي أن تقول عائشة رضي الله عنها: "لا تصدقوا من يزعم أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كتم مما أوحي إليه، فلم يبده للناس".
يقول المستشرق الإنجليزي باسورث سميث: "ترى الشمس ها هنا بارزة بيضاء تنير أشعتها كل شيء وتصل إلى كل شيء، لا شك أن في الوجود شخصيات لا نعلم عنها شيئا، ولا نتبين حقيقتها أبدا أو تبقى منها أمور مجهولة، بيد أن التاريخ الخارجي لمحمد صلى الله عليه وسلم نعلم جميع تفاصيله من نشأته إلى شبابه وعلاقته بالناس وروابطه وعاداته ونعلم أول تفكيره وتطوره وارتقاءه التدريجي"إلى أن يقول: "وإن عندنا كتابه (القرآن) لا مثيل له في حقيقته وفي كونه محفوظا مصونا وفي عدم التزام الترتيب في معانيه، وأنه لم يستطع أحد أن يشك في قيامه على أساس الصدق شكا يعتد به، فهو عندنا ممثل لروح عصره ومرآة لبيئته".
ويقول جيبن: "لم ينجح في الامتحان العسير رسول من الأولين من بداية أمره كما نجح محمد صلى الله عليه وسلم حين عرض نفسه بادئ ذي بدء بصفته رسولا يوحى إليه - على الذين عرفوا ضعفه البشري وعرفوه أكثر مما يعرفه غيرهم".
ويقول هيجنس في كتابه "الاعتذار عن محمد والقرآن": إن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم أحدثت في نفوس أصحابه من الحمية ما لم يحدث مثله في الأتباع الأولين لعيسى (عليه السلام) فقد انفض عنه حواريوه حين ذهب به أعداؤه ليصلبوه فخذلوه وأسلموه، أمل أصحاب محمد فالتفوا حوله، ودافعوا عنه مخاطرين بحياتهم (في غزوة أحد) إلى أن تم النصر على أعدائه".(12/276)
وليس هناك نبي من الأنبياء عرف من شؤون حياته ما عرف الناس من حياة محمد صلى الله عليه وسلم، وليس في حياتهم ما يمكن أن يتخذ مثلا أعلى للحياة الإنسانية إلا محمدا صلى الله عليه وسلم في هديه وسيرته فموسى عليه السلام عمر طويلا، فما الذي نعرفه من حياته الطويلة التي بلغت مائة وعشرين سنة؟ إننا لا نعلم إلا مولده وشبابه وهجرته وزواجه وبعثته، إن كل ما يعنينا من سيرة النبي الاجتماعية هي أخلاقه وعاداته وهديه، فهي الأسوة والقدوة في الحياة.
وعيسى عليه السلام وهو أقرب الأنبياء من محمد صلى الله عليه وسلم ماذا نعرف من حياته؟ إنه قد عاش ثلاثا وثلاثين سنة كما يروي الإنجيل، ولكن هذا الكتاب لم يشتمل إلا على ثلاث سنوات من أواخر حياته. .
وهكذا تبقى سيرة محمد صلى الله عليه وسلم النموذج الكامل للأسوة والقدوة الحسنة فهي الحياة الكاملة والسيرة الجامعة. . والكتاب الذي أنزله الله عليه وهو القرآن الكريم حفظه الله من التبديل والتحريف، أما أسفار التوراة فقد خالج الباحثين في أمرها الشكوك، وقد جاء في دائرة المعارف البريطانية "أن هذه الأسفار دونت وجمعت بعد موسى عليه السلام بقرون كثيرة، وأن فيها لكل حادثة روايتان مختلفتان" [4] .
وقد اقتصرت الأناجيل على أربعا غير إنجيل (برنابا) و (الطفولة) ولا يعرف شيء عن الذين قاموا بجمع هذه الأناجيل، ولا اللغة التي كتبت بها لأول مرة، وقد تناولت مجلة (روبر كورت) هذه المسألة فقالت: إن كل ما يوجد الآن في الأناجيل إنما هو بقايا مما ترك الوثنيون واليونان والرومان وثار الجدل حول: هل للمسيح وجود تاريخي؟ فإذا كان المسيحيون أنفسهم يثور بينهم الجدل على هذا النحو فماذا يقول الملاحدة من الماركسيين [5] .(12/277)
أما القرآن فقد تنزل منجما في نحو ثلاث وعشرين سنة هي فترة البعثة المحمدية، فكانت هذه الآيات يتلقفها الحفاظ من الصحابة، وكتبة الوحي وقد جمعت هذه الآيات مرتين مرة في عهد أبي بكر بإشارة عمر رضي الله عنهما حينما استمر القتل في القراء إبان حروب الردة في اليمامة والمرة الثانية في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي جمع الناس على مصحف واحد. . ولقد كان لآيات هذا القرآن على أسماع العرب من المشركين فضلا عن المؤمنين أثر كبير، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان لما سمعه من تلاوة آيات من القرآن في بيت أخته فاطمة من سورة طه بقراءة عبد الله ابن أم مكتوم ما رقق قلبه، ودفع به إلى الإيمان إعجابا بما سمع، ومن ذلك أيضا موقف الوليد بن المغيرة حينما أسمعه الرسول آيات من سورة فصلت رجع إلى قومه يقول: لقد سمعت من محمد كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو ولا يعلى عليه.(12/278)
ومن ذلك أيضا ما روي من أن أصحاب رسول الله اجتمعوا يوما فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبد الله بن مسعود: أنا قالوا إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوا به شرا، قال: دعوني فإن الله سيمنعني، فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها ثم قرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ..} فجعل يقرأ ما شاء الله له أن يقرأ، فجعلت قريش يقول بعضها لبعض: ماذا يقول ابن أم عبد؟ قالوا إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إليه يضربونه في وجهه. وظهر أثر ذلك حينما خرج أبو سفيان بن حرب وأبو جهل عمرو بن هشام والأخنس بن شريق الثقفي ذات ليلة يستمعون القرآن من رسول الله وهو يصلي في بيته، فأخذ كل منهم مجلسا يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعهم الطريق، وتكرر ذلك منهم، فإذا دل ذلك على شيء فدلالته البالغة أن القرآن أخذ بأسماع العرب، فمن كان طاهر القلب، صافي الحس والشعور تقبله بقبول حسن ومن كان عنيدا حاقدا وقف منه موقف المتردد، أو المعادي.
وبلغ من وقع القرآن على أسماع أعدائه أن قال قائلهم كما حكى القرآن عنهم {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} .(12/279)
ولابد لنا من الإشارة هنا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان هو المعلم الأول فقد كان لحكمة أرادها الله أميان لا يقرأ ولا يكتب، ولو سمح له بذلك لكان من أعظم من قرأ وكتب، ولكنه وقف عند الحد الذي أراده الله له، فظل أميا، لا يقرأ إلا بالمفهوم الذي نزلت به أول آيات الوحي، فإذا كانت القراءة في معناها اللغوي تعني الجمع بين الحروف وتأليفها في كلمات، وتأليف الكلمات في جمل تنطق بواسطة أدوات النطق من مكتوب فإن القراءة كما وردت في هذه الآيات الأولى كانت تعني أكثر من ذلك، وهو ما سبق أن أوردنا من أنه هو المعنى بقول الملك: للرسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء "اقرأ" ولذلك نجده يجيبه في المرة الثالثة بعد وعي ما أراده الملك "ماذا أقرأ؟ "وكان حينما أمره في المرتين السابقتين يجيب "ما أنا بقارئ" وحتى تتأكد أميته للعالم قبل البعثة فلما قال محمد صلى الله عليه وسلم تحت وطأة ما قام به الملك من غطة "ماذا أقرأ "في بعض الروايات، دل ذلك على أن النبي ربما يكون قد أدرك ما يعنيه الملك من القراءة، التي يفسرها ما ورد من أنه حينما ينزل عليه الوحي كان يحرك لسانه به ليحفظه فنبهه الله إلى عدم الحاجة إلى هذا التحريك فقال تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} .
وهذا الجزء الأخير من الآية فيه رد على من ادعى أن الحديث بلفظه ومعناه من عند محمد وهو قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} لأن الحديث هو تفسير ما جاء به القرآن ن فلفظ الحديث من عند محمد صلى الله عليه وسلم ومعناه وحي، أما القرآن الكريم فهو وحي بلفظه ومعناه. .(12/280)
ومع هذا فالإعجاز في أن يتلقى محمد صلى الله عليه وسلم الوحي وهو على هذه الصورة من العنف ويتشوق إليه فقد كان يتمثل في الجهد الشديد الذي عبرت عنه عائشة رضي الله عنها فقالت: "ثم سري عن رسول الله، فجلس وإنه ليتحدر منه مثل الجمان في يوم شات، فجعل يمسح العرق عن جبينه".
وقد اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم كتبة للوحي ممن عرفوا بالقدرة على ذلك من الصحابة، وكانوا عددا محدودا في مكة، ولكنهم زادوا زيادة كبيرة عندما وجه الرسول عنايته بذلك حينما استقر في المدينة فكانت بداية ذلك أنه جعل فداء غير القادر من أسرى بدر من المشركين ويعرف الكتابة أن يعلم عشرة من أبناء المسلمين. . حتى أنهم ليكتبون الحديث عن الوحي من القرآن فينهاهم عن ذلك ويقول: "ومن كتب عني شيئا من ذلك فليمحه"أي من السنة خاصة "ولكن حدثوا عني".
وإذا كان القرآن الكريم هو معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم العظمى فإنه إذا كان قد أعجز في نمط تركيبه وتأليفه وبيانه وجرسه ومعانيه العرب وهم من هم في بلاغة اللغة. فإنه جمع العرب على لهجة قريش وهي اللهجة الأم، وليس هناك مجال لما أثاره مرجليوث وأضرابه وممن لف لفهم مثل الدكتور طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي" [6] .
فقد كانت مكة هي أم القرى ذات الطابع الديني والثقافي الأمثل ولابد وأن شعر الجاهليين كتب بلهجة قريش وحتى يثبت إعجاز القرآن بتحدي العرب. . وما زال القرآن قائما - بحفظ الله - للتحدي في مجالات كثيرة غير الإعجاز البلاغي واللغوي والعلمي ولعل أعظم ذلك جميعه ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من أن جدته لا تبلى على كثرة الرد، فهو ربيع دائم.
هذا ولقد سألت العقاد يوما في ندوته: ما أثر الإمام ابن تيمية في الفكر الإسلامي؟ قال: أعظم الأثر. قلت: وما دلالة ذلك؟ قال: إنه أوجد منطقا قرآنيا [7] .(12/281)
فقد أدرك هذا الإمام الكبير مدى ما جناه منطق أرسطو على العلوم العربية وعلوم العقيدة والشريعة فأفسد أسلوبها وأساء مناهجها وقضاياها.
وقد بلغ التحدي من القرآن مداه للعرب حيث قال الله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
ولم يجد العرب بعد أن أعيتهم الحيل وبعد تأمل وتفكير وإمعان وتدبير إلا أن يوهموا الناس أنه سحر، وأن محمدا ساحر، وهو اتجاه له دلالته، إذ هي كلمة حق أريد بها باطل، ولذلك نجد القرآن الكريم إزاء هذه الشبهة التي حاكها الوليد بن المغيرة يهدد هذا المشرك تهديدا شديدا ويصمه بالعار قال تعالى من سورة المدثر: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودا وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كلا كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآياتنَا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} ومن سورة القلم قوله تعالى: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيم} .
ونتساءل: لماذا وقف القرآن هذا الموقف من الوليد بن المغيرة؟ والجواب: لأنه أوجد بهذا العناد شبهة، وقد كان أقرب إلى الإيمان حينما لمس هذا النمط الفريد من الترتيل، ولكنه نأى بنفسه بسبب عناده وجهله بعيدا عن النور، وليهيم مع مشركي مكة في دياجير الظلمات حتى يتخطفه الموت.
ووقع تدبيرهم هذا بعد هذه المرحلة في غباء الحقد الأعمى فإذا بهم يتفقون على أن يحذروا كل قادم من سحر محمد فتكون النتيجة على عكس المطلوب ولعل خير دليل نسوقه في هذا المجال قصة إسلام عمر وابن الطفيل.(12/282)
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد تنزل عليه القرآن نمطا فريدا معجزا من التعبير بواسطة حروف اللغة العربية، فإن من يقرأ الأحاديث النبوية يستطيع أن يلمس صورة من صور التعبير تمتاز بالابتكار والإبداع فالسنة هي المذكرة التفسيرية للقرآن، وهي المستوى الأمثل في توضيح آيات الكتاب العزيز، ومع هذا لا يستطيع أحد أن يقول إن هذا النمط من التعبير يرقى إلى المستوى الذي جاء به القرآن، فالفاصل بين الأسلوبين واضح. .
والفاصل بينهما وبين ما عرف من شعر العرب في الجاهلية والإسلام أكثر وضوحا، وقد وقف القرآن موقفا محددا من الشعر والشعراء قال تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} ومع هذا الموقف المحدد فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أثنى على الصدق في قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل.
وكان يستمع إلى الخنساء من شعرها في رثاء أخيها صخر ويقول: "إيه يا خناس"وقد أهدى بردته لكعب بن زهير حينما ألقى قصيدته يعتذر فيها من موقفه في هجائه ومعارضته للدعوة الإسلامية بعد أن أهدر دمه أثناء فتح مكة، وكان من أصحابه من الشعراء من يستمع إلى قصائده التي ينشرها بين يديه حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة.(12/283)
وقد كتب للرسول صلى الله عليه وسلم عدد من أصحابه منهم علي بن أبي طالب، وعبد الله بن الأرقم، وخالد بن سعيد، وأخوه أبان، وزيد بن ثابت وعبد الله بن أبي بن سلول، وأبي بن كعب القارئ ن كما كتب له في بعض الأوقات أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم جميعا وكتب له كثيرا معاوية بن أبي سفيان، وكذلك الزبير بن العوام ومعيقيب ابن أبي فاطمة، والمغيرة بن شعبة، وشرحبيل بن حسنة، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وجهم بن الصلت وعبد الله بن رواحة، ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وحنظلة الأسيدي وهو حنظلة بن الربيع [8] .
وقد قام بعض هؤلاء بكتابة الوحي كما قام البعض الآخر بكتابة ماعدا ذلك من كتبه. . ومن أهم الوثائق التاريخية التي كتبت في العصر النبوي الكتاب الذي أملاه الرسول صلى الله عليه وسلم في موادعة يهود المدينة. . وهو يمثل الميثاق الذي حددت فيه العلاقات بين جميع أفراد مجتمع المدينة وقد تم فيه وضع ملامح المجتمع الإسلامي الجديد والعلاقات بين مجتمع الفئات على اختلاف الدين والعرق والجنس في الحدود التي رسمها الإسلام.
هذا بالإضافة إلى كتبه التي أرسلها مع رسله إلى الملوك والأمراء في جميع البقاع، ومنها كتابه الذي أرسله إلى النجاشي في أمر المهاجرين إلى الحبشة ومنها الوثيقة التي أملاها رسول الله على علي بن أبي طالب فيما فاوض عليه سهيل بن عمرو رسول الله بشأن صلح الحديبية.
ومن ذلك كتابه صلى الله عليه وسلم على ثقيف، وكتابه ردا على كتاب ملوك حمير، وكتاب مسيلمة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ورده عليه، وغير ذلك من الكتب وعهود الأمان.(12/284)
وقد بلغ عدد الصحابة رضوان الله عنهم في حجة الوداع مائة ألف، منهم عشرة آلاف صحابي ذكرت أسماؤهم وأحوالهم في كتب التاريخ وهذه إحصائية ببعض أسماء الصحابة الذين امتازوا بكثرة ما حفظوه من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وعدد ما روى من الأحاديث، وهي تمثل طبقة من الصحابة امتازوا بقوة الحافظة وصفاء الذهن:
الصحابي
عدد مروياته
سنة وفاته
أبو هريرة
5374
59
مبد الله بن عباس
2660
68
عائشة بنت أبي بكر
2210
58
عبد الله بن عمر
1630
73
جابر بن عبد الله
1560
78
أنس بن مالك
1286
93
أبو سعيد الخدري
1170
74(12/285)
ومن هنا يتبين أن العربية الذاكرة كانت قوية، ذلك أنه من سنن الله في خلقه أنهم إذا أكثروا من استعمال قوة من قواهم ازدادت قوة وحيوية، وقد مرن الصحابة منذ نزل الوحي على حفظ القرآن كما مرنوا على حفظ الأحاديث حتى بلغوا في ذلك حدا بعيدا وعلى هذا الأساس يمكن القول أن الذاكرة الواعية عند العرب منذ عصر الجاهلية أوجدت هذا اللون من الاستعداد الذي لم يعرف في تاريخ البشرية وأن الوثائق التاريخية الإسلامية في العصر النبوي اعتمدت على وسيلتين الكتابة والحفظ وأن القرآن الكريم امتاز على السنة بأنه حفظ بالوسيلتين وأن الوثيقة الشفوية المحفوظة كان لها نفس القوة في تاريخ النبوة من ذلك ما كان من بيعة العقبة الأولى والثانية فقد وجد الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه مضطرا حينما واجه جيش المشركين في بدر أن يشاور أصحابه وبخاصة الأنصار. . لأن البيعة الثانية التي على إثرها وبمقتضاها هاجر الرسول وهاجر أصحابه قد نصت على أن يحمي الأنصار رسول الله مما يحمون منه أزواجهم وأبناءهم داخل المدينة لا خارجها، ولم يطمئن الرسول حتى قال له سعد بن معاذ: والله لكأنما تريدنا يا رسول الله، قال: "أجل"قال: فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوا غدا، إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء، ولعل الله يريك ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.
الدكتور عبد الباقي قصة
كلية العلوم الاجتماعية
الرياض
--------------------------------------------------------------------------------
[1] راجع الندوي: الرسالة ص 104.
[2] راجع زاد المعاد لابن القيم.
[3] راجع المأثورات للشيخ حسن البنا.
[4] راجع مادة بابيل في الطبعة الحديثة من دائرة المعارف البريطانية.(12/286)
[5] راجع مقدمة كتاب حياة المسيح لعباس محمود العقاد.
[6] راجع "مطلع النور "لعباس محمود العقاد، ومقدمة "الظاهرة القرآنية "لمالك بن نبي.
[7] راجع الرد على المنطقيين لابن تيمية.
[8] راجع الروض الأنف للسهيلي ج 4 ص.26(12/287)
الندوة العالمية عن المسكرات
تلخيص فضيلة الشيخ محمود فايد
في الفترة ما بين 21 نوفمبر إلى 5 ديسمبر 1975 م. أقيمت ندوة عالمية عن المسكرات والمخدرات في مدينة المنامة بالبحرين وحضر الاجتماعات وفد من المملكة العربية السعودية أبرز دور الشريعة الإسلامية في معالجة هذه المشكلة، وقد أبدى كثير من المشتركين تفهمهم لهذا الدور، واقتناعهم به، وانتهت الندوة بهذه التوصيات.
(1) مناشدة الحكومات في جميع الدول بأن تهتم ببذل أوجه النشاط في مكافحتها، وتعمل على تنسيق الجهود بين العاملين لإيجاد أفضل الأساليب في العلاج والوقاية.
(2) يناشد المؤتمر الدول العربية وهيئة الأمم بتقديم المعونات المادية والفنية إلى لبنان حتى يستطيع المضي في مشروعات التنمية الشاملة بهدف القضاء على زراعة الحشيش في أراضيه.
(3) يناشد المؤتمر دول الشرقين الأدنى والأوسط التي تزرع خشخاش الأفيون تقديرا لظروفها أن تفرض رقابة فعالة على الأفيون الناتج منها لتحول دون تسربه إلى الأسواق للاتجار غير المشروع حماية للمجتمعات من ويلاته.
(4) يناشد المؤتمر الدول الأعضاء بلجنة الاتجار غير المشروع (تركيا، إيران، أفغانستان، الهند) إلى عقد اجتماعات دورية لتدعيم التعاون بين أجهزة المكافحة مع نظائرهم في الدول العرية.
(5) يناشد المؤتمر الدول المنتجة للقات والتي يستهلك فيها بتبصير المواطنين بأضراره المتنوعة كما يناشد المكتب الدولي بببذل الجهود المختلفة للمعاونة في حل هذه المشكلة وكشف تأثيرات القات على الكيان البشري.
وفي مجال الوقاية العامة يوصي المؤتمر بما يلي:
(1) الاستفادة من تطبيق الشريعة الإسلامية وكيفية علاجها لمشكلة المسكرات والمخدرات.
(2) تنشئة أولاد الأسرة تنشئة صالحة تمنعهم من تعاطيها.(12/288)
(3) توفير الضمان والرعاية الاجتماعية لأسر المدمنين وحماية أفرادها.
(4) نشر الوعي الصحي بين أفراد الشعب وتلاميذ المدارس في جميع مراحلها حفاظا على طاقاتهم ومستقبلهم.
(5) تجنيد وسائل الإعلام المختلفة للقيام بنشاط هام في هذا المجال.
(6) مطالبة الدول التي تسمح بتعاطي المسكرات باتخاذ ما يلزم لمنع ذلك أو الحد منه وفقا لظروف كل بلد.
(7) إلزام المصانع المنتجة للمسكرات إعلان بارز عليها يحذر من أضرارها، ويجب الدعاية لها.
وفي حقل العلاج الطبي والنفسي يوصي المؤتمر:
(1) تشكيل وحدات تتألف من المتخصصين في لدين والطب والكيمياء للكشف عن أخطارها وتوفير سبل العلاج.
(2) يوصي المؤتمر بأن يبادر المجلس الدولي للمسكرات ومكافحة الإدمان بإجراء دراسات على ضوء ما أجرته بعض الدول والجمعيات الطبية والخيرية وإعدادها للعرض في مؤتمر بغداد الذي سيعقد سنة 1976.(12/289)
الأسلوب الإسلامي لوقاية المجتمع من الخمر والمسكرات
الدكتور أحمد عبيد الكبيسي
حقيقة الخمر ونشأتها:
الخمر: كلمة عربية، ويرجح أنها مستعارة من الآرامية على الرغم من شيوعها في الشعر الجاهلي، وسميت خمرا، لأنها تركت فاختمرت، واختمارها: تغير ريحها. وقيل: سميت بذلك لمخامرتها العقل.
أما "وين" فهي الصيغة العربية للكلمة العبرية "بين"ومعناها: العنب الأسود [1] غير أن صاحب اللسان قد نقل عن ابن بري: أن "الوين"هو العنب الأبيض، أما بقية من نقل عنهم فيذهبون إلى أنه العنب الأسود.
ولا يمكن تحديد الزمن الذي اكتشفها الإنسان فيه، ويظهر أنه عرفها منذ زمن بعيد جدا [2] . فلقد جاء ذكرها في التوراة، وكانت شائعة في عصر الرومان واليونان.
ولقد ارتبط انتشار الخمر بانتشار النصرانية، فمن المعروف أن جميع الأديرية القديمة كانت محاطة بالكروم التي تعصر الخمر بها بغية استعمالها بالصلوات الكنسية [3] .
ثم من تطور الزمن فاصبح للخمر صناعة تنتج أنواعا مختلفة منها.
موقف المجموعة البشرية من الخمر:
لم تتردد أي مجموعة من المجموعات البشرية على اختلاف تكوينها، وتباعد الزمن فيما بينها، واتساع المساحة بين مواطنها في الوقوف من الخمرة موقف المعارض لها فكرا، والمعادي لها شيوعا، والمتردد منها تعاطيا، ولم يعرف عن أي فكر اجتماعي، أو دين سماوي أن شجع على الخمر [4] أو أباح تعاطيها إباحة مطلقة، أو نظر لها نظرة الاحترام والتكريم [5] .
فقد حرمتها الديانة اليهودية على وجه الإجمال. فقد أوجبت التوراة على الناذر الذي نذر نفسه للرب أن يمتنع عن الخمر والأتربة.(12/290)
فقد جاء في التوراة ما نصه [6] : "وكلم الرب موسى قائلا: إذا انفرز رجل وامرأة لينذر نذر النذير لينتذر للرب، فعن الخمر والمسكر يفترز، ولا يشرب خل الخمر ولا خل المسكر، ولا يشرب من نقيع العنب، ولا يأكل عنبا رطبا ولا يابسا، كل أيام نذره لا يأكل من كل ما يعمل منه جفنة الخمر من العجم حتى القشر".
وكان الكهنة يمتنعون عن الخمر قبل قيامهم بالفرائض سواء بسواء بأمر من التوراة التي جاء فيها ما نصه [7] : "وكلم الرب هارون قائلا: خمرا ومسكرا لا تشرب أنت وبنوك معك عند دخولكم إلى خيمة الاجتماع"
والنبط - أيضا - تجنبوا الخمر. ووصفوا أحد آلهتهم في نقوشهم بأنه "الإله الخير الذي لا يقرب الخمر" [8]
كما أن تحريم الخمر يدخل في القاعدة التي قال بها كثير من قساوسة النصارى.
وكل ذلك له أصوله في ماضي الساميين السحيق الذي جعل للخمر والأشربة صفة من صفات الشياطين.
وقد تميز عصرنا الحاضر بالمعالجة الموضوعية، والمكافحة العلمية لجرثومية الخمر والمسكرات، نظرا لقوة ما وصلت إليه الخمر من شراسة في الانتشار وإبداع في الصنع، وتفنن في الدعاية، حتى استحكمت في النفوس، وتغلبت على الطباع، وتسلطت على الموارد.
فضعفت معها الرجولة، وتراخت أمامها الإرادة، وهانت في سبيلها الكرامة، وانعكس ذلك على الحياء العام في الشارع والبيت، وأثر على الإنتاج في المعمل والمؤسسة، وسطا على الأسرار والخطط في السياسة والحرب، وفي ذلك يقول فريد وجدي [9] : "ولو عمل إحصاء عمن في مستشفيات العالم من المصابين بالجنون والأمراض العضالة بسبب الخمر، وعمن انتحر وقتل غيره بسبب الخمر وعمن يشكو في العالم من آلام عصبية ومعدية بسبب الخمر وعمن أورد نفسه موارد الإفلاس بسبب الخمر وعمن يجرد عن أملاكه بيعا أو غشا بواسطة الخمر. لبلغت حدا مريعا نجد كل نصح بإزائه صغيرا.
فما هي إلا بلية تقع على رأس من قضى الله بها عليه من عباده.(12/291)
وإذا كان النصح لا يجدي أو هو لم يعد يجدي كما يقول فريد وجدي، فما هي الإجراءات التي يجب أن تفرض لغرض الحد من هذا الطوفان الجنوني الخطير؟
للجواب على هذا السؤال تبرز الحاجة إلى نموذج ناجح في التجربة، عملي في التطبيق، فعال في الأثر.
وهذا الأنموذج المطلوب - في نظر كثير من المنصفين - هو الأسلوب الإسلامي الذي لأفلح على مدى أربعة عشر قرنا من الزمان أن يجعل هذه الجرثومة تتوارى فلا تظهر في الطريق وتختفي فلا تشيع في المجتمع، وتتأخر فلا تتقدم في صناعة أو صيانة.
ونود التنبيه هنا إلى التصور الإسلامي لأهداف الحرب المعلنة ضد الخمرة لكي نكون واقعيين وموضوعيين بلا خيال أو مغالاة.
ولا أظن أحدا من الناس يتصور أن الإسلام - يحارب الخمرة والمسكرات - قادر على القضاء عليها قضاء تاما بحيث تختفي كما تختفي الحشرة الخبيثة بعد المكافحة المدروسة بمسحوق أو محلول يقطع دابرها، ويستأصل شأفتها، لا: ليس هذا هو الهدف.
وذلك: لأنه ما دام في الإنسان ميل طبيعي إلى اللذة، وما بقي في الفرد نزوع إنساني إلى المتعة، وما استمر البشر مدارا لمختلف العواطف والخلجات، فسوف يبقى هناك نفر يشربون الخمر.
وما دام في الأرض نخيل تحمل التمر وحقول تغل الشعير، ودوالي تفرز العنب، فسوف تبقى الدنان بالخمرة مملوءة، ولا يمكن القضاء عليها إلا بالقضاء على ذلك كله وهو أمر مستحيل. فهدف الإسلام إذن هو: أن يقضي على الوجود الشرعي للخمر ليطاردها القانون ويعمق الشعور بقبحها لتعافها النفوس، ويربي الضمير الفاضل لتتعارض مع المروءة، ويشدد العقوبة عليها لتختفي عن الأنظار.
وإذا اختفت الخمرة عن الأنظار شحت وتدنت، حتى إذا طلبها الراغب شق عليه منالها، وإذا عرضها التاجر هرب منه طالبها، وإذا تيسرت ظل الراغب والتاجر في خوف دائم وذعر مستديم من العقاب المهين.(12/292)
وبذلك تبقى واجهة الجماعة المعلنة نقية طاهرة، لا يلوثها فاقد، ولا يدنسها داعر، ولا يعتدي على نظافتها مستهتر أو متمرد، ومن استتر بعد ذلك فهو إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه.
وهذا الهدف سيكون نتيجة لإصلاح الفرد، وتقويم أخلاقه، وتربية ضميره تربية منظمة مدروسة.
وهذا هو الفهم المعاصر لإصلاح المجرمين والجانحين الذي يقوم على ركنين أساسيين [10] :
1- حماية الهيئة الاجتماعية من خطر السلوك الإجرامي، بحيث تبقى واجهة المجتمع آمنة مطمئنة نقية.
2-معالجة المجرم وإصلاحه وتقويمه ليصبح عضوا نافعا لنفسه ومجتمعه.
الدين سلاح فعال ضد الانحراف:
إن الكثير من مشاهير المصلحين وعلماء الإجرام في العالم يتفقون معنا على أن الدين من أمضى الأسلحة ضد الجريمة والانحراف، وكان التركيز منصبا على التعليم الديني في سجون العالم في القرن الثامن والتاسع عشر.
وحينما أسست نظم السجون في أمريكا في سنة 1790 في فيلادلفيا، اعتبر كل من التربية والتعليم الديني إجراء أساسيا في إصلاح السجن.
ولا يزال التركيز قويا حتى اليوم على استعمال سلاح الدين في محاربة السلبيات الخلقية في المدينة والسجن.
يقول الأستاذ عبد الجبار عريم أستاذ علم الإجرام في جامعة بغداد [11] ، ومما لاشك فيه: أن الاعتقاد الديني يلعب دورا هاما في ضبط سلوك الأفراد ومنعهم من ارتكاب المعاصي. فالدين الإسلامي يحرم الخمر والقمار، ومما لاشك فيه أن هذين العاملين من العوامل التي تلعب دورا أساسيا في الإجرام، وقد ثبتت فعالية الإسلام في منع المتدينين حقا من ممارستها.
"إن الدين لا يتناقض مع التربية الخلقية والأدبية، فكلاهما يستهدفان إقامة روادع ذاتية تسيطر على سلوك الفرد وتردعه عن الجنوح نحو الخطأ والرذيلة".(12/293)
"إن الدين يمكن أن يعتبر طريقة من الطرق التربوية التي تتناول كلا من الجوانب الروحية والخلقية، وكذلك الجانب الاجتماعي أيضا.
"ليس بإمكان الفرد أن يستغني عن الجانب المعنوي في الحياة، ولذلك فإن الدين يمكن أن يقدم خدمة في هذا المجال كوسيلة لتهذيب النفس ورفع مستوى الروادع الأدبية، وغرس نوازع الخير، والابتعاد عن الشر، وهذا كله يعتمد بالدرجة الأولى على تنمية الحس الوجداني في السجين وإيقاظ ضميره، وتقوية شعوره بالمسؤولية نحو الغير"اه
إذن فإن من الأمور البديهية: أن الدين يعمل على صحة النفس كما يعمل الغذاء صحة الجسد، والنفس الصحيحة تصدر عنها أخلاق صحيحة أيضا، كما أن الجسد الصحيح يصدر عنه عمل صحيح. ولا يستقيم أحدهما بدون الآخر.
إن القوي الذي يفعل ما يشاء ليس بصحيح، لأن النفس الصحيحة لا تنطلق كما تنطلق الآلة التي تملؤها قوة البخار، أو قوة الكهرباء، فتصطدم وتهشم، وتخبط خبط عشواء حيث تحملها القوة العمياء.
وعلى هذا فلا صحة بدون ضابط ولا يكون الضابط فعالا ومؤثرا غلا إذا كانت فيه القوة على تنمية القدرة على الامتناع، ورد النفس عن بعض ما تشاء، وليس معناه القدرة على العمل فحسب، ولا المضي مع النفس في كل ما تشاء.
وقد دل الواقع العملي على أن الدين هو من أقوى الضوابط للإنسان، ومن أشدها إحكاما للتصرف، ومن أعمقها تنمية للانضباط.
وإذا انضبط الإنسان فقد أصبح مخلوقا جميلا، يعلم ما يريد فيفعله، ويعرف ما يكره فيرفضه.
وعن انضباط الإنسان يقول الأستاذ العقاد رحمه الله [12] : "وهذا قبل كل شيء هو مصدر الجمال في الأخلاق: مصدره أن القوة النفسية أرفع من القوة الآلية. . مصدره أن يتصرف الإنسان كما يليق بالكرامة الإنسانية، ولا يتصرف كما تحمله القوة الحيوانية، أو القوة التي يستسلم لها استسلام الآلات.(12/294)
مصدره أن يكون الإنسان سيد نفسه وأن يعلم أنه يريد فيعمل أو يمتنع عن العمل، وليس قصاراه أن يساق إلى ما يراد.
إن المجتمع قد يملي على الإنسان ما يليق وما لا يليق، ولكنه لا يغنيه عن الضابط الذي تناط به جميع الأخلاق".
والدين هو الضابط الذي لا غنى عنه في كل خلق من الأخلاق، وبه يتسلط الفرد على ما يفرضه المجتمع عليه من حسن وقبح، فيأخذ ذاك ويترك هذا فيعلوا على المجتمع في كثير من الأحيان، وبدونه يتسلط المجتمع على الفرد في كل ما يفرضه عليه مما يليق، فيكون أسيرا لا يملك الاختيار غضيضا لا يحسن النظر، مشوشا لا يجيد الفرز والانتقاء.
والدين هو الضابط الذي يشعر الإنسان بالمسؤولية، ويجعله يحاسب نفسه بها، وبالتالي فإنه يرفض أن يرتكب ما يشين. يتعارض وجمال الأخلاق التي انضبط بضوابطها.
وهذا هو "عزم الأمور"الذي جعله القرآن الكريم من مظاهر السمت الجميل والخلق الفاضل، والشخصية الإنسانية الكريمة.
والقرآن الكريم أرسى قواعد المسؤولية الفردية، وأناط بها تكاليف الدين والأخلاق، "كل نفس بما كسبت رهينة " [13] وقال [14] : ولا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخر.
خلاصة القول: أن الشر - على العموم - ليس مشكلة علمية تحتاج إلى نتاج العقل، ولا مشكلة كونية تحتاج إلى تقدم العلم، ولكنه في حقيقته مشكلة العواطف الإنسانية، والهوى الجامح، والرغبة المتمردة، التي تجعل الإنسان يرفض الألم، ويجهد في أن يكون شعوره بالسرور والمتعة غالبا على تصرفاته وممارساته.
وهذا الشعور يقتضي علاجا يطابق طبيعته، وحكمة تلمس جوانب حقيقته ن ولا نعلم علاجا أو حكمة تطابق طبيعة ذلك الشعور غير الدين.
وإذا كان هذا الشعور الإنساني في هذه المشكلة يتطلب الدين، فليس هناك ما يمنع من الاستعانة على إيصال الدين وتعاليمه ونظرياته التربوية والأخلاقية بواسطة ما توصل إليه الإنسان من تقدمه في العلم والحضارة.(12/295)
لأن كل ما هو مطلوب في هذا الصدد هو: أن ترتبط التشريعات ومشاريع السيطرة على هذه المسألة بمفهوم العقيدة الدينية، وضبط الرغبة وعدم الإخلال بضوابط الفكر الديني ليكون للفرد رؤيته الواضحة، وحدوده المرسومة، واستجابته الذاتية.
لماذا الدين وليس التشريعات الوضعية:
جرى التطبيق العملي على حقيقة لا يمكن إنكارها، وليس في الوسع التغاضي عنها، وليس فيها ما يحتمل العناد والمكابرة، وهي:
أن الإنسان في أغلب أحواله لا يستسيغ امتثال القانون إلا إذا خشي طائلته، ويقبل على امتثال أحكام الدين من غير حاجة إلى رقيب، والإنسان عندما يمتثل أحكام القانون لا يحس بذلك الإحساس الروحاني الممتع الذي يحسه وهو امتثال لتعاليم الدين التي تضفي على نفسه الرضا، وتسبغ على روحه الطمأنينة، وتلبس تصرفاته بلباس الاحترام والقدسية.
ومن هنا نجد الملايين من الناس لا يشربون الخمر امتثالا لدوافع الدين في نفوسهم، وآلافا من الناس يشربونها مع علمهم بأن التشريع الوضعي يحرمها.
ففي العراق مثلا، أو مصر، يمتنع الناس عن الخمر مع أن القانون لا يعاقب شاربها. وفي الكويت أو الهند، أو أمريكا - في سني تحريم الخمر فيها - يقبل بعض الناس على الخمر سرا مع وقوعهم بذلك تحت طائلة القانون.
فما هي حقيقة النفسية التي تقف خاف هذه الظاهرة المتناقضة؟
الجواب عن هذا التساؤل يكمن في سير طبيعة الإنسان في عالمه الداخلي كله، وبجولة النظر في مداخل نفسه، ومطويات تفكيره، وخلفيات تصرفاته عامة.
لن في أعماق الإنسان عوالم شتى أشد سعة من العالم الذي يشاهده بعينيه، وليس لهذا العالم وجود بالنسبة الإنسان ما لم يكن له وجوده الباطن في علمه أو قرارة نفسه، وإلا فهو والمجهول عنده سواء.(12/296)
ومن الحقائق التي باتت مسلمة اليوم في علم النفس: أن الأعماق الخفية في الإنسان هي التي تفسر لنا أعمالنا الظاهرة حين تحتاج إلى تفسير شديد الوضوح ولا تجد تفسيرها الصحيح في الظواهر المحسوسة.
وآخر ما ثبت من تجارب "السلوكيين"الذين يفسرون السلوك النفساني بحركات الأعصاب وخوائج الدماغ وعوارض الوظائف الجسدية على التعميم: أن الوظائف الجسدية كلها مرتبطة بالإرادة، وأن الإرادة مرتبطة بوعي الدماغ ما بطن منها وما ظهر، على ما أثبتته مدرسة بافلوف"فيلسوف السلوكيين الكبير.
وهناك من علماء النفس من يوغل في القدم باحثا عن تفسير للتصرفات الإنسانية الظاهرة فيستعين على إرجاع هذه التصرفات إلى أصولها ن إلى تجارب البشر وحوادث التاريخ عبر الزمان.
ويقتصد بعضهم فينقب عن ذلك في موروثات الإنسان في أسرته وأصوله من قبل ميلاده، بينما يقتصر غيرهم على البحث عن ذلك في طفولة الإنسان وما اعتورها من أحداث، وما اعترضها من انعطافات والتواءات.
وإذا كان علماء النفس مولعين بنسبة كل تصرف إنساني لا يعجبهم إلى عقدة نفسية، فإنهم حتى الآن لم يفلحوا في أن يقدموا لنا الإنسان المثالي حسب تصورهم، ولا أظن بأنهم سيفلحون في ذلك لا لشيء إلا لأن كل وصف مثالي يضعونه لا يمكن أن يكون جامعا ولا مانعا ومن هنا فلا استقرار لقواعدهم، ولا برهان على ما يقررون.
غير أن أصح المذاهب النفسية في هذا الباب هو مذهب "يونج"عن النماذج البشرية، وهو يرى: أن الإنسان المثالي ليس نموذجا واحدا، وإنما هو نماذج متعددة، وذلك لاختلاف العامل الطبيعية التي يتبعها أن يكون لكل طبيعة نموذج مثالي. وعلى هذا فليس هناك نموذج بشري واحد يقاس إليه العمل الصحيح.(12/297)
وسواء كان الصواب إلى جانب هؤلاء أو إلى جانب أولئك، أو إلى جانبهما معا، فإنهم متفقون على أن ما عدا النموذج أو النماذج المثالية، فإن الإنسان فريسة عقدة نفسية هي التي تتحكم في سلوكه، وتحدد تصرفاته، وتفرض عليه المقدار المطلوب من السلبيات ن ومهمة الباحث أن يتعرف على تلك العقدة ليقوم بمحاولة حلها.
ومن العقد النفسية ما يقتضي لحلها تطور في المدنية والحضارة، أو تبدل في الأعراف والقيم، أ, سيطرة الحقائق الدينية والعلمية.
فالنوع البشري كله قد انحدر منذ آلاف السنين قبل عصور الشرائع وعصور المدنية والحضارة، وقد استقرت في أعماقه الباطنة باقات من المخاوف التي لا يضبطها عد أو حصر، وحزم من أنواع الرعب تتنافر أسبابها، وتختلف آثارها ونتائجها، لا يسبر لها غور، ولا تؤمن لها نكسة.
فقد عانى الإنسان القديم كثيرا من وطأة الخوف المستحكم من الوحوش الضارية، والسباع العادية، والمخاوف الشديدة من أشباح الظلام وشياطين المكر والغيلة وسطوة الجن ونمورهم، وذلك إلى جانب مخاوفه من البرق والرعد، ومن الأعاصير والسيول ومن السحر والخديعة.
وعانى الإنسان أيضا من مخاوف حقيقية لا تستند إلى الأوهام والخرافات. مثل مخاوفه من الحر والبرد، ومخاوفه من الجوع والعري، ومخاوفه من الأوبئة الفتاكة والأمراض المبيدة، ومخاوفه من أبناء جنسه من أعداء أو غرباء، وملاك، ومالكين.
ويستمر الزمن في دوارنه، وتتعاقب الأزمنة عصورا ودهورا وقرونا ويتوارث الجنس البشري هذه المخاوف حتى يصبح الخوف سمة تميز الفرد، وعبئا يثقل نفسه، وقيدا يشل عقله.
ثم تأتي الحضارة وهي تحمل إلى الناس قوانينها وآدابها فتنال ما هو ظاهر مكشوف من هذه المخاوف فتعالجه، ألا أنها تقصر دون ما هو مستقر في قرارة النفس من فزع مجهول، وحذر كامن، ووهم دخيل.(12/298)
وهكذا يبقى الجنس البشري موزعا بين عاملين: عامل الظاهر الذي يدركه عمل الحضارة، وعامل الباطن الذي هو سليل الشعور الموغل في القدم من وراء الحضارات والشرائع والقوانين.
والعامل الباطني هو أخطر ما في حياة الإنسان، لأنه يترجم إلى فزع في الظلام المطبق لا يدرى له سبب ن وخوف من المجهول لا يعرف له مبرر، وحذر من كل جديد أو وافد لا يعثر له على تفسير.
يقول الأستاذ العقاد في هذا المعنى [15] : "إن العقيدة النفسية الكبرى في أعماق النوع البشري قد تتلخص في كلمتين وهما: المخاوف المجهولة.
وإن الشفاء من تلك العقدة يتلخص في كلمتين أخريين، وهما: الثقة البصيرة. . والثقة البصيرة في كلمة واحدة، وهي: "الإيمان" لأنه أمان وائتمان. أو نعيد القول بعبارة أخرى فنقول: إن الإيمان هو: الدين القويم.
وقد يقول قائل: لماذا لا يكون الأمان من تلك المخاوف الكامنة في أعماق النفوس البشرية منوطا بالسلطة المتمثلة في رئيس القبيلة، أو قوة العشيرة، أو سلطان الحكام والأولياء عل الجماعات والشعوب ممثلا في القوانين والتشريعات؟
والجواب المقنع على هذا التساؤل يتلخص في أن السلطان الإنساني - في أغلب الأحيان - يبدو وكأنه كبت فوق كبت، وخوف على خوف، وتخويف يعقب تخويفا من نوع آخر. وبهذا يكون مدعاة إلى التمرد عليه كلما خلا الإنسان إلى هواه، وأمن الرقابة، وابتعد عن الحساب.
ومن هنا تبرز الحاجة إلى مصدر للأمان الذي يتبعه الإيمان من سلطة فوق سلطة البشر، يدين بها الخاضع لها لأنه مطمئن إليها، وواثق بها وقريب منها وهي مشاعر وأحاسيس تسبق الخوف من العقاب.(12/299)
ولقد تبينا من تاريخ النوع البشري أن تربية ما لم يفلح في أن تحقق للإنسان هذا النوع من الوضع المناسب عدا تربية الدين، تلك التربية التي تترقى به كلما ترقت في طريق الثقة البصيرة وتحدد له موقعه المرغوب كلما وصلت إليه بالأسلوب النقي العالي الذي يمزج بين الروح والجسد.
من هذه الوجهة يرتبط إصلاح النفس بالدين على المستوى الفردي والمستوى الجماعي، ولاسيما الدين الذي تهيأت له النفوس بعد التقدم في معارج الحضارة. فإن هذا الدين يلتقي بالنوع الإنساني في إبان حاجته إليه، واستعداده لتلقيه، ويلتقي به الفرد طلبا لعلاج دائه الأكبر: داء المخاوف المبهمة، بدواء الثقة واليقين البصير.
فقد ثبت - من الوجهة العلمية - أن العقيدة هي التي تعصم الإنسان من العلة التي ترجع إليها جميع الأمراض النفسية، وهي علة الانقسام الداخلي التي توزع بين النفس النقائض والأضداد وتفقدها الوسيلة التي توحد بها مسلكها، وتعيد بها الوئام والألفة بين مقاصدها ونزعاتها.
يقول الأستاذ العقاد أيضا [16] : "ليس أخطر على الإنسان الفرد من توزيع الفكر والنية بين النقائض المختلفة، ومن هذا التوزيع الأليم ينساق الفكر إلى بلباله المريض، ويقع في الداء المعروف بداء الفصام، أو انقسام الشخصية.
ويقترن بهذا الخطر - وقد يكون من أسبابه - داء الحيرة بين حياة الروح وحياة الجسد، وبين تغليب حياة الروح بالجور على المتعة الحسية، وتغليب حياة الجسد بالاسترسال مع الشهوات، والإقبال على الذات الحيوانية دون غيرها، ويتحقق الخطر على الطبع السليم عند الوقوف في مفترق الطريق بين المتدابرتين كأنهما عدوان متقاتلان، ينتصر أحدهما بمقدار ما يصيب الآخر من الخذلان والهزيمة"
"وفي الإسلام عصمة من كل داء من أدواء هذا الفصام الذي يمزق طوية الفرد، أو يمزق صورة الوجود كله بين خصومات الفكر وخصومات العقيدة، وخصومات المثل العليا في كل قبلة تتجه إليها.(12/300)
فليس في الإسلام عداء بين الروح والجسد، وليس للجسد فيه محنة تتحنه بالصراع بين الطيبات المشروعة من متعة الروح والجسد.
وفي ذلك يقول تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [17] .
فليس في العقيدة الإسلامية إنسان متصدع يتوزع بين نوازع الروح ونوازع الجسد، وليس فيه ضمير متصدع يتوزع بين الدنيا والآخرة، وليس فيه عالم متصدع يتوزع بين السماء والهاوية، ولا خليقة متصدعة تتوزع بين اللعنة الأبدية أو المغفرة الأبدية.
وفي عقيدته ما يعصم من كل فصام. وليس في عقيدته منفذ لفصام تتسرب منه أدواء النفوس، وكل أدواء النفوس فإنما يرجع إلى الشقاق البعيد في ضمائر مرضى القلوب.
وأن ما يعانيه المدمنون على الخمر والمسكرات إنما هو أزمة ضمير أثقله الخوف فراح ينشد الأمن بالغيبوبة، ومزقته الحيرة فطفق يقتلها بالمخدر، وأضناه التمزق والانفصام فهرب إلى النوم اليقظ.
والدراسات النفسية اليوم ترجع جميع الأمراض النفسية إلى مرض واحد، هو داء الضمير المدخول المنقسم ز وترجع جميع أنواع العلاجات إلى علاج واحد هو علاج الإيمان واليقين.
وهذا الدواء إنما هو عند الدين وليس عند غيره من التشريعات الوضعية، أو العلم. وذلك: لأن العلم وسيلة لما يمكن أو يعرف بعلم، ولا حاجة به إلى ثقة أو تسليم ن وإنما يؤمن الإنسان ليعرف كيف يثق وكيف يبصر مواطن الأمان، ثم يركن إليه ركون العارف الآمن، يقول محمد عبده رحمه الله: "هؤلاء الفلاسفة والعلماء الذين اكتشفوا كثيرا مما يفيد راحة الإنسان أعجزهم أن يكتشفوا طبيعة الإنسان ويعرضوها عليه حتى يعرفها ويعود إليها. هؤلاء الذين صقلوا المعادن حتى كانت من الحديد اللامع المضيء، أفلا يتيسر لهم أن يجلوا ذلك الصدأ الذي غشي الفطرة الإنسانية، ويصقلوا تلك النفوس حتى يعود إليها لمعانها الروحي؟.(12/301)
حار الفيلسوف في أوربا وأظهر عجزه مع قوة العلم، فأين الدواء؟.
الدواء في الرجوع إلى الدين، فالدين هو الذي كشف الطبيعة الإنسانية وعرفها إلى أربابها في كل زمان، لكنهم يعودون فيجهلونها.
إذن فإن الأزمة في كل الانحرافات إنما هي أزمة الضمير الممزق الذي يستهويه الهروب، ويريحه الخدر، ويسعده النوم.
والدين هو الذي يمنح الفرد مقياسا للحياة يرتفع به عن الاستسلام للذة المجردة، والمتعة المطلقة، وهو مقياس الضمير المستقل، الذي يؤدي وظائفه بناء على إيمان راسخ بالقواعد الثابتة.
وإذا كانت الأديان العالمية توصف دائما بأنها ثورات واسعة، فإن هذه السعة لا تقاس بمدى الأرض التي تغطيها، ولا بعدد الأفراد الذين يعتنقونها، وإنما تقاس سعتها بمدى التغيير الذي في ضمير الفرد، ومدى الانضباط الذي تفرضه على هذا الضمير الذي يتلقى هذا الفرض بثقة وإيمان وتسليم، حيث ينعكس هذا الإيمان على جميع أعماله وتصرفاته.
وحينئذ لا حدود لذلك التغيير الذي تحدثه ثورة الأديان في ضمائر الناس ونفوسهم، لأنها تتناول كل ما تزاوله النفس من شؤونها الظاهرة والباطنة، تتناول الأفكار الواضحة، والهواجس الخفية، كما تتناول العادات والأخلاق وتنظم العرف والقانون كما تنظم الحياة الاجتماعية والدساتير الحكومية، فهي تلحق بكل فرع من فروع التصرفات والوقائع لأنها لحقت قبل ذلك بالأصل الموجه الذي هو "الضمير".
وإذا صلح الضمير، فإن له أثرا مباشرا على جميع تصرفات الإنسان من حيث انسجامها مع ما في هذا الضمير من فكر وعقيدة. ونتكلم عن أثر الضمير الديني في الأفعال، فنقول:
أثر الضمير الديني على التصرفات:
الضمير الديني فعال الأثر في ما يتعلق بربط الفرد بالرقيب الذي لا ينام، وبالعالم الذي لا يجهل، وبالمطلع الذي لا يخفى عليه شيء.(12/302)
وحينئذ لن يكون من اليسير على هذا الفرد - وهو بهذا الموقع - أن يكون على السبيل المتعرج، والدروب الخلفية ما دام قد نصب من ضميره رقيبا على أعماله وحسيبا على تصرفاته.
وبهذه الرقابة الطوعية يكون الإنسان قد وجد نفسهن واكتشف ذاتهن وسلمت له الفضيلة بهذا المدد الذي جعله الله أساسا لاستقامة الحياة منذ أن خلقه الله وعلق به عمارة الكون: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [18] .
وللضمير الديني عند الفرد سلطان قوي وأثر فعال يفوق سلطان التشريعات الوضعية بكثير، من حيث الضمير موجه من غير أمر، ناصح من غير تهديد، مقنع من غير نكال.
أما التشريعات والقوانين الوضعية، فقد جبلت النفوس على النفور منها، والتمرد عليها، لأنها مفروضة من سلطة خارجة عن الاختيار، ويجد الفرد - في الأغلب - ما يبرر موقفه المناوئ والمتخبط من تلك السلطة ومن أجل هذا كانت التشريعات المتسمة بالإقناع والحجة ومخاطبة العقل والضمير أكثر تقبلا واستجابة. لأنها تخاطب سلطة الضمير الديني الذاتية النابعة من أعماق الفرد، وتهيمن على شؤونه، وتشرف على تصرفاته.
ولقد عبر القرآن الكريم عما نسميه الضمير الديني ب "تقوى الله"فندب المؤمنين إليها وحثهم عليها، وناداهم بوصف الإيمان ليحملهم حملا قويا على تنفيذ ما ندبهم إليه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .(12/303)
ونظرا لأهمية التقوى "الضمير الديني"في تحديد حسن استعمال الفرد لحريته الشرعية نرى الأنبياء جميعا قد اتفقوا على مبدأ استعمال الضمير الديني استعمالا مؤثرا ومخاطبة الفرد من خلاله. فما من نبي إلا وقد دعا قومه إلى تقوى الله من أجل أن يكون هناك ضمير ديني مؤثر: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} [19] . {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ} [20] . والأمثلة على ذلك كثيرة.
وسائل تربية الضمير الديني:
من أجل أن يكون للفرد ضمير ديني مؤثر شرع الله من الأسباب ما يوصل الفرد إلى هذا الموقع المرسوم. ومن بين تلك الأسباب "العبادات"التي هي في ظاهرها علاقة بين العبد وربه وهي في معناها تربية الضمير الديني لدى الفرد الذي يجعله مشدودا إلى الجماعة بقوة روحية تحكم ميوله وتوجه إرادته، وتحدد سلوكه، فتحقق الالتزام والانضباط قبل أن تتدخل القوانين لرسم الطريق.
فمن صلاة تقي الفرد مواقع السقوط إلى صيام يربي العقل ويروض الروح ويعف اليد ويهذب اللسان، وإلى زكاة تغرس في الفرد حب التعاون والشعور بالمسؤولية، إلى حج يوفر للفرد امتزاجا اجتماعيا عالميا، إلى صدقة ترقق القلب وترهف الشعور.
وهكذا نجد أن العبادات الإسلامية تتجه إلى تهذيب ضمير الفرد ليكون مستعدا للتلاحم مع المجتمع الفاضل من أجل غاياته الفاضلة.
فإن القلوب إذا صلحت انعدمت فيها طاقة التفكير في الشر، والتخطيط للجريمة، والإصرار على الخطأ، فإن الجريمة تبدأ أول ما تبدأ في ضمير الإنسان وفكره قبل أن تأخذ طريقها إلى حيز التنفيذ: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" [21] ، "والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس" [22] .(12/304)
والحقيقة التي لا مراء فيها بعد ذلك هي: أن الضمير الديني إذا ما تربى على هذا النحو الذي رسمه الإسلام، فإنه يتوفر لدينا أقوى الأسباب لوقاية الفرد والمجتمع من جميع أشكال الانحراف في كافة المجالات ومنها: الإقبال على هذه الجرثومة التي هي آفة العقل السليم، والتفكير المستقيم، والرأي البناء، وبهذا السبب وحده امتنع الملايين من الناس منذ أن حرم الله الخمر وإلى هذا اليوم عن مجرد التفكير في تناول المخدرات والمسكرات.
وإلا فما هو الحاجب الذي يقف بين طالب مسلم يدرس في أوربا مثلا وبين تناول الخمر غير الضمير الديني الذي يراقب الله. والضابط الديني الذي ينظم السلوك، والعقيدة السماوية التي توجه العمل.
وهي نفس الطاقة التي تمنع الفرد من القتل والزنا والسرقة والخيانة ونحو ذلك من الجرائم الخطيرة.
يقول الأستاذ العقاد [23] : إن "إن الضمير الديني"ليهدي العقل هنا غاية الهداية التي تطلب من الدين القويم دون أن يربطه بالقيود القاسرة أو يكرهه على الجمود المعطل عن التصرف والتصريف، وعلى هذا الضمير الديني تقوم رسالة الدين التي تعلو مع الزمن على نظم الاقتصاد وبرامج الساسة وشقائق الأسماء من دعوة تلهج بالديمقراطية، أو صيحة تلفظ بالمادية، أو حذلقة تتعلق بأطراف المبادئ وأهداب القواعد والنظريات وتحسب أن (الإنسانية) بنت يوم وساعة، وأن "الضمير الإنساني"زي من أزياء الأمم مع الصباح ويخلع قبل المساء.
الأسلوب الديني لعزل المسكرات:
يتدرج الإسلام وهو بصدد عزل الخمر وبقية المسكرات على ثلاث مراحل، ويتوقف نجاح كل مرحلة على مدى تحقق المرحلة التي قبلها. ودور هذه المراحل لاحق لدور تربية الضمير الديني عند الفرد. فبعد الفراغ من تربية هذا الضمير تبدأ المراحل الآتية:
المرحلة الأولى: الإقناع العقلي:(12/305)
أول اتجاه من اتجاهات الإسلام في طريق تحريم الخمر كان مخاطبة للعقل خطابا يستهدف إقناع المخاطب إقناعا عقليا بسلبيتها وعزلها. فجاء النص على هذا الشكل: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [24] ومن هذه الإشارة إلى أن الخمر والميسر شر على الرغم مما فيهما من بعض المنافع القليلة طفق المسلمون يبحثون في الجوانب السيئة التي ينفضها هذا الداء على عقل الفرد وجسمه وما له إمعانا في الوصول إلى أقوى نقطة من نقاط الاقتناع.
فذهب المفسرون والحكماء والكتاب والأطباء إلى تقصي ذلك حتى وصلوا إلى الحقيقة التي لا حقيقة بعدها في أن الخمر ضرر يجب تحاشيه، وسوء ينبغي الابتعاد عنه، ومرض يلزم التخلص منه، وهي إثم كبير لا يليق بذي المروءة أن يتدنى إلى مستواه.
فقال المفسرون مثل ما يلي: قال الفخر الرازي في تفسيره [25] : "الإثم الكبير فيه أمور: أحدها: أن عقل الإنسان أشرف صفاته، والخمر عدو العقل، وكل ما كان عدو الأشرف فهو أخس، فيلزم أن يكون شرب الخمر أخس الأمور.
وتقريره: أن العقل إنما سمي عقلا لأنه يجري مجرى عقال الناقة، فإن الإنسان إذا دعاه طبعه إلى فعل قبيح، كان عقله مانعا من الإقدام عليه، فإذا شرب الخمر بقي الطبع الداعي إلى فعل القبائح خاليا عن العقل المانع منها، والتقريب بعد ذلك معلوم.
ذكر ابن أبي الدنيا أنه مر على سكران وهو يبول في يده ويمسح به وجهه كهيئة المتوضئ، ويقول: الحمد لله الذي جعل الإسلام نورا والماء طهورا.
ثانيها: ما ذكره الله - تعالى - من إيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة [26] .(12/306)
ثالثها: أن هذه المعصية من خواصها: أن الإنسان كلما كان اشتغاله بها أكثر ومواظبته عليها أتم: كان الميل إليها أكثر. وقوة النفس عليها أقوى بخلاف المعاصي، مثل الزاني إذا فعل مرة واحدة فترت رغبته في ذلك العمل، وكلما كان فعله لذلك العمل أكثر كان فتوره أكثر ونفرته أتم، بخلاف الشرب، فإنه كلما كان إقدامه عليه أكثر كان نشاطه أكثر ورغبته فيه أتم، فإذا واظب الإنسان عليه صار غرقا في اللذات البدنية. .
وبالجملة: فالخمر يزيل العقل، وإذا زال العقل حصلت القبائح بأسرها ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "الخمر أم الخبائث" أه
وقال الحكماء مثل ما قال ابن الوردي في لاميته الشهيرة:
واترك الخمرة أن كنت فتى
كيف يسعى في جنون من عقل
وعن العباس بن مرداس أنه قيل له: لم لا تشرب الخمر، فإنها تزيد في جراءتك. فقال: ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله جوفي، ولا أرضى أن أصبح سيد قوم وأمس سفيههم.
وقال الكتاب مثل ما قال العقاد [27] : "حين يكون العمل بالعقل أمرا من أوامر الخالق: يمتنع على المخلوق أن يعطل عقله"والإسلام لا يقبل من المسلم لأن يلغي عقله ليجري على سنة آباءه وأجداده".
"وما من أحد يهتدي بعقله لا يسعه أن يرى الصواب وأن يكف عن الخطأ فإذا قسر على نبذ الصواب واقتراف الخطأ ففي وسعه أن ينجو بنفسه من القسر حيث كان، وفي وسعه إذا حيل بينه وبين النجاة أن يلقى الضرر الذي يجنيه عليه من يهدد كرامته ويقتل ضميره. فذلك لا ريب أهون الضررين في هذه الحال.
ولا معنى للدين ولا للخلق إذا جاز للناس لأن يخشوا ضررا يصيب أجسامهم، ولا يخشوا ضررا يصيبهم في أرواحهم وضمائرهم، وينزل بحياتهم الباقية إلى ما دون الحياة التي ليس لها بقاء، وليس فيها شرف ولا مروءة.
"إن حق العقل في الإسلام يقاس بكل قوة من قوى تلك الموانع التي ترصد له ويصده عن طريقه"أه.(12/307)
أما يقوله الأطباء فهو موافق لنص الرسول على الخمرة بأنها مرض، فعن طارق بن سويد الحضرمي قال: قلت يا رسول الله، إن بأرضنا أعنابا نعتصرها فنشرب منها؟ قال: لا، فراجعته قلت: إنا نستشفي به للمريض، قال: "إن ذلك ليس بشفاء ولكنه داء". فقال الأطباء ما يلي بعضه:
يقول الدكتور محمد الهواري [28]- بعد أن استعرض نتائج أبحاث العديد من علماء الغرب -: "ومن كل هذا يظهر جليا أن الانسمام الغولي يعتبر من أعظم الأخطار التي تهدد البشرية. . فهو مدعاة للفتك بالجملة العصبية، وقد تكون من أهم الأسباب الموجبة للأمراض العصبية والعقلية والنفسية، ومن أعظم دواعي الجنون والشقاوة والإجرام، لا في المرء المسيء لنفسه وحده، بل وفي أعقابه من بعده، فيكون إذن علة الشقاء والعوز، وسبب البؤس والتعاسة، وجرثومة الإفلاس والمسكنة، ما نزل بقوم إلا وأدى بهم مادة ومعنى، أي بدنا وروحا، أو جسما وعقلا، وهو الاضمحلال المحتم وحلول الخراب الأعظم.
فكل المؤسسات العلمية أصبحت متفقة على أن آثاره معروفة بصورة لا مجال للشك فيها:
1- فهو يقوم بتخريش الأقسام الأولى من جهاز الهظم تخريشا آليا.
2- ويساهم في تصلب الأنسجة ويضعف فيها خاصة جذب الماء إليها.
3- ويزيد في احتقان العروق الدقيقة مما يؤدي إلى الاستحالات الشحمية في الخلايا والقصور في آداء وظائفها الطبيعية.
