ومن المكايد الغربية أن هذا المجادل القادياني يدعي أن هذه الروايات ذكرها الفتني في تكملة مجمع البحار ولكن بعد البحث عن ذلك علمنا أن هذه الرواية لم تذكر في هذا المرجع بل ذكر في باب آخر ما يخالف زعمه ويكذب ما تفوه به، قال مؤلف مجمع البحار (مجمع بحار الأنوار) لفظ خاتم الأولياء باطل لا أصل له، فإن خاتم الأولياء آخر مؤمن بقي من الناس وليس هو خير الأولياء ولا أفضلهم فإن خيرهم أبو بكر هم عمر رضي الله عنهما [3] .
2-"أبو بكر خير الناس إلا أن يكون نبي".
أخرجه الطبراني ت (360 هـ) وابن عدي ت (365 هـ) قال المناوي ت (1031هـ) في فيض القدير شرح الجامع الصغير للسيوطي: "قوله إلا أن يكون نبي أي يوجد نبي فلا يكون خير الناس يعني هو أفضل الناس إلا نبي والمراد الجنس و (يكون) هنا تامة و (نبي) مرفوع بها، والاستثناء لإخراج عيسى عليه السلام" [4] ثم قال مخرجه ابن عدي [5] : "هذا الحديث أحد ما أنكر على عكرمة", وقال الهيثمي ت (807هـ) بعد عزوه للطبراني: "فيه إسماعيل بن زياد الأيلي ضعيف". اهـ[6] وفي الميزان "تفرد به إسماعيل هذا فإن لم يكن هو وضعه فالآفة ممن دونه"، خلاصة الكلام أن هذه الرواية في غاية الوهن حسب الإسناد بل يبلغ إلى درجة الموضوع كما صرح بذلك الذهبي.
3- عن عائشة رضي الله عنها قالت: "قولوا خاتم الأنبياء ولا تقولوا لا نبي بعده" [7] .(10/50)
الجواب عن ذلك من وجوه (أ) الإمام السيوطي ذكر في تفسير الآية {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} عدة أحاديث صحيحة مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تدل دلالة صريحة على انقطاع الرسالة والنبوة بعد نبينا صلى الله عليه وسلم منها ما أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى داراً بناء فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين"، وبهذا المعنى أخرج أحمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأخرجه البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه وأخرج أحمد والترمذي وصححه عن أبي بن كعب رضي الله عنه، فهذه الأحاديث كلها متقاربة اللفظ متحدة المعنى بأسانيد صحيحة بل تبلغ إلى درجة التواتر كما لا يخفى على من درس دواوين السنة، ومنها ما أخرجه ابن مردويه عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي" ج5 ص396 الفتح الكبير 2/275، ومنها ما أخرجه أحمد عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في أمتي كذابون دجالون سبعة وعشرون منهم وأربعة نسوة وإني خاتم النبيين لا نبي بعدي" [8] .(10/51)
ومن العجائب أن الداعية القادياني يمر بهذه الأحاديث الصحيحة التي لا مطعن فيها ولا غبار عليها ولكن لا يتمسك بها بل لا يلتفت إليها لأنها تخالف هواه وإذا مرّ بقول عائشة رضي الله عنها عض عليه بالنواجذ كشأن من نزلت فيهم هذه الآية {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} البقرة آية 85.
هذه الروايات التي ذكرها السيوطي في تفسيره هي غيض من فيض وقطرة من بحر وإلا ففي دواوين السنة الصحيحة المعروفة لدى أهل العلم عدد كبير من الأحاديث التي هي أقوى إسناداً وأكثر شهرة مما ذكره السيوطي نذكر بعضاً منها لزيادة العلم وإقامة الحجة على من خالف ذلك.
منها ما أخرجه البخاري وغيره من أصحاب الكتب الستة من حديث طويل وهو حديث الشفاعة وفيه: "فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء" [9] وأما لفظة "لا نبي بعدي" فرواه البخاري مرفوعا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي". الحديث.
ورواه البخاري بسنده قال إسماعيل قلت لابن أبي أوفى:"رأيت إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" مات صغيراً ولو قضي أن يكون بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي، عاش ابنه ولكن لا نبي بعده" [10] .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثون كذابا" [11] ولفظه كما أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا تقوم الساعة حتى يبعث دجالون كذابون قريباً من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله".(10/52)
وأخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يبقى بعدي من النبوة شيء إلا المبشرات قالوا: يا رسول الله وما المبشرات؟ قال الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له" [12] , ولفظ رواية أبي هريرة عند البخاري "لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة" [13] .
وفي رواية ابن عباس رضي الله عنهما قال ذلك في مرضه الذي مات فيه: "يا أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له" [14] .
قد دل حديث عائشة رضي الله عنها دلالة واضحة لا خفاء فيها على انقطاع النبوة بقضها وقضيضها (بجميع أنواعها) ويؤيده ما رواه أبو هريرة وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم من الأحاديث المرفوعة الصحيحة التي أخرجها مالك والبخاري ومسلم، فلا بد من تقديم هذه الأحاديث على أثر عائشة رضي الله عنها من وجوه (أ) - إذا وقع التعارض بين الحديث الصحيح المرفوع والأثر الموقوف فالواجب تقديم المرفوع على الموقوف، لأن المرفوع من كلام النبي صلى الله عليه وسلم والموقوف من كلام الصحابي ولا شك أن قول النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم يقدم على قول الصحابي. (ب) - إن الراوي إذا خالف قوله ما روى من الحديث فالواجب تقديم روايته على قوله ورأيه كما تقرر ذلك في مصطلح الحديث وعلم الأصول [15] . (ج) - أثر عائشة رضي الله عنها هذا ذكره السيوطي في تفسيره بدون سند ولكن قال أخرجه ابن أبي شيبة، ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة لم يطبع منه حتى الآن إلا خمسة أجزاء لا يوجد فيها هذا الأثر ولكن علمنا بعد مراجعة المخطوطة التي هي في مكتبة الحرم المكي هذا الأثر بسنده، قال الإمام بن أبي شيبة في المصنف ص102/2 من القسم الأول باب من كره أن يقول لا نبي بعد النبي صلى الله عليه وسلم.(10/53)
حسين بن محمد قال حدثنا جرير بن حازم عن محمد يعني ابن سيرين عن عائشة قالت: "قولوا خاتم النبيين ولا تقولوا لا نبي بعده"، إسناد هذا الأثر منقطع لأن محمد بن سيرين لم يسمع من عائشة شيئاً قال الإمام ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: "ابن سيرين لم يسمع من عائشة شيئا" [16] .
وقال العلامة صلاح الدين أبو سعيد خليل بن كيكلدي بن عبد الله العلائي الدمشقي ت (761هـ) وقال البخاري: "لم يسمع ابن سيرين من عائشة رضي الله عنها شيئا" [17] ونقل عنه الحافظ ابن حجر [18] .
ومن البين أن الأثر الموقوف على الصحابي لا يقاوم الحديث المرفوع الصحيح، وكيف إذا كان ذلك الأثر منقطعاً، ولا شك أن المنقطع من أقسام الضعيف.
ومن العجب العجاب أن أتباع الميرزا القادياني نقلوا هذا الأثر من الدر المنثور ولو يلتفتوا إلى قول المغيرة الذي ذكره السيوطي بعد أثر عائشة رضي الله عنها كأنه تفسير لقولها قال ابن أبي شيبة ت (235هـ) أبو أسامة عن مجالد قال أخبرنا عامر قال: قال رجل عند المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: "صلى الله على خاتم الأنبياء لا نبي بعده"قال المغيرة: "حسبك إذا قلت خاتم الأنبياء، فإنا كنا نتحدث أن عيسى خارج فإن خرج كان قبله وبعده" [19] .(10/54)
فمعنى هذا الأثر أن من كره أن يقال لا نبي بعده إنما كره لأجل أنه قد ثبت بأحاديث صحيحة صريحة نزول عيسى بن مريم عليهما السلام قبل يوم القيامة كما ورد في الصحيح لمسلم فما يدُل عليه قول المغيرة من نزول عيسى عليه السلام صحيح ثابت لا شك في ذلك وفيه رد على القاديانية الذين لا يؤمنون بنزوله عليه السلام ولأجل ذلك لا يذكرون هذا الأثر في مؤلفاتهم، ومن الجدير بالذكر أن قول المغيرة رضي الله عنه يشتمل على جزأين (أ) - (حسبك إذا قلت خاتم الأنبياء) ، (ب) - فإنا كنا نتحدث أن عيسى خارج الخ، أما الجزء الأول فلا يعبأ به لأنه قد تفرد به مجالد بن سعيد الهمداني وهو ضعيف لا يحتج به وقد تغيّر في آخر عمره ولا يعرف متى أخذ عنه هذا الأثر كما قال الحافظ ابن حجر في التقريب [20] : مجالد بن سعيد ليس بالقوي وقد تغير في آخر عمره"، وأما الجزء الثاني فمعناه صحيح كما يدل عليه أحاديث مسلم وغيره. (ج) -قد اعترف المتنبي القادياني بانقطاع النبوة بأسرها في تأليفه (عمامة البشرى) قائلاً: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} . وفسره نبينا صلى الله عليه وسلم في قوله:"لا نبي بعدي" وقال في (كتاب البرية) : كان الحديث لا نبي بعدي معروفاً منتشراً بين الناس إلى حد لا يمكن أن يشك في صحته أحد، وذكر في بعض مؤلفاته حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي (تحفة بغداد ص7) .
فمن أنعم النظر فيما ذكرناه من الأدلة والشواهد على انقطاع النبوة بجميع أنواعها لا يمكن له أن يستدل بقول عائشة رضي عنها المنقطع الضعيف وإلا مثله كمثل غريق يتشبث بالحشيش، والله الهادي إلى سواء السبيل. . (للبحث صلة) .
--------------------------------------------------------------------------------(10/55)
[1] تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة لابن عراق الكناني ت (963 هـ) ج1 ص366 وتاريخ بغداد ج10 ص358.
[2] ميزان الاعتدال ج3 ص230.
[3] مجمع البحار ج3 ص518 فصل في الخاتمة.
[4] فيض القدير ج1 ص90 وميزان الاعتدال للذهبي ج1 ص231.
[5] الكامل لابن عدي مخطوطة ج3 ص186 ق2.
[6] مجمع الزوائد ج9 ص44.
[7] تفسير الدر المنثور للسيوطي ج5 ص204.
[8] تفسير الدر المنثور للسيوطي ج5 ص204.
[9] ج8 ص396 مع شرحه فتح الباري المطبعة السلفية بمصر كتاب التفسير باب ذرية من حملنا مع نوح، كتاب المناقب 6 ص558 الصحيح لمسلم كتاب الإيمان والسنن لابي داود كتاب الفتن والجامع الترمذي أبواب القيامة والسنن الدارمي في مقدمته ومسند أحمد في مواضع منهاج1 ص226، ج2 ص436، ج4 ص127، ج5 ص278.
[10] الجامع الصحيح للبخاري كتاب الأنبياء 6 ص495 وكتاب الأدب ج10 ص577 مع فتح الباري المطبعة السلفية بمصر والصحيح لمسلم كتاب الإمارة وكتاب فصائل الصحابة، والسنن لأبي داود كتاب الفتن، والجامع الترمذي أبواب الفتن وأبواب المناقب، والسنن لابن ماجة في المقدمة وأبواب الجنائز وأبواب الفتن والمسند أحمد في عشرة مواطن منها ج5 ص287.
[11] الجامع الصحيح للبخاري كتاب المناقب ج6 ص616 وباب علامات النبوة، كتاب الفتن ج13 ص81 والصحيح لمسلم كتاب الفتن والجامع للترمذي كتاب الفتن والمسند لأحمد في ثلاثة مواطن منها ج2 ص349 والسنن لأبي داود كتاب الملاحم.
[12] مسند أحمد ج6 ص129.
[13] الجامع الصحيح للبخاري مع شرحه فتح الباري 12 ص375.
[14] الصحيح لمسلم ج4 ص196 كتاب الصلاة باب النهى عن قراءة القرآن في الركوع والسجود.
[15] المستصفى للغزالي ت (505) هـ ج2 ص113 وقواعد التحديث للقاسمي ت (1332) هـ نقلا عن إعلام الموقعين للحافظ ابن االقيم ت (751) هـ.
[16] كتاب المراسيل ص116.(10/56)
[17] جامع التحصيل في أحكام المراسيل ج2 ص635 (مخطوطة) .
[18] تهذيب التهذيب ص216/9.
[19] الدر المنثور ج5 ص204.
[20] التقريب لابن حجر ج2 ص229.(10/57)
من المشكلات اللغوية في القرآن الكريم
بقلم: فضيلة الشيخ عبد الجليل شلبي
المدرس في كلية الشريعة بالجامعة
في القرآن الكريم آيات كثيرة أشكل إعرابها على النحويين, وذهبوا فيها مذاهب شتى كل حسب وجهة نظره، وحسب المدرسة النحوية التي ينتمي إليها، كما أن به أيضاً تعبيرات بَدَتْ للوهلة الأولى خارجة عن قواعد البلاغيين، وذهب الشراح والمفسرون يلتمسون لها توجيها، وحارت فيها أفكارهم.
وأعرض اثنين من هذه الآيات المشكلة، إحداهما نحوية والأخرى بلاغية.
فمن التعبيرات النحوية التي أتعبت المفسرين والمعربين جميعاً قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} . إذا افتتحت الآية بالاسم الموصول (الذين) وهو لجماعة الذكور العقلاء, و (يتوفون) صلة الموصول، والرابط بها واو الجماعة، أما الخبر عن هذا المبتدأ فهو جملة {يَتَرَبَّصْنَ} والفاعل فيها هو نون النسوة وبهذا لا نجد الخبر مطابقاً للمبتدأ. ومن هنا تفرقت كلمة المعربين واختلفت تخريجاتهم لهذا التركيب. قال شيخ المفسرين الطبري:
"فإن قال قائل: أين الخبر عن الذين يتوفون؟ قيل متروك لأنه لم يقصد قصد الخبر عنهم، وإنما قصد الخبر عن الواجب على المعْتَدّات من العدة، في وفاة أزواجهم، فصرف الخبر عن الذين ابتدأ بذكرهم من الأموات إلى الخبر عن أزواجهم والواجب عليهن من العدة، إذ كان معروفاً مفهوماً معنى ما أريد بالكلام، وهو نظير قول القائل في الكلام: بعض جبتك متخرقة في ترك الخبر عما ابتدئ الكلام به إلى الخبر عن بعض أسبابه، وكذلك الأزواج اللواتي عليهن التربص، لما كان إنما ألزمهن التربص بأسباب أزواجهن صرف الكلام عن خبر من ابتدأ بذكره إلى الخبر عمن قصدَ قصْدَ الخبر عنه".(10/58)
وهو يعني أن الأرامل ألزمن التربص ومنعن من الزواج بسبب أزواجهن المتوَفّيْن، فترك الحديث عن هؤلاء المتوفين وصرف إلى الزوجات اللاتي سيقت الآية لبيان ما يجب عليهن".
وهو كلام جيد من ناحية معناه، ولكن بقيت المشكلة النحوية بدون حل.
ويعود الطبري فيعرض حلاً آخر فيقول:
"وقد زعم بعض أهل العربية أن خبر {الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ} متروك، وأن معنى الكلام. . . ينبغي لهن أن يتربصن بعد موتهم".
وليس هذا أيضاً حلاً نحوياً، إنما هو بيان للمعنى المقصود، والمعنى واضح ولكن المشكلة مشكلة تركيب وقواعد نحوية، وليس منها أن يحذف كل هذه الكلمات.
وقدر الزمخشري مضافاً محذوفاً في أول الجملة، واعتبر أصل التركيب: وأزواج الذين يتوفون. . يتربصن، وإذن فالنون في (يتربصن) تعود على المبتدأ المحذوف وهو (أزواج) . وعَرَض توجيهاً آخر، فقدر محذوفاً في آخر الجملة لا في أولها. وقال: التقدير يتربصن بعدهم، وهذا كما يقال: السمن منوان بدرهم، أي منه.
وكلا التقديرين مقبول، فحذف المضاف مألوف، وحذف الظرف مألوف.
ولعل أقرب [1] هذه التحليلات وأدناها إلى منطق النحو ما ذكره الزجاج في كتابه (معاني القرآن وإعرابه) من أن (أزواجاً) تحمل ضميراً يعود على المبتدأ، والتقدير: (ويذرون أزواجاً لهم) وإذن فالضمير في (يتربصن) لا يعود على (أزواجا) منفصلة عن الاسم الموصول. وإنما هي بمعنى (أزواجهم) ويذكر الزجاج نظيرا لهذا من الكلام، إذ يقال مثلاً: الذي يموت وله بنتان ترثان الثلثين، فكلمة (بنتان) تحمل ضميراً ومعنى من المبتدأ، والألف في (ترثان) هي بمعنى (بنتاه) وإن فالخبر ليس خالياً من الرابط.
هذا الذي ذكره الزجاج قريب من اللغة، ولم يقدر فيه محذوفات بعيدة أو كثيرة كما فعل غيره.(10/59)
والتعبير بعد كل هذا ليس شيئاً خارجاً عن الأساليب العربية، فالبحث إنما هو عن تخريجه ووجهته الإعرابية، وقد ذكر كل من الفراء والزجاج نظيراً لهذا الأسلوب قول ثابت قطنة [2] :
على ابن أبي ذبان أن يتندما.
لعلي إن مالت بي الريح ميلة.
فاسم (لعل) هي ياء المتكلم، والخبر هو (يتندم) ، وكان الأصل: لعل ابن أبي ذبان أن يتندم، إن مالت بي الريح عليه، ولكن هذا التعبير يجعل المتكلم تابعاً في الكلام لا أصلاً، والتقدير هنا لعلي مع ابن أبي ذبان، وهو على أي حال ليس منقطع الصلة عن اسم (لعل) .
وهذا كما تقول: لعلي إن ضربت بسيفك ينكسر، ولعلي إن حاربتك تنهزم و (لعلّ) في كل هذه الحالات بمعنى الاشفاق، ولكنها ما زالت بحاجة إلى اسم وخبر. وقد ضرب أبو عبيدة في مجازه صفحاً عن هذه الآية.
ونقل الطبري هذا الشاهد السابق وأوْرد تنظيراً آخر وهو قول الشاعر:
بغير دم دار المذلة حلت.
ألم تعلموا أن ابن قيس وقتله.
قال: "فألغى ابن قيس وقد ابتدأ يذكره. وأخبر عن قتله أنه ذُلّ".
وهذا الاستشهاد غير قوي، لأنه يحتمل التأويل بالمفرد، فيمكن أن تكون الواو للمعية، فيظل الحديث عن ابن قيس الذي قتل لغير جريرة. ويكون التقدير: إن ابن قيس مع قتله بغير ذنب هو إن وذلة، فما بعد الواو فضلة لا يحتاج إلى إخبار عنه. ومن المألوف السائغ أن يقال: إني وما ملكت يدي ملك لك ورهن أمرك، وفي القرآن أيضاً: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّم} .(10/60)
ومن الأساليب التي أثارت تساؤلات البلاغيين ما حكى به القرآن الكريم قصة موسى عليه السلام والعبد الصالح الذي قابله, وهو الخضر عليه السلام، إذ قال: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} .
فقد تكررت كلمة أهل، وكان مقتضى الظاهر أن يقال: حتى إذا أتيا أهل قرية استطعماهم. فذهب كثير من المفسرين واللغويين يتلمسون العلل لهذا الإظهار في موضع الإضمار، والواقع أن الأمر ليس كذلك، وليس في الآية إظهار في محل الإضمار، بل يتعين أن يكون التعبير كذلك {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} ولا يجوز (استطعماهم) .
ويرجع سبب الاختلاف في وجهة النظر إلى الاختلاف في تقدير جواب الشرط فالذين قدروه (استطعما أهلها) جواب الشرط اعتبروا أهلها إظهاراً، ولكن هذه لا تصلح جواب شرط، وإنما جواب الشرط هو {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} ، ذلك أن الآية تقص ما حدث على يد العبد الصالح من أمور شاذة واعتراض موسى عليه فيما يفعل، وهنا أمر عجيب وهو أن القوم قد بخلوا عليهم بالطعام رغم سؤالهم إياهم، ومع هذا يقيم الخضر لهم الجدار بدون أجر. لهذا اعترض موسى عليه، فسياق القصة كلها يقضي أن يكون جواب الشرط إما فعلاً عجيباً من الخضر أو اعتراضاً من موسى.(10/61)
وفي الحادث الأول وهو خرق السفينة، {حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا} نجد جواب الشرط هو (خرقها) وهو عمل عجيب يستدعي التساؤل والاعتراض، وفي الحادث الثاني وهو قتل الغلام. . . {حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} نجد جواب الشرط هو (قال) ، أي اعتراض موسى، وفي هذه الآية {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ} نجد كلمة {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} لا هي فعل عجيب للخضر ولا اعتراض من موسى، وأيضاً لم يكن ورودهما القرية طلباً للطعام.
وإذن فجملة استطعما أهلها هي نعت لقرية المضاف إليه، وهو جملة فعلية، فلا بد من وجود رابط بها يعود على القرية، وهذا الرابط هو الضمير في أهلها، ولو جاء التعبير - على هذا التقدير. . حتى إذا أتيا أهل قرية استطعماهم لبقي النعت الجملة بلا رابط.
وتقدير الآية بعد هذا هو: حتى إذا وصلا قرية قد رفض أهلها أن يقدموا لهما شيئاً من القرى، وكان بها جدار يوشك أن ينهار، فأخذ الخضر بقيمة عجب موسى وقال له: لو شئت لاتخذت عليه أجراً.
وهناك وجه آخر لم يغب عن ذهن الباحثين، وهو عود الضمير على الأهل لو قيل (استطعماهم) ، وتكون الجملة الفعلية نعتاً لأهل لا للقرية، ولكنهم استبعدوا هذا الوجه لأن الآية ظلت تتحدث عن القرية لا عن الأهل، قالت: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً} ولم تقل فوجد عندهم جداراً، ولأن الجدار من مباني القرية لا من سكانها، والحديث عن عملهم فيها لا عن مجادلتهم السكان.
اعتمد هذا الوجه قاضي القضاة تقي الدين السبكي، ونقله عنه ابنه في (عروس الأفراح) . . ثم نقله الألوسي في تفسيره.(10/62)
ولم تهمل كلمة أهل في أول الجملة فيكون تركيبها: (حتى إذا أتيا قرية استطعما أهلها) لأن ذلك قد يوهم أنهما سألا أهلها إجمالاً، وهذا يصدق بسؤال بعض منهم، فلا يكون ثمة عجب أو دهشة في إقامة الجدار مع رفض القرى من بعض الأفراد.
وكما قال بعض المفسرين أنهما قابلا أول الأمر بعض أفرادها وحين أعوزهما الطعام ذهبا يسألان الأهلين [3] واحداً واحداً أو بيتاً فلم يحفل أحد بهما ولا طابت نفسه أن يقدم لهما طعاماً، وبعد هذا كله يقيم الخضر هذا الجدار غير آبه لما كان منهم من إساءة وشح.
وبدء الآية بالأهل لا ينافي أنها حديث عن القرية.
بهذا لا يكون تكرار كلمة (أهل) في الآية من وضع الظاهر موضع المضمر بل يكون ذكراً لا بد منه.
وكان الأديب العالم الشيخ صلاح الدين الصفدي ممن حيرهم البحث في تركيب هذه الآية فكتب إلى الشيخ السبكي يسأله شرحها في شعر جاء فيه:
بدا وجهه استحياله القمران.
أسيدنا قاضي القضاة ومن إذا.
لا فضل من يهدي به الثقلان.
رأيت كتاب الله أكبر معجز.
بها الفكر في طول الزمان عناني.
ولكنني في الكهف أبصرت آيةً
ترى استطعماهم مثله ببيان.
وما هي إلا استطعما أهلها فقد.
مكان ضمير إن ذاك لشاني.
فما الحكمة الغراء في وضع ظاهر.
وأجاب القاضي بهذه الإجابة التي لخصناها عنه، ووجدها من المفسرين بعده من يرتضيها ويؤيدها.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المجلة: في إعراب هذه الآية يقول المبرد: إن (يتربصن) خير لمبتدأ محذوف دل عليه المقام. والتقدير (أزواجهم يتربصن) وهذه الجملة خبر عن المبتدأ الأول وهو (الذين) = وحذف ما يعلم جائز.(10/63)
[2] ثابت قطنة من الشعراء خراسان الإسلاميين، ذهبت عينه بطعنة فكان يضع عليها قطنة فسمي بها _ كان من أنصار المهلبيين، وهذه القصيدة مما رثى به يزيد بن.
المهلب، وابن أبي ذبان_ هو الوليد بن عبد الملك، سمي كذلك لأن أباه كان آبخر شديد البخر حتى إن الذباب كان يموت إذا دنا من فمه _ ويروى البيت أيضا (أن يتقدما) _
[3] قائل هذا يريد: أنهما أتيا بعض الأهل واستطعما جميع الأهل فتغير المراد من أهل الأولى وأهل الثانية= ولهذا لم يقل استطعماهم حتى لا يعود الضمير إلى أهل بمعنى (بعض) = المجلة =(10/64)
قضايا أساسية في تطوير المكتبة العربية والإسلامية
بقلم: الأستاذ عيد عبد الله عيد السيد
خبير المكتبات في الجامعة
نختم هذه المقالات في تطوير المكتبة العربية والإسلامية بمقالة موجزة عن المراجع والدوريات والإعارة والدفاتر والسجلات والخدمة المكتبية.
فتساءل عن معنى كلمة مرجع وعن الفرق بين المرجع وبين المصدر وعن المواد التي تختص بإطلاق اللفظ وعن فائدة المراجع وكيفية قياس مدى صلاحيتها.
ثم نعرض للدوريات أي المجلات والصحف فنتحدث عن أهميتها وضرورة الاهتمام بها. وفي الإعارة نعرض لقواعد الإعارة وضرورة مرونتها وتيسيرها لأعمال الخدمة المكتبية وتحدثنا عن الدفاتر والسجلات وبمعنى آخر قدمنا حصراً بها.
وقد ختم المقال بالتساؤل عن ماهية عن ماهية الخدمة المكتبية وأهدافها.
المراجع والدوريات:
المرجع كل ما يرجع إليه وبهذا المعنى تكون المراجع هي رصيد مكتبة ما من مواد المعرفة وقد يكون هذا المعنى سليماً عند إعداد الأبحاث العلمية التي تذيل عادة بما يسمى قائمة المراجع أي ما رجع إليه الباحث نفسه.
ولكن قد يأتي بخاتمة البحث قائمة بالمصادر وأخرى بالمراجع وفي تلك الحالة تكون المراجع كلمة عامة للكتب غير الأساسية في البحث أما المصادر فتطلق على كل ما لا بدّ من دراسته بصفة أصلية عند إعداد بحث ما كما في الوثائق والنقوش والسكة والآثار وقليل من الكتب المعاصرة. وقد يرقى مرجع من المراجع إلى مستوى المصدر وذلك إذا توافرت له الصحة والدقة في البحث والتدقيق والنزاهة. . . الخ.(10/65)
وليس المرجع عند المشتغلين في المكتبات بهذا المعنى وإنماله مفهوم مختلف ومدلول متباين فهو يشمل أشكالاً معينة من الكتب تختلف عن بقية محتويات المكتبة من حيث الشكل والاستعمال وهي فيما بينها تختلف في أمور وتتفق في أخرى فالقواميس ودوائر المعارف والموسوعات والتشريعات وغيرها لها أهميتها الكبرى للباحث والدارس ولطالب المعرفة وهي من ألزم الأمور لجميع أنواع المكتبات وهي كتب لا تقرأ بذاتها وإنما يرجع إليها عند الحاجة.
فالمرجع في عرف المكتبيين هو الكتاب الذي لا يحتاجه القارئ بذاته ولكنه مضطر للرجوع إليه بين الحين والحين أو هو كل مادة علمية تضطر مكتبة ما إلى منع إعارتها في الخارج.
فقد تكون المراجع هي الكتب النادرة والمخطوطات والموسوعات والقواميس والتشريعات والنشرات والرسائل الجامعية والخرائط والأطالس والمواد السمعية والبصرية.
وتقاس قيمة هذه المراجع في مكتبة ما بقيمتها العلمية فكلما كانت معلوماتها صادقة ووافية حققت غرضها:
وهناك معايير شكلية وموضوعية لتقويم المراجع داخل مكتبة من المكتبات أو عند شراء مرجع منها:
1- متانة الغلاف وجودة التجليد إذ كلما كان المرجع بهذه الصورة كلما عاش فترة أطول وأدى خدمة أكبر للقراء كما أن الناحية الجمالية في الغلاف قد تدعو من لا يقرأ لأن يقرأ.
2- حجم المرجع يوحي بأهميته فمرجع في ثلاثين مجلداً مثلاً يدل بحجمه على جهد كبير بذل فيه غالباً.
3- الإخراج الجيد أو الرديء في الطباعة وحسن استخدام الحروف أو سوء استعمالها يفيد في دراسة المراجع والحكم لها أو عليها.
4- ونوع الورق أيضاً له أثر في استخدام المراجع فكلما كان الورق أبيض غير لامع أو براق لا شفافية فيه كلما كان القارئ قادراً على قراءة المراجع بيسر وسهولة.
5- وقائمة المواد والمصادر التي استعان بها مؤلفو مرجع من المراجع تفيد في الحكم على قيمة هذا المرجع وصدق معلوماته.(10/66)
6- وكلما احتوى المرجع على كشافات تبين كيفية الاستفادة منه، ككشافات الأعلام والبلدان والموضوعات والخرائط وغير ذلك وكلما رتبت هذه الكشافات داخل هذه المراجع بطريقة تيسر استعمالها والاستدلالات على المعلومات داخل المراجع كلما زاد حب القراء للمرجع ودل على أهميته ودقة القائمين على إعداده.
7- ويمكن معرفة مستوى المرجع من المؤهلات العلمية للمؤلفين والناشرين وهل تسمح لهم بمزاولة عمل المراجع؟ . . . الخ.
8- على أن مادة المرجع وعرضه لحقائق موضوعية دون تحيز أو تعصب وتناسب مادته مع مستوى القراء وطريقة عرض المادة العلمية داخل المرجع هي الأساس في تقويمه.
9- يجب في بعض المراجع توافر وسائل الإيضاح التي تشرح مادة المرجع في بساطة.
10- وأسلوب المرجع ولغته يفيدنا في الحكم له أو عليه في أحيان كثيرة.
11- يجب أن يراعى في المرجع اتصال مادته بمجتمع المكتبة ومشكلاته وحياته وعاداته وقيمه وتراثه. . . الخ.
12- ويجب معرفة النواحي التي يخدمها المرجع والمستوى العام الذي يصلح له.
ومجمع القول أن تقويم المراجع لمعرفة الصالح منها على أسس فنية سليمة عرضت بعضاً منها أمر له أهميته وخطورته لأنه بجميع فئات المستعيرين. ونحن في مكتباتنا العربية لا نولي هذه الأسس أي رعاية بل ندر أن توضع قواعد ملزمة لتزويد مكتباتنا بالمادة المقروءة.
أما الدوريات فهي كل المطبوعات التي تصدر بانتظام في فترة زمنية معينة وتحمل عنواناً واحداً كالصحف والمجلات والنشرات والكتب السنوية.
وإن الاهتمام الذي يجب أن يوجه إلى اختيار الدوريات الصالحة لمكتباتنا لا يقل عن مستوى اهتمامنا بالكتب والمراجع لأن للصحيفة اليومية أو المجلة الأسبوعية أو النصف شهرية أو الشهرية وغيرها أهمية كبيرة وأغراض متعددة للكبار والصغار ويجب أن يراعى عند تزويد مكتباتنا بالدوريات ما يأتي:(10/67)
1- مناسبة الدورية للغرض الذي نقتنيها من أجله.
2- خلوها من الصور الخليعة وما يتناول الجنس بصورة تخدش الحياء.
3- أن تمثل مختلف المعارف فالصحف تخبرنا بأحداث الساعة ومعرفة ما يقع في حينه بينما المجلات تخصص مادتها للعلوم والفنون والآداب والدين وغير ذلك ومن المجلات العام ومنها المتخصص.
ومما يؤسف له أننا حتى الآن لا نصدر مجلات علمية متخصصة بلغتنا العربية وبخاصة في ميدان العلوم البحتة والتطبيقية والصناعات ومعظم مجلاتنا يغلب عليها الطابع العام فيما عدا بعض مجلات مجامع اللغة العربية ومجلات بعض الجامعات ونحن في أشد الحاجة إلى إصدار مجلات متخصصة وإلى اقتناء دوريات علمية بمختلف اللغات ولمختلف التخصصات حتى نشارك في أحدث ما وصلت إليه البشرية من إنجازات في مختلف المجالات.
ونود أن يأتي اليوم الذي نهتم فيه بهذا النوع من المعرفة, وأن يأتي اليوم الذي نتمكن فيه من عمل الفهارس التحليلية لهذه الدوريات حتى نساير التقدم الحضاري السريع. والفهارس التحليلية للدوريات هي خلاصات Abestracts تصدر وفيها بيان كامل عن كل مقال في المجلة أو الدورية وموجز أو خلاصة لهذا المقال تغني عن قراءته أو تدفع إلى قراءته حسب الأحوال ومنها الكشاف التحليلي للصحف وقد بدأ العمل في مشروع كهذا في مصر بإشراف الدكتور محمود الشنيطي إلا أنه توقف الآن.
ولعلّ دارة الملك عبد العزيز في المملكة العربية السعودية تتبنى هذا المشروع فتصدر الكشاف التحليلي للصحف والمجلات في المملكة العربية السعودية ولعل كل المكتبات في الوطن العربي تقوم بعمل فهارس تحليلية لمحتوياتها من المجلات والصحف.
في السجلات والدفاتر:
أهم السجلات والدفاتر التي تستعمل في المكتبات حاليا هي:
1- سجل الفهرس (الفنون) وفيه معلومات ببليوجرافية عن الكتاب والمؤلف والعنوان، وبيان النشر - وبيانات التوريق. . . الخ.(10/68)
2- سجل المطبوعات الدورية لقيد الصحف والمجلات الأسبوعية والنصف شهرية والشهرية والربع سنوية. . الخ. ولكل منها سجل خاص.
3- سجل الإعارة الخارجية وبه بيانات عن المستعير والكتب التي تعار.
4- سجل المترددين على المكتبة وهو لإحصاء من يقوم بزيادة المكتبة لأي سبب.
5- سجل إحصاء النشاط المكتبي.
6- دفتر لجنة المكتبة ويدون به محاضر اجتماعاتها.
7- دفتر جماعة أصدقاء المكتبة.
8- دفتر ميزانية المكتبة وغير ذلك من السجلات والدفاتر ومن الضروري استكمال هذه السجلات في مكتباتنا أو استكمال الناقص منها.
الإعارة والخدمة المكتبية:
الإعارة هي العمل الملموس داخل المكتبات وإن جميع الإجراءات الفنية داخل المكتبات تهدف في النهاية إلى إحضار الكتاب للقارئ. وبقدر زيادة حركة الإعارة تكون قيمة المكتبة وفائدتها. وعليه فلا بد أن توضع النظم والقواعد التي تيسر للقارئ الحصول على الكتاب وتحفظ للمكتبة ملكيتها لكتبها وتحدد طبيعة العلاقة بين القارئ ومكتبته بمرونة ويسر، وكلما كانت قواعد الإعارة مرنة كلما كان ذلك في صالح الخدمة المكتبية وكلما كانت إجراءات الحصول على الكتاب مبسطة كلما استفاد القارئ والمكتبي معاً وقتاً وجهداً وهنا يجب أن تصدر القواعد والنظم التي تضبط أعمال الإعارة داخل مكتباتنا على أن تحتوي هذه النظم بصفة أصلية على ما يأتي:
1- مجموعات الكتب بكل مكتبة تعريفاً وتحديداً.
2- إطار الخدمة المكتبية أو من لهم حق الإعارة من المكتبة وفئاتهم.
3- تمييز مجموعات المكتبة بختم خاص.
4- النص على الكتب التي تسمى مراجع وما في حكمها.
5- تعريف الدوريات والصحف وكيفية إعارتها ولمن تعار.
6-التعاون بين المكتبة وغيرها من المكتبات في نطاق الإعارة وحدود ذلك ومداه وغايته.
7- عدد الكتب المسموح بها لكل فئة من فئات المستعيرين ومتى يمكن زيادة هذا العدد.(10/69)
8- هل يجوز للمكتبة أن تعير كتبا لغير الفئات التي تخدمها وبخاصة مكتبات الجامعات والمدارس حيث جمهورها الأساتذة والطلاب.
9- مدة الإعارة وعدد مرات تجديدها.
10- التعهدات والضمانات التي تشترطها المكتبة للإعارة.
11- متى يعتبر الكتاب المعار تالفاً؟ وما هي الإجراءات التي تتخذها المكتبة مع المتسبب؟
12- الغرامات والضمانات التي تستعملها المكتبة للمحافظة على رصيدها من المواد العلمية.
13- مطالبة المستعيرين برد ما لديهم من كتب. والإجراءات التي تتخذها المكتبة مع الذين لم يردوا ما بعهدتهم من كتب للمكتبة.
14- بطاقة الإعارة وصفحة المستعير والمعلومات التي تشتمل عليها. . .الخ.
وهذه القواعد التي ذكرت يمكن الاسترشاد بها ولكنها قابلة للحذف والإضافة ويلاحظ أن نجاح القواعد الخاصة بالإعارة في مجال التطبيق يقاس بمرونتها ومدى قدرتها على منح حرية الحركة للمستعيرين والأمناء على حد سواء.
على أن مكتباتنا العربية يغلب عليها عدم التقيد بقواعد ثابتة للإعارة والخدمة المكتبية.
والآن نتساءل عن ماهية الخدمة المكتبية وأهدافها؟
عرف ملفل ديوي الخدمة المكتبية بأنها (أحسن قراءة، لأكبر عدد بأقل تكلفة) وبهذا المعنى فإن الوظائف الأساسية لمكتبة ما هي الإعلام والمتعة والثقافة.
ولكن هذا التعريف من وجهة نظري غير مكتمل ويمكن للمكتبات العربية أن تكون أكثر طموحاً في أهدافها وأكثر وضوحاً في رسالتها.(10/70)
فتكون مهمتها تزويد من يقصدها بأدوات التعليم (الكتاب- المخطوط - الدورية - المرجع - الميكروفيلم - الأفلام التعليمية - المحاضرات - تلخيص الكتب. . . الخ) وبأدوات البحث (الببليوجرافيات - الفهارس - خلاصات الكتب - النشرات - قوائم الناشرين. . . الخ) وبالمتعة الذهنية بما تحويه من كتب التاريخ والدين والأدب الرفيع وغير ذلك مع الحفاظ على التراث الحضاري والاجتماعي للبيئة التي تخدمها وللمجتمع البشري كله.
وفي ضوء هذه الرسالة يجب على العاملين في حقل المكتبات أن يدرسوا معدلات الأدباء لأعمالهم..
وهكذا يمكن القول أن الخدمة المكتبية بسيطة وممكنة ولكنها ضرورية جداً وملحة للغاية رغم كونها يجب أن تكون حرة مسيرة واختيارية وذاتية على أنه أصبح من الضرورية الآن وضع ميثاق للعمل بالمكتبات العربية حتى تكون رسالتها واضحة مع مراعاة أن تحكم خدمات المكتبات في عالمنا العربي الاتجاهات الآتية:
1- يجب أن تزود المكتبات بالمواد التي تمثل وجهات النظر المختلفة في مشكلات العصر المحلية والوطنية والقومية والعالمية.
2- يجب أن تحوي المكتبات كتباً تنطوي على حقائق أصلية ثابتة.
3- يجب أن تختار الكتب للمكتبات حسب فائدتها في تطوير المجتمع وتنويره ولا يستبعد أي كتاب بسبب جنس مؤلفه أو وجهة نظره المخالفة.
4- يجب أن تكون الرقابة على الكتب في حدود ضيقة جداً لا تتعدى سلامة العقيدة.
والخدمة المكتبية على مستوى الكبار يجب ألا تقتصر على خدمة المراجع بل لا بد أن يكون هناك مرشد للقراء وخدمة إرشادية قد تتسع في بعض المكتبات الكبيرة لتصبح قسماً مزوداً بعدد من الأمناء ذوي الخبرة والاختصاص لتقديم النصيحة للقراء أو تدريبهم على الاستعانة بوسائل التعرف على المعلومات وغير ذلك.(10/71)
كما يدخل في عداد الخدمة المكتبية أيضاً الخدمات التعاونية التي تتم بين المكتبة والجماعات والمنظمات الأخرى داخل البيئة عن طريق الزيارات والمؤتمرات وغير ذلك.
على أن العمل مع الأطفال يمثل قسماً مهماً في برامج المكتبات العامة على وجه الخصوص فعليها أن تعد كتباً ومواد أخرى للأطفال في مختلف الموضوعات ومتدرجة في المستويات وأن تقدم المناضد والمقاعد المنخفضة الارتفاع كما أن على المكتبة ان تهتم بالشباب والمراهقين وتقدم لهم المواد اللازمة التي تساعدهم في هذه المرحلة من مراحل النمو.
إن القراءة هي سياحة رائعة بين آثار المفكرين وعقول المصنفين وهي التي تنظم البحث العلمي وتشد أزره وتوجه الإنتاج الفني وتحسنه ولا يخفى على أحد ما فيها من متعة للنفس وغذاء للروح ولعل القراءة تعالج الكثير من عيوبنا الذهنية وتحل العديد من مشاكلنا النفسية إذا عرفنا كيف نقرأ؟ ومتى نقرأ؟ وماذا نقرأ؟
والله ولي التوفيق. . .(10/72)
حول نظرية الالتزام
000 والعيب ما عابه الشرع
دراسات أخلاقية لمجتمع السلفي
بقلم: فضية الشيخ السعيد الشربيني الشرباصي
المدرس بدار الحديث المكية التابع للجامعة
ولأن الالتزام مع الملتزم الصادق يدعوه إلى التطبيق الدائم للشرع، والتنفيذ المتتابع للسنة فيتحول من نطاق العبادة إلى نطاق العادة، ويصبح نهجاً له وخطة، ويصير على الدوام متطلعاً إلى الحق، متطلباً لحكم الشرع، ممسكاً بحبل الله المتين، عاضاً بنواجذه على السنة، فيمضي في طريق مستقيم، وسبيل سوي لا ينحرف ولا يميل، فلا يعول على رأي فلان، ولا ينعطف مع هوى بيان.
ولهذا يتوقف على كل ناصية وعند كل منعطف يسأل:
أين النص؟ وأين الدليل؟
وهل هناك خطة أهدى إلى الحق من تلك؟ فهي لا تعطي الفرصة للاختراع أو الابتداع، ولا تلجئ إلى الابتكار أو الاصطناع، ولا تستخدم الفلسفة ولا الخيال. . ولا مجال لذلك كله _ عند العاقل المنصف أمام شريعة الحكيم الرحمن، وتوجيه الخبير المنان. . الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، والذي علم طوايا النفس وخفاياها، وألهمها فجورها وتقواها. وهو أعلم بالبشر وما يوعون وكيف يهتدون، وماذا يريدون، وإلى أين هم سائرون؟
ويمضي الملتزم في خطته فينقل الالتزام من المسجد والجامع إلى البيت والشارع، فهو ديدنه ومنهجه في إقباله وإدباره، وفي منشطه ومكرهه، وتتبلور التصرفات الفردية لتصنع أخلاق المجتمع السلفي، ولا أدخل الآن في حقائق الالتزام ومبادئه، ولكني أسجل فقط بعض الظواهر الأخلاقية كدارس متأمل لما يعكسه الالتزام من أخلاق ومبادئ وتصرفات.(10/73)
ولأكون منصفاً لا أريد بكلامي مجتمعاً معيناً محدوداً بالزمان أو بالمكان ولا بالذوات أو بالأسماء كمجتمع المدينة المنورة مثلاً أو مكة المكرمة أو الرياض أو غيرها. وإنما أقصد أي مجتمع يأخذ نفسه بنهج الالتزام للشريعة الغراء، وأسلوب التمسك بالنصوص السمحة، سواء كان هذا المجتمع في مصر أو باكستان أو في سوريا أو في السودان. وإن كان يتعين في مجال الإنصاف أيضاً أن أرد الفضل إلى ذويه، فقد كان لهذه البلاد فضل إمدادي بهذه الملاحظات، وخاصة وقد أتيحت لي الفرصة للانتقال من المدينة إلى الرياض، ومن المدينة إلى مكة. . .
وفي مقالي السابق (يا ولد. . .) هي إحدى الكلمات الشائعة في هذا المجتمع انتهيت منها إلى ما يسوده من نزعة المساواة الحقة التي تولدت من خطة الالتزام بالشريعة السمحة، وإنا لنراها حقيقة مطبقة لا مجرد ادعاء كاذب كما نراه في بعض المجتمعات التي تصيح بالمساواة ولكن لا واقع لها إلا في الهواء على الألسنة والأبواق، وفي الصحف والإذاعات، وحتى عندما تطبق فإنها تعني المساواة في الحقوق لا المساواة في الحب والود والإخاء.
وفي هذا المقال أعرض لظاهرة أخرى وهي ما أسميها (بالواقعية الشرعية) وهي تواجه (الواقعية المادية) وتصادمها؛ لأن الواقعية المادية تستمد مسيرتها من الواقع المادي ومن الظروف حُسنت أو ساءت، طابت أو قبحت، وغالباً ما تقوم على النفاق والتظاهر الكاذب والمباهاة التي لا أساس لها.(10/74)
أما (الواقعية الشرعية) فهي تستمد وجودها من الشرع حيث يرتفع المبدأ الأصيل الخالد وهو (القبيح ما قبحه الشرع، والحسن ما حسنه الشرع) . ولنشرع في عرض صور لهذه (الواقعية الشرعية) . ولنأخذ صناعة الفرد في المجتمع فإننا نشاهد أن معظم المجتمعات تنظر إلى هذه الصناعة على مقياس التقويم والتكريم للرجل حسب المكانة الاجتماعية أو ما تدره من أرباح، وقد نرى نزعات مثالية داخل هذه المجتمعات تعارض هذه المقاييس. ولكن الأمر في المجتمع السلفي ليس أمر نزعة مثالية وإنما هو أمر واقع عام يشترك فيه الصغير والكبير والمتعلم والجاهل. واسمع لهذه القصة:
التقت سيدة سلفية بأتراب لها من جنسيات مختلفة والمقام حتماً يدعو إلى الفخر والمباهاة, ولكن السيدة السلفية بما تعودت في مجتمعها تميل إلى الصدق ولا ترى أي غضاضة في الحديث عن حالها بصراحة، فتحدثت على نهجها ذاكرة كيف جاء أبوها زائراً لها في العيد الأكبر وقالت من غير حرج: إن أبي يعمل في مقهى بأحد الثغور السعودية ويقوم بتقديم الشاي والقهوة لرواد المقهى، وعندما جاء لزيارتي جاء ومعه حقيبة جمع فيها ما تجمع له من قروش أثناء الموسم.
وتعتبر مثل هذه الصراحة في نظر أترابها غير السلفيات جنوناً وخيبة أمل؛ لأنه لو كانت واحدة منهن في موضعها لقالت عن أبيها: إنه يعمل مديراً لكازينو الشمس والهواء العالمي. . وزبائنه الأمجاد لا يدفعون له الثمن بالقروش ولا بالجنيهات وإنما بالدولارات والشيكات. . .
والتفسير الصحيح للسيدة السلفية قائم على أساس منطق الحلال والحرام فما دام الأمر لا يصل إلى منطقة الحرام فهو عمل شريف وكريم ونبيل، أما عند غيرها فهناك منطق غير الحلال والحرام، فالحلال والحرام قد لا يكون مدار الاهتمام، وإنما مدار الاهتمام هو مقدار ما تعكس الصفة من دخل أو مكانة كاذبة.(10/75)
وتتابع الصور داخل المجتمع السلفي على هذا النسق. هذا أخي عميد إحدى الكليات يجلس في قاعة مكتبه الشاسع المجهز بأحدث المظاهر الحديثة فعن يمينه جهاز تكييف، ومن أمامه عدة آلات تلفزيونية وإنه لحريص على العناية بعزته وكرامته، ولكن هذا لا يجعله ينظر إلى غيره نظرة مختلفة، بل إن عامل المكتب وساقي الشاي يجلس معه في نفس الغرفة وعلى مكتب أنيق يشبه مكتبه، وفي مواجهته يضع ساقاً على ساق إن أراد، وإنه لينهض عنه ليدور بإبريقه على الضيوف ثم يعود إلى مكتبه والإبريق معه.
وصورة ثالثة في هذا النطاق حيث نرى شيخاً ينتهي من تضرعه أمام الكعبة وقد انصرف الكثيرون لحالهم، ثم يلتفت الشيخ عن يساره فيلحظ شبحاً يتأمله فإذا به يعرف فيه تلميذه المهذب الحريص على العلم. ويحد البصر إليه فإذا به يراه قد حمل مكنسة هائلة يدفع بها الأتربة عن رخام البيت العتيق في إخلاص وبراعة. ويحول الشيخ نظره عن تلميذه حتى لا يضايقه أو لا يحرجه.
ولكن التلميذ طالب العلم ما يكاد يلحظ أستاذه حتى يعرج عليه لتحيته ويقدم نفسه إليه أنه يعمل هنا بمكنسته, والمكنسة العظيمة قائمة بين يديه, ولا يشعر الطالب بالحرج لأن العيب ما عابه الشرع, ويقدر الشيخ لتلميذه مشاعره ويزداد احترامه له.
ونترك هذه الصفحة إلى صفحة أخرى لمتابعة البحث والاستنتاج ولتكن في هذه المرة قضية الغيرة التي يتفرد بها المجتمع العربي بالتشدد فيها أكثر من غيره من المجتمعات ونرى خط السير لهذه العاطفة وكيف يتوجه بفضل الإسلام، وبفضل الالتزام لنصوصه. ونرى النتائج في هذه القضية أيضاً يحكمها المبدأ السابق وهو: أن القبيح ما قبحه الشرع والحسن ما حسنه الشرع وكيف كان ذلك؟(10/76)
هذا سلفي من الصفوف الأولى يعطي أعظم مثال على ذلك، انظر إلى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وهو يتسوق لابنته زوجاً_ واسمحوا لي في هذا التعبير الكاشف _ وهو في عمله النبيل يضع الحدود للفرق بين الحلال والحرام وبين الحق والباطل في شجاعة واعتزاز والتزام بالحق وحده دون النظر إلى أي اعتبار آخر. والغريب أن راوي القصة هو ابن عمر نفسه ناقلاً عن أبيه في شأن أخته وتقول الرواية كما رواها البخاري:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أن عمر رضي الله عنه حين تأيمت بنته حفصة قال: لقيت عثمان ابن عفان رضي الله عنه فعرضت عليه حفصة, فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر. فقال: سأنظر في أمري, فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي ألا أتزوج يومي هذا, فلقيت أبا بكر رضي الله عنه فقلت له: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر, فصمت أبو بكر ولم يرجع إلي شيئا, فكنت عليه أوجد مني على عثمان, فلبثت ليالي ثم خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه, فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئاً, فقلت: نعم, قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليّ إلا أنني كنت علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولو تركها النبي صلى الله عليه وسلم لقبلتها". رواه البخاري.
ولو أن هذه البنت لرجل متأنق لا يعنيه أمر الحلال والحرام، وإنما تأخذه العزة بالإثم، والغيرة الحمقاء لفضل لها أن تجري في الشوارع والطرقات، وتتحول إلى فتاة أندية ومجتمعات، ولا يحاول أن يأخذ بيدها إلى طريق الصون والعفاف.
فالزواج عند أهل الشريعة عصمة لا متعة مجردة، وحماية لا استعلاء أو استيلاء. ولا غرابة أن نجد بعض الأئمة حينما يخطب إليهم الولاة الذين لا يثقون في عدلهم يرفضون زواج بناتهم لهم، ويقبلون زواجها من فقير داخل تحت عموم قوله: "ترضون دينه".(10/77)
وفي هذا النطاق أيضاً نجد أن الشريعة لا ترى بأسا في الحديث عن المرأة في مجال الإرشاد والتعليم والتعلم وكتب السنة ممتلئة بذكر أمهات المؤمنين وما نقلن من معارف وحقائق، وهذا لا يخل بالرعاية والصون اللازم للمرأة.
بينما قد نرى العكس في بعض المجتمعات حيث نرى الرجل يشعر بالحرج في الحديث عن المرأة التي يرتبط بها، في الوقت الذي يسمح لها بلاحرج في السير خارج المنزل عارية الساعدين مكشوفة الساقين في ثياب تحدد تقاطيع جسمها. .
فماذا يعني هذا؟ إنه يعني عدم الالتزام بالصحيح، وعدم التمسك بالصواب وإنما هو الانسياب مع التيار، والانحلال مع المتحللين. .
سألت صديقاً لي من علماء باكستان لأتبين منه اتحاد طبائع العامة هناك مع طبائعنا هنا فيما يتعلق بقيام الرجل بعرض ابنة له على بعض معارفه محبذاً زواجهم منها, وما كدت أتم الحديث حتى صدرت منه كلمة تعجب واستغراب في سرعة وقوة وقال: لا يمكن أن يحدث هذا, فقلت له: وما رأيك فيما فعل عمر؟ فأجاب بنفس السرعة: ومن مثل عمر؟!
وقد يوجد الملتزمون فرادى في مجتمع غير ملتزم وهؤلاء يعيشون داخل هذه المجتمعات غرباء، ويضيق بهم ويطلق عليهم صفات ظالمة نتيجة لتمسكهم بالحق، والتزامهم بالشرع, فأحياناً يصفهم بالجمود أو التزمت وأحياناً يصفهم بالحنبلة أو التشدد. ... الخ.
والفرق كبير وخطير بين المتشدد والملتزم لأن التشدد قد يجره الأمر إلى الخروج عن نهج السنة طلباً للعسير من الأمور، وحرصاً على التعالي والثقة الكاذبة بالنفس، ولكن الملتزم يمضي وراء السنة فإن كانت عزيمة استجاب لها وصبر عليها، وإن كانت رخصة فرح بها وحمد الله عليها، ودعا إليها. وما خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن خروجا عن الشريعة والسنة. والله يصلح منا ما فسد، ويجعل هوانا تبعاً لما جاء به الإسلام من آداب وأخلاق..(10/78)
من آيات الله في الكون
بقلم عبد المؤمن محمد نعمان
نظرت الفتاة المتعلمة إلى الزهرة المتفتحة وكانت ذكية ثم قالت لأمها بلسان المؤمنة: انظري (يا أمي) إلى هذه الزهرة كيف تناسقت أوراقها الرخية وعلاها اللون الجميل وتضوعت منها هذه الرائحة العطرة، انظري إلى العروق الدقيقة والشرايين الشعيرية كيف وجدت في أوراقها الصغيرة وكأنها مدينة انتشرت فيها الجدد والخطوط، تأملي (يا أمي) لونها الأصفر الذي هو في حقيقة مزيج من عدة ألوان بتركيب دقيق يعجز عنه أي خبير في علم الفنون وتوزيع الألوان، أنعمي النظر ودققي المشاهدة في هذا التناسق البديع بين أوراقها وفي هذا الشكل الإنساني في قاعدتها بحيث أصبحت تبهج النظر وتستقطب الانتباه.
إن هذه الزهرة (يا أم) في حقيقتها تحتوي ملايين من الذرات كل ذرة منها مرتبطة بالأخرى ارتباطا أشبه ما يكون بارتباط كواكب المجرة في السماء فهي إذا عالم تتمثل فيه كثير من الخصائص والمعجزات، أليست يا أمي هذه الزهرة كافية بأن تقنع الكفار بوجود الله وتجعل المسلمين يزدادون حبا وتعلقا بالخالق العظيم وحده لا شريك له.! أجيبي يا أمي فلم أعد أطيق هذا السكوت.(10/79)
قالت الأم: وقد اندهشت من هذا الوعي والنضج الفكري في ابنتها الوحيدة وفلذة كبدها الحسناء غادة: لا تعجبي يا صغيرتي فإن عَمَهَ البصير أشد على الإنسان من عمى البصر ألم تقرئي يا غادة في القرآن الكريم قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} , وقوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} , وقوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} . فلقد غفل أولئك وتنبهت أنت، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. والزهرة هذه التي رأيتها يا غادة ليست إلا نقطة صغيرة من بحر زاخر بالنسبة لما في هذا الكون من الآيات والعجائب المبصِرَة المبصَرَة فما رأيته يا غادة في الزهرة أراه أنا في كل شيء، فالأرض بما فيها من وهاد وجبال وحزون وسهول تكون في فترة ما مجدبة قاحلة لا أثر فيها للحياة وكأنها إنسان ذهب عنه الشباب فشحب لونه وتجعدت أطرافه وعلاه الشيب وما هي إلا لحظات فإذا السحاب الثقال الذي يحمل بلايين الأطنان من الماء العذب ينتقل إليها من مسافات بعيدة فينزل الغيث فإذا الحال تنعكس وتدب الحياة.(10/80)
{وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} . فمن جمع السحاب وحركه, ومن أوجد فيه الماء العذب الزلال بهذه الكميات الهائلة من الأطنان، ومن أرسله إلى تلك الأرض المجدبة ثم أنزل منه الماء بقدر معلوم، ولما كانت عملية الأمطار تتم حسب السنن الكونية نتيجة الرياح وعوامل الطقس ومرور الرياح على البحار والمحيطات فمن أرسل الرياح وتحكم في قوتها ومن أوجد الأجواء الحارة والباردة ومن أمسك السحاب الثقال!
إن التعليل العلمي يا صغيرتي لعملية الأمطار لا يزيد المؤمنة إلا إيماناً إذ أن لكل شيء سنة وسبباً فليس أبداً للمؤمن الذي تعلم شيئاً من العلوم الكونية وخلافها إلا أن يستبشر ويبتهج لما وصل إليه فما كان بالأمس مجهولاً أصبح اليوم معلوماً وهذا بفضل الله الذي علم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم، إنّ القمر يا غادة ذلك الكوكب المنير كان بالأمس جسماً يسبح في فضاء ولم يدر أحد هل هو كتلة من نور تسبح أم قطعة من زجاج تضاء من الشمس جاء العلم الحديث فاكتشف كنهه الظاهر وأدرك محتواه البدائي فعرف المؤمنون والكفار أن القمر عبارة عن جبال وتلال تسبح في مجموعها في الفضاء ويدور حول الشمس بعامل الجاذبية فأدرك المؤمن وحده عظمة الله وقال بكل اعتزاز وفخر: لا إله إلا الله {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} !(10/81)
كل ما في الكون يا غادة جدير بالانتباه والتفكر ولذا قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} , وقال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} , وقال تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} , ولذا فالقرآن دائماً يركز على العقل ويدعو الناس إلى التفكر واستخدام عقولهم، فالعقلاء الحاذقون يرون كل شيء ولكنهم يرون بديع صنع الله {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} ، انظري يا غادة إلى الأفعى كيف خلقها الله في هذا الوجود وفطرها على الشر ولم يودع في قلبها أي نوع من العطف والرحمة [1] ، وانظري إلى العقرب وقد خلقها الله عدوة شرسة وحرمها الحنان في حين أنه تعالى خلق العصفورة وجعل في قلبها الحنان والعطف لكي تزق فراخها وتحنو عليهم كما تحنو الأم على وليدها من بني الإنسان فهذه العكسيات في المخلوقات في آن واحد تدل على الحكمة البالغة من تقدير العزيز الحكيم، فلم تعرف العقرب والأفعى حناناً كما لم يعرف العصفور الأذى أو الحقد، فلو كانت الأمور هكذا عبثاً وكان الكون وما فيه عن طريق المصادفة لما كان أبداً هذا النظام مستمراً بهذه الدقة طول الدهر فالمصادفة كما يقول الملحدون لا بد أنها تخطئ وما سميت مصادفة إلا أنها تصادف أحياناً ولو كان الأمر كذلك لوجدنا عقرباً تحنو وعصفوراً يؤذي.(10/82)
تأملي يا غادة أن العقرب لم تلد في يوم من الأيام إلا عقرباً والناقة لم تلد إلا جملاً أو ناقة وهكذا مع كل المخلوقات باختلاف أنواعها ولو كان الأمر من غير موجد خبير لأمكن للنحلة أن تخرج سماً وللأفعى أن تخرج عسلاً مصفى. . انظري إلى الفراشة في شكلها الجميل وأجنحتها الكبيرة وجسمها الإنسيابي كيف أحسن الله منظرها وأودعها ألواناً زاهية تمثل في مجموعها لون الأزهار، فمن خلق الفراشة وأودعها الروح وخلق الزهرة ولم يودع فيها الروح مع أن كلتيهما تنمو ومن وهبهما الحركة والنماء ومن جعل في الفراشة روحاً وفي الزهرة حياة؟؟؟
تأملي أيتها الغادة مملكة النحل وما يكتنفها من نظام دقيق فالنحل ذاته عالم لم يدرك حقيقته إلا الله. وتأملي الحكمة من هذا التنظيم إنها يا صغيرتي أوجدت لنا العسل المصفى والشهد العطر ولولا أن الله ربط النحل بهذا النظام لما تمكن الإنسان في يوم من الأيام من جني العسل {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
انظري إلى الجمل ذلك المخلوق الكبير كيف سخره الله وجعله يمشي خلف الطفل الصغير إلى حيث يشاء فمن أقدر الطفل على ذلك ومن ذلل الجمل لهذه المهمة؟ إنه الله العزيز الحكيم {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} .(10/83)
انظري إلى الطفل الصغير عندما يخرج إلى الدنيا كيف يبحث عن الثدي ويلتقمه بالفطرة ولم يبحث عن الملابس ولبلبها، إن الملابس يا غادة من الممكن أن يقوم بإلباسه إياها أهله, أما الطعام فلولم يهتد الطفل إلى امتصاص الثدي لما تمكن أهله من إدخال الطعام إلى جوفه، وتأملي ذلك الحليب الذي أودعه الله ثدي الأم فصار لبناً معقماً نقياً محتفظاً بدرجة الحرارة الملائمة لأمعاء الطفل وبتركيب خاص مهيأ للهضم في تلك الأمعاء الدقيقة وجعل مادة اللبأ التي تسبق الحليب ذات علاقة مهمة في نمو أعضاء الطفل وفوق هذا أودع الأم عاطفة الحنان والعطف بحيث يضفي ذلك على الطفل السعادة ونمواً عضوياً لا توجد لدى طفل حرم منها. . تأملي يا غادة تلك الأنهر الجارية في جسم الإنسان مع اختلاف في طعمها وتركيبها، فالريق نهر عذب يجري في فم الإنسان فلا يتدفق بصورة السيلان ولا ينضب إلا إذا فارقت الروح الجسد، والدمع نهر مالح يجري في مآقي الإنسان ولا يسيل إلا مع عاطفة البكاء أو تأثر العين بجسم خارجي، وهكذا مع أنهر الدم ومشتقاته وخلاف ذلك، تأملي القلب تلك المحطة الصغيرة الكاملة بجميع أجهزتها الدقيقة المعقدة ومهمتها الصعبة كيف ينبض باستمرار وبصورة منتظمة ودقات معدودة لا يمكن أن تتخلف أو تكل ما دام الإنسان في حالة طبيعية ومع هذا فالقلب متصل بالعقل وبينهما رابط قوي واتصال مباشر وعن طريقهما تتحرك كل الأعضاء في الإنسان ويتحدد موقفه وسيره وعمله {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} ، انظري يا غادة إلى القطط والكلاب تلد الأنثى منها أربعاً أو أكثر في بطن واحد بينما تلد المعز والنعاج والنوق والبقر مولوداً واحداً في الغالب ومع هذا نجد الغنم والجمال والبقر كثيرة جداً ونجد الكلاب والقطط قليلة جداً إذا ما قيست بتلك، فكيف تم هذا؟(10/84)
إنها البركة التي وضعها الله في الغنم والجمال والبقر فلم تعد لفة الأرقام تؤدي فاعليتها، وهكذا يا صغيرتي فالكون كله صفحة مملوءة بالآيات ولم يبق إلا التفكر على حد قول الأعرابي: البعرة تدل على البعير والقدم وأثر السير يدل على المسير، وسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ألا تدل على الحكيم الخبير؟!
والمسلمون يا غادة إذا لم يتفكروا في مخلوقات الله وتتجلى في نفوسهم عظمة خالقهم ويملأ قلوبهم جلال الله فسيبقون يلهثون وراء أعدائهم ويتلقون الضربات والنكبات {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} .
أما بهرج المادية الطاغية وطلاسم الحضارة المعاصرة فلا ينبغي أن تجذب ببريقها أبناء المسلمين لدرجة أن يكونوا عبيداً لها مبهورين بإبداعها وينسون المنعم الأول والخالق الحكيم الذي أوجد هذه العقول وأودعها القدرة على التفكير والتقدير {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} , {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} , {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] بل أودعها الرحمة بفراخها.(10/85)
نداءٌ واحتكامٌ إلى ضمير العالم الإسلامي
بقلم: السردار محمد عبد القيوم خان
رئيس دولة كشمير المحرر
الحج مؤسسة إسلامية اجتماعية هامة وهو _ كأي معتقد إسلامي آخر _ ذو مغزى خاص يشكل أساساً دولياً لفلسفة الحياة _ وإنما أدركت الحكمة الإلهية السرمدية ما يكون من إخضاع المسلمين لضروب من الإمتحان الخطر المؤلم في القرون الآتية_ ومن أجل ذلك زود الله لهم في صورة الحج فرصة ملائمة لاحتفال سنوي يأتيه المسلمون من أنحاء العالم كلها عند بيته الحرام. .
وبهذا يسمو اجتماع الحج فوق كل حاجز جغرافي أو فارق طبقي أو تفوق لساني ويجهز للمسلمين كافة منبراً عالمياً ومنتدى عاماً يمكن لهم تبادل أفكارهم ودراسة مشاكلهم ليشاركوا في أحزانهم ويسارعوا إلى إنقاذ المكروبين منهم _ في أي مكان كانوا _ بكل وسيلة وحيلة لهم عليها تسلط.
والآن يوجد مثل هذا الوضع من كرب المسلمين في ناحية نائية من أنحاء الكرة الأرضية_ وهو في الواقع تحدٍ يدعو الملة الإسلامية إلى النزال.
اليوم خمسة ملايين من مسلمي كشمير، المخلصين في وفائهم للدين الإسلامي القاطنين في منطقة تبلغ مساحتها 212.000كم2 وهي تقع في شمال شبه القارة الهندية، هؤلاء الكشميريون المسلمون يقاسون ألماً مبرحاً ويكابدون ترقباً قلقاً ويعانون خيبة وفشلاً، وكل ذلك بسبب مؤامرة سيئة خبيثة دبرها الاستعمار الهندوسي الجديد بمساعدة من البريطانيين المستعمرين الراحلين.(10/86)
وعلى الرغم من المبدأ المسلم لتقسيم القارة الهندية إلى الدولتين على أساس الدين واستخفافاً لهذا المبدأ حاولت الهند أن اغتصبت واحتلت كشمير خداعاًضد رغبة الأكثرية الساحقة من القاطنين المسلمين وقد أدى هذا الخداع المشئوم إلى تمزيق الشعب الكشميري إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول منهم هم سكان منطقة محررة وهي تحتوي على دولة كشمير المستقلة وإقليمي جلجت وبلتستان. والقسم الثاني هم الذين أخرجهم الهندوس من ديارهم وأموالهم وأكثرهم الآن لاجئون في باكستان يترقبون عودتهم إلى ديارهم في يوم ما. وأما القسم الثالث من الشعب الكشميري - وهو معظمهم - فهم يقاسون الحكم الكبتي الأجنبي في كشمير المحتلة تحت احتلال الهندوس.
هذا التفريق الاستبدادي بين أبناء جنس واحد يطرح قضية بشرية جدير أن يرثى لها - العائلات والأسرات مزقوا كل ممزق فانفصل الرجل من أخيه وزوجته وبنيه - والخلاصة أنها حكاية طويلة فاجعة مثيرة للشفقة لأنها حكاية الشقاء والبؤس والحرمان.
ادعاء الهند:
كل ادعاء الهند بكشمير باطل إلا أنها قد احتلها غصباً وخداعاً، أما سكان كشمير فمعظمهم أي أكثر من 85 % مسلمون وهؤلاء المسلمون كلهم يتمنون أمنية لا لبس فيه أن يلحقوا بإخوانهم في باكستان، لم يتزحزح الكشميريون عن موقفهم الحق رغم كل محاولة الهند من الإقناع والحث أو القسر والإجبار أو استخدام القوة.
وبالإضافة إلى أن الكشميريين والباكستانيين كلهم مولون وجودهم شطراً واحداً في صلواتهم، كلا الشعبين يشترك مع الآخر من جهة التاريخ والثقافة أيضاً، لسانهما واحد، وزيهما واحد، طعامهما واحد وبينهما قرابة نسباً ورحماً وصهراً.(10/87)
وليس للهند اتصال جغرافي بكشمير إلا قطعة ضيقة من الأرض وحصلت الهند عليها بتشجيع سري من بريطانيا، أما باكستان فتتلاصق حدود كشمير بها من جميع الجهات ويبلغ طولها أكثر من ألف كيلومتر _ وكل نهر في كشمير يسيل إلى باكستان، والسوق المفيد الوحيد لإنتاج كشمير الزراعي والصناعي هي في باكستان، وكان من سبب توقف كشمير التجاري صلتها بالهند عن طريق غير سوي بعيد متكلف، فإذاً كشمير قطعة متعذر فصلها من باكستان جغرافياً وثقافياً واقتصادياً وديناً.
حرب التحرير:
في أواخر أيام بريطانيا في الهند حدس (دوجار) وهي عصبة هندوسية مسيطرة عل حكومة كشمير آنذاك، إنه لا بد من تقسيم شبه القارة الهندية وإقامة باكستان كدولة إسلامية ذات استقلال، فأدوا إعداداً محكماً شاملاً لحدوث وضع يسهل توحيد كشمير مع الهند.
فنظراً إلى هذا الهدف اقتحموا في تنفيذ خطتهم الوحشية لإبادة المسلمين الجماعية في كشمير. إن الفظائع الوحشية التي اقترفتها حكومة (دوجار) في كشمير ضد السكان المسلمين أثارت الغيظ في قلوب طائفة كبيرة من سكان مقاطعة (بنش) في غربي كشمير، وأكثر أهلها رجال حرب، فاستهلوا حرباً للتحرير من ذلك الحكم المستبد الغاشم. ثم أتبعهم في هذه الحرب سكان قرى أخرى وهذه القرى اليوم تكون دولة كشمير المستقلة. وأنا - كاتب هذه الرسالة - كنت بفضل الله تعالى نفسي مساعداً بل قائداً للجهاد في (بنش) وبالتالي انتشرت الحرب في مقاطعات مظفر آباد وميربور ومقاطعات (جامو) الغربية الأخرى.(10/88)
وكان جيوش المجاهدين غير مجهز من جهة الأسلحة والطعام والنظام لكن روح الجهاد الإسلامي كان معهم فقاتلوا العدو بالبسالة ولو بفارق كبير، حتى انهزمت جيوش (دوجار) المسلحة بالسلاح الفائقة المتكلفة. {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} ، فأخرج المجاهدون أعداءهم من حصونهم وقلاعهم، ونتيجة لذلك الجهاد تحررت المناطق التي تنضم الآن في دولة كشمير المستقلة.
وأوشكنا على الانتصار الكامل وتحرير جميع الأراضي وقد أحست الجيوش الهندوسية أن لا عون لها تجاه المجاهدين الذين قهروها في جبال كشمير وسهولها، فحينئذ ألجئت الحكومة الهندية إلى منظمة الأمم المتحدة وما أسرع الدول الاستعمارية لإنقاذ الهندوس، فهي دبرت هدنة تحت العهد بأن يجري في كشمير استفتاء عام واضح محايد في أقل وقد معقول، ولكن ذلك (العهد الوثيق) تكشف كاذباً مضللاً فيما بعد وإنما كان إعداده لمنح فترة راحة للجيوش الهندوسية فحسب.
الهند تغير المبدأ:
ومنذ وقف إطلاق النار تكررت المحاولات مرة بعد أخرى في الأمم المتحدة وفي مكان آخر لإذعان الهند لمواثيقها ومن مقتضاها انسحاب القوات العسكرية الهندوسية من كشمير، وكم من رجال الدول اقترحوا بطريقة مرضية مقترحات مواجهة لرفض الهند انسحاب قواتها من كشمير المحتلة استعداداً للمسرح كما يقولون لإجراء استفتاء عام غير متحيز، ومن المعلوم أن كل هذه الاقتراحات قبلتها باكستان ورفضتها الهند، وهنا شواهد عديدة مسجلة تظهر إنما هي الهند وحدها من نكثت مواثيقها الدولية وأنها لا تستحي من انتهاك اتفاقيات تعهدتها في وقت أو آخر.(10/89)
ثم مشكلة كشمير إنما أحدثها الاستعمار البريطاني حينما سلم للهندوس قطعة أرضية ضيقة من منطقة تلى كشمير غدرا بمبدأ التقسيم على أساس الدين، وكان أكثر سكان تلك المنطقة مسلمين، فبذلك نفذت الهند إلى كشمير، ولو لم يكن هذا الأمر لم يكن للهند أي اتصال جغرافيا ببلادنا كشمير ولم تحدث مشكلة نحن فيها اليوم، وكان الاستعمار يهدف بهذا هدفاً دقيقاً محدداً لا لبس فيه وهو طعن باكستان في ظهرها _ والدراسة الموضوعية لدهائه السياسي في الماضي والحال يقنعك بصدق ما ذكرناه آنفاً.
الهند أيضاً كدولة هندوسية لم تسترض إقامة باكستان كدولة إسلامية ذات سيادة مستقلة وقد قاوم الزعماء الهندوس مقاومة عنيفة وصدوا بضراوة لكن خابت آمالهم ضد كفاح المسلمين وانقسم شبه قارة الهندية إلى الدولتين إحداهما دولة إسلامية، وبما أصبحت فكرة باكستان حقيقة واقعة رغماً عن أنف الهندوس وضد رضاهم فما زالوا يدبرون مكيدات عديدة ليصيبوها بكارثة، ولم يرضوا عن أن تكون باكستان قابلة للحياة والنمو كدولة إسلامية كما تصورها مفكروها المسلمون فكرة إسلامية نقية، وقد أحست الزعامة الهندوسية في إقامة باكستان ووجودها، حسب مقتضاها الفكري، تهديداً كامناً لإنجاز ما كان يبقى في أذهانهم منذ أعصر من إقامة إمبراطورية هندوسية ممتدة من إندونيسيا إلى إيران.
ستار الدعاية الهندوسية الدخاني:(10/90)
من أجل بقائها بدون حل لمدة طويلة، اكتسبت مشكلة كشمير طبيعة شريرة مؤذية حتى صارت آفة مهلكة مثل السرطان لشبه القارة الهندية ودورها السياسي، وإنها سبب وحيد لفساد العلاقات ومرارة الصلات بين الهند وباكستان منذ أكثر من ربع القرن وإنها أوقدت نار الحرب الغير الحاسمة بين الدولتين ثلاث مرات سابقاً ولعل أخرى على وشك الظهور إلا أن تكره الهند على أن تعيد إلى جادة الصواب حتى تخلو الشعب الكشميري حقه في تقرير المصير وهو عليها واجب كالتعهد الدولي، هذه القضية أي مشكلة كشمير هي السبب الأول لتخفيض الاقتصاد وتثبيط التنمية في الدولتين باكستان والهند كليهما.
وجدير بالذكر أن الهند تستورد على نطاق واسع السلاح الناري العصري المعقد من الخارج ومع ذلك مصانعها الخاصة تصنع الأسلحة بسرعة وحديثاً فجرت الهند أداة نووية أيضا، لكن على الرغم من مثل هذه المسابقة إلى السلاح حكومة الهند تحافظ على مظهرها الكاذب مظهر المسالم والمحايد.
إن للهند براعة فائقة في أساليب التضليل والخداع والتظاهر الكاذب والنفاق، وهذا كله من مميزات الهندوس القومية، فهم يعتبرون مثل هذه الأعمال إجلالاً واحتراماً، الكتب المقدسة الدينية للهندوس تحذرهم أن لا يفشوا سراً ولا يظهروا ما يكشف عن خططهم الحقيقية، وعليهم أن يفضلوا البراعة في التخطيط على الصراحة والاستقامة، وأن يحجبوا ضغائنهم حين تعاملهم مع العدو بزي الحنان والشفقة وأن يعانقوا من يريدون قتله ثم ليبكوا على ميته، وعملاً بمثل هذه النصائح نجحت الهندوس في انخداع الرأي العالمي عن ما لهم من الأهداف العدوانية ضد الدوليات الصغيرة في المناطق المجاورة وضد باكستان خاصة، وبالإضافة إلى احتلالهم كشمير ظلماً وعدواناً فإنهم قد استولوا على دولتي حيدر آباد و (جوناجر) كما ابتلعوا حديثاً دويلة (سكم) أيضاً، ولكنهم يتوضعون أنفسهم كمحي السلام والمشغولين بالهم بمشكلة اقتصادهم فقط.(10/91)
وللهند نفسها جهاز الدعائية للضخم الفعال وفوق هذا لها نفوذ واسع مؤثر في الصحافة العالمية وهذه الصحافة كما هو معلوم تسيطر عليها الوكالات الغير المسلمة المعاديات لخير المسلمين، بمساعدة هذه الوكالات تمكن للهند أن تنتقص من أهمية مشكلة كشمير شيئاً بالأكاذيب والزور.
هذه القضية الهامة المتفجرة هي في أصلها قضية حرية الإرادة وحق الممارسة لتقرير المصير للشعب الكشميري عدده خمسة ملايين، وهذا حقهم المسلم حسب القرارات الدولية ولكن الهند تستطيع أن تموهها بنسيج من الأكاذيب وراء ستار الدعاية الدخاني فتظهر كأنها نزاع إقليمي فحسب.
الهند وإسرائيل:
ومما يوقع الكآبة في نفوسنا ويثبط العزيمة إلى حد ما هو أن الدولة الهندية استطاعت بدهائها ووفقت بالمخادعة إلى أن تخمد شيئاً فشيئاً أهمية القضية في العالم الإسلامي أيضاً _ لأن الهند تصطف مع البلاد العربية ظاهرياً ضد إسرائيل _ وهي برغم ذلك ووراء ستار المسرح تتحد كل اتحاد في الحلف مع إسرائيل، فبهذا الاصطفاف الظاهري دبرت الهند أن تحايد بعض البلاد العربية من المساعدة لمشكلة كشمير إلى حد ما، ولعل من أجل ذلك لم يبرز هذه القضية في برنامج مؤتمر القمة الإسلامي.(10/92)
العالم الإسلامي اليوم مشغول البال تماماً بالخطر الإسرائيلي وقضية فلسطين، ولا ريب أنها قضية ذات شأن كبير ويتوقف بقاء المسلمين عامة والدول العربية خاصة على حل هذه القضية على نحو مرض ومع هذا ليس من الصواب أن نرى مشكلة كشمير بتقدير بخس، سياسة الهند للتوسع الإقليمي ليست أقل من الاستعمار الصيهوني تهديداً وقساوة وإتلافاً، والواقع أن كليهما، الهند وإسرائيل، من وكلاء الاستعمار وهما يطمحان إلى التخلص من العالم الإسلامي والتغلب عليه، فإسرائيل تحلم باغتصاب البلاد العربية والهند تحلم لتجديد الإمبراطورية الهندوسية التي يعتقد الهندوس أنها كانت تتسع ما بين إندونيسيا وإيران قبل بضعة آلاف من السنين، ثم من مميزات دبلوماسية الهند وهي تلتقي مع مزايا دبلوماسية الصهيونية، هي الدعوة إلى السلام كذباً وزوراً ثم اللجوء إلى العدوان المسلح.
وكذلك من أبرز وجوه التشابه بين هاتين العميلتين للاستعمار الغربي، هو عدولهما عن الإيفاء بالمواثيق، وكم من عهود واتفاقيات نكثتها الهند أن إسرائيل لا تزال تنكث مواثيقها فليس عند الهندوس واليهود أي إجلال واحترام للعهود، فهم كلما عاهدوا عهداً نبذوه وراء ظهورهم.
والهند تنتفع بفترة راحة فازت بها من وقف إطلاق النار انتفاعاً تاماً، فهي من ناحية تشيد قوتها العسكرية لتأبيد احتلالها في كشمير المحتلة ومن ناحية أخرى هي تعمل لتصيير الأكثرية المسلمة إلى أقلية وهذه تارة بالاعتناق وتارة بالطرد.
الهند بدأت عملاً نظامياً وحملة عنيفة لتحقيق هذا الهدف المشؤوم فمئات من الأسرات تقصى وتشتت من حين إلى حين بمن وطنهم كشمير المحتلة إلى جانب آخر من التختم أي إلى المنطقة المحررة من كشمير.(10/93)
ومعاً باشرت الهند عملاً في تنفيذ مغامرة شنيعة وهي تنفير الجيل الجديد وتجهيله من التراث الثقافي الإسلامي للتحول الفكري إلى ثقافة الهندوس ومنوال حياتهم، ولتحقيق هذا المرام بدلوا المناهج الدراسية والكتب المدرسية كأنهم عزموا على تدمير كينونة المسلمين المستقلة في الأرض المحتلة.
وكفاحنا لتحرير كشمير سيستمر إن شاء الله تعالى إلى إنجاز الغاية وبالنظر إلى التوتر السائد في العالم وخطورة الوضع المحدث من أجل صراعنا مع إسرائيل، نحن الكشميريون لا نترقب في هذا الطور ولا نطلب من البلاد الإسلامية أن يستعجلوا فجاءة لإنقاذنا من الاستعمار الهندوسي.
فكل ما نرجوه، وأقل ما يكون من قراءة هذه الكراسة، أن تساعدونا مساعدة مادية وأخلاقية، كما نرجو ونطلب منكم أيها الأخوة فضح الخداع الهندوسي وأن تكون الهند عرضة الإلحاح والإكراه الأخلاقي والسياسي والاقتصادي لإيفاء العهود والمواثيق التي هي تعهدتها وأبرمتها على رؤوس الأشهاد أمام دول العالم.(10/94)
من الصحف والمجلات
محنة الإسلام في الصومال
إعداد العلاقات العامة
لقد قال السيد زياد بري في خطاب ألقاه أمام رؤساء البعثات الدبلوماسية الصومالية في نادي الضباط مساء يوم الجمعة 24 أكتوبر 69م ونشرته صحيفة (نجمة أكتوبر) في اليوم التالي بالحرف الواحد:
الهدف من تسلم الضباط العسكرية السلطة في البلاد ليس شخصيا فقد تسلمنا السلطة لأننا لم نستطع تحمل الأعمال الشريرة الفاسدة مثل الرشو والمحسوبية واختلاس الأموال العامة والظلم وعدم احترام ديننا وانتهاك قوانين البلاد. ونحن نرجو بمساعدة الله القوي أن نعمل كل ما نستطيع لإزالة جميع الأعمال الشريرة في بلادنا والقضاء عليها، وسنعمل على احترام الدين الإسلامي بالقوة التي لدينا إن دعت الضرورة.
وظل هذا الكلام الساحر حلماً يداعب خيال أبناء الشعب الصومالي الذي سار وراء الثورة يؤيدها ويعطيها ما وسعه ن عطاء كريم وتوطدت السلطة في البلاد بفضل هذا الدعم الشعبي الهائل. فماذا حدث بعد ذلك؟
هذا وفي يوم 16/8/72م أذيع بيان رسمي من الراديو أدلى به اللواء زياد بري جاء فيه قوله بالنص: "إن مسيرتنا تطبق على البلاد الاشتراكية العلمية التي أسسها ماركس وطبقها لينين العظيم"!!
ومن يومها بدأت السجون والمعتقلات تستقبل أفواجا من (الخارجين على القانون) الذين هبوا يعارضون هذا الاتجاه. ولعل الأغرب من ذلك أن حركة الاستيلاء عمت من (رفاق السلام) في صفوف الجيش الصومالي مما اضطر السلطة الحاكمة إلى إبعاد أعداد كبيرة من ضباط الجيش إلى الاتحاد السوفييتي للانخراط قسراً في مدارس (عقائدية) ماركسية لمدة خمس سنوات.
عن مجلة رابطة العالم الإسلامي(10/95)
وأخيراً جاءت الخطوة التي لا بد منها وهي إقدام السلطات الشيوعية في الصومال على إحراق العلماء، وزج الأحرار في ظلمات السجون. . دون ما ذنب سوى أن يقولوا: ربنا الله. . .
ولا حول ولا قوة إلا بالله. . .
المجلة
وأخدود جديد للمسلمين في تايلاند
بانكوك _ قامت سلطات تايلاند مؤخراً بارتكاب جريمة بشعة يندي لها جبين الإنسانية وذلك بإحراقها 23 مسلماً. وجهت إليهم تهمة مساعدة الفدائيين المسلمين في تايلاند والجدير بالذكر أن حكومة بانكوك تقوم بتنفيذ مخطط وحشي آخر شبيه بالمخطط الحاقد الذي يقوم بتنفيذه ماركوس في الفليبين وذلك بالعمل على تدمير الشخصية الإسلامية إما بالقتل أو بالعمل على ترك مناطق المسلمين بدون مرافق عامة أو أي عناية بحيث تتفشى فيها الأوبئة والجهل. وقد قامت في الولايات الأربع الإسلامية في تايلاند حركة إسلامية للمطالبة بالحقوق المدنية للمسلم التايلندي وبالمقابل واجهت حكومة تايلاند هذه الحركة بالاضطهاد والاستبداد وقد أرسلت السلطات التايلندية مؤخراً عشرة آلاف جندي نظامي لمحاربة المسلمين في جنوب تايلاند.
عن أخبار العالم الإسلامي.
من أسرار البحار
الأسرار الخفية التي تكتنف حياة البحار، قد تجعل الإنسان يشعر بمدى ضآلة معرفته بالبحار وما تحتضنه في أجوافها من مخلوقات، ومن بين هذه الأسرار مقدرة الأسماك على الرحيل والانتقال إلى أماكن قاصية جدا ثم العودة إلى مسقط رأسها لتتوالد هناك.(10/96)
ومن هذه الأسماك الرحالة نجد سمك (السلمون) الذي يغادر مكان توالده في أعالي الأنهار ويتجه نحو المحيطات حيث يبقى بضع سنوات، ثم تدفعه غريزته إلى العودة إلى مسقط رأسه، ليضع بيضه هناك ورغم ضآلة معرفتنا بالظروف المحيطة بظاهر الرحيل لهذا النوع من الأسماك، أثناء وجوده في المحيط, فإننا عرفنا بعض الشيء عن المرحلة الأخيرة من حياته وهو في طريق عودته إلى مسقط رأسه، فقد تبين لنا أن مراكز الإرشاد الكيميائية هي التي توجه هذه الأسماك أثناء رحيلها. وقد دلت التجارب على أن السمك (السلمون) يفقد مقدرته على معرفة مجرى النهر الذي جاء منه إذا ما أغلق أنفه حيث يفقد حاسة الشم لديه. كما عرض المختصون بدراسة الأجهزة العصبية طريقة خاصة تبين أهمية حاسة الشم لدى هذا النوع من السمك في تحديد معالم طريق عودته، وذلك بالاستماع إلى الذبذبات التي تطلقها السمكة المقيمة، فحينما يقترب السمك العائد إلى مسقط رأسه من ساحل البحر ويبدأ في طلوع النهر يتوقف جزء كبير من الدماغ عن إصدار الذبذبات تماماً، بينما تبدأ منطقة حاسة الشم عملها بمنتهى النشاط، وكأنما قد توقف ذلك القسم بانتظار الإشارات الكيميائية من الأقسام المجاورة للدماغ. وهذه الإشارات هي التي ترشد كل سمكة إلى المكان الذي ولدت فيه قبل سنين عديدة، وعندما واجهت الأسماك مياه جداولها الخاصة أخذت اتجاهها الصحيح واختارت الذراع الذي تنساب فيه مياه جدولها وهكذا ثبت لنا.(10/97)
من أعلام المحدثين
أبو الفرج ابن الجوزي 510 تقريبا - 597 هـ
بقلم: فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
نسبه:
هو عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن القاسم بن النضر بن القاسم ابن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله القرشي التيمي البكري البغدادي.
كنيته ولقبه ونسبته:
كنيته أبو الفرج ولقبه جمال الدين واشتهر بابن الجوزي, واختلف في هذه النسبة فقيل إن جده جعفر نسب إلى فرضة من فرض البصرة يقال لها جوزة, وقال المنذري: هو نسبة إلى موضع يقال له فرضة الجوز وقيل هو منسوب إلى محلة بالبصرة تسمى محلة الجوز وقيل بل كانت في داره بواسط جوزة لم يكن بواسط جوزة سواها ذكر هذه الأقوال ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة.
ممن روى عنهم:
نشأ يتيماً إذ توفي والده وله ثلاث سنوات ولما ترعرع حملته أمه وعمته إلى مسجد أبي الفضل بن ناصر وهو خاله فاعتنى به وأسمعه الحديث وحفظ القرآن وقرأ على جماعة من القراء وقد سمع الحديث في صغره ولما بلغ رشده وفهم الطلب صار ينتقي من الشيوخ من هو أمثل من غيره وأكثر إفادة وقال متحدثا عن ذلك:
"فلما فهمت الطلب كنت ألازم من الشيوخ أعلمهم وأوثر من أرباب النقل أفهمهم فكانت همتي تجويد العُدد لا تكثير العدد ولما رأيت من أصحابي من يؤثر الاطلاع على كبار مشايخي ذكرت عن كل واحد منهم حديثاً", ثم ذكر أهم مشيخته التي نوه عنها وعدتهم سبعة وثمانون شيخاً من كبار شيوخه ومنهم القاضي أبو بكر الأنصاري وأبو بكر المزرفي وأبو القاسم الحريري وعلي بن عبد الواحد الدينوري وأبو السعادات المتوكلي وغيرهم.
ممن رووا عنه:(10/98)
روى عنه ابن الصاحب يحيى وسبطه الواعظ شمس الدين يوسف بن فرعلي والحفظ عبد الغني وابن الزبيبي وابن النجار وابن خليل والتقي البلداني وابن عبد الدائم وغيرهم.
ثناء العلماء عليه:
وكان ابن الجوزي رحمه الله محل ثناء الأئمة وتقديرهم, قال فيه الذهبي في التذكرة: "الإمام العلامة الحافظ عالم العراق وواعظ الآفاق", وقال ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة: "الحافظ المفسر الفقيه الواعظ شيخ وقته وإمام عصره", وقال الموفق عبد اللطيف:"كان ابن الجوزي لطيف الصورة حلو الشمائل رخيم النغمة موزون الحركات والنغمات لذيذ المفاكهة يحضر مجلسه مائة ألف أو يزيدون لا يضيع زمانه شيئاً يكتب باليوم أربعة كراريس ويرتفع له كل سنة من كتابته ما بين خمسين مجلداً إلى ستين وله في كل علم مشاركة لكنه كان في التفسير من الأعيان وفي الحديث من الحفاظ وفي التاريخ من المتوسعين ولديه فقه كاف وأما السجع الوعظي فله فيه ملكة قوية إن ارتجل أجاد وإن روى أبدع", وقال سبطه أبو المظفر: "كان زاهداً في الدنيا متقللاً منها وما مازح أحداً قط ولا لعب مع صبي ولا أكل من جهة لا يتيقن حلها وما زال على ذلك الأسلوب إلى أن توفاه الله تعالى"، وقال موفق الدين المقدسي: " كان ابن الجوزي إمام أهل عصره في الوعظ وصنف في فنون العلم تصانيف حسنة وكان صاحب فنون وكان يدرس الفقه ويصنف فيه وكان حافظاً للحديث وصنف فيه إلا أننا لم نرض تصانيفه في السنة ولا طريقته فيها", وقال ابن خلكان في وفيات الأعيان: "كان علامة عصره وإمام وقته في الحديث وصناعة الوعظ صنف في فنون عديدة", وقال ابن كثير في البداية والنهاية: "أحد أفراد العلماء برز في علوم كثيرة وانفرد بها عن غيره وجمع المصنفات الكبار والصغار نحواً من ثلاثمائة مصنف وكتب بيده نحواً من مائتي مجلدة وتفرد بفن الوعظ الذي لم يسبق إليه ولم يلحق شأوه فيه وفي طريقته وشكله وفي فصاحته وبلاغته وعذوبته وحلاوة ترصيعه(10/99)
ونفوذ وعظه وغوصه على المعاني البديعة وتقريبه الأشياء الغريبة فيما يشاهد من الأمور الحسية بعبارة وجيزة سريعة الفهم والإدراك بحيث يجمع المعاني الكثيرة في الكلمة اليسيرة هذا وله في العلوم كلها اليد الطولى والمشاركات في سائر أنواعها من التفسير والحديث والتاريخ والحساب والنظر في النجوم والطب والفقه وغير ذلك من اللغة والنحو", وقال: "وبالجملة كان أستاذاً فرداً في الوعظ وغيره".
آثاره:
ابن الجوزي من العلماء الذين أكثروا من التأليف في فنون شتى, قال ابن خلكان في وفيات الأعيان: "صنف في فنون عديدة", ثم ذكر نماذج منها وقال: "وبالجملة كتبه أكثر من أن تعد وكتب بخطه شيئاً كثيراً والناس يغالون في ذلك حتى إنهم يقولون: إنه جمعت الكراريس التي كتبها وحسبت مدة عمره وقسمت الكراريس على المدة فكان ما خص كل يوم تسعة كراريس وهذا شيء عظيم لا يكاد يقبله العقل, ويقال إنه جمعت براية أقلامه التي كتب بها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فحصل منها شيء كثير وأوصى أن يسخن بها الماء الذي يغسل به بعد موته ففعل ذلك فكفت وفضل منها"، وقال الذهبي في العبر: " صاحب التصانيف الكثيرة الشهيرة في أنواع العلم من التفسير والحديث والفقه والزهد والوعظ والأخبار والتاريخ والطب وغير ذلك", وقال الذهبي في التذكرة: "وما علمت أحداً من العلماء صنف ما صنف هذا الرجل", وقال أبو العباس ابن تيمية: "وله مصنفات في أمور كثيرة حتى عددتها فرأيتها أكثر من ألف مصنف ورأيت بعد ذلك له ما لم أره", وقال: "وله التصانيف في الحديث وفنونه ما لم يصنف مثله وقد انتفع الناس به وهو من أجود فنونه وله في الوعظ وفنونه ما لم يصنف مثله ومن أحسن تصانيفه ما يجمعه من أخبار الأولين مثل المناقب التي صنفها فإنه ثقة كثير الاطلاع على مصنفات الناس حسن الترتيب والتبويب قادر على الجمع والكتابة وكان من أحسن المصنفين في هذه الأبواب تمييزاً فإن كثيراً من(10/100)
المصنفين لا يميز بين الصدق فيه والكذب". وقد ترجم له الحافظ ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة ترجمه مطولة في أربع وثلاثين صفحة سمّى فيها ما يزيد على مائتين من مصنفاته فيها المختصر والمطول ومن أشهر المطبوع منها زاد المسير في علم التفسير وكتاب صفة الصفوة وكتاب الموضوعات وكتاب مناقب الإمام أحمد وكتاب ذم الهوى وكتاب الوفاء بأحوال المصطفى صلى الله عليه وسلم وكتاب تلبيس إبليس، وقد ذكر الحافظ بن رجب في ترجمته أنه مع ما حصل له من التصنيف وكثرة الثناء عليه؛ للناس فيه كلام من وجوه, منها كثرة أغلاطه في تصانيفه, وقال: "وعذره في هذا واضح وهو أنه كان مكثراً من التصانيف فيصنف الكتاب ولا يعتبره بل يشتغل بغيره وربما كتب في الوقت الواحد في تصانيف عديدة", ومنها ما يوجد في كلامه من الثناء والترفع والتعاظم وكثرة الدعاوي ثم قال ابن رجب: "ولا ريب أنه كان عنده من ذلك طرف والله يسامحه", ومنها ميله إلى التأويل في بعض كلامه, ثم قال ابن رجب:"ولا ريب أن كلامه في ذلك مضطرب مختلف وهو وإن كان مطّلعا على الحديث والآثار في هذا الباب فلم يكن خبيراً بحل شبه المتكلمين وبين فسادها".
وفاته:
توفي ليلة الجمعة ثاني عشر شهر رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة ببغداد ودفن بباب حرب، أرّخ وفاته بهذا ابن خلكان في وفيات الأعيان وقال: "وكانت ولادته بطريق التقريب سنة ثمان وقيل عشر وخمسمائة", وقال: "وتوفي والده سنة أربع عشرة وخمسمائة", وأرّخ وفاته بهذا ابن كثير في البداية والنهاية وقال: "وله من العمر سبع وثمانون سنة وحملت جنازته على رؤوس الناس وكان الجمع كثيراً جداً ودفن بباب حرب عند أبيه بالقرب من الإمام أحمد وكان يوماً مشهوداً حتى قيل إنه أفطر جماعة من الناس من كثرة الزحام وشدة الحر", وذكر أنه كان له من الأولاد الذكور ثلاثة وأن له عدة بنات رحمه الله.
ممن ترجم له:(10/101)
1- ترجم له ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة 1/399.
2- والذهبي في العبر 4/297, وتذكرة الحفاظ 4/135.
3- وابن العماد في شذرات الذهب 4/329.
4- وابن خلكان في وفيات الأعيان 2/321.
5- وصديق خان في التاج المكلل 64.
6- وابن كثير في البداية والنهاية 13/28.
7- والإكمال للخطيب التبريزي آخر المشكاة 3/808.
8- وابن تغرى بردس في النجوم الزاهرة 6/174.
9- وعمر رضا كحالة في معجم المؤلفين 5/158.(10/102)
ندوة الطلبة
عجباً لمن يرثى لقاتله
بقلم: أحمد بن حسن المعلم
الطالب بالمعهد الثانوي - السنة الأولى
وتذرعي يا نفس بالصبر.
يا دمع قف بالله لا تجري.
وأهاجت النيران في صدري.
هذي الحوادث أحرقت كبدي.
بالحلم حتى ينقضي أمري.
لكنني سأظل معتصماً.
تبكي بكاء العاجز الغمر.
لسنا وإن عظمت مصائبنا.
بدقيقة الأطراف والخصر.
لا تحسبوا ما حل بي كلفاً.
يسعى وليس لغاية يجري.
فالعشق مذهب من بلا هدف.
إلا لقصد طيب الذكر.
وأنا الذي ما سرت أنملة.
إلا لهذا الواقع المزري.
لم تضرم النيران في كبدي.
فينا التراب يعد كالتبر.
حيث الحقائق قلبت وغدا.
متناقض الآراء والفكر.
لله هذا الجيل كيف غدا.
ويصاب بالأحزان والذعر.
يبكي على الطاغوت حين هوى.
كالات بين فصائل الكفر.
ويظل محتفظاً بدولته.
ويصور التمثال للذكر.
ويود لو تبقى ملامحه.
أبوابها إلا من المقري.
حتى الإذاعة أغلقت حزناً.
بوفاة من نسبوه للطهر.
وقفوا حداداً عندما سمعوا.
فلنبك هذا الكوكب الدري.
قالوا هوى في الشرق كوكبه.
لكنه يهدي إلى الشر.
حقاً رأينا كوكباً وسنى.
من عيشهم ببريقه المغري.
ويخدر الأقوام إذ فنعوا.
ويحب من أصماه بالسحر.
عجباً لمن يرثي لقاتله.
فكأنما هو عالم العصر.
ويظل مكتئباً لفرقته.
وجنوده في ربقة السكر.
هذا ودين الله منتهك.
ولخطب دين الله لا يدري.
فأعجب لمن يبكي لفاسقة.
لفراق أهل الحق والذكر
.(10/103)
لم تسمع الآذان تعزية.
ظلماً بأيدي طغمة الكفر.
قتلوا دفاعاً عن عقيدتنا.
وكأننا في زينة الفطر.
ذهبوا وما يرثي لهم أحد.
لا غيرة في أهله تسري.
يا ضيعة الإسلام في زمن.
وليقبضوا حقاً على الجمر.
فلتبك للإسلام عصبته.
راياته في البر والبحر.
وليجهروا بالحق عالية.
ميثاقه في سالف الدهر.
ولينجزوا البيع الذي عقدوا.
من أجله فرحاً بلا عسر.
فالنفس ملك الله ندفعها.
هذه النفوس بوافر الأجر.
طوبى لمن باعوا لخالقهم.
للقبر أو للعز والنصر.
فلندفع الأرواح غالية.
خير لحزب الحق والبر.
إذ ليس في الدنيا وزخرفها.
ويقيه من ويلاته الحمر.
ألا ودين الله يحكمه.
أو لا فأدنونا من القبر.
فلنبق للإسلام ننصره
.(10/104)
محاورة هادفة
بقلم: محمد عبد الرحمن الأهدل
الطالب بكلية الشريعة في الجامعة
بني كم حثثتك على الاعتناء بلغة القرآن, لغة آبائك وأجدادك, وكم بذلت نفسي لأرفع من شأنك وأصلح من لسانك وأنت تترفع وتتكبر.
الولد: والدي إلى متى وأنت تتهمني بالغباوة وترميني بقلة العلم تارة وبضيق حوصلتي تارة أخرى، لماذا؟ ألست عربياً منحدراً من سلالة عربية؟ , أليست اللغة العربية نحن مصدرها؟ , وعلاوة على هذا ألست قد أخذت نصيبي من الثقافة وحظي من فنون البلاغة؟ , أبعد هذا كله تأمرني أن أنزل إلى الحضيض وأرجع إلى الوراء ولم تشأ إلا أن أقعد في البيت لتصلح من لساني على حد تعبيرك فلستُ طفلتك الصغيرة مها.
الأب: يبتسم ويهز رأسه. بني حقاً إنك من دوحة عربية وسلالة عدنانية ولكن أما علمت أن لغتك قد اجترفها سيل العجمة منذ القدم, وأن عربيتك كادت أن تؤول إلى الهرم لولا أن قيض الله لها جهابذة ألباء وعباقرة أذكياء.
أما علمت أن المحافظة على لغتك محافظة على دينك وتراثك وعنوان عزتك ورفعتك وأما زعمك أنك قد أخذت نصيباً من الثقافة وقسطاً من فنون البلاغة فهذا لا أكاد أصدقه بعد أن سمعت منك أخطاء كثيرة في التعبير, يتبرأ منها كل عربي نحرير ولكن لا يعروني العجب من هذا فبعض أهل اللسان في هذا الزمان قد جرد سيف منطقه للنيل من بنت عدنان.
الولد: أود يا والدي أن تنبهني على خطأ واحد صدر مني.
جلس الوالد بعد أن كان متكأً وتابع حديثه قائلاً سمعتك يا ولدي البارحة تنادي أمك وتقول: املأي لي القعب لبناً فأنا جائع أشتهي شرب اللبن وكان التعبير الدقيق السليم الموجز أن تقول لها أنا عيمان, أفهمت؟
الولد: إني أتعجب من كلامك أخبرني هل خص العرب مشتهياتهم إذا طلبوها بتعبيرات خاصة.(10/105)
الوالد: نعم. أو تجهل مثل هذه الضروريات اللغوية ثم تابع حديثه قائلاً: اعلم أن العرب خصوا مشتهياتهم بتعبيرات مخصوصة وألفاظ في كتب اللغة منشورة مذكورة وحرصاً مني على استفادتك أنظمها لك ولأمثالك.
وهنا تنفس الأب الصعداء وحرّك رأسه عجباً وقدح زناد فكره وأنشد من فوره:
وفرقوا في الشهوات والطلب.
لِلَبَنِ عيمانُ قالت العرب.
كذا إلى فاكهة قالوا جعم.
للخبز جائع وللحم قرم.
وشبق إلى النكاح فاعتمد.
للماء عطشان وللتمر قرد.
وهنا أمسك الأب عن الإنشاد والتفت إلى ابنه وقد طأطأ رأسه وخفض من جناحه فقال الأب متمثلاً:
لم يستطع صولة البزل القناعيس.
وابن الليون إذا ما لز في قرن.
فشكر الولد أباه على ما حباه وقيد صيده في كراسة فكره وإلى اللقاء معهما مرة أخرى إن شاء الله. . .(10/106)
يا حماة الدين
بقلم: عبد الرحمن عبد الرحمن شميله
الطالب بكلية الشريعة في الجامعة
ضدّ شوعيٍّ لعينْ.
يا حماة الدّين قوموا.
فهو كهف المؤمنينْ.
وانهضوا باسم الإله.
لقتال الملحدينْ.
واستعدّوا ما استطعتم.
وانصروا الحقّ المبينْ.
أعْمِلوا الفيصل فيهم.
فلنا النّصر قرينْ.
صوّبوا السّهم إليهم.
واضربوهم كلّ حينْ.
رابطوا في كلِّ ثغر.
لأُولاء المارقينْ.
واقعدوا كلّ رباط.
بين أيدي المعتدينْ.
ها فلسطين بلادي.
من عتاة الفاسقينْ.
انقذوها ارحموها.
نجعل الكفر يدينْ.
كيف يسمو الدّين إن لم.
وأب القنِّ مَهينْ) .
(ويكون الطّفل قنّاً.
وابذلوا الجهد الثّمينْ.
فارجعوا ما قد أضعتم.
الغزاة الأولّينْ.
أصلحوا الأمر كإصلاح.
أحمدَ الهادي الأمينْ.
وصلاة الله تغشى.
والتّقاة المحسنينْ.
وتعمّ الصّحب جمعاً
.(10/107)
أخبار الجامعة
إعداد: العلاقات العامة
تقرير موجز مقدم إلى المجلس الأعلى الاستشاري للجامعة في دورته السابعة المنعقدة في 15/1/1395هـ.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أصحاب السماحة والفضيلة والمعالي والسعادة أعضاء المجلس الأعلى الاستشاري للجامعة، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فإني أرحب بكم أجمل ترحيب في هذه الجامعة المباركة التي أسست لتثقيف أبناء العالم الإسلامي الثقافة الإسلامية الحقة، وإعدادهم للدعوة إلى الله تعالى على بصيرة ليعودوا إلى بلادهم دعاة خير، وحملة لمشاعل النور والهداية.
ويسعدني أن أعلمكم غاية سروري باجتماعكم هذا الميمون الذي تفضل الله به، لبحث أمور ترجع بالخير لهذه الجامعة، ولأبناء المسلمين من غالب أقطار المعمورة، وأشكر الله تعالى على فضله ومنته، وحسن توفيقه ومعونته.
ثم أقدم إلى حضراتكم هذا التقرير الموجز عن بعض المنجزات في الجامعة الإسلامية بناءً على ما جاء في المادة (11) من نظام الجامعة الصادر بالمرسوم الملكي الكريم رقم م/18 وتاريخ 18/5/1386 هـ للإطلاع على بعض شئون الجامعة التي جدّت عقب انعقاد الدورة السادسة لمجلسكم الموقر وحتى الآن.
ولقد كانت المدة التي بين الدورة السادسة والسابعة أقصر مدة حصلت بين دورتين، فلقد انعقدت الدورتين السادسة في الثاني عشر من شهر ربيع الثاني عام 94هـ ودورتكم الحالية تنعقد الآن ابتداء من الخامس عشر من شهر محرم 1395هـ أي أنه لم يمض عليها سوى ثمانية أشهر.(10/108)
هذا وقبل أن أوضح الأمور التي عقد المجلس دورته الحالية من أجلها والإشارة إلى بعض منجزات الجامعة في هذه الفترة فإني أشيد بالمجهودات الكبيرة المخلصة، والأيادي الكريمة النبيلة، واللفتات العظيمة المتكررة التي يوليها- جلالة الملك فيصل المعظم - لهذه الجامعة الإسلامية، التي شاء الله تعالى أن تكون في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، دار الإيمان ومأرزه - والإيمان يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها-.
أسأل الله جل وعلا أن يديم عليه التوفيق، ويسبغ عليه وافر النعم، ويأخذ بيده إلى كل خير، ويسعد هذه الأمة بطول حياته ويجزيه خير ما جزى العاملين في سبيله الداعين لدينه.
كما أني أشكر لحضراتكم أصالة عن نفسي ونيابة عن العاملين في هذه المؤسسة المباركة، تلبيتكم الدعوة، وأذكر بالثناء والتقدير والعرفان ما لقيتموه من مشقة السفر، وتحمل وعثائه، وما تبذلونه من جهد وأعمال مجيدة لصالح الجامعة.
هذا ولقد حرصت الجامعة على عقد هذه الدورة في وقت مبكر شعوراً منها بضرورة وأهمية المواضيع التي ستعرض على حضراتكم للدراسة، ولأن وضع الجامعة اليوم - وهي تحتل بحمد الله مكانة عظيمة في نفوس المسلمين - يحتم عليها السعي في تحقيق ما ترى أن المصلحة تدعو إلى توفره في الجامعة.
لذا فإنا نقدمها لحضراتكم للدراسة والاستفادة من خبراتكم وسديد آرائكم وهي كما يلي:
1- مشروع نظام جديد مقترح لجامعة:
قد أوصى مجلسكم الموقر في دورته السادسة بإعادة النظر في نظام الجامعة القائم، وصياغته صياغة تستكمل فيها الجوانب التي تمكنها من تقديم خدمات أكثر في سبيل تحقيق أهدافها النبيلة، ورأى تأليف لجنة من أعضائه المقيمين في المملكة بالرياض، وهم:
(1) معالي الدكتور عبد العزيز عبد الله الفدا.
(2) سعادة الدكتور أحمد محمد علي.(10/109)
(3) سعادة الدكتور كامل محمد الباقر.
وذلك لدراسة النظام، وبعث ما تتوصل إليه إلى الجامعة. وقد تلقت الجامعة منهم - مشكورين - مشروع نظام جديد لها. وبعد عرضه على مجلس الجامعة ومناقشته من قبل أعضائه, أدخل عليه بعض تعديلات وأضاف إليه بعض إضافات، وأقره بالصيغة المعروضة على حضراتكم.
2- مشروع إنشاء كلية للحديث الشريف في الجامعة:
وهو موضوع درسه مجلس الجامعة ورأى أنه يحسن أن تضم الجامعة إلى كلياتها كلية رابعة تعنى بالحديث الشريف ليتخرج منها علماء مختصون في دراسته وعلومه ينفون عنه زيغ الزائغين، ويذبون عنه انحراف المبطلين.
ومما لا شك فيه أن العناية بالحديث النبوي - وهو الوحي الثاني - الذي أوتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم - أصبحت أمراً هاماً، وفريضة محتمة في هذا الوقت الذي تكالبت فيه عوامل الشر على المسلمين، وسعى أعداء الأمة الإسلامية في تشكيك أبناء المسلمين في عقائدهم، وتراثهم بشتى الوسائل المفسدة والباطلة.
ولذا فإن مجلس الجامعة بعد دراسته أقر مشروع إنشائها بالصيغة المعروضة على مجلسكم الموقر.
مشروع منهج لمادتي التربية الإسلامية وعلم النفس من الوجهة الإسلامية:(10/110)
كان مجلسكم الموقر قد أوصى - بإيجاد مادتي التربية وعلم النفس من الوجهة الإسلامية في كل من كليتي الشريعة والدعوة وأصول الدين، وأن يطلب من بعض الأساتذة المختصين - وضع منهج مناسب لهذه المادة مثل سعادة الدكتور كامل محمد الباقر، وفضيلة الشيخ أبي الحسن علي الندوي، وفضيلة الأستاذ محمد قطب. وبناءً عليه فقد عملت الجامعة على تحقيق ذلك - وتلقت من صاحبي السعادة الدكتور كامل محمد الباقر والأستاذ محمد قطب مشروعي منهج لمادة التربية الإسلامية جرى عرضهما على مجلس الجامعة للمناقشة والبحث، وإبداء وجهة نظره ورأى اختيار المنهج المقدم من سعادة الدكتور كامل محمد الباقر- مع إضافة الموضوعات والنقاط التي أبداها مجلس الجامعة عليه.
ونرفق لحضراتكم مشروع المنهج المختار والمشروع المقدم من فضيلة الأستاذ محمد قطب، وكذا المشروع المقدم منه لمادة علم النفس من الوجهة الإسلامية مشفوعاً برأي المجلس، لدارستها وإبداء ما ترونه نحوها.
ونود أن نشير إلى ما تم حيال المشروعات الثلاثة التي درسها مجلسكم في دورته السابقة فيما يلي:
أولاً: كلية القرآن الكريم:(10/111)
رفعت الجامعة لجلالة الملك المعظم -حفظه الله - مشروع كلية القرآن الكريم وأوضحت وجهة نظر مجلسكم الموقر حول استحسان إنشاء هذه الكلية، وطلبت من جلالته إسداء مكرمة عظيمة إلى أبناء العالم الإسلامي، بالموافقة على إنشائها لتكون الكلية الثالثة في الجامعة وتلقت الموافقة السامية على إنشائها برقم 26511 وتاريخ 6/9/1394هـ وبذلك منّ الله تعالى على الجامعة وحباها فضل السبق بأن كان بها أول كلية للقرآن الكريم في تاريخ جامعات العالم، وتمّ بحمد الله إنشاؤها، إلقاء أول محاضرة فيها يوم الاثنين الموافق 6/10/1394 ونسأله جل وعلا أن ينفع بها كما نفع بالكليتين الأوليين فيها، وأن يجعل منها المعقل العظيم الذي يؤدي دوراً كبيراً في حفظ كتاب الله، ويعنى بعلومه في الوقت الذي طغت فيه العلوم المادية، وخلت غالب الجامعات والمعاهد العالية من دارسين للقرآن معنيين بأحكام تلاوته وعلومه وقراءاته.