4- ويؤدي إلى التهاب المعدة التهابا تختلف شدته بين الالتهاب البسيط والالتهاب المتقرح مع توسع في المعدة لدى المدمنين.
5- ومن عواقبه نزلات الأمعاء المزمنة مع إمكان تقرح العفج أو المعي الإثنى عشري.
6- إضافة إلى الآفات البابية التي تؤدي إلى تشمع الكبد وخاصة التشمع الضموري أو التشمع الشحمي الضموري.
7- ومن آثاره كذلك تصلب الطحال والتهاب الصفاق المزمن الذي يكون مرتعا للعصيات السلية.(12/308)
8- ولا يخلو جهاز الدوران من التأثر به، فالقلب ينوء بالشحم وتتصلب الشرايين وتحتقن العروق الدقيقة.
9- والجهاز البولي يصاب بآفات شديدة نتيجة لانطراح قسم لا بأس به من الغول عن طريقه، ولقد شوهدت حوادث التهاب في الكلى والمثانة وزيادة اطراح المواد الأجنبية عن طريق البول.
10- والجملة العصبية أكثر الأعضاء انفعالا بهذه المادة، فالدماغ يصاب باحتقان السحايا والقشر احتقانا يؤدي إلى تصلب الدماغ والتهاب السحايا.
ويختتم الدكتور الهواري كلامه قائلا: ولم يكن هناك كالتشريع الإسلامي حكمة وصرامة في الوقوف أمام خطر الغول، إذ أصدر تشريعه بالتحريم القاطع، فعاد بذلك على الأمة الإسلامية بكل ما يحفظ لها من سلامة في صحتها واقتصادها، لا فرق في ذلك بين جميع السوائل الغولية سواء المقطرة منها أو المخمرة.
فالنتائج واحدة في جميع هذه الأشربة، وإن اختلف التأثير بحسب ما في هذه الأشربة من الغول.
وما كان هذا التحريم ليفقر الأمة أو يسبب اضمحلالها وما كان هذا التحريم يوما شرا على المسلمين المتعففين أو على كل من يحرمه على نفسه من عقلاء الناس اه.
هذا بعض ما يقوله الأطباء، أما ما يقوله علماء النفس والاجتماع، والاقتصاد فهو مريع بنذر بالخطر ومرعب يوحي بالدمار، خطير يقتضي الحل السريع الصارم.
هذه هي المرحلة الأولى على طريق كفاح الإسلام ضد الخمر والمسكرات. فقد ربى الإسلام ضمير الفرد عن طريق إقناعه بخبثها معنى، وقبحها أثرا، وسطوتها على أغلى درة يملكها الإنسان وهي العقل.
فلما تبين المسلمون ذلك، رتب الله على هذه الحقيقة النظرية حقيقة عملية، فجاءت المرحلة التالية:
المرحلة الثانية - التحريم المؤقت:(12/309)
لم يغب عن علم الله سبحانه وتعالى مدى تعلق الناس بالخمر ومدى شيوعها في مجتمعاتهم، فأراد لأن يشرع لهم خطوة عملية على طريق إنهاء الخمر والانتهاء منها، فجاء النص على تحريمها تحريما مؤقتا في أثناء الصلاة، فجاء النص على هذا الشكل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [29] وهكذا خطا القرآن في مكافحة الخمرة خطوة هجومية فعلية فكان تشريع تحريمها وقت الصلاة بعد أن تهيأت أذهان المسلمين لهذه الخطوة من خلال المرحلة الأولى التي ألمعنا إليها.
ثم يتوسع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إظهار هذا التشريع الجديد بالشكل الذي يهيء أذهان المسلمين للمرحلة الثالثة وهي مرحلة التحريم المطلق. ففي حديث أبي الدرداء قال [30] : "أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم: "لا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر"، وعن خباب بن الأرت قال [31] : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياك والخمرة فإن خطيئتها تفرع الخطايا، كما أن شجرتها تفرع الشجر".
ففهم المسلمون: أن الخمر إن حرمت وقت الصلاة فقط، فإن ذلك لا يعني أنها كريمة المذاق في غير وقتها لأن النهي قد صدر من رسول الله الذي تيقن المسلمون صدقه في القول، وعرفوا نصحه في الأمر، وتبينوا حكمته في التشخيص.
وبذلك يكون الخمر قد انعزل في أوقات الصلاة تشريعا، وانعزل في غير أوقاتها مروءة وكرامة. وبات المسلمون يترقبون تحريمها المطلق، ويتوقعون منعها المستمر، ويرون لمجتمعهم أن يتطهر منها ويبتعد عنها، نظرا لأن بعض المسلمين استمروا على معاقرتها في غير أوقات الصلاة فكانت بذلك سبب في بعض الخصومات والمنازعات.(12/310)
فقد اجتمع قوم من الأنصار وفيهم سعد بن أبي وقاص، فلما سكروا وافتخروا وتناشدوا الأشعار حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء للأنصار، فضربه أنصاري بلحى بعير فشجه شجة موضحة فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه: "اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا". فكانت:
المرحلة الثالثة: التحريم المطلق:
شاء الله جلت قدرته أن يكون تحريمه للخمرة تحريما مطلقا هو خاتمة المطاف في أمر الخمر وبقية المسكرات التي تأخذ حكمها، فجاء النص على هذا الشكل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [32] ، وأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا التحريم بجملة من الأحاديث مبينا المزيد من التفصيلات في هذا التحريم، ومن ذلك حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله [33] صلى الله عليه وسلم: "من شرب الخمر وسكر، لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، وإن مات دخل النار، فإن تاب تاب الله عليه. ."
ومن ذلك حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مدمن الخمر كعابد وثن" وحديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله: "لا يدخل الجنة مدمن خمر".
وهكذا تناهى المسلمون عن الخمر فلم ترد على خاطر، وطهروا مجتمعهم منها فلم تدخل على بيت، وفطموا نفوسهم عنها فلم تظهر على مائدة.
فلقد استجاب المسلمون لهذا القرار السماوي لأنه من عند الله ن وامتثلوا لهذا النهي لأنه وحي الدين، وحرصوا على تنفيذه في البيئة رغبة في مرضاة الله وتجنبا لغضبه.
وهذه هي جوانب الميزة التي يمتاز بها التشريع الديني عن بقية التشريعات الوضعية. فالتشريع الديني يلقى التسليم لأنه من العقيدة ويصادف الرضا لأنه من الرحمن الرحيم ويحظى بالطاعة لأنه ليس من البشر.(12/311)
فالرقابة عليه ذاتية من ضمير الفرد، والرجاء منه ثواب من عند الله، والعاقبة في تجاهله غضب من الخالق، أو عقوبة من المخلوق.
وهذه كلها ثمرة من ثمرات تربية الضمير الديني عند الفرد، حيث يجد في طاعة الله متعة، وفي امتثال أوامر عباده، وفي الحرص على مرضاته غاية ورسالة.
غير أن الإسلام - بواقعيته التي أهلته للبقاء، وفطرته التي هيأته للحياة، وبساطته التي يسرته للخلود -: لا يفترض في الناس أن يكونوا ملائكة ولا يطلب منهم أن يكونوا معصومين ولا يريد منهم أن يصبحوا نورانيين.
بل إنه افترض فيهم الخطيئة فحثهم على التوبة، وتوقع منهم الذنب فكتب لهم المغفرة، وانتظر منهم الزلل فخلق فيهم الندم.
وقد خلق الله في لناس الخير والشر، وعرض عليهم الصواب والخطأ، ويسرهم للطاعة والمعصية.
فلما طلب الله منهم الخير أعانهم عليه بالتشريع، ولما توخى منهم الصواب يسره لهم بالعقل، ولما أمرهم بالطاعة حببها عليهم بالثواب. وجعل من وراء ذلك كله سياجا يعصم الناس من الشذوذ، ووسيلة تقي الأفراد من الانحراف، ونظاما يسهل للمجموعة البشرية مهمة التعاون على البر والتقوى. فكان أن شرع الله للناس الوسائل الفعالة، والطرق المرسومة لتنفيذ شريعته، وإصلاح عباده.
أراد بها أن يجبر صغار النفوس أن يكونوا كبارا، وأن ييسر لضعاف الإرادة أن يكونوا أقوياء، وأن يخطط لعبيد الشهوة أن يكونوا أفاضل.
فما هي تلك الوسائل؟
وسائل الدين لتنفيذ تحريم الخمر:(12/312)
الوسائل التي شرعها الله لتنفيذ أوامره وشريعته متعددة الوجوه، متنوعة الأهداف، غير أننا نشير هنا إلى وسيلتين مما يتعلق بموضوعنا هذا مبينين الجانب النفسي والتربوي الذي تحتوي عليه تلكما الوسيلتان وبيان أثرهما في وقاية الفرد والمجتمع من الخمر والمسكرات على وجه العموم. وهذا الجانب خاص بنفر قليل من الناس ممن لم يكتمل نموه الفكري، ولم تصل تربية ضميره الديني إلى المستوى المطلوب.
وهاتان الوسيلتان هما: الرقابة الجماهيرية، والعقوبة، ونتكلم عنهما فيما يلي:
الوسيلة الأولى - الرقابة الجماهيرية:
لقد وهب الله الأفراد حرية كاملة في حدود المشروع، حيث لا يمكن أن نوجد الفرد المؤثر في المجتمع إلا إذا كان هذا الفرد حرا بالقدر الذي يجعله عزيزا لا يذل، وشجاعا لا يهاب، وقويا لا يضعف.
وعندها يمكن لهذا الفرد أن يكون قادرا على أداء دوره في إتمام البناء بعد إرساء قواعده.
والحرية في الإسلام ليست انطلاقا من القيود ن بل هي معنى لا يتحقق في المجتمع إلا مقيدا.
وعلى هذا: فإن الحر حقا هو الفرد الذي تتجلى فيه المعاني الإنسانية العالية، الذي يجد القدرة على ضبط نفسه بضوابط المصلحة العامة، ويتجه بها إلى معالي الأمور.
والحر هو الذي يسيطر على إرادته ولا تسيطر عليه شهواته وأهواؤه، وإنما هو سيد نفسه إلى الحد الذي يعرف ما لها وما عليها، وإن هذه السيادة النفسية التي يتسم بها الحر: هي العنصر الأول في تكوين معنى الحرية في نفسه. وإن الذين يفهمون الحرية انطلاقا من كل القيود إنما هم عبيد الأهواء الذين لا يفهمون حق أنفسهم، ولا يراعون من المجتمع. وعلى هذا فإن قيود الحرية ترجع في مجملها إلى حقيقتين:
الأولى: هي السيطرة على النفس والخضوع لحكم العقل لا لحكم الهوى.(12/313)
والثانية: هي الإحساس الدقيق بحق المجتمع على الفرد ن وبدون هذه الحقيقة تبرز الأنانية الفردية، والحرية والأنانية نقيضان لا يجتمعان.
ومما لا شك فيه أن الناس ليسوا سواء في مراعاة حرية الغير، وحق المجتمع، فإن الناس منهم الحر ومنهم الذي يدعي الحرية، لذلك كان لابد أن تقيد حرية من يدعون الحرية بقيود خارجية عن النفس بحكم القانون، وحينئذ تكون هذه القيود حماية للحرية وليست كبتا لها.
والإسلام يسعى لإيجاد مجتمع متكافل تتعاون فيه كل القوى الإنسانية بحيث تلتقي على المحافظة على المصلحة الفرد أولا، ثم يتدرج بها الأمر إلى مرحلة صيانة البناء الاجتماعي والعمل على إرساء قواعده المتراصة التي لا ينفذ الدخن من إجزائها.
وعندما يتحقق المجتمع المتكافل فإنه - بالضرورة - ينتج رأيا عاما فاضلا هو أول مظهر من مظاهر هذا المجتمع.
وللرأي العام الفاضل رقابة نفسية تجعل البشر ينطوي على نفسه فلا يظهر وتجعل الخير موقع الإعلان والظهور.
وبالرأي العام الفاضل يشعر الجماعة بقوة خفية تعينها على حفظ واجهة المجتمع نقية ناصعة، وهذه القوة هي رد الفعل الاجتماعي العام الذي يجعل من الحياة سدا بين الجريمة وبين أن تظهر أو تشيع.
ومن هنا يرى الإسلام أن الجمهور قادر على أن يقوم بدوره العام بين مبدأين أساسين، وهما:
1- مبدأ الشورى بين أطراف الأمة. وليس هذا موضوعنا هنا.
2- مبدأ الرقابة على المجتمع.
ومبدأ الرقابة هذا حصيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو من القواعد الأساسية في المجتمع الإسلامي وبذلك يكون الله قد منح الناس حق الدفاع عن أنفسهم ومجتمعهم من سيطرة الرذيلة عليه، وما يتبع ذلك من انحراف النفوس وعبث المفسدين.(12/314)
والجمهور الإسلامي ليس مخيرا في آداء واجب الرقابة على المجتمع وإنما هي مسؤوليته التي أنيطت به لغرض الإرشاد العام لتقويم المعوج، وتشجيع المستقيم وإعانته على الاستمرار وكانت فرضا عليهم بقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [34]
وقد ذم القرآن بني إسرائيل من اجل أنهم لم يأخذوا بمبدأ الرقابة هذا مأخذ الجد، فأفسحوا مكانا للشر في مجتمعهم بترك الرقابة على المفسدين فقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [35] .
وينظر الإسلام إلى الرقابة على أنها انتصار لكرامة الجماعة، وتلبية لنداء الفضيلة والرجولة، فإن التهاون فيها يتنافى والكرامة التي تدفع أصحابها إلى عنها والغضب من جلها والثأر لها.
وقد روي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحقر أحدكم نفسه"قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: "يرى أمرا لله فيه مقال، ثم لا يقول فيه شيئا ".
وينظر الإسلام تارة أخرى إلى الرقابة على أنها عنصر من عناصر احترام المجتمع وتقديسه، وعامل من عوامل انتعاش الأمة وتماسكها، ومظهر من مظاهر المجتمع الفاضل الذي يكسب احترامه لنفسه.
وقد أدرك المسلمون هذه الحقيقة فتمسكوا بها وفهم الناس أهدافها فحرصوا على مبدأها، وأدرك الفقهاء أسرارها فكانت في كتبهم أبوابا وفصولا. . على النحو التالي:
حقيقة الرقابة على الفقه الإسلامي:
الرقابة الجماهيرية نوعان في الإسلام:(12/315)
النوع الأول: هو الرقابة الجماهيرية العامة المطلوبة من كل الناس تعبدا وامتثالا لقوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} .
وامتثالا لقوله عليه الصلاة والسلام: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده. . " الحديث.
النوع الثاني: الرقابة الجماهيرية الخاصة تقوم بها الجماعة المكلفة من الدولة بذلك ويطلق عليها في العصر الحاضر"شرطة الآداب"ويسميها الفقهاء: "الحسبة"
غير أنها أكثر من شرطة الآداب، لأنها تراقب جميع أنواع المظالم والمفاسد والتعديات والمخالفات، وعلى هذا فهي: "أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله" [36]
والفرق الجوهري بين شرطي الآداب اليوم والمحتسب في النظام الإسلامي أن الشرطي يقوم بواجبه يحكم وظيفته وهو أمر غير مضمون الفعالية والتأثير بينما يقوم المحتسب بواجبه استجابة لعقيدته، وامتثالا لدينه، ومرضاة لله وعبادة له، وبهذا فهو مخلص في مهمته مندفع في واجبه، حريص على مصالح مجتمعه، كل هذا إذا أحسن اختيار المحتسب، وأجيد تدريبه، وأتقنت تربيته وتهذيبه.
ولقد كان لنظام الحسبة في الإسلام أثر فعال في نقاء المجتمع، وردع المنحرفين، وزجر المجاهرين بالفوضى والفساد. وكان ذلك سببا لإقلاع الكثير من الأفراد عن أسباب لانحراف خوفا من الإهانة حتى أصبحت الفضيلة طبعا فيهم، وقد تكلم الفقهاء عن الحسبة في أبواب مستقلة من كتبهم الفقهية، ونقتطف بعض أقوالهم للتدليل والتمثيل.
يقول القاضي أبو يعلى المالكي [37] : وأما ما تعلق بالمحضورات فهو: أن يمنع الناس من مواقف الريب، ومظان التهمة، ويقوم الإنكار ولا يعجل بالتأديب قبل الإنذار.
وإذا رأى وقوف رجل وامرأة في طريق سابل لم تظهر منهما أمارات الريب: لم يعترض عليهما بزجر ولا إنكار، فما يجد الناس بدا من هذا.(12/316)
وإن كان الوقوف في طرق خالية: فخلو المكان ريبة، فينكرها. ولايعجل في التأديب عليها، حذرا من أن تكون ذات محرم، وليقل: إن كانت ذات محرم، فصنها عن مواقف التهمة، وإن كانت أجنبية فاحذر من خلوة تؤديك إلى معصية الله تعالى.
فإذا رأى المحتسب من هذه الحال ما ينكرها تأنى وفحص ورعى شواهد الحال، ولم يعجل الإنكار قبل الاستخبار. وقد سئل أحمد - في رواية محمد بن يحيى - في الرجل السوء، يرى مع المرأة؟ قال: صح به.
وإذا جاهر رجل بإظهار الخمر، فإن كان مسلما: أراقها وأدبه، وإن كان ذميا: أدب على إظهارها وتراق عليه. لأنها غير مضمونة [38] .
وأما المجاهر بإظهار النبيذ، فهي كالخمر، وليس في إراقته غرم، فيعتبر والي الحسبة شواهد الحال فيه، فينهى فيه عن المجاهرة، ويزجر عليه إن كان يعاقره، ولا يريقه إلى أن يأمره بإراقته حاكم.فإن السكران: إذا تظاهر بسكره، وسخف بهجره، أدبه على السكر والهجر تعزيزا.
الوسيلة الثانية – العقوبة:
مما سبق يتضح جليا أن الإسلام أعدم الوجود الشرعي للخمرة بالتحريم، وقضى على ضراوتها بالعقيدة، وكرهها للنفوس بوصف الخبث.
ثم عمق أزمة عدم توافرها بالمنع، وحد من شيوعها بالرقابة، وزعزع أمنها بالمحتسب، فانطوت مريبة في المواخير، وتوارت سرا في الدهاليز وجمعت حولها زمرا ليسوا من الكرام على أي حال، يتنادمون على وجل، ويتعاقرون على خوف، ويتحاببون على ريبة.
وهؤلاء هم الاستثناء من القاعدة وهم - ما استتروا- فأمرهم إلى الله إن شاء عاقبهم وإن شاء عفا عنهم.
ومن أبدى صفحته منهم واجهته العقوبة. وقد اقتضت حكمة الله أن تكون العقوبات الإسلامية مناسبة لنوع الجريمة.(12/317)
ولما كان السكران الذي يبدي صفحته للناس رجلا بل حياء لأنه أضاعه بالسكر وإنسانا بلا كرامة لأنه أهدرها بالسفه، وشخصا بلا مروءة لأنه أتلفها بالخبل، فقد جعل الله عقوبته مهينة محقرة، تصيب الحياء ولا تؤذي الجسد وتجرح الكرامة ولا تجرح الجسم، وتدعو إلى التحقير ولا تستدعي الطبيب.
وعقوبة الشارب عدد من الجلدات الخفيفة، وآلة الجلد: نعل أو ثوب أو ما شاكل ذلك مما يهين ولا يوجع.
إجراءات الحاكم قبل الحكم بالعقوبة:
لما كان الهدف من لعقوبة في الشريعة الإسلامية هو الإصلاح والتأديب إلى جانب الزجر، ولما كانت عقوبات الحدود مبنية على الدرء، فإن الحاكم مأمور أن يتبع إلى ذلك جميع الوسائل الممكنة قبل أن يصل إلى مرحلة الحكم، وقد كان الخلفاء يبادرون إلى النصح والتأديب قبل اللجوء إلى العقوبة.
فقد روي عن الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه تفقد رجلا يعرفه، فقيل له: إنه يتابع الشراب، فلم يبادر الخليفة إلى عقوبته بل كتب إليه: "إني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، غافر الذنب، وقابل التوبة، شديد العقاب، ذو الطول، لا إله إلا هو، إليه المصير".
فلم يزل الرجل يرددها ويبكي حتى صحت توبته وأحسن النزع، فبلغت نوبته عمر، فقال لمن حضر مجلسه: "هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أخا لكم زل زلة فسددوه ووفقوه، وادعوا الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه".
وعلى هذا فإن العقوبة هي الحل الأخير توقع على من استفحل خطره، وطاش صوابه، وأفلت زمام نفسه، ولم في نفسه أن يقدم عذرا مقبول، أو سببا مشروعا، بعد أن حقق له المجتمع الإسلامي كل الحاجات التي تغنيه عن هذا الموقف.(12/318)
وفي ذلك يقول الأستاذ العقاد - رحمه الله -[39] : "والعقوبات القرآنية تكفل للمجتمع حاجته التي تغنيه من العقوبة، وهي قيام الوازع ورهبة المحذور، ولكنها لا تحرم الفرد حقا من حقوقه في الضمان الوثيق والفرصة النافعة. وأول ضمان للفرد فيها شدة التحرج في إثبات التهمة، وتأويل الشبهة لمصلحته في جميع الأحوال، وتمكينه من الصلاح والتوبة إذا كان فيه مستصلح ومتاب.
وأيا كان القول برعاية الحرية والشخصية في فرض العقوبات، فليس في وسع غال من غلاتها أن يقطع بأن مسألة الزنا أو مسألة السكر من المسائل الفردية التي يترك فيها الأمر كله لآحاد الناس.
ففي الزنا والسكر مساس بقوام الأسر، وأخلاق الجماعة، وسلامة الذرية لا مراء فيه. ومتى بلغ من الزاني أن يشهده أربعة شهود عدول، وبلغ من السكير أن يصل القاضي بين شاهدين عدلين والخمر تفوح من فمه، فليست هناك مسألة فرد يفعل ما يحلو له بينه وبين نفسه، ولكنها مسألة المجتمع كله في كيانه وأخلاقه، وأسباب الأمن والطمأنينة.
وقد تبدو من هذا حكمة من حكم الشرائط التي اشترط الشرع الإسلامي توافرها لإقامة الحدود.
وننتهي من ذلك كله إلى نتيجتين يقل فيهما الخلاف بين المسلمين وغير المسلمين، وهما: أن قواعد العقوبات الإسلامية قامت عليها شؤون جماعات من البشر آلاف السنين، وهي لا تعاني كل ما تعانيه الجماعات المحدثة من الجرائم والآفات.
وأن قواعد العقوبات المحدثة لم تكن تصلح للتطبيق قبل لألف سنة، وكانت تنافر مقتضيات العصر في ذلك الحين، ولكن القواعد القرآنية بما فيها من الحيطة والضمان، ومباحات التصرف الملائم للزمان والمكان، قد صلحت للتطبيق قبل ألف سنة، وتصلح للتطبيق في هذه الأيام وبعد هذه الأيام.(12/319)
هذا هو المجمل للمسلك الإسلامي لمحاصرة الخمر والمسكرات وهذا هو الموجز للآثار الإيجابية التي نتجت عن هذا المسلك، حين بقيت الخمرة في المجتمعات الإسلامية على مدى أربعة عشر قرنا من الزمن تشعر بالغربة وتحس بالوحشة، وتشكو الوحدة، وتعاني من تجافي المسلمين عنها وهجرهم لها، وتقاسي من العزلة في الأزقة المظلمة والدهاليز الرطبة الرطبة. توجعها المطاردة المخلصة وتؤرقها العيون المتلصصة، وتقلقها العواطف المعادية من كل الناس، إذا احتواها إناء فقد العصمة والضمان، وإذا آواها بيت فقد الحماية والأمن.
كان ذلك كله أثرا من آثار الدين في محاربة الخمر والمسكرات، تلك الآثار التي حكمت الناس من غير خوف، وتحكمت في التصرفات من غير عنت، واستحكمت في النفوس من غير قهر.
وبهذا البرهان العملي تشتد الضرورة إلى سلاح الدين، وبهذه التجربة الطويلة يشتد الإيمان بنجاح أساليبه ومسالكه، وبهذا الأنموذج التاريخي الفريد يشتد اليقين وينقطع الجدل ويزول التردد.
فلما ضعف هذا الوازع الديني في نفوس الناس ضعف معه كل شيء، فإن من أبرز سمات المسلمين اليوم هو انعدام الوضوح في الغاية والوسيلة، ونقص الترية في الإيمان والعقيدة، وضعف التدريب في التطبيق والعمل، واختلال الطاقة في الالتزام والانتماء، وارتباك المعنى في الطاعة والتسليم.
ومن هنا عمت المجتمع عيوبه القبيحة، وأنهكته أمراضه الخبيثة، وأوهنت قواه سلبيات وآفات تزيد ولا تنقص، وتقوى ولا تضعف، وتشتد ولا تهن: غش في المعاملة، وغبن في البيع، ورشوة في قضاء الحاجة، ووساطة في الحصول على الحق، وكذب في الدعوى، وإثم في العلاقة، وخمر في استجلاب السرور، ومخدر في دفع الألم.
فإذا أردنا قول الحق من غير ضياع للوقت، وإذا رغبنا في الرأي الناصح من غير خداع للنفس، وإذا سلمت لمنطق العقل من غير مغالطة أو مكابرة، فإن علاج ذلك كله إنما هو في الرجوع إلى العقيدة الدينية.(12/320)
أما وسائل تحقيق ذلك في المجتمع فإن الحديث فيه يقتضي مكانا آخر ومجالا غير هذا المجال.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] راجع دائرة المعارف الإسلامية 8/450 والقاموس المحيط 4/276.
[2] راجع دائرة معارف القرن العشرين 3/790.
[3] انظر: الخمر والمشروبات الروحية للدكتور محمد الهواري. مجلة حضارة الإسلام، العدد الأول السنة الخامسة عشرة.
[4] انظر: دائرة معارف القرن العشرين 3/ 790.
[5] أما ما دأب عليه شعراء العربية في العصر العباسي وغيره من التغني بوصف الخمرة وإطرائها فليس محمولا على ظاهره، ولا يجوز أن يفترض أن كل شاعر وصف الخمر يكون قد شربها، ذلك: أن وصف الخمر اكتسب صفة (الفن الشعري) الذي رأى الشعراء والمسلمون – تقليدا للشعراء الجاهليين – أن شاعريتهم لا تكتمل إلا به. كما هو الشأن في الغزل الذي كثيرا ما يردد فيه الشعراء أسماء وأوصاف بمحبوبات لا وجود لهن. وكما هو الحال في قطع الفيافي والقفار على العيس لشعراء لم يشاهدوا قفارا ولم يركبوا عيسا. مما نجده في شعراء الأندلس مثلا. زمن الأدلة الواضحة على هذه الحقيقة مقصورة ابن جابر الهواري مثلا فهو يمدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك يضمنها أبياتا في وصف الخمر تعد – من الناحية البلاغية – من أروع الشعر. وما كان الجنون يبلغ بذلك الشاعر الصوفي الضرير أن يتقرب إلى الرسول الكريم بوصف خمر شربها، ولكنه يضمن قصيدته فنا شعريا تقليديا كما ضمنها الغزل التقليدي
[6] سفر العدد، الإصحاح السادس، الآية: 3 وما بعدها.
[7] سفر لاويين، الإصحاح العاشر، الآية: 9.
[8] انظر: دائرو المعارف الإسلامية 8/ 452.
[9] انظر دائرة معارف القرن العشرين 3/ 791.(12/321)
[10] انظر: عبد الجبار عريم: الطرق العلمية الحديثة في إصلاح وتأهيل المجرمين والجانحين ص 163.
[11] الطرق العلمية الحديثة في إصلاح وتأهيل المجرمين والجانحين ص 246 وما بعدها.
[12] انظر: الإنسان والقرآن، الموسوعة 4/ 40.
[13] سورة المدثر: 38.
[14] سورة الأنعام: 164.
[15] انظر: الموسوعة 5/ 504.
[16] المصدر السابق 5/505.
[17] سورة القصص: 77.
[18] سورة البقرة: 37.
[19] سورة هود: 5.
[20] سورة الشعراء: 141 – 142.
[21] انظر: فيض القدير 2 / 277.
[22] جزء من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه المشهور الذي رواه أحمد وأصحاب الكتب الستة. انظر: فيض القدير 1 / 30.
[23] انظر: الموسوعة 4 / 194.
[24] سورة البقرة: 219.
[25] راجع: التفسير الكبير 6 / 46.
[26] يشير الرازي بذلك إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} .
[27] انظر: الموسوعة 5 / 843 وما بعدها.
[28] الخمر والمشروبات الغولية. مجلة حضارة الإسلام، العدد الأول السنة الخامسة عشرة.
[29] سورة النساء: 43.
[30] انظر سنن ابن ماجه حديث رقم 3372.
[31] المصدر السابق حديث رقم 3373.
[32] سورة المائدة: 90.
[33] ابن ماجه حديث 3377، 3375، 3376.
[34] سورة آل عمران: 104.
[35] سورة المائدة: 77، 78.
[36] انظر: الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى، ص 284.
[37] انظر: الأحكام السلطانية ص 293 وما بعدها.
[38] وذهب أبو حنيفة إلى أنها لا تراق، لأنها – عنده – من أموالهم المضمونة في حقوقهم.
[39] انظر: الموسوعة 4 / 108 – 109.(12/322)
تكذيب الوصية المنسوبة لخادم الحرم
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى من يطلع عليه من المسلمين - حفظهم الله بالإسلام - وأعاذنا وإياهم من شر مفتريات الجهلة الطغام.. آمين
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد -
فقد اطلعت على كلمة منسوبة إلى الشيخ أحمد خادم الحرم النبوي الشريف بعنوان (هذه وصية من المدينة المنورة عن الشيخ أحمد خادم الحرم النبوي الشريف)(12/323)
قال فيها: كنت ساهرا ليلة الجمعة أتلو القرآن الكريم وبعد تلاوة قراءة أسماء الله الحسنى فلما فرغت من ذلك تهيأت للنوم فرأيت صاحب الطلعة البهية رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أتى بالآيات القرآنية والأحكام الشريفة رحمة بالعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقال: "يا شيخ أحمد قلت: لبيك يا رسول الله يا أكرم خلق الله فقال لي: أنا خجلان من أفعال الناس القبيحة ولم أقدر أن أقابل ربي ولا الملائكة لأن من الجمعة إلى الجمعة مات مائة وستون ألفا على غير دين الإسلام ثم ذكر بعض ما وقع فيه الناس من المعاصي ثم قال: فهذه الوصية رحمة بهم من العزيز الجبار ثم ذكر بعض أشراط الساعة إلى أن قال فأخبرهم يا شيخ أحمد بهذه الوصية لأنها منقولة بقلم القدر من اللوح المحفوظ ومن يكتبها ويرسلها من بلد إلى بلد ومن محل إلى محل بني له قصر في الجنة ومن لم يكتبها ويرسلها حرمت عليه شفاعتي يوم القيامة ومن كتبها وكان فقيرا أغناه الله أو كان مديونا قضى الله دينه أو عليه ذنب غفر الله له ولوالديه ببركة هذه الوصية ومن لم يكتبها من عباد الله اسود وجهه في الدنيا والآخرة وقال والله العظيم ثلاثا هذه حقيقة وإن كنت كاذبا أخرج من الدنيا على غير الإسلام ومن يصدق بها ينجو من عذاب النار ومن كذب بها كفر"هذه خلاصة ما في هذه الوصية المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد سمعنا هذه الوصية مرات كثيرة منذ سنوات متعددة تنشر بين الناس فيما بين وقت وآخر تروج بين الكثير من العامة وفي ألفاظها اختلاف وكاذبها يقول إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فحمله هذه الوصية وفي هذه النشرة الأخيرة التي ذكرناها لك أيها القارئ زعم هذا المفتري في هذه الوصية أشياء كثيرة من أوضح الكذب وأبين الباطل سأنبهك عليها قريبا في هذه الكلمة إن شاء الله.(12/324)
ولقد نبهت عليها في السنوات الماضية وبينت للناس أنها من أوضح الكذب وأبين الباطل فلما اطلعت على هذه النشرة الأخيرة ترددت في الكتابة عنها لظهور بطلانها وعظم جرأة مفتريها على الكذب وما كنت أظن أن بطلانها يروج على من له أدنى بصيرة أو فطرة سليمة ولكن أخبرني كثير من الإخوان أنها قد راجت على كثير من الناس وتداولوها بينهم وصدقها بعضهم فمن أجل ذلك رأيت أنه يتعين على أمثالي الكتابة عنها لبيان بطلانها وأنها مفتراة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يغتر بها أحد ومن تأملها من ذوي العلم والإيمان أو ذوي الفطرة السليمة والعقل الصحيح عرف أنها كذب وافتراء من وجوه كثيرة ولقد سألت بعض أقارب الشيخ أحمد المنسوبة إليه هذه الفرية عن هذه الوصية فأجابني بأنها مكذوبة على الشيخ أحمد المذكور وقد مات من مدة ولو فرضنا لأن الشيخ أحمد المذكور أو من هو أكبر منه زعم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم أو اليقظة وأوصاه بهذه الوصية لعلمنا يقينا أنه كاذب أو أنه الذي قال له ذلك شيطان ليس هو الرسول صلى الله عليه وسلم ولجوه كثيرة منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرى في اليقظة بعد وفاته ومن زعم من جهلة الصوفية أنه يرى النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة فقد غلط أقبح الغلط ولبس عليه غاية التلبيس ووقع في خطأ عظيم وخالف الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم لأن الموتى إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة لا في الدنيا ومن قال خلاف ذلك فهو كاذب كذبا بينا أو غالط ملبس عليه لم يعرف الحق الذي عرفه السلف الصالح ودرج عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان.(12/325)
الوجه الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول خلاف الحق لا في حياته ولا بعد وفاته وهذه الوصية تخالف شريعته مخالفة ظاهرة من وجوه كثيرة كما يأتي وهو صلى الله عليه وسلم قد يرى في النوم ومن رآه في المنام على صورته الشريفة فقد رآه لأن الشيطان لا يتمثل في صورته كما جاء بذلك الحديث الصحيح الشريف ولكن الشأن كل الشأن في إيمان الرائي وصدقه وعدالته وضبطه وديانته وهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم في صورته أو في غيرها ولو جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث قاله في حياته من غير طريق الثقات الضابطين ولكنه يخالف رواية من هو أحفظ منهم وأوثق مخالفة لا يمكن معها الجمع بين الروايتين لكان أحدهما منسوخا لا يعمل به والثاني ناسخ يعمل به حيث أمكن ذلك بشروطه وإذا لم يكن ذلك ولم يمكن الجمع وجب أن تطرح رواية من هو أقل حفظا وأدنى عدالة والحكم عليها بأنها شاذة لا يعمل بها فكيف بوصية لا يعرف صاحبها الذي نقلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تعرف عدالته وأمانته فهي والحالة هذه حقيقة بأن تطرح ولا يلتفت إليها وإن لم يكن فيها شيء يخالف الشرع فكيف إذا كانت الوصية مشتملة أمور كثيرة تدل على بطلانها وأنها مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتضمنة لتشريع دين لم يأذن به الله وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال علي ما لم أقل فليتبوء مقعده من النار"، وقد قال مفتري هذه الوصية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل وكذب عليه كذبا صريحا خطيرا فما أحراه بهذا الوعيد العظيم وما أحقه به إن لم يبادر بالتوبة وينشر للناس أنه قد كذب هذه الوصية على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن من نشر باطلا بين الناس ونسبه إلى الدين لم تصح توبته منه إلا بإعلانها وإظهارها حتى يعلم الناس رجوعه عن كذبه وتكذيبه لنفسه لقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ(12/326)
بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُون إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} فأوضح الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أم من كتم شيئا من الحق لم تصح توبته من ذلك إلا بعد الإصلاح والتبيين والله سبحانه قد أكمل لعباده الدين وأتم عليهم النعمة ببعث رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وما أوحى الله إليه من لشرع الكامل ولم يقبضه إليه إلا بعد الإكمال والتبيين كما قال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} الآية.(12/327)
ومفتري هذه الوصية قد جاء في القرن الرابع عشر يريد لأن يشرع للناس دينا جديدا يترتب عليه دخول الجنة لمن أخذ بتشريعه وحرمان الجنة ودخول النار لمن لم يأخذ بتشريعه ويريد أن يجعل هذه الوصية التي افتراها أعظم من القرآن وأفضل حيث افترى فيها أن من كتبها وأرسلها من بلد إلى بلد أو من محل إلى محل بني له قصر في الجنة ومن لم يكتبها ويرسلها حرمت عليه شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة وهذا أوضح الدلائل على كذب هذه الوصية وقلة حياء مفتريها وعظم جرأته على الكذب لأن من كتب القرآن الكريم وأرسله من بلد إلى بلد أو من محل إلى محل لم يحصل على هذا الفضل إذا لم يعمل بالقرآن الكريم فكيف يحصل لكاتب هذه الفرية وناقلها من بلد إلى بلد ومن لم يكتب القرآن ولم يرسله من بلد إلى بلد لم يحرم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان مؤمنا به تابعا لشريعته وهذه الفرية الواحدة في هذه الوصية تكفي وحدها للدلالة علة بطلانها وكذب ناشرها ووقاحته وغباوته وبعده عن معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الهدى وفي الوصية سوى ما ذكر أمور أخرى كلها تدل على بطلانها وكذبها ولو أقسم مفتريها ألف قسم أو أكثر على صحتها ولو دعا على نفسه بأعظم العذاب وأشد النكال على أنه صادق لم يكن صادقا ولم تكن صحيحة بل هي والله من أعظم الكذب وأقبح الباطل ونحن نشهد الله سبحانه ومن حضرنا من الملائكة من اطلع على هذه الكتابة من المسلمين شهادة نلقى بها ربنا عز وجل أن هذه الوصية كذب وافتراء على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخزى الله من كذبها وعامله بما يستحق ويدل على كذبها وبطلانها سوى ما تقدم أمور كثيرة: الأول: منها قوله فيها: "لأن من الجمعة إلى الجمعة مات مائة وستون ألفا على غير دين الإسلام، لأن هذا من علم الغيب والرسول صلى الله عليه وسلم قد انقطع عنه الوحي بعد وفاته وهو في حياته لا يعلم الغيب فكيف بعد وفاته لقول الله سبحانه: {قُلْ(12/328)
لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْب} الآية وقوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يذاد رجال عن حوضي يوم القيامة فأقول يا رب أصحابي أصحابي فيقال لي إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .
الثاني: من الأمور الدالة على بطلان هذه الوصية وأنها كذب قوله فيها "من كتبها وكان فقيرا أغناه الله أو مديونا قضى الله دينه أو عليه ذنب غفر الله له ولوالديه ببركة هذه الوصية"إلى آخره وهذا من أعظم الكذب وأوضح الدلائل على كذب مفتريها وقلة حيائه من الله ومن عباده لأن هذه الأمور الثلاثة لا تحصل بمجرد كتب القرآن الكريم فكيف تحصل لمن كتب هذه الوصية الكاذبة الباطلة، وإنما يريد هذا الخبيث التلبيس على الناس وتعليقهم بهذه الوصية حتى يكتبوها ويتعلقوا بهذا الفضل المزعوم ويدعوا الأسباب التي شرعها الله لعباده وجعلها موصلة إلى الغناء وقضاء الدين ومغفرة الذنوب نعوذ بالله من أسباب الخذلان وطاعة الهوى والشيطان.(12/329)
الأمر الثالث: من الأمور الدالة على بطلان هذه الوصية قوله فيها: "ومن لم يكتبها من عباد الله اسود وجهه في الدنيا والآخرة"وهذا أيضا من أقبح الكذب ومن أبين الأدلة على بطلان هذه الوصية وكذب مفتريها كيف يجوز في عقل عاقل أن من لم يكتب هذه الوصية التي جاء بها رجل مجهول في القرن الرابع عشر يفتريها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزعم أن من لم يكتبها يسود وجهه في الدنيا والآخرة ومن كتبها كان غنيا بعد الفقر وسليما من الدين بعد تراكمه عليه ومغفور له ما جناه من الذنوب، سبحانك هذا بهتان عظيم وإن الأدلة والواقع يشهدان بكذب هذا المفتري وعظم جرأته على الله وقلة حيائه من الله ومن الناس فهؤلاء أمم كثيرة لم يكتبوها فلم تسود وجوههم وهنا جم غفير لا يحصيهم إلا الله قد كتبوها مرات كثيرة فلم يقض دينهم ولم يزل فقرهم فنعوذ بالله من زيغ القلوب ورين الذنوب وهذه صفات وجزاءات لم يأت بها الشرع الشريف لمن كتب أفضل كتاب وأعظمه وهو القرآن الكريم فكيف تحصل لمن كتب وصية مكذوبة مشتملة على أنواع من الباطل وجمل من أنواع الكفر سبحان الله ما أحكمه على من اجترأ عليه بالكذب.(12/330)
الأمر الرابع: من الأمور الدالة على لأن هذه الوصية من أبطل الباطل وأضح الكذب قوله فيها "ومن يصدق بها ينج من عذاب النار ومن كذب بها كفر"وهذا أيضا من أعظم الجرأة على الكذب ومن أقبح الباطل يدعو هذا المفتري جميع الناس إلى أن يصدقوا بفريته ويزعم أنهم بذلك ينجون من عذاب النار وأن من كذب بها يكفر لقد أعظم على والله هذا الكاب على الله الفرية وقال والله غير الحق إن من صدق بها هو الذي يستحق أن يكون كافرا لا من كذب بها لأنها فرية وباطل وكذب لا أساس له من الصحة ونحن نشهد الله على أنها كذب وأن مفتريها كذاب يريد أن يشرع للناس ما لم يأذن به الله ويدخل في دينهم ما ليس منه والله قد أكمل الدين وأتمه لهذه الأمة من قبل هذه الفرية بأربعة عشر قرنا فانتبهوا أيها القراء والإخوان وإياكم والتصديق بأمثال هذه المفتريات وأن يكون لها رواج فيما بينكم فإن الحق عليه نور لا يلتبس على طالبه فاطلبوا الحق بدليله واسألوا أهل العلم عما أشكل عليكم ولا تغتروا بحلف الكذابين فقد حلف إبليس اللعين لأبويكم على أنه لهما من الناصحين وهو أعظم الخائنين وأكذب الكذابين كما حكى الله عنه ذلك في سورة الأعراف حيث قال سبحانه: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} فاحذروه واحذروا اتباعه من المفترين فكم له ولهم من الأيمان الكاذبة والعهود الغادرة والأقوال المزخرفة للإغواء والتضليل عصمني الله وإياكم من شر الشياطين وفتن المضلين وزيغ الزائغين وتلبيس أعداء الله المبطلين الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويلبسوا على الناس بدينهم والله متم نوره وناصر دينه ولو كره أعداء الله من الشياطين وأتباعهم من لكفار والملحدين.(12/331)
وأما ما ذكره هذا المفتري من ظهور المنكرات فهو أمر واقع والقرآن الكريم والسنة المطهرة قد حذرا منها غاية لتحذير وفيها الهداية والكفاية ونسال الله أن يصلح أحوال المسلمين وأن يمن عليهم باتباع الحق والاستقامة عليه والتوبة إلى الله سبحانه من سائر الذنوب فإنه التواب الرحيم القادر على كل شيء وأما ما ذكر عن شروط الساعة فقد أوضحت الأحاديث النبوية ما يكون من أشراط الساعة وأشار القرآن الكريم إلى بعض ذلك فمن أراد أن يعلم ذلك في محله من كتب السنة ومؤلفات أهل العلم والإيمان وليس بالناس حاجة إلى بيان مثل هذا المفتري وتلبيسه ومزجه الحق بالباطل وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله الصادق الأمين وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.(12/332)
الغناء من علل المجتمع المسلم
بقلم فضيلة الشيخ معوض عوض إبراهيم
تحت عنوان "فتوى شرعية.. من عالم بالأزهر".. "الغناء المحتشم.. ليس حراما"وإلى جوار صورة إحدى الفتيات.. نشرت جريدة الأخبار القاهرية - كلاما نسبته لعالم أعرفه حريصا على أن يقول الحق.. ولهذا أبادر فأنكر نسبة هذا الكلام إليه إن لم يكن قد سقط بعضه أو أضيف إليه ما ليس منه.
إن صوت المرأة في المعاملات الضرورية لا بأس به في دين الله، إن لم تتكلف المرأة اللين في كلامها من جهة وحين لا يكون في صوتها من جهة أخرى ما يغري بها رقاق الدين ومرضى الأفئدة.. والله تعالى يقول لأمهات المؤمنين وهو أدب معهن لمن وراءهم من بنات حواء: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} الأحزاب 32، قولا لا تنكره الشريعة ولا يجافي التصون والكمال فإن كان صوتها مما يطمع فإنها مأمورة بالغض منه والتصرف فيه عما يوقع في الإثم على غير إرادة منها والله تعالى يقول: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} الإسراء 29.
والكلام الذي نشر على أنه فتوى "عالم من الأزهر"يكاد بعضه يصرع بعضا، وليس فيه بصيص من نور الشريعة وحتى يكون القراء على علم به، أنقل منه بأمانة هذه الفقرات.. "إن الغناء الذي لا يثير الفتن ولا يحرك الشهوات ولا يصد عن الواجبات لم يحرمه حديث شريف ولا سنة نبوية قال القاضي أبو بكر العربي – هكذا لم يصح في تحريم الغناء شيء!!.(12/333)
ثم يردف قائلا: "ولا شك أن الغناء المحرم هو المقترن بمجالس الخمر والسهر الحرام.. وهناك قيود لابد من مراعاتها لكي يكون الغناء مباحا، منها: ضرورة احتشام المغنية! وألا يخالف موضوع الغناء آداب الإسلام وأن يؤدي الغناء بطريق وقورة لا تميع فيها ولا إغراء ولا إثارة! ! ولابد أن تكون المعنية مرتدية الزي الشرعي الفضفاض السميك الذي لا يظهر غير الوجه والكفين ثم تجنبها التزين!!.
ومعذرة فقد أكثرت من علامات التعجب التي تغني كل واحدة منها على كلام وكلام في هذا الكلام.
ثم تقول الفتوى "هذا هو الرأي الشرعي في الغناء"مع التأكيد بأن معظم الغناء الذي تسمعه اليوم هو من النوع المحظور الحرام، وعلى المجتمع أن يتذكر قول الله تعالى "وذكرت الفتوى البسملة"ولو أنها تعوذت بالله لعصمها من هذا اللهث في غير طائل وكان ذلك هو الحق في القراءة، ثم ذكرت الفتوى بعد البسملة المقحمة في غير موضعها كما أقحم هذا الكلام كله على الدين باسم "عالم من الأزهر" قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} اه
تلك هي الفتوى بقضها وقضيضها – كما يقولون – لا كما قلت: إنني أنقل منها فقرات إنصافا لما قيل وللقارئ حتى يكون على بينة من الأمر..
ثم أتساءل: أوكل دين الله – أيها الناس – هو الكلمة التي أوردتها الفتوى من كلام ابن العربي رحمه الله؟ ! وإذا سلمنا جدلا أنها من كلامه أهي كل ما قال ابن العربي في الغناء؟ وغناء المرأة بخاصة على ما يعرف الناس من مظاهر أمر المغنيات وأغانيهن وما يكون عليه الإيقاظ وغير الإيقاظ بين أيديهن في الاحفال التي يقذف فيها الشيطان بكل ضلاله.
سكران:
سكر هوى وسكر مدامة
ومتى إفاقة من به سكران؟(12/334)
وليتنا نعي أقوال المفسرين لقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً..} لقمان 6.
فإن فيما قالوا هدى لشداة الحلال وشريف الخصال، وشداة لأنفس الذين يؤثرون الحق على ممالأة الرجال، وقد قرأ ابن مسعود هذه الآية ثم قال: "الغناء والله الذي لا إله إلا هو"يرددها ثلاثا..
وروى عنه القرطبي رحمه الله قوله "الغناء ينبت النفاق في القلب"وابن عمر وجمع غفير من الصحابة والتابعين وتابعيهم هم أعلا كعبا من أبي بكر ابن العربي على جلالته مع ابن مسعود فيما ذهب إليه من تفسير "لهو الحديث"بالغناء غناء الرجال أيها الرجال.. وإن القرطبي ليذكر من كلام ابن العربي "الغناء المعتاد الذي يحرك النفوس ويبعثها على الهوى والغزل والمجون و..، لا يختلف في تحريمه لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق فأما ما سلم من ذلك – والكلام لابن العربي – فيجوز القليل منه في أوقات الفرح كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة كما كان في حفر الخندق.. فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإمعان على سماع الأغاني بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف والأوتار فحرام"اه ابن العربي.. ولقد ترجم البخاري – أيها الناس – باب كل لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله ومن قال لصاحبه تعال أقامرك وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} .
وأود أن ينظر طالب المزيد المسألة الثالثة من تفسير القرطبي رحمه الله للآية.. ففيها غنية وكفاية في الموضوع وفيها:
- الغناء على الدوام - والكلام في غناء الرجال وليس منه غناء النساء بحال - سفه، ترد به الشهادة فإن لم يدم لا ترد.(12/335)
- أما مالك بن أنس فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه وقال: إذا اشترى جارية ووجدها مغنية كان له ردها بالعيب ذلك – أيها الناس – في الجارية بعيبها وهو مذهب أهل المدينة إلا إبراهيم بن سعد.
- أما مذهب أبي حنيفة فإنه يكره الغناء، ويجعل سماعه من الذنوب وهو مذهب سائر أهل الكوفة بإجماع ولا يعرف لأهل البصرة خلاف في ذلك إلا ما روي عن أبي الحسن العنبري.
- وأما مذهب الشافعي فقال: الغناء مكروه يشبه الباطل ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته.
- وذكر ابن الجوزي عن إمامه ابن حنبل ثلاث روايات: قال: وقد ذكر أصحابنا عن الخلال وصاحبه عبد العزيز إباحة الغناء وإنما أشاروا إلى ما كان في زمانهما من شعر الزهد قال.. وعلى هذا يحمل ما لم يكرهه الإمام أحمد.. ويدل عليه أنه سئل عن رجل مات وخلف ولدا وجارية مغنية فاحتاج الصبي إلى بيعها فقال: تباع على أنها ساذجة لا على أنها مغنية فقيل له: إنها تساوي ثلاثين ألفا ولعلها عن بيعت ساذجة تساوي عشرين ألفا؟ فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة قال ابن الجوزي: وإنما قال أحمد هذا لأن هذه الجارية المغنية لا تغني بقصائد الزهد بل بالأشعار المطربة المثيرة إلى العشق وإني ههنا لأسترعي انتباه القارئ على ما ذكر بعد من كلام ابن العربي من سماع القينات فلا ستكمل كلام أبي الفرج في قول القرطبي وهذا دليل على أن الغناء محظور إذ لو لم يكن محظورا ما جاز تفويت المال على اليتيم.
- قال الطبري: فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد والعنبري وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالسواد الأعظم ومن فارق الجماعة مات ميتة جاهلية" وأورد أبو الفرج قول القفال برد شهادة المعني والرقاص.(12/336)
وقد استخلص القرطبي من هذه الأقوال حكما فقال "وقد ثبت أن هذا الأمر - غناء الرجال - لا يجوز، فأخذ الأجرة عليه لا يجوز وقد ادعى أبو عمر بن عبد البر الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك ولفت الأنظار إلى تفسيره رحمه الله الآية {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} الأنعام"وقال "وحسبك".
ومن عجب أن أهل هذه الصناعة من الرعاية على المستويات العليا ما لا يجد كثيرون من البناة والدعاة والضرائب في بعض الأقطار تخفض عنهم بينما تتضاعف على إنتاج العلماء والمفكرين والصحف اليومية تذكر هذه الأيام أن متوسط دخل فلان من المغنيين في بعض أقطارنا الكبرى هو عشرون ألف جنيه شهريا!! {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} الشورى36.
وكنت على موعد مع القارئ أن أذكر له قول ابن العربي في غناء القينات فخذه من قول القرطبي "الرابعة: قال القاضي أبو بكر بن العربي: وأما سماع القينات فيجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته – جاريته هو أيها الناس – إذ ليس شيء منها عليه حراما لا من ظاهرها ولا من باطنها فكيف يمنع من التلذذ بصوتها؟ أما أنه لا يجوز انكشاف النساء للرجال ولا هتك الأستار ولا سماع الرفث فإذا أخرج ذلك إلى ما لا يحل ولا يجوز منع من أوله واجتث من أصله.(12/337)
أما سماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم فإن أصحاب الشافعي قالوا: لا يجوز.. سواء كانت حرة أو مملوكة وقال الشافعي وصاحب الجارية إذا جمع عليها الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته، ثم ذكر وصفا غليظا.. وإنما جعل صاحبها سفيها لأنه دعا الناس إلى الباطل ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيها"اه أيبقى مجال لتصديق ما أوردت الفتوى من القول المنسوب لابن العربي "لم يصح في تحريم الغناء شيء"وقول الذي أفتى "أن الغناء لم يحرمه حديث شريف ولا سنة نبوية"؟ ومع هذا فلا بأس بأن أورد لمن قالوا "الغناء المحتشم ليس حراما"من أصح كتابين بعد القرآن الكريم - البخاري ومسلم - عن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: أمزمار الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال دعهما، فلما غفل غمزتهما فخرجتا".
أن الرسول لم ينكر على أبي بكر قوله عن الغناء – غناء جاريتين عند سيدة بما لا فحش فيه ولا شبهه –: "مزمار الشيطان"وإنما أقرهما الرسول لأنهما جاريتان غير مكلفتين تغنيان بغناء الأعراب الذي قيل يوم بعاث من الشجاعة والحرب، وكان اليوم يوم عيد.
وقد حكى أبو عمرو بن الصلاح الإجماع على تحريم السماع الذي جمع الدف والشبابة فليرجع من شاء إلى فتاويه في ذلك ينتهي معه إلى قوله.. "ومن يتتبع ما اختلف فيه العلماء أو أخذ بالرخص من أقاويلهم تزندق أو كاد"اه(12/338)
وقال أبو سليمان الدراني "لو أخذت برخصة كل عالم، وزلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله"وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه "إغاثة اللهفان": "قد تواتر عن الإمام الشافعي رضي الله عنه قوله" خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير – وهو كما قال ابن دريد – تهليل أو ترديد صوت بقراءة وغيرها – يصدون به الناس عن القرآن فإذا كان قول الشافعي في التغبير – وهو من الرجال أيها الناس – وتعليله له أنه يصد عن القرآن وهو شعر مزهد في الدنيا يغني به مغن ويضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو حجرة على توقيع غناء فليت شعري ما يقول في سماع – التغبير عنده كنقطة في بحر – قد اشتمل على كل مفسدة وجمع كل محرم فالله بين دينه وبين كل متعلم مفتون وعابد جاهل وقد كتب خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز لمؤدب ولده: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن صوت المعازف واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما ينبت العشب في الماء"ذكره الإمام ابن القيم.
ولابن القيم رحمه الله تنبيهان، في كتابه "إغاثة اللهفان"يصف في أولهما المعكوف على السماع بما يشمئز به عن السماع ذووا القلوب وساق المذاهب الأربعة في السماع.. ويذكر في ثاني التنبيهين في "إغاثة اللهفان"أن السماع من الأجنبيات من أعظم المحرمات وأشدها إفسادا للدين.. وقال فيه: وما خالف في الغناء إلا رجلان إبراهيم بن سعيد والعنبري فإن الساجي حكى عن الأول أنه كان لا يرى به بأسا أما الثاني فهو مطعون فيه"اه.(12/339)
لقد أرخيت للقلم العنان وما يزال للإفاضة في الغناء مكان فلا اجتزئ راضيا بقول أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز: "ما ساح السياح وخلوا ديارهم وأولادهم إلا لمثل ما نزل بنا حين رأوا الشر قد ظهر والخير قد اندرس ورأوا الفتن ولم يؤمنوا أن تغيرهم وأن ينزل العذاب بأولئك القوم فلا يسلمون منه فرأوا أن مجاورة السباع وأكل البقول خير من مجاورة هؤلاء في نعيمهم ثم قرأ {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} الذاريات 50".
قال: "فر قوم فلولا ما جعل الله جل ثناؤه في النبوة ما جعل لقلنا ما هم بأفضل من هؤلاء فمما بلغنا أن الملائكة لتلقاهم وتصافحهم والسحاب والسباع تمر بأحدهم فيناديها فتجيبه ويسألها أين أمرت؟ فتجيبه وليس بنبي".
والله المسؤول أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه وأن لا يجعله ملتبسا علينا فنضل ونهلك وطوبى لمن آثر الحق فظاهره وآثره وإن تركه وما له من صديق.
معوض عوض إبراهيم
الباحث العلمي برئاسة البحوث
العلمية والإفتاء(12/340)
الإخاء الإسلامي قوة وعطء وانتصار
لفضيلة الشيخ أحمد عبد الرحيم السايح
الإخاء الإسلامي.. هو الأصل الأصيل في بناء دولة الإسلام. وقيام الأمة الإسلامية.. "ولقد كان العرب - قبل الإسلام - والناس معهم على شفا حفرة من النار. متشاكسون. متنافرون، متحاربون، سنين طويلة، من أجل ناقة، فنزلت الآيات.. قيل لهم: تحابوا فتحابوا. قيل لهم: تآخوا فتآخوا. ثم قيل لهم: انفروا. فهبوا خفافا وثقالا.. تنزلت الآيات.. فقالوا: سمعنا وأطعنا. ومؤمنو مكة. على اختلاف قبائلهم ما عرفنا لهم اسما في التاريخ إلا المهاجرين ومؤمنو المدينة ما عرفنا لهم اسما في التاريخ إلا الأنصار فإذا بالفرقاء والمتشاكسون دولة" [1] .
والإسلام لم يكتف بإطلاق اسم المهاجرين. على المؤمنين من أهل مكة الذين هاجروا إلى المدينة.. ولم يكتف أيضا بإطلاق اسم الأنصار على قبيلتي الأوس والخزرج، أبناء قيلة.. مع أن إطلاق اسم الأنصار والمهاجرين كافيا لإعطاء العمق الإسلامي الأصيل.
لم يكتف الإسلام بهذا. ولذا نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدأ في البناء الأخوي الكامل. ليقيم دولة الإسلام. على أساس سليم..
قال ابن إسحاق: "وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار فقال فيما بلغنا: "تآخوا في الله أخوين أخوين" [2] .
قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [3] .(12/341)
لقد بلغ المسلمون الأوائل في الإيثار - بكل ما تشمله كلمة إيثار من معنى ومفهوم ومدلول - بلغوا درجة عليا. ومكانة عظمى. بما وقر في قلوبهم من إيمان. وبما أشرق في نفوسهم من يقين..
إن قوة الإيمان بالله، والتصديق برسوله صلى الله عليه وسلم. تجعل النفس الإنسانية. تشرق بالكثير من صفات الخير. وتتخلق بالآداب والفضائل العظيمة..
ولقد صنع ذلك الإيمان وهذا التصديق. جماعة اصطبغ سلوكهم بالشمائل الجليلة.. فكانوا يؤثرون إخوانهم بأموالهم. وديارهم. على أنفسهم. ويتنازلون عن قسمهم في الغنائم من أجلهم، ويقدمون حاجة إخوانهم على حاجتهم، حبا لهم، ورغبة في أخوتهم [4] .
والإيثار في الإسلام هو: تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الدينية، وذلك ينشأ عن قوة اليقين، وتوكيد المحبة، والصبر على المشقة، يقال: آثرته بكذا أي خصته به وفضلته [5] .
والذين سكنوا المدينة. وأشربت قلوبهم حب الإيمان، من قبل هجرة أولئك المهاجرين.. لهم صفات كريمة وشيم جليلة، تدل على كرم النفس ونبل الطباع، [6] ولذا كانوا يقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم، ويبدأون بالناس قبلهم، وفي حال احتياجهم إلى ذلك.. وهؤلاء تصدقوا به، وهم يحبون ما تصدقوا به، وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه [7] .
وجاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم أموال بني النضير على المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة نفر: أبا دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصمة. وقال لهم: "إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة". فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا، ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها [8] .(12/342)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: "إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم"فقالوا: أموالنا بيننا قطائع.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك؟ قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: هم قوم لا يعرفون العمل فتكفونهم وتقاسمونهم التمر ". فقال لله" [9] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت الأنصار للرسول صلى الله عليه وسلم: أقسم بيننا وبين إخواننا النخيل.. فقال الرسول: لا. فقالوا: المهاجرون - أتكفوننا المؤنة ونشرككم في الثمرة؟ قالوا: سمعنا وأطعنا [10] .
نعم.. إن الإيمان الصادق. إذا صادف قلوبا. هيئت له، تمكن فيها ونما، وترعرع، وأشرقت آثاره على من حولها، وسعى أصحاب هذه القلوب المؤمنة، في بذل ما يرضي من حولهم من المسلمين.
وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. من خيرة من تمسك بفضيلة الإيثار.. حرصا على أخوة الإسلام. وتواددا في ظلال الإيمان.. قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [11] . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ..} [12] .
والمؤاخاة في الناس. قد تكون على وجهين [13] :
أحدهما: أخوة مكتسبة بالاتفاق الجاري مجرى الاضطرار.
والثانية: أخوة مكتسبة بالقصد والاختيار.
فأما المكتسبة بالاتفاق.. فهي أوكد حالا، لأنها تنعقد عن أسباب تعود إليها.. والمكتسبة بالقصد. تعقد لها أسباب. تنقاد إليها، وما كان جاريا بالطبع. فهو ألزم مما هو حادث بالقصد.
أما المكتسب بالاتفاق فله أسباب..
ما له هوى إلا له سبب
يبتدي منه وينشعب
وأول أسباب الإخاء: التجانس في حال يجتمعان فيها، ويأتلفان بها، إن قوى التجانس. قوى الائتلاف به، وإن ضعف كان ضعيفا، ما لم تحدث عليه علة أخرى، يقوى بها الائتلاف.(12/343)
وإنما كان كذلك. لأن الائتلاف بالتشاكل، والتشاكل بالتجانس، فإذا عدم التجانس من وجه انتفى التشاكل من كل وجه، ومع انتفاء التشاكل يعدم الائتلاف.. فثبت أن التجانس وإن تنوع أصل الإخاء. وقاعدة الائتلاف.
وقد روى يحيى بن سعد عن عمر، عن عائشة رضي الله عنها. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف. وما تناكر منها اختلف" فالأرواح بالتجانس متعارفة، وبفقده متناكرة. قال الشاعر:
فلا تحتقر نفسي وأنت خليها
فكل امرئ يصبو إلى من يشاكل
وقال آخر:
فقلت أخي قالوا أخ من قرابة
فقلت لهم إن الشكول أقارب
نسيبي في رأيي وعزمي وهمتي
وإن فرقتنا في الأصول المناسب
ثم يحدث بالتجانس. المواصلة بين المتجانسين، وهي المرتبة الثانية من مراتب الإخاء. وسبب المواصلة بينهما وجود الاتفاق بينهما. فصارت المواصلة نتيجة التجانس.. والسبب فيه وجود الاتفاق. لأن عدم الاتفاق منفر. وقد قال الشاعر:
الناس إن وافقتهم عذبوا
أولا فإن جناهم مر
كم من رياض لا أنيس بها
تركت لأن طريقها وعر
ثم يحدث عن المواصلة رتبة ثالثة وهي المؤانسة. وسببها: الانبساط.
ثم يحدث عن المؤانسة رتبة رابعة وهي المصافاة. وسببها: خلوص النية.. ورتبة خامسة.. وهي المودة وسببها الثقة. وهذه الرتبة هي أدنى الكمال، في أحوال الإخاء. وما قبلها أسباب تعود عليها. فإن اقترن بها المعاضدة.. فهي الصداقة، ثم يحدث عن المودة، رتبة سادسة، وهي المحبة، وسببها: الاستحسان، فإن كان الاستحسان لفضائل النفس. حدثت رتبة سابعة. وهي الإعظام. وإن كان الاستحسان للصورة والحركات حدثت رتبة ثامنة، وهي العشق، وسببه الطمع. وقد قال المأمون رحمه الله تعالى:
أول العشق مزاح وولع
ثم يزداد إذا زاد الطمع
كل من يهوى وإن عالت به
رتبة الملك لمن يهوى تبع(12/344)
وهذه الرتبة آخر الرتب المعدودة. وليس لما جاوزها رتبة مقدرة. ولا حالة محدودة، لأنها قد تؤدي إلى ممازجة النفوس. وإن تميزت بذواتها، وتفضي إلى مخالطة الأرواح. وإن تفارقت أجسادها.. وهذه حالة لا يمكن حصر غايتها، ولا الوقوف عند نهايتها.. وقد قال الكندي: الصديق إنسان هو أنت إلا أنه غيرك..
ومثل هذا المروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين أقطع طلحة بن عبيد الله أرضا، وكتب له بها كتابا، وأشهد فيه ناسا. منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأتي طلحة بكتابه إلى عمر ليختمه، فامتنع عليه عمر.. فرجع طلحة إلى أبي بكر رضي الله عنه وقال: والله ما أدري أنت الخليفة أم عمر؟ فقال: بل عمر لكنه أنا [14] ..
أما المؤاخاة المكتسبة بالقصد.. فلابد لها من داع يدعو إليها، وباعث يبعث عليها.. وقد يكون الداعي لها من وجهين: رغبة وفاقة.. فأما الرغبة فهي أن يظهر من الإنسان فضائل تبعث على إخائه، ويتوسم بجميل يدعو إلى اصطفائه.. وأما الفاقة.. فهي أن يفتقر الإنسان لوحشة انفراده، ومهانة وحدته، إلى اصطفاء من يأنس بمؤاخاته، ويثق بنصرته وموالاته [15] ..
وأعز ما تملكه الجماعات الإخاء فهو الرصيد الثابت، والقاعدة الصلبة والمرتكز الصاعد.
والأخوة في الإسلام. قاعدة الحياة ولا حياة بدون إخاء. وإخوان..والأخوة في الإسلام فوق كل الحاجز الجنسية، والعرقية. والقومية، والحزبية، والسياسية، وهي في الإسلام على أصول أصيلة، وقواعد متينة.
ومن ذلك وحدة الأصل الإنساني فالناس جميعا على اختلاف أجناسهم، وتمايز ألوانهم، وتباعد أقطارهم، يرجعون إلى أب واحد، وأصل واحد، ولطالما ذكر القرآن الكريم هذه الحقيقة وبينها في أساليب شتى، وآيات متعددة، لكي تكون دائما موضع الاعتبار، والرعاية.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا..} [16](12/345)
فهذه الآية العظيمة – كما ترى – تقرر أصلا من أصول الإسلام، وهو المساواة بين الناس.. ولقد قررت هذه الآية. مبدأ ضخما من المبادئ الإنسانية السامية.. فهي من معجزات هذا القرآن الذي أنزله الله ضياء للناس ونورا. يهتدون به، وبرهانا ساطعا ينير السبل أمامهم [17] .
وكان العالم قبل انبثاق نور الإسلام. يموج في الظلم، ويضطرب في الفساد، وتسوده الهمجية، والعصبية الجاهلية، وتخيم عليه ضلالات العصور القديمة، وقد نشر الرعب أجنحته على الدنيا وزاد الفساد، وتفاخر بالأنساب، وعاشوا تحت ظل نظام الطبقات..
في هذه الظلمة الداكنة، ينبثق فجر الإسلام، فتبدد أنواره، تلك الغيوم السوداء،.. وتنزل هذه الآية الكريمة، لتقرر مبدأ إنسانيا عظيما.. وهو إعلان المساواة بين البشر، كل البشر [18] .
ويهتم القرآن الكريم بالإنسانية والبشرية، اهتماما يفوق حد الوصف. وهذه كلمة "الناس"يتكرر استعمالها في أساليب القرآن الكريم نحوا من مائة وأربعين مرة.. كثير منها جاء خطابا للبشر عموما. وكثير منها ورد دالا على الجنس البشري.
وهذه أيضا كلمة "الإنسان"تستعمل في آيات القرآن الكريم، في لأكثر من ثمانين موضعا.. في أساليب متنوعة. عائدة بالمفكر والعاقل، إلى أصل الإنسان. ولا شك أن استعمال "الناس"و "الإنسان"بهذا الاهتمام يخلق في المسلم تربية إنسانية، تعجز عن الوصول إليها أساليب رجال التربية الحديثة، أمثال: جان جاك روسو، وهربارت سبنسر، وجون ديوي، ووليم جيمز،.. وغيرهم من فلاسفة التربية، حتى كلمة البشر الدالة على الجنس الإنساني الواحد، تستعمل في القرآن الكريم، في أكثر من خمس وثلاثين آية، وهكذا يهتم القرآن الكريم. بكل ما من شأنه أن يوقظ في الناس، أحاسيس الإنسانية، ويربي الخلق الإنساني.. والإسلام جاء ليقيم بين البشر رابطة الإنسانية القائمة على ارتباط البشر جميعا بالله خالق الأرض والسموات.(12/346)
"وفي إنشاء جميع البشر من نفس واحدة، لآيات بينات على قدرة الله وعلمه وحكمته ووحدانيته.. وفي التذكير بذلك إيماء إلى ما يجب من شكر نعمته، وإرشاد إلى ما يجب من التعاون والتعارف بين البشر. وأن يكون هذا التفرق إلى شعوب وقبائل مدعاة على التأليف. لا إلى التعادي والتقاتل وبث روح العداوة والبغضاء بين الناس" [19] .
وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم. ولا إلى أجسامكم ن ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم. فمن كان له قلب صالح تحنن الله عليه وإنما أنتم بنو آدم، وأحبكم إليه أتقاكم" [20] .
والمسلمون هم أحق الناس بالحفاظ على الأخوة. وأجدر الناس باتباع هدى القرآن، وتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن الأصول الأصيلة للأخوة في الإسلام وحدة العقيدة.(12/347)
ووحدة العقيدة من أهم الركائز لوحدة المسلمين، وتكامل أخوتهم. وعقيدة المسلمين واحدة. لا تختلف باختلاف جنس من الأجناس. أو لون من الألوان، أو مصر من الأمصار، أو جيل من الأجيال، أو زمن من الأزمان، هذه العقيدة قائمة وتقوم على الإيمان بالله. وبرسول الله، وبكل ما في القرآن.. وأن الإسلام هو الإسلام.. والقرآن هو القرآن.. ومن آيات العقيدة في القرآن قول الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [21] .
قال الإمام ابن كثير: اشتملت هذه الآية على جمل عظيمة، وقواعد عميمة وعقيدة مستقيم [22] .
والآية كما نرى مشتملة على خمسة عشر خصلة.. وترجع إلى ثلاثة أقسام: فالخمسة الأولى منها تتعلق بالكمالات الإنسانية التي هي من قبيل صحة الاعتقاد. وآخرها قوله: "والنبيين" وافتتحها بالإيمان بالله واليوم الآخر لأنهما إشارة إلى المبدأ والمعاد.
والستة التي بعدها تتعلق بالكمالات النفسية التي هي من قبيل حسن المعاشرة العباد وأولها (وآتى المال) وآخرها (وفي الرقاب) .
والأربعة الأخيرة تتعلق بالكمالات الإنسانية التي هي من قبيل تهذيب النفس وأولها (وأقام الصلاة) وآخرها (وحين البأس) ولعمري من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان ونال أقصى مراتب الإيقان [23] .(12/348)
وعقيدة الإسلام واحدة لدى كل المسلمين في شرق الأرض وغربها، وشمالها وجنوبها، تجتمع عليها قلوبهم. وتحفظها عقولهم. وتستيقنها نفوسهم، ووحدة العقيدة، جددت بين المسلمين، ما مضى من قرابة الدم القائمة بينهم.
وإذا كانت أبوة آدم عليه السلام، أبوة مادية، تجمع بين الأمة الإسلامية. وتوحد بينها في الأصل، فإن العقيدة الإسلامية، هي أبوة روحية. ترجع إليها فروع المؤمنين. والحق أن المؤمن حينما يستشعر جلال هذا الأصل الروحي، الذي يجمعه وإخوانه المؤمنين، في مشارق الأرض ومغاربها إلى جانب الأصل المادي الذي يرجعه معهم على أبوة واحدة. فإنه حينئذ يشعر أنه إنما يحيا بإخوانه، ويحيا لهم ويحس كأنه غصن من أغصان شجرة عظيمة، يحيا بحياتها ويموت بموتها [24] .
وإن رابطة العقيدة في الإسلام – وهي رابطة في المبادئ والمثل العليا والقيم الرفيعة – من أقوى عوامل التقدم والازدهار.
وتلك التعاليم هي أعلى وأقوى من رابطة الدم. والنسب، والمساكنة، في الوطن. والمشاركة في القومية. وهذا الأساس هو المنطلق الوحيد، للخروج من قوقعة الأنانيات الفردية، والقبلية والقومية. إلى صعيد اللقاء الإنساني. على أساس المبادئ. مبادئ الحق، والعدل، والخير، وفي هذا الإطار التربوي النفسي ذاته، عالج الإسلام النفس الإنسانية إعدادا لها، لتحقيق المعارف، والتعاون.
فعالج آفاتها وأمراضها الحائلة دون التعاون. كالحقد والحسد والغل، التي تثيرها دوافع النفعية للذات الفردية أو القبلية أو القومية [25] .(12/349)
والأصل الثالث في أصول الأخوة الإسلامية وحدة مصدر التشريع.. ومصدر التشريع واحد لدى المسلمين.. وهو القرآن الكريم. كتاب الله الذي أنزله ليكون دستور الخالق في إصلاح الخلق. ينظم الحياة. ويعالج النفوس، ويقوم اعوجاج المجتمع، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [26] .
وقال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [27] .
وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [28] .(12/350)
وأن الله عز وجل ذكر للنور ثلاث فوائد:
الأول: أنه يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام أي أن من اتبع منهم ما يرضيه تعالى بالإيمان بهذا النور، يهديه الطريق التي يسلم بها في الدنيا والآخرة. من كل ما يرديه ويشقيه، فيقوم في الدنيا بحقوق الله تعالى. وحقوق نفسه الروحية والجسدية، وحقوق الناس، فيكون متمتعا بالطيبات. مجتنبا للخبائث، نقيا، مخلصا، صالحا، مصلحا. ويكون في الآخرة سعيدا منعما جامعا بين النعيم الحسي والجسدي والنعيم الروحي العقلي.
الثانية: الإخراج من ظلمات الجهل والوثنية. إلى نور التوحيد الخالص. حيث يصبح الإنسان حرا كريما بين الخلق، عبدا خاضعا بين يدي الخالق وحده.
الثالثة: الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو الطريق الموصل إلى المقصد والغاية من الدين. في أقرب وقت. لأنه طريق لا عوج فيه، ولا انحراف، فيبطئ سالكه، أو يضل في سيره..
وهو أن يكون الاعتصام بالقرآن الكريم على الوجه الصحيح الذي أنزله الله تعالى لأجله. بأن تكون عقائده. وآدابه، وأحكامه، مؤثرة في تزكية النفس، وإصلاح القلب، وإحسان الأعمال. وثمرة ذلك سعادة الدنيا والآخرة. بحسب سنن الله في خلق الإنسان [29] ..
والقرآن الكريم هو وحده القادر على تحديد علاقة الإنسان بالوجود كله والقرآن الكريم هو وحده القادر على أن يرسم للمجتمع الإسلامي الخطوط السليمة. ويضع له الحوافظ التي تحفظ الإنسانية. من التردي والهلاك..
والقرآن الكريم هو وحده الذي توجد فيه الحلول المنطقية المقبولة لكل ما وراء الحواس. وهو وحده الذي توجد فيه الحلول العملية لكل الجوانب وبهذا كان القرآن الكريم غنيا بكل جوانب الحياة الروحية والعقلية والجسمية..
والقرآن الكريم هو وحده القادر على إذكاء روح الأخوة الإسلامي وتدعيم المحبة بين المسلمين. .(12/351)
وما دام القرآن الكريم يعمل على وحدة الصف الإسلامي.. فلا غرو أن يأمر الله المسلمين إن دب بينهم نزاع بأن يرجعوا إلى كتاب الله..
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [30] . فالرجوع عند التنازع في أي أمر إلى كتاب الله. وسنة رسول الله شرط في الإيمان. وذلك كله خير محض لا شر فيه أبدا..
ومن العجيب أن تشاهد تنازعا واختلافا بين الأخوة المسلمين. يؤدي على تحرك أجهزة الإعلام كلها. لتلقى الشتائم والسباب. والتهم.. وإن هذا الأمر محزن ومؤلم.. ولا يصح أن يكون بين المسلمين.. ولا شك أن المذاهب الهدامة. والأحزاب البغيضة لها اثر فعال في توسيع هوة الخلاف والاختلاف.
والمسلمون أخوة بنص القرآن الكريم قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [31] . . أخوة في الدين والحرمة لا في النسب، ولهذا قيل: أخوة الدين اثبت من أخوة النسب. فإن أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب [32] .(12/352)
وأخوة الدين أحق وأجدر أن يهتم لها، ويصلح ما بين المؤمنين. لأنها أخوة بنص كتاب الله تعالى. والله سبحانه وتعالى هو الذي عقد هذه الأخوة وما عقده الله تبارك وتعالى لا تحله يد بشر. مهما قويت. وسطتن وظلمت. ومن عجيب أمر هذه الآية الكريمة. أنها جاءت وكأنها قررت أمرا واقعا مفروغا منه، لا يرد ولا يصد. فقالت: "إنما المؤمنون إخوة"هذا حكم الله، وهكذا أخبر عن هذا العقد الذي ربطه في السماء بين المؤمنين مهما اختلفت أجناسهم. وتباينت لغاتهم. وتباعدت أقطارهم. وتناءت ديارهم. فهم اخوة، تجمعهم عقيدة خالدة، ورسالة واحدة. وهكذا جاءت الجملة خبرية، تقرر واقعا عظيما وتخبر عنه فقالت: "إنما المؤمنون إخوة"ولم تأت الجملة إنشائية ن إذ لم جاءت الآية إنشائية. لكانت الأخوة غير موجودة. ولكنه عز وجل ربط قلوب المؤمنين برباط واحد، وعقد هذا الرباط. ثم أخبر عن هذه الحقيقة الثابتة الواقعة، وقضى فيها بحكمة فقال:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ثم ثنى بتقرير هذه الحقيقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال:
"المسلم أخو المسلم أحب أو كره" كما قال عليه الصلاة والسلام: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يعيبه. ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عنه الريح إلا بإذنه، ولا يؤذيه بقتار قدره".وفي سنن أبي داود، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن مرآة المؤمن. المؤمن أخو المؤمن. يكف عنه ضيقه ويحوطه من ورائه"..
وهكذا فهم الصحابة الكرام هذه الأخوة. وعاشوا فيها ولها، وأصبحوا بفضل الله تعالى إخوانا.. دعوتهم واحدة، وأمرهم واحد.. تقاسموا الحب فيما بينهم، وآثروا إخوانهم على أنفسهم. فقاسموهم الأموال، ووصلوا إلى درجة من الإيثار. أن يقول الصاحب لصاحبه:: هذا مالي جعلته بيني وبينك. وهاتان زوجتاي اختر أيتهما تشاء لتتزوجها أنت [33] .(12/353)
والأخوة في الإسلام أسلوب تربوي وسلوك عملي، يسمو بالمسلمين، ويصل بهم إلى ذروة مراقي الفلاح والنصر..
وآثار الأخوة تبدو واضحة في التعاون الذي قام بين المسلمين. فجعل منهم أمة واحدة. تخوض المعارك بإيمانها بالله. وبنصر الله. لم تكن هذه الأمة القائمة على الأخوة. تعرف اليمين ولا اليسار. ولا التقدمية، ولا الثورية، ولا الحزبية، ولا جبهة السلام. ولا جبهة الرفض، ولا غير ذلك من حركات أريد بها شغل العالم الإسلامي، وتمزيق أخوته ووحدته، وسوف يبقى المسلمون في أشد الحاجة إلى الأخوة الإسلامية، لأنها السياج الذي يقي المجتمع من التعثر والتبعثر.
والأمة الإسلامية تحتاج إلى الجامعة الإسلامية المتكاملة في الإخاء الإسلامي الذي لا يعرف ولا يعترف بالحزبية، ولا العصبية، ولا القومية، ولا الإقليمية. ولا المذاهب الفكرية.
وقد أتم الله للمسلمين، وحدة الأصل، ووحدة العقيدة، ووحدة المصدر، ووحدة الشعور، ووحدة الصف، ووحدة العادات.
وكانت آثار ذلك واضحة. سواء في معارك بدر. والقادسية، واليرموك، وحطين، وعين جالوت، والعاشر من رمضان. وغير ذلك من معارك المسلمين التي خاضوها في سبيل الله.
وسواء في الحب في الله والتعاون المثمر، والتكامل والمساواة والعدل والشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن منطلق الأخوة الإسلامية كانت أمتنا ولا زالت تملك رصيدا ضخما، يمكن استثماره، لتحقيق الإخاء الإسلامي العظيم والذي يجعلنا نحس بإخواننا المسلمين في الفلبين. وأريتريا، وبلغاريا، وفلسطين، وتايلند، وبخارى، والتركستان. وغيرها من المناطق التي يئن فيها المسلمون توجعا وألما.
والذي يجعلنا أيضا نعتز بالانتماء الإسلامي. ونرفض كل ما عدا الإسلام من الماركسية والتقدمية. وغيرهما من الأسماء التي أبدعها القاموس الشيوعي الإلحادي.(12/354)
وسوف نحقق ما نأمله في ظلال الإسلام. وقوتنا رهينة بتمسكنا بالإسلام. وقد أثبت التاريخ والتجربة أن الإسلام خير ما عرفته الإنسانية.
بقلم: أحمد عبد الرحيم السايح
من رجال الأزهر
العنوان الدائم: مصر العربية – القاهرة
مدينة نصر – المنطقة الأولى 14 شارع الرياضة.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] مجلة البحوث الإسلامية العدد الأول ص 16 الرياض.
[2] سيرة النبي لابن هشام الجزء الثاني ص 351.
[3] سورة الحشر الآية رقم 9.
[4] الدين والحياة ع 119 ص 6. وزارة الأوقاف المصرية.
[5] تفسير القرآن للإمام القرطبي ج 18 ص 24.
[6] تفسير القرآن للإمام المراغي ج 28 ص 43.
[7] تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج 4 ص 337 بتصرف.
[8] الكشاف للزمخشري ج 4 ص 84.
[9] تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج 4 ص 337. رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
[10] تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج 4 ص 337، والحديث رواه البخاري.
[11] سورة الفتح الآية رقم 29.
[12] سورة الأنفال الآية رقم 85.
[13] أدب الدنيا والدين للماوردي ص 140 ط 17 المطبعة الأميرية 1346هـ.
[14] أدب الدنيا والدين ص 143.
[15] المصدر السابق بتصرف ص 142.
[16] سورة الحجرات الآية رقم 13.
[17] نظرات في سورة الحجرات للشيخ محمد محمود الصواف ص 147 طبع مؤسسة الرسالة.
[18] المصدر السابق ص 148.
[19] تفسير الشيخ المراغي الجزء السابع ص 201.
[20] التاج الجامع للأصول الجزء الأول ص 61.
[21] سورة البقرة الآية رقم 177.
[22] تفسير القرآن لابن كثير الجزء الأول ص 207.
[23] تفسير القرآن للألوسي الجزء الأول ص 359، 360(12/355)
[24] المسلمون أمة واحدة عدد رقم 101 ص 13 (الدين والحياة) وزارة الأوقاف.
[25] استراتيجية العالم الإسلامي ص 95 وزارة الحج والأوقاف 1391هـ
[26] سورة المائدة الآيتان 48، 49.
[27] سورة البقرة الآيات 2 إلى 5.
[28] سورة المائدة الآيتان 15، 16.
[29] تفسير المنار الجزء السادس ص 305.
[30] سورة النساء الآية رقم 59.
[31] سورة الحجرات الآية رقم 59.
[32] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج 16 ص 322.
[33] راجع نظرات في سورة الحجرات ص 107 للشيخ الصواف.(12/356)
نعمة العمل بالتشريعات الإسلامية
لفضيلة الشيخ محمد المهدي محمود
نعمة العمل بالتشريعات السماوية وشؤم الأخذ بالقوانين الوضعية
إن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن الحكيم هداية ونورا لكل ما يسعد الإنسان في دنياه وأخراه قال جل شأنه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أي إن هذا النور الإلهي يهدي ويوصل للتي هي أحكم وأعدل. يهدي لأجمل الطرق وأرشدها وأكملها ومن هذه الهداية الربانية:
الهداية في الأحكام:
ولقد سعدت الأمة الإسلامية في عصورها الزاهية المباركة بنعمة العمل بكتاب الله سبحانه وتعالى فعرف الناس نعمة الهدوء والأمن والاستقرار وعاشوا في ظلال رحمة الله حياة وافرة الظلال، طيبة الثمار، وعرفا معنى الحياة الحقة، الهادئة الطيبة، المباركة الحياة السعيدة، بكل ما في السعادة من معنى جميل، وصدق الحق سبحانه إذ يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ثم جاءت عصور الضعف وجاء تلاميذ الاستعمار بعد رحيل أساتذتهم من المستعمرين الصليبيين. جاءوا حاكمين وموجهين فأبعدوا الناس عن كتاب الله وعن نور الله، وعن هداية الله وتشريعاته السماوية المباركة، واستعاضوا عنها بالقوانين الوضعية التي من تفكير البشر، وتفكير البشر هيهات أن يرى النور إلا عن طريق الله جل وعلا. عملوا بالقوانين الوضعية، وتركوا تشريعات السماء المعصومة من الخطأ، فأعرضوا عن نور الله وهداه!! فماذا كانت النتيجة؟؟!.(12/357)
لقد اضطربت الحياة، وقدت الأمن والهدوء، فكثرت حوادث السرقة، وتعددت جرائم السلب والنهب، واجترأ اللصوص على القتل من أجل السرقة، والنشل من أجل الحصول على المال من أي طريق ولو فيه إهدار الدماء، ولا كرامة للإنسان صاحب المال، فحياته معرضة للخطر عند أول سانحة للوغد اللئيم، والسارق المجرم الخسيس الذي لم يجد تشريعا يردعه، ويوقفه عن غدره وظلمه، فراح يكرع من دماء الناس لاستباحة أموالهم وحقوقهم.
والصحافة خير شاهد على ما نقول ففي كل يوم تحمل لنا الصحافة مأساة دامية وفاجعة مروعة من أجل سرقة أموال الأبرياء المساكين وكم رأينا من ضحايا يسيل دمها على الأرض يشكو ظلم الإنسان لأخيه الإنسان! ! كم من رأينا من ضحايا يسيل دمها على الأرض يسجل حجة الله على القائمين بالتشريع والتقنين الذين كانوا سببا في سلب نعمة الأمن والهدوء والاستقرار والطمأنينة التي هي في ظلال هداية القرآن، وتشريعات الله، نور الله الخالد. الموصل إلى السعادة في الدنيا والآخرة.
إن هذه القوانين الوضعية - الوضيعة - من إنتاج عقول صليبية طالما كرعت من الخمر وتغذت بلحم الخنزير فمن أين يأتيها الخير؟.
على أن هذه القوانين الوضعية أضلت أهلها، وكانت سببا في شقائهم، وحيرتهم وضلالهم، ثم إنها في تغير وتبدل باستمرار، ومن ثم كانت القوانين الوضعية بالإضافة إلى المبادئ الشرعية هما السبب المباشر في شقاء العالم وضلاله. فكلاهما من تفكير ضال!!، وأما تشريعات السماء فهي معصومة عن الخطأ، ولله الحمد والمنة على أن جعل البلاد المقدسة تنعم بالحكم بكتاب الله على يد أبطال يعملون على إعلاء كلمة الله، ويحمون البلاد عن شر الانحرافات عن تعاليم الله سبحانه وتعالى، وهدى الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم وأن أدنى مقارنة بين البلاد التي تحكم بكتاب الله، وأرقى بلاد العالم حضارة نجد الفارق عنيفا إنه فرق ما بين السماء والأرض.(12/358)
فهنا الأمن والأمان، والهدوء والطمأنينة الطيبة المباركة.
لأنها في ظلال هداية القرآن الكريم، كتاب الباري جل وعلا.
ونحن إذ نتحدث في هذه الموضوعات إنما على مستوى علمي عالمي لانقصد دولة بعينها ول قطرا بذاته، وإنما نقصد كل دولة سبق أن ابتليت بمحن الاستعمار، وكان الاستعمار فيها سيدا وموجها، ثم تلاميذ له هم أشد خطرا منه.
وإننا نسأل الله، ونضرع إليه سبحانه وتعالى، وهو القوي العزيز، أن يكتب للمسلمين عودة كريمة إلى كتاب الله، وسنة الهادي الأمين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.(12/359)
التهاب الزائدة الدودية
للدكتور كايد أحمد الكايد
كثيرا من المراجعين في هذه الأيام يأتيني وهو بحالة رعب وخوف قائلا إنه ذهب إلى أحد الأطباء وقرر له عملية الزائدة الدودية. وهذا المريض يريد أخذ رأيي في هذا الموضوع. فمسألة لزائدة الدودية مسألة بسيطة للغاية حيث كانت بالفعل بالماضي مسألة خطيرة ولكن الآن وبعد أن تقدم الطب ووسائله أصبحت عملية الزائدة من أبسط العمليات وتنتهي في نضع دقائق فقط ونتائجها سليمة من المضاعفات تقريبا وهذا يتم إذا تواجد الوعي والاعتناء بالمريض وتقدم الوسائل والإمكانات، وإليكم الآن بعض المعلومات عن التهاب الزائدة الدودية المسمى كذلك التهاب المصران الأعور وعن مضاعفاته وأخيرا عن علاجه.
يحدث هذا الالتهاب في ثلاثة أشكال وهي شكله الحاد متكررة ونادرا ما يكون التهابا مزمنا. ولنتكلم عن الالتهاب الحاد وهو أكثر الحالات الجراحية في منطقة البطن ويندر حدوثه في العامين الأولين من العمر وما بعد الستين كذلك ويكثر في العشر سنوات التالية لسن البلوغ. وتكثر نسبة الإصابة بعد البلوغ عند الذكور دون الإناث ومن الغريب أن يحدث بكثرة عند الطبقات المرفهة من الشعب وتقل في الطبقات الفقيرة.
ويرجع السبب في الالتهاب الحاد إلى انسداد في فم المصران الأعور فيزداد الضغط الداخلي للمصران وبهذا تفسد الدورة الدموية للمصران.
ويختص هذا المصران بالصفات التي تتحلى بها باقي الأمعاء من حركة، وإفراز وامتصاص ولكن لقلة العضلات الموجودة في هذا المصران فإن تفريغ محتوياته يكون بطيئا ومقابل ذلك تكون نسبة الامتصاص عالية. ونتيجة ذلك هي تكون الحصى داخل المصران وهذا يؤدي إلى الاحتقان والانسداد والنتيجة بالطبع هي الالتهاب بالمصران.(12/360)
ومن الغريب أن المصران الأعور عند الكلاب يحتوي على عضلات كثيرة لذا فهو سريع في إفراغ محتوياته الشيء الذي يؤدي إلى عدم التهاب الزائدة عنها قطعيا.
ومن الأسباب المؤدية إلى الالتهاب كذلك. الحمل عن النساء وجود المصران في غير مكانه الطبيعي، وكذلك أي نوع من التهابات البطن. وأول ما يشعر به المريض بالزائدة هو الألم وهذا يكون إما ألما مفاجئا أو تدريجيا. ونوبة المغص الحاد تحصل غالبا من الاحتقان الحاصل بالمصران وتختص النوبة بصفات قد لا يشخص بمرض غيرها. وتأتي هذه النوبة فجأة والألم يزداد ويخف ومعظم الحالات تكون شدة الألم في البداية أكثر منها فيما بعد وليس مكان الألم المعتاد هو القسم السفلي الأيمن من البطن وهو الذي مكان المصران عادة إنما يكون بمحاذاة المعدة أو حول السرة أو في جميع أنحاء البطن أيضا. وبعد ساعات من بدأ الألم يتجمع في منطقته المعتادة وهي القسم السفلي الأيمن من البطن.
وتتفاوت شدة الألم من إحساس بسيط أو ضعف خفيف بالبطن إلى مغص مؤلم حاد مع هبوط بالنبض وشبه غيبوبة.
وأول ما يخطر بالبال إذا كان الألم شديدا جدا هو انفجار بالزائدة الدودية وفي تلك الحالات لا يمكن تعيين مكان الألم. ولا ننسى أنه قد يحدث مثل هذه الآلام الشديدة دون انفجار الزائدة كذلك.
ومكان الألم يتعلق بموضع المصران حيث كما ذكرت آنفا أن له مكانه المعتاد وهو القسم السفلي الأيمن من البطن وما عدا ذلك فله عشرة أماكن متعددة في البطن منها تحت المعدة وخلف الكبد وفوق الكلى والخ.
وتصاحب نوبة الزائدة حرارة عالية وهذه ليست بقاعدة حيث من الممكن أن لا تكون هناك حرارة على الإطلاق وعموما فالمسنون لا ترتفع حرارتهم إلا إذا أخذت عن طريق الشرج.
والقيء أو لشعور بالقيء يحدث عادة عند المريض بالزائدة وقد يندر عدم مشاهدة هذه الظاهرة.(12/361)
الإمساك أمر لابد منه عند المريض وقد يسبق الإمساك إسهال بسيط ولفترة وجيزة فقط.
ولو تدرجنا بالنقاط الملموسة أثناء فحص المريض لكانت كالآتي:
شعور بالألم ثم دوخة وتقيأ ثم ارتفاع بدرجة الحرارة وقد يحدث بعد ذلك كثرة التبول وحرقان بالبول ثم تلون اللسان بلون الصدأ.
وهناك نقطة يجب أن لا تفوتنا هي أن جدار البطن يكون مشدودا تماما وخاصة بالمنطقة المقابلة للمصران الملتهب وبالطبع يختلف ذلك حسب مكان وجود المصران وأما شدة جدار البطن فهي تكون أيضا تدريجيا إلى أن تصل كشدة قطعة من الخشب أو أشد قليلا.
والمريض في هذه الأثناء لا يتحمل اللمس تماما وهناك نقطته الحساسة بذلك وهي المنطقة السفلية اليمنى من البطن فالمريض لا يحتمل لمس تلك المنطقة من شدة الألم.
ومن الخواص العجيبة كذلك أنه حال اللمس والضغط ثم رفع اليد يحصل ألم رهيب أكثر من ألم اللمس وهذه نقطة هامة في تشخيص المرض.
وهكذا بعد أن تحدثنا بإيجاز عن خواص هذا المرض فلابد من التحدث عن مضاعفاته ومعنى ذلك أننا نترك المريض دون أن نعالجه أو نعالجه بخطأ بالتشخيص ومن هذه المضاعفات:
1- تكون خراج حول المصران الأعور وخلف المستقيم وإذا لم يتدخل الطبيب الجراح بإجراء العملية الجراحية خلال 48 ساعة يحدث انفجار بالمصران الملتهب لا سمح الله.
2- ومن المضاعفات الهامة كذلك التهاب بجدار البطن وهذا قد يحدث عند الأطفال الصغار دون البالغين.
3- وقد يحدث كذلك انسداد في الأوردة الدموية نتيجة التهاب تلك الأوردة الأمر الذي يؤدي إلى التهابات متعددة في الكبد.
4- ومن المضاعفات أيضا انسداد الأمعاء وهذا لا يحدث في أثناء التهاب الزائدة بل بعد مرور شهور أو سنين على الالتهاب بالزائدة.
هذه بعض المضاعفات التي قد تحدث من جراء التهاب المصران الأعور والآن وأخيرا ما هم العلاج لذلك.(12/362)
والعلاج الوحيد لالتهاب الزائدة الدودية هو العملية الجراحية لاستئصاله وأنصح ما إذا شخص الطبيب المرض بعدم تعاطي المسكنات والملينات حتى لا يخفى وجه المرض الحقيقي ويتم ذلك في أقرب مستشفى..
والله تعالى أسأل أن يعافينا وينجينا من جميع الأمراض..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/363)
موكب النور
لفضيلة الشيخ عبد الحميد ربيع
تحية للطلائع المتفوقة
من المتخرجين في الجامعة الإسلامية
ماذا بقلبي على الأشواق ينتظر
مواكبا بالسنا تزهو وتزدهر؟
أم البشير شدا لقيا أحبتنا
فغردت بالمنى من فرحتي زمر؟
بل إنه موكب للنور تقدمه
شبابنا ولديهم يزدهي الشجر
في كفهم بشرى تسعى بهم ثمرا
وفي رياض الهدى يسعى لها الثمر
ومن سعى بوفود العزم مشرقة
فساطع النور من كفيه ينتشر
هذا الشباب بدا في الجد مفخرة
حتى غدا الجد في لقياه يبتهر
يسابق الأمل الفرحان في دأب
فتقبل الغاية القصوى وينتصر
يمضي بهمة سباق يصاحبه
عزم يسير على إشراقه القمر
يمضي بمهجة أحباب جهادهم
قد أيقظ الليل حتى شاقه السهر
وسار في أذنهم نغم يوقعه
همس الصحائف إذ يطوى بها النظر
تسافر العين بين السطر تتبعه
بآخر لتتم الرحلة الفكر
حتى إذا وصلت بالضوء قمته
رأت سنا الفجر بالآمال ينتظر
ومن سرى في جهاد نحو غايته
سعى إليه على أشواقه الظفر
هنا الشباب عيون الكون ساهرة
ليحصن الكون فيها الحب والبصر
جاءت لجامعة الإسلام يدفعها
شوق إلى مورد بالعلم ينهمر
علم بنور كتاب الله قد سطعت
آياته فسما في نورها البشر
وأقبلوا للهدى أفواج معرفة
كأنما هم نجوم الفكر قد ظهروا
وقد بدت دعوة الإسلام رائدهم
فصاحبوا الحكمة الكبرى كما أمروا
وسلحوا العقل بالإيمان وانطلقوا
إلى المغاليق من أذهان من كفروا
وكلما فتحوا فتحا أضاء لهم
نهجا جديدا فشدوا العزم واصطبروا(12/364)
ومن سرى الفوز بساما بموكبه
حلا لموكبه في البسمة الخطر
وقد مضوا لبيان في اللسان سنا
يعطون للفهم والتبيان ما قدروا
وأقبل النقد يحبو في بلاغته
يهدي العياد لما أبدوا ويعتذر
ومن يلبي جهادا عند مأمله
يسعى له الفوز بالآمال يفتخر
ولو رأيت فتى يحنو على ورق
بمرجع ضج فيه البحث والنظر
يسعى به مشعلا يهدي بصيرته
للفقه ما يقتني منه وما يذر
ويبصر المورد العذب الذي نهلت
منه الصحابة كي يروي ويعتبر
وذاك يتلو الهدى كيف العطاء به
مع المحبة من للبر يفتقر
يسمو بمجتمع ترعاه أمته
مع الحياة وإن يلملم به الضرر
إذا سما الناس في حب وفي ألم
كانوا الأعزة لا تسعى لهم غير
يا إخوة الروح في الإسلام ما برحت
أرواحنا في الهدى تحيا وتنصهر
عهد مع العلم تعطيه الشباب سنا
حتى يضيء به من للدنا عمروا
وقد بدا موكب للنور تصحبه
تلك الطلائع من في الموكب انتصروا
إلي بموكبهم أعطيت جائزة
بكل فرد هنا يزهو به العمر
أليس كل شباب المسلمين هنا
ولدي بهم للسنا أسعى وأقتدر
إذا بدا الفوز بالأبناء مؤتلقا
شدا لآبائهم بالفرحة الدهر
يا موكب النور سر بين الشباب هدى
وبين من فاز فالإقدام يستعر
حتى يضيئوا مع الإسلام عزتنا
في الشرق والغرب فالإسلام ينحسر
وها هو في لبنان يقتله
أهل الصليب ومن عفوا ومن عذروا
وفي الفلبين من للدين قد ذبحوا
وأعلنوا أنه الإسلام يندحر
وفي سنا الصبح في الصومال تخنقه
شراذم في حمى الإسلام تستتر
لكنهم لن ينالوا قيد أنملة
من ديننا الحق فالإلحاد يحتضر(12/365)
فمن سعى سفها للشمس يطفئها
فإنه هالك بالضوء ينتحر
يا فتية الحق والإسلام دينكم
صونوه من قبل أن يشقى بمن عثروا
سيروا بها كلمة التوحيد ساطعة
للفجر يدعو به في صوتكم "عمر"
واجلوا الغشاوة عن أبصار من غفلوا
يبدو النهار فلا ينأى بكم سفر
وقلبنا معكم إن تبلغوا أملا
يسعد وإن تخفقوا فالقلب ينفطر
فامضوا إلى الحق الرحمن ينصركم
لن يخذل الله قوما للهدى نصروا
موجه اللغة العربية بالجامعة
عبد الحميد ربيع(12/366)
التقوى سبب كل خير
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه سيدنا وإمامنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم القيامة، أما بعد:-
فلشدة الحاجة إلى التقوى ولعظم شأنها، ولكون كل واحد منا، بل كل واحد من المسلمين في أشد الحاجة إلى التقوى والاستقامة عليها، رأيت أن تكون محاضرتي هذه الليلة بعنوان "التقوى سبب كل خير"كل من تدبر موارد التقوى في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله محمد عليه الصلاة والسلام، علم صحة هذا المعنى، فأنت يا عبد الله إذا قرأت كتاب ربك من أوله إلى آخره، تجد التقوى رأس كل خير، ومفتاح كل خير، وسبب كل خير في الدنيا والآخرة، وإنما تأتي المصائب والبلايا والمحن والعقوبات بسبب الإهمال أو الإخلال بالتقوى وإضاعتها، أو إضاعة جزء منها، فالتقوى هي سبب السعادة والنجاة وتفريج الكروب والعز والنصر في الدنيا والآخرة، ولنذكر في هذا آيات من كتاب الله، ترشد إلى ما ذكرنا، من ذلك قوله جل وعلا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} قال بعض السلف في هذه الآية: أجمع آية في كتاب الله أو قال: من أجمع آية في كتاب الله، وما ذاك إلا لأن الله رتب عليها خير الدنيا والآخرة، لأن تفريج الكروب والرزق من حيث لا يحتسب العبد يعم الدنيا والآخرة، فمن اتقى الله جعل له مخرجا من مضايق الدنيا ومضايق الآخرة، والإنسان في أشد الحاجة، بل في أشد الضرورة إلى الأسباب التي تخلصه من المضايق في الدنيا والآخرة، ولكنه في الآخرة أشد حاجة وأعظم ضرورة الكربات وأعظم المضايق كربات يوم القيامة، وشدائدها، فمن اتقى الله في هذه الدار فرج الله عنه كربات يوم القيامة، وفاز بالسعادة والنجاة في ذلك اليوم(12/367)
العظيم العصيب، فمن وقع في كربة من الكربات فعليه أن يتقي الله في جميع الأمور، حتى يفوز بالفرج والتيسير، فالتقوى باب لتفريج كربة العسر وكربة الفقر وكربة الظلم وكربة الجهل وكربة السيئات والمعاصي وكربة الشرك والكفر إلى غير ذلك، فدواء هذه الأمور وغيرها أن يتقي بترك الأمور التي حرمها وبالتعلم والتفقه في الدين حتى يسلم من عواقبها في الدنيا والآخرة، فالسيئات لها عواقب في الدنيا من عقوبات قدرية، أو عقوبات شرعية، من الحدود والتعزيرات والقصاص ولها عقوبات في الآخرة، أولها عذاب القبر، ثم بعد الخروج من المقابر بعد البعث والنشور عقوبات وشدائد يوم القيامة، ومن عقوباتها أيضا أن الإنسان يخف ميزانه بسبب إضاعة التقوى ويرجح ميزانه بسبب استقامته على التقوى، ويعطى كتابه بيمينه إذا استقام على التقوى، وبشماله إذا انحرف عن التقوى، ويدعى إلى الجنة إذا استقام على التقوى، ويساق إلى النار إذا ضيع التقوى وخالف التقوى ولا حول ولا قوة لا بالله.
الإنسان محتاج أيضا إلى الرزق الحلال الطيب في هذه الدار وإلى النعيم المقيم في الآخرة وهو أحسن نعيم وأعظم النعيم ولا نعيم فوقه، ولا طريق إلى ذلك ولا سبيل إلا بالتقوى، فمن أراد غز الدنيا والرزق الحلال فيها والنعيم في الآخرة، فعليه بالتقوى.
والإنسان محتاج إلى العلم، والبصيرة والهدى، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتقوى كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانا} والفرقان كما قال أهل العلم: هو النور الذي يفصل به بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال.(12/368)
ولا يخفى على من تأمل أن الاجتهاد في طلب العلم والتفقه في الدين من جملة التقوى، وبذلك يحصل النور والهدى، وهما الفرقان، فالتقوى كلمة جامعة حقيقتها الإيمان والعمل الصالح كما قال الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} وكما قال عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} فالتقوى حقيقتها إيمان صادق بالله ورسوله، وبما أخبرت به الرسل عما كان وعما يكون، ثم عمل صالح وهو مقتضى الإيمان وموجبه، ومن ذلك التعلم والتفقه في الدين وهما من التقوى كما تقدم، ولذلك رتب الله على التقوى الفرقان، لأن من شعبها التعلم والتفقه في الدين والتبصر في ما جاء به المصطفى عليه الصلاة والسلام.
فالإنسان قد تضيق أمامه الدروب وتسد في وجهه الأبواب في بعض حاجاته، فالتقوى هي المفتاح لهذه المضائق وهي سبب التيسير لها كما قال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} وقد جرب سلفنا الصالح وهم الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان، كما جرب قبلهم رسل الله عليهم الصلاة والسلام الذين بعثهم الله لهداية البشر، وحصلوا بالتقوى على كل خير وفتحوا بها القلوب، وهدوا بها البشرية إلى الصراط المستقيم.(12/369)
وإنما حصلت لهم القيادة للأمم والذكر الجميل والفتوحات المتتبعة بسبب تقواهم لله وقيامهم بأمره وانتصارهم لدينه وجمع كلمتهم على توحيده وطاعته، كما أن الناس في أشد الحاجة إلى تكفير السيئات وحط الخطايا وغفران الذنوب وسبيل هذا هو التقوى كما قال عز وجل: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} وقال عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} ومن أعظم الأجر الفوز بالجنة والنجاة من النار، وهكذا المسلمون في أشد الحاجة إلى النصر على أعدائهم والسلامة من مكائد الأعداء ولا سبيل إلى هذا إلا بالتقوى كما قال عز وجل: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} فالمسلمون إذا صبروا في طاعة الله وفي جهاد أعدائه واتقوا ربهم في ذلك بإعداد العدة المستطاعة البدنية والمالية والزراعية والسلاحية وغير ذلك نصروا على عدوهم لأن هذا كله من تقوى الله، ومن أهم ذلك إعداد العدة المستطاعة من جميع الوجوه، كالتدريب البدني والمهني والتدريب على أنواع الأسلحة، ومن ذلك إعداد المال وتشجيع الزراعة والصناعة وغير ذلك مما يستعان به على الجهاد والاستغناء عما لدى الأعداء وكل ذلك داخل في قوله سبحانه:(12/370)
{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ولا يتم ذلك إلا بالصبر، والصبر من أعظم شعب التقوى وعطفها عليه في قوله سبحانه: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا} من عطف العام على الخاص، فلابد من صبر في جهاد الأعداء، ولابد من صبر في الرباط في الثغور ولابد من صبر في إعداد المستطاع من الزاد والبدن القوي المدرب كما أنه لابد من الصبر في إعداد الأسلحة المستطاعة التي تماثل سلاح العدو أو تفوقه حسب الإمكان، ومع هذا الصبر لابد من تقوى الله في أداء فرائضه وترك محارمه والوقوف عند حدوده والانكسار بين يديه والإيمان بأنه الناصر، وأن النصر من عنده لا بكثرة الجنود ولا بكثرة العدة ولا بغير ذلك من أنواع الأسباب، وإنما النصر من عنده سبحانه وإنما جعل الأسباب لتطمين القلوب وتبشيرها بأسباب النصر كما قال جل وعلا: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} الآية وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} وقال عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} الآية وهذه الأعمال من شعب التقوى، وبهذا يعلم معنى قوله سبحانه: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} فإذا أراد المسلمون النصر والعزة في الدنيا والآخرة وتفريج الكروب وتيسير الأمور وغفران الذنوب وتكفير السيئات والفوز بالجنات إلى غير هذا من وجوه الخير فعليهم بتقوى الله عز وجل، والله وصف أهل الجنة بالتقوى فقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} ، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} ، {إِنَّ(12/371)
لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} ، فبين سبحانه أنه أعد الجنة لأهل التقوى، فعلمت يا أخي أنك في أشد الحاجة إلى أن تتقي ربك، ومتى اتقيته سبحانه حق التقوى فزت بكل خير ونجوت من كل شر، وليس المعنى أنك لا تبتلى، بل قد تبتلى وتمتحن، وقد ابتلي الرسل وهم أفضل الخلق وأفضل المتقين حتى يتبين للناس صبرهم وشكرهم وليقتدى بهم في ذلك، فبالابتلاء يتبين صبر العبد وشكره ونجابته وقوته في دين الله عز وجل، يقول سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} فلابد من الامتحان والفتنة كما تقدم، وكما قال جل وعلا: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} ، وقال سبحانه: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} ، وقال سبحانه: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .(12/372)
فالاختبار لابد منه، فالرسل وهم خير الناس امتحنوا بأعداء الله. "نوح"تعلمون ما جرى عليه وهكذا هود وصالح وغيرهم وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وإمام المتقين وأفضل المجاهدين ورسول رب العالمين تعلمون ما أصابه بمكة، وفي المدينة وفي الحروب، ولكنه صبر صبرا عظيما حتى أظهره الله على أعداءه وخصومه، ثم ختم له سبحانه وتعالى بأن فتح عليه مكة ودخلت عشيرته في دين الله أفواجا وتابعهم الناس بعد ذلك، فلما أتم الله النعمة عليه وعلى أمته وأكمل لهم الدين اختاره إلى الرفيق الأعلى وإلى جواره عليه الصلاة والسلام بعد المحنة العظيمة والصبر العظيم والبلاء الشديد فكيف يطمع أحد بعد ذلك أن يسلم أو يقول متى كنت متقيا أو مؤمنا فلا يصيبني شيء ليس الأمر كذلك، بل لابد من الامتحان، ومن صبر حمد العاقبة، لكن كما قال جل وعلا: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} ، وقال: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} ، فالعاقبة لأهل التقوى، ومتى صبروا واحتسبوا وأخلصوا لله وجاهدوا أعداءه وجاهدوا هذه النفوس، فالعاقبة لهم في الدنيا والآخرة، كما قال عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} .
فأنت يا عبد الله في أشد الحاجة إلى تقوى ربك ولزومها والاستقامة عليها ولو جرى ما جرى من الامتحان، ولو أصابك ما أصابك من الأذى أو الاستهزاء من أعداء الله، أو من الفسقة والمجرمين لا تبالي، اذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام، واذكر أتباعهم بإحسان، فقد أوذوا واستهزئ بهم وسخر بهم ولكنهم صبروا فكانت لهم العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة.(12/373)
فأنت يا أخي كذلك اصبر وصابر فإن قلت ما هي التقوى؟ فقد سبق لك شيء من بيانها وقد تنوعت عبارات العلماء في التقوى، وروي عن عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين رضي الله عنه ورحمه أنه قال: ليس تقوى الله بقيام الليل وصيام النهار والتخليط فيما بين ذلك، ولكن التقوى أداء فرائض الله وترك محارمه، فمن رزق بعد ذلك خيرا فهو خير إلى خير، فمن رزق بعد أداء الفرائض وترك المحارم نشاطا في فعل النوافل وترك المكروهات والمشتبهات فهو خير إلى خير، وقال طلق بن حبيب التابعي المشهور رحمه الله: تقوى الله أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تدع معاصي الله على نور من الله تخاف عقاب الله، وقال بعضهم في تفسيرها: التقوى طاعة الله ورسوله، وقال آخرون: أن تجعل بينك وبين غضب الله وعقابه وقاية تقيك ذلك بفعل الأوامر وترك النواهي، وكل هذه العبارات معانيها صحيحة. فالتقوى حقيقتها هي دين الإسلام وهي الإيمان والعمل الصالح، وهي العلم النافع والعمل به وهي الصراط المستقيم وهي الاستسلام له جل وعلا بفعل الأوامر، وترك النواهي عن إخلاص كامل له سبحانه وعن إيمانه به ورسله، وعن إيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله، إيمان صادق يثمر أداء الفرائض وترك المحارم والمسارعة إلى الخير والحذر من الشر والوقوف عند الحدود، وإنما سمى الله دينه تقوى لأنه يقي من استقام عليه عذاب الله وغضبه، ويحسن له العاقبة جل وعلا وسمى هذا الدين إسلاما، لأن المسلم يسلم نفسه لله وينقاد لأمره، يقال أسلم فلان لفلان أي انقاد له، ولهذا سمى الله دينه إسلاما في قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} وغيرها من الآيات، لأن المسلم انقاد لأمر الله وذل لعظمته، فالمسلم حقا ينقاد لأمر الله، ويبتعد عن نهيه ويقف عند حدوده قد أعطى القيادة لربه فهو عبد مأمور رضاه وأنسه ومحبته ونعيمه في امتثال أمر الله وترك نهيه، هذا هو المسلم الحق.(12/374)
ولهذا قيل له مسلم، يعني منقادا لأمر الله تاركا لمحارمه واقفا عند حدوده، يعلم أنه عبد مأمور عليه الامتثال، ولهذا سمى الدين عبادة كما سمى إسلاما، سمى عبادة كما في قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} وفي قوله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} فسمي عبادة لأن العباد يؤدون أوامر الله ويتركون نواهيه عن ذل وخضوع وانكسار، وعن اعتراف بالعبودية وأنهم مماليك لله وأنه سيدهم، وأنه القاهر فوقهم، وأنه العالم بأحوالهم وأنه المدبر لشؤونهم، فهم عبيد مأمورون ذليلون منقادون لأمره سبحانه وتعالى، فلهذا سمى الله دينه عبادة لأن العبادة عند العرب هي التذلل والخضوع والانكسار، يقولون طريق معبد، يعني مذلل قد وطأته الأقدام، ويقولون أيضا، بعير معبد، يعني قد شد ورحل حتى ذل للركوب والشد عليه، فسميت طاعتنا لله عبادة لأننا نؤديها بالذل والخضوع لله جل وعل، وسمي العبد عبدا لأنه ذليل بين يدي الله مقهر والخضوع لله جل وعلا، وسمي العبد عبدا لأنه ذليل بين يدي الله مقهور مر بوب للذي خلقه وأوجده وهو المتصرف فيه سبحانه وتعالى.(12/375)
وسمى هذا الدين أيضا إيمانا، لأن العباد يؤدونه عن إيمان بالله وتصديق به ورسله، فلهذا سمي دين الله إيمانا لهذا المعنى كما في الحديث الصحيح لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان" أخرجه الشيخان واللفظ لمسلم، فبين عليه الصلاة والسلام أن الدين كله إيمان وأن أعلاه قول لا إله إلا الله، فعلمنا بذلك أن الدين كله عند الله إيمان ولهذا قال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} فسماهم بذلك لأنك أيها المؤمن بالله واليوم الآخر تؤدي أعمالك وطاعتك وتترك المحارم عن إيمان وتصديق بأن الله أمرك بذلك ونهاك عن المحارم وأنه يرضى منك هذا العمل ويثيبك عليه وأنه ربك ولم يغفل عنك وأنت تؤمن بهذا، ولهذا فعلت ما فعلت فأديت الفرائض وتركت المحارم ووقفت عند الحدود وجاهدت نفسك لله عز وجل.
وسمي الدين برا لأن خصاله كلها خير، وسمى هذا الدين هدى لأن من استقام عليه فقد اهتدى إلى خير الأخلاق وإلى خير الأعمال، لأن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم ليكمل مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال كما في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" وفي حديث أنيس أخي أبي ذر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى مكارم الأخلاق فهذا الدين سمي هدى لأنه يهدي من استقام عليه إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} وقال في أهله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} وقال في أهله أيضا: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} وبهذا تعلم يا أخي معنى هذه الألفاظ "الإسلام"، "الإيمان"، "التقوى"، "الهدى"، "البر"، "العبادة"، إلى غير ذلك.(12/376)
وتعلم أيضا أن هذا الدين الإسلامي قد جمع الخير كله فمن استقام عليه وحافظ عليه وأدى حقه وجاهد نفسه بذلك فهو متق لله وهو موعود بالجنة والكرامة وهو موعود بتفريج الكروب وتيسير الأمور وهو الموعود بغفران الذنوب وحط الخطايا وهو الموعود بالنصر والسلامة إذا استقام على دين الله وصبر عليه وجاهد نفسه لله وأدى حق الله وحق عباده فهذا هو المتقي وهو المؤمن، وهو البر، وهو المفلح، وهو المهتدي والصالح، وهو المتقي لله عز وجل، وهو المسلم الحق.
وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم للتقوى وأن يأخذ بأيدينا جميعا لما يرضيه وأن يجعلنا جميعا من عباده الصالحين ومن حزبه المفلحين، وأن يمن علينا بالاستقامة على تقواه في كل أقوالنا وأعمالنا والدعوة إلى ذلك والصبر عليه إنه سبحانه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.(12/377)
أخبار الجامعة
المجلس الأعلى لجامعة يعقد دورته الثانية للعام الدراسي 95 – 1396 هـ.
بناء على الموافقة السامية من صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة حفظه الله على عقد المجلس الأعلى للجامعة دورته الثانية وإنابة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد وعضو المجلس في رئاسة هذه الدورة بكتاب سموه رقم 15497 بتاريخ 22-6-1396هعقد المجلس الأعلى للجامعة دورته الثانية في العام الدراسي 95-1396هبمقر الجامعة أيام الأحد والاثنين والثلاثاء 21-22-23 من شهر رجب 1396هوقد حضر الدورة أعضاء المجلس الآتية أسماؤهم وصفاتهم مرتبين حسب حروف الهجاء:
سعادة الدكتور أحمد عبيد الكبيسي أستاذ مساعد بجامعة بغداد.
سماحة الشيخ عبد الله غوشة رئيس قضاة الأردن.
فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد نائب رئيس الجامعة.
فضيلة الشيخ عمر محمد فلاتة الأمين العام للجامعة.
فضيلة الدكتور كامل محمد الباقر رئيس جامعة أم درمان الإسلامية.
فضيلة الدكتور محمد أمين المصري رئيس قسم الدراسات العليا بالجامعة.
سعادة الدكتور محمد الحبيب بن الحوجة عميد الكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين بتونس.
معالي الدكتور محمد حسن فايد رئيس جامعة الأزهر.
سعادة الشيخ محمد صالح قزاز الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي.
معالي الدكتور محمد عمر زبير مدير جامعة الملك عبد العزيز بجدة.
فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني.
فضيلة الشيخ مصطفى أحمد العلوي مدير دار الحديث الحسينية بالرباط.
فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس قسم الدراسات الإسلامية بقطر.(12/378)
وقد افتتح سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز (الرئيس بالنيابة) الدورة بكلمة حمد فيها الله تبارك وتعالى وصلى وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد أن رحب بأعضاء المجلس ودعا الله أن يثيبهم ويبارك في جهودهم وأن يمنحهم التوفيق والسداد توجه بالشكر إلى حكومة المملكة العربية السعودية على أعمالها الجليلة في دعم هذه الجامعة وعنايتها بها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه وحققت الكثير من أهدافها العظيمة وعنايتها بقضايا المسلمين في كل مكان ودعا الله عز وجل أن يعظم لها الأجر ويجزل لها المثوبة واختتم كلمته بالدعاء لجلالة الملك المعظم خالد بن عبد العزيز وولي عهده الكريم صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز حفظهما الله ورعاهما وأعز بهما دينه وأعلى كلمته.
ثم بدأ المجلس النظر في الموضوعات المدرجة في جدول أعماله واتخذ قرارات بشأنها ومن أهم ما أقره:
- الموافقة على مشروع إنشاء دار القرآن الكريم بالجامعة.
- الموافقة على قواعد وشروط منح الإعانات للجمعيات والمؤسسات والمنظمات التي تتعاون مع الجامعة في آداء رسالتها.
- الموافقة على مشروع لائحة مجلس شئون الدعوة الإسلامية بالجامعة.
- الموافقة على مشروع لائحة المجلس العلمي بالجامعة.
صدور الموافقة السامية على إنشاء كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.(12/379)
تلقى نائب رئيس الجامعة الإسلامية موافقة المقام السامي على إنشاء كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية في الجامعة الإسلامية وتتخذ الجامعة الترتيبات اللازمة لافتتاحها في مطلع العام الدراسي القادم بمشيئة الله. وتعتبر هذه الكلية الكلية الخامسة في الجامعة وهي أول كلية من نوعها أيضا ولا شك أن كلية القرآن الكريم في الجامعة هي الكلية الأولى من نوعها ولا شك أن إنشاء كليتين في الجامعة الإسلامية إحداهما للقرآن الكريم والثانية للحديث الشريف من توفيق الله لحكومة المملكة أيدها الله وأدام توفيقها لكل خير ففي إنشائهما خدمة لكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومحافظة على دستور حكومة هذه البلاد الذي أكرمها الله واعزها به والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد والذي تكفل الله بحفظه بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
المؤتمر العالمي الأول لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة
يجري بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الإعداد لعقد المؤتمر العالمي الأول لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة والذي تحدد انعقاده ابتداء من الرابع والعشرين من شهر صفر المقبل 1387هوقد تلقى نائب رئيس الجامعة موافقة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية على افتتاح هذا المؤتمر ومما يستهدفه المؤتمر:
أولا: التعريف بالدعوة الإسلامية ومنهاجها الأقوم في توجيه الحياة الإنسانية في كل جوانبها إلى غايتها الفاضلة التي يسعد بها الإنسان في دنياه وأخراه وفي توجيه بناء حضارتها بناء متكاملا يلبي دائما مطالب الروح والجسم معا.
ثانيا: الأخذ بأفضل المناهج العلمية والأساليب العملية في إعداد الدعاة وتمكينهم من أداء رسالتهم.(12/380)
ثالثا: التطوير العلمي لأساليب الدعوة على ضوء النتائج العملية في حقل الدعوة.
رابعا: دراسة المشاكل والصعوبات العامة التي تعترض مسار الدعوة والعمل على حلها بالوسائل الممكنة.
خامسا: تعزيز سبل الاتصال والتعاون بين الهيئات والمؤسسات المعنية بالدعوة الإسلامية والتنسيق العام للجهود المبذولة في هذا الميدان على الصعيد العالمي وتنظيم سبل التعاون الإيجابي بين الدعاة.
سادسا: المتابعة العلمية المستمرة لحركة الدعوة الإسلامية وملاحظة اتجاهاتها وتقويم نتائجها وآثارها والعمل المشترك على تعزيزها وتعميق مسارها وتحقيق أهدافها.
وسيدعى لحضور هذا المؤتمر ممثلون للهيئات والمؤسسات المعنية بالدعوة الإسلامية داخل المملكة وخارجها وبعض قادة الفكر الإسلامي المشتغلين بالدعوة.
موضوعات المؤتمر:
وسيتناول هذا المؤتمر بالبحث والمناقشة الموضوعات التالية:
(1) مناهج الدعوة الإسلامية وأساليبها.
(2) إعداد الدعاة ومسئولية الجامعة في هذا المجال.
(3) أساليب الدعوات المضادة وأهدافها وآثارها.
(4) المذاهب والاتجاهات الإلحادية والمعادية للإسلام والفرق المرتدة والزائفة في هذا العصر وتحديد موقف الإسلام والمسلمين منها.
(5) أجهزة الإعلام والنشر ودورها في توجيه المجتمعات وتأثيراتها المضادة للدعوة الإسلامية في المجتمعات الإسلامية خاصة وفي غيرها عامة وما يجب أن يتخذ بأزائها.
(6) مشاكل الدعوة والدعاة إلى الإسلام في العصر الحديث وكيف يمكن التغلب عليها.(12/381)
أضواء من التفسير
لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
قال الله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِر فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر}
المناسبة:
لما كانت عاد هي التي أعقبت قوم نوح في التاريخ ذكرها عقيبها هنا.
القراءة:
قرأ الجمهور "في يوم" بغير تنوين يوم، وقرئ بتنوينه.
المفردات:
"صرصرا"أي شديدة الصوت أو البرد إما من صرير الباب وهو تصويته أو من الصر الذي هو البرد.
"نحس" أي طار غباره في أقطار السماء، وامتلأ شرا على الكافرين.
" مستمر " ممتد الشر أو قويه، " تنزع " تقلع، " أعجاز " أصول.
" منقعر " منقلع من أصله. من قعرت الشجرة قعرا إذا قلعتها من أصلها فانقعرت، وقعرت البئر نزلت حتى انتهيت إلى قعرها. وقعرت الإناء شربت ما فيه حتى انتهيت إلى قعره.
التراكيب:
قوله: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} إنما عرف عاد بالعلمية وعرف قوم نوح بالإضافة لأنه لما كانت عاد علما لقوم هود كان مقتضى المقام تعريفها بالعلمية، لأنها أبلغ في الذكر من التعريف بالإضافة، ولما لم يكن لقوم نوح علم عرفها بالإضافة إلى نوح. والفاء في قوله: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} للترتيب على محذوف تقديره: فعذبوا فكيف كان عذابي ونذر.(12/382)
وقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} استئناف لبيان ما أجمل أولا من العذاب. وقوله: {تَنْزِعُ النَّاسَ} يجوز أن يكون صفة للريح أو يكون حالا منها لأنها وصفت فقربت من المعرفة. ويحتمل أن يكون مستأنفا. وإنما قال: " تنزع الناس " ولم يقل: تنزعهم فوضع الظاهر موضع الضمير ليشمل ذكور هم وإناثهم. وقوله: " كأنهم أعجاز نخل منقعر " في محل نصب على الحال من الناس وهي حال مقدرة، وقيل في الكلام حذف والتقدير: فتتركهم كأنهم أعجاز نخل. وإنما شبهوا بأعجاز النخل وهي أصولها بلا فروع لطولهم، ولأن الريح كانت تقلع رؤوسهم فتبقى أجسادا بلا رؤوس وإنما ذكر الصفة وهي منقعر بالنظر إلى لفظ النخل. والنخل اسم جنس يذكر ويؤنث. والتذكير هنا أولى لمناسبة الفواصل. وأنث في الحاقة فقال: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} بالنظر إلى المعنى ولمناسبة الفواصل فيها.