ثانياً:
وبالنسبة للتوصيات المتعلقة بتعديل المناهج الخاصة بكليتي الشريعة والدعوة وأصول الدين فسيتم تطبيقها في مطلع العام الدراسي القادم بعد صياغة المناهج على ضوء المقترحات. والانتهاء من دراسة المشروعات الخاصة ببعض المواد كمادتي: التربية الإسلامية، وعلم النفس من الوجهة الإسلامية.
ثالثاً:
أما بالنسبة لمركز شؤون الدعوة الذي أوصى مجلسكم الموقر بإنشائه في الجامعة، فقد رفعت الجامعة طلب الموافقة عليه.
والأمل كبير في أن تحصل الموافقة القريبة إن شاء الله على إيجاد هذا المركز، لما يعلم من حرص جلالة الملك المعظم - وفقه الله -، وحرص المسؤولين في الدولة على تحقيق كل ما يخدم الدعوة الإسلامية والمسلمين، ويعود لهذا الأمة بالنفع والخير العميم.
ومن أهم المنجزات التي تحققت في الفترة من انعقاد الدورة السادسة في 20/4/1394هـ إلى حين انعقاد الدورة السابعة في 15/1/1395هـ:(10/112)
أ - وضعت الجامعة خطتها الخمسية للسنوات الخمس المقبلة اعتباراً من عام 95/96 إلى عام 99/1400هـ على ضوء الأسس الآتية:
1) دراسة استطلاعية للوضع الراهن والماضي للجامعة منذ عام 89/1390هـ تناولت الجوانب التعليمية، والإدارية، والمالية، ومرافق الجامعة, وحالة المباني، ومساحة الأراضي التي تملكها.
2) تقدير النمو الطلابي في كليات الجامعة، والمعهدين الثانوي والمتوسط وداري الحديث في سنوات الخطة، وعلى مدى خمسة عشر عاماً مقبلة.
3) تحديد أهداف الخطة في السنوات الخمس القادمة.
4) دراسة وتقدير احتياجات الجامعة لتحقيق هذه الأهداف.
وقد تضمنت الخطة:
أولاً:
22 مشروعاً إنشائياً: لمباني جديدة لكليات الجامعة الخمس الموجودة والمقترحة وقسم الدراسات العليا المقترح، والمعهدين الثانوي والمتوسط وداري الحديث بمكة المكرمة والمدينة المنورة، ومباني: لرئاسة الجامعة، ومهاجع للطلبة ومساكن لبعض الأساتذة، ومساكن لبعض الموظفين، وإدارات التخطيط والإشراف الاجتماعي، ومركز شئون الدعوة، ودار الطلبة وتوزيع الكتب بجدة، وقاعة محاضرات كبرى، ومكتبة عامة، ومسجد كبير، ومستشفى، ومطعم، وتأمين مطبعة.
ثانياً:
اقتراح إيجاد كليتين جديدتين وقسم الدارسات العليا وإدارة للتخطيط والمتابعة والميزانية، وإدارة لشئون الإشراف, والتوجيه الاجتماعي، وطلب الموافقة على مركز شؤون الدعوة.
ثالثاً:
استكمال أعضاء هيئة التدريس والمدرسين، وتعزيز الجهاز الوظيفي الإداري والفني، والتوسع في المنح الدراسية، وفي خدمات مستشفى الجامعة.
وبلغت التكاليف التقديرية المطلوبة لتنفيذ خطة الجامعة في السنوات الخمس ما يلي:
388867163 ريال
مجموع الإنفاق المتكرر (الأبواب الأول والثاني والثالث من الميزانية)
560666662 ريال
مجموع الإنفاق غير المتكرر (الباب الرابع - المشروعات)(10/113)
949533825 ريال
المجموع الكلي
ب- تخرج في اختبار الدور الأول لعام 93/94 هـ تسعون جامعياً من كليتي الشريعة والدعوة وأصول الدين، وفي اختبار الدور الثاني ثلاثة عشر جامعياً من الكليتين المذكورتين. وبذلك أصبح عدد المتخرجين من الجامعة في هذا العام مائة وثلاثة خريجين.
وبإضافة هذا العدد إلى المتخرجين من كليتي الشريعة والدعوة وأصول الدين في الأعوام الماضية يكون عدد الحاصلين على الشهادة العالمية من الجامعة تسعمائة وخمسة وخمسين جامعياً ومنهم 7 طلاب حصلوا على الشهادة العالية من كليتي الشريعة وأصول الدين.
كما حصل عام 93/94 على شهادة إتمام الدراسة من المعهد الثانوي (147) طالباً.
وحصل على شهادة إتمام الدراسة المتوسطة (89) طالباً.
ومن دار الحديث المكية (27) طالباً.
ومن دار الحديث المدنية (45) طالباً.
ج - استحسن مجلس الجامعة في جلسته المنعقدة في 7و8/1/1294هـ طلب الموافقة على إحداث ثلاثمائة منحة دراسية توزع على سبعة وثمانين قطراً من أقطار العالم، واعتماد المبالغ اللازمة لذلك في ميزانية الجامعة للسنة المالية 94/1395 هـ وفعلاً تمت الموافقة السامية عليها، وجرى توزيعها على أبناء العالم الإسلامي وفقاً للبيان المعروض على مجلسكم الموقر.
د - كان عدد المنتدبين من خريجي الجامعة لمواصلة الدراسات العليا في مكة المكرمة في العام الماضي خمسة، وقد بلغ عددهم في هذا العام رابعة عشر دارساً. وتعمل الجامعة على إيفاد المزيد من الخريجين منها لنيل درجة (الماجستير) ثم (الدكتوراه) وذلك لتوفير الأساتذة الجامعيين فيها من السعوديين.
هـ - لقد تم اعتماد الوظائف التالية في ميزانية الجامعة لعام 94/1395 هـ لتزويد بعض الجامعات والمدارس الدينية في الخارج تشجيعاً لها على السير ورفعاً من شأنها في تلك الأوساط:
الجهة
المرتبة
العدد(10/114)
الجامعة السلفية في الباكستان بلائلفور
7
2
الجامعة السلفية في الهند ببنارس
6
3
المدرسة الصمدانية في غانا
6
2
المدرسة السعودية في أديس أبابا
6
3
كما استصدرت الجامعة الموافقة السامية على تعيين اثنين من أبرز خريجيها من طلبة إندونيسيا في كل عام للقيام بالدعوة إلى الله والتدريس في أندونيسيا بمكافآت شهرية، وتم إيفاد اثنين من خريجي عام 93/1394هـ وجرى اعتماد ست وظائف تدريس في المرتبة السادسة للمدرسة السلفية في مدينة بلجرشي من بلاد غامد.
و كانت موازنة الجامعة في العام 93/1394هـ (24360874) ريال وبلغت في عام 94/1395هـ (4015940010) ريال أي بزيادة ستة عشر مليوناً تقريباً.
ز- جرى تسلم مهجع سكني يتسع ل640 طالباً وجرى إسكان الطلاب فيه كما خصص في ميزانية عام 94/1395هـ مبلغ 15 مليون ريال لبناء مهجع آخر مماثل.
ح- جرى تسلم مبنى المعهد الثانوي للجامعة من المقاول، وبدأت الدراسة فيه اعتباراً من مطلع العام الدراسي 94/1395هـ.
ط- تم ترسية المشاريع الثلاثة على شركة معمارية وهي بناء مسجد للجامعة، وبوابة رئيسية لها، ومعهد الدراسة المتوسطة، وقد قطعت شوطاً في عملها.
ي- قامت الجامعة بطبع الكتب التالية:
لشيخ الإسلام ابن تيمية
السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية
1
لشيخ الإسلام ابن تيمية
الحسبة
2
للعلامة ابن القيم
كتاب الصلاة
3
لشيخ الإسلام محمد ابن عبد الوهاب
كتاب الكبائر
4
(( (( (( ((
كتاب أصول الإيمان
5
(( (( (( ((
فضل الإسلام
6
لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
كتاب المصالح المرسلة
7(10/115)
كما قامت بطبع أربعين ألفاً من كتاب التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة، لرئيس الجامعة باللغة الإنجليزية وعشرين ألفاً باللغة الفرنسية وذلك مساهمة من الجامعة في نشر التوعية الإسلامية وهي تقوم بتوزيعها في الداخل والخارج.
ك- بلغ عدد المحاضرات التي ألقيت في الموسم الثقافي للعام الماضي خمس عشرة محاضرة، وقد اتخذت الإجرءات لطبعها في مجلد واحد.
وبعد: فهذا ما رأينا عرضه على حضراتكم في هذا التقرير الموجز، ونكرر شكرنا لحضراتكم ونسأل المولى جل وعلا أن يهبكم العون والتوفيق، ويبارك في الجهود التي تبذلونها، لخدمة دينكم وأمتكم، كما نسأله جل وعلا أن يعز دينه ويعلي كلمته، ويزيد إمام المسلمين ورائد التضامن الإسلامي، جلالة الملك فيصل المعظم - حفظه الله - هدىً وتوفيقاً وصلاحاً، وقوة في سبيله لنصرة الحق وخدمة الإسلام والمسلمين، ويوفق قادة المسلمين للعمل، بما يرضيه ويجمع كلمتهم على الحق إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على أشرف خلقه، وأفضل أنبيائه ورسله - نبينا محمد وعلى آله وصحبه. . .
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة
توصيات المجلس الأعلى الاستشاري للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في دورته السابعة
الحمد لله رب العلمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيد المرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه، ودعا بدعوته، إلى يوم الدين، وبعد:
في المدة من يوم الاثنين 15 من محرم 1395هـ إلى يوم الاثنين 22 من محرم 1395هـ عقد المجلس الأعلى الاستشاري للجامعة، بدعوة من سماحة رئيس الجامعة الإسلامية، ورئيس المجلس الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، دورته السابعة التي عقد خلالها إحدى عشرة جلسة برئاسة سماحته، وعضوية كل من أصحاب السماحة، والفضيلة، والمعالي، والسعادة الآتية أسماؤهم، مرتبة على حروف الهجاء:(10/116)
رئيس قضاة شمال نيجيريا.
فضيلة الشيخ أبو بكر جومي
1
رئيس جمعية ندوة العلماء في لكنهو في الهند
فضيلة الشيخ أبو الحسن علي الندوي
2
وكيل وزارة المعارف للشؤون الفنية نائباً عن معالي وزير المعارف
سعادة الدكتور أحمد محمد علي
3
مفتي الديار المصرية - سابقاً -
فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف
4
الأستاذ بكلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة
فضيلة الدكتور السيد محمد الحكيم
5
الأستاذ بكلية الشريعة في الجامعة.
فضيلة الشيخ عبد الرءوف اللبدي
6
مدير جامعة الرياض.
معالي الدكتور عبد العزيز عبد الله الفدا
7
وزير شؤون الأزهر.
معالي الشيخ عبد العزيز محمد عيسى
8
مدير الشؤون الإسلامية بوزارة الأوقاف بالكويت.
فضيلة الشيخ عبد الله العقيل
9
رئيس قضاة الأردن.
سماحة الشيخ عبد الله غوشه
10
نائب رئيس الجامعة الإسلامية.
فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
11
الأستاذ بكلية التربية بجامعة الرياض.
سعادة الدكتور كامل محمد الباقر
12
الأستاذ بقسم الدراسات العليا بمكة.
فضيلة الدكتور محمد أمين المصري
13
مدير الأوقاف في العراق (سابقاً) ، وعضو المجامع العلمية العربية.
فضيلة الشيخ محمد بهجت الأثري
14
عميد الكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين بتونس.
سعادة الدكتور محمد الحبيب بن الخوجه
15
المستشار في جامعة الملك عبد العزيز.
فضيلة الشيخ محمد المبارك
16
المستشار بوزارة المعارف.
فضيلة الشيخ محمد محمود الصواف
17
مدير دار الحديث الحسنية بالرباط.
فضيلة الشيخ مصطفى أحمد العلوي
18(10/117)
وتخلّف عن حضور هذه الدورة فضيلة الشيخ أبي الأعلى المودودي، أمير الجماعة الإسلامية في (باكستان) - سابقاً-، والداعية الإسلامي الكبير لمرضه - شفاه الله وعافاه-.
وقد درس المجلس، في هذه الدورة، المشاريع التي رأى مجلس الجامعة عرضها عليه، لدارستها وإبداء ما يراه فيها. . وهي:
1- مشروع كلية الحديث الشريف.
2- مشروع نظام الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
3- مشروع منهج مادتي التربية الإسلامية، وعلم النفس، من الوجهة الإسلامية.
وفيما يلي ما رآه المجلس وأوصى به، على ضوء دراسته لهذه المشاريع:
1- مشروع كلية الحديث:
عرض مجلس الجامعة مشروعاً لإنشاء كلية للحديث الشريف في الجامعة، بعد أن تم - بتوفيق الله عزّ وجلّ - افتتاح كلية القرآن الكريم فيها، وذلك تحقيقاً لأهداف الجامعة في خدمة كتاب الله- عز وجلّ-، وسنّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتحصيل الفوائد الكبيرة، من هذين الينبوعين الصافيين، وإيجاد دراسة تخصصية في كل منهما، تمكن الجامعة من إمداد العالم الإسلامي بخريجين متخصصين ومتعمقين في دراسة الكتاب العزيز، والسنّة المطهرة، ينيرون للناس الطريق، وينشرون بينهم ميراث النّبوة.
وقد درس المجلس الأعلى الاستشاري المشروع وخطة الدراسة، آخذاً بعين الإعبار:
1- أن السنّة هي المصدر الثاني للإسلام، بعد القرآن الكريم، فيها تفصيل لكلياته، وشرح لموجزه، وتبيان لمجمله، ولا تُعرف معالم الإسلام في مختلف مجالات: العقيدة، والأخلاق، والأحكام في العبادات والمعاملات إلا بمعرفة القرآن الكريم، والسنّة النبوية معاً، معرفة مستوفاة.
2- أن السنّة جزة ضخم وهام من العلوم الإسلامية، وهي - بالنسبة للمسلمين والإنسانية جمعاء - كنز ثمين، ومادة خصبة واسعة، يجب حفظها والعناية بها، والاستفادة مما تضمنته في العقائد والتشريعات، والأخلاق، والآداب، وغيرها.(10/118)
3- أن الهمم، في الأزمنة المتأخرة، قد تقاصرت عن دراسة السنّة والإحاطة بما وصل إليه علماء السلف من سعة العلم والرواية والدقة العلمية في التدقيق والبحث، وما تركوه من آلاف الكتب العظيمة، والمراجع الكبيرة، والبحوث الدقيقة.
4- أن الرغبة ضعفت في هذا العلم العظيم، وقلّت معرفته، وأصبح عدد المتخصصين به في العالم الإسلامي قليلاً.
فقياماً بالواجب الكفائي، وسداً للنقص الموجود في هذا العصر، في مجال الدراسات الحديثية، وصدا لحملات المتآمرين على الإسلام بدعواتهم الباطلة إلى إغفال السنة، والإعراض عنها، وبث الشبه الزائفة التي تستهدف التشكيك في صحتها.
فإن المجلس يوصي بما يلي:
أولاً: أن تنشأ في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة كلية لخدمة السنّة المطهرة، يكون الحديث النبوي الشريف محور الدراسة فيها، مع دراسة مواد شرعية أخرى، والمواد التي تعين الطالب على حسن الاستفادة من علمه بالحديث النبوي، في إطار حاضر المسلمين، تسمى: كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية.
ثانياً: أن تدرس، في هذه الكلية، المواد التالية:
10- الدفاع عن السنة المطهرة.
1- السنة: مكانتها وتدوينها.
11- تفسير.
2- كتب السنة.
12- توحيد.
3- السيرة النبوية.
13- الأديان والفرق والمذاهب المعاصرة.
4- التخريج.
14- اللغة العربية.
5-مصطلح الحديث.
15- علم النفس.
6- الوضع والوضّاعون.
16- التربية الإسلامية.
7- الجرح والتعديل.
17- طرق الدعوة والتدريس
8- رواة الحديث وطبقاتهم.
18 مناهج البحث وكيف يستفاد من المراجع.
9- فقه السنة.
ويكون توزيع الحصص الأسبوعية، على هذه المواد، وفقاً للخطة المقرّرة ضمن مشروع هذه الكلية، ويوضع لها منهج تفصيلي.(10/119)
ثالثاً: يكلّف الطالب، في هذه الكلية، بحفظ مائتين وخمسين حديثاً كل عام، يختارها مجلس الكلية، شاملة لموضوعات متعددة، ويمتحن فيها تحريرياً وشفهياً.
2- مشروع نظام الجامعة:
أوصى المجلس في دورته السادسة، بإعادة النظر في نظام الجامعة، وصياغته صياغة تستكمل فيها الجوانب التي تمكنّ الجامعة من تقديم خدمات أكثر في سبيل تحقيق أهدافها النبيلة التي أسست من أجلها، وتأليف لجنة من أعضاء المجلس المقيمين في المملكة، وهم:
مدير جامعة الرياض.
معالي الدكتور عبد العزيز عبد الله الفدا
وكيل وزارة المعارف للشئون الفنية.
سعادة الدكتور أحمد محمد علي
الأستاذ بكلية التربية بجامعة الرياض.
سعادة الدكتور كامل محمد الباقر
لدارسة النظام، وإعداد مشروع، يعرض على المجلس في دورته السابعة.
وقامت اللجنة - مشكورة - بوضع مشروع نظام الجامعة، استرشدت فيه بأنظمة الجامعات الأخرى في المملكة.
ودرس مجلس الجامعة المشروع، وأدخل عليه بعض التعديلات والإضافات التي رآها مناسبة، وقدمه للمجلس الأعلى الاستشاري، في هذه الدورة السابعة، لدراسته وإبداء ما يراه، ويوصي به حياله.
وبعد أن درس المجلس المشروع، واستعرض مواده: مادة، مادة، وأدخل على بعضها تعديلات، بالإضافة أو الحذف أو إعادة الصياغة، فإنه يوصي بما يلي:
إن المجلس إذ يقدّر مكانة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ورسالتها العالمية، ومسؤولياتها الكبرى لأداء هذه الرسالة، والتي تستوجب أن يكون لها نظام شامل، يعطيها من الاختصاصات، والصلاحيات ما يمكنها من الاضطلاع بمهامها، والتوسع في جهودها، وخدماتها لأداء رسالتها، وتحقيق أهدافها التي أسست من أجلها.
يطلب إلى الجامعة العمل على استصدار الموافقة السامية على مشروع هذا النظام، الذي أقرّه المجلس.
3- مشروع منهج مادتي التربية، وعلم النفس، من الوجهة الإسلامية:(10/120)
أوصى المجلس، في دورته السادسة، بإيجاد مادتي التربية، وعلم النفس - من الوجهة الإسلامية - في كليات الجامعة، وأن يطلب من بعض الأساتذة المختصين، مثل سعادة الدكتور كامل محمد الباقر، الأستاذ بكلية التربية بجامعة الرياض، وفضيلة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي، الأمين العام لندوة العلماء في لكنهو في الهند، وفضيلة الأستاذ محمد قطب، الأستاذ بقسم الدراسات العليا بمكة المكرمة. وضع منهج مناسب لهاتين المادتين.
وقام الدكتور كامل محمد الباقر، مع بعض زملائه المتخصصين في كلية التربية - مشكورين - بوضع مشروع لمنهج (أصول التربية الإسلامية) ، وأرسل فضيلة الأستاذ محمد قطب صورة من منهج (أصول التربية الإسلامية) المقرر بكلية التربية بمكة المكرمة، كما أرسل فضيلته مشروعاً لمنهج (دراسات في النفس الإنسانية) وضعه خصيصاً للجامعة الإسلامية.
وعرضت المشروعات الثلاثة على المجلس، فرأى ما يلي:
أولاً: إقرار مشروع منهج (التربية الإسلامية) وفقاً لما رآه مجلس الجامعة، مع التعديلات المقترح إدخالها عليه، ليدرس في كليات الجامعة، على أن يكون لهذه المادة ثلاث حصص في الأسبوع في سنة واحدة.
ثانياً: بالنسبة لمنهج علم النفس - من الوجهة الإسلامية -:
أن تعمل الجامعة على استكمال دراسة هذا الموضوع، على ضوء ما رآه المجلس، مع الاتصال بكل من فضيلة الأستاذ محمد قطب، وفضيلة الشيخ أبي الحسن الندوي، لخبرتهما في هذا الميدان.
توصيات أخرى:
أولاً: تطرّق المجلس لفكرة إنشاء كلية للتربية الإسلامية في الجامعة، وبعد المناقشة أوصى المجلس الجامعة بإعداد الدراسات اللازمة لإيجاد هذه الكلية، تمهيداً لاستصدار الموافقة على إنشائها.(10/121)
ثانياً: إدراكاً من المجلس لما يبدو من استعداد لدى سكان البلاد الإفريقية، خاصة، لتقبّل الإسلام، وميل إلى تعاليمه، وحاجة تلك البلاد الماسة إلى الدعوة الإسلامية بأسلوب أكثر فائدة وملاءمة، يوصي بما يلي:
(1) : أن تقوم الجامعة بدارسة إمكان إنشاء معاهد متوسطة، وثانوية في تلك البلاد، وفرع للجامعة، مع إعطاء الأولوية للبلاد الأشدّ حاجة، والأكثر تقبلاً، وتوفيراً لعوامل نجاح هذه المؤسسات في التعليم والدعوة، على ضوء ما يتبين من نتائج هذه الدراسة.
(2) : الكتابة إلى الأمانة العامة للمؤتمر الإسلامي للعمل على فتح مدارس، ومعاهد إسلامية في البلاد الإفريقية.
وصلى الله وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
(الموسم الثقافي للجامعة)
رغبة في نشر الوعي الإسلامي والثقافة العامة بين طلبة الجامعة وغيرهم فقد دأبت الجامعة على إقامة محاضرات عامة في دار الحديث بالمدينة، التابعة للجامعة الإسلامية، يحضرها أعداد كبيرة. وقد بدأ الموسم الثقافي هذا العام في بداية شهر محرم 1395هـ حيث افتتح بمحاضرة لفضيلة الشيخ أحمد محمود الأحمد، المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين وفي شعبة تعليم اللغة العربية وموضوعها: مع السيرة النبوية. ثم توالت المحاضرات على النحو التالي:
المحاضرة الثانية لفضيلة الشيخ محمد أبو فرحه المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة وموضوعها: المسئولية بين الفرد والمجتمع.
المحاضرة الثالثة لفضيلة لشيخ عبد الرءوف اللبدي المدرس في كلية الشريعة بالجامعة. وموضوعها: كيف تكون مدرساً ناجحاً.
المحاضرة الرابعة لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد المدرس في كلية الشريعة بالجامعة. وموضوعها: السبئية ومخططاتها لحرب الإسلام.
المحاضرة الخامسة لفضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي المدرس في المعهد الثانوي التابع للجامعة. وموضوعها: نظرة في غزوة أحد من خلال ما ورد فيها من الآيات.(10/122)
المحاضرة السادسة لفضيلة الشيخ عبد الجليل شلبي المدرس في دار الحديث التابعة للجامعة وموضوعها: الماركسية في مواجهة الإسلام.
المحاضرة السابعة لفضيلة الشيخ محمد المهدي محمود المدرس في دار الحديث التابعة للجامعة وموضوعها: المناهج التعليمية في ضوء التربية الإسلامية.
المحاضرة الثامنة لفضيلة الدكتور أحمد عبد الله هاشم المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة. وموضوعها: قضية المعرّب في القرآن الكريم.
المحاضرة التاسعة لفضيلة الشيخ أبي بكر جابر الجزائري المدرس في كلية الشريعة بالجامعة وموضوعها: القضاء والقدر.
المحاضرة العاشرة لفضيلة الشيخ عبد العزيز عبد الفتاح قارئ المدرس في كلية القرآن الكريم في الجامعة. وموضوعها: حول حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف.
المحاضرة الحادية عشرة لفضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي المدرس في المعهد الثانوي وموضوعها: المرأة بين من كرمها ومن أهانها.
المحاضرة الثانية عشرة لفضيلة الشيخ محمد أمان بن علي المدرس بكلية الشريعة. وموضوعها: تصحيح المفاهيم في جوانب من العقيدة.
هذا، وسيجري إن شاء الله إلقاء محاضرات أخرى لبعض أساتذة الجامعة خلال شهر ربيع الآخر وستعمل الجامعة على طباعة محاضرات الموسم الثقافي لهذا العام إن شاء الله.
ومما تجدر الإشارة إليه أن المحاضرات في موسم الجامعة الثقافي في العام الماضي بلغت خمس عشرة محاضرة وسيجري حالياً طباعة هذه المحاضرات في مجلد واحد لدى إحدى شركات الطباعة في جدة.
(دليل الجامعة)
سيتم قريباً إن شاء الله طباعة دليل الجامعة للعام الدراسي 93/1394هـ وهو يحتوي على معلومات عن كليات الجامعة ومعاهدها وإبراز بعض أوجه نشاطها.
(كتب للتوزيع تطبعها الجامعة)(10/123)
رصدت الجامعة في ميزانياتها هذا العام مبالغ كبيرة لطباعة كتب في العقيدة الإسلامية وستتم طباعتها قريباً إن شاء الله وستوزع على نطاق واسع في داخل المملكة وخارجها.(10/124)
الفتاوى
يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
السؤال: ما قولكم في حكم التصوير الذي قد عمت به البلوى وانهمك فيه الناس؟
تفضلوا بالجواب الشافي عماّ يحل منه وما يحرم، أثابكم الله تعالى.
الجواب: الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد فقد جاءت الأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح والمسانيد والسنن دالة على تحريم تصوير كل ذوي روح، آدمياً كان أو غيره، وهتك الستور التي فيها الصور، والأمر بطمس الصور ولعْن المصورين، وبيان أنهم أشد الناس عذاباً يوم القيامة. وأنا أذكر لك جملة من الأحاديث الصحيحة الواردة في هذا الباب، وأذكر بعض كلام العلماء عليها، وأبين ما هو الصواب في هذه المسألة إن شاء الله.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: "ومَن أظلم ممن ذهب يخلق خلقاً كخلقي، فليخلقوا ذَرّة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة" لفظ مسلم.
وفيهما أيضا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة المصورون".
ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم" لفظ البخاري.
وروى البخاري في الصحيح عن أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البغي ولعن آكل الربا وموكله والواشمة والمستوشمة والمصور".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "منْ صَوّر صورة في الدنيا كُلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ" متفق عليه.(10/125)
وخرج مسلم عن سعيد بن أبي الحسن قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال إني رجل أصور هذه الصور فأفتني فيها، فقال أدْن مني فدنا منه، ثم قال أدن مني فدنا منه حتى وضع يده على رأسه فقال: أنبؤك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفساً تعذبه في جهنم". وقال:"إن كنت لا بدّ فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس له".
وخرج البخاري قوله: "إن كنت لا بدّ فاعلاً. . الخ" في آخر الحديث الذي قبله بنحو ما ذكره مسلم.
وخرج الترمذي في جامعه وقال: حسن صحيح عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصورة في البيت، ونهى أن يصنع ذلك".
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل عليّ النبي صلى الله عليه وسلم وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل، فلما رآه هتكه وتلون وجهه وقال: "يا عائشة أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله" قالت عائشة: فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين. رواه مسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيه تماثيل، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم هتكه وقال: "أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله" , قالت: فجعناه وسادة أو وسادتين" خرجه البخاري ومسلم، وزاد مسلم بعد قوله "هتكه: وتلون وجهه"اهـ.
وعنها قالت: قدم النبي صلى الله عليه وسلم من سفر وعلقت دُرْنوكا فيه تماثيل فأمرني أن أنزعه فنزعته. رواه البخاري ورواه مسلم بلفظ: وقد سترت على بابي دونوكا فيه الخيل ذوات الأجنحة، فأمرني فنزعته.(10/126)
وعن القاسم بن محمد عن عائشة أيضا قالت: اشتريت نمرقة فيها تصاوير، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل، فعرفت في وجهه الكراهية. قالت يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله ما أذنبت؟ قال "وما بال هذه النمرقة؟ "فقالت: اشتريتها لتقعد عليها وتوسدها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم", وقال"إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة" رواه البخاري ومسلم. زاد مسلم من رواية ابن الماجشون قالت: فأخذته فجعلته مرفقتين، فكان يرتفق بهما في البيت.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة" متفق عليه. واللفظ لمسلم.
وخرج مسلم عن زيد بن خالد عن أبي طلحة مرفوعاً قال: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا تماثيل".
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام قال: "إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة".
وخرج مسلم عن عائشة وميمونة مثله.
وخرج مسلم أيضاً عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي رضي الله عنه: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدَع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مُشرفاً إلا سويته". وخرج أبو داود بسند جيد عن جابر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب زمن الفتح وهو بالبطحاء أن يأتي الكعبة فيمحو كل صورة فيها، فلم يدخلها النبي صلى الله عليه وسلم حتى محيت كل صورة فيها".
وخرج أبو داود الطيالسي في مسنده عن أسامة قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة ورأى صوراً، فدعا بدلو من ماء فأتيته به فجعله يمحوها ويقول: "قاتل الله قوماً يصورون ما لا يخلقون" قال الحافظ: إسناده جيد.(10/127)
قال: وخرج عمر بن شَبّهْ من طريق عبد الرحمن ابن مهران عن عمير مولى ابن عباس عن أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة فأمرني فأتيته بماء في دلو فجعل يبل الثوب ويضرب به على الصور ويقول: "قاتل الله قوماً يصورون ما لا يخلقون" اهـ.
وخرج البخاري في صحيحه عن عائشة أن "النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا نقضه". ورواه الكشميهني بلفظ "تصاوير", وترجم عليه البخاري رحمه الله بـ (باب نقض الصور) وساق هذا الحديث.
وفي الصحيحين عن بسر بن سعيد عن زيد بن خالد عن أبي طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة", قال بسر: ثم اشتكى زيد فعدناه فإذا على بابه ستر فيه صورة، فقلت لعبيد الله الخولاني ربيب ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول؟ فقال عبيد الله: ألم تسمعه حين قال: "إلا رقماً في ثوب؟ " وفي رواية لهما من طريق عمرو بن الحارث عن بكير الأشج عن بسر فقلت لعبيد الله الخولاني: ألم يحدثنا في التصاوير؟ قال إنه قال: "إلا رقماً في ثوب", ألم تسمعه؟ قلت: لا. قال بلى قد ذكر ذلك.
وفي المسند وسنن النسائي عن عبيد الله بن عبد الله أنه دخل على أبي طلحة الأنصاري يعوده فوجد عنده سهل بن حنيف، فأمر أبو طلحة إنساناً ينزع نمطاً تحته، فقال له سهل: لِمَ تنزع؟ قال لأنه فيه تصاوير وقد قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد علمت. قال: ألم يقل إلا رقماً في ثوب؟ قال: بلى, ولكنه أطيب لنفسي. اهـ وسنده جيد. وأخرجه الترمذي بهذا اللفظ وقال: حسن صحيح.(10/128)
وخرج أبو داود والترمذي والنسائي بإسناد جيد عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتاني جبريل فقال لي: أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قَرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمرْ برأس التماثيل الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومرْ بالستر فليقطع منه وسادتان منبوذتان توطآن، ومرْ بالكلب فليخرج، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا الكلب لحسن أو لحسين كان تحت نضد لهم فأمر به فأخرج". هذا لفظ أبي داود، ولفظ الترمذي نحوه. ولفظ النسائي: استأذن جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادخل, فقال: كيف أدخل وفي بيتك ستر فيه تصاوير؟ فإما أن تقطع رءوسها أو تجعل بساطاً يوطأ، فإنا معشر الملائكة لا ندخل بيتاً فيه تصاوير. اهـ.
وفي الباب من الأحاديث غير ما ذكرنا كثير.
وهذه الأحاديث وما جاء في معناها دالة دلالة ظاهرة على تحريم التصوير لكل ذي روح، وأن ذلك من كبائر الذنوب المتوعد عليها بالنار.
وهي عامة لأنواع التصوير سواء كان للصورة ظل أم لا, وسواء كان التصوير في حائط أو ستر أو قميص أو مرآة أو قرطاس أو غير ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين ما له ظل وغيره. ولا بين ما جعل في ستر أو غيره، بل لعن الصور، وأخبر أن المصورين أشد الناس عذاباً يوم القيامة، وأن كل مصور في النار، وأطلق ذلك ولم يستثن شيئاً.
ويؤيد العموم أنه لما رأى التصاوير في الستر الذي عند عائشة هتكه وتلون وجهه وقال: "إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله" وفي لفظ أنه قال- عندما رأى الستر-: "إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم", فهذا ونحوه صريح في دخول المصور للصور في الستور ونحوه في عموم الوعيد.(10/129)
وأما قوله في حديث أبي طلحة وسهل بن حنيف "إلا رقماً في ثوب" فهذا استثناء من الصور المانعة من دخول الملائكة لا من التصاوير، وذلك واضح من سياق الحديث، والمراد بذلك إذا كان الرقم في ثوب ونحوه يبسط ويمتهن، ومثله الوسادة الممتهنة كما يدل عليه حديث عائشة المتقدم في قطعها الستر وجعله وسادة أو وسادتين. وحديث أبي هريرة وقول جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم فمرْ برأس التمثال الذي في البيت يقطع فيصير كهيئة الشجرة ومُرْ بالستر فليقطع فليجعل منه وسادتين منبوذتان توطآن، ففعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا يجوز حمل الاستثناء على الصورة في الثوب المعلق أو المنصوب على باب أو جدار أو نحو ذلك، لأن أحاديث عائشة صريحة في منع مثل هذا الستر ووجوب إزالته أو هتكه كما تقدم بألفاظها.
وحديث أبي هريرة صريح في أن مثل هذا الستر مانع من دخول الملائكة حتى يبسط أو يقطع رأس التمثال الذي فيه فيكون كهيئة الشجرة، وأحاديثه عليه الصلاة والسلام لا تتناقض بل يصدق بعضها بعضا. ومهما أمكن الجمع بينها بوجه مناسب ليس فيه تعسف وجب وقدم على مسلكي الترجيح والنسخ كما هو مقرر في علم الأصول ومصطلح الحديث وقد أمكن الجمع بينها هنا بما ذكرناه فلله الحمد.
وقد رجح الحافظ في الفتح الجمع بين الأحاديث بما ذكره آنفاً وقال: "قال الخطابي: والصورة التي لا تدخل الملائكة البيت الذي هي فيه ما يحرم اقتناؤه، وهو ما يكون من الصور التي فيها الروح مما لم يقطع رأسه أو لم يمتهن". اهـ.
وقال الخطابي أيضا رحمه الله تعالى: "إنما عظمت عقوبة المصور لأن الصور كانت تعبد من دون الله، ولأن النظر إليها يفتن وبعض النفوس إليها تميل". اهـ.
وقال النووي رحمه الله في شرح مسلم: (باب تحريم تصوير صورة الحيوان وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفرش ونحوه، وإن الملائكة عليهم السلام لا يدخلون بيتاً فيه صورة أو كلب) .(10/130)
"قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره فصنعته حرام بكل حال لأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى، وسواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها. وأما تصوير صورة الشجرة ورحال الإبل وغير ذلك مما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام.
هذا حكم نفس التصوير, وأما اتخاذ المصور فيه صورة حيوان فإن كان معلقاً على حائط أو ثوباً ملبوساً أو عمامة ونحو مما لا يعد ممتهناً فهو حرام، وإن كان في بساط يداس ومخدة ووسادة ونحوها مما يمتهن فليس بحرام إلى أن قال: ولا فرق في هذا كله بين ما له ظل وما لا ظل له.
هذا تلخيص مذهبنا في المسألة، وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم.
وقال بعض السلف: إنما ينهى عمّا كان له ظل، ولا بأس بالصور التي ليس لها ظل, وهذا مذهب باطل فإن الستر الذي أنكر النبي صلى الله عليه وسلم الصورة فيه لا يشك أحد أنه مذموم، وليس لصورته ظل مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة". اهـ.
قال الحافظ بعد ذكره لملخص كلام النووي هذا:
"قلت: ويؤيد التعميم فيما له ظل وما لا ظل له ما أخرجه أحمد من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثناً إلا كسره، ولا صورة إلا لطخها" أي طمسها. الحديث.
وفيه "من عاد إلى صنعة شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" اهـ.
قلت: ومن تأمل الأحاديث المتقدمة تبين له دلالتها على تعميم التحريم، وعدم الفرق بين ما له ظل وغيره كما تقدم توضيح ذلك.(10/131)
فإن قيل: قد تقدم في حديث زيد بن خالد عن أبي طلحة أن بسر بن سعيد الراوي عن زيد قال: ثم اشتكى زيد فعدناه، فإذا على بابه ستر فيه صورة. فظاهر هذا يدل على أن زيدا يرى جواز تعليق الستور التي فيها الصور.
فالجواب: أن أحاديث عائشة المتقدمة وما جاء في معناها دالة على تحريم تعليق الستور التي فيها الصور وعلى وجوب هتكها، وعلى أنها تمنع دخول الملائكة، وإذا صحت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تجز معارضتها بقول أحد من الناس ولا فعله كائناً من كان، ووجب على المؤمن اتباعها والتمسك بما دلت عليه ورفض ما خلافه كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} , وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} فقد ضمن الله سبحانه في هذه الآية الهداية لمن أطاع الرسول. وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .(10/132)
ولعل زيداً رضي الله عنه لم تبلغه الأحاديث الدالة على تحريم تعليق الستور التي فيها الصور، فأخذ بظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إلا رقماً في ثوب"فيكون معذوراًً لعدم علمه بها. وأما من علم الأحاديث الصحيحة الدالة على تحريم نصب الستور التي فيها الصور فلا عذر له في مخالفتها. ومتى خالف العبد الأحاديث الصحيحة الصريحة اتباعاً للهوى أو تقليداً لأحد من الناس استوجب غضب الرب ومقته، وخيف عليه من زيف القلب وفتنته كما حذر الله سبحانه من ذلك في قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} الآية. وفي قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وقوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ} الآية.
وتقدم في حديث أبي هريرة الدلالة على أن الصورة إذا قطع رأسها جاز تركها في البيت لأنها تكون كهيئة الشجرة، وذلك يدل على أن تصوير الشجر ونحوه مما لا روح فيه جائز كما تقدم ذلك صريحاً من رواية الشيخين عن ابن عباس.
ويستدل بالحديث المذكور أيضاً على أن قطع غير الرأس من الصورة كقطع نصفها الأسفل ونحوه لا يكفي ولا يبيح استعمالها، ولا يزول به المانع من دخول الملائكة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بهتك الصور ومحوها، وأخبر أنها تمنع من دخول الملائكة إلا ما امتهن منها، أو قطع رأسه، فمن ادعى مسوغاً لبقاء الصورة في البيت غير هذين الأمرين فعليه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.(10/133)
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الصورة إذا قطع رأسها كان باقيها كهيئة الشجرة. وذلك يدل على أن المسوغ لبقائها خروجها عن شكل ذوات الأرواح ومشابهتها للجمادات. والصورة إذا قطع أسفلها وبقي رأسها لم تكن بهذه المثابة لبقاء الوجه وفيه من بديع الخلقة والتصوير ما ليس في بقية البدن، فلا يجوز قياس غيره عليه عند مَن عَقَلَ عن الله ورسوله مراده.
وبذلك يتبين لطالب الحق أن تصوير الرأس وما يليه من الحيوان داخل في التحريم والمنع، لأن الأحاديث الصحيحة المتقدمة تعُمه، وليس لأحد أن يستثني من عمومها إلا ما استثناه الشارع.
ولا فرق في هذا بين الصور المجسدة وغيرها من المنقوشة في ستر أو قرطاس أو نحوهما، ولا بين صور الآدميين وغيرها من كل ذي روح ولا بين صور الملوك والعلماء وغيرهم، بل التحريم في صور الملوك والعلماء ونحوهم من المعظمين أشد، لأن الفتنة بهم أعظم ونصْب صورهم في المجالس ونحوها وتعظيمه من أعظم وسائل الشرك وعبادة أرباب الصور من دون الله، كما وقع ذلك لقوم نوح، وتقدم في كلام الخطابي الإشارة إلى هذا.(10/134)
وقد كانت الصور في عهد الجاهلية كثيرة معظمة معبودة من دون الله حتى بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم فكسر الأصنام، ومحى الصور وأزال الله به الشرك ووسائله. فكل من صور صورة أو نصبها أو عظمها فقد شابه الكفار فيما صنعوا، وفتح للناس باب الشرك ووسائله. ومن أمر بالتصوير أو رضي به، فحكم فاعله في المنع، واستحقاق الوعيد، لأنه قد تقرر في الكتاب والسنة وكلام أهل العلم تحريم الأمر بالمعصية والرضا بها كما يحرم فعلها وقد قال الله تعالى {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} فدلت الآية على أن من حضر المنكر ولم يعرض عن أهله فهو مثلهم.
فإذا كان الساكت عن المنكر مع القدرة على الإنكار أو المفارقة مثل من فعله، فالآمر بالمنكر أو الراضي به يكون أعظم جرماً من الساكت، وأسوأ حالاً، وأحق بأن يكون مثل من فعله. والأدلة في هذا المعنى كثيرة يجدها من طلبها في مظانها.
وبما ذكرناه في هذا الجواب من الأحاديث وكلام أهل العلم يتبين لمريد الحق أن توسع الناس في تصوير ذوات الأرواح في الكتب والمجلات والجرائد والرسائل خطأبيّن ومعصية ظاهرة يجب على من نصح نفسه الحذر منها وتحذير إخوانه من ذلك بعد التوبة النصوح مما قد سلف.
ويتبين له أيضاً مما سلف من الأدلة أنه لا يجوز بقاء هذه التصاوير المشار إليها على حالها بل يجب قطع رأسها أو طمسها ما لم تكن في بساط ونحوه مما يداس ويمتهن فإنه لا بأس بتركها على حالها كما تقدم الدليل على ذلك في أحاديث عائشة وأبي هريرة، وأما اللعب المصورة على صورة شيء من ذوات الأرواح فقد اختلف العلماء في جواز اتخاذها للبنات وعدمه.(10/135)
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت: "كنت ألعب بالبنات عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل يتقمعن منه، فيسر بهن إليّ يلعبن معي".
قال الحافظ في الفتح: "استدل بهذا الحديث عل جواز اتخاذ صور البنات واللعب من أجل لعب البنات بهن, وخص ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور، وبه جزم عياض، ونقله عن الجمهور، وأنهم أجازوا بيع اللعب للبنات لتدريبهن من صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن", قال: "وذهب بعضهم إلى أنه منسوخ، وإليه مال ابن بطال وحكي عن ابن أبي زيد عن مالك أنه كره أن يشتري الرجل لبنته الصور، ومن ثم رجح الداودي أنه منسوخ.
وقد ترجم ابن حبان (الإباحة لصغار النساء اللعب باللعب) , وترجم له النسائي (إباحة الرجل لزوجته اللعب بالبنات) فلم يقيد بالصغر، وفيه نظر.
قال البيهقي بعد تخريج الأحاديث: ثبت النهي عن اتخاذ الصور، فيحمل على أن الرخصة لعائشة في ذلك كانت قبل التحريم، وبه جزم ابن الجوزي _ إلى أن قال _ وأخرج أبو داود والنسائي من وجه آخر عن عائشة قالت قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر _ فذكر الحديث في هتكه الستر الذي نصبته على بابها _ قالت: "فكشف ناحية الستر على بنات لعائشة لعب، فقال: "ما هذا يا عائشة؟ "قالت بناتي. قالت: ورأى فيها فرساً مربوطاً له جناحان، فقال: "ما هذا؟ " قلت فرس له جناحان، قلت ألم تسمع أنه كان لسليمان خيل لها أجنحة؟ فضحك" - إلى أن قال - قال الخطابي: في هذا الحديث أن اللعب بالبنات ليس كالتلهي بسائر الصور التي جاء فيها الوعيد، وإنما أرخص لعائشة فيها لأنها إذ ذاك كانت غير بالغة.(10/136)
قلت: وفي الجزم به نظر، لكنه محتمل لأن عائشة كانت في غزوة خيبر بنت أربع عشرة سنة، إما أكملتها أو جاوزتها أو قاربتها، وأما في غزوة تبوك فكانت قد بلغت قطعا، فيترجح رواية من قال (في خيب) وجمع بما قال الخطابي، لأن ذلك أولى من التعارض". اهـ المقصود من كلام الحافظ.
إذا عرفت ما ذكره الحافظ رحمه الله تعالى فالأحوط ترك اتخاذ اللعب المصورة لأن في حِلها شكاً لاحتمال أن يكون إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة على اتخاذ اللعب المصورة قبل الأمر بطمس الصور فيكون ذلك منسوخاً بالأحاديث التي فيها الأمر بمحو الصور وطمسها إلا ما قطع رأسه أو كان ممتهناً كما ذهب إليه البيهقي وابن الجوزي، وما إليه ابن بطال. ويحتمل أنها مخصوصة من النهي كما قاله الجمهور لمصلحة التمرين، ولأن في لعب البنات فيها نوع امتهان. ومع الاحتمال المذكور وأشك في حِلها يكون الأحوط تركها، وتمرين البنات بلعب غير مصورة حسماً لمادة بقاء الصور المجسدة، وعملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك", وقوله في حديث النعمان بن بشير المخرج في الصحيحين مرفوعا: "الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحِمى يوشك أن يقع فيه" والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم. . .(10/137)
إنا لله وإنا إليه راجعون
كلمة للتاريخ
صفحة مشرقة في حاضر العالم الإسلامي (فيصل بن عبد العزيز آل سعود)
إنا لله وإنا إليه راجعون
بعد أن تمت طباعة هذا العدد وأوشك على الصدور حلّت بالمسلمين المصيبة الكبرى بوفاة جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله فرأت الجامعة أن تثبت في نهايته نص برقيتي التعزية المرفوعتين من سماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز لجلالة الملك خالد بن عبد العزيز وولي عهده سمو الأمير فهد بن عبد العزيز ونص البرقيتين الجوابيتين عليهما، والخطاب الذي ارتجله جلالة الملك فيصل رحمه الله في الجامعة الإسلامية وكلمتين من بعض أسرة الجامعة.
والجامعة إذ تعزي جلالة الملك خالد بن عبد العزيز وسمو ولي عهده والأسرة المالكة والمسلمين جميعاً في كل مكان تسأل الله تعالى للفقيد المغفرة والرحمة ولخلفه التوفيق والتسديد والنصر والتأييد. . .
جلالة الملك المعظم خالد بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية حفظه الله.(10/138)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. في هذا الوقت الذي تودع فيه المملكة العربية السعودية فقيدها الراحل وفقيد المسلمين جميعاً جلالة الملك فيصل ابن عبد العزيز رحمه الله أتقدم بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن جميع منسوبي الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة إلى جلالتكم وإلى جميع الأسرة المالكة ولعموم الشعب بالتعزية بوفاة الفقيد الغالي سائلاً العلي القدير أن يتغمده بواسع رحمته ويسكنه فسيح جنته وأن يجزيه خير الجزاء عماّ قدمه لهذه البلاد وللمسلمين جميعاً من خدمات جليلة وما بذله في سبيل تضامن المسلمين وفي الدعوة إلى دين الله من جهود مشكورة وأعمال مجيدة وإنا إذ نبايعكم على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, والنصح للمسلمين, نسأل الله تعالى أن يجعل جلالتكم خلفاً صالحاً وقائداً موفقاً لكل ما فيه رضاه وصلاح عباده وأن يسدد خطاكم وأن يعينكم على كل خير وأن يجعل عهدكم عهد أمن واستقرار ورخاء وعز للإسلام والمسلمين معتصمين بالله ملتزمين بالسير على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سميع مجيب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرد الملكي
صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة _ الرياض(10/139)
لقد كان لبرقية التعزية التي بعثتموها فضيلتكم عنكم وعن كافة منسوبي الجامعة الإسلامية أعمق الأثر في نفسي لما أبديتموه من جميل المساواة وصادق الدعوات وإننا لنشكركم على ذلك سائلين المولى جلت قدرته أن يتغمد الفقيد الراحل بواسع رحمته ومغفرته ويسكنه فسيح جناته وأن يجزيه خير الجزاء لقاء ما قدمه من خدمات جليلة في سبيل الأمة العربية والإسلامية والدفاع عن حقوقها وأن يعوض الجميع فيه خيراً مقدرين مبايعتكم لنا وراجين من الله العلي القدير بأن يأخذ بأيدينا ويسدد خطانا ويمدنا بعونه وتوفيقه للعمل على ما فيه خير هذه الأمة وعزها وإعلاء راية الإسلام وتوحيد كلمة المسلمين إنه سميع مجيب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
خالد بن عبد العزيز
صاحب السمو الملكي الأمير المكرم فهد بن عبد العزيز ولي العهد المعظم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
إن المصيبة على المسلمين جميعاً وعلى هذه البلاد خصوصاً بالحادث الأليم الذي أودى بحياة جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله عظيمة جداً وإن الخطب كبير ولا نقول إلا ما قال الصابرون: "إنا لله وإنا إليه راجعون".(10/140)
وإصالة عن نفسي ونيابة عن منسوبي الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة أتقدم بالتعزية لسموكم الكريم ولجميع الأسرة المالكة وعموم الشعب ولجميع المسلمين, سائلا المولى جل وعلا أن يتغمده برحمته ويسكنه فسيح جناته وأن يثيبه خيراً على جهوده العظيمة التي قدمها لحفظ الأمن والاستقرار في هذه البلاد ولنشر الدعوة الإسلامية والدعوة للتضامن الإسلامي في أنحاء المعمورة والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً كما أننا جميعا نبايعكم ولياً للعهد على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والنصح للمسلمين وأسأل الله تعالى أن يبارك في خلفه جلالة الملك المعظم خالد وولي عهده سموكم الكريم وأن يعين الجميع على كل خير كما أسأله تعالى أن يوفق جلالة الملك خالد وسموكم الكريم وسائر العاملين في الحكومة للاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والمسك بتعاليمها والدعوة إلى ذلك والثبات عليه لأن ذلك هو السبب الحقيقي للنصر والعزة {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . .
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة _ الرياض(10/141)
أشكر فضيلتكم وكافة منسوبي الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة على رقيق تعزيتكم وجميل مواساتكم بوفاة جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز الذي كرس حياته وضحى بالكثير من راحته وصحته مجاهداً في سبيل الله ثم أمته ودينه مدافعاً عن حقوق العرب والمسلمين حتى اختاره الله إلى جواره في وقت نحن والأمة العربية والإسلامية أحوج ما نكون إلى قيادته وتوجيهه وحكمته ولا شك أن المصاب في فقده عظيم والخطب جلل تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جنته وجزاه على ما قدمه من جهود وما بذله من طاقات لخدمة القضايا المصيرية للعرب والمسلمين خير الجزاء وإنا لله وإنا إليه راجعون وإننا نقدر لكم مبايعتكم لنا ولياً للعهد مستمدين من الله العون والتأييد لتتبع خطى فقيدنا الراحل العظيم وسائلينه سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعاً لما فيه خير أمتنا وعزها وإعلاء راية الإسلام وتوحيد كلمة المسلمين على الهدى والرشاد، والسلام عليكم ورحمته الله وبركاته.
خطبة الفيصل رحمه الله في الجامعة الإسلامية
لقد حظيت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بزيارة جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله ثلاث مرات كان لها الأثر الطيب في نفوس المسؤولين والأساتذة والطلبة في هذه الجامعة وفيما يلي نص الخطاب الذي ارتجله جلالته رحمه الله في زيارته التي تفضل بها للجامعة في أول شهر ذي القعدة عام 1384هـ:
أيها الأخوة المسلمون:
إنه ليسرني في هذه اللحظة المباركة أن أتقدم إليكم بعظيم شكري وامتناني لما حبوتموني به من مظاهر العطف والرعاية وإنني لأتقدم بالشكر بصورة خاصة إلى والدنا الكريم رئيس الجامعة وإلى الأخ العزيز نائبه عبد العزيز بن باز، وإلى أساتذة ومديري وطلاب هذا المعهد العظيم لما رأيته ولمسته من روح وثابة وعزم أكيد لخدمة هذا الدين وأبناء المسلمين في أقطار العالم الإسلامي.
أيها الإخوة:(10/142)
ليس غريباً أن أرى وأسمع وألمس في هذه الجامعة ما يثلج الصدور ويبهج المخاطر من انطلاقة إسلامية كبرى أرجو لها النجاح وأرجو أن تؤتى ثمارها في أقطار العالم الإسلامي لخدمة هذه الدعوة المباركة والنهوض بها والسعي إلى نشرها بين أبناء الملة الإسلامية والدعوة إليها بين أبناء الملل الأخرى وإنني لأرجو لها نجاحاً باهراً ما دامت ترتكز على مثل هذه السواعد ومثل هذه الروح الوثابة المنطلقة بحول الله لنشر الدين والدعوة إليه والجهاد في سبيله.
أيها الإخوة:
إن المسؤولية الملقاة على عواتقكم وعواتق الجميع مسؤولية كبرى فاسعوا إلى التفقه في دينكم ومعرفة كل ما يمكن معرفته لتكونوا مسلحين بسلاح العلم وسلاح الفقه وبسلاح المعرفة حتى تكونوا مستعدين لما يجابهكم من صعاب ومن دعوات مضللة ومن مجهودات يرغب ويأمل أصحابها في أن يأخذوا من هذا الدين وأن يحطوا من قدره وأن يهاجموه بكل ما أوتوا من قوة وإنني لأرجوا الله مخلصاً أن يهبكم الصبر والشجاعة والقوة لتكافحوا في سبيل هذا الدين ولتبصروا الناس بما يحتويه هذا الدين وما تحتويه هذه الدعوة والشريعة من مزايا ومن مكارم ومن أسس هي أصلح ما يكون للبناء. البناء الذي يهدف إلى صالح البشر وإلى خير الأمة ولا يهدف إلى التزوير وإلى البدع والمضللات وإلى هدم الكيانات البشرية وإلى هدم الأخلاق وكل ما هو كريم في بني الإنسان.
أيها الإخوة:(10/143)
إن أمامكم طريقاً شاقاً وطريقاً طويلاً وصعاباً جمة، وأرجو أن تتسلحوا لها بالعلم والعرفان والنفس المطمئنة الصابرة الحكيمة في الدعوة إلى الله. وقد قال سبحانه وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن} وجادل الكفرة وجادل المشركين وجادل المرتدين والملحدين والمعاندين حتى تلقنهم الحجة وتتغلب عليهم بالحكمة وبالعقل وبالصبر. فهذا هو السبيل إلى الدعوة, وهذا هو السبيل إلى تنوير أذهان الناس وتبصيرهم فيما تحتويه هذه الدعوة وما يحتويه الشرع الإسلامي والدين الإسلامي من مزايا وخصائص لا يمكن أن تخطر على قلب بشر ولا يمكن أن ينكرها أو يجحدها إلا جاحد أو مكذب.
أيها الإخوة الكرام:
لا أريد أن أطيل عليكم وإنني واثق بحول الله من أن بين جنبات هذا المعهد من هم أحسن مني وأفقه مني وأعلم مني ممن ألقيت على عاتقهم مسؤولية تثقيفكم.
أيها الإخوة:
ومسؤولية تنويركم لا أقول إلا الحق فإن الحق واضح ولكن لصقل أفكاركم ومدارككم لتكونوا سلاحاً في يد الإسلام, في يد هذه الدعوة تبصرون الجاهل وتوضحون الطريق لمن أراد الإيضاح وتجابهون من أراد العند والكفر والعناد بحجة واضحة. وقد قال صلوات الله وسلامه عليه: "تركتكم على مثل محجة بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك".
فالحق واضح ولكن يحتاج إلى أن نهدي إليه الناس وأن نبصرهم بالسبل التي تؤول إلى الحق وتهتدي بالحق وتطلب الحق فمن أراد الحق فهو واضح ومن أراد الجحود فلا حول ولا قوة إلا بالله فإن في الإسلام والمسلمين بحول الله وقدرته من القوة والثبات ما يمكنهم من أن يدافعوا عن الحق أمام كل جاحد وكل مرتد وكل متكبر.
أيها الإخوان:(10/144)
إن ما نقوم به في سبيل نشر العلم والدعوة إلى الله ونشر الثقافة الإسلامية فما هو إلا قليل مما يجب علينا ولكننا نسير حسب الإمكانيات وحسبما يتحمله أو يقتدر عليه مجهود البشر ولكن ثقوا بحول الله أننا سائرون بكل ما أوتينا من قوة لنصر ديننا ولخدمة الإسلام وللدفاع عنه ولتبصير الناس له فمن أراد الحق ومن أراد الخير فسبيله واضح ومن أراد غير ذلك استعنّا عليه بالله سبحانه وتعالى ثم بقوة العقيدة والإصرار على التمسك بها فإن أخشى ما يُخشى على المسلمين هو إدخال الشك في نفوسهم من عقيدتهم ومن دينهم وهذا ما يخشى على المسلمين منه وإنني أرجو الله مخلصاً أن يجعلنا وإياكم من أنصار دينه وأن يحفظنا بالإسلام وأن يوفقنا لسبيل الحق والصواب.
ولي ملاحظة بسيطة أحب أن أقدمها للأخ نائب الرئيس. فقد تفضل وقال عني بأنني أمير المؤمنين وإني كذا وكذا فأرجو أيتقبل مني هذه الملاحظة فإنني لست في درجة من سلفوا من أمراء المؤمنين ومن خلفاء المسلمين وإنما أرجو أن يعتبروني هو وإخواني وكل من أتشرف بخدمتهم أن أكون خادم المسلمين وخادم المؤمنين وهذا أشرف ما يكون أرجو من الله سبحانه وتعالى أن يوفقني بأن أقوم بهذا الواجب حسب إمكاني وأن يوفقني لخلوص النية والعمل الصالح الدائب إنه على كل شيء قدير.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته …
كلمة للتاريخ
بقلم: فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
نائب رئيس الجامعة الإسلامية(10/145)
في يوم الثلاثاء الموافق الثالث عشر من شهر ربيع الأول عام 1395هـ الموافق الخامس والعشرين من شهر مارس 1975م الموافق الثالث من الحمل 1353 ش انتقل إلى رحمة الله جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية وإمام المسلمين وخادم الحرمين الشريفين وهو في سن الحادية والسبعين من عمره غفر الله له ورحمه وقد خسر المسلمون بموته ذلك الفيصل العظيم والقائد المظفر والرجل الدءوب على مصالح المسلمين وقد كان لوفاته الأثر البالغ في النفوس لا في مملكته وحدها ولا في العالم الإسلامي فحسب بل في العالم أجمع وذلك لما يتمتع به رحمه الله من خصال لا تجتمع إلا في النادر من الرجال فمن قوة عزيمته إلى تواضع جم إلى حنكة وطول تجارب إلى تحمس للدعوة إلى الله إلى اهتمام بالغ بتضامن المسلمين إلى غير ذلك من صفات حسنة وأخلاق كريمة، فقد فجع بنبأ موته الخاص والعام وبكاه الصغير والكبير وسمعت النبأ المحزن بوفاته وأنا عند أحد الأصدقاء بمدينة الرياض وكنا نسمع بكاء أطفاله من داخل المنزل حين سمعوا بوفاته رحمه الله وخرجت مدينة الرياض عن بكرة أبيها للمصلى للصلاة عليه وامتلأت الشوارع وانسدت الطرق بين المصلى والمقبرة، وهذه المودة الصادقة والمحبة الشديدة التي تمكنها له رعيته تذكر بالحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم" الحديث. . . وستظل هذه المحبة لجلالة الملك فيصل رحمه الله باقية بإذن الله في قلوب المسلمين وسيظل ذكره بالخير جاريا على ألسنتهم وسيلهجون بالدعاء له باستمرار بالمغفرة والرحمة وأن يجزيه الله الجزاء الأوفى على ما بذله من جهود عظيمة في سبيل إعلاء كلمة الله وإظهار دينه ونشر شيعته.(10/146)
وكان انتقاله من هذه الدار إلى الدار الآخرة على إثر اعتداء يد أثيمة امتدت إليه خلسة وهو يواصل عمله ضحوة في مكتبه بمجلس الوزراء وقد شاء الله أن يكون رحمه عاملاً حتى اللحظة التي فارق فيها الحياة وأن تكون كيفية مفارقته الحياة على نحو الكيفية التي فارق الحياة فيها الخلفاء الراشدون: عمر ابن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، إذ فارقوا الحياة الدنيا على أثر اعتداء أيد أثيمة امتدت إليهم وكان رحمه الله يتمنى الشهادة في سبيل الله ونرجو أن يكون قد نالها، قال رحمه الله في خطبته التي ألقاها في موسم الحج عام 1388هـ - وهو يتحدث عن تحرير المسجد الأقصى-:
"أيها الإخوة المسلمون:
نريدها غضبة ونهضة إسلامية لا تدخلها قومية ولا عنصرية ولا حزبية إنما دعوة إسلامية دعوة إلى الجهاد في سبيل الله، في سبيل ديننا وعقيدتنا دفاعاً عن مقدساتنا وحرماتنا وأرجو الله سبحانه وتعالى أنه إذا كتب لي الموت أن يكتب لي الموت شهيداً في سبيل الله.
إخواني: أرجو أن تعذروني إذا ارتج عليّ فإنني حينما أتذكر حرمنا الشريف ومقدساتنا تنتهك وتستباح وتمثل فيها المفاسد والمعاصي والانحلال الخلقي فإنني أدعو الله إذا لم يكتب لنا الجهاد لتخليص هذه المقدسات أن لا يبقيني لحظة واحدة على قيد الحياة".(10/147)
أقول: أرجو أن يكون قد نال الشهادة التي تمناها فقد كانت حياته رحمه الله حياة جهاد وعمل متواصل في سبيل الله والشهادة ليست مقصورة على شهيد المعركة بين المسلمين والكفار فقد ثبت في صحيح البخاري أن عمر وعثمان رضي الله عنهما شهيدان فأخرج في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحدا وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال: "أثبت أحد فإن عليك نبي وصديق وشهيدان". . . وأخرج البخاري في صحيحه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "اللهم ارزقني شهادة في سبيلك واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم"، ولم يكن موت عمر وعثمان رضي الله عنهما في معارك بين المسلمين والكفار وإنما كان باعتداء أيد أثيمة على كل منهما رضي الله عنهما وأرضاهما وقد عقد الإمام النووي رحمه الله باباً في كتابه رياض الصالحين قال فيه: "باب بيان جماعة من الشهداء في ثواب الآخرة ويغسلون ويصلى عليهم بخلاف القتيل في حرب الكفار"وأورد في هذا الباب خمسة أحاديث تشتمل على أصناف وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم شهداء فيهم من قتل في سبيل الله ومن مات في سبيل الله ومن قتل دون ماله ومن قتل دون دمه ومن قتل دون دينه ومن قتل دون أهله والمطعون والمبطون والغريق وصاحب الهدم.
ومنذ انتقاله رحمه الله إلى جوار ربه تسلم قيادة السفينة من بعده الرجل المؤمن المتواضع ذو السجايا الحسنة والأخلاق الفاضلة جلالة الملك خالد بن عبد العزيز يشد أزره ولي عهده سمو الأمير فهد بن عبد العزيز وإخوانهم الكرام فسارت والحمد لله إلى بر النجاة وشاطئ السلامة باسم الله مجراها ومرساها.
وأسأل الله تعالى أن يسدد خطاهم وأن يعينهم على كل خير وأن يعز بهم الإسلام ويرفع شأن المسلمين إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه. . .
صفحة مشرقة في حاضر العالم الإسلامي(10/148)
(فيصل بن عبد العزيز آل سعود)
1324 – 1395هـ
بقلم: فضيلة الشيخ محمد شريف الزبيق
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} .
رُوّع المسلمون بنبإ وفاة فيصل بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية بيد معتدٍ أثيم، وقد كان لهذا الحادث الجلل وقع أليم هزّ قلوب المسلمين وفجعهم بأعظم رجال هذا العصر الذي كان أمل الأمة الإسلامية وقائدها وحكيمها الذي وهبه الله لها في عصر ندر فيه الرجال المخلصون الأكفياء للقيادة بإيمان وحكمة وبصيرة، فعمل رحمه الله عملاً دائباً متصلاً لعزة الإسلام وجمع شمل المسلمين وتوحيد كلمتهم في كافة المجالات، وبذل كل ما يملك من المواهب والإمكانيات في صراع أعداء الإسلام.
لقد عاش فيصل رحمه الله معظم هذا القرن الرابع عشر، وعاصر الأحداث الخطيرة والمؤامرات التي تعرض لها الإسلام والمسلمون من إلغاء الخلافة وتمزيق الأقطار الإسلامية، واغتصاب اليهود فلسطين.. إلى غزو المسلمين اجتماعياً وفكرياً بالعادات والعقائد والمبادئ الهدامة، فعمل رحمه الله على إتمام ما بدأ به والده العظيم عبد العزيز رحمه الله من توطيد نظام المملكة العربية السعودية والنهوض بها علمياً وعمرانياً مع الحفاظ عل ما امتازت به هذه الدولة الإسلامية على غيرها من إقامة الحكم الإسلامي وتطبيق الحدود الشرعية، والتزام العمل بالكتاب والسنة، فكانت هذه المملكة التي ترفرف على علمها الخضر كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) نموذجاً نادراً بل عديم النظير في أمنها واستقرارها وهيبة الحكم فيها ونشر العدل بين رعيتها، مع الحرية والكرامة والرخاء.(10/149)
إن التاريخ سيسجل في أبرز صفحاته أعمال الفيصل وجهوده للنهوض بشعبه وخدمة أمته الإسلامية، منذ بواكير شبابه حتى الساعة التي صعدت فيه روحه الطاهرة إلى بارئها، في تواضع وإخلاص وزهد في الألقاب والمظاهر، وقد كان أحب الألقاب إليه: خادم الحرمين الشريفين وخادم المسلمين.
لقد تم في عهده مشروع توسعة المسجد الحرام حتى بلغت مساحته عشرة أضعاف مساحته قبل التوسعة، وقد أمر رحمه الله بالتوسعة الثانية للمسجد النبوي الشريف التي شرع بها منذ العام الماضي وستكون كبيرة تستوعب الوافدين من أقطار العالم الإسلامي للصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما تطورت خطوط المواصلات الجوية والبرية والبحرية وسهلت سبل حجاج بيت الله.
وقد لقيت المعاهد العلمية والمدارس والجامعات من رعاية الفيصل وتوجيه أوفى نصيب كجامعة الرياض وجامعة الملك عبد العزيز في مكة المكرمة وجدة والجامعة الإسلامية في المدينة المنورة وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض وجامعة البترول والمعادن في الظهران.
وإذا كانت هذه النهضة العلمية يعود نفعها لشعب داخل المملكة في المقام الأول فإن الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة أنشئت لخير الأمة الإسلامية فأكثر من أربعة أخماس طلابها من الأقطار الإسلامية في أنحاء العالم الإسلامي أو من المسلمين في بعض دول أوروبا وأمريكا إذ بلغ عدد الأقطار التي ينتمي إليها طلاب الجامعة 86 قطراً. ويدرس جميع طلاب الجامعة على منح سخية تجريها عليهم المملكة.(10/150)
وفي مكة المكرمة تلقى رابطة العالم الإسلامي من الفيصل رحمه الله كل العون وتوجيه وتأييد، وهي تضم في هيئتها التأسيسية عدداً من أعلام الأقطار الإسلامية، وتقوم أمانتها العامة بجهود مشكورة في الدعوة الإسلامية والاهتمام بالقضايا والمشاكل التي تهم المسلمين ولها نشاط مشكور في عقد الندوات والمؤتمرات للجماعات الإسلامية والشباب، وإرسال البعوث والدعاة إلى مختلف أقطار العالم الإسلامي.
وجهود الفيصل رحمه الله لخدمة الإسلامية كثيرة متعددة النواحي، فقد دعا إلى التضامن الإسلامي في الوقت الذي اضطربت فيه الأمور في كثير من الدول الإسلامية والعربية الشقيقة، وكان المسلمون أحوج ما يحتاجون إلى اجتماع الكلمة والتعاون والتضامن، فقام رحمه الله بهذه الدعوة التي كان يرى أنها فرض على كل مسلم، وخطب في باكستان عام 1386 هـ فقال: "إننا نسعى إلى الإسلام ونسعى إلى التآخي ونسعى إلى التفاهم ولكن ليس معنى هذا أن نضحي بمبادئنا وعقيدتنا وإسلامنا في سبيل هذا التآخي وهذا التفاهم". فدعوته رحمه الله إلى الأخوة والتضامن دعوة إسلامية للعودة إلى الإسلام والعمل بمبادئه.
وقد ذكر الفيصل رحمه الله الغافلين عن قيمة التراث الإسلامي والعاملين على إحلال القوانين الغربية الوضعية محل الشريعة الإسلامية بقوله من خطاب له بتونس: "إذا كنا نحن المسلمين قد قصرنا بعض الشيء ولم تنفهم حقيقة شريعتنا وديننا فعلينا أن نفهم وندرس في شريعتنا نستنبط منها ما يلائم عصرنا وما يبرز محاسن الإسلام شريعة وعقيدة".(10/151)
وسيسجل التاريخ نجاح دعوة الفيصل إلى التضامن الإسلامي رغم كل العوائق والمؤامرات، فقد انعقد المؤتمر الإسلامي وضم رؤساء بضع وعشرين دولة إسلامية في عدة دورات، وأنشئت الأمانة الإسلامية العامة بجدة، وتم تأسيس البنك الإسلامي، واستطاع الفيصل رحمه الله توحيد الجبهة العربية ودعمها بالمال والسلاح والرجال، وسيسجل التاريخ دور الفيصل رحمه الله في حرب رمضان 1393هـ وانتصار دول المواجهة على اليهود، وعبور المقاتلين المسلمين من مصر قناة السويس وتحصينات العدو المعروفة بخط بارليف، وقد محا هذا الانتصار عار الهزيمة النكراء التي حلت بجيوش قادها زعماء غفلوا عن الله ورفعوا شعارات تخالف الإسلام فأصيبت الأمة جمعاء بعارهم حتى ظن أنه لن يدال للمسلمين من أعدائهم إلا بعد دهر طويل، فقد احتلت جيوش اليهود الصهيونيين شبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان وجميع ما تبقى من فلسطين _ الضفة الغربية لنهر الأردن _ فقام الفيصل بمواساة المهزومين وأمدهم بكل ما يحتاجونه من مال وسلاح. . لقد فتح لهم خزائن مملكته كما فتح لهم قلبه، فاستطاع جنود مصر الأبطال المجاهدون اقتحام حصون اليهود المنيعة وهم يهتفون الله أكبر. . الله أكبر.. وشاركت فصائل من جيش الفيصل في حرب اليهود في جبهة الجولان إلى جانب أشقائهم السوريين والعراقيين والمغاربة..(10/152)
وإذا كانت الحرب ما تزال قائمة بين المسلمين واليهود ومن يمدهم بالمال والسلاح فإن الفيصل رحمه الله ما فتئ يدعو للجهاد لتحرير فلسطين واسترجاع بيت المقدس ثالث الحرمين وأولى القبلتين، وقد وجه رحمه الله إلى حجاج عام 1387هـ قوله: "إن هناك مقدسات لكم تداس وتهان وترغم يومياً، هناك أرض المعراج، هناك أولى القبلتين، هناك ثالث الحرمين الشريفين، فهو لنا جميعاً، إنه ليس للعرب دونكم أيها الإخوان بل للمسلمين جميعاً، وإنه يتعرض اليوم لأعظم الكيد والحرمان، وإني لأهيب بإخواني المسلمين أن يهبوا لنصرة دينهم، للدفاع عن مقدساتهم لأن الله سبحانه وتعالى قد فرض علينا ذلك".
وكان رحمه الله يحرص على إبراز الناحية الإسلامية في قضية فلسطين، تلك القضية التي كانت تستأثر بأعظم اهتمامه، فكان يعمل على شد أزر أبناء فلسطين ومشاركتهم في الجهاد، ويأبى أن تكون الحلول السلمية سبيلاً لإضاعة حقوقهم أو التفريط بالوطن الإسلامي، وقد خطب رحمه الله عام 1390هـ فقال: "هناك من يدعو لإيجاد حلول أو أن يكون هناك سلام، أو أن يكون هناك تفاهم ومقدساتنا مهانة، وبلادنا محتلة، وشعبنا مضطهد ومشرد، فإذا لم تكن هذه الحلول تؤمن لنا استعادة مقدساتنا واستعادة أراضينا والحفاظ على حقوق شعبنا المشرد فكيف يمكن أن نقبل هذه الحلول أو نرضخ لها، فهذا معناه أن نستسلم لأعدائنا وأن نقبل الهزيمة، وأن نرضى بتحطيم كرامتنا وعزتنا، إنني أربأ بإخواني المسلمين في كل قطر وإخواني العرب أن يقبلوا بحلول لا تؤمن لهم حقهم المغتصب، والحفاظ على كرامتهم المهانة والحفاظ على حقوق إخوانهم المشردين في كل قطر، الذين لم ينظر إليهم أحد أو يعترف بحقهم غيركم أيها الإخوان".(10/153)
وكان الفيصل رحمه الله يحذر المسلمين في كل مناسبة من كيد اليهود وخطط الصهيونية العالمية التي تبثّ المبادئ الهدامة في كل مكان، ومن أقواله في هذا الشأن: "نجحت الصهيونية حينما أطلقت على العالم هذه المبادئ الهدامة، وهذه المبادئ الملحدة الشيوعية وما يتفرغ منها من اتجاهات ومذاهب ... وتمكنت لسوء الحظ بنشر هذه المبادئ من أن تصل إلى حدّ ما، إلى كثير من أهدافها وغاياتها، وهذه الأهداف تستهدف تحطيم كل المعتقدات وتحطيم كل القوى البشرية وإشاعة الفوضى والتنابذ والتحلل الخلقي لجميع شعوب العالم الذي لم تتمكن أن تصل إليه بقوتها، فسعت سعيها الحثيث إلى أن تضلل العالم وأن تسوقه إلى ما فيه شره والقضاء عليه، ويكفي أن ننظر إلى شيء واحد: إن قادة الشيوعية الذين حملوا لواءها وبثوا في العالم معتقداتها كلهم من الصهيونيين الذين خططوا وسعوا إلى تحطيم البشرية وتهديمها ليصلوا إلى مبتغاهم وهو السيطرة على العالم".
وسيسجل التاريخ للفيصل رحمه الله أنه نذر أن يصلي ركعتين في المسجد الأقصى بعد تحريره وكانت هذه أعظم أمنيه، وفي اليوم الذي لقي فيه وجه ربه راضياً مرضياً قابل رئيس منظمة تحرير فلسطين وزوده بالتوجيه والتأييد، وكانت آخر وصاياه لخلفائه: تحرير فلسطين.(10/154)
ومآثر الفيصل وحسناته في أرجاء العالم كثيرة لا يمكن استقصاؤها، وأبرز مآثره رحمه الله إقامة دعائم الدولة على الشورى، وإتاحة الفرصة لإفراد الشعب للتعبير عن آرائهم بحرية وتوجيهه أولى الرأي إلى أن تكون النهضة على أساس ديننا القويم، وتحذيره من الانسياق وراء الثقافة الغربية فقد كان رحمه الله أكثر الناس وعياً أن ما ينقص المسلمين اليوم هو العلوم والصناعات والفنون المخترعات الحديثة (التي يسمونها التكنولوجيا) تلك العلوم التي تمكننا من إعداد القوة لمجابهة الأعداء، أما الثقافة الأوروبية من آداب وقصص وفلسفات وقوانين فهي السموم التي تقضي على كيان المسلمين وشخصيتهم، يقول رحمه الله: "يسرنا أن نتلقى من أي فرد من أفراد المجتمع وهذه الأمة أية ملاحظة أو أية مراجعة في أي شأن من الشؤون يرى أن فيه ما يغاير المصلحة أو الهدف الذي نرمي إليه جميعاً وسيكون لها أكبر الترحيب في نفوسنا وسنهتم بها أكبر الاهتمام".
ويعاهد رحمه الله الشعب: "لكم عليّ أن أراقب الله سبحانه وتعالى في كل ما أعمل، ولكن عليّ أن أخلص في خدمتي لكم، ولكم عليّ أن أعدل بين صغيركم وكبيركم، وإن أطرفكم (أبعدكم) عندي مساوٍ لأقربكم إليّ في الحق، وإني بحول الله وقوته أسأل المولى سبحانه وتعالى أن أعدل في معاملتي بين أهلي وأسرتي واخوتي".
وقال رحمه الله: "إننا أردنا لأمتنا وشعوبنا الخير فإننا لسنا بحاجة لأن نستورد لأي بلد أو وطن أو أمة أية آراء وأية عقائد أو أية قوانين من الخارج، بل بالعكس فإن تلك الأمم نفسها تستفيد من شريعتنا ومن قواعدنا. . وقد سبق أن استفاد نابليون من الشريعة الإسلامية حينما حضر إلى مصر واختلط بعلماء المسلمين، فاتخذ منها قواعد بنى عليها نظامه ودستوره الذي لا يزال كثير من الأمم تأخذ به وتستنبط منه، دساتيرها وقوانينها، والفضل في ذلك هو للشريعة الإسلامية وليس لنابليون".(10/155)
وقد أنعم الله على جزيرة العرب بمصادر غنية من هذا المعدن السائل زيت النفط، فقام الفيصل رحمه الله بشكر الله وأدى ما عليه من الحقوق لإخوانه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وعمم الرخاء في أرجاء مملكته، وشجع التجارة والصناعة، ووضع الأنظمة التي تكفل حقوق العامل وجنب البلاد بتطبيقه العدالة الاجتماعية مساوئ النظم الرأسمالية وأحقاد الاشتراكية، ومن توجيهاته في هذا المجال: "إننا اخترنا لنظامها الاقتصادي النظام الحر، وفي اعتقادنا أن هذه علاوة على أنه يتفق تمام الاتفاق مع شريعتنا الإسلامية يقوم بإفساح المجال لكل الكفاءات من الشعب، حتى يبذل كل شخص وكل جمع جهوده في سبيل الصالح العام. إننا لا نقيد حرية الإنسان في أن يستهدف في عمله وفي اتجاهه ما يرى أن فيه صالحاً عاماً، ولكن هذا لا يعني أننا نترك الحبل على الغارب إذا رأينا أن هناك اتجاهاً لشخص أو جماعة بما يضر المجتمع، أو بما يضر الغير، فإننا نتدخل حسب الشريعة الإسلامية لإصلاح الفاسد، ولتقويم المعوج، ولإحقاق العدالة الاجتماعية بين الجميع".
وأخيراً فإن التاريخ سيسجل أن الله قد أكرم عبده فيصل بن عبد العزيز رحمه الله بمحبة الناس، وشهادتهم له بالتقوى والعمل الصالح، وأن فيصل قد أوضح السبيل ومهد الطريق أمام خلفائه وفقهم الله وسدد خطاهم وترك لهم منهاجاً واضحاً للعمل في جميع الميادين الوطنية والعربية والإسلامية والدولية.
تغمده الله برحمته، وجزاه أحسن الجزاء وإنا لله وإنا إليه راجعون.(10/156)
أثر المخدرات في تدهور الشعوب
بقلم فضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
المدرس بكلية الشريعة في الجامعة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد المرسلين وإمام المتقين، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، أما بعد:
فإن بحمد الله تعالى لا يزال رواد الخير من المسؤولين وغيرهم في أنحاء العالم يعملون على محاصرة المخدرات العضوية والقضاء عليها: طلباً لسلامة الإنسانية، ووقاية لأعراضها وصيانة لعقولها، وقد أطبقت الشرائع السماوية على وجوب حفظ النفس والعقل والعرض والمال مع سلامة الدين.
وكانت الشريعة الإسلامية قد سبقت جميع القوانين الحديثة في تحريم المخدرات والمفترات والمسكرات عملاً بما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا ضرر ولا ضرار", كما صح الخبر الذي رواه أحمد في المسند وأبو داود من حديث أم سلمة رضي الله عنها"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مسكر ومفتر"، قال في لسان العرب: "الفتر: الضعف وفتر يفتر فتورا، لانت مفاصله وضعف"ثم قال:"والفتار: ابتداء النشوة عن أبي حنيفة"وأنشد للأخطل:
صهباء ترمي شربها بفتار
وتجردت بعد الهدير وصرحت(10/157)
وفي الحديث:" أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مسكر ومفتر" فالمسكر الذي يزيل العقل، والفتر الذي يفتر الجسد أي يحمي الجسد ويصير فيه فتوراً والتخدير والتفتير متقاربان في المعنى"، قال: صاحب معجم متن اللغة الشيخ أحمد رضا: "خدر: كسل وفتر وضعف والظاهر أنه الأصل في المعنى وخدرت رجله استرخت فلا تطيق حركة, وخدرت عينه ثقلت من قذى أو غيره والظبي فترت عظامه"، ثم قال:"والخدرة: الضعف والفتور يصيب البدن والأعصاب كما يصيب الشارب قبل السكر". وقد ذكر القرافي في فروقه: الفرق بين المسكرات والمرقدات والمفسدات فالذي يغيب الحواس كالبصر والسمع واللمس والشم والذوق. فهو المرقد كالبنج والذي لا تغيب معه الحواس ويتخيل صاحبه كأنه نشوان مسرور قوي النفس شجاع كريم مع تغطية العقل فهو المسكر، ولذلك قال الشاعر:
وأسداً ما ينهنها اللقاء
ونشربها فتتركنا ملوكا
وهو تخيل لا حقيقة له ولذلك قال القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله:
تنفي الهموم وتصرف الهما
زعم المدامة شاربوها أنها
أن السرور لهم بها تما
صدقوا سرت بعقولهم فتوهموا
أرأيت عادم ذين معتما
سلبتهموا أديانهم وعقولهم(10/158)
أما المفسدات فهي المشوشات للعقل كالحشيش والأفيون وسائر المخدرات والمفترات التي تثير الخلط الكامن في الجسد ولذلك تختلف أوصاف شرابها ومستعمليها فتحدث حدة لمن كان مزاجه صفراوياً وتحدث سباتاً وصمتاً لمن كان مزاجه بلغمياً، وتحدث بكاء وجزعاً لمن كان مزاجه سوداوياً، وتحدث سروراً لمن كان مزاجه دموياً، فتجد من متناوليها من يشتد بكاؤه، ومنهم من يشتد صمته، ومنهم من يعظم سروره وانبساطه فشرّاب الخمر تكثر عربدتهم ووثوب بعضهم على بعض بالسلاح ويهجمون على بعض الأعمال التي لا يطيقونها في حال الصحو كما أشار الشاعر, أما أهل الحشيش والأفيون فيصيرون همدة ساكتين انتزعت منهم قوة البطش بل هم أشبه شيء بالبهائم ولذلك تكثر حوادث القتل مع شراب الخمر ولا تكاد توجد مع أصحاب المخدرات، إذ هذه المخدرات تحدث خنوثة الطبع وفساده وقد تجر صاحبها إلى الدياثة على زوجته وأهله فضلاً عن الأجانب.
والمسكرات محرمة إجماعاً وفيها الحد والمخدرات محرمة كذلك وفيها الحد أو التعزير الزاجر عنها.
أما المرقدات فيجوز استعمالها للعمليات الجراحية، قال ابن فرحون المالكي:"والظاهر جواز ما يسقى من المرقد لقطع عضو ونحوه؛ لأن ضرر المرقد مأمون وضرر العضو غير مأمون", وبهذا تنفرد المرقدات عن المخدرات.(10/159)
قال صاحب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية التي حشى بها فروق القرافي ص 216 ج1 طبع دار إحياء الكتب العربية:" اعلم أن النبات المعروف بالحشيشة لم يتكلم عليه الأئمة المجتهدون ولا غيرهم من علماء السلف لأنه لم يكن في زمنهم وإنما ظهر في أواخر المائة السادسة وانتشرت في دولة التتار قال العلقمي في شرح الجامع: "حكي أن رجلاً من العجم قدم القاهرة وطلب دليلاً على تحريم الحشيشة وعقد لذلك مجلساً حضره علماء العصر فاستدل الحافظ زين الدين العراقي بحديث أم سلمة:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر", فأعجب الحاضرين"، قال: "ونبه السيوطي على صحته واحتج به ابن حجر على حرمة المفتر ولو لم يكن شراباً ولا مسكراً ", ذكره في باب الخمر والعسل من شرح البخاري واحتج به القسطلاني في المواهب اللدنية على ذلك أيضاً وذكره السيوطي في جامعه ولولا صلاحيته للاحتجاج به ما احتج به هؤلاء وهم رجال الحديث وجهابذته.
وكون الحشيشة من المفتر مما أطبق عليه مستعملوها ممن يعتد بهم وبخبرهم يعتد في مثل هذا الأمر، والقاعدة عند المحدثين والأصوليين أنه إذا ورد النهي عن شيئين مقترنين ثم نص على حكم النهي عن أحدهما من حرمة أو غيرها أعطى الآخر ذلك الحكم بدليل اقترانهما في الذكر والنهي.
وفي الحديث المذكور ذكر المفتر مقروناً بالمسكر وتقرر عندنا تحريم المسكر بالكتاب والسنة والإجماع فيجب أن يعطى المفتر حكمه بقرينة النهي عنهما مقترنين وفسر غير واحد التفتير باسترخاء الأطراف وتخدرها وصيرورتها إلى وهن وانكسار وذلك من مبادئ النشوة معروف عند أهلها أفاده ابن حمدون. اهـ(10/160)
وذكر البستاني في دائرة المعارف ج7 ص67 و69 و 70 في مادة الحشيشة فأشار نقلاً عمّا في كتب النبات الطبية إلى أن جميع أجزاء هذا النبات تتصاعد منها رائحة كريهة نتنة زهمة فلذا عُدّ من السموم ثم قال:" فإذا مكث الشخص معرضاً لتصعداتها لم يلبث أن يحصل له صداع شديد ودوار وجميع أعراض السكر وتكون هذه الأحوال أشد ظهوراً كلّما كان استنبات النبات في بلد أميل إلى الجنوب لأنه في البلاد الشمالية يفقد أعظم جزء من فاعليته", ثم ذكر أنه تستحضر منه مشروبات وتراكيب مسكرة توقع مستعملها في سبات وتوقف الحس والحركة بسبب تأثيرها على المخ. ويشير إلى أن مستعملها قد يسقط في سبات مصحوباً بعوارض عصبية.(10/161)
ونقل البستاني عن ابن البيطار أنه إذا تناول الإنسان من هذه الأوراق مقدار درهم أسكر جدا وإن أكثر من ذلك خرج إلى حد الرعونة وربما قتل ثم قال:"ويشاهد من إفراط المقدار هذيان يؤدي إلى فزع وقد يميت وقال أطباء العرب عن نتائجه إنه وإن حصل منه التفريح أولا إلا أنه يخدر ويكسل ويبلد ويضعف الحواس وينتن رائحة الفم ويضعف الكبد والمعدة بتبريده ويورث الاستسقاء وفساد الألوان", ثم قال: "وبالجملة ففساده كبير كثير", ثم قال: "ويحدث ضلالاً في الأخلاق الأدبية والطبيعية فيشاهد مستعمله ما هو موجود أمامه مشاهدة رديئة ويشاهد شيئاً ليس موجوداً ويحكم حكماً فاسداً في الموجودات فيكون أشبه بالمجانين", ثم ذكر أن المقريزي ذمها ذماً شديداً وعدد قبائح مستعمليها وما فعل بعض الرؤساء والملوك في شأن إبطالها وكيفية ثبوتها مجددة وقتا بعد وقت. وقال فريد وجدي في دائرة معارف القرن الرابع عشر ج3 ص 447: "الحشيش الذي يستعمله بعض الناس للتخدير هو عصارة القنب الهندي وهو مخدر ومفقد للإحساس ومضر بالمجموع العصبي ضرراً بليغاً جداً ونتيجته الطبيعية الجنون بأشد حالاته وتدخينه عادة مرن عليها بعضهم واستناموا لها استنامة لا فواق منها وهم في الحقيقة جانون على أنفسهم وعائلاتهم جناية ليس وراءها"، وفي دائرة المعارف الإسلامية ج7 ص434 في مادة الحشاشين نعنى جماعة الحسن بن الصباح الذي استولى على قلعة ألموت 483 هـ الموافق 1090_ 1091 م المتوفى عام 518:
والحشيش يجهز من القنب الذي يستعمل أحياناً ليبلوا حالة الوجد أو السكر.
ويقال إن الذين ينتخبون من الفدائيين على يد أئمة الحشاشين لأداء مهمة جليلة الخطر (كالاغتيال مثلاً) يدفعون إلى تعاطي الحشيش حتى يصبحوا كالآلة الصماء يقومون بكل عمل يطلب منهم، وفي ص 440 و441 و442 و443 ج7 من دائرة المعارف الإسلامية في مادة الحشيش:(10/162)
الحشيش هو الاسم العربي لمخدر شرقي يستخلص من القنب الهندي وأشار إلى أنه عقار وأنه الإدمان عليه يورث العقم.
والقنب اسم يوناني سرياني واسمه الفارسي المعرب (شاهدانج) أشار إلى أن أول طبيب وصف التخدير الذي يحدثه هو ابن البيطار ولم يكن ذلك قبل القرن السابع الهجري والثالث عشر الميلادي وطول الإدمان عليه يورث الجنون، ثم قال: "وجاء المقريزي في القرن الرابع عشر الميلاد (التاسع الهجري) وذكر أن الأمير سودون الشيخوني سعى قرابة عام 780 هـ (1378م) إلى تحريم استعمال الحشيش في مصر بفرض العقاب الصارم", وقال في دائرة المعارف هذه:
"وحسبنا أن نذكر هنا أقوال نفر من الأطباء امتازوا بأنهم كتبوا في تعاطي الحشيش عن دراية وخبرة وأولهم بروسيبيرو البينو الذي طب من عام 1581 م إلى عام 1584م لقنصل البندقية في القاهرة والبرتغالي جار سسادا أورتا عام 1653 كما رسمه الإسباني خريستوفال أكوستا عام 1576 م".
وقد أشار في دائرة المعارف إلى اختلاف تأثير الحشيش في الناس فذكر أن تأثيره كما هو الشأن في جميع السموم المخدرة في استحداث حالة من النشوة مصحوبة بضحك متواصل يتبعها وجد وهذيان وأوهام وهي من السمات الخاصة به, كما تحدث نوبات من الغضب ثم يتبع ذلك حالة من التهيج الجنسي المتزايد تنتهي بنوم تخديري وأحلام.
وذكر من آثاره أن مدمنة يصاب بهبوط مصحوب بفقدان الإرادة والبلاهة التامة وقد كان سكان المصحات العقلية في مصر من مدمني الحشيش 30% ثلاثين في المائة والدولة تشن حرباً لا هوادة فيها على مهربي الحشيش لتحاول القضاء على هذا العقار القتال.
ويستغل الأشرار هذه القوة التخديرية الحادثة من الحشيش على هذا النحو في أغراضهم الإجرامية.(10/163)
وقال ابن حجر الهيثمي من علماء القرن العاشر الهجري في كتابه (الزواجر عن اقتراف الكبائر) ص138 ج2 طبعة دار الكتب العربية الكبرى: "واعلم أن الحشيشة المعروفة حرام كالخمر يحد آكلها, أي على قول قال به جماعة من العلماء كما يحد شارب الخمر, وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج أي إفساداً عجيباً حتى يصير في متعاطيها تخنث قبيح ودياثة عجيبة وغير ذلك من المفاسد فلا يصير له من المروءة شيء البتة ويشاهد من أحواله خنوثة الطبع وفساده وانقلابه إلى أشر من طبع النساء ومن الدياثة على زوجته وأهله فضلاً عن الأجانب ما يقضي العاقل منه بالعجب العجاب وكذا متعاطي نحو البنج والأفيون وغيرهما مما مرّ قبيل البيع.
والخمر أخبث من جهة أنها تفضي إلى الصيال على الغير وإلى المخاصمة والمقاتلة والبطش وكلاهما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة.
ورأى آخرون من العلماء تعزير أكلها كالبنج", ثم قال:
"وسبب اختلاف العلماء في الحد وفي نجاستها كونها جامدة مطعومة ليست شراباً فقيل هي نجسة كالخمر وهو الصحيح أي عند الحنابلة وبعض الشافعية.
وقيل طاهرة لجمودها أي وهو الصحيح عند الشافعية وقيل المائعة نجسة والجامدة طاهرة: قال: وعلى كل حال فهي داخلة فيما حرم الله ورسوله من الخمر لفظا ومعنى". اهـ.
وقد وقفت في مخطوطات المكتبة المحمودية بالمدينة المنورة على رسالة تسمى الجواب المتحرر في أحكام المنشط والمخدر للشيخ أبي محمد عبد الرحمن بن عبد الكريم بن زياد الزبيدي أحد كبار علماء القرن العاشر الهجري، وقد ذكر فيها أن الشيء إنما يحرم تناوله وأكله وشربه إما لإضراره الضرر البين كالسم أو لإسكاره كالخمر والنبيذ مع نجاسته أو لنجاسته كالبول والغائط أو لتخديره وتخبيله للعقل كالبنج والحشيش ونحوهما أو لاستقذاره كالمخاط والبزاق. وخص الفصل الثالث من هذا الجواب الواقع في الورقة 6 في بيان حكم البنج والحشيش.(10/164)
قال: "والمعمول الذي فيه ما يضر حرام باتفاق العلماء كما قاله أبو العباس ابن تيمية الحنبلي والشيخ بدر الدين الزركشي الشافعي رحمهما الله تعالى وكل منهما صنف في ذلك مصنفاً وصرحا بالتحريم فيحرم تناول هذه الأشياء ويفسق آكلهما وترد شهادته قياساً على الخمر إذ تصد عن ذكر الله وعن الصلاة بل تزيد بتغير العقل بالمداومة عليها كما شوهد ذلك في المتعاطين لأكلها", قلت: وقفت على مصنف الإمام الزركشي في ذلك وفيه جمل من الفوائد فأحببت تلخيص بعض فوائده هنا لتكمل الفائدة.
قال: "ذكر بعضهم أنه جمع في الحشيش مائة وعشرين مضرة دينية ودنيوية ونقل عن بعض الأئمة كل ما في الخمر من المذمومات موجود في الحشيش وزيادة فهي تشارك الخمر في الإسكار وفساد الفكر ونسيان الذكر وإنساء السرور وإنشاء الشرور وذهاب الحيا وكثرة الخنا وعدم المروءة وكشف العورة وإتلاف الكيس ومجالسة إبليس وترك الصلاة والوقوع في المحرمات هذا بعض ضررها في الدين, أما في البدن فتفسد العقل وتقطع النسل وتولد الجذام وتورث البرص وتجلب الأسقام وتكسب الرعشة وتجفف المنى وتسقط شعر الأجفان وتحرق الدم وتحفر الأسنان وتظهر الداء الخفي وتضمر الأحشاء وتبطل الأعضاء وتضيق النفس وتقوي الهوى وتصفر اللون وتسود الأسنان وتفت الكبد، وتهيج المعدة وتولد في الفم البخر وفي العين الغشاوة وقلة النظر وفي المخيلة كثرة الفكر ثم ذكر غير ذلك من أوصافها المذمومة وذكر أن الصواب أنها مسكرة وأنه يجب الحد فيها". قلت: التحقيق أنها مخدرة وما ذكره من وجوب الحد مخالف لما جرى عليه إماماه ومحرراه ومنقحاه الرافعي والنووي فإنهما صرحا بوجوب التعزير لا الحد فهو المعتمد ثم ذكر عن النووي أنه قال في الحشيشة "إنها مسكرة وليست بنجسة". ويؤيده أن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد فيما كتبه على فروع ابن الحاجب قطع بأنها طاهرة وحكى الإجماع عليه.
وقال الصنعاني في سبل السلام:(10/165)
"قال الخطابي: المفتر كل شراب يورث الفتور والخور في الأعضاء وحكى العراقي وابن تيمية الإجماع على تحريم الحشيشة وأن من استحلها كفر قال ابن تيمية: إن الحشيشة أول ما ظهرت في آخر المائة السادسة من الهجرة حين ظهر في دولة التتار وهي من أعظم المنكرات وهي شر من الخمر من بعض الوجوه لأنها تورث نشأة (نشوة) ولذة وطرباً كالخمر ويصعب الطعام عليها أعظم من الخمر وقد أخطأ الذي قال:
وحرام تحريم غير الحرام
حرموها من غير عقل ونقل
وأما البنج فهو حرام, قال ابن تيمية:"إن الحد في الحشيشة واجب".
قال ابن البيطار: "إن الحشيشة وتسمى القنب توجد في مصر مسكرة جدّاً إذا تناول الإنسان منها قدر درهم أو درهمين، وقبائح حصائلها كثيرة وعدّ منها بعض العلماء مائة وعشرين مضرة دينية ودنيوية.
وقبائح خصائلها موجودة في الأفيون وفيه زيادة مضار", قال ابن دقيق العيد في الجوزة أنها مسكرة.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى ج34 ص198:
"وكذلك (الحشيشة) المسكرة يجب فيها الحد، وهي نجسة في أصح الوجوه، وقد قيل إنها طاهرة, وقيل يفرق بين يابسها ومائعها, والأول الصحيح؛ لأنها تسكر بالاستحالة كالخمر النيء، بخلاف مالا يسكر بل يغيب العقل كالبنج، أو يسكر بعد الاستحالة كجوزة الطيب، فإن ذلك ليس بنجس. ومن ظن أن الحشيشة لا تسكر وإنما تغيب العقل بلا لذة فلم يعرف حقيقة أمرها، فإنه لولا ما فيها من اللذة لم يتناولوها ولا أكلوها، بخلاف البنج ونحوه مما لا لذة فيه, والشارع فرق في المحرمات بين ما تشتهيه النفوس وما لا تشتهيه, فما لا تشتهيه النفوس كالدم والميتة اكتفى فيه بالزاجر الشرعي، فجعل العقوبة فيه والتعزير, وأما ما تشتهيه النفوس فجعل فيه مع الزاجر الشرعي زاجرا طبيعيا وهو الحد (والحشيشة) من هذا الباب".(10/166)
وقال في ص205 و206: "وهذه (الحشيشة) فإن أول ما بلغنا أنها ظهرت بين المسلمين في أواخر المائة السادسة وأوائل السابعة, حيث ظهرت دولة التتار، وكان ظهورها مع ظهور سيف (جنكسخان) لما أظهر الناس ما نهاهم الله ورسوله عنه من الذنوب سلط الله عليهم العدو، وكانت هذه الحشيشة الملعونة من أعظم المنكرات، وهي شر من الشراب المسكر من بعض الوجوه، والمسكر شر منها من وجه آخر، فإنها من أنها تسكر آكلها حتى يبقى مسطولاً تورث التخنث والديوثة, وتفسد المزاج, فتجعل الكبير كالسفنجة وتوجب كثرة الأكل, وتورث الجنون، وكثير من الناس صار مجنوناً بسبب أكلها ومن الناس من يقول إنها تغير العقل فلا تسكر كالبنج، وليس كذلك بل تورث نشوة ولذة وطرباً كالخمر، وهذا هو الداعي إلى تناولها، وقليلها يدعو إلى كثيرها كالشراب المسكر، والمعتاد لها يصعب عليه فطامه عنها أكثر من الخمر، فضررها من بعض الوجوه أعظم من الخمر، ولهذا قال الفقهاء: إنه يجب فيها الحد، كما يجب في الخمر.
وتنازعوا في (نجاستها) على ثلاثة أوجه في مذهب أحمد وغيره, فقيل هي نجسة, وقيل: ليست نجسة, وقيل: رطبها نجس كالخمر، ويابسها ليس بنجس, والصحيح أن النجاسة تتناول الجميع كما تتناول النجاسة جامدة الخمر ومائعها، فمن سكر من شراب مسكر أو حشيشة مسكرة لم يحل له قربان المسجد حتى يصحو، ولا تصح صلاته حتى يعلم ما يقول، ولا بد أن يغسل فمه، ويديه، وثيابه في هذا وهذا، والصلاة فرض عليه، لكن لا تقبل منه حتى يتوب أربعين يوماً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوما، فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد فشربها لم تقبل له صلاة أربعين يوماً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد فشربها كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال"، قيل: وما طينة الخبال؟ قال: "عصارة أهل النار أو عرق أهل النار".(10/167)
وقال في ص210 _ 214: "الحمد لله, هذه الحشيشة الصلبة حرام، سواء سكر منها أو لم يسكر، والسكر منها حرام باتفاق المسلمين، ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل مرتداً، لا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، وأما إن اعتقد ذلك قربة، وقال: هي لقيمة الذكر والفكر، وتحرك العزم الساكن إلى أشرف الأماكن، وتنفع في الطريق، فهو أعظم وأكبر، فإن هذا من جنس دين النصارى الذين يتقربون بشرب الخمر، ومن جنس من يعتقد الفواحش قربة وطاعة قال الله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} , ومن كان يستحل ذلك جاهلاً وقد سمع بعض الفقهاء يقول:
وحرام تحريم غير الحرام
حرموها من غير عقل ونقل
فإنه ما يعرف الله ورسوله، وأنها محرمة، والسكر منها حرام بالإجماع، وإذا عرف ذلك ولم يقر بتحريم ذلك فإنه يكون كافراً مرتداً كما تقدم، وكل ما يغيب العقل فإنه حرام وإن لم تحصل به نشوة ولا طرب، فإن تغيب حرم بإجماع المسلمين, وأما تعاطي البنج الذي لم يسكره, ولم يغيب العقل ففيه التعزير. وأما المحققون من الفقهاء فعلموا أنها مسكرة، وإنما يتناولها الفجارلما فيها من النشوة والطرب، فهي تجامع الشراب المسكر في ذلك، والخمر توجب الحركة والخصومة، وهذه توجب الفتور والذلة، وفيها مع ذلك من فساد المزاج والعقل، وفتح باب الشهوة وما توجبه من الدياثة، مما هي من شر الشراب المسكر، وإنما حدثت في الناس بحدوث التتار.
وعلى تناول القليل منها والكثير حد الشرب، ثمانون سوطاً، أو أربعون, إذا كان مسلما يعتقد تحريم المسكر، ويغيب العقل.(10/168)
وتنازع الفقهاء في نجاستها؟ على ثلاثة أقوال (أحدها) أنها ليست نجسة, (والثاني) أن مائعها نجس، وأن جامدها طاهر, و (الثالث) وهو الصحيح أنها نجسة كالخمر، فهذه تشبه العذرة، وذلك يشبه البول، وكلاهما من الخبائث التي حرمها الله ورسوله ومن ظهر منه أكل الحشيشة فهو بمنزلة من ظهر منه شرب الخمر، وشر منه من بعض الوجوه، ويهجر، ويعاقب على ذلك، كما يعاقب هذا، الوعيد الوارد في الخمر مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وحاملها، وآكل ثمنها", ومثل قوله: "من شرب الخمر لم يقبل الله له صلاة أربعين يوماً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد وشربها لم يقبل الله له صلاة أربعين يوماً فإن تاب تاب الله عليه، وإن عاد فشربها لم يقبل الله له صلاة أربعين يوماً فإن تاب تاب الله عليه، وإن عاد فشربها في الثالثة أو الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال، وهي عصارة أهل النار", وقد ثبت عنه في الصحيح صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مسكر حرام", وسئل عن هذه الأشربة وكان قد أوتي جوامع الكلم فقال صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر حرام".
وسئل رحمه الله عما يجب على آكل الحشيشة؟ ومن ادعى أن أكلها جائز حلال مباح فأجاب: "أكل هذه الحشيشة الصلبة حرام، وهي من أخبث الخبائث المحرمة، وسواء أكل منها كثيراً أو قليلاً لكن الكثير المسكر منها حرام باتفاق المسلمين، ومن استحل ذلك فهو كافر يستتاب, فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً، لا يغسل، ولا يصلى عليه ولا يدفن بين المسلمين. وحكم المرتد شر من حكم اليهودي والنصراني، سواء اعتقد أن ذلك يحل للعامة أو للخاصة الذين يزعمون أنها لقمة الفكر والذكر، وأنها تحرك العزم الساكن إلى أشرف الأماكن، وأنهم لذلك يستعملونها.(10/169)
وقد كان بعض السلف ظن أن الخمر تباح للخاصة، متأولاً قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} , فلما رفع أمرهم إلى عمر بن الخطاب وتشاور الصحابة فيهم اتفق عمر وعلي وغيرهما من علماء الصحابة رضي الله عنهم على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على الاستحلال قتلوا.
وهكذا حشيشة العشب من اعتقد تحريمها وتناولها فإنه يجلد ثمانين سوطاً أو أربعي. هذا هو الصواب, وقد توقف بعض الفقهاء في الجلد، لأنه ظن أنه مزيلة للعقل، غير مسكرة، كالبنج ونحوه مما يغطي العقل من غير سكر، فإن جميع ذلك حرام باتفاق المسلمين إن كان مسكراً ففيه حد الخمر، وإن لم يكن مسكراً ففيه التعزير بما دون ذلك, ومن اعتقد حل ذلك كفر وقتل, والصحيح أن الحشيشة مسكرة كالشراب، فإن آكليها ينشون بها، ويكثرون تناولها بخلاف البنج وغيره، فإنه لا ينشي ولا يشتهي، وقاعدة الشريعة أن ما تشتهيه النفوس من المحرمات كالخمر والزنا ففيه الحد وما لا تشتهيه كالميتة ففيه التعزير (والحشيشة) مما يشهيها آكلوها, ويمتنعون عن تركها, ونصوص التحريم في الكتاب والسنة على من يتناولها كما يتناول غير ذلك، وإنما ظهر في الناس أكلها قريباً من نحو ظهور التتار فإنها خرجت، وخرج معها سيف التتار".(10/170)
وقال في ص222_ 224: "فهذه (الحشيشة الملعونة) هي وآكلوها ومستحلوها الموجبة لسخط الله وسخط رسوله وسخط عباده المؤمنين المعرضة, صاحبها لعقوبة الله، إذا كانت كما يقوله الضالون, من أنها تجمع الهمة، وتدعو إلى العبادة فإنها مشتملة على ضرر في دين المرء وعقله وخلقه وطبعه أضعاف ما فيها من خير، ولا خير فيها، ولكن هي تحلل الرطوبات، فتصاعد الأبخرة إلى الدماغ، وتورث خيالات فاسدة فيهون على المرء ما يفعله من عبادة، ويشغله بتلك التخيلات عن أضرار الناس, وهذه رشوة الشيطان يرشو بها المبطلين ليطيعوه فيها بمنزلة الفضة القليلة في الدرهم المغشوش، وكل منفعة تحصل بهذا السبب فإنها تنقلب مضرة في المآل، ولا يبارك لصاحبها فيها، وإنما هذا نظير السكران بالخمر، فإنها تطيش بعقله حتى يسخو بماله ويتشجع على أقرانه، فيعتقد الغر أنها أورثته السخاء والشجاعة وهو جاهل، وإنما أورثته عدم العقل, ومن لا عقل له لا يعرف قدر النفس والمال، فيجود بجهله لا عن عقل فيه.
وكذلك هذه الحشيشة المسكرة إذا أضعفت العقل، وفتحت باب الخيال، تبقى العادة فيها مثل العبادات في الدين الباطل دين النصارى، فإن الراهب تجده يجتهد في أنواع العبادة لا يفعلها المسلم الحنيف، فإن دينه باطل، والباطل خفيف، ولهذا تجود النفوس في السماع المحرم والعشرة المحرمة بالأموال وحسن الخلق بما لا تجود به في الحق، وما هذا بالذي يبيح تلك المحارم، أو يدعو المؤمن إلى فعله، لأن ذلك إنما كان لأن الطبع لما أخذ نصيبه من الحظ المحرم ولم يبال بما بذله عوضاً عن ذلك، وليس في هذا منفعة في دين المرء ولا دنياه, وإنما ذلك لذة ساعة، بمنزلة لذة الزاني حال الفعل، ولذة شفاء الغضب حال القتل، ولذة الخمر حال النشوة، ثم إذا صحا من ذلك وجد عمله باطلاً، وذنوبه محيطة به وقد نقص عليه عقله ودينه وخلقه.(10/171)
وأين هؤلاء الضلال مما تورثه هذه الملعونة من قلة الغيرة وزوال الحمية حتى يصير آكلها إما ديوثاً، وإما مأبوناً، وإما كلاهما, وتفسد الأمزجة حتى جعلت خلقاً كثيراً مجانين وتجعل الكبد بمنزلة السفنج ومن لم يجن منهم فقد أعطته نقص العقل، ولو صحا منها فإنه لا بد أن يكون في عقله خبل ثم إن كثيرها يسكر حتى يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهي وإن كانت لا توجب قوة نفس صاحبها حتى يضارب ويشاتم، فكفى بالرجل شراً أنها تصده عن ذكر الله وعن الصلاة إذا سكر منها وقليلها وإن لم يسكر فهو بمنزلة قليل الخمر.
ثم إنها تورث من مهانة آكلها، ودناءة نفسه، وانفتاح مالا يورثه الخمر، ففيها من المفاسد ما ليس في الخمر، وإن كان في الخمر مفسدة ليست فيها وهي الحدة، فهي بالتحريم أولى من الخمر لأن ضرر آكل الحشيشة على نفسه أشد من ضرر الخمر، وضرر شارب الخمر على الناس أشد إلا أنه في هذه الأزمان لكثرة أكل الحشيشة صار الضرر الذي منها على الناس أعظم من الخمر، وإنما حرم الله المحارم لأنها تضر أصحابها، هذا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر وكل مسكر حرام", وهذه مسكرة، ولو لم يشملها لفظ تعينها لكان فيها من المفاسد ما حرمت الخمر لأجلها، مع إن فيها مفاسد أخر غير مفاسد الخمر توجب تحريمها. والله أعلم". اهـ.
هذا وأسأل الله عز وجل أن يوفق المسؤولين عن الأمم والشعوب في حمايتها من المخدرات المعنوية المتمثلة في المذاهب الهدامة والنظريات المنحرفة فإنها لا تقل في هدم الشعوب والأمم والأفراد عن أختها المخدرات الحسية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . .(10/172)
حكم التبني في الإسلام
بقلم: فضيلة الشيخ عبد الفتاح القاضي
الأستاذ بكلية القرآن الكريم في الجامعة
كان للعرب في الجاهلية وصدر الإسلام مكارم ومناقب يحمدون عليها، ويشرفون بفعلها. وكان لهم بإزاء هذا مناكر ومثالب يذمون عليها، وينتقصون بمباشرتها.
فمن مثالبهم التي كانت متفشية فيهم، وكانوا يستحقون عليها أقسى اللوم وأشد التعنيف (التبني) .
وللتبني في معناه صورتان، إحداهما أن يضم الرجل الطفل الذي يعلم أنه ابن غيره إلى نفسه فيعامله معاملة الأبناء من صلبه، من جهة العطف والإنفاق عليه، والإحسان إليه, ومن جهة تربية جسمه، وخلقه، وروحه، ومن جهة العناية بشئونه كلها، حتى يُعدّه ليكون رجلاً عاملاً في الحياة دون أن يلحقه بنسبه، أو يلصقه بأسرته.
والطفل - في هذه الحال - لا يعتبر ابناً شرعياً، ولا يثبت له شيء من أحكام البنوة, ولا من أحكام النسب الصحيح.
والتبني - بهذا المعنى - صنيع يلجأ إليه بعض أرباب الثراء من الموسرين الذين لم ينعم الله عليهم بنعمة الأولاد، ويتخذون منه قربة إلى الله تعالى بتربية طفل فقير بائس حرم عطف الأبوة، أو حرم قدرة أبيه على تربيته وتثقيفه.
ولا ريب أن التبني بهذا المعنى عمل إنساني جليل، يستحبه الشرع الشريف ويرغب فيه، ويدعو إليه، ويثيب عليه، وهو من الصدقات التي تحفظ للمتصدق مكانة التقرب إلى الله تعالى، وقد فتحت الشريعة الإسلامية للموسر في مثل هذه الحال باب الوصية، وجعلت له الحق في أن يوصي بشيء من تركته يسد حاجة الطفل في مستقبل حياته، حتى لا تضطرب به المعيشة، ولا تقسو عليه الحياة.(10/173)
أما الصورة الثانية - وهي المفهومة من كلمة (التبني) عند الإطلاق، وهي المعلومة في لغة الشرائع، ومتعارف الأمم - فهي أن ينسب الشخص إلى نفسه طفلاً يعلم أنه ولد غيره، وليس ولدا له - ينسبه إلى نفسه نسبة الابن الصحيح، ويجعله في عداد أسرته، وفرداً من أفرادها، وحلقة من سلسلتها، ويعتبره ابناً من صلبه، ويثبت له أحكام البنوة وحقوقها، من استحقاق إرثه بعد موته، ومن حرمة تزوجه بزوجته إذا فارقها، وحرمة تزوجه بابنته، إلى غير ذلك.
وهذا المعنى للتبني هو الذي كان متفشياً في الجاهلية، ومتعارفاً بين أهلها، ينظرون إليه على أنه شرعة وقانون، وكان سبباً من أسباب الإرث التي كانوا يورثون بها.