المعنى الإجمالي:
جحدت قوم هود رسالة هود فعذبوا فكان عذابهم عجيبا غريبا. إنا سلطنا عليهم ريحا شديدة الصوت أو البرد في يوم تطاير شره عليهم، وامتد بلاؤه، تقلع ذكورهم وإناثهم، من حفر الأرض المندسين فيها، وتصرعهم على رؤوسهم، فتدق رقابهم، فتبين الرأس من الجسد، مشبهين بأصول نخل لا فروع لها، وقد قلعت من مغارسها، لقد عذبوا فكان عذابهم عجيبا، إنا سهلنا القرآن وهيأناه للتلاوة والحفظ فهل من متعظ موجود.
ما ترشد إليه الآيات:
1- بيان نوع العذاب الذي عذب به قوم هود.
2-حالتهم البشعة عند نزول العذاب عليهم.
3-تخويف قريش وتهديدهم.
4-الإعذار بتيسير أسباب المعرفة.(12/383)
قال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الأَشِرُ إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
المناسبة:
لما كانت ثمود تعقب عادا في التاريخ أتى بها عقيبها في الذكر.
القراءة:
قرأ الجمهور {أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً} بنصبهما، وقرئ {أَبَشَرٌ مِنَّا وَاحِدٌ} برفعهما.
وقرأ الجمهور {سَيَعْلَمُونَ} بالياء وقرئ بالتاء.
المفردات:
" واحدا " أي منفردا لا تبع له. أو " واحدا " يعني من آحاد الناس وليس بملك ولا من أشرافهم. " نتبعه " ننقاد له، " ضلال " حيرة وميل عن الصواب وذهاب عن الجادة. " سعر " أي من قولهم ناقة مسعورة إذا كانت تفرط في سيرها كأنها مجنونة. قال الشاعر:
كأن بها سعرا إذا العيس هزها
زميل وإزجاء من السير متعب
وفسر قتادة السعر بالعناء. وقيل السعر النيران جمع سعير وهو وقود النار.
"ألقي "أنزل. " الذكر "الكتاب والوحي. "أشر "أي متكبر بطر يريد العلو علينا. "غدا "يراد به هنا الزمان المستقبل لا الذي يلي خطابهم. قال الطرماح:
ألا عللاني قبل نوح النوائح
وقبل اضطراب النفس بين الجوانح
وقبل غد يا لهف نفسي في غد
إذا راح أصحابي ولست برائح(12/384)
يريد وقت الموت لا غدا بعينه. {مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ} أي موجدوها ومخرجوها من الصخرة. " فتنة " أي ابتلاء واختبارا. " فارتقبهم " فانتظر يا صالح ما هم صانعون وما يصنع بهم. " واصطبر"أي اصبر على أذاهم وتجمل بالصبر.
" ونبئهم " أي أخبرهم إخبارا عظيما عن أمر عظيم. " قسمة " أي مقسوم لها يوم ولهم يوم. " شرب " نصيب من الماء. " محتضر " يحضره صاحبه في نوبته. " فنادوا " أي دعوا رجلا ليقتلها. " صاحبهم " هو قدار بن سالف كما عن محمد بن إسحاق. " فتعاطى " فتناول السيف. والتعاطي تناول الشيء بتكلف. " فعقر " أي فقتل الناقة، من العقر وهو الجرح أو منعقر النخلة إذا قطع رأسها. "كهشيم " كحشيش يابس يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته فتفتته، أو ما يتفتت من الشجر الذي يتخذه للحظيرة. " المحتظر " صانع الحظيرة وهي ما يصنعه العرب وأهل البوادي للمواشي والسكن من الأغصان والشجر والقصب، من الحظر وهو المنع لأنها تمنع ما بداخلها وتحفظه من الذئاب والسباع والحر والبرد.
التراكيب:
قوله: {أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ} الهمزة للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي وبشرا مفعول به لفعل محذوف يفسره المذكور بعده. ومناصفة. " واحدا " صفة ثانية وجملة " نتبعه " تفسير للفعل المحذوف لا محل لها من الإعراب. وأما على قراءة: {أَبَشَرٌ مِنَّا وَاحِدٌ نَتَّبِعُهُ} بالرفع فيهما فبشر مبتدأ ومنا واحد صفتان له وخبره " نتبعه " والتنوين في إذا عوض عن المضاف إليه المحذوف أي إذا اتبعناه. والاستفهام في قوله: " أألقي " للإنكار. وقوله: " ستعلمون " بالتاء على الالتفات لتشديد التوبيخ أو على حكاية ما أجابهم به صالح. وقوله:(12/385)
" من الكذاب الأشر " من استفهامية معلقة ليعلمون عن العمل وهي مبتدأ. والكذاب خبرها والجملة سدت مسد المفعولين. وقوله: {إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ} مستأنف. وقوله: " فتنة " مفعول لأجله والفاء في قوله: " فارتقبهم " فصيحة. والطاء في قوله: " واصطبر " بدل من تاء الافتعال. وقوله: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ} الفاء للعطف على محذوف أي فملوه فهموا بقتل الناقة فنادوا صاحبهم. ومفعول
" تعاطى " محذوف لظهوره وكذلك مفعول عقر.
المعنى الإجمالي:
جحدت قوم صالح الإنذارات التي جاءت عن الله، وأنكروا أن ينقادوا لرجل واحد من جنسهم، قائلين: إنا إن انقدنا له لفي حيرة وبعد عن الصواب وجنون.
أأنزل عليه الكتاب والوحي دوننا مع أنه ليس بأشرفنا ولا أكثرنا مالا. بل هو كثير الافتراء بطر متكبر يريد العلو علينا. عن قريب يتبين لهم أيهما المفتري المتكبر أهو صالح أم هم؟ إنا مخرجو الناقة من الصخرة –كما بعثناك من بينهم- اختبارا وابتلاء لهم، فانتظر يا صالح ما هم صانعون وما يصنع بهم.
وتجمل بالصبر حتى يأتيك النصر، وأخبرهم إخبارا إعظاما أن ماء البئر الذي يشربون منه مقسوم بينهم وبين الناقة، كل نصيب من الماء يحضره صاحبه في نوبته فملوا وهموا بقتل الناقة، فنادوا أحد رجالهم المبالغين في الضلال، فتناول سيفا فقتل الناقة، فأهلكناهم فكان إهلاكهم بعذاب عجيب.
إنا بعثنا عليهم صوتا فظيعا مرة واحدة من جبريل فصاروا شبه حشيش يابس داسته المواشي في الحظيرة. ولقد هيأنا القرآن للحفظ ويسرناه للتلاوة فهل من متعظ موجود.
ما ترشد إليه الآيات:
1-إنكار ثمود للنذير البشري.
2-زعمهم أن اتباع الرسل بعد عن الصواب وجنون.
3-رمي صالح بالكذب والتكبر.
4-تهديدهم بعقاب عاجل.
5-تدميرهم لما كذبوا الرسل.
6-كان تدميرهم الفظيع في غاية السهولة.
7-في القرآن مواعظ فاتعظوا.(12/386)
قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}
المناسبة:
لما كانت قرى لوط المؤتفكة هي أقرب دورا لها لكن إلى ديار ثمود من جهة الشام في طريق أهل مكة ذكرها هنا عقيبها لأنهم يمرون عليهم مصبحين وباليل
القراءة:
قرأ الجمهور " بكرة " بالتنوين. وقرئ بغير تنوين.
المفردات:
" حاصبا " أي ريحا شديدة تحصبهم أي ترميهم بالحصباء وهي صغار الحجارة. " آل لوط " هم لوط وابنتاه. " نجيناهم " خلصناهم. " بسحر " أي قبيل انصداع الفجر. " أنذرهم " خوفهم وحذرهم. " بطشتنا " أخذتنا الشديدة بالعذاب.
" فتماروا " فتشككوا وكذبوا وهو مشتق من المرية. " بالنذر " بالأمور التي خوفهم بها لوط. " راودوه " أي طلبوا منه المرة بعد المرة أن يخلي بينهم وبينهم وأن يمكنهم من هؤلاء الأضياف للفاحشة. " ضيفه " الملائكة الذين زاروه للبشارة بنصر الله وتدمير المكذبين. " طمسنا أعينهم " أعميناهم ومسحنا أعينهم، وسويناها كسائر الوجه من الطموس وهو الدروس والإغماء " فذوقوا عذابي " فاختبروا طعمه، وهذا على سبيل التكبيت بسبب إنكارهم. " صبحهم " أتاهم عند الصباح. " بكرة " غدوة في أول النهار. " مستقر " دائم متصل بعذاب الآخرة.
التراكيب:(12/387)
قوله: " إلا آل لوط" الاستثناء متصل، ولم يرسل الحاصب على آل لوط. وقوله: " نجيناهم بسحر" استئناف بياني كأن سائلا سأل وماذا حصل لآل لوط؟ فقيل: نجيناهم بسحر. يعني أنهم خرجوا من البلد قبل إرسال الحاصب على أهلها، فإن آل لوط خرجوا بسحر يعني قبيل الفجر، وأرسل الحاصب في الصباح بعد خروجهم كما قال: " إن موعدهم الصبح ". وتنوين " بسحر" لأنه لا يراد هنا سحر بعينه.
وقوله: " نعمة" مفعول مطلق ملاق لعامله في المعنى وهو " نجيناهم " لأن الإنجاء نعمة.
ويجوز أن يكون مفعولا لأجله والعامل نجينا. وقوله: " فتماروا بالنذر" إنما عدي " فتماروا " بالباء لأنه ضمن معنى التكذيب فعدي تعديته.
وقوله: {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} الفاء داخل على محذوف تقديره فقلنا لهم ذوقوا. "وذوقوا عذابي" مقول لهذا القول المحذوف.
المعنى الإجمالي:
لم تصدق جماعة لوط بالأمور المنذرة لهم على لسانه، إنا سلطنا عليهم ريحا ترميهم بالحصباء إلا لوطا وابنتيه. خلصناهم قبل انصداع الفجر. إنعاما منا عليهم. مثل ذلك الإجزاء نثيب من اعترف بنعمتنا وأطاع أوامرنا. والله لقد خوفهم لوط أخذتنا الشديدة بالعذاب فتشككوا وكذبوا بالإنذارات ووالله لقد طلبوا منه المرة بعد المرة أن يخلي بينهم وبين أضيافه من الملائكة للفاحشة فمحونا أعينهم، وسوينا وجوههم، فلم يبق بها أثر للأعين، وصارت كسائر الوجه. فقلنا لهم اختبروا طعم عقابي وإنذاراتي. وبالله لقد نزل بهم وقت الصباح أول النهار عذاب دائم متصل بعذاب الآخرة. فقلنا لهم: اختبروا طعم عقابي وإنذاراتي. وتالله لقد هيأنا القرآن للتلاوة وسهلناه للحفظ فهل من متعظ موجود.
ما ترشد إليه الآيات:
1- إنكار قوم لوط للنذير.
2- تدمير المكذبين.
3- إنجاء المؤمنين.
4- الشكر يدفع الله به البلاء.
5- نصح لوط عليه السلام لقومه(12/388)
6- تسليط أنواع من العذاب عليهم.
7- اتعظوا يا أهل مكة.
قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}
المناسبة:
لما كانت قصة آل فرعون من أشهر القصص لدى أهل مكة، وكانت بعد قوم لوط بزمان ختم بها القصص الواردة في هذه الصورة.
القراءة:
قرأ الجمهور " أم يقولون" بياء الغيبة وقرئ بتاء الخطاب. وقرأ الجمهور " سيهزم الجمع " بالياء للمفعول وضم العين، وقرئ " ستهزم " بالتاء مبنيا للفاعل، وقرئ بالنون مبنيا للفاعل، وقرئ " ويولون " بالياء وقرئ بالتاء. وقرئ " إنا كل شيء " بنصب كل. وقرئ برفعهما شذوذا. وقرأ الجمهور " ونهر " بفتح النون والهاء وقرئ بضمها.
المفردات:(12/389)
" النذر" الإنذارات والتحذيرات على لسان موسى وهارون. " بآياتنا " أي حججنا التسع وهي العصا واليد والسنين والطمس والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم. " عزيز "قوي غالب. " مقتدر " قادر لا يعجزه شيء. " خير " أقوى وأشد وأعظم مكانة في الدنيا. " براءة " أمن وعهد بالنجاة وعدم المؤاخذة. " الزبر " الكتب الإلهية. " جميع " أي جماعة مجتمع أمرنا فكلنا يد واحدة. " منتصر " لا نرام ولا نضام ولا نغلب. " سيهزم " سيدحر. " الدبر " هو هنا اسم جنس وهو كناية عن الهزيمة والقهر فكأنهم يمكنون أعداءهم من أدبارهم ليضربوها. " أدهى " أعظم داهية وبلية. والداهية الأمر الفظيع الذي لا يهتدى إلى الخلاص منه " أمر " أشد مرارة. " يسحبون " يجرون. " مس سقر " إصابة جهنم. وسقر مشتق من سقرته الشمس أو النار أي لوحته بمعنى غيرت جلده ولونه من ملاقاة حرها أو أحمته. " بقدر " أي بتقدير. والقدر اسم لما صار مقدرا عن فعل القادر، يقال قدرت الشيء وقدرته بالتخفيف والتثقيل بمعنى واحد. " واحدة " أي كلمة واحدة هي كن. " لمح " اللمح النظر بالعجلة يقال لمحه إذا أبصره بنظر خفيف. " أشياعكم " أشباهكم في الكفر. " الزبر " جمع زبور وهو الكتاب يعني ديوان الحفظة. " مستطر " مكتتب مسطور في اللوح. يقال سطره واستطره إذا كتبه فهما بمعنى واحد. " جنات " بساتين. " نهر " بفتحتين وهي اللغة العالية وهي أفصح من نهر بفتح النون وسكون الهاء. وقد أريد به الجنس أي أنهار. يعني من ماء غير آسن ومن لبن لم يتغير طعمه ومن عسل مصفى ومن خمر لذة للشاربين. " مقعد " مجلس. " صدق " أي حق لا لغو فيه ولا تأثيم. " مليك " عزيز الملك تام السلطان.
التراكيب:(12/390)
قوله: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} إنما صدر القصة بالتوكيد القسمي لإبراز كمال الاعتناء بشأنها لغاية عظم ما فيها من الآيات، وإنما اكتفى بذكر آل فرعون للعلم بأن نفسه أولى بذلك. وقوله: {كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا} استئناف بياني كأنه قيل فماذا فعل آل فرعون حينئذ؟ فقيل كذبوا بآياتنا كلها. والفاء في قوله: " فأخذناهم" مفيدة للسببية. والاستفهام في قوله: " أكفاركم خير من أولئكم" للتبكيت. والضمير في " أكفاركم " لقريش. والإشارة للأمم الهالكة المعدودة من قوم نوح إلى فرعون. وأم في قوله: " أم لكم براءة في الزبر " منقطعة بمعنى بل والهمزة المفيدة للتبكيت. والإضراب فيه انتقالي من التبكيت بما ذكر أولا إلى التبكيت بما ذكر ثانيا. وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} أم فيه منقطعة بمعنى بل والهمزة التي للتبكيت أيضا. والإضراب فيه كذلك للانتقال من التبكيت المذكور إلى وجه آخر من التبكيت. والالتفات على قراءة الجمهور للإيذان باقتضاء حالهم الإعراض وإسقاطهم عن رتبة الخطاب. وإنما لم يقل: جميع منتصرون، بل قال: " جميع منتصر " على الإفراد باعتبار لفظ جميع. وبل في قوله: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُم} للانتقال من تهديدهم بعذاب فظيع إلى تهديدهم بعذاب أدهى وأمر. وإنما وضع الظاهر موضع الضمير في قوله: " والساعة أدهى" بدل وهي أدهى لزيادة تهويلها. وقوله: " إن المجرمين" استئناف لبيان أحوال الكافرين. وقوله: " يوم يسحبون" معمول لقول مقدر تقديره: يقال لهم ذوقوا مس سقر يوم يسحبون، ويجوز أن يكون منصوبا بما يفهم من قوله: " في ضلال وسعر " أي كائنون في ضلال وسعر يوم يجرون. وسقر ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث. وقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} على قراءة الجمهور بنصب 0"كل"وهو منصوب بفعل محذوف يفسره المذكور بعده. والباء في قوله: " بقدر" للملابسة. وأما على(12/391)
قراءة الرفع فهو مبتدأ أو خبره خلقناه والمبتدأ وخبره في محل رفع خبر إن. وعلى هذا فكل من قراءة الرفع والنصب يثبت القدر الذي يجب الإيمان به. والتقدير على قراءة النصب إنا خلقنا كل شيء خلقناه حالة كونه متلبسا بتقديرنا. والتقدير على قراءة الرفع إنا كل شيء مخلوق لنا حالة كونه متلبسا بتقديرنا.
وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} استئناف لبيان حسن حال المؤمنين عقيب بيان سوء حال الكافرين على سبيل الترهيب والترغيب. وقوله: " في مقعد صدق " في محل رفع خبر ثان لإن. والإضافة في مقعد صدق من إضافة الموصوف إلى صفته. وقوله: " عند مليك مقتدر " في محل رفع خبر ثالث لـ"إن". ومن تمت له هذه الخصال فقد كملت له الآمال.
المعنى الإجمالي:
والله لقد أتى قوم فرعون الإنذارات والتحذيرات على لسان موسى وهارون. لم يصدقوا بالخوارق التسع جميعها، فأهلكناهم إهلاك قوي غالب قادر لا يعجزه شيء, أكفاركم يا قريش أقوى وأشد وأعظم مكانة في الجناية من هؤلاء المكذبين المذكورين الذين دمرناهم؟ بل ألكم عهد بالنجاة في الكتب الإلهية.بل أيقولون نحن يد واحدة لا نرام ولا نضام ولا نغلب. ستدحر جماعتكم ويضرب المسلمون ظهورهم يعني يوم بدر.
بل لكم الويل يوم القيامة، ولعذاب القيامة أعظم داهية وبلية وأشد مرارة.
إن المشركين في حيرة وجنون أو نيران متقدة يوم يجرون في النار على وجوههم يقال لهم اختبروا طعم إصابة سقر وأحسوا بهل وقاسوا حرها. إنا أوجدنا كل شيء أوجدناه بتقدير منا وعلم سابق لوجوده. وما أمرنا لشيء نريد إيجاده إلا بكلمة واحدة كإشارة بالعين في السرعة وهي كن فيكون. ووالله لقد دمرنا أشباهكم وأمثالكم في التكذيب فهل من متعظ موجود. وكل شيء يعمله هؤلاء مكتوب في كنب الحفظة. وكل صغير وكبير من العمل مكتتب في اللوح المحفوظ.(12/392)
إن الذين يخافون الله فيتخذون لأنفسهم وقاية من عذابه بطاعته في بسبتين وأنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ومعه عسل مصفى ومن خمر لذة للشاربين. إنهم في مجلس صدق وحق لا لغو فيه ولا تأثيم. إنهم لدى عزيز الملك تام السلطان قد كملت لهم الطيبات بفضل الله تعالى.
ما ترشد إليه الآيات:
1- تكذيب آل فرعون بجميع الآيات.
2- تدميرهم تدميرا شنيعا بسبب التكذيب.
3- ليست قريش أشد قوة من هؤلاء الهالكين.
4- وليس لهم عهد بالنجاة في الكتب الإلهية.
5- تهديدهم بعذاب آجل هو أشد وأفظع.
6- تهديدهم بعذاب عاجل لابد منه.
7- جميع المخلوقات بتقدير الله عز وجل.
8- لا يصعب على الله إيجاد ولا إعدام.
9- جميع أفعال العباد مدونة محفوظة.
10-سعادة المتقين وتمام نعمة الله عليهم.(12/393)
رسائل لم يحملها البريد
لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
أنت ...
أنت الذي لا أكنيك في مطلع هذه الرسالة ولا أسميك، ولا ألقبك ولا أناديك، فأنا أخشى على قارئي أن يروع قلبه بذكرك، وأن يزلزل جسمه باسمك فيلقى بهذه المجلة جانبا ثم هيهات أن يعود.
أنت لست سيفا صقيلا ولا رمحا طويلا، لست رصاصا يدمدم ويئز ولا قنابل تدمر وتهز، لست زلزالا يطيح بالجبال ويفجر البراكين ويبتلع القرى والمدن، ولا إعصارا يطوي ما حملت فوق ظهورها المحيطات، وينسف ما ازدانت به شواطئ وشواطئ ولا وباء يترك الناس هشيما وترابا. ومع ذلك فكل أولئك -أيها الموت- بعض جندك، وجزء صغير من مملكتك.
لقد أرسلك الله - أيها الموت - نعمة من للعالمين ونقمة، فما أحلاك حينا وما أمرك أحيانا، ما أحلاك حين تدك الظلم وتدق أعناق الظالمين، وما أمرك حين تدرك أحباء مقربين وحكاما مصلحين وعلماء كانوا مصابيح هدى ومعالم إرشاد.
لا أدري أيها الموت لماذا أذكرك كثيرا هذه الأيام ولا أكاد أنساك أتراني أصبحت قريبا من أجلي، أم أن مصارع المسلمين المنبثة على كل أرض، ودماءهم السائلة هدرا في كل واد – جعلتك حيا في قلبي لا تنسى، شاخصا أمام عيني لا تحتجب؟!
ومهما يكن من أمر فأرجو أيها الموت ألا يطوف بخلدك أني أكتب إليك هذه الرسالة خوفا وطمعا أو تملقا وزلفى، فأنا أعلم أن ليس لك من الأمر شيء، وأن الأمر كله بيد الله يصرفه كيف يشاء.
على أن الحياة في هذه السنوات العجاف قد أمست خاوية عجفاء، ليست خليقة بأن يتملق في سبيلها ويتزلف، فهي لا تعدو ليلا يقبل ويدبر، وشمسا تشرق وتغرب، وأطعمة مأدومة بالقلق، وأشربة مر نقة بالخوف والضياع.(12/394)
لقد فقدت الحياة مثلها العالية وغاياتها السامية ونواياها الطيبة، فقدت نفسها المطمئنة وقلبها البريء، فقدت نورا يشع في أحناء الصدر ورجعي تطمئن بها الأفئدة، فقدت كل هذا على الرغم من هذه المظاهر الجذابة التي تبهر الأعين وهذه الدعاوى الخلابة التي تملأ الأسماع.
أرجو ألا تسيء فيما قلته الفهم فتظن أني كرهت الحياة وطبت نفسا بلقائك، لا، لم يبلغ بي الأمر هذا الحد بعد، على الرغم من أني قد سلخت من حياتي نيفا وخمسين عاما، وحاولت مرارا كثيرة أن أقنع نفسي بالإخلاد إلى باطن الأرض بدلا من ظهرها، ولطالما قلت لها: علام التعلق بهذه الحياة، وفيم هذا الحرص الشديد على العيش، وحتى متى هذا السعي الذي لا يكاد يفتر في ليل أو نهار؟!
يكفيك يا نفس ما من فرح وترح، وما قضيت من خير وشر،؟ ام يعد بك قدرة على التزود بالأعمال الصالحة، فقد أفسدت الحياة الحديثة على الصالحين صلاحهم، ملأت عليهم عيونهم وأسماءهم ودخلت عليهم بيوتهم من غير أبوابها بلا استئذان، فما استطاعوا لها منعا وما استطاعوا لها دفعا، وغلبوا على أمرهم فهم يستغفرون الله بكرة وعشيا.
لا، لا أيها الزائر الذي لا مفر منه، لم أبغض حياتي بعد، ولم أطلب نفسا بلقائك، ولا أريد أن أتعجل زيارتك التي لا محيص عنها، إنه ليخيل إلى نفسي - وإن كانت لا تدري ماذا تكسب غدا - إنه ليخيل إليها أنه لا يزال في حياتي بقية أسأل الله أن تكون نافعة صالحة، وليس الإنسان كما يخيل إلى بعضهم زورقا مرجحنا هلك ملاحه فوق غوارب موج أرعن.(12/395)
لا أريد بهذا القول أن أبرر طول حياتي، ولا أن أقنعك بالتخلي عني إلى حين، فأنا أعلم علم اليقين أن الأعمار لا تطول ولا تقصر بما لدى أصحابها من حجج، ولا تسرع ولا تبطئ بما لدى أصحابها من نفع وضر، وأعلم كذلك أنك لا تسير في هذه الحياة حسب منهج يعرفه العقل، أو طريقة تهواها الأنفس، فلله فيك وفي صرعاك شؤون أغلقت دون فهمها الأبواب، ولله في قضائه وقدره حكم لا يعلمها إلا هو.
على أنني أود أيها الموت أن أصارحك وأقول: إنني رجل ما أكثر ما تتغشاني الأحلام، أحلام اليقظة لا أحلام المنام، ما أكثر ما ألقي بجسمي على الفراش، وأترك خيالي يهيم قريبا مني كالفراش، أو يحلق بعيدا عني كالسحب، أو يطير عاليا عاليا مع مواكب النجوم.
ولأحلام اليقظة عند علماء النفس تفسيرات وتعليلات لا يعنيني ولا يعنيك أن أقصها عليك، وإنما الذي يعنيني أن أقص عليك حلما رأيته ذا علاقة وثيقة بك:
لا أدري متى كان ذلك، أكان ذات صباح أم ذات مساء، وإنما الذي أذكره أنني سمعت مناديا ينادي: من أراد أن يمتد عمره بضعة قرون، وأن تطول حياته مئات السنين، فليختر لنفسه عملا يتقنه وينفع به الناس، لا يقصر فيه ولا يهمل، ولا يخادع فيه ولا يحتال، ومن أراد أن يدنو أجله فلا يزيد على بضع ليال وقليل أيام فليختر لنفسه عملا يتخون فيه حقوق الناس، ويتبع فيه هوى النفس.
وتعالى النداء يدوي في الأرجاء يصخ الآذان في كل ميدان، ويهز النائم واليقظان، وأصبح الناس من ذاك النداء في أمر مريج، قد أصابهم ّذهول وفزع، وأخذتهم حيرة وتردد.
وما كان أشد دهشتي حين رأيت جماعات كثيرة من المدرسين على اختلاف الثقافات والشهادات يقدمون الاستقالات، ثم يتفرقون في البلاد سعيا وراء أعمال أخر هم بها أجدر وأشد لها إتقانا، وهم عليها أقدر وأكثر إحسانا.(12/396)
ورأيت أطباء الحكومة يوفضون إلى عياداتهم مبكرين، لا يبرحونها وقت الدوام، ولا يغلقونها في وجوه المرضى يكلمون زائريهم بلطف ويسألونهم بعطف، ويفحصونهم بأناة ودقة، ثم هم يقدمون لهم العلاج بلا من ولا ضن، لا يخصون الفقراء بما رخص من الدواء، ولا يدخرون الجيد الغالي لمن يرجى نفعه أو يخشى ضرره.
رأيت مستشفيات متحركة وصيدليات متنقلة، وأطباء يرحلون إلى القرى البعيدة والأماكن النائية، يقضون على الأوبئة، قبل أن تتمكن، ويستأصلون الأمراض قبل أن تعمر وتستوطن.
وفي مساجد كثيرة على شتى الديار واختلاف الأقطار، رأيت المصلين يموج بعضهم في بعض يتلفتون يمنة ويسرة، ويتساءلون في لهفة وحسرة، ما بالك يا منابر الجمعة حزينة لا تخطبين وما بالك يا مجالس الوعظ صامتة لا تعظين؟!
أين أولئك الذين كانوا يفقهوننا في الدين، ويهدوننا الصراط المستقيم، ويأمروننا بالمعروف وينهوننا عن المنكر؟! أتخالينهم حبسوا عنك فغابوا، أم تظنينهم سلكوا طريق السلامة وأغراهم حب الحياة؟!
ورأيت الموظفين يغدون على مكاتبهم مبكرين، ويقبلون على أعمالهم ناشطين ويستقبلون مراجعيهم منجزين، لا يعدونهم مطالا، ولا يقولون لهم قولا غليظا.
رأيت الكتاب والشعراء ورجال الصحافة قد كسروا أقلام النفاق، وأراقوا حبر الكذب، وأخذوا يكتبون صادقين، وينشرون غير منافقين، قد طلعوا على الناس بأفكار ومعارف تثقف وتنفع، وآداب تهذب وترفع، ليس فيها قصص تخدير وإسفاف، ولا مقالات يداف فيها السم الزعاف، ولا دعوات تلبس الحق بالباطل.
ومررت بالكسالى والعاطلين وأحلاس المقاهي والملاهي، وأولئك المترفين الذين يقضون حياتهم سائحين، فإذا هم في حيرة، قد علت وجوههم صفرة، وزاغت منهم الأبصار.(12/397)
ورأيت المتقين مشفقين من طول الحياة، قد طابت نفوسهم بلقاء الله، يخافون على أنفسهم من هذه الفتن التي تتوالى كقطع الليل، قد رضوا بما كتب الله لهم في هذه الدنيا من حياة قصيرة.
ومررت بالمقابر - وكنت أتوقع أن تكون خالية ليس فيها عين تدمع ولا قلب يجزع - فإذا الجنائز طبقات بعضها فوق بعض، وإذا الحفر قد غصت بالموتى وفاضت بالجثث، فقلت في همس حزين: يا للمساكين! لقد كانوا عن ذاك النداء غافلين، فجاءوك عجالا أيها الموت وهم لا يشعرون.
وإذا قائل يقول:لقد أسمعهم ذلك المنادي، وصلصل في آذانهم ذياك النداء، ولكن غلبت عليهم شقوتهم في الحياة الدنيا، والله أعلم بهم في الآخرة.
- عجبا! من يكون هؤلاء إذن؟!
- هؤلاء نسوة اغتصبن أعمال الرجال، وتركنهم عاطلين ليس لهم مورد رزق وفوق ذلك كانت رواتبهن تذهب ضياعا، لا تسد خلة ولا تدفع عادية، كانت تنفق إسرافا وتبذيرا في أدوات الزينة والتجميل، وفي (موضات) الفساتين والأحذية، ليتها كانت تنفق على أبوين عاجزين أو على صبية صغار، ولكن النسوة اللاتي من هذا القبيل قليل، وما أراه أمام عيني من الموتى كثير!
- مع هؤلاء النسوة رجال وثقت بهم حكوماتهم فوكلت ‘ليهم تصريف أمور الناس والأشراف على مصالح الشعب، فاتخذوا من وظائفهم مكاتب تجارة ومصايد ثروة وسياط إرهاب وتهديد.
- ولكن من تصف قليل، وما أراه كثير
- مع هؤلاء وأولئك أناس ...
وهنا يقرع جرس الباب، فأستيقظ من حلمي أسرع من ذاك القارع، وإذا امرأة تسأل إحسانا، قد حملت على حضينها شبح طفل، وعلى الآخر حملت ظلا لك يا موت!
وحين رأيتها وسمعت صوتها تذكرت ما كنت فيه من حلم وعرفت بعض من كانوا في أولئك الموتى.
كان فيهم أناس يكنزون أموالهم وفيها حق للسائل والمحروم، وكان فيهم تجار يرفعون أسعارهم نهما وظلما فلا يقدر عليها جائع، ولا يستطيعها فقير مضيع.(12/398)
وهكذا انتهى حلمي أيها الموت وانتهت رسالتي إليك، ولكن قبل أن أقول وداعا أحب أن أقول فيك كلمة حق، أرجو ألا تعدها من هذه المجاملات الكاذبة التي اعتادها الناس، ولا من ذاك التزلف المريض الذي مرد عليه بنو آدم:
لو لم يكن هناك جوع ما أحس آكل لذة الطعام، ولو لم يكن هناك مرض ما شعر سالم بمتاع الصحة، ولو لم تكن أنت أيها الموت مقيما معنا في هذا العالم ما ذقنا لذة الحياة، ولا رضعنا هذه الدنيا أفاويق حلوة، ولا عرفنا إحسان كثير من ذوي الإحسان، ففيك خير ولك منافع، وماأنت بشر محض.
والآن لا أستطيع أن أقول وداعا، وداعا أيها الموت، وداعا على أجل قريب أو بعيد، وداعا إلى أن يأتي أمر الله، وكان أمر الله قدرا مقدورا.
كل ما خلق الله إلى موت حتى أنت أيها الموت، ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام.(12/399)
أبو الحسن الرماني ومفهومه للإعجاز القرآني
للدكتور: أحمد جمال العمري
هو علي بن عبد الله أبو الحسن الرماني الإخشيدي الوراق
الرماني: بتشديد الراء والميم نسبة إلى الرملن أو قصر الرمان الموجود بواسط.
والإخشيدي: نسبة إلى الإخشيد أستاذه المعتزلي.
ويعرف أيضا الوراق لقيامه بأعمال الوراقة التي كانت شائعة في عصره وتعيشه مما كانت تدره عليه من دخل.
ولد الرماني سنة ست وتسعين ومائتين للهجرة ببغداد أو سامراء، وشغل بطلب العلم وتحلق في حلقات شيوخ عصره مثل أبي بكر ابن دريد، وأبي بكر السراج. والزجاج. وغيرهم من أساتذة اللغة والنحو، ولكن يبدو أن أكثر شيوخه أثرا في نفسه وفي علمه هو الإخشيد المتكلم المعتزلي المشهور في عصره. يقولون إنه تخرج على يديه وكان له أثره البارز في حياته وعلمه حتى لقب بالإخشيدي نسبة إليه من كثرة ملازمته له عنه وتبنيه لآرائه.
يقول أصحاب التراجم إنه كان واسع الاطلاع، غزير العلم، متقنا للأدب وعلوم اللغة والنحو لذلك لقبوه: بالنحوي، شيخ العربية، صاحب التصانيف، ووضعوه في طبقة أبي علي الفارسي وأبي سعيد السيرافي.
ويبدو أنه كان مغرما بعلوم المنطق والفلسفة. ونرى أثر ّلك واضحا في كتاباته وتحليله للآراء والموضوعات. وقديما لمس فيه معاصروه هذه الخصيصة وقالوا عنه إنه كان يمزج كلامه في النحو بالمنطق. حتى لقد كان يتفلسف في عباراته ويتخير أوجزها وأدلها على المعنى، سئل يوما (لكل كتاب ترجمة فما ترجمة كتاب الله عز وجل؟ فقال: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ}(12/400)
لم تقف اهتمامات الرماني العلمية عند حدود اللغة والنحو - أو علوم المنطق = والفلسفة والنجوم بل تعدت ذلك إلى العلوم الدينية..علوم القرآن والحديث والفقه، وألف فيها مصنفات كثيرة. وتظهر مكانة الرجل العلمية فيما ذكره عنه معاصروه ومترجموه، يقول أبو حيان التوحيدي: "إنه لم ير مثله قط، علما بالنحو، وغزارة في الكلام، وبصرا بالمقالات، واستخراجا للعويص، وإيضاحا للمشكل مع تأله وتنزه ودين ويقين، وفصاحة وفقاهة، وعفافة ونظافة ".
وقال ابن سنان: "إنه ذو مكان مشهور في الأدب ". ونظرا لثقته ورجاحة عقاه، وعمق آرائه، وجديتها..فقد اعتمد عليه كثير من العلماء ونقلوا عنه..في مقدمتهم:
ابن رشيق، وابن سنان وابن أبي الأصبع العدواني، والسيوطي وغيرهم، فكتبهم تنطق بما أخذوه ودونوه عنه في مصنفاتهم.
آثاره:
صنف الرماني مجموعة ضخمة من المصنفات والمؤلفات، قدرتها بعض المصادر بما يقرب من مائة كتاب، معظمها في علم النحو الذي علش له وبرع فيه واشتهر به.
بيد أن هذه المؤلفات لا تحجب المؤلفات الدينية خاصة في علوم القرآن منها:
1) تفسير القرآن المجيد: ويوجد بدار الكتب المصرية – المكتبة التيمورية – تفسير جزء عم من هذا التفسير مخطوطا.
2) النكت في إعجاز القرآن: وهي رسالة علمية بليغة طبعت ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن - بدار المارف بمصر-. وستكون محور دراستنا لتوضيح مفهومه للإعجاز القرآني.
3) الجامع في علوم القرآن.
4) ألفات القرآن.
5) شرح معاني القرآن للزجاجي.
6) التفات القرآن.
أما مؤلفاته النحوية فأهمها:
7) شرح كتابي المدخل والمقتضب للمبرد.
8) شرح كناب سيبويه.
9) نكت سيبويه.
10) أغراض كتاب سيبويه.
11) المسائل المفردة من كتاب سيبويه.
12) شرح مختصر الجرمي.
13) شرح المساءل للأخفش.
14) شرح الألف واللآم للمازني.(12/401)
15) شرح كتاب الموجز والأصول لابن السراج.
16) كتاب الإيجاز في النحو.
17) كتاب المبتدأ في النحو: هذا بالإضافة إلى مجموعة أخرى من كتب اللغة أهمها:
18) كتاب الاشتقاق الكبير.
19) كتاب الاشتقاق الصغير والألفاظ المترادفة.
20) كتاب التصريف.
21) كتاب الهجاء.
وغير ذلك من الكتب.
مفهومه للإعجاز القرآني:
حدد لنا الرماني مفهومه للإعجاز القرآني في رسالته (النكت في إعجاز القرآن) وهي رسالة أدبية بلاغية قيمة، تعكس لنا تخصصه العلمي، ومنهجه الاستدلالي التحليلي، في توصيل أفكاره ورؤاه.
فهو يقرر في فاتحة رسالته، أن وجوه إعجاز القرآن تظهر من سبع جهات:
1) ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة
2) والتحدي للكافة.
3) والصرفة.
4) والبلاغة.
5) ونقض العادة.
6) وقياس بكل معجزة.
ولما كان الرماني من علماء اللغة البارزين - في عصره - فقد خص الجهة البلاغية من رسالته بجانب كبير: فذكر أنها ثلاث طبقات:
- منها ما هو في أعلى طبقة.
- ومنها ما هو في أدنى طبقة.
- ومنها ما هو في الوسائط بين أعلى طبقة وأدنى طبقة.
فما في أعلاها طبقة فهو معجز وهو بلاغة في القرآن، وما كان منها دون ذلك فهو ممكن كبلاغة البلغاء من الناس ثم يعرف الرماني مفهومه للبلاغة قائلا: إنما البلاغة، إيصال المعنى إلى القلب في حسن صوره من اللفظ، فأعلاها طبقة في الحسن بلاغة القرآن، ولقد حصر الرماني البلاغة القرآنية فجعلها في عشرة أقسام. هي: الإيجاز، والتشبيه، والاستعارة، والتلاؤم، والفواصل، والتجانس، والتصريف والتضمين، والمبالغة، وحسن البيان.
خصص لكل قسم منها بابا على حدة أبرز فيه سماته البلاغية وأدق خصائصه(12/402)
فالإيجاز: في نظره تقليل الكلام من غير إخلال بالمعنى، فإذا كان المعنى يمكن أن يعبر عنه بألفاظ كثيرة، ويمكن أن يعبر عنه بألفاظ قليلة، فالألفاظ القليلة إيجاز، وكدأبه دائما يجنح إلى التقسيم، فيقول: والإيجاز على وجهين: حذف وقصر.
فالحذف: إسقاط كلمة جزاء عنها بدلالة غيرها من الحال، أو فحوى الكلام.
والقصر: بنية الكلام على تقليل اللفظ وتكثير المعنى من غير حذف.
فمن الحذف: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} ومنه {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} ومنه {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} .
ومنه حذف الأجوبة: وهو أبلغ من الذكر، وما جاء منه في القرآن كثير، كقوله جل ثناؤه: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} كأنه قيل: لكان هذا القرآن.
ومنه {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} .
كأنه قيل: حصلوا على النعيم المقيم الذي لا يشوبه التنغيص والتكدير.
وإنما صار الحذف في مثل هذا أبلغ من الذكر لأن النفس تذهب فيه كل مذهب. ولو ذكر الجواب لقصر على الوجه الذي تضمنه البيان، فحذف الجواب أبلغ من الذكر.
وأما الإيجاز بالقصر:
فهو أغمض من الحذف، وإن الحذف غامضا، للحاجة إلى العلم بالمواضع التي يصلح فيها من المواضع والتي لا يصلح، فمن ذلك {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} [1] ومنه {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [2] ومنه {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُس} [3] ومنه {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [4] وهذا الضرب من الإيجاز في القرآن كثير.(12/403)
ولكي يدلل الرماني على روعة الإعجاز القرآني من حيث الإيجاز، يقارن بين قولهم: "القتل أنفى للقتل" وبين قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} فيقول: إن بينه وبين لفظ القرآن تفاوتا في البلاغة والإيجاز، وذلك يظهر من أربعة
أوجه: أنه أكثر في الفائدة، وأوجز في العبارة، وأبعد من التكلفة بتكرير الجملة
وأحسن تأليفا بالحروف المتلائمة، أما الكثرة في الفائدة، ففيه كل ما في قولهم: "القتل أنفى للقتل"وزيادة معان حسنة منها إبانة العدل لذكره القصاص، ومنها إبانة الغرض المرغوب فيه لذكره الحياة، ومنها الاستدعاء بالرغبة والرهبة لحكم الله به.
وأما الإيجاز في العبارة، فإن الذي هو نظير "القتل أنفى للقتل"قوله: {الْقِصَاصِ حَيَاة} والأول أربعة عشر حرفا والثاني أحرف.
وأما بعده من التكلفة بالتكرير الذي فيه على النفس مشقة، فإن في قولهم: "القتل أنفى للقتل"تكريرا غيره أبلغ منه، ومتى كان التكرير كذلك فهو مقصر في البلاغة عن أعلى طبقة.
ثم يتابع الرماني مستشهدا على دقة المعاني القرآنية، ومدى إعجازها البلاغي الذي يبرزه الإيجاز متناولا هذا الإيجاز من جميع زواياه..هذا عن الباب الأول.
بيد أن هذا الباب وإن كان عميقا إلا أنه يبين حقيقة مفهوم الرماني للإعجاز القرآني وإنما يظهر هذا المفهوم واضحا في الأبواب التالية. ويكفي أن نقف عند بابين اثنين من هذه الأبواب، لنتعرف مفهوم الرماني ومنهجه في إبراز أسرار هذا الإعجاز ولنتفهم مدى عمقه في الفهم ودقة إحساسه بالمعاني القرآنية وسر بلاغها.
فلنقف أولا عند باب الاستعارة:
وهو كعادته حين يقف عند أي باب يبدأ بالتعريف وتحديد العناصر والخصائص.(12/404)
فالاستعارة: - كما عرفها الرماني - تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على جهة النقل للإبانة. ويفرق بين الاستعارة والتشبيه بدقة وعمق قائلا: "والفرق بين الاستعارة والتشبيه أن – ما كان من التشبيه – بأداة التشبيه في الكلام – فهو على أصله، لم يغير عنه في الاستعمال.. وليس كذلك الاستعارة، لأن مخرج الاستعارة مخرج ما العبارة ليست له في أصل اللغة.
ويتناول الرماني الخصائص الفنية للاستعارة - كمقدمة لدراسة هذا الفن القولي في القرآن فيقول: "وكل استعارة بليغة فهي جمع بين شيئين بمعنى مشترك بينهما يكسب بيان أحدهما – بالآخر كالتشبيه، إلا أنه بنقل الكلمة. والتشبيه بأداته الدالة عليه في اللغة. وكل استعارة حسنة فهي توجب بلاغة بيان لا تنوب منا به الحقيقة. وذلك أنه لو كان تقوم مقامه الحقيقة، كانت أولى به، ولم تجز الاستعارة. وكل استعارة فلابد لها من حقيقة، وهي أصل الدلالة على المعنى في اللغة.
فإذا انتهى من هذا الجانب التعريفي النظري، انتقل إلى الجانب التطبيقي الاستدلالي، مستشهدا بما جاء في القرآن الكريم من الاستعارة على جهة البلاغة. فلنستمع إلى قوله في تحليل بعض الآيات الكريمة.
قال الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [5] يقول الرماني: حقيقة قدمنا هنا عمدنا، وقدمنا أبلغ منه لأنه يدل على أنه عاملهم معاملة القادم من سفر لأنه من أجل إمهاله لهم كمعاملة الغائب عنهم، ثم قدم فرآهم على خلاف ما أمرهم، وفي هذا تحذير من الاغترار بال يقول الرماني: حقيقة قدمنا هنا عمدنا، وقدمنا أبلغ منه لأنه يدل على أنه عاملهم معاملة القادم من سفر لأنه من أجل إمهاله لهم كمعاملة الغائب عنهم، ثم قدم فرآهم على خلاف ما أمرهم، وفي هذا تحذير من الاغترار بالإمهال. والمعنى الذي يجمعهما العدل لأن العمد إلى إبطال الفاسد عدل، والقدوم أبلغ.(12/405)
وأما {هَبَاءً مَنْثُوراً} فبيان قد أخرج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه حاسة.
وقال عز وجل: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [6] يقول: حقيقته فبلغ ما تؤمر به، والاستعارة أبلغ من الحقيقة، لأن الصدع بالأمر لابد له من تأثير كتأثير صدع الزجاجة، والتبليغ قد يصعب حتى لا يكون له تأثير، فيصير بمنزلة ما لم يقع، والمعنى الذي يجمعهما الإيصال، إلا أن الإيصال الذي له تأثير كصدع الزجاجة أبلغ.
وقال عز وجل: {بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [7] حقيقته (شديدة) والعتو أبلغ منه لأن العتو شدو فيها تمرد.
وقال عز وجل: {سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [8] يقول الرماني: "شهيقا"حقيقته صوتا فظيعا كشهيق الباكي، والاستعارة أبلغ منه وأوجز والمعنى الجامع بينهما قبح الصوت.
{تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} حقيقته من شدة الغليان بالاتقاد، والاستعارة أبلغ منه، لأن مقدار شدة الغيظ على النفس محسوس مدرك ما يدعو إليه من شدة الانتقام فقد اجتمع شدة في النفس، تدعو إلى شدة انتقام في الفعل، وفي ذاك أعظم الزجر، وأكبر الوعظ، وأول دليل على القدرة وموقع الحكمة.
وقال تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيرا} [9] أي تستقبلهم للإيقاع بهم استقبال مغتاظ يزفر غيظا عليهم. وقال تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} [10] وحقيقته انتفاء الغضب، والاستعارة أبلغ. لأنه انتفى انتفاء مراصد بالعودة فهو كالسكوت على مراصدة الكلام بما توجبه الحكمة في الحال، فانتفى الغضب بالسكوت عما يكره، والمعنى الجامع بينهما الإمساك عما يكره.(12/406)
وقال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [11] ذرني ها هنا مستعار وحقيقته: ذر عقابي ومن خلقت وحيدا بترك مسألتي فيه، إلا أنه أخرج لتفخيم الوعيد مخرج ذرني وإياه لأنه أبلغ، وإن كان الله تعالى لا يجوز عليه المنع، وإنما صار أبلغ لأنه لا منزلة من العقاب إلا وما يقدر الله تعالى عليه أعظم. وهذا أعظم ما يكون من الزجر.
أما الباب الثاني – الذي سنطرقه في هذا المقال فهو باب الفواصل، والفواصل – في نظر الرماني – حروف متشاكلة في المقاطع، توجب حسن إفهام المعنى وهي في رأيه من دلائل الإعجاز القرآني.
والرماني يرى أن هناك فرقا كبيرا بين هذه الفواصل القرآنية والأسجاع، فإذا كانت الفواصل بلاغة، فإن الأسجاع عيب، (وذلك أن الفواصل تابعة للمعاني، وأما الأسجاع فالمعاني تابعة لها، وهذا قلب ما توجبه الحكمة في الدلالة، إذ كان الغرض الذي هو حكمة إنما هو الإبانة عن المعاني التي الحاجة إليها ماسة، فإذا كانت المشاكلة وصلة إليه فهو بلاغة وإذا كانت المشاكلة على خلاف ذلك فهو عيب ولكنة: لأنه تكلف من غير الوجه الذي توجبه الحكمة ومثله مثل من نظم قلادة ثم ألبسها كلبا. وقبح ذلك وعيبه بين لمن له أدنى فهم.
ويقدم لنا الرماني لذلك مثلا فيما يحكى عن بعض الكهان:
"والأرض والسماء، والغراب الواقعة بنقعاء، لقد نفر المجد إلى العشراء"ومنه ما يحكى عن مسيلمة الكذاب: "يا ضفدع نقي كم تنقين، لا الماء تكدرين ولا النهر تفارقين"، ثم يقول: "فهذا أغث كلام يكون وأسخفه، وهو تكلف المعاني من أجله، وجعلها تابعة له من غير أن يبالي المتكلم بها ما كانت.
وفواصل القرآن كلها بلاغة وحكمة لأنها طريق إلى إفهام المعاني التي يحتاج إليها في أحسن صورة يدل بها عليها. ويرى الرماني أن فواصل القرآن الكريم على وجهين: أحدهما على الحروف المتجانسة.
والآخر على الحروف المتقاربة.(12/407)
فمن أمثلة الحروف المتجانسة قوله تعالى: {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} الآيات، وقوله: {وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} الآيات.
أما الحروف المتقاربة، فمن أمثلتها تقارب الميم والنون في قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيم مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، وتقارب الدال مع الباء نحو قوله تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ثم قال: {شَيْءٌ عَجِيبٌ}
وإنما حسن في الفواصل الحروف المتقاربة لأنه يكتنف الكلام من البيان ما يدل على المراد ففي تمييز الفواصل والمقاطع لما فيه من البلاغة وحسن العبارة.
ويفرق الرماني بين موسيقى العبارة الحاصلة في هذه الحالة وبين القوافي فيقول:
إن القوافي "لا تحتمل ذلك لأنها ليست في الطبقة العليا من البلاغة، وإنما حسن الكلام فيها إقامة الوزن، ومجانسة القوافي، فلو بطل أحد الشيئين خرج عن ذلك المنهاج، وبطل ذلك الحسن الذي له في الأسجاع، ونقصت رتبته في الأفهام. والفائدة في الفواصل دلالتها على المقاطع، وتحسينها الكلام بالتشاكل، وإبداؤها في الآي بالنظائر.
هذا هو مفهوم الرماني للإعجاز البلاغي للقرآن، كما عرضه في رسالته. ولا شك أننا لا حظنا أن أسلوبه في عرض أفكاره كان علميا منطقيا يحتاج في كثير من المواضع إلى الجهد في فهمه وتتبعه. وذلك لغلبة الطابع الكلامي والمنزع الاعتزالي الذي يجنح فيه إلى المجادلة والمناقشة.
د. أحمد جمال العمري.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة البقرة 179.
[2] سورة النجم 23.
3]] سورة المنافقون 1.
4]] سورة فاطر 43.
[5] سورة الفرقان الآية 23
[6] سورة الحجر الآية 94.
[7] سورة الحاقة الآية 6.
[8] سورة الملك الآية 8.(12/408)
[9] سورة الفرقان الآية 12.
[10] سورة الأعراف الآية 152.
[11] سورة المدثر الآية 11.(12/409)
تعقيب لا تثريب
لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
ملاحظات إسلامية حول كتاب (أبو ذر والشيوعية)
كثيرا ما حاول الشيوعيون استغلال شخصية الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري لإيهام العامة وأشباه العامة من المسلمين، بسداد نحلتهم، وأنها تلتقي مع الإسلام في أهم أهدافه الإنسانية، من حيث تأمين العدالة وتحقيق المساواة..وكثيرا ما سكت المفكرون من المسلمين عن هذه الفرية الكبيرة، التي تضع ماركس اليهودي الحاقد الهدام في مستوى الصحابي المجاهد لإعلاء كلمة الله، العامل بحقها في بناء المجتمع الأفضل، الذي يحمل إلى البشرية الضائعة رسالة بها الهداية إلى التي هي أقوم.
ومن هنا كان للكتيب الذي أصدره العلامة الدكتور عبد الحليم محمود بعنوان (أبو ذر والشيوعية) أثره الطيب في نفوس القراء من العارفين بأكاذيب الشيوعيين، الشاعرين بالحاجة إلى مواجهة أولئك الضلال بالحقيقة التي تدمغ باطلهم.
وعلى الرغم من أن الكتيب لم يخرج عن كونه لمحات عجلى عن حياة الصحابي الكريم تنتظر القلم الذي يتم ما بدأ في استقصاء للأحداث، وتحليل للمواقف يسدان على المستغلين طريق العودة إلى مثل هذا التضليل، فقد جاء بالإجمال كصفحة مشرقة في سفر قيم يسهم في تأليفه العديد من حملة القلم المسلم، الذين كتبوا ولا يزالون يكتبون في رد مفتريات الأفاكين على دين الله، وحملة مشاعله من تلاميذ النبوة الأولين رضوان الله عليهم أجمعين.(12/410)
على أن تقديرنا لمجهود الدكتور حفظه الله، في هذا الكتيب وغيره من المواقف الرائعة في خدمة الإسلام، والدفاع عن دعاته وفضح مؤامرات أعداءه، والدعوة إلى تنفيذ أحكامه، لا ينبغي أن يصرفنا عن بعض الهفوات التي يتعثر بها فضيلته بين الحين والآخر فتشوه النقى من أعماله بنقاط ما كان لها من سبيل إلى قلمه لو نهنه من غربه قليلا فوقف به عند الحدود التي لا يبيح الشرع ولا العقل السليم تجاوزها.. ولو هو قد فعل ذلك لما وقف القارئون من المسلمين اليوم على ذلك التناقض المؤسف بين الشيخ الذي يرفض المنهج العلمي في دراسة حياة (الأولياء) - من حماة السويس والإسكندرية والزقازيق وقنا – ويأبى إلا الاعتماد على الأحلام والرؤى وما إليهما، مما يرسخ تقاليد العامة في الشطط عن طريقة السلف، وبين وزير الأوقاف الذي يضطر إلى الرد عليه في نشرة رسمية تحت عنوان (تقاليد يجب أن تزول) ! .
ولكن. .ما الحيلة. . وقد شاء الله أن ينفرد بالكمال، ويحصن أنبياءه وحدهم بالعصمة، فلا أحد إلا يؤخذ منه ويرد عليه غيرهم.
لقد أبى الدكتور أصلحنا الله وإياه أن يقصر جهوده على أعداء الإسلام في ذلك الكتيب، فخص دعاة الالتزام لكتاب الله وسنة رسوله ببعض الغمزات التي أقحمها في مقدمته دون حاجة أو مسوغ.
يقول الدكتور: "هل آن لنا أن نكف عن الحديث عن زيارة القبور وعن قراءة سورة الكهف، وعن الكتابة في الجبر والاختيار وعن حمل المسبحة وعن شد الرحال: وهل يتضمن زيارة الأولياء أو لا؟ . ." [1]
إنها لعبارة تحمل من الحرارة والعنف ما يصور ضيق صدر الشيخ بهؤلاء الذين يرون الإسلام الصحيح وقوفا عند حدود ما أمر الله وبين رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولا جرم أن من حق كل مسلم يؤمن بهذه الحقيقة أن يعتبر كلام الشيخ موجها إليه، فمن حقه إذن أن يدلي برأيه فيه.(12/411)
لقد اعتاد المخالفون لهذه الطائفة الملتزمة أن يرددوا مثل هذا الكلام كلنا ارتفع لأحد أفرادها صوت بالدعوة إلى الصراط السوي، ونبذ كل ما غشيه من انحرافات واختراعات، وحجتهم في ردهم ذاك أن أعداء الإسلام يتكالبون عليه من كل صوب، فواجب المسلمين والحالة هذه أن يقفوا كل إمكاناتهم على مناجزة هؤلاء الأعداء دون أن يتحدثوا بكلمة واحدة خارج هذا النطاق ويقولون إن بلاد المسلمين غارقة في آلاف المعاصي، من الربا والخمر والفجور، وما إلى ذلك من ألوان البلاء، ففي هؤلاء فلنجاهد، ولندع كل شذوذ عن جادة الوحي يجرف إخواننا الذين لا يرون رأينا من التزام جانب الوحي دون سواه.
ويا لها من حجة عجيبة فات أصحابنا أن الشرط الأساسي في الجيش المحارب ارتباطه بوحدة الهدف، والتزامه تعاليم القيادة، وتعاون أجزائه في انسجام تام لا يشوبه الاختلاف، وإلا فما أيسر أن تتفرق كلمة هذا الجيش فيخذل بعضه بعضا وهو في صميم المعركة، ثم النهاية كارثة على الجميع.(12/412)
ونعود الآن إلى تحليل عبارة الشيخ، أنه يحصر مآخذه على الجماعة بأشياء ليست على مستوى واحد من الأهمية أو قابلية الاختلاف. فزيارة القبور أمر مسلم عند السلفيين ومخالفيهم على سواء، وهي كغيرها من القربات إما أن تقف عند حدود الشرع فتكون دعاء للميت، وعبرة للحي، وإما أن يشتط الزائر فيخرج بها إلى الاستغاثة بأصحابها وسؤالهم النفع والضر، وفي ذلك من الزيغ ما لا يصح أن يختلف في إنكاره عاقلان. وفي قراءة سورة الكهف يوم الجمعة أحاديث تسوغ للمطلع عليها الحكم بفضلها، والعمل بها، وعلى هذا فلا داعي لاعتبار هذا الأمر من مظان الخلاف ذوات الشأن. وكذلك القول في المسبحة، فمع أنها لم تعرف في الصدر الأول، لا تستدعي الكثير من الأخذ والرد، إذا كان الغرض منها هو ضبط العدد المسنون للتسبيحات. . وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى أزواجه تستعين على ذلك بالنوى فلم ينكره عليها، بل أرشدها إلى خير منه، أما موضوع زيارة الأولياء - ولعله أهم المهمات بالنسبة إلى القوم - فما ينبغي أن يترك أمره للأهواء والأذواق لما يترتب من نواتج تمس عقيدة التوحيد في الصميم.
فقبور الأولياء وغيرها من أضرحة المسلمين مجال صالح للدعاء لأهلها والاعتبار بمصايرهم، فلا اعتراض على زائريها على هذا الوجه المشروع ولكن الإنكار إنما ينصب على تخصيصها بالقصد والسفر، وتوجيه النذور، وذبح (العجول) التي تعد لها وتنحر على اسمها، وما يتعرى قصادها بإزائها من الخشوع الذي لا يعهد منهم بعضه بين يدي الله، وهم يقومون بأعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين فكيف إذا أضيف إلى ذلك الطواف والتمسح ونشدان الحاجات. مما لا يجد فاعله مستمسكا يحتج به من وحى أو عقل.
وبقي من النقاط التي شملتها إشارات الشيخ الأكبر تلك الطامة الهامة التي لا أحسبه قد تنبه إلى أبعادها الخطيرة حين حشرها بين ما يعتبره من المآخذ.(12/413)
إنها قضية الجبر والاختيار، وفي عبارة الشيخ ما يوحي أنها لا تستحق بنظره أي اهتمام، ناسيا حفظه الله أنها مدار كل الفلسفات التي حاولت تحديد مسؤولية الإنسان.
إن القول بأن الإنسان مجبر على سلوكه إنما هو تقرير قاطع بتجريده من كل أثر للحربة، ومن ثم إعفائه من أي مسؤولية عن أي فعل يأتيه. . وحصيلة ذلك تعطيل الشرائع، وإبطال القوانين واعتبار كل محاولة لتصحيح مسيرة الإنسان عبثا لا مردود له. . وهذا ما انتهى إليه السواد الأكبر من عامة المسلمين في العصور المتأخرة إذ سيطر عليهم الوهم، فأقنعوا أنفسهم بأنهم في كل ما يقترفون إنما ينفذون إرادة الله، الذي ألزمهم ذلك عن طريق الإكراه وليست الوجودية والسوفسطائية واللاإرادية إلا صورا لهذا الاتجاه المظلم. بل لعله اليوم أبرز ما يكون في الماركسية التي تعتبر أخلاق الإنسان كسائر تصرفاته نتيجة لازمة لنظام الإنتاج.
ثم إن وضع (الاختيار) في مقابل الجبر يوحي كذلك بأن المراد منه ما ذهب إليه منكرو القدر القائلون بأن الإنسان خالق لأفعاله في معزل عن قدرة الله وإرادته.
ومعلوم لدى أولي العلم والفطر السليمة أن كلا المذهبين من الضلالات الكبرى المنافية لحقائق الإسلام الذي وضع كل فرد تلقاء تبعته، وألزمه طائره في عنقه، فإذا ما تركنا للناس أن ينحرفوا عن جادته يمنة ويسرة لم يكن لنا أي حق في دعوتهم إلى التعاون لإشاعة المعروف وإزالة المنكر، إلا كما نتعاون مع أي فريق من الناس على أساس المنفعة العارضة، تجمع الملتقين عليها إلى حين ثم لا تلبث أن تمزقهم أيدي سبأ.
وهكذا يتضح خطر السكوت عن معظم القضايا الواردة في عبارة فضيلة الدكتور، والتي يرى أن الكف عن ذكرها وتنبيه المسلمين إلى أخطارها من الشروط التي لا مندوحة عنها للتعاون في وجوه أعداء الإسلام.(12/414)
أما نحن - وأعني كل المؤمنين بخطأ هذا الرأي - فلا نستطيع أن نتناسى أن الإسلام نظام الله الشامل الكامل، لا يسع مسلما أن يساوم على أي جزء منه، فكما يفرض علينا إعلان الحرب على الشيوعية والوجودية والإلحاد أيا كان مصدرها يلزمنا كذلك تنقية صفوف المسلمين من عناصر الهزيمة، الذين لبس عليهم دينهم وأبعدوا عن منهج الحق، فضلوا عن سبيل المؤمنين وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
وأخيرا ليسمح لي صاحب الفضيلة أن أذكره بالحقيقة التي يجب أن تكون القاسم المشترك بين أفراد المسلمين جميعا، مهما تتفاوت سويتهم العلمية، ألا وهي ضرورة احتفاظ الأمة، أفرادا وجماعات بعناصر الشخصية المتميزة على سائر أصناف الناس. فإذا كان من شأن الشيوعي النفاق السياسي، حتى ليتظاهر بالإيمان وهو ألد أعدائه، ويحتج بمبادئ الإسلام وهو أول الكافرين بها. .
وإذا كان من خصائص اليهودي والنصراني الانسياق وراء مقررات رجال الدين من أحبار ورهبان، مهما تتصادم مع العقل والنقل.. فإن ميزة المسلم التي لا تتم مقوماته لا تتم مقوماته إلا بها هي التزامه هدى الله كما أنزله على رسوله، حتى يكون جديرا بتمثيل حقائق الإسلام في حياته كلها، ما استطاع إلى ذلك سبيلا. .
ومن أجل هذا نستسمح فضيلة الشيخ الأكبر عذرا إذا قلنا له: لقد قدمت للإسلام بكتابك هذا خدمة نرجو أن تجد ثوابك عليها جزيلا عند الله، ولكنك أخطأت كثيرا عندما دعوت المصلحين للكف عن تنقية الإيلام من بقايا رواسب خلفتها تعاليم الباطنية العبيدية، التي كادت تقطع صلة مصر بالإسلام ذات يوم، لو لم يتداركها الله بالناصر الأمين صلاح الدين والحمد لله رب العالمين.