فكان في المجتمع الجاهلي في العرب أبناء لا يعرف لهم آباء, وكان الرجل منهم يعجبه أحد هؤلاء الأبناء فيتبناه، يدعوه ابنه، ويلحقه بنسبه، فيتوارث وإياه توارث النسب الصحيح, وكان هناك أبناء لهم آباء معروفون، ولكن كان الرجل يعجب بأحد هؤلاء الأبناء فيأخذه لنفسه ويتبناه، ويلحقه بنسبه، فيعرف باسم الرجل الذي تبناه، وينتظم في سلك أسرته، وكان هذا يقع بخاصة في السبي حين يؤخذ الأطفال والفتيان في الحروب والغارات فمن شاء منهم أن يلحق بنسبه واحداً من هؤلاء دعاه ابنه، وأطلق عليه اسمه, وصارت له حقوق البنوة وواجباتها.
والتصاق الأدعياء بالبيوت، واتصالهم بأنسابها - كان أمراً تدين به العرب، وتعده أصلاً يرجع إليه في الشرف والحسب, وكانوا يعطون الدعيّ جميع حقوق الابن الحقيقي.(10/174)
ويجرون عليه وله جميع الأحكام التي يعتبرونها للابن حتى في الميراث وحرمة النسب، ولا شك أن هذه عقيدة جاهلية مقيتة أراد الله تعالى محوها بالإسلام حتى لا يعرف من النسب إلا الصريح، ولا يجري من أحكامه إلا ما له أساس صحيح. ولذلك لما جاء الإسلام وبيّن الوارثين والوارثات بالعناوين التي قررها وجعلها أسباباً في استحقاق الإرث أسقط التبني من أسباب التوارث، وحصر هذه الأسباب في الأبوة، والأمومة، والبنوة الحقيقية، والزوجية، والأخوّة، والأرحام, على تفصيل بعلم من كتب الشريعة التي عنيت ببيان هذه المسائل.
أقول: لما جاء الإسلام وأخذ ينظم علاقات الأسرة على الأساس الطبعي لها، وأخذ يحكم صلتها وروابطها، ويجعلها صريحة لا خلط فيها ولا تشويه - أبطل عادة التبني هذه - وقصر علاقة النسب على علاقة الأبوة والبنوة الواقعية، وميّز بين البنوة الصحيحة والبنوة المدعاة، وحدد علاقة التبني، وجعلها علاقة أخوّة ومساواة في ظلال النظام الإسلامي الجديد.
لم يقف الإسلام في إبطال التبني الجاهلي عند إسقاطه من أسباب الميراث، بل جاءت الآيات القرآنية مصرحة ببطلانه، مبينة حكم الله فيه، وقد جاء ذلك في قوله تعالى في سورة الأحزاب {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} الأحزاب، وبنزول هذه الآية الكريمة أبطل الله تعالى هذه العادة المرذولة (عادة التبني) وحرم على المسلمين أن ينسبوا الدعي لمن تبنّاه وحظر عليهم أن يقتطعوا له شيئا من حقوق الابن الصحيح قل أو أكثر.(10/175)
وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} الأدعياء جمع دعيّ وهو من يدعي ابناً - فعيل بمعنى مفعول - أي لم يجعل الله أدعياءكم بمجرد تبنيكم لهم كأبنائكم في كل أحكام البنوة من النسب، والتوارث، وغير ذلك.
ثم قال تعالى: {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} أي ذلكم الإلحاق، وهذا التبني إنما هو قولكم بأفواهكم، ومجرد القول لا يقتضي أن يكون الدعيّ ابناً حقيقياً فإنه مخلوق من صلب رجل آخر, ولا يمكن أن يكون له أبوان، فهو ابن أبيه من النسب ولو تبناه غيره, فهذا القول الذي تلوكونه بألسنتكم لا يغيّر واقعاً، ولا يقلب حقيقة، ولا ينشئ علاقة الوراثة للخصائص التي تحملها النطفة, ولا يخلق علاقة المشاعر الطبيعية، الناشئة من كون الولد بضعة حية من جسم والده الحيّ.
{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} أي يقول الحق البيّن الذي لا يشوبه باطل، ومن الحق إقامة العلاقات على تلك الرابطة الحقة المستمدة من اللحم والدم، لا على كلمة تلوكها الأفواه، وتنطق بها الألسنة، من غير أن تؤازرها الحقيقة ويسندها الواقع.
{وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} أي يرشد عبادَهُ إلى الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه ولا التواء، ثم أمرهم الله تعالى أن ينسبوا الأبناء إلى آبائهم من الصلب تأكيداً لما سبق فقال سبحانه: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} أي انسبوا من ألحقتموهم بكم _ وهم ليسوا منكم _ انسبوهم لآبائهم من النسب فلا تقولوا زيد بن محمد مثلاً، ولكن قولوا: زيد بن حارثة.
{هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} أي نسبتهم لآبائهم أعدل في حكم الله، وإنه لقسط وعدل ألاّ ينال حق الابن إلاّ من يكون ابناً في الحقيقة والواقع.(10/176)
وإنه لقسط وعدل أن يدعى الولد لأبيه، عدل للوالد؛ لأن هذا الولد ما هو إلا بضعة منه, وعدل للولد لأنه الذي يحمل اسم أبيه، ويكون امتدادا له بوراثته الكامنة, وتمثيله لخصائصه وخصائص آبائه وأجداده، عدل للحق في ذاته، الذي يضع كل شيء في مكانه، ويقيم كل علاقة على أصلها الفطري، ولا يكلف غير الوالد الحقيقي بتبعة الأبوة, ولا يعطيه مزاياها، ولا يحمل غير الولد الحقيقي تبعة البنوة، ولا يحابيه بخيراتها.
هذا هو النظام الذي يقيم الأسرة على أساس ثابت دقيق مستمد من الواقع, ويقيم بناء المجتمع على قاعدة قوية مطابقة للحق الفطري العميق.
ثم كان من يسر الإسلام وسماحته أن وضع لهؤلاء الأدعياء إذا لم تعرف آباؤهم _ وضع لهم مكاناً في الجماعة الإسلامية، وهو الأخوّة في الدين، والموالاة فيه حتى لا يترك هؤلاء بغير رابطة في الجماعة بعد إلغاء رابطة التبني فقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} , فالشخص الذي إذا عرف أبوه نُسب إليه، وقيل: فلان بن فلان، فإن لم يكن له أب معروف نُسب إلى الأخوّة في الدين والوَلاء، فقيل: فلان أخو فلان في الدين، أو فلان مولى فلان، ثم بيّن الله عز وجل أنه يعفو عن اللفظ يصدر عن خطأ وسبق لسان، لا عن قصد ونية، بأن يقول الرجل لآخر: هذا ابني، أو ينادي شخص آخرَ بمثل ذلك، لا عن قصد التبني، ولكنه لا يعفو عن العمد في ذلك الذي يقصد به إلصاق الأدعياء بالبيوت. وخلطهم بالأسر كما كان معروفاً من قبل فقال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} .(10/177)
أرجح فأقول: الحكمة في إبطال هذا النوع من التبني، ونزول القرآن بإنكاره وتحريمه_ أن فيه حرمان الأب الحقيقي المعروف من أن يتصل به نسبه المتولد منه، المنسوب إليه في الواقع، وفيما يعلم الله والناس، كما أن فيه إدخال عنصر غريب في نسب المتبنيّ يدخل على زوجته وبناته باسم البنوّة والأخوّة، ويعاشرهن على أساس كل منهما، وهو في الواقع أجنبي عنهن، لا يباح له منهن ما يباح للابن والأخ الحقيقي لهن.
وبقدر ما تتركز هذه البنوة الكاذبة في الأسرة فإن البنوة الحقة في الأسرة الحقة تسير إلى الفناء، والمحو والزوال وبذلك تضيع الأنساب، ويختل نظام الأسر، وتضيع حكمة الله تعالى في جعل الناس شعوباً وقبائل، وفيه وراء ضياع الأنساب، واختلال نظام الأسر تضييع لحق الورثة الذين تحقق سبب إرثهم الشرعي من الأب: (الكاذب المتبني) فلا ترث إخوته ولا أخواته لوجود الابن (الزور) الذي منع ببنوته الكاذبة إرثهم الشرعي، وبذلك تقع العداوة والبغضاء بينهم وبين مورثهم بهذا الدعي الذي تبناه المورّث وضيع به حقوقهم في التركة.
لما أبطل الإسلام التبني بالآية السابقة أراد أن يبطل آثاره، ويمحو نتائجه.
وكان من آثاره أن الولد المتبني يرث أباه المتبني له، فأبطل الله هذا بإنزال أحكام الميراث، وبيان أسبابه، وحصره هذه الأسباب في الأبوة، والأمومة، والبنوة، والأخوة كما سبق.(10/178)
ومن آثاره أيضاً أن الرجل المتبني لا يحل له - في نظرهم - أن يتزوج زوجة متبناه إذا فارقها، كما لا يحل له أن يتزوج زوجة ابنه الحقيقي إذا طلقها، فأبطل الله هذا أيضاً، وأباح للرجل أن يتزوج مطلقة متبناه، وفرق بين زوجة المتبني، وزوجة الابن الحقيقي؛ حيث حرّم على الأب أن يتزوج حليلة ابنه الحقيقي إذا فارقها، وقد أشار إلى التفرقة بين زوجة الابن الحقيقي وزوجة المتبنّى قوله تعالى في سورة النساء: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} فقوله تعالى: {مِنْ أَصْلابِكُمْ} للاحتراز عن زوجة المتبنّى أبطل الله تعالى التبني، ومحا آثاره ونتائجه, ولكن من ذا الذي يقدر على أن يقتلع من نفوس العرب هذه العادة الراسخة في نفوسهم المتأصلة في دمائهم من قديم؟
ومن ذا الذي يستطيع أن يقدم على التزوج من مطلقة متبناه؟
مضت سنة الله تعالى في خلقة أنّ ما رسخ في النفس بحكم العادة لا يسهل عليها التفصّي منه، ولا الرغبة عنه، ولا يقدر على ذلك إلا من رفعه الله فوق العادات، وأعتقه من رق الشهوات، فلا يتحكم فيه إلف، ولا يسيطر عليه عرف, وذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان أول من يهدم العقائد الزائفة، ويقوض الخرافات السائدة، ويقيم في مكانها صرحاً من الحق والعدالة، ومناراً من الشريعة والاستقامة.
ومن أجل ذلك كان الشأن إذا نهى الله عن محرم كانت الجاهلية تفعله، أو أحلّ شيئاً كانت الجاهلية تحرمه أن يبادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى امتثال النهي بالكفّ عن المنهي عنه، والإتيان بضده، وأن يسارع إلى تنفيذ الأمر بإتيان المأمور به، حتى يكون قدوة حسنة، ومثالا صالحا تحاكيه النفوس، وتحتذيه الهمم، وحتى يخف وزر العادة، وتخلص العقول من ريب الشبهة.(10/179)
نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بحرمة الربا, وقال: "إن أول ربا أضعه هو ربا عمّي العباس ابن عبد المطلب"، حتى يرى الناس صنيعه بأقرب الناس إليه وأكرمهم عليه، فيسهل عليهم ترك مالهم، وتنقطع وساوس الشيطان من صدورهم على هذا السنن الإلهي كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم في إبطال التبني. فقد كبر على العرب أن يفصلوا عن أهلهم من ألصقوه بأنسابهم من أدعيائهم، وعزّ عليهم بالنسبة لهذا الإلف الشاق أن يخلعوا عنهم ربقته أو أن يزيلوا عن أفكارهم وطأته, لذلك ألهم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتولى خرق هذه العادة بنفسه، وأن ينفذ تطبيق ذلك التشريع الجديد في متبناه، لتسقط هذه العادة بالفعل كما ألغى حكمها بالقول الفاصل, وليكون ذلك باعثاً للأمة على الامتثال وحافزاً لها على المسارعة إلى القبول، دون تحرج من ترك ما ألفت, فأوحى الله إليه أن يزوج زينب بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب لمتبناه زيد، وأمره أن يتزوجها هو إذا طلقها زيد لمحق هذه العادة الشاذة محقاً، فخطب الرسول صلى الله عليه وسلم لمتبناه زيد ابن حارثة زينب بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب من زيد هذا! هو زيد بن حارثة، كان من قبيلة عربية، ولكنه سبي صغيراً في غارة أيام الجاهلية، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له، فكان عبداً للنبي صلى الله عليه وسلم، ولما بلغ أهله خبره قدم أبوه وعمه وأخوته مكة يطلبون شراء ابنهم زيد، وفداءه بتحريره من رقه، فالتقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وكلمه حارثة أبو زيد وقال له: يا محمد أنتم أهل حرم الله وجيرانه، تفكون العاني وتطعمون الأسير، وإن ابني زيداً عبدك فامنن علينا بفدائه فإنا سنرفع لك في الفداء ما أحببت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أعطيكم خيراً من ذلك", قال: وما هو؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُخيّره، فإن اختاركم فخذوه بغير(10/180)
ثمن ولا فداء، وإن اختارني فكفوا عنه"، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً وقال له:" أتعرف هؤلاء؟ "قال: نعم، هذا أبي، وهذا عمي وهذا أخي، فقال له الرسول: "فإن اخترتهم فاذهب معهم، وإن اخترتني فأنا من عرفته"، فاختار زيد الرق مع النبي صلى الله عليه وسلم على الحرية بين قومه، وقال مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم: ما أنا بمختار عليك أحداً أبداً، أنت منّي بمكان الوالد والعم, فقال له أبوه وعمه: أتختار العبودية على الحرية؟ فقال لهما: ما أنا بمفارق هذا الرجل أبداً، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرصه عليه، وأنه آثر أبوته على أبوة أبيه كافأه الرسول على ذلك فأعتقه وتبناه, وقال للحاضرين: "اشهدوا أن زيداً حُرٌ، وأنه ابني، يرثني وأرثه", فطابت بذلك نفس أبيه وعمه وأخيه لما رأوا من كرامته على رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرفوا فرحين مسرورين ومن ذلك الوقت كان زيد يدعى (زيد بن محمد) وهو أول من آمن به من الموالي وأما زينب فهي بنت أميمة بنت عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه ولا يخفى على أحد مكانة عبد المطلب في قريش وفي سائر القبائل العربية.
خطب الرسول صلى الله عليه وسلم زينب لمولاه زيد من أخيها عبد الله، ولكن عبد الله هاله أمر تلك الخطبة، وعزّت عليه قرشيته وهاشميته، وكره أن تصبح أخته تحت عبد رقيق اشترى بالمال ثم أعتق مهما يكن من أمره، حتى ولو صار متبنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم.(10/181)
رأى عبد الله أن ذلك الأمر عار عليه وعلى أخته، رآه خروجاً على تقاليد البيوت العريقة، والأسر الرفيعة وكانت أخته زينب تشاركه هذا الإباء، وهذه الأنفة، ضنّاً بنسبها العربي الكريم وما زالت زينب وأخوها عبد الله يتأبيان ويمتنعان حتى نزل الوحي بالأمر الحاسم في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينا ً} الأحزاب.
فلا يصح بعد ذلك لرجل ولا لامرأة اختيار أمر من الأمر يخالف ما قضاه الله تعالى وقدره.
وهنا خضعت زينب وأطاعت وانقاد أخوها لأمر الله واستسلم، وتم الزواج فعلاً، وإن كان على كره من زينب وأخيها.
وكان هذا الزواج في حقيقته وجوهره مقدمة لتقرير تشريع جديد، وتنفيذ حكم إلهي عادل. وقع الاختيار على زينب بخصوصها لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يحطم الفوارق بين الأُسر، ويجعل الناس سواسية كأسنان المشط, لا فضل لأحد على أحد إلا بالعقيدة الصحيحة، وصالح العمل, فزوّج عبده زيداً من شريفة قرشية من بني هاشم ليحقق المساواة الكاملة بين الناس، ويسقط هذه الفوارق بنفسه في أسرته، وكانت هذه الفوارق من الشدة والعنف بحيث لا يحطمها إلا فعل واقعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم تتخذ منه الجماعة الإسلامية أسوة وتسير البشرية كلها على هداه.(10/182)
وبعد أن صارت زينب إلى زيد لم يلن إباؤها الأول، ولم يَسْلَسْ قيادها، بل شمخت بأنفها، وذهبت تؤذي زوجها، وتطلق فيه لسانها، وتفخَرُ عليه بنسبها، وبأنها أكرم منه عرقاً، وأصرح منه حرية، إذ لم يجر عليها من الرق ما جرى عليه، فاشتكى منها لرسول الله صلى الله عليه وسلم المرة تلو المرة، وكان رسول الله صلى عليه وسلم يهديء من نفس زيد ويقول له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} إلى أن صَدر الحكم الإلهي بالتفريق بين زيد وزينب، وأذن الرسول لزيد بطلاقها، فطلقها, ثم بعد أن انقضت عدتها منه تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى ليمزق حجاب تلك العادة, ويكسر ذلك الباب الذي كان مغلقاً دون مخالفتها, وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} .
وبتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب تحددت الأمور، ووضحت الأحكام، فإذا ما طلق الابن المتبنّى زوجته فما على المتبنّى من حرج إذا هو بَنَى بتلك الزوجة لأنها أجنبية منه، حلال له.(10/183)
ذلك هو الحكم الجديد، وهو يعارض العادة الجاهلية القديمة بنت الأجيال المتباعدة, التي لا تفرق بين الابن النسبي والابن المتبنّى بل تجعلهما في الحكم سواء. وبنزول هذه الآية مع الآية التي قدمناها في صدر المقال وهي {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُم} إلى آخرها مع الآية التي بعدها بطل هذا النوع من التبني، وصار محرماً على المسلم أن يلحق نسبه طفلاً يعلم أنه ابن غيره وليس ابناً له، سواء عَرَف أباه أم لم يعرفه.
موجز تفسير الآية
ذكّر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما وقع منه ليزيده تثبيتاً على الحق، وليدفع عنه ما حاك في صدور ضعاف العقول، ومرضى القلوب فقال: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} أي بالإسلام، وبجعله تحت رعايتك {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بالعنق والحرية، والتربية الفاضلة، والاصطفاء بالولاية والمحبة، وبتزويجك إياه من الشريفة القرشية ابنة عمتك {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} يعني: إخْش الله تعالى في أمر زوجك زينب وفي عشرتها ولا تتسرع في مفارقتها، فإن الطلاق يشينها، وقد يؤذي قلبها، وارع حق الله تعالى في نفسك أيضاً، فربما لا تجد بعدها خيراً منها.(10/184)
وقوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} وهذا خطاب من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم والذي أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم هو أن الله تعالى أوحى إليه أن زيداً يطلق زوجته زينب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يتزوجها بتزويج الله تعالى إياها، فلما اشتكى زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم حدة زينب وشماسها وأنه يرغب في طلاقها, قال له الرسول صلى الله عليه وسلم:"أمسك عليك زوجك واتق الله",وهو يعلم أن زيداً سيفارقها حتماً, وأن الرسول سيتزوجها لا محالة وتكون من أمهات المؤمنين ليتحقق بذلك التشريع المطلوب وهو حِلّ مطلقة المتبنىّ للمتبني، هذا هو الذي أخفاه الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسه، وأبقاه في سريرته.(10/185)
وسرّ ذلك الإخفاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم من فرط حيائه، ووفرة أدبه خشي أن ينتهز المنافقون وضعفاء الإيمان هذه الفرصة، ويرجعوا في المدينة، ويقولوا: إن محمداً ينهى أن يتزوج الإنسان مطلقة ابنه وقد تزوج هو زينب زوجة ابنه زيد متبناه بعد أن أمره بطلاقها، فخشية الرسول صلى الله عليه وسلم كلام الناس جعلته يتمهل في الأمر، ويخفي الحقيقة عن زيد عبده ومتبناه، فعاتبه الله تعالى على تريثه في الأمر، وإخفاء حقيقته عن زيد بن حارثة، وعد م السماح له بطلاق زوجه زينب، فكأنّ الله تعالى يقول له: كيف تقول لزيد حينما كان يشكو إليك زوجته {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} مع أنك قد علمت بالوحي من قبل الله عز وجل أن زيداً يطلقها وتتزوجها أنت بعد انقضاء عدتها منه، فكان ينبغي لك أن تمضي في الأمر من أول وهلة، وتصارح زيداً بالحقيقة، وتبادر بتنفيذ أمر الله تعالى وتقرير شرعه، ولا تخشى إلا الله تعالى ثم راده الله تعالى بياناً بقوله جل وعلاه {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً} أي حاجة وأرباً بالزواج، ولم يبق له هوى فيها، ولا ميل إليها، ولم يجد بداً من طلاقها طلقها راضياً مختاراً، غير عالم بما أعلم الله به نبيه صلى الله عليه وسلم فلما طلقها زيد، وانقضت عدتها منه تزوجها صلى الله عليه وسلم لإبطال هذه العادة المرذولة المتأصلة في نفوس العرب، وهي اعتقاد حرمة التزوج بنساء من تبنوهم كحرمة التزوج بنساء أبنائهم من الأصلاب.(10/186)
وقوله تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا} أي تولينا تزويجها لك بدون وساطة عقد، ولا وكالة، ولا صداق، ولا شيء مما يكون في حقنا ركناً أو شرطاً أو غير ذلك، وهذه من خصوصياته صلى الله عليه وسلم التي لا يشركه فيها أحد بإجماع المسلمين، ولهذا كانت زينب تفخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: "ما من واحدة منكن إلا وقد زوجها أبوها، أما أنا فقد زوجني ربي من فوق سبع سماوات", وقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأدل عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تدل عليك بهن، إن جدي وجدك واحد، وإن الله زوجك إياي من السماء، وإن السفير بينك وبين الله تعالى في زواجي بك إنما هو جبريل عليه السلام".
ثم بيّن الله تعالى حكمة هذا الزواج بقوله: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً} أي لترتفع الوحشة في نفوس المؤمنين، ولا يجدوا في أنفسهم حرجاً من أن يتزوجوا نساءً كن من قبل زوجات لأدعيائهم.
ثم قال الله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} أي وكان ما يريد الله تكوينه من الأشياء التي منها إبطال التبني، ونسخ ما يترتب عليه من منع التزوج من أزواج الأدعياء {مَفْعُولاً} نافذاً، وحاصلاً لا مرد له، ولا مفر منه، واقعاً محققاً لا سبيل إلى تخلفه، ولا إلى الحيدة عنه. والله تعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(10/187)
كيف تكون مُدرسا ناجحا
بقلم فضيلة الشيخ عبد الرءوف اللبدي
المدرس بكلية الشريعة في الجامعة
كان لي ذات يوم تلميذ أحبه وأعجب به، كان ذكياً، وكان مجداً، وكان ذا خلق عظيم، قال لي ذات مرة: أودّ يا أستاذي أن أكون مدرساً في المستقبل، أود أن أكون مدرساً في المدارس الثانوية، ولا ضير أن أبدأ حياتي التعليمية في إحدى هذه المتوسطات، ولا يقعنّ في ظنك أنني قد اخترت هذا عن ضعف أو حاجة، فأبي _ والحمد لله _ لديه المال الكثير، وأنا كما ترى من الطلاب الأوائل في حياتي المدرسية، أستطيع التسجيل في أي كلية شئت، وأستطيع الدراسة في أي مادة أريد، ولكن الذي حداني إلى هذا أن التعليم _ فيما أظن _ أوسع مجال، وأفضل مكان، لمن أراد لأمته ولأبنائها الخير والنجاة والفلاح.
غير أني أودّ يا أستاذي أن أكون مفيداً مثمراً، أودّ أن أكون مدرساً صالحاً ناجحاً، ولا خير فيّ ولا في علمي إذا لم أكن ذاك، فكيف أكونه؟ وأنىّ لي ذلك؟(10/188)
قلت له: بارك الله فيك من طالب ذي نوايا طيبة وغايات عظيمة، أسأل الله لك الخير فيما اخترت، وأسأله تعالى الرشاد والسّداد فيما اعتزمت، إني لأجد يا بنيّ فيما قلت وسألت ريح النجاح، وأشيم على غدك تباشير الخير والظفر، فمن أبرز عوامل النجاح في التدريس، رغبة صادقة في هذا العمل لا تفتر، وعزيمة ماضية فيه لا تنثني، تذكيها أهداف خيّرة تبتغى، وتبعثها نوايا خالصة لوجه الله, والذين يختارون وظيفة التدريس، ويكون الغرض منها كسب الرزق وحده، ويكون المرتب الذي يقبض في نهاية كل شهر هو الهدف الأول والآخر، ولا شيء بعده، مثل هؤلاء المدرسين قلما يكونون في تدريسهم ناجحين مخلصين صابرين. أما الذي يختار وظيفة التدريس، ولا يكون المرتب الشهري غاية الغايات، بل يكون هناك غايات أخر، إنه يريد نفعاً لهذه الأمة، يريد أن يخرج أبناءها من جهل إلى علم، ومن فساد إلى رشاد، يريد أن يجمع قلوبهم على الإيمان بالله والتمسك بدينه، يريد أن يبصرهم بما في هذا العصر من سموم وضلالات، ولا سيما ما توارى خلف أسماء خادعات، يريد أن يعدّ طلابه ليكونوا علماء عاملين في شتى الميادين.
الذي يختار هذه الوظيفة وقد اعتزم مثل هذه الأهداف، فقد أخذ بسبب متين من أسباب النجاح والفلاح في هذا العمل.
ولا تظنّ أيها الطالب العزيز أن حبك التدريس واتخاذه وسيلة لغايات شريفة، وأهداف طيبة صالحة مثلى، لا تظن ذل كافياً لأن تكون مدرساً ناجحاً، فأنت في حاجة إلى أشياء كثيرة أخر، هاأنذا أقصها عليك:(10/189)
لا بد أن تكون قوياً في مادتك العلمية التي سوف تدرسها في المستقبل، وأن تكون ذا ميل طبيعي إليها، ولا بدّ لك على الأقل من أربع سنوات دراسية تخصصية تقضيها في دراسة تلك المادة بعد المرحلة الثانوية، على أن تبذل في خلال هذه السنوات جهدك في التحصيل والفهم والإطلاع والبحث والمناقشة, وإذا لم تكن مجداً في التحصيل، حريصاً على الفهم والتعمق، ذا ميل طبيعي إلى تلك المادة، فلن تكفيك أربع ولا سبع ولا عشر، وسوف تتخرج ضعيفاً في علمك وفهمك، وسوف يكون طلابك مثلك ضعفاء، وسوف يكتشفون ضعفك مهما حاولت أن تخفيه عنهم، وحينئذ تفقد ويفقدون ثقتهم فيك وفي علمك، وتسقط شخصيتك وهيبتك، ولن ينفعك يومئذ حسب ولا نسب ولا نشب ولا شهادة عالية ولا سيارة فارهة ولا ثوب جديد، ولا قصص جميلة مسلية تقصها عليهم لتملأ الفراغ، وسوف تشعر بالنقص، وتلك مصيبة أخرى، وإذا شعر المدرس بالنقص عامل طلابه بقسوة، وأخذهم بالعنف، وعاقبهم على ذنوب صغيرة تافهة، أو على ذنوب متخيلة يظنها لشعوره بالنقص أنها واقعة وما هي بالواقعة.
ومما يؤسف له أن في البلاد العربية الإسلامية كثيراً من هؤلاء المدرسين الضعفاء، يسرحون ويمرحون في أمن وطمأنينة، وينامون نوماً عميقاً طويلاً ليس فيه أحلام مزعجة، غير عابئين بما ينشأ عن ضعفهم من شر مستطير.
فحذارِ حذارِ يا بنيّ أن تكون واحداً من هؤلاء في المستقبل، فتضيع على المئات والآلاف من أبناء المسلمين أوقاتاً ثمينة كان ينبغي أن تكون ذات ثمر، وتحرمهم علماً كان ينبغي أن يزودوا به، ثم أنت بهذا تكتسب إثماً تحسبه هيناً، وهو _ فيما أظن _ عند الله عظيم.(10/190)
ولقد عرفت فيك _ يا بني _ الذكاء والفطنة، والذكاء صفة رئيسية من صفات المدرس الناجح، فهي التي تعينه من بعد عون الله على أن يكون قوياً في مادته العلمية، قادراً على أن يعالج بسرعة وكياسة مشكلات علمية وسلوكية قد تفجؤه في غرف التدريس، فإذا لم تكن على حظ من الذكاء والفطنة أسقط في يديك، واضطرب النظام في فصلك، وفقدت المكانة التي ينبغي أن تكون لك.
ثم أنت في حاجة إلى الذكاء في مواقف كثيرة، أنت في حاجة إليه حين تضع أسئلة الامتحان لطلابك، تلك الأسئلة التي أرجو أن تكون اختباراً لقدرتهم على الفهم، لا اختباراً لقدرتهم على الحفظ والاستظهار.
وأنت في حاجة إلى الذكاء يا بني لتعرف الفروق الفردية بين طلابك، فتعاملهم على أساسها، وتدرسهم بمقتضاها.
ثم أنت في حاجة إلى الذكاء لتعالج ما عساه أن يكون في المنهج المقرر من اضطراب أو تفاوت، وما عساه أن يكون في الكتاب المدرسي من أخطاء ونقص.
وما أكثر الأشياء التي تحتاج إلى ذكاء المدرس، ولولا أنك ذكي فطن يا بنيّ لنصحت لك أن تبحث عن عمل آخر غير التدريس.
التدريس يا بني قيادة، ولن تنجح قيادة بدون ذكاء.
ثم إنك أيها التلميذ العزيز لا مفر من أن تدرس التربية وعلم النفس وطرق التدريس، ومع اعترافي بأن المدرس مطبوع لا مصنوع، وأن المدرس يولد مدرساً بالفطرة، مع ذلك لا غناء لأي مدرس عن هذه الدراسة، غير أنه يمكن أن يقال في مثل هذا المقام: إن المدرس المطبوع لا يحتاج إلى طويل دراسة وكثير تمرين، وإن المدرس المصنوع يحتاج إليهما طويلاً، وربما لا يفيدانه إلى قليلاً.(10/191)
وليس الغرض من هذه الدراسة أن يكون المدرس مستعبداً لها مقيداً بها، وإنما الغرض أن يستعين بها ويجربها، ويطبقها مرة بعد مرة، ليصل إلى ما يراه مناسباً لتلاميذه، وقد يزيد في بعض الطرق وقد يختصر، وقد ينوع في استعمالها من موقف إلى آخر. وبهذه الدراسة يا بني تستطيع أن تعرف أشياء كثيرة من خصائص الطلاب الجسمية والعقلية والنفسية التي تساعدك على النجاح في تدريسك، وتساعدك على فهم الدوافع التي تكمن وراء تصرفات بعض الطلاب، قد تبدو غريبة لبعض المدرسين، فيظنونها حيناً تمرداً وعصياناً، ويظنونها حيناً كسلاً وعبثاً وضعفاً، وما هي في واقع الأمر من هذا ولا ذلك في شيء.
وإذا كان المدرس قوياً في مادته ذكياً ذا اطلاع جيد في التربية وعلم النفس وطرق التدريس، محباً لطلابه حريصاً على إفادتهم، إذا كان على هذه الصورة استطاع بسهولة أن يختار الطريقة المناسبة لطلابه ومادته، دون أن يضيع وقتا طويلا أو يقوم بتجارب كثيرة.
واختيار الطريقة المثلى من أعظم صفات المدرس الناجح، ولقد قال أحد رجال التربية: إن الطريقة الصحيحة في التعليم تطيل العمر، ومعنى هذا أن الطرق الصحيحة توفر الوقت والجهد على الطالب، فيزداد انتفاعه بأيام حياته، ويجني الفهم الكثير والعلم الغزير في زمن قصير، وبذلك تصبح حياته مضاعفة الفوائد عظيمة الأجر.
ولست الآن يا بنيّ بحاجة إلى أن أعرض عليك طرق التدريس وما فيها من محاسن ومساوئ وأن أبين المجالات الصالحة لكل طريقة، فهذا شيء سوف تدرسه إن شاء الله فيما بعد، غير أن هناك ما لا أستطيع إلا أن أعجل به، هناك يا بني ثلاثة أشياء، لا تكاد تخلو منها أية مادة، أو يتجافى عنها أي درس جديد.(10/192)
أولها المقدمة: وهذه المقدمة تكون في أول الحصة، وتقوم على أسئلة يوجهها المدرس إلى طلابه عن معلومات سابقة ذات صلة بموضوع الدرس الجديد أو ذات إثارة وتطلع إلى ذلك الدرس، على ألا تزيد هذه المقدمة على خمس دقائق ومن الخطأ أن يأتي المدرس بمقدمة لا تقوم على أسئلة موجهة إلى الطلاب، أو أن يبدأ درسه الجديد من غير مقدمة تنبه أذهان الطلاب التي كانت عنه غافلة، وتهيئ نفوسهم التي كانت عنه في شغل.
الشيء الثاني: أن يناقش طلابه مناقشة سريعة موجزة في نهاية كل مرحلة من مراحل درسه الجديد، ليطمئن إلى فهمهم ومدى استيعابهم، وليجدد فيهم النشاط والحياة، وليحول بينهم وبين شرود الأذهان وسروح الخواطر، والمعروف في علم النفس أن الطالب الإعدادي والثانوي في الكثير الغالب لا يستطيع أن يركز انتباهه بصورة مستمرة طوال الحصة، فبعد مضي فترة من الحصة تقارب خمس عشرة دقيقة يشرد ذهنه في عالم آخر، أو ينام، أو يعبث بالنظام، ولذلك كان على المدرس ألا يسمح بشرود الأذهان، وألا يتيح الفرص للنوم والعبث، ذلك بأن يسأل الطلاب من حين إلى حين عماّ درس لهم، وأن يشركهم في البحث والمناقشة في معلومات الدرس الجديد، وألا يتركهم طلاباً مستقبلين فقط، عليهم أن ينصتوا ويستمعوا ولا شيء غير ذلك، بل عليه أن يتيح لهم الفرص ليكونوا مستقبلين حيناً ومرسلين حيناً آخر، ينصتون حيناً وينصت إليهم حيناً آخر، يسألهم مرة ويسألونه مرة أخرى.
الشيء الثالث: أن تخصص الدقائق الخمس الأخيرة أو ما يقاربها من الحصة لتلخيص الدرس الجديد، على ألا يكون التلخيص من قبل المدرس، ولا أن يكلف به طالب واحد، ولكن يكون التلخيص بأسئلة متسلسلة تنظم أهم ما في الدرس الجديد، يقوم المدرس بتوجيهها إلى طلاب متفاوتين في القوة غير متجاورين في المقاعد، وبهذه الأسئلة يعرف المدرس مقدار ما فهمه طلابه، ومستوى ما حصلوه، ومقدار نجاحه في عمله.(10/193)
أما المدرس الذي يقضي حصته كلها يتكلم ويشرح، والطلاب سامعون ينظرون، لا يسألهم عن شيء، ولا يسألونه عن شيء، مثل هذا المدرس قد نسميه خطيباً مفوّهاً، وقد نسميه متحدثاً فصيحاً، ولكننا لا نستطيع بأية حال أن نسميه مدرساً ناجحاً، فنجاح المدرس لا يقاس بمقدار ما يشرح ويتحدث، ولكن بمقدار ما يفهم الطلاب من درسه، وبمقدار ما يشاركونه في ذلك الدرس.
الطالب بعد تخرجه سيعرض له كثير من المسائل العلمية التي ليس له بها علم من قبل، وسوف يسأله طلابه أو الناس عن أمور لم تمرّ به ولم يمرّ بها، فإذا لم يكن قد درب في أثناء الدراسة على البحث العلمي، والملاحظة الدقيقة، والتفكير المنظم، وعلى الوصول إلى المعلومات بجده وكده ومناقشاته _ وقف عاجزاً ضعيفاً في ميادين العلم والدعوة والتعليم، يبكي ولا يجد من يمسح دموعه، ويندم ولات ساعة مندم.
أما الطلاب الذين دربوا في أثناء دراستهم على أن يسألوا مدرسهم ويسألهم، ويناقشوه في قضايا العلم ويناقشهم، وعلى أن يحصلوا العلم بالبحث والتنقيب في الكتب والمكتبات، أما هؤلاء فسوف يكونون في المستقبل بعون الله علماء أقوياء، ولا يكونون عاجزين ضعفاء.
ومن الملاحظ أن كثيراً من ذوي الشهادات العالية في البلاد العربية الإسلامية ليس في إنتاجهم عمق ولا جدة، وربما كان من أعظم الأسباب في ذلك أن الطريقة التي تعلموا بها كانت طريقة سيئة تقوم على الحفظ والاستظهار، لا على البحث والمناقشة ودقة الملاحظة وتحمل المسئولية في تحصيل العلم.
ولن يتم نجاح المدرس يا بني إلا بالعقيدة الصادقة والخلق الكريم، لا يتكلف ذلك تكلفاً، ولا يلبس له ثياب الممثلين على المسارح.(10/194)
ومن الثابت لدى علماء التربية أن الطالب يتأثر بسلوك مدرسه وأعماله وتصرفاته أكثر من تأثره بما يلقيه عليه من نصائح ومواعظ، ولهذا ولأشياء أخرى كثيرة غير هذا، كان عليه أن يكون قدوة صالحة في أعماله وتصرفاته وسلوكه وأقواله قبل أن يتقدم إلى الطلاب بمواعظه ونصائحه.
وعليه أن يثبت في قلوب طلابه عقيدة صافيه عميقة، وأن يغرس في نفوسهم أخلاقاً كريمة حميدة مبنية على تلك العقيدة منبعثة منها، فتشيع في نفوسهم الأمن والطمأنينة والراحة التي ينعم بها المؤمنون، وتلقى عنهم القلق والشك والحيرة التي يشقى بها الملحدون الضالون.
ولن أستطيع في مثل هذا الموقف أن أعدد الصفات الحميدة والأخلاق الكريمة التي ينبغي أن تكون في المدرس الناجح، ولكن أقربها صلة إلى عمله، وأوثقها ارتباطاً بوظيفته، وأبعدها أثراً في نجاحه_ أن يكون عادلاً في معاملته لطلابه، فلا يقبل على بعض ويعرض عن بعض، ولا يعامل طالباً بعطف ولطف وطالباً آخر بجفاء وفظاظة، ولا يختص بأسئلته ومناقشاته الأقوياء، دون أن يعنى بالمتوسطين والضعفاء.
أن يكون عادلاً في أسئلة الامتحانات، فلا يكون فيها تعسف ولا إعنات، وأن تكون في مستوى ما كان يعلمه لطلابه، ومن الظلم أن يكون المدرس مترفقاً سهلاً في تدريسه، يمرّ بمسائل العلم مرّاً ليّناً ليس فيه تعمق ولا سعة، حتى إذا جاء الامتحان كانت الأسئلة عميقة دقيقة كثيرة الثنايا والعقبات، على مستوى لم يعرفه طلابه في دروسه، ولم يدربهم عليه من قبل.
وأن يكون عادلاً في تصحيح الإجابات، فلا يخشى مجد أن يضيع له حق، ولا يطمع كسول أن يأخذ أكثر مما يستحق.
وأن يكون متواضعاً ليّن الجانب، بعيداً عن العجب والكبر والمخيلة، لا يتهيب الطلاب أن يسألوه كلما غامت عليهم مسألة، ولا يجدون في أنفسهم حرجاً أن يستعينوا به كلما عرضت لهم مشكلة.(10/195)
أن يكون محباً لطلابه عطوفاً عليهم، يتألم لآلامهم، ويأسى لما يلحق بهم من أذى، يعنى بضعفائهم ولا يسخر من أخطائهم ويتخذ منها وسيلة للاستهزاء والزراية، ولا يدخر جهداً في سبيل إفادتهم وتعليمهم وإرشادهم إلى ما يفيدهم في حياتهم الدراسية، وفي حياتهم اليومية، وفي حياة المستقبل بعد التخرج.
وأن يكون قوي الإرادة ضابطاً لنفسه، لا يسرع إليه غضب ولا ثورة، ولا يستغل قوانين المدرسة وأنظمتها لإيقاع العقوبة وإظهار السلطة كلما مرّ طالب بعبث عابر، أو صدر عن طالب صغير ذنب، أو وقع طالب في تقصير غير معتاد.
على أنه ينبغي ألا يفهم الطلاب من تسامحه وسعة صدره وحلمه أنه ضعيف عاجز، فيستخفوا به، ويستهينوا بأمره، وتفلت الأمور من بين يديه، وهذا موقف دقيق يحتاج إلى كياسة وفطنة وحزم.
ولا بدّ للمدرس الناجح أن يحافظ على ثلاثة أشياء محافظة شديدة:
الشيء الأول: أن يحافظ على المواعيد التي يضربها لتلاميذه، كتصحيح دفاتر الإنشاء والتطبيق، أو مناقشة مسائل علمية، أو إجراء بعض الاختبارات، أو القيام بنشاط لا صفي، وإن إخلاف الموعد أكثر من مرة يحط من قدره، ويجعله قدوة سيئة لطلابه، ولا ينبغي للمدرس أن يستهين بهذا الأمر ظاناً أن هذه أشياء ليست بذات أهمية، أو أنهم طلاب لا يقدرون المسئولية.
الشيء الثاني: أن يحافظ على أوقات طلابه، وأن يحرص عليها جد الطاقة، وليحذرن أن يخادع نفسه أو يخدع الناس بمعاذير واهية، هو يعرف حق المعرفة أنها لا تنفعه شيئاً عند الله، فوقت الحصة ليس ملكاً للمدرس، وليس من حقه أن يتصرف به تصرفاً ليس للطلاب من ورائه نفع ولا صلاح، فخمس دقائق إذا اعتاد المدرس أن يختلسها من كل حصة ومن كل طالب هي شيء كثير جداً إذا جمعت في نهاية العام.(10/196)
ومن ضياع الوقت على الطلاب أن يخرج المدرس عن موضوع درسه إلى أمور أخرى ليس بينها وبين الدرس نسب ولا صلة رحم، وقد يعرف الطلاب فيه هذا العيب، فيأخذون يستدرجونه إليه من حيث لا يدري، كلما سنحت فرصة، عابثين به مستخفين بقدره، وبذلك يفلت الزمام من يديه، ويسقط في ميدان القيادة عاثراً، دون أن يجد أحداً يقيله من هذا العثار.
ومن ضياع الوقت على الطلاب أن تعمل في داخل الفصل شيئاً يمكن أن تقوم به خارج الفصل، دون أن تضيع على الطلاب فائدة تذكر.
الشيء الثالث: أن تحافظ على النظام داخل الفصل فيكون شرحك وأسئلتك مسموعة لكل طالب، ويكون كل طالب منتبهاً إليك، دون أن تسمح لطلابك بأن يشغل بعضهم ببعض في حديث أو جدل أو تهامس، فيكون في ذلك تشويش عليك وعلى سائر الطلاب، وانصراف ومشغلة عن موضوع الدرس، ولذلك ينبغي أن تقف في مكان في الفصل يراك فيه الطلاب جميعاً، وتراهم منه جميعاً، ومما يعاب على المدرس أن يمشي في الفصل أمام الطلاب ذهاباً وجيئة، مقبلاً مدبراً، أو يجوس خلال المقاعد، لأن هذا يعطي فرصة مواتية لعبث العابثين منهم، ويجعلهم يملون ملاحقته بأبصارهم من جهة إلى جهة.
ولا بد للمدرس الناجح أن يكون متعاوناً، فيبذل ما يستطيع من وقته وجهده وعلمه وخبرته فيما يتطلب المسؤولون عنه من أعمال إضافية عابرة، وفيما يحتاج إليه إخوانه المدرسون من حل مشكلة تعليمية أو تربوية، ومن مشاركة في نشاط لا صفي، وفيما يحتاج إليه طلابه خارج الفصل من فهم مسألة علمية، أو إعطاء بعض حصص إضافية للضعفاء، إذا اتسع لديه الوقت وأسعفه الجهد، ومن الأنانية الذميمة أن يتهرب المدرس من المسؤولية العامة، وأن يقصر جهده على حصصه المقررة في جدول الدروس الأسبوعي.(10/197)
ولا بد للمدرس الناجح أن يكون كثير القراءة واسع الاطلاع، ومن المؤسف حقاً أن كثيراً من المدرسين لا يقرءون، مكتفين بما قرءوه أيام كانوا طلاباً في الجامعة أو دور المعلمين، والمدرس الذي لا يقرأ إنما هو مدرس يموت عقله يوماً بعد يوم، ويموت علمه مسألة بعد مسألة، ولن يمضي عليه طويل وقت حتى يصبح في مستوى طلابه، لا يعرف أكثر مما في الكتاب المقرر، وربما كان بعض طلابه الأذكياء ذوي قراءات خاصة وحسن اطلاع، فيكونون أكثر منه علماً وأوسع منه معرفة، وقد يوقعونه في مآزق لا يدري كيف تكون فيها النجاة، ويسوقونه إلى مواقف علمية حرجة تسقط فيها هيبته ومكانته وراية القيادة من يده.
ولا ينبغي للمدرس أن يقتصر قراءته واطلاعه على مادة اختصاصه، وما يتصل بمهنته، فإنه إن فعل هذا ظل أفقه ضيقاً، وتفكيره محدوداً، على الرغم من أنه قد يكون واسع الاطلاع عميقاً في مادة اختصاصه.
إن عصرنا هذا يموج بأنواع العلوم والثقافة، فينبغي أن يلم المدرس بأطراف نافعة صالحة منها، ما اتسع له الوقت وأسعفه الجهد، وأن يرشد طلابه إلى كل نافع مفيد، وكلما شعر الطلاب أن مدرسهم أوسع منهم علماً، وأكثر منهم اطلاعاً، وأعمق منهم تفكيراً، ازدادوا ثقة فيه، ورغبة في الاستماع إليه، وتأثراً بما يقول، واقتداء بما يعمل.
ولا بد للمدرس الناجح من صحة جيدة تمكنه من القيام بواجبه على أفضل وجه، فيستطيع أن يشرح ويناقش دون أن تبح حنجرته وتنهج رئتاه، ويستطيع أن يظل واقفاً في حصصه مشرفاً على طلابه دون أن تنوء به ساقاه، ويستطيع أن يحضر دروسه اليومية في البيت قبيل أن يأخذه النعاس ويستولي عليه التعب.
والصحة سبب من أسباب النشاط، ودعامة قوية من دعائمه، ولكنها لا تستلزمه ولا تستوجبه، فلدى بعض المدرسين صحة جيدة، ولكن الكسل طبيعة فيهم وخلق، ولدى بعض المدرسين شيخوخة سن ووهن عظام، ولكنهم يأبون على أنفسهم القعود عن الواجب والإخلاد إلى الأرض.(10/198)
والمدرس الناجح لا بد أن تكون لغته سليمة من العيوب اللسانية، مبرأة من اللهجات العامية، واضحة الكلمات والحروف، مسموعة في أرجاء الفصل، لا تصخ الآذان ولا تخافت، ليس فيها إسراع يضيع المعنى، ولا إبطاء يبعث على الملل.
وينبغي أن يكون الأسلوب جذاباً يثير الانتباه ويبعث على الارتياح، غير عابس ولا جاف، يفسح للفكاهة المهذبة العابرة إذا دعت إليها مناسبة.
وهناك علاقة قوية وصلة وثيقة بين لغة المدرس وبين شعوره نحو طلابه وحبه لمادته ودرسه، فإذا كان المدرس قوياً في مادته، محباً لطلابه, يحس بالراحة والأنس في غرف التدريس، رأيت ذلك واضحا في حركاته ولفتاته وشرحه، وأحسست أن في لغته وأسلوبه تياراً من الكهرباء يضيء ولا يحرق، ورائحة ذكية تنعش أرواح الطلاب دون عطر ولا زهر.
أما إذا كانت لغة المدرس رديئة، تغلب عليها العامية، أو كانت مضطربة قلقة، يبدئ فيها ويعيد دون أن يفهم شيئاً، أو كان المدرس يأكل بعض الحروف، أو ينطق بها محرفة، إذا كانت لغة المدرس على شيء من هذا أو نحوه، مجتها آذان الطلاب، وضاقت بها صدورهم، وفرت منها آذانهم، وتجهمت لها الوجوه, أي شيء يغريهم بالاستماع إلى ما يقول وهو لا يفهمون عنه شيئاً ولا يعقلون؟!
وقد أجري استفتاء عام على طلاب المدارس الثانوية في إحدى الدول المتقدمة الكبرى، استفتاء يذكرون فيه الصفات التي يفضلونها في المدرس، فكان من تلك الصفات التي أجمعوا على تفضيلها في المدرس أن تكون لغته سليمة واضحة متخيّرة.
وقد أجري استفتاء آخر على الموجهين التربويين في إحدى الدول العربية عن الصفات التي يقاس بها نجاح المدرس، فكان من تلك الصفات التي أجمعوا عليها أن تكون لغته فصيحة مفهومة.(10/199)
ولا بدّ للمدرس الناجح أن يكون نظيفاً حسن البزة دون تكلف ولا مبالغة، والمدرس الذي لا يعنى بحسن مظهره ولا أناقة هندامه، ظاناً أن القيمة كلها لعلمه وأخلاقه وحسن إفادته، هو مدرس لم ينظر إلى الطرف الآخر في هذه القضية، فإن الناس وفيهم الذين يعنيهم هذا الأمر، لهم فيه رأي آخر، فالمظاهر الحسنة كانت ولا تزال لها قيمة تذكر، وسحر يؤثر، ونفوذ عجيب، وإنك لتجد هذا واضحا في شتى شؤون الحياة: في غلف الكتب والمجلات التي تطبع وفي أجسام السيارات التي تصنع، وفي هندسة البيوت التي تبنى، وفي قصائد الشعر وقطع النثر التي تروى، وفي زخرفة الآنية التي نأكل بها ونشرب، وفي الثياب التي نختارها ونلبس، الحقائق وحدها يا بني لا تكفي، لابدّ للحقائق من أن تلبس ثوباً جذاباً يلفت الأنظار ويجذب الأبضار، ولكن إياك إياك والمبالغة والتكلف وتجاوز حدود الاعتدال، فإن لذلك آثاراً سيئة جداً.
هذا يا بني ما أردت أن أقوله لك اليوم، كي تكون مدرساً ناجحاً في المستقبل، وسوف تمدك الدراسة المسلكية والتجارب العملية، والقراءة الدائبة والاطلاع الواسع، بأكثر من هذا وأوسع.
وإني لأسأل الله تعالى أن يهيئ لك البيئة الصالحة والجو الملائم، كي تجد هذه الصفات التي ذكرت طريقها إلى العمل والأثمار، فأسأله تعالى أن يهيئ لك في المدرسة التي سوف تدرس فيها إدارة حازمة عادلة تقول للمحسن قد أحسنت وتقول للمسيء قد أسأت، فيزداد المحسن إحساناً على إحسانه ويرجع المسيء عن التمادي في ضلاله وبهتانه.
وأسأل الله تعالى أن تجد أمامك مناهج على مستوى طلابك، وعلى قدر الحصص المقررة في العام الدراسي، وكتباً جيدة الطباعة، وافية بالمنهج، محضرة بين أيدي الطلاب في بداية السنة الدراسية، وبذلك توفر وقتك وجهدك للتعليم والإفادة، فلا تشقى ولا يشقى من معك من الطلاب في معالجة عيوب المنهج، ولا في تصحيح الكتب المقررة.(10/200)
وأسأله تعالى أن تجد أمامك فصولاً دراسية ليست مزدحمة بالطلاب، ذات أعداد يرضى عنها رجال التربية، وأن تجدغرفاً دراسية واسعة، تشرق فيها الشمس، ويتجدد فيها الهواء، وتفيض أرجاؤها بالنور، قد أثثت بمقاعد مريحة، وسبورة واسعة صالحة.
وأسأله تعالى أن يهب لك مرتباً حسناً، يوفر لك حياة كريمة، وبالاً ناعماً، كي تتفرغ للقراءة والدراسة والتربية والتعليم، بجهد خالص، ونفس راضية مطمئنة.
وبعد هذا كله، وقبل هذا كله، أسأل الله تعالى أن يرعاك وأن يسدد خطاك، وسلام الله عليك يا بني، وسلام الله عليكم أيها الإخوة المستمعون الكرام. . .(10/201)
معارك الدعوة الإسلامية
بقلم فضيلة الشيخ د. محمد حمد خليفة
المدرس بكلية الشريعة في الجامعة
تعرضت الدعوة الإسلامية عبر القرون والأجيال لأنواء المحن، وألوان الإحن، وتيارات من عواصف الفتن، ما سكن هياجها إلا لتلتقي ريحها كما تلتقي زعازع النكباء فتحاول اجتثاث جذور كلّ ما ساخ وأوغل ورسخ في الأعماق.
ناوأتها الوثنية، ودارت معاركها مع اليهودية، واجتمعت عليها جحافل الصليبية اللادينية وأخيراً كان أبناؤها شراً عليها من أعدائها:
لقد عانت أول ما عانت من الوثنية حين هتف أول صوت للحق على جبل الصفا يدعو إلى عبادة الواحد الصمد، فعارضه صوت الوثنية يتفجر من قلب أبي لهب يواجه داعي الحق: تَبّاً لك ألهذا جمعتنا؟ ومنذ ذلك بدأت معركة الدعوة تعاني محناً كظلمات الليل، وتختلس الخطى إلى من أراد الله لهم الخير، وعبأت قريش لتلك المعركة كل سلاح: فتارة تحارب الدعوة بسلاح التشكيك في كتاب الله فترميه بالشعر حين رأت الفصحاء يخرون أمام بيانه، وتارة تتهم الداعي الأمين بالسحر لأن قوة إقناعه بالدعوة تستلب الرجل من أحضان زوجته، فيؤمن بالله وتؤثر المرأة وثنية أهلها فيتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه الساحر الذي يفرق بين المرء وزوجه، فلما هزمت أسلحة التشكيك أمام منطق الدعوة اتخذت قريش سلاح التعذيب ولكنه تحطم على صلابة الإيمان، وكان في صبر آل ياسر الدليل الدامغ على أن العذاب لا يروع قلوب المؤمنين، بل إن الموت اشهى لهم من حياتهم في ظل الوثنية، وقَدْمَتْ سميةُ زوجة ياسر أول بذل للحياة في سبيل الإسلام.(10/202)
وبعد ثلاثة عشر عاماً قضتها الدعوة الإسلامية في معارك صاخبة مع الوثنية في مكة هاجرت إلى المدينة لتتخذ منها قاعدة للانطلاق بعيدة عن تحدي الوثنية وظلمها غير أنها انتقلت من ميدان الوثنية لتلاقي في المدينة عدواً جديداً تمثل في اليهودية المنحرفة التي وقف أصحابها يرقبون لعل العرب يأكل بعضهم بعضاً، فلما قويت شوكة المسلمين بعد بدر اشتد قلقهم، وحينما هزموا في أُحد دبروا إيقاع الفتنة بين المسلمين فقالوا لهم: ألم تروا إلى ما أصابكم ولو كنتم على الحق ما هزمتم؟ فارجعوا إلى دينكم فهو خير لكم فأنزل الله: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} .
واشتدت عداوتهم للرسول صلى الله عليه وسلم حينما تحولت قبلة المسلمين عن بيت المقدس إلى البيت الحرام فراحوا يتساءلون: {مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} ؟.
ولم ينم تدبيرهم عن فتنة المسلمين وتشكيكهم في دينهم فدعوا بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى اتباع دينهم وكشف الله موقفهم في قوله: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} .
وتواطأ بعض اليهود فقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد، واكفروا به آخر النهار وقولوا: نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمداً ليس بذلك النبي وظهر لنا كذبه، وبطلان دينه، فإذا فعلتم شكّ أصحابه في دينه وقالوا: إنهم أهل كتاب وهم أعلم به منا فيرجعون عن دينهم إلى دينكم فأخبر الله نبيه بالمكيدة وأنزل: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .(10/203)
وشطوا في عناد محمد صلى الله عليه وسلم، وكشف الله موقفهم وعناد آبائهم لنبيهم موسى عليه السلام فقالوا لمحمد صلوات الله وسلامه عليه: إن كنت نبياً فأتنا بكتاب من السماء كما أتى به موسى فأنزل الله قوله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} .
ثم ظهر عدو ثالث للدعوة وصاحبها تمثل في نصرانية نجران والتقاء اليهود بهم في عداوة رسول الإسلام حيث اجتمع أبو رافع اليهودي وبعض نصارى نجران على لقاء صاحب الدعوة الإسلامية ومحاولة فتنته أو إغرائه وكان فيما سألاه: أتريد أن نعبدك ونتخذك رباً؟ فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"معاذ الله أن نعبد غير الله، أو أن نأمر بعبادة غير الله، ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني"، وأنزل الله في الرد عليهم: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} .
واجتمعت الوثنية واليهودية على حرب الإسلام والمسلمين والتقى وفد اليهود برياسة كعب ابن الأشرف بالوثنيين برياسة أبي سفيان وأجمعوا أمرهم على القضاء على الإسلام، وكانت موقعة الخندق وأرسل الله عليهم ريحاً أطارت خيامهم ومزقت أحلامهم وقد قص القرآن قصتهم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً. .} الخ ما جاء في الآيات.(10/204)
ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طهرت الجزيرة العربية من الوثنية واليهودية إلا ممن تظاهروا بالإسلام من اليهود وكانوا الخطر الداهم على الإسلام والمسلمين في عهد عثمان فأشعلوا الفتنة التي راح ضحيتها الخليفة الثالث وقد أذكى أتّونها عبد الله بن سبأ اليهودي وحمل لواء الدعوة للتشيع لآل البيت وتستر وراء تلك الدعوة لينتقم لليهودية.
وفي القرن السابع الهجري زحف التتار اللادينيون من الصين تحت قيادة جنكيز خان فغزوا بخارى وسمرقند وخوارزم وخراسان، وفي عهد هؤلاء دخل التتار بغداد وقضوا على التراث الإسلامي الذي خلفته الحضارة الإسلامية، وزحف على الشام حتى وصل غزة وقد هزم المسلمون التتار في عين جالوت، وعاد تيمولنك لغزو سوريا ثم هزم التتار، وعادوا إلى الشرق الأقصى بعد أن دمروا الكثير من الآثار والتراث الإسلامي، ثم تحركت الصليبية الأوروبية فجمعت الملوك الصليبيين لغزو الشرق الإسلامي وقيض الله للإسلام جيوشاً من المؤمنين مزقت جموع الصليبيين وردتهم عن مهد الرسالات فعاد السلام يرفرف على أرض السلام حيناً، وأخيراً مُنيت الدعوة الإسلامية ومُني المسلمون بتحرك اليهودية وتذؤب أطماعها في هذا الشرق، وكان لدهاء اليهود وأموالهم الأثر البالغ في كسب بعض الدول الصليبية العظمى، والتقت الإلحادية اللادينية مع هؤلاء وأولئك للنيل من الإسلام.
فاللادينية تبذل أقصى ما وسعها من الأساليب وما تملك من الضغط لاجتثاث أصول الإسلام من نفوس المسلمين وباسم الحرية تتحرك للقضاء على الإسلام في الشرق الإسلامي، واليهودية تتخذ في معركتها مع الإسلام أكثر من سلاح كالتشكيك والانحلال والإباحية وإفساد النفوس وتمزيق الروابط التي ربطت بين شعوب الشرق وإثارة الفتن بين تلك الشعوب وكل هذه أسلحة لها خطرها على الإسلام.(10/205)
والمسيحية العالمية عبأت مئات الآلاف من المبشرين لغزو الإسلام في إفريقيا وآسيا وكل هذه الآلاف تلتقي في تشكيك الناس في الإسلام في مبادئه وكتابه ورسوله.
وقد لقيت اللادينية واليهودية والمسيحية من أبناء الشرق الإسلامي أبواقاً تنفخ فيها، فتنعكس أصداء نفثاتها على نفوس المسلمين تشكيكا في دين الله وفي عدم صلاح شريعته لتطورات المجتمعات واستأجرت اللادينية واليهودية والمسيحية عقولاً إسلامية وأقلاماً إسلامية وألسنة إسلامية لتخوض بها معاركها مع الإسلام، وعظمت مصيبة الإسلام في أبناء الإسلام من المأجورين لتخريب النفوس وتدمير العقول.
وإن أنكى ما يواجه الإسلام في هذه الأيام ذلك العدوان الصارخ على أصوله وكتاب من الرئيس التونسي الذي ينكر قول الحق في الميراث {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن} فيأبى إلا أن يشرع للمرأة حقاً ينكره ما فرضه الله لها، بل أنكر جحودُه القصص القرآني الذي أوحاه الله وادعى أنه من وضع محمد صلى الله عليه وسلم وما كان لرسول الله أن يفتري على الله.
ونهجت نهجه حكومة الصومال فسوت بين المرأة والرجل في الميراث وقتلت المعارضين من العلماء وكانت ثالثة الأثافي مظاهرات الشيوعية في اليمن الجنوبي، التي قامت تحت سمع حكومتها وبصرها بتمزيق كتاب الله وبهتافها الأحمر الأحمق: لا دين بعد اليوم. .
فأين أنتم أيها المسلمون من هذه الفتن الضارية التي يؤججها رؤساء وحكومات تلك الدول في هذه الفترة العصيبة التي تنشب فيها معركة المصير بين العرب واليهود؟
وهل من مؤتمر قمة إسلامي تقول فيه الغيرة الإسلامية كلمتها لتأخذ على المارقين طريق التحلل الغربي ووساوس اللادينية وفتن الصهيونية العالمية؟
وأخيراً أين موقف تلك الشعوب من أولئك الرؤساء وليس بين المسلمين من لا يعلم أنه: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". . .(10/206)
مع المجاهد الأعظم. . ومنهجه في الجهاد
بقلم فضيلة الشيخ محمود عبد الوهاب فايد
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
وقد جرت سنة الله تعالى أنه لا يبعث رسله إلا إذا استفحل الضلال، واستشرى الشر وتفاقم الفساد واحلولك ليل الناس فيرسل الله إليهم من ينير لهم السبل ويهديهم إلى الجادة المستقيمة.
والطريق أمام رسل الله، ودعاة الإصلاح ليس معبداً مفروشاً بالورود بل هو مليء بالأشواك محفوف بالمكاره ومن الواجب عليهم وعلى كل داعية أن يوطنوا أنفسهم على الصبر والجهاد, وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان مثلاً أعلى ونموذجاً فريداً، وقدوة حسنة لكل مصلح يأتي من بعده، لقد جاهد أهل الضلال والفجور بالكلمة الطيبة ثم بالقوة المرهبة.
قدم إليهم قارورة الدواء فعافوها، وردوا عليه أسوأ رد، وظل يتودد إليهم ويعرض الدواء عليهم، وظلوا ينفرون منه، ويصدون الناس عنه، ويكيدون له، وتذرع بالصبر، وتجمل بالحلم، وبقي في مكة يجاهد هم بالقول الكريم والأسلوب الحكيم حتى دان له بعضهم، وانقاد له قليل منهم، ونال هؤلاء ما نال رسول الله صلى الله عليه وسلم من الظلم والاضطهاد، وصبروا واحتسبوا أجرهم عند الله، ورغبوا أن ينالوا رضاه، وفتح الله لهم باب الخلاص، ونافذة الأمل فهاجروا إلى المدينة ولحق بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن شرب في مكة كأس الأذى حتى الثمالة.
وفي المدينة لم يهدأ عليه الصلاة والسلام، ولم يركن إلى الراحة بل ظل يحمل راية الجهاد، ويرفع علمه واتخذ جهاده لوناً جديداً، ومنهجاً أخاذاً، فقد بدأ يجاهد الكفار بالقوة المرهبة بعد أن كان في مكة يكتفي في جهادهم بالكلمة الطيبة، وقديما قيل: "لا يفل الحديد إلا الحديد".
فالحرب أجدى على الدنيا من السلم
والناس إن ظلموا البرهان واعتسفوا
ذرعاً وإن تلقه بالشر ينحسم(10/207)
والشر إن تلقه بالخير ضقت به
بدأ يقابل القوة بالقوة، ويرد على السيف بالسيف (والشر بالشر والبادئ أظلم) .
لقد أسرف كفار مكة في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به حتى اضطروهم إلى الهجرة، وترك ديارهم وأموالهم، حرصاً على دينهم، فهل يطلب من المسلمين بعد هذا أن يتقلبوا مزيداً من الاضطهاد؟
لقد نفذ صبرهم، وذهب حلمهم، وأصبحوا يرتقبون من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسمح لهم بالجهاد ونزلت الآيات:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} .
أذن الله لهم في القتال درءاً للظلم ومنعاً للفتنة، ودفاعاً عن الدين، ونصرة للمستضعفين ونشراً لشريعة الحق والعدل والخير والأمن.
قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} ، وقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ} .(10/208)
والقتال من أجل هذه الغايات الشريفة واجب على المسلمين قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . وعن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من أصل الإيمان الكف عمّن قال لا إله إلا الله ولا نكفره بذنب ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل والإيمان بالأقدار".
وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجهاد واجب عليكم مع كل أمير براً كان أو فاجراً" أخرجهما أبو داود.
على هذا الأساس قاد رسول الله صلى الله عليه وسلم جيوش المسلمين تحفه عناية الله،، وتؤازره معونته قادها لدفع العدوان، وقمع الطغيان، ونشر الإيمان، قادها تحت راية إسلامية سداها ولحمتها قول الله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين} .
ولهذا خط لقادة الحروب من بعده منهجاً إنسانياً تتخلله الرحمة، وتسري فيه سريان الروح في الجسم والماء في العود والكهرباء في الحديد, نهى عن قتل من لا شأن له في القتال ولا رأي له في الحروب.
أخرج مسلم بسنده عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على الجيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال: اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً".(10/209)
وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال: "اخرجوا باسم الله تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع" رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني في الكبير والأوسط إلا أنه قال فيه: "ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا شيخاً". وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: " ألا لا يجهزن على جريح ولا يتبعن مدبر ولا يقتلن أسير ومن أغلق عليه بابه فهو آمن " أخرجه عبد الرزاق في الجامع وابن أبي شيبة والبيهقي وأبو عبيد في الأموال. هذه هي سنته في الحروب، حروب لا تشن إلا لضرورة ولخير الإنسانية وحين تنشب تسير في اتجاه حكيم، وفي دائرة مغلقة لا تتجاوز أهل العدوان والطغيان وتترفق بالضعفاء والولدان.
وعندما يجنح خصوم الإسلام إلى السلام يسارع إلى قبول دعوتهم، ويكلهم إلى نيتهم إعلاناً منه عن رغبته في تجنب إراقة الدماء قال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} .(10/210)
وعندما يتم صلح على معاهدة يتم توقيعها في ظروف مناسبة يطلب الإسلام من أتباعه أن يفوا بها ويلتزموا بشروطها قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
وحين تفوح من العدو رائحة الغدر يطلب منابذتهم وبشرط أن يكونوا على سواء قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} . وقبل المنابذة لا يرتضي الإسلام أن نخيس بالعهد ولو لنصرة المسلمين قال تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} .
في هذا الاتجاه السليم وفي ظلال هذه المبادئ كانت حروب النبي صلى الله عليه وسلم ولكن بقي أن نعرف كيف أعد الرسول صلى الله عليه وسلم جيشاً تحققت على يديه هذه الانتصارات الرائعة التي سجلها التاريخ، وأذهلت عباقرة العالم.
إن الفضل في إعداد النبي صلى الله عليه وسلم لجيشه الظافر يرجع إلى قوة العقائد والتعاليم الإسلامية وأثرها في النفوس, وتأمّل معي هذه العقائد وهذه التعاليم لتعرف ما لها من أثر بليغ في بناء الجيش الإسلامي.(10/211)
1- دعا الإسلام إلى الإيمان بإلهٍ واحد قوي قدير سميع بصير حكيم خبير ومن شأن هذه العقيدة أن تجمع قلوب المؤمنين وتوحدها، من شأنها أن تنفخ فيهم روح العزة والكرامة فلا يرضوا بأن يتأله عليهم مخلوق، ولا يقبلوا أن يخنعوا لصنم حجري كمناة أو نباتي كالعزى أو حيواني كعجل أبيس أو إنساني كفرعون.
من شأنها أنها تشحذ العزائم وتلهبها وتمد الجنود بقوة غلابة يستمدونها من القوي العزيز فيقبلون على المعارك إرضاء لله بروح مؤمنة لا يتسرب إليها يأس ولا يتسلل إليها خور، مطمئنة إلى الله معها يمدها بنصره ويؤيدها بجنود من عنده {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ} ، {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ، {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} .
2- دعا الإسلام إلى الإيمان بأنه لا بقاء إلا لله، وأن الموت مكتوب على كل من عداه قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} .
تعددت الأسباب والموت واحد
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
والمولى وحده قد حدد الأجل، لكل حي منذ الأزل، فلا ينقص العمر باقتحام الحروب ولا يزيد بالفرار والهروب قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} ، وقال: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} ، وقال: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، وقال: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} .(10/212)
ووقائع الحياة تشهد بهذا وتؤكده، فهذا خالد بن الوليد سيف الله المسلول يموت على فراشه، وكان يتمنى أن يموت وهو يجاهد في سبيل الله، ويدافع عن دينه، ورغبة في الشهادة وحرصاً عليها شهد مائة حرب أو زهاءها، وبارز الأبطال، وركب الأهوال، حتى لم يبق في جسمه شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ومع هذا لم يقتل في ميدان، بل مات على فراشه كما شاء الله وما شاء الله كان.
وكثير من الناس بالغوا في أخذ الحيطة لأنفسهم حذر الموت فلقوا مصرعهم في حوادث مؤسفة ما كانت تخطر لهم على بال أو تدور في حسبان.
هذه العقيدة إذا استقرت في قلب إنسان نزعت منه الخوف والجبن، فإذا ما سمع الهائعة أسرع إليها وأقبل عليها في هدوء وسكينة وارتياح وطمأنينة، ولا يقف أثرها عند هذا الحد بل إنها لتمده بقوة تدفعه إلى الإمام وتحول بينه وبين الانسحاب دون نظام تمده بقوة تجعله يكر ولا يفر، يقدم ولا يحجم، لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه ينشد بلسان حاله:
فمن العجز أن تكون جبانا
وإذا لم يكن من الموت بد
يوم لا يقدر أم يوم قدر
أي يومي من الموت أفر
ومن المقدور لا ينجو الحذر
يوم لا يقدر لا أرهبه
من الأبطال ويحك لن تراعى
أقول لها وقد طارت شعاعاً
على الأجل الذي لك لم تطاعي
فإنك إن سألت بقاء يوم
فما نيل الخلود بمستطاع
فصبرا في مجال الموت صبراً
3- دعا إلى الإيمان بالبعث والحياة الأخروية والتصديق بما في اليوم الآخر من جنة ونار وثواب وعقاب، وحساب أساسه العدالة التي لا تعرف المحاباة قال تعالى:(10/213)
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} ، وقال: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ} ، وقال: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} ، وقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} .
ومن شأن هذه العقيدة أنها تحمل كل إنسان على أن يحاسب نفسه ويسارع إلى أداء ما أوجبه الله عليه والابتعاد عمّا نهى الله عنه.
ومما أوجبه الله أن نجاهد في سبيل الحق ونقبل عليه، وممّاحرمه أن نتثاقل عن الجهاد بعد أن يدعو الداعي إليه ومن شأن هذه العقيدة أيضاً أنها تزكي النفوس بدفعها إلى الخير وإن جل وحجزها عن الشر وإن قل، وإبعادها عن الظلم وإن كان مثقال ذرة.
وإذا تمكنت هذه العقيدة تآلفت الأرواح وتماسكت الأمة وارتبطت وارتبط جنودها بعضهم ببعض، وارتبطوا جميعاً بالله، واستحقوا عونه ورضاه، وأمكن لهم أن يتغلبوا على أعدائهم ويظفروا بهم.
فإن ضعفت وانحل عراها، ورثّت قواها صاركل إنسان عبداً لهواه، وسار على ما يهواه، واستحل ظلم عباد الله، وحينئذ تضعف روح الأمة وتتمزق وحدتها وتتبدد قوتها، ويسهل على عدوها أن يكتسحها ويلتهمها، ويغنم كل ما عندها من سلاح وعتاد.(10/214)
4- دعا الإسلام إلى الجهاد ونوه به وأشاد بفضله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} , بشر المجاهدين بالنصر في الدنيا والفوز في الآخرة، وضمن للشهداء حياة طيبة، قال تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} .
وأخرج مسلم ج3 ص1495 بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاداً في سبيلي وإيماناً بي وتصديقاً برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة والذي نفسي محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم لونه لون دم وريحه مسك والذي نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلف سرية تغزو في سبيل الله أبداً ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل".
ولم يكتف الإسلام بهذا بل حذر أولئك الذين يتخلون عن دعوة الجهاد من سوء المغبة، ووخامة العاقبة.(10/215)
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} .
بشر المجاهدين وأنذر المتقاعسين، وقد أثمرت هذه الدعوة ثمرتها، فتسابق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد.
في غزوة بدر استنهض الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى عير قريش، فقال خيثمة بن الحارث لابنه سعد، إنه لا بد لأحدنا أن يقيم فآثرني بالخروج وأقم أنت مع نسائنا فأبى سعد وقال: لو كان غير الجنة لآثرتك به إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا، فاستهما فخرج سهم سعد فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر فاستشهد وفي غزوة أُحد خرج خيثمة داعياً الله أن يستشهد ويلحق بابنه في الجنة فقتل شهيداً.
وفي غزوة أُحد خرج أهل بيت بأجمعه إلى الجهاد في سبيل الله، خرجت نسيبة بنت كعب مع زوجها زيد بن عاصم وولديهما عبد الله وخبيب وقد أبلوا جميعاً بلاءً حسناً وقال صلى الله عليه وسلم:"بارك الله فيكم أهل بيت"، وقال:"اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة"، وقال في نسيبة: "ما التفت يوم أُحد يميناً ولا شمالاً إلا وأراها تقاتل دوني", وقد ضربها ابن قميئة وهي تدافع عن النبي فأصاب عاتقها بجرح أجوف غائر، وجرحت في هذا اليوم اثني عشر جرحاً من بين طعنة وضربة.(10/216)
وفي هذه الغزوة استعرض الرسول صلى الله عليه وسلم - كما جرت عادته في كل عام - غلمان الأنصار فمرّ به رافع بن خديج وسمرة بن جندب فردهما وهما ابنا خمس عشرة سنة فقيل له: يا رسول الله إن رافعاً رام فأجازه فقال سمرة: يا رسول الله: لقد أجزت رافعاً ورددتني ولو صارعته لصرعته فقال له صلى الله عليه وسلم: "فصارعه", قال سمرة: فصارعته فصرعته فأجازني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5- دعا الإسلام إلى أخذ العدة والتسلح بالسلاح الديني والمادي وفي هذا يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} ويقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ويقول: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} ، ويقول صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" أخرجه أبو داود والنسائي عن أنس ويقول: "من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا" أخرجه الشيخان عن زيد بن خالد، ويقول: "إن الله عز وجل يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي به ومنبله" أخرجه أبو داود والترمذي عن عقبة بن عامر.(10/217)
6- دعا إلى توطيد دعائم المحبة بين الحاكم والمحكوم، وبين الجنود والقادة بالتزام قواعد العدالة، وإرساء أسس الإخاء والتعاون والحرية والمساواة حتى يكون جميع من في الدولة على قلب رجل واحد وبمستوى واحد في الشعور بالتعب والراحة والفرح والحزن والجوع والشبع كما يقول صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" أخرجه مسلم عن النعمان بن بشير.
وقدوتنا في هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي غزوة بدر مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسواد بن غزية وهو متقدم في الصف فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم بقدح في يده وقال: "استو يا سواد"فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال: "استقد"فاعتنقه سواد وقبّله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما حملك على هذا؟ " قال: يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك", سيرة ابن هشام ج1 ص626.(10/218)
وفي غزوة الخندق يحدثنا البراء فيقول:"لما كان يوم الأحزاب وخندق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته ينقل من تراب الخندق حتى وارى عني الغبار جلدة بطنه". أخرجه البخاري ج5 ص140. ويحدثنا جابر فيقول:"أنّا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية [1] شديدة فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق فقال: "أنا نازل" ثم قام وبطنه معصوب بحجر ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقاً [2] ، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول [3] فضرب فعاد كثيباً أهيل أو أهيم، فقلت يا رسول الله: ائذن لي إلى البيت فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ما كان في ذلك صبر فعندك شيء؟ قالت: عندي شعير وعناق [4] ، فذبحت العناق وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة [5] ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر والبرمة في الأثافي [6] قد كادت أن تنضج فقلت: طعيم لي فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان قال: "كم هو؟ " فذكرت له قال: "كثير طيب"قال:"قل لها: لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي " فقال:"قوموا"فقام المهاجرون والأنصار فلما دخل على امرأته قال ويحك: جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم قالت: هل سألك؟ قلت: نعم, فقال: ادخلوا ولا تضاغطوا فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم، ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع فلم يزل يكسر الخبز، ويغرف حتى شبعوا وبقي بقية قال: كلي هذا وأهدي فإن الناس أصابتهم مجاعة". أخرجه البخاري ج5 ص138،139.
وعن علي رضي الله عنه قال:"كنا إذا احمرّ الناس ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه"أخرجه أحمد.(10/219)
بهذا ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم الأمثال للقادة والحكام وعلمهم بالفعل لا بالقول وحده أن يكونوا مع الجنود في المعركة ويشاركوهم التعب والراحة والجوع والشبع علّمهم أن يعسكروا مع الجيش ولا يغيبوا عنه، ليواجهوا بالحكمة ما يطرأ من مشكلات تتطلب الحل السريع، علمهم أن يعدلوا ويدركوا أن المناصب وإن تفاوتت درجاتها لا تسمح لصاحب المنصب الكبير أن يتعالى ويستبد بمن دونه ويجور عليه في حقه علمهم أن يكونوا على استعداد إن صدرت منهم هفوة لتقبل القصاص بصدر رحب، هذه المبادئ إذا سادت الأمة ونعمت بها جعلت كل فرد فيها يحرص على كيان الدولة ويتحمس في الدفاع عنها فلا يضعف أمام عدوه ولا يتقهقر بل ينقض عليه ويواصل السير إليه حتى يكسر شوكته ويطفئ جمرته.
7- لا يفوت الإسلام أن يقوى روح الأمل في أتباعه ويجتث بذور اليأس من قلوبهم فيقول سبحانه: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} , ويقول: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
وبعد: فقد كان كثير من العرب يندفع إلى القتال بدافع العلو ورغبة في النهب كما قال عمير بن شييم:
وأعوزهن نهب حيث كانا [7]
وكن إذا أغرن على جناب
وضبة أنه من حان حانا [8]
أغرن من الضباب على حلول
إذا ما لم نجد إلا أخانا
وأحياناً على بكر أخينا(10/220)
لكن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قتال شريف قتال في سبيل الله لا في سبيل الهوى والشيطان، والتسلط والعدوان، قتال لخير البشرية قتال يتبع قوانين أخلاقية يغلب عليها طابع الرحمة والحكمة تتمنى البشرية خصوصاً في عالم اليوم أن تطبق حتى تنجو من خطر محقق يهددها بالفناء التام والموت الزؤام.
فهل آن للعالم اليوم أن يعود إلى منهاج النبي صلى الله عليه وسلم لينعم ويسعد وينهض ويرقى؟ نسأل الله أن يبصرنا جميعاً طريق الهدى والرشاد، والخير والسداد ...
--------------------------------------------------------------------------------
[1] كدية: صخرة صلبة لا تعمل فيها الفأس.
[2] ذواقا: طعاما يذاق.
[3] المعول: الفأس.
[4] عناق: أنثى المعز قبل بلوغ سنه.
[5] البرمة: القدر.
[6] الأثافي: الحجارة التي تنصب القدر عليها.
[7] كن: أي كانت الخيل والمراد أربابها المغيرون, أعوزهن نهب: تعسر عليهن ما ينتهب، جواب (إذا) أغرن في البيت التالي.
[8] الضباب جمع ضب، والحلول الذين يحلون في مكان واحد يقول: إنهم لاعتيادهم الغارة لا يصبرون عنها ويتقدمون للأقارب إذا تعسر الأباعد ومن هلك بغزونا هلك هلاك محققا.(10/221)
الدعوة العامة لتحديد النسل ينكرها الإسلام
بقلم: فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف
مفتي الديار المصرية سابقاً
تحديد النسل أو كما يسمونه تنظيم النسل ودعوة الأمة إليه بصفة عامة مشروع خطير تجذبته الأفكار والأقلام منذ سنين ولم يثره بادئ الرأي عندنا إلا الاستعماريون حين أفزعهم تزايد السكان وأقلقهم نموّ الأمة ويقظة الشعور العام فيها إلى أساليب الاستعمار في البلاد المستعمرة والتنبه العام إلى ما له من فادح الأخطار على البلاد ومناداة الشعوب في كل الأقطار العربية بضرورة تحريرها وتخلصها من شروره ومفاسده، فنادوا في طول البلاد وعرضها بالخوف من المجاعة الجائحة إذا استمر تزايد السكان ولم يحدد النسل بطريقة حاسمة وعمدوا إلى خداع العامة (باسم الدين) فزعموا أن الإسلام يبيح هذا التحديد بصفة عامة، بل قال قائلهم وهو مدرس جامعي عن عمد أو خطأ:"إن إباحة الإسلام العزل من الزوجات شرعاً دليل على إباحته تحديد النسل بصفة عامة.
فبينّا لهم في أكثر من مقال: أن من أهم مقاصد التشريع الإسلامي تكثير سواد الأمة ونموها على ممر الدهور حتى تواجه الأحداث والخطوب بقوى عاملة وتستثمر خيرات البلاد بكثرة كادحة وتقف في وجوه الأعداء بجيوش حاشدة على التوالي إمداد متتابعة إذا جد الجد، وقديماً قالوا: إنما العزة للكاثر.
لذلك أوجب الإسلام على أهله الكسب والعمل والجد في الحياة وفي استنباط وسائل العيش الرغيد للأمة بطريق الزراعة والتجارة والصناعة والتوسع فيها واستخدام أقوى الوسائل وأفضلها إلى غاية الطاقة، وجعل كل فرع من فروعها من فروض الكفايات حتى تستغني الأمة بخيراتها ومنتجاتها عن كثير مما تستورده من غيرها، وتعز بكثرتها أمام تلك القوى التي تنافسها أو تنصب لها العداوة وتدبر لها الشرور والمكائد وعوامل الضعف والذلة.(10/222)
ولما كان ذلك لا يتم إلا بالأيدي العاملة والعقول المفكرة والجماعات القوية المتعاضدة رغب الشارع في كثرة النسل وحث فقال صلى الله عليه وسلم:"تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم"وقال: "تناكحوا تناسلوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة" ونهى عن الجب والخصاء والترهب وهجر النساء تبتلا لمنافاة ذلك للغرض الأسمى الذي دعا إليه.
ورغّب في الزواج وأباح تعدد الزوجات بشرطه المشروع.
فحين دعا الإسلام إلى كثرة النسل لهذه الحكم والمقاصد قرر بجانب ذلك وجوب العمل بمختلف الوسائل لإنماء الموارد الاقتصادية في البلاد علاجاً لما يتوقع من تزايد عدد السكان وهو العلاج الصحيح الذي يجمع بين قوة الأمة والعمل على توفير حاجتها الضرورية للحياة.
وإن الأمة لا تسعد إلا بهما ولا تهنأ إلا في ظلهما.
وإن في دعوة الأمة إلى تحديد النسل بصفة عامة إذا هي استجابت لها (وما أظنها تفعل) كل الخطر عليها، فيها ضعفها وانكماشها، فيها ذلتها، واستصغارها، فيها إغراء الأعداء بها، وتمكين الاستعمار من الطمع فيها، بتوالي الزمن والعجز عن استثمار خيرات البلاد بأيدي أبنائها لقلة العدد ووفرة الخيرات كما هو واقع في بعض الأقطار العربية.
ونكرر مرة أخرى أننا حينما نريد للأمة نمواً في العدد نريد منها جداً واجتهاداً في العمل وعلماً نافعاً ينير لها الطريق فيما تعمل وإن تضاعف الجهود كلما تزايد العدد فإذا سلكت هذا السبيل لا يضيرها تزايد عددها بل يعينها على ما هي بسبيله.
أما الكلام عن العزل الذي أشار إليه بعض الكاتبين وحسبه حجة له فمع أن في جوازه خلافا (كما يعلم من مراجعة أقوال الفقهاء والمحدثين فيه) لم يكن في الإسلام دعوة عامة إليه في أي عصر من العصور من عهد النبوة إلى الآن، كما يدعون اليوم إلى التحديد بصفة عامة وهذا كاف في رد الاحتجاج به في هذا الموضوع.(10/223)
وقد قلنا مراراً أن هناك حالات فردية خاصة تدعو إلى منع الحمل كما تدعو إلى العزل وهذه لا شك في إباحتها فإن الضرورات تبيح المحظورات شرعاً كما أباحت للمريض الفطر في رمضان والصلاة قاعداً عند العجز عن القيام وترك الحج لعدم الاستطاعة الجسمية مع وفرة المال، وكما رخصت في أكل الميتة للمضطر ونحو ذلك.
ولا يمكن أن تكون هذه الإباحيات والرخص إلا خاصة بأرباب الأعذار.
وهل يعقل أن الشارع يدعو دعوة عامة إلى كثرة التناسل وفي الوقت نفسه يبيح الدعوة العامة إلى تحديد النسل؟
أليس هذا تناقضاً محالاً عليه؟
والأجدر بالقائمين بهذه الحملة الصاخبة لتحديد التناسل أن يوجهوا جهودهم للدعوة إلى الاستزادة من العلم والإنتاج والقوى والجهود لاستخراج كنوز الأرض وذخائرها ومقاومة أعداء الإسلام وهم الكثرة المتعاضدة المتساندة في القضاء عليه وعلى أهله في أقطارهم.
والله يوفق الجميع إلى ما فيه الخير والصلاح.
حول الدعوة العامة الضالة لتحديد النسل
(السؤال) : نشر هذا السؤال وجوابه بجريدة منبر الشرق في 23 مارس سنة 1956م.
فضيلة الأستاذ الشيخ حسنين محمد مخلوف، مفتي الديار المصرية السابق.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(10/224)
وبعد: قلما كان من الصعب العسير على النفس المؤمنة التي لا تقبل الحكم على الأشياء إلا عن عقيدة وإقناع، قبول القول بجواز تحديد النسل خشية الفقر بعد قول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} وقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ، وقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} , وقوله في أولي الألباب: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} ، وقوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} ، وقوله: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ شيئاً} , وقول النبي الكريم: "تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم"، وقوله: "تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة"، وقوله: "سوداء ولود خير من حسناء عقيم", إلى غير ذلك من النصوص الصريحة التي توجب تفويض أمر الخلق إلى الله رب الخلق والأمر، فهو يعلم ما في الأرحام ويخلق ما يشاء ويختار {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً} , ثم هو يحيى ويميت ويبسط الرزق لمن يشاء ويقدر.(10/225)
ولا تسمح النصوص بجعل الفقر سبباً لتحديد النسل لأنه عرض زائل والأيام دول بين الناس، وإنما تدعو إلى السعي وعدم التواكل والعمل على تكثير النسل وتوجيهه في رحاب الدين إلى العمل المنتج لخير البلاد والعباد. وبهذا يضع الإسلام الحل العادل لمشكلة تزايد السكان التي قذفت في قلوب المستعمرين الرعب وأطاحت بأطماعه، تلك التي شاءوا بها القضاء على وحدة العرب وقوتهم، والله غالب على أمره. ولما كانت الدعوة إلى تحديد النسل خشية الفقر يُراد أن تكون دعوة عامة إليه لوجود الأغنياء قلة بين الأغلبية العظمى من الفقراء، وهو أمر مشهود معروف مع توافر النسل في الفقراء وقلته بين الأغنياء، وفي هذا التحديد شبه العام قضاء على كيان الأمة وإذهاب لريحها، وعدوان صارخ على حرية الإنسان وحق الأسرة لم يقل به قرآن ولا سنة ولا إجماع.
ولما كان قصر التحديد فيما قالوا على الفقراء بحجة وجود الفساد والتشريد في نسلهم، وَوَلَدان في رأيهم خير من ثمانية، وهذا أمر لا يستسيغه عقل، فقد نرى الأكثرية من الفقراء أحرص الناس على حياة دينهم ودنياهم وفي نشئهم الأمل الوضّاء الحافل بجمال العلم ونهضة العمل وجلال الإيمان والجهاد، بينما نرى العكس في أغلبية نشء الأغنياء على قلته، وكم رأينا الأيتام ذوي الفقر والفاقة قد أصبحوا سادة وقادة، بينما انتكس الحال في غيرهم من ذوي اليسار والقوة والجاه.(10/226)
على أننا لا ندري كيف السبيل إذا ما أصيبت المرأة ذات النسل بعد إجراء التحديد بعقم ثم مات نسلها. . . علّنا نظفر بعقار جديد ضد الموت. . . وبهذا نُبقي على عُدة الوطن وأجيال المستقبل، - ويا ترى هل التحديد يكون قصراً على زوجة ذات نسل طلقت أو عاشت ما قدر الله لها أن تعيش ثم قضت نحبها بالموت، أم يتناول الأخرى بعد أن تأتي بما فوق العدد؟ . . . أم تستأصل منها عوامل الحمل منذ بدء حياتها الزوجية فتحرم النسل وحينئذ ما ذنبها؟ . . لعل أيسر طريق أن يعيش من فقد زوجته ذات نسل في رهبنة. . ولكن لا رهبانية في الإسلام.
وإذا كان يرى بعض القائلين بجواز التحديد ما يصيب فكرة القائلين بعدمه استنتاجاً من قول الله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} ، وقوله: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} ، فإن الذي نلقى الله عليه أن المأخوذ من هذا القول الكريم تصوير الدنيا في صورتين:(10/227)
أولاهما: مذمومة حقير شأنها إذا ما كاثر الناس فيها بالأموال والأولاد ابتغاء الافتخار والخيلاء والاسترسال في الشهوات والسخرية من الناس وتعدي الحدود إلى كل ما يوجب سخط الله وغضبه وعقابه. والحياة بهذه الصورة فتنة ومتاع الغرور والخسران، وفي هذا يقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ، والأخرى محمودة لدى العقلاء مرغوب فيها، يدعو إليها ربنا بقوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ.. الخ} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ.. الخ} . وهي دعوة صريحة إلى المبادرة للحصول على مغفرة الله والرضوان باتخاذ وسائل الحياة من الأنفس والأموال قربات عند الله شكراً له على ما أنعم، واستمتاعاً بتلك الزينة التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق اعترافاً بفضله وواسع كرمه. وإذا لم يكن كذلك فعلى أي أساس يقوم العمران، وبأي وسيلة يكون التعاون على البر والتقوى، وما الذي يؤخذ من قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} .
ألم يكن القصد واضحاً في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ..الخ} … وهو إنذار واضح لكل من لم يتوجه بكل هذه الوسائل إلى الله حباً فيه ووقفاً على الخير في سبيل مرضاته.(10/228)
ولما كان العزل مختلفاً في حكمه وعند القائلين بالإباحة رخصة في الحالات الفردية الاضطرارية كما في حالة ثبوت عدم قدرة الزوجة على احتمال الحمل ثبوتاً طبياً صحيحاً, فهو إذن رخصة جزئية لا يمكن أن تكون عامة أو شبه عامة، كإباحة التحديد خشية الفقر لغلبة حاله على عموم الأمة إلا النسبة الضئيلة من الأغنياء.
وإذا صح قول عمرو بن العاص الصحابي:"وإياكم وكثرة العيال فإنهم يثقلون الظهر", على فرض حمله على هذا الوجه فإن أبا بكر الصديق وهو من عُرف برجاحة إيمانه في الأمة وعلو كعبه بين صحابه الرسول قد كره العزل، لأن فيه تقليل النسل وقطع اللذة عن الموطوءة، ومن القائلين معه بالكراهة من الصحابة الأجلاء عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود. (راجع المغني لابن قدامة جزء 7/ صفحة23) .
فلهذا. . . أرفع إلى فضيلتكم وأنتم من حماة الدين وعلمائه الأبرار هذا الخطاب، رجاء التكرم بكشف اللثام عن هذا الأمر الخطير ببيان قاطع في الموضوع على صفحات (منبر الشرق) {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} .
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ابنكم
نظمي متولي أحمد العسال
بميت غمر بالديار المصرية
الجواب:
ورد إلينا هذا السؤال وطلب محرره الفاضل الجواب عليه، وما أتممت قراءته حتى وجدت في طيه الجواب الشافي والبيان الكافي، ووجدته مطابقاً لما سبق لنا بيانه ونشره في هذا الموضوع الخطير من الوجهة الشرعية والاجتماعية، ولا بأس أن نلخص ما بيناه في ما يلي:(10/229)
1- فكرة تحديد النسل بصفة عامة في الأقطار الإسلامية التي لا يزال للدول المستعمرة نفوذا فيها أو طمع في الاستئثار بخيراتها فكرة غريبة دخيلة تخفي وراءها كيداً استعمارياً خبيثاً لم يتفطن له الكثير من الناس، ومنهم من يأبى أن يتفطن، والسر عند علام الغيوب، فليس أبغض للمستعمرين، ولا أعود على سياستهم بالفشل من تزايد عدد المسلمين الذي من شأنه أن يحملهم على الكدح في الحياة والسعي للحرية وتحطيم أغلال الاستعمار لينعموا بخيرات بلادهم ويعيشوا رافهين.
وقد قرأت أخيراً في بعض الصحف أثر اجتماع الأقطاب الثلاثة العظام ما يرمي إلى فزع الدول الكبرى من كثرة عدد العرب وقلة عدد اليهود، ولتزايد عدد في الدولة رهبته وقوته وآثاره ونتائجه، فلنكثر رغم ما يدبرون، ولنتسلح بالقوة ولنشق طريقنا إلى الحياة الحرة، وإن الدول التي هصرتها الحروب وأكلتها الشدائد لتسعى جاهدة في تنمية عددها ومضاعفة قوتها لتواجه المستقبل بعدة الكفاح المثمر.
2- وإننا في الوقت الذي نعارض فيه تحديد النسل بصفة عامة نستوجب على الحكومات العربية أن تتظافر فيها القوة لاستغلال جميع موارد البلاد زراعياً وصناعياً لتنعم بخيراتها وهي والحمد لله وفيرة وبلادها من أخصب البلاد وفيها كنوز وذهب أحمر وأسود، ومعادن وخيرات حسان، وفيها ما يحتاج لأضعاف أضعاف أيدي أهلها الآن لاستثمار هذه الخيارات الوفيرة، فلنعد لهذا الجهاد أبناءنا لنستغني بهم عن الأجانب عنا، ولندع هذه الفكرة الماكرة فهي معول هدم وسوسة تنخر في العظم.(10/230)
3- ومع أننا نعارض بقوة فكرة التحديد بصفة عامة نقرر في صراحة أن الشريعة السمحة تبيح اتخاذ وسائل منع الحمل، بل وسائل الإجهاض قبل نفخ الروح في بعض الحالات وهي حالات فردية اضطرارية يكون فيها الضرر محققا بالحاملة أو غالبا بشهادة الطب الصادقة لا بالوهم والخيال. وهذا كما تبيح للمريض الفطر في رمضان إذا كان الصوم يضره وقرر الطبيب الحاذق ذلك أو دلت عليه تجربة صحيحة أو ظهرت له أمارة صادقة، وكما تبيح للحامل والمرضع الفطرة إذا خافتا على نفسهما أو ولدهما على التفصيل المبين في الفقه.
4- والخلاف بيننا وبين دعاة التحديد ليس في هذه الجزئيات الاضطرارية، وإنما هو في الدعوة العامة إلى التحديد، لا فرق بين حالة الضرر وحالة الاختيار كما أشير إليه في السؤال.
وبعد: فلعل في هذا ما يرشد بعض الباحثين إلى أن الأولى والأحق بجهودهم وإمكانياتهم أن توجهوا الشعوب في الأقطار العربية إلى التوفر على العمل المنتج، ويعدوا لهم ما ليس في إمكان الأفراد من الوسائل التي بها تسعد الأمم وتبقى في رغد العيش ورفاهة النعيم، والله أعلم.(10/231)
شعر شوقي في ميزان النقد
بقلم: فضيلة الشيخ محمد المجذوب
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
ولد أحمد شوقي في مصر عام 1285 هـ وفيها توفي عام 1351 هـ، وتعتبر هذه الفترة مطلع النهضة في حركة الشعر العربي الحديث، ويعد شوقي أكثر شعراء العربية إنتاجاً، وقد أوتي شاعرية فياضة ومخيلة قوية دعمت بالعلم وغذيت بالأسفار، ووراء ذلك طموح شديد إلى بلوغ أعلى ذرى القريض، فهو يحاكي عددا من أكابر شعراء العربية والفرنجة ففي شعره قوة المتنبي وروعة البحتري، وعمق أبي تمام، ورقة ابن زيدون. ويجاري من شعراء الفرنجة فيكتور هيجو في السياسة والتاريخ والأساطير، ولافنتين في الحكايات الخرافية، وكرناي في المآسي التمثيلية هو يريد أن يبلغ شأوهم جميعاً.
لذلك تعددت أغراض شعره، ففيه التاريخ والسياسة والاجتماع والدين والوصف والغزل والمدح والرثاء والفخر والحكمة. وفيه الشعر التعليمي والتمثيلي. وهو في كل أغراضه ذو طابع خاص يميزه عن جميع الشعراء، الذين حاول محاكاتهم، وإن كان يشبههم في كثير من الخصائص.
1- شعره السياسي:
تتفاوت نظرة شوقي السياسية تبعاً لظروفه الشخصية وظروف الحياة العامة.
ففي المرحلة الأولى من حياته - حياة القصر - يدور مع رأي ولي أمره فيعادي خصومه ويصادق مؤيديه. لذلك نراه يحمل على أحمد عرابي ويعده خائناً:
أهذا كل شأنك يا عرابي؟
صغار في الذهاب وفي الإياب
وهو يعبر بذلك عن نظرة البلاط إلى عرابي. وبمثل ذلك يواجه (رياض باشا) رئيس الوزارة لأنه أثنى على اللورد كرومر بكلمة أساءت إلى مصر وإلى الخديوي عباس الذي كان شوقي شاعره:
أضيف إلى مصائبنا العظام
خطبت فكنت خطباً لا خطيباً
وجرحك منه لو أحسست دامي
لهجت بالاحتلال وما أتاه(10/232)
ولنستمع إليه يحمل على الأمير حسين واللورد كرومر والشيخ عبد الكريم سلمان بمناسبة سفر كرومر إلى بلاده، وقد خطب هذا في حفلة أقيمت لوداعه فهاجم الخديوي عباساً والمصريين على مسمع من حسين والشيخ دون أن يحركا ساكناً:
فكأنك الداء العياء رحيلا
لما رحلت عن البلاد تشهدت
أدب لعمرك لا يصيب مثيلا
أوسعتنا يوم الوداع إهانة
مثلت فيه المبكيات فصولا
في ملعب للمضحكات مشيد
وتصدر الأعمى به تطفيلا
شهد الحسين عليه لعن أصوله
والمرء إن يجبن يعش مرذولا
جبن أقل وحط من قدريهما
ولكن من العجائب أن ينسى شوقي إساءة الأمير حسين هذا بعد حين، فيمدحه ويمدح معه الإنكليز، الذين خلعوا سيده عباساً وجاءوا بحسين سلطاناً مكانه على مصر. فيعتبر عمل الإنكليز هذا خدمة لمصر وحفظاً للوائها، ويشبههم بالمسلمين الأولين ويسميهم الأحرار العادلين:
أرقى الشعوب عواطفاً وميولا
حلفاؤنا الأحرار ألا إنهم
ساروا سماحاً في البلاد عدولا
لما خلا وجه البلاد لسيفهم
ملكاً عليها صالحاً مأمولا
وأتوا بكابرها وشيخ ملوكها
والأغرب من ذلك أن يتوارد في كلتا القصيدتين على رويّ واحد وبحر واحد دون أن يتذكر تناقضه العجيب!
ولكن شوقي لا يفوته أن يعتذر عن هذا التناقض بين أمس واليوم، فالذي يهمه هو أن يظل الحكم في آل محمد علي لا فرق بين واحد وواحد منهم. لذلك يرى من الوفاء أن ينصر كل ذي سلطان يقوم من أبناء إسماعيل:
ولقد ولدت بباب إسماعيلا!
أأخون إسماعيل في أبنائه(10/233)
وهكذا كان موقف شوقي من الأتراك فهو بدافع من عرقه التركي يرى الخلافة لا تصلح إلا لهم، ويؤيد سياسة عبد الحميد فيعتبر عهده عهد الرحمة والعدالة والخير، إلاّ أنه لا يرى بأساً أن تنتقل الخلافة إلى أخيه محمد رشاد بعد ذلك، فيبايع هذا ويمدح الدستوريين الذين خلعوا عبد الحميد!. . لأن المهم في نظره أن يبقى السلطان للأتراك، ولذلك نقم شوقي أول الأمر من الشريف حسين لثورته وتعاونه مع الإنكليز، ولما ألغى مصطفى كمال الخلافة خشي أن توسد إلى الشريف حسين، فأخذ يحذر المسلمين من ذلك، ويصف الشريف حسيناً بالمعجز والإضرار للمسلمين:
عزل يدافع دونه بالراح
لا تبذلوا برد النبي لعاجز
واليوم مدّ لهم يد الجراح
بالأمس أوهى المسلمين جراحة
وعلى الرغم من انقطاع علاقة الأتراك بمصر والبلاد العربية ظل شوقي متصل القلب بهم يراقب حوادثهم، وبهذا الحافز اندفع إلى مدح مصطفى كمال عند انتصاره على اليونان، بقصيدة عارض بها (عمورية) أبي تمام، فكانت صورة عن عواطفه نحو الأتراك، وترجماناً عن شعوره العميق بالأخوة الإسلامية التي لا تفرق بين جنس وجنس:
يا خالد الترك جدد خالد العرب
الله أكبر كم في الفتح من عجب!
على الصعيد وخيل الله في السحب
يوم كبدر فخيل الحق راقصة
بدرية العود والديباج والعذب
غر تظللها غراء وارفة
من سكرة النصر لا من سكرة النصب
نشوى من الظفر العالي مرنحة
مشي المجلى إذا استولى على القصب
حتى تعالى أذان الفتح فاتأدت
2- التطور في أفكاره السياسية:(10/234)
على أن تبدل الأوضاع السياسية في البلاد العربية والإسلامية عقيب الحرب العالمية الأولى أثر في عقلية شوقي تأثيراً كبيراً، فقد عاد شوقي من منفاه في الأندلس بعد الحرب، فوجد كل شيء قد تغيّر، فقل اتصاله بالقصر، ويئس من موقف الأتراك بعد إلغائهم الخلافة، فأتيح له بذلك أن يلتفت إلى الشعب المصري وأن يتأثر بحوادث النضال الوطني في البلاد العربية. وهكذا بدأ مرحلته الجديدة كشاعر [1] للمجتمع، ومذ ذلك العهد أقبل شوقي على الاهتمام بقضايا الشعب المصري والأمة العربية، يسجل آلام العرب وآمالهم وكفاحهم في شعر وجداني رفيع.
وقد تفتقت بواكير حنينه إلى وطنه أثناء نفيه عنه، ففي المنفى نظم شوقي طائفة من أروع شعره الوطني الخافق بالعواطف:
أو أسا جرحه الزمان المؤسى!
وسلا مصر: هل سلا القلب عنها
نازعني إليه في الخلد نفسي
وطني لو شُغِلْتُ بالخلد عنه
وهكذا اتجه همّ شوقي إلى الدفاع عن مصر وحريتها، فيرسل أشعاره الثائرة هجوماً على الأجنبي وتنديداً بأعماله، وإثارة للأحزاب المصرية إلى التعاون ونبذ التخاصم:
وهذي الضجة الكبرى علام؟
إلام الخلف بينكم إلام
وتبدون العداوة والخصاما؟
وفيم يكيد بعضكم لبعض
وفي هذا الجو الجديد من حياة شوقي ينسى حملته على الشريف حسين بالأمس، ويرثيه بقصيدة من خير شعره، حتى ليَشغَل بمأتمه السماء والأرض:
قام فيها أبو الملائك هاشم
لك في الأرض والسماء مآتم
وبديل التهم الجارحة التي وجهها إليه في خروجه على الخلافة يعود الآن ليفرغ على عمله طابع القداسة، فيشبهه بالحق الذي يؤلف بين المؤمنين:
ن وزاد ائتلافهم وهو نائم
أنت كالحق ألف الناس يقظا
ويعتبر ثورته إلى جانب الإنجليز موقفاً يستحق أحسن المديح:
لم يقفه للعرب قبلك خادم
حبذا موقف غلبت عليه(10/235)
ولذلك لا يرى كفؤاً لغسله إلا وضوء النبيين، ولا لتكفينه إلا رقعا من مواضع صلواتهم، ولا يصلح لضم جثمانه إلا نعش مؤلف من أعواد المنبر النبوي، ولا لحمله إلا ظهر البراق الذي كان مركب الرسل من قبل:
سل كالورد في رباه البواسم
اغسلوه بطيب من وضوء الر
رقعة كفنوا بها فرع هاشم
وخذوه من وسادهم في المصلى
عوداً ومن شريف القوائم
واستعيروا لنعشه من ذرى المنبر
فقد جل عن ظهور الرواسم
واحملوه على البراق إن اسطعتم
على أن أروع ما انطوت عليه تلك القصيدة حديثه عن واقع المسلمين تحت أوزار الاستعمار، وما خبره من مغامرة المرثي في نصرة هؤلاء الأراقم:
كيف غامرت في جوار الأرقم
قم تحدث أبا علي إلينا
حمل في وليمة الذئب طاعم
كلنا وارد السرّاب، وكل
ووردنا الوغى فكنا الغنائم
قد رجونا من الغنائم حظاً
وأكثر ما يتجلى هذا التطور في قصائده التي يسجل بها كفاح دمشق وسورية في طلب الحرية، ومن أشهر شعره الجديد قصيدتاه عن دمشق (سلام من صبا بردى..) و (قم ناج جلق. .) وفي كليتيهما يقف شوقي موقف المؤرخ الواصف الناصح المحرض:
ومرضعة الأبوة لا تعق
ألست دمشق للإسلام ظئرا
وألقوا عنكم الأحلام ألقوا
بني سورية اطّرحوا الأماني
بألقاب الإمارة وهي رق
فمن خدع السياسة أن تغروا
فإن رمتم نعيم الدهر فاشقوا
وقفتم بين موت أو حياة
بكل يد مضرجة يدق
وللحرية الحمراء باب
وهكذا أصبح شعر شوقي وتراً حساساً يسجل جميع الاهتزازات التي تعتري البلاد العربية فلا تجد حادثة من حوادثها السياسية إلا تركت آثارها في قلبه وشعره, فهو بذلك صاحب فكرة توجيهية تستهدف بعث الحمية بتذكير العرب ماضيهم المجيد، ودفعهم إلى بناء حاضرهم الجديد، وإلى هذا يشير بقوله:
ق وكان العزاء في أحزانه
كان شعري الغناء في فرح الشر(10/236)
وليس الشرق في نظر شوقي إلا وطن العرب والإسلام، تربطه به روابط اللغة والتاريخ ثم الآلام والآمال المشتركة:
ولكن كلنا في الهم شرق
نصحت ونحن مختلفون داراً
بيان غير مختلف ونطق
ويجمعنا - إذا اختلفت بلاد-
3- شعر شوقي الاجتماعي:
والاجتماعيات عند شوقي ممزوجة بشعره السياسي والتاريخي أو مستقلة في قصائد خاصة، وقد أفرد لهذه الأغراض الثلاثة باباً خاصاً في ديوانه.
وتتفاوت أساليب شوقي في الاجتماعيات، فبعضها أناشيد للأحداث، وبعضها حكايات خرافية على ألسن الحيوان, وبعضها الآخر يتناول موضوعات عامة ممّا يتصل بحياة المجتمع مباشرة، كالمرأة والتعليم والعمال والأخلاق والعلاقات الدينية وغير ذلك.
أ- المرأة: كان موضوع المرأة:تعليمها وحجابها وسفورها من مشاكل العصر أيام شوقي, لذلك لم يجد مندوحة عن الكلام في هذا الشأن فهو يرى أن تعليم المرأة أمر لابد منه لإنشاء الجيل الصالح:
رضع الرجال جهالة وخمولا
وإذا النساء نشأن في أمية
هم الحياة وخلفاه ذليلا
ليس اليتيم من انتهى ابواه
أماً تخلت أو أباً مشغولا
إن اليتيم هو الذي تلقى له
ويا ليته وقف عند مثل هذه الجوانب الهامة من قضية المرأة, فوعظ وأرشد وأصلح, ولكنه لم يستطع فزج بنفسه إلى مواقف لم يحسن التخلص منها, إذ راح أولاً يؤيد ميول البلاط بالدفاع عن الحجاب, ثم لم يلبث أن انساق في التيار الذي ألفه في أوروبة والبوسفور, فانقلب يزين للمرأة سبيل الزيغ, الذي بدأ في مصر منذ الاحتلال الفرنسي, ثم استأنف سيرته على يد السافرة الأولى هدى شعراوي ...(10/237)
ب-الدين في شعر شوقي: ويرى شوقي كيف يستغل الأجنبي الفوارق الدينية بين أبناء وطنه, فيهاجم التعصب ويدعو إلى الأخوة, ويلفت نظر المواطنين إلى الأهداف الإنسانية المستركة بين المسيحية والإسلام, صيانة للمجتمع من التفكك الذي يسهدفه العدو. وكثيراً ما يكرر شوقي هذه المعاني توكيداً لها, كما يفعل في مدح السيد المسيح والإشادة برسالته الإنسانية القائمة على المحبة والرحمة:
والمروءات والهدى والحياء
ولد الرفق يوم مولد عيسى
من الفجر في الوجود الضياء
وسرت آية المسيح كما يسري
وكما تعثر شوقي في ميدان المرأة أخذه (الشطح) في ميدان التزلف إلى أصدقائه من النصارى, فأكثر من التعابير النصرانية, وخص الصليب بالكثير من الرعاية في أكثر من قصيدة.. حتى إن المدقق في معانيه هذه لا يكاد يحس فرقاً بين لهجته تلك ولهجة أي نصراني يؤمن بهذه المصطلحات.
ولا غرابة فشوقي مأخوذ بجواذب البيئة التي افتعلها السياسة في مصر وغير مصر من البلاد العربية، التي حاول رجال السياسة المسلمون فيها إحباط المساعي الاستعمارية لاستغلال الأقليات المسيحية، فراحوا يتزلفون إلى هذه الأقليات بكل ما يظنونه محققاً لأهدافهم الوطنية. . . ولو أدى ذلك إلى تقديس ما يعتبر في عقيدتهم الإسلامية من المنكرات بل المكفرات. . .
وبمثل هذا الاندفاع غير الواعي استسلم شوقي لبعض الأفكار غير السليمة في مدائحه النبوية، فشوه جمالها بتلك الانحرافات، التي التقطها من ألسنة (الدراويش) وكتبهم. . دون أن يسمح لعقله بالتفكير في محتوياتها الشاردة عن نطاق التوحيد. . وحسبنا أن نشير من ذلك إلى قوله - في نهج البردة - مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم:
مفرج الكرب ف الدارين والغُمَمِ
ألقى رجائي - إذا عز المجير - على
قدمت بين يديه عبرة الندم
وإن تقدم ذو تقوى بصالحة(10/238)
وقد نسي شوقي في غمرة التقليد ألا مفرج لكرب إلا الله، وأن عبرة الندم لا تكسب إلا بين يديه سبحانه.. كما علمنا رسوله صلوات الله وسلامه عليه.
وأبعد في التقليد من ذلك قوله في همزيته:
ومن المديح تضرع ودعاء
ما جئت بابك مادحاً بل داعياً
في مثلها يلقى عليك رجاء.
أدعوك عن قومي الضعاف لازمة
ومثل شوقي لا يعذر إذا جهل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الدعاء هو العبادة ", و "الدعاء مخ العبادة ", ولكنه التقليد الضرير الذي يحشر العقلاء في زمرة السفهاء.
ولعل وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الهمزية بمثل قوله:
لولا دعاوى القوم والغلواء
الاشتراكيون أنت إمامهم
لا يقل تخبطاً عن زلاته تلك، فهو بهذا النعت يسيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث يظن أنه يمدحه، كأولئك {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} . وليت شوقيّا تأخرت به الأيام إلى عهود (الثوريات الاشتراكية) وشاهد ما لقيت أمته على أيدي هؤلاء الاشتراكيين من الذل والعار والضياع. . إذن لعض يديه ندماً على ما فرط. . ولحاول تدارك ما تفلت به لسانه بقصائد تكفر بعض هاتيك السيئات.
ومما يلفت النظر ف هنوات شوقي هذه أنها تلاحقه في معظم إسلامياته حتى ليقول للسلطان عبد الحميد عليه رحمة الله:
وحمدك يا أمير المؤمنينا
بحمد الله رب العالمينا
فيسوي في استحقاق المحمدة بينه وبين الله عز وجل، دون أن يفطن لخطر التعبير، الذي حذر منه رسول الله عليه وسلم أشد التحذير، حين قال للرجل الذي سوى بين مشيئة الله ومشيئة رسوله: "أجعلتني لله ندا؟ . . . قل ما شاء الله ثم شئت".
4- شوقي والعمال:(10/239)
ويدعو شوقي لإتقان العمل، ويرى أن العمال المتقين هم عمار الأرض، لذلك يحث عمال مصر على الجد والإتقان، ويذكرهم بماضي أجدادهم وما تركوه من آثار عمرانية رائعة، ليستعيدوا بعزائمهم ذلك العهد المجيد:
أيها العمال: أفنوا العمر. . . . . كداً واكتساباً
واعمروا الأرض فلولا. . . سعيكم أمست يبابا
إن للمتقين عند الله والناس ثوابا
أرضيتم أن ترى مصر من الفن خرابا
بعدما كانت سماء للصناعات وغابا
5- الأخلاق في نظر شوقي:
كان شوقي كثير الدعوة إلى الأخلاق يراها الأساس الأول لقوة الأمة، وقد حرص على تريد هذه الدعوة في كثير من قصائده، ومن مشهور أقواله في ذلك:
فإن هُم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
وهذا الرأي في قيمة الأخلاق دعاه إلى مخافة القول المألوف (الحق للقوة) إذ راح يذكر القائد الصليبي الجديد، اللورد (اللنبي) بأن للحق لا للقوة الغلبا. .
وهناك قصائد عديدة من شعر شوقي الاجتماعي يتغلغل بها إلى صميم القضايا الاجتماعية الوطنية والإنسانية تتفاوت في مقدار حظها من الجمال. ومن أروعها قصيدة (مصاير الأيام) وفيها يتحدث عن حياة الطفولة والمدرسة، و (مملكة النحل) وفيها يضرب المثل للجد وأثر العمل في ميزان الحياة.
وبالإجمال فشوقي في شعره الاجتماعي مصلح يريد الأمة قبل الفرد. وقد بلغ من أمره هذا ما جعله شاعر الشعب بل شاعر الشرق الإسلامي كما يقول أحد دارسيه.
6- شعره الوصفي:
للوصف في شعر شوقي نصيب كبير وفي وصفه روائع حلق بها إلى آفاق بعيدة، ويعتبر من أبرع الوصافين في عصر النهضة وبخاصة من حيث الصور المادية التي كان بها أكثر توفيقاً منه في الصور المعنوية.(10/240)
ومن وصفه القديم كوصف الخمرة والمرأة والطبيعة، ومنه الحديث كوصف الرقص والطيارة والغواصة وحضارة الغرب، وقد تناول في وصفه بعض الموضوعات المطروقة من قبل فأخرجها في صور جديدة بارعة،، كوصفة آثار الفراعنة والحرب والمدن المنكوبة، وهو غني الصور في وصفه يمتاز بسعة الخيال ووفرة الألوان، ولعل أفضل وصفه ما قصد به إلى العبرة والموعظة، كوصفه نكبة دمشق والمسجد الأموي وقصر الحمراء.
ولقد فتن شوقي بجمال دمشق فهو يراها جنة من جنان الله، بل هي بالنسبة للأرض حديقتها التي تسكب عليها الجمال، وبردى في نظره حارس هذه الجنة، يخرج مصفقاً لاستقبال نزلائها، أما غوطتها فهي زمردة خضراء، وليست منتزهاتها إلا ملاعب ومسارح. . .
كما تلقاك دون الخلد رضوان
جرى وصفق يلقانا بها بردى
والشمس فوق لجين الماء عقيان
دخلتها وحواشيها زمردة
حُور كواشف عن ساق وولدان
والحَوْر في دمّر أو حول هامتها
الساق كاسية والنحر عريان
وربوة الواد في جلباب راقصة
لدى ستور حواشيهن أفنان
وقد صفا بردى للريح فابتردت
هكذا يمضي شوقي في هذا الوصف المترف لدمشق، فيجمع فيه من الألوان والظلال وصور البهجة واللهو ما يعبر عن طبيعته المشبعة بالترف النزاعة إلى اللذائذ.
وإذا وقف شوقي أمام آثار مصر القديمة غَمَره الخشوع، وتفاعلت نفسه بذكريات حزينة على مجد ضائع، فيعرض ما يراه من تلك الآثار ممزوجاً بأحاسيسه النفسية، في صور دقيقة تفرغ الحياة على تلك الجمادات. فلنستمع إليه يصف هيكل أنس الوجود بأسوان وقد غرق بعضه في الماء، وانتصب بعضه في الفضاء:
كالثريا تريد أن تنقضا
أيها المنتحي بأسوان داراً
لا تحاول من آية الدهر غضا
اخلع النعل واخفض الطرف واخشع
ممسكاً بعضها من الذعر بعضا
قف بتلك القصور في اليم غرقى
وشباب الفنون ما زال غضا(10/241)
شاب من حولها الزمان وشابت
وليست أطلال العرب بأقل أثراً في نفس شوقي من أطلال الفراعنة، ففي كلتيهما ما يوقظ أساه على هذه الأمة، التي خسرت أمجادها، فلم يبق لها منها سوى هذه الأطلال المحركة لعميق الذكريات.
هاهو ذا يصف قصر الحمراء في الأندلس، فتكاد تلمح الدموع تجول في مقلتيه، وتسمع الآهات تسيل على شفتيه:
ء مَشْيَ النعِيِّ في دار عرس
مشت الحادثات في غرف الحمرا
سدة الباب من سمير وأنس
هتكت عزة الحجاب وفضت
مقفر القاع من ظباء وخُنس
وترى مجلس السباع خلاء
كلة الظفر لينات المجس
مرمر قامت الأسود عليه
وكدأبه في مثل هذا الموقف تتداعى في خياله صور الماضي ممزوجة بعبر الحاضر، فيعرض هذا المشهد التاريخي الرهيب لخروج آخر فوج لمسلمي الأندلس:
عن حفاظ كموكب الدفن خُرس
خرج القوم في كتائب صم
تحت آبائهم هي العرش أمس
ركبوا بالبحار نعشاً وكانت
فهذا وصف دقيق عميق، تمتزج فيه المعنويات بالمحسوسات، امتزاجاً حياً مؤثراً يبعث الروح في أطلال الماضي بما فيها من الروعة والرهبة.
أما وصفه لمظاهر المدنية الحديثة، فلا نكاد نلمس من خلاله ما ألفناه من ذلك التأثر العميق الذي نحسه في وصفه لآثار العرب والفراعنة, أنظر إليه يصف الغواصة تجده يدقق في وصف خطرها، وتتبع حركاتها، وسرعة عملها، دون أن تحس بحرارة العاطفة:
لجج السند وخلجان الخزر
بعث البحر بها كالموج من
ليس دون الله تحت الليل سر
ضربتها وهي سر في الدجى
ونزت جنباً وناءت من أُخر
وجفت قلباً وخارت جوء جؤاً
فأتاها حَيْنها فهي خبر
طُعنت فانبجست فاستصرخت
فهو وصف معركة بين الغواصة والسفينة يروعنا بقوة تعبيره دون تأثيره.(10/242)
ومثل ذلك ما نراه في وصفه للطائرة، فهي لا تخرج عن كونها مركباً عجيباً، أشبه بالجواد، ملجماً مهيأ للركوب في كل لحظة:
كان إحدى معجزات القدماء
مركب لو سلف الدهر به
يا لها إحدى أعاجيب القضاء
نصفه طير ونصف بشر
كامل العدة مرموق الرواء
مسرج في كل حين ملجم
7- الرثاء في شعر شوقي:
أكثر شوقي من الرثاء حتى عيب عليه ذلك فرد عن نفسه مدافعاً:
أأملت عند الراحلين الجوازيا؟
يقولون: يرثي الراحلين فويحهم
لم يتكسب برثائه ولكنه لم يرث بدافع من الحزن وحده، بل هناك دوافع شتى، كالمجاملة وحب الشهرة, ومرثيوه من طبقات مختلفة, سياسيون وأدباء وأجانب. . ومن خصائص رثائه ضعف العاطفة - حتى في أبويه - ثم التفلسف وكثرة الحكم، تقليداً للقدامى. فهو رثاء عقلي واعٍ، يقوم على هذه العناصر مضافاً إليها تعداد المناقب والمآثر, لنستمع إليه يرثي والده فينسى وصف حزنه بهذا التفلسف البارد:
لقي الموت كلانا مرتين
أنا من مات ومن مات أنا
ثم صرنا مهجة في بدنين
نحن كنا مهجة في بدن
وتموت أمه وهو منفي فلا يتمالك أن يتخذ من موتها فرصة لمعارضة قصيدة المتنبي في جدلة قافية ووزناً ومعنى، فيصيبه الإخفاق لما يبدو على قصيدته من التقليد الباهت، وبخاصة في الحكمة التي حاول أن يحاكي بها المتنبي، فجاءت فارغة جوفاء أو مسروقة محرفة:
أصاب سويداء الفؤاد وما أصمى
إلى الله أشكو من عوادي النوى سهما
ولا كلقاء الموت من بينها حتما
ولم أرَ حكماً كالمقادير نافذاً
سبيل يدين العالمون به قدما
إلى حيث آباء الفتى يذهب الفتى
لي اليوم منها كان بالأمس لي وهما
زجرت تصاريف الزمان فما يقع
وهكذا تخون العاطفة شوقياً في رثاء أقرب الناس إليه، فلا ينتظر أن يكون أشد عاطفة في رثاء الآخرين.(10/243)
ولكن هذا لا يمنعه أن يجعل من بعض مراثيه صوراً بارعة، تهز النفوس بما فيها من قوة الحبك وروعة العبرة، كالذي نجده في رثائه لسعد وعمر المختار والحسين وفوزي الغزى، ولقد يبالغ في بعض هذه المراثي كما يصنع في سعد على طريقة أبي تمام:
وانحنى الشرق عليها فبكاها
شيعوا الشمس ومالوا بضحاها
يوشع همت فنادى فثناها
ليتني في الركب لما أفلت
ولكنها مبالغات مقبولة في هذا الموقف، إذ تمثل هول الفاجعة بقائد ركزت عليه الدعاية أنظار مصر والبلاد العربية جميعاً. . ثم يأخذ في تعداد مناقب سعد وأثر موته. . .
من رحيق الوطنيات سقاها
طافت الكأس بساقي أمة
ساحر رن ملياً فشجاها
عطلت آذانها من وتر
ودها الأجيال منه ما دهاها
قدر بالمدن ألوى والقرى
ومن خصائص شوقي في رثائه أنه يتحدث إلى الأموات فيسألهم ويخبرهم، فهو يخاطب الحسين بن علي فيسأله عن السبب الذي دفعه إلى التعاون مع الإنكليز:
كيف غامرت في جوار الأراقم
قم تحدث أبا علي إلينا
ويسأل رياض باشا عن أسرار الموت:
حديث الموت تبد لي العظات
رهين الزمن حدثني ملياً
وكيف مذاقها، ومن السقاة!
سألتك: ما المنية، أي كأس
ويلاحظ أن شوقياً إنما يلجأ إلى ذلك التهويل وهذه التساؤلات والتأملات ستراً لنقصه العاطفي في مواقف الرثاء, على أن أجمل رثائه ما بكى فيه ممالك المسلمين ومدنهم المنكوبة كالحمراء ودمشق وأدرنة، وما بكى فيه زوال الخلافة على يد أياتورك. ففي هذه المراثي يذوب قلب شوقي حسرة وألماً، فيأتي رثاؤه نابضاً بالحس مائجاً بالحياة. وأنى لشاعر غير شوقي أن يعرض مسجد بني أمية في مثل هذه الصورة الحزينة العميقة الباكية:
هل في المصلىّ أو المحراب مروان؟
مررت بالمسجد المحزون أسأله
على المنابر أحرار وعُبدان
تغير المسجد المحزون واختلفت(10/244)
إذا تعالى، ولا الآذان آذان
فلا الأذان أذان في منارته
وأنىّ لغير الأعلين من فحول الشعراء أن يرتفعوا بمعانيهم وأخيلتهم وصياغتهم إلى مستوى الكارثة الكبرى المتمثلة بسقوط الخلافة، كما صنع شوقي؟
لقد أنشد في انتصار الطاغية على أوشاب اليونان أحفل قصائده بألَق البهجة والاعتزاز، فلما فوجئ بانقلابه المجرم على خلافة المسلمين، لم يستطع أن يحبس مشاعره الثائرة، فانطلق يندب تلك العروس التي اغتيلت ليلة الزفاف، بأيدي الذين تظاهروا بإنقاذها من أيدي أعدائها، وقد أعماهم الهوى حتى نسوا أن التي بها يفتكون إنما هي وشيجة فخرهم ومرتكز مآثرهم وأمجادهم، فعزهم يهدمون، وشرفهم يثلمون، ووحدة المسلمين يمزقون:
قتلت بغير جريرة وجناح
يا للَرجال لحرة موءودة
قتلتك سلمهمو بغير جراح
إن الذين أست جراحك حربهم
مَوْشِيةً بمواهب الفتا.
هتكوا بأيديهم ملاءة فخرهم
كانت أبر علائق الأرواح
وعلاقة فصمت عرى أسبابها
في كل غدوة جمعة ورواح
نظمت صفوف المسلمين وخطوهم
وفي غمار النكبة لا يفوته أن يوجه إلى العالم الإسلامي، وبخاصة الشعب التركي، بعض ما يستحقه من التقريع، على ما أحاط به ذلك الغادر من أمواج الحب والإعظام، التي أوهمته أن المسلمين سيصفقون لكل قرار يصدره ولو كان فيه تخريب الكيان الإسلامي بأسره:
لم تسلُ بعد عبادة الأشباح
تركته كالشبح المؤلّهِ أمة
حتى تناول كل غير مباح
هم أطلقوا يده كقيصر فيهمو
ويا لها وثبة عبقرية تلك التي تطل بشوقي على ما وراء مصرع الخلافة من فتوق، تفتح على العالم ما لا يمكن حصره من الآفات والكوارث، التي كانت الخلافة الناظمة لوحدة المسلمين هي الحاجز الواقي دونها، فبزوالها سيكون المسلمون فريسة لكل طامع، ونهبة لكل فتنة يثيرها الدجالون من المتقاتلين على تركة الخلافة:(10/245)
لم يوحها غير النصيحة واحي
مَن قائل للمسلمين مقالة
يدعو إلى (الكذاب) أو لـ (سجاح)
فَلَتَسمعُنّ بكل أرض داعياً
فيها يباع الدين بيع سماح
وَلَتَشهدُنّ بكل أرض فتن
ويأبى القدر إلا أن تتحقق توقعات شوقي فتمتلئ دنيا المسلمين خلال نصف قرن بالعشرات من أمثال (مسيلمة) وصاحبته (سجاح) . . . ولا حول ولا قوة إلا بالله!. . .
8- شعر شوقي التمثيلي:
كان اللبنانيون أسبق الجميع إلى معالجة الفن المسرحي تقليداً للغربيين، وقد سبقوا إلى ترجمة المسرحيات الغربية، وإلى تمثيل بعضها، ثم ما لبثوا أن اتجهوا إلى وضع المسرحيات نثراً وشعراً.
ولما جاء شوقي كان الشعر التمثيلي العربي لا يزال يحبو في دور الطفولة، وكان شوقي قد تشبع بهذا الفن بما قرأ من التمثيليات الغربية وبما شهد منها على المسارح الأجنبية، مما أحدث في نفسه ميلاً إلى معالجة هذا الفن، فكانت أولى محاولاته في فرنسة، إذ وضع أول تمثيلية ولكنه لم ينشرها، وانصرف عن ذلك الاتجاه زمناً حتى أتيح له أن يعود إليه بعد عودته من المنفى، وهنا أخذ شوقي في وضع تمثيلياته الشعرية التي قفزت بشهرته إلى الأوج، وكانت بنفسها حدثاً أدبياً كبيراً في عالم الشعر العربي الحديث، دفعه إلى ما نحسه اليوم في هذا الفن من حيوية تضمن له البقاء. ويمكن حصر هذا التأثير في ثلاثة أشياء:
أ - في الوزن: كان الشعر التمثيلي قبل شوقي مقيداً بوحدة البحر في مجموع التمثيلية، فحطم شوقي هذا القيد، وجعل تمثيليته متعددة الأوزان يتنقل بها بين البحر والبحر، فيكسبها مرانة وحرية.
ب - القافية: وكانت القافية في الشعر التمثيلي قبله واحدة في مجموع المسرحية، مما يبعث الملال في نفس القارئ والناظر، فحطم شوقي هذا القيد الآخر، إذ خرج بأشعار التمثيلية من القافية الواحدة إلى القوافي التعددة، في رشاقة محببة تبعث في التمثيلية القوة والحياة.(10/246)
ج - الحوار: وكذلك كان الحوار قبل شوقي في جمود يخالف طبيعة الحياة، وذلك أن شخص القصة لا يتم عبارته في أقل من بيت، فأجهز شوقي على هذا القيد الأخير، فإذا هو يتصرف في الحوار تصرفاً بارعاً، فيوزع البيت الواحد أحياناً بين عدة متكلمين من شخصيات القصة.
وهكذا نرى لشوقي فضلاً لا يجحد في إخضاع الشعر لفن التمثيل، فقد حرره من ثقل القيود فخالف في أنواعه، وخالف في أوزانه، وخالف في قوافيه، وذلل مطية الحوار، فقربه من طبيعة الواقع، وبذلك اتسع أمامه مجال القول وانطلق له عنان الفكر والخيال، وقد ساعدت شوقياً على مهمته هذه شاعريته المتدفقة، التي حجبت الكثير من نواحي ضعفه في هذا الفن، فقد ينقصه التوفيق الفني في بعض مشاهد تمثيلياته، ولكنه يعوض عن ذلك بوثبات شعرية رائعة تأخذ باب السامع والقارئ. . .
ومن خصائصه في تمثيلياته أن شعره يتلاءم مع مواقفه العاطفية فيلين موضع اللين، ويشتد موضع الشدة، ويغرق بالصور البدوية عندما يعالج الموضع البدوي - كمجنون ليلى - وبالصور المصرية القديمة عندما يعالج الموضوع المصري القديم - مثل كليوباترة - وفي جو هذه الألوان المتوافقة المنسجمة يكاد الناقد ينسى مواطن الضعف في النواحي التمثيلية من شعر شوقي.
9- مسرحيات شوقي:
بدأ شوقي ينشر مسرحياته منذ عام 1929 م فأخرج منها (كليوباترة، وعلي بك الكبير، ومجنون ليلى، وقمبيز، وأميرة الأندلس) . وقد بنى شوقي مسرحياته كلها على حوادث التاريخ، وأدخل في بعضها الأساطير، وجميعها من نوع المأساة الذي يقوم على الطابع الجدي المحزن.
وبعض مآسيه مستمد من التاريخ المصري (كليوباترة. . قمبيز. . علي بك الكبير) وبعضها من التاريخ العربي: مجنون ليلى. . أميرة الأندلس. . عنترة) .(10/247)
ولكن شوقي لا يتقيد في تمثيلياته بحقائق التاريخ، بل يتصرف فيها تصرف المِفنّ، فيغير ويبدل في الوقائع، ويدخل إليها أحداثاً من اختراعه، فيوفق حيناً ويخفق أحياناً، وقد أخذ عليه إدخال حوادث طفيلية على بعض مسرحياته كان من الخير لو تجنبها.
وهو في مجموع هذه المسرحيات يستهدف أغراضاً أخلاقية ومبادئ سامية كخير المجتمع، وتغليب الواجب على شهوات النفس. والحب عنصر رئيس في كل مآسيه، ولكن الواجب هو الذي ينتصر دائماً على الحب، كما هو الشأن في مآسي كورني.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الكاف زائدة، والاسم المجرور بها محله الحال، وهو من فصيح الكلام.(10/248)
العدد 29
فهرس المحتويات
1- الحجاب والسفور: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
2- من أعلام المحدثين - أبو عبد الله الذهبي (673 - 748 هـ) : بقلم الأستاذ عبد المحسن بن حمد العباد
3- أضواء على التفسير: بقلم فضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
4- رسائل لم يحملها البريد: بقلم فضيلة الشيخ عبد الرؤف اللبدي
5- من آثار معركة بدر: بقلم الأستاذ أحمد محمود الأحمد
6- لا يزال الإسلام رافع الرأس شديد البأس: لفضيلة الشيخ محمود عبد الوهاب فايد
7- بحوث في تاريخ الأديان: بقلم فضيلة الشيخ محمد محمد أبو فرحة
8- صرخة إشفاق: لفضيلة الشيخ محمد محمد خليفة
9- نظرة في غزو أحد من خلال الآيات التي نزلت فيها:لفضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي
10- النبأ الهائل: بقلم الشيخ محمد المجذوب
11- مع العارفين أعلام الهدى: لفضيلة الشيخ عبد الله الغنيمان
12- توحيد الله: بقلم الشيخ عبد الله أحمد القادري
13- ترجمة القرآن: للأستاذ محمد بن محمد الأنصاري
14- حول رسالة الجامعة - شباب الجامعات السعودية رواد حضارة وتقدم على طريق الإسلام: بقلم الأستاذ محمد أبو طالب شاهين
15- رسالة لسماحة رئيس الجامعة: بقلم الأمين العام محمد صالح القزاز
16- حقيقة طه حسين: لفضيلة الشيخ عبد العزيز الربيعان
17- الغضب وماتلاه: بقلم الأستاذ محمد إسماعيل بطرش
18- إلى جنة الرضوان: شعر سيد أحمد حسن الطوابي
19- من إيجابية الإيمان: بقلم الأستاذ محمد بن إبراهيم بخات
20- من روائع الكتب: اختيار العلاقات العامة من كتاب (دستور الأخلاق في القرآن)
21- من الصحف والمجلات: إعداد العلاقات العامة
22- ندوة الطلبة - الاشتراكيون في بورما يعملون على محو الإسلام: بقلم الطالب محمد صديق برماوي
23- إلى الفتاة المسلمة: حسن بن يحيى الذاري
24- أخبار الجامعة: إعداد العلاقات العامة
25- الفتاوى: يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(10/249)
الحجاب والسفور
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فلا يخفى على كل من له معرفة.. ما عمت به البلوى في كثير من البلدان من تبرج الكثير من النساء وسفورهن وعدم تحجبهن من الرجال وإبداء الكثير من زينتهن التي حرم الله عليهن إبداءها ولا شك أن ذلك من المنكرات العظيمة والمعاصي الظاهرة ومن أعظم أسباب حلول العقوبات ونزول النقمات لما يترتب على التبرج والسفور من ظهور الفواحش وارتكاب الجرائم وقلة الحياة وعموم الفساد.
فاتقوا الله أيها المسلمون وخذوا على أيدي سفهائكم وامنعوا نساءكم مما حرم الله عليهن والزموهن التحجب والتستر واحذروا غضب الله سبحانه وعظيم عقوبته فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه". وقد قال الله سبحانه في كتابه الكريم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} . وفي المسند وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية ثم قال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على أيدي السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم". وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".(10/250)
وقد أمر الله سبحانه في كتابه الكريم بتحجب النساء ولزومهن البيوت وحذر من التبرج والخضوع بالقول للرجال صيانة لهن عن الفساد وتحذيراً لهن من أسباب الفتنة فقال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية.(10/251)
نهى سبحانه في هذه الآيات نساء النبي الكريم أمهات المؤمنين وهن خير النساء وأطهرهن عن الخضوع بالقول للرجال وهو تليين القول وترقيقه لئلا يطمع فيهن من في قلبه مرض شهوة الزنا ويظن أنهن يوافقنه على ذلك وأمر بلزومهن البيوت ونهاهن عن تبرج الجاهلية وهو إظهار الزينة والمحاسن كالرأس والوجه والعنق والصدر والذراع والساق ونحو ذلك من الزينة لما في ذلك من الفساد العظيم والفتنة الكبيرة وتحريك قلوب الرجال إلى تعاطي أسباب الزنا وإذا كان الله سبحانه يحذر أمهات المؤمنين من هذه الأشياء المنكرة مع صلاحهن وإيمانهن وطهارتهن فغيرهن أولى وأولى بالتحذير والإنكار والخوف عليهن من أسباب الفتنة عصمنا الله وإياكم من مضلات الفتن ويدل على عموم الحكم لهن ولغيرهن قوله سبحانه في هذه الآية: {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فإن هذه الأوامر أحكام عامة لنساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن وقال عز وجل: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ} فهذه الآية الكريمة نص واضح في وجوب تحجب النساء عن الرجال وتسترهن منهم وقد أوضح الله سبحانه في هذه الآية أن التحجب أطهر لقلوب الرجال والنساء وأبعد عن الفاحشة وأسبابها وأشار سبحانه إلى أن السفور وعدم التحجب خبث ونجاسة وأن التحجب طهارة وسلامة.(10/252)
فيا معشر المسلمين تأدبوا بتأديب الله وامتثلوا أمر الله وألزموا نساءكم بالتحجب الذي هو سبب الطهارة ووسيلة النجاة والسلامة. قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} والجلابيب جمع جلباب والجلباب هو ما تضعه على رأسها للتحجب والتستر به، أمر الله سبحانه جميع نساء المؤمنين بإدناء جلابيبهن على محاسنهن من الشعور والوجه وغير ذلك حتى يعرفن بالعفة فلا يفتن ولا يفتن غيرهن فيؤذيهن، قال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة. وقال محمد بن سيرين: "سألت عبيدة السلماني عن قول الله عز وجل: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى …".(10/253)
ثم أخبر الله سبحانه أنه غفور رحيم عما سلف من التقصير في ذلك قبل النهي والتحذير منه سبحانه، وقال تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يخبر سبحانه أن القواعد من النساء وهن العجائز اللاتي لا يرجون نكاحاً لا جناح عليهن أن يضعن ثيابهن عن وجوههن وأيديهن إذا كن غير متبرجات بزينة فعلم بذلك أن المتبرجة بالزينة ليس لها أن تضع ثوبها عن وجهها ويديها وغير ذلك من زينتها وأن عليها جناحاً في ذلك ولو كانت عجوزاً لأن كل ساقطة لها لاقطة ولأن التبرج يفضي إلى الفتنة بالمتبرجة ولو كانت عجوزاً فكيف يكون الحال بالشابة والجميلة إذا تبرجت لا شك أن إثمها أعظم والجناح عليها أشد والفتنة بها أكبر وشرط سبحانه في حق العجوز أن لا تكون ممن يرجو النكاح وما ذاك والله أعلم إلا أن رجاءها النكاح يدعوها إلى التجمل والتبرج بالزينة طمعاً في الأزواج فنهيت عن وضع ثيابها عن محاسنها صيانة لها ولغيرها من الفتنة ثم ختم الآية سبحانه بتحريض القواعد على الاستعفاف وأوضح أنه خير لهن وإن لم يتبرجن فظهر بذلك فضل التحجب والتستر بالثياب ولو من العجائز وأنه خير لهن من وضع الثياب فوجب أن يكون التحجب والاستعفاف عن إظهار الزينة خيراً للشابات من باب أولى وأبعد لهن عن أسباب الفتنة، وقال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ(10/254)
لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
أمر الله سبحانه في هاتين الآيتين الكريمتين المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار وحفظ الفروج وما ذاك إلا لعظم فاحشة الزنا وما يترتب عليها من الفساد الكبير بين المسلمين ولأن إطلاق البصر من وسائل مرض القلب ووقوع الفاحشة وغض البصر من أسباب السلامة من ذلك ولهذا قال سبحانه: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} فغض البصر وحفظ الفرج أزكى للمؤمنين في الدنيا والآخرة وإطلاق البصر والفرج من أعظم أسباب العطب والعذاب في الدنيا والآخرة نسأل الله العافية من ذلك وأخبر عز وجل أنه خبير بما يصنعه الناس وأنه لا يخفى عليه خافية وفي ذلك تحذير للمؤمن من ركوب ما حرم الله عليه والإعراض عما شرع الله له وتذكير له بأن الله سبحانه يراه ويعلم أفعاله الطيبة وغيرها كما قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} وقال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيه} .(10/255)
فالواجب على العبد أن يحذر ربه وأن يستحي منه أن يراه على معصية أو يفقده من طاعته التي أوجب عليه ثم قال سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} فأمر المؤمنات بغض البصر وحفظ الفرج كما أمر المؤمنين بذلك صيانة لهن من أسباب الفتنة وتحريضاً لهن على أسباب العفة والسلامة ثم قال سبحانه: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال ابن مسعود رضي الله عنه: " {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يعني بذلك ما ظهر من اللباس فإن ذلك معفو عنه"ومراده بذلك رضي الله عنه الملابس التي ليس فيها تبرج وفتنة. وأما ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسر {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} بالوجه والكفين فهو محمول على حالة النساء قبل نزول آية الحجاب وأما بعد ذلك فقد أوجب الله عليهن ستر الجميع كما سبق في الآيات الكريمات من سورة الأحزاب وغيرها ويدل على أن ابن عباس أراد ذلك ما رواه علي ابن أبي طلحة عنه أنه قال أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة وقد نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم والتحقيق، وهو الحق الذي لا ريب فيه ومعلوم ما يترتب على ظهور الوجه والكفين من الفساد والفتنة وقد تقدم قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} ولم يستثن شيئاً وهي آية محكمة فوجب الأخذ بها والتعويل عليها وحمل ما سواها عليها والحكم فيها عام في نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من نساء المؤمنين وتقدم من سورة النور ما يرشد إلى ذلك وهو ما ذكره الله سبحانه في حق القواعد وتحريم وضعهن الثياب إلا بشرطين: أحدهما كونهن لا يرجون النكاح.. والثاني عدم التبرج بالزينة، وسبق الكلام على ذلك وأن الآية المذكورة حجة ظاهرة وبرهان قاطع على تحريم سفور النساء وتبرجهن(10/256)
بالزينة.. ويدل على ذلك أيضاً ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك أنها خمرت وجهها لما سمعت صوت صفوان بن المعطل السلمي وقالت: إنه كان يعرفها قبل الحجاب. فدل ذلك على النساء بعد نزول آية الحجاب لا يعرفن بسبب تخميرهن وجوههن.. ولا يخفى ما وقع فيه النساء اليوم من التوسع في التبرج وإبداء المحاسن فوجب سد الذرائع وحسم الوسائل المفضية إلى الفساد وظهور الفواحش ومن أعظم أسباب الفساد خلوة الرجال بالنساء وسفرهم بهن من دون محرم.. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم ولا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ". وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما ". وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يبيتن رجل عند امرأة إلا أن يكون زوجاً أو ذا محرم " رواه مسلم في صحيحه فاتقوا الله أيها المسلمون وخذوا على أيدي نسائكم وامنعوهن مما حرم الله عليهن من السفور والتبرج وإظهار المحاسن والتشبه بأعداء الله من النصارى ومن تشبه بهم واعلموا أن السكوت عنهن مشاركة لهن في الإثم وتعرض لغضب الله وعموم عقابه عافانا الله وإياكم من شر ذلك ومن أعظم الواجبات تحذير الرجال من الخلوة بالنساء والدخول عليهن والسفر بهن بدون محرم لأن ذلك من وسائل الفتنة والفساد وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء". وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء".. وقال عليه الصلاة والسلام: "رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة". وقال صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أهل النار لم أرهما بعد نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، ورجال بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون بها(10/257)
الناس"وهذا تحذير شديد من التبرج والسفور ولبس الرقيق والقصير من الثياب والميل عن الحق والعفة وإمالة الناس إلى الباطل وتحذير شديد من ظلم الناس والتعدي عليهم ووعيد لمن فعل ذلك بحرمان دخول الجنة نسأل الله العافية من ذلك ومن أعظم الفساد تشبه الكثير من النساء نساء الكفار من النصارى وأشباههم في لبس القصير من الثياب وإبداء الشعور والمحاسن ومشط الشعور على طريقة أهل الكفر والفسق ووصل الشعر ولبس الرؤوس الصناعية المسماة (الباروكة) .. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" ومعلوم ما يترتب على هذا التشبه وهذه الملابس القصيرة التي تجعل المرأة شبه عارية من الفساد والفتنة ورقة الدين وقلة الحياء فالواجب الحذر من ذلك غاية الحذر ومنع النساء منه والشدة في ذلك لأن عاقبته وخيمة وفساده عظيم ولا يجوز التساهل في ذلك مع البنات الصغار لأن تربيتهن عليه يفضي إلى اعتيادهن له وكراهيتهن لما سواه إذا كبرن فيقع بذلك الفساد والمحذور والفتنة المخوفة التي وقع فيها الكبيرات من النساء..(10/258)
فاتقوا الله عباد الله واحذروا ما حرم الله عليكم وتعاونوا على البر والتقوى وتواصوا بالحق والصبر عليه واعلموا أن الله سبحانه سائلكم عن ذلك ومجازيكم على أعمالكم وهو سبحانه مع الصابرين ومع المتقين والمحسنين فاصبروا وصابروا واتقوا الله وأحسنوا إن الله يحب المحسنين.. ولا ريب أن الواجب على ولاة الأمور من الأمراء والقضاة والعلماء ورؤساء الهيئات وأعضاء الهيئات أكبر من الواجب على غيرهم والخطر عليهم أشد والفتنة في سكوت من سكت منهم عظيمة ولكن ليس إنكار المنكر خاصاً بهم بل الواجب على جميع المسلمين ولاسيما أعيانهم وكبارهم وبالأخص أولياء النساء وأزواجهن إنكار هذا المنكر والغلظة فيه والشدة على من تسهل في ذلك لعل الله سبحانه يرفع عنا ما نزل من البلاء ويهدينا ونساءنا إلى سواء السبيل وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما بعث الله من نبي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويهتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". وأسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته وأن يصلح ولاة أمرنا ويقمع بهم الفساد وينصر بهم الحق ويصلح لهم البطانة وأن يوفقنا وإياكم وإياهم وسائر المسلمين لما فيه صلاح العباد والبلاد في المعاش والمعاد إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير وحسبنا لله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(10/259)
النبأ الهائل
بقلم: الشيخ محمد المجذوب
كُسِرَ السدُّ، فَلتُجَنَّ السيولُ
لم يعد في الحياة خطب يهولُ
ودعوني أذِبْ فؤادي فلم تبق
الرزايا في العين دمعاً يسيل
ولقد يحسن التجلدُ إلا
أن يكون الإمامَ ذاك القتيل
وضروبٌ هي المنايا، فألفٌ
كهباءٍ وربَّ فردٍ قبيل
وكثيرُ الأسى على فيصلِ الإسلام
والعرب في الوفاء ـ قليلُ
.. ليت شعري..درى المضلَّل لما
أطلق النار أيَّ قلب يغول!
أم تُرى الغيّ قد أطاح بعينيه
وقد عُمِيَت عليه السبيل!
فطوى عزَّه وهدَّ بناءً
هو للمسلمين مجدٌ أثيل
وسرت هِزةُ الفجيعة في الخلق
فكلّ بهولها مشغول
لَتَكَاد الدنيا تَميدُ من الرَّوع
وتبكي حتى الربى والسهول
وحقيقٌ بيوم فيصلَ أن تنهدّ
شُمّ القوى وتعشى العقول
أفليس الذي تُرَجَّى لديه
كلما استعصتِ الخطوب الحلولُ!
بصرٌ نافذٌ، وفكرٌ محيطٌ
ومقالٌ فصلٌ، وخُلْقٌ نبيل
وفؤادٌ يذوب من خشية الله
إذا مسَّ سمعَه التنزيل
عشق الحقَّ في رضاه، فكلَّ
الكون ـ إلا ما يرتضيه ـ فُصول
وبذاك اليقينِ حقق ما تَعجز
عن بعضه القنا والنصول
يا لَكهل منه تعلَّمت الفتيا
نُ ما فات عزمَها والكهول
أكلتْ لحمَة السنونَ فلم تُبق
سوى هيكلٍ براه النحول
يَتَحَدَّى الدنيا ويقتحمُ الأهـ
والُ حتى ترتدَّ وهي فُلول
وحكيم ما انفك يرتقب السا
سةُ في كل مأزق ما يقول
تقتفي نطقه المسامعُ شوقاً
وتَميلُ الأحداقُ حيث يميل
زلزلَ الأرضَ بالطغاةِ، فلا با
غيَ إلا وافاه وهو ذَلول
وهدى العربَ دربهم فتوارى
بعد لأي ليلُ الضيَّاعِ الطويل
وانتضى رايةَ التضامنِ في تيـ
ـه من الفُرقةِ التي لا تزولُ
وبرغم المثبطات اللواتي
تتهاوى أمامهنّ الفحول(10/260)
لم يراوَدْ تصميمَه اليأس حتى
وَضَح الدربُ واطمأنّ الدليل
وأرى الكفرَ كيف ينتصر الإيـ
مانُ حتى يعنو له المستحيل
فإذا كلُّ ذي نصيب من الرشدِ
على نهجهِ قئول فعول
تتراءى له الأماني الكبيرات
بصبح لا يعتريه أفول
فتكاد الدنيا يُعاودُها
النورُ الذي شقَّ فجرَه جبريل
وعلى حين غرة يَخسِفُ البدرُ
ويغشى الآفاق كَرب ثقيل
إنها الصدمة التي تَرجفُ الأر
ضَ وينسى بها الخليل الخليل
وكذلك الآجال، وهي قضاء الله
إن أقبلت فلا تأجيل
وإذا أحُم يومُها فكما سُطّرَ
في اللوح ماله تبديل
ومشى النعي في الوجود كما هزَّ
البرايا بالصور إسرافيل
(فيصلٌ مات) .. لا..ولكن ورفقاً.
واغتلى الشك. ثم فاض العويل
واستوى في البكاء ذو الضعف والجلدْ
فلا عاذلٌ ولا معذول
وبحق من ذاب حزناً ومن عا
لجهُ الصعق أو عراه الخبول
إنه القائد المظفرُ مَهوى
كل قلب والمنقذ المأمول
وكأن الحياة مَاتت فراح الـ
ـيأس في غيبة الرجاء يصول
وإذا الشمس فارقت عالم الأر
ض تلاشى الضحى وغاض الأصيل
وتوارى الجمالُ، واختنق الشدُو
وأخنى على الرياض الذبول
واشرأبت تستكشف الأثر الأقصى
بُعَيْد الزلزال إسرائيل
تسأل الحظ كم أفاء عليها
من رياح ذاك الرصاص الضلول
وأحست في سكرة الحلم أن قدْ
زال عن صدورها البلاء الوبيل
فمضت ترفع الصُروح على الوهم
ويُملي لها الخيال الهزيل
خَسِئَتْ فالذي برا فيصل الحق
بتحطيم كل باغ كفيل
ولئن حال بين فيصل والقدس
قضاءٌ فنذرُه لا يحول
سيؤدّي عنه الصلاة ميامين
همو أسْدُ غيله والشبول
كلهم فيصل إذا حَزَبَ الأمر
وكلٌّ لنحرها مسلول
حملوا بعده اللواء، وآلوا
أن يزيلوا وجودها أو يزولوا
لا يبالون في قراع العوادي(10/261)
(أطويلٌ طريقهم أم يطول)
ولعبدِ العزيز في عنق كلّ
منهم الدهرُ عهدُه المسئول
قد تلقوا من كفه راية التوحيد
والدولةُ التي لا تَدول
فهموا أثره على المنهج الأسمى
رَعيلاً يقفو خطاه رعيل
كل يوم لدعوة الله منهم
أثرٌ خالدٌ وفتح جليل
فهنيئاً لشرعةِ الله أنَّ الغا
ب كالأمس بالليوث حفيل
إن يَغبُ وجهَ فيصل عن حِماها
فلها خالدٌ ونعم البديل
وبفهد وللصيدِ من أسيفِ الملك
وأركانه العزاء الجميل
دوحةُ المجدِ من غراس أبي الفيصل
طابت فروعها والأصول
أبداً لن يُضامَ شعبٌ بفضل الله
منها عليه ظلٌ ظليل
وحريٌّ بنصر ربِّك رهطٌ
هم على خلقه الشهود العُدول
عزَّزوا دينَه وزادهمو عِزّاً
فنعم المولى ونعم الوكيل(10/262)
مع العارفين أعلام الهدى
لفضيلة الشيخ عبد الله الغنيمان
رسالة ركن الإسلام الجويني
لقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقيدة التوحيد صافية من شوائب الشرك والوثنية سواء في ذلك ما يتعلق بالعمل الذي هو توحيد العبادة أو ما يتعلق بالعلم وما ينطوي عليه القلب وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات مع أن النوعين متلازمان كما يظهر واضحاً لمن تأمل القرآن.(10/263)
وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا النوعين غاية البيان وأفصح القرآن عنهما كل الإفصاح لأن ذلك هو أصل دعوته ولباب رسالته وبالإعراض عن هذا الأصل يحصل الضلال والانحراف على حسب هذا الأعراض فكلما كان الأعراض أكثر كان الضلال والبعد عن الهدى أشد وأصعب وقد تلقى صحابة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم كل ما جاء به من غير اعتراض أو تردد فآمنوا بما جاء به من صفات الله مع اعتقاد ما دلت عليه وهم يتلقون ذلك عمن يخاطبهم بلسانهم وبما يعرفون ويفهمون ولم يقفوا أمام ما يسمعون منه في المناسبات الكثيرة شاكين أو مترددين في المعاني التي دل عليها الخطاب بل لم يسألوه مستفسرين مما يدل قطعاً على أن القوم علموا أن مراد مخاطبهم ما دل عليه ظاهر خطابه مع بعدهم عن التشبيه والتمثيل درج على هذا النهج القويم الصحابة والتابعون لهم حتى دخل في المسلمين من ليس منهم متستراً باسم الإسلام للطعن في صميم عقيدتهم وحربهم في أعز ما يملكون ومصدر قوتهم فبدء الانحراف والتحريف وشبت بين المسلمين حرب كلامية أوهنت قواهم وباعدت بين قلوبهم ومزقتهم كل ممزق حتى وصل الأمر إلى إرغام الناس على القول بخلق القرآن ولا يزال المسلمون يعانون من تلك المحدثات في جميع شئونهم وقد انضاف إلى تلك العوامل تيارات أخرى جارفة استهدفت أبعاد المسلمين عن عقيدتهم والله المستعان وسأنقل هنا بعض نصائح للأئمة الذين عاشوا المشكلة وعجموا عودها منهم الإمام الشيخ أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني والد إمام الحرمين كان يلقب بركن الإسلام أوحد زمانه زهداً وتقشعاً.
قال شيخ الإسلام الصابوني في حقه: لو كان الجويني من بني إسرائيل لنقل إلينا شمائله ولافتخروا به توفي سنة 438هـ رحمه الله قال في رسالة كتبها نصحاً لإخوانه وأصدقائه وأحبابه بعد الخطبة(10/264)
وبعد: فهذه نصيحة كتبتها إلى إخواني في الله أهل الصدق والصفاء والإخلاص والوفاء لما تعين على من محبتهم في الله ونصيحتهم في صفات الله عز وجل فإن المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه وفي الصحيح عن جرير بن عبد الله البجلي قال: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم". وعن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة ثلاثاً قيل لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". أعرفهم أيدهم الله تعالى بتأييده ووفقهم لطاعته ومزيده أنني كنت برهة من الدهر متحيراً في ثلاث مسائل، مسألة الصفات، ومسألة الفوقية، ومسألة الحرف والصوت في القرآن المجيد وكنت متحيراً في الأقوال المختلفة الموجودة في كتب أهل العصر في جميع ذلك من تأويل الصفات وتحريفها أو إمرارها والوقوف فيها أو إثباتها بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل، فأجد النصوص في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ناطقة منبئة بحقائق هذه الصفات وكذلك في إثبات العلو والفوقية وكذلك في الحرف والصوت ثم أجد المتأخرين من المتكلمين في كتبهم منهم من يؤول الاستوى بالقهر والاستيلاء ويؤول النول بنزول الأمر ويؤول اليدين بالقدرتين أو النعمتين، ويؤول القدم بقدم صدق عند ربهم وأمثال ذلك ثم أجدهم مع ذلك يجعلون كلام الله تعالى معنى قائماً بالذات بلا حرف ولا صوت ويجعلون هذه الحروف عبارة عن ذلك المعنى القائم.(10/265)
وممن ذهب إلى هذه الأقوال أو بعضها قوم لهم في صدري منزلة مثل طائفة من فقهاء الأشعرية الشافعيين لأني على مذهب الشافعي عرفت فرائض ديني وأحكامه فأجد مثل هؤلاء الشيوخ الأجلة يذهبون إلى مثل هذه الأقوال وهم شيوخي ولي فيهم الاعتقاد التام [1] لفضلهم وعلمهم ثم أنني مع ذلك أجد في قلبي من هذه التأويلات حزازات لا يطمئن قلبي إليها وأجد الكدر والظلمة منها وأجد ضيق الصدر وعدم انشراحه مقروناً بها فكنت كالمتحير المضطرب في تحيره المتململ من قلبه في تقلبه وتغيره.
الحق أولى أن يتبع [2](10/266)
وكنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلو والاستواء والنزول مخافة الحصر والتشبيه ومع ذلك فإذا طالعت النصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أجدها نصوصاً تشير إلى حقائق هذه المعاني وأجد الرسول صلى الله عليه وسلم قد صرح بها مخبراً عن ربه واصفاً له بها وأعلم بالاضطرار أنه صلى الله عليه وسلم كان يحضر في مجلسه الشريف والعالم والجاهل والذكي والبليد والأعرابي والجافي ثم لا أجد شيئاً يعقب تلك النصوص التي كان يصف ربه بها لا نصاً ولا ظاهراً مما يصرفها عن حقائقها ويؤولها كما تأولها هؤلاء مشائخي الفقهاء المتكلمين مثل تأويل الاستواء بالاستيلاء ونزول الأمر للنزول وغير ذلك ولم أجد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يحذر الناس من الإيمان بما يظهر من كلامه في صفته لربه من الفوقية واليدين وغيرها ولم ينقل عنه مقالة تدل على أن لهذه الصفات معاني أخر باطنة غير ما يظهر من مدلولها مثل فوقية القهر ويد النعمة والقدرة وغير ذلك، وأجد الله عز وجل يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} وقوله تعالى: {ذِي الْمَعَارِجِ. تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ..} الآية. ثم أجد الرسول صلى الله عليه وسلم لما(10/267)
أراد الله تعالى أن يخصه بقربه عرج به من سماء إلى سماء حتى كان قاب قوسين أو أدنى ثم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح للجارية:"أين الله؟ فقالت: في السماء"، فلم ينكر عليها بحضرة أصحابه كيلا يتوهموا أن الأمر على خلاف ما هو عليه بل أقرها وقال أعتقها فإنها مؤمنة. وفي حديث جبير بن مطعم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله فوق عرشه وعرشه فوق سمائه وسماواته فوق أرضه مثل القبة وأشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده مثل القبة" [3] وقوله صلى الله عليه وسلم: "الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء" أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح.. وعن معاوية بن الحكم السلمي قلت يا رسول الله: أفلا أعتقها؟ قال: أدعها. . فدعوتها قال: فقال لها: أين الله قالت في السماء.. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله قال: أعتقها فإنها مؤمنة.." رواه مسلم ومالك في موطئه وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اشتكى منكم شيئاً أو اشتكى أخ فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء اغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على الوجع فيبرأ.."أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: بعث على من اليمن بذهبية في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أربعة زيد الخير والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وعلقمة بن علاثة أو عامر بن الطفيل شك عمارة فوجد من ذلك بعض أصحابه من الأنصار وغيرهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خير من في السماء صباحا ومساء ". أخرجه البخاري ومسلم وعن ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالوا اخرجي أيتها(10/268)
النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبا فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال من هذا فيقول فلان فيقولون مرحباً بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان فلا يزال يقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء التي فهيا الله عز وجل" الحديث [4] .
ثم ذكر حديث العباس وذكر حديث أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق.. إن رحمتي سبقت غضبي فهو عنده فوق العرش رواه البخاري ومسلم وذكر حديث سعد في حكمه في بني قريظة وحديث المعراج وحديث أبي هريرة يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي" متفق عليه وذكر قصة أبي بكر حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ومن عرف هيئة العالم ومركزه من علم الهيئة وأنه ليس إلا جهتا العلو والسفل ثم اعتقد بينونة خالقه عن العالم فمن لوازم البينونة أن يكون فوقه لأن جميع جهات العالم فوقه لأن جميع جهات العالم أن يكون فوقها لأن جميع جهات العالم فوق وليس السفل إلا المركز وهو الوسط.
التأويل صنو التعطيل وأصله التشبيه والتمثيل وكله ضلال(10/269)
إذا علمنا ذلك واعتقدناه تخلصاً من شبه التأويل وعماوة التعطيل وحماقة التشبيه والتمثيل وأثبتنا علو ربنا سبحناه وفوقيته واستواءه على عرشه كما يليق بجلاله وعظمته والحق واضح في ذلك والصدور تنشرح له فإن التحريف تأباه العقول الصحيحة مثل تحريف الاستواء بالاستيلاء وغيره والوقوف في ذلك جهل وعي مع كون الرب تعالى وصف لنا نفسه بهذه الصفات لنعرفه بها فوقوفنا عن إثباتها أو نفيها عدول عن المقصود منه في تعريفنا إياها فما وصف لنا نفسه بها إلا لنثبت ما وصف به نفسه لنا ولا نقف في ذلك وكذلك التشبيه والتمثيل حماقة وجهالة فمن وفقه الله تعالى للإثبات بلا تحريف ولا تكييف ولا وقوف فقد وقع على الأمر المطلوب منه إن شاء الله.
ليس لله مثيل أو شبيه لا في ذاته ولا في صفاته وأفعاله
والذي شرح صدري في حال هؤلاء الشيوخ الذين أولوا الاستواء بالاستيلاء والنزول بنزول الأمر واليدين بالنعمتين أو القدرتين هو علمي بأنهم ما فهموا من صفات الرب تعالى إلا ما يليق بالمخلوقين فما فهموا عن الله استواء يليق به ولا نزولا يليق به ولا يدين تليق بعظمته بلا تكييف ولا تشبيه فلذلك حرفوا الكلم عن مواضعه وعطلوا ما وصف الله تعالى به نفسه ونذكر بيان ذلك إن شاء الله تعالى.(10/270)
لا ريب أنا نحن وإياهم متفقون على إثبات صفات الحياة والسمع والبصر والعلم والقدرة والإرادة والكلام لله تعالى ونحن قطعنا لا نعقل من الحياة إلا هذا العرض الذي يقوم بأجسامنا وكذلك لا نعقل من السمع والبصر إلا أعراضا تقوم بجوارحنا فكما أنهم يقولون حياته ليست بعرض [5] وعلمه كذلك وبصره كذلك هي صفات تليق به لا كما يليق بنا فكذلك نقول نحن حياته معلومة وليست مكيفة وعلمه معلوم ليس مكيفا وكذلك سمعه وبصره معلومان كما يليق به، ومثل ذلك بعينه فوقيته واستواؤه ونزوله ففوقيته معلومة أعني ثابتة كثبوت حقيقة السمع وحقيقة البصر فإنهما معلومان ولا يكيفان كذلك فوقيته معلومة ثابتة غير مكيفة بل هي كما يليق به واستواؤه على عرشه معلوم غير مكيف بحركة أو انتقال [6] يليق بالمخلوق بل كما يليق بعظمته وجلاله وصفاته معلومة من حيث الجملة والثبوت غير معقولة من حيث التكييف والتحديد فيكون العبد بها مبصراً من وجه أعمى من وجه.. مبصراً من حيث الإثبات والوجود.. أعمى من حيث التكييف والتحديد وبهذا يحصل الجمع بين الإثبات لما وصف الله نفسه به وبين نفي التحريف والتشبيه والوقوف وذلك هو مراد الرب تعالى في إبراز صفاته لنا لنعرفه بها ونؤمن بحقائقها وننفي عنها التشبيه ولا نعطلها بالتحريف والتأويل ولا فرق بين النزول والبصر الكل ورد في النص فإن قالوا لنا في الاستواء شبهتم نقول لهم في السمع شبهتم ووصفتم ربكم بوصف المخلوق فإن قالوا لا تشبيه بل هو كما يليق به قلنا في الاستواء والفوقية لا تشبيه بل ذلك كما يليق به فجميع ما يلزموننا به في الاستواء والنزول واليد والوجه والقدم والضحك والعجب من التشبيه نلزمهم به في الحياة والسمع والبصر والعلم فكما لا يجعلونها من جنس ما يوصف به المخلوق فكذلك نحن لا نجعلها من جنس صفات المخلوق وليس من الإنصاف أن يفهموا في الاستواء والنزول والوجه واليد صفات المخلوقين فيحتاجوا إلى التأويل والتحريف.(10/271)
ولا يفهموا ذلك في الصفات السبع فإن فهموا في هذه الصفات ذلك فيلزمهم أن يفهموا في السمع والبصر وبقية ما يثبتونه من الصفات صفات المخلوقين فما يلزمونا في تلك الصفات من التشبيه والجسمية نلزمهم به في هذه الصفات وما ينزهون ربهم به في الصفات السبع وينفون عنه عوارض الجسم فيها فكذلك نحن نعمل في تلك التي ينسبونا فيها إلى التشبيه سواء بسواء ومن أنصف عرف ما قلنا واعتقده وقبل نصيحتنا ودان لله بإثبات جميع صفاته هذه وتلك ونفى عن جميعها التشبيه والتعطيل والتأويل والوقوف وهذا مراد الله تعالى منا في ذلك لأن الصفات وتلك جاءت في موضع واحد وهو الكتاب والسنة فإذا أثبتنا تلك بلا تأويل وحرفنا هذه وأولناها كنا كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض وفي هذا بلاغ وكفاية إن شاء الله.
القول في الصفات واحد لا فرق بين صفة وأخرى
وإذا ظهر هذا وبان انجلت الثلاث مسائل بأسرها وهي مسالة الصفات من النزول واليد والوجه وأمثالها ومسألة العلو والاستواء ومسألة الحرف والصوت أما مسألة العلو فقد قيل فيها ما فتحه الله تعالى، وأما مسألة الصفات فتساق مساق مسألة العلو ولا نفهم منها ما نفهم من صفات المخلوقين بل يوصف الرب تعالى بها كما يليق بجلاله وعظمته فنزوله كما يليق بجلاله وعظمته ويداه كما يليق بجلاله وعظمته، ووجه الكريم كما يليق بجلاله وعظمته فكيف ننكر الوجه الكريم ونحرف وقد قال صلى الله عليه وسلم في دعائه:"أسألك لذة النظر إلى وجهك"وإذا ثبت صفة الوجه بهذا الحديث وبغيره من الآيات والنصوص فكذلك صفة اليدين والضحك والعجب ولا يفهم من جميع ذلك إلا ما يليق بالله عز وجل وبعظمته لا ما يليق بالمخلوقات.(10/272)
وإذا ثبت هذا الحكم في الوجه فكذلك في اليدين والقبضتين والقدم والضحك والتعجب كل ذلك كما يليق بجلال الله تعالى وعظمته فيحصل بذلك إثبات ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويحصل أيضاً نفي التشبيه والتكييف في صفاته ويحصل أيضاً ترك التأويل والتحريف المؤدي إلى التعطيل ويحصل بذلك عدم الوقوف بإثبات الصفات وحقائقها على ما يليق بجلال الله تعالى وعظمته لا على ما نعقله نحن من صفات المخلوقين.
وأما مسألة الحرف والصوت فتساق هذه المساق فإن الله تعالى قد تكلم بالقرآن المجيد وبجميع حروفه فقال تعالى {ألم} وقال {المص} وقال {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} وكذلك جاء في الحديث: "فينادي يوم القيامة بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب" [7] .
وفي الحديث: "لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف"فهؤلاء ما فهموا من كلام الله تعالى إلا ما فهموه من كلام المخلوقين فقالوا إن قلنا بالحروف فإن ذلك يؤدي إلى القول بالجوارح واللهوات وكذلك إذا قلنا بالصوت أدّى ذلك إلى الحلق والحنجرة عملوا في هذا من التخبط كما عملوا فيما تقدم من الصفات والتحقيق وهو أن الله قد تكلم بالحروف كما يليق بجلاله وعظمته فإنه قادر والقادر لا يحتاج إلى جوارح ولا لهوات وكذلك له صوت كما يليق به يسمع ولا يفتقر ذلك الصوت المقدس إلى الحلق والحنجرة. كلام الله تعالى كما يليق به وصوته كما يليق به ولا ننفي الحرف والصوت عن كلامه تعالى كما يليق به وصوته كما يليق به ولا ننفي الحرف والصوت عن كلامه سبحانه لافتقارهما هنا إلى الجوارح واللهوات فإنهما من جناب الحق تعالى لا يفتقران إلى ذلك وهذا ينشرح الصدر له ويستريح الإنسان به من التعسف والتكلف بقوله هذا عبارة عن ذلك.(10/273)
فإن قيل: فهذا الذي يقرأه القارئ هو عين قراءة الله تعالى وعين كلامه؟ قلنا: لا بل القارئ يؤدي كلام الله تعالى والكلام إنما ينسب إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مؤدياً مبلغاً ولفظ القارئ في غير القرآن مخلوق وفي القرآن لا يتميز اللفظ المؤدى عن الكلام المؤدى عنه ولهذا منع السلف عن قول لفظي بالقرآن مخلوق لأنه لا يتميز كما منعوا عن قول لفظي بالقرآن غير مخلوق فإن لفظ العبد في غير التلاوة مخلوق وفي التلاوة مسكوت عنه كيلا يؤدي الكلام في ذلك إلى القول بخلق القرآن وما أمر السلف بالسكوت عنه يجب السكوت عنه والله الموفق.
ثمرة إثبات العلو لله تعالى
ثم قال: فصل
العبد إذا أيقن أن الله تعالى فوق السماء عال على عرشه بلا حصر ولا كيفية وأنه الآن في صفاته كما كان في قدمه صار لقلبه قبلة في صلاته وتوجهه ودعائه ومن لا يعرف ربه بأنه فوق سماواته على عرشه فإنه يبقى ضائعاً لا يعرف وجهة معبوده لكن لو عرفه بسمعه وبصره وقدمه وتلك الصفات السبع بلا هذا كانت معرفة ناقصة بخلاف من عرف أن إلهه الذي يعبده فوق الأشياء فإذا دخل في الصلاة وكبر توجه قلبه إلى جهة العرش منزها ربه تعالى عن الحصر مفرداً له كما أفرده في قدمه وأزليته عالماً أن هذه الجهات من حدودنا ولوازمنا ولا يمكننا الإشارة إلى ربنا في قدمه وأزليته إلا بها لأنا محدثون والمحدث لا بد له في إشارته إلى جهة فتقع تلك الإشارة إلى ربه كما يليق بعظمته لا كما يتوهمه هو من نفسه.(10/274)
ويعتقد أنه في علوه قريب من خلقه هو معهم بعلمه وسمعه وبصره وإحاطته وقدرته ومشيئته؛ وذاته فوق الأشياء فوق العرش؛ ومتى شعر قلبه بذلك في الصلاة أو التوجه أشرق قلبه واستنار وأضاء بأنوار المعرفة والإيمان وعكسته أشعة العظمة على عقله وروحه ونفسه فانشرح لذلك صدره وقوي إيمانه ونزه ربه عن صفات خلقه من الحصر والحلول وذاق حينئذ شيئاً من أذواق السابقين المقربين بخلاف من لا يعرف وجهة معبوده وتكون الجارية راعية الغنم أعلم بالله منه فإنها قالت: "في السماء" عرفته بأنه على السماء فإن "في" تأتي بمعنى على كقوله تعالى: {يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} أي على الأرض وقوله: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أي على جذوع النخل فمن تكون راعية الغنم أعلم بالله منه لكونه لا يعرف وجهة معبوده فإنه لا يزال مظلم القلب لا يستنير بأنوار المعرفة والإيمان ومن أنكر هذا القول فليؤمن به وليجرب ولينظر إلى مولاه من فوق عرشه بقلبه مبصراً من وجه أعمى من وجه كما سبق مبصراً من جهة الإثبات والوجود والتحقق أعمى من جهة التحديد والحصر والتكييف فإنه إذا عمل ذلك وجد ثمرته إن شاء الله تعالى ووجد نوره وبركته عاجلاً وآجلاً ولا ينبئك مثل خبير والله سبحانه الموفق والمعين.
تقريب مسألة الفوقية من الأفهام بمعنى من علم الهيئة لمن عرفه [8](10/275)
لا ريب أن أهل هذا العلم حكموا بما اقتضته الهندسة وحكمها صحيح لأنه ببرهان لا يكابر الحس فيه بأن الأرض في جوف العالم العلوي وأن كرة الأرض في وسط السماء كبطيخة في جوف بطيخة والسماء محيطة بها من جميع جوانبها وأن أسفل العالم هو جوف كرة الأرض وهو المركز ونحن نقول جوف الأرض السابعة وهم لا يذكرون السابعة لأن الله تعالى أخبرنا عن ذلك وهم لا يعرفون ذلك وهذه القاعدة عندهم ضرورية لا يكابر الحس فيها أن المركز هو جوف كرة الأرض وهو منتهى السفل والتحت وما دونه لا يسمى تحتاً بل يكون تحتاً ويكون فوقا بحيث لو فرضنا خرق المركز وهو سفل العالم إلى تلك الجهة لكان الخرق إلى جهة فوق ولو نفذ الخرق جهة السماء من تلك الجهة الأخرى لصعد إلى جهة فوق.(10/276)
وبرهان ذلك أنا لو فرضنا مسافراً سافر على كرة الأرض من جهة المشرق إلى جهة المغرب وامتد مسافراً لعشى على الكرة إلى حيث ابتدأ بالسير وقطع الكرة كما يراه الناظر أسفل منه وهو في سفره هذا لم تبرح الأرض تحته والسماء فوقه فالسماء التي يشهدها الحس تحت الأرض هي فوق الأرض بالذات فكيف كانت السماء كانت فوق الأرض من أي جهة فرضتها ومن أراد معرفة ذلك فليعلم أن كرة الأرض النصف الأعلا منها ثقله على المركز والنصف الأسفل منها ثقله على النصف الأعلا أيضاً إلى جهة المركز والنصف الأسفل هو أيضاً فوق النصف الأعلا كما أن النصف الأعلا فوق النصف الأسفل ولفظ الأسفل فيه مجاز بحسب ما يتخيل للناظر وكذلك كرة الماء محيطة بكرة الأرض إلا سدسها والعمران على ذلك السدس والماء فوق الأرض كيف كان وإن كنا نرى الأرض مدحية على الماء فإن الماء فوقها وكذلك كرة الهواء محيطة بكرة الماء وهي فوقها وإذا كان الأمر كذلك فالسماء التي تحت النصف الأسفل من كرة الأرض (في نظرنا) هي فوقه لا تحته لأن السماء على الأرض كيف كانت فعلوها على الأرض بالذات فلا تكون تحت الأرض بوجه من الوجوه وإذا كان جسم وهو السماء علوها على الأرض بالذات فكيف من ليس كمثله شيء وعلوه على كل شيء بالذات كما قال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} وقد تكرر في القرآن المجيد ذكر الفوقية {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} لأن فوقيته سبحانه وعلوه على كل شيء ذاتي له فهو العلي بالذات والعلو صفته اللائقة به كما أن السفول والرسوب والانحطاط ذاتي للأكوان عن رتبة ربوبيته وعظمته وعلوه والعلو والسفول حد بين الخالق والمخلوق يتميز به عنه، هو سبحانه على بالذات وهو كما كان قبل خلق الأكوان وما سواه مستقل عنه بالذات وهو سبحانه العلي على عرشه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه فيحي هذا(10/277)
ويميت هذا ويمرض هذا ويشفى هذا ويعز هذا ويذل هذا وهو الحي القيوم والقائم بنفسه؛ وكل شيء قائم به فرحم الله عبداً وصلت إليه هذه الرسالة ولم يعاجلها بالإنكار وافتقر إلى ربه في كشف الحق آناء الليل والنهار وتأمل النصوص في الصفات وفكر بعقله في نزولها وفي المعنى الذي نزلت له وما الذي أريد تعلمها من المخلوقات؛ ومن فتح الله قلبه عرف أنه ليس المراد إلا معرفة الرب تعالى بها والتوجه إليه منها وإثباتها له بحقائقها وأعيانها كما يليق بجلاله وعظمته بلا تأويل ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل ولا جمود ولا وقوف وفي ذلك بلاغ لمن تربد وكفاية لمن استبصر إن شاء الله تعالى والحمد لله وحده وصلى الله على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وسلم والله أعلم، انتهت الرسالة.
اختيار وتقديم
عبد الله الغنيمان
--------------------------------------------------------------------------------
[1] يعني اعتقاد إصابتهم للحق إذ هم أهل علم واجتهاد.
[2] هذا العنوان وما يأتي مشابهاً من كلام المؤلف.
[3] رواه أبو داود انظر العلو للذهبي ص 38 من طبعة المكتبة السلفية.
[4] رواه أحمد والحاكم وقال على شرط البخاري ومسلم والدارقطني.
[5] العرض هو ما لا يقوم بنفسه بل لا يقوم إلا بغيره كالبياض والسواد. والعرض لا يجوز وصف الله تعالى به نفياً ولا إثباتاً فهو من الكلام المبتدع والله تعالى لا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله.
[6] لفظ الحركة والانتقال لم يأت في صفات الله والله لا يوصف نفياً أو إثباتاً إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله.
[7] رواه البخاري في صحيحه معلقا مجزما به ووصل غير انظر الفتح جـ13 ص 447 ومن خرجه هناك وجـ1 ص 174.
[8] هذا العنوان من كلام المؤلف.(10/278)
توحيد الله
بقلم الشيخ عبد الله أحمد القادري
مدير الإشراف الاجتماعي
أهميتها:
العقيدة: - أي عقيدة - هي منطق الإنسان - أي إنسان - في الحياة.
وكل إنسان يتصرف في حياته انطلاقاً من عقيدته.
ولنضرب لذلك ثلاثة أمثلة رئيسية:
1- المؤمن: فالمؤمن بالله ينطلق في حياته من إيمانه، فهو يؤمن بالله، وبكل ما أخبر به تعالى في كتابه - أو على لسان رسوله - من الغيب، ويتقي ربه، ويمتثل أوامره ويجتنب نواهيه، يوالي فيه ويعادي فيه، وعن هذا الصنف قال تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .(10/279)
2- الكافر: وينطلق الكافر في حياته من كفره، فهو كافر بالله جاحد له معاند لرسله، لا يؤمن بما أخبر الله به، ولا يمتثل أوامره ولا يجتنب نواهيه يرفض الحق بجرأة غير مبال بنتائج ذلك كله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
3- المنافق: وينطلق المنافق في حياته من نفاقه - والنفاق كفر لصاحبه الدرك الأسفل من النار - ولكن المنافق يظهر ذبذبة بين الكفر والإيمان حسب المصلحة التي تبدو له، إن رآها في إظهار الإيمان أظهره، وإن رآها في إظهار الكفر أظهر الكفر وطمأن الكافرين بأنه منهم، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} .
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ. وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ. اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ..}(10/280)
وكلما كان الإنسان أكثر إيماناً كان أكثر استجابة للحق وأكثر نفعاً في الأرض، وكلما كان أوغل في الكفر والجحود كان أكثر عناداً وطغياناً، وكلما كان أكثر نفاقاً كان أكثر خبثاً ومكراً وفسداً.
العقيدة هي التي تحدد هدف الإنسان في حياته:
فهدف المؤمن هو رضا الله، ولذلك يسعى جاداً في الوصول إلى هدفه مهما تحمل من مشاق، مهما واجهته من عقبات، يستعذب في سبيل ذلك المر، ويستسهل الصعب، لا يثنيه عنه كيد كائد ولا تهديد مهدد، لأن الهدف عنده أعلى وأسمى من كل شيء - حتى من نفسه التي بين جنبيه - وهو يسعى إذ للوصول إلى هدفه معتمد على من هو أقدر وأقوى.
إن سحرة فرعون - الذين أراد التغلب بهم على نبي الله موسى عليه السلام عندما خالط الإيمان بشاشة قلوبهم تحدوا فرعون وملكه وجبروته - وقد كان يعتبر إلههم وإله غيرهم - في ثبات وإصرار معللين ذلك التحدي بهدفهم الذي قرروا السير إليه: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى. قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى. قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} .
وفي قصة أصحاب الأخدود الدليل الواضح على استعذاب أشد أنواع التعذيب والتنكيل واستقبال الموت بصدر رحب في سبيل الوصول إلى ذلك الهدف العظيم (من أراد ذلك مفصلاً فليراجع تفسير سورة البروج في تفسير ابن كثير وغيره) .(10/281)
وهدف الكافر: تافه حقير لا قيمة له وهو قضاء وطره المادي العاجل من التمتع بالمأكل والمشرب والمركب والمنكح ضارباً بكل خلق حسن يميز الإنسان عن الحيوان عرض الحائط: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} .
والعقيدة هي التي تحدد الوسيلة الموصلة إلى الهدف - أي هدف -.
فالمؤمن مقيد باتخاذ الوسيلة المشروعة مبتعداً عن الوسائل المحظورة لأن عقيدته تحتم عليه ذلك.
فهدف المؤمن - الذي هو رضا الله لا يتم له إلا إذا والى في الله وعادى فيه فلا بد له من معاداة الكافرين، وهذه المعاداة تحصل بوسائل مشروعة مثل إظهار بغضهم وعدم محبتهم ومجاهدتهم بالنفس والمال وغير ذلك، وليس للمؤمن أن يتخذ وسائل غير مشروعة - كأن يظلم الكافر - قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَوَصَّيْنَا الأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(10/282)
ووجه الدلالة من النص السابق أن الكافر - ولو كان والداً - تجب معاداته في الله وبغضه فيه، ولكن لا يتخذ لتلك المعاداة وسيلة غير مشروعة، وهي حرمانه من حقه فكما لا يطاع في معصية لا يحرم من بر ولده به ومصاحبته في الدنيا معروفاً وشنآن الكافر لا يجيز ظلمه قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى..} .
فالعدل واجب على المؤمن لعدوه الكافر والظلم محرم عليه.
وهكذا نجد المؤمن متقيداً في أعماله ومعاملاته بما هو مشروع لأن عقيدته حددت له الوسيلة كما حددت الهدف، فلا ظلم ولاغش ولا كذب ولا زنا ولا سرقة ولا تسلط ولا أي نوع من أنواع المحرمات فإن ارتكب شيئاً من ذلك عاد إلى الله تائباً نادماً مستغفرا.
والكافر لا يتورع عن اتخاذ أي وسيلة توصله إلى مراده حلالا كانت أم حراماً المهم عنده أن يقضي وطره.
وقد جسم ذلك مكيافلى في قاعدته الظالمة الآثمة التي صارت لأعداء الله دستور حياة، وهي: (الغاية تبرر الوسيلة) ، ومعنى ذلك أن الشخص إذا قرر الوصول إلى هدف ما فله أن يتخذ للوصول إلى هدفه أي وسيلة دون نظر إلى شرعيتها أو عدم شرعيتها، نافعة كانت أم ضارة، فله أن يكذب ويغش وينافق ويسفك الدم ويغصب المال وينتهك العرض.
والسبب في هذا المسلك المشين عقيدته التي تبيح له الخروج على سنن الخالق وأوامره ونواهيه، ولهذا قال أهل مدين في ردهم على نبي الله شعيب - كما حكى ذلك عنهم القرآن -: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} .
وهكذا نجد الكافر يقدم على أي عمل يريد غير متقيد بأمر ولا نهي، فيقتل بدون حق، ويغصب ويسرق ويشرب الخمر، ويأكل الميتة ويرابي مستحلا كل ذلك وغيره من أنواع المعاصي، لأن عقيدته أطلقت له العنان.
التوحيد(10/283)
التوحيد هو إفراد الله سبحانه وتعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته فهو - كما ترى - ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- توحيد الربوبية، 2- توحيد الألوهية - أو العبادة -،3- توحيد الأسماء والصفات.
1- توحيد الربوبية:
فتوحيد الربوبية هو: الإقرار بوجود الله تعال، وأنه رب العالمين وخالقهم ومالكهم، مدبرهم والمتصرف فيهم، لا يخرج عن قدرته شيء ولا يشذ عن ربوبيته أحد، إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون.
والكون كله - ومنه الإنسان - مفطور على الإقرار بهذا القسم من التوحيد، وهو الذي عناه الأستاذ أبو الأعلى المودودي في كتابه القيم (مبادئ الإسلام) بقوله: (من المعلوم أن كل شيء في هذا الكون منقاد لقاعدة معينة وقانون خاص، فالشمس، والقمر والنجوم - وكذلك الأرض، مسخرات تحت قاعدة مطردة لا قبل لها بالحراك عنها والخروج عليها، والماء والهواء والنور والحرارة كلها مذعنة لنظام خاص، وللجمادات والنباتات والحيوانات ضابطة لا تنمو ولا تنقص ولا تحيا ولا تموت إلا بموجبها حتى إن الإنسان نفسه إذا تدبرت شأنه تبين لك أنه مذعن لسنن الله إذعانا تاما، فلا يتنفس ولا يحس حاجته إلى الماء والغذاء والنور والحرارة إلا وفقاً لقانون الله المنظم لحياته، ولهذا القانون ينقاد قلب الإنسان في حركته ودمه، وفي دورانه ونفسه، في دخوله وخروجه وله يستسلم جميع أعضاء جسده، كالدماغ والمعدة والرئة والأعصاب والعضلات واليدين والرجلين واللسان والعينين والأنف والأذن.
فليست الوظائف التي تؤديها هذه الأعضاء إلا حسب ما قررت لها من الطريق.
فهذا القانون الشامل الذي يستسلم له ولا ينفك عن طاعته شيء في هذا الكون من أكبر سيارة في السماء إلى أصغر ذرة من الرمل في الأرض من وضع ملك جليل مقتدر، فإذا كان كل شيء في السموات والأرض وما بينهما منقاداً لهذا القانون فإن العالم كله مطيع لذلك الملك المقتدر الذي وضعه ومتبع لأثره.(10/284)
ويتبين من هذه الوجهة أن الإسلام دين الكون طرا، لأن الإسلام معناه الانقياد والامتثال لأمر الآمر ونهيه بلا اعتراض كما عرفت آنفاً، فالشمس والقمر والأرض مسلمة، والهواء والماء والنور الظلام والحرارة مسلمة، والشجر والحجر والأنعام مسلمة، بل إن الإنسان الذي لا يعرف ربه ويجحد وجوده وينكر آياته، أو يعبد غيره ويشرك به سواء مسلم من حيث فطرته التي فطر عليها، وذلك أنه لا يولد ولا يحيا ولا يموت إلا وفقاً لما وضع الله تعالى من قانون لولادته وحياته وموته، وكذلك كل أعضاء جسده لا تدين إلا دين الإسلام، لأنها لا تنشأ ولا تكبر ولا تتحرك إلا حسب هذا القانون الإلهي نفسه بل الحق أن لسانه الذي يستخدمه في إبداء آراء الشرك والكفر جهلا وسفهاً لا يدين في نفسه إلا دين الإسلام.
وكذلك رأسه الذي يكرهه على الانحناء أمام غير الله لا يدين إلا دين الإسلام بسائق فطرته التي فطر عليها، وكذلك قلبه الذي يعمره بحب الآخرين من دون الله وإجلالهم جهلاً وسفهاً إن هو إلا مسلم من لدن فطرته وسجيته، فكل قد أسلم لله وانقاد..)
قلت: ولفظ الإسلام المعبر به في هذه الجمل ينطبق تماماً على توحيد الربوبية وهو الإسلام المعروف في اللغة العربية، وليس المقصود به الإسلام الشرعي كما هو واضح.
ويتضح من ذلك أن الإقرار بوجود الله وأنه رب العالمين وخالقهم والمدبر لشئونهم والمتصرف فيهم فطري في جميع المخلوقات حتى الإنسان الكافر الجاحد ولكن أيعترف كل الناس بذلك؟
كان المشركون الأولون - وهم يجحدون وحدانية الله في عبادته يقرون بوجود الله، وأنه خالق الخلق ومدبر الكون ومنزل المطر كما قال تعالى عنهم في كتابه الكريم:(10/285)
{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} . قال:
{قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} .(10/286)
ولهذا - أي لكون المشركين الأولين كانوا يقرون بتوحيد الربوبية - لم يكن الرسل يدعونهم إلى هذا النوع من أنواع التوحيد، بل كانوا يدعونهم إلى النوع الذي ينكرونه، ويستدلون عليهم بتوحيد الربوبية هذا الذي يقرون به قال تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وقال تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وقال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} والآيات من الكثرة بمكان في هذا المقام.(10/287)
ومع تظافر الأدلة النقلية والعقلية على هذا النوع ومع إقرار الفطر به نجد من ينزلون أنفسهم منزلة الحيوان فيلغون عقولهم التي وهبها الله لهم ويصرحون متبجحين، شاذين عن الكون العظيم كله، بنفي وجود خالق ومدبر لهذا الكون، ولم يكن لهذه الطائفة الشاذة أهمية في الأرض من قبل، أما اليوم في القرن الرابع عشر الهجري - فقد قامت دول على أساس هذا الشذوذ المقيت، كروسيا والصين وغيرهما من دول المسكر الشرقي ومن دار في فلكهم - كما لا ينكر تفشي الإلحاد في المعسكر الغربي أيضاً، وهل المعسكر الشرقي إلا وليد الغربي؟!
ورغم أن هذا المذهب الشاذ لم يكن منتشراً في الزمن الماضي إلا أن الله الخبير بخلقه وما سيحدث منهم قبل أن يحدث قد ألقم أهله الحجة الدامغة التي لا تترك مجالا للهروب من الحق إلا العناد والمكابرة والمعان والمكابر لا ينفع معهما دليل قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ}
فالآية الكريمة تطلب من جاحد الربوبية الجواب على ثلاثة أسئلة:
السؤال الأول: هل خلق من غير خالق - أي من العدم؟
والجواب الذي لا يقبل العقل سواه أنه لا بد للمخلوق من خالق وأن العدم لا يمكن أن يكون خالقاً.
السؤال الثان: هل خلق الجاحد نفسه؟
والجواب الذي لا يقبل العقل سواه أن المخلوق لا يمكن أن يوجد نفسه والصنعة لا بد لها من صانع، والصانع لا بد أن يكون موجودا قبل صنعته وإلا لما صح أن يكون صانعاً لها.
السؤال الثالث: هل خلق الجاحد هذا الكون العظيم: سماءه وشمسه وقمره ونجومه وكل كواكبه، أرضه وجباله وسهوله وبحاره وأنهاره وأشجاره.(10/288)
والجواب الذي لا يقبل العقل سواه أنه لا خالق لهذا الكون من البشر ولا غيرهم من المخلوقات، وهل يقدر أحد أن يقول: نعم أنا خلقت السموات والأرض؟ لو قال ذلك - ولم يقله أحد - لتحداه المتحدي أن يخلق حبة شعير أو سمسم، أو ذرة ولا قدرة له على ذلك.
إن نمرود عندما لف ودار، وقال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} قال له إبراهيم: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} لم يقل له إبراهيم أوجد شمساً كهذه الشمس، بل طلب منه تحويل مجراها فقط، إذن فلا بد لهذا الكون من خالق فمن هو؟
جواب المؤمنين بوجود الله واضح فما جواب الجاحدين؟
لملحدي هذا العصر على هذا السؤال جوابان:
الأول: أن هذا الكون وجد صدفة، والثاني أن موجده هي الطبيعة.
ومعنى الصدفة أن هذا الكون كله وجد هكذا من العدم بدون موجد فما حظ هذا الجواب عند العقلاء؟!
لا يشك عاقل يؤمن بوجود عقله وسلامته في تفاهة هذا الجواب الساقط غاية السقوط، ومع ذلك فلا بأس بمناقشته مناقشة مختصرة ليزداد سقوطه وتفاهته وضوحا للصبيان والمعتوهين - لا المكابرين أو المجانين - ولذلك نسوق بعض الأمثلة التي يعترف بها الجاحد.
المثال الأول: أن يقال: هذا القصر الذي يناطح بطوله السحاب ويجثم على مساحة واسعة من الأرض فيه عدد كبير من الغرف المفروشة المزخرفة جمعت فيه كل دوائر المدينة - أي مدينة - الحكومية وضع على باب كل حجرة لوحة كتب بها وظيفة صاحبها من الأمير إلى أصغر موظف استكملت كل وسائل العمل والراحة - يقال: هذا القصر بهذه الضخامة والتنسيق وجد بنفسه لم تصرف فيه نقود ولم يفكر في بنائه مفكر ولم يصنع لبناته صانع ولم يبنه بان وجد هكذا صدفة في لحظة يصعب تمييزها لقصرها!! أترى عاقلا يصدق هذه الدعوى؟!!(10/289)
إن كل العقلاء سيجزمون بأن قائل هذا الكلام فاقد العقل يهرف بما لا يعرف وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لهذا القصر الذي يعتبر ذرة لا نسبة لها إلى بقية المخلوقات فما بالك بالسموات وما فيها، والأرض وما فيها أيعقل أن يقال إنها وجدت هكذا صدفة؟؟!!
المثال الثاني: أمامي كتاب يتكون من أربعة عشر مجلداً في كل مجلد ما يربو على ستمائة في كل صفحة ما يقارب عشرين سطراً في كل سطر عشرون كلمة.
قل لي بربك ما موقف هؤلاء الملحدين أنفسهم ثم موقف العقلاء من الناس من شخص - فضلا عن دول وشعوب - زعم أن هذا الكتاب بأجزائه، وصفحاته، وأسطره وكلماته وحروفه مع ما فيه من جمل متناسبة ومعان مترابطة، وأسلوب بديع، وأفكار عظيمة، وجد هكذا صدفة، بدون صانع ورق ولا طابع ولا مؤلف ولا كاتب ولا شيء سوى أنه وجد صدفة أيمكن أن يؤمن بهذه الدعوى أحد في الأرض من العقلاء حتى الملحد نفسه.
وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لهذا الكتاب - مثلا - فما بالك بهذا الكون العظيم لمحكم المنسق من أرض وسماء وما فيهما وما بينهما، أيعقل أن توجد هكذا صدفة؟!! ألا يدل كل منها أن له موجداً مريداً حكيماً عليماً قوياً قادرا ً؟!
المثال الثالث:(10/290)
لو قيل لك: إن باخرة عظيمة تعتبر أحدث البواخر في هذا العصر كبراً وتنظيماً وإتقاناً تبحر من طوكيو باليابان مارة بمدن الصين والهند وأفريقيا وبريطانيا في أوقات معينة ترسو بنفسها في كل مدينة وتنزل من بها وما بها في تلك المدينة ثم ترفع من تلك المدينة من المسافرين وما بها من الأمتعة إلى المدينة الأخرى بنفسها كذلك، هذه الباخرة وجدت بدون صانع، وليس لها ربان، ولا عمال ينزلون أو يرفعون ما بها، بل وجدت صدفة وتسير من مدينة إلى أخرى في وقت محدد صدفة أيضاً؟ أترى هذا الزعم يصدر من ذي عقل أو يصدقه ذو عقل، ألا يسخر من قائله كل الناس؟ بلى، أهذا لا يعقل في سفينة ويعقل في الشمس والكواكب السيارة بدقة وإحكام مع عظم الحجم ودقة السير {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}
وبهذا تعرف أن القول بالصدفة ما هو إلا سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه.
وإذا كان هذا هو شأن الصدفة فما قيمة الطبيعة في ميزان العقلاء؟!
الطبيعة في اللغة السجية، وتطلق في اصطلاح أهل العصر على أمرين:
الأول: على الشيء نفسه فالمخلوقات هذه التي نشاهدها هي الطبيعة، فالشمس من الطبيعة والقمر من الطبيعة والنجوم من الطبيعة والأرض من الطبيعة، والأرض وما فيها من جبال وسهول وأنهار وحيوان من الطبيعة.
الإطلاق الثاني: على خصائص الأشياء، فحرارة الشمس من الطبيعة وإحراق النار من الطبيعة، وبرودة الثلج من الطبيعة، وشبع الطعام من الطبيعة، وري الماء من الطبيعة وهكذا.(10/291)
فعلى الإطلاق الأول يكون معنى خلق الطبيعة للأشياء أن كل شيء خلق نفسه، فالشمس خلقت نفسها، وهكذا القمر والنجوم والجبال والبحار والأشجار والإنسان، وهل يعقل أن يخلق الشيء نفسه: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} .
وعلى الإطلاق الثاني تكون خصائص الأشياء خلقت الأشياء، فحرارة الشمس خلقت الشمس، والإحراق خلق النار، وبرود الثلج خلقت الثلج وري الماء خلق الماء، والشبع خلق الطعام، وهلم جرا.
وهو كما ترى لا يقدر على إطلاقه عاقل، ولكنه العمى: عمى القلب، بل وعمى البصر أيضاً، فالعقلاء يعرفون أن خصائص الأشياء لم تكن موجودة قبل الأشياء، بل إما أن توجد بعدها، أو مقارنة لها في الوجود، والموجود الذي يتأخر عن غيره أو يوجد معه كان معدوماً قبل وجود ذلك الشيء، والمعدوم لا يعقل أن يوجد غيره إذ فاقد الشيء لا يعطيه، فأين عقول هؤلاء؟! سبحانك ربنا هذا بهتان عظيم.
الخالق هو الله ولا خالق سواه
خلاصة الأدلة العقلية على وجود الله وأنه خالق الكون ولا خالق سواه:(10/292)
1- لكل فعل فاعل: كل حدث في الكون لا بد له من محدث، ولا يمكن قط أن يوجد حدث بدون محدث، فإذا رأيت بناء جديداً اليوم لم يكن موجوداً بالأمس جزمت أن بانيا أو بانيين أحدثوا هذا البناء، وإن هذا البناء لم يحدث بدون بان، وإذا رأيت جبلاً قد أزيل من مكانه جزمت أن آلات هدم قد دكته دكا وأن تلك الآلات قد استعملها ذوو خبرة بقيادتها، وإذا رأيت أن سيارة تتجه إلى مكان ما جزمت بأن محركاً قد حركها، وإذا كانت هذه السيارة تتجنب الاصطدام بالجدران والصخور والناس عرفت جازماً أن قائداً عاقلاً خبيراً يقودها ويسيرها، وإذا سمعت الجرس يدق في منزلك جزمت أن ضغطاً قد وقع على زره، وإذا سمعت جرس هاتفك يرن جزمت أن شخصاً قد اتصل به على نفس نمرتك، ومن المستحيل أن يحدث كل ذلك بدون محدث، وهذا يدل - دلالة عقلية قطعية - أنه لا بد لكل فعل من فاعل.
قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} وإذا كان الأمر كذلك فهل يعقل أن يوجد هذا الكون بهذه المخلوقات بدون موجد؟
2- الفعل مرآة لقدرة فاعله وبعض صفاته:(10/293)
إذا رأيت كراسة مسطرة تسطيراً دقيقاً مستوياً وبها كتابة جميلة متقنة مستقيمة دلك ذلك على أن شخصاً ما قد كان على علم بصنع الورق ومقدرة على صنعه، وأنه دقيق في تقدير المسافة التي تفصل بين كل سطر وآخر، وأنه - هو أو غيره - يجيد القراءة والكتابة وعنده قدرة على فعل ذلك كله، وتجزم بعد ذلك أن هذه الأمور تدل دلالة لا لبس فيها على قدرة ذلك الفاعل وعلامات واضحة لبعض صفاته، انظر بعد ذلك إلى هذه المخلوقات التي تشاهدها تسير بدقة وإحكام من أكبر مخلوق في السماء إلى أصغر ذرة من الرمل في الأرض ألا تدل على قدرة الخالق وترسم لك صورة واضحة لبعض صفاته فتعرف من ذلك أنه قدير مريد حكيم عليم خبير مهيمن؟ قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}
وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ. وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}
وقال: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَت وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ}(10/294)
وقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
3- (ليس الفاعل من لا يملك القدرة على الفعل) .
الذي لا يملك القدرة على الفعل لا يسند إليه ذلك الفعل، فإذا رأيت قتيلاً مرمياً على جانب الطريق وبجانبه طفل ولد لتوه ملقى على الأرض فهل تستدعي الجنود المسئولين عن الأمن لاحتجاز ذلك الطفل وتقيم الدعوى عليه بأنه قاتل ذلك القتيل؟ كلا! لماذا، لأن الطفل لا يملك القدرة على قتل ذلك الشخص أو غيره، وإذا رأيت قمراً صناعياً قد أطلق ليدور حول الأرض فإنك لا تسند إطلاق ذلك القمر إلى حيوان - كالثور مثلاً - لأن الحيوان لا يملك القدرة على إطلاق ذلك القمر، وهكذا….
ولننظر الآن إلى هذه المخلوقات العظيمة كالسموات والأرض وما فيهما وما بينهما أيدور بخلدك إسناد خلقها وإيجادها إلى أي من هذه المخلوقات التي هي في افتقار ذاتي إلى من يوجدها؟ إنها كلها لا تملك القدرة على خلق نفسها ولا خلق غيرها، وهذا الإنسان الذي بلغ شأواً بعيداً في الابتكار والاختراع والاستفادة من كثير من هذه المخلوقات لم يقدر على أن يخلق حبة خردل أو جناح بعوضة.(10/295)
فمن يستحق أن يسند إليه فعل هذه الأشياء وخلق هذه المخلوقات؟ إنه الله الخالق البارئ المصور القادر المريد الحكيم: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} .
(يتبع)(10/296)
ترجمة القرآن
للأستاذ محمد بن محمد الأنصاري المدرس بمعهد الباحة العلمي
إن محولات هذا العصر في خنق الثقافة الإسلامية، فيما يتعلق بفكرها ولغتها كثيرة جداً، ومن نوافذ بعيدة المدى، وآفاق عميقة الجذور، تتستر أحياناً بما هو مطلوب من معتنقي الثقافة الإسلامية ولغتها الشاعرة (اللغة العربية) .
من هذه البدع المجازفة السيئة التي قام بها الأعداء مباشرة، أو غير مباشرة، من محاولة ترجمة القرآن، ترجمة حرفية يطلقون عليها قرآناً، وهذه الحماقة إن راودها بعض المسلمين أو المنافقين فلا نردها إلا إلى جهل تام وبعد واسع النطاق عن القرآن العظيم في نزوله والمنزل من عنده المتكلم به حقيقة والمنزل عليه في لغته وبلاغته التي لا تقاوم.. ولا ينال طرف منها، في حرف وجملة وكلمة، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} بل إن كلاما أدنى منه وأسلوباً أقصر من نسجه على إرادته تقليداً أو محكمات، لا يمكنهم الإتيان به ولا تطاوعهم الملكة البيانية في فصل الخطاب وفي أوابد القوافي لمراميه، قال تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} .
كأن الذين يحاولون ترجمة القرآن الحرفية، جاءوا ليصدقوا إعجاز القرآن في شانهم هذا المضحك، وهو نقل القرآن إلى لغة يمكن أن يعارض فيها ولا يعجز وهذه المحاولة نفسها إعجاز!!(10/297)
ولا شك أن هذه العبقريات (اللافتة) يمكر من ورائها الغرب الغدّار والاستشراق الفتاك، إنها فتنة لا نشك أدنى شك في أن القرآن المعجز يلحق بها هزيمة ساحقة، مهما كاد الكائدون فهي لا تستحق العناية من حيث الموضوعية.. لذلك نقول في إجمال: إن ترجمة القرآن الحرفية لا تجوز إجماعاً ولا يمكن لأي أحد مهما أوتي من قوة علمية ولغوية وأدبية وفكرية، جمعت وفاقت كل العبقريات العالمية من آدم عليه السلام حتى آخر رقم في النسل البشري.. التعبير بجملة واحدة تماثل جملة قرآنية بلاغة وإعجاز.
إذا كانت الأمة العربية التي نزل القرآن بلغتها في يوم لم يمر على العربية ـ من قبل ومن بعد ـ مثله قوة وإبداعاً عجزت عن خطوة واحدة لمعارضة القرآن ومناقضته مع ما ألحقه بهم في التحدي وإعلان الذلة والجمود عليهم أمام صولته القاهرة وبيانه الساحر فكيف بلغات لا تذكر جانب العربية في خاصة واحدة من خصائص اللغات…؟!!
هذا وقد أثبتت الدراسات في اللغات.. الفرق الكبير بين حروف العربية وجملها الاسمية والفعلية، وأساليبها المتعددة وبين اللغات الأخرى كالفرنسية والإنجليزية.
فاللغة العربية لغة عالية بمعنى الكلمة ونزل بها كتاب أعلى منها في ذاتها، فكيف يوضح هذا الكتاب ويقرأ بلغات قاصرة ونازلة عن لغة كانت نازلة عن هذا الكتاب..!!؟
أما الترجمة المعنوية للقرآن الكريم وغيره من علومه العربية الإسلامية، فهي الأمر الذي يستدعي التأمل ويدعو الباحثين إلى التوقف والنظر في دنيا الإسلام وثقافته في يومنا هذا. لتردد هذا الدافع التربوي بين نفع كبير وضرر بعيد المدى في الحياة الإسلامية لمريدها حاضراً ومستقبلاً..(10/298)
ولا شك أن الدعوة الإسلامية اليوم تتطلب هذا النوع من الترجمة في حوارها مع العالم في كابوسه الجاهلي لنشر الفكرة الإسلامية، وإيصال العنصر الإسلامي إلى أمم الأرض الحائرة التائهة.. كما أن الإسراف في الترجمة هذه ليس في صالح العربية لتكون لغة إسلامية عالمية يدين لها كل مسلم بالحق والأولوية إلى نفسه، وتأخذ طريقها إلى مقاليد العلم والفكر والاقتصاد والاجتماع والسياسة في كافة الدول الإسلامية وشعوبها، ليكون ذلك وسيلة لحاكية الإسلام في ربوع العالم الإسلامي وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
إذا كان الأمر كذلك، فالترجمة المعوية للقرآن وكل ما هو إسلامي وعربي ونقل ذلك إلى لغات للأجانب أو إلى لغات لإخوة من الشعب الإسلامي الكبير، ذات حدين، عندما نمعن النظر فيها من خلال الحقائق الإسلامية التي جاوزت القرون وعبرت جسوراً من المصاعب، حتى وصلتنا في يومنا هذا والحقيقة الكبرى التي لا يساورنا فيها تردد وهي: أن الإسلام عربي اللسان فلما كان ذلك تحولت لغته الخالدة هذه من كونها لغة شعب وشعوب الدنيا في فترة من الزمان، إلى كونها لغة دينية لها طابع رباني، مختارة لتكون لغة للعالم من بين اللغات حتى نهاية الدنيا بل وفي الحياة الأخروية، كما اختير رجل واحد من بين الناس ليكون رسولاً للعالم كافة، حتى يوم الدين، وهي كفيلة بكل ما يطلبه العالم أدبيا ولغويا وحضاريا، كما أن رسالة الإسلام كفيلة بكل ما يطلبه البشر من حماية ورفاهية حضارياً.
هذا وإننا نؤمن إيماناً صادقاً ونجزم: أنه لا قرآن بلا عربية ولا علا جديا يظهر الإسلام في حقيقته في الحياة إلا بالعربية… فلتكن إذا الترجمات المعنوية مقدمات فقط يحدد لها وقت أقصر من سلافه الذباب، ريثما تبرز الشعلة العالية في زينتها الساحرة وقوتها العامرة، إنها أداء رسالة الإسلام وقرآنها بالأسلوب الذي نزل به وأعطى به.(10/299)
أما الاندفاع الكلي في الترجمة المعنوية، فإنه وإن كان فيه حق يجب القيام به مقدمة للدعوة الإسلامية، فإنه يتصل اتصالاً وثيقاً ـ إن استمر ـ بما تدعيه أوربا من أن العربية لا تصلح لغة لحضارة معاصرة والإسلام متخلف لا ينهض في عصر التكنولوجيا، كما أنه يضعف طلب العربية وتعلمها من قبل المسلمين في المعمورة الأرضية.
وإذا رجعنا إلى الوراء وتأملنا صفحات التاريخ المشرقة بالأمجاد والمجد طيع في طولها وعرضها. استحضرنا ما كان للدولة الإسلامية من تقدم وأداء للدعوة، لما كانت قوية ومتمسكة بشخصيتها الأصيلة في عهودها الأولى لقابلتنا حقائق بارزة وناطقة تشهد لما ذكرت وبينت.
لقد استطاع المسلمون أن يترجموا لغات الأمم التي دخلت الإسلام إلى العربية فتصبح العربية لغة لهذه الشعوب المؤمنة وتنصرف عن لهجاتها التي لا تتصل بالقرآن في حال من الأحوال، وتعتنق العربية الوسيلة إلى قرآنهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
ويدخل في هذا ترجمة الآداب والعلوم الفارسية والرومية واليونانية والهندية إلى العربية، ليتسنى للناس دراستها والاستفادة منها بأسلوب عربي، وتموت تلك اللغات وتحيى لغة الإسلام مسيطرة على الأمة فكريا وعلميا، وماذا نتج عن هذا؟!
هل نتج عنه أن الإسلام لم يصلها لا والله..؟ وإنما النتيجة أن تفجرت في آفاق الدنيا آلاف من العلماء حملوا لواء الإسلام في عربية، وكانوا منار الهدى في عصور الإسلام، ويظهر سيبويه ليكون إماماً للنحو العربي، والطبري إماماً للمفسرين والبخاري إماماً للمحدثين وأبو حيان وابن معطى وابن الرومي وأبو العتاهية وبشار وغيرهم من العلماء والشعراء والأدباء.(10/300)
إن الحكمة كل الحكمة في هذا الجانب الهام للدعوة الإسلامية اليوم تكمن في التصرف والبداية التي تؤدينا إلى الغاية بدون إفراط ولا تفريط والغاية هي توضيح الفكرة الإسلامية نقية مهذبة لا تشوبها شائبة بدعية أو عصرية، ليكون ذلك منهجا قويا يضمن للوافدين إلى الإسلام استمرار رغبتهم فيه، وانفجار الاستراتيجية الإسلامية في كل الاتجاهات أمام المقبلين إليه، فلا يلمسون من عطائنا نحن المسلمين المبشرين بالإسلام شيئاً، يلوح من بعيد أو قريب، إلى قصر المنهج في إبراز الفكرة الإسلامية، واضحة متكاملة، وفي ذلك نجد النجاح المستمر من جانبين خطيرين:
الأول: الظفر بمن يخلص للعقيدة الإسلامية ومرافقها من مادة الإنسانية التي لا تخلو من خير ويصدق لها والعربية داخلة في ذلك، لأن العمل الجدي والأسلوب المخلص التربوي لا ينتج إلا جدياً ولا يقدم إليه إلا الصادقون "خيارهم في الإسلام خيارهم في الجاهلية إذا فقهوا"(10/301)
الثاني: السلامة من عالم النفاق والنجاة من غدره الذي قد يكون غنيمة لمن يعطى الإسلام بأساليب هوجاء لا تزيد عن كونها فكرة تقال في مناسبة وكفى ـ وأنا أعتقد أن الأسلوب الذي كان دافعاً لوجود النفاق في العصر الأول للإسلام، مباين كل المباينة للأساليب التي قد تكون دافعاً لوجود النفاق في عصرنا هذا وهي كثيرة، إنما أخص منها ما أريده في هذه الكلمة الموجزة ـ ذلك أن النفاق في العصر الأول كان الدافع لوجوده، إنما هو قوة الإسلام في أدائه ودقة منهجه وبروز شخصيته الفعالة، فكان من الواضح أن ترى طائفة قليلة في المدينة الخطر يحيط بها من هذا السَّيْل الإسلامي الذي يعلو ولا يعلى عليه، فدافعت عن نفسها بأن اعتنقت الإسلام ظاهراً لا باطناً، ومع هذا فلم تلبث هذه الطائفة كثيراً حتى نبش القرآن المعجز قلوبها السوداء، وأظهرها على سطح بحر الكفر طافحة، وظلت في هوانها، حتى اندثرت سريعاً بين المد والجزر الإسلامي، فلم يكن لها مفعول وبقي الإسلام عالي الصوت قوي العواصف تجول راياته في الخافقين.
أما العامل لوجود النفاق في عصرنا هذا من دوافعه، أداء الإسلام بأساليب غير منهجية ضعيفة لا تحمل حقيقة حية ترغب وتلقى عبثاً ومسئولية على مُعْتَنقيه فكان من السهل جداً اعتناق هذا الإسلام مع بقاء إنسان العصر على ماديته وجاهليته فذلك النفاق الذي لا يرجى موته ولا تطول مدة الإسلام معه، لأنه هو الغلاب، إذ قدم صاحبه إليه ظناً منه أن هذا الدين لا يكلفه غير أن يسجل اسمه في سجله ليزيد ستمائة مليون مسلم وكفى، بلا تغيير في حياته، بينما لو علم حقيقة الإسلام لم يقدم إليه إلا راغباً وعاملاً.(10/302)
إن كثيراً من المبلغين للإسلام قد يؤدونه بهذا المنطق المستسلم ولا يريدون إلا الخير واللطف لكنه ينبغي ألا تخفى عليهم حقيقة وهي أن الإكراه في الدين لا يجوز، وتلك الأساليب المرغبة والمسهلة في مسئوليات قد توفر عدداً كبيراً لتقبل الإسلام مذهباً شكلياً، فإن وجد هذا إكراه بعينه والإسلام نهى عنه لئلا يكون فيه من لا يقدر مسئوليته، ويعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو تنازل عن ميزة واحدة من ميزات الإسلام لما لقي من قومه عنفاً وشدة.
قال تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .(10/303)
حول رسالة الجامعة
شباب الجامعات السعودية رواد حضارة وتقدم على طريق الإسلام [1]
بقلم الأستاذ محمد أبو طالب شاهين المدرس بالجامعة الإسلامية
الجامعات السعودية هي قمة المراحل التعليمية، وأعلى درجها، في أمة مسلمة رائدة وقدوة، ودولة قامت بشرع الله، وأقامت حدود الله على الأرض الطيبة التي شرفها الله ببيته الأول زاده الله تشريفاً وتعظيماً، ونبيه الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
والمملكة العربية السعودية هي أمل المسلمين كل المسلمين، ترمقها عيونهم، وتهفوا إليها نفوسهم، وتتجه إليها قلوبهم، فقد جعلها الله سبحانه مهوى الأفئدة ومقصد الحجيج، المسلمون كل المسلمين تقر عيونهم بأن يروا دائماً في أبناء المملكة وجامعاتها ومناهجها وكل اتجاهاتها القدوة، والرائد، والنموذج، والمثال، على طريق الإسلام والرقي العلمي معاً.
لقد أدت المملكة الأمانة على وجهها في سدانة الكعبة، وعظمت شعائر الله ومناسكه، وأمنت ويسرت سبيل الحرمين الشريفين.
ولما أفاء الله عليها من ينابيع الزيت عصب الحياة، ومادة السلم، ووقود الحرب صرفت عطاء الله داخل حدودها تعميراً وتعليماً وإصلاحاً ونهوضاً وتقدماً كما بذلته خارج حدودها عن رضا وإيمان عونا وانتصاراً لكل قضايا الإسلام والعروبة، حتى جاء اليوم التاريخي الذي وقف فيه عاهلها الفيصل العظيم ليقول للدنيا بعزة الله في إباء: لا!!!
فتهتز الدنيا وتقول له على تواضع واستحياء: نعم!!!(10/304)
وقد سايرت المملكة ركب الحياة المتقدمة في نهضة عمرانية وتعليمية شاملة، وتوسعت في التعليم، وأنشأت الجامعات استجابة لتطور الحياة والتقدم العلمي والحضاري؛ وانطلاقاً من جو السمات الدينية التي تميزت بها المملكة كان طبيعياً أن تكون كلية الشريعة بمكة المكرمة هي الباكورة المبكرة للتعليم العالي والجامعي، ثم أنشئت كليتا الشريعة واللغة العربية بالرياض، ثم انشئت جامعة الرياض وجامعة الملك عبد العزيز وكرم الله دار الهجرة فأنشئت بها الجامعة الإسلامية لتستقبل أبناء العالم الإسلامي كله من جميع القارات في أفواج مثلت في العالم 85 جنسية.
إن الجامعة هي المرحلة العليا من التعليم تستقبل شبابها بعد أن يجتازوا مرحلة الثقافة العامة التي هي قدر مشترك بين الأمة، والتعليم الجامعي في عصر التخصص ذو نوعيات مختلفة من شعب العلوم النظرية والعملية، كالدراسات الدينية والأدبية والاقتصادية والطب والهندسة والعلوم وغيرها.
وشباب الجامعات هم أمل الأمة وعدة المستقبل ورجال الغد يرثون الماضي لينموه ويطوروه للحاضر، ويهدوه للمستقبل.
والتعليم الجامعي يعاصر من عمر الشباب طاقات جسيمة وعقلية قادرة على التحصيل والبحث واستيعاب المحاضرة ومتابعة الأستاذ في دراسات من أبرز خصائصها سعة الاطلاع والوقوف على المراجع والمصادر وتربية الملكات وتنميتها حتى ترقى إلى درجة الرأي والموازنة والترجيح والاختيار.
ومن هنا كان الأصل في الجامعة أن تخرج العالم لا أن تعد الموظف وأن تفتح أبواب المعرفة من مصادرها وأن تتيح لأبنائها فرص البحث الحر وتشبع رغباتهم وميولهم واستعدادهم قبل أي اعتبار آخر.
ولكن الواقع أصبح غير ذلك ـ على المستوى العالمي ـ فنحن في عصر الاقتصاد والتنمية، والحياة تعدو بأهلها في سباق مع الزمن صار صراعاً، والشباب يتعلم ليعيش، وكل دولة تنظر إلى جامعاتها بمنظار احتياجاتها، وفي ضوء متطلباتها.(10/305)
ولهذا لم يكن غريباً أن تتضمن خطة المؤتمر الذي يعالج (رسالة الجامعة) طرح مسائل للبحث منها:
التفاعل بين الجامعة ومؤسسات الدولة ودور كل منها في دعم الآخر.
دور الجامعة في التنمية الاقتصادية.
دور الجامعة في التنمية الاجتماعية.
دور هيئات التخطيط والمواءمة بين الخطط وما يجري داخل الجامعة.
العلاقة بين الجامعة والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية في الدولة وأثر كل منهما في الآخر.
الربط بين التخطيط الاقتصادي والدراسات الجامعية.
تنقية أساليب الحضارة وأنماط الحياة العصرية وتقديمها للمجتمع في صورة يساير بها التطور العالمي…
ومن خلال هذه النظرة تبدو الجامعة وهي ليست (أكاديمية) لبحث علمي مجرد على مستوى رفيع متميز بقدر ما هي مصنع لطاقات بشرية تؤهل وتعد طبقاً لإحصائيات وعمليات حسابية لكي تفي بحاجات المؤسسات والخطة والتنمية وتسد الفراغ أو النقص في جوانب الحياة المختلفة للأمة ومرافقها ومتطلباتها.
أما الشباب فنظرته إلى الجامعة أنها مرحلة تهيئ مستقبلا سعيداً يفتح بابه الشاب بيمينه التي تحمل شهادته العليا.
والبحث، والعلم، والدرس، وسعة الاطلاع، والتخصص حسب الميول والاستعداد وما إلى ذلك كأني بها أصبحت في نظر الشباب لافتات قديمة على أبوب الجامعات حلت محلها لافتات أخرى صنعتها ظروف الحياة المعقدة وهذه اللافتات الجديدة هي ـ في الكثير والغالب ـ: المركز الأدبي ـ الوضع الاجتماعي أي الكليات أحسن مستقبلا؟ وأوفر ربحاً؟ وأسعد حظاً؟
وأي الكليات يعجل بالسيارة الفخمة والبيت السعيد؟
وماذا نريد من الجامعات؟
ماذا نريد من الجامعات أكثر من أن تطور حياتنا، وتقدم عمراننا واقتصادنا، وترقي معارفنا ومرافقنا، وتيسر وترفه عيشنا مشاركين في ذلك الأمم التي سبقتنا، ولاحقين بركب الحياة المتطورة المتقدمة؟(10/306)
نعم إننا نريد ذلك، وما أحوجنا إلى ذلك ولكن على طريق الإسلام، مؤمنين كل الإيمان بأن الإسلام دين ودنيا وشريعة تامة ومنهج متكامل لا يعارض العلم ولكن يوجهه إلى الخير، ولا ينكر التقدم ولكن يضعه في إطار السلوك الفاضل، ونريد أن يذكر أساتذة الجامعات والكليات السعودية دائماً طلابهم بأن المملكة العربية السعودية أمة مسلمة رائدة وقدوة وأن المسلمين الذين تقر عيونهم بأن يروا في شبابها وجامعاتها واتجاهاتها النموذج والمثال يتفاءلون بأن السياسة العليا للمملكة تحتضن الإسلام ولا تدخر جهداً ولا بذلاً في تأييد دعوته ومناصرة كل قضاياه كما يتفاءلون بأن القائمين بأمر الجامعات والكليات في السعودية والمسئولين عن توجيهها صفوة مختارة من المؤمنين بربهم وبرسالة دينهم.
ومن أجل ذلك لا بد من العناية بالتربية الإسلامية في الجامعات السعودية كلها على اختلاف نوعياتها وتخصصاتها علماً وسلوكا ومنهجا وتطبيقاً.
والذين وضعوا (سياسة التعليم) في المملكة لم يفتهم هذا، بل إن الذي يقرأ (سياسة التعليم) في المملكة ليرى أن التربية الإسلامية في أوسع وأعمق معانيها هي الهدف وهي الغاية في كل مراحل التعليم.
ففي الباب الأول من (سياسة التعليم) الأسس العامة التي يقوم عليها التعليم تنص المادة 12 على ما يأتي:
(توجيه العلوم والمعارف بمختلف أنواعها، وموادها، منهجا وتأليفاً وتدريساً وجهة إسلامية في معالجة قضاياها، والحكم على نظرياتها، وطرق استثمارها، حتى تكون منبثقة من الإسلام متناسقة مع التفكير الإسلامي السديد) .
ولست أدعي لنفسي الحق في ترجمة هذه المادة إلى خطة أو صياغتها في منهج فغيري أقدر على ذلك وأولى به، ولكني ألمح في سطورها بعض تفسيرات أذكرها وأذكر بها على سبيل المثال:
أولاً: الربط بين العلم والدين في مجال الطب والعلوم وما يتصل بها:(10/307)
هناك فرق بين التفسير المادي البحت والتفسير المؤمن الواعي لظواهر الكون وأسرار الخلق في جسم الإنسان، وتشريحه، وفي عجائب الأرض والنبات وبدائع الأفلاك والسموات، وفي العناصر وخواصها.
الطبيب المؤمن، والعالم المؤمن، والكيميائي المؤمن هؤلاء وغيرهم في كراسي الأستاذية يربطون بين الدين والعلم ربطاً يلفت إلى الله وقدرته وعجائب صنعته، وإلى أن بدائع الكون وما في المخلوقات من أسرار ـ هم أعلم بها من غيرهم ـ ما يمكن أن تكون مصادفة ولا طبيعية، بل لا بد أن تنتهي إلى القوة العليا إلى الله.
وتلك حقيقة توصل إليها علميا كثير من علماء العصر الذين لما يسعدوا بعد بالانتساب إلى الإسلام.
ولقد عالج أبو الأطباء في مصر المرحوم الدكتور عبد العزيز إسماعيل موضوع (الإسلام والطب الحديث) في الثلاثينات ومن بعده اتجه بعض أساتذة الطب والعلوم ومعهم بعض المفكرين والكتاب من المسلمين إلى الربط بين العلم والدين.
والمكتبة العربية الآن بها مجموعة طيبة من الكتب التي عالجت هذا الموضوع وجميل جداً أن تزود مكتبات الكليات العملية بهذه الكتب، وأجمل من هذا أنه تبذل الحوافز التشجيعية لأبنائنا طلاب هذه الكليات مادياً وأدبيا ليقبلوا على هذه الكتب لدراستها واستيعابها.
وماذا يحدث إذا لم نربط بين العلم والدين بكل الوسائل المثمرة؟
والجواب هو أننا إذا لم نربط بين العلم والدين في الكليات غير المتخصصة في الدراسات الدينية، إذا حدث هذا واكتفينا بالتفسير المادي البحت لظواهر الكون والخلق حدثت نتائج سيئة منها:
أـ سنجد أن طالب الطب وطالب العلوم في الجامعات السعودية لا يختلفان عن طالب الطب وطالب العلوم في روسيا أو أمريكا أو أي بلد غير مسلم من حيث تناول موضوع التخصص ومن حيث الإطار العام لمادته وبحثها واتصالها بعقيدته وفكره الديني.(10/308)
ب ـ سيباعد هذا الاتجاه بين الطالب السعودي في المرحلة الجامعية وبين ثقافته الإسلامية التي حصلها في المتوسط والثانوي.
ج ـ سيؤدي هذا إلى انفصام شخصية المجتمع السعودي، أو إلى ازدواج هذه الشخصية ووجود لونين متباعدين من الثقافة ونوعين غير منسجمين من الفكر والاتجاه أحدهما ديني والآخر بعيد عن ذلك قد يسمى:
جامعيا، أو مدنيا، أو علميا.
وهذا مع مرور الزمن سيكون خطراً على الوحدة الفكرية بين أبناء الوطن الواحد، وله عواقب غير طيبة.
ومن الأهمية بمكان أن أسجل في هذا الصدد أن الربط المنشود بين العلم والدين في نطاق مواد التخصص وعلى أيدي أساتذتها، هذا الربط لا يغني عنه أن نقرر في المنهج والخطة تدريس ثقافة إسلامية تخصص لها بعض المحاضرات، ويدفعني إلى هذا الحكم والجزم بهذه النتيجة تجربة علمية وقاسية مرت بها جامعات أخرى، انصرف فيها الطلاب إلى مواد التخصص لأهميتها وحساسيتها بالنسبة لمستقبلهم، وأهملوا ما سواها من المواد التي سموها إضافية.
إن هذا الذي أشرت إليه في موضوع الربط بين العلم والدين إذا دخل في تفسير المادة 12 من سياسة التعليم بوجه فإنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمضمون المادة 38 من هذه السياسة ونصها:
(بيان الانسجام التام بين العلم والدين في شريعة الإسلام فإن الإسلام دين ودنيا، والفكر الإسلامي يفي بمطالب الحياة البشرية في أرقة صورها في كل عصر) .