--------------------------------------------------------------------------------
1 مقدمة الكتاب ص 8.(12/415)
الجبال في القرآن آية من الرحمن
الدكتور محمد نغش
إن الجبال مخلوقات تسبح لله وتمجده، ترجو رضاه وتخشى غضبه، وقد حدثنا الله عنها في كتابه الكريم، وحكى عن مواقف عديدة لها مع الأنبياء عليهم السلام، فلنذكر منها ما يتسع له المقام.
من بديع صنع الله وعظيم قدرته هذه الجبال الراسيات في أنحاء العالم، لتثبيت الأرض في مكانها كما ترسى الأوتاد الخيام.
فنحن نعرف أن الأرض منبسطة كالفرش على بحيرة كبيرة من الماء هي عبارة عن المحيطات، والبحار والأنهار والعيون والآبار. والجبال أثقال فوقها تحفظ توازنها، قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} سورة سبأ7,6.
وحينما ينظر الإنسان إلى الجبال تهوله ضخامتها، فهي من عجائب مخلوقات الله الجديرة بالتأمل والدراسة إذ نرى العالم يقف متعجبا أمام بناء كالأهرامات، فكيف نصبت هذه الحجارة الضخمة فوق بعضها!؟.
فما بالك بالجبال الشاهقة التي نصبها الخالق المصور بخارق قدرته، وهي ثابتة تدل على عظمته.
وفي الجبال الراسيات خيرات عميمة للإنسان والحيوان. فمن الوجهة الاقتصادية:
الزراعة: تنبت نباتات مختلفة فوق الجبال من غابات في المناطق غزيرة الأمطار، إلى أعشاب السقانا في الجهات المتوسطة الأمطار، إلى عشيبات في الجهات النادرة الأمطار.
والحيوانات: منها ما يعيش في الغابات سواء المتوحش منها أو الأليف، ففي كل خير للإنسان، ومنها ما يعيش في المناطق الأخرى كالبقر والإبل والأغنام وغيرها.
والمعادن: في الجبال منها كنوز نفيسة كالذهب والحديد والنحاس وأمثالها قال تعالى: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} سورة النازعات الآية 33,32.(12/416)
ولا تنسى يا أخي ما في الجبال من مواد البناء من حجر وإسمنت ورخام يقوم عليها عمران الأرض، واستقرار الإنسان في بيوت مشيدة، وقصور شامخة، قال تعالى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} سورة الشعراء الآية 149.
واسمع أخي قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً} سورة النحل الآية 68.
حقا، ليس الإنسان والحيوان وحدهم الذين يعيشون فوق الجبال، بل قد ألهم الرحمن الرحيم النحل لسكنى الجبال، ومن النحل الذي يعيش معنا فوق الجبال نجني العسل الشهي المفيد للأبدان.
والجبال بمثابة الحصون يحتمى بها من العواصف والأمطار، ومن اعتداء الإنسان على أخيه الإنسان، وكذلك الحيوان على الحيوان {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً} سورة النحل الآية 81. استمع إلى قوله تعالى: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُود} سورة فاطر الآية 27.
الجدد: واحدتها جدة، وهي الطريق في الجبال كالعروق، وغرابيب سود: شديدة السواد. معنى ذلك أن من الجبال ما هو أبيض، ومنها ما هو أحمر، ومنها ما هو أسود، ومنها ما تختلط فيه الألوان الثلاثة أو غيرها، فكما تختلف ألوان البشر، تختلف ألوان الجبال، فهذه جبال غنية بمواد ثمينة، وتلك جبال فقيرة لخلوها من المعادن النادرة، وهذه تكسوها خضرة فتجعلها جنة نضرة، أو تكسوها ثلوج فتجعلها بيضاء ناصعة، وتلك جرداء لا نبات فيها ولا ماء، وبعضها لا يعدو هضبة قصيرة تمتد في الصحراء.(12/417)
ونقف أمام الآية التالية {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} سورة النور الآية 43، من السماء هنا تعني من عال، لأن السماء تطلق على جهة العلو. ومن جبال فيها من برد: أي ما ينزل من السماء من مطر وبرد وخلافه كالجبال حجما، والبرد فيها ينزل في كثافة فيصيب به الله من يشاء من عباده، ويصرفه عن غيرهم. إذن الجبال جنود الله إن شاء سخرها لخدمة مخلوقاته، وإن شاء أذاقهم بها شديد بأسه وعقابه.
فإذا تأملنا قوله تعالى في الآيتين التاليتين لعرفنا أن الجبال كسائر المخلوقات تعبد الله وتخشى عذابه.
اسمع {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَال} سورة الحج الآية 18. وفي الآية التالية تصوير بليغ لما يصيب الجبال لفزعها من خشية الله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} سورة الحشر الآية 21، فإذا كانت الجبال يا أخي الإنسان تخشى الله القهار، وهي كما ترى قوية متينة البنيان، فما بالك لا تعبد الله حق عبادته، أأنت أشد صلابة منها، إنك لن تبلغ طولها، ولن تصل إلى متانتها.
أخي إن للجبال قصص مع الأنبياء عليهم السلام، فمثلا: موسى عليه السلام، كلم الله عند جبل الطور في سيناء، إذ يحدثه {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} سورة الأعراف الآية 143.
ومعنى سينين: المبارك الحسن بلغة أهل الحبشة، وقال مجاهد: هو المبارك باللغة السريانية، أما كلمة سيناء فهي لفظة نبطية تعني الحبل الذي فيه شجر مثمر.(12/418)
والحجر الذي ضربه موسى عليه السلام فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، يشرب من كل عين قوم منهم لا يشاركهم غيرهم {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} سورة البقرة الآية 60.
وقد تعبد عيسى عليه السلام فوق جبل الزيتون في فلسطين، وهنالك نزل عليه جبريل الأمين بالوحي من رب العالمين، ويتخذ الناس من غصن الزيتون رمزا للسلام.
ونزل الوحي على حبيب الله محمد عليه الصلاة والسلام، فوق جبل النور، حينما كان يفكر في خالق السموات والأرض وما بينهما في غار حراء.
فمن حديث لعائشة رضي الله عنها: فجاء الملك فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد. ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ. فغطني في الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد. ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} سورة العلق الآية 1 - 5.
وفوق جبل عرفه في مساء يوم الجمعة نزل سبحانه وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} سورة المائدة الآية 3 وهكذا أخبر الله نبيه والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا، وقد أتمه فلا ينقص أبدا، وقد رضيه فلا يسخطه أبدا.(12/419)
وأراد نوح أن ينجي ابنه من الغرق يوم الطوفان، وكان في معزل: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} سورة هود الآية 42. فرد عليه الابن الذي لا يؤمن بصدق نبوة والده {سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} سورة هود الآية 43 واستوت السفينة على جبل الجودي من ديار بكر وخرج من في السفينة، وبارك الله فيهم فكثروا وملأوا الأرض.
وقد برهن الله لإبراهيم عليه السلام مقدرته إحياء الموتى {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} سورة البقرة الآية 260.
أمر الله نبيه إبراهيم أن يقطع الطيور ويخلط لحمهن وريشهن، ثم يفرق الأجزاء المختلطة على جبال متفرقة ثم ينادي عليهن، فيقبلن عليه مسرعين. أخذ إبراهيم عليه السلام طاووسا ونسرا وغرابا وديكا، وفعل بهن ما أمر به، وأمسك رؤوسهن عنده ودعاهن، فتطايرت الأجزاء إلى بعضها، حتى تكاملت، ثم أقبلت إلى رؤوسها.
وتسبح الجبال للواحد الديان {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} سورة الأنبياء الآية 79. كان داود إذا سبح سبحت معه، وقيل أنها كانت تسير معه، فكان من رآها معه يسبح بحمد ربه.
وكان وقت تسبيح الجبال في العشاء وفي صلاة الضحى عندما تشرق الشمس ويتناهى ضوؤها {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} سورة ص الآية 18.
وفي تسبيح الجبال لله في المساء والصباح منها بفضل الله خالق الليل والنهار، فهما آيتان باهرتان من آياته سبحانه وتعالى.(12/420)
وعندما انتقم الله من قوم لوط عذبهم بحجارة من سجيل، وسجيل حجارة من طين طبخت بنار جهنم. عدا جبريل على قريتهم فقلعها من أركانها، ثم أدخل جناحه، ثم حملها على خوافي جناحه بما فيها، ثم صعد بها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم قلبها ثم إن الله طمس على أعينهم، وأمطر عليهم حجارة من سجيل، وفي ذلك يقول العزيز العليم: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} سورة هود الآية 82.
وهذا مثال آخ من تعذيب الله الناس بالحجارة فحينما قصد أصحاب الفيل من الأحباش تخريب الكعبة، أرسل عليهم العزيز الجبار جماعات من الطير في أعداد مهولة، لم ير قبلها ولا بعدها.
وقيل إنها طيور سود مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجران في رجليه وحجر في منقاره، لا يصيب شيئا إلا هشمه.
إذن في جهنم حجارة تختلف عما نعرف من أحجار الدنيا، إذ أن الطيور التي قضت على أصحاب الفيل، كانت تحمل قطعا صغيرة كالحمصة من هذه الحجارة المهلكة.
وحجارة جهنم حذرنا الله من شدتها، ونصحنا بعدم معصيته لتجنبها إذ يقول الرحمن الرحيم: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} سورة التحريم الآية 6.(12/421)
ولما تعجب الدهريون من كيفية بعثهم بعد موتهم جفاف عظامهم وتناثرها وتفرقها في جوانب العالم، يرد عليهم الخلاق العظيم أنه قادر على أكثر من ذلك، فإذا تحولت أجسادهم إلى حجارة أو حديد أو خلق مما يكبر في صدورهم، وقيل المقصود السموات والأرض والجبال لعظمها في النفوس، فالله ينشئهم من جديد، وهو فعال لما يريد {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} سورة الإسراء الآية 49 – 51.
وكما أن لكل شيء نهاية، وأن كل المخلوقات فانية، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، وكذلك الجبال تسير إلى نهايتها المحتومة يوم القيامة {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} سورة النمل الآية 88، {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} سورة الحاقة الآية 14، {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً} سورة المزمل الآية 14، {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} سورة القارعة الآية 5.
فتصور يا أخي كيف تصير نهاية الجبال بعد أن ينسفها ربي نسفا، تصبح كالصوف المندوف في خفة سيرها حتى تستوي مع الأرض فتكون سرابا، إذ تمحى معالمها من الوجود فسبحان الذي يزيلها بقدرته وينهيها بعظمته: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} سورة الحشر الآية 21.(12/422)
تراث الحديث والسنة في الهند
لفضيلة الشيخ تقي الدين الندوي
لما كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القدوة الصالحة والأسوة الحسنة لطبقات الناس جميعا، وللأجيال البشرية على اختلاف الزمان والمكان اتجهت عناية الله إلى حفظ أخباره وآثاره وصفاته وأخلاقه وعاداته وتصرفاته. وصرف الله قلوب المؤمنين إلى تتبع كل ما يصدر منه حركة وسكون وأخذ ورد، وعادة وعبادة وألهمهم الاعتناء به اعتناء لا مزيد عليه، كأن سائقا يسوقهم إلى ذلك.
وقد تجلت حكمة الله وعنايته الخاصة بكل وضوح في صيانة علم الحديث وحفظه ولنظرة عابرة في كتب السنة تكفي للإيمان بأن هذا الاهتمام البليغ الخارق للعادة بتسجيل دقائق الحق والخلق والعادات والعبادات والأقوال والأفعال وبكل ما يتصل بهذه الشخصية الكريمة اتصالا لا يتصوره الذهن الإنساني، وفي بسط تفصيل لا نظير له في تاريخ أمة ولا حضارة.
لم يكن هذا مجرد مصادفة بل كان ذلك سرا من الأسرار الإلهية، وبرهانا ساطعا على مدى عناية الله تعالى بهذه الرسالة التي ختم الله بها الرسالات وبهذه الشريعة التي قضى ببقائها وخلودها وانتشارها وعمومها لجميع العصور والأجيال، وكان لكل قطر من الأقطار الإسلامية نصيب وافر من هذا الإرث النبوي يدخل مع الغزاة والفاتحين، والدعاة والمبلغين والفقهاء والمدرسين.
وبدأ فجر الإسلام يطلع على الهند وبدأت أشعته تغمر هذه البلاد الرحبة الفسيحة، ولم يكن ذلك في وقت متأخر عن صدر الإسلام، وإنما كان في عهد الخلافة الراشدة الذي بدأ فيه الإسلام يزحف شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وبدأت موجاته تجتاز الحدود والسدود معلنة في الدنيا كلمة الله ومبشرة بدينه.
ولم تكن شبه جزيرة الهند منقطعة عن جزيرة العرب منزل الوحي ومهبط الرسالة ومشرق النور، فقد كان ثمة تجارة بين العرب والهند منذ أقدم العصور.(12/423)
فقد كان تجار العرب يرتادون شواطئ الهند الغربية ويمرون بها إلى جزيرة سرنديب حتى يصلوا إلى شواطئ الهند الشرقية، ومن هناك كانوا يبحرون إلى الصين، وبقيت هذه الصلات التجارية قائمة حتى جاء الإسلام فدخل الهند في العهد المبكر مع التجار المسلمين العرب.
ولم تكن هذه هي الوسيلة الوحيدة التي دخل بها الإسلام هذه البلاد، بل هناك واسطة أخرى فقد دخل الإسلام مع الغزاة والفاتحين بطريق البحر والبر وكذلك دخل علم الحديث في أوائل الفتح الإسلامي في بلاد الهند، وكان من جملة من وفد إليها من المجاهدين في سبيل الله، الربيع بن الصبيح السعدي الذي قال عنه الحلبي في"كشف الظنون"هو أول من صنف في الإسلام، ولا شك أنه من أول المؤلفين في علم الحديث إذ لم يكن أولهم بالإطلاق وقد مات ودفن في الهند سنة 160 هـ[1]
وأدركت الهند العناية الإلهية، فأتحف الله البلاد بالوافدين الكرام من المحدثين من الأقطار الإسلامية وذلك في القرن العاشر وكذلك ساق سائق التوفيق لبعض علماء الهند إلى الحرمين الشريفين مصدر هذا العلم ومعقله ويطول ذكر أسمائهم، هو عصر النشاط في علوم الحديث.
ولو استعرضنا ما لعلماء الهند من الهمة العظيمة في علوم الحديث من ذلك الحين لوقع ذلك موقع الإعجاب والاستغراب، كم لهم من شروح ممتعة وتعليقات نافعة على الأصول الستة وغيرها، ومؤلفات واسعة في أحاديث الأحكام وكم لهم من أياد بيضاء في نقد الرجال وعلل الحديث وشرح الآثار وتأليف مؤلفات في شتى الموضوعات، وشروحهم في الأصول الستة وغيرها من كتب السنة تزخر بالتوسع في شرح أحاديث الأحكام.(12/424)
وقد عرف علماء الهند بشغفهم بالعلوم الدينية وانتهت إليهم رئاسة التدريس والتأليف في فنون الحديث، سلمت زعامتهم في العهد الأخير حتى قال العلامة السيد رشيد رضا منشئ مجلة (المنار) في مقدمة (مفتاح كنوز السنة) : "لولا عناية إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر لقضى عليها بالزوال من أمصار الشرق، فقد ضعفت في مصر والشام والعراق والحجاز منذ القرن العاشر للهجرة".
فدونك كتاب (كنز العمال) للشيخ على حسام الدين المتقي البرهانبوري من رجال القرن العاشر، وهو ترتيب (جمع الجوامع) للسيوطي وهو من الكتب التي انتفع به علماء الحديث كثيرا، واعترفوا لصاحبه بمجهود عظيم وفر عليهم وقتا كثيرا، قال الشيخ أبو الحسن البكري الشافعي من أئمة العلم في القرن العاشر: "إن للسيوطي منة على العالمين وللمتقي منة على السيوطي".
ومنها كتاب (مجمع بحار الأنوار في غرائب التنزيل ولطائف الأخبار) للشيخ محمد بن طاهر الفتني م (976) قال العلامة السيد عبد الحي الحسني في (نزهة الخواطر) : جمع فيه المؤلف كل غريب الحديث وما ألف فيه. فجاء كتابه كالشرح للصحاح الستة، هو كتاب اتفق على قبوله بين أهل العلم، وكذلك المغني، وتذكرة الموضوعات للمؤلف من الكتب السائرة المتداولة في الموضوع.
ومنها (لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح) للعلامة الشيخ عبد الحق المحدث الدهلوي م (1052) ، ومنها كتاب حجة الله البالغة للإمام ولي الله الدهلوي، وهو يغنى عن الوصف والبيان وكذلك كتابه الأبواب والتراجم على البخاري، معروف بين أهل العلم.
ومن علماء الهند مولانا نواب صديق حسن أبهوبال م (1307هـ) يبلغ عدد مؤلفاته (222) منها (56) كتابا باللغة العربية وفيها عون الباري شرح مختصر البخاري في عشرة مجلدات والحطة بذكر الصحاح الستة.(12/425)
وتبلغ مؤلفات علامة الهند فخر المتأخرين الشيخ عبد الحي اللكنوي (1304) مائة وعشرون كتابا (120) منها ستة وثمانون (86) كتابا باللغة العربية، من أشهرها التعليق المجد في شرح الموطأ للإمام محمد، يا ليته يطبع في مصر أو لبنان، وظفر الأماني والرفع والتكميل، والأجوبة العشرة.
وكتاب إحياء السنن، وجامع الآثار للشيخ حكيم الأمة محمد أشرف علي التهانوي صاحب المؤلفات الكثيرة البالغ عددها ألف بل أكثر من ذلك.
وبذل المجهود في حل أبي داود في عشرين مجلدا للمحدث الكبير الإمام العلامة خليل أحمد السهارنفوري.
وغاية المقصود في شرح أبي داود للمحدث مولانا شمس الحق العظيم أبادي وتلخيصه (عون المعبود) وآثار السنن للشوق التيموي وتحفة الأحوذي في شرح الترمذي للمباركفوري وفيض الباري على البخاري والعرف المبتذي في شرح سنن الترمذي، أمالي درس العلامة الكشميري ومعارف السنن على الترمذي لفضيلة الشيخ يوسف البنوري، وفتح الملهم شرح صحيح مسلم، للعلامة شبير أحمد العثماني وإعلاء السنن، لمولانا المحدث ظفر أحمد التهانوي، وجعل له في جزء خاص مقدمة بديعة في أصول الحديث طبع مع تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبي غدة ومرعاة المصابيح في شرح مشكاة المصابيح لمولانا عبيد الله المباركفوري وزجاجة المصابيح. ولنظرة عابرة على كتاب (الثقافة الإسلامية في الهند) تكفي للاطلاع على أكثر المؤلفات في الموضوع.
أما كتب المحدث العلامة ريحانة الهند وبركة العصر نولانا محمد زكريا الكاندهلوي عددها أكثر من خمسين ومائة (150) كتابا وجلها باللغة العربية حول السنة: منها لامع الدراري على الجامع الصحيح للإمام البخاري في عشرة مجلدات، وأوجز المسالك في شرح موطأ الإمام مالك في خمسة عشر مجلدا والكوكب الدري على جامع الترمذي في أربع مجلدات والأبواب والتراجم على البخاري في ثمانية مجلدات.(12/426)
وأماني الأحبار في شرح معاني الآثار للطحاوي لرئيس التبليغ الداعي إلى الله مولانا محمد يوسف الكاندهلوي رحمه الله.
وأما الكتب التي طبعت ونشرت بتحقيق بعض المحدثين فعددها أيضا كثير: منها سنن سعيد بن منصور، وكتاب الزهرلبن المبارك، ومسند الحميدي، ومصنف عبد الرزاق بتحقيق المحقق الكبير المحدث مولانا حبيب الرحمن الأعظمي ولا يزال مشغولا بتحقيق بعض كتب السنة.
ولقد حقق الدكتور مصطفى الأعظمي بعض كتب السنة التي طبعت ونشرت منها كتاب العلل لعلي بن المديني وصحيح ابن خزيمة، ودراسات علم الحديث، وكذلك عنى كثير من الأمراء وكبار العلماء باقتناء مكتبات عظيمة وشغفوا بها شغفا عظيما ومن أغنى مكاتب الهند ودور الكتب وأجمعها للكتب النادرة والآثار الثمينة ومخطوطات المؤلفين ونوادر الكتب مكتبة بانكى بورفي بتنه وهي مكتبة المرحوم القاضي خدابش خان ومكتبة أمارة رامبور في وسط الهند، والمكتبة الآصفية والمكتبة سعيدية في حيدر آباد ومكتبة العلوم بديوبند ومكتبة ندوة العلماء بكلنؤ، ومكتبة مدرسة مظاهر علوم بسهانفور ومكتبة دار المصنفين بأعظم كده ومكتبة أحمد آباد.
وهناك مكتبات لأشخاص كثيرين خاصة توجد فيها نوادر الكتب ومخطوطاتها يطلع عليها الإنسان باتصال العلماء المختصين في العلوم الذين لهم ثغف بهذه المخطوطات.
ها أنا ذا أترك ذكر مؤسسات النشر والطباعة لكتب السنة في الهند، لها شهرة عالمية، منها دائرة المعارف بحيدر آباد دكن، والمجلس العلمي بدابهيل وغيرها لأنها تحتاج إلى مقالة مستقلة. أنا أذكر أسماء بعض كتب السنة التي توجد في البلاد، التي تحتاج إلى تحقيق ونشر استنهاضا للهمم نحو إحياء تراث أسلافنا الكرام منها:
1- كتاب المجروحين لابن حبان.
2- كتاب العلل للمام الدارقطني.
3- التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر المالكي.
4- المسند المعتلي في أطراف مسند الإمام أحمد.(12/427)
5- القبس شرح الموطأ لابي.
6- رجال البخاري للباجي.
7- شرح ابن رسلان لسنن أبي داود.
8- شرح الثقات للعجلي.
9- ترتيب الثقات لقاسم بن قطلوبغا.
10- ترتيب الثقات لقاسم بن قطلوبغا.
11- الإكمال للمغلطائي.
12- الإرشاد لأبي يعلى القزويني.
13- الأشراف لابن المنذر
14- جامع التحصيل في أحكام المراسيل للصلاح العلائي.
15- أحاديث الاختيار لقاسم بن قطلوبغا.
16- التقييد لرواة السنن والمسانيد لابن نقطة.
17- تقييد المهمل لأبي علي الغساني.
18- الإلماع في قواعد الرواية والسماع للقاضي عياض. وقد طبع.
19- شرح علل الترمذي لابن رجب.
20- التحقيق في أحاديث التعليق لابن الجوزي.
21- الاقتراع لابن دقيق العيد المالكي.
22- تنقيح التحقيق لابن عبد الهادي.
23- إتحاف المهرة برجال العشرة للحافظ ابن حجر العسقلاني.
24- المواعظ والحكم للمتقي.
25- كتاب الزهد الكبير للإمام البيهقي.
وفي الختام أدعو الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لخدمة السنة الشريفة وأن يغرس في قلوبنا الحب والتقدير للخدمات التي أسداها السلف الصالح ويقوى شوقنا للرجوع إلى المصادر القديمة ومراجعها بفارغ صبر.
تقي الدين الندوي
باحث شرعي
المحكمة الشرعية أبو ظبي
--------------------------------------------------------------------------------
1 بسطت ترجمته في كنابي (علم الحديث في الهند) .(12/428)
التعليم المعاصر والتربية الإسلامية
لفضيلة الشيخ محمد الشربيني
ماذا يقصد بالتعليم والتربية؟!
التعليم: هو عملية اكتساب المعلومات والمعارف والخبرات والمهارات عن طريق عملية التعلم التي يقوم بها المتعلم بنفسه أو عن طريق غيره (المعلم) ويتم كل ذلك بطرق ووسائل مختلفة بعضها مباشرة وأخرى غير مباشرة.
والتعليم عملية مستمرة من المهد إلى اللحد، والتعليم فرض عين وليس فرض كفاية، والتعليم ليس مجرد تلقين المعرفة ولكنه عملية تدريب وتعلم وتثقيف وممارسة والتعليم لا يقوم على الكم بقدر ما يهتم بالكيف والنوع، والتعليم ليس من أجل العلم للوظيفة أو العلم للعلم أو العلم للمجتمع، وإنما لكل هذه النواحي جميعها بحيث يجعل من الفرد شخصا مستنيرا ومتدينا ومحافظا على واجباته نحو ربه ونحو أسرته ونحو مجتمعه الصغير ووطنه الكبير.
أما التربية: فمعناها أعم وأشمل فهي مرتبطة بنمو حياة الفرد جسميا وعقليا ووجدانيا واجتماعيا وسلوكيا وأخلاقيا ويتم ذلك عن طريق الأسرة والمدرسة والبيئة التي يعيش فيها الطالب وهو في خلال ذلك يتأثر ويؤثر فيما حوله من ظروف وأحوال طبيعية وغير طبيعية بحيث تحدث عملية تفاعل وتكيف يكون لهل الأثر الكبير على تكوينه وسلوكه واتجاهاته وأفكاره ومختلف حياته في سلسلة مراحل نموه بوجه عام.
ومن هنا يتبين لنا أن عمليتي التعليم والتربية مرتبطتان ارتباطا وثيقا، فهما يتعاونان ويشتركان معا في تنشئة الطفل في مختلف مراحل حياته، وقد ينتهي به الحال أن يصبح شخصا سويا مستقيما في حياته العامة والخاصة متمسكا بدينه محافظا على مبادئه وقيمه الإنسانية الرفيعة، وقد يضل الطريق ويحيد عن الصراط المستقيم والخط المرسوم فيصبح (والعياذ بالله) عضوا فاسدا في المجتمع بعيدا عن الأخلاقيات غارقا في الماديات مليئا بالانحرافات.(12/429)
ومن هنا كان لزاما علينا نحن المربين والعاملين في حقل التربية والتعليم أن نعالج هذا الموضوع الذي نحن بصدده الآن بإعطاء صورة حقيقية عن التربية الإسلامية مقرونة بالأسانيد والحقائق بما لا يتطرق غليه الشك – ذلك أن كثيرا من أهل الغرب من أوربيين وغيرهم ومن ساروا في فلكهم إنما ينسبون إليهم أصول الحضارة والمدنية والثقافة العالمية والإنسانية وأنهم أصحاب كل فكر وعلم ورأي ونظرية وكل لون من ألوان المعرفة البشرية – ولو عرفوا وأخلصوا وخففوا من تعصبهم وتأملوا في ادعاءاتهم لوصلوا إلى الحقيقة وهي أن مصدر الحضارة كلها في مجال التعليم والتربية إنما يرجع أساسا إلى التعاليم الإسلامية السمحة الواردة في كتاب الله الكريم وسنة رسوله العظيم وسير أصحابه والأئمة من علماء المسلمين والسلف الصالح.
وتحقيقا لذلك ورد في القرآن الكريم وفي آيات كثيرة ذكر الكتاب والقراءة والكتابة، والصحف والسجل والمداد وما إلى ذلك حتى أن بعض العلماء والباحثين أحصوا كلمات الكتابة ومشتقاتها مما ورد في القرآن الكريم فوجدوها تسعين كلمة ونيفا بأساليب متنوعة. ومن ذلك قوله تعالى لنبيه الكريم: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} ، وقوله جلت قدرته: {وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُون} فأقسم بالقلم وما يخط بالقلم.
تطور الحركة التعليمية الإسلامية
أولا: فكرة الكتاتيب (وهي أولى مراحل التعليم) :(12/430)
1- تلقين الأطفال مبادئ عنى العرب منذ صدر الإسلام بتربية وتعليم أطفالهم عناية خاصة، فأبناء الخواص منهم كانوا يلقون عناية شديدة لتثقيفهم روحيا وتربيتهم بدنيا وعقليا، كما أن أبناء العوام لم يكن أمرهم مهملا. وكان التعليم في مدارس الأطفال (الكتاتيب) يقوم على القراءة، والكتابة وكان يقوم بالتعليم جماعة مخصوصة من الناس وكان لهم طرق في تعليم الأطفال المسلمين والعناية بتأديبهم وإصلاح أحوالهم وكان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين من بعده كتاتيب منتظمة يتعلم فيها أبناء المسلمين الأغنياء منهم والفقراء ز ومما ينبغي ذكره أنه كانت في المدينة دار تسمى "دار القرآن"أو "دار القراء"وأن بعض القراء كانوا يسكنونها ليحفظوا آي القرآن الكريم ويجودوا قراءته. ولا شك أن المرحلة الأولى (الابتدائية) في الوقت الحاضر يتعلمون فيها القراءة وأصول الكتابة العربية.
2- ولما سارت جيوش المسلمين في فتوحاتهم خارج الجزيرة العربية برزت فكرة "الكتاتيب القرآنية"بصورة واضحة، وتعددت في كافة الأقطار والأمصار التي حل فيها الفاتحون من المسلمين. ولقد أدى المسلمون الأولون من أهل الحجاز والشام والعراق ومصر دورا كبيرا في إنشاء هذه الكتاتيب في عهد الخلفاء الراشدين، ليعلموا أبناء هذه البلاد القرآن الكريم ويلقنوهم آيات من كتاب الله المبين، وهكذا وجدت الكتاتيب بكثرة في البصرة والكوفة والفسطاط والإسكندرية والقيروان وغيرها من أمهات العواصم العربية.
3- ولما اشتغل بنو أمية بأمر المسلمين ازدادت عنايتهم بالثقافة زيادة واضحة لتوسع رقعة الدولة وحاجتها إلى المتعلمين والمثقفين وقد نبغ في هذا العصر جمهرة من كبار المعلمين والمربين من ذوي المكانة السامية وكانت للأمويين عناية خاصة بتهذيب أبنائهم وأبناء رجالات دولتهم، فكانوا يرسلونهم إلى البادية لتفصح ألسنتهم ويستوي سلوكهم.(12/431)
وقد ورد في ذكر ذلك أن قال الخليفة عبد الملك بن مروان: "أضر بالوليد حبنا له فلم نوجهه إلى البادية"، ولذلك خرج الوليد بن عبد الملك لحانة، وكذلك أخوه محمد، على عكس أخويهما هشام ومسلمة فإنهما كانا فصيحين لأنهما خرجا إلى البادية فتفصحا.
4-أما في العصر العباسي: فلقد انتظم أمر هذه الكتاتيب بصورة فائقة نظرا لعناية الناس بأمر أولادهم من جهة ولاشتداد الدولة واهتمامها بالتعليم، بعد أن استقر لها الأمر ودانت لها كافة الأقطار. وهنا ظهرت الحركة العلمية الأدبية الدينية الفقهية وبلغت أقصى درجات التقدم والرقي في مجال العلوم الشرعية والإنسانية والعلوم التجريبية وسائر فروع المعرفة.
ويلاحظ بوجه عام أن معلمي الكتاتيب منذ العصر الأموي كانوا منقسمين إلى أربع نوعيات:
أولاهما: معلمو كتاتيب العامة الذين كانوا يهتمون بتعليم أبناء الطبقة المتوسطة وسواد الشعب.
ثانيهما: معلمو أبناء الطبقة العليا من الأمراء والأثرياء، وكان لهؤلاء المعلمين اسم يمتازون به وهو اسم "المؤدبين".
ثالثهما: طبقة كبار المؤدبين الذين امتازوا بسعة اطلاعهم في الثقافة العربية الإسلامية إلى جانب تعمقهم في ضروب العلم والأدب وسائر فروع المعرفة بما يقارب لدينا حاليا أساتذة الجامعات والدراسات العليا. ومن أمثال هؤلاء الأئمة الأعلام: سيبويه والكسائي والأصمعي وغيرهم من طبقة كبار علماء اللغة العربية ومن فقهاء الإسلام الأئمة الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وأبو حنيفة النعمان.
رابعها: طبقة العلماء الأعراب البداه: الذين ورثوا علم البادية وحفظوا أشعار البادية والقبائل العربية ورعوا أخبارها. وكان هؤلاء لهم ثقافة واسعة في اللغة العربية وكان هؤلاء يطوفون على أصحاب الكتاتيب والمؤدبين وكبار العلماء فيفيدونهم من علمهم ويستفيدون مما عندهم.
أما من حيث التقسيم الفني لهذه الكتاتيب فكانت تنقسم إلى قسمين رئيسيين:(12/432)
(1) كتاتيب أولية: وكان يتعلم الأطفال فيها مبادئ القراءة والكتابة ويحفظون القرآن ويجودونه وكذلك يتعلمون مبادئ الفقه والحديث والتفسير وأوليات الحساب.
(2) كتاتيب ثقافية: وقد أنشئت لتعليم الأطفال والشبان علوم اللغة والآداب وكانوا يتوسعون في دراسة العلوم الشرعية وسائر صنوف العلم والمعرفة بصفة عامة.
أهداف الكتاتيب ومناهجها وبرامجها:
يبدو أن الفكرة الأولى من إنشاء الكتاتيب في صدر الإسلام كانت لتعليم الأطفال أوليات القراءة والكتابة والحساب وحفظ القرآن كله أو بعضه. فلما انتظمت شئون الدولة الإسلامية في عهد بني أمية عنى الناس عناية شديدة بهذه الكتاتيب لتخريج طبقة من الكتاب ومستخدمي الدولة وموظفيها ورجال الأعمال خارج وداخل الدولة. وما أن جاء القرن الثاني الهجري حتى كانت الكتاتيب قد انتظمت شئونها وصار لها برامج ومناهج تطبق في كتاتيب الصبيان "البنين" وأخرى في كتاتيب "البنات" وكانت هذه الكتاتيب بوجه عام تسير وفق أنماط ثلاثة من النظم والبرامج تتلخص فيما يلي:
أولا: كانت الطريقة السائدة في معظم أنحاء العلم الإسلامي هي تحفيظ القرآن الكريم، بحيث يبدءون في إقراء الطفل للقرآن بجملته قراءة دارجة ثم يعمدون إلى تحفيظه إياه كله أو ما تيسر منه، وقد يبدأ المعلم بإعراب بعض آياته وتفسير بعضها بصورة مختصرة موجزة ثم يبدأ في ترتيله وتجويده ثم يعلمهم مبادئ العلوم والآداب التي تعينهم على تفهم معاني كتاب الله الكريم. أي أن المعلم كان يعني بحفظ القرآن وإعرابه من حيث الشكل ثم الاهتمام بالهجاء والإملاء والخط الحسن والقراءة الجيدة ولا يجوز أن يقرأ بالألحان، ولا يعلمهم التحبير (تحسين الصوت كالغناء) ويلزمه أن يعلمهم الوضوء والصلاة فهي أصل العبادات- فكلن منهجهم على أن القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من مالكات.(12/433)
ثانيا: وأما أهل المغرب فمذهبهم الاقتصار على تعليم القرآن فقط ن ولا يخلطون فيه بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث ولا من فقه وال من شعر ولا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه.
ثالثا: وأما أهل الأندلس فقد اهتموا بتعليم الطفل اللغة العربية والشعر والآداب حتى إذا ما برع في هذه العلوم انتقل إلى دراسة القرآن الكريم بحجة أن الطفل لا يستطيع فهم وإدراك معاني القرآن الكريم ما لم يلم بأصول اللغة العربية وآدابها. ولكن هذا الرأي مردود عليه ذلك لأنه من المتفق عليه أن الطفل يسهل عليه حفظ القرآن في السن المبكرة وربما صعب عليه ذلك في السن المتقدمة وبذلك تضيع عليه فرصة تعلم القرآن الذي هو منبع الدراسات كلها.
والرأي السائد هو ما سارت عليه معظم بلاد المسلمين في ذلك الوقت وهو الجمع بين حفظ القرآن وتلاوته وتجويده مع دراسة اللغة العربية وآدابها وقواعدها من نحو وصرف بالإضافة إلى بعض فروع المعرفة الأخرى التي توسع مدارك الطفل وتؤهله للحياة كما هو متبع حاليا في بعض معاهدنا وجامعاتنا ذات الطابع الإسلامي الأصيل.
المدارس النظامية الإسلامية
يقصد بلفظ "مدرسة "معنيان أو غرضان وهما:
المصطلح الأدبي: ويقصد به الرأي أو المذهب أو الاتجاه في فكر معين: فيقولون هؤلاء من أنصار المدرسة القديمة مثلا وهؤلاء من أتباع المدرسة الحديثة وهؤلاء من أصحاب المدرسة التقليدية (المحافظة) وهؤلاء من أنصار المدرسة المعاصرة (المتحررة) الخ أي أنه اصطلاح أدبي معنوي.
المصطلح المكاني: ويقصد به المكان المهيأ لتلقي الدروس بصورة منتظمة وفي مواعيد محددة ووفق خطة زمنية ومنهج مقرر لمرحلة معينة طبقا لأعمار الطلاب.
ويذكرنا ذلك بمطلع قصيدة الخز اعي (246) التي كان يرثي بها آل البيت وما يلقون من تقتيل وتعذيب وما أصاب معاهد العلم والدين في ذلك الوقت حيث قال:
ومهبط وحي مقفر العرصات(12/434)
مدارس آيات خلت من تلاوة
وكانت هناك مدارس في القرن الرابع وأوائل الخامس من الهجرة في بلاد الإسلام شرقا وغربا وأنها كانت مكانا خاصا مهيأ للتدريس غير المسجد والكتاب ودار العلم والحكمة، وربما كانت فيها غرف يسكنها الطلاب الغرباء وكذلك بعض الشيوخ من المعلمين والمربين. ومن هذه المدارس: مدرسة بنيابور للإمام النيابوري، ومدرسة في طهران للإمام الحاتمي للتدريس على المذهب الشافعي، ومدرستان في بغداد لتعليم المذهب الشافعي، والمدرسة السعيدية والمدرسة البيهقية (بنيسابور) والمدرسة الجليلية وغيرها.
ولكن المدارس لم تأخذ صورتها النظامية بالمعنى المطلوب إلا حين أسس السلطان نظام الملك السلجوقي مدارسه في بغداد وغيرها من عواصم الدولة الإسلامية التابعة للدولة السلجوقية في عهده. ويعتبر عمل نظام الملك أول عمل رسمي قامت به الدولة الإسلامية لتنظيم الدراسة وترتيبها بتهيئة الأسباب وإيجاد المواد الضرورية اللازمة للدراسة وتحديد ميزانية مالية لها، وإعداد الرواتب والنفقات والإعانات للأساتذة والطلاب وتثبيت بعض النظم والتقاليد التي كانت غير مستقرة فعلا.
ولكن عندما حل القرن الخامس الهجري فترت الهمم وكثر الهدامون والمخربون ودعاة البدع والخرافات وأصحاب الملل والنحل. ولهذا كان عمل نظام الملك عملا جليلا صان به الحركات العلمية والأدبية والثقافية من التدهور والانحلال وسوء المصير.
غير أن نظام الملك وإن كان قد صان العلم وحفظه فإن كثيرا من العلماء في ذلك الوقت لم يكونوا يميلون إلى هذا النظام الجديد للمدارس وفضلوا عليه ما كان سائدا من قبل وهو نظام التعليم الحر في المساجد والبيوت والكتاتيب وحجتهم في ذلك إن الذين كانوا يقومون بالتعليم في النظام القديم كانوا من أرباب الهمم العالية والأنفس الزكية الذين يقصدون العلم لشرفه، وبوحي من ضمائرهم وبصورة اختيارية لا إكراه فيها ولا لطمع مادي أو مأرب وظيفي.(12/435)
والرد على ذلك أن نظام الملك اضطر إلى هذا النظام خشية انهيار الحالة التعليمية وحفاظا على العلم وأهله. وهذا يذكرنا بالدور الذي قام به الخليفة عثمان بن عفان من نسخ القرآن بعد أن تعرض الكثيرون من حفظته إلى الاستشهاد في حروب الردة.
هذه المدرسة النظامية الإسلامية التي كانت تقوم مناهجها أساسا على العلوم الشرعية والعلوم العربية وبعض العلوم الكونية والثقافية الأخرى، نريد أن يمتد أثرها إلى جميع مدارسنا ومعاهدنا في عالمنا المعاصر العربي والإسلامي بحيث تكون العقيدة والتوحيد والقرآن وهي أسس الدراسة وأن تستكمل الخطط والمناهج بألوان المعرفة الأخرى ذلك إن أردنا لشبابنا وأبناء جيلنا الإسلامي الهدى والرشاد في حياتهم الدنيا وحياة الآخرة.(12/436)
ويؤكد هذا النداء ما دعا إليه مؤتمر ندوة العلماء في الهند في الشهر الماضي من إعادة صياغة المناهج التعليمية في مختلف أقطار العالم الإسلامي بصفة عامة وأقطار العالم العربي بصفة خاصة وفقا للعقيدة الإسلامية فكانت هذه من أقوى التوصيات التي لفتت أنظار العالم الإسلامي بأسره، فهي دعوة تجيء في وقتها بعد أن تبين للمسلمين والعرب أن المنهج الذي سلكوه في التربية والتعليم وأخذوه عن دول الغرب، هذا الأسلوب الوافد والمستورد كانت له محاذيره وأخطاره وآثاره البعيدة المدى في النتائج التي حدثت خلال الربع الأخير من هذا القرن. ولا ريب أن هذه المناهج التي أنشأتها معاهد الإرساليات التبشيرية وتبنتها بعد ذلك المدارس الوطنية في أغلب أجزاء الوطن العربي والبلاد الإسلامية كانت بعيدة عن روح الإسلام وتعاليمه السمحة حتى أن الإسلام كان يدرس إبان فترة الاحتلال والاستعمار على أنه دين عبادة وليس منهج حياة وأن ذلك كان له أثره في بناء العقلية والنفسية التي لم تستطع استيعاب التحديات الخطيرة القائمة وراء الاستعمار والصهيونية والشيوعية وأخطارها البعيدة المدى المهددة لكيان العالم العربي بصفة خاصة.
وإلى الحلقة التالية من هذا الموضوع الحيوي المرتبط مصيريا بتربية وتعليم شبابنا في نختلف بقاع العالم الإسلامي والله يلهمنا طريق الهدى والرشاد.
محمد الشربيني
خبير التعليم بالجامعة(12/437)
العدد 35
فهرس المحتويات
1- فواصل القرآن الكريم: لفضيلة الشيخ عبد الفتاح القاضي
2- أبو بكر الباقلاني ومفهومه للإعجاز القرآني: بقلم الدكتور أحمد جمال العمري
3- من وحي السيرة - صور من جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة: لفضيلة الشيح محمد عبد المقصود جاب الله
4- الحق.. أحق أن يتبع: لفضيلة الدكتور عبد المنعم محمد حسنين
5- رسائل لم يحملها البريد: لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
6- تعقيب.. لا تثريب - يا أنصار الغناء.. تعالوا إلى كلمة سواء: بقلم الشيخ محمد المجذوب
7- قطرات من الضوء في رحلة قلم: لفضيلة الشيخ عبد الحميد ربيع
8- أثر الإسلام في النقد الأدبي عند العرب: بقلم الدكتور عبد الحميد محمد العبيسي
9- التعليم المعاصر والتربية الإسلامية: لفضيلة الشيخ محمد الشربيني
10- قضية للبحث.. الإسلام وعلم النفس الاجتماعي: بقلم فضيلة إبراهيم محمد سرسيق
11- الإسلام وتحديات العصر: لفضيلة الشيخ محمد أحمد أبو النصر
12- من وحي القوة في الإسلام: لفضيلة الشيخ أحمد عبد الرحيم السايح
13- الضوء القرآني على كتابة العلوي حول النبهاني: بقلم عبد القادر بن حبيب الله السندي
14- من الجاني؟..: للعلامة الشيخ محمد سالم البيحاني رحمه الله
15- معسكرات الإخاء الإسلامية وأبعادها: بقلم الطالب سليم ساكت المعاني
16- حوار بين الليل والنهار: بقلم الطالب عبد الرحمن شميلة الأهدل
17- وداع رمضان: للطالب أحمد حسن المعلم
18- الفتاوى - الفرق بين الصدقة والهدية: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
19- أخبار الجامعة
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(12/438)
فواصل القرآن الكريم
لفضيلة الشيخ عبد الفتاح القاضي
من أساليب القرآن الممتعة، وتراكيبه الرصينة المبدعة فواصله (رؤوس آياته) والفواصل: جمع فاصلة، والفاصلة في القرآن: هي آخر كلمة في الآية، وهي بمثابة السجعة في النثر، وبمنزلة القافية في النظم، وسميت فاصلة لأنها فصلت بين الآيتين، والآية التي هي رأسها، والآية التي بعدها، ولعل هذه التسمية أخذت من قوله تبارك وتعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} آية 2 من سورة هود، وقوله جلّ ذكره {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} آية 3 من سورة فصلت.
ولمعرفة فواصل القرآن الكريم ورؤوس آية طريقان:(12/439)
الطريق الأول: توقيفي سماعي ثابت من قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وسماع الصحابة لها, كفواصل سورة الفاتحة؛ فقد روى أبو داود وغيره عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقطع قراءته آية آية، يقول: "بسم الله الرحمن الرحيم"ثم يقف ثم يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، ثم يقف، ثم يقول: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، ثم يقف، ثم يقول: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، ثم يقف، ثم يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، ثم يقف، ثم يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ، ثم يقف، ثم يقول: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} "، وإنما وقف صلى الله عليه وسلم على هذه الكلمات: الرحيم، العالمين، الرحيم، الدين، نستعين، المستقيم، الضالين؛ ليعلم الصحابة أنّ كل كلمة من هذه الكلمات فاصلة، ورأس آية، يصح الوقوف عليها اختيارا.. وهكذا كل ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يقف عليه في قراءته دائما نتحقق أنه فاصلة، ورأس آية، ويصح أن نقف عليه حال الاختيار.
وأما ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم وصله ولم يقف عليه أبدا فهو غير فاصلة، وغير رأس آية قطعا, فلا ينبغي الوقوف عليه في حال الاختيار.(12/440)
وفي القرآن العظيم كلمات وقف عليها صلى الله عليه وسلم حينا، ووصلها حينا، وهذه محل نظر العلماء، ومحط اختلافهم؛ لأن وقفه - عليه السلام - عليها في المرة الأولى يحتمل أن يكون لبيان أن هذه الكلمات فواصل، ورؤوس آيات، ويحتمل أن يكون لبيان صحة الوقف عليها، وإن لم تكن فواصل، ووصله - عليه السلام - لها في المرة الثانية يحتمل أن يكون لبيان أنها ليست رؤوس آيات، ويحتمل أنه وصلها - وهي فواصل في الواقع - لأنه وقف عليها في المرة الأولى لتعليم الصحابة أنها فواصل, فلما اطمأنت نفسه إلى معرفتهم إياها في المرة الأولى وصلها في المرة الثانية، ومن هنا نشأ اختلاف علماء الأمصار: المدينة، مكة، الكوفة، البصرة، الشام، في مقدار عدد آي القرآن، وعدد آياتها.
الطريق الثاني - لمعرفة الفواصل-: قياسي؛ وهو ما ألحق فيه غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه لعلاقة تقتضي ذلك، وليس في هذا محذور، لأنه لا يترتب عليه زيادة في القرآن، ولا نقص منه، بل قصارى ما فيه تعيين محال الفصل والوصل.
ولمعرفة فواصل الآيات رؤوسها فوائد جمة، ومنافع جليلة، منها:
1_ تمكين المكلف من الحصول على الأجر الموعود به على قراءة عدد معين من الآيات في الصلاة, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيجب أحدكم إذا رجع إلى أهله وبيته أن يجد فيه ثلاث خلفات عظام سمان؟ قالوا: نعم، قال: فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته خير له من ثلاث خلفات عظام سمان". رواه مسلم. والخلفات- بفتح الخاء وكسر اللام-: الحوامل من الإبل, والواحدة خلفة.(12/441)
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم "كان يقرأ في صلاة الصبح بالستين إلى المائة". وفي مسند الدارمي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ في صلاة الليل بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ بخمسين آية كتب من الحافظين، ومن قرأ بمائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ بمائتين كتب من الفائزين، ومن قرأ بثلاثمائة كتب له قنطار من الأجر".
فإذا لم يكن المكلف عالما بفواصل الآيات رؤوسها ومبدئها ومنتهاها لا يتيسر له إحراز هذا الأجر، والظفر بهذا الثواب. ومن أجل ذلك كان بعض الصحابة يعقدون أصابعهم في الصلاة لمعرفة عدد ما يقرؤون فيها من الآيات رغبة منهم في نيل هذا الأجر، وحرصا على إحراز هذا الثواب.
وممن روى عنه عقد الأصابع في الصلاة ابن عباس وابن عمر وعائشة من الصحابة, وعروة، وعمر بن عبد العزيز من التابعين.
ومن فوائد معرفة الفواصل: 2_ صحة الصلاة؛ فإن صحتها - في بعض الأوقات - تتوقف على معرفة الفواصل؛ وذلك أن فقهاء الإسلام- وبخاصة علماء الشافعية- قرروا أن من لم يحفظ الفاتحة - وهي ركن من أركان الصلاة - يتعين عليه أن يأتي بسبع آيات بدلا منها، فإذا كان عالما بالفواصل استطاع أن يأتي بالآيات التي تصح بها صلاته، وإذا لم يكن عالما بالفواصل عجز عن الإتيان بما ذكر.
ومن هذه الفوائد: 3_ صحة الخطبة فإن صحتها - في بعض المذاهب - تتوقف على العلم بالفواصل؛ وذلك أن فقهاء الشافعية نصُّوا على أن الخطبة لا تصح إلا بقراءة آية تامة, فمن لم يكن عالما بالفواصل يعسر عليه معرفة ما يصحح به الخطبة.
ومنها 4_ العلم بتحديد ما تسنّ قراءته بعد الفاتحة في الصلاة، فقد نصّ العلماء على أنه لا تحصل السنة إلا بقراءة ثلاث آيات قصار، أو آية طويلة، ومن يرى منهم وجوب القراءة بعد الفاتحة لا يكتفي بأقل من هذه العدد، فإنّ من لم يعرف الفواصل لا يتيسر له تحصيل هذه السنة، أو هذا الواجب.(12/442)
إن القرآن الكريم - مع بالغ عنايته، وعظيم اهتمامه بالمعنى الدقيق، والهدف النبيل، والفكرة العميقة، والأسلوب الفذ والتركيب الرصين- لم يغفل أمر الفواصل, بل عني بها أيُّما عناية، فجعلها متناسبة متكافلة، متناسقة متآخية، لا متنافرة ولا متعادية، ومن أجل ذلك خرج عن مقتضى ظاهر الأسلوب في بعض المواطن.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى في ختام آية 87 من سورة البقرة {فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} فكان مقتضى ظاهر الأسلوب أن يقال: "وفريقا قتلتم"، ولكن لما كانت فواصل السورة مبنية على وجود حرف المد قبل الحرف الأخير في الكلمة قيل {وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} حتى تتناسب مع بقية فواصل السورة.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى في ختام آية 46 من سورة يوسف {لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} كرّر كلمة (لعل) مراعاة لفواصل الآي السابقة واللاحقة، ولولا هذه المراعاة لقال: (ليعلموا) أو (فيعلموا) وحينئذ لا يكون ثَمَّ تناسب بين هذه الفاصلة وبين ما قبلها وما بعدها من الفواصل.
ومنها قوله تعالى في سورة طه {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} آية 67 قدم في الآية المفعول - وهو (خيفة) , وأخَّر الفاعل وهو (موسى) على خلاف الأصل الذي يقتضي تقديم الفاعل على المفعول- رعاية لفواصل السورة المختومة كلها بالألف.
ومثل هذه الآية قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُر} 41 من سورة القمر، أخر فيها الفاعل وهو (النذر) على المفعول وهو (آل) رعاية لفواصل السورة التي بنيت كلها على الراء الساكنة.(12/443)
ومن الأمثلة قوله تعالى في ختام آية 10 من سورة الأحزاب وهو {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} , وفي ختام آية 66 في السورة المذكورة وهو {وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} , وفي ختام الآية بعدها 67 وهو {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} زيدت الألف في ختام الآيات الثلاث (الظنونا، الرسولا، السبيلا) لتتساوى مقاطع السورة كلها، وتتناسب فواصلها، لأن جميع فواصلها ألفات. والله ولي التوفيق.(12/444)
قضية للبحث..
الإسلام وعلم النفس الاجتماعي
بقلم فضيلة إبراهيم محمد سرسيق
المدرس في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية
{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} سورة الحشر: 19 {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} سورة ق: 16 {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} سورة فصلت: 53.
كثير من الجهلة يعتقدون اعتقادا أعمى، بأن ثقافات العصر وعلومه الحضارية إنما هي سماوات.. لا يستطيع أن يحلق في أجوائها المشتغلون بالدراسات الإسلامية بعقولهم المكدودة المحدودة، وقدراتهم وإمكاناتهم المعدودة، فكيف بالإضافة إلى حصاد الفكر العلمي في ميادينه الخصيبة؟
ونحن هنا، مستمدين من الله تعالى وحدة كل عون وهداية، نقدم للقارئ المتخصص نظرية قرآنية متكاملة، في علم من أهم علوم النفس، وهو (علم النفي الاجتماعي) , وفي باب من أهم أبواب هذا العلم، وهو (سيكلوجية الجماهير) ، وفي فصل من أهم فصول هذا الباب، وهو (فكرة العقل الجمعي) .
ولسوف نستوثق في نهاية هذا البحث من خطل الرأي القائل: بأن العقل الإسلامي عقل (عقيم) ، وبأن الفكر الشرقي فكر (سقيم) ، وبأن الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا أبداً.
بالله ما ذنب الإسلام، يلصقون به التهم على الدوام؟؟
ما المقصود بعلم النفس الاجتماعي؟(12/445)
هو العلم الذي يبحث التفاعل بين الفرد ومجتمعه، ويبحث سلوك الأفراد والجماعات في مختلف المواقف الاجتماعية، ونتائج هذا السلوك من حيث كونها الوسيلة إلى تكوين مختلف الآراء والاتجاهات والقيم والعادات الاجتماعية, كما يبحث أشكال التفاعل الاجتماعي، وهل هو قيادة أو خضوع أو منافسة أو تعاون أو نفاق أو تعصب.. إلخ. كما يقوم هذا العلم بمراقبة ورصد هذا التفاعل الاجتماعي في مجالات التفاعل المختلفة: كالأسرة، والمدرسة، وجماعة الرفاق، ووسائط التأثير الإعلامي، وصور الدعاية والإعلان وغير ذلك.
ومن الموضوعات الأساسية في هذا العلم:
1- دراسة السلوك الاجتماعي السوّي والشاذ.
2- دراسة الاتجاهات والقيم والميول من حيث تأثيرها على السلوك الاجتماعي.
3- قياس الآراء، واتجاهات الرأي العام، ومعرفة ما يؤثر فيه.
4- دراسة الطبيعة الإنسانية وكيف تتأثر بالوسط المحيط بها.
5- دراسة التفاعلات الاجتماعية وكيفية حدوثها ونتائجها.
6- دراسة التطبيع الاجتماعي للناشئة.
7- تحليل الظواهر الاجتماعية ومعرفة أسبابها، قديمة أو جديدة.
8- بحث مظاهر القيادة المختلفة ومعرفة أدوارها ووظائفها.
المصادر الأصيلة لعلم النفس الاجتماعي:
يرى الباحثون في نشأة هذا العلم: أنّ مصادره الأساسية تتمثل في القنوات الأربع الآتية، التي عبرت من خلالها الروافد الأولى لهذا العلم:
كتابات الفلاسفة الاجتماعيين، سواء في الحضارات الماضية أو المعاصرة، ومنهم على وجه الخصوص: أفلاطون في جمهوريته، وأرسطو في كتاباته عن السياسة والأخلاق، ومن المحدَثين: مونتسكيو, وجان جاك روسو، وغيرهما.
وأولها:
الرواد الأوائل في عل الأنثروبولوجيا: حيث يعد ما كتبوه من الأجناس، وما بدءوا به عن العمليات العقلية للشعوب البدائية، نقطة البداية في هذا العلم، من حيث اتصالها بالتراث الثقافي للإنسان.
ثانيا:(12/446)
علماء التطور: فقد كان لاهتمامهم بالتوافق الاجتماعي وميض أنتج الخفقات المضيئة لمباحث علم النفس الاجتماعي، من ناحية تناوله بالبحث خصائص الإنسان باعتباره فردا منتميا إلى الجماعة في (وحدة عضوية) ويؤثر فيها ويتأثر بها, أو ليست الحياة التي نحياها عملية توافق دائمة؟ أو ليست يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار؟
ثالثا:
علماء الاجتماع:
رابعاً:
ويجدر بنا أن نضع في دائرة الضوء، جهود العلماء المسلمين في إرساء حجر أساس لعلم الاجتماع الذي تفرّع عنه مباشرة: علم النفس الاجتماعي. فإن ما تقرءوه الآن من (آراء أهل المدينة الفاضلة) للفارابي (870 – 950م) وحديثه عن حاجة الإنسان إلى الاجتماع والتعاون، وعن ضرورة القيادة في المجتمع, وعن الصفات الاثني عشرة للرئيس، كلها تنبئنا عن الجهد العلمي المبذول من هذا العالم في وضع اللبنات الأولى في صرح هذا العلم.
ويحدثنا الغزالي (1059-1112م) في إحياء علوم الدين حديثا موسعا عن (أثر الحكام في غرس الاتجاهات العلمية في المجتمع) وعن سبب الإقبال على دراسة أوجه الخلاف في الآراء، وعن المناظرة وما تجلبه من إحن وأحقاد بين المتناظرين، وعن صفات المعلم الواجب توافرها فيه وأولها عمله بما علم، إلى غير ذلك من آراء وخبرات هامة ومفيدة.(12/447)
أما ابن خلدون (1332-1406م) فحدّث عنه ولا حرج! هذا هو واضع علم الاجتماع بلا مراء.. كيف لا، وهو الذي ساق نظريات علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي لم يسبق إليها! وكان له من نظره الصائب، وفكره الثاقب، ما جعله يستقرئ الظواهر الاجتماعية ذات الأصل الاجتماعي أو النفسي فيصوغ منها نظريات سديدة، دلت على قوة، دلت على عارضته، وأصالة بحثه، ودقة رصده للأحداث والظواهر على مر التاريخ! من هنا كان الرجل حقيقاً بدراسة مستقلة توضح جهده في ركام الجهل أو التجاهل عن تراث العلماء المسلمين وجهودهم الجبارة في صنع الحضارة، ومع اعتراف الغربيين بجهود ابن خلدون في وضع بذور هذا العلم، نراهم يعتبرون أوجست كونت (1798-1857م) هو المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع عندهم, يليه في ذلك جوستاف لوبون 1841-1931م) , ثم جبريل تارد (1843-1904م) .
علم الاجتماع، وعلم النفس الاجتماعي:
هناك فرق بين كل من علم الاجتماع، وعلم النفس الاجتماعي، ولكل منهما علماء وباحثون, فالأول يدرس المجتمع والثاني يدرس التفاعل بين الفرد والمجتمع, علم الاجتماع يهتم بالمجتمعات من حيث تكرار ظواهرها، وتعدد مؤسساتها وتنظيماتها، وكثرة ما فيها من طبقات أو فئات أو نظم اجتماعية تحكمها قوانين علمية، فهو يبدأ بالمجتمع البشري وينتهي به, أما علم النفس الاجتماعي فهو يلقي الضوء على (الإنسان) من خلال معايشته بمجتمعه، وليس من ناحية انفراده بذاته لأن ذلك مجال علم آخر هو (علم النفس الكلينيكي) أو علم النفس الاجتماعي هي الفرد، مرورا بالمجتمع الذي يعيش فيه، وانتهاء بالنتائج التي يخرج بها منه والآثار التي يؤثر بها فيه. وبالإضافة إلى ذلك يهتم علم النفس الاجتماعي بدراسة الآثار الثقافية الموروثة والمكتسبة للإنسان من حيث هو حلقة في سلسلة حضارية بعيدة الأمد عبر هامات القرون المتباعدة.
جوستاف ليبون وفكرة العقل الجمعي: The group Mind(12/448)
استطاع جوستاف ليبون (1841-1931م) وهو مفكر وكاتب فرنسي مشهور، أن يضع كتابا كاملا ضمّنه أهم آرائه المتميزة في علم النفس الاجتماعي، وهو كتاب (روح الاجتماع) .
وفي هذا الكتاب عرض الكاتب فكرة تجذب انتباه الباحث في دراسته لـ (سيكولوجية الجماعات) . وقد عرفت هذه الفكرة بين الباحثين في علم النفس الاجتماعي بفكرة (العقل الجمعي) . وتتلخص فيما يلي:
- كل جماعة تتكوّن من أفراد، ولكن ليست الجماعة من الناحية النفسية هي المجموع الحسابي لأفرادها, فإنّ التشكيل الجديد الذي يتكوّن أساسا من الأفراد يتميز بخصائص جديدة لا توجد في الفرد الواحد.
- فالجماهير تختص بأن لها (عقلا جمعيا) ، يعتبر أحط في نوعه، وطريقة استجابته للأحداث، من عقول الأفراد الذين تتألف منهم الحشود الكبيرة؛ ذلك لأنهم ينزلون إلى مستوى الصفات المشتركة التي تجمع بينهم جميعا، وهي في الغالب صفات غريزية، أو أقرب ما يكون إليها، فينتج عن ذلك أن يتعطل الذكاء في الجماهير، ويصبحوا محكومين بتصرفات تلقائية هي أكثر شبها بالاستجابات اللاشعورية. لكن لماذا يقلّ الشعور الفردي بالمسؤولية؟
الجواب على ذلك: أنّ الفرد عندما يرى نفسه في جماعة يشعر بمزيد من القوة لوجوده وسط هذه الجماعة, ويترتب على ذلك عجزه عن ضبط نزعاته، بل إنّ ذلك يتيح له الفرصة للتنفيس عن رغباته ومكبوتاته، فتراه يصيح بأعلى صوته، وأحيانا بكلام غير مفهوم، أو غير مقنع، وتراه يقفز في حركات هستيرية، وينفلت عياره –كما يقلون- بهتافات عدائية, وقد يصاحب ذلك كله عمل تخريبي يعتبر مكملا للثورة الانفعالية التي تفجرت في داخل النفس وخارجها.
هذا العقل الجمعي إذن:-
أ _ يتميز بالانطلاق وعدم المبالاة بالعواقب.
ب _ يتميز بعدم القدرة على ضبط الانفعالات.
ج _ يتميز بفقدان الشعور بالمسؤولية، بصورة مؤقتة، بدليل أن المرء يندم بعد ذلك على ما اجترحه من مخالفات.(12/449)
د _ يتميز بالاحتماء بالجماعة والشعور بالأمن في ظلها, أو بالذوبان وتميع الجرم وإمكان الهرب من خلالها. وهذا ما يطلق عليه (غريزة القطيع) .
وتتخلص سمات هذه الجماعة في:
_ أنّ أفرادها يشعرون ويفكّرون ويعملون بطريقة تخالف الطريقة التي يشعر ويعمل ويفكر بها كل فرد على حدة.
- وأنها تندفع إلى العمل بدون رويّة.
- وأنها متقلبة، تنتقل في الحالات الشعورية من حاله إلى ضدها.