ثانياً: الاتجاه نحو فكر تربوي إسلامي ومنهج تربوي غير مستورد:(10/309)
إن كليات التربية في المملكة جزء عظيم من الجامعات السعودية، وخطرها يتناسب مع رسالتها الجليلة، وهي إعداد المعلم الذي (يبني وينشئ أنفساً وعقولا) ولكليات التربية مع هذا أهميتها في مستقبل التعليم وأثرها في الخطة التي رسمت للتوسع فيه، ومن أجل ذلك فإن المملكة تولي كليات التربية عناية ملحوظة وتتوسع فيها وتبذل لها العون والحوافز وتشجع الإقبال عليها حتى تؤدي رسالتها على خير الوجوه.
ومن المادة 163 إلى المادة 172 من سياسة التعليم بالمملكة يبدو الإطار المشرق للصورة المضيئة التي ترجى من كليات التربية (ومعها معاهد إعداد المعلمين) :
وسأكتفي بذكر فقرات من نصوص تلك المواد:
(تكون مناهج إعداد المعلمين في مختلف الجهات التعليمية، وافية بالأهداف الأساسية التي تنشدها الأمة في تربية جيل مسلم يفهم الإسلام فهماً صحيحاً عقيدة وشريعة ويبذل جهده في النهوض بأمته) .
(يعنى بالتربية الإسلامية واللغة العربية في معاهد وكليات إعداد المعلمين حتى يتمكنوا من التدريس بروح إسلامية عالية، ولغة عربية صحيحة) .
توصي (سياسة التعليم) في باب (إعداد المعلم) بالتوسع في كليات ومعاهد إعداد المعلمين لتحقيق الاكتفاء الذاتي رأسيا من حيث العدد وأفقيا بالنسبة لجميع المواد وبأن يشجع طلابها بحوافز مادية واجتماعية لا يساويهم فيها غيرهم وبأن يوضع للمعلمين كادر خاص يشجعهم… ويحفزهم، ويضمن استمرارهم في مهنة التدريس وبأن يفسح المجال أمامهم لمتابعة الدراسة..
ولا شك أن المملكة بهذا قد سبقت أمماً كثيرة غيرها في تشجيع المعلم وتقديره وإعطائه حقه.(10/310)
أما الفكر التربوي فينبغي أن يتطور، ولعله قد آن الأوان ليتجه التربويون العرب والمسلمون نحو فكر تربوي إسلامي مستقل تبرز فيه خصائص التربية الإسلامية ومصادرها في منهج أساسه القرآن والسنة وآراء المربين العرب والمسلمين، فإننا ما زلنا منذ أوائل هذا القرن نعيش في المشرق العربي على فكر تربوي مستور من الخارج.
وكثيراً ما كنت أسائل نفسي ورفاقي ونحن ندرس التربية وعلم النفس أنحن بحاجة مثلا إلى أن نستورد من الخارج تهدئة الانفعالات وتعلية الغرائز، وتقوية الإرادة، والله قد أنزل فينا الشفاء والهدى والرحمة: القرآن العظيم، وبعث فينا المثل الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق بقدوته وسننه وفعله وقوله؟ إن إخواننا وأبناءنا الذين بعثوا إلى الخارج مسلكيين قد عادوا بحمد الله مسلكيين سلوكيين لقد قال بعضهم بعد أن عاد من الخارج: يجب أن نعرف أبناءنا في كليات التربية من معلمي الغد ـ من غير تعصب أن كل مدارس التربية القديمة والحديثة في أوربا وأمريكا قد رسمت أمثلة متناقضة باعتراف أهلها، وهي مع هذا التناقض قد عجزت عن أن تحول المثال إلى واقع، وعلى العكس من ذلك تماماً فإن التربية الإسلامية بمنهجها المتكامل قد حققت ما يشبه المعجزات في تكوين الجيل المسلم الأول.
ثم إلى متى سنظل ننتزع أبناءنا انتزاعا من أحضان الفكر الإسلامي لتعلقهم في آفاق غربية لا يرون فيها إلا أشباح (روسو) و (بستالوتزي) و (ديوي) و (فرويد) وغيرهم.
ولعل الاتجاه إلى منهج إسلامي تربوي هو بعض ما تهدف إليه المادة 39 من سياسة التعليم وهي تنص على:
(تكوين الفكر الإسلامي المنهجي لدى الأفراد ليصدوا عن تصور إسلامي موحد فيما يتعلق بالكون والإنسان والحياة وما يتفرع عنها من تفصيلات) .
وأخيراً الأستاذ أولا والمربي أولا.
الذين اهتموا مشكورين برسالة الجامعة، وعنوا بها حتى عقدوا لها مؤتمرا بذل فيه جهد ووقت ومال.(10/311)
الذين صنعوا هذا الصنيع الجليل لا شك أن هدفهم نجاح الجامعات في أداء رسالتها.
والذين أدلوا بدلوهم في هذا الدلاء والذين يعنيهم الأمر من قريب أو من بعيد، كل هؤلاء قد يختلفون في الهدف من الجامعة أو يتفقون، وقد تتقارب أو تتباعد وجهات أنظارهم في خطة الجامعة أو منهجها أو في تنظيمها أو في الوسائل التي توصل إلى الغرض المرجو من الجامعة.
ولكن شيئاً واحداً سيتفقون عليه جميعاً لأنه حقيقة مؤكدة وواقعة ولا سبيل إلى خلاف فيها، حقيقة أثبتتها التجارب وأجمع عليها علماء التربية في القديم والحديث.
وهذه الحقيقة هي أن العنصر الأساسي والعامل الأهم في تحقيق الأهداف والرسالات الجامعية والعلمية والتربوية هو الأستاذ أولا…والمربي أولا.
وكاتب هذه السطور لا يعتلي منبراً ليلقي خطبة، وعظ وإرشاد في أساتذة أجلاء هو دونهم جميعاً، أستغفر الله فلست هنا ولا هناك ومن يدري؟ فلعل حديثي في هذا الموضوع مرجعه إلى شعوري بتقصيري وعيوب نفسي.
ولكن الذكرى تنفع المؤمنين.
إن المدري كما يقولون: مطبوع لا مصنوع.
والطلاب ينشدون في أساتذتهم القدوة والقوة، وإذا اهتز معنى القدوة أو القوة في شخصية الأستاذ، أو في سلوكه، أو في مادته، أو في معاملته، حدثت الهوة، وبعد القريب، وربما سد الطريق.
والأساتذة بشر من البشر، يختلفون ذكاء، وعلما، واستعداد.
ولكن رحمة الله الوهاب التي وسعت كل شيء تتجلى أسرارها في هذه المهنة العظيمة مهنة التربية والتدريس.
ومن أسرار هذه المهنة أن من أقبل عليها بقلبه، وعقله، ودينه، مستعيناً بالله، مؤمناً برسالته، راضياً عنها، سعيداً بها، مخلصاً فيها فتح الله له وفتح به، ومنحه ومنح به.
وما التوفيق إلا بالله.
ثم أما قبل وأما بعد:
فإن المملكة العربية السعودية هي واجهة الإسلام، يخفق عليها عاليا العلم الأخضر، تضيء فيه كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله.(10/312)
وهي عنوان الإسلام المسطر المعطر بمقدساته، وهي أمل المسلمين كل المسلمين يسعدهم دائماً أن يروا في أبنائها وجامعاتها ومناهجها وكل اتجاهاتها الرائد والقدوة والنموذج والمثال على طريق الإسلام والرقي العلمي معاً كما يسعدهم دائما أن تظل السمات الدينية التي تميزت بها المملكة بكل أبعادها وأعماقها ووسائلها وغاياتها هي المظهر والمخبر، وهي الواجهة والعنوان، وهي الهدف والغاية.
والله من وراء القصد
وهو الهادي إلى سواء السبيل
والحمد لله رب العالمين
--------------------------------------------------------------------------------
[1] هذا البحث قدمته الجامعة الإسلامية إلى مؤتمر رسالة الجامعة الذي نظمته جامعة الرياض بين البحوث التي شاركت بها في المؤتمر..(10/313)
رسالة لسماحة رئيس الجامعة
حضرة صاحب السماحة رئيس الجامعة الإسلامية الموقر
المدينة المنورة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:
نظراً لتدهور الأوضاع في إريتريا ووصولها إلى طريق مسدود نتيجة للتعنت الذي تمارسه السلطة العسكرية الحاكمة في أديس أبابا وقيامها بأعمال بربرية وحشية ضد الإخوة المجاهدين المسلمين من أبناء إريتريا بما يتنافى مع مبادئ الأمم المتحدة وقرارات لجنة حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها.. ونظراً لما يفرضه الواجب الإسلامي علينا من مناصرة لإخواننا في ميادين الجهاد لإيقاف النزف الدموي الإسلامي في هذا القطر الحبيب فإن الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي تناشد كافة الشعوب الإسلامية بهيئاتها ومنظماتها وجمعياتها ومراكزها في جميع أنحاء العالم الرسمية منها والشعبية القيام بحركة توعية شاملة لإبراز هذه القضية على ضوء الحقائق والوقائع التي تحاول السلط العسكرية الحاكمة في أديس أبابا إقامة ستار مزيف من الدعايات الكاذبة حولها.
ولكي تتضح الحقائق أمام العالم فإن الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي ترى من الواجب شرح هذه القضية ووضعها في ميزانها الصحيح وفيما يلي استعراض سريع لحقيقة الثورة الإريترية ودوافعها.
بدأت الثورة في إريتريا عام 1961م بثلاثة عشر رجلاً وتسع بنادق وكانت قضية الشعب الإريتري أن استخلاص أبسط الحقوق الإنسانية من دكتاتورية هيلاسيلاسي الشرسة لا يتم إلا بالقضاء على نظام الحكم الإمبراطوري المستبد الذي أكدت الأحداث فيما بعد أنه قام بابتزاز أموال الشعب لمصلحته الشخصية وهرب إلى بنوك سويسرا أموالاً طائلة وقام بتقسيم الشعب الأثيوبي إلى رعايا من الدرجة الأولى والثانية بينما كان يعامل الإريتريين باعتبارهم من الدرجة الثالثة ليست لهم أية حقوق وعليهم كل الواجبات.(10/314)
ولم يكترث هيلاسيلاسي في البداية بقوة البنادق التسع حتى كان الانقلاب العسكري الذي أتى بالحكام العسكريين الجدد وأطاح (بأسد يهوذا الذي لا يقهر)
وكان لا بد لهؤلاء الحكام أن يوانموا بين مبادئهم المزعومة وبين حقيقة الأوضاع بالنسبة لإريتريا التي تناضل من أجل استخلاص حقوقها، وكان لا بد لهم من مواجهة المعادلة الصعبة على هذه الأرض.
إنهم لا يريدون في حقيقة الأمر أن يتخلوا عن إريتريا لأنهم يدركون أن استقلال إريتريا معناه حرمانهم من منافذ على البحر الأحمر تعتبر بمثابة امتداد للعالم العربي والذي خاض هيلاسيلاسي من أجله معركة جنوب السودان لتكريس انفصاله حتى يمنع النفوذ العربي من التعمق داخل أفريقيا، ولأن إريتريا هي المنفذ الأثيوبي إلى البحر الأحمر فقد دعم هيلاسيلاسي علاقاته مع إسرائيل حتى يمارسا سويا نوبات الحراسة عند مداخل هذا البحر وحتى ميناء إيلات.
وحكام أديس أبابا الحاليون يدركون أن حرمانهم من هذه الميزة الاستراتيجية يضعف الكثير من سيطرتها الاستعمارية بالإضافة إلى كونه سيشجع قيام حركات انفصالية أخرى في الأقاليم التي يعيش فيها النيجريون وفي إقليم الأمهرة وإقليم الجالا الأمر الذي سيمزق سيطرتها أربا أربا.
ولكي يداووا هذا الوضع راحوا يعلنون للعالم أنهم قد اختاروا طريق الاشتراكية باعتبارها واجهة يمكنهم عن طريقها الضرب على نغمة المساواة لامتصاص ما قد يظهر من حركات انفصالية غير أن هذا الأمر قد أوقعهم في ورطة سياسية إذا المعروف أن الاشتراكيين يزعمون أنهم يؤمنون بحق الشعوب في تقرير مصيرها وعلى هذا الأساس لا بد لهم من أن يعترفوا بحق الشعب الإريتري في الاستقلال حتى لا يكونوا متناقضين مع أنفسهم.(10/315)
ولقد أدرك ثوار إريتريا هذه الحقيقة منذ البداية وأدرك معها أن المؤامرة بدأت تتخذ الآن أبعاداً جديدة غاية في المكر والخداع وكان لا بد لهم من قطع السبيل على المخطط التأمري الذي يحبكه القادة العسكريين في أديس أبابا.. فأعلنوا في صراحة ووضوح أنهم يرفضون أية حلول وسطية تكرس الاستعمار الأثيوبي وأنهم لا يرضون بديلا عن الاستقلال.
ووقع المخططون في أديس أبابا في ورطة سياسية في الوقت الذي يشعرون فيه أنه لا بد من التحرك السريع لاحتواء إريتريا قبل أن يستفحل الأمر ويفلت الزمام من أيديهم.. وهكذا اختاروا طريق الدماء ولم يكن في بالهم أن يلقوا مثل هذه المقاومة الصلبة والصمود الرائع مما جعلهم يستخدمون كل وسائل الإبادة والدمار والوحشية في محاولة للسيطرة على الوضع.. ولما لم يتحقق هذا الهدف وبدأت القضية تستقطب الاهتمامات العالمية على الصعيدين الرسمي والشعبي لم يجدوا بدا من فرض حصار على أبناء القتال في إريتريا حتى يمكنهم عن طريق هذا الحصار ممارسة الوحشية بكل حرية وأمان.
هذه لمحة سريعة جداً لحقيقة الأوضاع السائدة في إريتريا وما زال النزف الدموي الإسلامي يجري هناك في كل يوم وكل ليلة بل وكل ساعة.. وما زال إخوانكم المسلمون يشردون من بيوتهم وديارهم تحت الحراب الأثيوبية.
ورابطة العالم الإسلامي تناشدكم أن تهبوا لنصرة إخوانكم في الدين والعقيدة بكل ما يتاح لكم من وسائل الدعم والتأييد.
والله الموفق وهو نعم المولى ونعم النصير.
الأمين العام
محمد صالح القزاز(10/316)
حقيقة طه حسين
لفضيلة الشيخ عبد العزيز الربيعان
كتب سعادة الأستاذ عبد العزيز الربيع كلمة للنشرة التي يصدرها معهد النور بالمدينة المنورة، وجعل عنوانها (من النماذج الفريدة) وقد استهلها بقوله:
"كانت صورته غفر الله له أول صورة مثلت أمام مخيلتي وأنا أهيئ نفسي لكتابة هذه الكلمة القصيرة للمجلة التي يصدرها معهد النور بالمدينة المنورة، وكان اسمه أسبق الأسماء التي خطرت في ذهني منذ اللحظات الأولى..
أعتقد أنكم عرفتموه.. فقد انتقل إلى رحمة ربه ونحن نخوض حرب رمضان المبارك ويرى ببصيرته لا ببصره إنه الدكتور طه حسين رحمه الله.. لقد شخص بذهني وأنا أعد هذه الكلمة لأنه بالرغم من أخطائه الفكرية كان أحد النماذج الرائعة لعبقرية أمتنا فقد استطاع بطموحه وكفاحه وجهده المتواصل أن يحقق الهدف الذي يتطلع إليه والغاية التي عمل على تحقيقها"
ثم وصف طه حسين بأنه أنموذج من الألوف الذين تغلبوا بقوة إيمانهم وصدق عزيمتهم وحسن يقينهم بالله على الظروف والعقبات.. وأنه أحد الأفذاذ الذين صنعوا المعجزات لأمتنا وبلادنا..الخ.
ولما كان سعادة الكاتب في منصب من مناصب التوجيه والتأثير الفكري في بلادنا رأيت أن أبين حقيقة طه حسين ذلك النموذج الفريد حقاً ولكن في غير ما وصف سعادة الكاتب بل في الانحراف بالأمة عن السبيل السوي والصراط المستقيم والسير بها في متاهات الضلال.
فأولا أسأل سعادة الكاتب ما علاقة طه حسين بحرب رمضان أو غيرها من الحروب؟ هل كان زعيماً سياسياً أو قائداً عسكريا أو محرضاً في شعره أو نثره على محاربة الأعداء وتحرير الأراضي؟
والسؤال الثاني نقول فيه: كيف علمت أن طه حسين انتقل إلى رحمة الله ولم ينقل إلى ما يستحقه؟ أليس هذا أمر غيبي علمه عند الله وحده؟ وهذا لو كان من تعنيه مسلماً ومن خيار الصالحين فكيف وهو طه حسين؟(10/317)
ثم أعود فأقول: ما كان طه حسين إلا عميلاً من عملاء الغرب ووكيلاً من وكلاء الاستعمار الفكري والغزو الثقافي الموجه ضد عقيدتنا وشريعتنا ولغتنا وأمتنا وتراث أسلافنا، ومعول هدم تخرج في إحدى جامعات فرنسا وتتلمذ على شرار المستشرقين الحاقدين علينا وعلى نبينا وديننا من اليهود والنصارى وعب من معين أفكارهم المنتن القذر ثم جاء يفخر بما تلقاه هناك من شبهات التضليل وأساليب المكر والتدجيل، يتبنى أفكارهم وينتحل مؤلفاتهم ويردد ترهاتهم ويدعو إلى منهجهم وسلوك سبيلهم، جاء ليجعل من نفسه ابنا باراً وتلميذاً وفياً لأساتذته وأصدقائه من المستشرقين الذين وقفوا حياتهم لتضليل أبناء المسلمين ومحاولة طمس معالم الحق أمام البشرية ليصدوا عن سبيل الله، فكم يكتف طه حسين هذا العميل الملقب بـ (عميد الأدب العربي) بإنكار رسالة محمد عليه السلام، وإنكار نزول القرآن من عند الله هدى للناس كما صرح بذلك في كتابه (في الشعر الجاهلي) وكذا في دروسه التي كان يلقيها على طلاب جامعة القاهرة وإذ كان مدرساً فيها للأدب فكان يقول لهم: قارنوا بين أسلوب محمد - صلى الله عليه وسلم - إذ كان في مكة وبين أسلوبه بعد أن هاجر إلى المدينة وتأثر بثقافة أهل الكتاب، ويمثل لهم بسور القرآن مكية ومدنية.. أقول لم يكتف (طه حسين) بذلك بل أنكر وجود إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - وكذب التوراة والإنجيل، فقد قال في كتابه (في الشعر الجاهلي) : للقرآن أن يحدثنا عن وجود إبراهيم وإسماعيل وللتوراة أن تحدثنا وللإنجيل أن يحدثنا، ولكن ليس علينا أن نصدق.. وتكذيبه للتوراة والإنجيل ليس مقصوداً لذاته وإنما هدفه تكذيب القرآن فقط، والتقرير بأنه عبارة عن أساطير ملفقة كثير منها كان العرب يعرفونه قبل قرآن محمد - عليه السلام - ومن هذه الأساطير التي كان العرب يتناقلونها - على حد زعمه الخاسر - كون الكعبة بيت الله وكون إبراهيم وإسماعيل قاما ببنائها بأمر الله - تبارك(10/318)
وتعالى – فـ (طه حسين) يقرر أن هذه أسطورة خرافية وأن إبراهيم وولده لم يوجدا فضلا عن أن يكونا نبيين فضلا عن أن يقوما ببناء الكعبة بوحي وأمر من الله - هكذا - ولما كان يعلم أن التوراة والإنجيل ذكرا ذلك قبل القرآن اضطر إلى تكذيبهما حتى لا يحتج عليه بهما.
أقول: إن (طه حسين) لم يكتف بهذا كله بل أضاف إلى ذلك عداءه المكشوف للغة العربية التي هو عميد أدبها!! بتنصيب من أساتذته المستشرقين ووحي من سادته الغربيين - فقد نادى بأعلى صوته بوجوب استبعاد اللغة العربية ودفنها في مقابر التاريخ، أو نقلها إلى متاحف الآثار البائدة، وقد دعا أبناء العربية إلى التنكر لها واستبدالها باللغة اليونانية أو اللاتينية، وزعم أنها لغة بدوية لا تناسب عصر العلم والاختراع والصحيح أن ذنبها كونها لغة الإسلام الذي ظل هو إلى أن مات يحاربه ويثير حوله الشكوك والشبهات، ومن أراد الوقوف على صحة ما ذكرت عن (عميد الأدب العربي) - دعوى - وعميل الفكر الغربي حقيقة وواقعا - فليقرأ كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) وفي هذا الكتاب يقرر أن مصر ليست دولة عربية ولا إسلامية بل ولا حتى شرقية، ويطالبها بأن تنفض يدها من العرب والمسلمين وكل ما يمت إليهم بصلة وأن تيمم وجهها نحو الغرب تستقي آدابه وتقلده في أفكاره وسلوكه وأخلاقه وثقافاته، وأن تأخذ من أوربا كل ما فيها وما لديها من غير تفريق بين الخير والشر وبين النافع والضار والحسن والقبيح، ويعلل لذلك بأننا محتاجون إلى ما عند الغرب من علم ومدنية وما سبقونا إليه من صناعة واختراع وأنه لا يمكننا أن نستفيد مما عندهم من نافع إلا إذا أخذنا معه الضار، ولا يمكننا تقليدهم في ميدان العلم والاكتشاف إلا إذا قلدناهم في كل شيء من الأخلاق وفي السلوك والتفكير والتصور وغير ذلك ولما ظن أن قبول هذه الاقتراح صعب وأن رواج هذه الفكرة بعيد خلط معها فكرة أخرى وهي الدعوة إلى الفرعونية القديمة والرجوع إليها(10/319)
والاعتزاز بتاريخها وقال: إننا معشر المصريين أصحاب حضارة وماض مجيد قبل مجيء العرب إلى بلادنا وبعد مجيئهم وإن عروبتهم وإسلامهم لم يؤثرا علينا بشيء فما زلنا كما كنا متمسكين بفرعونيتنا معتزين بأمجادنا وتاريخنا منذ سبعة آلاف سنة وإذا أردت أيها القارئ الكريم أن تقف على ما ذكرته لك عن (عميد الأدب العربي) وتتحقق من صحته بل وتعرف عنه أكثر مما ذكرت لك بأضعاف مضاعفة فاقرأ كتابيه (مستقبل الثقافة في مصر) و (الشعر الجاهلي) وإن لم يتيسر لك الوقوف على هذين الكتابين فيكفيك أن تقرأ الكتب التالية: (المعركة بين القديم والجديد تحت راية القرآن) للرافعي، والاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر للدكتور محمد محمد حسين، والفكر الإسلامي المعاصر (دراسة وتقويم) لغازي التوبة، (والفكر الإسلامي المعاصر وصلته بالاستعمار) للدكتور محمد البهي، وكتاب (حصوننا مهددة من داخلها) للدكتور محمد حسين أيضاً.
فإذا كان هذا بعضاً من حقيقة (طه حسين) وأنموذجاً من عمالته لأعدائنا ودورانه في فلكهم ونسجه على منوالهم، وتلك صور من مخازيه ومواقفه ضد ديننا ولغتنا وأمجاد أمتنا وتراث أسلافنا الكرام، الذين نعتز بذكرهم ونفخر بالانتساب إليهم وذكر مآثرهم، فهل يسوغ لأدبائنا ومثقفينا ومن يعدون من رجال الفكر في أمتنا يرفعوه فوق النجوم، وأن يصفوه بالبطولة والعبقرية والنبوغ، وأن يشهدوا له بقوة الإيمان والثقة بالله وما إلى ذلك من عبارات الإطراء وأساليب الغلو التي ينبغي أن يترفع العاقل عن إطلاقها بجانب الرجال المخلصين والزعماء المصلحين فكيف العملاء والأذناب!.(10/320)
إن الأستاذ الربيع أطلق على ممدوحه (طه حسين) نعوتاً قل أن تصدق في شخص مهما كان، بل قد يستحيل تحققها إلا في الخيال أو في نبي من أنبياء الله ومن سلك سبيلهم من أئمة الهدى فكيف بزنديق مارق ودجال منافق، وملحد زائغ وعميل مبالغ، فقد كان الواجب أن يغنى منه موقف المسلم الغيور والمجاهد المخلص لربه الناصح لأمته، موقف الرجل الشجاع الذي لا يجامل الناس على حساب عقيدته أو على حساب أمته وأفكار شبابها الذين ينتظرون منه توجيها سليما، وإنارة للطريق أمامهم، وكشفا لشبهات المشبهين وزيف المزيفين وتعرية للمغرضين المنافقين المندسين في الصفوف والجالسين على كراسي التربية والتوجيه لينفذوا مخططات الأعداء وليضلوا عن سبيل الحق ويصرفوا الناشئة عن طريق الهدى، فهذا هو الواجب وهذا هو المعقول وهو المنتظر ولكن الواقع مع شديد الأسف - جاء على العكس فإننا لا نعلم أحداً من أدبائنا ومفكرينا وقف من مثل (طه حسين) الموقف الذي يتناسب مع موقفه هو من ديننا ولغتنا وتاريخنا سوى (مصطفى صادق الرافعي) رحمه الله وإن كان بعضهم قام ببعض الواجب مثل الدكتور (محمد محمد حسين) في كتابيه (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، وحصوننا مهددة من داخلها) فإنه بذل جهداً لا بأس به لكشف حقيقة هذه الدمية المسماة (طه حسين) والملقبة ب- (عميد الأدب العربي) بل إنه استطاع بما قام به من هذا الكشف أن يثبت لمن قرأ كتابيه أن الخداع وأساليب المكر لا تنطلي على كل الناس، بل إن فيهم من يسبر الأمور ويعرف المقاصد ويستجلي الحقائق.(10/321)
أما الأستاذ غازي التوبة فقد قام أيضاً ببعض الواجب وركز على ما يسمى بإسلاميات (طه حسين) والتي يزعم عشاقه ومريدوه أنها برهان على توبته من زندقته التي ذكرنا شيئاً من مظاهرها وأنه تحول إلى كاتب إسلامي يعنى بالسيرة النبوية وغيرها من موضوعات التاريخ الإسلامي، يقولون هذا إما غافلين أو متغافلين عن حقيقة هذه الإسلاميات، فقام الأستاذ غازي بدراسة لها وكشف لما تنطوي عليه من خبث وتمويه ولف ودوران مقنع.
أما الأستاذ محمد البهي فقد تعرض في كتابه (الفكر الإسلامي المعاصر وصلته بالاستعمار) تعرض فيه لـ (طه حسين) وكشف كثيراً من مخازيه من خلال كتبه وبين هدفه وهدف أساتذته المستشرقين من وراء إنكارهم للشعر العربي الجاهلي وقرر أن كتاب (في الشعر الجاهلي) كان في الأصل لأحد مشاهير المستشرقين وهو هاملتون جب في كتابه المذهب المحمدي وأن أساتذة (طه حسين) رغبوا إليه أن يترجمه للعربية ويتبناه ففعل وحقق رغبتهم فلما قامت الضجة في مصر حول هذا الكتاب وعانى بسببه ما عانى - رغم مساندة أذناب الغرب وعملائه له - اضطر أن يغير أن يغير فيه بعض التغيير أو أن يستر منه ما كان مكشوفاً، وأن يموه ما كان صريحاً، ويسميه (في الأدب الجاهلي) بدل (في الشعر الجاهلي) وأعتقد أن الذي يحمل أكثر المنسوبين إلى الأدب والزعامة الفكرية على أن يعتبروا (طه حسين) إماماً وبطلاً ومجاهداً ومثالاً رائعاً للعبقرية العربية النادرة وأن القدر جاء به على هذه الأمة أحوج ما كانت إلى العباقرة المصلحين كما صرح بهذا (حمد الجاسر) وكما صرح بمثله أو قريب منه (عبد العزيز الربيع) أقول: إنني أعتقد أن لذلك أسباباً منها إعجابهم بالمكانة التي احتلها (طه) في عالم الأدب على أيدي مستخدميه - بكسر الدال - من الغربيين الذين خلعوا عليه أثواباً فضفاضة من التعظيم والتبجيل ورأوه أهلا للزعامة الفكرية فنصبوه عميداً للأدب العربي، ورشحوه لجائزة (نوبل) للآداب عدة مرات ثم(10/322)
أعطوه إياها ساعة هلاكه [1] .
ومنها أنهم يعتقدون أن الاعتراف بمكانة (طه حسين) الأدبية - المزعومة ووصفه بالبطولة والعبقرية دليل على المقدرة الأدبية والتنور الفكري والذوق الثقافي الرفيع.
يقول الشيخ (محمد متولي شعراوي) في محاضرة ألقاها في الكويت في رمضان عام 94 نشرتها مجلة (المجتمع) في عددها 226 - وقد ذكر أثناء هذه المحاضرة كيف أن الناس يخدعون وتضلل أفكارهم وتسحر عيونهم وآذانهم ثم قال: ولأضرب مثلاً بقطاع مصر فإنا نجد العشرينات وفي الثلاثينات طائفة من القوم الذين شهد لهم الناس بالتفوق والنبوغ، وأصبحت لهم مدارس تسيطر على صياغة عقول الشباب وأفكار الناشئين، ولهم معجبوهم ومريدوهم، ثم مثل بـ (طه حسين) (ومنصور فهمي) (وإسماعيل مظهر) (وقاسم أمين) ثم استطرد إلى أن قال: هؤلاء القوم فتنوا بزعامتهم وغروا بالثناء عليهم، وخدعهم المعجبون بهم، ثم جاءت الصحافة التي يسيطر عليها الاستعمار فنفخت في تلك الدُّمى نفخاً جعل منهم قادة وجعل منهم صواغ فكر وصناع نفوس إهـ أما الشيخ علي الطنطاوي فقد حضر محاضرة لطه حسين ألقاها في جامعة دمشق، إذ دعته هذه الجامعة ليلقي مثل هذه المحاضرة وليخرج طلابها من ظلمات الجهل إلى نور العلم -!!
وبعد انتهاء سعادة الدكتور من محاضرته تقدم مدير الجامعة ليعلق عليها وليجزل المديح بل يقدمه جزافاً لفخامة عميد الأدب العربي!! وكيف لا يفعل وقد تواضع فخامته فقبل الدعوة وتحمل متاعب السفر ليروي غلة هؤلاء الطلاب العطاش إلى العلم والمعرفة من ينابيع علومه التي لا تنضب وإن كانت قيحاً وصديداً وبعد انتهاء مدير الجامعة الدمشقية من تقديم عبارات الإطراء التي لا يدفع لها ثمناً ولا يخشى سؤالاً عن مدى صحتها قام الشيخ الطنطاوي معقباً على التعليق فقال:(10/323)
"الواقع أن ما قاله طه حسين في هذه المحاضرة يعرف طلاب الصف الخامس والصف السادس الابتدائيين وأن 95 في المائة من الحاضرين يعلمون ذلك ولكنهم لا يصدقون عقولهم، بل إن بعضهم ليضع يده على فيه حذراً أن تبدر منه بادرة تكشف للحاضرين عن رأيه في محاضرة عميد الأدب العربي ثم قال: هذا بالنسبة للمحاضرة أما بالنسبة للمحاضر (طه حسين) فإنه حين وضع عمامة الأزهر عن رأسه وولى وجهه شطر فرنسا خلع معها دينه وعقله، وبقي إلى اليوم بلا عقل ولا دين".إهـ من مجلة البلاغ الكويتية وأظن عشاق أفكار طه حسين ومريديه لا ينكرون مكانة الشيخ الطنطاوي الأدبية إلا أنه مسلم لا ينفخ الغرب في صورته ولا يحيطه بهالات التمجيد والتقديس كما يصنع بعملائه وأذنابه ومأجوريه، لذلك لا نسمع ذكراً لكبار الأدباء الإسلاميين عندما يتحدث متحدث عن الأدباء العرب المعاصرين في إذاعة أو كتاب أو صحيفة ولا ذنب لهم ولا عيب فيهم سوى أنهم يؤمنون بالإسلام قولاً وعملا ويصرحون بأنه وحده سبيل النجاة وطريق السعادة، وربما حاولوا تنبيه المسلمين إلى ما يحيط بهم من أخطار وما يدبر ضدهم من مكائد
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
والآن نتوجه بهذه الأسئلة إلى سعادة الأستاذ عبد العزيز الربيع لعله يتكرم مشكوراً بالجواب عليها فتقول:
ذكرت سعادتك أن (طه حسين) يمثل أنموذجاً رائعاً لعبقرية أمتنا وأنه استطاع بطموحه وكفاحه وجهده المتواصل أن يحقق الهدف الذي يتطلع إليه والغاية التي عمل على تحقيقها ووصفته بأنه قوي الإيمان قوي الثقة بالله، كما أشرت إلى أن له أخطاء فكرية إلا أن تعبيرك يوحي بأن هذه الأخطاء لا تستحق الذكر بجانب صوابه ونتاجه الفكري الرفيع وتراثه الفائق.(10/324)
فنقول في سؤالنا: ما حقيقة هذه العبقرية التي نسبتها لأمتنا وجعلت ممدوحك أنموذجاً رائعاً لها؟ أهي الكفر والزندقة؟ وإلى أي شيء كان طموحه؟ إلى غير تضليل شباب المسلمين؟ وفي أي سبيل كان كفاحه؟ أفي غير سبيل الاستعمار الفكري والغزو الثقافي لبلادنا وشباب أمتنا؟ وما هو الهدف الذي قلت إنه حققه؟ أهو تنفيذ أغراض المستشرقين وتحقيق أهداف أعدائنا من الغربيين؟ أم هو محاولاته تضليل المسلمين عن سبيل الله؟ وبذله قصارى جهده لإقناع العرب بالتخلي عن لغة الإسلام واستبدالها باليونانية أو اللاتينية أو اللهجات العامية؟ وما هي الغاية التي قلت إنه عمل على تحقيقها؟ هل تعني محاولته إقناع المصريين بأنهم أبناء الفراعنة فليسوا بعرب ولا مسلمين وأن بلادهم فرعونية أوربية؟ هل تستطيع أن تثبت لطه حسين هدفا أو غاية أو كفاحاً أو عبقرية في غير هذه الأمور؟
وسؤالنا الأخير هو: هل يجوز تسمية الإلحاد والزندقة وتكذيب الله وجحد رسله وإنكار كتبه أخطاء فكرية؟ إن كان هذا يجوز في نظر سعادتكم فهل تظن أن أحداً من ذوي الفكر الرشيد يوافقك؟ وفرع لهذا السؤال نقول: هل تذكرت وأنت تسطر هذه الكلمات وتدبج تلك العبارات في مدح وإطراء (طه حسين) أنك موقوف أمام الله ومسئول عن كل ما قلت؟ وإذا كانت كلمتك لمجلة معهد النور - وطلابه كما قلت - يربطهم (بطه حسين) رابطة فقدان البصر أما كان الأجدر بك والأليق ببلدك ومنصبك أن تمثل برجل مسلم فاضل صالح الباطن والظاهر ممن وصفهم الله تعالى بقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} .(10/325)
وأمامك سماحة مفتي البلاد السعودية الشيخ محمد إبراهيم - رحمه الله - فهناك العلم والتقوى والحلم والورع والذكاء ورزانة العقل وسداد الرأي وقوة الشخصية، مع فقدان البصر وقوة البصيرة، ثم عندك شخصية ممتازة أخرى وأنموذج من نوادر الرجال وأفذاذهم لا يزال حياً - نبتهل إلى المولى جل شأنه أن يطيل في حياته على خير لأن المسلمين في أمس الحاجة إلى مثله - أعني به رجلاً ليس مسكنه ومقر عمله منك ببعيد مع فقدان البصر وتوافر نور البصيرة أيضاً.
فلماذا اخترت واحداً عاش عمراً طويلاً ولا هدف له ولا غاية سوى تدمير أمتنا وإفساد عقول شبابها وتعبيدهم لأفكار الغرب وإغرائهم بتعشق مبادئه الضالة فلقد عمل (طه) جاهدا ومستخدما كل الوسائل التي تمكن من استخدامها على زعزعة عقائد أبناء المسلمين وتشكيكهم في إسلامهم وتزهيدهم بماضي وأمجاد وتراث أسلافهم وما علمنا لطه حسين - مستندين إلى أثاره ومؤلفاته إلا الزندقة والكفر الصريح والتفاني في خدمة أعداء الله ورسوله ودينه وتكذيب رسل الله وإنكار كتبه وكان طه حسين كلما سئل عن آرائه المنحرفة وهل رجع عنها يقول في كبرياء: (أنا لا أرجع عن قول قلته وإنما الناس هم الذين لم يفهموا عني) إ هـ.(10/326)
وأخيراً نوجه نصيحتنا إلى جميع إخواننا المسلمين ونخص بها الأدباء من كتاب وشعراء ومن بينهم الأستاذ الربيع بأن يصرفوا جهودهم ويولوا عنايتهم وينفقوا قدراتهم في سبيل نصرة الحق وخدمة العقيدة وأن يقفوا بالمرصاد بحزم وشجاعة ضد كل مجترئ على الإسلام ومحاول النيل من جناب المصطفى عليه السلام أو زرع الشكوك وإلقاء الشبهات أمام أبناء المسلمين، وأن يزنوا الناس بميزان الله ويقفوا منهم حسب مواقفهم من الإسلام حتى يعلم جند الشيطان أن للإسلام حماة وأبناءً بررة يذودون عن حياضه ويصارعون أعداءه ويزيفون ترهاتهم ويكشفون أباطيلهم، كما نحثهم على أن يميزوا بين العدو والصديق وبين الحقائق الثابتة والدعاوى الكاذبة، وبين المقاصد النبيلة والأغراض المشبوهة الرذيلة وأن لا تخدعهم الألقاب ولا يستعبدهم حب الظهور فيحملهم على أن يرضوا الناس بسخط الله
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل(10/327)
إلا نعيم الآخر {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} وليعلموا أن من شر الأقوال عند الله وأشدها خطراً على الإنسان مدح الفجرة والثناء على المنافقين المحادين لله، ومن العجائب التي لا يجد المرء لها تفسيراً مهما تنازل عن رأيه الخاص أن مريدي (طه حسين) وعشاق أفكاره إذا أخذ أحدهم يصفه خيل إليك أنه يعني بطلاً مشهوراً ومصلحاً كبيراً معترفاً بفضله وعظمته ممن نفع الله به الأمة وكتب على يديهم نصرا للحق وإنصافاً للمظلومين أو طردا للغزاة المستعمرين أو هزيمة لجيوش المعتدين يخيل إليك أنه يعني مثل الإمام محمد بن سعود أو ابنه عبد العزيز أو فيصل بن تركي أو عبد العزيز بن عبد الرحمن أو كأنه يعني واحداً من أئمة الهدى ورجال الملة ودعاة التوحيد أمثال ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، وإذا هو يعني زنديقاً اسمه (طه حسين) ولقبه عميد الأدب العربي لقباً للبطولة حصل عليه من الاستعمار واليهودية العالمية - وما أكثر الألقاب التي يصدرها الغرب من أجل مصلحته فتنطلي علينا فنصفق لأصحابها ما بين غافل ومتغافل وما بين جاهل مخدوع ومتجاهل متخادع.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] وقد ذكر الأستاذ مالك بن نبي في (إنتاج المستشرقين) أن كتاب طه حسين (في الشعر الجاهلي) جاء على غرار بحث للمستشرق اليهودي مارجليوت ص 9.(10/328)
الغضب وماتلاه
بقلم الأستاذ: محمد إسماعيل بطرش
كان فلاسفة اليونان يميزون في النفس قوى ثلاث أو يجدونها ثلاثة أنفس هي النفس العاقلة والنفس الشهوانية والنفس الغضبية، والغضب هيجان يفيض وراء أسوار العقل فيكون كالسيل الهادر أو كالحمم المتدفقة يأكل بعضها بعضاً فتحيل المدن آثاراً والحقول اليانعة هباءً منثورا، وكان العرب يرون في الغضب انتصاراً للحق ونصرة للضعيف وثأراً للكرامة ويقول الشاعر:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
ويتردد في جوانب التاريخ أصداء انتصار المعتصم للمرأة التي صرخت وا معتصماه عندما سباها الروم وتم فتح عمورية بما يصوره لنا أبو تمام:
لقد تركت أمير المؤمنين بها
للنار يوماً ذليل الصخر والخشب
حتى يقول:
لقد تركت بني الإسلام في صعد
والمشركين ودار الشرك في صبب
وقد ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين مسرحية في إنكلترا تهافت عليها الشباب تهافت الذباب على جيفة منتنة وعنوان المسرحية (انظر إلى الخلف بغضب) Look Back in Anger.
تلك المسرحية التي يدرسها مختصو الآداب الأجنبية على أنها أنموذج من الإنتاج الأدبي للجيل الحديث؛ ذلك الجيل الذي يطلقون عليه منذ ذلك التاريخ اسم (الجيل الغاضب) Angry Generation.
ولا يعنينا في هذا المجال التعرض لتلك المسرحية التي تمثل ذلك النمط من الشباب الشقي الخاسر لدينه ودنياه والذي يربطه فيما بينه نزوع التكالب: فتجد كل فرد منهم يمسك بأنثاه إمساك اثنتين من بنات عرس كل واحدة منهما تشد بأسنانها على عنق الأخرى حتى تستنزفها آخر قطرة من دمائها كما يقول أحد النقاد الأدبيين في تلك المسرحية.(10/329)
أقول: ليس الغرض عرض تلك المسرحية وإنما الهدف دراسة ما تلى تلك النزعة من تطورات في الغرب، وما انعكست به من ظلال على بعض من شبابنا الذين يستهويهم سراب الضلال، ولو استنزف منهم ميعة الصبا وعنفوان الرجولة ويعرف الجيل الغاضب في الغرب أنه ذلك الجيل الذي اشترك آباؤهم في الحرب العالمية الأولى وفتحوا هم أعينهم على جحيم الحرب العالمية الثانية، هم ذلك الجيل الذي خلفته الحروب التي لم يكن من غاية لها سوى الفتك والتسلط وامتصاص الدماء، فكفر بحكمة الأولين من آبائه وأجداده، الذين لم يخلفوا له سوى الضياع، وكان ذلك الجيل (اللامنتمي) الذي نراه اليوم يعيش على قارعة الطريق كالسوائم وهو يتمرغ على مزابل (الحضارة) المادية التي هيأتها له حكمة الغرب ونتاجه الحضاري المادي، والذي ينظر إليه أحد النقاد الغربيين إليوت T.S.eliot نظرته إلى أرض بباب عقيم (Waste Land) لا ينتظر منه أي خير أو إنتاج. تلك هي (الموضة) التي يحاول تبنيها البعض من شبابنا ويا للأسف، وهي وإن لم تشكل بعد ـ والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه غيره ـ سوى قشرة واهية على السطح والتي ـ كما أرجو ـ لا يمكن أن تبلغ أعماق الإنسان المسلم ـ إلا أنها ولا بد تشوه مظهره وتسيء إلى سمعته.
غير أن هناك بعض (المبشرين) والمروجين لهذه الغلالة الرخيصة الزائفة ممن يحاولون تشويه حقيقة الجيل العربي الحديث، بإبعاده عن المنابع التي تجلت فيها أصالته وتركزت فيها عزته ألا وهي الشخصية الإسلامية.
وأحب في هذا المجال أن أتناول بالبحث شخصيتي شاعر ومتفلسف.
أما الشاعر فهو نزار القباني في محاضرة ألقاها في الكويت في حفل للخريجين بعنوان (نزار قبل وبعد النكسة) . وأما المتفلسف فهو الشيوعي الوقح (جلال صادق العظم) في كتابه (نقد الفكر الديني) .(10/330)
ويجتمع الاثنان في تهافتهما على مصادر الغرب الفكرية والثقافية، حتى اصطبغت بها شخصيتهما وأصبحا غريبين عن جيلنا وشعبنا وأصولنا بل ومفاهيمنا ويفترقان في أن نزاراً شاعر تستهويه رؤى الغرب لأنه بدأ ماجنا ولم يهده الله بعد، فهو وراء التجديد حتى ولو خالف الطبيعة أو الفطرة وأما جلال فهو عبد ذليل من رقيق التصنيع الشيوعي الذي يسلب الإنسان إنسانيته ويحيله جهازاً آلياً كالدمية التي تسيرها المدخرة.. في تلك لمحاضرة يعرض نزار شعره، ويظن أن ما مر به من تحول يجب أن يكون مماثلاً لما يمر به كل شخص في بلادنا، ثم ينظر إلى الغرب فيستلهم من حالته لبوساً يحاول شد أستاره علينا، ولكننا نرفض ونرفض أن نقبل رفضه، لأنه رفضه رافضي وغصبه أجنبي، والحالة التي يعبر عنها ليست منا ولا هي فينا.
يقول نزار إن أجيالنا كانت تعيش في دوامة فراغ طاحونة ما طحنت قط سوى الهواء، وأن شعبنا كان مجمداً مسمراً في المساجد ليس له من أمره سوى ترديد الدعاء على اليهود، وأن هذا ما حدا به إلى (قتل) الإمام، وأن حكوماتنا ما كانت ترى في قضية فلسطين أكثر من دجاجة تبيض ذهباً، أو هي قميص عثمان يزايدون عليه. وخلاصة ما يصل إليه إعلان نفسه رافضاً شأن الغاضبين من الغرب، وهو يتنكر حتى لجلده وعظمه ولحمه ودمه!.
هذا نزار بعد النكسة.(10/331)
أما جلال صادق العظم فهو بالأصل غريب عن عالم الدين، فتراه يهرف بما لا يعرف ويستعير من مفاهيم الغرب عن ديانات الغرب حللاً يدعي لها اسم الإسلام، فتراه يأخذ من جحيم (Inferno) وانتي وخرافات القرون الوسطى في أوربا، وصور الفردوس المفقود والفردوس المكتسب (Paradise lost&Paradise Regained) لملتون Milton، ودكتور فارستوس Dr.Faustus لكريستفر مارلو Marlowe ويحيل كل ذلك لوحة خلفية يدعي أنها الإسلام الذي هو منه براء، ثم ينتهي جلال صادق العظم إلى متاهة الزمان والمكان في الفصل الأخير من كتابه، ليؤدي طقوس الشرك والوثنية وعبدة الطاغوت، في دوامته التي لم تطحن سوى المارقين أمثاله ولن تستقطب سوى عبدة الشيطان.
كان اليونانيون في القديم يعبدون وثنا يسمونه هيدس Hades ـ عندهم ـ أي (إله) الجحيم، مملكته تحت الأرض يسودها الظلام، وقد اتخذ مسيحيو القرون الوسطى وطلبة (عصر النهضة) نفس الفكرة عن الجحيم، فكان وانتي يعتقد أن هنالك سرداباً مظلماً تحت بيت المقدس يصل إلى مركز الأرض، يمر به الموتى فيما يسمونه (المطهّر) Purgatory وكان ملتون الضرير يفكر في هبوط آدم وحواء من الجنة لارتكابهما (الخطيئة الأصلية) وفقدهما فردوسهما، وأن الله تأسى عليهما فنزل إلى الأرض جسداً هو المسيح، كي يعاني آلام الموت على الصليب، محرراً بذلك بني البشر من زور (الخطيئة الأصلية) التي ارتكبها آدم وحواء في الاقتراب من الشجرة المحرمة.(10/332)
أما الدكتور فارستوس للشاعر الإنكليزي مارلو فهو إنسان يبيع نفسه لإبليس لقاء أن يكون له كل ما يريد ويشتهي خلال فترة زمانية محددة، ويستهوي صورة الفردوس المفقود وصورة إبليس متمرداً على أمر ربه فيراه جلال صادق العظم أول الثائرين المتمردين من (الجيل الغاضب) لأنه لم يقبل حكم الله، أو بالأحرى لأنه كان له طمعه وجشعه غروره ما جعله ملعوناً في الدنيا والآخرة، من هذه الصور يتخذ جلال لبوساً للدين الإسلامي، ويدعي أن هذا هو الدين الإسلامي الذي يرى فيه سبباً لنكسه حزيران، ومن ثم يجد أن طريق إبليس هو طريق الخلاص والتحرير.
وينتهي جلال صادق العظم إلى بيت القصيد ليقيم من المادة إلهاً يملأ الزمان والمكان، والناس فيه دمىً تسير بلا هدف ولا غاية ولا حرية، وما كان أجدره أن يثور على ذلك العالم القميء الذي لم يترك له من إنسانيته شيئاً.
ويظهر لنا مما سبق أن كلاً من نزار وجلال كانا غريبين في فكرهما وتصورهما عن حقيقة ما يتعرضان له ويجترئان عليه ألا وهو الإسلام، والإسلام من ذلك كله براء، فهما كانا يكتبان لإنسان الغرب الذي تتبرأ منه المسيحية نفسها.
وأما الصورة الحقيقية لواقعنا ما يلي:
إن الله اصطفى رجلاً من البشر اسمه محمد بن عبد الله صلوات الله عليه وسلامه، فحمَّله عبء الرسالة وثقل الأمانة، فوقف صلى الله عليه وسلم يدعو للإسلام الذي جعل الله به للإنسان قيمة وللحياة معنى وغاية وللتاريخ كياناً، نظام رباني تناول الحياة وما بعدها، والكون وما حواه، والمسلمون موحدون يصدقون الحديث ويؤدون الأمانة، ويصلون الرحم ن ويحسنون الجوار، ويكفون عن المحارم والدماء، يعبدون الله لا يشركون به شيئاً ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويصومون رمضان وذلك دين القيمة.(10/333)
يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب، فاللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك وألهمنا طريق الرشاد.
لو تتبعنا الشخصية الإسلامية الحقة لوجدنا فيها حقيقة ما خلق الإنسان له، وأين منها أجيال الضياع! ولو تسائلنا كيف وصلت الأمة الإسلامية إلى ما وصلت إليه في انتصارها وسؤددها لوجدنا الجواب صريحاً بيناً، لقد كان المسلمون مخلصين فيما قصدوا إليه لا ترهبهم في الحق لومة لائم، نصروا الله فنصرهم وثبت أقدامهم، أما اليوم قمن أين يأتي الضياع؟ ..
الجواب بسيط وواضح أيضاً.. إن بعض المسلمين نسوا الله فأنساهم أنفسهم وأن طريق الهدى الحقيقي والقوة الحقيقية هي العودة إلى تفهم الإسلام والعمل به، فأهل الغرب ما نالوا منا إلا بمحاولاتهم الدس علينا في ديننا، وماذا ينفعنا لو ربحنا العالم كله وخسرنا أنفسنا، أما ما نستطلعه اليوم في المنعطفات المهملة من جادة الحياة في بلادنا فليست سوى جيف لا تستهوي غير الذباب.(10/334)
إلى جنة الرضوان
شعر: سيد أحمد حسن الطوابي
المدرس بدار الحديث المكية
رثاء لفقيد العروبة والإسلام (صاحب الجلالة الملك فيصل آل سعود)
إلى جنة الرضوان يا فيصل الندى
إلى جنة الرضوان يا فيصل الهدى
إلى جنة المأوى إلى الله راضيا
فقد عشت مرضي الخلال مسددا
فقد كنت ـ حقا ـ للشريعة حاميا
وكنت ملاذا. في المكارم. مفردا
وكنت محبا للكنانة مخلصا
وكنت مثالا للوفاء مجسدا
وكنت لكل المؤمنين مؤازرا
وكنت لنا في أزهر الله منجدا
وكنت تقود السلم بالرأي صائبا
وكنت تقود الحرب شهما ممجدا
فحققت نصراً للعروبة حاسماً
وقوضت ظلما بالبغاة معضدا
أبا العرب. لو تفدى النفوس محبة
لطابت نفوس أن تكون لك الفدى
فقدنا بفقد الفيصل البر والحجا
ففقدنا بفقد الفيصل الحلم والجدا
فقدنا بفقد الفيصل الود صافيا
فقدنا بفقد الفيصل العزم موقدا
فهذي هي الدنيا عليك حزينة
وعالمنا قد بات بعدك مسهدا
فلا جفن إلا قد تقرح حسرة
ولا طرف إلا صار بعدك أرمدا
بكاء. وتسليم. وحزن على النوى
وصبر على ما قدر الله إذ غدا
حبيب إلى الأقوام بر بشعبه
فكم كنت تشقى في الحياة ليسعدا
جواد لعون المستحقين نهضة
على بذل ما فيه الصلاح تعودا
تواسي إذا حلت بقومي نكبة
لتخمد من ضرائها وتبددا
إذا أمسكوا فاضت يداك سجية
وإن بذلوا مالا فأكرمهم يد
رزين. وأحلام الرجال خفيفة
جريء إذا المقدام خاف من الردى
أمين على التوحيد تحمي ذماره
وتغضب للتوحيد إن مسه العدى
خلال بها سست الأنام مبجلا
وعشت بها في الناس سيدا
سيبكي عليك العرب أعليت ذكرهم
بنيت لهم مجدا عريقا وسؤددا
فمن يرأب الصدع الذي قد أهمنا
ومن يمحق البغي الذي بلغ المدى(10/335)
سيبكي عليك القدس فيصل في جوى
وكان يرى فيك النصير المؤيدا
وأهلوه أما من أقام فإنه
يقيم على ضيم. يسام مقيدا
وإما طريد فارق الأهل مرغما
فراح يعاني في الحياة مشردا
ولكنه شعب أبي مناضل
يخوض غمار الموت، لن يترددا
وكنت له يا فيصل العرب ناصرا
وكنت له يا فيصل الحق معضدا
سيبكي عليك المسلمون جميعهم
فقد كنت للإسلام سيفا مهندا
فكم ذدت عنه إذ تقاعس أهله
تصون ذماراً كان قبل مهددا
حميت حمى الإسلام في كل بقعة
لتبعث عزا تالدا وتجددا
تنادي بدستور السماء شريعة
لتدمغ زورا قد فشا وتعددا
فلا هدى إلا من تراث رسولنا
وقرآننا قد ظل للمجد موردا
توحد حول الدين كل شعوبنا
لتجمع شملا كان قبل مبددا
ورابطة الإسلام شيدت صرحها
بمهبط وحي كي تصون وتنجندا
لتسترجع العز التليد لأمة
وتصنع باسم الله شعباً موحدا
وتعلي لواء للعقيدة خالد
وترفع مجدا كان كالطود أيدا
فمن غيره نادى الشعوب لوحدة
ومن غيره راد الطريق وأرشدا
وكم مسجد في كل قطر بنيته
لتنشر بين الناس وحياً من الهدى
رفعت لواء العلم في دار هجرة
فصار مناراً للإله مشيدا
لينشر هدى الله في كل بقعة
ويعلي دين الله في كل منتدى
جزاك إله الكون خير جزائه
وطيب مثوى فيصل وتغمدا
أيطوي لواء كان للحق ناصراً
ويخبو شهاب كان للدين فرقد
فصبراً إله الكون قد جل رزؤنا
فكيف لهذا القلب أن يتجلدا
فقد كان نبراساً مضيئا ومشرقا
وكان لهدى الله في الكون مرشدا
فمن للألى باعوا الحنيفة بالهوى
ومن للذي خان العهود وأفسدا
ومن يقهر الإلحاد شاع مدمرا
فقد كنت للإلحاد بالحق موئدا
ومن يرغم الأذناب عاثوا بأرضهم
وصار كتاب الله فيهم مهددا
نذرت تصلي بالمقدس قربة
وقد صار بعد المجد هونا مهودا(10/336)
فأوف بهذا النذر (خالد) أنه
يئن وترديه القيود مصفدا
(أخالد) حقق وعد فيصل للورى
لتقهر أعداءا وتكبت حسدا
بخالد مخزوم قهرنا جحافلا
وأقبلت الدنيا إلينا لتسعدا
وآل سعود كالليوث شهامة
إذا راح منهم سيد رمت سيدا
رعاك إله الكون تحفظ شرعه
وسدد (فهدا) للمكارم والهدى
فمن ينصر الرحمن يحظى بنصره
فيرى عدوا قد تجنى وعربدا(10/337)
من إيجابية الإيمان
بقلم الأستاذ: محمد بن إبراهيم بخات
مما يدل على صدق الاعتقاد والإيمان – أقصد الاعتقاد في وحدانية الله والإيمان بدينه – البرهان الحق على هذا الثنائي المُنجي المحيي من لدن هذا الإنسان، فهو ينجي لأن ملتزمه استثناه الله من الخسر.
{وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِْ}
وهو يحيي في هذه الدنيا وفي تلك الآخرة بحسن العمل من المستجيب له أي لهذا الثنائي عملياً وواقعياً في دنياه، وإحياؤه في أخراه يكون مصيرياً وجزائياً بالفوز بنعيم الجنة والزيادة.
وهذا الإحياء مضمون وملازم لكل من عاش بنتيجة هذا الثنائي وهي تتجسم دوماً وأبداً في إيجابية إيمان المؤمن، متمثلة في استقامة دائمة منه، وهذه الاستقامة التي هي حياة له ووقاية له ما هي في الحقيقة إلا إيجابية ناتجة عن هذا الإيمان.
إيمان كما يريد القرآن وكما بين رسول الإسلام، لا يكون ولا يتحقق إلا على ضوئهما وبوحي منهما وباعتراف وتوجيه منهما، وإلا فحيثما كانت المخالفة لهما والإنحراف عنهما فلا إيمان ولا إسلام، وإنما هما جاهلية جامعة لكفران وانحراف الجاهلين في القديم والحديث.
وإيجابية الإيمان واستقامة المؤمن تحققتا ماضياً وتتحققان حاضرا ومستقبلا لمن رغب فيهما واستجاب لهما من مؤمني عهد النبوة وعهد الخلافة الراشدة وعهد التابعين ومن تبعهم بإحسان من الذين قال فيهم تعالى مقدراً وشاهداً، ومن ينطبق عليهم قوله سبحانه راعياً لهم وهاديا ممن كان منهم حسن الإيمان وصدق الإخلاص.
فكان أن ألتزموا هذا الدين واستقاموا به، فمن هم؟ وماذا قال فيهم أحسن القائلين؟
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌْ}(10/338)
{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُم ... }
{إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ}
{قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}
{أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ}
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}
ولأهمية الاستقامة للأحياء من بني آدم لأنها حياة طيبة لهم، ولقيمة الاستقامة بالنسبة للمؤمن في كل زمان ومكان نزلت تلك الآيات موجهة إنسان الإسلام، ومقيمة الحجة على إنسان الجاهلية، وهاديه لكل خير، وواقيه من أي ضلالة في كل الأزمنة والأمكنة.
إنها حياة نظيفة وقيمة صحيحة من قيم هذا الدين، وبرهان صادق على صدق الإنتماء إليه، وإيجابية دالة على صدق الإهتداء به، لذلك كانت وصية رسول الله للصحابي سفيان بن عبد الله الثقفي في كلمتين من جوامع كلمه الرائدة القائدة التي تهدي وتقي: تهدي لمحاسن الإسلام وفضائل هذا الدين، وتقي من ضلالات ومفاسد ورذائل أي جاهلية كيفما كانت قديمة أو جديدة.(10/339)
إنها وقاية الإيمان بالله وهداية التزام دينه، إنها فقط الاستقامة إليه سبحانه بتوحيده والعيش بدينه القيم: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} .
إن الوصية الجامعة هي قوله صلى الله عليه وسلم: ".....قل: آمنت بالله ثم استقم"وبما أن الاستقامة ينتج عنها على الدوام فضائل ومحاسن الأعمال، فمن هذه الفضائل والمحاسن حسن وتحسين الأخلاق.
وقد بين وأكد رسول الله بأن حسن الخلق من نتائج الاستقامة، فمن لم يكن حسن الأخلاق فليس بمستقيم، وذلك ما دعا إليه صلى الله عليه وسلم أي التزام هذه النتيجة وهي تحسين الخلق فوجه معاذ بن جبل إليها وهو يوصيه: "استقم ولتحسن خلقك".
وبما أن اللسان كجارحة يعتبر المفتاح الخارجي الذي يعبر عن الاستقامة أو انحراف المفتاح الداخلي وهو القلب من حيث صحة الاعتقاد أو فساده، وحسن القول أو قبحه، وصالح العمل أو طالحه بالنسبة لباقي الجوارح فقد أفهمنا الرسول وأقام الحجة في الرواية الثانية [1] لهذه الوصية بهذه الزيادة وهو يجيب سفيان بن عبد الله الثقفي بعد تخوفه: "يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: هذا".
وانطلاقاً من هذا المفهوم وتأكيداً لهذه الحقيقة أي استقامة وانحراف جارحة اللسان ينبه ويوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ضرورة استقامتها ويخوف من انحرافها وذلك في الحديث المرفوع عن أبي سعيد الخدري [2] : "إذا أصبح ابن آدم: قالت الأعضاء للسان اتق الله فينا، فإنك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا".
وفي الختام أرى لزاما علي أن أجمل ما تدعوا إليه هذه الوصية:
"قل: آمنت بالله ثم استقم" وما تفهمه وما تبرهن عليه، ليس على لساني ولكن على لسان الشيخ الجرداني رحمه الله، يقول:(10/340)
"هذا الحديث موقعه عظيم، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم فإنه جمع لهذا السائل في هاتين الجملتين جميع معاني الإسلام لأنه توحيد وطاعة، فالتوحيد حاصل بالجملة الأولى، والطاعة بجميع أنواعها ضمن الجملة الثانية فيصح أن يقال فيه إنه كل الإسلام".
--------------------------------------------------------------------------------
[1] للترمذي - عن شرح الجرداني على الأربعين النووية، ص:153-.
[2] شرح الجرداني على الأربعين النووية ص: 154.(10/341)
من أعلام المحدثين
أبو عبد الله الذهبي (673 - 748 هـ)
بقلم: الأستاذ عبد المحسن بن حمد العباد
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
نسبه:
هو محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله التركماني الأصل الفارقي ثم الدمشقي شمس الدين الذهبي.
نشأته:
ولد الإمام الذهبي في اليوم الثالث عشر من شهر ربيع الآخر سنة (673) هـ- بدمشق وسمع بعد التسعين وستمائة وأكثر عن ابن غدير وابن عساكر ويوسف الغسولي وغيرهم ثم رحل إلى القاهرة وأخذ عن الأبرقوهي والدمياطي وابن الصواف والقرافي وغيرهم وشيوخه في السماع والإجازة في معجمه الكبير أزيد من ألف ومائتي نفس.
ثناء العلماء عليه:
الإمام الذهبي يعتبر مؤرخ الإسلام وقد لقب بذلك كما أنه أحد أعلام الحفاظ الذين برزوا في علم الحديث رواية ودراية فلا عجب أن يكون محل ثناء الخاص والعام ولا غرو أن تنطلق الألسنة بذكره بالجميل وقد أتى بالجميل الجليل.. وقد قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية:
"الحافظ الكبير مؤرخ الإسلام وشيخ المحدثين وقال: وقد ختم به شيوخ الحديث وحفاظه".. وقال ابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات: الشيخ الإمام العلامة الحافظ حافظ لا يجارى ولافظ لا يبارى أتقن الحديث ورجاه ونظر علله وأحواله وعرف تراجم الناس وأبان الإبهام في تواريخهم والإلباس.
جمع الكثير ونفع الجم الغفير وأكثر من التصنيف ووفر بالاختصار مؤنة التطويل في التأليف، وقال أبو المحاسن الحسيني في ذيل تذكرة الحفاظ: "الشيخ الإمام العلامة شيخ المحدثين وقدوة الحفاظ والقراء محدث الشام ومؤرخه ومفيده".
وقال: "وخرج لجماعة من شيوخه وجرح وعدل وفرع وصحح وعلل واستدرك وأفاد وانتقى واختصر كثيراً من تأليف المتقدمين والمتأخرين وكتب علماً كثيراً وصنف الكتب المفيدة ". وقال ابن السبكي في طبقات الشافعية:(10/342)
"شيخنا وأستاذنا الإمام الحافظ محدث العصر"، وقال الشوكاني في البدر الطالع: "الحافظ الكبير المؤرخ صاحب التصانيف السائرة في الأقطار".
وقال ابن حجر في الدرر الكامنة: "ومهر في الحديث وجمع فيه المجاميع المفيدة الكثيرة حتى كان أكثر أهل عصره تصنيفً وجمع تاريخ الإسلام فأربى فيه على من تقدم بتحرير أخبار المحدثين خصوصاً".
وقال البدر النابلسي: "كان علامة زمانه بالرجال وأحوالهم حديد الفهم ثاقب الذهن وشهرته تغني عن الإطناب فيه".
وقال السيوطي في ذيل تذكرة الحفاظ: "الإمام الحافظ محدث العصر خاتمة الحفاظ ومؤرخ الإسلام وفرد الدهر والقائم بأعباء هذه الصناعة" وقال: "والذي أقوله: إن المحدثين عيال الآن على أربعة: المزي والذهبي والعراقي وابن حجر.."
قال أبو المحاسن الحسيني: "وكان أحد الأذكياء المعدودين والحفاظ المبرزين".
آثاره:
وقد خلف الحافظ الذهبي للأمة الإسلامية ثروة هائلة من المصنفات القيمة النفيسة التي هي المرجع في بابها وعظمت الفائدة بهذه المؤلفات ونالت حظاً كبيراً من الثناء وكان لها القبول التام لدى الخاص والعام.
قال الشوكاني في وصفها: وجميع مصنفاته مقبولة مرغوب فيها رحل الناس لأجلها وأخذوها عنه وتداولوها وقرأوها وكتبوها في حياته.. وطارت وقرأوها في جميع بقاع الأرض وله فيها تعبيرات رائعة وألفاظ رشيقة غالباً لم يسلك مسلكه فيها أهل عصره ولا من قبله ولا قبلهم ولا أحد بعدهم.. وبالجملة فالناس في التاريخ من أهل عصره فمن بعدهم عيال عليه ولم يجمع أحد في هذا الفن كجمعه ولا حرره كتحريره، قال الحافظ ابن حجر: ورغب الناس في تواليفه ورحلوا إليه بسببها وتداولوها قراءة ونسخاً وسماعاً.(10/343)
وقال أبو المحاسن الحسيني: وصنف الكتب المفيدة فمن أطولها تاريخ الإسلام ومن أحسنها ميزان الاعتدال في نقد الرجال.. وقال: مصنفاته ومختصراته وتخريجاته تقارب المائة وقد سار بجملة منها الركبان في أقطار البلدان انتهى.
ومن أشهر مؤلفاته المطبوعة:
كتاب (ميزان الاعتدال في نقد الرجال) وكتاب (المشتبه في الأسماء والأنساب) وكتاب (العبر في خبر من غبر) وكتاب (تذكرة الحفاظ) وكتاب (طبقات القراء) .
وفاته:
توفي الحافظ الذهبي ليلة الاثنين ثالث شهر ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وسبعمائة.. وصلّي عليه يوم الاثنين صلاة الظهر في جامع دمشق ودفن بباب الصغير أرخ وفاته بهذا ابن كثير في البداية والنهاية وابن السبكي في طبقات الشافعية.
من ترجم له:
1 ترجم له ابن حجر في الدرر الكامنة
3 - 336
2
وابن كثير في البداية والنهاية
14 - 225
3
وابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات
2 - 370
4
وابن العماد في شذرات الذهب
6 - 153
5
وابن السبكي في طبقات الشافعية
5 - 216
6
وابن تغرى بردى في النجوم الزاهرة
10 - 182
7
وصديق خان في التاج المكلل
411
8
والسيوطي في ذيل تذكرة الحفاظ
347
وفي طبقات الحفاظ
517
9
والحسيني في ذيل تذكرة الحفاظ
34
10
وعمر رضا كحالة في معجم المؤلفين
8 - 289(10/344)
من روائع الكتب
اختيار العلاقات العامة
مواجهة إحدى العادات السيئة، التي تنوقلت على مدى الزمن، من جيل إلى جيل.. وغرست جذورها عميقة في الجهاز العصبي، بل وفي كيان أولئك الذين مردو عليها وأدمنوها.. نريد أن نتحدث عن ذلكم الخيال، وتلكم الآفة الإنسانية التي هي الخمر ـ والآيات ـ التي نجد فيها إرشارات إلى حالة السكر، وإلى الأشربة المتخمرة المسكرة ـ بلغت أربعاً، كانت رابعتها وأخيرتها هي التي نصت على تحريم الصريح لهذه الشريعة.
أما الثلاثة الأولى فلم تكن سوى مراحل تدريجية لتهيئة الاستعداد النفسي لدى المؤمنين حتى يتقبلوا هذا التحريم.
وقد تمت الخطوة الأولى في هذه الطريق في كلمة نزلت بمكة، كلمة واحدة مسَّت المسألة مسَّاً رقيقاً، فمن بين الخيرات التي استودعها الله سبحانه في الطبيعة يذكر القرآن: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ} ويضيف إليها {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} فهو لم يقصد إلا إلى الموازنة بين (السكر) والثمرات الأخرى التي يصفها بأنها (حسنة) دون أن يصف هذا السكر نفسه، وبذلك صار لدى المؤمنين دافع إلى الإحساس ببعض التحرج والوسوسة تجاه هذا النوع من الشراب:
ولكن هاهم أولا، بعد قليل من وصولهم إلى المدينة يفاجأون مرة أخرى بنص ثان، من شأنه أن يقوي تحرجهم ووسوستهم، وهو يعقد مقارنة موجزة بين منافع الخمر والميسر، ومضارهما ويختم القرآن تلك المقارنة بهذه العبارة {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}(10/345)
فإذا كان حقاً ألا شيء في هذه الدنيا بخير مطلق، أو شر محض، وأن ما يسمى خيراً وشراً ليس في جملته إلا ما يحتوي على نسبة أكبر من هذا أو ذاك، فإن النتيجة التي نخلص إليها لا بد أن تكون الأمانة لحقيقة بيد أن الذي حدث هو أن التحريم لم يكن واضحاً بدرجة كافية لجميع العقول، ولذلك ظل عدد من المسلمين يشربون، ولعلهم كانوا هم الغالبية، على حين بدأ آخرون منذ ذلك الوقت الامتناع عن الشرب، ومن ثم كان لازماً بعض الأوامر الأكثر صراحة، كيما تصل جميع العقول إلى الاقتناع الكامل ومع ذلك إن هذا كله لم يكن بلا تأثير على جانب اللاشعور في المجتمع حتى إن بعض ذوي العقول الراجحة كانوا يتوقعون نزول حكم نهائي يؤيد وجهة نظرهم، وقد حدث مثلا أن نزل حكم ولكنه لم يكن الحكم النهائي، وإنما سوف نجده يمثل مرحلة متوسطة في المرحلة الثالثة لم يقل القرآن: (لا تشربوا) بل قال: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} وهنا نلاحظ التقدم الذي منها حققته هذه الخطوة، إذا ما ذكرنا أن الصلاة تعتبر الفريضة الأولى في الإسلام لا لأنها الفريضة الدينية الأولى التي يجب أداؤها في أوقاتها، ولكن لأنها كذلك المناط الخارجي، والعلاقة المميزة للمؤمن - هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، يجب أن تقام خمس مرات في اليوم والليلة أربع مرات ما بين الظهر إلى الليل، وينتج عن ذلك أن الذي يشرب أثناء هذه الفترات يكاد يخلّ بالفريضة، بل بأكثر الفرائض قداسة:(10/346)
وهكذا كان هذا التحريم الجزئي غير المباشر منهجاً علمياً لتوسيع فترات انقطاع التأثير العوني، وفي نفس الوقت تقليل رواج الأشربة، وتجريدها من سوقها بالتدريج، دون إحداث أزمة اقتصادية بالتحريم الشامل والمفاجئ، وحين تم هذا، وتخلصت التجارة من تأثيرها لم تبق سوى خطوة واحدة: وهي الخطوة التي أنجزتها الآية الرابعة، والأمر الأخير {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} هذا المسلك اليسير المتدرج يدعونا إلى أن نتذكر الطريقة التي يستخدمها الأطباء المهرة العلاج مرض مزمن، بل أن نتذكر، بصفة عامة، المنهج الذي تلجأ إليه الأمهات لفطام أولادهن الرضع، ذلك أن هذه الوسائل التي خلت من العنف والمفاجأة تدعو الجهاز الهضمي إلى أن يغير نظامه شيئاً فشيئاً ابتداء من أخف الأطعمة حتى أعسرها، ماراً بجميع الدرجات الوسيطة ألا ما أعظم رحمة الله التي ترفقت بالعباد على نحو لم يبلغه فن العلاج ولا حنان الأمهات!!
من كتاب (دستور الأخلاق في القرآن)
للدكتور محمد عبد الله دراز(10/347)
من الصحف والمجلات
مظالم الاستعمار الغربي
"إن الاستعمار الغربي على الرغم مما صبّه على المسلمين من البطش والتنكيل، وما أنزله من ضروب الفتن وما دمر من حكوماتهم واحتل من أراضيهم إلا أن كل هذه الجرائم الاستعمارية لا تساوي ظلماً ارتكبه الاستعمار الغربي حين فرض على العالم الإسلامي أنظمته التربوية الغريبة عن معتقداتنا وعاداتنا فأنشأ بذلك أجيالاً من شبابنا تنكرت لشخصيتها الإسلامية، وأبغضت دينها، واحتقرت تاريخها ورسم في أذهانها وأفئدتها أنه إذا كانت حضارة فهي التي تدون في الغرب وإذا كانت هناك حضارة فهي التي أنشأها الغرب، وإذا كانت هناك أخلاق فهي التي يتحلى بها الغرب"
أبو الأعلى المودودي
عن مجلة دعوة الحق عدد 8 السنة 16
العظيم الذي فقدناه(10/348)
ألقى الدكتور اشتياق حسين قريشي أحد العاملين البارزين في النشاطات الاجتماعية والدينية للمسلمين (كلمة الترحبة) بصفته رئيس لجنة الترحيب والاستقبال استنكر فيها العاطفية والحماسة المفرطة التي أصبحت شعار المسلمين وخاصة الشرق، وحث على التخطيط والتدبر والتفكير والعمل في ضوئه، وضرب مثلين للقيادة، قيادة العاطفية والغطرسة التفكرية التي مثلها جمال عبد الناصر فغشيت العالم الإسلامي موجة من الجنون حيث لم يبق مجال للفكر والجد وخاصة في الشباب الذي كان أكبر فريسة لسياسته فكان بمثابة أسد زئير من الغرطاس، وكانت نتيجة هذه السياسة الهزيمة النكراء التي منيت بها الأمة العربية والسخرية التي تعرضت لها الأمة الإسلامية فباد مع البائدين، والمثال الثاني مثال جلالة الملك فيصل الذي تجنب كل نوع من الدعاية الصحفية واحتمل كل مكروه، وتهمة التعامل مع الغرب لكنه وجه لطمة قاضية إلى الكيان الغربي، وحول مجرى التاريخ، وقال عندما وجهت إليه تهمة التعامل: (إني أشتري من الغرب حديداً ولا أشتري منها الأفكار) فعد الفيصل أعظم قائد عام 1974.
عن صحيفة الرائد
عهد مسلمي الهند
إنا عاهدنا أن نعيش في هذه البلاد بكل خصائصنا الملية وحضارتنا الإسلامية وشعارنا الدينية وبأخلاقنا الاجتماعية وشخصيتنا المسلمة لا نتخلى عن شعيرة من شعائرنا، ولا نتنازل عن جزء من أجزائها يحرم علينا أن نعيش مجردين عن هذه الخصائص وعن هذه الحضارة وعن هذه الشخصية.(10/349)
ولا لذة في الحياة ولا خير فيها بعد ذلك فإذا لم يكن لنا أن ننقل عقيدتنا وتراثنا الحضاري إلى أجيالنا وأولادنا. وأن نعلمهم كما تفرضه علينا مبادئنا وعقائدنا الإسلامية. وإذا لم يكن لنا كذلك أن نقر عيناً بإسلاميتهم ونشأتهم الدينية، فليست هذه الحياة حياة الأشراف الأحرار فضلاً عن أن تكون حياة المسلمين الأبرار. إنما هي حياة البهائم والسائمة. حياة الثيران والحمير والكلاب.. إن الكلب يكفيه أن ينال راتبه من أكل وشرب وأن يكون مصوناً عن الأعداء وأن يكون حراً في الإنتاج وأن ينال شبعه وريه على يد سيده.
عن صحيفة الرائد
شاهد من أهلهم
التاريخ يسجل بأن بدأ العلاقات بين العرب واليهود حدث أيام النبي صلى الله عليه وسلم عندما حارب اليهود مدينة خيبر إلا أن التاريخ يسجل أيضاً أن الإسلام كان أكثر تسامحاً مع اليهود من المسيحية التي اضطهدت اليهود وحاربتهم في قسوة بعد زوال الإمبراطورية الرومانية.. بل إن يهود أسبانيا استفادوا كثيراً من احتلال العرب… وفي عام 1912 زرت الإمبراطورية العثمانية ورأيت الطوائف اليهودية تعيش في سلام ووئام تحت حكم الإسلام.. ومن هنا فإن سجل معاملة العرب لليهود سجل رائع - خلافاً لسجل المسيحيين في الغرب الذين عاملوا اليهود بقسوة لقرون عدة.
عن صحيفة الرائد
العبرة من سقوط فيتنام الجنوبية وكمبودية
إن سقوط (سايجون) عاصمة فيتنام الجنوبية درس للمظلومين، كما هو درس للعملاء.. درس للمظلومين ينفخ فيهم روح الأمل والكفاح، ويزودهم بيقين راسخ أن الظلم وإن تسلح بقاذفات القنابل، وتدرع بأحدث مبتكرات التكنولوجيا فهو زائل لا محالة، وأن إرادة الحرية أقوى من التصميم على الظلم والطغيان، وأن الكفاح مهما طال طريقه وكثرت ضحاياه لا بد أن يبلغ أهدافه.(10/350)
إن الفلسطينيين وغيرهم يمكن أن يفيدوا من هذا الدرس إلى أقصى حد ممكن، وهذه الإفادة تقتضي قبل كل شيء نفض اليد من المساومات المنومة لإرادة الكفاح.. والتخلي تماماً عن فكرة استرداد فلسطين عبر حوار في الصالونات وعبر صور تنشر في الصحف، أو تصريحات تطلق بإسراف.
وسقوط (سايجون) درس للعملاء الذين يتعلقون بأمريكا ويتوكلون عليها!
إن الرأي الذي يقول: إن الأمريكان قد انسحبوا من فيتنام نتيجة للوفاق الدولي أو التزاماً به.. هذا الرأي لا قيمة له في ذاته.. ولا قيمة له باعتبار مصدره، فالعملاء هم الذين يروجون هذا الرأي تفادياً من تفسير الانسحاب بأنه هزيمة قهرية، ولكنهم ورطوا أنفسهم في مأزق جديد.. فإذا كانت أمريكا تخلصت من حلفائها في كمبوديا وفيتنام بناء على اتفاقات بينها وبين روسيا، فمعنى ذلك أنها مستعدة لبيع حلفائها في السوق الدولي بأي ثمن وفي أية لحظة.
إن المفارقات لا تكاد تنتهي، فأمتنا ليست محرومة من الحياة في ظل إسلامها وقرآنها فحسب ولكنها محرومة من حقها البشري الطبيعي.. محرومة من الكفاح وملاقاة عدوها، إن هذه الأمة لم تجد من الفرص ما وجده الفيتناميون والكمبوديون.. وهذا الحرمان المتعمد ليس تدميراً للمعنى العقائدي الذي يوجب على المسلمين الجهاد باستمرار.. وإنما هو كذلك تدمير لمعنى الآدمية المجردة وهو معنى مشترك بين بني آدم جميعاً: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} .
وي!! إن الحق الآدمي الذي تمتع به أهل فيتنام حرمت منه هذه الأمة، ومن غير خجل مازال بعضهم يجر الأمة إلى الاستسلام للعدو والاعتراف بوجوده الباطل.
إلغاء البغاء والرقص(10/351)
ومن القرارات التي لفتت النظر أن أول أعمال الحكم الفيتنامي الجنوبي الذي أسقط حكم (ثيو) قرار بإلغاء البغاء والرقص وكل الأعمال المنافية للأخلاق والدوافع السياسية واضحة في هذا القرار فبيوت البغاء وصالات الرقص والاستهتار إنما هي أثر من آثار الوجود الأمريكي هناك، صحيح أن الخطيئة موجودة في كل أرض، لكن قيام فساد منظم تلبية لنزوات جنود أمريكا.. يأخذ إلى جانب الاعتبار الأخلاقي بعداً سياسياً.
إن (بانكوك) عاصمة تايلاند اشتهرت بأنها (عاصمة الخطيئة) والذي جعلها هكذا هو الوجود الأمريكي العسكري في تايلاند، وفي تركيا فعلوا نفس الشيء، وفي اليابان أيضاً، وسيفعلون ذلك في كل بلد عربي إسلامي يفتح لهم أبوابه، وتنظيم شبكات البغاء، وتأسيس صالات الرقص والخمور وبروز عصابات منظمة تدير تجارة البغاء وارقص.. هذا كله مرتبط بالاحتكارات الأمريكية، وبالمؤسسات الربوية، وبالطمع في الربح من أي طريق وبأي وسيلة، فالأموال الأمريكية تنساح إلى فيتنام الجنوبية لا لإقامة المصانع الإنتاجية، ولكن لتوظف في تجارة البغاء.. وتجارة الرقص والابتذال.. تهدم أخلاق الناس من جانب.. وتمتص ما في جيوبهم من جانب آخر.
والذين يأخذون الأموال الأمريكية بفوائد خيالية لاستثمارها يتجهون إلى توظيفها في الدعوة.. حتى يغطوا الفوائد الأمريكية الباهضة، وحتى يكون لهم من الربح الشيء الوفير بواسطة الزنى..
إن دروس (سايجون) تحرج المسلم مرتي: تجرحه لأن القيادة البوذية الشيوعية تكافح وتحرر أرضها، بينما القيادات المحسوبة على الإسلام.. لا تزال تهرول وراء خرافة الحل السلمي والتعايش مع الاستعمار الصهيوني في فلسطين المحتلة.(10/352)
وتحرجه لأن غير المسلمين قرروا في حزم منع البغاء والرقص والفساد، بينما نجد هذا الفساد منتشراً بصورة مفجعة في بلاد تسمى عربية ـ إسلامية!! وبينما نجد وزارات مهمتها تقديم (تسهيلات الفساد) بكل أنواعه، وتسمى نفسها وزارات سياحة نجدها خاصة في مواسم الصيف تخرج برامج تلفزيونية وسينمائية تبثها في تلفزيونات الكويت ودول الخليج وغير ذلك.. وتعرض في هذه البرامج أجساد النساء في شكل بالغ الابتذال كطعم.. يجتذب السياح ويغريهم بالسفر حيث يجدون على الطبيعة ما رأوه في التلفزيون!
إن مشاهدة هذا الواقع الفاسد، والسكوت عليه مشاركة فيه بطريقة أو أخرى، والعبرة في ذلك كله أن تتشدد الحكومة هنا وأن تتشدد الحكومات الأخرى في العالم العربي ـ الإسلامي في مكافحة الفساد والمفسدين، حتى لا تأتي الطامة فتلف الجميع وتطويهم في دوامتها: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} .
عن مجلة (المجتمع) الكويتية(10/353)
ندوة الطلبة
الاشتراكيون في بورما يعملون على محو الإسلام
بقلم الطالب: محمد صديق برماوي
يبلغ عدد المسلمين في بورما حوالي ثلاثة ملايين، ويبلغ عدد سكان تلك البلاد ثلاثين مليونا، ولكن الحكومة الاشتراكية البوذية في بورما تتبع معهم سياسة القمع والاضطهاد واستعمال الحديد والنار وهتك أعراض المسلمات العفيفات فإن الحكومة البورمية جعلت حياة المسلمين هناك في غاية التعاسة والشقاء، وفي كل يوم تصدر الحكومة تعليمات جديدة تحول دون تمكن المسلمين من القيام بالتزاماتهم الدينية.
كما أن هذه التعليمات قادت إلى إيقاف المصادر المالية للجوامع والمدارس الإسلامية الخاصة التي خدمت المسلمين سنوات طويلة، ونتيجة للتضييق على الجوامع والمدارس الإسلامية وكذلك على المعلمين المسلمين والعلماء فقد سلب النشء الإسلامي الجديد حق الحصول على الثقافة الإسلامية، ونتيجة لسياسة التمييز فإن المسلمين كذلك دمروا اقتصاديا وأن ممتلكاتهم جميعاً قد استولت عليها الدولة، وأن الهدف الرئيسي للدولة الاشتراكية في بورما على ما يظهر هو قطع كل وسائل الحياة على المسلمين لإرغامهم في النهاية على هجرة بلدهم.
وبالفعل فإن هناك عشرات آلاف من المسلمين البورميين قد تشردوا من بورما إلى الباكستان، ويبدو أن سياسة الحكومة البورمية أيضاً تهدف إلى محو الإسلام والمسلمين عن طريق القتل والتشريد وإرغامهم على الهجرة من وطنهم الأصلي بورما إلى الخارج.
أخي المسلم إني أسوق لك الدليل على صحة ما أقول:
1- في شهر نيسان من عام 1967م قامت قوات الحكومة بتهجير ألفين من المسلمين إلى جهة غير معروفة بحيث لم يعرف مصيرهم، وعندما فرضت عليهم مغادرة بيوتهم لم تسمح لهم بحمل أي شيء مما كانوا يملكون من المأكل والملبس والمشرب وقد لوحظ مؤخراً أن بعضهم قد وصل إلى حدود بنجلاديش مشردين يستجدون المأوى والأكل.(10/354)
2- وفي شهر مارس من نفس العام قامت القوات الحكومية أيضاً بإبعاد حوالي ألفين من المسلمين ورميهم على حدود بنجلاديش تحت رحمة السماء، وقد أعلنت إحدى الصحف البورمية حينذاك أن أولئك المبعدين من أصل باكستاني ولكن الخبر لم يكن صحيحاً لأنهم جميعاً كانوا يحملون هويات بورمية.
3- وفي شهر حزيران من نفس العام قامت الحكومة أيضاً بطرد حوالي ثلاثة عشر ألفا من المسلمين من بيوتهم وذلك في مناطق مختلفة وتركتهم دون مساكن أو طعام وما كان منهم إلا الهلاك جوعاً وعطشاً والبعض منهم وصلوا إلى الباكستان.
4- وفي هذا العام 1975م قامت الحكومة البورمية بقتل المسلمين وسبي نسائهم وهتك أعراضهن وحبس شبابهم ومن ثم تشريدهم ورميهم على حدود بنجلاديش، وقد كتبت (جريدة أخبار العالم الإسلامي التي تصدر من رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة) على صفحتها السادسة من العدد 419 بتاريخ 5 ربيع الأول 1395هـ الموافق 17 مارس 1975 بعنوان (الهاربون من جحيم الاشتراكية) فقالت: "أكدت الصحف الصادرة في دكا أن عدداً كبيراً من مسلمي بورما يلجأون إلى بنجلاديش… وأشارت إلى أن معظم هؤلاء الهاربين من جحيم الاشتراكية في بورما يعيشون في الخيام بالقرب من الحدود مع بنجلاديش".إ هـ(10/355)
نعم والله إن هذا هو الحق، والأوضاع الراهنة في داخل بورما بالنسبة للمسلمين سيئة جداً وحالتهم يرثى لها وهم في حاجة شديدة لمن يهتم بأخبارهم وأحوالهم ومساعدتهم، فهم الآن يستجدون الأكل والمأوى، وقد فعلت حكومة بورما أكثر من هذا من التقتيل والتشريد ولكن الصحف العالمية تغض النظر عنهم لأن الكفر ملة واحدة يحاولون ستر الحقائق عن اضطهاد المسلمين في بورما، وجزى الله المسئولين بأخبار العالم بأخبار العالم الإسلامي خير الجزاء على ما قامت بنشر تلك الحقائق فكانت وما زالت تؤدي واجبها على الوجه الأكمل، نتمنى كل تقدم وازدهار لجريدة أخبار العالم الإسلامي وللرابطة التي لا تألوا جهداً لإقناع حكومة بورما للسماح للمسلمين بأداء فريضة الحج.
تدنيس المساجد ومنع الحج: إن نهب القرى وتدميرها وتدنيس أماكن العبادة وتخريب المزارع أصبحت كلها مظاهر عادية ومتكررة، وكذلك حرق المساجد وقفلها، والاجتماعات التي تعقد لأغراض دينية منعت كليا، وأن السلطات العسكرية والحكومية تتخذ من المساجد مركزاً لها عند تجوالها في المنطقة بالإضافة إلى ذلك فإن المنكرات ترتكب في هذه المساجد، لقد منع المسلمون من أداء الصلوات الخمس وكذلك فإن الأئمة والمؤذنين لم يسلموا من القتل والتعذيب حتى إن الوعظ والدعوة إلى الإسلام في بورما أصبحا كالجريمة، وأن فريضة الحج عطلت أيضاً منذ عام 1962م.
لقد صادرت الدولة ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة كما سحبت هوياتهم التي هي من حق كل بورمي، وكثيراً ما تتعرض قراهم لهجمات بعض المجموعات العسكرية التي تسلبهم ما يملكون وتأخذ الرجال إلى السجون ثم تهتك أعراض المسلمات.(10/356)
إن السلطات البورمية قتلت معظم علماء المسلمين وزعمائهم وبعضهم يقضون نحبهم في السجون وأصبح تعذيبهم وتعذيب نسائهم وهتك أعراضهن عملاً من الأعمال الروتينية البسيطة، فهل للضمير العالمي والأمم المحبة للسلام أن تحول دون هذه الأعمال البربرية والجرائم الوحشية التي ترتكب ضد هذه الأقليات التي لا ذنب لها إلا أنها مسلمة {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}
إن الضمير الإنساني يجب أن لا يقبل الظلم، فإذا كان المسلمون مجرمين أو أن نساءهم وأطفالهم عاثوا فساداً وأخلوا بالقوانين البورمية فلماذا لا تقوم السلطات البورمية الرسمية بمحاكمتهم أمام محاكم نظامية حيث تصدر بحقهم أحكام عادلة، ثم أليس من واجبات الدول الإسلامية في العالم أن تحاول ضغطها المعنوي على حكومة بورما الظالمة لإنقاذ هذه الأقلية المسلمة من البؤس والفقر الذي هي فيه؟
أليس من واجب الأقطار الإسلامية الحرة في العالم مساعدتهم؟(10/357)
إلى الفتاة المسلمة
حسن بن يحيى الذاري
بين أعاصير الانحلال الفاجر اللئيم التي تجتاح أخطاره ديار المسلمين محاولة فرض جراثيم التحلل على شباب المسلمين وفتياتهم ليسهل على الشيوعية المدمرة والصهيونية الحاقدة تحقيق هدمهما الإجرامي، نسجل هذه الأبيات كإنذار وتحذير للفتاة المسلمة عسى أن تجد آذاناً صاغية وقلوباً واعية:
شيدي عالم البنا في رحابه
من نظام الإسلام من آدابه
وأعلى من شأنها في كتابه
فلقد أعلن الكرامة للأنثى
ورأت للشقاء مر عذابه
بعد أن واجهت ظلام جحود
جاهلي يروع في أتعابه
في جحيم الظلام في كل عهد
في عالم طغى في ثيابه
واستهانت بقدرها بدع الأوثان
واستلهمي الهدى من صوابه
فاسعدى بالحياة في ظل دين اللـ هـ
انحلال يبث من أوصابه
واحذري يا ابنة الفضيلة طوفان
إلا برفضه واجتنابه
عللاً لا خلاص من دائها القاتل
ـراء رخيص والبعد عن أسبابه
وارتفاع النفوس عن كل إغـ
ـلاح فهو القويم في إيجابه
واتخاذ الإسلام قاعدة الإص ـ
ـلاح أسمى في شأنه في سداده
يا فتاة الإسلام دورك في الإصـ
لمن ترتضيه في إفساده
من شذوذ التبرج المخجل المزري
لانحراف السلوك في أبعاده
مثلاً للسلوك وهو مثال
يبذلون الجهود في إيجاده
كم هوى في الحضيض تفكير قوم
ـد أو للخضوع لاستبعاده
نحن لسنا في حاجة للتقليـ
ن وهو الحكيم في إعداده
ولدينا النظام من فاطر الأكوا
ن عن نور نهجه عن رشاده
لن تحيد الفتاة فينا عن القرآ
ـل حتى يسود في أمجاده
وبوحي من هديه سوف تبني الجيـ
كم غدا أسوة لنا في جهاده
ونرى فيه صورة لرعيل
ما رواه التأريخ في أسفاره
يا فتاة الإسلام حسبك مجداً
ـد والسابقات في مضماره
عن نساء الإسلام عن رئدات المجـ(10/358)
ـق واستبسلت بخوض غماره
عن جهاد حمت (خديجة) فيه الح
يتباهى بها العلى في ازدهاره
فغدن للفخار قمة مجد
ـراء من فاق فضلها في اشتهاره
أنجبت للإسلام (فاطمة) الزهـ
حي وبيت طال السها في فخاره
حين أعلى من شأنها شرف الوَ
ـة من فيض علمه من تماره
يا لسر الإيمان كم جنت الأمـ
للحق كل اعتباره
قيماً زانت الحياة بميزان صحيح
ـر وأعلى من شانه من قنا
خلد الوحي في طهارته الذكـ
فكم في الوجود من أنواره
أنجب الرائدان في العلم والفقه
ففاقت في الفهم من أسراره
من حديث روته بنت أبي بكر
ورعاها الصديق من أنصاره
نشأت في رحاب أكرم زوج
حسن بن يحيى الذاري
الجامعة الإسلامية كلية الدعوة(10/359)
أخبار الجامعة
إعداد العلاقات العامة
قام جلالة الملك خالد بن عبد العزيز حفظه الله بزيارة المدينة المنورة يوم الثلاثاء الموافق 25-4-1395هـ وقد تشرف بالسلام على جلالته في القصر الملكي وفد الجامعة الإسلامية برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة وقد ضم الوفد كبار المسئولين في الجامعة ونخبة من أعضاء هيئة التدريس في كليات الجامعة، كما تشرف بالسلام على جلالته طلاب الجامعة وقد مثلهم 78 طالباً يمثلون 78 قطراً من أقطار العالم وقد ألقى فضيلة نائب الرئيس الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد بين يدي جلالته كلمة رحب فيها بجلالة الملك وصحبه الكرام وتحدث فيها عن الجامعة ثم تلاه أحد أعضاء هيئة التدريس بكلية الدعوة وأصول الدين الدكتور أحمد عبد الله هاشم فألقى كلمة عن أعضاء هيئة التدريس ثم ألقى الطالب بالسنة الرابعة سفر بن عبد الرحمن الحوامي الغامدي قصيدة وفيما يلي نص الكلمتين والقصيدة:
كلمة نائب رئيس الجامعة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين:
أما بعد:
فإنه ليسرني كثيراً أن أقف بين يدي جلالتكم لأعرب باسم الجامعة الإسلامية عن الغبطة والسرور بمقدمكم الميمون إلى هذه المدينة المباركة طيبة الطيبة التي يأرز إليها الإيمان كما تأرز الحية إلى جحرها، فأهلاً وسهلاً ومرحباً بجلالتكم وصحبكم الكرام وعلى رأسهم سمو ولي عهدكم الكريم، وأسأل الله تعالى لكم طيب الإقامة والصحة والسلامة في الحل والترحال.
جلالة الرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية:(10/360)
إن الجامعة الإسلامية ترفل بحلل السعادة إذ يتشرف ممثلون لأساتذتها ولطلبتها الذين ينتمون إلى ما يقارب الثمانين قطراً من أقطار العالم باللقاء بجلالتكم والسلام عليكم وهم جميعاً يشعرون بالسرور إذ يؤكدون مبايعتهم لجلالتكم إماماً للمسلمين ولسمو الأمير فهد ساعدكم الأيمن ولياً للعهد ويسألون الله أن يكون لكم ناصراً ومعيناً وأن يجعل عهدكم الزاهر عهد أمن واستقرار وعز للإسلام والمسلمين.
أيها الملك الكريم:
كيف لا يشعر الجميع بالسرور بمبايعة جلالتكم ومبايعة سمو ولي عهدكم وأنتم امتداد لبنيان أرسى قواعده على كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الإمامان الجليلان.. الإمام محمد بن سعود والإمام محمد بن عبد الوهاب عليهما من الله الرحمة والمغفرة، فمنذ التقينا على الإيمان وأعطيا العهد لله على نصرة الدين وهذه البلاد تنعم بالسعادة وتتبوأ المكانة المرموقة وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} .
وإن من وفاء جلالة الملك فيصل رحمه الله للإمام محمد بن سعود المؤسس الأول لهذه الدولة الميمونة إطلاق اسمه على الجامعة الإسلامية التي حولت إليها الكليات الشرعية بالرياض وهي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وإن من وفائكم لجلالة الملك فيصل رحمه الله تفضل جلالتكم بالتوجيه الكريم بإطلاق اسمه على أول جامعة تنشأ في المملكة بعد وفاته رحمه الله.
أيها الملك الكريم:(10/361)
إن الجامعة الإسلامية إحدى المآثر العظيمة لهذه الدولة الجليلة وواحدة من حسناتها الكثيرة فقد هيأت أدام الله توفيقها بإنشاء هذه الجامعة السبيل لأبناء المسلمين من كل مكان ليتفقهوا في دين الله وبعد تخرجهم يعودون إلى بلادهم ألسنة صدق لهذه البلاد وسفراء مخلصين لحكومتها ودعاة خير ومشاعل هداية لبني قومهم وبهذا يتجلى بوضوح مصداق قول الله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}
وقد زاد في حسن هذه الجامعة وشدة تعلق المسلمين بها وإقبالهم عليها اختيار هذه المدينة المباركة لتكون مقراً لها فاجتمع لها بذلك إلى شرف الغاية وسمو الهدف شرف المكان.
أيها الملك الكريم:
لقد بلغ عدد طلبة الجامعة في الوقت الحاضر ما يقارب ألفي طالب ينتمون إلى ما يقارب الثمانين قطراً من أقطار العالم وقد ضم مجلسكم العامر هذا ثمانية وسبعين طالباً كل واحد منهم يمثل قطراً من الأقطار التي ينتمي إليها طلبة الجامعة وفدوا إلى جلالتكم مؤيدين ومؤكدين البيعة لإمام المسلمين وخادم الحرمين الشريفين.
أيها الملك الكريم:
لقد مضى من عمر هذه الجامعة المديد أربعة عشر عاماً تخرج خلالها تسعمائة وثمانية وأربعون جامعياً ينتمون إلى ما يقارب الستين قطراً من أقطار العالم.(10/362)
وفي السنة النهائية في العام الدراسي الحالي مائة وستون طالباً يتوقع تخرج الكثير منهم بحول الله ليلحقوا بإخوانهم الذين سبقوهم إلى العمل في ميدان الدعوة إلى الله والتوجيه إلى الخير والتدريس والقضاء وغيرها من الميادين العظيمة النافعة وأسأل الله تعالى أن يديم النفع بهذه الجامعة وأن يكتب لجلالة الملك فيصل رحمة الله ولجلالتكم ولسمو ولي عهدكم ولكل من كان عوناً لهذه الجامعة على تحقيق أهدافها مثل أجور طلبتها وأجور كل من استفاد خيراً بسببها إنه سميع مجيب.
جلالة الرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية..
إني إذ أختم كلمتي هذه بالشكر لله أولا ثم لجلالتكم ولسمو ول عهدكم على إتاحة هذه الفرصة للتحدث عن الجامعة أسأل الله تعالى أن يسدد خطاكم وأن يعينكم على كل خير وان يعز بكم دينه ويعلي كلمته إنه ولي ذلك والقادر عليه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
كلمة الدكتور أحمد عبد الله هاشم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والداعين بدعوته والمهتدين بهديه إلى يوم الدين.
حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم خالد بن عبد العزيز رعاه الله وأطال في عمره.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته… وبعد:(10/363)
إنه لمن الشرف العظيم لي أن أقف بين يدي جلالتكم موقف المتحدث بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن زملائي وإخوتي أصحاب الفضيلة أعضاء هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية فأحيي جلالتكم أجمل تحية وأرحب بكم وبصحبكم الأخيار في مدينة الرسول المنورة. وارفع إلى جلالتكم تحية زملائي أساتذة الجامعة.. تلكم الجامعة الفتية التي أسس بنيانها على تقوى من الله ورضوان فكانت صرحاً شامخاً ومعقلاً أميناً للدين الإسلامي الحنيف وحصناً حصيناً لكتاب الله والسنة النبوية المطهرة، تنطلق منه صيحة الحق لتزلزل أقدام الطغاة المضللين، ويستأنس بها الخائف المستجير ويتقوى بها كل مضطرب ضعيف.
والجامعة الإسلامية يا صاحب الجلالة دوحة فينانة نبتت في هذه البقعة المباركة من أرض المملكة العربية السعودية وشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
وإنها لمأثرة خالدة من مآثر الحكومة الرشيدة لهذه البلاد تولت غرسها الطيب وتعهدتها بالعناية والرعاية حتى نمت وترعرعت وامتدت أغصانها الوارفة على العالم الإسلامي كله يتفيأ ظلالها وينعم بخيراتها.
وليس بخاف على ذي بصيرة ما كان للمدينة المنورة من مجد إسلامي تليد حين نشأ بها أول معهد علمي في الإسلام، التقى فيه الكبار والصغار والكهول والشباب جلسوا في رحابه يتلقون الشريعة الغراء على يد معلم الإنسانية الأول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ثم انطلقوا في مشارق الأرض ومغاربها أئمة دعاة يحملون إلى العالم خير شريعة وأسمى رسالة فهدى الله بهم من اتبع رضوانه سبيل السلام وكانوا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، وما أشبه اليوم بالأمس والليلة بالبارحة.(10/364)
فها هي ذي الجامعة الإسلامية تعيد للمدينة المنورة سيرتها الأولى وتسترجع لها مكانتها العلمية السامية إذ تهوي إلى رحابها أفئدة أبناء المسلمين من شتى بقاع الأرض طلباً للعلم والمعرفة. ولئن كانت الجامعة الإسلامية تحظى اليوم بشرف استقبال جلالتكم فإنما تفد إليكم بأساتذتها وبسفراء نيف وثمانين دولة نفروا إليها من كل صوب وحدب ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.. يبلغونهم رسالة الإسلام خالصة من كل زيف أو تضليل نقية من كل زيغ أو تحريف سندهم في ذلك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
يا صاحب الجلالة، إننا نعيش اليوم في عالم مضطرب تتصارعه القوى المادية الشريرة، وتتكالب فيه ذئاب البغي والضلال لتنقض على الإسلام والمسلمين.
وإن الجامعة الإسلامية بفضل الله تعالى ثم بفضل رعايتكم لها ورعاية سلفكم الصالح جلالة الملك المعظم فيصل رحمه الله، لهي الدروع الواقية من طعنات الطاعنين والجنة التي يتحصن بها من سهام الباغين المعتدين، وإن أعضاء هيئة التدريس بها جند في سبيل الدعوة الإسلامية يحمون حماها ويرعون حرمات الله فيها ويعملون مخلصين تحدوهم الرغبة الصادقة في إعداد دعاة مزودين بسلاح العلم وعتاد المعرفة يكونون لسان حق للدعوة ورسل خير إلى الإنسانية.
وإنه لمن يمن الطالع لهذه الجامعة الراسخة أن يكون على رأس العمل فيها يرود ركبها ويحدو مسيرتها شيخ جليل وعالم فاضل أراد الله به خيراً ففقهه في الدين، وشرح صدره لكتاب الله وسنة رسوله فحفظهما ووعاهما وعمل بهما ودعا إليهما مترسما خطى السلف الصالح ذلك هو سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية حفظه الله مثلا أعلى للعالم العامل الذي يقول الحق ولا يخشى في الله لومة لائم.(10/365)
يا صاحب الجلالة من خير ما أراد الله للمسلمين عامة أن تكون المملكة العربية السعودية منطلقاً للدعوة الإسلامية ومنارة للعلم والمعرفة تضيء على العالم كله وموثلا أمينا ينل إليه طلاب العلم الصحيح ليتلقوه في هذه الجامعة وغيرها من جامعات المملكة.
وإننا ليحدونا الأمل الكبير في أن تحتل جامعتنا الإسلامية المكان المرموق في ظل عهد جلالتكم الميمون، زادكم الله قوة إلى قوتكم ومكن لجلالتكم ولسمو ولي عهدكم الأمين وأطال في عمركم وأسبغ عليكم جميعاً نعمه ظاهرة وباطنة.
وإنني أعود، فأكرر التحية لجلالتكم باسمي وباسم أعضاء هيئة التدريس بالجامعة داعين الله الكريم لكم بالتوفيق وأن يسدد على طريق الخير والهدى والرشاد خطاكم وأن يكلأ جلالتكم وصحبكم الأخيار برعايته وعنايته إنه نعم المولى ونعم النصير والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قصيدة الطالب بالسنة الرابعة من كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية سفر بن عبد الرحمن الحوالي:
الخطب جل وضاق عنه بياني
والحادثات يرعن كل جنان
ولقد غلبت على فؤادي موجع
أمر الدموع بمقلتي ونهاني
كفكف دموعك إن هذا موقف
فيه العناء محلل بتهاني
الحمد لله المهيمن وحده
ملك البقاء وكل شيء فاني
مضت الحياة على الأنام كأنها
يوم وآلاف القرون ثواني
لم يبق في الدنيا النبي محمد
خير الأنام وغرة الأكوان
حكم الإله على البرية نافذ
يجري بما لا يشتهي الثقلان
لله من أرض الجزيرة راحل
يبكي عليه الحل والحرمان
ملك عليه من المهابة حلة
ومن الطهارة والتقى تاجان
يا عاهلا ملك القلوب بحبه
هطلت عليك سحائب الغفران
من أجل هذا الدين عشت مجاهداً
ومن الجهاد إغاثة اللهفان
فلذاك يبكي المسلون جميعهم(10/366)
قاضيهم في لوعة والداني
يبكون من كشمير حتى دجلة
ومن الرباط إلى جبال فطاني
لما أتاهم نعي رائد مجدهم
هز القلوب وهد كل كيان
ولقد دعوت إلى التضامن أمة
قد مزقتها لوثة الأوثان
ورفضت كل عقيدة هدامة
في أيما لون من الألوان
أثبت أن الدين يرفع أهله
ويقي الشعوب مرارة الطغيان
وبنيت من فوق الرمال حضارة
شهدت بأنك أنت نعم الباني
ما كنت تطمح أن تحقق كل ما
حققت لولا قوة الإيمان
تلك الحنيفة من تقلد أمرها
بالحق حل من العلا بمكان
والدين من بعد الفقيد أمانة
قد قام يحمل عبئها كفان
جند العقيدة علقوا آمالهم
بعد الشهيد على المليك الثاني
أبناء جامعة المدينة كلهم
علم التقى ومنارة العرفان
قدموا إليك يبايعون على الهدى
وعلى الجهاد كبيعة الرضوان
عادت إلى الأذهان عند وقوفهم
ذكرى الخلافة في الزمان الفاني
جاءوك من كل البلاد وبعضهم
يمشون في الدنيا بلا أوطان
الكفر شردهم وبدد جمعهم
ورمت منازلهم يد العدوان
وتكالب الأعداء شرق ملحد
شرس وغرب حاقد نصراني
لجأوا إلى أرض الجزيرة إنها
مهوى القلوب ومنبع العرفان
قد أخبر الهادي محمد أنها
لا يلتقي أبداً بها دينان
دول الضلال ستنتهي أيامهم
حتماً وتبقى دولة القرآن
والله رب البيت مظهر دينه
حتى ولو كرهت قوى الشيطان
والله أقدر أن يظفر رأيه
خضراء دائبة على الخفقان
فاحمل - هديت - لواءها يا خالد
واضرب بسيف الله كل بنان(10/367)
ستقيم الجامعة بمشيئة الله في ليلة الإثنين الموافق 21-6-1395هـ. حفلا لتوزيع الشهادات على الخريجين والجوائز على المتفوقين، ومن الجدير بالذكر أنه صدر مؤخراً قرار مجلس الوزراء القاضي بمنح ألف ريال لكل طالب في المرحلة الجامعية يحصل على تقدير ممتاز.
بناء على موافقة المقام السامي ستبعث الجامعة وفوداً من أساتذتها إلى كل من السودان ومالي والنيجر والباكستان للقيام بالدعوة إلى الله في هذه الأقطار خلال العطلة الصيفية.
الجامعة تطبع كتباً مفيدة للتوزيع
حرصاً من الجامعة على نشر التوعية الإسلامية وجعل الكتب والرسائل المفيدة في متناول الراغبين في الإفادة بها والاستفادة منها فقد قامت بتأمين كميات كبيرة من هذه الكتب والرسائل للتوزيع كما قامت في العام الماضي بطباعة كتب سبعة مفيدة لتوزيعها ويجري حالياً في مطابع في مكة وجدة طباعة ستة عشر كتاباً بكميات كبيرة تبلغ الخمسين ألف نسخة في بعضها ولا تقل عن عشرة آلاف نسخة في البعض الآخر وفيما يلي أسماء هذه الكتب:
1- الإبانة لأبي الحسن الأشعري.
2- تطهير الاعتقاد للصنعاني.
3- مبادئ الإسلام بالعربية والإنجليزية.
4- أصول الدين الإسلامي بصيغة السؤال والجواب.
5- كشف الشبهات للشيخ محمد بن عبد الوهاب.
6- شرح الصدور للشوكاني.
7- التحف في مذاهب السلف للصنعاني.
8- شرح مسائل الجاهلية للألوسي.
9- مقدمة رسالة ابن أبي زيد القيرواني ونظمها لابن مشرف.
10- دراسات في الأسماء والصفات للشيخ محمد الأمين الشنقيطي.
11- كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب.
12- التحقيق والإيضاح كثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة لسماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
13- رسالة في الحجاب والسفور لسماحة رئيس الجامعة.(10/368)
14- الأدلة العقلية والنقلية على سكون الأرض وجريان الشمس لسماحة رئيس الجامعة.
15- الأربعون حديثاً النووية مع زيادة ابن رجب.
16- عمدة الأحكام في الحديث للمقدسي.
وتبلغ تكاليف طباعة هذه الكتب مائتي ألف وثلاثين ألفاً تقريباً.
- بدأت في يوم الأربعاء24-5-1395هـ اختبارات الدور الأول في كليات الجامعة ومعاهدها وقد تقدم لامتحانات الشهادات والنقل ما يقارب ألفي طالب ينتمون إلى ما يقارب الثمانين قطراً من أقطار العالم بينهم مائة وستون طالباً تقدموا لامتحان الشهادة العالية في كليتي الشريعة والدعوة وأصول الدين في الجامعة.
- تمت ترسية إنشاء مهاجع لسكن طلبة الجامعة على مؤسسة بخيت للتجارة والمقاولات وتبلغ تكاليف إنشاء هذا المشروع أكثر من ثمانية عشر مليون ريال.
ستمائة وثمانون منحة دراسية جديدة تقدمها الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة لأبناء العالم في عامها الدراسي 95-1396 هـ
صدرت موافقة المقام السامي على اعتماد المبالغ اللازمة لتقديم ستمائة وثمانين منحة دراسية جديدة في الجامعة الإسلامية موزعة على ما يزيد عن مائة وسبعة أقطار من أقطار العالم وذلك في العام الدراسي القادم 95 -1396هـ.
وهذه المكرمة العظيمة والمنحة السخية تعكس مدى اهتمام حكومة المملكة أيدها الله بالجامعة الإسلامية وتمكينها من أداء رسالتها السامية وتحقيق أهدافها النبيلة في استيعاب أعداد كبيرة من أبناء العالم يتفقهون في دين الله وينهلون من منهله الصافي في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم مهبط الوحي ومنطلق الأشعاع.(10/369)
الفتاوى
يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة
السؤال الأول: هل كتابة التعاويذ من الآيات القرآنية وغيرها وتعليقها في الرقبة شرك أو لا؟
والجواب: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه وأخرج أحمد أيضاً وأبو يعلى والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تعلق تميمة فلا أتم الله له ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له"وأخرجه أحمد من وجه آخر عن عقبة بن عامر بلفظ "من تعلق تميمة فقد أشرك" والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، والتميمة هي ما يعلق على الأولاد أو غيرهم من الناس لدفع العين أو الجن أو المرض ونحو ذلك ويسميها بعض الناس حرزاً ويسميها بعضهم الجامعة وهي نوعان: أحدهما ما يكون من أسماء الشياطين أو العظام أو الخرز أو المسامير أو الطلاسم وهي الحروف المقطعة أو أشباه ذلك وهذا النوع محرم بلا شك لكثرة الأدلة الدالة على تحريمه وهو من أنواع الشرك الأصغر لهذه الأحاديث وما جاء في معناها وقد يكون شركاً أكبر إذا اعتقد معلق التميمة أنها تحفظه أو تكشف عنه المرض أو تدفع عنه الضر من دون إذن الله مشيئته، والنوع الثاني ما يعلق من الآيات القرآنية والأدعية النبوية أو أشباه ذلك من الدعوات الطيبة فهذا النوع اختلف فيه العلماء فبعضهم أجازه وقال إنه من جنس الرقية الجائزة وبعض أهل العلم منع ذلك وقال إنه محرم واحتج على ذلك بحجتين: إحداهما عموم الأحاديث في النهي عن التمائم والزجر عنها والحكم عليها بأنها شرك فلا يجوز أن يخص شيء من التمائم بالجواز إلا بدليل شرعي يدل على ذلك وليس هناك ما يدل على التخصيص أما الرقى فقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن ما كان منها بالآيات القرآنية والأدعية الجائزة فإنه لا بأس به إذا(10/370)
كان ذلك بلسان معروف المعنى ولم يعتمد المرقى عليها بل اعتقد أنها سبب من الأسباب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً" وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم، ورقى بعض أصحابه، وقال: "لا رقية إلا من عين أو حمة" والأحاديث في ذلك كثيرة أما التمائم فلم يرد في شيء من الأحاديث استثناء شيء منها فوجب تحريم الجميع عملاً بالأدلة العامة، الحجة الثانية سد ذرائع الشرك، وهذا أمر عظيم في الشريعة ومعلوم أنا إذا جوزنا التمائم من الآيات القرآنية والدعوات المباحة انفتح باب الشرك واشتبهت التميمة الجائزة بالممنوعة وتعذر التمييز بينهما إلا بمشقة عظيمة فوجب سد الباب وقفل هذا الطريق المفضي إلى الشرك وهذا القول هو الصواب لظهور دليله، والله الموفق.