- وهي متعجلة، لا تقبل وجود عوائق تمنعها عن أهدافها وهي شديدة التقبل للمؤثرات الانفعالية: تصدقها سرعة وتعمل بوحيها.
- وهي شديدة الانفعال تتطرف في عواطفها وتستجيب للعواطف الملتهبة بسهولة، وتنتقد الاعتدال والتروي، ولا تستطيع أن تتوسط بين عاطفتين: فإما أن تندفع إلى السيطرة، أو إلى الانقياد في مغالاة، ولكنّها تميل إلى المحافظة، وتكره التجديد.
- وهي تفضل البسيط من الأفكار والأقوال ذات المستوى المنطقي السطحي، والتي تعتمد على الصور الذهبية الواضحة. ومن الصعب على الجماعة أن تغير رأيا ارتأته بسهولة، ولذلك فإنها تتعصب للرأي إذا تصطنعه وتعتقد بصحته اعتقادا أعمى..
ويرى جوستاف لوبون: أن الجماعة تؤثر في الفرد، فتغيّر من صفاته الذاتية حتى يسهل اندماجه في الجماعة، إذ تسلبه الشعور بالمسؤولية الجماعية, وتزيد من قابليته للتأثر والإيحاء، ولهذا فإنّ الفرد داخل الجماعة يغلب عليه الانقياد والاندفاع، وسهولة التأثر بالإيحاء، وضعف القدرة على التفكير المنطقي الموضوعي، والنقد النزيه". [1]
وهذه الصورة التي رسمناها للجماهير ذات العقل الجمعي, نراها واضحة في أي تجمع جماهيري لأي سبب من الأسباب، تجتمع بسرعة وتنقض بسرعة، تتآلف عندما يجمعها حب الاستطلاع، وتتفرق عندما يهددها أمر كريه, وهي في جميع حالاتها بالصورة التي رسمناها توجد في التجمعات التلقائية: كالتظاهرات والمسيرات وغيرها.(12/450)
الاهتمام بدراسة (العقل الجمعي) :
تبدو أهمية دراسة هذه الفكرة واضحة لدى:
- السياسيين، ورجال الحكم، وذلك لأنهم مهتمون دائما بمعرفة سيكولوجية الجماهير، وأسلوب تفرقها، ويبنون أحكامهم في العادة على هذه الأسس جميعا.
- كذلك يهتم المؤرخون بمعرفة طبيعة تصرف العقل الجمعي، لأن هذه الطبيعة تفسّر لهم الكثير من الأحداث التاريخية، وتشرح لهم الكثير من ردود الأفعال الجماهيرية، فيستطيعون وضع الفروض الصحيحة بناء على هذه التفسيرات النفسية الاجتماعية.
- وأيضا يرى رجال الاجتماع مائدة كبرى في دراسة العقل الجمعي وأساليبه الحركية، لأنهم يدركون من خلال ذلك كُنه التفاعلات الاجتماعية، والدوافع المستكينة وراءها، والنتائج التي أسفرت عنها، كما يدركون أسباب اختفاء (الزعامة الفردية) وسط هذا التفاعل الاجتماعي.
ماذا يقول القرآن؟
إنّنا حريصون هنا على إيراد حقيقة مهمّة، وهي أننا لسنا ممن يلوون أعناق الآيات ليخضعوها لما يريدون إثباته من النظريات. فنحن نعلم علم اليقين، أنّ القرآن كتاب هداية قبل كل شيء، وهو في أسلوب الإقناع يورد الحجج القولية، والبراهين الساطعة، مصورا وقائع الحال في أبلغ عبارة وأبدع مقال.
القرآن يكشف اللثام في آيات كثيرة عن طبيعة الأكثرية المطلقة من البشر في كل بيئة ومجتمع. فما خصائص هذه الأغلبية، وكيف نتعامل معها؟
أ _ إنّ أكبر مساوي السواد الأعظم من البشر هو الجهل، ونقصان المعرفة، والقعود عن تحصيل العلم من طرقه المشروعة, ولأهدافه الموضوعة: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} النحل 28، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} النحل 101, {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} سبأ 36.(12/451)
ب _ ومن مساوئ هذه الجماهير الغوغائية أنها لا تحكّم العقل في تصرفاتها فهي مندفعة متهورة عشوائية: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} العنكبوت 63, {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} النجم 28, {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} الأنبياء 24.
ج _ والجمهرة الكاثرة من الناس لا تسمو عواطفهم إلى درجة العرفان بالجميل، وشكران النعمة للمنعم، فقد أخلدوا إلى الأرض، واتبعوا هواهم، وغرّتهم أموالهم وأهلوهم فكفروا بنعمة ربهم: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} النحل83. {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} الفرقان 5.
د _ والغالبية من الجماهير العريضة تمثل قاعدة الاستهلاك المبني على الحياة الحيوانية الصرفة الخالية من العبادة لله، والتسبيح بحمده، والتوجه بالشكر إليه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} محمد 12, {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} الفرقان 44.
هـ_ وترى قاعدة الجماهير المتسعة أبعد ما تكون عن النوازع الروحية فيها، لأنها أكثر انجذاباً إلى الباطل واللهو: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِما} الجمعة 11, {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} يوسف 103, {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} الأنعام 116.(12/452)
و _ وتتصف الأغلبية المطلقة بأنها مستورة العقيدة، في حاجة إلى اليقين مما تدين به لترى أهي قريبة أم بعيدة من صواب الاعتقاد: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} يوسف 106.
من هنا كانت حاجة السواد الأعظم إلى مراجعة العلماء، واستفتائهم فيما يقعون فيه من خطايا وأخطاء، ليكونوا دائماً على ذكر من الحق فيما يأخذون وما يدعون: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} الأنبياء 7.
ولقد كرّمنا بني آدم:
ولقد يتساءل البعض، بعد كل ما قدّمناه من نصوص حول رأي القرآن في الأكثرية, ومعتقداتها, ومسالكها, ومدى صحة مسيرتها الحيوية في دنياها، ألا يتعارض هذا مع قول الله تعالى في سورة الإسراء {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} , والحقيقة أنه تكريم إلهي طيِّبٌ لبني آدم على الإجمال، وتمييز لهم على من سواهم من العوالم الأخرى في هذا الكون، وإيثار للجنس البشري بميزات اختصّ بها دون غيره من سائر الأجناس.
لكن موضع استشهادنا هو ضرورة أنّ يتميز كل جنس بفئة آمرة ناهية، وهذه الفئة هي التي تصرّف شئون المجموع, وتقود زمام الحركة والنشاط فيه، وتتحمّل مسؤولياتها من أجل ذلك أمام الله تعالى.
الجود يفقر والإقدام قتال
لولا المشقة ساد الناس كلُّهُمُ(12/453)
وهذه الفئة هي التي نصبها الله للقيادة والريادة، بحكم ما منحه لها من مؤهلات الحكم وصلاحيات التوجيه والنظر، ولكن يقابل هذه الفئة من الجهة الأخرى أكثرية محكومة، بالعدل كما أمر الله, وليس لها أن تطمع فيما هو أكثر من ذلك؛ لأن لها من ميادين النشاط والتسابق والتنافس والإنتاج ما تحتل به مكانها الطبيعي فوق الكوكب الأرضي: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً} (سورة المزمل) , {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (سورة الملك) .
ولا سراة إذا جهالهم سادوا
ولا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
فالصفوة الحاكمة هي التي تقيم العدل، وتحمي بيضة الدين، وتذود عن العرين كل من تسوّل له نفسه انتهاك حرمة المسلمين. وهذا الحق في يد الصفوة الحاكمة لم تنله عنوة ولكن نالته بإجماع الأمة، ورغبتها عن طواعية: "اسمعوا وأطيعوا وإن ولي عليكم عبد"، "يد الله مع الجماعة، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية".
الماركسيون ودكتاتوريوية الطبقة:
بعد التحليل الذي أوردناه لطبيعة العقل الجمعي في الجماهير.. نجد مظاهرة صاخبة يرفع لواءها في هذه المرة (كارل ماركس) اليهودي الأحمر.. باكياً بدموع التماسيح على الآمال المفقودة لهذه الجماهير الكادحة الجماهير (المنسحقة) .. الجماهير (المطحونة) .. وكلها تعبيرات ماركسية!.
يريد الماركسيون أن يتاجروا بدموع الفقراء ويجعلوا منها (قميص عثمان) مرفوعاً على أسنّة الرّماح.. مدّعين أنّ من حق هذه الجماهير أن تثور, وأن تصارع الطبقات الغنية (البرجوازية) حتى تصرعها! , وبهذا الصراع الدموي تنحلّ التناقضات الموجودة في رحم المجتمع، وتتمكّن الطبقة العاملة من السيطرة على الحكم، وفرض الفردوس الشيوعي المزعوم.. بقوة الحديد والنار!.(12/454)
والتساؤل هنا مرتبط بالعقل الجمعي لهذه الجماهير المطحونة الكادحة, هل استطاعت أو تستطيع هذه الجماهير، ذات العقل الجمعي المنخفض، الذي يوازي في قدراته درجة دقل من عقل الفرد المتوسط في الذكاء أن تمسك دقة الحكم؟، وتضع في يدها صولجان القيادة؟، وتصبح قادرة على تحقيق آمال ومصالح الناس؟.
متى حدث ذلك؟ وفي أي عصر من عصور التاريخ ثبت نجاحه وفلاحه؟ وكيف تستطيع عقول غوغائية حاقدة حاسدة، جاهلة متعصبة لما هي عليه من جهل أن تنتزع الحق من أصحابه الشرعيين في أي قطر، لتشبع نهمها إلى الانتقام والبطش وسفك الدماء والتحكم في الأبرياء، وتشريد العجزة والأطفال والنساء، حقاً: "إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة!.
إنه لا معنى لسيطرة الجهلاء والدهماء والرعاع والسفلة إلاّ سيادة الشهوات وتسلط الرغبات الهائجة في أحط الفئات، وقلب الأوضاع، وزيادة الأوجاع.. وحوَّل المجتمع إلى قطيع من الذئاب يذوق بعضه بأس بعض!
إنّ طبقة البروليتارية، كما سماها ماركس، أعجز من أن تقوم بنفسها، لتحقيق هذا الانقلاب الدموي. ومن هنا أضاف لينين إلى النظرية الماركسية "ضرورة أن تتصدر طليعة الحزب للقيام بهذا الجحيم الأحمر، فتعود المظاهرات وتخرّب المنشآت، وتثير القلاقل والمنازعات، وتقوم بتوزيع النّشرات على مختلف الفئات، بحكم ما تتمتع به من قدرة على تحقيق أهدافها، ومرونة في استخدام الوسائل المناسبة مشروعة أو غير مشروعة"! أي أنّ هذا العقل الجمعي الخامد، الخامل، العاجز عن أيّ تصرّف إيجابي منظّم، يجد في ظلّ النظرية الماركسية من يقوده، ويوسّع خطواته على طريق التخريب, حتى يقع في النهاية صريع المنتفعين من قادة الحزب!.
دعوة القرآن للإصلاح الاجتماعي..(12/455)
يجب أن يعلم القاصي والداني، أنّ الإسلام لا يترك العقل الجمعي الخامل هذا دون تحريك وإيقاظ, لا من أجل الشر الذي تنسج الماركسية خيوطه بدأب شديد، ولكن من أجل الإصلاح الاجتماعي، لخير البشرية وقيادة خطاها من أجل عالَمٍ مِلؤُهُ الأمن والسلامة والرخاء, يقول الحق تبارك وتعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} سورة النساء.
ويقول سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} سورة الحجرات. ويقول تبارك أسماؤه: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} سورة النساء.
العقد الجمعي الإسلامي
يقول عزوجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} سورة الحجرات.
إنّ المتصفح لكتاب الله تعالى يجد الكثير من الآيات الداعية إلى الإصلاح الاجتماعي بجميع ألوانه وأشكاله القديمة والمعاصرة. إنّ الإسلام لا يترك الجماهير سادرة في غيِّها، متنكبة طريق هداها، بل إنه يقوِّمُ اعوجاجها، ويهديها سبيل رشادها، ويفتح أعينها على حقائق الكون المضيئة من حولها، ويبصّرها بالنور في كتاب الحياة الذي نطقت سطوره, وتوهج نوره, ولمعت أساريره {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} ، {إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .(12/456)
فلتكن للجماهير المؤمنة بالله تعالى وكتبه ورسله واليوم الآخر طريقتها في نبذ الغفلة عن الله، والرجوع إلى تعاليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والانشغال بعيوب النفس عن عيوب الغير، والأخذ فيما هي ماضية فيه وساعية لأجله من نشر دين الله، وإصلاح العقيدة في الله، وربط النفوس بشريعة الله.
إنّ الجماهير المسلمة تتحرّك في سلمها وحربها على هدى من الله، وبتوفيق منه سبحانه، ومن ثَمّ فإنّ أكثريتها المطلقة تتمتع ببصيرة مستمدة من شريعة الإله الحق لجميع الخلق، ومصداق ذلك قول الرسول الكريم: "لا تجتمع أمتي على ضلالة".
والعقل الجمعي في مجتمعات الإسلام ليس عقلا غوغائيا، ولا عشوائيا؛ لأنه عقل ملتزم بتوجيهات الكتاب والسنة "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت" أخرجه البخاري. وهو عقل جمعي إيجابي نشيط، وليس سلبيا خوّارا: "من ردّ عن عرض أخيه بالغيب ردّ الله عن وجهه النار يوم القيامة" أخرجه الترمذي وحسنه.
والعقل الجمعي الإسلامي عقل متعاون لا متصارع، متآلف لا متحاسد: يقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} سورة المائدة "2". ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس، أفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وأطعموا الطعام، وصلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام" أخرجه الترمذي وصححه.(12/457)
والفرد المسلم إزاء هذا العقل الجمعي عقل يقظ حذر، لا يذوب فيه، ولا يفقد استقلاله معه، ولا يهمل تقويمه وتصحيح الخطأ الذي يقع فيه، ولا يكون عاملا من عوامل تفتته: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا، ويشير إلى صدوره ثلاث مرات. بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه" أخرجه مسلم. والمسلم لا يفقد الشعور بالمسؤولية أبداً.
إنه أمام خالقه مسؤول دائما وباستمرار عن نفسه، وعمّن يعول، مسؤول عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه, مسؤول عن إخوانه المسلمين أن يخالطهم ويعاشرهم ويعاملهم ويصبر على أذاهم: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" أخرجه ابن ماجه.
والمسلم في خِضَمِّ هذا العقل الجمعي كذلك لا يفقد اتزانه، ولا تهزمه حدة انفعالاته، حيث يقول صلى الله عليه وسلم "العجلة من الشيطان" أخرجه الترمذي وقال: حسن. ويقول أيضا "ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق" أخرجه أبو داود والترمذي وصححه.
من هذه الأدلة والنصوص يتضح الدور الخطير الذي قام به الإسلام في ترقية الجماعة البشرية والسمو بها فوق نظائرها من أتباع الملل الأخرى. ألا وإنّ روح الإسلام تسري في حنايا المجتمع المسلم فتضيء قلبه، وترشد حواسه وجوارحه إلى أمثل الطرق وأهدى السبل، فيسير على الجادة في غير عوج، ويصبح قدوة لغيره من المجتمعات الأخرى في المعتقدات وألوان السلوك المتعددة {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} ، وسوف تتهذّب مسالك الشعوب والأقوام إذا تناولت هذا السراج الوهاج بروح الإنصاف، واستضاءت بما فيه من قِيَمٍ وأهداف, واستخرجت من أحكامه وحكمه الكنوز التي تفاخر بها أمة الإسلام غيرها من الأمم..
إبراهيم محمد سرسيق
المراجع(12/458)
- القرآن الكري. م
- كتب السنة المعتمدة.
- د. مصطفى فهمي، د. محمد علي القطان: علم النفس الاجتماعي مكتبة الأنجلو المصرية "1395"هـ.
- د. علي أحمد علي: سلوك لإنسان. مكتبة عين شمس بالقاهرة "1392"هـ.
- عبد المجيد عبد الرحيم: علم النفس الاجتماعي. مكتبة النهضة المصرية "1390"هـ.
- د. عبد العزيز القوصي: علم النفس مكتبة النهضة المصرية "1375"هـ
- د. عبد السلام عبد الغفار: علم النفس "مذكرات مدونة لطلاب كلية التربية بجامعة عين شمس بالقاهرة".
الغزو الشيوعي
إنّ الدولة الشيوعية كانت سخية جدا في تقديم المنح والبعثات الدراسية لأبناء تلك المنطقة، وإنّ وعي الشيوعية الكبير جعلهم لا يفكرون في إنشاء دور تعليمية وجامعات في البلاد العربية, ولا حتى مساعدة الدول العربية في هذا المجال؛ لأن الشيوعية لا يؤمنون بجدوى ذلك، لأن المجتمع هناك إسلامي ولا يمكن لأي جامعة أو معهد أن يؤتي أكله وثماره التي يريدها الشيوعيون في مجتمع مثل هذا. والشيوعيون لا يريدون مساعدة العالم العربي حبا في عيونه، ولكن لأهداف بعيدة ولخدمة الحركة الشيوعية التي تريد أن تطوق الإسلام وتقتله, ولا يمكن لهذه الأهداف أن تتحقق إلاّ بخلق كادر من شباب تلك المنطقة يستعبدون أرواحهم, ويحيلونهم إلى دمى تتحرك بأزرار مثبتة في موسكو, لذلك فإنّ أمثل مكان يمكن فيه صناعة مثل هذه الدمى بكل المواصفات اللازمة هو الدول الشيوعية نفسها؛ لأنّ هناك كل شيء معد ومرتّب ومدروس، وذلك لبلبلة أفكار الشباب, وضعضعة إيمانهم, وجرّهم في منعطفات ومزالق الشهوة، ثم بعد ذلك تلقينهم الأفكار الإلحادية، نعم إنّ خير مكان هو الدول الشيوعية نفسها، والتي تكتظ الآن بالآلاف المؤلّفة من أبناء الدول العربية والإفريقية.
مجلة المجتمع العدد 308 الثلاثاء 16 رجب 1396 هـ(12/459)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] عبد المجيد عبد الحليم: علم النفس الاجتماعي ص62 مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة(12/460)
الإسلام وتحديات العصر
لفضيلة الشيخ محمد أحمد أبو النصر
المدرس بمعهد الجامعة الثانوي
انتصر الإسلام بمبادئه الروحية, وقوة عطائه, وتحدّيه لأصحاب ديانات حرفوها بأفكارهم وفلسفاتهم, وانتصارهم لماديات طاغية, ولم يتمكّنوا من التعادلية بين المادة والروح, واستمر ركب التاريخ في مسيرته، تنهض دول وتنتصر بفضل قلوب عامرة بالإيمان، وتموت دويلات بالإغراق في الترف والفجور، تلك سنة الله في خلقه, ولن تجد لسنة الله تبديلا. وجاء على لسان ابن حزم: "إنّ الله عز وجل رتب الطبيعة على أنها لا تستحيل أبداً، ولا يمكن تبدلها عند كل ذي عقل، كطبيعة الإنسان بأن يكون ممكناً له التصرف في العلوم والصناعات إن لم تعترضه آفة، وطبيعة الحمير والبغال بأنه غير ممكن منها ذلك، وكطبيعة البُرِّ أن لا ينيب شعيراً ولا جوزاً، وهكذا كل ما في العالم والقوم مقرون بالصفات وهي الطبيعة نفسها.. وهكذا كل شيء له صفة ذاتية فهذه هي الطبيعة.
ومع استقراء أحداث التاريخ نجد أنّ سنن الكون وطبائع الأشياء لا تتناقض مطلقا.(12/461)
فهذا هو سيد البشرية وإمام الهداة والمصلحين استطاع في فترة وجيزة لا تربو على ربع قرن من الزمان أن يسحق إمبراطوريتين من أعظم إمبراطوريات العالم بقادة عظام صنعوا هذا التاريخ العظيم، ويقلب التاريخ رأسا على عقب, وأن يكبح جماح أمة اتخذت الصحراء المحترقة سكنا لها، واشتهرت بالشجاعة ورباطة الجأش والأخذ بالثأر، ولم تستطع الدولة الرومانية أو الدولة الفارسية أن تنتصر على الأمة المسلمة. وليس أدنى شك عندي أو عند أي مؤرخ منصف أنّ القوة الخارقة للعادة التي استطاع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يقهر بها أعداءهُ هي من عند الله. كان محمد صلى الله عليه وسلم هو أول قائد في الإسلام.. حقيقة لا مرية فيها.. النبوة كانت أولا.. ثم القيادة.. إنّ الرسول العظيم لم ينشأ قائدا, ولم يدخل كلية حربية, ولكنه اضطر إلى القتال حتى يدفع الأذى عنه وعن أهله وصحبه, فالقيادة عند رسولنا لم تكن هواية أو احترافاً, وإنما كانت مسؤولية تاريخية حتمية فرضتها مصلحة الدعوة, واحتياجات الدفاع, وحماية المؤمنين, الذين صبّ عليهم المشركون العذاب صبّاً.
وهو - في مركز القيادة - لم يبدأ أحدا بالعدوان, ولم يحارب إلا للدفع، ولا جرم أن كان من الخير أن يشرع استعمال القوة لحماية السلام من أعدائه في الداخل والخارج {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [1] ..
والإسلام فأول ما يلاحظ فيه اشتقاق اسمه من مادة السلام, فالإسلام والسلام من مادة واحدة.(12/462)
ومن أسماء الله في القرآن "السلام" {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [2] .
وتحية أبناء الإسلام حين يلتقون "السلام عليكم ورحمة الله", وهي تحية لنبيه في الصلاة "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته".
وباب من أوسع أبواب المسجد الحرام في مكة, وأحد أبواب المسجد النبوي في المدينة المنورة يسمى "باب السلام", وجنة الخلد وهي مثوى المؤمنين الصالحين في الحياة الآخرة تسمى "دار السلام": {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [3] بل إنّ من يتبع آيات ربنا الباهرات في القرآن المجيد يجد أنّ لفظ "السلم"وما اشتق منه ورد فيما يزيد على 133 آية. بينما لم يرِد لفظ الحرب في القرآن كله إلا في ست آيات فقط.
ويصرّح كتاب ربنا بأنّ الأمل المرجو والهدى المطلوبة من اتباع الإسلام هو الاهتداء إلى طرق السلام والنور {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [4] .
فالإسلام دين سلام.. وقد أمر الله رسوله أن يدعوا الناس كافة إلى عبادة الله, وأن يكون سبيله إلى ذلك الحكمة والموعظة الحسنة, وليس العنف والإكراه والقتال" {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [5] .(12/463)
وهذه الحضارة الإنسانية التي بزغت بمولد الرسول الكريم هي التي وقف في طريقها (شارل مارتل) , وكان الغربيون الذين لا يعرفون شيئا عن الإسلام يمجّدون هذا القائد بل يقدسونه، فلما ظهر فيهم من أدرك أهداف الرسالة الإسلامية السامية, وعرف حقيقة دعواها, وعظيم فحواها, تغيّر حكمهم على تلك الحادثة التاريخية واعتبرها كثير من المستشرقين انتكاسة للإنسانية, والحضارة يوم أن انتصر شارل مارتل على القائد الإسلامي عبد الرحمن الغافقي في معركة (تور) وتقوقعت الحضارة الزاهية في الأندلس بعد أن نشرت العلم والحضارة والنور, وقال مسيو هنري دي شامبون:
"لولا انتصار جيش شارل مارتل الهمجي على تقدم العرب في فرنسا، لما وقعت فرنسا في ظلمات القرون الوسطى، ولما أصيبت بفظائعها، ولا كابدت المذابح الأهلية الناشئة عن التعصب الديني والمذهب، ولولا ذلك الانتصار البربري على العرب لنجت إسبانيا من وصمة محاكم التفتيش. ولولا ذلك لما تأخر سير المدينة ثمانية قرون. نحن مدينون للشعوب العربية بكل محامد حضارتنا: في العلم، والفن، والصناعة, مع أننا نزعم السيطرة على تلك الشعوب العريضة في الفضائل, وحسبها أنها كانت مقال الكمال البشري مدة ثمانية قرون, بينما كنا يومئذ مثال الهمجية. وإنه لكذب وافتراء وما ندعيه من أنّ الزمان قد اختلف، وأنهم صاروا يمثلون اليوم ما كنا نمثله نحن فيما مضى".(12/464)
وتوالت علينا الحروب من مغولية وتترية وصليبية بهدف القضاء على الإسلام، ونحن لا ننكر الحقيقة التاريخية المؤلمة, إنّ المسلمين استكانوا للدعة والترف وحب الحياة وكراهية الموت، وبهرتهم الحضارة المادية الأوربية، فأصابهم الوهن والضعف والخور. وواجه أبناء الأمة الإسلامية التحديات التي وجهت إليهم ابتداء من الحروب الصليبية، حتى زرع إسرائيل في قلب العالم الإسلامي، وتوالت الهزائم والنكسات على العرب والمسلمين, ومزّقوا شرّ ممزّق نتيجة ابتعادهم عن كتاب الله وسنة رسول الله.. وفي صبر ومعاناة وعودة إلى ربهم كانت لهم ضربة في شهر رمضان المعظم أثارت إعجاب العالم وأعادت للمسلمين بعض هيبتهم, وحقق الإنسان المسلم بعض أمل كان يراود شباب هذا الجيل.. وغدا يحقّق حضارته وأمجاده القديمة, وتقول زيجربد هونسكه:
"إنّ هذه الطفرة العلمية الجبّارة التي نهض بها أبناء الصحراء ومن العدم من أعجب النهضات العلمية الحقيقية في تاريخ العقل البشري, فسيادة أبناء الصحراء التي فرضوها على الشعوب ذات الثقافات القديمة وحيدة في نوعها، وإن الإنسان ليقف حائراً أمام هذه المعجزة العقلية الجبارة، هذه المعجزة العربية التي لا نظير لها والتي يحار الإنسان في تعليلها وتكييفها.
إذ كيف كان من المستطاع أنّ شعباً لم يسبق له أن يلعب دوراً سياسيا أو ثقافيا من قبل يظهر بغية إلى الوجود, ويسمع العالم صوته, ويملي عليه إرادته, ويفرض عليه تعاليمه، وفي زمن قصير أصبح نداً لليونان. إنّ هذه المنزلة التي بلغها العرب أبناء الصحراء لم تبلغها شعوب أخرى كانت أحسن حالا وأرفع مكانة".(12/465)
إنّ أصواتا كثيرة ترتفع في العالم الإسلامي مطالبة بالعمل الجاد المستمر على بعث تراثنا الخالد, وحضارتنا العريقة, حتى يقف العالم على المساهمة الفعالة لعلمائنا خلال أزمان سحيقة وعصور وسيطة, مما دفع (روجر بيكون) في محاضرة له في جامعة اكسفورد يعلن على العالم "إنّ وجود الفكر الأوربي والعلم الأوربي كان مستحيلا لولا وجود المعارف الإسلامية. لقد هبت أوربا تواجه الحياة وهي مدينة بكل مقوماتها إلى العالم الإسلامي".
وفي أول مؤتمر عن الحضارة العربية والإسلامية والأمريكية الذي عقد في (واشنطن) خلال شهر شوال 1396هـ, واشترك فيه علماء من الدول الإسلامية والعربية, قدم البروفيسور (وليام لوكتنزج أستاذ التاريخ في جامعة كولومبيا) :
".. أنه بالنسبة للأمريكيين فإنّ العرب أناس يعيشون خارج التاريخ، ورغم الحضارة الإسلامية التي تمتد بذورها إلى آلاف السنين، فإنّ جميع المؤرخين الأمريكيين وبلا استثناء ومهما كان موضوع الدراسة أو البحث كانوا لا يذكرون للعرب والمسلمين تاريخا أو حضارة أو تأثيرا على الحضارات الأخرى, وأرجع هذا الجهل للعلماء الأمريكيين العميق بتاريخ العرب والمسلمين، ولكنه حمل العالم الإسلامي جزءا من هذه المسؤولية", واختتم محاضرته قائلا:(12/466)
"لأول مرة وبصورة فعّالة بدأ الأمريكي المثقف يدرك العالم العربي, ويعرف أشياء عن العالم العربي والديانة الإسلامية، وبينما كان العربي يصوّر في الماضي على أنه معدم فقير، تغيّرت الصورة إلى العربي الذي يشتري قصراً في لندن إذا لم يجد حجرة خالية في فندق, وتمنى أن يتمكن علماء من العالم الإسلامي والأمريكاني من إمكانية التفاهم وتبادل الحضارتين, ومنذ أيام نشرت الصحف أنّ إسرائيل قامت بإصدار سفر ضخم تمتهن فيه عقليات العلماء, وتحاول طمس التاريخ وتزييف الحقائق حول التراث الحضاري للبشرية. وقد أصدرت دور النشر اليهودية كتابا جديدا حول التراث الحضاري للبشرية ثم ترجمته إلى لغات العالم, ويدور هذا البحث حول إيهام العالم أن اليهود هم أصحاب الدور التاريخي في بعث الحضارة, أمّا العرب فهم أعداء الإنسانية بل أعداء الحضارة البشرية!
وقد أذاعت وكالات الأنباء أنّ علماء المملكة العربية السعودية قد هبوا مشكورين للدفاع عن قصة الوهم الملفقة لليهود, وطالبوا علماء الإسلام في كل مكان للرد على هذا الكتاب, وإعداد أبحاث تاريخية علمية تتضمن الحقائق الثابتة عن حضارة العالم.. وأنّ المؤرخين المعاصرين قد أسعدهم تقديم الإمكانيات العلمية والمادية من المملكة العربية السعودية حتى يتمكنوا من كشف الزيف التاريخي واختلاق وقائع مدسوسة لإقناع الجيل الجديد من شاب العالم بأن اليهود هم صناع الحضارة في العالم. مع العلم بأنّ العالم ودارس التاريخ يعلمان تماما أن اليهود ليست لهم حضارة على الإطلاق كما يؤكد ذلك المؤرخ الأوربي جوستاف لوبون.(12/467)
وأنا أقول أنّ اليهود لهم تاريخ عريق في الحضارة, ولكن في الوحشية وبقر بطون الحوامل, وسفك دماء الأنبياء قديما, وقتل الشيوخ والأطفال في دير ياسين وفلسطين حديثا, وما زالت أصابع الصهيونية تؤدي دورها في هدم حضارة العالم, وتمييع أخلاق الشباب, وإفساد أخلاقيات كبار المسؤولين حتى تتمكن من السيطرة وفرض نظريات التلمود.. أنّهم شعب الله المختار!.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة الحج الآيتان 40، 41.
[2] سورة الحشر الآية 23.
[3] سورة الأنعام الآية 127.
[4] سورة المائدة الآيتان 15-16.
[5] سورة النحل الآية 125.(12/468)
من وحي القوة في الإسلام
لفضيلة الشيخ أحمد عبد الرحيم السايح
الإسلام دين أحيا الله به قلوبا أماتتها الشهوات، وأنقذ به عقولا سممتها الشكوك والشبهات، وأحل به من الأغلال، أفكارا قيدتها الخرافات وسجنتها التخرصات، وجدع به أنوفا شمخت بها الجاهلية الجهلاء..
وهو دين ينشط الإنسان للعمل، ويحث على طلب العلم، ويدعو لاحترامه واستثماره..
وهو دين العقيدة الرائقة، التي تطهر النفس، وتزكي القلب، وتربي الخلق وتغذي العقل، وتوقف الغريزة عند حدها، وتعطي مطمح من مطامح الإنسان معناه الذاتي وسيره الطبيعي..
والإسلام عقيدة استعلاء.. تبعث في روح المؤمن الإحساس بالعزة من غير، وروح الثقة من لير اغترار.
وهذه العقيدة الإسلامية.. كفيلة بتعديل القيم والموازين، والحكم والتقدير والمنهج والسلوك، والوسائل والأسباب.
والإسلام بجانب هذا.. دين المسالمة مع المسالمين، والردع للمعادين.. نور يهدي.. ونار تحرق الطغاة الآثمين يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، فإذا جد الجد كان الصخرة التي يتحطم عليها كل جبار عنيد. ويطلب من المسلمين أن يكونوا على حذر في وقت السلم، حتى لا يؤاخذوا على غرة.. ويدعو المسلمين إلى الاستشهاد من أجل عزة الإسلام، ولا يعدل الجهاد في سبيل الله، مال، ولا ولد، ولا والد ولا عشيرة، ولا أهل.. والدفاع عن العقيدة والبلاد الإسلامية، من أسمى أهداف الإسلام. ولهذا كله قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [1] .(12/469)
فالاستعداد بما في الطوق.. فريضة الجهاد في سبيل الله. والإسلام يأمر بإعداد القوة على اختلاف صنوفها وأسبابها.. قوة العقيدة لأنها أسس الفضائل، وقوام الضمائر، وسند العزائم في الشدائد، وبلسم الصبر عند المصائب، وعماد الرضا والقناعة، ونور الأمل في الصدور، وعزاء القلوب إذا نزلت بالإنسان نازلة..
والأمة الإسلامية في هذا العصر، الذي تكالبت فيه قوى الإلحاد، والمذاهب الهدامة، في أشد ما تكون إلى قوة العقيدة. وبالعقيدة القوية.. نستطيع أن نواجه تحديات العصر المسعورة من شيوعية، واشتراكية، وتقدمية، وثورية، وحتمية، وغيرها من ألفاظ قاموس الفكر الإلحادي الماركسي..
وقد تعلمنا من المعارك التي خاضها المسلمون، وانتصرت فيها الجيوش الإسلامية.. سواء في غزوة بدر أو القادسية، أو اليرموك، أو حطين أو عين جالوت، أو العاشر من رمضان تعلّمنا: أن الوسائل المادية ليست وحدها هي التي تفصل في المعارك. ولا يوجد ما يصون الاستعداد العسكري إلا العقيدة؛ لأنها هي التي تربط القلوب بالله، وتصل قوة المجاهدين بالقوة الكبرى التي لا تغلب..
ولو انتظر المسلمون في غزوة بدر الكبرى، حتى تتكافأ قوتهم، وقوة خصومهم، ما قامت للمسلمين قائمة.. إنما القلة المؤمنة بعقيدتها.. استعدت بقدر ما استطاعت، ثم خاضت المعركة فكان فيها الفرقان.. قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ, يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ, خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [2] .(12/470)
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [3] .
وفي هذه الآية ينادي رب العزة الذين آمنوا.. وخطاب المسلمين المؤمنين بصيغة {الَّذِينَ آمَنُوا..} هو أمثل أنواع الخطاب، إبانة لحقيقتهم, هذا بجانب ما ينطوي عليه الخطاب من الدلالة على السمو والفضل.., وفي النداء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..} زيادة إيناس وتكريم للمؤمنين بعقيدتهم. وأحب شيء إلى الإنسان هو: أن تناديه بما يدل على تكريمه. والله سبحانه وتعالى يُشعِرُ بهذا النداء المؤمنين بأنه يخاطب أقرب الأشياء إلى المسلمين. فما في الإنسان شيء أقرب إلى الله من الإيمان به..
والله سجانه وتعالى حينما يتوجه إلى المؤمنين من خلال إيمانهم، بصيغة فعل الأمر مثل قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ..} , أو بصيغة النداء مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..} يكون التالي تعليما بموجبات هذا الإيمان، وحثا على القيام بها، في أي شأن من الشؤون، وفي أي درب من ضروب الحياة..
ومن هذا ندرك أنّ الإسلام قد انطوى على طاقة فعّالة، جعلت منه قوة هائلة, بل إنّ فاعلية الإسلام شملت حياة المسلمين في جميع جوانبها..
فما أجدر أبناء الأمة الإسلامية، أن يهتموا بتعاليم الإسلام، وآدابه، ويتمسكوا بما جاء به من التوجيهات وإرشادات..(12/471)
وللأمة الإسلامية في عقيدتها، قوة لا تدانيها قوة في القضاء على تخويف الملاحدة، وسماسرة الشيوعية [4] .
والله سبحانه وتعالى يعلم أنّ هذه الأمة لن تجد الطريق ميسّرة لها, وممهدة لنشر مبادئها.. ويعلم أن الباطل من دأبه أن يزداد شراسة وتنمرا، كلما وجد الحق تعلو كلمته.. محاولا القضاء على الحق، وأهله، في غير مبالاة لعهد أو قرابة أو إنسانية..
وحينئذ لا بد أن يتخذ أهل الحق عدتهم, ويحموا أنفسهم ودينهم, ولذلك أمر الله سبحانه وتعالى الرسول صلى الله عليه وسلم, وأمته بالاستعداد الدائم والرباط المستمر.. تلبية لأية إشارة واستجابة لأول دعوة إلى الجهاد. [5] .
والتاريخ العربي قبل الإسلام.. حافل بذكر أقاصيص الحروب التي كانت تنشب بين القبائل العربية، كحرب البسوس، وحرب داحس, وحرب الغبراء، وغيرها، على النحو الذي أصبحت معه تلك الحروب من خصائص المجتمع العربي في العصر الجاهلي.. وكان الدافع لشن تلك الحروب، الرغبة في المغامرات طلباً لمغنم، أو تحقيقا لزعامة، أو طلبا لثأر، أو رداً لاعتبار، أو نزعة حيوانية.
على أنّ هذه الأنماط من الحروب، ذات الطبيعة الاعتدائية، باتت تتغير وتنحصر، مع انتشار العقيدة الإسلامية ودخول الناس في دين الله..
حيث أنّ المسلمين أنفوا أن يتخذوا من الحروب وسيلة للإيذاء، وأداة للثأر والاعتداء. وإنما الظروف القاسية ألجأت المسلمين إلى تكثيف القوى، وتجميع الطاقات..
وذلك أن قوى الشر والضلال.. تعمل في هذه الأرض.. والمعركة مستمرة بين الخير والشر.. والصراع قائم بين قوى الإيمان، وقوى الطغيان منذ خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان في هذا الوجود..(12/472)
والشر جامع، والباطل مسلح، وهو يبطش غير متحرج، ويضرب غير متورع. فلا بد للحق من قوة تحمي من البطش، وتقي من الفتنة, وتحرس من الأشواك والسموم.. ولم يشأ الله سبحانه وتعالى أن يترك الإيمان والحق والخير دون قوة، تكافح قوى الطغيان والشر والباطل والإلحاد..؛لأن القوة التي يملكها الباطل، قد تزلزل القلوب، وتفتن الناس، وتزيغ الفطر.. ولهذا أمر الله المسلمين بإعداد القوة، فقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [6] ..
وعندئذ أذن الله للمسلمين في القتال, قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [7] .
والقتال في الإسلام.. جعل من غرضين أساسيين:
الغرض الأول: الدفاع عن النفس عند الاعتداء عليها، والدفاع عن الأرض, والبلاد التي يعيش المسلمون فيها..
الغرض الثاني: الدفاع عن الدعوة الإسلامية، والتعاليم الإلهية، حماية للحاملين مشعلها، وإفساح الطريق أمام الدعوة، ورسالة الحق..(12/473)
ومن هذين الغرضين ندرك أن القتال في الإسلام، لم يشرع لتوسيع سلطان أو الغلبة والقهر، أو استعباد الشعوب، واستنزاف خيراتها، ولو ترك المشركون يعتذرون على المسلمين، ويقاومون الدعوة, ويصدون الناس عن الدخول في دين الله, ولم يشرع القتال في الإسلام، لطغى الباطل على الحق، وتضرّرت البلاد، وطمست معالم الدعوة.. ولولم يشرع القتال في الإسلام.. لبقى العالم من أقصاه إلى أقصاه، يئنّ ويرزح تحت وطأة الجهل والظلم والاستعباد..
وشعار الحروب الإسلامية.. الحرص على السلام والأمن، لجميع بني الإنسان في هذا الوجود.. ومن هنا صار الجهاد بوجه عام، مبدأ من مبادئ الإسلام التي أخذت مكانتها بين عقائده وفروعه, واستقرت دعوة القرآن إلى الجهاد على عمومه، متعلقة بذمة المسلمين جماعة وأفرادا [8] . ويقول صاحب البصائر [9] : "الجهاد: الطاقة والمشقة، وقيل بالفتح: المشقة، وبالضم: الوسع. وقيل الجهاد ما يجهد الإنسان.. قال تعالى في سورة التوبة: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِم} أي حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم..
والاجتهاد: أخذ النفس ببذل الطاقة, وتحمل المشقة في العبادة، يقال: جهدت رأيي واجتهدت: أتعبته بالفكر والجهاد.. والمجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو. وقال صلى الله عليه وسلم: "المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله" [10] ..
وقد يطلق الجهاد, ويراد به معنى يشمل القتال وغيره، كالجهاد بالمال في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [11] ..(12/474)
و (؟) الجهاد بالكلمة منطوقة أو مكتوبة.. كجهاد الكافرين والمنافقين المذكور في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [12] ..
ومنه جهاد النفس، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [13] فإن السورة مكية ولم يفرض قتال في مكة، وهذا المعنى للجهاد، هو المعنى العام، المأخوذ من المعنى اللغوي، الذي هو بذل الجهد والطاقة..
وقد ورد لفظ الجهاد في القرآن الكريم ثلاثين مرة. وورد كثيراً بلفظ القتال المرادف له، وكلاهما يرد أحيانا مقرونا وسبيل الله..
والأمة الإسلامية في حاجة إلى استيقاظ كل الخلايا فيها، واحتشاد كل قواها، وتوفر كل استعدادها، وتجمع كل طاقاتها..
ومن الواضح أن كلمة قوة، والتي جاءت في آية سورة الأنفال، التي تأمر بإعداد القوة. كلمة قوة هذه جاءت نكرة عامة, أتدري لم كان ذلك؟
لتشمل إعداد القوة بما يتناسب مع التقدم العلمي في كل مجالات الحياة، وتفيد الأمة أن إعداد القوة، هو ما يتفق مع استطاعة الأمة الإسلامية, فلا يستساغ أن ينتظر المسلمون ريثما يتم إعداد قوة تكافئ قوة العدو لأن ذلك قد يطول.(12/475)
وقد خطب عبد الله بن رواحة في جنده يشجعهم على لقاء العدو، حينما فزعوا من كثرة عَدده، وعُدده في غزوة مؤتة فقال: "يا قوم إن التي تكرهونها لهي الشهادة التي خرجتم تطلبونها، والله ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد، ولا بكثرة سلاح، ولا بكثرة خيول, ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به.. انطلقوا, فوالله لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا إلا فرسان, ويوم أحد ما معنا إلا فرس واحد.. انطلقوا, فإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهور عليهم فذلك ماوعدنا الله ورسوله, وليس لوعده خلف..وإما الشهادة فنلحق بالإخوان، نرافقهم في الجنان" [14] .
وروى الواقدي عن أبي هريرة قال: "شهدت يوم مؤتة, فلما دنا المشركون منّا رأينا ما لا قبل لأحد به من العدة، والسلاح، والكراع، والحرير، والديباج، والذهب.. فبرق بصري, فقال لي ثابت بن أرقم: يا أبا هريرة: كأنك ترى جموعا كثيرة؟ قلت: نعم. قال: إنك لم تشهد بدراً معنا, إنّا لم ننتصر بالكثرة" [15] .
والأمثلة من واقع صفحات التاريخ الإسلامي كثيرة، وكلها تشهد لجنود الجيش الإسلامي بالصدق والإيمان. فما كانوا يرهبون الردى، يقدمون غير هيابين، ولا وجلين, على حد القائل:
على أيّ جنب كان في الله مصرعي
ولست أبالي حين أقتل مسلما
فلم ينظروا إلى كثرة جنود الأعداء، وحتى لو عرفوا, فما كان يحملهم ذلك على التراجع أو التردد.. وفي الوقت نفسه كان لهم من إيمانهم بالله، وثقتهم في النصر.. كان لهم من ذلك ما يدفعهم إلى الإقدام, وهم على حد قول محمد إقبال:
سرنا على موج البحار بحارا
كنا جبالا في الجبال وربما
لم نخش يوما غاشما جبارا
كنا نقدم للسيوف صدورنا
قبل الكتائب يفتح الأمصارا
بمعابد الإفرنج كان أذاننا
سجداتنا والأرض تقذف نارا
لم تنس إفريقيا ولا صحراؤها
تنبت من حولنا الأزهارا
وكأن ظل السيف ظل حديقة(12/476)
والأمة الإسلامية في أشد ما تكون إلى بطولة الأبطال، وحزم الرجال.. ونحن في حاجة إلى جيش إسلامي يعدّ إعدادا إسلاميا خاصا. وبهذا يمكن أن نتصدى لكل محاولات الأعداء, حتى ولو كانت من الداخل، وما أكثر محاولات الأعداء. فالأحزاب البعيدة عن الإسلام والتي تحكم بعض شعوب البلاد الإسلامية، يمكن أن تشكل خطرا جسيما، وبخاصة بعد تحالفها مع الأحزاب الشيوعية.. والأنظمة المستبدة يمكن أن تشكل خطرا، والأفكار المستوردة يمكن أن تكون أشد خطرا, وهناك من الفوضويين والمتمردين والأصوليين ما يسيء إلى البلاد الإسلامية..
ولهذا وغير هذا, كان على الأمة الإسلامية أن تفكر جديا، في أمر البلاد الإسلامية، وإنقاذ شعوبها من قسوة الأحزاب المستبدة، والأفكار الحمراء. وإن الشعوب تئن وتتوجع, ولا يصح أن نرى المد الإسلامي ينحسر، ونقف مكتوفي الأيدي، أو نزيد من الحوقلة، أو نقف موقف اللامبالين.. إن شؤون المسلمين تنادي المسلمين: أين أنتم, وأين مكانكم؟
إن الأمر بالإعداد يجب أن يستمر, ولا يتوقف، ورسول الله عليه الصلاة والسلام لم يتوان ولم يتمهل في إعداد المسلمين إعداداً يتفق مع بناء دولة الإسلام. وكان المسلمون أقوياء في عقيدتهم، وأقوياء في إيمانهم، وأقوياء في فكرهم وثقافتهم وأخلاقهم وسلوكهم.
أحمد عبد الرحيم السايح
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة الأنفال الآية رقم 60.
[2] سورة التوبة الاية رقم 20 إلى 22.
[3] سورة الصف الآية رقم 10 إلى 13.
[4] انظر مقالنا: "من وحي الإسلام بمجلة الجندي المسلم العدد العاشر الرياض.
[5] انظر: مكتبة الإمام. عدد5 ص27 وزارة الأوقاف المصرية.
[6] سورة الأنفال، الآية رقم 60.
[7] سورة الحج، الآيتان 29، 30.
[8] راجع: سبل السلام للصنعاني، الجزء الرابع ص54.(12/477)
[9] صاحب البصائر هو: الفيروز أبادي. صاحب كتاب (بصائر ذي التمييز في ألطاف الكتاب العزيز) وهو كتاب عظيم يقع في خمسة مجلدات، وقد قام المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بطبعه.. وبصيرة الجهاد تجدها في الجزء الثاني. من ص401.
[10] رواه الترمذي وابن حبان كما في الجامع الصغير.
[11] سورة التوبة، الآية رقم 20.
[12] سورة التحريم، الآية رقم 9، وسورة التوبة الآية رقم 73.
[13] سورة العنكبوت، الآية رقم 69.
[14] صورة من حياة الرسول ص517.
[15] صورة من حياة الرسول ص516.(12/478)
الضوء القرآني على كتابة العلوي حول النبهاني
بقلم عبد القادر بن حبيب الله السندي
المدرس بمعهد الحرم المكي
الحمد لله وكفى وصلاة وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
فهذه حلقة ثانية من المقال الذي نشرته مجلة الجامعة الإسلامية الغراء في عددها الصادر الثالث من السنة الثامنة في شهر ذي الحجة لعام 1395هديسمبر لعام 1975م, والذي وعدت فيه القراء الكرام بإتمام الموضوع في حلقات مسلسلة, وها أنا مع الموعد المذكور داعيا المولى الكريم سبحانه وتعالى أن يهدينا جميعا إلى صراطه المستقيم، ومنهجه القويم الذي رسمه الله جل وعلا على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم للإنسانية كلها.(12/479)
وكم كنت سعيدا في هذه الكتابة المتواضعة بأن تكون مناقشي مع إنسان فاضل كريم ينتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبا وصهرا، فوالله إن له في نفسي لمنزلة كبيرة من الناحية المذكورة, وأما الحق فهو واضح بيِّن لا غبار عليه أمام من رزقه الله تعالى فهما ثاقبا، وعلما نافعاً، وبصيرة تامة، ولقد ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته المكية بصفة خاصة بعد البعثة شارحا هذه الدعوة الكريمة التي لأجلها خلق الله الكون، وبعث الرسل، ولقد ضرب رسول الله عليه وسلم أمثلة رائعة في دعوته السامية أثناء وجوده بمكة والمدينة أثناء أسفاره المتعددة لإعلاء كلمة الله تعالى حتى لقي ربه جل وعلا، فلم يترك خيرا صلى الله عليه وسلم إلا ودلّ الأمة إليه، ولم يترك شرا إلا وحذر الأمة منه فكان أعظم الخير الذي أتي به صلى الله عليه وسلم هو توحيد الله تعالى ذاتا وصفة وعبادة فهو محور أساسي للكائنات كلها تدور حوله جميع أعمال الخير والبر, إن صح هذا الأساس أو البنيان فقد صحت بقية الأعمال, والعكس بالعكس، ومن أعظم الشر الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة هو الشرك بجميع أنواعه الظاهرة والباطنة.(12/480)
ولقد شرح القرآن الكريم هذين المعنيين وكذا السنة النبوية المطهرة شرحا وافيا وفصّلاه تفصيلا كاملا فلم يتركا المجال لأحد كائن من كان ممّن ادّعى النبوغ في البلاغة والفصاحة أن يخالف هذا الأساس المتين, والبرهان الواضح, والحجة القوية الباهرة {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ_ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ_ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [1] . ولقد ظل النبهاني الذي مدحتموه في رسالتكم مخالفا لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم طوال حياته ظاهرا، وباطنا، وأما الظاهر فقد أوضحت ذلك في المقال السابق لكونه تولى تلك المناصب الهائلة ضاربا بأحكام الباري جل وعلا, وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم عرض الحائط, ولم يبال بشيء رادع يردعه عما أقبل عليه وفرح به من تحاكمه وحكمه إلى الطاغوت الكافر اللعين، وأما الباطن فلتَنكُّرِه لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهي دعوة التوحيد الخالص, فكتب كتاباً خبيثا لا يزال وصمة عار يحارب فيه أولئك الأمجاد الكرام من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, الذين جدد الله تعالى بهم الدين، وأعلى بهم كلمته, ونشر بهم رسالة نبيه صلى الله عليه وسلم. وا أسفاه على النبهاني وعلى اتباعه الذين يمجدونه ويرفعون ذكره، وحاله معروف واضح أمام من أُعطي أدنى فهم وعلم، ومعرفة في الدين، ولقد زعم النبهاني في كتابه "شواهد الحق"- وهي شواهد الضلال والكفر- أن الآيات القرآنية التي ساقها في التوحيد ونبذ الشرك، إنها لم تكن تشمل المؤمنين الموحدين في نظره، وليست العبرة بعموم اللفظ عنده، وقد خالف في ذلك جهابذة المفسرين, ومع ذلك هو متمكن في اللغة(12/481)
العربية ومتبحر فيها، ها أنا أبدأ بالرد عليه فيما زعم, وحرّف كتاب الله تعالى, مستمدا العون من الباري جل وعلا، والتوفيق والسداد في القول والعمل, مسترشداً في ذلك بما جاء عن الله تعالى، في كتابه الحكيم، وفي صحيح سنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم, وبأقوال أهل العلم من السلف الصالح رحمهم الله تعالى.
نعم زعم النبهاني في هذا الكتاب: أنّ قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [2] , وكذا قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [3] , وكذا قوله تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [4] , وقوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ [5] , وقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} [6] , وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [7] , وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ(12/482)
وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [8] . قال الشيخ النبهاني عقب هذه الآيات: "وأمثال هذه الآيات كثير في القرآن كلها حملها - أي محمد بن عبد الوهاب- على الموحدين", وقال في موضع آخر من كتابه - قبل سرد هذه الآيات- "وزعم - أي محمد بن عبد الوهاب - أنّ ذلك كله شرك، وحمل الآيات التي نزلت في المشركين على الخواص، والعوام من المؤمنين.."ثم ساق هذه الآيات الكريمات.(12/483)
فأقول: ولقد صدق العلامة محمود شكري الألوسي في كتابه (غاية الأماني في الرد على النبهاني) إذ قال رحمه الله تعالى: "فإن الرجل جاهل - أي يوسف النبهاني - كما ستعلمه من رد كتابه هذا, سقيم الفهم بأخبار العدول الثقات ورواية الصادقين من الرواة، وما نشره من هذيانه الصريح، أعدل شاهد على ذلك, وأصح دليل على ما هناك, فضلا عما ذكره فيه جهابذة العصر الذين رأوه, وخالطوه، وعرفوا حاله، وشاهدوا أعماله.."، ثم ذكر فيه بقية الكلام [9] قلت: الآية التي ساقها النبهاني من سورة الأحقاف وهي قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} إنّ هذه الآية نزلت بمكة تصف حال المشركين الذين كانوا يعبدون الأصنام, وهي اللاّت, والعزى, والهبل, وغيرها من الأصنام, والآية تحكي قصة حال المشركين، وعن سفاهة عقولهم، وفساد فطرتهم إذ كانوا يدعون من دون الله تعالى هذه الأصنام, وإن كانت عبادتهم، ودعاؤهم لم تكن مقصودة لها، لأنهم اتخذوها علامات، وشعائر لأصحابها, لكي يتصوروا وجودهم عن طريق هذه الأجسام الحجرية عند الدعاء والاستغاثة بهم، ولقد أخرج الإمام البخاري في الصحيح، وكذا ابن المنذر وابن مردويه في تفسيرهما عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: "صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العربِ بعدُ، أمَّا ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سُواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني عطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان, وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع, أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا، وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت" [10] . قلت فهذه الرواية الصحيحة تزيل شبهة قوية تمسك بها النبهاني, ومن سار(12/484)
على منهجه من الأقزام بأن قريشاً كانت تعبد الأصنام الحجرية معتقدة فيها الخير والشر, والأمر ليس كذلك, وإنما كانت تعبد مسمّياتها كما تشير إليه هذه الرواية. ولقد شرح هذه الرواية الحافظ في الفتح شرحا مفصلا, وردّ على الواقدي في زعمه إذ قال: "كان ودّ على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس, ونسر على صورة طائر"، ثم قال الحافظ: "وهذا شاذ والمشهور أنهم كانوا على صورة البشر، وهو مقتضى ما تقدم من الآثار في سبب عبادتها والله أعلم" [11] . قلت: الذي حكم عليه بالشذوذ فهو منكر؛ لأن الواقدي متهم بالكذب فلا عبرة بروايته، وأما أصنام قريش فمنها اللات، والعزى، والهبل, وأساف, ونائلة, فهي أيضا أسماء لرجال صالحين, قال الإمام ابن الأثير في النهاية: "وفي حديث مجاهد في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى} قال: "كان رجل يلت السويق لهم"، يريد أن أصله (اللاّت) بالتشديد؛ لأن الصنم سمي باسم الذي كان يلتّ السويق عند الأصنام، أي يخلطه فخُفِّفَ، وجعل اسما للصنم". [12] وقد أخرج البخاري في الصحيح بإسناد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى: {اللاَّتَ وَالْعُزَّى} : "كان اللات رجلا يلتّ السويق للحاج" [13] , وقال الحافظ في الفتح: "وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس: - ولفظه فيه زيادة - "كان يلتّ السويق على الحجر، فلا يشرب منه أحد إلا سمن، فعبدوه"، واختلف في اسم هذا الرجل, فروى الفاكهي من طريق مجاهد قال: "كان رجل في الجاهلية على صخرة بالطائف، وعليها له غنم, فكان يسلو من رسلها، ويأخذ من زبيب الطائف والأقط فيجعل منه حيسا, ويطعم من يمر به من الناس، فلما مات عبدوه" [14] ، ثم قال الحافظ: "فقد أخرج الفاكهي من وجه آخر عن ابن عباس: "أن اللات لما مات قال لهم عمرو بن لحي: إنه لم يمت، ولكنه دخل الصخرة فعبدوها، وبنوا عليها بيتا", وقد(12/485)
تقدم في مناقب قريش أن عمرو بن لحي هو الذي حمل العرب على عبادة الأصنام" [15] قلت: وهكذا سائر الأصنام التي عبدت من دون الله تعالى كانت هي علامات وشعائر فقط، وإنما العبادة كانت لمسمياتها كما روى لك حبر الأمة، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد عرف الإمام ابن الأثير - وهو إمام في اللغة - الصنم بقوله: "قد تكرّر فيه الصنم والأصنام: وهو ما اتخذ إلها من دون الله تعالى، وقيل: هو ما كان له جسم أو صورة، فإن لم يكن له جسم أو صورة فهو وثن" [16] قلت: فعلى هذا التعريف تدخل فيه القبور وغيرها التي تعبد من دون الله تعالى، وإن كانت عبارتها راجعة إلى الشيطان لا إلى أصحابها إلا إذا كانوا راضين بها في حياتهم فهؤلاء هم الطواغيت. وقد أوقع رسول الله صلى الله عليه وسلم اللعن على الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد, سداً للذرائع, وقطعا لوشيجة الشرك. ومن الجهل الواضح أن يقال لإنسان يدعو غير الله تعالى في أمر لا مجال للمخلوق ولا قدرة له على إنجازة ثم يكون هذا الداعي لغير الله تعالى والمستغيث بسواه موحدا ومؤمنا في نظره, كما زعم النبهاني في كتابه (شواهد الحق) . نعم يجب على المسلم أن يفكر في هذه الآية الكريمة, وما في معناها, وفي سياقها البليغ الفصيح الذي لا قدرة للإنسان مطلقا أن يأتي بشيء من هذا الأسلوب البلاغي الحكيم, إذ يقول جل وعلا {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} فاستعمل جل وعلا في هذا السياق المبارك لفظة (مَنْ) وهي تستعمل لذوي العقول عند جميع أهل اللغة, ما عدا النبهاني ومن سار على نهجه في الضلالة؛ فإنه خالف اللغة العربية وقواعدها, ولقد سبق أن خالف السنة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام, وخالف نص القرآن الكريم، وظاهره، ومنطوقه، ومفهومه، ولو لم يكن كما ذكر, فكيف ارتضى لنفسه أن(12/486)
يقبل رئاسة محكمة الحقوق المدنية ببيروت، ومات عليها, وهي محكمة لا دينية ولا مذهبية, وكيف ينسب نفسه إلى الشافعي وهو بريء منه، ولقد سبق أن نقلت عن غاية الأماني في الرد على النبهاني ما قال فيه جهابذة العصر، وكيف جاز لمحب آل البيت النبوي أن يخالف النظام السماوي العادل المبارك الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند مولاه جل وعلا، فكما ارتكب النبهاني في قبوله تلك المناصب الكفرية جريمة كبيرة, ارتكب في تفسير هذه الآيات القرآنية وتحريفها على غير مراد الله جل وعلا، وعلى غير مراد رسوله صلى الله عليه وسلم، إنها محنة عظيمة للإسلام أن يبتلى بأشخاص لاحظَّ لهم من العلم النبوي الصحيح؛ من علم الكتاب والسنة وإجماع الأمة من السلف الصالح, فيفتوا الناس بالضلال، والكفر، فضلوا أضلوا.