السؤال الثاني: يقول كثير من علمائنا أنه من الممكن أن نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأن رؤيته في المنام حقيقة لأن الشياطين لا يستطيعون أن يتمثلوا بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وهل مثل هذه العقيدة شرك أم لا؟(10/371)
الجواب: هذا القول حق وهو من عقيدة المسلمين وليس فيه شرك لأنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي" متفق على صحته.. فهذا الحديث الصحيح يدل على أنه صلى الله عليه وسلم قد يرى في النوم وأن من رآه في النوم على صورته المعروفة فقد رآه فإن الشيطان لا يتمثل في صورته ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون الرائي من الصالحين ولا يجوز أن يعتمد عليها في شيء يخالف ما علم من الشرع بل يجب عرض ما سمعه الرائي من النبي صلى الله عليه وسلم من أوامر أو نواهي أو خبر أو غير ذلك من الأمور التي يسمعها أو يراها الرائي للرسول صلى الله عليه وسلم على الكتاب والسنة الصحيحة فما وافقهما أو أحدهما قبل وما خالفهما أو أحدهما ترك لأن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها وأتم عليها النعمة قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن يقبل من أحد من الناس ما يخالفهما علم من شرع الله ودينه سواء كان ذلك من طريق الرؤيا أو غيرها وهذا محل إجماع بين أهل العلم المعتد بهم أما من رآه عليه الصلاة والسلام على غير صورته فإن رؤياه تكون كاذبة كأن يراه أمرد لا لحية له أو يراه أسود اللون أو ما أشبه ذلك من الصفات المخالفة لصفته عليه الصلاة والسلام لأنه قال عليه الصلاة والسلام فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي فدل ذلك على أن الشيطان قد يتمثل في غير صورته عليه الصلاة والسلام ويدعي أنه الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل إضلال الناس والتلبيس عليهم ثم ليس كل من ادعى رؤيته صلى الله عليه وسلم يكون صادقاً وإنما تقبل دعوى ذلك من الثقات المعروفين بالصدق والاستقامة على شريعة الله سبحانه وقد رآه في حياته صلى الله عليه وسلم أقوام كثيرون فلم يسلموا ولم ينتفعوا برؤيته كأبي جهل وأبي لهب وعبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين وغيرهم فرؤيته في النوم عليه الصلاة والسلام من باب أولى.(10/372)
السؤال الثالث: هل الرسول صلى الله عليه وسلم حي في قبره أم لا وهل يعلم في قبره بأمور الدنيا وهل هذه العقيدة شرك أم لا؟
الجواب: قد صرح الكثيرون من أهل السنة بأن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة برزخية لا يعلم كنهها وكيفيتها إلا الله سبحانه وليست من جنس حياة أهل الدنيا بل هي نوع آخر يحصل بها له صلى الله عليه وسلم الإحساس بالنعيم ويسمع بها سلام المسلم عليه عندما يرد الله عليه روحه ذلك الوقت كما في الحديث الذي رواه أبو داود بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام" وخرج البزار بإسناد حسن عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام" وأخرج أبو داود بإسناد جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجعلوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وهذه الحياة البرزخية أكمل من حياة الشهداء التي أخبر الله عنها سبحانه بقوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وفي قوله عز وجل: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} وروحه عليه الصلاة والسلام في أعلا عليين عند ربه عز وجل وهو أفضل من الشهداء فيكون له من الحياة البرزخية أكمل من الذي لهم ولكن لا يلزم من هذه الحياة أنه يعلم الغيب أو يعلم أمور أهل الدنيا بل ذلك قد انقطع بالموت لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" خرجه مسلم في صحيحه وقوله عليه الصلاة والسلام: "يذاد رجال يوم القيامة عن(10/373)
حوضي فأقول يا رب أصحابي فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد" متفق على صحته والأحاديث في هذا الباب كثيرة وهو صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب في حياته فكيف يعلمه بعد مماته وقد قال الله سبحانه: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} وقال عز وجل آمراً نبيه أن يبلغ الناس: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} وقال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} والآيات الدالة على أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب كثيرة، وهكذا غيره من الناس من باب أولى ومن ادعى أنه يعلم الغيب فقد أعظم على الله الفرية كما قالت ذلك عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ولما قذف بعض الناس زوجته عائشة رضي الله عنها في بعض غزواته وأشاع ذلك بعض المنافقين ومن قلدهم لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم براءتها حتى نزل القرآن بذلك ولو كان يعلم الغيب لقال لها وللناس: إنها بريئة ولم ينتظر نزول الوحي في ذلك وهكذا لما ضاع عقدها في بعض أسفاره بعث أصحابه يلتمسونه فلم يجدوه ولم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم مكانه حتى أقاموا البعير الذي كانت تحمل عليه فلما أقاموه وجدوه تحته والأحاديث في ذلك كثيرة وفيما ذكرت إن شاء الله كفاية.(10/374)
السؤال الرابع: هل يكون من الشرك إذا قال أحد في أي بقاع الأرض يا محمد يا رسول يناديه.
الجواب: قد بين الله سبحانه في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم أن العبادة حق الله ليس فيها حق لغيره وأن الدعاء من العبادة فمن قال من الناس في أي بقعة من بقاع الأرض يا رسول الله أو يا نبي الله أو يا محمد أغثني أو أدركني أو انصرني أو أشفني أو انصرني أو أشفني أو انصر أُمتك أو أشف مرضى المسلمين أو اهد ضالهم أو ما أشبه ذلك فقد جعله شريكاً لله في العبادة وهكذا من صنع مثل ذلك مع غيره من الأنبياء أو الملائكة أو الأولياء أو الجن أو الأصنام أو غيرهم من المخلوقات لقول الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .(10/375)
ولقوله في سورة الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وقوله سبحانه {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} قوله عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} فسمى الدعاء عبادة وأخبر أن من استكبر عنها سيدخل جهنم داخراً أي صاغراً وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} وقال سبحانه {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} وقال عز وجل: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} وقال سبحانه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} وهذه الآيات وما جاء في معناها من الآيات والأحاديث كلها تدل على أن العبادة حق الله وحده وأن الواجب تخصيصه بها لكونه خلق العباد لذلك وأمرهم به كما تدل على أن جميع المعبودين من دون الله لا يسمعون دعاء من يدعوهم ولو فرض سماعهم لم يستجيبوا له كما دلت أيضاً على أن المعبودين من دون الله يتبرأون من عابديهم يوم القيامة وينكرون عليهم ذلك ويخبرونهم أنهم كانوا غافلين عن عبادتهم(10/376)
إياهم وبين سبب البيان بيان لطالب الحق وقد بعث الله الرسل عليهم الصلاة والسلام وعلى رأسهم خاتمهم وأفضلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يدعون الناس إلى عبادة الله وحده ويحذرونهم من عبادة ما سواه كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وقال عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وقال عز وجل في سورة الرعد آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلغهم ما أمره به: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" متفق عليه من حديث معاذ رضي الله عنه، وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وهو يدعو لله نداً دخل النار" وقال عليه الصلاة والسلام: "الدعاء هو العبادة" وفي لفظ آخر "الدعاء مخ العبادة" وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار" وفي صحيح مسلم أيضاً عن طارق الأشجعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل" والأحاديث في هذا الباب كثيرة ولا شك أن المستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بغيره من الأولياء والأنبياء والملائكة أو الجن إنما فعلوا ذلك معتقدين أنهم يسمعون دعاءهم ويقضون حاجاتهم وأنهم يعلمون أحوالهم وهذه أنواع من الشرك الأكبر لأن الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل ولأن الأموات قد انقطعت أعمالهم وتصرفاتهم في عالم الدنيا سواء كانوا أنبياء أو غيرهم ولأن الملائكة والجن غائبون عنا مشغلون(10/377)
بشئونهم.
وليس لنا أن نصرف لهم شيئاً من حق الله أو ندعوهم مع الله عز وجل لأن الله سبحانه أمرنا أن نعبده وحده دون ما سواه وأخبر أنه خلق الثقلين لذلك كما تقدم ذكر الآيات في هذا المعنى ولأن جميع المعبودين من دون الله لا يستطيعون قضاء حاجات عابديهم ولا شفاء مرضاهم ولا يعلمون ما في نفوسهم وإنما الذي يقدر على ذلك ويعلم ما في الصدور هو الله وحده وسبب ذكر الآيات الدالة على هذا المعنى مثل قوله سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} فسمى سبحانه في هذه الآية دعاء غيره شركا وفي آية أخرى سماه كفرا كما في قوله عز وجل: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}
وبين عز وجل في آية أخرى أن المعبودين دون الله من الأنبياء وغيرهم لا يملكون كشف الضر عن داعيهم ولا تحويله من حال إلى حال ولا من مكان إلى مكان أو من شخص إلى شخص آخر كما قال عز وجل في سورة الإسراء: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} والآيات في هذا المعنى كثيرة.
تنبيه هام:(10/378)
ليس من عبادة غير الله التعاون بين العباد الأحياء القادرين بمقتضى الأسباب الحسية كطلب الإنسان من الإنسان الحي القادر الحاضر أو الغائب بالمكاتبة ونحوها أن يعينه على تعمير بيته أو إصلاح سيارته أو أن يقرضه شيئاً من المال أو يساعده في الجهاد أو على التحرز من اللصوص أو قطاع الطريق أو نحو ذلك وهكذا خوف الإنسان من عدوه الحي أو من اللصوص أو من المؤذين طبعاً كالسباع والحيات والعقارب ونحو ذلك ومن الأدلة على ذلك قول الله سبحانه في سورة القصص في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} وقوله عز وجل: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} وقوله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وقل النبي صلى الله عليه وسلم: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة فينبغي التنبه لهذا الأمر والعناية به لأن كثيراً من الجهال والمشركين يلبسون على بعض دعاء التوحيد بمثل هذه الأمور والله المستعان.
السؤال الخامس: إذا جاء أحد عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي ويسلم عليه هل يسمعه ويراه وهل هذه العقيدة شرك أم لا؟
والجواب: المشروع للمسلم إذا زار مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبدأ بالصلاة في مسجده عليه الصلاة والسلام وإذا أمكن أن يكون ذلك في الروضة الشريفة فهو أفضل ثم يتوجه إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويقف أمامه بأدب وخفض صوت ثم يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه رضي الله عنهما.(10/379)
وقد أخرج أبو داود بسند جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام". وقد احتج جماعة من أهل العلم بهذا الحديث على أنه صلى الله عليه وسلم يسمع سلام المسلمين عليه إذا ردت عليه روحه، وقال آخرون من أهل العلم ليس هذا الحديث صريحاً في ذلك وليس فيه دلالة على أن ذلك خاص بمن سلم عليه عند قبره بل ظاهر الحديث يعم جميع المسلمين عامة وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا عليّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة عليّ قالوا: يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" خرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه بإسناد حسن، وسبق قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" أخرجه أبو داود بإسناد حسن، وسبق أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام" فهذه الأحاديث وما جاء في معناها تدل على أنه صلى الله عليه وسلم يبلغ صلاة المصلين عليه وسلامهم وليس فيها أنه يسمع ذلك فلا يجوز أن يقال إنه يسمع ذلك إلا بدليل صحيح صريح يعتمد عليه فإن هذه الأمور وأشباهها توقيفية ليس للرأي فيها مجال وقد قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} وقد رددنا هذه المسألة إلى القرآن العظيم وإلى السنة الصحيحة فلم نجد فيهما ما يدل على سماعه صلى الله عليه وسلم صلاة المصلين وسلامهم وإنما في السنة الدلالة على أنه يبلغ ذلك وفي بعضها التصريح بأن(10/380)
الملائكة هي التي تبلغه ذلك والله سبحانه أعلم، أما كونه صلى الله عليه وسلم يرى المسلم عليه فهذا لا أصل له وليس في الآيات والأحاديث ما يدل عليه كما أنه عليه الصلاة والسلام لا يعلم أحوال أهل الدنيا ولا ما يحدث منهم لأن الميت قد انقطعت صلته بأهل الدنيا وعلمه بأحوالهم كما تقدمت الأدلة على ذلك وما يروى في هذا الباب من الحكايات والمرائي المنامية وما يذكره بعض أهل التصوف من حضوره صلى الله عليه وسلم بينهم واطلاعه على أحوالهم وهكذا ما يذكر بعض المحتفلين بمولده عليه الصلاة والسلام من حضوره بينهم فكل ذلك لا صحة له ولا يجوز الاعتماد عليه لأن الأدلة الشرعية محصورة في كلام الله سبحانه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع أهل العلم المحقق أما الآراء والمنامات والحكايات والأقيسة فليس لها مجال في هذا الباب ولا يعتمد على شيء منها في إثبات شيء مما ذكرنا، والله ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.(10/381)
أضواء على التفسير
بقلم فضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} .
المناسبة:
بعد أن ذكر استبعادهم للبعث، ورد عليهم بتحقيق قدرته تعالى وعلمه، وبين أن جميع أعمالهم محفوظة مكتوبة عليهم، أتبع ذلك ببيان ما يلاقونه لا محالة من الموت والبعث وما يتفرع عليه من الأحوال والأهوال.
القراءة:
قرأ الجمهور: {سَكْرَةُ} .. بالإفراد، وقرأ ابن مسعود {سكرات} بالجمع، وقرأ الجمهور بفتح التاء في {كُنْتَ} والكاف في {عَنْكَ} و {غِطَاءَكَ} و {فَبَصَرُكَ} وقرئ بكسر التاء والكاف. وقرأ الجمهور {عَتِيدٌ} بالرفع وقرئ بالنصب.
المفردات:
{سَكْرَةُ الْمَوْتِ} شدته الذاهبة بالعقل عند النزع. {بِالْحَقِّ} أي بحقيقة الأمر الذي نطقت به كتب الله ورسله أو حقيقة الأمر وجلية الحال من سعادة الميت وشقاوته. أو بالأمر الثابت الذي لا بُد أن يكون. {تَحِيدُ} تهرب منه وتنفر عنه، تقول أعيش كذا وأعيش كذا فمتى فكر في قرب الموت حاد بذهنه عنه وأمل طول الأجل.(10/382)
{الصُّورِ} القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل {الْوَعِيدِ} أي يوم إنجاز العذاب الموعود للكفار. {سَائِقٌ} حاث على السير من الملائكة. {شَهِيدٌ} أي مخبر بأعمالها. قيل هو ملك آخر يشهد عليها بما فعلت. وقيل الشهيد الكتاب الذي يلقاه منشوراً. وقيل السائق والشهيد ملك واحد جامع بين الوصفين كأنه قيل معها ملك يسوقها ويشهد عليها. {غَفْلَةٍ} لهو وسهو. {فَكَشَفْنَا} أزحنا. {غِطَاءَكَ} حجاب غفلتك. {حَدِيدٌ} نافذ قوي. {قَرِينُهُ} الملك الذي يسوقه أو الملك الموكل بتعذيبه من زبانية جهنم. {عَتِيدٌ} معد حاضر.
التراكيب:
قوله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} الواو للعطف على إذ يتلقى، والباء في بالحق للتعدية أي أحضرت سكرة الموت الحق، ويجوز أن تكون الحال أي متلبسة بالحق، والتعبير بالماضي في هذا والذي بعده للإيذان بتحقق الوقوع.(10/383)
وقوله: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} على تقدير القول أي يقال له في وقت الموت: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} والإشارة فيه إلى الموت، والخطاب للإنسان الذي جاءته سكرة الموت. وقوله {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} معطوف على قوله {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} والمراد النفخة الثانية. وقوله {ذَلِكَ} الإشارة فيه إلى الزمان المفهوم من نفخ فإن الفعل كما يدل على الحدث يدل على الزمان. أي يوم النفخ. وقيل الكلام على حذف المضاف أي وقت ذلك، وإنما قال: {يَوْمُ الْوَعِيدِ} مع أنه يوم الوعد أيضاً لتهويله ولذلك بدئ ببيان حال الكفرة. وقوله {مَعَهَا سَائِقٌ} معها خبر مقدم وسائق مبتدأ مؤخر والجملة في حل جر صفة لنفس. وجوز أن تكون في محل رفع صفة لكل. وأنكر أبو حيان على الزمخشري إنكاراً شديداً لما جعلها في محل نصب على الحال من كل لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة، قال أبو حيان: هذا كلام ساقط لا يصدر عن مبتدئ في النحو لأنه لو نعت كل نفس لما نعت إلا بالنكرة. فهو نكرة على كل حال فلا يمكن أن يتعرف كل وهو مضاف إلى نكرة.
وقوله: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} محكي بإضمار قول هو إما صفة أخرى وإما على سبيل الاستئناف البياني كأنه قيل: فماذا يفعل بها! فقيل: يقال: لقد كنت في غفلة من هذا، وقرأ الجمهور بفتح تاء الخطاب حملاً على لفظ كل من التذكر أو على التأويل بالشخص كما في قول جبلة بن حريث:
يا نفس إنك باللذات مسرور
فاذكر وهل ينفعك اليوم تذكير
وأما من قرأ بكسر التاء فالخطاب للنفس. وكذلك فيمن قرأ: {غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ} على التذكير والتأنيث.(10/384)
وقوله: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} معطوف على {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ ٌ} وإنما عطفت هذه الجملة لأن المقصود التشريك مع ما قبلها في الحصول أعني مجيء كل نفس مع السائق والشهيد وقول قرينه هذه المقالة. والإشارة فيه يجوز أن تكون للكافر إن قلنا إن القرين هو الملك الموكل بسوقه، والتعبير عنه بما التي لغير العاقل، لأنه لم ينهج نهج العقلاء. والتقدير هذا الكافر الذي أسوقه لدى حاضر، ويجوز أن تكون الإشارة للعذاب إن قلنا إن القرين من زبانية جهنم والتقدير هذا العذاب لدي لهذا الكافر الحاضر ويجوز أن تكون الإشارة إلى صحيفة عمله إن قلنا إن القرين هو الملك الموكل به في الدنيا، والتقدير هذا الذي سجلته عليه حاضر مهيأ للعرض. و {ما} إن جعلت نكرة موصوفة فعتيد صفتها وإن جعلت موصولة فعتيد بدل منها أو خبر بعد خبر أو خبر لمبتدأ محذوف. ومن قرأ {عَتِيدٌ} بالنصب فهو على الحال والأولى حينئذ أن تكون ما موصولة.
المعنى الإجمالي:
وأحضرت شدة الموت الذاهبة بالعقل عند النزع حقيقة الأمر الذي نطقت به كتب الله ورسله، ذلك الموت الذي كنت تنفر عنه وتهرب منه، وصوت إسرافيل في القرن الصوت الثاني، ذلك الوقت يوم إنجاز العذاب الموعود للكفار، وأتت كل نفس يصحبها ملك يسوقها، وشهيد يخبر بأعمالها، لقد كنت أيها الإنسان في لهو وسهو من هذا النازل بك، فأزحنا عنك حجاب غفلتك فبصرك اليوم حاد قوي نافذ.
وقال الملك الموكل به: هذا الذي عندي مهيأ حاضر.
ما ترشد إليه الآيات:
1 - إن للموت سكرات.
2 - عند سكرة الموت يظهر الحق لمن عمي عنه.
3 - يصحب كل نفس إلى المحشر سائق وشهيد.
4 - عند القيامة لا توجد نفس تكذب بها.
5 - حب الله للعدل في القضاء حتى على الكافرين.(10/385)
قال تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} .
المناسبة:
بعد أن أقيمت البينة العادلة على إجرام المجرم أمر الله بإلقائه في النار، وبين كيف يتبرأ القرين من قرينه في هذا الموقف الخطير.
القراءة:
قرأ عامة القراء {أَلْقِيَا} بالألف، وقرأ الحسن البصري شاذاً {ألقين} بنون التوكيد الخفيفة، وقرئ {يوم نقول} بالنون، وقرئ {يقول} بالياء، وقرئ {يقال} مبنياً للمجهول.
المفردات:
{أَلْقِيَا} اطرحا وارميا. {عَنِيدٍ} مجاف للحق معارض للدين {لِلْخَيْرِ} قيل المال وقيل الإسلام. {مُعْتَدٍ} ظالم متجاوز للحد في الإثم {مُرِيبٍ} شاك في دينه. {قَرِينُهُ} شيطانه ومغويه في الدنيا. {أَطْغَيْتُهُ} أضللته. {بَعِيدٍ} طويل لا يرجع عنه إلى الحق. {لا تَخْتَصِمُوا} لا تعتذروا. {بِالْوَعِيدِ} بمجازاة العصاة {مَا يُبَدَّلُ} ما يغير {بِظَلاَّمٍ} بذي ظلم.
التراكيب:
قوله {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} خطاب من الله تعالى للملكين السائق والشهيد، وقيل للملكين من ملائكة العذاب، والألف فيه لضمير الاثنين. وقال مجاهد وجماعة: هو خطاب للواحد وهو إما السائق وإما أحد زبانية جهنم واعتذر لهذا القول عن مجيئه على صورة خطاب الاثنين بأن المقصود منه تثنية الفعل وتكريره، كأنه قيل (ألق ألق) على حد قول القائل:
فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر(10/386)
وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا
أو بأن الألف ليست للتثنية لا حقيقة ولا صورة بل هي منقلبة عن نون التوكيد الخفيفة والأصل ألقين على حد قوله:
وأبدلنها بعد فتح ألفا
وقفا كما تقول في قفن قفا
ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، قالوا ويؤيد هذا قراءة الحسن البصري الشاذة، وظاهر اللفظ يؤيد أن الخطاب لاثنين لا لواحد وليست هناك ضرورة تدعو إلى الخروج عن ظاهر اللفظ، وارتكاب هذه التمحلات.
وقوله: {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} الذي مبتدأ متضمن لمعنى الشرط، وقوله {فَأَلْقِيَاهُ} خبره، ودخلت فيه الفاء لأن المبتدأ فيه معنى الشرط، ويجوز أن يكون منصوباً بدلاً من كل كفار، وجوز أن يكون مجروراً بدلاً من كفار، ومن أعرب الموصول بدلا جعل {فَأَلْقِيَاهُ} توكيداً، وقوله {قَالَ قَرِينُهُ} جاءت هذه الجملة بلا واو لأنها قصد بها الاستئناف كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول كأن الكافر قال: ربي هو أطغاني. قال قرينه ربنا ما أطغيته، فهو جواب لمحذوف دل عليه المذكور فإنه منبيء عن سابقة كلام اعتذر به الكافر.. وهذا بخلاف قوله فيما تقدم: {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} فإنها عطفت على ما قبلها بالواو الدالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول يعني مجيء كل نفس مع السائق والشهيد وقول قرينه هذه المقالة. وقوله: {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} استئناف بياني وقع في جواب سؤال مقدر كأنه قيل فماذا قال الله؟ فقيل: قال: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} والفاعل في قال هو الله. وقوله: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} الجملة حال فيها تعليل للنهي على معنى لا تختصموا وقد صح عندكم أني قدمت إليكم بالوعيد حيث قلت لإبليس لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين فاتبعتموه معرضين عن الحق فلا وجه للاختصام في هذا الوقت. ولا تكون الجملة حالا إلا(10/387)
على هذا التأويل إذ لولاه لاختلف الزمانان: زمان التقديم وزمان النهي عن الاختصام. فإنه إنما صح التقديم عندهم في الآخرة فاجتمعا بذلك في زمان واحد، واجتماعهما في زمن واحد واجب، والباء في قوله {بِالْوَعِيدِ} إما مزيدة أو للتعدية إن كان قَدَّم بمعنى تقدم. وقوله: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ} الخ يجوز أن يكون استئنافاً لتيئيسهم وتقرير عدله سبحانه، ويجوز أن يكون معمولاً لقدمت. وعلى هذا فقوله {بِالْوَعِيدِ} متعلق بمحذوف هو حال من المفعول أو من الفاعل والتقدير: قدمت إليكم هذا القول ملتبساً بالوعيد مقترناً به أو قدمته إليكم موعداً لكم به. وقوله: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ} يوم منصوب بظلام، ونفي الظلم عنه في هذا اليوم دليل على نفي الظلم عنه في غيره من باب أولى. ويجوز أن يكون منصوباً بمحذوف تقديره: اذكر أو أنذر. وقوله {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} المقصود من الاستفهام الأول تحقيق وعده بملئها إذ قال: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّم} والاستفهام الثاني يجوز أن يكون بمعنى النفي يعني أفي موضع للزيادة ومعناه لا أحتاج إلى زيادة، وعلى هذا فالسؤال والجواب بعد امتلائها.
وبهذا قال الحسن وبعض أهل العلم. وقيل: المراد من الاستفهام الرغبة في الزيادة والاستكثار من الداخلين فهو بمعنى الطلب أي زدني. وعلى هذا فالسؤال والجواب قبل امتلائها. وحينئذ فمزيد مصدر يعني هل من زيادة! فإني لم أمتلئ بعد. وقد جاء في صحيحي البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فتقول قط قط وعزتك! فينزوي بعضها على بعض وتقول قط قط وعزتك وكرمك. ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشئ الله لها خلقاً فيسكنهم فضل الجنة".(10/388)
وهذا لفظ مسلم. وهذا السؤال والجواب منها حقيقة وليس على منهاج التمثيل والتخييل والله أنطق كل شيء.
المعنى الإجمالي:
اطرحا في النار المحرقة البعيدة القاع كل جحود مخالف للحق معارض للدين، كثير الحيلولة بين الخير وأهله متجاوز للحد في الإثم، مشكك في الإسلام الذي أشرك بالله فطرحناه في العذاب القاسي الأليم.
قال شيطانه المقارن له في دنياه متبرئاً منه معتذراً إلى ربه: سيدنا ومالكنا ما أضللته ولم أقهره على تجاوز حده في الإثم، ولكن كان هو بذاته في تحير طويل! قال الله: لا تعتذروا عندي الآن وقد صح عندكم الآن أنه سبق أن خوفتكم هذا العذاب. فما أنا براحمكم، ولست بذي ظلم، يوم نقول للنار المحرقة البعيدة القاع هل تحتاجين إلى زيادة وتقول: ليس بي متسع! أو تقول: زدني فأزيدها حتى تقول قط قط قد امتلأت.
ما ترشد إليه الآيات:
1 - تخويف الكفار من هذا الموقف الخطير.
2 - تبرؤ قرين الشر من قرينه.
3 - سب الشيطان لقرينه.
4 - لات ساعة مندم.
5 - نفي الظلم عن الله عز وجل.
6 - لا بُد من امتلاء جهنم.
قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} .
المناسبة:
بعد أن بين الله حال الكفار عند النفخ في الصور وما يلاقونه من أهوال عظام يشيب لها الولدان. شرع في بيان حال المؤمنين، وما يلاقونه من السلام والتكريم. وإنما بدأ بأحوال الكفار لأن المقام للتخويف والتهويل.
القراءة:
قرأ الجمهور {مَا تُوعَدُونَ} بالتاء وقرئ بالياء أيضاً.
المفردات:(10/389)
{وَأُزْلِفَتِ} قربت. {لِلْمُتَّقِينَ} للمتخذين لأنفسهم وقاية باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه.
{أَوَّابٍ} رجاع إلى الله. {حَفِيظٍ} صائن لحدود الله {خَشِيَ} خاف. {الرَّحْمَنَ} المتصف بالرحمة الواسعة {بِالْغَيْبِ} أي في الخلوة حيث لا يراه أحد، أو خافه ولم يره. {مُنِيبٍ} مقبل على طاعة الله {بِسَلامٍ} أي مسلمين أو مسلماً عليكم من الله وملائكته. أو سالمين من العذاب. {الْخُلُودِ} الدوام في الجنة. {يَشَاءُونَ} يريدون ويطلبون {مَزِيدٌ} زيادة. قال أنس وجابر هي النظر إلى وجه الله الكريم.
التراكيب:(10/390)
قوله {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} عطف على نفخ. وقوله {غَيْرَ بَعِيدٍ} صفة لموصوف محذوف أي إزلافاً غير بعيد وإنما جاء بقوله {غَيْرَ بَعِيدٍ} للتأكيد من باب قوله (هو قريب غير بعيد، وعزيز غير ذليل) . والإشارة بقوله {هَذَا} إلى نعيم الجنة. وقوله {مَا تُوعَدُونَ} بالتاء على الالتفات إلى الخطاب لكمال العناية بهم. وقوله {أَوَّابٍ حَفِيظٍ} بدل من قوله {لِلْمُتَّقِينَ} بإعادة الجار وعليه فقوله {هَذَا مَا تُوعَدُونَ} اعتراض. {ومَن} في قوله: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} بدل من كل، بعد اعتبار كون كل بدلا من المتقين. قالوا ولا يصح أن يكون بدلاً من المتقين لأن تكرار البدل مع كون المبدل منه واحداً لا يجوز. ويصح أن يكون مَن خبراً لمبتدأ محذوف أي هم من خشي الرحمن أو مبتدأ خبره ادخلوها بسلام بتأويل يقال لهم، والجمع باعتبار معنى من. وقوله {بِالْغَيْبِ} حال من المفعول أي خشيه وهو غائب عن بصره ولم يره. ويجوز أن يكون حالاً من الفاعل أي خشي الرحمن في خلوته والتعرض لعنوان الرحمانية للثناء على الخاشي حيث علم أنه رحمن ومع هذا لا يصده ذلك عن خشيته تعالى. وإنما وصف القلب بالإنابة لأنه العمدة في اعتبار الرجوع إلى الله تعالى. وقوله {بِسَلامٍ} حال من فاعل ادخلوها. والإشارة في قوله: {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} إلى الزمان المفهوم من ادخلوها فإن الفعل كما يدل على الحدث أي يوم الدخول المقرون بالسلام وقيل الكلام على حذف مضاف أي وقت ذلك يوم الخلود. وهذا معادل لقوله في الكفار {ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} فيما تقدم. وقوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} لهم خبر مقدم وما اسم موصول مبتدأ مؤخر ويشاءون صلته والعائد محذوف وفيها متعلق بيشاءون. وقيل بمحذوف حال من الموصول أو من عائده.
المعنى الإجمالي:(10/391)
وقربت الجنة للمتخذين لأنفسهم وقاية من عذاب الله باتباع أوامره سبحانه واجتناب نواهيه.. وأدنيت لهم إدناء غير بعيد. هذا الذي يعد لكم وقد سبق به الوعد من أنبياء الله وفي كتبه.. لكل رجاع إلى طاعة الله تعالى صائن لحدود الله، من خاف من واسع الرحمة ولم يره، أو خاف منه في خلوته وأتى إلى الله في القيامة بقلب مقبل على الله، ادخلوا الجنة مسلماً عليكم من الله تعالى وملائكته أو يحيي بعضكم بعضاً أو سالمين من العذاب. يوم الدخول المقرون بالسلام هو يوم الإقامة الدائمة الأبدية بجنات عدن لهؤلاء السعداء ما يطلبون في الجنة.
وعندنا زيادة فوق ما يطلبون، لا تخطر بالبال، ولا تندرج تحت مشيئتهم، من معالي الكرامات، التي لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ما ترشد إليه الآيات:
1- تحقيق وعد الله لعباده الصالحين.
2- تكريم المتقين وتأمينهم عند فزع الناس.
3- قدرة الله على إدناء الأماكن المحبوبة للمحبين.
4- العبرة برجوع القلب.
5 - يلقى المؤمن عند دخول الجنة تحية وسلاماً.
6- يعطى المؤمنون فيها ما يطلبون وفوق ما يطلبون.
دعاة جهنم
قال حذيفة كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أساله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: "يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: نعم، فقلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي ويهتدون بغير هدي تعرف منهم وتنكر، قلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها، قلت يا رسول الله صفهم لنا؟ قال: نعم قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا".
رواه البخاري ومسلم(10/392)
رسائل لم يحملها البريد
بقلم فضيلة الشيخ عبد الرؤف اللبدي
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية
صديقي العزيز:
بشراك يا صديقي! لقد أحلت على التقاعد، التقاعد الذي كنت أتمناه على الله مذ سنين، مذ أكل جسمي مرض السكر، ولبست عيناي نظارات القراءة، وناءت ساقاي بالوقوف الطويل في غرف التدريس.
جاءني كتاب الإحالة، فوجف القلب لأول وهلة، وجف الحلق بعد القراءة الأولى، واضطربت ساقاي من تحتي فهبطت إلى الأرض أحملها ثقلي وأقول: ويحك يا نفس! ألم يك هذا ما تطلبينه وتواصلين فيه الطلب، وتلحين فيه وتضربين على الإلحاح؟؟! فما عدا مما بدا؟! ما هذا الخفقان المجنون في القلب؟! وما هذه الرعدة المحمومة في الفرائص؟!
الوظيفة التي تقاعدت عنها لم تجيء بالهيل والهيلمان، ولم يكن لها في الناس رهبة ولا سلطان، وما كانت تُمِرّ ولا تحلى لدى كثير من أناسيّ هذا المجتمع.
لم يكن لك من تلك الوظيفة تعظيم جماهير تختالين فيه وتمسين، ولم يكن لك منها نفاق مذبذبين تستنيمين إليه وتستعذبين، ما كان لك من تلك الوظيفة مصاهرات حرص عليها الناس لتقربهم إلى السلطة العليا زلفى، حتى إذا تقاعدت تخلوا عنها وكانوا فيها الزاهدين، فما هذه الغاشية التي تغشاك؟! وما هذا الزلزال الذي يهزّك هزّاً؟! تكلمي، ما بالك صامتة لا تقولين شيئاً ولا تهمسين؟!
أما كنت تتمنين ليلاً ونهاراً، وتضرعين إلى الله سراراً وجهاراً، تسألينه أن يخلصك من حياة الوظيفية والموظفين، وما في تلك الحياة من شوائب النفاق والخداع والكذب والزلفى، وما في تلك الحياة من الحدود والقيود والأنظمة التي تضيق بها الصدور، وترخص فيها الأنفس، ويستذل بها الأحرار؟! فما هذا الخوف الذي تخافينه، وفيم هذا القلق الذي تقلقين؟!(10/393)
ألم تشتر هذه الكتب التي تنطح برأسها السقف، وتزحم بمنكبيها الزوايا؟! ألم تعديها حين الشراء بالقراءة والدراسة وطول السهر وجميل الصحبة، ثم اعتذرت بضيق الوقت وأعباء الوظيفة، وضربت لها موعداً آخر هو سنوات الإحالة وحياة الشيخوخة؟! هاهو ذا الموعد قد حان، وهاهي ذي سنوات الإحالة قد أقبلت، فلم لا تفرحين بأكرم لقاء؟! ولم لا تنجزين أثمن موعد، ولم لا تنجزين؟!
انظري إلى هذه الكتب، ثم ارجعي البصر إليها كرتين، بعضها قد نام وعلاه الغبار من طول الإهمال والانتظار، وبعضها يقظان غضبان ينظر إليك بعتب وزراية، ألا تصغين إلى ما تقوله وتسمعين!
تقول إذا كنت لا تريدين لنا صحبة، ولا تجدين في مجالسنا أنساً، فأطلقي سراحنا وافتحي لنا الأبواب، إن أناساً كثيرين سوف يفتحون لنا آذانهم وأعينهم والقلوب، وسوف نجد عندهم كريم صحبة وصادق إلف وجميل إحسان.
لم نؤلف نحن - معاشر الكتب - لنكون على الجدران زينة وجمالاً، ولا لنكون في البيوت أثاث تفاخر ومباهاة، وإنما نحن زاد عقول ونور قلوب، وأصدقاء أوفياء لمن كان لنا وفيا.
لقد لقينا نحن - معاشر الكتب - منك أيتها النفس جفاء غير حميد، واستقبالا غير ودود، وإعراضاً وصدا طال عليهما الأمد، أمن الحق أن تقضى الساعات الطويلة تصغين إلى المذياع، وتنظرين في التلفاز، وتجترين الأحاديث المكرورة في مجالس القهوة والشاي، حتى إذا نبهناك إلى حقنا عليك، وإلى نصيبنا من جهدك وأوقات فراغك، رحت تزعمين التعب والإرهاق، وتدعين الحاجة إلى النوم والراحة.
لو كنت ذات صناعة أو تجارة أو عمل، ولم تكوني منسوبة إلى العلم وأهله، لكان لك شيء من عذر، ولكنك - وا أسفاه - تنسبين إلى العلم وذويه، وتعدين فيهم حين يدعو الداعي إلى مغنم أو وليمة.(10/394)
ألا تثوبين إلى الرشد وترجعين عن هذا الضلال!! ألا تحمدين الله وتشكرينه على هذه النعمة الجديدة المرتجاة منذ أزمان طويلة!! ألا تحمدين الله - أيتها النفس - وتشكرين!!؟
وبهذه النجوى الصامتة وهذا الهمس الهامس، استطعت - يا صديقي - أن أعود بنفسي إلى دنياها، فأخذت تتنفس بسهولة، وتتحرك بنشاط، وتشعر بما يشعر به الأحياء من جوع وعطش، وشبع وريّ وحرّ وقرّ، وليل ونهار.
ولكنني - يا صديقي - لا أزال في حيرة من هذا الذي أصاب نفسي ودهاها، وهي التي كانت تسعى إلى هذا التقاعد وتتمناه، ولا يكاد يفتر لها شوق إلى لقياه، حتى إذا جاءها فجأة - وما هو بالفجاءة - اضطربت له وزلزلت زلزالا شديداً.
فإلى أي شيء تعزو ذلك، وبماذا تعلله؟!
أترى ما حلّ بي عائداً إلى ضعف اعتمادي على الله وقلة توكلي عليه؟ وإلى أن صلاتي وصيامي وسائر عباداتي إنما هي عادات قمت بها أول أمري تقليداً لوالديّ وطاعة لهما، ثم تمكنت فيّ بكرّ الزمن وطول الممارسة، دون أن يكون لها أقوى أثر وعميق صدى في تصرفاتي المعاشية وسلوكي في الحياة، حتى إذا ما ابتلاني ربي أو خيّل إليّ أنه قد ابتلاني نسيت نفسي حق الله وحق عبادة الله وحق أن تسلم أمرها إلى ربها وتقول في اطمئنان وثقة: إنا لله وإنا إليه راجعون.
أم ترى ذلك راجعاً إلى سوء الطريقة التي بها تعلمت، لقد كانت طريقة تقوم على تلقين المعلومات تلقيناً وسردها سرداً، وما عليّ إلا أن أحفظ دروسي حفظاً أصم لا تعقل فيه ولا فهم، لا أشارك في أي جهد علمي، ولا أتحمّل أيّ مسؤولية في الكتساب أي معرفة، فتخرجت أتردد في إبداء الآراء، وأقلد غيري في قضايا العلم والأدب، وأكره أشد ما يكون الكره أن أستقل في أداء الأعمال.(10/395)
أم ترى ذلك عائداً إلى ما يغشى هذا العالم هذه الأيام من قلق وذعر وجوع وفقر، فالناس لا يطمئنون إلى شيء، ولا يستقرون على حال، يصبحون وهم يخشون شيئاً يأتي به الليل، ويمسون وهم لا يستبشرون بما يطلع به النهار، ليس في صدورهم إيمان يبعث الطمأنينة والأمن، وليس في قلوبهم عقدة تكل الأمور إلى الله بعد أخذ بأسباب الحياة.
أم ترى ذلك راجعاً إلى أنه قد غبر من عمري دهر طويل وأنا عبد وظيفة، لي رزق معلوم أجده محضراً في آخر كل شهر، لا أخشى عليه ضياعاً، ولا أخاف فيه نقصاً، ولي عمل مرسوم لا أملك أن أحيد عنه أو أجتهد في تغييره، ولي وقت محدود لا أستطيع له تقديماً ولا تأخيراً، ومن حولي أشياء كثيرة يباح فيها القول فأقول فيها ليلا ونهارا، وأشياء قليلة لا يباح فيها القول فأكون ممن يحسبهم أيقاظاً وهم رقود، وبينهما أمور مشتبهات أصمت فيها صمت أهل القبور.
ما كان أكثر ما يخدع الناس بهذا الصمت فيظنونه حكمة وحسن بصر في الأمور، وما هو من هذا ولا ذاك في شيء، ولكنه..
وحب العيش أعبد كل حر
وعلّم ساغباً أكل المَرار
أم ترى ذلك راجعاً إلى هذه التربية السهلة الضعيفة العاجزة التي ينشأ عليها كثير من الأبناء في بلادنا، وقد كنت منهم، يتربون كلولا على والديهم، يأكلون ويشربون ويلبسون ويتعلمون دون أن يكسبوا لقمة خبز أو جرعة ماء، إلى أن يحصلوا على الوظيفة لاهثين يتصببون عرقاً، أو تأتيهم وهم متكئون على الأرائك منقادة إليهم تجرّر أذيالها.
أم ماذا ترى يا صديقي؟! لقد عهدتك ذا نظر ثاقب وبصر في الأمور حديد، فأرجو أن ترى لي الرأي في هذه الظاهرة العجيبة التي ألمت، وهذه الصدمة التي عميت فيها الأسباب.
ولعلك تسألني من بعد هذا وتقول: أي شيء تحسّ وقد ألقيت الطباشير من بين أصابعك، وماذا تجد بعد أن قلبت لسبورة الفصل ظهر المجن، وماذا خلفت وراءك بعد هذا السفر الطويل الجاهد؟(10/396)
حنانيك يا صديقي!! لم ألق الطباشير بعد، ولا أزال صديقاً وفيا لسبورة الفصل، أحييها كل صباح، وأودعها وعلى أطراف أصابعي وأعطاف ملابسي آثار وغبار.
لقد كنت من قبل الإحالة مدرس تقاعد، وهأنذا اليوم قد صرت مدرس تعاقد، غير أني لا أكتمك أن شعوري قد تبدّل وأن إحساسي قد اختلف، ما أبعد الفرق بين طائرين: طائر قيده في جناحيه، وطائر قيده في رجليه.
لقد وقفت طويلاً أسرح الطرف إلى الطريق التي سرت عليها خمسة وعشرين عاما أغذّ السير وأواصل السرى والكلال، لا أعرف الراحة في وضح النهار ولا في غسق الليل، ولا أجد الظل البارد ولا الماء الفرات في حمارة القيظ، ولا أملك الكنّ الدفيء ولا الحساء السخين في صبارة القرّ.
لم أستطع يا صديقي أن أرى الطريق جميعاً على الرغم من أني وقفت أطل عليها من فوق ربوة عالية بعضها كان ضبابا، وبعضها كان أودية وشعاباً، وبعضها كان يغطيه الثلج، وبعضها كان قد جرفته الأمطار والسيول، والقليل القليل الذي استطعت أن أراه كان بهيجاً يسر الناظر، ويهيج الأشواق والمشاعر، كان زهره ذا عطر، وكان شجره ذا ثمر، وما أظنني أنساه مدى الحياة، أو تغيب عن مخيلتي ذكراه.
وجدت الذين قالوا: (إن المعلم شمعة تحترق لتضيء لغيرها) كانوا صادقين يصدرون عن واقع وينطقون عن تجربة، غير أن (تحترق) هذه ليست دقيقة التعبير ولا صادقة التصوير، ولو أنهم قالوا بدلاً منها (تُحرق) بالبناء للمجهول لكانوا أصدق وأدق.
الناس الذين تحترق لهم الشمعات يمضون لطياتهم مبصرين، ويسيرون على دروبهم لا يعترون، أما الشمعات فكيف حالها، وماذا كان مآلها؟! ما أكثر ما تصبح (رماداً) يا صديقي!! يمر بها أحياناً أولئك الذين استضاءوا بنورها، فيقفون عليها كما كان شعراء الجاهلية يقفون على الدمن التي لا تتكلم، ولا يعرفونها إلا بعد لأي وتوهم، فيخاطبونها بشعر فيه رثاء وعطف، وفيه ذكريات وُد وسرور.(10/397)
لعلك فهمت من كلامي هذا أني ساخط على التدريس متبرم به، نادم على العمل في ميدانه، لا وربك يا صديقي!! فلو استقبلت من أمري ما استدبرت، وأعطيت الخيار في العمل، ما اخترت غير التدريس عملا، ولا رضيت من ميدانه بديلا، فأنا خلقت معلما بالفطرة، وإن هذه هي الوجهة التي أنا موليها، وإن هذا هو المنبر الذي أستطيع أن أقول من فوقه كلمة حق تجد لها أذنا واعية.
وإني لأشكر الله على ذلك وأحمده حمداً كثيراً، ولكن لا بُد للمصدور أن ينفث ويقول: لماذا هؤلاء المدرسون؟! ولماذا لا يضيئون من غير أن يصبحوا رماداً؟!!
عبد الرءوف اللبدي
هل تملك لسانك؟؟
قال أسود بن أصرم المحاربي: "قلت: يا رسول الله أوصيني؟ قال: هل تملك لسانك؟ قلت: ما أملك إذا لم أملك لساني؟ قال: فهل تملك يدك؟ قلت: فما أملك إذا لم أملك يدي؟ قال: فلا تقل بلسانك إلا معروفاً ولا تبسط يدك إلا إلى خير".
رواه الطبراني.(10/398)
من آثار معركة بدر
بقلم الأستاذ: أحمد محمود الأحمد
المدرس في كلية الدعوة وشعبة اللغة بالجامعة الإسلامية
لقد كانت معركة بدر معركة (فاصلة) حقا، لأنها غيرت مجرى الأحداث بعدها أيما تغيير، وتركت آثارها البعيدة بل الحاسمة في قريش وفي المدينة، وفي قبائل العرب ولاسيما المحيطة بها، وناهيك بآثارها في مستقبل العالم كله.
أولاً: آثار بدر في قريش.
لقد كانت الآثار التي تركتها بدر في قريش متعددة النواحي، ومن أبرزها ما يلي:-
أ: الناحية النفسية:
1- كانت معركة بدر ضربة موجعة مفاجئة لقريش، هزتها من الناحية النفسية هزا عنيفا وأشعرتها أن المسلمين أصبحوا قوة غالبة وأنهم مؤيدون بقوة أخرى لا يستطيعون حيالها شيئاً، وجعل بعضهم يعتذر بهذه القوة عن هزيمتهم، يقول أبو سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب، وقد سأله أبو لهب عما حصل في بدر: "والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجالاً بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض، الله ما تليق شيئاً ولا يقوم لها شيء" [1] ولا شك أن مثل هذا الكلام، وما ينطوي عليه من اعتراف بتأييد المسلمين بقوة غير عادية - وهي الملائكة - ليدلان على مبلغ اهتزاز نفسية قريش نتيجة معركة بدر العظيمة.
2- لقد أذهلت نتائج بدر رجالات قريش، حتى الذين لم يحضروا المعركة وأذلتهم يدل على ذلك أنه لما قدم الحيسمان بن عبد الله الخزاعي مكة بهذه النتائج، وجعل يعدد أشراف قريش الذين قتلوا، ذهل القوم، وشكوا في صدقه بل في عقله [2] فقال صفوان بن أمية ابن خلف: والله إن يعقل هذا فسلوه عني، فقالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال: هو ذاك جالساً في الحجر، والله لقد رأيت أباه وأخاه حين قتلا.(10/399)
وفي مقابل هذا الذهول الذي منّي به رجالات قريش جعل المسلمون المستضعفون في مكة يعزون، وجعلت معنوياتهم ترتفع بما أفاء الله سبحانه على الدعوة وأهلها من النصر والتأييد، حتى سمت بهم مشاعرهم إلى الوقوف في وجه جبابرة قريش، ومواثبتهم، وما كانوا ليجرأوا على هذا من قبل بدر، ومما يدل على ما ذكرناه من ذلة رجالات قريش وعزة المؤمنين المستضعفين بسبب معركة بدر، ما يرويه أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه كان غلاماً للعباس بن عبد المطلب، وأنه كان رجلاً ضعيفاً ينحت الأقداح في حجرة زمزم، ولما أخبر أبو سفيان الحارث أبا لهب أنهم لقوا في المعركة رجالاً بيضاً على خيل بلق كما أوردنا في الفقرة السابقة قال أبو رافع: تلك والله الملائكة، فصفعه أبو لهب صفعة شديدة، فما كان من أبي رافع إلا أن هجم على أبي لهب وثاوره، وانتهى الأمر بأن نهضت أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب لتدافع عن أبي رافع، فأخذت عموداً من عمد الحجرة، وشجت به رأس أبي لهب شجة منكرة، فقام موليا، ولم يعش بعدها إلا سبع ليال، فرماه الله بالعدسة، ومات ذليلاً مغموراً [3] .
ولولا ما ألحقت غزوة بدر من ذل وهوان برجالات قريش، لما كان من الممكن أن يجرؤ أبو رافع رضي الله عنه على أبي لهب وهو سيد من سادات الوادي.(10/400)
3- إن نتائج غزوة بدر أحزنت قريشاً، وعذبتهم عذاباً معنوياً أليما، وذلك أنه لما تحقق أهل مكة من نتائج بدر ناحوا على قتلاهم، وقطعت النساء شعورهن، وعقرت خيول كثيرة ورواحل [4] وكان يؤتى براحلة الرجل منهم أو بفرسه فيجتمع الناس حولها ويأخذون في البكاء [5] ثم تناهوا عن البكاء كيلا يسمع ببكائهم المسلمون فيشمتوا بهم، كما تناهوا عن السعي في فداء أسراهم كيلا يأرب المسلمون في فدائهم هم … فكان إمساكهم عن البكاء، وبقاء أسراهم في أيدي المسلمين مما زاد في عذابهم المعنوي حتى كادت أكبادهم تنصدع، لأن البكاء على الميت مما يبل فؤاد الحزين، وكذلك عودة الأسرى مما يخفف المصاب.
والخلاصة أن غزوة بدر قد هزت قريشاً هزة نفسية عنيفة، وأذهلتها أيما ذهول، وآلمتها إيلاماً معنويا بليغاً، وفي مقابل ذلك جعلت المسلمين يحيون في آفاق نفوسهم بالعزة وارتفاع المعنويات، وزيادة الثقة بالنصر الذي هو آت.
ب: الناحية الاقتصادية:
من المعلوم أن حياة قريش تقوم - في معظمها - على التجارة، ولتجارتها رحلتان أساسيتان، رحلة الصيف إلى الشام، ورحلة الشتاء إلى اليمن، وإن كلتا الرحلتين تكمل الأخرى، فليس لأحدها - وحدها - كبير جدوى على قريش لأن البضاعة التي يؤتى بها من الشام تحمل إلى اليمن، والعكس بالعكس…(10/401)
وجاءت غزوة بدر، وما سبقها من معاهدات عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم مع القبائل التي تمر تجارة قريش في أراضيها، لتسد الطريق في وجه هذه التجارة مما أوقع قريشاً في حرج شديد، وجعلها على عتبة أزمة اقتصادية خانقة، يدل على ذلك تصريح صفوان بن أمية أحد رجالات قريش وأغنيائها، إذ وقف يوماً يحدد معالم الأزمة الاقتصادية التي أمست قريش على عتبتها ويقول: "إن محمداً وأصحابه قد عوروا علينا متجرنا، فما ندري كيف نصنع بأصحابه؟! لا يبرحون الساحل، وأهل الساحل قد وادعهم، ودخل عامتهم معه، فما ندري أين نسلك؟! وإن أقمنا نأكل رؤوس أموالنا، ونحن في دارنا هذه مالنا فيها بقاء، وإنما نزلناها على التجارة إلى الشام في الصيف وإلى الحبشة في الشتاء" [6] .
وهنا يتقدم رفعة بن الأسود [7] ليدل صفوان بن أمية على رجل يسلك به طريق العراق إلى الشام على أن هذا الطريق أطول من الطريق الأول، وأشق مسلكا، ولكن لا بد منه، لأن الأول قد سيطر عليه الصحابة، وأضحى سلوكه غير مأمون على تجارة قريش…
وكان هذا الرجل فرات بن حيان من بني بكر بن وائل، فاستأجرته قريش، وجهزته عيراً عظيمة، خرج معها - فيمن خرج - أبو سفيان بن حرب… وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بخروج هذه العير، فبعث زيد بن حارثة في مائة راكب ليعترضها [8]
فأدركها على ماء في نجد يدعى (القردة) قريب من الربذة، ففر الرجال الذين كانوا يحرسون العير واستاقها زيد رضي الله عنه وأسر دليلها فرات بن حيان، وكان أسره من حسن حظه، لأنه أسلم وحسن إسلامه.
ثم خمس الرسول صلى الله عليه وسلم هذه العير، فبلغ خمسها خمسة وعشرين ألفاً.
وكانت غزوة القردة هذه بعد بدر بستة أشهر [9] .
وهكذا نجح المسلمون في ضرب حصار اقتصادي على قريش، مما سيكون له أثره في إضعافها كقوة كبيرة تقف بعناد وإصرار على رأس قوى الشرك العربية المناوئة للدعوة.
جـ: الناحية القيادية:(10/402)
لقد أودت معركة بدر بعدد من كبار قادة قريش، وذوي الرأي فيها، كعتبة وشيبة ابني ربيعة، وأمية بن خلف، وأبي جهل بن هشام، وأبي البختري العاص بن هشام، ومما يدل على القيمة القيادية لهؤلاء القتلى في مجتمع قريش أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لسلمة بن سلامة: أي ابن أخي، أولئك الملأ (الأشراف والرؤساء) ، وذلك حين قال سلمة للمسلمين الذين لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالروحاء يهنئونه بما فتح الله عليه: ما الذي تهنئوننا به؟ إن لقينا إلا عجائز صلعا، كالبدن المعلقة فنحرناها [10] .. وكذلك يدل على قيمتهم القيادية أيضاً قول الأسود بن المطلب يبكي قتلى بدر [11] :
ولولا يوم بدر لم يسودوا
ألا قد ساد بعدهم رجال
ولا شك أن مصاب قريش بملئها هؤلاء قد كان رزءاً عظيماً عليها، وقد أسهم في زج مجتمعها وأضعافه في حلبة الصراع وبين دعوة الحق.
د: الناحية العسكرية:
إن هزيمة قريش في بدر طامنت من كبريائها العسكرية، وخفضت من ثقتها بنفسها إزاء المسلمين، خصوصاً، وأن هذه الهزيمة قد نكبتها - كما ذكرنا آنفاً - بعدد كبير من ملئها، وقادتها وسادتها، وكلهم ذو مكانة في حياتها العسكرية.
وما زلت حالتها العسكرية بعد هذه النكبة بين مد وجزر ضمن اتجاه عام آخذ في الانحدار حتى بلغ حضيضه يوم جلا المشركون عن الخندق ـ وعادوا إلى بلادهم يوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم" [12] .(10/403)
وقد يعترض على هذا الرأي بغزوة أحد، وأقول في الجواب عن هذا الاعتراض: إن غزوة أحد ليست في حقيقتها - سوى مد أعقبه جزر ضمن الاتجاه العام المنحد المذكور، وهي بالنسبة إلى قريش إخفاق عسكري محقق [13] أو هي على أحسن تقدير نصر جزئي أطاحت به هزيمتان: أحدهما في بداية المعركة، والأخرى عقب حمراء الأسد، حين بلغهم مخرج النبي صلى الله عليه وسلم، ففت ذلك في أعضادهم وكسرهم، وتمادوا في الانسحاب إلى مكة، وقد كانوا أرادوا الرجوع إلى المدينة لاستئصال شأفة الإسلام والمسلمين [14] ، وسيأتي تفصيل ذلك في حينه إن شاء الله.
محاولة:
لم تستسلم قريش لما حل بها نتيجة وقعة بدر، وليس من المتوقع أن تستسلم وهي راس القبائل العربية، وإمامتها في مناوءة (دعوة الحق) ، ولا بُد لها من أن تحاول أعمالا تشفي بهذه الأعمال غيظها وتسترد بها شيئاً من قيمتها التي تزلزلت في نظر القبائل العربية.
ومن ثم نذر أبو سفيان - ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو النبي صلى الله عليه وسلم وينتقم لما أصابه في بدر، ويسترد اعتباره في دنيا القبائل العربية. وقد استطاع أن يجهز جيشاً قوامه مائتا فارس، وتوجه به نحو المدينة، ونزل إلى جبل يقال له (نيب) يبعد عنها نحواً من بريد 22,176كم [15] ثم خرج من الليل واتصل بسلاّم بن مشْكل سيد من سادات بني النضير، وتدارسا الموقف العام إزاء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتذاكرا فيما يجب عمله للقضاء على دعوة الحق، وفي آخر الليل رجع إلى جيشه، وبعث رجالاً إلى المدينة، فأتوا ناحية تسمى (العريض) فحرقوا نخلاً، وأصابوا رجلاً من الأنصار في حرث له هو وحليفه فقتلوهما، … وبعد ذلك انصرف أبو سفيان بمن معه راجعاً إلى مكة.(10/404)
علم الرسول صلى الله عليه وسلم بهؤلاء، فخرج في أثرهم، ولكنهم امعنوا في الغوار، حتى أنهم اضطروا إلى إلقاء أزوادهم تخففاً، والتماساً للنجاة… وطاردهم المسلمون إلى قرقرة الكدر فلم يظفروا هم، لمبالغتهم في الهرب، وكان أكثر ما اطرحوه من أزوادهم السويق، وقد أصاب المسلمون منه شيئاً كثيراً وسميت هذه الغزوة (غزوة السويق) لكثرة ما طرح الكفار منه وهم فارون أمام جيش النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد كانت هذه الغزوة لخمس خلون من ذي الحجة، أي بعد بدر بشهرين وأيام.
وأنت ترى أن أبا سفيان أخفق في تحقيق هدفه، فهو لم يستطع أن يقوم بأي عمل يعتبر شيئاً إزاء ما أصاب قومه في بدر، وجل ما هناك أن جيشه في غزاته هذه أغار إغارة اللصوص وفر فرار الجبناء فلم يشف غيظا، ولم يستعد اعتبارا، ولم يغسل عاراً، بل لعله قد جدده بغواره وأكده.
غزوة أحد:
إن غزوة السويق - كما عرفنا - لم تجد على قريش شيئاً، وأنى لها أن تجدي؟!
لذلك بقيت قريش تجتر أحقادها على المسلمين، وتتذكر كما أصابها في بدر، وقد أذكت هذه الأحقاد، والهبت هذه الذكريات أمور منها إخفاقها في غزوة السويق،
واستياق زيد بن حارثة عيرهم في غزوة القردة، وقد سلفت الإشارة إليها، زد على ذلك تحريض كعب بن الأشرف المرابي اليهودي لهم وبكاؤه قتلاهم [16] ، وقد اجتمع في أنفسهم من هذه الأسباب ما حفزهم إلى غزو المدينة، فاستفرغوا وسعهم في حشد جيش قوامه ثلاثة آلاف، منهم ومن أحابيشهم، ومن أطاعهم من قبائل كنانة، وأهل تهامة [17] ثم قصدوا المدينة وكانت بينهم وبين المسلمين معركة أحد المشهورة، غير أن عاقبتها كانت بالنسبة لقريش - كما قلنا آنفاً - إخفاقاً عسكريا، أو كانت على أحسن تقدير نصراً جزئياً بين هزيمتين وسيأتي الكلام مستوفى - إن شاء الله - في هذه الغزوة في حينه.(10/405)
وهكذا نرى أن آثار معركة بدر بقيت عالقة بكيان قريش دون أن تستطيع إزالتها، بالرغم من محاولتها الجادة وهيهات أن يستطيع الإنسان دفع شيء أنزله الله به ومن يهن الله فما له من مكرم.
ثانياً: آثار بدر في المدينة.
كان سكان المدينة المنورة لما جرت معركة بدر أربع طوائف هي: المسلمون، والمشركون والمنافقون، واليهود، واختلف وقع نتائج هذه المعركة الحاسمة باختلاف هذه الطوائف.
أ - المسلمون:
لقد فرح المسلمون بنتائج هذه المعركة فرحاً عظيماً، وازدادوا إيماناً بما هم عليه من الحق والهدى ويقيناً بأن الله سبحانه ناصر من يجاهد فيه مهما كثر العدد، وتكالبت الظروف، وارتفعت معنوياتهم ارتفاعاً ترك أثره في الأسلوب الذي يعالجون به علاقاتهم بالطوائف الأخرى التي تساكنهم المدينة، لقد كانوا قبل بدر يصبرون على ما يلاقون من أذى هذه الطوائف وتعرضها لهم ولدعوتهم بما لا ينبغي [18] أما بعدها فقد آن الأوان لإعمال مشرط الطبيب في إزالة العلل المستعصية، وبتر الأعضاء المريضة التي لا سبيل إلىشفائها من جسم ذلك المجتمع… ومن هنا رأيناهم يقومون بعدة عمليات بتر، منها ما يلي:
1ـ بتر أبي عفك:
كان أبو عفك شيخاً من بني عمرو بن عوف، بلغ عشرين ومائة سنة، وكان يحرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول الشعر في إيذاء المسلمين، والصد عن سبيل الله… وقد صبر عليه المسلمون غير أنه لم يرعو، ولم ينجح فيه سياسة الصبر والرفق، وحين لم يبق في القوس منزع، وأضحى لا بُد من بتره نذر سالم بن عمير، وهو أحد البكائين، ليقتلنه أو ليموتن دونه…(10/406)
وجعل سالم رحمه الله يطلب غرة أبي عفك، حتى كانت ليلة من ليالي الصيف الحارة، ونام أبو عفك بفناء داره، فأقبل سالم البطل فوضع السيف على كبده، ثم اعتمد عليه حتى نفذ إلى الفراش، وخش فيه وصاح عدو الله والإسلام، فثاب إليه ناس ممن هم على مثل رأيه، فأدخلوه منزله وقبروه، وهكذا بتر هذه العضو المزمنة علته لم يكن بد من بتره، وكان ذك في شوال على رأس عشرين شهراً من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم [19] .
وعاش سلم بن عمير رضي الله عنه حتى في خلافة معاوية بن أبي سفيان رحمه الله، بعد أن شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها، فجزاه الله عن الإسلام وأهله خيراً [20] .
2- بتر عصماء بنت مروان:
كانت عصماء هذه يهودية [21] ، وكانت تعيب الإسلام وتؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول الشعر وتحرض عليه، وقد نافقت بعد مقتل أبي عفك، ولما استمرت في إيذائها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعيبها الإسلام جاءها عمير بن عدي في جوف الليل، ودخل عليها بيتها وكان حولها نفر من ولدها يتام، وإلى جانبها رضيع، فجسها بيده - وكان أعمى - فلما تحقق منها نحى الرضيع، ووضع سيفه على صدرها، واعتمد عليه حتى أنفذه من ظهرها.
ثم صلى الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، فقال صلى الله عليه وسلم له: "أقتلت ابنة مروان؟ قال: نعم، فهل علي في ذلك شيء؟ فقال: لا ينتطح فيها عنزان" [22] وأثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بعد قتله عصماء، فأقبل على الناس وقال: " من أحب أن ينظر إلى رجل كان في نصرة الله ورسوله فلينظر إلى عمير بن عدي"، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "انظروا إلى هذا الأعمى الذي يرى" فقال صلى الله عليه وسلم: "مه يا عمر فإنه بصير، وسماه البصير لما رأى من كمال إيمانه وقوة قلبه في الله [23] ".(10/407)
ولما رجع عمير إلى قومه بعد قتل عصماء وجد بنيها وهم خمسة رجال في جماعة يدفنونها، فقال: أنا قتلتها، فكيدوني ثم لا تنظرون، فوالذي نفسي بيده، لو قلتم بأجمعكم ما قلت لضربتكم بسيفي هذا حتى أموت أو أقتلكم [24] .
وبعد إزالة هذه العقبة من طريق الدعوة وبتر هذا العضو الفاسد من المجتمع المدني، ظهر الإسلام في بني خطمة، واستعلن بإسلامه من كان يستخفي من مستضعفيهم، وأسلم يومئذ رجال لما رأوا عز الإسلام [25] …
وقد كانت هذه الخطوات التي خطاها المسلمون أمراً لا بد منه في وقته وبحسب الظروف التي كانت تواجه الدعوة.
ب - المشركون والمنافقون:
لقد أستاء مشركو المدينة ومنافقوها لما سمعوا زيد بن حارثة - وهو على القصواء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم - يبشر بالفتح، ويعدد أسماء قتلى قريش، وبعض أسراها، وجعلوا يقولون ما جاء زيد بن حارثة إلا فلاً، وقال رجل من المنافقين لأسامة بن زيد: قتل صاحبكم ومن معه، وقال آخر لأبي لبابة: قد تفرق أصحابكم تفرقاً لا يجتمعون فيه أبداً… قتل محمد وهذه ناقته نعرفها، وهذا زيد لا يدري ما يقول من الرعب، وجاء فلا.
غير أن الموقف قد انجلى، إذ لم يمض طويل وقت حتى سبق الأسرى إلى المدينة وعليهم شقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم [26] ولما صدم المشركون بالحقيقة الواقعة التي لا تدفع، استكانوا، وصانعوا المسلمين، ونافق كثير منهم، فأظهروا الإسلام، وهؤلاء كانوا فريقين فريقاً بقوا على شركهم القديم، وفريقاً انحل بالكلية، فلم يبق على شركه، ولم يعتنق الإسلام إلا ظاهراً، بل مضى في طريق الذبذبة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، كما وصفهم الله تعالى بقوله: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} [27] (سورة النساء - 143)(10/408)
هذا هو الموقف الإجمالي للمشركين والمنافقين في المدينة بعد غزوة بدر فالمشركون - كما قلنا آنفاً - منهم من بقي على شركه، ومنهم من نافق، وهؤلاء كانوا طائفتين: طائفة انحلت تماماً، وأضحت مذبذبة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وطائفة أقامت على شركها في الباطن وإن تظاهرت بالإسلام.
أما المنافقون سواء من نافق قبل بدر أو بعدها فقد غاظهم انتصار المسلمين، وضاقوا به أيما ضيق، واستمروا - على ما كانوا عليه - يتآمرون على الدعوة في الخفاء، ويتعاونون مع إخوانهم، بل شياطينهم اليهود، ولم يكتفوا بذلك بل انحدروا إلى مستوى العمالة لقريش، والروم، ونصارى العرب…
على أن من المشركين من أدركتهم عناية الله، فثابوا إلى رشدهم، ودانوا بالإسلام، كحويصة ابن مسعود أخي محيصة الذي قتل ابن سبينة [28] التاجر اليهودي، وبتره من جسم المجتمع المدني حين أهدر الرسول عليه الصلاة والسلام دماء يهود [29] عقب اغتيال عدو الله، كعب بن الأشرف كما سنرى، وقد كان إهدار دمائهم ضرباً من الإجراءات الرادعة ساق إيه تآمرهم المستمر الخطر على كيان الدعوة ودولتها.
جـ - اليهود:
لقد كان وقع نتائج غزوة بدر شديداً على نفوس اليهود المقيمين في المدينة شدة الصواعق، واستغربوها وريعوا لها ولما انتهت هذه النتائج إلى كعب بن الأشرف قال: أحق هذا؟ أترون أن محمداً قتل هؤلاء الذين يسمي هذان الرجلان، يعني زيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة [30] فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم، لبطن الأرض خير من ظهرها [31] .(10/409)
ولما تحقق اليهود صحة ما سمعوا من أنباء معركة بدر خضعوا واستكانوا، وأظهر فريق منهم الإسلام رياء ونفاقاً [32] وأخلدوا في جملتهم إلى مثل الهدوء الذي يسبق العاصفة، وفي النفوس ما فيها من الحقد والحسد يغليان غليان القدور… غير أن هذا الهدوء لم يدم، وما كان من المنتظر أن يدوم بل انكشف عن مؤامرات وتحركات وألوان من الاستعداد لضرب الدعوة ضربات قاضية.
فهذا عدو الله كعب بن الأشرف لما تحقق من صحة ما أذاعه زيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة لم يطق صبراً، بل شد الرحال إلى مكة، وجعل يحرض على الرسول صلى الله عليه وسلم، وينشد الأشعار ويبكي أصحاب القليب الذين أصيبوا ببدر [33] ، ولما رجع إلى المدينة من رحلته الآثمة هذه جعل يمعن في الإساءة للمسلمين، والتطاول على كرامتهم وأعراضهم، فشبب بنسائهم وآذاهم إيذاء لا يحتمل، وعندئذ لم يكن بد من وضع حد نهائي لنشاطه الهدام المعادي، بل لم يكن بد لمصلحة الدعوة التي هي في الحقيقة مصلحة الإنسانية قاطبة من بتره، وإزالته من عالم الوجود، وهذا ما حصل فعلا في ربيع الأول على رأس خمسة وعشرين شهراً من هجرته صلى الله عليه وسلم [34] وبعد قتل هذا الأثيم الذي أكثر من الصد عن سبيل الله ومن الوقوف في وجه الدعوة، أهدر عليه الصلاة والسلام دماء اليهود جميعا، وأذن في قتل من ظفر به منهم جزاء وفاقاً لكيدهم للإسلام ونقضهم الميثاق الذي عقده الرسول صلى الله عليه وسلم بين أهل المدينة قاطبة بعيد الهجرة وتآمرهم على الدعوة وأهلها [35] وعلى أثر إهدار دمائهم قتل محيصة ابن سبينة كما قلنا سابقاً.
إن كل ما ذكرناه آنفاً من بتر أبِي عفك، وعصماء بنت مروان، وكعب بن الأشرف، وإهدار دم من ظفر من اليهود، إنما كان تأديباً لهم على مستوى الأفراد، وكان هناك نوع آخر من التأديب، وهو التأديب على مستوى القبائل وذلك ما تحكيه لنا غزوة بني قينقاع…(10/410)
كان بنو قينقاع أشجع يهود المدينة، وأشدهم بأساً، وكانوا صاغة وتجاراً [36] يقيمون داخل المدينة على مقربة من وادي بطحان.
ولما كانت غزوة بدر، أظهروا البغضاء والحسد، والتحدي للمسلمين، والجرأة على الله ورسوله والشقاق لهما يدل على ذلك أنهم لما جمعهم الرسول صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر في سوقهم وقال لهم: "يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم، وعهد الله إليكم"، قالوا له: "يا محمد إنك ترى أنا قومك! لا يغرنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس". فأنزل الله تعالى فيهم قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ، قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الأَبْصَارِ} [37] .
وإلى هنا نرى أن اليهود قد جاءوا بكثير من الأعمال التي من شانها أن تجعل تأديبهم أمراً ضروريا لا مناص منه، وتهيئ الجو للإيقاع بهم، وفي هذه الظروف المؤذنة بالانفجار جاءت حادثة المرأة المسلمة التي أساء إليها الصائغ اليهودي، وشرذمة من قومه، فكانت هذه الحادثة بمنزلة عود الثقاب الذي فجر الموقف…(10/411)
وبعد هذه الحادثة أنزل الله تعالى قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [38] فقصدهم النبي عليه الصلاة والسلام وحاصرهم خمسة عشر يوماً حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكمه صلى الله عليه وسلم فشفع فيهم عبد الله بن أبي بن سلول، وبإلحاح كبير شفعه فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقن دماءهم [39] وكان حكمه النهائي فيهم أن يجلوا عن المدينة ولهم النساء والذرية ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الأموال والسلام ولحقوا بأذرعات من أرض الشام، فما لبثوا فيها إلا يسيراً ثم هلكوا [40] .
وكانت هذه الغزوة في النصف من شوال سنة اثنتين من الهجرة.
هذه لمحة خاطفة عن آثار غزوة بدر في اليهود في المدينة، وقد كانت جزاء وفاقاً لخيانتهم العهود، وتآمرهم على الدعوة، ومحاولتهم - أبداً - الوقوف في سبيلها، ومشاقتهم الله ورسوله… على أن كل ما قد رأينا لم ينههم عن غيهم… وسيبقون على ما هم عليه من الطباع والأعمال حتى تحيق بهم سيئاتهم، ويجنوا على أنفسهم، فيخرج بنو النضير من المدينة بعد وقعة أحد، ويقضي على بني قريظة القضاء العادل الرادع بعد وقعة الأحزاب، بل حتى تنتهي وجودهم في الحجاز كله، وهذه قصة يهود عبر تاريخهم كله مع شعوب العالم كافة، استغلال هذه الشعوب، وتآمرهم عليها وجحودهم لمعروفها… وأخيراً تتنبه هذه الشعوب لخطرهم، فتنتفض في وجوههم، وتأخذهم بما جنت أيديهم…
ثالثاً: آثار بدر في القبائل العربية:
كانت القبائل العربية قبل بدر لا تعير المسلمين الاهتمام الذي يستحقونه، لقد كانت تنظر إليهم - بوجه عام - كأناس مستضعفين يهاجرون من بلادهم، ويلتمسون لهم ملجأ في يثرب، أما بعد بدر، وبعد أن أوقعوا بقريش، فقد أدركت أنهم صاروا قوة خطيرة، يجب ألا يتغاضى عنها، بل يجب أن يقضى عليها.(10/412)
وقد أذكى هذا الشعور لدى هذه القبائل ما اعتادته من احترام قريش، أهل الحرم، وسدنة البيت وصريح ولد إسماعيل عليه السلام، وكونها تجتمع وإياهم على نهج ديني واحد…
وهناك عامل آخر شارك في إذكاء هذا الشعور، وهو ما كانت تجنيه هذه القبائل أو بعضها من فوائد مادية من جراء مرور قوافل قريش التجارية في أراضيها، وهذه الفوائد كانت تأتي عن طريق نظام (الإيلاف) [41] وعن طريق اشتغال رجال منها لحساب قريش، حتى إن منهم من كانوا عيوناً وجواسيس لها، كمجدي بن عمرو الجهني الذي كان عيناً لأبي سفيان [42] وعن طرق أخرى أيضاً.
وبانتصار المسلمين في بدر أضحت هذه القبائل - فيما تراءى لها - مهددة بأخطار جسيمة اقتصادية، ودينية، وسياسية، ومن ثم جعلت تتحفز للقضاء على الدعوة وازدهارها، مما جر على المسلمين حرجاً غير قليل، غير أنهم ارتفعوا إلى مستوى الظروف المواجهة، وقاموا بعدد من الغزوات التلاحقية، يفاجئون بها القبائل قبل أن تتحرك نحوهم، حتى ردوها إلى الصواب كارهة أو طائعة…
ومن هذه الغزوات ما يلي:
(1) غزوة بني سليم.
وكانت هذه الغزوة بعد قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم من بدر بسبع ليال، وقد أراد بها النبي صلى الله عليه وسلم بني سليم، وسار حتى نزل ماء من مياههم يقال له الكدر، فأقام عليه ثلاث ليال، ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق كيدا [43] ولما غادر الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة استعمل عليها سباع بن عرفطة الغفاري أو عبد الله بن أم مكتوم.
(2) غزوة ذي أمر.(10/413)
وقد كانت هذه الغزوة بعد عودته صلى الله عليه وسلم من غزوة السويق والتي جرت - كما علمنا سابقاً - لخمس خلون من ذي الحجة سنة اثنتين للهجرة.. وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بقية ذي الحجة أو قريباً منها، ثم غزا نجداً يريد غطفان، فأقام في نجد صفر كله أو قريباً منه ثم عاد إلى المدينة دون أن يلقى حرباً، واستعمل على المدينة مدة غيابه عنها عثمان بن عفان رضي الله عنه [44] .
(3) غزوة بحران.
يذهب ابن هشام إلى أن هذه الغزوة أريدت بها قريش، ويذهب ابن سعد إلى أن بني سليم هم الذين كانوا هدفها، فقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعاً كبيراً منهم قد اجتمع في بحران من ناحية الفرع، فقصدهم في ثلاثمائة من أصحابه، ولما خرج من المدينة لم يبين الوجهة التي يريد، حتى إذا كان دون بحران بليلة لقي رجلا من بني سليم فأخبرهم أن القوم افترقوا، ولكن يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصدقه، ولذا حبسه مع رجل من الصحابة، وسار حتى أتى بحران فألفاهم قد تفرقوا، فعاد ولم يلق كيداً.
ولما خرج صلى الله عليه وسلم استعمل على المدينة عبد الله ابن أم مكتوم، وكان خروجه من المدينة عند ابن هشام في شهر ربيع الآخر، أو في شهر ربيع الأول وأقام فيها شهر ربيع الآخر وجمادى الأولى [45] أما ابن سعد فيذهب إلى أنه خرج من المدينة لست خلون من جمادى الأولى، وإلى أنه غاب في هذه الغزوة عشر ليال [46] وهكذا نرى أن ابن سعد، وابن سعد هشام يختلفان فيمن قصدوا بهذه الغزوة، وفي زمن خروجه صلى الله عليه وسلم إليها، وفي مقدار غيبته وليس هذا بضائر مادام جوهر الغزوة متفقاً عليه، وهو مباغتة الحادقين والأعداء المتربصين قبل أن يتمكنوا من القيام بأي عمل عدائي ضد الدعوة وأهلها.(10/414)
وهكذا نلاحظ أن المسلمين قد كانوا بالمرصاد لجميع القبائل التي همت بإيذائهم أو الوقوف في وجه الدعوة، فباغتوها، وحالوا بينها وبين ما تريد من الشر، وبرهنوا على أنهم - أبداً - في مستوى الظروف مهما اختلفت، ومهما تكالب عليهم الأعداء.
صدى بدر:
لقد تجاوز صدى بدر مداها الكافي، كما تجاوز مداها الزمني، لقد بلغ صداها أرض الحبشة، وغيرها من الدول المجاورة، وتغلغل فيما تلاها من القرون..
أخرج ابن كثير في البداية والنهاية [47] نقلا عن الحفاظ البيهقي أن النجاشي أرسل ذات يوم إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه، فدخلوا عليه وهو في بيت عليه خلقان - ثياب - جالس على التراب، فأشفقوا منه حين رأوه على تلك الحال، فلما أن رأى ما في وجوههم قال لهم: إني أبشركم بما يسركم، أنه جاءني من نحو أرضكم عين لي فأخبرني أن الله قد نصر نبيه صلى الله عليه وسلم وأهلك عدوه. وأسر فلان وفلان، وقتل فلان وفلان، التقوا بواد يقال له بدر، كثير الأراك، كأني أنظر إليه، كنت أرعى لسيدي رجل من بني ضمره إبله، فقال له جعفر: ما بالك جالس (كذا) على التراب ليس تحتك بساط، وعليك هذه أخلاق قال إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى أن حقا على عباد الله أن يحدثوا لله تواضعا عندما يحدث لهم من نعمه، فلما أحدث الله لي نصر نبيه صلى الله عليه وسلم، أحدنت له هذا التواضع.
ولا شك أن الدول المجاورة الأخرى كالروم وفارس كان لها - أيضاً - عيون في بلاد العرب، ومنها الحجاز، تنقل إليها أخبارها، وليس ذلك بالمستغرب نظراً لما كان لهذه الدول من مصالح في جزيرة العرب…(10/415)
يدل على ذلك أن ملك غسان سرعان ما علم بمقاطعة المسلمين لكعب بن مالك من جراء تخلفه عن غزوة تبوك، فأرسل رسالة مع نبطي من أهل الشام قدم بتجارة إلى المدينة، وفي هذه الرسالة قال له: "أما بعد: فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان، ولا مضيعة فالحق بنا نواسيك (كذا) ، ولكنه رضي الله عنه، ألقى هذه الرسالة في تنور فأحرقها دون أن يعيرها اهتماما [48] .
ومما يلهم وجود عيون الروم وصنائعهم الغساسنة قول كعب نفسه في بدر [49] :
وأخبر شيء بالأمور عليهما
ألا هل أتى غسان في نأي دارها
معد معا جهالها وحليمها
بأن قد رمتنا عن قسيء عداوة
لمنخر سوء من لؤي عظيمها
ضربناهم حتى هوى في مكرنا
سواء علينا حلفهما وصميمها
فولوا ودسناهم ببيض صوارم
فهذه الأبيات تشعر أن الأصحاب رضي الله عنهم كانوا يتوقعون أن تصل أنباء بدر إلى ما وراء حدود الجزيرة، إلى الدول المجاورة ذات المصالح في أرض العرب، ولا شك أن الشعور الذي يستقبل به الناس فيما وراء الحدود هذه الأنباء يختلف عن شعور النجاشي، لأن هذا موال وأولئك كفرة مناوئون … وعلى كل فإن أصداء بدر وآثارها ستبلغ في المستقبل داني البلاد وقاصيها.
أسباب النصر:
ترجع أسباب انتصار المسلمين في هذه المعركة التاريخية الفاصلة من حيث الجوهر إلى السنن التي تشير إليها الآيات الكريمة:
{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (سورة الحج -40) .
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (سورة محمد -4)(10/416)
{إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (سورة آل عمران -160) .
{وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (سورة الروم - 47) .
وأما من حيث التفصيل فيرجع هذا النصر إلى أمور منها:
1 - شوق المسلمين إلى الشهادة في سبيل الله، وطلبهم الجنة ببذل الطارف والتليد في مرضاة الله البارئ عز وجل مما يورث روحا معنوية لا تبارى، وليس بخاف أثر الروح المعنوية في تحقيق النصر.
2 - شدة انضباط المسلمين، وتنفيذهم تعليمات قائدهم صلى الله عليه وسلم بكل رغبة وإخلاص.
3 - صدق القيادة، وحكمتها، وكونها قيادة من خلال مشاركة الجنود في تحمل مختلف ألوان الأعباء، فلقد شاركت هذه القيادة النبوية جنودها في السير إلى الأعداء، وفي عمليات الاستطلاع وفي خوض المعركة ولقاء العدو لقاءاً مباشراً والقتال في أوجه، روي عن علي رضي الله عنه [50] "كنا إذا حمى البأس.. اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأسا".
4 - شدة اجتذاب القيادة بكفاياتها العظيمة لقلوب الجنود حتى قال قائلهم للرسول صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله، أمض لما أراك الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فوالذي بعثك بالحق لو سرت إلى برك الغماد لجالدنا معك دونه حتى تبلغه" [51] .(10/417)
5 - لقد طلع النبي صلى الله عليه وسلم على الأعداء بأسلوب جديد في القتال. وهو أسلوب الصف، فكان له أثره في تحقيق النصر، والتاريخ الحربي يشهد بأن تطبيق القادة العظام أساليب جديدة غير معروفة في القتال كان له أثره في الانتصارات التي أحرزوها.
وهكذا نرى أن أسباب الانتصار العظيم الذي حققه المسلمون في بدر كانت تكمن في اتباع سنن الله التي علمنا إياها القرآن العظيم، وسننه هذه تقضي بأن النصر هو لمن اتقاه، وتوكل عليه، وتفوق في اتخاذ الأسباب الموضوعية الممكنة، ولا غرو فالله تعالى كما ورد في السنة يحب من أحدنا إذا عمل عملا أن يتقنه.
والخلاصة أن معركة بدر كانت تاريخية فاصلة حقاً، لا في تاريخ الإسلام وحده بل في تاريخ العالم الذي تأثر جد التأثر بظهور الإسلام وانتصاره، وما انبثق منه من حضارة باذخة أثرت، وما تزال تؤثر في حياة الإنسان…
إن هذه المعركة كانت كبيرة الآثار في قريش، وفي جماعة المسلمين، وفي الطوائف التي كانت في المدينة وفي قبائل الجزيرة العربية، وقد تمكنت الدعوة أيما تمكين، ولكنها في الوقت نفسه أثارت في وجهها صعابا جسيمة، وأورثتها مسؤوليات كبيرة، غير أن الدعوة نهضت بواجبها خير نهوض في وجه هذه الصعاب والمسؤوليات ... وخرجت من حومة الصراع ظافرة غالية …
وقد علمتنا هذه المعركة أن الله سبحانه يؤتي المسلمين نصره، حين يحققون الإسلام في أنفسهم عقيدة وسلوكا، دون أن يتشاغلوا عنه بما ليس منه، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز.
والحمد لله رب العالمين
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ابن هشام، جـ1، ص 339.
[2] ابن هشام المرجع السابق، ص 338، وابن كثير البداية والنهاية، جـ3، ص 308، والواقدي مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ص 89، القاهرة 1367 ـ 1948 م.(10/418)
[3] ابن هشام، المرجع السابق، ص 340، ابن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك جـ2 ص 160، وابن كثير المرجع السابق ص 310.
[4] ابن كثير المرجع السابق، ص 308، 309.
[5] الواقدي، المرجع السابق ص 91.
[6] الواقدي المرجع السابق ص 155.
[7] الطبري، تاريخ الأمم والملوك، جـ1، ص 182.
[8] ابن سيد الناس عيون الأثر جـ1، ص 305.
[9] ابن كثير المرجع السابق، جـ4، ص 4.
[10] ابن هشام المرجع السابق، ص 334.
[11] ابن هشام، المرجع السابق، ص 341.
[12] متن البخاري بحاشية السندي، جـ3، ص 33، ط عيسى البناني الحلبي.
[13] اللواء، محمود شيت خطاب ـ مجلة التمدن الإسلامي العدد 6، المجلد 41، ص: 522، 94 / 74 م.
[14] ابن عبد البر، الدرر في اختصار المغازي والسير، ص 67.
[15] ابن عبد البر، الدرر في اختصار المغازي والسير، ص 148 وحاشية المحقق في الصفحة ذاتها.
[16] ابن هشام، جـ2، ص 502، وابن عبد البر المرجع السابق ص 150 وابن كثير المرجع السابق ص 6 وابن سيد الناس المرجع السابق جـ1 ص 298.
[17] ابن هشام، جـ3، ص 4، وابن عبد البر، المرجع السابق ص 153، وابن كثير المرجع السابق جـ4، ص 10.
[18] كان هذا الأذى يختلف عن أذى كفار قريش في مكة نوعاً وكما.
[19] الزرقاني على المواهب، جـ1 ص 456.
[20] ابن سيد الناس، المصدر السابق جـ1 ص 300.
[21] الزرقاني على المواهب ج1، ص 453.
[22] ابن سيد الناس، المرجع السابق، ص 293، وابن هشام، السيرة جـ2، ص 637.
[23] الزرقاني على المواهب جـ1، ص 454.
[24] الزرقاني على المواهب المكان نفسه، وابن هشام، السيرة جـ2، ص 638.
[25] ابن كثير المرجع السابق ص 354 ـ 305.
[26] ابن كثير المرجع السابق ص 354 ـ 305.(10/419)
[27] ابن كثير المرجع السابق ص 304.
[28] ويقال ابن سنينة.
[29] ابن هشام جـ2، ص510 ـ 512.
[30] هما البشيران اللذان قدمهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبشرا المسلمين بما فتح الله عليه في بدر.
[31] ابن هشام المرجع السابق، ص 502، وابن كثير، المرجع السابق، ج4 ص 6، وابن خلدون، كتاب العبر ديوان المبتدأ والخبر.. جـ2 ص 200، ط فاس: 1355هـ.
[32] ابن كثير المرجع السابق، ج3 ص 347.
[33] ابن هشام، المرجع السابق ص 502، الواقدي المرجع السابق، ص 145.
[34] الواقدي المرجع السابق، ص 144، الطبري، تاريخ الأمم والملوك، جـ2، ص 177، وانظر صحيح البخاري بحاشية السندي جـ3 ص 17،وابن هشام المرجع السابق، ص 502ـ510.
[35] ابن القيم، زاد المعاد، ج2 ص 91 (بيروت 1392 ـ 1973 م)
[36] ابن القيم المكان نفسه.
[37] سورة آل عمران ـ 12، 13.
[38] سورة الأنفال ـ 58 (انظر الواقدي، المرجع السابق، ص 141.
[39] ابن عبد البر، المرجع السابق ص 149.
[40] الواقدي المرجع السابق.
[41] كانت قريش بمقتضى هذا النظام تتجر لبعض القبائل بسلعها دون عمولة، على أن تتولى هذه القبائل حراسة تجارتها حين تمر في أراضيها.
[42] ابن عبد البر، الدرر في اختصار المغازي والسير، ص 112.
[43] ابن القيم زاد المعاد ج2 ص 90، وابن هشام ج2 ص 492،وابن سيد الناس، المرجع السابق.
[44] ابن هشام، جـ2، ص 496، وابن القيم، المرجع ص 91.
[45] ابن هشام جـ2، ص 496.
[46] الزرقاني على المواهب، جـ، ص 1 6.
[47]ـ جـ3 ص: 307 ـ 308.
[48] ابن كثير، البداية والنهاية، جـ5، ص 25.
[49] ابن كثير، البداية والنهاية، جـ3 ص 335.
[50] ابن كثير، البداية والنهاية جـ5، ص 279.(10/420)
[51] ابن كثير، البداية والنهاية جـ3، ص 262.(10/421)
لا يزال الإسلام رافع الرأس شديد البأس
لفضيلة الشيخ محمود عبد الوهاب فايد
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية
في هذه الأيام كثيراً ما يتساءل الناس يقولون:
لقد وعد الله بأن تكون الغلبة للإسلام، وأن يظهره على الدين كله، ولكن أين دلائل النصر في هذا العصر؟
لقد أصبح أتباع الإسلام يقاسون الهوان في كل مكان، وجواباً عن هذا السؤال، ودفعنا لهذه الشبهة نقول:
إن الله وعد بنصر الإسلام وتكفل به دون قيد أو شرط فقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ..
أمّا نصر أتباعه والمعتنقين له فقد علقه على استجابتهم لدين الله، وصدق إيمانهم وحسن بلائهم قال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} وقال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} .
وقد وفى الله بوعده: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} فلا يزال يتعهد الإسلام بعنايته، ويحوطه برعايته، ويصونه ويحميه وينصره ويعليه، ويرد عنه كيد الكائدين، ويبعد عنه شر المبطلين.(10/422)
ودلائل النصر في هذا العصر، أقوى وأوضح منها في أي عصر وكفى الإسلام مجداً أنه ثبت وحده في وجوه الأعداء فما تقهقر وما لان، وما ضعف وما استكان، وخرج من المعارك أقوى مما كان، ولو كان غير الإسلام لقضت عليه هذه الضربات القاتلة وما استطاع أن يقف على رجليه، ولا نقلب على عقبيه، لكنه بقي في الميدان وحده يناضل بقوته الذاتية، ويعود - كما اعتاد - بالفوز والغلبة {وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} .
لقد حاول الغربيون بإيعاز من رجال الدين المسيحي أن يحاربوا الإسلام في عقر داره، فشنوها حرباً صليبية على بلاد الإسلام وجندوا جنودهم، وأعدوا عدتهم، ودفعوهم إلى الميدان يحمسهم رجال الدين، ويعدونهم بالجنة والمغفرة، ولكنهم باءوا بالفشل، ورجعوا يجرون ذيول الخيبة والهزيمة.
ومن هذه اللحظة بدءوا يفكرون تفكيراً جدياً في الانتقام من الإسلام، والثأر من هذا الدين الجديد، فرأوا أنه لا بد من تغيير عقلية المسلم أولا، ولا بد من زعزعة عقيدته حتى تفتر همته، وتهن عزيمته، وتضعف غيرته، فلا يستميت في الذود عن دينه والدفاع عن كيانه ومن هنا نبتت فكرة التبشير بعد أن رجع الغربيون من الحروب الصليبية بخفي حنين.
يقول المستر أدوين بلس: "إن ريمون لول الأسباني هو أول من تولى التبشير لعد أن فشلت الحروب الصليبية في مهمتها فتعلم لول اللغة العربية بكل مشقة وجال في بلاد الإسلام وناقش علماء المسلمين في بلاد كثيرة".
وكان من الطبيعي بعد ذلك أن تعقد المؤتمرات، وتناقش المقترحات، وتقرر القرارات كل ذلك في سبيل نصرة المسيحية وإضعاف الإسلام، ومادام القسس بيدهم الجنة وصكوك الغفران لا بد أن يستجيب لهم المسيحيون بأنفسهم وأموالهم، ومن هنا تكدست الأموال وجندب الرجال، وانطلق المبشرون يبشرون بالمسيحية، ويهيئون أدوات العمل.(10/423)
يقول القسس أناتوليكوس في أحد تقاريره: "وصفوة القول أننا حصلنا على نتيجة واحدة جوهرية وهي أننا أعددنا آلات العمل فترجمنا الإنجيل ودربنا الوطنيين على مهنة التبشير، وأتممنا تهيئة الأدوات اللازمة وهي الكنائس والمدارس والمستشفيات والجرائد والكتب ولم يبق علينا إلا أن نستعمل هذه الأدوات".
والغرض من هذه الأدوات هو زعزعة العقيدة بما يطرأ عليها من أفكار ونظريات جديدة تعرض في صورة ثقافة، وتقدم في كأس دواء.
يقول المسيول شاتليه: "ولا شك في أن إرساليات التبشير من بروتستانتية كاثوليكية تعجز عن أن تزحزح العقيدة الإسلامية من نفوس منتحليها، ولا يتم ذلك إلا ببث الأفكار التي تتسرب مع اللغات الأوربية فبنشرها اللغات الإنجليزية والألمانية والهولندية والفرنسية يتحكك الإسلام بصحف أوربا، وتقضي إرساليات التبشير لبانتها من هدم الفكرة الدينية الإسلامية التي لم تحفظ كيانها وقوتها إلا بعزلتها وانفرادها".
ويقول أيضاً: "إن نزع الاعتقادات الإسلامية ملازم دائماً للمجهودات التي تبذل في سبيل التربية النصرانية"كما يقول: "إن إرساليات التبشير الدينية التي لديها أموال جسيمة وتدار أعمالها بتدبير وحكمة تأتي بالنفع الكثير في البلاد الإسلامية من حيث إنها تبث الأفكار الأوربية"، ويقول أيضاً: "والتعليم المدرسي والتربية الأخلاقية اللذين يعني بهما المبشرون قد أسفرا عن نتائج جمة وأثمرا ثمرات نافعة في الأطفال والمراهقين على السواء". ويصرح بأن هذه الحملات التبشيرية قد أنبتت في الشرق وشملت كل دولة.(10/424)
ويقول بصدد مصر: "في سنة 1882 م تأسس في مصر معهد علمي للتبشير تابع لجمعية تبشير الكنيسة وله أربعة فروع الأول قسم طبي والثاني مدرسة للصبيان والثالث للبنات والرابع لنشر الإنجيل، وينشر مبشرو هذا المعهد مجلة أسبوعية وكراسات ولهم مكتبة خاصة بهم والنتيجة الأولى لمساعي هؤلاء هي تنصير قليل من الشبان والفتيات والثانية تعويد كل طبقات المسلمين أن يقتبسوا بالتدريج الأفكار المسيحية" ويبين: "أنهم أسسوا أيضاً مكتبة لبيع الكتب بأثمان قليلة والغرض من ذلك استجلاب الزبائن ومحادثتهم في أثناء البيع"
ويصرح القسيس زويمر بأن المدارس أحسن ما يعول عليه المبشرون في التحكك بالمسلمين. ويقول القسيس أناتوليكوس: "إن من أهم الوسائل التي يستخدمها المبشرون التبشير من طريق الطب لأن ذلك في مأمن من مناوأة الحكومة له والمسلمون يلجأون بأنفسهم إلى مستشفيات المبشرين ومستوصفاتهم".
ويقول المستر هاربر: "يجب الإكثار من الإرساليات الطبية لأن رجالها يحتكون دائماً بالجمهور ويكون لهم تأثير على المسلمين أكثر مما للمبشرين الآخرين".
ويقول الدكتور أراهارس: "يجب على طبيب إرساليات التبشير ألا ينسى ولا في لحظة واحدة أنه مبشر قبل كل شيء ثم هو طبيب بعد ذلك".
ويقول الأستاذ (سمبسون) : "إن المرضى والذين ينازعهم الموت بوجه خاص لا بد لهم من مراجعة الطبيب وحسن أن يكون هذا الطبيب المبشر في جانب المريض عندما يكون في حالة الاحتضار التي لا بد أن يبلغها كل واحد من أفراد البشر".(10/425)
وينصح القسيس هاريك بوجوب تحلي حياة المبشر بمبدأ المسيحية قبل أن يعنى بالأمور النظرية كيما يظهر للمسلم أن النصرانية ليست عقيدة دينية ولا دستوراً سياسياً بل هي الحياة كلها وأنها تحب العدل والطهر وتمقت الظلم والباطل، نفتح للمسلم مدارسنا ونتلقاه في مستشفياتنا ونعرض عليه محاسن لغتنا ثم نقف أمامه منتظرين النتيجة بصبر وتعلق بأهداب الأمل إذ المسلم هو الذي امتاز بين الشعوب الشرقية بالاستقامة والشعور بالمحبة ومعرفة الجميل.
أرأيت أيها السلم كيف يحارب الإسلام وكيف ينبث أعداؤه بين المسلمين متنكرين في أزياء مختلفة تارة ثياب المعلمين الذين يربون الناشئة ويتعهدون الشبيبة.. وتارة يظهرون في صورة أطباء يداوون المرضى، ويعالجون الجرحى، ويعينون على نوائب الدهر، والله يعلم أن هؤلاء وهؤلاء إنما يسممون الأفكار، ويفسدون العقائد ويضللون الناس، ويدسون السم في العسل.
وكل همهم أن يتوصلوا إلى زحزحة المسلم عن عقيدته، وإضعاف همته، وتوهين عزيمته، وقتل غيرته، وقد مرت تصريحاتهم تنطلق بسوء نيتهم للإسلام وليس فيها غموض تحمل على الارتياب ومن غير شك أن هذه الأساليب الملتوية قد انتهت بنتائج ضعيفة لا يمكن أن تقارن بحال ما مع المصاريف الباهضة التي صرفت في سبيلها.
ولو أتيح للإسلام عشر ما أتيح للمسيحية المعاصرة من مكر ودهاء ونفاق سياسي وغير ذلك من الأسلحة الظاهرة والمستورة لحصل على أضعاف ما حصلت عليه المسيحية، لا أقول ذلك متحيزاً أو متعصباً ولكني أسطر هنا شهادة سجلها المستر كاين تيلز، وقد ألقاها في حفل جامع على رؤوس الأشهاد مبيناً قوة الإسلام وشبابه وقدرته على مواجهة ظروف الحياة ومصرحاً بقصور المسيحية وشيخوختها وضعفها، ويقول في صراحة:(10/426)
"إن الإسلام قد سبق النصرانية بمراحل شاسعة من أكثر جهات العالم همهمة ودمدمة ليس فقط من جهة المسلمين الذين كانوا وثنيين وأسلموا أكثر من الذين تنصروا بل لأن النصرانية في بعض الجهات أخذت في التقهقر إلى الوراء أمام الدين الإسلامي في حين أن الوسائل التي تستعملها لتنصير الأمم الإسلامية يفشل أمرها، والشباك التي تنصبها لهم تنقطع حبالها فإننا لا نرجع فقط بصفة المغبون بل ربما خسرنا رأس المال ويصدق علينا قول من قال: "على نفسها جنت براقش"والدين الإسلامي يمتد الآن من مراكش إلى يافا، ومن زنجبار إلى الصين ويخطو في داخل أفريقيا خطوات كبيرة وتعتنقه أمم كثيرة والبحث في سرعة انتشاره يرجع إلى عدم الخلط والخبط في أصوله وبنيانه الأمر الذي جعل له مكاناً ثابتاً في قلوب أهله، وكل من تدين به بخلاف النصرانية فإنها مزعزعة الأركان قلما يكون لها ثبوت عند الإنسان لما فيها من التبديل والتغيير والتحريف والتحوير.(10/427)
أجل، فقد اعتنق الإسلام أمة بحذافيرها في أفريقيا صفقة واحدة ولم ترتد إلى الوثنية قط، الإسلام أفاد التمدن أكثر من النصراية ونشر راية المساواة والأخوية وهذه الأدلة نذكرها نقلاً عن تقارير الموظفين من الإنجليز وعما كتبه أغلب السياح عن النتائج الحسنة التي نتجت من الدين الإسلامي وقد ظهرت آياتها منه فإنه عندما تتدين به أمة من الأمم السودانية تختفي من بينها في الحال عبادة الأوثان واتباع الشيطان والإشراك بالعزيز الرحمن وتحرم أكل لحم الإنسان وقتل الرجال ووأد الأطفال وتضرب عن الكهانة ويأخذ أهلها في أسباب الإصلاح وحب الطهارة واجتناب الخبائث والرجس والسعي نحو إحراز المعالي وشرف النفس ويصبح عندهم قرى الضيف من الواجبات الدينية وشرب الخمر من الأمور غير المرضية، ولعب الميسر والأزلام محرمة والرقص القبيح ومخالطة النساء اختلاطاً دون تمييز منعدمة يحسبون عفة المرأة من الفضائل ويتمسكون بحسن الشمائل أما الغلو في الحرية والتهتك وراء الشهوات البهيمية فلا تجيزه الشريعة الإسلامية، والدين الإسلامي هو الذي يعمم النظام بين الورى ويقمع النفس عن الهوى، ويحرم إراقة الدماء، والقسوة في معاملة الحيوان والأرقاء ويوصي بالإنسانية، ويحض على الخيرات والأخوية.. الإسلام ينشر المدنية القائلة بالاحتشام في الملبس الآمرة بالنظافة والاستقامة وعزة النفس فمنافع الدين الإسلامي منافع لا ريب فيها، وفوائده من أعظم أركان المدنية وحتام لا ننظر إلى المصاريف الباهضة والأنفس الغالية التي ذهبت سدى في سبيل تنصير أفريقيا؟! والنصرانية إذا اعتنقها ألف فالإسلام يعتنقه مليون".(10/428)
هذه شهادة قيمة ذكرناها بطولها ليعلم من لا يعلم أن ديننا الحنيف غالب غير مغلوب، منصور غير مخذول، مهما تحالف عليه الأعداء، وتآمر عليه خصومه الألداء {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} .
ونذكر شهادة أخرى تؤكد هذا المعنى، قال المسيو (شارل ديرموزه) كما روت جريدة المنبر التونسية "لم يكن بالعلم ملة أشد يقيناً وثباتاً من ملة الإسلام فالارتداد عن هذا الدين يكاد يكون مجهولاً بالمرة ولهذا نرى رسوخ الدين المحمدي قد أعيا المبشرين حتى إنهم يئسوا من تنصير المسلمين وقد أحسوا أنهم مثل من يريد مصادمة الجلمود أو اقتفاء أثر الخيالات. إلى أن يقول:
وقد جاء في بعض المجلات الأوربية أن الدين المحمدي هو الآن أكثر الأديان انتشاراً في حين أن الأديان الأخرى ناكصة على عقيبها أو لازمة الوقوف فالإسلام يتقدم وينتشر ويمتد انتشاره بأفريقية وآسيا وبجزائر المحيط الهادي، وهذا أمر لا يتصوره العقل، ومحل الغرابة هو مقدرة الإسلام على الظهور والاستقرار بالبلاد الغربية الأوربية وهذا الأمر صار من القضايا التي لا مراء فيها.. فترى منهم رجالا ذوي مدارك عالية يلتجئون إلى التلفظ بالشهادتين بغاية الإخلاص بعد أن كلت عقولهم من الخرافات والخيالات البشرية ولأسباب مختلفة نرى آخرين لم يصلوا إلى ذلك الحد ولكنهم يبدون نحو محمد صلى الله عليه وسلم ميلاً قلبياً يعادل التصاقهم بالدين المحمدي وشريعته الغراء فمن أين ولماذا يا ترى هذا الأمر العجاب".(10/429)
هذه شهادة أخرى تؤكد أن دين الإسلام قد تعهده الله بأتم عناية، وحاطه بأكمل رعاية، وضمن له أن يخترق الحدود، ويقتحم الحصون، وإن لم يكن لديه مبشرون وهاهو ذا الإسلام عام 1393 هـ يجذب إليه بروعة مبادئه وقوة منطقه رئيس جمهورية الجابون (البرت برنارد بونجو) ويجذب معه كثيراً من وزرائه وأبناء شعبه، وعندما سئل عن سبب اعتناقه للإسلام قال:
"إن ذلك تم عن اقتناع وإيمان بالدين الذي يعز الإنسان ولا يفرق بين البشر إلا بالتقوى ويحترم الإنسانية ويدعو إلى الحريات".
قلت: إن الإسلام يزحف وإن لم يكن لديه مبشرون، وهذه حقيقة.
ومن قبل اعتذر الكونت هنرى دي كاستري في كتاب الإسلام ص 95 عن استعمال كلمة المبشر الإسلامي فقال: "وليلاحظ أن هذا الاسم غير صحيح عند المسلمين إذ ليس لديهم مبشرون منقطعون لهاذ الأمر كالمسيحيين".
ويؤكد القسيس ورتز هذا المعنى فيقول: "ومن الخطأ أن يقال إن الجامع الأزهر يرسل ألوف المبشرين إلى أفريقية الوثنية للدعوة إلى الإسلام لأن الأزهر ليس معهد تبشير كما هي مدارس اللاهوت في أوربا ويقال مثل ذلك عن كل المدارس الإسلامية في شمال أفريقية".
ويتحدث ورتز عن الجامعة الإسلامية التي يعلق عليها المسلمون آمالهم فيقول: "ولكن عبثاً يبني هؤلاء آمالهم على الجامعة الإسلامية لأن التربية النصرانية قد انبثت في دمائهم بفضل مدارس التبشير".
أيها القارئ الكريم:(10/430)
لقد أجهدت المسيحية نفسها - كما رأيت - في سبيل المحافظة على كيانها ووقف الإسلام في عصرنا هذا وحيداً أعزل تحيط به معاول الهدم وأدوات التدمير من كل جانب وقد انضم إلى المسيحية في حربها للإسلام عدوان خبيثان هما الشيوعية والصهيونية وكلها تتفنن في صرف المسلمين عن دينهم، وتتخذ كل وسائل الترغيب والترهيب لتنفيرهم منه وإبعادهم عنه وتعمل بكل ما لديها من طاقات على طمس محاسنه وحجب نوره، ومع هذا فقد خرج من المعركة صحيحاً لم يكلم، سليما لم يجرح، قويا لم يضعف، عزيزاً لم يهن، وأصبح موضع دهشة ومحل إعجاب، وصدق الله العظيم إذ يقول: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .
إنه لا يكاد يمر شهر من الشهور حتى نسمع عن إسلام أفراد وجماعات في مختلف بقاع العالم، وليس لدى الإسلام مبشرون كما علمنا، ولا تتوفر له أدوات التبشير البارزة والمستترة التي تغري الناس باعتناقه.
وسر إقبال الناس عليه أنه دين الفطرة، دين الإنسانية الرشيدة، دين العقل، فكل ما فيه يتمشى مع طبيعة الإنسان وغرائزه، ويتفق مع عقله وفكره، ويستجيب لكل مطالبه، من أجل هذا شق طريقه إلى الإمام مجتازا العقبات، مخترقاً الحصون، متعدياً الحواجز، إذا قصر أهله في معونته، فالله قد تكفل بنصرته.
ولعل من المستحسن أن نضع تحت بصر القارئ قصة أميرة أسلمت ليتأكد عنده أن الإسلام يغزو القلوب ويأسر الأفئدة دون أن يكون بيده سيف أو مدفع، أو ذهب.
أسلمت الأميرة الإنجليزية (ديانج مودا) أميرة سرواك زوجة ولي عهد الراجا بروك يوم 19 فبراير سنة 1932م أثناء سياحتها في طيارة وقد أعلنت في أجواء الفضاء عن سبب إسلامها قالت: سئلت مراراً عن سبب مفارقتي الكنيسة الكاثوليكية والدخول في الإسلام وها أنذا أتحدث إليكم عنه بواسطة اللاسلكي بناء على طلب شركة الراديو الاستعمارية فأقول:(10/431)
لما زرت بلادي سرواك لأول مرة منذ عدة سنين وهي بلاد تبلغ مساحتها 52,000 ألف ميل مربع أو مثل مجموعة مساحة إنجلترا وويلز تقريباً أتاحت لي هذه الزيارة فرصة لدراسة معيشة الطوائف الدينية المختلفة المقيمة في هذه البلاد فإن في سرواك 80000 ألف مسلم ضمن سكانها الذين يبلغ عددهم 600000 ألف نسمة يوجد بينهم أيضاً بوذيون وبرهمانيون ووثنيون ومسيحيون وقد جذبتني كثيراً الرعايا المسلمين أحوالهم الخلقية وأدركت لأول مرة جمال هداية الإسلام.
إني ولدت بروتستانتية غير أني لم أجد نفسي عماداً خلقياً في هذه العقيدة الباردة وبعد أن درست علم الديانة المسيحية مدة خطوت خطوة جريئة ودخلت في المذهب الكاثوليكي ومنحني قداسة البابا جلسة خاصة ولكني ما لبثت أن شعرت بأني لم أخلق لهذه الديانة ولو أني كنت كثيرة الإعجاب بالعمل العظيم الحسن الذي قامت به كنيسة روما للحضارة ذلك لأن فيها أموراً يصعب على نفسي كثيراً قبولها ولبثت في الكثولكة سنتين بذلت في خلالهما جهوداً صادقة لتفهم تعاليمها الشاقة على أني شعرت بأن المسيح لم يحرم على أحد مطلقاً أن يناجي ربه بلا واسطة ولا أمر أحداً أن يجثو في قفص الاعتراف، فالقليل من المعترفين هم الذين يقولون الحق.(10/432)
وفي أثناء ذلك الزمن كان لي اهتمام بدراسة بلاد الإسلام، والهداية العظمى لمحمد عليه الصلاة والسلام دراسة أدق مما سبق وقد دهشت لما في هذا الدين من الطهارة والحكمة واليسر وشعرت بأن قلبي كله وروحي جميعها مغموران بهذه الهداية التي في غاية الملاءمة للبشر والعقول وقد دعاني القرآن لأتباعه باعتبار أنه خطاب الله تعالى الصادر منه مباشرة إلى رجل هو خاتم الأنبياء، وأننا لعلى علم بحياة هذا الرجل من أولها إلى آخرها وبمقدار الخير الذي أداه دينه إلى العالم وقل من الناس من يعلم أنه بينما كانت أوربا غارقة في ظلمات القرون الوسطى المخيفة كانت الحضارة الإسلامية تنشر نورها فتتقدم به العلوم والفنون والآداب تقدماً مجيداً، وإذا كانت أوربة قد استطاعت أن تجد لها طريقاً إلى التجديد فإنما الفضل في ذلك يرجع إلى خلفاء أسبانية المسلمين المستضيئين بنور الفرقان ومن المؤسف ألا يعلم برقي الشعوب الإسلامية في بلادها إلا النزر اليسير بين غيرهم وإني آنس من نفسي الثقة بأن هذه البلاد سيكون لها في المستقبل القريب عمل ذو شان في التاريخ وهذا السبب مشفوعاً بميلي إلى البلاد الإسلامية هو الذي دعاني إلى إصدار مجلة في مدينة باريس تسمى (جملة الأخبار الإسلامية) هذه هي المجلة الوحيدة المستقلة الموجودة التي تخبر عن رقي البلاد الإسلامية وحياتها أخباراً صادقة وقد تلقاها بالترحاب الشديد جميع الذين يعنيهم العلم بأحوال هذه الحقيقة ورجائي أن هذه الصحيفة المتجردة للمعنويات ستؤدي خدمة كبرى لا إلى المسلمين وحدهم بل للعالم كله..(10/433)
كلنا يعلم أن أساس الحياة الخلقية قد تداعى لتأثير الإلحاد الشديد ولهذا كان حقاً علينا من أجل التمكين من وقف تأثيره المفسد أن نقيم في وجهه مثلا أعلى من الأخلاق العالية والآداب الراقية، وسينقل الشرق إلى بلاد الغرب قبس الإسلام الذي يؤسفنا أننا كدنا أن نطفئه وعلينا أن ندرس هداية الحسنة وقد قال با نادشو وأنا موافقة له تماما الموافقة فيما قال: (إن الإسلام هو دين المستقبل..) . وإني مرسلة آخر تحياتي لجميع إخواني وأخواتي في الإسلام الذين يستمعون قولي خصوصاً أهل سرواك".
هذه قصة أميرة آمنت بالإسلام عن طريق الدراسة لا عن طريق الوراثة آمنت به نتيجة للاقتناع بحججه الغراء، ولم يحصل نتيجة لوعيد أو إغراء، وفي نفس الوقت كشفت هذه الكلمة عن جاذبية الإسلام وسر قوته وأثبتت عجز المسيحية بمذاهبها عن إقناع ذوي العقول الناضجة بتعاليمها ومبادئها كما أثبتت عجزها عن صد تيار الإسلام الكاسح.
بربك خبرني أيها القارئ أليس هذا كله يقوم شاهداً على تأييد الله للإسلام في جميع الأزمان وفي كل مكان..؟ أليس هذا يؤكد صدق الآية: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .
وأخيراً فهل تحسب أن تأخر المسلمين واضمحلالهم، وتدهورهم وانحلالهم ينال من الإسلام أو يضعف من شأنه. لا فذلك دليل آخر على صحته، وبرهان جديد على صدقه وسلامته كيف وهو تأييد لسجل الإسلام الخالد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فقد وعد المؤمنين الذين ينفذون تعاليمه، ويطبقون مبادئه بالاستخلاف في الأرض والتمكن منها فقال:(10/434)
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} .
وقد تحقق وعد الله وصدقت كلمته ونفذت مشيئته، فاستولى أسلافنا على الأقطار، واستحوذوا على الأمصار، وحكموا أكثر بلاد العالم حتى كانت لهم الكلمة في آسيا، والسيطرة في أفريقيا، والهيبة في أوربا، وظل ذلك في أيديهم حتى خلف من بعدهم خلف نقضوا العهد، وبعدوا عن الدين، فصدقت فيهم آيته الأخرى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .
وهكذا يتجلى صدق الإسلام، وينجلي للناس فضله، ويتبين للعالم أن هذا الدين ينتصر بقوة مبادئه، ولا يتوقف مجده على مجد أتباعه، على حين يتوقف مجد أتباعه على التحلي به فلا ينالون العزة إلا في رحابه، ولا يسودون إلا بتطبيق تعاليمه وآدابه، فلا حجة لأحد عليه بل له الحجة القاهرة، والأدلة الباهرة.
محمود عبد الوهاب فايد
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين
بالجامعة الإسلامية [1]
--------------------------------------------------------------------------------(10/435)
[1] أعلن الإسلام الدكتور جوهانس ليمان وهو قسيس كاثوليكي من ألمامنيا جاء ليبشر في ماليزيا لكنه بعد دراسة مقارنة اعتنق الإسلام وقال: إنه اقتنع بأن الإسلام هو القوة الأخلاقية التي ستقود الإنسان للوحدة الأخوية وترشده إلى الله وقال: إنه آمن بوحدانية الله وقد حصل على الدكتوراه من جامعة بون في الأديان المقارنة. كذلك أشهر 106 مائة وستة أشخاص إسلامهم في سيراليون، 104 مائة وأربعة أشخاص في ليبيا كما ذكرت مجلة المجتمع الكويتية في عددها 247 الصادر في 18 ربيع الآخر سنة 1395 هـ
كذلك نشرت مجلة المجتمع الكويتية العدد 245 الصادر في 4 ربيع الآخر سنة 1395 صفحة 4 ـ أعلن 300 ياباني في أواخر مارس الماضي وأول أبريل الحالي سنة 1975 أعلنوا إسلامهم ودخلوا في دين الله أفواجاً ـ وفي مجلة الوعي الإسلامي (الكويتية) عدد ربيع الثاني سنة 1395 ص 111 "اعتنق 6000 ستة آلاف شخص مسيحي بالويات الشرقية في نيجيريا الدين الإسلامي الحنيف بعد أن تخلوا عن مسيحيتهم.
وفي مجلة أخبار العالم الإسلامي (السعودية) العدد 245 الصادر يوم الاثنين 17 من ربيع الآخر 1395 ـ 28 أبريل 1957 الصفحة الأولى (قاضي برازيلي كبير يعتنق الدين الإسلامي أسلم الدكتور نيوتون جيمارايس قاضي محكمة الجنايات في منادوش بولاية أمازونا البرازيل أمام ملأ من المسلمين بعد مناقشات طيبة) .(10/436)
بحوث في تاريخ الأديان
بقلم فضيلة الشيخ محمد محمد أبو فرحة
المدرس في كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية
الحمد لله والصلاة على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد: فهذه بحوث في تاريخ الأديان أنوي (مستعيناً بالله) متابعة الكتابة فيها فيما اشتهر من أديان البشر ومللهم محاولاً أن أجمع فيها ما لأسلافنا الكرام من آراء وبحوث إلى ما محصه المحدثون من تاريخ المادة في الملل والنحل على ما جد من أساليب هذا البحث وطرق ذلك الدرس. وإنه لطريق لم يعبد وسبيل لم يمهد؛ نعم هو طريق وعر، كؤود العقبات كثير الشعاب مليء بالمتاهات.
فكتب الأقدمين في هذه المادة يختلط فيها القول الصحيح ببعض الآراء التي لم تحرر عن الأديان القديمة والنحل الأولى لاستغلاق أمر الأمم السابقة عليهم ولاستعجام آثارهم واستبهام نقوشهم، فاستقوا معلوماتهم عن الأديان من أهلها وكان منهم المخلصون الصادقون أدوا الأمانة وصدقوا الرأي، وكان منهم من تعمدوا التضليل يريدون بذلك {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} وعلى رأس هذا الفريق بنو إسرائيل..
فلما فك المتأخرون رموز تاريخ الأمم وحلوا طلاسمها واستخرجوا كنوزها واطلعوا على ما أخفاه المغرضون: ظهر لهم من خبرها الصحيح الأوفى وإن كانت لا تزال رهن الكشف المتجدد وقيد البحث المتتابع ولا يزال علماء الآثار يكشفون الجديد النافع ويهتدون إلى التليد الضائع..(10/437)
وكما أن كتب الأقدمين قد تباينت في تحديد التواريخ الدقيقة المتصلة بالأحداث: فإن كتب الغربيين (المترجمة) في هذا الموضوع إنما كتبت لبلادهم في ثقافتها وبيئاتها وعقيدتها ثم هي بعد ذلك لا تبرأ في كبريات الملل كالإسلام من الهوى ولا تخلص من الغرض ولا تسلم من تحامل تصبغه بصبغة العلم وتلونه بلون البحث النزيه لتقبله النفوس المتهافتة على كتاباتهم فيضيع في زحمة الصواب والحق ويختلط فيها الصحيح بغيره عن تعمد مقصود وغرض سيء.
وبهذه المناسبة فإنني أذكر القارئ بأن المستشرقين وإن درسوا اللغة العربية وفهموا قواعدها فما هم بكاشفين أسرارها ولا غائصين إلى أغوارها ولا مدركين دقيق خصائصها فكيف إذا دق مع ذلك كله اصطلاح أهل العلوم واستبهمت أمامهم عبارات كتب العقول فقد يوجز العلماء أحياناً ويبهمون أحياناً مما تصعب الإفادة منه على أهل اللغة أنفسهم وهم الوارثون لمعرفة أسمائها ومسمياتها والعارفون لحقيقة كلامها واستعاراتها.
إن لهؤلاء المستشرقين مع الأهواء أخطاء، ومع الأخطاء تغليق لها باللفائف اللامعة والأوراق المصقولة والطباعة الجيدة والتنظيم المتقن مما يغري بالقراءة ويستهوي الكثير من النفوس لاقتنائها ومن أجل ذلك كانت القراءة فيما يكتبون شديدة الحاجة إلى التبصر والتثبت والتدقيق.
ثم لا ينسى الكاتب قبل ذلك كله وبعد ذلك كله أن ما يكتب للجامعة الإسلامية يجب أن يتصل بحاضر الجامعة الإسلامية وبرسالتها ويعرض كذلك في صورة ما ألف أهل الجامعة وينسج على منوالهم وبأسلوبهم في دقة البحث وسلامة النقل حتى يتهيأ الانتفاع الحق بما يكتب فلا يتنافر فيه ماضٍ وحاضر. ولا يهاجم جديد طائش قديماً صالحاً.(10/438)
وليس يقبل من الكاتب أن يكون مؤرخاً يقوم مقام الواصف فقط، بل لا بد من مناقشته وبحثه لما يخالف المقررات الإسلامية أو يبدو عليه ذلك من تفسير لظاهر الحياة الاعتقادية الإنسانية أو حياة ملة بعينها أو نحلة خاصة أو بيان لمعتقد أو بحث عن أصوله مما استطالت به اليوم يد العلم واستشرقت إلى تناوله في جرأة تختلف باختلاف الكاتبين وتتجاوز حدها في كثير من الأحايين. وهو مقام دقيق وجاد لأنه وقفة بين العلم والدين يصاول فيه يقين الإيمان شك العلم وإنها لكبيرة إلا على الموفقين الذين يمدهم الحق ويسعفهم الصبر فلا يمكنون الهوى من نفوسهم ولا يغترون بمقدرة العقل ولا يمنعون ما اعتقدوه على البحث ولا يمكنون منه الجدل المتعنت.
في ذلك كله يلوذ الإنسان بالحق ويستمد من الحق ويهتف من أغوار نفسه يا حق نستعينك ونستهديك بحرمة هذا الاسم الكريم. يا حق جنبنا زلل من زل وضلال من ضل ويسر لنا يا حق توفيق من وصل إنك أنت أحكم الحاكمين.
(تاريخ الأديان) أو (تاريخ الملل والنحل)
والتسمية بهذا الاسم معروفة لدى العرب من قديم ولكنها لم تعرف لدى الغربيين إلا في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي… وموضوع هذه المادة يطلق على معنيين: قديم وحديث.
أولاً: فالقديم هو وصف لحياة الأديان ومعتقداتها وفرقها وحياة تلك المعتقدات والفرق المعتقدة لها وأحداثها وما تولد منها وما انشق عليها، وقد كتب في ذلك كثير من سلفنا الكرام وقد امتازت كتاباتهم بميزتين لم يسبقهما أحد فيهما.
أما الميزة الأولى: فهي إفراد هذا العلم في دراسة مستفيضة وصفية وواقعية شاملة لكافة الأديان التي عرفت في عهدهم منفصلة عن العلوم الأخرى فكان لهم فضل السبق في تدوينه علماً مستقلاً عن غيره من العلوم بعد أن كان لدى الأمم الأخرى من يونان ورومان وفرس وغيرهم ممتزجاً بغيره من العلوم الأخرى تتقاذفه الأمواج فتارة يأتي مع علوم الجدل وأُخرى مع علوم الفلسفة وهكذا..(10/439)
أما الميزة الثانية: فهي أنهم اعتمدوا في تحرير كتاباتهم عن الأديان الأخرى على المصادر الموثوق بها وتجنبوا الكتابة بالظن والاستنتاج ولم يأخذوا بالأخبار العامة التي يتناقلها الناس من غير بحث ولا تمحيص ولا اعتمدوا على الجاهلين بالدين ولا على أعداء أهله ممن لا يسلمون من الهوى والغرض فجاءت كتاباتهم وافية وصادقة بقدر الاستطاعة البشرية ثم اتخذوا له منهجاً علمياً سليماً متجرداً عن الهوى خالصاً من خطر التعصب فسلم فيه الموضوع وسلم فيه التطبيق.
ومن هذه المؤلفات العربية المشهورة:-
1) جمل المقالات لأبي الحسن الأشعري المتوفى سنة 330 هـ وقد جمع فيه مقالات الإسلاميين ومقالات غير الإسلاميين.
2) المقالات في أصول الديانات للمسعودي المتوفى سنة 346 هـ
3) الفَرْق بين الفرق لعبد القاهر بن طاهر البغدادي الاسفرائيني المتوفى سنة 429هـ
4) كتاب الفصل في الملل والنحل لابن حزم المتوفى سنة 456 هـ
5) كتاب الملل والنحل للشهرستاني المتوفى سنة 548 هـ
6) كتاب اعتقادات المسلمين والمشركين للفخر الرازي المتوفى سنة 606 هـ
ولكل من هؤلاء طريقته التي قد يتفق فيها مع غيره أو يختلف عنه مما سأعرض له عند البحث في مناهج المؤلفين إن شاء الله تعالى.
ثانياً: أما الحديث فهو بحث تحليلي عن التدين ومنشئه في الحياة الإنسانية وتدرجه مقابلة ذلك عند الأمم المختلفة، بعضه ببعض بياناً للقوانين العامة التي خضعت لها حياة الإنسانية الدينية وبياناً للعلاقات الفكرية والعملية بين الأديان المختلفة وتفاعلها وانفعالها، وكذلك الحديث عن عقائد كل دين وكتبه المقدسة عند أهله وحياته على هذا النحو من التعليل والتحليل.
وهو بحث أشبه ما يكون بفلسفة التاريخ إذا حسبنا البحث القديم (التاريخ العادي)(10/440)
وهذا البحث الحديث حديث الظهور بدأ في أول القرن التاسع عشر (كما مر) تحت اسم علم الأديان، على يد عالمين: أحدهما وهو صاحب الفضل فيه يدعى فردريك ماكس مولر F.M.Muller ألماني الجنسية ولد سنة 1823 وتوفي سنة 1900م والثاني إنجليزي ويسمى (أدوارد تيلور) R.Tylor ولد سنة 1832 وتوفي سنة 1917م
وقد استفاد الحديث من القديم وزاد عليه وأفاد الدارسون لهذه المادة بتوسع من دراسة المنهجين: من القديم بوصفه ودقته ومن الحديث باستقصائه كل ملة وربط الديانات بعضها ببعض واستنباط العنصر أو العناصر المتحدة فيها ووجوه التشابه بينها، ومعرفة أن التدين ظاهرة وجدت في كل الجماعات البشرية مشتركة بين الأمم المتحضرة والبادية والحاضرة والماضية والبائدة والباقية حتى اليوم مما يجد الباحث نفسه أمام لافتة كتب عليها {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} .
وقد اتسعت جوانب البحث في هذه المادة فشملت القارات الخمس وذهب الباحثون ينقبون في أدغال أفريقية وأستراليا كما شمل البحث الأمم البدائية والأمم البائدة وامتد إلى ما وراء التاريخ المعروف ولم يعد قاصراً على الأمم ذات التاريخ والتدوين وجند له علوم طبقات الأرض والآثار وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الأجناس البشرية وعلم اللغات المقارن وعلم التصوير والتمثيل الرمزيين
ذلك العلم هو:
تاريخ الأديان أو تاريخ الملل والنحل
ويقتضينا البحث المنطقي إذا أردنا أن نتعرف حقيقة هذا المركب الإضافي الذي نتكلم عنه أن نتعرف أولاً مفرداته التي تركب منها ثم ننتقل إلى حقيقة ومميزات ما تركب من المتضايفين وإذا عرفنا كل عنصر على حدة سهل معرفة الوليد من اجتماعهما.
أما العصر الثاني فهي: (دين) (ملة) (تاريخ)
أولاً: الدين في اللغة:(10/441)
أما كتب اللغة العربية فكانت كالتاجر الغني اليقظ الذي جمع في متجره لكل صنف عديد الأنواع والألوان والمقاسات ومختف الخامات بحيث لا يحتاج المشتري إلى سواه فقد حشدت جيشاً من المعاني التي يصدق عليها أنها مسميات لاسم الدِّين (بكسر الدال) ليختار القارئ من بينها ما يوصله إلى ضالته المنشودة وهدفه المطلوب.
وإذاً فلا نطالب كتب اللغة بما هو فوق اختصاصها وجزى الله من ألفوها خير الجزاء، وإنما نطلب منها الدلالة على الطريق الموصل لنسلكه مستعملين ما وهبنا الله من عقل عسانا نصل إلى المرغوب.
وكلمة الدين التي نحن بصدد تعريفها ـ تطلق ـ في كتب اللغة على ما يلي:
العادة، والعبادة، الطاعة، الجزاء، القضاء، المجازاة، الحساب، الحكم، الإكراه، الإحسان، الحال، الداء، السيرة، الورع، الاستيلاء، السلطان، الملك، الذل، العز، الخضوع، الإسلام، التوحيد، كل ما يتعبد به…..الخ
ونستطيع أن نرجع هذه المعاني كلها إلى ثلاثة أصول يرتبط بعضها ببعض بأوثق روابط المودة والتلازم، فإن كلمة (دان) وردت في كلام العرب إما متعدية بنفسها وإما متعدية بحرف الجر، وحرف الجر هو إما اللام وإما الباء:
1ـ فإذا تعدت بنفسها إلى مفعولها كما يقال: دانه، يدينه، ديناً.. فيكون المراد أن الأول أعلى من الثاني تسلط عليه وقهره وأذله وحاسبه وجازاه.. وملكه..الخ.. ما يشعر بغلبة الأول وتسلطه على الثاني وسلطانه عليه ومنه قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} .
2ـ وإذا تعدت باللام كما يقال: (دانه فدان له) فيكون مطاعاً للمعنى الأول ونلحظ فيه الانقياد والخضوع من المفعول للفاعل.
3ـ وإذا تعدت بالباء كما يقال: (دان بكذا) فيكون المعنى اتخذ الفاعل ذلك الشيء مذهباً وعقيدة ومنهجاً ودستوراً يلتزم به ويسير على نهجه.(10/442)
وعلى هذا يكون معنى كلمة (الدين) بالنسبة لله سبحانه وتعالى.. القهر والسلطان والعظمة والعزة وكل ما يدور في فلك هذه المعاني من التعظيم ويكون الدين بالنسبة للفرد المتدين: الخضوع والانقياد لمن دان له، ويكون المعنى بالنسبة للمعتدي بالباء: هو الرباط والشريعة والدستور الذي التزم به المتدين والتزم بالسير على قواعده وهو المتعبد به.
ومن هذا التفصيل نرى كذب ادعاء المستشرقين الذين قالوا: (إن الدين بمعنى القضاء مأخوذ من اللغة الآرامية بواسطة اللغة العبرية، والدين بمعنى المتعبد به مأخوذ من الفارسية، والدين بمعنى العادة عربي أو مأخوذ من الكلمة الفارسية التي في معنى المعتقد، والدين بمعنى الغرض مأخوذ من اللغة اليونانية) [1] .
أما في الاصطلاح:
أولاً: فقد عرفه علماء المسلمين بتعريفات كثيرة نقتصر منها على أربعة تعريفات خوف الإطالة وهي:
1ـ عرفه السيد الجرجاني في التعريفات فقال: (الدين، وضع إلهي يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما هو عند الرسول صلى الله عليه وسلم) .
2ـ وعرفه ابن قَطْلوبْغا في شرحه على المسايرة فقال: (الدين وضع إلهي سائق بذاته لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير) .
3ـ وعرفه البهانوي في كشاف اصطلاحات الفنون فقال: (الدين، وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إياه إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل) .
4ـ وعرفه الراغب الأصفهاني في المفردات فقال: (الدين، ما شرع الله تعالى لعباده على لسان الأنبياء ليتوصلوا به إلى جوار الله تعالى) .
تعليق على هذه التعريفات
وبالنظر في هذه التعريفات يتبين ما يلي:
1) التعريفان (1 و 2) متساويان على وجه التقريب لا فرق بينهما إلا في قيد الذاتية في السوق. وعلى كل حال فوجهة التعريفين واحدة.(10/443)
2) التعريفان (1،2) مبينان لقوة التدين أو لقابلية التدين وهي القوة النفسية التي تدفع الإنسان إلى تقبل الرسالات السماوية وهي القوة المسماة في عرف المحدثين (غريزة التدين) .
3) التعريفان (3،4) يتفقان في أنهما تصوير الدين مراداً به التكاليف والشرائع الإلهية المبينة على لسان الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولا يخدعنك ما يظهر من توافق التعريض (2،3) في أكثر ألفاظهما فلكل منهما اتجاهة عند التحليل.
ثانياً: وفي اصطلاح الغربيين، فقد عرف الغربيون الدين بتعريفات كثيرة نقتصر منها على أربعة تعريفات هي:-
(ديوان الفضيلة والطراز العالي للحياة) .
(جملة العقائد والوصايا التي يجب أن توجهنا في سلوكنا مع الله ومع الناس وفي حق أنفسنا) .
(رباط خضوع يربط الإنسان بالله) .
(شعورنا بواجباتنا من حيث كونها قائمة على أوامر إلهية) .
موازنة بين تعريفات الشرقيين والغربيين
لو أردت الموازنة بين تعريفات الشرقيين وتعريفات الغربيين لتبين لك ما يلي:
أـ أن قصد التعريفات الإسلامية إلى بيان الدين الصحيح أو الإسلام بخاصة أو قوة التدين من حيث هي هادية إلى اختيار الدين الصحيح السماوي.
ب ـ أن قصد التعريفات الغربية إلى بيان التدين أو الدين بمعنى عام يشمل الدين السماوي والدين الأرضي وبمعنى أدق يشمل الدين الصحيح والدين الزائف والذي نقصد إليه في تاريخ الأديان إنما هو دراسة الأديان بوجه عام ويستوي في ذلك الأديان الصحيحة حتى الآن أو التي كانت صحيحة في أصلها ثم دخلها التحريف والتزييف، والأديان الباطلة من أصلها سواء بقيت باطلة أو مالت إلى الصحة متأثرة بدين آخر صحيح..
وقد أطلق القرآن الكريم اسم الدين على الصحيح وعلى الدين الفاسد الباطل من ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 24 آل عمران.(10/444)
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ..} الآية 85 آل عمران.
وقوله تعالى: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُم} الحجرات 16.
وقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} الكافرون 6.
وبالله التوفيق..
محمد محمد أبو فرحة
مدرس الأديان بالجامعة الإسلامية
للبحث بقية
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر كلمة دان في دائرة المعارف الإسلامية المترجمة إلى اللغة العربية طبع القاهرة.(10/445)
صرخة إشفاق
لفضيلة الشيخ محمد محمد خليفة
لقد انتاب شباب الأمة العربية والإسلامية التمزق، وشدت أفكاره ومشاعره تيارات تاهت حياته في عوالمها وبين أمواج ظلماتها، وانتهبته عواصف هوجاء من الانحلال أنسته عقيدته، وفَتَّتْ في صلابة رجولته، وقطعت الصلة بينه وبين أمجاد تاريخه، فضاع الشباب أو كاد، وتطايرت روحه في مهاب الفتن.
ومن ثم تضاعفت مسئولية كل عربي عن هذه الأجيال التي تتخبط في الحياة وقد وصمت أسماعها وختم الله على قلوبها فلم يبلغها نذير منذر، أو تطرقها صيحات مصلح، أو تؤثر فيها عبرات مرشد، بل لقد استسلمت هذه الأجيال لغرور المظهر ففتنها عن مستقبلها، ومسئولياتها عن ذلك المستقبل.
وعاشت هذه الأجيال للحيوانية التي تتحكم في دنياها: للأثرة القاتمة، لزخارف الحياة الزائفة، لكل ما يقوض بناء مجتمعها الذي ستقبض على مقاليده في غدها.
وأبصر المشفقون ذلك الشباب وهو يهوي في هاوية لا قاع لها، لا يمسك بشيء، ولا ترده حتى إلى حافة الهاوية صرخات، وعلى شفاه المشفقين أسئلة حائرة: متى؟، ومتى؟، ومتى؟
متى يفيق الشباب من غمرة الفتن، ويفكر في المنزلق الذي أسلم إليه حياته؟
ومتى تبدأ الأمة العربية في مختلف الأقطار تفكيرها في مسئولياتها عن أبنائها، وعن المستقبل الغامض الذي تقف على أبوابه هذه الأجيال؟
ومتى تتحرك الأفكار والأنظار إلى الشباب لتضع له المشاعل على الطريق؟
ومتى تجند الشعوب قواها لتدرأ عن الشباب مخالب الشر التي تمزق كيانه؟
ومتى يكرس المصلحون الجهود لتخطيط مؤمن، ومتابعة يقظة، واستغلال جاد لكل وسائل الإعلام للعمل على بناء نفوس قوية تعرف كيف تؤمن مستقبلها، وتقود مسيرتها في الحياة وتحميها من الأنواء، وتصونها من عبث الأهواء؟
ومتى تنفض الشعوب عنها الغطاء الذي غطَّت تحته طويلا، واسترسلت في كواذب الأحلام؟(10/446)
ومتى يؤمن المسئولون عن مستقبل الشباب بأن الدين هو أرسخ القواعد وأقواها وأصلبها على احتمال بناء الغد إذا عاش ذلك الدين في القلوب عقيدة قادرة على نفي الشوائب وتنحية العوائق التي تعترض مسيرة الإيمان؟ متى يكون كل هذا لنحقق للأجيال القادمة المستقبل المأمون؟
إن بناء صرح الغد يعتمد أول ما يعتمد على تربية النفوس.
وإن بناء الأجيال الجامحة قد تكون أعتى ما يواجهه المصلحون، غير أن براعة التخطيط لهذه التربية وإعداد المنهج الصالح بعيداً عن المؤثرات الغربية، ومتابعة تنفيذه في صبر، وتعبئة كل الوسائل المعينة على تحقيقه، وحمايته من المناوآت التي قد يشنها المتطرفون أنصار التحرر من كل قيد حتى قيد الدين، وأخيراً يجيء دور الإحساس بل الإيمان بالمسئولية والخوف من حساب الله.
كل ذلك يحقق ما تنشده الأمة من تلك التربية التي تعتمد عليها صروح المستقبل.
ومنهج التربية السماوية ذلك المنهج الذي اعتمد عليه معهد التربية المحمدية، فقضى به على باطل العادات وضلال التقاليد الموروثة يجب أن يضعه المصلحون نصب أعينهم ليتخذوا منه الإشراق الذي ينير سبيل الدالجين.
وقد كانت الحكمة طريق الدعوة بل كانت أول كلمة تؤذن في أول الطريق فترن في أسماع الدعاة وتدوى في قلوب المصلحين تلك الحكمة التي نادى بها الحق:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
وتجلت حكمة إله السماء في التدرج في علاج بعض الأدواء التي كان يعانيها المجتمع الجاهلي كالخمر التي هام بها المترفون فنزل في شأنها أولاً: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}(10/447)
ثم نهاهم عن الاقتراب من الصلاة وهم سكارى فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}
وبعد أن استجابت نفوس المؤمنين إلى نداء الله دعا الله بعضهم أن ينزل فيها شيئاً أو أمراً ينتشل المسلمين من حيرتهم في شأن الخمر، فكان النداء الأخير الذي تجلى فيه حكم الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
فليكن الرائد عند إعداد منهج التربية هو ذلك المنهج الذي ربى الله عليه خير أمة أخرجت للناس وليس إعداد المنهج كل شيء، وليس إعداد الدعاة كل شيء ولكن إيمان الدعاة بواجبهم وبالأمانة التي في أعناقهم وبخوفهم من المسئولية بين يدي الله في يوم الدين هو الذي يستطيع أن يحقق كل شيء "وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
وإن هذا الشباب الجامح لا يعجز جموحه وسائل الردع والإصلاح لو برزت سياط القانون وحسنت نوايا المصلحين، وجندوا لذلك الإصلاح كل الوسائل وانتزع الدعاة أغوال اليأس من نفوسهم تلك التي قد تحمل على الانطواء وترك مسيرة الشباب تتعثر في الحياة كما يشاء لها المنحرفون والشامتون.
إن حاضر الشعوب العربية يجب أن يتغير وجهه بل يجب أن تتغير أعماقه فتزول الرواسب التي تعيش في سلوكه ومشاعره، ويجب أن تبرز في ذلك الحاضر الشخصية الشرقية العربية الإسلامية التي توارت وراء التقليد المجنون.
وإن ثورة التغيير يجب أن تستهدف حملاتها النفوس، وأن تكون لديها الطاقات القادرة على التطهير: فتطهر النفوس، وتطهر العقول، وتطهر السبل، وتنحى عنها كل أسباب الفتنة والإغراء والانحلال حتى تربى للحياة أجيالاً جديدة تستطيع أن تحقق للإسلام تاريخاً جديداً، ولن يتحقق وجود هذا التاريخ إلا إذا كان الدين هو القاعدة التي ينطلق منها التغيير.(10/448)
إن مستقبل الشعوب العربية يتطلب صحوة تنقض الجمود، وتنطلق من الركود إلى عمل واع مؤمن يحدد الطريق لطريق المستقبل معالمه، ويعبد مجراه، ويحمل الأجيال على سلوك النهج الذي سلكته مسيرة الإسلام الأولى فحققت للأمة الإسلامية العزة التي عنت لها كبرياء المتوجين من الفرس والروم.
فهل يحقق الله للأمة العربية الإسلامية هذه الصحوة؟
هذه أمنية كل غيور فمتى تتحقق.
الدكتور: محمد محمد خليفة
كلية الشريعة ـ الجامعة الإسلامية
يرجى من فضيلة الكاتب أن يحول الحديث من الأمة العربية إلى الأمة الإسلامية مشكوراً.
أعز الأشياء
قال الشافعي:
أعز الأشياء ثلاثة: الجود من قلة، والورع في خلوة، وكلمة الحق عند من يرجى أو يخاف.(10/449)
نظرة في غزو أحد من خلال الآيات التي نزلت فيها
لفضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي
الصلاة والسلام على رسول الله
نظرة في غزو أحد من خلال الآيات التي نزلت فيها
سماحة الإمام رئيس الجامعة، حضرات المسئولين معه، بقية الجمع الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
حديثي عن غزوة أحد سيكون من جانب واحد بمثابة جواب عن سؤال، هل حقاً هزم المسلمون فيها بما استغله اليوم بعض ذوي الغرض؟، ونقول: أولاً إن هذه الغزوة واحدة من جهاد حربي طويل، خاضه النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر علماء السيرة أنه سير صلوات الله عليه ستين سرية، وقاد بنفسه الشريفة سبعة وعشرين جيشاً، قاتل بسيفه في تسعة منها، وإذا كنا نتحدث الآن في غزوة أحد، فإننا نُحِس ببهجة تغمرنا ونحن في البلد الذي وقعت فيه هذه الملحمة العظيمة، وساحتها على مرمى أبصارنا، وقائدها العظيم ثاو في حجرته الشريفة على خطوات منا، وكأني به الآن وقد وقف يومها بهيئته المهابة وكلمته المطاعة ينادي إلى النزال كرام الرجال من صحابته المغاوير، وأتصورهم أمامي رضي الله عنهم، وهم يهرولون سراعاً خلال الدروب المحيطة بنا صوب نبيهم الآمر بالوحي {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} ..(10/450)
نعم كأني بهم هكذا الآن، وهم الذين وصفهم صلوات الله عليه: بأنهم يقلون عند الطمع، ويكثرون عند الفزع، إنه لمسعد للنفس حقاً أن نتصور هذه المعركة مجسمة من حولنا نتفاعل معها، على أنه لا بد أولا أن ندير أبصارنا إلى السنة التي بين بدر وأحد، لنأخذ من الكثير قليلاً يتصل بموضوعنا، اشترك فيه المشركون واليهود على السواء، فكان بعد الهجرة وقبل بدر معاهدة بين الرسول صلى الله عليه وسلم ويهود، من أهم بنودها: لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ أي (لا يهلك) إلا نفسه وأهله، وأن بين المسلمين ويهود النصر على دهم يثرب، وأن بينهم النصر على من حارب أهل الصحيفة (لكن لما انتصر المسلمون في بدر، عادت إلى اليهود الخسة التي طُبعوا عليها، وأول من نكث منهم بنو قينقاع، وهم أقوى يهود في المدينة فقرروا اتخاذ عمل عسكري سريع يمحون به نصر بدر، وتلك هي النظرية العدوانية لليهود إلى يومنا هذا، بما تسميه إسرائيل بالحرب الوقائية، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وهو النذير، أنذرهم أولا قبل أن يمتشق الحسام بمغبة نقضهم للعهد، ولكنهم بالصلف المعروف عنهم أجابوه: يا محمد، لا يغرنّك من نفسك أنك قتلت نفراً من قريش، كانوا أغماراً لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وكأنها كانت فرصة له صلوات الله عليه ليريهم من هم الناس، وبدأ الأمر بالرد على قولهم هذا بنزول قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} ، ومع هذا أسرعوا إلى سلاحهم وحصونهم للقتال، فهاجمهم النبي برجاله وضيق عليهم الخناق بحصار خانق، لم يتحملوه أكثر من خمسة عشر يوماً، واستسلم بنو قينقاع جميعاً، ثم عفا عنهم على أن يخرجوا من المدينة، فرحلوا إلى الشام، وهلكوا إثر وصولهم بقليل، بوباء سلطه الله عليهم، وهكذا عرفوا من هم الناس، ولكن طاغوتاً من طواغيتهم لم يكفه ما رأى(10/451)
من خزي قومه، وهو كعب بن الأشرف، فشد الرحال إلى مكة، يثير في أهلها حمية الجاهلية لحرب الرسول صلى الله عليه وسلم، واستطاع بفصاحته تحريك كوامن الصدور، واختار بالطبع الضرب على وتر بدر، ومشى ينوح في جنبات مكة بهذا البيت:-
طحَنَتْ رحى بدر لمهلك أهله
ولمثل بدر تَسْتهل وتدمَعُ
ويؤكد للمشركين أنهم أهدى من محمد سبيلا وهو عدو لهم، ولكن عداوته للرسول أشد، فأنزل الله ما يفضح هذا الشرير بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} ، لهذا ولغيره أهدر الرسول صلى الله عليه وسلم دمه، وتقدم محمد بن مسلمة رضي الله عنه لتنفيذ حكم الإعدام فيه، وفصل رأس التنين اللعين في حصنه بما هو مفصل في كتب السيرة، وشبيه بطريقة كعب كان من امرأة هي عصماء الخطمية، وكانت أخطر من كعب في تأثيرها على الرجال باعتبارها امرأة، فاختار لها النبي صلى الله عليه وسلم عمير ابنَ عدي، وهنا العجب، لأن عميراً رضي الله كان ضريراً، ولكن الرسول كان يعلم أنها لا تعمى الأبصار مع نور البصائر، فيذهب عمير ويدخل على عصماء في الظلام، يقوده نور قلبه إلى حيث تنام، فيكتم بشماله فمها ويغمد بيمينه السيف في صدرها حتى نفذ من ظهرها، وعاد إلى المدينة في صبح صلاه خلف الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبره، فسر منه الرسول وقال عنها: "لا ينتطح فيها عنزان "، أي لا يختلف فيها اثنان بأن دمها هدر، وأيضاً كان من آثار بدر أن أبا سفيان قال: النساء والطيب عليّ حرام حتى أثأر من محمد، وكان ثأراً مضحكاً حقاً، فقد جاء من مكة ليكتفي بالوقوف بعيداً هو ومن معه بثلاثة أميال من المدينة، وبإحساس الخائف أحرق بعض نخيلات،(10/452)
وقتل فلاحاً بريئاً من الأنصار، ثم ولى الأدبار فرقا من مجرد أن يبلغ النبأ محمداً الذي جاء ليثأر منه، وطاردهم الرسول وهم أمامه كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة، لدرجة أن تخلصوا من طعام السويق الشهي، وآخر ما اخترناه مما هيَّا لأُحُد، غزوة قردة، حينما تظاهر المشركون بأن هزيمة بدر لن تحول دون رحلاتهم التجارية كما يريدون، وكانت ضربة اقتصادية موجعة تلك التي وقعت في قردة، حيث غنم المسلمون بقيادة زيد بن حارثة رضي الله عنه من العير فقط دون التجارة ما بلغ الخمس الواحد والرسول يخمسه خمسةً وعشرين ألف درهم، وكانت هذه المصيبة التي حاقت بهم كافية لأن يفيض إناء غيظهم، فكانت السبب المباشر لحرب أحد، وسنرى بعد أن ننتهي من الحديث عن الجانب الذي قصدته، كيف ظلمت هذه الغزوة ظلماً مبيناً، من كثير من الذين كتبوا عنها في الداخل أو في الخارج عمداً أو خطأ أو جهلاً، فالصورة العامة التي تنتهي منها بعد أن تقرأ ما كتبوا، هي أن معركة وقعت يوما بين المسلمين والمشركين، بدأها المسلمون بالانتصار ثم انتهت بالنصر للمشركين، ولكن الأجل من ذلك كله، هو أن يتلقف بعض الدهماء هذا، فيتحدثون بأنه لا ضير إذا هزمنا اليوم أو غداً، فقد سبق أن هزمنا في معركة قادها النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، والمتحدثون بهذا إما مهانة وذلة، أو أعداء مندسون بيننا يخفون حقداً على الإباء الإسلامي وعزته، وسنحتكم فيما بعد إلى كتاب الله، لنعلم أنه سبحانه لم ينزل ستين آية في غزوة أحد لمجرد أنها بدأت بانتصار وانتهت بانهزام.(10/453)
الإخوة الأفاضل: نحن الآن في مكة وقد حشد عُبَّاد الحجارة ما لديهم من كره وحقد، بأكثر ما لديهم من عَدد وعُدد، وهكذا كان أعداؤنا وسيظلون ما بقيت الدنيا تجمع بين إسلام ولئام، إن المشركين لم يحشدوا الرجال فقط، بل خرج أكبر عدد من النساء سمع به في حرب وقتئذ، وعلى رأسهن نساء القادة، فأبو سفيان خرجت معه زوجته هند، وعكرمة خرجت معه زوجته أم حكيم، وصفوان خرجت معه زوجته برزة، وعمرو بن العاص خرجت معه ريطة زوجته، وكثيراتٌ غيرهن، والقصد واضح، فالقلوب الخاوية من الدافع لا تدفع إلا بمؤثرات حِسِّي، والمؤثر النسوي أقواها لديهم، لهذا اصطحب المشركون معهم نساءهم والقواد منهم خاصة ليحرِّضْنَهم بدناءة الشهوة (إن تقبلوا نعانق، ونفرش النمارق) . إلى آخر ما تعرفون، أما القلوب المدفوعة بالعقيدة فتأبى عار تحريض النساء، ثم عجب أن يقول لنا أهل السير أنهم شُغلوا وهم لا زالوا في مكة كيف يُقتل حمزة رضي الله عنه، فهم يعلمون تماماً أن الذي يواجه حمزة في الميدان لم يوجد بعد، فتاريخ حمزة معهم طويل فعل بهم الأفاعيل حتى قبل بدر، بل ذكروا أبياتاً قالها وهو بين أظهرهم بمكة إثر إسلامه، قالها وهو جاد وسمعوها وهم هازلون، ماذا قال:
حمدت الله حين فؤادي
إلى الإسلام والدين الحنيف
لدين جاء من رب عزيز
خبير بالعباد بهم لطيف
إذا تليت رسائله علينا
تحدر دمع ذي اللب الحصيف
رسائل جاء أحمد من هداها
بآيات مبينة الحروف
وأحمد مصطفى فينا مطاع
فلا تفشوه بالقول العنيف
فلا والله نسلمه لقوم
ولما نقض فيهم بالسيوف(10/454)
أبيات قالها وجعلها حرفية التنفيذ، ولهذا استحق رضي الله عنه لقباً ما كان يجرؤ النبي نفسه أن يضيفه على عمه مع حبه الشديد له، فثابت أن كل ما حدَّث به الرسول صلى الله عليه وسلم فيه اسم الله، قرآناً أو غيره، هو من عند ربه لقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} وكان هذا اللقب هو أسد الله، حتى بعد أن مات ناداه الرسول به، "يا حمزة يا أسد الله وأسد رسوله"، ولقد بدأت بحمزة لأن المشركين بدأوا به وهم في مكة، فأردت أن أكمل منه قصدي وليس القصة، فقصته معروفة للجميع، فأقول إن صح ما قيل عن تدبير قتل حمزة، كان من جبير بن مطعم وليس من هند بنت عتبة، وإن كانت قد فعلت بحمزة بعد قتله من الفحش ما فعلت، فقد دعا ابن مطعم عبدَه وحشياً وقال له: إن أنت قتلت حمزة بعمي طُعَيمة فأنت عتيق، وعرْضُ قتلْ حمزة على رقيق يدل على ذكاء جبان من جبير بن مطعم، فهو لن يستطيع أن يعرض قتل حمزة على أحد ولا على نفسه، ويعرف بأن الأسد حمزة لن يقبل منازلة عبد رقيق، وعرف وحشي ذلك أيضاً فقبل مطمئناً، وتم القتل بأدنى طريقة يقتل بها إنسان، لكنه إن كان وحشي قد قتل على طريقة ما يَقْتُل الأرقاء، فإن الأسد حمزة قد قتل على طريقة ما تُقْتَل الآساد، فالصياد عندما يريد اقتناص أسد، لا يظهر نفسه للأسد إطلاقاً، فلا يصطاد الليث إلا إذا اختفى وراء شجرة أو صخرة كما فعل الرقيق وحشي تماماً، لذلك كان القاتل لحمزة صياداً رعديداً، وكان المقتول حمزة أسداً غُدِرَ به، وهكذا أضفى الله على حمزة صفة الأسد يوم أن سماه ويوم أن أفناه، وكأنه في قبره في عرينه يتحفز، كيف وسيثب منه سيداً للشهداء، تلك واحدة من مخلدات أحد، والبقية تأتي.(10/455)
السادة الفضلاء: عودوا إلى البداية حيث علم النبي صلى الله عليه وسلم أن شراً يدبر في مكة، فأعد الأمر على عجل، وأصبح المهاجرون والأنصار في أعلى درجات الاستنفار، لا يفارقهم السلاح حتى وهم في الصلاة، وتترامى الأنباء سافلة وضيعة عن الجيش الزاحف نحو المدينة، فكيف بإحساسكم الآن إذا سمعتم ما سمعه النبي صلى الله عليه وسلم، من أن هنداً اقترحت إمعاناً في حقدها على الرسول نبش قبر أمه أثناء مرورهم عليه قائلة: لو بحثتم قبر أم محمد، فإن أسر منكم أحد فديتم كل إنسان بإرْب من آرابها -أي بجزء من عظامها- ورأي هند له في القوم قدره، ولكن الله تعالى دفع عن نبيه حزناً عظيماً لو تم هذا الأمر البشع، فصرفهم عن ذلك حين قالوا لهند: لو فعلنا لفعلوا بموتانا مثل هذا، فانصرف النبي صلوات الله عليه للإعداد للقاء الأعداء، وعرض خطته على أصحابه بالتدرج بالمدينة قائلاً: "فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مُقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها وزادوا فامكثوا، فإن دخل القوم الأزقة قاتلناهم ورُمُوا من فوق البيوت"وذكروا أن ذلك تأويل لرؤيا رآها صلى الله عليه وسلم، وبالإيمان المتحمس رأوا الخروج على غير ما رأى الرسول، وذلك حتى في الاصطلاح الحربي غير مألوف، ولكن المقطوع به أنهم لم يقصدوا العصيان ولا مجرد التردد بدليل أنهم طلبوا أكثر من ذلك، طلبوا الخروج إلى العراء ليلقوا بأنفسهم مباشرة في أحضان الموت، فلا احتماء وراء جدر ولا حصون، وإنما دفعهم التغالي في إرضاء الله ورسوله، إلى طلب التعجيل بلقاء العدو حيث يوجد، لكن الأحسن بلا شك هو الطاعة المطلقة للقاعد وخطة الرسول صلى الله عليه وسلم واضحة، فالمدينة كلها ستشترك في القتال رجالا ونساء وصبيانا، الرجال من تحت، والنساء والصبيان من فوق، فتصبح المدينة مصيدة عظيمة لقطعان الجرذان، وهذه الخطة يسمونها الآن نظرية حرب الشوارع، وآخر ما نُفذت كان(10/456)
بمدينة السويس في الحرب الأخيرة، فكانت أمنية إسرائيل بعد حادث الثغرة الاستيلاء على المدينة الكبيرة، فعجزوا لتطبيق نظرية اختطها الرسول في غابر، وقال الذين لا يعلمون أنها حديثة أتتنا من الخارج.
السادة الفضلاء: وسرعان ما أدرك أصحابه رأي الخروج إلى أُحُد تصحيح رأيهم مع نبيهم، فأبى صلى الله عليه وسلم بقولته المشهورة: "ما كان لنبي لبس لامته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه، وقد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم إلا الخروج، فعليكم بتقوى الله، والصبر عند البأس وانظروا ما آمركم به فافعلوا" فالرسول بكلماته هذه تمسك بكرامة القائد الذي لا يكون على هوى المقودين، فالقيادة خاصة في هذه المواقف لها هيبتها وجلالها، ثم ليزدادوا اقتناعاً عندما يقع لهم من رأيهم ملا يشتهون فيكون الدرس أوقع وأنفع، وتدبروا معي قوله لهم: "وانظروا ما آمركم به فافعلوا". فكأنه صلوات الله عليه يقول لهم لا تعيدوا هذه الغلطة، فإذا كان أساس الخطة قد تغير، فليكن العمل من بعد على تفادي نتائج هذا التغيير، وما توقعه الرسول وقع، فقد تكرر في حادث الرماة، ولكن بصورة أجرأ على القائد من الأولى، لأن القرآن تعرض للأول برفق، في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} لكن اعتبر الثانية معصية، بقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} . أي النصر، وسنعود إلى هذه الآية بكاملها إن شاء الله، فلما وقعت المعصية وقع درس الموعظة، وأنا مصر على هذا المعنى، فعندما صوره البعض هزيمة، فلم تخطر هذه الكلمة في آيات أحُد الستين، وإنما قالت إحداها في أشد ما وصفت الأمر: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ(10/457)
لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ} وإنما وردت كلمة الهزيمة في غير آيات أحد تحمل معناها الصريح في قوله تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوت} ، وحديثي عن أُحُد ليس سرد وقائع مرتبة، وإنما أنتقي منها ما أرد به على المشوهين لأمرها، مؤيداً ردي بالأدلة تأتي في مواضعها إن شاء الله.(10/458)
الجمع الكرام: وتحرك من المدينة جيش الإيمان للقاء جيش الكفران، وبعد ثنية الوداع بقليل، ألقى صلى الله عليه وسلم نظرة وراءه على رجاله فرأى كتيبة حسنة المظهر، فقال: "ما هذا؟ "قالوا كتيبة من اليهود خرجوا مع حليفهم عبد الله بن أبي، يرغبون في تأييد المسلمين، فسأل:"أسلموا؟ "قالوا: لا، يا رسول الله، فقال: "مروهم فليرجعوا، فإنا لا ننصر بأهل الكفر على أهل الشرك"فرجعوا، ومن عجب أن هذا الأمر وقع للمسلمين منذ سبع سنين، دخلوا الحرب معتمدين على دولة كافرة بالله، لينتصروا بها على عدوهم فخذلتهم، وكانت النكسة النكراء، فلما عاودوها بسواعدهم مدرعين بصيحة (الله أكبر) أثخنوا العدو يوم العبور، مما أسال دمه عسكرياً وسياسياً، واحترمنا العالم بما رُئي وسُمع، فيا ليتنا نستمر في المسيرة مع التكبيرة قولا وعملاً، وقد ذقنا لذتها وعزتها، فصلى الله وسلم عليك يا قدوة العالمين، وما كاد ابنُ أبي رأس الخبث يصل إلى مكان تراءى فيه الجمعان، حتى قال كلماته المعروفة "ما ندري علام نقتل أنفسنا، ارجعوا أيها الناس"، فرجع ومنافقوه الثلاثمائة، وصاح فيهم عبد الله بنُ حرام رضي الله عنه محسناً بهم الظن: يا قوم، أذكركم الله أن تخذلوا قومكم ونبيكم عند من حضر من عدوهم، فرد ابنُ أبي: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم، ولكنا لا نرى أنه يكون قتال، فقال رضي الله عنه أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عنكم نبيه، وفي هذا الحوار نزلت الآية: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} وانظروا كيف بيتها ابنُ أبي في ليل نفاق، فهو لم يفعل ذلك إلا عندما تراءى الجيشان ليعطي المشركين جرعة معنوية.(10/459)
عندما ينظرون كيف بدأ جيش محمد تنفك أواصره خوفاً منهم، ثم عنا المسلمين بكلمات تقطر سُمّاً لما قال: "ولكنا لا نرى أنه يكون قتال"يعني أن المسلمين عدلوا عن القتال لما رأوا قوة عدوهم، وقد سرى سمه فعلاً في طائفتين، هما بنو حارثة وبنو سلمة، فخيب الله ما عناه وثبتهما بقوله: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وتلك فائدة أخرى من الفوائد الجمة لأحد، فتصفية المقاتلين من المتخاذلين شيء ضروري في الحروب، ولو أن اليهود والمنافقين اشتركوا في المعركة لتحولت أُحُد من عظات إلى نكسات، بمثل ما قالت آية من غير آيات أحد: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} ، والمبدأ واحد، في أحد وفي غيرها.(10/460)
أيها الحضور الأكرمون: وقصة الرماة في هذه المعركة هي جوهرها وملاك أمرها، نصر في البداية غير حاسم في النهاية، وقد قرأت للعسكريين يوماً تحليلاً، لماذا اهتم الرسول الكريم في أول تنظيمه لجيشه لوضع الرماة هكذا؟ ومؤداه أنه صلوات الله عليه قد لاحظ أمرين: أولهما أن المكان المسمى الآن بجبل الرماة، نقطة ضعف ميدانية، يمكن الولوج منها خاصة وهي من خلف جيشه، ثانيهما ما رآه من تفوق مطلق في سلاح الفرسان لدى العدو، يقود جياده رجل يعرف الرسول أنه بطل مقدام هو خالد بن الوليد، الذي سيجعل هذا المدخل السهل بخيوله السريعة المدربة مطمحه العظيم، فلم يغب ذلك عن العقل النبوي الذي فسد الثغرة بخمسين منتقين من أمهر الرماة، بقيادة بطل رام هو عبد الله بن جُبير رضي الله عنه، واختارهم من سلاح الرماة لعلمه بأنهم لن يهاجموا إلا بالخيول لتي من خصائصها ترهب رشق النبل هذا تحليلهم، وعندما نسمع الأوامر النبوية للرماة نرى دقة هذا التحليل، فقد ذكر أهل السير أربع روايات، الأولى: "احموا لنا ظهورنا، لا يأتونا من خلفنا، ارشقوهم بالنبل، فإن الخيل لا تقدم على النبل، إنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم" والثانية "انضحوا الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا" والثالثة: خص بها رئيسهم عبد الله "انضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، واثبت مكانك إن كانت لنا أو علينا" الرابعة "إن رأيتمونا تتخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا غنمنا فلا تشركونا، وإن رأيتمونا نقتل فلا تغيثونا ولا تدفعوا عنا اللهم إني أشهدك عليهم" الله أكبر، يا من في كل الدنيا تعلموا من رسول الدنيا، هل سمعتم قديماً أو حديثاً أوامر تصدر من قائد مفصلة صارمة هكذا؟ ونسدد النظر في جملتين أولاهما " وإن رأيتمونا غنمنا فلا تشركونا" فهو يعلم أن أكثر ما يغري في تلك المواقف هي(10/461)
الغنائم، وأنها قد تحول دون النصر أو طلب الشهادة، والدليل موافقة القرآن له صلى الله عليه وسلم في ذلك، واعتبر من عصوه من أجل الغنائم مريدي دنيا، ومن ثبتوا مع ابن جبير طلاب آخرة، فقال سبحانه عنهم: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} ولنا عودة مع هذه الآية أيضاً إن شاء الله، وثاني الجملتين قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أشهدك عليهم"، فالإشهاد من شأنه إعفاء المشهد من مسئولية المشهَد عليه، أي أشهد يا الله أن المبلغ قد أدى، فلا تؤاخذه بعمل المبلغين إن لم يؤدوا، ولهذا كررها في حجة الوداع، فإنه وإن كان قد أدركه صلى الله عليه وسلم لهيب عملهم بما نعلم جميعاً، لكن ذلك لا يهمه بقدر ما يخشى أن يلام من ربه على ما قد يحدث، فكان أن نسب الله تعالى إليهم المعصية وليس إليه، فلما أطاعوا في البداية صدقهم، ولما عصوا بعد ذلك سلبهم، وهذا هو أساس التعامل مع الله تعالى إن أردنا، وتلك أيضاً من أهم محاسن أحد، ونعيد الآية لنأخذ من بعضها قصدنا: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وتحسونهم: تغلبونهم، وفي عامة التفسير، تظهرون عليهم ظهوراً بيناً {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} والابتلاء في الغالب يكون بالشر، والامتحان يكون بالخير، فهو سبحانه امتحنهم بحسهم، وابتلاهم بالصرف عنهم، وقد حدث فعلاً نتيجة لقوله تعالى: {لِيَبْتَلِيَكُمْ} أن قال بعضهم: من أين لنا هذا ونحن مسلمون ورسول الله فينا، فردت الآية: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ(10/462)
أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} أي أصبتم مثليها في بدر، قتلتم سبعين وأسرتم سبعين، وهم الآن قتلوا منكم سبعين ولم يأسروا أحداً، والأسر عند العرب أعظم من القتل {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} تساءلتم ونسيتم السبب، قل لهم أيها الرسول {هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} أي لما عصيتم بترك أماكنكم بغير إذن.
الإخوة والأبناء: لكن فرقة الرماة هذه، قد حمل عليها من بعض من ادعوا تأريخ التاريخ إجحافاً بغير إنصاف، وقد جهلوا أمرين هامين: أولهما أن القرآن أنصفهم بمنة عظيمة مع الممتن عليهم من جند أحد، فمعصية الرماة لم تكن معصية تعمد، وإنما معصية تأول، فالمتحاملون على الرماة لم يعلموا قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ، فالعفو هنا شامل للكل بما فيهم الرماة، وأنهم لا زالوا مؤمنين مستحقين لفضل الله والتصوير الطبيعي للبلبلة التي وقعت في أحد، يمكن أن تقع لكل إنسان مهما كانت رباطة جأشه، فإذا مزح معك صديق وجاءك من الخلف وصرخ فجأة، ينخلع قلبك وتقفز هلعاً، وذلك وضع بشرى وقع لرجال أحد وهم في نصر ما تصوروا معه هزيمة من الأمام فكيف من الخلف، وما تصوروا أن ثغرة الرماة ستفتح أبداً بعد الأوامر المشددة الموجهة إليهم.(10/463)
ومن حدة المفاجأة حدث شعور يستحيل منعه، وإلا لنفذ فيهم حكم التولي عند الزحف، ولحرموا من شرف الجهاد وبعد ذلك مع الرسول، كما حدث في نحو فرقة ابن أبي في قوله تعالى لنبيه: {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً} وعفا عن كل الأحديين أيضاً بقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} ، وبعض ما كسبوا، عندما لم يوافقوا نبيهم على التدرع بالمدينة ولما ترك أكثر الرماة مكانهم، فكان الدرس وكان العفو بعده، ومما عجبت له ترديد كثير ممن كتبوا عن هذه الغزوة أن المسلمين فيها أخذ يقتل بعضهم بعضاً لما اختلط الحابل بالنابل، وإذا بي يزداد عجبي بعد بحث، أنه لم يقتل خطأ يومها بأيدي المسلمين إلا واحد وهو (حسيل بن جابر) والد حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، وفي ذلك تقول عائشة: "لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس أي عباد الله أخراكم، فرجعت أولاهم فاجتلدت مع أخراهم، فنظر حذيفة فإذا هو بأبيه، فنادى، أي عباد الله، أبي، أبي، قالت: فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه، فقال حذيفة، يغفر الله لكم "رواه البخاري.(10/464)
فلم تذكر عائشة في حديثها غير والد حذيفة، ولو قتل غيره لأشارت إليه بعبارة ما، وهي العالمة الفصيحة رضي الله عنها، وإن كان هناك سواه فأنا في انتظار من يقدمه إليّ مشكوراً، أما الأمر الثاني بالنسبة للرماة، والذي ما أظنه إلا أنهم استحقوا به عفو الله، فقد قدمهم الكثير على أنهم أخطأوا فقط، والثابت باليقين أن الانتصار الكاسح في البداية، هم الذين قدموه لإخوانهم، لما وقفوا يصدون ثلاث هجمات عاتية من جحافل خيل المشركين بقيادة خالد وعكرمة بما تنبأ به الرسول صلى الله عليه وسلم ولما يئس خالد وعكرمة ومن معهما لما نالهم من الرماة، ظنوا رضي الله عنهم أن النصر قد انعقد للمسلمين، فتأولوا أمر القائد، ولكن ذلك لم يعفهم من أنها كانت معصية، ثم غفرت لهم جزاء ما قدموا في البداية.(10/465)
الجمع الفاضل الكريم: كان لا بد أن أُقدم بعضاً من نماذج أُحديّة غير حمزة الذي ذكر أنه كان رضي الله عنه يقاتل في أحد بسيفين [1] ، لذى هل مثل هؤلاء كانوا في هزيمة؟ فقد اندفع طلحة العبدري المشرك، وكانوا يلقبونه بكبش الكعبة تشبيهاً بحامي القطيع لشدة فتكه، وصاح متحدياً بالمبارزة وهو على ظهر جمله، فبرز له الزبير بن العوام رضي الله عنه، وقبل أن ينزل من فوق جمله قفز الزبير وركبه معه، واحتضنه وألقى به وهو فوقه، ثم فصل رأسه عن جسده، فأصبح كبش الكتيبة كبش الذبيحة، وعلى إثر ما فعل الزبير صاح النبي مكبراً وكبر معه المسلمون، وقال: "لو لم يبرز إليه الزبير لبرزت أنا إليه، إن لكل نبي حوارياً وحواريّ الزبير" ومن نماذجنا لما رفع النبي صلى الله عليه وسلم سيفاً في يده وعرضه للبيع، وتسابق الرجال إلى شرائه، ورسا العطاء على أبي دجانة رضي الله عنه، وكان ثمنه كما طلب الرسول "أن يضرب به في وجه العدو حتى ينحني"يقول الزبير: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف فمنعنيه وأعطاه أبي دجانة، وقلت: أنا ابن صفية عمته، ومن قريش، وسألته إياه قبله، فأعطاه أبا دجانة وتركني، والله لأنظرن ما يصنع أبو دجانة، فاتَّبعته، فأخرج عصابة حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، واتجه نحو المشركين يتبختر، فقال صلى الله عليه وسلم "إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن" وأخذ أبو دجانة يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي
ونحن بالسفح لدى النخيل
ألا أظل الدهر في الكبول
أضرب بسيف الله والرسول(10/466)
فجعل لا يلقى أحداً إلا قتله، أما كعب بن مالك رضي الله عنه فيقول: كنت فيمن خرج من المسلمين، فإذا رجل من المشركين يجوز المسلمين وهو يقول: استوثقوا كما استوثقت جزر الغنم، أي شدوا وثاق بعضكم، وإذا رجل من المسلمين ينتظره، ولكن الكافر أفضل منه عدة وهيأة، فلم أزل أنتظرهما حتى التقيا، فضرب المسلم الكافر ضربة فبلغت وركه وتفرق فرقتين، ثم كشف المسلم عن وجهه وقال كيف ترى يا كعب؟! أنا أبو دجانة، وشيء مضحك يقصه أبو دجانة رضي الله عنه، يقول: رأيت يوم أحد إنساناً يُحمس الناس حمساً شديداً، فصمدت له، فلما حملت عليه بالسيف ولول، فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة، وكانت المرأة هي هند بنت عتبة، ومن نماذج أحد سعد بن أبي وقاص، رمى رضي الله عنه يوم أحد بألف سهم، ولهذا جمع له الرسول أبويه قائلاً: "يا سعد ارم فداك أبي وأمي" ورأى صلى الله عليه وسلم أم أيمن تسقي الجرحى، وإذا بعلج مشرك يرميها بسهم، وهو حبان ابن العرقة فلم يصب منها مقتلا ولكنها وقعت وتكشفت، فأغرق عدو الله في الضحك، ولننظر أمر أبي دجانة وهند وأم حبان وأم أيمن، نجد خلق الإسلام في الأول، وخلق الكفر في الثاني، ولكن شق على الرسول صلى الله عليه وسلم رؤية من قال لها يوماً:(10/467)
"أنت أمي بعد أمي" أن يقع لها ذلك، فدفع صلى الله عليه وسلم إلى سعد سهماً لا نصل له، وقال: ارم به، فرمى به سعد فغاص في نحر حبان، وسقط وتكشف أيضاً، فضحك صلوات الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال: "ستقاد لها سعد، أجاب الله دعوته" وعاش بعد ذلك سعد لا ترد له دعوة، ومن نماذج أحد عبد الله بن جحش رضي الله عنه، كيف لا، وهو أول من لقب بأمير المؤمنين، هو أول من أسر وغنم في الإسلام لما أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في رجب، على رأس سرية للقاء ابن الحضرمي ورجاله ببطن نخلة، فقهرهم وقتل ابن الحضرمي فعاب المشركون على المسلمين القتال في رجب الحرام، فنزل قوله تعالى يقر فعل المسلمين لما سئل النبي في ذلك: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} أي أمر كبير {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} فسر رضي الله عنه وقال هذه الأبيات الثلاثة:
تعدون قتلاً في الحرام عظيمة
وأعظم منه لو يرى ذلك راشد
صدودكم عما يقول محمد
وكفركم به والله راء وشاهد
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا
بنخلة لما أوقد الحرب واقد(10/468)
ولهذا مثلوا به بعد أن صال وجال في أحد، ودفنه الرسول بجانب خاله حمزة، فضم المكان الأسد والشبل معاً، ومن نماذجنا في هذا اليوم حاطب بن أبي بلتعة، يقول حاطب: لما رأيت ما فعل عتبة بن أبي وقاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أدمى وجهه، سألته، أين توجه عتبة؟ فأشار النبي إلى حيث توجه، فمضيت حتى ظفرت به، فضربته بالسيف فطرحت رأسه، ثم نزلت فأخذت فرسه وسيفه، وجئت به إلى سول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: "رضي الله عنك، رضي الله عنك، مرتين"، وآخر الأمثلة امرأة هي أم عمارة نسيبة بنت كعب، ويكفينا من قصتها الطويلة قول النبي صلى الله عليه وسلم عنها: "ما التفت يميناً ولا شمالاً يوم أحد إلا ورأيتها تقاتل دوني"، وقد خرجت يوم أحد مع زوجها وابنيها، فقال لهم الرسول: "بارك الله فيكم أهل بيت "فقالت أم عمارة: أدع الله أن نرافقك في الجنة، فقال: "اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة" وهنا قالت أم عمارة ما أبالي ما أصابني من أمر الدنيا، أصيبت يومها رضي الله عنها باثني عشر جرحاً، أما الكبار والمشاهير في أحد فالكل يعرفهم، وكفا ناساً مثلنا.
إخواني وأبنائي: ولما ركد غبار المعركة على كثيب الرمال وصخور الجبل العتيد، ظهرت هند على صخرة منه، وقالت على مسمع من رجالنا تشفي ما بصدرها الموتور:
نحن جزيناكم بيوم بدر
والحرب بعد الحرب ذات سعر
فشكر وحش عليّ عمري
حتى ترم أعظمي في قبري
شفيت وحشيا غليل صدري
أدركت ثأري وقضيت نذري
تقصد بالنذر ما فعلت بحمزة، فترفع الأباة عن الرد على امرأة، فانبرت لها هند أخرى مؤمنة، هي هند بنت أثاثة المنافية، قالت بنفس الروي:
خزيت في بدر وبعد بدر
يا بنت وقاع عظيم الكفر
صبحك الله غداة الفجر
بحمزة الليث وعلى الصقر
بكل قطاع حسام يفري
فنذرك السوء وشر نذر(10/469)
فدخلت مع الهنديين بنحو ما للذكر حظ الأنثيين، وإن كان بعض الحكام الذين يقال إنهم مسلمون، قد سلبوني هذا الحق وجعلوني كالمرأة، ومن يدري فقد يجعلون يوماً للأنثى مثل حظ الذكرين، وأظن ساعتها لو طالبت أن أتساوى بالمرأة لقتلوني وأحرقوني، ولكن لا مانع لديهم من مثل حظ الأنثيين في قول أبيات، لأن قصدهم خراب القلوب والبيوت، وليس الأبيات (نعود إلى موضوعنا مذكراً إياهم بما تعنيه هند المنافية بقولها خزيت في بدر وبعد بدر فقلت:
تعنين يا هند ببعد بدر
ما كان من عصماء رمز الشر
شق الضرير صدرها بالسيف
لم تعصم العصماء من عمير
وبعد بدر صار قينقاع [2]
هلكى جميعاً تلك عقبى الغدر
وبعد بدر حزَّ رأس الحقد
كعب بن غير الأشرف الأشر
وبعد بدر خلية السويق
عادت قريش بالأيادي الصفر
وبعد بدر ضربة في قرده
منها غنائمنا فاقت عن الحصر
لو قلت أيضاً بعدما في أحد
قد كان خيراً كامنا في ضر
من يومها يا هند عز الزند
لجند ربك في بر وفي بحر
فإن تريْ يا هند ثم رأيت
بنت الذي أرواه ليث البدر
في غزوة الفتح العظيم هلعى
فأمنها عفو الرسول البر
إن تسمعي أختاه ثم سمعت
قول النبي في حج أعز [3]
لن يعبد الشيطان بعد اليوم
في أرضكم وذاك وعد النصر(10/470)
أيها الجمع الفاضل: وبعد فراغ المسلمين من دفن شهدائهم، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يصطفوا ومعظمهم جرحى، قائلاً: "استووا حتى أُثْني على ربي فاستووا فقال: "اللهم لك الحمد، لا قابض لما بسطته، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، وملا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مباعد لما قربت، اللهم أبسط علينا من بركاتك ورحمتك، وفضلك ورزقك، اللهم إني أسألك النعم يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا، ومن شر ما منعت منا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق" رواه البخاري وأحمد، ولو لم يكن من مآثر أحد غير هذا الدعاء لكفى.(10/471)
الجمع الفاضل الكريم: لا نكابر معاذ الله فنقول: إن وهج معركة أحد لم يفلح وجوه أبطالنا، {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} وحتى لا يدرك الغرور المؤمنين بنصر دائم، بل منهم من اتخذه الله شهيداً، ومنهم من حصل على وسام شرف بجرح بل بجراح، كما نقر بأن انهزاماً وقع كما أسلفنا، والانهزام غير الهزيمة كما قلت، فالانهزام هو التراجع لأمر ما يقع أثناء القتال مع الاستمرار في المعركة، وهذا ما وقع في أحد، والهزيمة هي القهر والغلبة، فتستحيل المقاومة ويتم الاستسلام، وإلا فهل يسمى جيش أحد مهزوماً ولم يؤسر منه أحد، والمغلوب يسهل أسره، وإذا كنا قد أصبنا في أحد بقرح، فقد أصبناهم فيها أيضاً بقرح، وقد أثبتها القرآن بقوله: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} وأنا لست مع الذين فسروا {مِثْلُهُ} يعني في بدر، لأن الذي وقع في بدر كان مثلين نصّاً ولن يكون المثلان مثلاً واحداً، وإنما أنا مع الذين يقولون إنه في أحد، فمثله أي شبهه ونوعه، فإن كانوا قد قتلوا منكم فقد قتلتم منهم، وقتلى المشركين في أحد بلغوا سبعة وثلاثين، وإن كان قد وقع منكم انهزام أثناءها، فقد انهزموا أمامكم أولها، وهذا هو القرح الذي وقع للطرفي، قتل وانهزام، وهل يسمى هذا الجيش مهزوماً والنبي صلوات الله عليه يعطي لفاطمة رضي الله عنها سيفه، وهو ملوث بالدم النجس ويقول: "اغسلي عن هذا دمه يا بنية، فوالله لقد صدقني في هذا اليوم"، وعلي يعطيها سيفه وهو يقول: "هاك السيف حميداً"وهل يكون هذا الجيش مهزوماً وقد زحف ليستأنف القتال مع نفس الجيش الذي كان يقاتله ثاني يوم في حمراء الأسد، إنهم هزموا في بدر، ولم يستطيعوا القتال إلا بعد سنة، والعرب هزموا أخيراً في معركة سبعة وستين، ولم يستأنفوا القتال إلا بعد سنوات، ولكن جيش أحد اندفع بقوة ليقاتل نفس العدو وبعد ساعات، وحرص صلى الله عليه وسلم ألا يخرج معه إلا من كان(10/472)
في أحد، حتى لا يقال إنه جهز جيشاً جديداً أو دعمه بجنود أُخر، ولقد صدق عسكريوا اليوم عندما وصفوا أبا سفيان بأنه قائد فاهم لأسرار الحرب، لما لم يهاجم المدينة عقب معركة أحد، مع أنها أمنيته ليقضي على المدينة مصدر غيظهم، فأحجم عن هذا لعلمه بأن هزيمة بحقيقتها لم تقع، فجيش محمد لا زال سليماً وما هي إلا غلطة رماة ما يظنها تتكرر، ولهذا قال الرسول لعلي: "يا علي، اخرج في آثار القوم، فإن كانوا جنبوا الخيل وامتطوا الإبل، فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل، فإنهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده، لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها، ثم لأناجزنهم". قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل، ووجهوا إلى مكة، ولكن أبا سفيان توقف في حمراء الأسد، لينظر في قول مغروري جيشه عندما قالوا: لا محمد قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، بئسما صنعتم، ارجعوا فاستأصلوهم قبل أن يجدوا قوة وشوكة، وقبل أن يجمعوا أمرهم، كان النبي أسرع منهم يعسكر بجانبهم، وعندما علموا بذلك، كان الإجماع على الفرار وليس على الكرار وهكذا صنعت العقيدة بنحو سبعمائة ليخيفو أكثر من ثلاثة آلاف، واستحقوا عن حمراء الأسد ثناء ربهم عليهم بقوله: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} الآيات.(10/473)
الإخوة والأبناء: ونختم محاضرتنا بما نتم به قصدنا، فإن أفراداً معينين من المشركين كانوا هدفاً عظيماً لسيوف الصحابة، ولكن الله كف أيدي الصحابة عنهم، وكان ذلك من غيب أحد أظهره الله بعد، والآن نقدم بعض المثل، فخالد بن الوليد حال الله دون قتله ليكون بعد ذلك سيفه المسلول الذي لم يغمد أبداً، حتى إنه عند موته تحسر لأنه لم يلق الله شهيداً، وهكذا أفلت وهو مشرك، ليخلد وهو مسلم، وحال الله دون قتل عمرو بن العاص ليصبح فيما بعد داهية الحروب، وفاتح أرض الكنانة مصر، ومضيئها بنور الإسلام، وعكرمة ينجو من سيف أحد، ليخوض جهاداً رائعاً حتى يلحق بالشهداء الأحياء في اليرموك، وكثير من نوعه شمله هذا الحديث الشريف: "يضحك الله سبحانه وتعالى إلى رجلين، يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب على القاتل فيُسلم، فيستشهد". رواه كل من البخاري ومسلم، بل وصاحب الجريمة الشنعاء وحشي، يسلم ويجاهد، حتى يأتي يوم اليمامة فيقول: "اللهم اجعلني أقتل مُسَيْلِمَة في حمزة، وتستجاب دعوته، ويشترك في قتل مسيلمة ثم يقول: قتلت بحربتي هذه خير الناس بعد رسول الله، وقتلت بها شر الناس، يقصد حمزة ومسيلمة وقائد الشر يومها أبو سفيان، يأتي عليه يوم يشكوه أحد ضعفاء مكة إلى عمر بأنه حول ماءه إلى بستانه، فيأمره عمر بأن يضع يده في الطين ويحول الماء إلى صاحبه فيطيع، فيقول عمر مسروراً: الحمد لله الذي جعل أبا سفيان يطيع عمر ببطن مكة، فيجيب أبا سفيان أيضاً، والحمد لله الذي جعل أبا سفيان يطيع عمر بالإسلام، ولم يقف الأمر عند الرجال، فالمرأة التي كاد سيف أبي دجانة يشقها نصفين، بقيت لتبايع الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، وتنصرف من لدنه لتهشم صنماً لها في بيتها قائلة له: كنا منك في غرور وكما ذهبت يوم أحد لتحرض على قتل المسلمين، ذهبت إلى اليرموك لتحرض على قتل الكافرين، وأم حكيم التي كانت مع زوجها عكرمة(10/474)
استشهدت في اليرموك بعد أن قتلت سبعة من الروم بعمود خيمة، وبقية اللواتي كن في أحد، أسلمن وأصبحن صحابيات كريمات، كل ذلك وغيره، من عجائب أحد وغيبها الذي ظهر بعدها ألم يقل سبحانه لنبيه لما اشتد غضبه صلوات الله عليه منهم ساعتها.
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} ثم ألم يقل تعالى عن يومها أيضاً {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} ولقد علمنا الآن بعض غيب أحد، وبقية غيبها عند ربها فلنلزم مع غيبه الأدب.
سماحة الإمام رئيس الجامعة حضرات المسئولين معه، بقية الجمع الكريم من الأساتذة والضيوف والطلاب، بهذه الكلمات، حاولت أن أرد على الذين خاضوا في هذه الغزوة، منتهزين الظرف الصعب الذي يمر الآن بالأمة الإسلامية، ولكم أتمنى أن تنبري أقلام هي أقدر منا على تصحيح ما شوهه الجهل أو سوء القصد من تاريخنا، فنسد المسالك على مثل من ابتلوا بهزيمة العقيدة قبل أن يلصقوها بأحد، فحرب الكلام اليوم أصبح أقوى من حرب السهام، وكلمة حق أقولها إن جامعتنا هذه لها من ذلك جولات موفقة لا تنكر، رغم ظهورها في زمان أصبح السلطان فيه للشيطان، وهاهي تكبر وتعظم، ومسئولية القائمين عليها تكبر وتعظم، والمستعان هو الله، يمدهم ويمدنا جميعاً بما يرضيه عنا.
فيا رسول الله تقديراً منا وإكباراً لجهادك وجهاد أصحابك الميامين، وقتل الخراصون، ومن يريدون أن نعطى الدنية في ديننا، وسلام على إبطال أحد في العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
على العاقل
قال أبو ذر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان في صحف إبراهيم: "وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن تكون له ساعات، ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يتفكر فيها في صنع الله تعال، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب.(10/475)
وعلى العقل أن لا يكون ظاعناً إلا لثلاث، تزود لمعاد، أو حرفة لمعاش، أو لذة في غير محرم.
وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه".
رواه ابن حيان في صحيحه
--------------------------------------------------------------------------------
[1] هكذا في الأصل ولعل الصواب قل لي.
[2] على تقدير المضاف (بنو)
[3] حجة الوداع.(10/476)
العدد 30
فهرس المحتويات
1- الله خالق كل شيء وما سواه مخلوق: لسماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز
2- من أعلام المحدثين - الحافظ ابن حجر العسقلاني (773 - 825 هـ) : بقلم الأستاذ عبد المحسن بن حمد العباد
3- أضواء من التفسير: لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
4- من أضاليل القاديانية (2) : لفضيلة الشيخ عبد الغفار حسن
5- استقبال المسلمين لرمضان: لفضيلة الشيخ عطية محمد سالم
6- تعقيب على محاضرة: لفضيلة الشيخ محمد بخيت
7- رسائل لم يحملها البريد: لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
8- أثر العقيدة في الفن الإسلامي: بقلم الأستاذ رياض صالح جنزرلي
9- مشاهداتي في أوروبا والأمريكيتين وما حولهما: لفضيلة الشيخ سعد ندا
10- تنزيه الأصحاب عن تنقص أبي تراب: تأليف الفقير إلى الله تعالى حمود بن عبد الله التويجري
11- حجية السنة النبوية ومكانتها في التشريع الإسلامي: لفضيلة الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي
12- هل أنت مدمن فيتامينات؟ : لسعادة الدكتور سيد أحمد عبد البر
13- محنة الإسلام في الصومال: لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
14- نداء من رابطة العالم الإسلامي
15- حكم الإسلام في القاديانيين: بقلم فضيلة الشيخ عبد العزيز القويفلي
16- ظواهر رهيبة: لفضيلة الشيخ محمد مجذوب
17- مؤتمر وقف رسالة الإسلام: لفضيلة الشيخ إقبال شودري
18- أمة واحدة: بقلم بنت الشاطئ
19- الرابطة تستنكر المحاولات الهدامة لتشويه حقَائِق الإسلام
20- رسالة من شيخ الأزهر إلى المدير العام لمنظمة اليونسكو بشأن كتاب (تاريخ البشرية)
لشيخ الأزهر دكتور عبد الحليم محمود
21- الوجود الشيوعي الكريه في مصر: للأستاذ محمد عبد الله السمان
22- من حضارتنا الإسلامية: من بحث الأستاذ ظافر القاسمي في (المجلة العربية)
23- جواب مستفت: لسماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز
24- أخبار الجامعة - نظام الجامعة الإسلامية الجديد
25- إن الحكم إلا لله: مجلة المسلم المعاصر
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(10/477)
الله خالق كل شيء وما سواه مخلوق
لسماحة رئيس الجامعة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه
أما بعد فقد كتب إليَّ بعض الإخوان يذكر أنه ألقى إليه بعض زملائه شبهة قائلا إنه يعترف أن الله سبحانه هو خالق السموات والأرض والعرش والكرسي وكل شيء ولكنه يسأل قائلا: "الله ممن تكون؟ ". فأجابه بقوله له: "كلامك الأول صحيح لا تعليق عليه أما قولك الثاني وهو قولك الله ممن تكون؟ فلا يقوله مسلم وينبغي أن يسعك ما وسع الصحابة رضي الله عنهم فإنهم لم يسألوا مثل هذا السؤال وهم الفطاحل في العلم". وقال له أيضا: "إن الله سبحانه قال عن نفسه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وقال: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} إلى آخر ما ذكره ورغب إليَّ في الإجابة عن هذه الشبهة فأجبته عن ذلك بما نصه:(10/478)
اعلم وفقني الله وإياك وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه أن شياطين الإنس والجن لم يزالوا ولن يزالوا يوردون الكثير من الشبه على أهل الإسلام وغيرهم للتشكيك في الحق وإخراج المسلم من النور إلى الظلمات وتثبيت الكافر على عقيدته الباطلة وما ذاك إلا ما سبق في علم الله وقدره السابق من جعل هذه الدار دار ابتلاء وامتحان وصراع بين الحق والباطل حتى يتبين طالب الهدى من غيره وحتى يتبين الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق كما قال سبحانه: {ألم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} . وقال سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} . وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُون} . وقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ. وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} . فأوضح سبحانه في الآيات الأولى والثانية والثالثة أنه يبتلي مدعي الإيمان بشيء من الفتن ليتبين صدقه في إيمانه وعدمه.(10/479)
وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك بمن مضى ليعلم سبحانه الصادقين من الكاذبين. وهذه الفتنة تشمل فتنة المال والفقر والمرض والصحة والعدو، وما يلقي الشياطين من الإنس والجن من أنواع الشبه وغير ذلك من أنواع الفتن، فيتبن بعد ذلك الصادق في إيمانه من الكاذب. ويعلم الله ذلك علما ظاهرا موجودا في الخارج بعد علمه السابق؛ لأنه سبحانه قد سبق في علمه كل شيء كما قال عز وجل {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة". قال: "وعرشه على الماء". أخرجه مسلم في صحيحه. ولكنه عز وجل لا يؤاخذ العباد بمقتضى علمه السابق وإنما يؤاخذهم ويثيبهم على ما يعلمه منهم بعد عملهم إياه ووجوده منهم في الخارج وذكر في الآيات الرابعة والخامسة والسادسة أن الشياطين يوحون إلى أوليائهم من أنواع الشبه وزخرف القول ما يغرونهم به ليجادلوا به أهل الحق ويشبهوا به على أهل الإيمان، ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوا به فيصُولوا ويجولوا ويلبسوا الحق بالباطل ليشككوا الناس في الحق ويصدوهم عن الهدى وما الله بغافل عما يعملون لكن من رحمته عز وجل أن قيض لهؤلاء الشياطين وأوليائهم من يكشف باطلهم ويزيح شبهتهم بالحجج الدامغة والبراهين القاطعة فيقيموا بذلك الحجة ويقطعوا المعذرة وأنزل كتابه سبحانه تبيانا لكل شيء كما قال عز وجل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} . وقال سبحانه: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} . قال بعض السلف: "هذه الآية عامة لكل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة". وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن بعض الصحابة رضي الله عنهم قالوا للنبي صلى(10/480)
الله عليه وسلم: "يا رسول الله إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به". قال: "وقد وجدتموه". قالوا: "نعم". قال: "ذاك صريح الإيمان". قال بعض أهل العلم في تفسير ذلك: "إن الإنسان قد يوقع الشيطان في نفسه من الشكوك والوساوس ما يصعب عليه أن ينطق به لعظم بشاعته ونكارته حتى إن خروره من السماء أهون عليه من أن ينطق به فاستنكار العبد لهذه الوساوس واستعظامه إياها ومحاربته لها هو صريح الإيمان لأن إيمانه الصادق بالله عز وجل وبكماله وبكمال أسمائه وصفاته وأنه لا شبيه له ولا ند له وأنه الخلاق العليم الحكيم الخبير يقتضي منه إنكار هذه الشكوك والوساوس ومحاربتها واعتقاد بطلانها". ولا شك أن ما ذكره لك هذا الزميل من جملة الوساوس وقد أحسنت في جوابه ووفقت للصواب فيما رددت به عليه زادك الله علما وتوفيقاً.
وأنا أذكر لك إن شاء الله في هذا الجواب بعض ما ورد في هذه المسألة من الأحاديث وبعض كلام أهل العلم عليها لعله يتضح لك من ذلك وللزميل المبتلى بالشبهة التي ذكرت ما يكشف الشبهة ويبطلها ويوضح الحق ويبين ما يجب على المؤمن أن يقوله ويعتمده عند ورود مثل هذه الشبهة ثم أختم ذلك بما يفتح الله عليَّ في هذا المقام العظيم وهو سبحانه ولي التوفيق والهادي إلى سواء السبيل.(10/481)
قال الإمام البخاري رحمه الله في كتابه الجامع الصحيح (ص 336) من المجلد السادس من فتح الباري طبعة المطبعة السلفية في باب صفة إبليس وجنوده: "حدثنا يحي بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير قال أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا من خلق كذا حتى يقول من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته". ثم رواه في كتاب الاعتصام (ص 264) من المجلد الثالث عشر من فتح الباري: "عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا هذا الله خالق كل شيء فمن خلق الله" انتهى. وأخرج مسلم في صحيحه اللفظ الأول من حديث أبي هريرة (ص 154) من الجزء الثاني من المجلد الأول من شرح مسلم للنووي رحمه الله. وأخرجه مسلم أيضا بلفظ آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله؟. فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله ورسوله". ثم ساقه بألفاظ أخر ثم رواه من حديث أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال الله عز وجل: "إن أمتك لا يزالون يقولون ما كذا وما كذا حتى يقولوا هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله". وخرَّج مسلم أيضا رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال: "وقد وجدتموه". قالوا: "نعم". قال: "ذاك صريح الإيمان". ثم رواه من حديث بن مسعود رضي الله عنه قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة قال: "تلك محض الإيمان". قال النووي رحمه الله في شرح مسلم لما ذكر هذه الأحاديث ما نصه:(10/482)
"أما معاني الأحاديث وفقهها فقوله صلى الله عليه وسلم: "ذلك صريح الإيمان" و"محض الإيمان" معناه استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلا عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالا محققاً وانتفت عنه الريبة والشكوك. واعلم أن الرواية الثانية وإن لم يكن فيها ذكر الاستعظام فهو مراد وهي مختصرة من الرواية الأولى ولهذا قدم مسلم رحمه الله الرواية الأولى. وقيل معناه أن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغوائه فينكد عليه بالوسوسة لعجزه عن إغوائه.
وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء ولا يقتصر في حقه على الوسوسة بل يتلاعب به كيف أراد فعلى هذا معنى الحديث سبب الوسوسة محض الإيمان أو الوسوسة علامة محض الإيمان وهذا القول اختيار القاضي عياض.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن وجد ذلك فليقل آمنت بالله". وفي الروية الأخرى: "فليستعذ بالله ولينته". فمعناه الإعراض عن هذا الخاطر الباطل والالتجاء إلى الله تعالى في إذهابه، قال الإمام المازري رحمه الله: "ظاهر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها والرد لها من غير استدلال ولا نظر في إبطالها". قال: "والذي يقال في هذا المعنى أن الخواطر على قسمين فأما التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تدفع بالإعراض عنها وعلى هذا يحمل الحديث وعلى مثلها ينطلق اسم الوسوسة فكأنه لما كان أمرا طارئا بغير أصل دفع بغير نظر في دليل إذ لا أصل له ينظر فيه وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فإنها لا تُدفع إلا بالاستدلال والنظر في إبطالها والله أعلم".(10/483)
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فليستعذ بالله ولينته" فمعناه إذا عرض له هذا الوسواس فليلجأ إلى الله تعالى في دفع شره عنه وليُعْرِض عن الفكر في ذلك وليعلم أن هذا لخاطر من وسوسة الشيطان وهو إنما يسعى بالفساد والإغواء فليُعْرِض عن الإصغاء إلى وسوسته وليبادر إلى قطعها بالاشتغال بغيرها والله أعلم".
وقال الحافظ في الفتح في الكلام على حديث أبي هريرة المذكور في أول هذا الجواب ما نصه: "قوله: "من خلق ربك فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته" أي عن الاسترسال معه في ذلك، بل يلجأ إلى الله في دفعه، ويعلم أنه يريد إفساد دينه وعقله بهذه الوسوسة، فينبغي أن يجتهد في دفعها بالاشتغال بغيرها، قال الخطابي: "وجه هذا الحديث أن الشيطان إذا وسوس بذلك فاستعاذ الشخص بالله منه وكفَّ عن مطاولته في ذلك اندفع"، قال: "وهذا بخلاف ما لو تعرض أحد من البشر بذلك فإنه يمكن قطعه بالحجة والبرهان"، قال: "والفرق بينهما أن الآدمي يقع منه كلام بالسؤال والجواب والحال معه محصور فإذا راعى الطرقة وأصاب الحجة انقطع، وأما الشيطان فليس لوسوسته انتهاء، بل كلما أُلزم حجة زاغ إلى غيرها إلى أن يفضي بالمرء إلى الحيرة، نعوذ بالله من ذلك".
قال الخطابي: "على أن قوله: "من خلق ربك" كلام متهافت ينقض آخره أوله؛ لأن الخالق يستحيل أن يكون مخلوقا ثم لو كان السؤال متجها لاستلزم التسلسل وهو محال وقد أثبت العقل أن المحدثات مفتقرة إلى محدث، فلو كان هو مفتقرا إلى محدث لكان من المحدثات"انتهى. والذي نحا إليه من التفرقة بين وسوسة الشيطان ومخاطبة البشر فيه نظر؛ لأنه ثبت في مسلم من طريق هشام بن عروة عن أبيه في هذا الحديث: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله". فسوى في الكف عن الخوض في ذلك بين كل سائل عن ذلك من بشر وغيره.(10/484)
وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة قال: "سألني عنها اثنان"، وكان السؤال عن ذلك لما كان واهيا لم يسحق جوابا، أو كف عن ذلك نظير الأمر بالكف عن الخوض في الصفات والذات، قال المازري: "الخواطر على قسمي: فالتي لا تستقر ولا يجلبها شبهة هي التي تندفع بالإعراض عنها، وعلى هذا ينزل الحديث، وعلى مثلها ينطلق اسم وسوسة وأما الخواطر المستقرة الناشئة عن الشبهة فهي التي لا تندفع إلا بالنظر ولاستدلال. وقال الطيبي: "إنما أمر بالاستعاذة والاشتغال بأمر آخر ولم يأمر بالتأمل والاحتجاج لأن العلم باستغناء الله جل وعلا عن الموجد أمر ضروري لا يقبل المناظرة ولأن الاسترسال في الفكر في ذلك لا يزيد المرء إلا حيرة، ومن هذا حاله فلا علاج له إلا الملجأ إلى الله تعالى والاعتصام به وفي الحديث إشارة إلى ذم كثرة السؤال عما لا يعني المرء وعما هو مستغن عنه وفيه عَلم من أعلام النبوة لإخباره بوقوع ما سيقع فوقع". انتهى كلام ابن حجر(10/485)
وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في كتابه موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول: "ولفظ "التسلسل"يراد به التسلسل في المؤثرات - وهو أن يكون للحادث فاعل وللفاعل فاعل - وهذا باطل بصريح العقل واتفاق العقلاء وهذا هو التسلسل الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يستعاذ بالله منه، وأمر بالانتهاء عنه، وأن يقول القائل: "آمنت بالله ورسوله" كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته". وفي رواية: "لا يزال الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟. قال: فبينا أنا في المسجد إذ جاءني ناس من الأعراب فقالوا: "يا أبا هريرة هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ ". قال: "فأخذ حصى بكفه فرماهم به". ثم قال: "قوموا، قوموا، صدق خليلي". وفي الصحيح أيضا عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله: إن أمتك ليزالون يسألون: ما كذا؟ ما كذا؟ حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ ". انتهى المقصود من كلام الشيخ رحمه الله ولعله يتضح لك أيها السائل ولزميلك الذي أورد عليك الشبهة مما ذكرنا من الآيات والأحاديث وكلام أهل العلم ما يزيل الشبهة ويقضي عليها من أساسها ويبين بطلانها لأن الله سبحانه لا شبيه له ولا كفو له ولا ند له وهو الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وهو الخالق لكل شيء وما سواه مخلوق وقد أخبرنا في كتابه المبين وعلى لسان رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم بما يجب اعتقاده في حقه سبحانه وبما يعرفنا به ويدلنا عليه من أسمائه وصفاته وآياته المشاهدة من سماء وأرض وجبال وبحار وأنهار وغير ذلك من مخلوقاته عز وجل من جملة ذلك نفس الإنسان فإنها من آيات الله الدالة على قدرته وعظمته وكمال علمه وحكمته.(10/486)
كما قال عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} وقال تعالى: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} . أما كنه ذاته وكيفيتها وكيفية صفاته فذلك من علم الغيب الذي لم يطلعنا عليه فالواجب علينا فيه الإيمان والتسليم وعدم الخوض في ذلك كما وسع ذلك سلفنا الصالح من الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان فإنهم لم يخوضوا في ذلك ولم يسألوا عنه بل آمنوا بالله سبحانه وبما أخبر به عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ولم يزيدوا على ذلك مع إيمانهم بأنه سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وعلى كل من وجد شيئا من هذه الوساوس أو ألقي إليه شيء منها أن يستعظمها وينكرها من أعماق قلبه إنكارا شديدا وأن يقول آمنت بالله ورسله وأن يستعذ بالله من نزغات الشيطان وأن ينتهي عنها ويطرحها كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك في الأحاديث السابقة وأخبر أن استعظامها وإنكارها هو صريح الإيمان وعليه أن لا يتمادى مع السائلين في هذا الباب لأن ذلك قد يفضي إلى شر كثير وإلى شكوك لا تنتهي فأحسن علاج للقضاء على ذلك والسلامة منه هو امتثال ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم والتمسك به والتعويل عليه وعدم الخوض في ذلك وهذا هو الموافق لقول الله عز وجل: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فالاستعاذة بالله سبحانه واللجوء إليه وعدم الخوض فيما أحدثه الموسوسون وأرباب الكلام الباطل من الفلاسفة ومن سلك سبيلهم في الخوض في باب أسماء الله وصفاته وما استأثر الله بعلمه من غير حجة ولا برهان هو سبيل أهل الحق والإيمان وهو طريق السلامة والنجاة والعافية من مكايد شياطين الإنس والجن وفقني الله وإياك وسائر المسلمين للسلامة من مكائدهم ولهذا(10/487)
لما سأل بعض الناس أبا هريرة رضي الله عنه عن هذه الوسوسة حصبهم بالحصباء ولم يجبهم على سؤالهم وقال: "صدق خليلي". ومن أهم ما ينبغي للمؤمن في هذا الباب أن يكثر من تلاوة القرآن الكريم وتدبره لأن فيه من بيان صفات الله وعظمته وأدلة وجوده وكماله ما يملأ القلوب إيمانا ومحبة وتعظيما واعتقادا جازما بأنه سبحانه هو رب كل شيء ومليكه وأنه الخالق لكل شيء والعالم بكل شيء والقادر على كل شيء لا إله غيره ولا رب سواه كما ينبغي للمؤمن أيضا أن يكثر من سؤال الله المزيد من العلم النافع والبصر النافذ والثبات على الحق والعافية من الزيغ بعد الهدى فإنه سبحانه قد وجه عباده إلى سؤاله ورغبهم في ذلك ووعدهم الإجابة كما قال عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} . والآيات في هذا المعنى كثيرة. وأسأل الله أن يوفقنا وإياك وزميلك وسائر المسلمين للفقه في الدين والثبات عليه وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن ومن مكايد شياطين الإنس والجن ووساوسهم إنه ولي ذلك والقادر عليه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.(10/488)
تنزيه الأصحاب عن تنقص أبي تراب
تأليف الفقير إلى الله تعالى حمود بن عبد الله التويجري غفر الله له ولوالديه
الحمد لله نحمده ونستعينه. ونستغفره ونتوب إليه. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له. ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمد عبده ورسوله وخيرته من خلقه. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير الأمة وأتقاها. وأعلمها وأهداها. وعلى أتباعهم الذين ورثوا علمهم وساروا على نهجهم القويم. وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد فقد رأيت مقالا لأبي تراب الظاهري تعرض فيه للغض من الصحابة عامة ومن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما خاصة. وهذا المقال السيئ منشور في جريدة عكاظ في عدد (3163) - السبت - 13محرم سنة 1395هـ.
والتعرض للصحابة رضي الله عنهم بالكلام الذي يقتضي التنقص لهم والغض منهم لا يصدر إلا من جاهل أو مبغض للصحابة.(10/489)
وقد ورد الوعيد على ذلك. فروى الترمذي في جامعه عن عبد الله بن المغفل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه". وروى أبو نعيم في الحلية عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شرار أمتي أجرؤهم على صحابتي". وروى الطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكر أصحابي فأمسكوا". وقال محمد ابن سيرين: "ما أظن رجلا ينتقص أبا بكر وعمر يحب النبي صلى الله عليه وسلم"رواه الترمذي وقال هذا الحديث غريب حسن. وروى أبو نعيم في الحلية من حديث شعبة عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء أو عن زيد بن وهب أن سويد بن غفلة دخل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه في إمارته فقال: "يا أمير المؤمنين إني مررت بنفر يذكرون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بغير الذي هما أهل له من الإسلام"فنهض إلى المنبر وهو قابض على يدي فقال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن فاضل ولا يبغضهما ويخالفهما إلا شقي مارق فحبهما قربة وبغضهما مروق. ما بال أقوام يذكرون أخوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه وصاحبيه وسيدي قريش وأبوي المسلمين فأنا بريء ممن يذكرهما وله معاقب".(10/490)
وإذا علم ما في هذه الأحاديث تحريم عيب الصحابة عامة وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما خاصة وتحريم أذيتهم والتعرض لما فيه تنقص لهم وغض من قدراتهم وعلم أيضاً أنه لا يتجرأ على الكلام في الصحابة إلا شرار هذه الأمة فليعلم أيضا أن الصحابة رضي الله عنهم أجل قدرا وأكثر علما وأقوى إيمانا ممن بعدهم إلى آخر الدهر فينبغي إجلالهم وتوقيرهم واحترامهم وتفضيلهم على من سواهم من سائر هذه الأمة. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "من كان مستنا فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدى المستقيم والله رب الكعبة"رواه أبو نعيم في الحلية.
وروى رزين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه نحوه وإذا علم هذا ففي كلام أبي تراب خمسة مواضع زل فيها عن الحق والصواب وقد رأيت أن أنبه على زلاته لئلا يغتر بها من لم يعرف قدر الصحابة وفضلهم على سائر الصحابة وفضلهم على سائر الأمة.
الموضع الأول: زعم أبو تراب أن أمهات المؤمنين أفضل من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
والجواب أن يقال: هذا خطأ مخالف للأحاديث الكثيرة عن النبي صلى اله عليه وسلم ومخالف لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على تفضيل أبي بكر ثم عمر على سائر الأمة.(10/491)
فأما الأحاديث فالأول منها ما رواه الإمام أحمد والطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة بعد طلوع الشمس فقال: "رأيت قبيل الفجر كأني أعطيت المقاليد والموازين فأما المقاليد فهذه المفاتيح وأما الموازين فهذه التي يوزن بها فوضعت في كفة ووضعت أمتي فوزنت بهم فرجحت ثم جيء بأبي بكر فوزن بهم فرجح بهم ثم جيء بعمر فوزن بهم فرجح بهم ثم جيء بعثمان فوضع في كفة ووضعت أمتي في كفة فرجح بهم ثم رفعت" هذا لفظ الطبراني قال الهيثمي ورجاله ثقات.
وروى الإمام أحمد والطبراني أيضاً عن أبي إمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وروى الطبراني أيضاً عن معاذ بن جبل وعرفجة وأسامة بن شريك رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك أيضاً وفي هذه الأحاديث أوضح دليل على أن عمر رضي الله عنه أفضل من أمهات المؤمنين ومن سائر هذه الأمة سوى أبي بكر رضي الله عنه فإنه أفضل من عمر رضي الله عنه. وفيها أبلغ رد على أبي تراب حيث فضل أمهات المؤمنين على عمر رضي الله عنه بغير دليل بل بمجرد الظن المخالف للأدلة الصحيحة.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع أبو بكر وعمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين يا علي لا تخبرهما" رواه الترمذي وابن ماجة وعبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند وإسناده حسن وهذا لفظ الترمذي. ولفظ عبد الله قال: كنت عند النبي صلى الله عليه سلم فأقبل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فقال: "يا علي هؤلاء سيدا كهول أهل الجنة وشبابها بعد النبيين والمرسلين" قال الترمذي: وفي الباب عن أنس وابن عباس رضي الله عنهم.(10/492)
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: "هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين لا تخبرهما يا علي" رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب.
وعن أببي جحيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين" رواه ابن ماجة بإسناد حسن وابن حبان في صحيحه.
وروى البزار والطبراني عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وروى الطبراني أيضا عن ابن عمر وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذلك أيضاً.
وفي هذه الأحاديث أوضح دليل على أن أفضل هذه الأمة أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وفيها أبلغ رد على أبي تراب فيما شذ به من تفضيل أمهات المؤمنين على عمر رضي الله عنه.
وعن عبد الله بن حنطب رضي الله عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقال: "هذان السمع والبصر" رواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح الإسناد.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي إلا وله وزيران من أهل السماء ووزيران من أهل الأرض فأما وزيراي من أهل السماء فجبريل ومكائيل وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر" رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من تنشق عنه الأرض ثم أبو بكر ثم عمر ثم آتي أهل البقيع فيحشرون معي ثم أنتظر أهل مكة حتى أحشر بين الحرمين"رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه مختصرا وقال الترمذي هذا الحديث حسن غريب وقال الحاكم صحيح الإسناد.(10/493)
وفي هذا الحديث والحديثين قبله أوضح دليل على أن أفضل هذه الأمة أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وفيها أبلغ رد على أبي تراب فيما شذ به من تفضيل أمهات المؤمنين على عمر رضي الله عنه.
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب" رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم في مستدركه وقال الترمذي حديث حسن غريب وقال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وفي هذا الحديث فضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه، والأحاديث في فضل عمر رضي الله عنه كثيرة جدا وفيما ذكرته ههنا كفاية في الرد على أبي تراب وبيان خطئه وشذوذه حيث فضل أمهات المؤمنين على عمر رضي الله عنه.(10/494)
وأما إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تفضيل أبي بكر ثم عمر رضي الله عنهما على سائر الأمة فرواه البخاري في صحيحه وأبو داود والترمذي وعبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب السنة عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم". هذا لفظ البخاري في إحدى الروايتين وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب. وفي الرواية الأخرى عند البخاري قال: "كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم". ورواه أبو داود بهذه الزيادة. وعند عبد الله بن الإمام أحمد: "ثم لا نفاضل أحدا على أحد". وفي رواية له: "يبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره علينا". وفي رواية له ولأبي داود عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: "كنا نقول - ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي - أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان". وروى الإمام أحمد في مسنده وابنه عبد الله في كتاب السنة من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا نعد -ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي وأصحابه متوافرون - أبو بكر وعمر وعثمان ثم نسكت". وروى عبد الله أيضاً في كتاب السنة من حديث عمر بن أسيد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كنا نقول في زمن النبي صلى الله عليه وسلم: رسول الله خير الناس ثم أبو بكر ثم عمر". وروى عبد الله أيضا في كتاب السنة عن أبي هريرة قال: "كنا نعد - وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون - خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر". ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده ولفظه قال: "كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن متوافرون نقول أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت". وروى البخاري في(10/495)
صحيحه وأبو داود في سننه وعبد الله الإمام أحمد في كتاب السنة عن محمد بن الحنفية قال: "قلت لأبي أيُّ الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أبو بكر..قلت ثم من؟ قال: ثم عمر..وخشيت أن يقول عثمان قلت ثم أنت قال ما أنا إلا رجل من المسلمين". وروى الإمام أحمد وابنه عبد الله في زوائد المسند وفي كتاب السنة من طرق الكثير وابن ماجة عن علي رضي الله عنه أنه قال: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر"وفي بعض الروايات عند الإمام أحمد وابنه عبد الله عن أبي جحيفة وعبد خير عن علي رضي الله عنه أنه قال: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وخيرها بعد أبي بكر عمر ولو شئت سميت الثالث". وروى أبو نعيم في الحلية من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه قال: "خطبنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه على منبر الكوفة فقال: ألا إن خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ولو شئت أن أخبركم بالثالث لأخبرتكم ثم نزل من المنبر وهو يقول عثمان عثمان".
وروى أبو نعيم أيضاً من حديث سويد مولى آل عمر وابن حريث قال: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول على المنبر: "إن أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان". وروى الإمام أحمد في مسنده وابنه عبد الله في كتاب السنة والحاكم في مستدركه عن علي رضي الله عنه قال: "سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى أبو بكر وثلث عمر ثم خبطتنا فتنة ويعفو الله عمن يشاء". قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
قال الجوهري: "المصلي تالي السابق". قال أبو عبيد: "وأصل هذا في الخيل فالسابق الأول والمصلي الثاني قيل له مصل لأنه يكون عند صلا الأول وصلاه جانبا ذنبه عن يمينه وشماله ثم يتلو الثالث". انتهى.(10/496)
وعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما أنه قال: "من فضل على أبي بكر وعمر أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أزرى على المهاجرين والأنصار واثني عشر ألفا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم"ورواه الطبراني في الأوسط. قال الهيثمي: وفيه حازم بن جبلة ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب الزهد حدثني أبو معمر حدثنا ابن أبي حازم قال: "جاء رجل إلى علي بن الحسين فقال: "ما كان منزلة أبي بكر وعمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: "كمنزلتهما منه الساعة". وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه عبد الله وابن أبي حازم لم أعرفه وشيخ عبد الله ثقة.
وقال مسروق: "حب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ومعرفة فضلهما من السنة". ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب.
وقال القرطبي في المفهم: "المقطوع به بين أهل السنة أفضلية أبي بكر ثم عمر".
وإذا علم ما ذكرنا من إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تفضيل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم على سائر الأمة وأنهم لم يستثنوا في إجماعهم خصلة من خصال الفضل لا العلم ولا غيره. وعلم أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبلغه قول أصحابه في تفضيل أبي بكر ثم عمر ثم عثمان فلا ينكره. وعلم أيضاً ما حكاه القرطبي عن أهل السنة من تفضيل أبي بكر ثم عمر. فليعلم أيضاً أنه لم يخالف إجماع الصحابة وأهل السنة من بعدهم سوى الروافض الذين يفضلون عليا وأهل بيته على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقد سلك أبو تراب طريقة تشبه طريقة الروافض في تفضيله أمهات المؤمنين على عمر رضي الله عنه فخالف السنة والإجماع وشذ عن طريق أهل السنة والجماعة وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية.(10/497)
وممن خرق الإجماع أيضاً أبو محمد ابن حزم، قال الحافظ الذهبي في ترجمة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في كتاب تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والأعلام: "ومن عجيب ما ورد أن أبا محمد ابن حزم مع كونه أعلم أهل زمانه ذهب إلى أن عائشة أفضل من أبيها. وهذا مما خرق به الإجماع"انتهى.
الموضع الثاني: زعم أبو تراب أن أبا هريرة رضي الله عنه غلب الصحابة كلهم بعلمه وغزارة حفظه لحديث المصطفى. قال: "وهذا معاذ بن جبل وابن مسعود وعلى بن أبى طالب كانوا أفقه من عمر وهو يشهد بذلك ولكنهم لم يكونوا أفضل منه".
والجواب أن يقال لاشك أن أبا هريرة رضى الله عنه كان من علماء الصحابة وحفاظهم وقد حفظ عن النبي عليه الصلاة والسلام علما كثيرا. وكذلك على بن أبي طالب ومعاذ بن جبل وابن مسعود رضي الله عنهم ولكنهم مع ذلك لم يكونوا مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في العلم فقد كانا يفوقان غيرهما من الصحابة في العلم وفي جميع الفضائل. وسيأتي ذكر ما لهما من المزايا في كلام شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية إن شاء الله تعالى.
وقد شهد حبر الأمة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لعمر رضي الله عنه بغزارة العلم وشهد له بذلك أيضا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وسعيد ابن المسيب وعمر وبن ميمون وإبراهيم النخعي. وسيأتي ذكر أقوالهم إن شاء الله تعالى.
وقد امتاز عمر رضي الله عنه بخصال لم تكن لمن بعده من الصحابة فضلا عن غيرهم. وهي من أوضح الأدلة على غزارة علمه وأن عليا ومعاذ وابن مسعود وابن عمر وأبا هريرة رضي الله عنهم لا يقاسون به في العلم فضلا عن أن يكونوا أعلم منه ... منها أنه وافق ربه أو وافقه ربه في عدة مواضع مذكورة في الصحاح وغيرها وسيأتي حديث ابن عمر رضي الله عنهما وفيه قال ابن عمر رضي الله عنهما: "ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال فيه عمر إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر".(10/498)
ومنها أنه استنبط الأمر الذي أشكل على أصحاب النبي صلى الله وسلم وخفي عليهم وذلك حين حلف رسول الله عليه وسلم أن لا يدخل على نسائه شهرا فقال الناس طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه, فاستأذن عمر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له أطلقت نساءك؟ فقال:"لا" فقام عمر رضي الله عنه على باب المسجد ونادى بأعلى صوته لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ونزلت الآية: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} قال عمر رضي الله عنه: "فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر". والحديث بذالك في صحيح مسلم.
وفي هذه القصة فضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه ودليل على أنه من أكبر أولي الأمر الذين نوَّه الله بهم في هذه الآية الكريمة.
ومنها أن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه وقد جاء في ذلك عدة أحاديث. الأول منها عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل جعل الحق على لسان عمر وقلبه" قال وقال ابن عمر رضي الله عنهما: "ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال فيه عمر إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر". رواه الإمام أحمد والترمذي وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب. قال وفي الباب عن الفضل بن عباس وأبي ذر وأبي هريرة رضي الله عنهم. وفي رواية لابن حبان: "إن الله جعل الحق على لسان عمر يقول به".
الحديث الثاني عن أبي ذر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به" رواه ابن ماجة.(10/499)
وقد رواه الحاكم في مستدركه ولفظه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقال الذهبي في تلخيصه على شرط مسلم.
الحديث الثالث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل الحق على لسان عمرو قلبه" رواه الإمام أحمد والبزار والطبراني في الأوسط قال الهيثمي ورجال البزار رجال الصحيح غير الجهم بن أبي الجهم وهو ثقة.
الحديث الرابع عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله وضع الحق على لسان عمر وقلبه يقول به" رواه الطبراني في الأوسط قال الهيثمي وفيه علي بن سعيد العكامري ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح.
الحديث الخامس عن بلال رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" رواه الطبراني.
الحديث السادس عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه" رواه الطبراني. وهذا الحديث والذي قبله ضعيفان وما قبلهما من الأحاديث يشهد لهما ويقويهما.
وفي هذه الأحاديث أوضح دليل على أنه لم يكن في الصحابة بعد أبي بكر أعلم من عمر لأن الله تعالى جعل الحق على لسانه وقلبه يقول به ومن كان كذلك فلا بد أن يكون أعلم ممن لم يجعل الله الحق على لسانه وقلبه. وفيها أبلغ رد على أبي تراب حيث زعم أن أبا هريرة رضي الله عنه قد غلب الصحابة كلهم بعلمه ومنهم عمر رضي الله عنه وأن عليا ومعاذ وابن مسعود رضي الله عنهم كانوا أفقه من عمر رضي الله عنه.(10/500)
ومنها ما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر" وفي رواية: "لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يكن من أمتي منهم أحد فعمر". وفي صحيح مسلم وجامع الترمذي عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم" قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وقال مسلم قال ابن وهب تفسير محدثون ملهمون. وقال الترمذي أخبرني بعض أصحاب بن عيينة عن سفيان عن ابن عيينة قال محدثون يعني مفهمون. وقد رواه الطبراني في الأوسط ولفظه قال: "ما كان من نبي إلا في أمته معلم أو معلمان وإن يكن في أمتي منهم أحد فهو عمر بن الخطاب إن الحق على لسان عمر وقلبه". وعن علي رضي الله عنه قال: "إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر ما كنا نبعد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إن السكينة تنطق على لسان عمر". رواه الطبراني في الأوسط قال الهيثمي وإسناده حسن.
وقد رواه مسدد وأحمد بن منيع عن الشعبي أن عليا رضي الله عنه قال: "كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا نشك أن السكينة تنطق على لسان عمر". وروى عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة من طريق الشعبي عن وهب السوائي رضي الله عنه قال: خطبنا علي رضي الله عنه فقال: "من خير هذه الأمة بعد نبيها فقلت أنت يا أمير المؤمنين قال: لا. خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر وما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر". وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر"رواه الطبراني قال الهيثمي وإسناده حسن. وعن طارق بن شهاب رضي الله عنه قال: "كنا نتحدث أن السكينة تنزل على لسان عمر"رواه الطبراني وقال الهيثمي ورجاله ثقات.(11/1)
وفي هذه الأحاديث دليل على أنه لم يكن في الصحابة بعد الصديق رضي الله عنه أعلم من عمر رضي الله عنه. وفيها أبلغ رد على أبي تراب حيث فضل عليا وأبا هريرة ومعاذا وابن مسعود رضي الله عنهم على عمر رضي الله عنه بالعلم والفقه ... ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإقتداء بأبي بكر وعمر خاصة كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده وابنه عبد الله في كتاب السنة والترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إني لا أرى مقامي فيكم إلا قليلا فاقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمار وما حدثكم ابن مسعود فاقبلوه".
هذا لفظ ابن حبان ورواية الترمذي وابن ماجة مختصرة وقال الترمذي هذا حديث حسن. قال وفي الباب عن ابن مسعود. وفي رواية الإمام أحمد: "وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه"ورواه الحاكم بنحوه. وقال هذا حديث من أجل ما روي في فضائل الشيخين وصحح هذا الحديث ووافقه الذهبي على تصحيحه ثم روى الحاكم حديث ابن مسعود رضي الله عنه الذي أشار إليه الترمذي وصححه وإسناده ضعيف.
وحديث حذيفة رضي الله عنه من أوضح الأدلة على أنه لم يكن في الصحابة رضي الله عنهم أعلم من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليأمر علماء الصحابة بالإقتداء بمن هو دونهم في العلم وإنما يأمرهم بالاقتداء بمن هو أعلم منهم. وفيه أبلغ رد على أبي تراب حيث فضَّل أبي هريرة على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في العلم وفضَّل عليا ومعاذا وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم على عمر رضي الله عنه في العلم والفقه.(11/2)
ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عمر رضي الله عنه فضل اللبن الذي شرب منه في منامه وأوَّل ذلك بالعلم كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول صلى الله عليه وسلم يحدث قال: "بينا أنا نائم رأيتني أتيت بقدح لبن فشربت منه حتى أني أرى الري يخرج في أطرافي - وفي رواية: من أظفاري - ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب". فقالوا: فما أوَّلت ذلك يا رسول الله. قال: "العلم" قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب. وقد رواه الطبراني ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت في النوم أني أعطيت عسًّا عسا مملوءا لبنا فشربت منه حتى تملأت حتى رأيته يجري في عروقي بين الجلد واللحم ففضلت فضلة فأعطيتها عمر بن الخطاب". فأولوها قالوا: يا نبي الله هذا علم أعطاكه الله فملأك منه ففضلت فضلة فأعطيتها عمر بن الخطاب. فقال: "أصبتم" قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح وقد رواه الحاكم في مستدركه بنحوه وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي في تلخيصه.