نعم لازلت في تفسير هذه الآية الكريمة من سورة الأحقاف بأن الأصنام لم تتخذ غاية في الدعاء والعبادة، والاستغاثة، وإنما كان مقصود كفار قريش كما أخرج البخاري وغيره رحمهم الله تعالى في دعائهم واستغاثتهم بهؤلاء الرجال الصالحين, ولهذا يقول جل وعلا في سورة الزمر: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [17] .(12/487)
ولقد صوّر القرآن الكريم في هذه الآية الكريمة وغيرها موقفهم من عبادتهم، ودعائهم لغير الله تعالى بأنهم لم يكونوا قد قصدوا دعاءهم وعبادتهم لهذه الأصنام ولا لأصحابها أي مسمياتها, وإنما كان قصدهم من ذلك العمل الشنيع أن يقرب هؤلاء الأصحاب إياهم إلى الله زلفى, فكان المقصود عندهم هو الرب جل وعلا, كما نصت آية الزمر على هذا المعنى، فلم يكن قد اعتقدوا في هذه الأصنام الحجرية وغيرها الضر والنفع ذاتيا. ولقد أوضح القرآن الكريم هذا المعنى في آية أخرى من سورة الأعراف {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [18] . وقد أورد الإمام السيوطي في تفسيره الدر المنثور أثرا إذ قال رحمه الله تعالى: "أخرج عبد بن حميد عن محمد بن كعب القرظي رضي الله تعالى عنه، في قوله تعالى {وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} , قال رحمه الله تعالى: "كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح فنشأ قوم بعدهم يأخذون كأخذهم في العبادة، فقال لهم إبليس: "لو صورتم صورهم، فكنتم تنظرون إليهم"، فصوروا ثم ماتوا فنشأ قوم بعدهم، فقال لهم إبليس: "إن الذين كانوا من قبلكم كانوا يعبدونها", فعبدوها" [19] , قلت: فالأمر في ذلك واضح بيِّن جلي, لا يخفى على أحد إلاّ من خبثت فطرته، وبخست قريحته من عبّاد القبور والأضرحة, وقد عاملهم الشيطان نفس المعاملة التي عاملها قوم نوح ثم مع قريش، وقال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير مفسرا هذه الآية الكريمة {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ} : استفهام على سبيل الإنكار, والمعنى أنه لا أمر أبعدُ عن الحق، وأقرب إلى الجهل ممن يدعو من دون الله الأصنام فيتخذها آلهة، ويعبدها، وهي إذا دعيت لا تسمع، ولا تصح منها الإجابة لا في الحال، ولا بعد ذلك اليوم إلى يوم القيامة"ثم قال رحمه الله(12/488)
تعالى: "وقال بعضهم: بل المراد عبدة الملائكة وعيسى؛ فإنهم في يوم القيامة لمظهرون عداوة هؤلاء العابدين". قلت: هذا المعنى هو الصحيح؛ لأنه يؤيده قوله تعالى {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} , وكيف يعقل وصف الأصنام وهي جمادات بالغفلة, وكيف جاز وصف الأصنام بما لا يليق إلا بالعقلاء؟ وهي لفظة (مَنْ) , وقوله {غَافِلُونَ} ، أجاب الإمام الرازي عن هذا الاعتراض مع ذكره بقوله: "قلنا إنهم لمّا عبدوها، ونزّلوها منزلة من يضر وينفع صح أن يقال فيها إنها بمنزلة الغافل الذي لا يسمع، ولا يجيب"، ثم قال: وهذا هو الجواب أيضا عن قوله: "إن لفظة (مَنْ) ولفظة (هُم) كيف يليق بها"قلت: مع منزلته العلمية الكبيرة في الإسلام وباعه الطويل في الكلام والفلسفة وغيرها من العلوم, لم يصب الإجابة الصحيحة إلا في آخر كلامه إذ قال رحمه الله تعالى: "وأيضا يجوز أن يراد كل معبود من دون الله من الملائكة, وعيسى, وعزير، والأصنام, إلا أنه غُلِّب غير الأوثان على الأوثان" [20] . قلت: هذا المعنى الأخير الذي ذكره هو الوجيه والموزون لأنه أيده القرآن الكريم في مواضع كثيرة منها قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [21] قلت: فهذه الآية نص صريح على أنهم عبدوا عيسى عليه الصلاة والسلام، واستغاثوا به ودعوه في(12/489)
أمورلم تكن له بها قوة على كشفها عنهم, إذا كان عيسى عليه الصلاة والسلام وغيره من أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام قد عبدوا من دون الله تعالى كما نص القرآن الكريم فغيره من الأولياء والصالحين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من باب أولى. ولما لاحظ الصديق رضي الله عنه هذا المعنى في الأمة المحمدية فألقى أول خطبة بعد الخلافة كما أخرجها البخاري في الصحيح وابن ماجه في السنن، والإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها، وجاء في تلك الخطبة التاريخية المباركة: فتكلم أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله عز وجل يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} حتى فرغ من الآية {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} حتى فرغ من الآية، ثم قال: "فمن كان يعبد الله عز وجل فإنّ الله حيٌّ, ومن كان يعبد محمداً فإن محمد قد مات"، فقال عمر: "وإنها لفي كتاب الله ما شعرت أنها في كتاب الله"، ثم قال عمر: "يا أيها الناس هذا أبو بكر وهو ذو شيبة المسلمين، فبايعوه، فبايعوه", ثم ذكر الحديث [22] قلت: فهل كان أبو بكر وعمر وهابيين في نظر النبهاني، وأتباعه؟ لولا خوف الصديق رضي الله تعالى عنه عن وقوع الأمة في الشرك لما كان رضي الله تعالى عنه قد خطب بهذه الخطبة بهذه الصراحة الواضحة في هذا الوقت الحرج على الأمة، وقد أخرج الإمام البخاري رحمه الله تعالى في جامع الصحيح من خطبة عمر رضي الله عنه في هذا الباب أيضا, وذلك من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه سمع خطبة عمر الآخرة حين جلس على المنبر، وذلك في الغد من يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتشهد، وأبو بكر صامت لا يتكلم، قال: "كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا", يريد بذلك أن يكون آخرهم، ثم قال رضي الله تعالى عنه: "فإن يك(12/490)
محمد صلى الله عليه وسلم قد مات، فإن الله قد جعل بين أظهركم نوراً تهتدون به بما هدى الله محمداً صلى الله عليه وسلم"، ثم ذكر الحديث [23] . ولقد برع الحافظ في الفتح في الكلام على هذا الحديث براعة علمية لا نظير لها في عصره فيما علمت، إذ تكلم على تخريج الحديث وزياداته وفنون إسناده، ولطائف معانيه فجزاه الله تعالى خير الجزاء، ولم يترك شبهة إلا أزالها، وأثبت رحمه الله تعالى تلك المعاني السامية التي حملها هذا الحديث الشريف في طياته، في إثبات الهداية القرآنية الإلهية، وكذا أثبت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وفاة حقيقية، وأنّ البقاء لله جل وعلا, ولا يزال القرآن الكريم يدعو بصراحة في آياته، وسوره إلى المقصد الأعلى والأسمى الذي بعث لأجله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسائر إخوانه من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام في تثبيت العقيدة الصافية النقية، هي عقيدة توحيد الألوهية, وعقيدة توحيد الأسماء والصفات، فلا مجال لهؤلاء الخفافيش ولا قدرة لهم في الإساءة إلى هذا الأصل العظيم، والبنيان الراسخ والحجة القوية الباهرة التي ترك عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته, ولا يمكن أن تنجح دعوة ما كائنة ما كانت إن خالفت هذا الأصل الوثيق والخط المستقيم، والمنهج الرفيع فإن دعا أحد إلى إصلاح أحوال البشرية على غير الخط الذي رسمه القرآن الكريم، والسنة المطهرة فإن دعوته لا تنجح أبداً فإن ضربت لك أمثلة حية على ما قلت ناقلا ذلك عن الحوادث التاريخية المتواترة منذ أن طلع نجم الإسلام في الآفاق إلى يومنا هذا لما كانت تكفيني هذه الصفحات, وللعاقل اللبيب أن يقلِّب صفحات التاريخ الإسلامي الحافل, أو ينظر فيما وقع أمام عينه، وبصره من حوادث خطيرة ضاعت فيها النفوس البريئة، وانتهكت لها الأعراض, وسفكت عليها الدماء, ونهبت فيها الأموال, ثم يتذكر بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم, هذا الانقلاب التاريخي العظيم الذي تنفست(12/491)
فيه الإنسانية لأول مرة في التاريخ الإنساني الطويل, بنفس راحة، وعزة، وكرامة, وشرف، وغير ذلك من المعاني السامية نعلم بهذا التقرير الواضح أنّ النبهاني كان كاذبا في دعواه الذي ادعاه؛ وهو ليس هناك شركٌ ولا كفر في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنّ تلك الآيات القرآنية التي ساقها في كتابه, وزعم أنها لا تشمل المؤمنين الموحدين الحاليين في نظره ولو دعوا غير الله تعالى، واستغاثوا به، وأن دعاء الأموات والاستغاثة بهم وهم في قبورهم ليس بشرك، وإنما الشرك في نظره الدعاء للأصنام فقط، ولا يبالي بالقواعد الأساسية التي وضعها علماء التفسير من السلف الصالح في فن أصول التفسير (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) .(12/492)
ماذا يقول النبهاني وأتباعه ومقلّدوه في آية الحج وهي قوله - جل وعلا -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [24] قلت: لم تترك هذه الآية الكريمة أي شبهة قد يتمسك بها أهل الباطل, فإنها تصرح أن الذي يستحق الدعاء والاستغاثة لا بد من أن توجد فيه صفة الخالق, وهي أن يخلق الذباب، ولقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في سورة فاطر إذ قال جل وعلا: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً} [25] قلت: هذه الآية تفنّد الشبه التي تمسك بها النبهاني وأتباعه, والآية صريحة واضحة بيّنة لا غبار على معناها، أنّ من يُدعى من دون الله يجب فيه أن تتوفر فيه هذه الصفة التي نص عليها القرآن الحكيم, وهي أن يخلق أرضا، أو يكون له شرك مع الله تعالى في خلق السماوات، فلما لم توجد هذه الصفة, ولن توجد في مخلوق ما مهما بلغ الرتبة العليا في منزلته عند مولاه جل وعلا, فلا حق له أن يسمح لأحد بدعائه إياه في أمر لا مجال له، ولا قدرة معه على كشف الأمور المفصلة التي اختص الله تعالى وحده على كشفها وحلها، وهنا آية أخرى مماثلة في هذا المعنى في سورة الرعد: إذ قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً قُلْ(12/493)
هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [26] قلت: هذا وصف دقيق فيمن يستحق الدعاء، والاستغاثة, والخوف, والخشية, والرجاء, والتوكل, والإنابة، والاستعانة، وغير ذلك من العبادات.
فهل يوجد هذا الوصف الذي أورده القرآن الكريم في سوره وآياته في غير الله تعالى من نبي مرسل، وولي صالح وشهيد؟ حتى يستحق الدعاء والاستغاثة؟ لا والله ورب محمد صلى الله عليه وسلم.(12/494)
ويقول ربنا تبارك وتعالى في س {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} سورة الأنعام [27] فهذه الآيات كلها تتفق على معنى واحد, ولكن أين العقول الراجحة؟ , والقلوب الواعية؟ , والضمائر الحية؟ تدرك هذا المعنى الظاهر، يقول تبارك وتعالى في سورة الأعراف {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ} [28] . فالآيات هذه تنادي بأن الذي أتى به النبهاني أنها فرية عظيمة، وافتراء مكشوف على الإسلام، والمسلمين، وأن الشبه التي تمسك بها شبهة هزيلة نشأت عنده عن جهل مركب, وفساد عريض في قلبه. وقد أكتفي بالكلام على آية الأحقاف عن بقية الكلام غلى الآيات التي ساقها النبهاني؛ فإن الكلام عليها بمثل هذا الكلام الذي أوردته على هذه الآية خوفا من الإطالة، نعم يجب على المسلم التقي البارّ أن يتدبر في آيات القرآن الكريم, التي فصّلت هذه القضية, فشرحتها شرحا وافيا, ولم تترك أي شبهة قد يتمسك بها ممن لا عقل له، ولا ضمير, وقد فسدت قريحته, وخبثت فطرته بحكايات واهية كاذبة، وأرى من الضروري أن أورد هنا قصة غزوة أحد التي فيها عبر، ومواعظ، وما جرى فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم العصيب, وما جرى لأصحابه رضوان الله تعالى عليهم أجمعين من محنة عظيمة شاقة, إنها قصة جهاد طويل, وجهود مباركة, أقدم عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، أخرج الإمامان البخاري ومسلم، وكذا الترمذي، وابن ماجه في سننيهما، والإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه"أن النبي صلى الله عليه وسلم كُسِرَتْ رباعيته يوم أحد، وشُجّ في جبهته، حتى سال الدم على وجهه, فقال صلى(12/495)
الله عليه وسلم: "كيف يُفلح قوم فعلوا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم" فنزلت هذه الآية: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [29] . ولقد عقد الإمام البخاري بابا في الجامع الصحيح بعنوان باب (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب الله عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) ، ثم ذكر الحديث، وقال الحافظ في الفتح شارحا هذا الحديث: "قوله: وقال حميد، وثابت عن أنس: شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقال: "كيف يفلح قوم شجوا بنيهم؟ "فنزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمرِ شَيْءٌ} ، ثم قال الحافظ: "وقال ابن إسحاق في المغازي: حدثني حميد الطويل عن أنس قال: كسرت رباعية النبي صلى الله عيه وسلم يوم أحد، وشج وجهه فجعل الدم يسيل على وجهه, وجعل يمسح الدم وهو يقول: "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم"فأنزل الله الآية، ثم ذكر رواية مسلم، فقال: "وأما حديث ثابت فوصله مسلم من رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد: - وهو يسلت الدم عن وجهه - "كيف يفلح قو شجوا نبيهم"، فأنزل الله عز وجل {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمرِ شَيْءٌ} الآية. وذكر ابن هشام في حديث أبي سعيد الخدري أن عتبة بن أبي وقاص هو الذي كسر رباعية النبي صلى الله عليه وسلم السفلى وجرح شفته السفلى، وأنّ عبد الله بن شهاب الزهري هو الذي شجه في جبهته، وأنّ عبد الله بن قمئه جرحه في وجنته، وأنّ مالك بن سنان مص الدم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ازدرده، فقال: "لن تمسك النار"، وروى ابن إسحاق من حديث سعد بن أبي وقاص قال: "فما حرصت على قتل رجل حرصي على قتل أخي عتبة بن أبي وقاص لما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد". وفي الطبراني من حديث أبي أمامة قال: "رمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فشج وجهه، وكسر رباعيته فقال: "خذها وأنا ابن قمئة"فقال(12/496)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: - وهو يمسح الدم من وجهه -، "مالك أقمأك الله", فسلّط الله عليه تيس جبل فلم يزل ينطحه حتى قطعة قطعة" [30] قلت: هكذا ترى وتشاهد في هذه القصة ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، وما تلفظ به صلى الله عليه وسلم عندئذٍ، وماذا كان جواب ربه جل وعلا في تلك الساعة. تدبر أيها المسلم في دعوة القرآن الكريم الصريحة الواضحة، البينة، وماذا جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل إنجازها، ونشرها، وإيصالها إلى الناس، إقرأ القرآن قراءة تدبر، وإمعان، وتفكير سليم، وافتح قلبك وضميرك لفهمهما، وتلقيهما، وإيّاك وخزعبلات النبهاني والكوثري، والدحلان، ومن سار على نهجهم في الكفر، والضلالة، ثم اقرأ قوله تعالى في سورة الأعراف مرة الثانية {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [31] ثم تدبر قصة أحد، وما جرى فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم من محنة عظيمة، وما تلفظ به صلى الله عليه وسلم. فإنك ستجد بين هذه الآية الكريمة وبين قصة أحد تطابقاً كاملا، وموافقة تامة، وأن الله جل وعلا له حكمة بالغة، فيما جرى لنبيه صلى الله عليه وسلم يوم أحد، ويوم حنين، ويوم الطائف قبل الهجرة.(12/497)
أخرج مسلم في الصحيح وأبو داود والترمذي، والنسائي، وابن ماجه في سننهم ومالك في موطئه، والإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضى الله تعالى عنه، وجاء فيه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله عز وجل: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، وقال مرة: لعبدي ما سأل، فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال: حمدني عبدي. فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} : قال: مجدني عبدي، أو أثنى عليّ عبدي، فإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} : قال: فوّض إليّ عبدي، فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: فهذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، وقال مرة: ما سألني عبدي" ثم ذكر الحديث [32] قلت: فالشاهد في هذا الحديث الصحيح واضح بيّن، وهو عهد قطعه العبد على نفسه، إياك نعبد وإياك نستعين، فالقرآن كله دائر حول هذا العهد, وأنه محور أساسي على صلاح الأعمال، والعقائد, والعبادات, إن صح هذا العهد مع المولى جل وعلا فسوف تصح الأعمال كلها فصلحت الإنسانية به، وإن انتقض كما هو دأب النبهاني، والدحلان، والكوثري وغيرهم وهم كثير، - لا أكثرهم الله تعالى - فسدت الإنسانية كلها بانتقاضها إياه، فحلّت المصائب الكبرى عليها من مرض، وفقر، وجهل, وغير ذلك من المصائب الاجتماعية, والأمراض الفتاكة, والويلات، والحروب، وسفك الدماء، وللمقال بقية في الحلقة القادمة - إن شاء الله تعالى -, وصلى الله عليه وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تتمة " من سقطات المنجد "
يقول مؤلف (معجم الأعلام) أخبر المنجد في تعريف سعد بن معاذ - رضي الله عنه-: "حمل اللواء في وقعة بدر, وضمد جرح النبي بعد وقعة أحد, وأخذ حكما في مصير الأسرى من يهود خيبر, فحكم بقتل رجالهم, وسبي نسائهم, واقتسام أموالهم".(12/498)
ولا صحة لأيّ من هذه الأخبار الثلاثة؛ فسعد - رضي الله عنه - كان يحمل راية الأنصار في بدر، وهي غير اللواء الذي كان مع مصعب بن عمير - رضي الله عنه -، ولم يذكر سعد في ضمن جرح رسول الله يوم أحد, ولقد عاجله الأجل قبل غزوة خيبر، وإنما كان تحكيمه في قريظة عقيب الأحزاب..
المجذوب
--------------------------------------------------------------------------------
[1] التوبة آية رقم 109-110.
[2] الجن آية رقم 18.
[3] الأحقاف آية رقم 5.
[4] الشعراء آية رقم 213.
[5] يونس آية رقم 106.
[6] الرعد آية رقم 14.
[7] فاطر آية رقم 13-14.
[8] الإسراء رقم الآية 56-57.
[9] غاية الأماني في الرد على النبهاني 1/53.
[10] أخرجه البخاري في التفسير سورة رقم 71 باب (1) , حديث رقم 4920, ص 8/667 الفتح، انظر الدر المنثور 8/269.
[11] الفتح 8/669.
[12] النهاية لابن الأثير 4/320.
[13] البخاري حديث رقم 4859.
[14] الفتح 8/612.
[15] المصدر السابق.
[16] النهاية لابن الأثير 3/56.
[17] الزمر رقم الآية 3.
[18] الأعراف رقم الآية 194.
[19] الدر المنثور 8/269.
[20] التفسير الكبير للرازي 6/276.
[21] المائدة رقم الآية 116.
[22] أخرجه البخاري في الجامع الصحيح كتاب الأحكام باب رقم 51.
[23] المصدر السابق 13/206 فتح الباري.
[24] سورة الحج آية رقم 73-74.
[25] سورة فاطر آية رقم 40.
[26] سورة الرعد رقم 16.
[27] سورة الأنعام رقم الآية 100.
[28] سورة الأعراف رقم الآية 188.
[29] آل عمران رقم الآية 128.
[30] الفتح 7/365-366.
[31] سورة الأعراف 188.(12/499)
[32] أخرجه مسلم الصلاة حديث رقم 38، وأبو داود في السنن الصلاة باب رقم 132، والترمذي في السنن في تفسير سورة الفاتحة والنسائي الإفتتاح باب رقم 23، ابن ماجه في الأدب باب رقم 52 الموطأ باب رقم 39، والإمام أحمد في مسنده 2/241، 2/285، 2/460.(12/500)
من الجاني؟..
للعلامة الشيخ محمد سالم البيحاني رحمه الله
أن تحسب الأوحال مثل الجفاف
من علّم العذراء ذات العفاف
به وخبث اليوم في الاتصاف
هل يستوي الطهر الذي زينت
تكره هتك الستر والانكشاف
قد كانت العذراء في خدرها
وعاقت الجلباب والالتفات
واليوم ألقت ثوبها والحيا
إلا الثياب المخزيات الخفاف
وانطلقت تمشي وما فوقها
تهتز بين الميس والانعطاف
قد زيّن الشيطان للخَود أن
حمرة فوق شفاةٍ تضاف
تمسح من بودرة وجهها
ورأسها في حجرة كالمضاف
شعورها الحلاّق قد صفها
والعطر قد يخرج منه الرعاف
يصب من عطر على صدرها
يخشى عليها النهب والاختطاف
تخرج من بيت إلى شارع
وتحسب الفخ سرير الزفاف
يوقعها الصياد في فخه
وأصبحت من فعلها لا تخاف
يا ويلها بالليل ماذا جرى
على ربا لبنان أو في الضفاف
لما رأت من غيرها ما رأت
على استواء في اللقا والخلاف
قالت السنا كلنا في الهوى
عملها الرحلة للاصطياف
فمن هو الجاني عليها ومن
بالنجس المستقذر المستعاف
ولم تعد إلا وقد لطخت
وكلها تدعو إلى الانحراف
تحمل في الشنطة أوراقها
ناطقة بالذنب والاعتراف
وربما تنظر في صورة
تشرب خمراً وهي سم زعاف
وفي بيوت السينما دائما
قد فرغت ما فيه بالارتشاف
والكأس قد يسقط من كفها
في حانة تنوي بها الاعتكاف
نعم وقد تسقط سكرانة
يقول عنقود دنا للقطاف
ويرفع القرد لها رأسه
ما كان للدمع الغزير انكفاف
أواه لو ينفع طول البكا
منابر صدعها الارتجاف
لكننا نبكي ومن تحتنا
يشهده اليوم وصحن المطاف(13/1)
والحرم الجامع يبكي لما
أقل من هذا فلسنا نخاف
أما إذا كنا على حالة
مهراً كبيراً يوجب الانصراف
لكن من يطلب في بنته
من طلبات قبل يوم الزفاف
يريد منها المال لا ينتهي
آلاف خذها بالبلى والتلاف
يا أيها الطالب في بيته الـ
إلا احتراما ثم رزق الكفاف
والبنت لا تطلب من زوجها
والدلة القهوة ثم اللحاف
ترض بمّا قُدّر من قوتها
محبة الزوجين والائتلاف
ما أحسن المرأة فيما مضى
سيان ذا في حقٍ أو في الهلاف
واليوم لا تسمع إلا الشكا
تلوث البحر من الاغتراف
والسيد المأذون قد قال لي
والأقوياء اليوم مثل الضعاف
لأنهم قد بالغو في الأذى
بأس وهذا ما يثير القذاف
طلق المرأة في غير ما
يضربها بالصارمات الرهاف
والرجل السكران من حمقه
يقول هذا منتهى الاعتساف
يسب منها الأهل والأم لا
ذنوبهم بالكسب والاقتراف
رحماك يا مولاي بالناس من
قبل مجيء الموت والانجعاف
ولا تؤاخذنا بأعمالنا
في جنة الخلد انتهاء المطاف
واختم لنا (بالخير؟) واجعل لنا(13/2)
معسكرات الإخاء الإسلامية وأبعادها
بقلم الطالب: سليم ساكت المعاني
كلية الشريعة – السنة الرابعة
إنّ الحركة الكشفية بصفة عامة في الزمن المعاصر، تحدد في أشكالها العديدة، حسب تعريفات الباحثين والقائمين على الحركة الكشفية في العالم بمجرد التجمع الكشفي، كيفما كان شكله، وكيفما كانت حدوده على أساس (التعاون التجمعي والصداقة) تحدد أبعاده ويحدد نطاقه، وتطور وظيفته، وتحدد أنماطه وأشكاله.
أما الحركة الكشفية الإسلامية.. فتضع فواصل ثابتة بين المعسكرات الإخاء الإسلامية. فمعسكرات الإخاء الإسلامية (بالمعنى الحق) هي المعسكرات التجمعية التي تحمل في طياتها كل مبادئ الإسلام. أما ما عداها.. فلم تبلغ حدا من الحضارات التي تستحق ذلك الاسم.. فهي لذلك.. المعسكرات التجمعية المحدودة الفائدة.
فالقائمون على المعسكرات العالمية للتجمع الكشفي.. ينظرون إلى تلك المعسكرات من زاوية محدودة ضيقة أسسها ومرتكزاتها.. التعاون.. والاستعداد.. والصداقة دون مرتكزات فكرية ثابتة تجسد تلك الأسس والمرتكزات في أطر هادفة.. أو قناعة بصدق الدعوة لتلك المعسكرات أو.. الغاية الهادفة.. أو.. سلامتها من الانحرافات الخطيرة.
أما القائمون على معسكرات الإخاء الإسلامية.. فينظرون إلى المعسكرات بشكل عام.. لا على أساس خضوعها لقوانين وأنظمة وضعية.. بل على أساس خضوعها أو عدم خضوعها لمرتكزات فكرية منبثقة من نظام إلهي, لذلك.. تجعل هدفا نبيلا ساميا لا تشوبه شائبة.. أو شبهة مريبة، فتتجاوز النظرة الإسلامية للحركة الكشفية بخضوعها لله العقول القاصرة.. لتكون قانونا فطريا كونيا للتجمع المشروع.(13/3)
والتجمعات الكشفية.. التي لم تبلغ حد القانون الفطري الكوني: هي تجمعات قاصرة عن الهدف المنشود, لها أشكالها.. وأنماطها حسب المشرِّعين الوضعيين.. فهي لا تتجاوز حدود أفكارهم الضيقة التي لا تتواءم مع الجماعة الإنسانية كما يتوخاها الفكر الإسلامي، إذ أن قانون تجمع الإخاء الإسلامي ينظر - حسب المقياس الإلهي الفطري - إلى النماذج المتعددة على أنها مختلفة متفاوتة في مقوماتها وأبعادها التي تحدد فيها التجمعات الأبعاد بمختلف صورها وأنماطها. أما قانون التجمع المحدود، فيستقي مقايسه من القوانين الوضعية التي يعطيها درجة واحدة من قيمة الأهداف الإنسانية المزعومة.
بناء على ما تقدم.. فإني أستطيع القول أن أبعادا معينة لا بد أن تكون لفكرة حركة تجمع الإخاء الإسلامي.. وتلك الأبعاد هي:-
الفكرة الإسلامية التي قامت عليها التجمعات (الإخاء) بمفهومه الإسلامي المشرق {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} ، و"..المسلم أخو المسلم"ولما لهذا المعنى من إيحاءات رائعة يجسدها اللقاء الروحي الخالد: "الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف".
1- البعد الأول:
تأخذ تجمعات المؤاخاة الكشفية في الإسلام، في حدودها واتساعها، ونطاقها، معنى واسع المؤدي.. فتمتاز باللقاء الروحي الحالم. إنه واحد يعبد، جنسيات مهما تباينت عرقا.. ولونا.. وانتماء تلتقي وفكرة التوحيد الفذة، ومؤاخاة تعجز كل معاني الصداقة المصطنعة أن تصل لظلال المعاني لهذه الكلمة.. أو.. لأصلها.. "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، و {يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةْ. هذا المفهوم يعجز المجتمع القاصر أن يحققه بمفهوم الصداقة المصطنعة.. فلا معسكرات للبيض.. وأخرى للسود.. ولا نفور.. ولا تقزز.
2- البعد الثاني:(13/4)
بعد أسسها وصفاتها التي تقوم عليها، وترتقي بها إلى أعلى مكانة لها، فإن اختلفت أو بتر بعضها أو.. أزيل..لم تعد تجمعات إسلامية، بل تكون قد انحطت إلى الأسفل.. إلى المستوى القاصر. ومن هذه الصفات والأسس:-
أ - الإخاء، والمودة، والمحبة في الله داخل نواة التجمعات.
ب - التعاون، والتكافل بين أفرادها أيضا.
ج - سلامة التجمعات من المؤثرات السيئة.. أو.. عدم مهادنة المجتمع القاصر، أو الخضوع لمؤثراته.
د - المحافظة على شعائر التوحيد من إقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
هـ- التعاضد والتكاتف {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ، و.."انصر أخاك ظالما أو مظلوما" بحيث إن لوحظ أنه قد تخطى سبل الرشاد.. نبه لذلك، وإن اعتدي عليه، أو هضم حقه وجد الدعم، والتأييد حتى يعود الحق إلى نصابه.
3- البعد الثالث:
البعد التكويني لتجمعات الإسلامية على شريعة الله. حيث حقيقة وفلسفة اللقاء تبني على توحيد الله.. ومن ثم الإيمان برسوله، فالإيمان يستلزم العمل، والعمل يستلزم التطبيق لفلسفة الاخوة واللقاء في الله، فبعملية رياضية بحتة:-
إيمان + إخلاص + عمل = لقاء صادق لا يتزعزع.
4- البعد الرابع:
وهو بعد الروح الإسلامية المهيمنة على حركة التجمعات والإخاء الكشفية الإسلامية. وهذا البعد أساسي لأنه هو الذي يوحد بين الأبعاد الأخرى، ويجعلها تتناسق مع قوانين الكون. حيث الأعضاء العاملون في تجمعات الإخاء الكشفية الإسلامية يعملون من أجل عبادة الله وطاعته، وتنفيذ أوامره، واجتناب نواهيه، ونشر شريعته، وعلى هدى من كتاب الله دون أن يخضعوا للمجتمع القاصر في عاداته، أو تقاليده إذا ما انحرفت عن منهج الله الصحيح.
5- البعد الخامس:(13/5)
للإيمان تأثيرات يعجز العقل القاصر عن فلسفتها.. ونستطيع حصر الأبعاد في:-
أ - الإقدام والتضحية في العمل: انطلاقا من قاعدة فكرية ربانية في التوكل {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا}
ب- التفاني والإخلاص في العمل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} ، وحديث الرسول عليه السلام "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه".
6- البعد السادس:
النفسية المؤمنة المطمئنة، وطريقة تعاملها مع المجتمع المسلم، والمجتمعات القاصرة، وتقبلها حكم الله مهما كانت نتائجه، حيث يعجز العقل الجاهلي عن إيجاد التفسيرات المادية لها:-
أ - السلوك الحميد في الأنماط الاجتماعية المختلفة.
ب-طريقة التعامل في المأكل والمشرب، والمنام بين الأفراد المشتركين في تجمعات المؤاخاة الكشفية المسلمة.. إذ أن طبيعة النفس المؤمنة الشفافة الصافية.. لا تعرف التقزز لشفافية وصفاء الروح المؤمنة.
7- البعد السابع:
تلك هي الأبعاد المحددة.. فإذا ما سقط مفهوم من مفاهيم وركائز تجمعات الإخاء الإسلامية..أو أُبعد.. فإنها تصبح بالتالي.. ضمن تجمعات المجتمع الآخر ومعسكراته.(13/6)
حوار بين الليل والنهار
بقلم الطالب عبد الرحمن شميلة الأهدل
قسم الدراسات
وبدا الصّبح فاستنار الفضاء
أحمد الله ما ادلهمّ المساء
في دجى اللّيل واعتلت جوزاء
وصلاة بعدما لاح برق
ما تغنت وغرّدت ورقاء
تَغْشَ طه واله ثم صحباً
بقريض يحبه النبلاء
ثمّت اقرأ مناظرات اجيدت
ونهار يزينه لألأء
بين ليل مدرع بسواد
وإليكم ما يعشق الأدباء
مستعيناً بمالك الخلق طُرّاً
"الفجر واللّيل "
باسم الويه يعتريه حياء
أشرق الفجر ياله من ضياءٍ
يتمطى (كأنّهُ؟) الدّهمآء
وأتى اللّيل في لباسٍ عجيبٍ
ووقارٍ فها به الحلسآء
ثم حيَّا إخوانه باحترامٍ
فاستمرّا وزادت الضّوضاء
وتمارى مع النّهار قليلا
"الفجر "
أيها الغر طبعك الخيلاء
فانبرى الفجر كالشِّهاب ونادى
وضياءً وأمُّك الطخياء
كيف تستطيع أن تفاخر نورا
وقريش جميعهم فضلاء
حسبك الآن أنني من قريش
"الليل "
بعد صبرٍ وطمّت الظُّلماء
فارتمى الليل آنذاك بتيهٍ
فعمري ما أنت إلا وباء
ثم نادى وقال يا صبح أقصرِ
ليس للحمق في البرايا دواء
أنت يا فجر أحمق متعالٍ
أتجاهلت أم أتاك الغباء
أنا عبد وأنت مثلي عُبَيْد
سورة اللّيل هكذا الجهلاء
تدّعى الفخر بالضّياء وتنسى
فتفطن ما قالت الشعراء
تدّعى اليوم نسبة في قريشٍ
بيِّنات أبناؤها أدعياء
والدّعاوى ما لم تقيموا عليها
إنما ذا تقوله السّفهاء
ثم لو صحَّ ما هناك افتخار
غير فضلٍ يناله الأتقياء
شرعنا الحق جاءنا بالتسّاوي
أفجر الخلق ما هناك خفاء(13/7)
فأبو الجهل أصله من قريشٍ
وبعز وما به كبرياء
وبلال سما بدين وفضلٍ
أم فخار وسؤدد وعلاء
أأديم البلال عيب ونقصٌ
يرزق الله فضله من يشاء
كان فذاً وكان براً تقياً
"الفجر "
ولهيب وهايت الرّمضاء
بزغ الفجر عند ذاك بشر
وتباري كأنه العنقاء
وتلا بعض سورة النصر فألا
أيُّها اللّيل ما يفيد الرياء
ثم أرسى وخاطب اللّيل جهراً
صح بعض وبعض ذاك افتراء
نلت عرضي ولقَنوك مقالاً
فتعاليت أم هي الشَحناء
أوباءً وجدتني وغبيّاً
أيّها اللّيل أم هي البغضاء
أتراني مع الحماقةِ قِرناً
فتطاولت أم دهاك العماء
أسفيها لقيتني جاهليّاً
وبلاء وزالت النّعماء
أيها الليل زادك الله ضراً
أنا نور يجني السعداء
أنا فجر لكلٍ عيش هنيء
وبفضلي تزين الأجواء
أنا حقاً مكلل تاج عزٍ
ولهذا تحبك الأشقياء
إنما أنت ظالم ذو شقاءٍ
وغرور تحفّه الأهواء
ها هو الغرب في فجور وكفر
ثم جاءت في أثره الفحشاء
أنت فيهم نشرت علمك دهراً
وصفاء وما بذاك مراء
وانظر الشّرق مشرقاً بسناءٍ
وقلوب تقية وهداء
فيه عز مرصع بجلال
وأضلُّوا فهم لنا أعداء
غير بعضٍ تصهينوا ثم ضلُّوا
" اللّيل "
أي صوتٍ فرنت الأصداء
صرخ الليل في النهار بصوت
بانتقاصي ولا أتتها الإطراء
أيها الليل ما اشتفيت لليلاً
وتخيَّلت أنني بكاء
أتراني كما (تظنُّ يباناً؟) .
أنا ليث وفي الحروب مضاء
خاب والله ما تظنُّ ولكن
وقناةٍ صار بها العظماء
فأنا الآن واقف بحسامٍ
وغروراً وأنّ ذاك شقاء
قلت في الغرب أنّ فيه فجوراً(13/8)
أيّ ظلم وعمّ فيه البلاء
ثمّ تنسى بأن ّفي الشرق مملماً
يلتقي فيه بالرجال والنساء
أيّها الفجر كم رأينا زقاقا
من شباب تزينه الخنفساء
ثم عيناي آنست فيه فسقا
أين أهل الجهاد والعلماء
إنّ دين الإله حرم هذا
وفساد فأنتم الصلحاء
أنقذوا الدين من سباب دمارٍ
أحقيق محقَّق أم هباء
أيها الفجر هل وعيت مقالي
" الفجر "
وهدوءٍ كأنّه إغماء
نطق الفجر بعد صمت طويل
لهو الحقُّ والطريق السَّواء
أيّها اللّيل إنّ قولك هذا
وحياتي جميعها تعساء
أنا يا ليل في جهادٍ عظيم
تسمع النّصح ما هناك ازدراء
وإذا كنت أيّها اللّيل حقاً
قلَّ فيه الدّعاة والنَّصحاء
فالنجاة النجاة من شرِّ وقتٍ
" الليل "
أيها الفجر ما يفيد الخفاء
أشفق اللّيل عند ذاك ونادى
ونشاطٍ فلا يدوم البقاء
قم بنا الآن للجهاد بجد
"الفجر "
وصفا الودُّ بينهم والإخاء
ضحك الفجر واطمئنَّ بهذا
ونزاع وإن بدت أخطاء
وسماحا لما جرى من شقاق
وصحابٍ ما استوطن الغرباء
ثم صلّوا على الرّسول وآلٍ(13/9)
وداع رمضان
للطالب أحمد حسن المعلم
بعثتها بعد انقطاع
رمضان يا عيث النفوس
من الغرائز والطباع
وغرست فيها ما نحب
فوراً أجل من الشعاع
وبعثت في ظلماتها
وتجنبت طرق الضياع
سارت عليه رشيدة
ما يضر من القناع
فعلى يروقك قد تهتك
كل قلب قلب غير واعي
وعلى رعودك قد يتقطمه
الدنيا بأنواع المراعي
وعلى سيولك عادت
خير في كل البقاع
قرعت نفوس المؤمنين الـ
الله في كل إيساعي
وتسابقت ترجو رضاء
عن التخاصم والنزاع
وتجافت الأرواح فيك
بلا انخفاض وارتفاع
وتساوت الطبقات فيك
فقدروا ألم الجياع
جاعت بطون المترفين
المحتاج تنطح بالمتاع
فامتدت الأيدي إلى
في متاهات الصراع
وجمعت أنفسنا وكانت
ذي الأمر المطاع
وتفرغت لعبادة الرحمن
بعد التنابز والقذاع
لهجت بذكر الله من
على التلاوة والسماع
وتعودت فيك النفوس
يجمعنا بعد اتساع
وملأت مسجدنا فضاق
وما أشدك من وداع
واليوم قد حان الوداع
بالقطيعة والضياع
إنني لينذرني وداعك
أنفس بعد ارتفاع
وأخاف أن تنحط بعد
وجئت احلم باجتماع
وأخالني وقد ارتحلت
ولو أتيت بكل داعي
فإذا الجماعة لا تجيب
قل فيها من يراعي
وإذا بحلقتنا المهيبة
أقفرت من كل ساعي
وإذا الطريق إلى المساجد
يعود مأوى للأفاعي
وإذا بمسجدنا الفسيح
إلى القبيح من المساعي
وإذا بأنفسنا تعود
بعد طهر وامتناع
وإذا بالسنتا تلوث
للتناحر والنزاع
وإذا بنا نرتد بعدك(13/10)
الفتاوى
الفرق بين الصدقة والهدية
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم (ف: ن:م) وفقه الله لكل خير, آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، بعده:-
كتابكم وصل وصلكم الله بهداه، وما تضمنه من الإفادة أنكم علمتم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية، ولا يقبل الصدقة، وسؤالكم عن الفرق بين الصدقة وبين الهدية، والإعانات والهبات؟، وهل يشمل تحريم الصدقة أهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم؟، وهل يشمل ذلك نسل فاطمة ابنته؟، وما هو طريق ثبوت النسب الشريف كان معلوماً؟.
والجواب: الفرق بين الهدية والصدقة، أن الهدية تحفة لا يدفع إليها إلا المحبة والتقدير بخلاف الصدقة التي إنما يكون الدافع إليها العطف والإحسان وطلب الثواب من الله سبحانه، ولهذا أحلت الهدية له صلى الله عليه وسلم وحرمت عليه الصدقة، وهكذا أهل بيته تبع له في ذلك, ومنهم نسل فاطمة ابنته رضي الله عنها، أما الإعانات والهبات فحكمها حكم الصدقة لا الهدية إن كان صاحبها أراد بها المواساة وطلب الثواب من الله سبحانه، أما إن كان أراد بها التودد إلى المعان والموهوب أو طلب المكافأة منه فهذه في حكم الهدية لأن المهدى إليه يشرع له مكافأة المهدي أو الدعاء له عند العجز عن المكافأة، أما صاحب الصدقة فليس قصده إلا الثواب من الله سبحانه, وليس قصده المكافأة المالية أو التودد والتحبب إلى المهدى إليه، وأما طريق ثبوت النسب الشريف، فذلك يعرف من أمور كثيرة:
النص من المؤرخين الثقات أن البيت الفلاني أو آل فلان من أهل البيت ويعرف أن الشخص الذي يشته فيه من أهل ذلك البيت المنصوص عليه من المؤرخين الثقات.
أحدها:(13/11)
أن يكون بيد من يدعي أنه من أهل البيت وثيقة شرعية من بعض القضاة المعتبرين أو العلماء الثقات أنه من أهل البيت، ومنها الاستفاضة عند أهل البلد أن آل فلان من أهل البيت.
ومنها:
وجود بينه عادلة لا تنقص عن اثنين تشهد بذلك، مستندة في شهادتها إلى ما يحسن الاعتماد عليه من تاريخ موثوق أو وثائق معتبرة أو نقل عن أشخاص معتبرين، وأما مجرد الدعوى التي ليس لها مبرر فلا ينبغي الاعتماد عليها لا في هذا ولا في غيره، لكن الشخص الذي يدعي ذلك وهو يعلم أنه صادق بحسب ما قام لديه من الأدلة، فإن عليه أن يمتنع من أخذ الزكاة عملا باعتقاده، ولا يجوز لغيره من العارفين بدعواه أن يدفع إليه الزكاة معاملة له بمقتضى إقراره لكونه بمقتضى إقراره ليس من أهل الزكاة.
ومنها:
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
مآثر الإسلام في الهند
صرّح (الباندت بشمن ناته باندى) عضو البرلمان الهندي بمدينة (اله آباد) : "أنّ الإسلام يعلم دروس الوحدة والتآخي. والنظرية التي عرضها النبي الخاتم على الإنسانية حول القومية والمحبة إنما هي من أمثل الوجهات منقطعة النظير في العالم". وأضاف قائلا: "بأن المستعمرين البريطانيين قدموا الحقائق التاريخية مشوهة, وشوّهوا مآثر الإمبراطورية الإسلامية لغرس النفاق والشقاق بين الشعوب الهندية، وقد شوهوا بخاصة الأعمال الناصعة التي قام بها الملك (أورنك زيب) ".(13/12)
أخبار الجامعة
افتتحت كلية الحديث الشريف في الجامعة الإسلامية يوم الأحد الموافق 24/10/1396هـ. وقد ألقى صاحب الفضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد نائب رئيس الجامعة كلمة بهذه المناسبة, أشاد بأهمية هذه الكلية, وأهمية علم الحديث ومنزلته من بين علوم الشريعة, كما أشار فضيلته إلى أن هذه الكلية هي الأولى من نوعها في العالم الإسلامي, وأن تأسيسها جاء وفقاً لأمنية كثير من رجال العلم والفكر في العالم الإسلامي, وأن هذه الكلية –إن شاء الله- ستكون محققة لآمال وتطلعات أهل العلم والفكر في العالم الإسلامي. ومما تجدر الإشارة إليه أن هذه الكلية هي الكلية الخامسة من كليات الجامعة.
والكلية الأولى هي كلية الشريعة, وقد أسست عام 1381هـ. والثانية كلية الدعوة وأصول الدين, وقد أسست عام 1386هـ. والثالثة كلية القرآن الكريم, وقد أسست عام 1394هـ. والرابعة كلية اللغة العربية والآداب ,وقد أسست عام 1395هـ.
ونسأل الله العلي القدير أن تؤدي هذه الكلية ثمارها المنشودة, وأن تحقق آمالها المرجوة, وصلى الله عليه وسلم على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه..
الدكتوراه لعميد كلية الشريعة
نوقشت الرسالة المقدمة لكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر من فضيلة الشيخ محمد الوائلي عميد كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية في الثامن عشر من رمضان وموضوعها (ابن رجب الحنبلي وأثره في الفقه) , ففازت بدرجة الامتياز من مرتبة الشرف الأولى مع التوصية بطبعها وتبلغ صفحاتها 698 صفحة.
والشيخ الوائلي من أبناء الجامعة الإسلامية فقد حصل على إجازة كلية الشريعة "الليسانس"عام 1388هـ. وكان ترتيبه الأول في جميع مراحل دراسته.
والماجستير للشيخ ربيع بن هادى(13/13)
كما نوقشت الرسالة المقدمة من الشيخ ربيع بن هادي المدخلي لنيل "الماجستير"من قسم الدراسات العليا بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة المكرمة، وموضوعها (بين الإمامين مسلم والدارقطني في الأحاديث التي انتقدها الدارقطني على مسلم) , وفازت بدرجة جيد جداً, وعدد صفحاتها 677هـ. صفحة.
وحشية اليهود
يقول لوبون: "لم يكن لليهود فنون ولا علوم ولا صناعة ولا أي شيء تقوم به حضارة، واليوم لم يأتوا قط بأية مساعدة مهما صغرت في شيد المعارف البشرية، واليهود لم يجاوزوا قط مرحلة الأمم شبه المتوحشة التي ليس لها تاريخ.
وتاريخ اليهود الكئيب لم يكن غير قصة لضروب المنكرات، فمن حديث الأسارى الذين كانوا ينشرون بالمنشار أحياء، أو الذين كانوا يشوون في الأفران، إلى الملكات اللائي كنّ يطرحن لتأكلهن الكلاب، فإلى سكان المدن الذين كانوا يذبحون من غير تفريق بين الرجال والنساء والشيب والولدان".
و"تأثير اليهود في الحضارات صفر.. وأنّ اليهود لم يستحقوا بأي وجه أن يعدوا من الأمم المتمدنة".
و"لا نجد شعبا عطل من الذوق الفني كما عطل اليهود..".
و"لا أثر للرحمة في وحشية اليهود، فكان الذبح المنظم يعقب كل فتح مهما قل، وكان الأهالي يوقفون فيحكم عليهم بالقتل دفعة واحدة, فيبادون باسم يهود، من غير نظر إلى الجنس ولا إلى السن، وكان التحريق والسلب يلازمان سفك الدماء".
من كتاب (مؤامرة الصهيونية على العالم) تأليف: أحمد عبد الغفور عطار، ص28.(13/14)
أبو بكر الباقلاني ومفهومه للإعجاز القرآني
بقلم الدكتور أحمد جمال العمري
الأستاذ المساعد بكلية الدعوة وأصول الدين
يمثّل الباقلاني [1]- بمفهومه للإعجاز القرآني، وبمؤلّفه (إعجاز القرآن) - وجهة نظر جماعة المسلمين. ويعدّ كتابه هذا أول كتاب يصنفه عالم من علماء السلف في الرد على مزاعم الملحدين والمخالفين من الرافضة والمعتزلة والجهمية والخوارج وغيرهم، لذلك بلغ بهذا الكتاب مكانة مرموقة، وشهرة ذائعة، لم يصل إليها أحد غيره.
وقبل أن نتحدث عن مفهوم الباقلاني للإعجاز القرآني.. نوَدُّ أولا أن نتعرف عليه.
اسمه: محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم.. أبو بكر القاضي الباقلاّني البصري المتكلم الفقيه.
الباقلاّني [2] :. نسبة إلى البَاقِليّ وبيعه.
والبصري.. لأنه نشأ في البصرة، وقضى فيها فترة شبابه، قبل أن يهاجر منها إلى بغداد ليقيم فيها بقية حياته.
والمتكلّم.. لأنه اتجه إلى علم الكلام نظرا لكثرة الملحدين في العراق في القرن الرابع الهجري، وظهور مذهب أبي الحسن الأشعري [3] ، ودفاعه عن آرائه، وجداله الشديد للمعتزلة وأنصارهم يقولون إنه كان أعرف الناس بعلم الكلام، وأحسنهم خاطراً، وأجودهم لسانا، وأوضحهم بيانا، وأصحهم عبارة.. وله في كتب الكلام آراء كثيرة يعتد بها.
والفقيه.. لأنه كان من كبار فقهاء المذهب المالكي..(13/15)
ويعد الباقلاني فيلسوف المذهب الأشعري، الذي بلور آراءه، ونفّذ تعاليمه, يقول ابن تيمية: "إنه أفضل المتكلمين المنتسبين إلى أبي الحسن الأشعري وليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده [4] ", "عمل على نصرة المذهب، وصار إماما له بعد أن تناوله بالتهذيب، وضع لمسائل العلم المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة، وذلك مثل إثبات الجوهر الفرد والخلاء، وأن العرض لا يبقى زمانين، وجعل هذه القواعد تبعا للعقائد الدينية في وجوب اعتقادها.. لتوقف تلك الأدلة - في رأيه – عليها؛ ولأن بطلان الدليل يؤذن - يما يقول- ببطلان المدلول [5] ". وكان –كما يقول الشهرستاني: "يثبت الصفات معاني قائمة به تعالى أحوالا [6] ".
ذكاؤه وقوة لَسْنُه:
تتحدث المصادر كثيرا عن ذكاء الباقلاّني، وقوة لسنة وحجته، وسرعة بديهته، وإقحامه للخصوم.. أرسله عضد الدولة في سفارة رسمية إلى ملك الروم عام 371هـ فأدخلوه وهو في عاصمة الروم على بعض القسس, فقال الباقلاني للبابا:
كيف أنت وكيف الأهل والأولاد؟ فتعجب البابا وقال له: ذكر من أرسلك في كتاب الرسالة، أنك لسان الأمة، ومتقدم على علماء الملة.. أما علمت أن المطارنة والرهبان منزهون عن الأهل والأولاد؟ فأجابه الباقلاني: رأيناكم لا تنزهون الله سبحانه عن الأهل والأولاد.. فهل المطارنة عندكم أقدس وأجلّ وأعلى من الله سبحانه؟
فأراد كبير الروم أن يخزي القاضي الباقلاني، فقال له: أخبرني عن قصة عائشة زوج نبيّكم وما قيل فيها؟ فأجابه: هما اثنتان قيل فيهما ما قيل، زوج نبينا، ومريم أم المسيح، فأما زوج نبينا فلم تلد.. وأما مريم فجاءت بولد تحمله على كتفها، وقد برأهما الله مما رميتا به.. فانقطع الرومي ولم يحر جوابا [7] !!.(13/16)
ولقد ذكرت المصادر أن الباقلاني كان في علمه أوحد زمانه، وانتهت إليه الرياسة في مذهبه، وكان موصوفا بجودة الاستنباط وسرعة الجواب, كثير التطويل في المناظرة.. أكسبته عقليته الفذة منزلة رفيعة، ومكانة مرموقة على المستوى العلمي والرسميّ.
"جرى يوما بينه وبين أبي سعيد الهاروني مناظرة، وأكثر القاضي أبو بكر فيها الكلام، ووسع العبارة، وزاد في الإسهاب، ثم التفت إلى الحاضرين وقال: "اشهدوا علي أنه إن أعاد ما قلت لا غير.. لم أطالبه بالجواب.."فقال الهاروني: اشهدوا عليّ أنه إن أعاد كلام نفسه سلمت له ما قال" [8] .
شيوخه ومعاصروه:
تلمذ الباقلاني على مجموعة من العلماء كان لهم أكبر الأثر في تغذية عقليته، وصقل موهبته، وتنوع اهتماماته العلمية, منهم:
ابن مجاهد الطائي, وعنه أخذ علم الكلام والفقه المالكي وأصوله.
والشيخ الصالح أبو الحسن الباهلي الذي أخذ عنه علم الأشعري.
ومحمد الأبهري المالكي، والحسين النيسابوري، وأبو بكر بن مالك، وأبو محمد بن ماسي، والقطيعي وغيرهم من أعلام القرن الرابع الهجري في الدين والشريعة [9] .
كما عاصر الباقلاني مجموعة غير قليلة من العلماء النابهين الذين كان لهم شأنهم في تيار الثقافة الإسلامية, من هؤلاء: إبراهيم بن محمد الإسفراييني (توفي سنة 418هـ) , وأبو بكر محمد بن الحسن فورك "توفي سنة 406هـ"وغيرهما من الأعلام الذين شهد لهم بالمقدرة العلمية. وقد وصفهم الصاحب ابن عباد بقوله: "ابن الباقلاني بحر مغرق، وابن فورك صل مطرق [10] والإسفراييني نار تحرق."
تلاميذه:(13/17)
أما تلاميذه فهم كثيرون.. يكفي أن نعلم أن الرجل كان يبذل علمه في جامع المنصور ببغداد حيث كانت له حلقة كبيرة، يتحلق فيها مقدرو علمه وطالبو فضله. بيد أن أشهر تلاميذه ما ذكرتهم المصادر القديمة وهم أبو عبد الله الأزدي، وأبو طاهر البغدادي اللذان هاجرا إلى المغرب العربي – القيروان – ونشرا علمه هناك.
آثاره:
أنتجت عقلية الباقلاني مجموعة كثيرة من الكتب الدينية ذات الصبغة الكلامية، والتي تتناول الرد على المخالفين والملحدين والمتفلسفين. يقولون أنه صنف سبعين ألف ورقة في الدفاع عن الدين.. كل ليلة خمسة وثلاثين ورقة, كل ذلك إظهاراً لعلم الرجل، وإبرازاً لمكانته الدينية والعلمية, بيد أن أشهر كتبه على الإطلاق هو كتابه (إعجاز القرآن) الذي حدّد فيه مفهومه للإعجاز القرآني وقد طبع هذا الكتاب مراراً في القاهرة.
ويروى أن له كتابا في (الملل والنحل) وكتابا آخر ذكره صاحب كشف الظنون واسمه (هداية المسترشدين في الكلام) كما ذكرت المصادر له (كتاب الانتصار) و (كتاب التمهيد في الرد على الملحدة والمعطلة والرافضة والخوارج) وقد نشر الكتاب الأخير الأستاذان محمود محمد الخضري ومحمد عبد الهادي أبو ريدة.
وفاته:
مات القاضي أبو بكر محمد بن الطيب في يوم السبت لسبع بقين من ذي القعدة سنة ثلاث وأربعمائة (403هـ) - رحمه الله -.
مفهوم الباقلاني للإعجاز القرآني(13/18)
وهب الباقلاني حياته وعلمه للدفاع عن عقيدة السلف، والرد على المخالفين والملحدين من الجهمية والمعتزلة والخوارج وغيرهم. وتعدّ آراء الباقلاني في كتابه (عجاز القرآن) الترجمة العلمية لما جال في خاطره، ولما اعتمل في ذهنه من أمور، حيث وجد أن أنسب ما يمكن أن يقال، هو التأليف حول إعجاز القرآن، وما يربط بهذا الإعجاز من مفاهيم ومضامين، فجاء كتابه من أفضل الكتب العلمية التي تناولت هذا الموضوع.. معبراً عن آراء السلف من علماء القرن الرابع.
لقد اعتبر الرجل تأليفه لهذا الكتاب واجباً دينيا في المرتبة الأولى.. إلى جانب كونه واجبا علميا، لذلك لم يدخر وسعاً، وهو بصدد تحليلاته..من أن يعمق البحث، ويكثر من المناقشة، ويتطرق إلى الكثير من المسائل التي تهمه وتهم الناس, وفي الوقت نفسه ترد على مظان الظانين، وتبطل أقوال الطاعنين.
حدد الباقلاني في فاتحة كتابه.. منهجه في البحث، وغايته منه، بأنه يرمي من وراء ذلك إلى عدة أمور..
- كشف ما كان لأصل الدين قواما.. ولقاعدة التوحيد عماداً ونظاماً.
- وإثبات أن ما جاء به النبي صدقا وبرهانا، ولمعجزته ثبتا وحجة، للرد على ما طعن فيه الطاعنون والملحدون حول أصول الدين.
- ثم نفي كل ما تقوّله المتقولون عن معادلة القرآن وموازنته بالشعر.. اعتمادا على ما توارثوه من أقوال ملحدة قريش وغيرهم.
فإذا ما انتهى من تحديد منهجه وعناصر بحثه، انتقل إلى تفصيل دقائقها حتى يمكنه إحكام القول في هذا الشأن. لذلك قسّم الباقلاني بحثه في إعجاز القرآن.. إلى أربع مراحل أساسية، كل مرحلة توصل إلى ما بعدها وترتبط بها، حتى يتسم عمله بطابع الوضوح، والتكامل الموضوعي والعلمي في آن واحد.
1- مرحلة التمهيد.
2- مرحلة التفنيد.
3- مرحلة التحديد.
4- مرحلة التأييد.(13/19)
في المرحلة الأولى: جعل هدفه تنشيط الهمم وتحفيزها على تدارك كتاب الله ثم الدفاع عنه وردّ كل ما أذيع حوله من أباطيل وأكاذيب، ثم التعريض بما ألف حول إعجاز القرآن، وخالف ما عليه أهل السلف عامة.
لقد رأيناه يصدِّر كتابه بمقدمة تمهيدية، يحث فيها المسلمين على تدارك كتاب ربهم، وفهم مضمونه ومشموله للوقوف في وجه الملحدين والمضللين (الذين خاضوا في أصول الدين) وشكّكوا ضعاف الإيمان واليقين. واتخذ سبيلا لذلك إبراز أهمية القرآن الكريم من حيث هو كتاب الله، ومن حيث هو حجة النبوة، ودليل على صدق الدعوة، وصدق النبوة.
وبدأ هذا الأمر بتحفيز أهل الدين على النهوض بواجبهم المقدس نحو الله والناس.. قال: "ومن أهم ما يجب على أهل دين الله كشفه، وأولى ما يلزم بحثه، ما كان لأصل دينهم قواماً، ولقاعدة توحيدهم عماداً ونظاماً، وعلى صدق نبيهم –صلى الله عليه وسلم- برهانا، ولمعجزته ثبتا وحجة، ولا سيما أن الجهل ممدود الرواق، شديد النفاق، مستول على الآفاق، والعلم إلى عفاء ودروس، وعلى خفاء وطموس، وأهله في جفوة الزمن البهيم، يقاسون من عبوسه لقاء الأسد الشتيم، حتى صار ما يكابدونه قاطعا عن الواجب من سلوك مناهجه، والأخذ في سبله، فإن الناس بين رجلين: ذاهب عن الحق ذاهل عن الرشد، وآخر مصدود عن نصرته، مكدود في صنعته، فقد أدى ذلك إلى خوض الملحدين في أصول الدين، وتشكيكهم أهل الضعف في كل يقين" [11] .
ويتناول الباقلاني بعد ذلك ما أذاعه الملحدون والمغرضون حول القرآن من أباطيل وافتراءات سبق أن وردت على ألسنة مشركي قريش، منذ أن أنزل الله القرآن على قلب نبيّه.. فنراه يسفّه آراء هؤلاء الملحدين، ويصفهم بالجهل.. والبعد عن الرشد ذلك أن مشركي مكة من قريش قد تابوا وأنابوا، فأسلموا ورجعوا عن غيهم، أما هؤلاء الملحدون فهم على جهلهم ونزقهم وتعصبهم الأعمى الذي لا يستند إلى دليل.(13/20)
والباقلاني - وهو بصدد مواجهة هؤلاء الملحدين والمغرضين- يلقى اللوم على علماء العصر، خاصة مَنْ اشتغل منهم باللغة وعلم الكلام، ولم يلتفت إلى توضيح وجوه الإعجاز القرآني، والكشف عن أسرارها، ويحملهم تبعة من خلط في هذه المسائل، متأثرين ببعض مذاهب البراهمة, يقول: "وقد قصّر بعضهم في هذه المسألة - أي مسألة إعجاز القرآن -، حتى أدى ذلك إلى تحوّل قوم منهم إلى مذاهب البراهمة فيها، ورأوا أن عجز أصحابهم عن نصرة هذه المعجزة، يوجب ألا يستنصر فيها ولا وجه لها، حين رأوهم قد برعوا في لطيف ما أبدعوا وانتهوا إلى الغاية فيما أحدثوا ووضعوا، ثم رأوا ما صنفوه في هذا المعنى غير كامل في بابه، ولا مستوفي في وجهه قد أخل بتهذيب طرقه، وأهمل ترتيب بيانه" [12] .
بيد أنه يلتمس لبعضهم الأعذار، لأن البحث فيها - أي في مسائل الإعجاز ووجوهه- لم يكن يتيسّر إلا لمن كدّ فكره وأعمل عقله.. وأعدّ لهذه الدراسة نفسه..
"وقد يعذر بعضهم في تَفْريط يقع منه، وذهاب عنه، لأن هذا الباب مما لا يمكن إحكامه إلاّ بعد التقدم في أمور شريفة المحل، عظيمة المقدار، دقيقة المسلك، لطيفة المأخذ.." [13]
وفي هذه المرحلة التمهيدية، وقبل أن يبدأ في تنفيذ مخططه، وتوضيح المسائل التي ذكرها في مقدمته، يجد الباقلاني بدافع من غيرته على آراء السلف، وإيمانه الراسخ بها، أن يعرض بكتب الفرق الكلامية الأخرى، خاصة المعتزلة، وقد وجد بغيته في كتاب الجاحظ المعتزلي (نظم القرآن) فوصفه بالقصور والسطحية، وعدم الموضوعية، وأنه لم يأت فيه بجديد، بل هو صنف الجاحظ في نظم القرآن كتابا [14] ، لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون قبله [15] ولم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى"يقصد الكشف عن وجوه الإعجاز القرآني وسرها.(13/21)
وواضح.. أن الباقلاني – السلفي - متأثر في هذا القول بعقيدته، وبما قاله أصحابه الأشاعرة. وهنا يقف الباقلاني، ليذكر "جملة من القول جامعة تسقط الشبهات، وتزيل الشكوك التي تعرض للجهال، وتنتهي إلى ما يخطر لهم، ويعرض لأفهامهم من الطعن في وجه المعجزة" [16]
فتناول مجموعة من القضايا العلمية الهامة التي تتصل بموضوع الإعجاز منها: "ما يجب وصفه من القول في تنزيل متصرفات الخطاب، وترتيب وجوه الكلام، وما تختلف فيه طرق البلاغة، وتتفاوت من جهته سبل البراعة، وما يشتبه له ظاهر الفصاحة، ويختلف فيه المختلفون من أهل صناعة العربية، والمعرفة بلسان العرب في أصل الوضع، ثم ما اختلفت به مذاهب مستعمليه في فنون ما ينقسم إليه الكلام من شعر ورسائل وخطب، وغير ذلك من مجاري الخطاب، وإن كانت هذه الوجوه الثلاثة أصول ما يبين فيه التفاصح وتقصد فيه البلاغة لأن هذه أمور يتعمل لها في الأغلب ولا يتجوز فيها. ثم من بعد هذا الكلام الدائر في محاوراتهم، والتفاوت فيه أكثر لأن التعمل فيه أقل، إلا من غزارة طبع، أو فطانة تصنع وتكلف.. ونشير إلى ما يجب في كل واحد من هذه الطرق، ليعرف عظم محل القرآن، وليعلم ارتفاعه عن مواقع هذه الوجوه، وتجاوزه الحد الذي يصح أو يجوز أن يوازن بينه وبينها، أو يشتبه ذلك على متأمل" [17] .
ثم يستطرد الباقلاني كلامه ذاكراً، أنه يعرف تماما أن هذه المسائل لا يستوعبها إلا مَنْ كدَّ فكره، وأعمل عقله، وكان هو أصلا من أهل صناعة العربية، قد وقف على جمل من محاسن الكلام ومتصرفاته ومذاهبه، وعرف جملة من طرق المتكلمين، ونظر في شيء من أصول الدين، وإنما ضمّن الله عز وجل فيه البيان لمثل ما وصفناه، فقال: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} [18] وقال: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [19] .(13/22)
إذن، فقد خصّ الباقلاني كتابه بالصفوة المختارة من الباحثين والمتأدبين والعلماء والمثقفين وليس للعامة أو الجهال، وهذا هو محور بحث الرجل، إنه يخاطب فئة معينة من الواعين.
فإذا ما انتهى الباقلاني من هذه المرحلة التمهيدية، وبين هدفه ومبتغاه، انتقل إلى المرحلة التالية.. مرحلة التفنيد.. فقسّم بحثه إلى فصول متوالية، كل فصل يرتبط بما بعده، ويوصل إليه أيضا.. وفي الوقت نفسه يتصل بما قبله. تناول في كل فصل منها ناحية من النواحي التي وعد ببحثها, تمهيداً لإبراز وجوه الإعجاز القرآني.
فافتتح هذه الفصول بفصل تحدث فيه عن نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم-, وأنّ معجزتها القرآن, فالرسول وإن كان قد أيّد بعد ذلك بمعجزات جمّة، لا يمكن إنكارها.. إلاّ أنّ معجزة القرآن "كانت معجزة عامة، عمّت الثقلين [20] ، وبقيت بقاء العصرين [21] ، ولزوم الحجة بها في أول وقت ورودها إلى يوم القيامة على حد واحد، وإن كان قد يعلم بعجز أهل العصر الأول عن الإتيان بمثله وجه دلالته".
ويذكر الباقلاني.. أنه ما خصّص هذا الفصل ولا ألّفه إلاّ للرد على المتكلمين، وتفنيد مزاعمهم.. "لما حكى عن بعضهم أنه زعم أنه وإن كان قد عجز عنه أهل العصر الأول، فليس أهل هذا العصر الأول في الدلالة لأنهم خصّوا بالتحدي دون غيرهم".
ويبيِّنُ الباقلاني خطأ هذا الزعم، ويستدل على ذلك بأدلة من القرآن نفسه وبآيات بينات تثبت أن الله -سبحانه وتعالى- حين ابتعث نبيه، جعل معجزته القرآن، وبنى أمر نبوته عليه.
من ذلك قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [22] فأخبر أنه أنزله ليقع الاهتداء به، ولا يكون كذلك إلا وهو حجة، ولا تكون حجة إن لم تكن معجزة..(13/23)
ويرى الباقلاني أنه ما من سورة افتتحت بذكر الحروف المقطعة [23] ، إلا وتدلّ على هذه المعجزة، بل إنّ كثيرا من السور إذا تؤمل - فهو من أوله إلى آخره- مبني على لزوم حجة القرآن والتنبيه على وجه معجزته. ويستشهد على ذلك بسورة المؤمن [24] ، ويحلّلها تحليلا دقيقا يبرز فيها أسرار الإعجاز.
ولا يترك الباقلاني إثبات أنّ نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - مبنية على دلالة معجزة القرآن دون أن يبيِّن ويحدِّد وجه هذه الدلالة.. لذلك أعقب هذا الفصل بفصل في الدلالة على أن القرآن معجزة [25] في ذاته. وقد اعتمد الباقلاني في تبيين وجه الدلالة على أصلين اثنين:
أولهما: إثبات أن القرآن - الذي هو متلو محفوظ مرسوم في المصاحف - هو الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم, وأنه هو الذي تلاه على مَنْ في عصره ثلاثا وعشرين سنة.
ودليل الباقلاني على ذلك.. هو النقل المتواتر، الذي أنه قام به في المواقف، وكتب به إلى البلاد، وتحمّله عنه إليها من تابعه، وأورده على غيره من لم يتابعه، حتى ظهر فيهم الظهور الذي لا يشتبه على أحد، ولا يحتمل أنه قد خرج من أتي بقرآن يتلوه، ويأخذه على غيره, ويأخذ غيره على الناس، حتى انتشر ذلك في أرض العرب كلها, وتعدّى إلى الملوك المصاقبة لهم، كملك الروم والعجم والقبط والحبش وغيرهم من ملوك الأرض.
والأصل الثاني.. هو التحدي.. الذي واجه العرب به؛ ذلك أنه تحداهم إلى أن يأتوا بمثله, وقرعهم على ترك الإتيان به طول السنين التي وصفناها فلم يأتوا بذلك.(13/24)
ويستدل الباقلاني على صحة هذا الأصل بما تضمنه القرآن من آيات التحدي, من مثل قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [26] , جعل عجزهم عن الإتيان بمثله دليلا على أنه منه، ودليلا على وحدانيته.
ولقد كانت قضية التحدي مثار اهتمام الباقلاني.. خاصة وهو بصدد الدفاع عن القرآن، فنراه يشبعها تحليلا وتدليلا، إثباتا لصدق النبوة، وتدعيما لوجه الدلالة، وردّا على الملحدين والمتكلمين عامة، والمعتزلة خاصة، الذين أثاروا قضية (الصرفة) .
فإذا ما أثبت الباقلاني معجزة النبوة, وإذا ما أصّل الأصول التي اعتمدها في بيان وجه الدلالة على أن القرآن معجز في ذاته.. انتقل الباقلاني إلى صلب موضوعه وهو تحديد وجوه إعجاز القرآن.. وهنا تبدأ المرحلة الثالثة.. مرحلة التحديد، بعد أن اجتاز مرحلتي التمهيد، والتفنيد.
يقرّر الباقلاني في الفصل الثالث من كتابه (إعجاز القرآن) أن هذا الإعجاز إنما يردّ إلى ثلاثة أوجه:
1- تضمنه الإخبار عن الغيوب.
2- وما فيه من القصص الديني وسير الأنبياء مما روتْهُ الكتب السماوية مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان أميّا لا يقرأ ولا يكتب.
3- ثم بلاغته.(13/25)
فأما الوجه الأول: فقد استدل عليه بما وعد الله تعالى نبيه عليه السلام أنه سيظهر دينه على الأديان بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [27] ففعل ذلك.. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا أغزى جيوشه عرفهم ما وعدهم الله من إظهار دينه ليثقوا بالنصر، ويستيقنوا بالنجح، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفعل كذلك في أيامه حتى وقف أصحاب جيوشه عليه ...
وأما الوجه الثاني: فإنه معلوم من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان أميّاً لا يكتب ولا يحسن أن يقرأ، وكذلك كان معروفا من حاله أنه لم يكن يعرف شيئا من كتب المتقدمين وأقاصيصهم وأنبائهم وسيرهم، ثم أتي بجملة ما وقع وحدث من عظيمات الأمور، ومهمات السير، من حين خلق الله آدم عليه السلام إلى حين مبعثه.
وأما الوجه الثالث.. فإنه بديع النظم، عجيب التأليف، متناه في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه..
ولما كان الباقلاني من علماء اللغة والأدب والبلاغة، فقد ركّز شرحه على هذا الوجه الأخير، فتحدث عن جمال نظم القرآن حديثا مسهبا.. يتضح منه مفهومه ونظريته في إعجاز القرآن.
إنه لم يرض أن يترك هذا الوجه دون أن يحدّد قسماته ويبيّن معالمه، ويوضّح سماته، وما عناه بالنظم، من هنا وجدناه يحلّل هذا الوجه البلاغي تحليلا دقيقا، ينمّ عن سعة إطلاع ورسوخ في العلم، ودقة في الفهم معاً..
لقد أرجع الباقلاني جمال النظم القرآني إلى مجموعة وجوه تتسم بالدقة والعمق، وتدل على ترابط جزئيات الموضوع في ذهنه.. منها ما يرجع إلى الجملة، ومنها ما يرجع إلى الفصاحة، ومنها ما يرجع إلى النظم، واستوائه وحسن رصفه، ومنها ما يرجع إلى غزارة المعاني، ومنها ما يرجع إلى تأثير الكلمة في الأسماع..(13/26)
وواضح من تقسيماته وتفريعاته أنه متأثر في الشطر الأول من نظريته بفكرة الجاحظ، التي ذهب فيها إلى أن مرجع الإعجاز في القرآن إلى نظمه وأسلوبه العجيب المباين لأساليب العرب في الشعر والنثر وما يُطْوى فيه من سجع [28] .
وأما في الشطر الثاني فقد تأثر الباقلاني بفكرة الرُّمَّاني، التي ذهب فيها إلى أن القرآن يرتفع إلى أعلى طبقة من طبقات البلاغة [29] .
وعلى الرغم من أن الباقلاني قد اشبع هذه الوجوه العشر البلاغية شرحا وتحليلا وتفسيرا وتمثيلا, وألحق بكل منها ما يؤيد وجهة نظره، واستشهد بالكثير من الشواهد الشعرية والنثرية.. والآيات القرآنية.. إلاّ أنه وجد أنّ هذا الشرح غير كاف، وهذا التعليل غير شاف، فنراه يلحق بهذا الفصل الثالث فصلا رابعا، لا يتناول فيه موضوعا جديداً، بل إنه يعاود شرح ما سبق أن ذكره وبيّنه من وجوه، وواضح أنه قد فاته بعض المسائل لم يستطع أن يدرجها أثناء الشرح فألحقها به. إنه يتناول وجهاً وجهاً من الوجوه الثلاثة التي حددها للإعجاز القرآني ليعاود الكلام عليها ولكن بتركيز شديد وبشواهد جديدة.. ثم يختم هذا الفصل التفسيري المركّز بالكلام عن الإعجاز الواقع في النظم والتأليف والرصف.. ويجعل من حديثه هذا منطلقا لبدء المرحلة الأخيرة وهي مرحلة التأييد والإثبات، وتقديم المبرهنات والمؤيدات.
لقد ذكر الباقلاني مجموعة من العناصر التي جعلت من نظم القرآن وجها من وجوه الإعجاز.. منها: "أنه نظم خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلامهم، ومباين لأساليب خطابهم, ومن ادّعى ذلك لم يكن له بد من أن يصحّح أنه ليس من قبيل الشعر ولا السجع ولا الكلام الموزن غير المقفى".
وهنا نجده يشير إلى نقطة الانطلاق التي سيبدأ منها الدفاع.. فيقول:(13/27)
"لأن قوماً من كفار قريش ادّعو أنه شعر، ومن الملحدة من يزعم أن فيه شعرا، ومن أهل الملة من يقول: إنه كلام مسجع إلا أنه أفصح ممّا قد اعتادوه من أسجاعهم.. ومنهم من يدّعي أنه كلام موزون فلا يخرج بذلك عن أصناف ما يتعارفونه من الخطاب" [30]
إذن فخطة الباقلاني في المرحلة الثالثة أن ينفي الشعر عن القرآن, ثم ينفي السجع عن القرآن، ثم يذكر الصور البيانية، والعناصر الجمالية التي يمكن أن يقع بها إعجاز القرآن. وهذا ما فعله الباقلاني تدعيما لوجوه الإعجاز وتأييداً لما ذهب إليه من آراء أثناء ردِّه على المزاعم التي قيلت حول القرآن.
وفي الحقيقة لم يكن نفي السجع عن القرآن من بنات أفكاره.. ولكنه ردَّد ما ذكره الرمّاني من أن فواصله تباين السجع مباينة تامة، إذ الفواصل تتبع المعنى، أمّا السجع فيتبعه المعنى، ومن أجل ذلك يتضح فيه التكلّف والثقل [31] .
بعد أن انتهى الباقلاني من دفاعه عن القرآن، انتقل إلى موضوع آخر وهو: الطريق إلى معرفة الإعجاز.. أو كيفية الوقوف على إعجاز القرآن. وهو كعادته حين يتصدى لموضوع ما يتساءل: هل يمكن أن يعرف إعجاز القرآن من جهة ما يتضمنه من البديع؟
وهنا نلاحظ أنه لا يقصد بالبديع المعنى الاصطلاحي المعروف, إنما يقصد ما جاء في القرآن من ألوان الجمال المعنوي التي تشملها علوم البلاغة.
وهو في هذا الفصل يحدّد الأبواب والفصول التي ذكرها أهل الصنعة، ومن صنّف في هذا المعنى - يقصد الإعجاز القرآني - ثم يبيّن ما عجزوا عن فهمه أو الوصول إلى كنهه، ليكون الكلام – على حد تعبيره - "وارداً على أمرٍ مبين، وباب مصور".(13/28)
ثم يستعرض العناصر البلاغية التي تناولها القوم، وذكروها بوصفها النوافذ التي يمكن من خلالها أن يطلُّوا على آيات الإعجاز القرآني.. فنراه يتحدث كما تحدث البلاغيون السابقون من أمثال ابن المعتز وأبي هلال العسكري عن الاستعارة، والتشبيه، والإرداف, والمماثلة ويذكر المطابقة والجناس، ويذكر ضرباً يسميه (الموازنة) , وهي مما زاده قدامة بن جعفر [32] في كتابه (جواهر الألفاظ) من حسن البلاغة، وقد سمّاها (اعتدال الوزن) .
ويذكر الباقلاني أيضا (المساواة) على أنها ضرب من البديع، مقتديا بقدامة في هذا الصنيع، وتأثره في حديثه عقب ذلك عن (الإشارة) و (المبالغة) و (الغلو) و (الإيغال) و (التوشيح) و (صحة التقسيم) و (صحة التفسير) و (التقسيم) و (الترصيع) .
ويظل ينقلنا الباقلاني من موضع بلاغي إلى آخر، ومن صورة شعرية فنية إلى أخرى، ملقيا الضوء على ما فيها من أبعاد وظلال فنية، حتى يأتي على كل العناصر البلاغية التي تناولها العلماء, وظنوا أنها السبيل إلى معرفة أسرار الإعجاز القرآني.
بيد أنه في آخر المطاف.. يضع أمام الأذهان سؤالا هاما..
هل لأبواب البديع فائدة في معرفة الإعجاز؟ ويجيب على هذا السؤال إجابة صريحة فيقول: "ليس كذلك عندنا.., لأن هذه الوجوه إذا وقع التنبيه عليها أمكن التوصل إليها بالتدريب والتصنع لها". ويمضي فيقول:
"إنه لا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من البديع الذي ادّعوه في الشعر ووضعوه فيه، وذلك أن هذا الفن ليس فيه ما يخرق العادة، ويخرج عن العرف، بل يمكن استدراكه بالتعليم والتدرب به والتصنع له.. أما شَأْوَ نظم القرآن فليس له مثال يُحْتَذى عليه ولا إمام يُقْتَدَى به، ولا يصح وقوع مثله اتفاقاً."
فما السبيل إذن إلى معرفة إعجاز القرآن؟(13/29)
هذا هو محور الفصل الثامن الذي خصصه الباقلاني لتحديد (كيفية الوقوف على إعجاز القرآن) يقول فيه: إنه لا يقف عليه إلاّ مَنْ عرف معرفة بيِّنة وجوه البلاغة العربية، وتكوَّنت له فيها ملكة يقيس بها الجودة والرداءة في الكلام بحيث يميِّز بين نمط شاعر وشاعر، ونمط كاتب وكاتب، وبحيث يعرف مراتب الكلام في الفصاحة, وهذا كما يميز أهل كل صناعة صنعتهم "ومتى تقدم الإنسان في هذه الصنعة لم تخف عليه هذه الوجوه، ولم ثشبيه عنده هذه الطرق، فهو يميز قدر كل متكلم بكلامه، وقدر كل كلام في نفسه، ويحكم فيه بما يستحق من الحكم، وإن كان المتكلم يجود في شيء دون شيء عرف ذلك منه، وإن كان يعم إحسانه عرف." [33]
وبهذا المفهوم نستطيع أن نعرف أن الباقلاني يرد المسألة إلى الذوق وحُسْن تدرّبه على تمييز أصناف الكلام.. ولقد دفعه هذا الفهم إلى أن يسوق طائفة من خطب الرسول - صلى الله عليه وسلم- ورسائله, ومن خطب الصحابة وغيرهم.. ليلمس القارئ فرق ما بين ذلك كله وبين القرآن.
ولا يقف عند حدود النثر.. بل ينطلق إلى آفاق الشعر، فيدرس معلقة امرئ القيس –إمام الشعراء -, ويبين ما فيها من تكلف وحشو، وخلل وتطويل، ولفظ غريب، وكيف تتفاوت أبياتها بين الجودة والرداء، والسلامة والغرابة، والسلامة والانحلال والاسترسال والتوحش والاستكراه.. "مع أنه قد أبدع في طرق الشعر أموراً اتبع فيها" [34]
بعد ذلك.. يعود بنا ليتحدث عن جمال نظم القرآن وحسن تأليفه ورصفه وكيف أنه وُزّع على كل آياته بقسطاس سواء منها القصص وغير القصص، بينما يتفاوت كلام البلغاء من الشعراء حتى في القصيدة الواحدة. ويتناول قصيدة بديعة للبحتري الذي اشتهر بجمال ديباجته وحلاوة أنغامه وعذوبة ألفاظه، وهي لاميته المشهورة:
فَعَلَ الذي نَهْواه أوْ لم يفعلِ
أهْلاً بذلكمُ الخيالِ المقبل(13/30)
ويشرِّح أبياتها تشريحا، مبيِّنا ما يجري فيها من ثِقل وتطويل وحشو وتكلف وألفاظ وحشية جافية، ومن تناقض وكزازة وتعسف ورداءة صوغ وسبك. ويهاجم الباقلاني كذلك ما يقال من بلاغة الجاحظ مبيِّناً أنه دائما يستعين بغيره، ويفزع إلى ما يوشِّح به كلامه من مثل نادر، وبيت سائر، وحكمة منقولة، وقصة مأثورة.. كل ذلك ليدل الباقلاني على أن بلاغة القرآن لا تسمو إليها أي بلاغة لشاعر أو كاتب وكأنه في كل ذلك يشرح ما ذكره الرمّاني في رسالته - التي تحدثنا عنها في المقال السابق - من أن للكلام ثلاث طبقات: عليا وهي طبقة القرآن، ووسطى ودُنيا، وهما طبقتا البلغاء على اختلاف بلاغتهم، وما ينظمونه أو يخطبون به أو يكتبونه. ونسمعه دائما يردِّدُ أنّ كلام البلغاء يتفاوت، بينما القرآن لا تتفاوت آياته، وإن العبارة لتُجْلَبُ منه إلى كلام البليغ.. فإذا هي تتلألأُ كأنها الدرّة الواسطة في العقد.. ويمضي الباقلاني قائلا: ".. إنّ القرآن ليس معجزاً لأهل العصر الأول الذي نزل فيهم فحسب، بل هو أيضا معجز لأهل كل العصور.."هذا هو مفهوم الباقلاني للإعجاز القرآني.. وواضح أنه لم يزد في كتابه عن شرحه - أو قل بعبارة أدق - عن محاولة شرحه لما قاله الجاحظ من جمال النظم القرآني، وما قاله الرَّماني من أنه في المرتبة الرفيعة من البلاغة والبيان، ومضى يردُّ تفسير هذه المرتبة بوجوه البديع التي عدَّها ابن المعتز وقدامة وأبو أحمد العسكري وغيرهم، كما ردّ تفسيرها بوجوه البلاغة التي ذكرها الرماني..
وبالطبع, فهذا لا يقلّل من شأن الباقلاني.. أو يبهرج علمه.. فيكفي أن نعلم أنّ الرجل أوّل من هاجم في قوة نظرية إعجاز القرآن عن طريق تصوير ما فيه من وجوه البديع، وأيضا وجوه البلاغة التي أحصاها الرماني.
ومن هنا تأتي أهمية الباقلاني، إذ أعدّ للبحث عن أسرار في نَظْم القرآن من شأنها حين تَوضح توضيحا دقيقاً أن تقف الناسَ على إعجازه.(13/31)
عقبات في طريق الإسلام
إن البلاد الإسلامية ترى أن الإسلام نظام متكامل.. وتراه أفضل للإنسانية من الشيوعية والرأسمالية.. ولكنها لا تفعل شيئا لإبلاغ رؤيتها وإيمانها للعالم.
للرد على هذا الاتهام فإن البلاد الإسلامية تتكوّن من حكومات وشعوب, وقد رزئت البلاد الإسلامية بحكومات عسكرية ديكتاتورية, جاءت بانقلابات معظمها مدبر بواسطة الدول الاستعمارية، ومن الطبيعي أن هذه الحكومات لن تطبق الشريعة الإسلامية؛ لأنها عدوته، وستكون ضحيته لو طبق هذا النظام، وحتى الحكومات التي جرّبت الاستعمار باسم الإسلام تخلّت عنه بعد انتصارها, واتخذت الأنظمة البشرية والقوانين الوضعية لحكم شعوبها. وأما الشعوب ففيها العديد من الأفراد والهيئات تتمسك بعقيدتها وتريد تطبيق النظام الإسلامي. وقد لاقت في الكثير من البلاد وفي مختلف العهود من الاضطهاد والتعذيب والتشريد والقتل ما عاقا عن تأدية رسالتها وتبليغ رؤيتها وإيمانها للشعوب الإسلامية وللعالم, حتى أن أحد العلماء - وقد ألّف العديد من الكتب الإسلامية ومنها تفسير للقرآن الكريم يقع في ثلاثين جزءا - اتهم بمحاولة قلب نظام الحكم, وحكم عليه بالإعدام, ونفِّذ فيه الحكم بعد أن لاقى هو وإخوانه ما يعجز عنه معظم الناس، وقد تم عقد كثير من المؤتمرات والاجتماعات في بلاد إسلامية متعددة وكلها يدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية..
مجلة المجتمع
--------------------------------------------------------------------------------
[1] في رأيي أن الباقلاني مادة خصبة للبحث والدارسة لذا سنخصه ببحث مستقل يبرز الجوانب الدينية في شخصية الرجل، ويركز على المسائل العلمية التي تناولها إن شاء الله.(13/32)
انظر ترجمته في: تاريخ بغداد 5/379، وفيات الأعيان 3/400، شذرات الذهب 3/161، وضات الجنات 4/616، النجوم الزاهرة 4/234، الأنساب 61، الديباج المذهّب لابن فرحون 267.
وانظر في مذهبه: طبقات السبكي 2/255 – 256.
وقد طبع كتاب إعجاز القرآن عدة طبعات ... آخرها بشرح وتعليق محمد عبد المنعم خفاجي – وطبعة أخرى أصدرتها دار المعارف بمصر.
[2] الباقلاني – بفتح الباء الموحدة، وبعد الألف قاف مكسورة ثم لام ألف وبعدها نون، فيه لغتان من شدد اللام قصر الألف، ومن خففها مد الألف فقال: باقلاء وهذه النسبة شاذة لأجل زيادة النون فيها.
[3] أسس أبو الحسن الأشعري "270 – 330هـ"مدرسة كبيرة من مدارس علم الكلام، وخالف أستاذه الجبائي المعتزلي.
وكان الباقلاني من أشهر تلاميذ هذه المدرسة. ومعروف أن للأشعري ثلاثة مذاهب:
1- كان معتزليا ينكر جميع الصفات.
2- ثم صار كلابيا من أتباع محمد بن سعيد بن كلاب يؤمن بسبع صفات فقط.
3- ثم رجع إلى العقيدة السلفية على يد شيخه الحافظ زكريا الساجي تلميذ الإمام أحمد بن حنبل، يؤمن بجميع صفات الله الذاتية والفعلية والخبرية على الأسس الثلاثة التالية:
أ- تنزيه الله عن مشابهة المخلوقات في ذاته وفي صفاته وفي أسمائه كما في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
ب- إثبات كل ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق بكلامه وجلاله كما في قوله عز من قائل: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
ج- اليأس وعدم الطمع من إدراك كيفية صفات الله وأسمائه كما في قوله سبحانه: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} هكذا في كتابيه اللذين أجمع العلماء والمؤرخون على أنهما آخر ما كتب: (الإبانة عن أصول الديانة) و (المقالات الإسلامية) .. لذلك لزم التنويه.. "انظر كتاب: أبو الحسن الأشعري"من مطبوعات الجامعة الإسلامية.(13/33)
[4] شذرات الذهب 3/169 طبع القدسي سنة 1350هـ
[5] مقدمة ابن خلدون ص369 طبع مطبعة التقدم سنة 1322 هـ.
[6] الملل والنحل 2/129 نشر أحمد فهمي.
[7] وفيات الأعيان 3/400 وانظر أيضا قصته مع ملك الروم تاريخ بغداد 5/279.
[8] وفيات الأعيان 3/404 وانظر مناظرته للمعتزلة في مجلس عضد الدولة في نفس المصدر, وانظر آراءه في روضات الجنات ص616, وفي أول رسالة البصائر من علم الكلام للكردى.
[9] انظر طبقات السبكي ج2/257.
[10] الصل: الحية العظيمة.
[11] إعجاز القرآن ص29 طبعة محمد علي صبيح سنة 1370هـ.
[12] إعجاز القرآن ص30.
[13] الصفحة نفسها.
[14] وهو من الكتب المفقودة.
[15] يقصد أستاذه النظام الذي قال مقالته الخبيثة في مسألة الإعجاز وأرجعها إلي الصرفة، أي أن الله صرف العرب عن معارضة القران.
[16] إعجاز القرآن ص30 وما بعدها.
[17] إعجاز القرآن ص31.
[18] سورة فصلت الآية 3.
[19] سورة الزخرف الآية 3.
[20] الإنس والجن.
[21] الليل والنهار.
[22] سورة إبراهيم الآية الأولى, ومن ذلك أيضا قوله تعالى في الآية 6 من سورة براءة, والآية 195 من سورة الشعراء.
[23] مثل: طسم، كهيعص، حم.
[24] هي سورة غافر, أما سورة "المؤمنون"فهي {قد أفلح المؤمنون..} وسميت سورة غافر سورة "المؤمن"لقوله تعالى في هذه السورة {وقال رجل مؤمن من آل فرعون..الخ} .
[25] إعجاز القرآن ص41.
[26] سورة البقرة الآيتان 23، 24,ومن آيات التحدي الآية 28 من سورة يونس والآيتان 33، 34 من سورة الطور.
[27] سورة التوبة 33.. ومن ذلك الآية 12 من آل عمران.. والآية 7 من سورة الأنفال.
[28] البيان والتبين 1/373.
[29] انظر رسالته (النكت في إعجاز القرآن) .. وانظر مقالنا في العدد السابق من مجلة الجامعة الإسلامية.(13/34)
[30] إعجاز القرآن ص80.
[31] انظر رسالة الرمّاني "النكت في إعجاز القرآن"الفواصل، وانظر أيضا مقالنا في العدد السابق من مجلة الجامعة الإسلامية ص34.
[32] جواهر الألفاظ ص3 طبعة القاهرة.
[33] إعجاز القرآن ص151.
[34] إعجاز القرآن ص184.(13/35)
من وحي السيرة
صور من جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة
لفضيلة الشيح: محمد عبد المقصود جاب الله
المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين
بعث سيدنا محمد بن عبد الله رسول الله ومجتباه إلى الناس أجمعين عليه الصلاة والسلام, وقد كان مولده نوراً وضياء للعالمين، وكان مبعثه رحمة مهداة إلى الخلق أجمعين، بعث الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة بين أقوام غلظت أكبادهم، وتبلّد إحساسهم حتى ليئدون البنات صغيرات، ويمسكوهن على الهون كبيرات، أو يدفعوهن إلى البغاء مكرهات.
وتصل بهم خسة العقيدة, وسخف الرأي, ما يعتبر سبة للعقل, وسخرية في الفكر يصنعون آلهتهم بأيديهم من الحلوى ويعبدوها فإذا جاعوا أكلوها.
فكان من رحمة الله ومن عدله أن يهيِّئ للإنسانية من يفك إسارها، ويطلقها من أغلالها, ويطهرها من عقائدها, ويعيد عليها حريتها وإرادتها، ويبلغ بها ما أعد لها من رقي وعزة وكمال.(13/36)
جاء الرسول عليه الصلاة والسلام بدعوته التي أساسها التوحيد في العبادة واقتلاع الشرك من جذوره, فلا يبقى على شيء منه ولا من رسومه المتداعية، ولا يتسامح في هيكل من هياكله الواهية {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} , ولكن القوم كانوا أعداء ما خفي عليهم وإن كان سعادة ونعيما, أحباء ما ألفوا وإن كان شقاوة وجحيما، فأعدّوا العدة ليصدوا عن سبيل الله، وجندوا كل ما استطاعوا من قوة وبطش، ودهاء وغدر, وقابل الرسول صلى الله عليه وسلم كل ذلك بثبات جنانه، وصحة عزمه، وصدق يقينه, وصبر على كيدهم وأذاهم, فكان ذلك آية كبرى على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام أمام تكتلهم وصلفهم, فليس هناك من يقوم بمثل ما قام به, ثم يقابل بما قوبل به من العنت والأهوال الشدائد، ويبقى بعد ذلك أمينا على عهده, وفيا لدينه, حتى يظهره الله على الدين كله؛ لأنه نبي مؤيد بشديد القوى, وكتابه تنزيل من حكيم حميد, ممن خلق الأرض والسماوات العلى.
ولم يكن المشركون على بصيرة من إشراكهم, ولا على معرفة بعقائدهم, وإنما كانوا مقلدين لآبائهم, فأخذ الرسول عليه الصلاة والسلام يسفِّه أحلامهم, ويحقر آراءهم, ويعيب تقليدهم, مخاطبا إياهم بقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [1](13/37)
وكانت الآيات تتنزل على النبي صلى الله عليه وسلم تقريعا وتأنيبا لهم حتى هاج هائجهم.. فخرجت أضغانهم، وطاشت ألبابهم، وراحوا يتفننون له في طرق الإيذاء ويعرضون عليه مغريات الدنيا ليكف عن دعوته ويتنازل عن رسالته، وما قدروا أن دنياهم كلها ومتاعهم جميعه إنما هو تحت قدمه صلى الله عليه وسلم, وأنّ قرة عينه وراحة نفسه أن يعلي كلمة الحق، وأن يغسل أدران الإنسانية، وأن يبشّر بالحسنى, وأن يدعم الفضيلة, وأن يؤدي الرسالة كما أمره الله.
لهذا أخذ يستقبل المحن ويتلقى الإيذاء عليا في نفسه عزيزا في قومه، ولما نزل عليه قول الله تعالى {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [2] امتثل لأمر الله وصعد على الصفا فجعل ينادي، يا بني فهر، يا بني عدي, فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر الخبر, وكان فيهم أبو لهب بن عبد المطلب, فقال عليه الصلاة والسلام: "أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدِّقي؟ قالوا: نعم ما جرّبنا عليك كذبا, قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد, فقال أبو لهب: تبّاً لك, ألهذا جمعتنا, فأنزل الله في شأنه {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [3] , ثم التفت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عشيرته الأقربين فقال: "إن الرائد لا يكذّب أهله، وإني لو كذبت على الناس جميعا ما كذبتكم، ولو غررت الناس جميعا ما غررتكم، والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس كافة، والله لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون, ولتحاسبنّ بما تعملون، ولتجزون بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءاً، وإنها لجنة أبداً أو لنار أبداً".
ثم توالى الإيذاء على النبي عليه الصلاة والسلام، فتلقاه هازئاً بخصمه، محتقراً لصنيعه، مستعذباً العذاب في سبيل دعوته، إيماناً بوعد الله الذي يقول: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} .(13/38)
فهذا عقبة بن أبي معيط شاهد النبي عليه الصلاة والسلام في حجر الكعبة يصلي فاقبل عليه ووضع ثوبه في عنقه وخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه وقال: "أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم".
وكان أبو جهل عدواً لنفسه وعدواً لمحمد عليه الصلاة والسلام, وكان فيه جبروت ولكنه ذليل لا يتماسك أمام رهبة الحق, فكان كلما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعبّد بجوار الكعبة نهاه عن صلاته وعن عبادته, فشاهده مرة يصلي فقال له: ألم أنهك عن صلاتك ها هنا؟ وما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم أن ينتهي لنهي أبي جهل ولا أن يعبأ بهذا الغرور الطائش، فأغلظ لأبي جهل في الرد، وحذّره وتهدّده, فعزّ عليه أن سمع أسلوب التهديد, وسرت في نفسه حمية الجاهلية, وخيِّل إليه أنّ ماله وعديده يغني عنه شيئا فقال يا محمد: أتهددني وأنا أعز أهل الوادي نادبا؟
فنزل الوحي بقوله سبحانه وتعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْداً إِذَا صَلَّى، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى، أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} إلى قوله تعالى: {كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [4](13/39)
ولقد كان عليه الصلاة والسلام يسعى إلى مجتمعات قريش - وهم أشد أعدائه - ويتحرّى لقاء رؤوسهم ليصارحهم بآرائه, لا تأخذه منهم رهبة, ولا يقيم لجبروتهم وزنا، وإنما كان حريصا عليهم, معنيا بهدايتهم. أَوْلَمَ عقبةُ بن أبي معيط وليمةً دعا إليها رؤوس الكفر وصناديد الشرك، وكان الرجل على فجوره وطغيانه جاراً للرسول عليه الصلاة والسلام, فدعاه فيمن دعاهم فلبَّى الدعوة, ولما صار في دار عقبة ودعي إلى الطعام خاطب عقبة فقال: "لقد أجبت دعوتك ولكن لا آكل لك طعاماً حتى تؤمن بالله"، فنطق عقبة بالشهادة, وانتهى أمر هذه الحادثة إلى أبي بن خلف الجمحي - وكان صديقا لعقبة - فقال له: "وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمداً فلم تطأ عنقه وتلطم وجهه", فلما رأى عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتدى عليه كما أراد خليله, فأنزل الله سبحانه وتعالى في سورة الفرقان {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً} [5] .(13/40)
ولقد كان من شرِّ الأساليب التي كان الباطل يعمد إليها ويحاول أن يلبس بها على الحق ما كان يفعله النضر بن الحارث من بني عبد الدار؛ لقد كان يجلس قبالة الرسول عليه الصلاة والسلام فإذا رآه يتلو القرآن وينشر أعلام الحق قال للملأ من قومه: "يا معشر قريش هلمُّوا إليَّ فإني أحسن من محمد حديثا"ثم يشرع فيلفِّقُ حديثاً عن ملوك فارس ويقص أقصوصة من أقاصيصهم، وكان النضر لبقاً في هذا الباب لباقة شيطانية, فنزل القرآن الكريم يدمغه ويشهر به ليكون الصورة الواعظة لكل من يشتري الضلالة بالهدى, قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ، وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [6] .
وأخذ المشركون يطاردون الرسول عليه الصلاة والسلام ويبتدعون الأساليب في محاربته ومع ذلك لم تهن قوته، ولم تلن قناته، ولم تضعف عزيمته, وكلما تجمعت السفاهة وتلاقت النزوات كان عليه الصلاة والسلام يناجي ربه: "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني؟ إن لم تكن ساخطاً عليّ فلا أبالي".
لم يقف المشركون في عدائهم عند حد, ولا أجملوا يوما في الرد بها, بل كانوا جامحين جموحا جاوز المدى, واتخذوا من العداء العام سبيلا لإنكار حقوق المسلمين, واستباحة أموالهم في استخفاف وتهكم وازدراء.(13/41)
وكان لرجل من المسلمين المستضعفين اسمه خبّاب بن الأرَت دَيْنٌ على العاص بن وائل من كبراء قريش فطالبه به فقال العاص: أليس يزعم محمَّد هذا الذي أنت على دينه أنَّ في الجنة ما يبتغي أهلها من ذهب وفضة وثياب؟ فقال خبّاب: بلى, قال: فأنظرني إلى هذا اليوم فسأوتى مالاً وولداً وأقضِيَك حقك فأنزل الله من سورة مريم في حقه {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً، أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً، كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً، وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدا} [7] .
وكان عمار بن ياسر وصهيب وبلال وأمثالهم يعذّبون ليرجعوا عن دينهم، فمنهم من كان يكوى بالنار ليفتن عن دينه, ولكن هذه الأجسام قد تعاظمت على النواميس الطبيعية, فيمر بهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أباة صابرون لا يشكون ولا يضرعون فيقول لهم: "صبراً صبراً فإنّ موعدكم الجنة". وقد بلغ من فداحة التنكيل أن مات ياسر أبو عمار أثناء العذاب وسلّمت أمّهُ لأبي جهل كي يعذبها فلم يألها عذاباً وإيذاء إلى أن ماتت مؤمنة تحت أثقال العذاب.
وكان أمية بن خلف يعذِّبُ بلالا عذاباً يُنضِجُ الجلد ويشوي اللحم ثم يضع على ظهره صخرة ثقيلة ويقول له: "لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى"فلا يزيد بلالا إلا أن يقول: "الله أحد.. الله أحد". وهكذا كانت تستعذب الآلام على مرارتها لكي ينصر الحق ويطمئن الضمير، ويرضى الله, ولقد رضي الله وصدق وعده {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ، الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [8]
ولقد كانت عاقبة هؤلاء الطغاة عاقبة أليمة, فلقد قتل أبو جهل والنضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط, وكلهم ذليل مهين يخرّ لوجهه بين الأسنّة والروح الإسلامية.(13/42)
ومنهم من أصيب بشر ألوان المرض حتى عذب في الدنيا وغادرها تشيعه همومه وآلامه وتملأ نفسه الحسرة والندامة كأبي لهب والعاص بن وائل والوليد بن المغيرة.
ولقد صدق الله دعوة الحق, ووفّى الله الصابرين أجرهم, فمكّن لهم في الأرض. فسلام عليك يا رسول الله يوم ولدت ويوم بعثت بالرسالة وأدّيت الأمانة، ويوم تبعث حيا.
ورضي الله عن أصحابك جزاء ما لاقوا في سبيل الله وفي سبيل دينهم، وأخلصوا لنبيهم، ونصروا الله فنصرهم الله.
فليكن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة, وليكن لنا في أصحابه قدوة صالحة في نصرة الحق, والدفاع عنه, والجهاد في سبيله, والاستمساك به, حتى نسعد كما سعدوا, ونتبوأ المكانة اللائقة بين الأمم, ونستحق الخلافة في الأرض, والله ولي المؤمنين.
محمد عبد المقصود جاب الله
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الآية 104 من سورة المائدة.
[2] الآية 94 من سورة الحجر.
[3] الآية 1 من سورة المسد.
[4] الآيات من 9 – 19 من سورة العلق.
[5] الآيات من 27 – 29 من سورة الفرقان.
[6] الآيتان 6 – 7 من سورة لقمان.
[7] الآيات 77 – 80 من سورة مريم.
[8] الآيتان 95 – 96 من سورة الحجر.(13/43)
الحق.. أحق أن يتبع
لفضيلة الدكتور عبد المنعم محمد حسنين
المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين
نشرت مجلة آخر ساعة القاهرة في عددها الصادر يوم 13 شوال 1396هالموافق 6 أكتوبر 1976م حديثاً للدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر أشار فيه إلى ما تردد من أن بعض الشبان قد حاولوا في الشهور الأخيرة أن يحطموا الأضرحة التي توجد في بعض المساجد بحجة أن الصلاة في هذه المساجد حرام وباطلة بسبب وجود الأضرحة. وقال الدكتور عبد الحليم رداً على سؤال حول هذا الموضوع ما نصه:
"إنّ هؤلاء الذين يفعلون ذلك لم يذهبوا لزيارة مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم-, إنّ هذا المسجد المبارك به الضريح الشريف لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبه ضريح الصديق رضي الله عنه، وبه ضريح الفاروق عمر. ونحن في هذا المسجد نصلي أمام الأضرحة، وعن يمين الأضرحة فتكون الأضرحة أحياناً من خلفنا، وأحيانا أمامنا، وأحيانا عن يميننا وأحيانا أخرى عن يسارنا, والصلاة في هذا المسجد المبارك بألف صلاة. ومعنى هذا أنّنا لا نصلي لصاحب الضريح ولا نسجد له، وإنما نصلي لله سبحانه وتعالى، ونؤمن في يقين - لا شك فيه - بأن الله وحده هو صاحب التصرف في الكون، وهو وحده المعبود، لا إله غيره، ولا رب سواه".
وهكذا حاول الدكتور عبد الحليم محمود أن يدافع عن وجود الأضرحة في المساجد, وأن يبيح استمرار وجودها, مستدلاّ على ذلك بوجود قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقبري صاحبيه أبي بكر وعمر بالمسجد، وهو يعلم أن الرسول نهى عن ذلك، وأنّ الذي أدخل قبره بالمسجد قد خالف سنته.(13/44)
وشيخ الجامع الأزهر يعلم – أيضا - أنه لا يجوز اتخاذ المساجد على القبور؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "لعن اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وهو حديث متفق عليه. فالذين يعظّمون القبور ويبنون عليها المساجد والقباب يخالفون ما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويحادون ما جاء به، بل إنهم بعدم اتباعهم هدي الرسول يعصون الله الذي قال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} "النساء: 80" وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنْكُمْ} "النساء: 95".
والشيء الذي لا شك فيه أنّ الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر على علم بما قاله الله ورسوله، إذ من المستبعد عقلا أنّ عالما مثله، يشغل أكبر منصب ديني في بلاده لا يعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن اتخاذ المساجد على القبور، ونهى عن الصلاة إلى القبور، فكيف يدافع عالم في مثل منصبه عن وجود الأضرحة في المساجد؟!
والشيء العجيب حقا أن الدكتور عبد الحليم محمود في إجابته عن السؤال الخاص بمحاولة بعض الشبان تحطيم الأضرحة التي توجد في بعض المساجد لأن الصلاة في مثل هذه المساجد حرام وباطلة بسبب وجود الأضرحة، حاول أن يلبس الحق بالباطل، وأن يكتم الحق مع علمه به، فلم يذكر موقف الإسلام من اتخاذ المساجد على القبور، أو من الصلاة إلى القبور، بل ترك هذا الموضوع إلى أمر آخر، وهو أن الصلاة في مسجد الرسول بألف صلاة. أليس الاستناد في الدفاع عن وجود الأضرحة في بعض المساجد إلى أن الصلاة في مسجد الرسول بألف صلاة نوعاً من المغالطة وخلطا بين الحق والباطل؟!.(13/45)
ألا يعلم الدكتور عبد الحليم محمود أن الله نهى بني إسرائيل عن إلباس الحق بالباطل وكتمان الحق مع علمهم به، فقال تعالى مخاطبا إياهم: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} "البقرة: 42"ثم خاطبهم بقوله جل وعلا: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} "البقرة: 44".
ألا يعلم شيخ الجامع الأزهر أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بتسوية القبور، وأنّ مخالفة أمر الرسول، وتعلية القبور واتخاذ المساجد عليها، كانت جميعها من ذرائع الشرك ووسائله؟.. إنّ وجود الأضرحة في المساجد أدّى إلى الفتنة بأربابها، فلما وقع التساهل في هذه الأمور وقع المحذور وعظمت الفتنة بأرباب القبور، وصارت القبور محطا لرحال المعظمين لها، وانصرف هؤلاء المعظمون عن عبادة الله، وأخذوا يدعون أرباب هذه القبور ويستغيثون بهم، ويتضرعون لهم، ويذبحون وينذرون، فصرفوا للقبور جل العبادة مرتكبين كل شرك محظور.(13/46)
والواقع أن القبور التي بالمساجد قد أبعدت الناس عن التوحيد, ولا إنقاذ لكثير من المسلمين من التردي في هوة الشرك إلا بإزالة الأضرحة التي بالمساجد؛ لأن المساجد لله، فينبغي أن يدعى الله وحده فيها، يقول الله جل وعلا: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} الجن: 18؛ ولأن وجود القبور بالمساجد يصد الناس ويصرفهم عن إخلاص العبادة لله وحده، كما يُسيءُ إلى النفوس، ويجعلها تذل لغير الله، ويجردها من العزة بتوحيد الله تعالى. وأصل الشرك أن يوجه حق الله في العبادة إلى غيره تعالى، أو يعتقد أنّ مخلوقا من خلق الله له سلطان فوق قدرة المخلوقين، وهذا هو اعتقاد من غفلوا عن كنه التوحيد الخالص في المقبورين من أرباب الأضرحة التي توجد بالمساجد فهم يعتقدون أنّ لهم من القوة أو الجاه ما يمكّنهم من تصريف الأمور، وجلب المنافع، ودفع المضار, وغيرها مما لا يقوى عليه إلا رب العالمين.
ولا يستطيع الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر أن ينكر أنّ هذا هو الذي يحدث فعلا في المساجد التي توجد بها أضرحة، فالدفاع عن بقاء هذه الأضرحة بالمساجد، واستنكار الدعوة إلى إزالتها معناها الموافقة على بقاء ذرائع الشرك ووسائله، وهذا ما لا يقبله عالم ديني كبير كشيخ الجامع الأزهر.(13/47)
ولقد صدق العلاّمة ابن القيم –رحمه الله- حين قال: "ومن جمع بين سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبور، وما أمر به، ونهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضاداً للآخر، مناقضا له بحيث لا يجتمعان أبداً، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة إلى القبور وهؤلاء يصلون عندها وإليها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله، ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها، ونهى عن أن تتخذ عيداً، وهؤلاء يتخذونها أعياد ومناسك، ويجمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر، وأمر بتسويتها, كما روى مسلم في صحيحه، وهؤلاء يرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب, ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه، كما روى مسلم في صحيحه عن جابر - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تجصيص القبر، وأن يعقد عليه وأن يبنى عليه".
ونهى عن الكتابة على القبور، كما روى أبو داود في سننه عن جابر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تجصيص القبور وأن يكتب عليها"قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن وغيره.
ونهى أن يزاد عليه غير ترابها، كما روى أبو داود عن جابر أيضا: أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم - "نهى أن يجصّص القبر أو يكتب عليه أو يزداد عليه" وهؤلاء يزيدون عليه الآجر والحصى والأحجار.
والمقصود أنّ المعظمين للقبور، البانين عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محادون لما جاء به. والدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر يعلم هذا جيداً، وينبغي أن يعلنه للناس، حتى يتبعوا الحق، لأن الحق أحق أن يتبع فهل يفعل فضيلته ذلك مرضاة لله ورسوله؟!(13/48)
إن تعظيم الأضرحة بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها، وقد بدأت عبادة الأصنام بتعظيم الأموات باتخاذ صورهم والتمسح بها والصلاة عندها.
وقد آل الأمر بمن يعظّمون القبور إلى أن شرعوا لها حجا، ووضعوا لها مناسك، وفي هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عبادة الأصنام، ومخالفة لما شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند زيارة القبور.
إنّ الذي شرعه الرسول عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة، والإحسان إلى المزور بالدعاء له والترحم عليه، والاستغفار له وسؤال العافية له، فيكون الزائر محسنا إلى نفسه، وإلى الميت، فقلب هؤلاء المشركين الأمر، وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به، وسؤاله حوائجهم، واستنزال البركة منه، ونصره لهم على الأعداء ونحو ذلك، فصاروا مسيئين إلى أنفسهم وإلى الميت.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهى الرجال عن زيارة القبور سدّاً للذريعة، فلمّا تمكّن التوحيد في قلوبهم، أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه، ونهاهم أن يقولوا هجرا، ومن أعظم الهجر الشرك عندها قولا وفعلا.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "زوروا القبور فإنها تذكركم بالموت".
وعن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه، فقال: "السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر" رواه أحمد والترمذي وحسنه.(13/49)
هكذا تكون زيارة القبور، كما شرعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لأُمّته، وعلّمهم إياها. ولقد جرّد السلف الصالح التوحيد، وحموا جانبه حتى كان أحدهم إذا سلّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أراد الدعاء استقبل القبلة، وجعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا, ونصّ على ذلك الأئمة الأربعة. فجرَّد السلف العبادة لله، ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدعاء لأصحابها، والاستغفار لهم، والترحُّم عليهم.
فهل يفعل زوار القبور التي في المساجد ما شرعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند زيارة القبور؟!. لا. والله.. لقد أصبحت زيارة القبور شركا وترويجاً للبدع، وهذا أمر يعترف به كل مؤمن بربه الواحد الذي لا شريك له، وهو أمر لا نشك في أنّ الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر يعترف به، فلماذا نسكت عليه؟!.. لماذا لا نؤيد المطالبين بإزالة الأضرحة من المساجد!؟ أليست المطالبة باتباع ما شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمراً واجبا على كل مؤمن ومؤمنة؟ ألا ينبغي على شيخ الجامع الأزهر أن يكون أول المطالبين باتباع شرعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!.. ألا ينبغي على شيخ الجامع الأزهر أن يكون أول المطالبين بتسوية القبور وعدم اتخاذ المساجد عليها وإزالة الأضرحة الموجودة في بعض المساجد؟!.
إن الحق أحق أن يتبع، فإلى متى نسكت على الباطل؟!.. أليست دعوة الناس إلى اتباع الحق أمرا واجبا على علماء الدين بعامة وعلى شيخ الجامع الأزهر في بلاده بخاصة؟!..
د. عبد المنعم محمد حسين
كلية الدعوة وأصول الدين
الجامعة الإسلامية(13/50)
رسائل لم يحملها البريد
لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
لحيتي العزيزة:
ليست هذه الرسالة التي أكتبها إليك رسالة أشواق وشكاة من أيام فراق، فرسائل الشوق والحنين إنما تكون بين المحبين إذا تباعدت بهم الأمكنة، وتطاول على فراقهم الأزمنة.
وأنا وأنت - كما تشاهدين - نعيش معا جننا إلى جنب، لم يتفرق بنا مكان ولم يتطاول على نأينا زمان، على أنّ العلاقات التي بيننا ليست علاقات ودّ وإخاء، وإنما هي علاقات ظلم واعتداء, فأنا أحمل السلاح كل صباح وأغير على حدودك الطبيعية أجتاح منها ما أشاء وأدع منها ما أشاء، أجاوز ذلك أحيانا، فأقصّ رؤوسا قد طالت، أجذّ شعيرات شالت.
ولا ريب أنك تعدّين هذا ظلما ظالما واعتداء آثما، ما أظنّكِ تنسينه أبد الدهر, أو تصفحين عنه ذات يوم.
لعلك تتوقعين أن تكون هذه الرسالة رسالة اعتراف بذنب وشعور بإثم وتكلف في معذرة، ولكن هيهات هيهات أن يعترف الظالمون ذات يوم أنهم ظلموا، أو أن يقولوا ذات مرة إنهم ارتكبوا حوبا كبيراً.
الدول القوية ذات السلاح والجند حين تستولي على الشعوب الضعيفة غير ذات الحول والطول، لا تقول لها أريد أن أستعبدك وأن أستغلك وأن أمتص دمك وآكل خيراتك، وإنما تقول لها أريد أن أطوّرك وأن أحضّرك وأن أزيل عنك غبار الجهل والتخلف، وأجعلك تقدمية, تذوقين طعم الحضارة, وتجدين ريح المدينة.
وأنا أقول لك بلغة هؤلاء الأقوياء ومنطق أهل الظلم: معاذ الله يا لحيتي العزيزة أن أكون من المعتدين، فأنا أريد أن أجمّلك وأن أزيّنك وأن أجعلك بين اللحى منسّقة لا يرى الناس فيك عوجا ولا أمتا.
وما أكثر ما تفقد الألفاظ دلالاتها - يا لحيتي العزيزة - وما أكثر ما تفقد الأعمال أسماءها، وأنا أعرف كثيراً من ذلك، ولكنّي لن أقصّه عليك، فهذا شيء لا يعنيني ولا يعنيك وليس هو من موضع هذه الرسالة.(13/51)
أرجو ألا يضيق صدرك إذا قلت لك: إنك قد جلبت عليّ كثيراً من المشكلات وجنيت عليّ كثيراً من الجرائر، فقبل أن عرفتك كان الناس يقولون لي: يا أيها الفتى.. ويا أيها الشاب، وينادونني نداءات أخرى كثيرة تبعث الحياة وتثير العزائم، أما بعد أن عرفتك ورأيت منك هذه الحلة البيضاء التي تلبسين فلم أعد أسمع إلا ما أكره، لم أعد أسمع إلا يا شائب ويا عمّ ويا جدّ وغير ذلك مما يشعرني بالضعف والعجز، ويذكّرني قرب الأجل، ويريني شبح الموت.
لعلك تعجبين من شأني وتقولين: أليست هذه هي الحقيقة؟! بلى، هذه هي الحقيقة لا ريب ولا كذب، ولكنك إذا قلتِ للطالب الراسب يا راسب، وإذا قلت للرجل المتكبّر يا متكبّر، وللتاجر الظالم يا ظالم، أفتظنين هؤلاء جميعا يرضون بما نودوا به؟!.
إنّ للألفاظ – يا عزيزتي - ظلالا وطعوما تحملها بين حروفها ووراء أصواتها قد تجهلينها ولا تدركين، وإنّ كثيراً من التجارب لا يستطيع المرء أن يحسّها تمام الإحساس ولا أن يتذوّقها كل التذوّق إلا بعد أن تمرّ به ويمرّ بها.
قبل أن عرفتك حين لم يطرّ شاربي ولم ينبت على عارضيّ شعر كنت أقرأ في كتاب لا أذكر اسمه الآن:
لي اسم فلا أدعى به وهو أول
دعاني الغواني عمهن وخلتني
فأعجب للشاعر وأقول: غريب أمر هذا الرجل، الفتيات الحسان ينادينه يا عمّ تكريما وتجلّة، فإذا هو غاصب يستنكر ويقول لي اسم معروف من قبل يا عم، فلم لا أنادى به؟!.
وظللت على عجبي الساذج ذاك إلى أن عرفتك يا لحيتي العزيزة، وصرت أنادى بما كان ينادى به النمر بن تولب العكلي.
معذرة أيها ذا الشاعر! لقد ظلمتك هذه السنوات الطويلة، فلم أحس إحساسك ولم أذق طعم حسراتك وأنت تسمع العذارى ينادينك - وقد رأين الشيب لاح بعارضيك - يا عمّ، متناسيات اسمك الأول اسم الشباب والفتوة والقوة.(13/52)
ولعلك - يا لحيتي العزيزة - لم تنسَى ما كان في مطار عمان حين سألتني موظفة المكتب: أتعرف القراءة والكتابة، فقلت مستغربا! نعم، قالت: املأ هذه البطاقة, فأخرجت من جيبي قلما، ثم رأتني أكتب به.
أعطيت تلك الموظفة البطاقة، ومضيت بك يا لحيتي إلى قاعة المغادرين، وقبل أن يطمئن بنا المجلس همست في آذانك مغاضبا: أرأيت تلك الموظفة وما صنعت! تظنني أمياً لا أعرف القراءة والكتابة, وأنا الذي أعلم الناس القراءة والكتابة منذ ثلاثين عاما!!.
ألم تكوني أنت سبب ذلك الظن الذي أهان وأوجع؟! رأتك في وجهي بيضاء كالثغام، فظنتني من مواليد القرن الماضي أيام لم يكن هناك مدارس تعلّم ولا تلاميذ يتعلمون.
أراك تهمسين في أذني وتقولين: أنت يا صاحبي تحملني دائما أسباب ما تلقى من عناء وهوان، دعني إذن أحتال لنفسي وأدرأ عنها أسباب هوانك وعنائك، دعني أخدع الناس وأرتدي لهم ثوبا يحبون، ردّني سوداء في لون الشباب والقوة لأعيش مرة أخرى غضة بضة، ولأجلوك أنت للناس فتيا قويا لا تسمع منهم ما تكره، ولا تلاقي ما تراه يزري ويشين، وما عليك في هذا من تثريب، أليست هذه هي السنة؟ أو لا يكون في هذا اتباع للسنن؟
يا لله مما تقولين أيتها اللحية: السنة, إنما تكون سنة حين يراد بها وجه الله والدار الآخرة، أما السنة التي يراد بها الناس وعرض الدنيا فليست تزن عند الله جناح بعوضة، إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فلا تكذِبي على الله وأنت تعلمين.
ابقي يا عزيزتي بيضاء كما صيّرك الله، لا أريدك سوداء ولا شقراء ولا حمراء، ولا أريد أن تتلوني تبعا لأهواء الناس، ولا أن تطوري طمعا في مرضاتهم، ها أنت ذي في صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة.
لتبقى هكذا ولينادني الناس أي نداء يريدون، لتبقى هكذا وليدعني الناس أي دعاء يشاءون، أنت في هذا البياض أعظم مهابة في الأعين، وأشد حراسة حين لا تكون هناك عيون.(13/53)
كنت أظنك يا لحيتي العزيزة غير ذات أثر في سلوكي وخلقي وتفكيري, ولكنّي بعد أن صحبتك حينا وكنت فارقتك أحيانا، بعد هذا عرفت الأمر على خلاف ما كنت أظن وأحدس.
لعلك في ذكر لم تنسَىْ بعدُ مواضع كادت تزلّ بها قدمي، ومواطن فيها كدت أصير إلى هلكة، فوقفت بحزم وبقوة، صائحة في وجهي: مكانك شيخ! لست بصاحبة لك في هذا الموطن, خير لي أن أموت قبل هذا وأكون نسيا منسيا, إمّا أن تعود بي إلى الفندق وهناك فراق ما بيني وبينك، وإما أن تجتثني ها هنا على قارعة الطريق على ما في ذلك من ذل لي وهوان. ذلك خير لي ألف مرة من أن أشاهد مكانا تشغل فيه الخطايا وتصيح فيه الآثام.
وحين أسمع ذلك منك أرتد إليك بصيرا وأقول: الحمد لله أن لم أفرط شيئا في جنب الله، وشكراً لك يا لحيتي هذه الغضبة العارمة التي كانت في سبيل الله.
وما أكثر المواقف التي تقفين فيها حارسة يقظى, ومستشارة أمينة حين يغفل القلب، ويجمع الهوى، وتطغى نزعات الشيطان.
فأنا منك في الطريق دائما في رعاية ووصاية، أسمعك تقولين من حين إلى حين: هذا لا ينبغي لك، هذا لا يجمل منك، هذا لا بأس به عليك. وأراك أحيانا تسكنين وتسكتين فأمضي في أمري قدما لا أتردد.
ولقد بان لي يا لحيتي العزيزة أن لك أثراً في معاملة الناس لي وفي حكمهم عليّ، ولعلك لم تنسَيْ بعدُ حين سحنا في الأرض، وكنّا نطوف على الفنادق ننشد غرفة نأوي إليها في كل مدينة حللنا بها، لعلك لم تنسَيْ ما كنت ترين:
بعض أصحاب الفنادق كان قد تلقاك لقاء غير ذي ودّ، فمنذ أن طلعتِ عليه وقبل أن تسأليه شيئا أو تنبسي ببنت شفة قال بجفاء وغلظة - وهو يزوي ما بين عينيه -: لا مكان، لا مكان!! ثم لم يكترث ولم يلتفت ولم يعقّب، ومضى في شأنه كأن لم يكن هناك شيء، فرجعتِ على الأعقاب تهتزين غضبا وثورة، ولا تدرين من حنق ماذا تصنعين، فبدل أن تهبطي بالمصعد إلى الأرض صعدت به في السماء.(13/54)
وبعضهم كان قد تلقاك لقاء ذي ودّ، فوقف مسلّما هاشا باشَّا تضحك أسارير وجهه، وإذْ لم يكن هناك مكان قال: لنا الشرف أن تكونوا في هذا الفندق نزلاء، وإنه ليؤسفني ألا يوجد الليلة متسع، ثم شيّعك إلى الباب وهو يكرِّر اعتذاره ويظهر أساه، وإني لأذكر أنك قد خرجت من هذا الفندق راضية مطمئنة وإن لم تلقَيْ فيه ما كنت تنشدين.
وذات ليلة ونحن في طريق العودة، وقد طاب لك المقام في أحد الفنادق الفخمة، وجلسنا على أريكة وثيرة نسرح الطرف في الآفاق البعيدة وفي مواكب النجوم، أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا، وجعلت تهمسين في أذني وتقولين:
شتان - يا صاحبي - ما كان بين ذينك الرجلين، ولكنّي لم أدر حتى الليلة سببا لما كان.
فقلت: أي رجلين تعنين؟ لعلّكِ تقصدين من تلقانا في فندقه لقاء خشنا، ومن تلقانا في فندقه لقاء حسنا.
فقلت لي: نعم، هو هذا.
فأجبت أقول: أما الثاني فأظنه ذا دين وخلق، فحين رآك أحسّ وشائج ذاك الدين، فحنّ وحنا وعطف. والعقيدة الصحيحة الصادقة يا لحيتي العزيزة ما أسرع ما تؤاخي بين أصحابها وإن اختلف العرق والدم واللون وإن اختلفت الدار واللغة.
أما الثاني فأنا في حيرة، لا أدري كيف أحلّل وأعلّل!!
أذكر أننا حين دخلنا عليه كان يلعب الشطرنج، فلعله كان مغلوبا في ذاك اللعب أو أوشك أن يُغلب، فكان جوابه الجاف وصوته الخشن واستقباله الفظّ صدى همّه وحزنه وما يعانيه.
وأظنّك لا تزالين تذكرين أنك رأيت في قاعة الاستقبال لذاك الفندق وجوها زهاها الحسن أن تتقنعا، ورجالا على حظ من الثروة والجاه عظيم، فلعل صاحب الفندق كان يخشى أن تكوني لهم شجاً في الحلق أو غصة في الصدر أو قذى في العين، وهو عليهم أحرص، وفي جيوبهم أطمع، فكان منه كان.
ولقد همست في أذني حينئذ تقولين: ولكنه كان في أولئك القوم لحى مثلي، ولربما كان بعضها أعظم وأضخم.(13/55)
هو كما تقولين يا لحيتي العزيزة، ولكنها في أغلب الظن لحى (موضة) وهواية، لا لحى دين وعقيدة، وما أكثر ما تتشابه المظاهر والشارات، وتختلف من ورائها نيات ومقاصد وغايات، ثم لا تنسَي يا عزيزتي أنّ هذه اللحى لحى أوروبية، أو ذات أنساب وأرحام في أوروبا، ومن كان ذا حاله فله في هذا العالم منزلة عظمى وشان أيما شان.
أولا تذكرين أولئك الجنود المرتزقة الأوربيين الذين لا تتجاوز عدتهم أصابع اليد الواحدة، أرأيتِ كيف تقوم لهم الدنيا وتقعد حين حكم عليهم بالإعدام في إفريقيا لما ارتكبوه من جرائم تشيب لهولها الولدان.
ولكن شعبا ليس بأوروبي وليس بذي نسب في أوربا يقتلع من أرضه اقتلاعا ويبعثر في أرجاء الأرض، فلا تقوم له تلك الدنيا ولا تقعد ولا يكاد يرثيه منها أحد.
ومن المحتمل يا عزيزتي أن يكون صاحب ذاك الفندق ملحداً أو ذا ميل إلى الإلحاد، أو حفيد أم ذات عداوات قديمة وأحقاد.
ومهما يكن من أمر ذاك الرجل فإنّ لك في هذا العالم أعداء كثيرين، يحاربون بأسلحة شتّى لا يفترون، ويجرِّبون وسائل كثرا لا ييأسون، وأنتِ على رغمهم أجمعين ثابتة صامدة لا تقهرين.
يجتثونك صباحا فتظهرين لهم مساء، ويجتثونك مساء فإذا أنت ملء عيونهم حين يصبحون، فهم منك في شغل شاغل وهم مقيم غير راحل.
ألا تهدئين وتنعمين وتنامين! انظري، ما أجمل السماء! وما ألطف هذا الهواء! وما أروع النجوم! وما أطيب النوم دون هموم!.
وبعد فالحق يا لحيتي العزيزة أنّ لك حسنات كثيرة أدّخرها عند الله ليوم القيامة، ولأصبرنّ على ما ألاقي فيك من أذاة وإعنات من أناسيّ هذه الأيام.
عبد الرؤوف اللبدى
وا إسلاماه! إنتاج الخمور في المغرب
ارتفع منذ سنة 65 إلى 75 من 600000 هكتوليتر إلى 1273463 هكتوليتر في السنة, وأنّ ثلثيها يستهلك داخليا, وأنّ العائدات من الخمور قد بلغت أكثر من مأتي مليون درهم.(13/56)
المصادر: كتابة الدولة المكلفة بالتخطيط والتنمية. مديرية الإحصائيات ط75. جريدة الحياة الاقتصادية بالفرنسية. جغرافية حوض البحر الأبيض المتوسط قسم4 مقرر من طرف الوزراء.
عن جريدة النور الصادرة في المغرب(13/57)
تعقيب.. لا تثريب
بقلم الشيخ محمد المجذوب
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين
يا أنصار الغناء.. تعالوا إلى كلمة سواء
لفضيلة الشيخ سيد سابق منزلة في قلوب قرائه وعارفيه، وهو حقيق بذلك بما أسهم فيه من تجديد للفكر الديني، فبكتابه (فقه السنة) يشد القارئ إلى المنبع الأصيل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي مقالاته التي يطالع بها قراءه في المنشورات الإسلامية عمق وتحليل يساعدان على إبراز المكنونات البعيدة من المعاني التي لا يقع عليها إلا الممتازون الملهمون.
ولكن إعجابنا بالشيخ من هذه الناحية لا ينبغي أن يصرفنا عن الجوانب الأخرى التي يدفعه الاجتهاد بها إلى نتائج لا يكون دليله فيها من النوع القطعي، وقد ينطوي إغفال التنبيه إليها على مؤثرات بعيدة المدى في قلوب الشباب الذين لم تنضج لديهم ملكة النقد والتمييز.
قبل أيام وقع في سمعي صوت الشيخ في إذاعة الكويت وهو يجيب على سؤال يتعلق بالغناء وموقف الإسلام منه، وخشيت أن يغلبني النوم فيفوتني بعض رأيه فضغطت إصبع المسجل ليحتفظ لي ببقية كلامه كي أعود إليه فيما بعد، وأستعيد جواب الشيخ - حفظه الله - فإذا هو يتحدث عن أنواع الغناء الذي يعتبر من المباح الطيب، فتغنّ في الفرح إشهارا له وإعلانا عنه، وتغنّ في الأعياد إظهارا للسرور، وتغن للجنود لينشطوا في الجهاد في سبيل الله.. ثم يعقب على ذلك بقوله: "والغناء ما هو إلا كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، فإذا عرض له ما يخرجه عن دائرة الحياء كان حراما مثل أن يهيِّج الشهوة، أو يتخذ ملهاة عن القيام بالواجب وطاعة الله". ويذكر خبر الجاريتين اللتين كانتا تغنيان وتضربان بالدف في بيت رسول الله، وقد أنكر عليهما الصديق رضي الله عنه ذلك، فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: "دعهما.. فإنها أيام عيد."
دور الغناء في تاريخنا:(13/58)