وهذا الحديث من أوضح الأدلة على غزارة علم عمر رضي الله عنه وأنه لم يكن في الصحابة بعد أبي بكر رضي الله عنه أحد يماثل عمر رضي الله عنه في العلم أو يقاربه. وفيه أبلغ رد على أبي تراب فيما شذ به على تفضيل علي وأبي هريرة ومعاذ وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم على عمر رضي الله عنه بالعلم والفقه.(11/3)
وقد شهد حبر الأمة عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم لعمر رضي الله عنه بغزارة العلم وهما أعلم الصحابة بمراتب الصحابة في العلم. وشهد له بذلك أيضاً سعيد بن المسيب وهو من أعلم التابعين بمراتب الصحابة في العلم. وشهد له بذلك أيضا عمرو بن ميمون وإبراهيم النخعي وكل منهما عالم بمراتب الصحابة في العلم. قال أبو وائل قال عبد الله - يعني ابن مسعود رضي الله عنه -: "لو أن علم عمر وضع في كفة ميزان وعلم أهل الأرض في كفة لرجح علمه بعلمهم".(11/4)
قال وكيع قال الأعمش: "فأنكرت ذلك فأتيت إبراهيم فذكرته له فقال: وما أنكرت من ذلك فوالله لقد قال عبد الله أفضل من ذلك قال: إني لأحسب تسع أعشار العلم ذهب يوم ذهب عمر"رواه الطبراني بأسانيد قال الهيثمي ورجال هذا رجال الصحيح غير أسد بن موسى وهو ثقة. وقد رواه الحاكم في مستدركه من طريق الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه قال: "لو وضع علم عمر في كفة ميزان ووضع علم الناس في كفة لرجح علم عمر"قال الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه. وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب قال ابن مسعود رضي الله عنه: "لو وضع علم أحياء العرب في كفة ميزان ووضع علم عمر في كفة لرجح علم عمر ولقد كانوا يرون أنه ذهب بتسعة أعشار العلم، ولمجلس كنت أجلسه مع عمر أوثق من علم سنة". وقال محمد بن سعد في الطبقات أخبرنا معاوية الضرير أخبرنا الأعمش عن شقيق قال: قال عبد الله - يعني بن مسعود رضي الله عنه -: "لو وضع علم أحياء العرب في كفة وعلم عمر في كفة لرجح بهم علم عمر"قال أبو معاوية فقال الأعمش: "فحدثت بهذا الحديث إبراهيم فقال: قال عبد الله: إن كنا لنحسب عمر قد ذهب بتسعة أعشار العلم"إسناده صحيح على شرط الشيخين. وعن زيد بن وهب قال: قال عبد الله: - يعني بن مسعود رضي الله عنه -: "إن عمر كان أعلمنا بالله وأقرأنا لكتاب الله وأفقهنا في دين الله وكان إذا سلك طريقا وجدناه سهلا فإذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر"رواه الطبراني بأسانيد قال الهيثمي ورجال أحدها رجال الصحيح. وقد رواه الحاكم في مستدركه مختصرا ولفظه عن زيد بن وهب عن ابن مسعود رضي الله عنه: "كان عمر أتقانا للرب وأقرأنا لكتاب الله" وفي رواية عن عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر إن إسلام عمر كان نصرا وإن إماراته كانت فتحا وأيم الله إني لأحسب بين عينيه ملكا يسدده"رواه الطبراني.(11/5)
وقال حذيفة رضي الله عنه: "كأن علم الناس كلهم قد دس في جحر مع علم عمر" ذكره ابن عبد البر في الاستيعاب وقد رواه بن سعد في الطبقات فقال أخبرنا معاوية الضرير عن الأعمش عن شمر قال: قال حذيفة رضي الله عنه: "لكأن علم الناس كان مدسوسا في جحر مع عمر"رجاله كلهم ثقات. وعن حذيفة أيضاً أنه قال: "إنما يفتي الناس ثلاثة رجل إمام أو وال ورجل يعلم ناسخ القرآن من المنسوخ. قالوا: يا حذيفة ومن ذاك؟ قال: عمر بن الخطاب أو أحمق متكلف"رواه الدارمي في سننه وعن سعيد بن المسيب أنه قال: "ما أعلم أحدا من الناس كان أعلم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمر بن الخطاب"رواه إسحاق بن راهويه وذكره الحافظ ابن حجر في المطالب العالية. وعن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: "ذهب عمر بثلثي العلم". فذكر لإبراهيم فقال: "ذهب عمر بتسعة أعشار العلم"رواه الدارمي في سننه..
وقال محمد بن سعد في الطبقات أخبرنا محمد بن عبيد الطنافسي حدثني هارون البربري عن رجل من أهل المدينة قال: "دفعت إلى عمر بن الخطاب فإذا الفقهاء عنده مثل الصبيان قد استعلى عليهم في فقهه وعلمه". وروى ابن سعد أيضاً في الطبقات عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل من كان يفتي الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أبو بكر وعمر ما أعلم غيرهما".(11/6)
وقد تقدم قريباً حديث حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وما حدثكم بن مسعود فاقبلوه فقبلوه" وفي رواية: "فصدقوه.." وروى الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وما حدثكم حذيفة فصدقوه" قال الترمذي هذا حديث حسن. فنحن نصدق بن مسعود وحذيفة رضي الله عنهما فيما حدثا به عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من غزارة العلم ورجحانه على علم غيره من الناس ونكذب أبا تراب ومن سلك مسلكه الفاسد وقال بقوله الباطل في الغض من قدر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتفضيل بعض الصحابة عليه في العلم.
وأما قول أبي تراب: "إن معاذ بن جبل وابن مسعود وعلي بن أبي طالب كانوا أفقه من عمر وهو نفسه يشهد بذلك". فجوابه أن يقال: هذه دعوى مجردة لا دليل عليها. وقد ذكرت من الأدلة الكثيرة ما يشهد بكذب هذه الدعوى ويشهد برجحان علم عمر رضي الله عنه على علم غيره من الصحابة رضي الله عنهم سوى أبي بكر رضي الله عنه. ويكفي في ردها ما تقدم عن ابن مسعود وحذيفة وسعيد بن المسيب وعمرو بن ميمون وإبراهيم النخعي أنهم شهدوا لعمر رضي الله عنه بغزارة العلم ورجحانه على سائر الناس سوى الصديق رضي الله عنه.
قال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى في منهاج السنة: "قد أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم - أي عن عمر رضي الله عنه - من العلم والدين والإلهام بما لم يخبر بمثله لا في حق عثمان ولا علي ولا طلحة ولا الزبير".
وسئل شيخ الإسلام أبو العباس أيضا عن: رجلين اختلفا فقال: أحدهما أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أعلم وأفقه من علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال الآخر: بل علي بن أبي طالب أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر. فأي القولين أصوب؟. وإذا ادعى مدع أن إجماع المسلمين على أن عليا رضي الله عنه أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما يكون محقاً أو مخطئا؟.(11/7)
فأجاب رحمه الله تعالى: "لم يقل أحد من علماء المسلمين المعتبرين أن عليا أعلم وأفقه من أبي بكر وعمر بل ولا من أبي بكر وحده. ومدعي الإجماع على ذلك من أجهل الناس وأكذبهم. بل ذكر غير واحد من العلماء إجماع العلماء على أن أبا بكر الصديق أعلم من علي منهم الإمام المنصور بن عبد الجبار السمعاني المروزي أحد الأئمة الستة من أصحاب الشافعي ما ذكر في كتابه تقويم الأدلة إجماع علماء السنة على أن أبا بكر أعلم من علي. وما علمت أحدا من الأئمة المشهورين ينازع في ذلك وكيف وأبو بكر الصديق كان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم يفتي ويأمر وينهى ويقضي ويخطب كما كان يفعل ذلك إذا خرج هو وأبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام ولما هاجرا جميعا ويوم حنين وغير ذلك من المشاهد. والنبي صلى الله عليه وسلم ساكت يقره على ذلك ويرضي بما يقول ولم تكن هذه المرتبة لغيره.(11/8)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في مشاورته لأهل العلم والفقه والرأي من أصحابه يقدم في الشورى أبا بكر وعمر فهما اللذان يتقدمان في الكلام والعلم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم على سائر أصحابه. وقد روي في الحديث أنه قال لهما: "إذا اتفقتما على أمر لم أخالفكما". وفي السنن عنه أنه قال: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" ولم يجل هذا لغيرهما. بل ثبت عنه أنه قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة". فأمر باتباع سنة الخلفاء وهذا يتناول الأئمة الأربعة وخص أبا بكر وعمر بالإقتداء بهما ومرتبة المقتدى به في أفعاله وفيما سنه للمسلمين فوق مرتبة المتبع فيما سنه فقط. وفي صحيح مسلم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا معه في سفر فقال: "إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا". وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يفتي عن كتاب الله فإن لم يجد فبما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يجد أفتى بقول أبي بكر وعمر. ولم يكن يفعل ذلك بعثمان وعلي. وابن عباس حبر الأمة وأعلم الصحابة وأفقههم في زمانه وهو يفتي بقول أبي بكر وعمر مقدما لقولهما على قول غيرهما من الصحابة. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".(11/9)
وأيضا فأبو بكر وعمر رضي الله عنهما كان اختصاصهما بالنبي صلى الله عليه وسلم فوق اختصاص غيرهما. وأبو بكر رضي الله عنه كان أكثر اختصاصا فإنه كان يسمر عنده عامة الليل يحدثه في العلم والدين ومصالح المسلمين - إلى أن قال - وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "وضع عمر رضي الله عنه على سريره فتكنفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه قبل أن يرفع وأنا فيهم فلم يرعني إلا رجل قد أخذ بمنكبي من ورائي فالتفت فإذا هو علي رضي الله عنه فترحم على عمر رضي الله عنه وقال: ما خلفت أحد أحب إلي أن ألقى الله عز وجل بعلمه منك وأيم الله إن كنت لا أظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وذلك أني كنت كثيرا ما أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "جئت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر" فإن كنت لأرجوا أو أظن أن يجعلك الله معهما". وفي الصحيحين وغيرهما أنه لما كان يوم أحد قال أبو سفيان لما أصيب المسلمون: أفي القوم محمد؟ أفي القوم محمد؟ أفي القوم محمد؟؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجيبوه" فقال أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجيبوه" فقال أفي القوم ابن الخطاب؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجيبوه" فقال لأصحابه أما هؤلاء فقد كفيتموهم فلم يملك عمر نفسه أن قال: كذبت يا عدو الله إن الذين أعددت أحياء وقد بقي لك ما يسوءك"وذكر الحديث. فهذا أمير الكفار في تلك الحال إنما سأل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما دون غيرهم لعلمه بأنهم رؤوس المسلمين. النبي ووزيراه. ولهذا سأل الرشيد مالك بن أنس عن منزلتهما من النبي صلى الله عليه وسلم في حياته فقال: "منزلتهما في حياته كمنزلتهما منه بعد مماته". قلت: وقد تقدم عن علي بن الحسين أنه أجاب بنحو هذا(11/10)
الجواب". وقد ذكر شيخ الإسلام أبو العباس رحمه الله تعالى في جواب آخر أن الرشيد قال لمالك لما أجابه بهذا الجواب: "شفيتني يا مالك". قال شيخ الإسلام رحمه الله تعال: ى: "وكثرة الاختصاص والصحبة مع كمال المودة والائتلاف والمحبة والمشاركة في العلم والدين تقتضي أنهما أحق بذلك من غيرهما وهذا ظاهر بيِّن لمن له خبرة بأحوال القوم. أما الصديق فإنه مع قيامه بأمور من العلم والفقه عجز عنها غيره حتى بيَّنها لهم لم يحفظ له قول يخالف نصا وهذا يدل على غاية البراعة.(11/11)
وأيضا فالصحابة في زمن أبي بكر رضي الله عنه لم يكونوا يتنازعون في مسألة إلا فصلها بينهم أبو بكر وارتفع النزاع بينهم فلا يعرف بينهم في زمانه مسألة واحدة تنازعوا فيها إلا ارتفاع النزاع بينهم بسببه كتنازعهم في وفاته صلى الله عليه وسلم ومدفنه وفي ميراثه وفي تجهيز جيش أسامة وقتال مانعي الزكاة وغير ذلك من المسائل الكبار. بل كان خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم يعلمهم ويقوِّمهم ويبيِّن لهم ما تزول معه الشبهة فلم يكونوا معه يختلفون. وهذا يدل على غاية العلم. وقام مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام الإسلام فلم يُخِل بشيء منه بل دخل الناس من الباب الذي خرجوا منه مع كثرة المخالفين من المرتدين وغيرهم وكثرة الخاذلين فكمل به من علمهم ودينهم ما لا يقاومه فيه أحد حتى قام الدين كما كان - إلى أن قال - وأيضا فعلي بن أبي طالب تعلم من أبي بكر بعض المسائل بخلاف أبي بكر فإنه لم يتعلم من علي بن أبي طالب كما في الحديث المشهور الذي في السنن حديث صلاة التوبة عن علي رضي الله عنه قال: "كنت إذا سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم حديثا ينفعني الله منه بما شاء أن ينفعني فإذا حدثني غيره استحلفته فإذا حلف لي صدقته وحدثني أبي بكر وصدق أبو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من مسلم يذنب ذنبا ثم يتوضأ ويحسن الوضوء ويصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر له".(11/12)
ومما يبين هذا أن أئمة علماء الكوفة الذين صحبوا عمر وعليا رضي الله عنهما كعلقمة والأسود وشريح القاضي وغيرهم كانوا يرجحون قول عمر على قول علي. وأما تابعوا أهل المدينة ومكة والبصرة فهذا عندهم أظهر وأشهر من أن يذكر وإنما الكوفة ظهر فيها فقه علي وعلمه بحسب مقامه فيها مدة خلافته، وكل شيعة علي الذين صحبوه لا يعرف عن أحد منهم أنه قدمه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لا في فقه ولا علم ولا غيرهما بل كل شيعته الذين قاتلوا معه عدوه كانوا مع سائر المسلمين يقدمون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما إلا من كان علي رضي الله عنه ينكر عليه ويذمه مع قتلهم في عهد علي وخمولهم وكانوا ثلاث طوائف طائفة غلت فيه كالتي ادعت فيه الإلهية وهؤلاء حرقهم علي رضي الله عنه بالنار. وطائفة كانت تسب أبا بكر وكان رأسهم عبد الله بن سبأ فلما بلغ عليا ذلك طلب قتله فهرب. وطائفة كانت تفضله على أبي بكر وعمر قال: "لا يبلغني عن أحد منكم أنه فضلني على أبا بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري". وقد روي عن علي رضي الله عنه من نحو ثمانين وجها وأكثر أنه قال على منبر الكوفة: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر"- إلى أن قال - ورأس الفضائل العلم وكل من كان أفضل من غيره من الأنبياء والصحابة وغيرهم فإنه أعلم منه قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} .
والدلائل على ذلك كثيرة وكلام العلماء في ذلك كثير".(11/13)
ثم قرر الشيخ رحمه الله تعالى أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما أعلم من علي ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما إلى أن قال: "ولم يختص علي رضي الله عنه بتبليغ شيء من العلم إلا وقد اختص غيره بما هو أكثر منه فالتبليغ العام الحاصل بالولاية حصل لأبي بكر وعمر وعثمان منه أكثر مما حصل لعلي. وأما الخاص فابن عباس رضي الله عنهما كان أكثر فتيا منه وأبو هريرة رضي الله عنه أكثر رواية منه وعلي رضي الله عنه أعلم منهما كما أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أعلم منهما أيضاً فإن الخلفاء الراشدين قاموا من تبليغ العلم العام بما كان الناس أحوج إليه مما بلغه من بلغ بعض العلم الخاص - إلى أن قال - وما يذكر أنه كان عنده - أي عند علي رضي الله عنه - علم باطن امتاز به عن أبي بكر وعمر وغيرهما فهذا من مقالات الملاحدة الباطنية ونحوهم الذين فيهم من الكفر ما ليس في اليهود والنصارى"انتهى المقصود من كلامه ملخصا. وفيه أبلغ رد على أبي تراب فيما شذ به من تفضيل بعض الصحابة في العلم والفقه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وهذه جراءة سيئة من أبي تراب حاصلها الغض من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى أيضاً في منهاج السنة: "أهل السنة يقولون ما اتفق عليه علماؤهم إن أعلم الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وقد ذكر غير واحد الإجماع على أن أبا بكر أعلم الصحابة كلهم"انتهى.
وقد خرق أبو تراب الإجماع وخالف أهل السنة حيث فضَّل أبا هريرة والبخاري على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بالعلم. وفضَّل عليا ومعاذا وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم على عمر رضي الله عنه بالعلم والفقه.
وأما قوله: "وهو نفسه يشهد بذلك".(11/14)
فجوابه أن يقال لم يثبت ذلك عن عمر رضي الله عنه وعلى تقدير ثبوته فإنما ذلك من باب التواضع..ومن هذا الباب قصته مع المرأة حين قال وهو على المنبر: يا أيها الناس لا تغلوا في صداق النساء. ونهاهم أن يزيدوا على أربعمائة درهم. فقامت امرأة فقالت: إن الله يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً من ذهب} - وهي هكذا في قراءة بن مسعود رضي الله عنه - فرجع عمر رضي الله عنه عن قوله وقال: "كل الناس أفقه من عمر". فهذا من باب التواضع وليس معناه أن تلك المرأة أو غيرها أفقه من عمر رضي الله عنه على الإطلاق كما قد يفهمه بعض الجهلة الأغبياء. وتواضع عمر رضي الله عنه مع المرأة وغيرها يعد من المناقب لا من المعايب.
أما قوله: "ولكنهم لم يكونوا أفضل منه". فجوابه أن يقال: لو كان علي ومعاذ وابن مسعود رضي الله عنهم أفقه من عمر رضي الله عنه لكانوا أفضل منه لأن العلم رأس الفضائل وأكملها وأشرفها ولكنه رضي الله عنه قد فاقهم كلهم في العلم والفقه وفي غير ذلك من الخصال الحميدة فلذلك كان أفضل منهم.
وأما قوله: "وليس لإنسان أن يقرن الفضل بالعلم". فالجواب أن يقال: بل ليس لإنسان أن يفرق بين الفضل وبين العلم لأن العلم خصلة من خصال الفضائل وهو رأسها وأكملها وأشرفها ولا يكون الإنسان فاضلا إلا بالعلم وإذا لم يتصف بالعلم فإنه لا يكون فاضلا وإنما يكون ناقصا وكفى بالعلم شرفا وفضيلة وكفى بالجهل نقصا ووضيعة..
وههنا أمر ينبغي التنبيه عليه وهو أن العلم لا يكون فضيلة في حق كل أحد وإنما يكون فضيلة في حق من يعمل بعلمه فيخشى ربه ويسارع إلى ما يرضيه من الأقوال والأعمال ويجتنب ما يسخطه منها. وأما الذي يكون معه علم وهو لا يخشى ربه ولا يلتمس رضاه ولا يجتنب نهيه فهذا جاهل في الحقيقة وعلمه لا يكون فضيلة في حقه وإنما يكون حجة عليه ووبالا يوم القيامة.(11/15)
وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار جهلا"رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب الزهد. وروى عبد الله أيضاً في كتاب الزهد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "ليس العلم بكثرة الرواية ولكن العلم الخشية". وروى الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه يرفعه: "أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لا ينفعه علمه". وما أكثر هذا الضرب الرديء في زماننا لا أكثرهم الله.
يتبع(11/16)
حجية السنة النبوية ومكانتها في التشريع الإسلامي
لفضيلة الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي
المدرس بمعهد الحرم المكي
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، والصلاة والسلام على رسول الهدى محمد المصطفى وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فهذه فذلكة مجملة، وكلمة مختصرة عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم الأصل الثاني للتشريع الإسلامي العظيم، وإن كنت لست فارسا من فرسان هذا الميدان الخضم إلا أني حملت حبا عظيما، وشعورا فياضا، وعاطفة دينية في نفسي الصغيرة نحو أولئك الأمجاد الكرام من الصحابة التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، الذين خدموا هذا الأصل العظيم خدمة ممتازة ضخمة لا نظير لها في تاريخ الإنسانية الطويل، فأتوا بالعجب العجاب في هذه الخدمة المشار إليها، فأحببت أن يكون لي في تمجيد هؤلاء ورفع شأنهم بعض الحظ حتى أقف به بين يدي المولى سبحانه وتعالى في يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وبحب هؤلاء الكرام، وبجهودهم، وخدماتهم الطويلة، ورحلاتهم الشاسعة إلى أقطار العالم في سبيل حفظ هذا الأصل الأصيل - السنة المطهرة على صاحبها أفضل السلام وأتم التسليم - أتقرب إليه جل وعلا إن كان ليس عندي غير هذا العمل وسأذكر في هذه الكلمة المتواضعة:
1- معنى السنة لغة واصطلاحا.
2- مكانتها ومنزلتها من التشريع الإسلامي.
3- ذكر بعض الجهود الضخمة التي قام بها العلماء المحدثون من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين في حفظها، وصيانتها، وذكر بعض نماذج السير لرجالها الذين كانوا حماتها وحفاظها.(11/17)
أما معنى السنة لغة: فهي على وزن فعلة بمعنى مفعولة، وجمعها السنن، قال العلامة الإمام ابن الأثير: "قد تكرر في الحديث ذكر السنة، وما تصرف منها، والأصل فيها الطريقة، والسيرة، وإذا أطلقت في الشرع، فإنما يراد بها ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ونهى عنه، وندب إليه قولا، وفعلا مما لا ينطق به الكتاب العزيز، ولهذا يقال: في أدلة الشرع الكتاب والسنة. أي القرآن والحديث". وقال أيضاً: "ويجوز أن تكون من سننت الإبل إذا أحسنت رعيتها، والقيام عليها، ومنه الحديث: "أنه نزل المحصب، ولم يسنه"- أي لم يجعل سنة يعمل بها، وقد يفعل الشيء لسبب خاص لا يعم غيره" [1] قلت: ورد هذا المعنى اللغوي في الأحاديث الكثيرة منها حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: "رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بسنة"- أي أنه لم يسنه لكافة الأمة، ولكن لسبب خاص وهو أن يرى المشركين قوة أصحابه، وهو مذهب ابن عباس وحده من الصحابة، وغيره يرى أن الرمل في طواف القدوم سنة [2] . ومنها حديث أخرجه الإمام مالك في موطئه عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن عمر قال: "لا أدري ما أصنع بالمجوس، فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه: "أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سنوا بهم سنة أهل الكتاب" [3] . فالمقصود أنها تطلق على الطريقة سواء كانت حسنة أو قبيحة كما جاء في حديث أخرجه مسلم في الصحيح والنسائي في السنن والإمام أحمد في المسند من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه مرفوعا: "من سن سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها" [4] . ومنها حديث أخرجه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا، ذراعا ذراعا حتى لو دخلوا حجر ضب تبعتموهم، قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ " [5] .(11/18)
وبهذا المعنى اللغوي جاء به كتاب الله تعالى كقوله تعالى في سورة الأنفال: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} [6] وقال تعالى في سورة الحجر حاكيا عن الكفار الذين لا يؤمنون بهذا القرآن قال: {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [7] وقال جل وعلا في سورة الإسراء: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} [8] وقال عز من قائل في سورة الكهف: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} [9] . قال جل وعلا في سورة الأحزاب: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [10] . وقال أيضاً في سورة الأحزاب: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [11] . وقال جل وعلا في سورة فاطر: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [12] وقال أيضا في سورة غافر: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [13] وقال جل وعلا في سورة الفتح: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [14] وقال في سورة آل عمران: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ(11/19)
الْمُكَذِّبِينَ} [15] وقال في سورة النساء: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [16] فكلمة السنة الواردة في هذه الآيات الكريمات بمعناها اللغوي، وهو الطريقة، والسيرة، وقد اقتصرت على نقل هذه الكلمة من الكتاب الكريم والسنة النبوية لكونهما منبعا أصيلا، ومنهلا عذبا لأخذ العلوم كلها.
معنى السنة اصطلاحا:
وأما معنى السنة في اصطلاح علماء الإسلام، فقد اختلف فيه باختلاف أعراضهم وفنونهم:
1- فهي عند العلماء الأصوليين عبارة عما صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عدا القرآن الكريم من قول, أو فعل, أو تقرير، فيخرج من السنة عندهم ما صدر من غيره عليه الصلاة والسلام رسولا كان أو غير رسول، وما صدر عنه صلى الله عليه وسلم قبل البعثة.
2- وأما الفقهاء فهي عندهم عبارة عن الفعل الذي دل الخطاب على طلبه من غير إيجاب، ويرادفها المندوب والمستحب، والتطوع، والنفل، والتفرقة بين معاني هذه الألفاظ اصطلاح خاص لبعض الفقهاء، وقد تطلق على ما يقابل البدعة منه قولهم طلاق السنة كذا، وطلاق البدعة كذا، فهم بحثوا عن رسول الله صلة الله عليه وسلم الذي تدل أفعاله على حكم شرعي.(11/20)
3- وأما المحدثون، فإن الرأي السائد بينهم - ولا سيما المتأخرين منهم - أن الحديث والسنة مترادفان متساويان يوضع أحدهما مكان الآخر وهذا هو بحثنا اليوم [17] وعلى هذا المعنى قال العلامة الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "الحديث النبوي عند الإطلاق ينصرف إلى ما حدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النبوة من قول أو فعل أو إقرار، فإن سنته صلى الله عليه وسلم ثبتت عن هذه الوجوه الثلاثة وإن كان تشريعا إيجابا أو تحريما أو إباحة وجب اتباعه فيه صلى الله عليه وسلم فإن الآيات الدالة على نبوة الأنبياء دلت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن الله تعالى فلا يكون خبرهم إلا حقاً" [18] . فالسنة على هذا المعنى في اصطلاح أهل الحديث ما أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل، أو تقرير، أو صفة خلقية.(11/21)
قال العلامة السيد سليمان الندوي - وهو من علماء الأحناف الكبار في الهند وقد توفي رحمه الله تعالى-: "وأما الذين فرقوا بين الحديث والسنة فقد لاحظوا بينهما معناهما اللغوي فقالوا: إن الحديث اسم من التحديث وهو الإخبار ثم سمي به قول، أو فعل أو تقرير نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وأما السنة - فهي تبعا لمعناها اللغوي - كانت تطلق على الطريقة الدينية التي سلكها الرسول صلى الله عليه وسلم في سيرته المطهرة، لأن معنى السنة في اللغة الطريقة والسيرة كما سبق بيانه. فإن كان الحديث عاما يشمل قول النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله، وتقريره فالسنة خاصة بأعمال النبي صلى الله عليه وسلم وفي ضوء هذا التباين الظاهري بين المفهومين نجد أن بعض العلماء يقولون أحيانا هذا الحديث مخالف للقياس والسنة والإجماع، ويقولون أحيانا إمام في الحديث، وإمام في السنة وإمام فيهما معا، فالحديث على هذا هو كل قول، أو فعل، أو تقرير نسب إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبتعبير آخر الحديث هو الرواية اللفظية لأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، وأفعاله، وتقريراته. وأما السنة فهي اسم لكيفية عمل الرسول صلى الله عليه وسلم المنقول إلينا بالعمل سواء كان متواترا أو آحادا بأنه عمله النبي صلى الله عليه وسلم ثم من بعده الصحابة ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وهلم جرا، ولا يشترط تواترها بالرواية اللفظية فيمكن أن يكون الشيء متواترا عملا ولا يكون متواترا معنى، وأما المتداول بين علماء الحديث المتأخرين كما سبق فإنهما في معنى واحد، ولا يخفى ارتباط معناهما اللغوي بالمعنى الاصطلاحي وهذا واضح جلي إن شاء الله تعالى" [19]
مكانة السنة ومنزلتها من التشريع الإسلامي:(11/22)
وأما مكانتها، ومنزلتها من التشريع الإسلامي، فلقد انتهى العلماء المحققون من السلف والخلف رحمهم الله تعالى إلى أن الحديث النبوي الشريف والذي صح حسب القواعد الأصولية حجة على جميع الأمة، وقد أجمعوا على ذلك إجماعا استناده الكتاب الكريم، والسنة النبوية.
وأما الكتاب فقوله جل وعلا في سورة النساء: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} [20](11/23)
قال الإمام السيوطي: "أخرج الزبير بن بكار في الموفقيات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معاوية قال: "يا بني هاشم إنكم تريدون أن تستحقوا الخلافة كما استحقيتم [21] النبوة ولا يجتمعان لأحد، وتزعمون أن لكم ملكا؟ "فقال له ابن عباس: "أما قولك إنا نستحق الخلافة بالنبوة، فإن لم نستحقها بالنبوة فبم نستحقها؟ وأما قولك أن النبوة والخلافة لا يجتمعان لأحد، فأين قول الله تعالى {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} فالكتاب النبوة، والحكمة السنة" [22] هذا هو الشاهد من إيراد هذه الرواية، وقد يسأل السائل أين إسناد هذه الرواية وإن كانت موقوفة، فأقول له قد بحثت عن هذا الكتاب ببعض البحث حتى أطلع على إسناده فلم أجد له أثرا في الفهارس الموجودة بين أيدينا، وقد ذكره بن النديم في الفهرست وعمر ابن شبة النميري في تاريخ المدينة وهو كتاب عظيم نافع جمعه الإمام الزبير بن بكار الأسدي المدني من شيوخ ابن ماجه رحمه الله تعالى وهو صاحب كتاب جمهرة نسب قريش المطبوع منه الجزء الأول بتحقيق الأستاذ محمود محمد شاكر، ولرواية ابن عباس الموقوفة شاهد قوي من مرسل قتادة ابن دعامة السدوسي، والحسن البصري رحمهما الله تعالى أخرجهما الإمام العلامة أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسيره تحت قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قال أبو جعفر: "اختلف أهل التأويل في معنى الحكمة التي ذكرها الله تعالى في هذا الموضع، فقال بعضهم: هي السنة"، ثم قال: "وذكر من قال ذلك"ثم ساق إسناده بقوله: "حدثنا بشر بن معاذ، قال حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد عن قتادة: الحكمة: أي السنة" [23] قلت: لا يخفى على من له علم بأسماء الرجال أن هذا الإسناد هو من أصح(11/24)
الأسانيد المروية إلى قتادة بن دعامة السدوسي الإمام الثقة الحافظ الثبت التابعي.
وقال العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره في هذا الموضع: "الحكمة السنة قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل بن حيان، وأبو مالك وغيرهم" [24] وهكذا فسرها في جميع المواضع التي وردت في القرآن الكريم، الحكمة هي السنة، وهكذا قال العلامة الشوكاني في تفسيره فتح القدير [25] .
فإذا علم هذا وفهم فاسمعوا ما قال الله تعالى في سورة البقرة: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [26] وقال أيضاً في هذه السورة: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [27] ، وقال تعالى في سورة آل عمران حاكيا عن عبده ورسوله عيسى عليه الصلاة والسلام: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ} [28] .(11/25)
فهذه الآية، وآية أخرى وهي قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [29] فهذا نص صريح على أن الله تعالى لم يخص نبيه صلى الله عليه وسلم وحده بالسنة بل إنه جل وعلا سن هذه السنة لجميع رسله، وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام الذين أكرمهم بالنبوة والرسالة، ونحو هذا المعنى قوله تعالى في سورة المائدة: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ} [30] وقال تعالى في سورة آل عمران: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [31] وقال عز من قائل في سورة النساء: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [32] وقال جل وعلا في حق أمهات المؤمنين في سورة الأحزاب: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} [33] ، قال العلامة السيوطي(11/26)
تحت هذه الآية الكريمة: "أخرج بن سعد وعبد الرزاق، وابن جرير الطبري، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى - ثم ذكر هذه الآية ثم قال - القرآن والسنة عتب عليهن بذلك" [34] وقال جل وعلا: في سورة الجمعة {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [35] وهذه الجملة كبيرة من الآيات الكريمات تنص على أن السنة هي وحي الله تعالى إلى سائر رسله، وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام. منهم هذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام. قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري تحت قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} قال: "وما أنزل عليكم من الحكمة وهي السنن التي علمكموها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنها لكم" [36] ، وقال أيضا تحت قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ} ثم ساق إسناده إلى قتادة برقم (8071) وقال: "الحكمة السنة"وكذا نقل عن عبد الملك بن جريج بإسناده الصحيح. وقال أبو جعفر مفسرا لهذه الآية وهي قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} الآية.. قال: "يعلمهم الله كتاب الله الذي أنزله عليه، ويبين لهم تأويله، ومعانيه، والحكمة السنة التي سنها الله تعالى للمؤمنين على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وبيانه لهم"ثم أيد هذا المعنى بأثر قتادة بسياق طويل وهو برقم (8177) وإسناده من أصح الأسانيد المروية إلى قتادة وأيد هذا المعنى العلامة السيوطي ... في رسالته القيمة (مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة) نقلا عن أئمة الإسلام الكبار مثل الإمام الشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، ومالك رحمهم الله تعالى ونقل أقوالهم، ونصائحهم(11/27)
فيما يتعلق بالعمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم [37] ونحو هذا المعنى في سورة النور قال الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [38] ، ولقد عرفنا إن شاء الله تعالى خلال سرد هذه الآيات البينات أن السنة النبوية لها مكانة سامية، ومنزلة رفيعة في التشريع الإسلامي، وهي مفسرة، ومبينة لكتاب الله تعالى ومقيدة لعمومه كما قال تعالى في هذا المعنى في سورة الأنعام: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} [39] .(11/28)
وقال تعالى: في سورة الأعراف: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [40] ، وقال تعالى في سورة الإسراء: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [41] وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [42] والآيات في هذا المعنى كثيرة، ولو تضرب الأمثلة لبيان هذا التفصيل الوارد في الكتاب الكريم لم يكف لنا النهار كله، فالآيات كلها تعطينا بيانا واضحا، وتفسيرا شافيا عن منزلة السنة من القرآن الكريم، ولقد عرفنا جميعا إن شاء الله تعالى حجية السنة والاستدلال بها على ما يستدل به على أحكام الشرع حلالا، وحراما، وأمرا، ونهيا، وقال جل وعلا في سورة النساء: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما} [43] قال السيوطي [44] : "أخرج عبد الرزاق، وأحمد، وعبد بن حميد، والبخاري ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن جرير الطبري، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والبيهقي من طريق الزهري أن عروة بن الزبير حدث عن الزبير بن العوام، أنه خاصم رجلا من الأنصار وقد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة كانا يسقيان به كلاهما النخل، فقال الأنصاري: "سرح الماء يمر"فأبى عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك" فغضب الأنصاري وقال: "يا رسول الله أن كان بن عمتك"، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "اسق يا زبير، ثم احبس الماء(11/29)
حتى يرجع إلى الجدار، ثم أرسل الماء إلى جارك"، واستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه السعة له وللأنصاري، فلما لم يرضى الأنصاري استوعى للزبير حقه في صريح الحكم فقال الزبير: "ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك، {فَلا وَرَبِّكَ} " وهكذا أخرجه الحميدي في مسنده، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، فقضى للزبير، فقال الرجل إنما قضى له لأنه ابن عمته، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهكذا أخرجه الإمام ابن الجارود في المنتقى، والإسماعيلي فيما نقل عنه الحافظ في الفتح" [45] .(11/30)
قلت: إن هذه الآية الكريمة وما في معناها نص صريح في وجوب اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. قال العلامة أبو جعفر الطبري مفسرا لهذه الآية: "فليس الأمر كما يزعمون أنهم يؤمنون بما أنزل إليك، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدون عنك إذا دعوا إليك يا محمد، واستأنف القسم جل ذكره، فقال: وربك يا محمد لا يؤمنون أي لا يصدقون بي وبك وبما أنزل إليك، حنى يحكموك فيما شجر بينهم، يقول: حتى يجعلوك حكما بينهم فيما اختلط بينهم من أمورهم، فالتبس عليهم حكمه، قال رحمه الله تعالى: شجر يشجر شجورا، شجرا، وتشاجر القوم إذا اختلفوا في الكلام والأمر {بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} أي لا تأثم بإنكارها ما قضيت وشكها في طاعتك، وإن الذي قضيت به بينهم حق، لا يجوز لهم خلافه، ثم ساق أسانيده الكثيرة بهذا المعنى في أسباب نزول هذه الآية، ومنها حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه المتفق عليه بين الشيخين وغيرهما، وحققها، وخرجها العلامة أحمد محمد شاكر في تعليقه على ابن جرير الطبري [46] وللإمام عمدة المفسرين العلامة ابن كثير رحمه الله تعالى كلام جيد في تفسير هذه الآية الكريمة فليراجع منه [47] . وقال الله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [48] قال العلامة الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره تحت هذه الآية بعد إيراده روايات عديدة في أسباب نزولها، قال: " {يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وهو سبيله، ومنهاجه، وطريقته، وسنته، وشريعته، فتوزن الأقوال والأعمال، بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قُبِل، وما خالفه فهو مردود على قائله،(11/31)
وفاعله، كائنا من كان، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"، {فَلْيَحْذَرِ} وليخش من خالف شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم باطنا، وظاهرا، {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أي في قلوبهم من كفر، أو حد، أو حبس، أو نحو ذلك كما روى الإمام أحمد، فقال: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدثنا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش، وهذه الدواب اللائي يقعن في النار وجعل يحجزهن، ويغلبنه فيقتحمن فيها"قال: "فذلك مثلي، ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار (أمنعكم عن النار) فتغلبوني وتقتحمون فيها" أخرجاه من حديث عبد الرزاق". قلت: أخرجه البخاري [49] ومسلم [50] والترمذي [51] والإمام أحمد في مسنده [52] والغوي في شرح السنة [53] . ورواه همام بن منبه عند البغوي بالإخبار. وقال العلامة الإمام البغوي في نهاية الحديث هذا حديث: "متفق على صحته أخرجه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق، وأخرجاه من أوجه عن أبي هريرة"اهـ. ونحو هذا المعنى قوله جل وعلا في سورة النور: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [54] .(11/32)
والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا وكلها نص صريح في وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه يتمثل في اتباع سنته الصحيحة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم، وتثبت حجية السنة النبوية ثبوتا واضحا مبينا من قوله جل وعلا في سورة البقرة قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [55] . والشاهد في هذه الآية الكريمة هو أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى بيت المقدس قبل أن يؤمر بالتوجه إلى الكعبة المشرفة، وكان صلاته صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس بأمر من الله تعالى ولكن أين هذا الأمر في القرآن الكريم؟ قال العلامة الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى ملخصا ما ذكره قبل هذا الكلام: "حاصل الأمر أنه كان صلى الله عليه وسلم أمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس فكان بمكة يصلي بين الركنين، فيكون بين يدي الكعبة وهو مستقبل الصخرة بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس، قاله ابن عباس والجمهور". ثم قال: "وقد جاء في هذا الباب أحاديث كثيرة" [56] . وهكذا قال الإمام العلامة أبو جعفر في تفسيره [57] أخرج الإمام الشافعي في الرسالة [58] والإمام أحمد في المسند [59] وأبو داود [60] والترمذي [61] وابن ماجه [62] والبغوي في شرح السنة [63] وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم [64] من حديث أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به، أو نهيت عنه، فيقول لا أدري ما وجدناه في كتاب الله تعالى اتبعناه". قال العلامة الإمام البغوي في شرح السنة: "قال الأزهري: كل من اتُكِئَ عليه فهو أريكة. وأراد بهذه الصفة أصحاب الترفه، والدعة، الذين لزموا البيوت، وقعدوا عن طلب العلم". وفي الحديث دليل على(11/33)
أنه لا حاجة بالحديث إلى أن يعرض على الكتاب، وأنه مهما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حجة بنفسه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه" قلت: أورده السيوطي في مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة، وقال رحمه الله تعالى: "وأخرج البيهقي بسنده عن المقدام بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء يوم خيبر من الحمار الأهلي وغيره فقال صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث حديثي، فيقول بيني وبينكم كتاب الله تعالى فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه وإنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله"، الحديث أخرجه العلامة البغوي في شرح السنة برقم (101) وخرجه الشيخ شعيب في التعليق وقال: "أخرجه أحمد والدارمي وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه وقال: حسنه الترمذي"اهـ قلت: نعم أخرجه الإمام الترمذي في الجامع تحت باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسنه ثم قال: "وروى بعضهم عن سفيان بن عيينة عن ابن المنكدر عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وسالم أبي النضر عن عبيد الله ابن أبي رافع عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ابن عيينة إذا روى هذا الحديث على الانفراد بين حديث المنكدر من حديث سالم أبي النضر، وإذا جمعهما روى هكذا"وأبو رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم. قال العلامة المحدث المباركفوري: "روي هذا الحديث موقوفا على أبي رافع كما ترى في طريق الترمذي ورواه أبو داود في السنن مرفوعا"ثم قال: "رواه أبو داود في السنن فقال: حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل، وعبد الله بن محمد النفيلي، قالا: حدثنا سفيان، عن أبي النضر عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكر الحديث". قلت: الذين رووه بالرفع هم أكثر عددا من الذين(11/34)
رووه بالوقف، ورواه البغوي مرفوعا وكذا ابن ماجه، وأبو داود، وأحمد في المسند، والدارمي في سننه من غير هذا الوجه مرفوعا برقم (592) ثم قال العلامة المباركفوري: "وهذا الحديث دليل من دلائل النبوة، وعلامة من علاماتها، فقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم فإن رجلا قد خرج في البنجاب من أقليم الهند. وسمى نفسه بأهل القرآن، شتان بينه وبين أهل القرآن بل هو من أهل الإلحاد، وكان قبل ذلك من الصالحين - قلت ما كان من الصالحين ولم يتمكن الإيمان من قلبه - فأضله الشيطان، وأغواه، وأبعده عن الصراط المستقيم فتفوه بما لا يتكلم به أهل الإسلام، فأطال لسانه في رد الأحاديث النبوية بأسرها ردا بليغا وقال هذه كلها مكذوبة، ومفتريات على الله تعالى، وإنما يجب العمل على القرآن العظيم فقط دون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانت صحيحة متواترة، ومن عمل على غير القرآن فهو داخل تحت قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، وغير ذلك من أقواله الكفرية وتبعه على ذلك كثير من الجهال، وجعلوه إماما، وقد أفتى علماء العصر بكفره، وإلحاده، وأخرجوه من دائرة الإسلام كما قالوا". ثم خرج هذا الحديث بقوله: "أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود، وابن ماجه، والبيهقي في الدلائل" [65] . قلت: أخرجه الإمام أحمد في مسنده من ثلاث طرق، طريق أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وفيه أبو معشر وهو ضعيف إلا أنه يكتب حديثه ويستشهد به، وطريق آخر وهو طريق أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم واسمه أسلم وهو طريق جيد، وطريق ثالث وهو طريق المقدام بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه وهو أيضا طريق جيد، وأنهي هذا الموضوع بآيات من الذكر الحكيم قال تعالى في سورة الحشر: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا} [66] وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا(11/35)
مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [67] وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً. وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [68] وقال جل وعلا في سورة الأحزاب: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [69] وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [70] وقال عز من قائل في سورة الحديد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . فالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإيمان الكامل بما جاء به من عند الله تعالى من كتاب وسنة صحيحة ثابتة والعمل بهما ظاهرا وباطنا وتسليم الأمر إليهما والدعوة إليهما، والاستماتة في سبيلهما حتى يأتيه الموت فيلقى ربه بلقاء عظيم مرضي.
جهود العلماء في حفظ السنة:(11/36)
أما جهود العلماء المحدثين من الصحابة ومن تبعهم في حفظ السنة النبوية فإنها جهود مباركة ضخمة، وقعت مصداقا لقوله جل وعلا في سورة الحجر {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [71] ولقوله جل وعلا: في سورة التوبة: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [72] ومصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أخرجه الإمام أحمد في المسند [73] وأبو داود في السنن [74] والترمذي في الجامع [75] وابن ماجه [76] والدارمي [77] في سننيهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "نضر الله امرأً سمع مني حديثا فحفظه، حتى يبلغه فرب مبلغ أحفظ له من سامع" قال الإمام السيوطي رحمه الله تعالى (في مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة) : "هذا الحديث متواتر" [78] . وقال في تدريب: "روي من ثلاثين صحابيا". وقال الشافعي رحمه الله تعالى: "فلما ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى استماع مقالته، وحفظها، وأدائها دل على أنه لا يأمر أن يؤدى عنه إلا ما تقوم به الحجة، على من أدى إليه، وأن ما يؤدى عنه حلال يؤتى، وحرام يجتنب، وحد يقام، ومال يؤخذ، ويعطى، ونصيحة في دين، ودنيا". أخرج الإمام نصر المقدسي في كتاب الحجة على ترك المحجة بسنده عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من غدا أو راح في طلب سنة مخافة أن تندرس كان كمن غدا أو راح في سبيل الله ومن كتم علما علمه الله إياه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من النار" وأخرج عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ظهرت البدع في أمتي وشتم أصحابي فليظهر العالم علمه فإن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين". ومن هنا كانت تلك الجهود(11/37)
الضخمة والمباركة التي كانت فريدة في نوعها، وعزيزة في وجودها ولا يوجد لها مثيل في سائر الأمم الماضية، يقول الدكتور اسبر نكر أحد علماء الألمان البارزين فيما نقل عنه العلامة المحدث المباركفوري في سيرة البخاري قال: "إن علم أسماء الرجال اختصت به هذه الأمة الإسلامية دون سائر الأمم، وإنه مفخرة كبيرة للمسلمين، وثورة علمية هائلة جُمِعَت لهم من أسلافها، وميدان خضم ولهم في ذلك أقدام راسخة". قلت: هكذا يمجد هذا المستشرق هذا العلم الشريف وهو بكلامه هذا يقضي على جميع الشبه التافهة التي أوردها أعداء السنة النبوية حديثا، وقديما، قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى في الجامع الصحيح في كتاب العلم، باب الخروج في طلب العلم: "ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد". وأشار رحمه الله تعالى بهذا التعليق إلى الحديث رواه في كتاب الأدب المفرد في باب المعانقة ص 337 من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: "بلغني من رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيرا، ثم شددت رحلي فسرت إليه شهرا حتى قدمت الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله؟ قلت نعم.. فخرج عبد الله بن أنيس فاعتنقني، فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم فخشيت أن أموت، أو تموت قبل أن أسمعه فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر الله الناس يوم القيامة عراة، غرلا، بُهْماً، قلنا ما بهما؟ قال: ليس عليهم شيء، فينادهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، أنا الملك، أنا الديان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنة يدخل الجنة، وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة" يعني لا يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار إلا بعد تصفية الحساب. قال الحافظ في الفتح بعد إيراد حديث جابر هذا ورحلته إلى عبد الله(11/38)
بن أنيس: "وفي هذا الحديث ما كان عليه الصحابة من الحرص على تحصيل السنن النبوية قال الخطيب البغدادي في رسالته القيمة (الرحلة في طلب الحديث) بإسناده عن أبي عثمان النهدي قال: "بلغني عن أبي هريرة حديث أنه قال: إن الله ليكتب لعبده بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة فحججت ذلك العام، ولم أكن أريد الحج إلا للقائه في هذا الحديث فأتيت أبا هريرة ,فقلت: يا أبا هريرة بلغني عنك حديث فحججت العام ولم أكن أريد الحج إلا لألقاك، قال: فما هو؟ قلت إن الله ليكتب لعبده المؤمن الحسنة الواحدة ألف ألف حسنة فقال أبو هريرة: ليس هكذا قلت: إنما قلت إن الله ليعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة، ثم قال: أو ليس في كتاب الله تعالى ذلك؟ قلت: كيف؟ قال: لأن الله تعالى يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} والكثير عند الله أكثر من ألفي ألف وألف ألف"اهـ وقال الخطيب أيضا في هذه الرسالة بإسناده الطويل: "عن عطاء بن أبي رباح قال: خرج أبو أيوب الأنصاري إلى عقبة ابن عامر وهو بمصر يسأله عن حديث سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قدم أتى منزل مسلمة بن مخلد الأنصاري وهو أمير مصر، فأخبر به فعجل فخرج إليه فعانقه، وقال: ما جاء بك يا أبا أيوب قال حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق أحد سمعه غيري وغيرك في ستر المؤمن قال: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ستر مؤمنا في الدنيا ستره الله يوم القيامة، فقال له أبو أيوب: صدقت ثم انصرف أبو أيوب إلى راحلته فركبها راجعا إلى المدينة". قلت: هكذا نجدهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين حريصين أشد الحرص على حفظ السنة وصيانتها، ثم قال الخطيب بإسناده عن عبد الله بن بريدة: "إن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رحل إلى فضالة بن عبيد وهو بمصر، فقدم عليه، فقال: إني لم آتيك زائرا ولكن سمعت أنا وأنت(11/39)
حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم رجوت أن يكون عندك منه علم قال: فما هو؟ قال كذا وكذا". وساق الحديث، وهكذا نجد سيد التابعين وعالم المدينة الإمام سعيد بن المسيب، كما قال الإمام الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية قال مالك عن يحي بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: "كنت أرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد". قال الحافظ الإمام ابن أبي حاتم الرازي الحنظلي في مقدمة الجرح والتعديل في ترجمة أبيه الإمام أبي حاتم الرازي عند ذكر رحلته في طلب الحديث قال ابن أبي حاتم: "سمعت أبي يقول: أول ما خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ، لم أزل أحصي فلما زاد على ألف فرسخ تركته، وأما ما كنت سرت أنا من الكوفة إلى بغداد فما لا أحصى كم مرة، ومن مكة إلى المدينة مرات كثيرة، خرجت من البحر من قرب مدينة (سلا) إلى مصر ماشيا، ومن مصر إلى الرملة ماشيا، ومن الرملة إلى بيت المقدس ماشيا، ومن الرملة إلى عسقلان، ومن الرملة إلى طبرية، ومن طبرية إلى دمشق، ومن دمشق إلى حمص، ومن حمص إلى أنطاكية إلى طرسوس ثم رجعت من طرسوس إلى حمص، وكان بقي عليَّ شيء من حديث أبي اليماني، فسمعته، ثم خرجت من حمص إلى بيسان، ومن بيسان إلى الرقة، ومن الرقة ركبت إلى الفرات إلى بغداد، وخرجت قبل خروجي إلى الشام من واسط إلى النيل ومن النيل إلى الكوفة كل ذلك ماشيا هذا في سفري الأول، وأنا ابن عشرين سنة أجول سبع سنين، خرجت من الري سنة 213هـ، في شهر رمضان، ورجعت سنة 221هـ"، هكذا نجدهم رحمهم الله تعالى في رحلاتهم، وسفراتهم يتنقلون راجلين يقطعون آلاف من الأميال والفراسخ لحفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الدارقطني صاحب السنن يعلن في بغداد في الأسواق والشوارع: "يا أهل بغداد لا يمكن لأحد منكم أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما دمت حيا". وهذا أبو حامد الشرقي صاحب كتاب الصحيح وهو تلميذ نجيب(11/40)
للإمام مسلم النيسابوري كانت حياته كلها حاجزة بين الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبو زكريا يحي بن معين نودي في جنازته بصوت عال مرتفع هذا الذي كان يذب الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الجبل الناطح الإمام البارع أبو عبد الله أحمد بن حنبل وقف وقفة رائعة مثالية في الدفاع عن السنة النبوية أمام أكبر حكومة كانت على وجه الأرض حتى قال الإمام ابن حبان البستي فيما نقل عنه الحافظ بن حجر في التهذيب: "أغاث الله تعالى به أمة محمد صلى الله عليه وسلم". وهذا البخاري صاحب الصحيح الذي اتسم كتابه بأصح الكتب بعد كتاب الله تعالى قال الحافظ في مقدمة الفتح قال: "وراقة محمد بن خراش يقول: سمعت أحيد بن حفص يقول: دخلت على إسماعيل والد أبي عبد الله عند موته فقال: لا أعلم من مالي درهما من حرام، ولا درهما من شبهة". ثم قال الحافظ: "حكى وراقة أنه ورث من أبيه مالا جليلا، وكان يعطيه مضاربة، فقطع له غريم خمسة وعشرين ألفا، فقيل له: استعن بكتاب الوالي فقال: إن أخذت منهم كتابا طمعوا، ولن أبيع ديني بدنياي، ثم صالح غريمه على أن يعطيه كل شهر عشرة دراهم، وذهب ذلك المال كله". ثم قال الحافظ: "ومات إسماعيل ومحمد صغير، فنشأ في حجر أمه، ثم حج مع أمه، وأخيه أحمد، وكان أسن منه فأقام بمكة مجاورا، يطلب العلم، ورجع أخوه أحمد إلى بخارى، فمات بها". روى نمنجار في تاريخ البخاري واللالكائي في شرح السنة في باب كرمات الأولياء منه: "أن محمد بن إسماعيل ذهبت عيناه في صغره، فرأيت والدته الخليل إبراهيم في المنام، فقال لها: يا هذه رد الله على ابنك بصره بكثرة دعائك قال: فاصبح وقد رد الله عليه بصره"، قال الفربري: "سمعت محمد بن أبي حاتم وراق البخاري يقول: سمعت البخاري يقول: ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب، قلت: كم أتى عليك إذ ذاك؟ فقال: عشر سنين أو أقل، ثم خرجت من الكتاب فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره، فقال يوماً فيما(11/41)
كان يقرأ الناس، سفيان عن أبي الزبير عن إبراهيم، فقلت يا أبا الزبير: لم يرو عن إبراهيم [79] ، فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل، إن كان عندك؟ فدخل فنظر فيه، ثم رجع فقال: كيف هو يا غلام؟ فقلت: هو الزبير وهو ابن عدي عن إبراهيم، فأخذ القلم، وأصلح كتابه، وقال لي: صدقت، قال: فقال له إنسان ابن كم حين رددت عليه فقال: ابن إحدى عشرة سنة". قلت: هذه الرواية تدل على عظمة الرجل العظيم في الإسلام في هذه السن المبكرة يوجهه الله تعالى إلى أن يقف هذا الموقف العظيم من معرفة الرجال الذين نقلوا إلينا هذا العلم الشريف، وكان لما ورث من أبيه من مال حلال أثر عظيم في تربيته، وتنشئته ثم قال الحافظ: "قال البخاري: فلما طعنت في ست عشرة سنة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء يعني أصحاب الرأي قال: ثم خرجت مع أمي وأخي إلى الحج". قلت: فكان أول رحلة على هذا سنة عشر ومائتين ولو رحل أول ما طلب لأدرك ما أدركته أقرانه من طبقة عالية وإن كان أدرك ما قاربها كيزيد بن هارون، وأبي داود الطياليسي، ثم قال: "فلما طعنت في ثماني عشرة صنفت كتاب قضايا الصحابة والتابعين، ثم صنفت التاريخ في المدينة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم" وقال: "وكنت أكتبه في الليالي المقمرة". قال: "وقل اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة إلا أني كرهت أن يطول الكتاب"ثم ذكر الحافظ رحلة البخاري في طلب الحديث، تلك رحلة عظيمة تعطينا فكرة أصيلة عن اهتمامهم البالغ، وسعيهم الحثيث لحفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه جهود فردية قام بها هؤلاء رحمهم الله تعالى في هذا الميدان العظيم وأما الجهود الجماعية فإنها جهود كبيرة شامخة لا يتسع لها هذا الوقت وأرجو أن أوفق لها إن شاء الله في حلقة قادمة.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(11/42)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] النهاية لابن الأثير 1/186
[2] أخرجه الأمام أحمد في المسند 1/229 وأبو داود في السنن، المناسك (50) .
[3] فتح الباري 6/361 وانظر مسند الحافظ أبي يعلى برقم 456 والموطأ الزكاة (42)
[4] مسلم العلم (15) النسائي الزكاة (64) مسند الإمام أحمد 4/357
[5] البخاري: الاعتصام بالسنة (14)
[6] سورة الأنفال رقم الآية (38)
[7] سورة الحجر رقم الآية (13)
[8] سورة الإسراء رقم الآية (77)
[9] سورة الكهف رقم الآية (55)
[10] سورة الأحزاب رقم الآية (38)
[11] سورة الأحزاب رقم الآية (62)
[12] سورة فاطر رقم الآية (43)
[13] سورة غافر رقم الآية (85)
[14] سورة الفتح رقم الآية (23)
[15] سورة آل عمران رقم الآية (137)
[16] سورة النساء رقم الآية 26 ومسلم العلم (6)
[17] نقلا عن رسالة الماجستير التي قدمها أخونا الشيخ لقمان السلفي إلى معهد القضاء العالي بالرياض..
[18] مجموع الفتاوى شيخ الإسلام 18/6-10
[19] انظر تحقيق معنى السنة ص (18) نقلا عن رسالة الأخ لقمان السلفي..
[20] سورة النساء (54) ..
[21] كذا في المطبوع والصواب: استحققتم
[22] الدر المنثور 173/2
[23] ابن جرير الطبري 86-87/3
[24] تفسير بن كثير 184/1
[25] تفسير فتح القدير 124/1
[26] البقرة (151)
[27] البقرة (231)
[28] آل عمران (48)
[29] آل عمران (81)
[30] المائدة (110)
[31] آل عمران (164)
[32] النساء (113)
[33] الأحزاب (34)
[34] الدر المنثور5/199
[35] الجمعة (2)
[36] تفسير بن جرير الطبري 5/15 من نسخة العلامة أحمد شاكر
[37]
ص (8)
[38] النور (51)
[39] الأنعام (119)(11/43)
[40] الأعراف (52)
[41] الإسراء (12)
[42] هود (1)
[43] النساء (65)
[44] الدر المنثور 2/180
[45] فتح الباري 5/26
[46] ابن جرير الطبري8/524-525
[47] تفسير ابن كثير 1/252-254
[48] سورة النور (63)
[49] البخاري: كتاب الاعتصام، كتاب الأنبياء (6) الرقاق (26)
[50] مسلم: الفضائل حديث رقم (17)
[51] الترمذي الأدب (82)
[52] مسند الإمام أحمد 2/244/1312
[53] البغوي شرح السنة 1/189
[54] سورة النور (51) (52)
[55] البقرة (143)
[56] تفسير ابن كثير 1/195
[57] تفسير ابن جرير الطبري /138-140
[58] رسالة الإمام الشافعي 295
[59] مسند الإمام أحمد 6/8
[60] أبو داود رقم 4605
[61] الترمذي 2665
[62] ابن ماجه المقدمة 13
[63] شرح السنة 1/200-201
[64] الحاكم في المستدرك1/108-109
[65] تحفة الأحوذي 3/374
[66] الحشر 7
[67] الأحزاب 36
[68] الأحزاب 22
[69] الأحزاب 66
[70] النساء 59
[71] الحجر 9
[72] التوبة 122
[73] مسند الأمام أحمد 1/ 437، 3/ 225، 4/ 80، 4/ 82، 5/ 183
[74] سنن أبي داود العلم 10
[75] الترمذي العلم 7
[76] ابن ماجه المقدمة 8
[77] الدارمي المقدمة 20
[78]
ص6
[79] كذا في الأصل(11/44)
هل أنت مدمن فيتامينات؟
لسعادة الدكتور سيد أحمد عبد البر
إن كنت واحدا من هؤلاء الذين تعودوا على ابتلاع أقراص الفيتامينات بانتظام؟؟
إذا كنت من هذا النوع الذي يطلب من الصيدلية أكبر كمية من الفيتامينات؟
إذا كنت واحداً من هؤلاء فإنني أدعوك إلى قراءة هذا الكلام …
من أجل صحتك …
هناك حقائق أساسية لا بد أن تعرفها عن جسمك.. وكيف يعمل. عن الفيتامينات.. وماذا يكون مفعولها.
جسم الإنسان يتكون من مجموعة من الأجهزة لها طاقة عمل معينة.. أي أنك مهما فعلت فلن تستطيع أن تدفع أي عضو في جسمك لأداء عمل أكثر من طاقته.
وحتى تؤدي هذه الأجهزة عملها يصبح من الضروري إعطائها الوقود اللازم لها.. إذا نقص هذا الوقود فإن العمل يختل، وإذا زاد فإن العمل يُؤْدِي دون أن يزيد من طبيعته … تماما مثل السيارة.. بدون بنزين لن تسير.. ومهما حمَّلتها بالبنزين فإنها لن تزيد من سرعتها الطبيعية.. بل إن زيادة دفع البنزين في السيارة قد تؤدي إلى متاعب.
نفس الشيء يحدث بالنسبة للفيتامينات وجودها ضروري بل وأساسي أيضا ولكن بكميات محددة معروفة فإذا نقصت الفيتامينات عن هذه النسبة المحددة ظهرت الأعراض المرضية المحددة على الجسم.. فإن نقص أي فيتامين له أعراض محددة يكتشفها الطبيب على الفور.. أما إذا زادت كمية الفيتامين فإن قوة أجهازة الجسم لن تزيد فالجسم في هذه الحالة يختزن كمية من هذه الفيتامينات الزائدة ثم يتولى التخلص من باقي هذه الزيادة..
من الضروري أن تعرف هذه الحقيقة.. إذا أكلت كفايتك من الطعام وكانت عناصر هذا الطعام كافية متنوعة وكانت أجهزة جسمك قادرة على الاستفادة من هذا الطعام فإن الجسم يحصل على كفايته من الفيتامينات دون أي حاجة لدواء الفيتامينات.(11/45)
ويجب أن تعرف أيضاً أن الجسم في هذه الحالة يختزن كمية من الفيتامينات تعادل كمية كبيرة من احتياجاته الطبيعية.. فالاحتياطي هنا كثير جداً. الطعام وحده هو المصدر الطبيعي والأساسي للفيتامينات التي يحتاجها الجسم.. فالعلاج الصحيح لنقص الفيتامينات لا يكون بابتلاعها ولكن بعلاج المرض الذي يسبب نقصها.. ففي بعض الحالات يجد الطبيب أن المريض يأكل كمية كافية من الطعام ولكن جسمه لا يستفيد منها كما يجب.. وهذه حقيقة لا يؤكدها إلا الطبيب وحده بعد أن يرى العلامات المميزة لحدوث هذا النقص.. ويكون معنى هذا أن المريض يعاني من مرض معين قد يكون في جهازه الهضمي الذي لا يمتص مثلا الفيتامينات التي تمر عليه.. فيقوم الطبيب بعمل التحاليل والفحوص اللازمة لتشخيص المرض ويبدأ بإعطاء العلاج المناسب واللازم لحالته حتى يتم شفاؤه وفي هذه الحالة يصبح من الممكن أن يحصل على حاجته من الفيتامينات من خلال الطعام الغني بالفيتامينات الكافية لحاجة الجسم..
وهكذا يكون علاج حالة نقص الفيتامين بعلاج المرض المسبب لهذا النقص وليس بالاستمرار في ابتلاع كميات ضخمة من الفيتامين بلا فائدة بل يكون مصيرها أن يتخلص منها الجسم ولا يستفيد منها بل قد تعرضه للتسمم.
فالفيتامينات مثل أي دواء لها تأثيرها السام على الجسم لو استعملت في غير احتياجاتها السليمة.. فالطبيب هو الذي يحدد نوع الفيتامين وكميته....والطبيب وحده.. وليس المريض.. فكمية محدودة جدا من الفيتامين تكفي وكما قلنا الزيادة سامة وضارة وتذكَّر دائما أنك تبتلع دواء له سميته إذا زادت الكمية.
ولهؤلاء - مدمني الفيتامينات - أقول وأكرر أن أي كمية من الفيتامينات لن تعطيهم قوة فوق طاقة أجسامهم لأن طاقة الجسم محدودة ولا يمكن أن تزيد على حدودها الطبيعية مهما زادت كمية الفيتامينات.. بل إنهم يتعرضون لأنواع من التسمم في حالة عدم تمكن الجسم من التخلص من هذه الزيادة.(11/46)
وأود أن أذكر أن هناك بعض الحالات المرضية تستخدم فيها هذه الفيتامينات كدواء له تأثير محدد وليس كسد لنقص في نوع هذا الفيتامين … ولا يمكن أن يحدد ذلك إلا الطبيب الأخصائي الذي يعرف جيدا مفعول هذه الفيتامينات في الجسم.
والآن وقبل أن تبتلع قرص الفيتامين الذي حصلت عليه في الصيدلية. تذكَّر جيدا أن الطعام هو أغنى وأحسن مصادر الفيتامينات. وتذكَّر أيضاً أن الفيتامينات التي تزيد عن حاجة الجسم تكون في أغلب الأحيان خطرا عليه إذ أن لها سميتها. وتذكَّر أيضاً أن نقص الفيتامين له علامات واضحة وما دامت هذه العلامات غير موجودة فلا حاجة إلى أقراص الفيتامين أو حقنه. وتذكَّر أيضاً أن العلاج الحقيقي لنقص الفيتامين بعلاج المرض الأصلي الذي تسبب في حدوث هذا النقص.
وأخيرا أيها الأخ الصديق هل أنت ما زلت من مدمني تعاطي الفيتامينات؟؟؟(11/47)
محنة الإسلام في الصومال
لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
يا صفحةَ العارِ في تاريخنا الدامي
سُحقاً لكم من ضوار باسم حكام
بكل ما حُمِلتْ مِن هولهِ الطامي
أعدتمو ذِكرَ الأُخدودِ حافلة
لظاهُ من كلِ كَفَّارٍ وظلاّم
فحقّ أن تَشركوا في الوزرِ من سَعَروا
على المدى من رزِيات وآلام
أنَسيتم الأرضَ ما شبَّ الطغاةُ بها
أكفُكم من جنايات وآثام
واستنكف الذئبُ أن يُرمى بما اقترفت
في القفر إن لم يكن بالساغب الظامي
وكيف لا.. وهو لا يَغشى فريستَه
الأدنين من كل حرٍ في الورى سامي
وتفتكون بلا عذر سوى نِقَمِ
كم رحمةُ اللهِ من قُطّاع أرحام
يا طُغمةَ الكفرِ في الصومال..لا شَمِلْتـ
ما أسلفَ البغيُ من خِزيٍ وإجرام
يا عصبةَ الغدرِ.. جاوزتم ببغيكمو
إلا العداءَ لِقرآني وإسلامي!
ألم تروا غَرضاً يُروى بطولَتكم
عُزْلٌ وليس لهم في الخلق من حامي
أم غرّكم من حماةِ الحقِ أنهمو
من عون (لينينَ) أو (جُنبولَ) أو (سام) [1]
وأنكم في ضَمَانٍ لا نفاذَ له
كلُّ المُضلات من فَنٍ وإعلام
وأن أصواتَهم مخنوقةٌ ولكم
كي ينتهوا بين تعذيبٍ وإعدام
فرحتمو تصطفون المُهلكات لهم
كالأمس لمّا تزلْ أضغاثَ أحلام
ولو عقلتم علمتم أنّ بغيتَكم
بحادثاتِ الليالي بعضَ إلمام!
أليس فيكم أخو رشد فيمنحكم
فعاد يَعثر بالأقدام والهام
كم حاقدٍ رامَ هذا الدينَ قبلكمو
فلم يَرمْ أن تهاوى السهم والرامي
أهوى على السهم يبريه ليرميَه
(فروقَ) من نسل (هِرْتِزلٍ) و (حيرام) [2]
أين الذي ثَلَّ أركانَ الخلافة في(11/48)
من الطواغيت في بغداد والشام
أين ابن بِللا وسوكارنو ولفُّهما
ربوعَها الخُضرَ بالترويع والسام
وأين جلاد مصرٍ والأولى غَمَروا
لا يُبصرون إلى تأليهِ أقزام
وأين من ضلّلوا الأغرارَ فاندفعوا
من كل عاد فأمسوا محضَ أوهام
طواهمو من طوى الأجيالَ قبلهمو
في موكب العار بين اللعن والذام [3]
وكالوباءِ غداً تمضون إثرَهمو
يُفدْه تدبيره ذي حِذق وإحكام
ومن تصدّى لحربِ الله خاب ولم
لم يلمح النورَ يوما قلبُه العامي
وقد يَذِلّ على الإرهاب ذو جَلَدٍ
فصبرهم أبداً رغم الردى نامي
والمؤمنون وإن جلّتْ كوارثُهم
خفضَ الجباه لأِهواءٍ وأصنام
مستمسكين بحبل الله قد رفضوا
ما قد أصابكم من كل هدّام
ويابناةَ العلى في مقدشو..بدمي
آماقنا فجفاها دمعُها الهامي
ويا دعاةَ الهدى عذراً إذا جَمَدَتْ
قلب ينوء بجرح غير ملتأم
الخطبُ أكبرُ من آه يرددها
وكل أعوانه أشباهُ أيتام
لكنها منحةُ الإسلامِ منذ غدا
وكان يعرفُهم آساد آجام
لا يملكون بغير الهمسِ نصرتَه
تروي مآسيهم في غير إبهام
في كل صُقع شهودٌ من فواجِعِهمْ
خوفَ النوازلِ من خَلف وقدام
والعابرون بها يُغضون من جزع
كأنهم خُشُبٌ أو بعضُ أنعام
ويُحرَقون.. ولا طرفٌ يشيعهم
فترجف الأرض من حزن وتهيام
وينزل الموتُ في شمطاءَ غاويةٍ
يكادُ لا يتعدّى لغوَ تمتام
وهان في الناس شرعُ الله فهو لقى
الإسلام ما بين صُمّان ونوّام
تمضي المعاولُ في تدميره وبنو
يصيحُ في ظلام: لا، دون إحجام
وأشجعُ الخلق في تلك الملاحمِ مَن
لربكم فحباكم كلّ إكرام(11/49)
وقد رفعتم بها أصواتكم غضباً
بالنار جاحمة أو حد صَمصام
وليس كالموت دون الحق من شرف
من رحمة الله في عزّ وإنعام
فلتهنئوا بحياة لا نظرَ لها
لو اتخذتم شواه نعلَ أقدام
وللجناةِ سعيرٌ ودّ نازلُها
ندري غدا نلتقي..أم بعد أيام!
سبقتمونا ونحن اللاحقون، وما
--------------------------------------------------------------------------------
[1] روسية وبريطانية وأمريكية
[2] فروق: استنبول عاصمة الخلافة، وهرتزل: رمز الصهيونية، وحيرام: رمز الماسونية
[3] الذام: الذم(11/50)
نداء من رابطة العالم الإسلامي
تتردد في بعض الأوساط العالمية وتتناقل الصحف والإذاعات فكرة تدويل القدس الشريف كحل وسط يرضي الأطراف المتنازعة حسب زعم تلك الأوساط ولما كانت هذه الفكرة منذ القدم تظهر بفعل أعداء المسلمين وممالئيهم ثم لا تلبث أن تختفي تجاه رفض المسلمين ومقاومتهم لها فلا غرابة اليوم من ظهورها كاستمرار لمؤامراتهم المحبوكة وإيهاما للعالم بعدم أحقية المسلمين في بقاء كامل القدس في أيديهم.
لذا فإن رابطة العالم الإسلامي تستنكر ذلك أشد الاستنكار وتناشد المسلمين جميعا والمنظمات والهيئات الإسلامية للوقوف صفا واحدا تجاه المؤامرة وإصدار استنكارهم لمشروع التدويل وتقديم احتجاجات صارخة ضد هذه الفكرة والمطالبة بالحفاظ على الصبغة الإسلامية للمدينة المقدسة وإثبات حقهم فيها استنادا إلى الحقائق التاريخية التي تؤدي هذا الحق الشرعي بأسمى معانيه وأوضح معالمه {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .(11/51)
حكم الإسلام في القاديانيين
بقلم فضيلة الشيخ عبد العزيز القويفلي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمي العربي محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين..
وبعد: فإن الله تعالى قد أرسل إلى هذه الأمة خاتم الرسل وأنزل عليه أفضل الكتب وأخبر سبحانه في كتابه وعلى لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأن من اتبع هذا القرآن وأطاع هذا الرسول فإنه قد أخذ بأسباب سعادته وفلاحه في الدنيا والآخرة، ومن زاغ عن هذا الطريق واتبع السبل الأخرى فإن في ذلك شقاوته وهلاكه قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً. قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} .(11/52)
وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . وقال صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله". وفي رواية: "كتاب الله وسنتي..". ولقد أخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بأن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي". فهذا مقياس واضح يعرف به من كان على الحق ومن كان بخلاف ذلك، وفي هذا الزمن وفي الأزمان التي سبقته انتشرت في العالم الإسلامي أسماء لطوائف وجماعات متعددة يصعب حصرها تعدادها وفي الكثير من هذه الطوائف انتشر الانحراف والزيغ عن جادة الإسلام وأخذت كل فرقة وطائفة تبتدع في دين الله، وتزيد وتنقص فيه حسب ما توسوس لها شياطينها وتمليه عليه أهواؤها ومنافعها الدنيوية الزائلة، فهذه طائفة تبتدع من الأوراد والأذكار ما لم يرد شيء من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتضفي عليها من الهيبة والإكبار ما يجعل العامة تنصرف إليها تاركة ما ورد في السنة الصحيحة مما هو خير منها. وهذه طائفة تغلو في بعض الصحابة وترفعهم فوق المكانة التي أنزلهم الله إياها وفي الوقت ذاته تغمط بعضهم حقه بل وتشتم وتلصق به من الألقاب والصفات ما يندى له جبين المسلم.. وهكذا تفرقت الأمة الإسلامية شيعا وأحزابا وصار بعضها يكفِّر بعضا ويكيد بعضها لبعض ويتربص بعضها ببعض. وإن من الفرق التي ابتليت بها الأمة الإسلامية في هذه العصور الأخيرة الفرقة القاديانية المنسوبة إلى غلام أحمد والتي كان منشؤها بلاد الهند ثم انتشرت في كثير من البلاد الإسلامية وصار لها مقر ونشاط في الباكستان وغيرها وإن من يتأمل مبادئ هذه الفرقة ويتفحصها يعلم يقينا أنها فرقة مدسوسة على الإسلام بغرض تفرقة كلمة المسلمين(11/53)
والتشويش عليهم وإضعاف شأنهم.
ولقد قيَّض الله لهذه الفرقة الضالة من علماء الإسلام جماعات كثيرة ممن يعيشون في بلادها وغيرهم ممن يعرفون حقيقتها تصدوا لها وحذروا المسلمين منها وبينوا للناس بكل وضوح وجلاء مخالفتها للإسلام وزيغها عنه، ومن هؤلاء العلماء الأعلام أمير الجماعة الإسلامية بباكستان سابقاً الشيخ أبو الأعلى المودودي والشيخ أبو الحسن الندوي أمين ندوة العلماء بالهند، والشيخ طفيل محمد أمير الجماعة الإسلامية بباكستان حاليا الذي ننشر له ملخص كلمة ألقاها في مؤتمر إسلامي سمي مؤتمر ختم النبوة تصدى به للرد على تلك الفرقة الضالة التي جعلت محور زيفها وأساس عقيدتها إنكار ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وادعت أن زعيمها ميرزا غلام أحمد نبي يوحى إليه، متحدية بذلك الأدلة القاطعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين في جميع العصور. قال الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} .
وتواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدالة على هذا المعنى ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وأنه لا نبي بعدي".
وفي صحيح البخاري أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين".(11/54)
وفي رواية مسلم عن جابر رضي الله عنه: "فأنا موضع اللبنة جئت وختمت الأنبياء". وروى الإمام أحمد بسنده إلى أبي طفيل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نبوة بعدي إلا المبشرات قيل وما المبشرات يا رسول الله؟ قال الرؤية الحسنة أو قال: الرؤيا الصالحة".
وعلى هذا انعقد إجماع المسلمين وصار ذلك بينهم من المعلوم من الدين بالضرورة؛ قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لـ {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} : "وقد أخبر الله تعالى في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المتواترة عنه أنه لا نبي بعده، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفَّاك ودجال مضل". وقال اللألوسي في تفسيره: "وكونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين مما نطق به الكتاب وصدعت به السنة وأجمعت عليه الأمة فيكفر مدعي خلافه".
فظهر بهذا وبما قاله علماء المسلمين وأجمعوا عليه أن هذه الفرقة المعروفة بالقاديانية فرقة ضالة كافرة يجب على كافة المسلمين ولا سيما علمائهم وحكامهم وذوي الشأن فيهم البرأة منها وتكفيرها والسعي لتطبيق أحاكم الشريعة الغراء عليها. وذلك باستتابة من قال بقولها فإن رجع وإلا قتل مرتداً خارجاً عن ملة الإسلام.
نسأل الله الهداية لهذه الفرقة ولغيرها ممن زاغ وحاد عن الطريق السوي كما نسأله تعالى الثبات لنا ولإخواننا المسلمين على دينه واتباع سنة نبيه وأن يعيذنا جميعا من مضلات الفتن.. كما نسأله أن يجزي أخانا العلامة الشيخ طفيل محمد أمير الجماعة الإسلامية عن كلمته في هذه الطائفة خير الجزاء فلقد أحسن وأفاد ووفق للصواب، وهذا نص ما تيسر من كلامه في شأن هذه الطائفة الضالة.
لاهور: 3/2/1975م(11/55)
طالب الأستاذ طفيل محمد أمير الجماعة الإسلامية في باكستان الحكومة الباكستانية بمعاقبة كل رجل يقوم بالدعوة المعارضة لعقيدة خاتم النبوة بأي أسلوب أو بأي وسيلة، وذلك بموجب التعديلات الدستورية الأخيرة التي أدخلت على دستور باكستان لأجل حماية عقيدة خاتم النبوة التي هي أساس دولة باكستان الإسلامية والكفيلة بسلامتها ووحدتها. وكذلك الذي يقترف جريمة ادعاء النبوة يجب أن يعاقب بموجب حكم الشرع الإسلامي في هذا الباب.
إن الأستاذ طفيل محمد ألقى هذه الكلمة في مؤتمر إسلامي سمي (بمؤتمر ختم النبوة) في مدينة جنيوت المجاورة لمدينة (ربوة) القاديانية وضم المؤتمر ممثلين من رؤساء كافة المنظمات الإسلامية والشخصيات الإسلامية البارزة. وكان عدد الحضور حوالي مائة ألف شخص من الجماهير المسلمة. وطالب الأستاذ طفيل بوضع الحضر على القاديانيين في إطلاق المصطلحات الإسلامية مثل (نبي) و (رسول) و (أصحاب) و (أهل البيت) و (أم المؤمنين) و (رضي الله عنه) على زعماء القاديانية؛ لأن تلك الألقاب لا يطلقها المسلمون إلا على الأنبياء والرسل وأصحابهم الكرام.(11/56)
وناشد الأستاذ محمد طفيل القاديانيين أنفسهم بعدم اللجوء إلى التعسف والاعتزاز بالإثم في أمور الإيمان والعقيدة والمسؤولية في الآخرة. ونصحهم بالعودة إلى الإسلام والانضمام إلى صفوف الأمة الإسلامية بعد الاعتراف الصادق بكون محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل بجميع المعاني لهذه الكلمة. ودعا الأستاذ طفيل محمد القاديانيين إلى التفكر في أن مسلمي الهند وباكستان ليسوا الوحيدين في اعتبارهم غير مسلمين بل إن جميع مسلمي العالم قرروا بكون الميرزا غلام أحمد وأتباعه خارجين عن الإسلام خلال مؤتمر المنظمات الإسلامية الذي عقد في مكة المكرمة، وإذن عليهم - أي القاديانيين - أن يتفكروا جديا: هل أن جميع مسلمي العالم أصبحوا يعادونهم بدون ما سبب؟ وأضاف قائلا: "إن هذا الموقف الإسلامي لا يقوم على أي عداء أو ضيق النظر بل يقوم على الإعلان الواضح من كتاب الله وسنة رسوله بأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء ولا نبي بعده. وعلى هذا فالأمر يدعو القاديانيين إلى أن يتفكروا: أيها أصدق قولا: هل أن الأمة الإسلامية التي لا تزال تلتزم بعقيدة ختم النبوة منذ أربع عشر قرنا بالإجماع، أم الميرزا غلام أحمد المدعي للنبوة وخلفائه الميرزا بشير الدين محمود والميرزا ناصر أحمد وحفنة من أعوانهم الذين جاءوا ليكفروا الأمة الإسلامية بأسرها التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم أمة مسلمة". واستطرد الأستاذ طفيل محمد قائلا: "إن هذه المسألة ليست مسألة سياسة وإنما هي مسألة ترجع إلى العقيدة والإيمان والنجاة في الآخرة. وعلى القاديانيين بعد ذلك أن يقرروا من الآن وهم أحياء: إذا حشر المسلمون يوم القيامة تحت لواء محمد صلى الله عليه وسلم فتحت أي لواء يحشر القاديانيون؟ أتحت لواء محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وسيد المرسلين أم تحت لواء الكذاب غلام أحمد. أليس الأمر في منتهى الغرابة أن الذين جعلهم النبي صلى الله عليه وسلم مسلمين(11/57)
يعتبرهم غلام أحمد كفارا؟ ".
وتوجه الأستاذ طفيل محمد إلى المسؤولين في باكستان وقال لهم: "ما دام المسلمون الذين يؤمنون بكون محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء فيجب على حكامهم أن يسترشدوه في جميع شؤون الحياة الفردية والاجتماعية". وأعرب الأستاذ طفيل محمد عن أسفه الشديد على أن حكام باكستان منهم من لا يجد حلولا للمشكلات الاجتماعية إلا فيما وضعه لينين وماركس من أنظمة منحرفة ثم يحاول فرضها على باكستان.
وذكر الأستاذ طفيل محمد التعديلات الدستورية الأخيرة والمتضمنة لعقيدة خاتم النبوة وقال: "على رغم مضي وقت طويل عليها لم تتخذ الحكومة أي إجراء حاسم لتطبيقها. وأن مشروع القرار الذي طرح أخيرا للنقاش في البرلمان مشروع غامض إذ أن الذي يعتبر نفسه مسلما كيف يستطيع أن يقوم بالدعوة المخالفة لعقيدة خاتم النبوة. ولذلك من الواجب أن يدخل على هذا المشروع تعديل يصرح بأن كل من يقوم بالتبليغ ضد عقيدة ختم النبوة ينال عقوبة صارمة بموجب القانون، والذي يدعي النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم يعاقب بالعقوبة التي قررتها الشريعة الإسلامية لمثل هذا الكذاب".
وفي الختام ناشد الأستاذ طفيل محمد جماهير المسلمة في باكستان قائلا: "ما دام المسلمون يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم هاديا ومرشدا وخاتما للرسل والأنبياء فعليهم أن يشمِّروا عن ساقهم لتطبيق النظام الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم للحياة البشرية، وأن يبرهنوا بما يملكون من الوسائل على أن باكستان لا مجال فيها لأي نظام يعاكس الإسلام".(11/58)
ظواهر رهيبة
لفضيلة الشيخ محمد مجذوب
في العدد الصادر بتاريخ 10/5/95 من جريدة (الرياض) كلمة لا أدري بم أصفها، خطها قلم فتىً يدعى مروان المصري بعنوان (شهرزاد الجديدة) وقد تضمنت من بذئ اللفظ ووقح التعابير ما يندى له جبين المهذّبين خجلاً، ويكاد قارئها لا يصدق أن مثل هذه التوافه الجنسية يمكن أن يتسع له صدر جريدة تصدر في عاصمة الدولة التي تحمل راية الإسلام، وفيها قِبْلِة المسلمين، والمقدسات التي تتطلع إليها عيون مئات الملايين من المؤمنين! .
إنها لعمر الحق لظاهرة رهيبة من حقها أن تهز ضمائر أولي العقل والدين، إذ تنذر بأن دفقات من السموم الدخيلة قد بدأت تتسرب إلى هذه الديار، فتهيئ الجو لظهور جيل من الضائعين، الذين رفضوا قِيَمَ أمتهم ومثلها، وأطلقوا لسخافاتهم عنان القول، حتى ليستطيعوا نشرها في صحف لها مكانتها عند الآلاف من القراء والقارئات.
لقد كان الناس - ولا ينفكون بحمد الله - في هذه البلاد يعرفون نعمة الله عليهم بنجاتها من أمثال هذه الأمراض الخلقية، التي تدمر الأمم من حولهم.. وكان الأمل ولا يزال كبيراً بأن تنهض أجيالها الناشئة بنصيبها في إرشاد الضالين بما تحمله من حصانة روحية وهداية ربانية، تسمو بها فوق هذه الرذائل المثيرة، فتكون كسلفها الصالح الذي انطلق من هذه الجزيرة يحمل إلى شعوب الدنيا أنوار القرآن، فيخرجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، من جور الأديان إلى عدل الإسلام.(11/59)
لذلك كان ظهور مثل هذه النزغات الشيطانية منشورة في الصحف نكسة لا مندوحة عن معالجتها، قبل أن تتحول إلى ألغام ناسفة كشأنها في البلاد الأخرى وكما أن على المؤسسات الصحية في الدولة أن تهب عند ظهور الأوبئة لحصرها واستئصالها، وهكذا يجب على أولي الأمر والرأي من الحكام وأهل العلم أن يقفوا في وجه الحمقى من الذين يريدون أن يخرقوا سفينة المجتمع، ليتمتعوا بالنظر إلى غرقها..
وشاء الله أن أطلع - بعد كتابة هذه الكلمة - على رسالة واردة من مسلم غيور إلى شيخنا العلامة بن باز، يسترعي انتباه سماحته إلى عبارة قرأها في العدد (410) من مجلة (الجديد) الصادرة في بيروت، تصف المغني المدعو عبد الحليم حافظ بأنه (معبود لكل جيل) وتعلل المجلة ذلك بقولها: "إن الجماهير العربية تحتاج إلى معبود لكل جيل من الأجيال".
وبقليل من التأمل يتبين القارئ أن كلتا الكلمتين في (الرياض) و (الجديد) تنطلقان من مؤثر واحد هو انعدام الشعور بمسئولية الكلمة، والاندفاع الضرير وراء دعاة الجاهلية الحديثة، التي تريد صرف الشباب المسلم عن مقومات دينه إلى غير سبيل المؤمنين.
وإلا فأي مغرور هذا الذي يجعل من مُغَن معبوداً.. ثم لا يستحي أن يزعم أن ذلك ضروري لكل الأجيال العربية على مر الدهر!.
الحق إنه لمنحدر هائل ينزلق فيه هؤلاء الذين لا يحسنون استعمال أقلامهم إلا في مثل هذا الضرب من الهراء المؤسف.. وقد نسوا المحن التي تعانيها أمتهم، والتي تتطلب من كل ذي موهبة أن يضعها في خدمة الخير والحق والفضيلة، بدلا من ذلك الهذر الذي لا يفيد منه سوى أعداء الإسلام والعرب والإنسانية، من أصحاب البروتوكولات ومن في خدمتهم من الهدامين العالميين.
وإنه لمن حق كل غيور في هذه المملكة الغالية أن يتساءل: كيف سمح لمثل هذا السم أن يتسرب إلى قرائها! ... وكيف غفلت المراقبة عنه، ففسحت لذلك العدد من مجلة (الجديد) سبيل التسلل إلى أسواقها! ؟..(11/60)
وأخيراً إننا لعلى ثقة أن أولي الأمر في هذه المملكة العزيزة أغير على فضائل هذه الأمة من أن يدعوها لعبث العابثين ومحاولات الهدامين، وأن حملة الأقلام النظيفة بالمرصاد لكل مشبوه يريد بث الفساد في هذه البلاد. ولا جرم أن تعاون الفريقين في هذا المضمار هو السمة الأولى التي تميز الطائفة الظاهرة التي جعلها الله خير أمة أخرجت للناس، لحفاظها بعد الإيمان على أمانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والله المسئول أن يقي هذه البلاد مزالق الفتن، ومهاوي الفجور، لتظل جديرة بنصر الله ونعمه السابغة.
والحمد لله رب العالمين.
{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}
دخل العرب باب التاريخ الواسع مع الإسلام، وقد ترتب على ذلك أنهم لما خرجوا إلى بلاد الله الواسعة كان لهم دين توحيدي واضح المعالم بين الطريق. وقد حددت لهم العبادات التي يتوجب عليهم أن يقوموا بها ابتغاء مرضاة الله. ولكن ما لا يقل عن ذلك أهمية، ولا ينفصل عنه بطبيعة الحال، هو أن الدين الجديد وضع للناس قواعد خلقية وقوانين أدبية رفيعة، تحدد علاقة الناس واحدهم بالآخر. والإسلام كان، من أول أمره. واستمر على ذلك في تاريخه، يعيِّن للمؤمن سبيل حياته في الحياة الدنيا. ويمكن له من نصيبه في الحياة الأخرى، فلا يهمل الأولى في سبيل الثانية، ومن ثم فقد كان باعثا على العمل ودافعا إلى السير قدما.
المجلة العربية رجب /95(11/61)
مؤتمر وقف رسالة الإسلام
لفضيلة الشيخ إقبال شودري
عقد المؤتمر السنوي الأول وحفل توزيع الجوائز لوقف رسالة الإسلام في يوم الأحد الموافق للسابع والعشرين من جمادى الأولى سنة1395 هـ - الثامن من يونيه سنة 1975م، وذلك في مركز مَاونْت يليزَانت الاجتماعي بمدينة برمنغهام. وقد اقتصر اجتماع الفترة الصباحية على حضور أعضاء مجلس إدارة الوقف والمؤيدين والأعضاء المشتركين فيه، وقد عُرض عليهم برنامج عمل الوقف وتمت الموافقة عليه بعد مناقشته.
كما قدم رئيس الوقف التقرير السنوي والحسابات السنوية وخطة عمل السنة القادمة إن شاء الله. وبعد مناقشتها وإجراء بعض التعديلات الضرورية، وافق الأعضاء عليها.
وأما في فترات ما بعد الظهر والمساء فقد عقدت الاجتماعات العامة المفتوحة التي حضرها الوفود من مختلف المدن. وأجريت بين الشباب المسابقات في القراءات، والشعر الإسلامي باللغات الأردية والإنكليزية، والخطب عن السيرة النبوية العطرة. وقام الأستاذ رشيد قريشي عضو مجلس التنفيذي للوقف بتقديم كلمة عن (أهمية الدعوة الإسلامية) وكذلك قام الأستاذ سيد منور مشهدي عضو مجلس التنفيذي أيضاً بإلقاء كلمة عن (دور المسلم الذي يجب أن يقوم به نحو الدعوة الإسلامية) . وقد بين المتحدثون - مؤيدين أقوالهم بأدلة الكتاب والسنة - كيف أنه من الحيوي للمسلم أن يكون داعياً إلى الله سبحانه وأن يبذل قصارى جهده ليكون مسلماً على الوجه الصحيح قائما بدوره في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(11/62)
وبعد ذلك قام الأستاذ إقبال شودري رئيس الوقف - مقدماً الوقف وأعضاءه - بقراءة التقرير السنوي وحسابات الوقف حيث ذكر أن جملة المصروفات بلغت حوالي خمسة آلاف جنيه مع وجود عجز يبلغ أكثر من ألف جنيه بقليل. وفي التقرير شكر الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، والأستاذ سالم عزام أمين عام المجلس الإسلامي في لندن وهو يعمل أيضاً كقنصل بسفارة المملكة العربية السعودية بلندن.. شكرهما على ما يقومان به من دور هام في تشجيع نشاط الوقف وإمداده بالمراجع والمطبوعات الإسلامية القيمة التي توزع مجاناً على غير المسلمين والمسلمين الجدد والمسلمين المستحقين من الإخوة والأخوات والطلبة.
وقد ذكر أيضاً في تقريره أن رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة قد سمح للوقوف بإرسال طالب واحد إلى كل من الكليات الثلاث بالجامعة، وثلاثة طلاب إلى شعبة اللغة، وذلك كل عام وعلى نفقة الجامعة. وقال: "إننا ننشر ونوزع بالمجان كلا من مجلتينا (رسالة الإسلام الشهرية) و (الشباب المسلم الشهرية) في المملكة المتحدة وإحدى وأربعين دولة فيما وراء البحار. وقد قررنا أن نزيد من عدد نسخ المجلات كل شهر، وأن نبني مسجداً مركزاً إسلامياً ليسد الاحتياجات الدينية للجماعة الإسلامية ويثقف ويعلم الأطفال المسلمين".
وقال: "إن المشروع كبير جداً وسوف يكلف الوقف حوالي خمسين ألف جنيه فوق دخلنا الحالي، ونحن نأمل أن يعاوننا إخواننا المسلمون مادياً ومعنوياً ونشير خاصة إلى أصحاب الدخل الكبير لخدمة الإسلام والمسلمين في بريطانيا، وإعلاء شأن الرسالة الإسلامية ".
ثم شكر جميع المسلمين الذين عاونوا الوقف من أجل رسالة الإسلام، وعقد الأمل على أن هؤلاء المسلمين سوف يستمرون في مساعدة الوقف حتى نستطيع أن نقوم - بفضل الله - بواجب الدعاة.(11/63)
وبعد خطاب رئيس الوقف، قام ضيف الشرف بتوزيع الجوائز على الفائزين في مسابقات الشباب المسلم.
وبعد توزيع الجوائز ألقى ضيف الشرف الأخ أنور المهندس رئيس الجمعية الإسلامية بجامعة برمنغهام خطبة قصيرة أبدى فيها شكره وثناءه على مجلس إدارة وقف الرسالة الإسلام لكفاحه من أجل هذه الرسالة النبيلة، ولتنظيم مثل تلك الاجتماعات والمسابقات للشباب المسلم لتثقيفهم وتعليمهم. وعبَّر على أمله في أن جميع المسلمين سوف يعاونون الوقف ليسد العجز في حساباته وليتوسع في نشاطات الشباب وليبدأ المشروع الكبير.
وفي النهاية شكر رئيس الوقف كل المشاركين وأعضاء مجلس الإدارة وأئمة ومدرسي المساجد والمراكز الإسلامية لقيامهم بتثقيف الشباب المسلم وإرشاده وإعداده للمسابقات، كما شكر جميع الشباب المسلم، ودعا الله سبحانه وتعالى وشكره على هدايته وعونه على أداء ذلك الواجب النبيل، وسأله المغفرة والهداية لإعلاء كلمة الإسلام.
وختم سيد منور مشهدي الاجتماع بدعاء خاشع جليل.
في القرن السادس للميلاد كانت اللغة العربية الشمالية قد أصبحت وسيلة التعبير الأولى، شعرا ونثرا, بالنسبة إلى سائر اللهجات العربية، وقد استوى لها ما تحتاجه اللغة من أدوات تلزمها وقواعد تضبطها وصيغ تصور بها حاجاتها وقد وصل إلينا من تلك اللغة شعر كثير ونثر أقل. فلما اختار الله العربية لغة كتابه الكريم، وأخذ الناس بحفظه وترتيله، ملأ عليهم نفوسهم لما فيه من صادق الدعوة ورفيع المعاني وسامي البلاغة. ودخل شفاف قلوبهم. والقرآن جاء في هذه اللغة العربية على أكمل ما يمكن أن نصل إليه. والقرآن هو الذي حفظ لهذه اللغة كيانها بعد الإسلام، وأدى إلى انتشارها وتوسيع رقعة استعمالها، وأصبحت العربية بذلك أداة ممتازة للتعبير عن المعاني التي حفل بها القرآن من حيث الإيمان والعقيدة ومكارم الأخلاق، والصور التي نجدها فيه للجنة والنار..(11/64)
والقواعد الشرعية والخلفية التي استنت للمؤمنين، وقصص الأنبياء والرسل. وإذن فالقرآن - فضلا أنه ثبَّت للعربية أسلوبها وبلاغتها - فإنها حمَّلها كل هذه المعاني الجديدة فتفقفقت عن أراء جديد وصور مستحدثة، كما أن القرآن كان السبب الأول في نشوء أنواع من علم اللغة وعلوم القرآن نفسه، قراءات وتفسيرا وعلوم الحديث..
المجلة العربية رجب /95(11/65)
أمَة وَاحدَة
بقلم بنت الشاطئ
اليوم موعدنا مع الذكرى الحية لحرب رمضان الباسلة التي صححت موازين القوى، ورفعت عناصر المذلة والعار.
أمتي تحتفل بها، وأنا ما أزال في حمى الحرمين الشريفين معتكفة للعبادة والدرس، لا أشعر بغربة عن وطن ودار.
بل الشعور الراسخ أننا على تباعد الديار وتنائي الأقطار: أمة واحدة.
فهنا في منزل الوحي ودار المبعث؛ قبلة أمتنا ومثابة حجنا ومهوى أفئدتنا، وهنا، في الحرم المدني؛ دار هجرة نبينا المصطفى صلى اله عليه وسلم، ومسجده وبيته، ومئواه ومزراه..
ومن هنا: كان بدء تاريخ أمتنا، ومنطلق كتائب الفتوح التي حملت لواء الإسلام إلى الآفاق من مشرق ومغرب..
في ربيع 1969م، كنت في زيارتي الأولى لباكستان، أقف خاشعة حيث عبر (القاسم بن محمد الثقفي) باللواء من خراسان إلى وادي السند، في سنة 94هـ
وفي خريف السنة نفسها - 1969 - كنت في ربوع المغرب أقف خاشعة تجاه مضيق جبل طارق، حيث عبر المجاهد المغربي وجنده بلواء الإسلام إلى الأندلس، سنة 92هـ.
فلم ينتهي القرن الأول للهجرة، إلا ومجال النور البازغ من غار حراء، قد امتد من هضبة الدكن وساحل بحر الهند، إلى قمم الأطلسي وحافة بحر الظلمات.
في باكستان، كنا نحتفل عامئذ بمهرجان (شاعر محمد إقبال) .
وفي المغرب، كنا نتدارس في (فاس) تأسيس جامعة للجامعات الإسلامية، ثم نشهد مؤتمر القمة الإسلامي بالرباط.
وهناك وهناك، تفتح الجلسات باسم الله.
ويرتفع أذان الصلاة من ألوف المآذن، فيستقبل الملايين القبلة الواحدة شطر المسجد الحرام.
وتعلو كلمة (الله أكبر) .
فتعطي تاريخنا الإسلامي تفسيره ومنطقه.
وتستقطب سائر العوامل المؤثرة في حركة التاريخ، مادية وسياسية واجتماعية وثقافية ...(11/66)
في مرهف وعبى لوحدة أمتنا - وأنا في حمى الحرمين - أسترجع ما كان من أحداث المرحلة الحرجة ما بين سادس يونية المشئوم وعاشر رمضان المبارك. فلا يغيب عني من منطق الهزيمة والنصر، أننا فرطنا في وحدة اللواء وتمزقنا طرائق قددا بعضنا لبعض عدو، وجعلنا من أرض وطننا ساحة لقتال، استنزفت فيه حرب اليمن وحدها قِوَانا لخمس سنين دأبا، وعبثت الأجهزة الإعلامية لتمزيق أقطار الوطن بذرائع الفتنة، تشغلنا عن العدو، وتلهينا عن إسرائيل المزعومة. فحقت علينا الهزيمة الساحقة من قبل أن يدور قتال، وتركنا جيشنا بالعراء غنيمة لعدو فرغ من حصد جنودنا في بضع ساعات معدودات، ومضى يرسخ على أشلائهم وجوده المغتصب، في تحد فاجر ومهين.
حتى رددنا الكرة على العدو في حرب رمضان التي جمعت شتات شملنا المبعثر، بعد طول تصدع وتمزق..
وتمت التعبئة القصوى في أقطار وطننا، للجهاد بالجند والسلاح والمال والبترول بمجرد إعلان القرار التاريخي للرئيس السادات، بحرب التحرير.
لم تنتظر التعبئة اجتماع طارئ لجامعة الدول العربية أو مؤتمر الدول الإسلامية، ليقرر لكل دولة دورها في دعم جبهة القتال.
ولم تتأخر التعبئة العامة ريثما تبدو بوادر هذا الصدام المسلح في سيناء وعلى مرتفعات الجولان، لكي تحدد كل دولة موقفها وتسأل عما تقدمه من دعم لجيش مصر وسورية، أو تساوم به على ثمن سياسي ووضع مذهبي وتوجيه إعلامي.
بل لم تحسب حسابا لما بينها من اختلاف النظم، والأوضاع، ولا ذكرت ما كان بين الحكام من عداوة وأحقاد..
ضمير الأمة ارتفع بها فوق الفوارق المذهبية والخصومات الفردية.
وحتمية الوحدة، وجودا ومصيرا، استنفرتها للجهاد في معركتها الواحدة ضد عدوها.
وصدقتا القتال، فصدقنا الله وعده: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} .
وكنا معا فكان الله معنا:(11/67)
{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} .
صدق الله العظيم.
عن جريدة (الأهرام)(11/68)
الرابطة تستنكر المحاولات الهدامة لتشويه حقَائِق الإسلام
استنكرت رابطة العالم الإسلامي محاولات التشويش التي تقوم بها الأجهزة الصهيونية الحاقدة على الإسلام بما تنشره من أقاويل ومفتريات عن الإسلام والقرآن الكريم.
فقد صرح معالي أمين عام الرابطة بصدد ما جاء في كتاب (تاريخ البشرية) الذي أصدرته منظمة اليونسكو وتضمن الكثير من التهجم والافتراء على الإسلام والقرآن الكريم بقوله:
"إن هذا العمل الذي تقوم به منظمة دولية مفروض فيها الحرص الشديد على النزاهة والتجرد من الهوى والفحش يمس عقيدة 700 مليون مسلم في العالم بنشر ما يخالف مبادئ الإسلام ويجرح شعور المسلمين وهو لا يجلب غير الخزي والعار على الذين تصدر عنهم أمثال هذه الافتراءات المغرضة.
إن الإسلام دين إلهي ختم الله به رسالات الأنبياء فجاء شاملا لأمور الدين والدنيا وحكم به المسلمون وبنوا حضارة إنسانية شاملة لا مثيل لها في تاريخ البشرية.
فمن العبث أن يقوم نفر ينتمون إلى منظمة عرفت بنشر العلم والثقافة فيستغلوا أهدافها الإنسانية لأغراضهم الدنيئة والقبيحة..
إن تحدي مشاعر المسلمين في معتقداتهم وقرآنهم إنما هو في حقيقة الأمر إفلاس وادعاء لا يخدم غير إثارة الأحقاد والبلبلة وفتح صفحة من صفحات الحروب الصليبية.
لذا أعتقد بأنه يجب على المسؤولين في منظمة اليونسكو وعلى رأسهم مديرها العام المبادرة السريعة إلى إيقاف نشر هذا الكتاب وسحب الأعداد منه وحذف كل ما يمس الإسلام ويشوه مبادئه وحقائقه الجوهرية".(11/69)
من أعلام المحدثين
الحافظ ابن حجر العسقلاني (773 - 825 هـ)
بقلم: الأستاذ عبد المحسن بن حمد العباد
لفضيلة نائب رئيس الجامعة
نسبه:
هو أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد الشهير بابن حجر - نسبة إلى آل حجر قوم تسكن الجنوب الآخر على بلاد الجرين وأرضهم قابس - الكناني العسقلاني الأصل مصري المولد والمنشأ والدار والوفاة الشافعي هكذا نسبه ابن العماد في شذرات الذهب ويقول السخاوي في الضوء اللامع: "ويعرف بابن حجر وهو لقب لبعض آبائه".
نشأته:
ولد في مصر العتيقة ثالث عشر شعبان سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة مات والده وهو طفل في شهر رجب سنة سبع وسبعين وسبعمائة فأدخل الكتاب بعد كمال خمس سنين وحفظ القرآن وهو ابن تسع سنين وكان له ذكاء وسرعة حافظة بحيث أنه حفظ سورة مريم في يوم واحد وكانت نشأته في كنف أحد أوصيائه "الزكي الخروبي"وحج في سنة أربع وثمانين وسبعمائة وجاور بمكة في السنة التي بعدها واشتغل في فنون شتى من العلم تلقاه عن عدة من شيوخه وحبب الله إليه الحديث فأقبل عليه بكليته وطلبه من سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة فعكف على الزين العراقي وتخرج به وانتفع بملازمته وقرأ عليه ألفيته وشرحها ونكته على ابن الصلاح دراية وتحقيقا والكثير من الكتب الكبار والأجزاء القصار وتحول إلى القاهرة قبيل القرن فسكنها وارتحل إلى البلاد الشامية والمصرية والحجازية وأكثر جدا من المسموع والشيوخ فسمع العالي والنازل وأخذ عن الشيوخ والأقران فمن دونهم.
نماذج من الثناء عليه:(11/70)
قال السخاوي في الضوء اللامع: "شيخي الأستاذ إمام الأئمة". وقال: "شهد له القدماء بالحفظ والثقة والأمانة والمعرفة التامة والذهن الوقاد والذكاء المفرط وسعة العلم في فنون شتى وشهد له شيخه العراقي بأنه أعلم أصحابه في الحديث". وقال كل من التقي الفاسي والبرهان الحلبي:"ما رأينا مثله". وقال ابن فهد في ذيل تذكرة الحفاظ: "الإمام العلامة الحافظ فريد الوقت مفخرة الزمان بقية الحفاظ عَلَم الأئمة الأعلام عمدة المحققين خاتمة الحفاظ المبرزين والقضاة المشهورين". وقال: "ولم يخلف بعده مثله في الحفظ والإتقان". وقال السيوطي في ذيل تذكرة الحفاظ: "شيخ الإسلام وإمام الحفاظ في زمانه وحافظ الديار المصرية وحافظ الدنيا مطلقا". وقال: "وقد غلق بعده الباب وختم به هذا الشأن". وقال الشوكاني في البدر الطالع: "الحافظ الكبير الشهير الإمام المنفرد بمعرفة الحديث وعلله في الأزمنة المتأخرة". وقال: "وتصدى لنشر الحديث وقصر نفسه عليه مطالعة وإقراءً وتصنيفا وتفرد بذلك وشهد له بالحفظ والإتقان القريب والبعيد والعدو والصديق حتى صار إطلاق لفظ الحافظ عليه كلمة إجماع ورحل الطلبة إليه من الأقطار وطارت مؤلفاته في حياته وانتشرت في البلاد وتكاتبت الملوك من قطر إلى قطر في شأنها". وقال ابن العماد في شذرات الذهب: "شيخ الإسلام علم الأعلام أمير المؤمنين في الحديث حافظ العصر".
آثاره:(11/71)
قال السخاوي في الضوء اللامع: "وزادت تصانيفه التي معظمها في فنون الحديث وفيها من فنون الأدب والفقه والأصلين وغير ذلك على مائة وخمسين تصنيفا ورزق فيها من السعد والقبول خصوصا فتح الباري الذي لم يسبق إلى نظيره أمرا عجيبا". وقال: "واعتنى بتحصيل تصانيفه كثير من شيوخه وأقرانه فمن دونهم وكتبها الأكابر وانتشرت في حياته وأقرأ الكثير منها". وقال ابن فهد في ذيل التذكرة: "ألف التآليف المفيدة والمليحة الجليلة السائرة الشاهدة له بكل فضيلة الدالة على غزارة فوائده والمعربة عن حسن مقاصده جمع فيها فأوعى وفاق أقرانه جنسا ونوعا التي تشنفت لسماعها الأسماع وانعقد على كمالها لسان الإجماع فرزق فيها الحظ السامي على اللمس وسارت بها الركبان سير الشمس فأولاها بالتعظيم وأولها في التقديم فتح الباري في شرح البخاري". وقال السيوطي في ذيل التذكرة: "وصنف التصانيف التي عم النفع بها كشرح البخاري الذي لم يصنف أحد في الأولين والآخرين مثله". وقال: "وله تعاليق وتخاريج ما الحفاظ والمحدثون لها إلا محاويج".
من أشهر مؤلفاته المطبوعة:
"فتح الباري"وهو واسطة عِقْدِها وغرة جبينها الذي يعتبر موسوعة علمية كبرى ليس لها مثيل ومنها "تهذيب التهذيب"و"تقريبه"و"تعجيل المنفعة"و"لسان الميزان"و"الدرر الكامنة"و"المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية"و"بلوغ المرام"و"الإصابة في تمييز الصحابة"و"تبصير المنتبه بتحرير المشتبه".
وفاته:
توفي رحمه الله ليلة السبت الثامن والعشرين من شهر ذي الحجة سنة 852هـ على أثر إسهال حصل له مع رمي الدم وصلى عليه قبيل صلاة الظهر بمصلى المؤمنين بالرميلة خارج القاهرة وكان له مشهد عظيم حضر الصلاة عليه السلطان الملك الظاهر جمقمق ودفن بالقرافة رحمه الله وغفر له.
ممن ترجم له:
1- ترجم له السخاوي في كتاب مفرد وفي الضوء اللامع 2/36.(11/72)
2- والسيوطي في ذيل تذكرة الحفاظ 380.
3- وابن فهد في ذيل التذكرة 326.
4- والشوكاني في البدر الطالع 1/87.
5- وصديق خان في التاج المكلل 362.
6- وابن العماد في شذرات الذهب 7/270.
7- وعمر كحالة في معجم المؤلفين 2/20.(11/73)
رسالة من شيخ الأزهر إلى المدير العام لمنظمة اليونسكو بشأن كتاب
(تاريخ البشرية)
لشيخ الأزهر: دكتور عبد الحليم محمود
السيد المدير العام لمنظمة التربية والثقافة والعلوم التابعة للأمم المتحدة - اليونسكو - باريس.
تحية طيبة.. وبعد:
بالرجوع إلى الصفحات: 450-546 من القسم الثاني للمجلد الثالث من كتاب (تاريخ البشرية) الذي أصدرته المنظمة نجد فصلا عن الإسلام جاء فيه:
1- أن الإسلام احتفظ في ركن الكعبة بالوثن المهم لأهل مكة وهو الحجر الأسود.
2- أن الإسلام كان توفيقاً بين نظريات مسيحية ويهودية ووثنية.
3- أن القرآن مؤلف تأليفا بشريا وأنه ذو مراتب مختلفة في نسقه وفي طريقة تعبيره.
4- مفتريات أخرى عن الإسلام.
وإننا لنرى أن إيراد هذه المعلومات عن الإسلام - على هذا الوجه - يكشف عن جهل كاتب هذه المادة وعن مغالطاته.
· لقد جهل أن الإسلام أولى الديانات جميعها في عقيدته التوحيدية، وغالط الحقيقة بأن ذكر أن الإسلام احتفظ بآثار مادية وفكرية للوثنية.
· لقد جهل أن الإسلام دين كامل وأنه نموذج للكمال في جوانبه التشريعية وفي العبادة والأخلاق فكان من المغالطة أن يزعم أنه نسيج ممزق يتكون من قطع من الوثنية والمسيحية واليهودية..إلخ.
· لقد وضح أن كاتب المادة يجهل الإسلام ويجهل فرائضه، فلم يعرف الفريضة الثانية فيه وهي الزكاة.
· ووضح أنه يعجز عن فهم اللغة العربية.. فضلا عن أن يتذوقها، ثم حكم بالتفاوت في مستوى التعبير القرآني.
ولما كان العمل من جانب كاتب هذه المادة يعبر عن الجهل والمغالطة ويسيء إلى منظمة اليونسكو ويجعلها خارجة عن ميثاق الأمم المتحدة وعن ميثاقها الذي يوجب عليها أن تلتزم الحيدة في كتابة بحوثها وأن تضعها على أساس من المعايير العلمية الدقيقة.(11/74)
كذلك فإن في هذا العمل خروجا عن أهداف المنظمة وهو العمل على تخفيف حدة التنافر العنصري والاجتماعي بين الاجتماعات العالمية والعناية بنشر وتقدير الأعمال ذات القيم الثقافية والإنسانية العالمية في الشرق أو في الغرب.
ولما كان هذا العمل يشوه - بالباطل - صورة الإسلام في نظر من يقرأ كتابكم (تاريخ البشرية) وفي ظنه أنه كتاب محايد:
لهذا: فإننا على ما جاء فيه في مادة (الإسلام) ونطلب:
1- سحب هذا الجزء من كتاب (تاريخ البشرية) فورا..والتنبيه إلى أخطائه في هذه المادة.
2- إعادة كتابة هذه المادة بمعرفة بعض المفكرين المسلمين.
3- أن تخطروا المجلس التنفيذي للمنظمة بهذا المشكل ليقرر ما يراه كفيلا بإصلاح هذا الخطأ.
ومع عظم التقدير لكم..
شيخ الأزهر: دكتور عبد الحليم محمود
27 من جمادى الآخرة سنة 1395هـ
من يوليو سنة 1975م(11/75)
الوجود الشيوعي الكريه في مصر
للأستاذ محمد عبد الله السمان
شنت مجلة (روز اليوسف) القاهرية حملة شيوعية محمومة منذ أيام على فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود، والهدف من هذه الحملة المحمومة التي تولَّى كبرها الكاتب الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي رئيس مجلس إدارة روز اليوسف، هو القصاص من شيخ الأزهر، لأن فضيلته ذكر في تحقيق صحفي أجرته مع فضيلته مجلة (آخر ساعة) فقال كلمة الحق معبرا عن رأي الإسلام في الشيوعية. وهو أن الإسلام والشيوعية لا يمكنهما أن يلتقيا ومحال عليهما أن يلتقيا، لأن الشيوعية تنكر وجود الله، وتتنكر لسائر الأديان السماوية، وما أتت به من مبادئ إنسانية وأخلاقية، فالشيوعية أعلنت منذ بدايتها أنها حرب على الله، وأن الدين أفيون الشعوب.
ولسنا ندري ماذا كان ينتظر من شيخ الأزهر أن يقوله عن الشيوعية؟ أكان ينتظر من فضيلته مثلا أن يمجد الشيوعية ويطريها، ويبارك نشاط الأقلام لقد جن جنون (روز اليوسف) حين تصدى بعض العلماء للرد على مقال الشرقاوي الذي نفث فيه كل سمومه وأحقاده، وصاغه بأسلوب تهكمي مقذع، شأن كل أسلوب شيوعي معروف.
أقول: عندما تصدى بعض العلماء والكتَّاب للرد على تطاولات الشرقاوي، جن جنون الأقلام العاملة في فلك روز اليوسف والتي رأت أن واجب الولاء للسيد رئيس مجلس الإدارة يفرض عليها أن تتقيأ هي الأخرى أحقادها دفاعا عنه.
والعجيب أن مهاترات أهل اليسار ليست إلا مغالطات جريئة، وادعاءات ليس فيها بصيص من الحقيقة، ليس هذا وحسب بل إن هذه المهاترات يتخللها أحيانا ألوان من الدس الرخيص، والاستعداء الرخيص المكشوف.(11/76)
فهذه المهاترات مثلا، تحاول أن توحي بأن موقف شيخ الأزهر المعادي للشيوعية من شأنه أن يثير الفتنة الطائفية، ويعمل على تفتيت الوحدة الوطنية، التي تحرص الدولة بكل قواها على الحرص عليها أية وحدة وطنية هذه التي تتحدثون عنها أيها الناس؟
هل بضع عشرات ... أو حتى بضع مئات منكم تؤلف وحدة وطنية مع خمس وثلاثين مليونا أو يزيدون؟
وهذه المهاترات تحاول مرة ثانية أن تلمح بأن المعاداة الشيوعية في مصر، من شأنها أن تثير غضب الاتحاد السوفياتي الذي وقف إلى جانب مصر في معركتها ضد إسرائيل!
إن أرباب المهاترات يتجاهلون:
أولاً: أن الاتحاد السوفييتي لم يتصدق على مصر بشيء، بل كان هو المستفيد من بيع صفقات السلاح لمصر بأبهظ الأثمان.. وأبهظ الفوائد.
ثانياً: ويتجاهلون أن موقف الاتحاد السوفييتي الذي يدينون له بالولاء في معركة العاشر من رمضان، كان موقفاً مثيرا للأسى والأسف معا، وأقل ما يقال عنه: إنه موقف اتسم بالتخلي والتخاذل.
ثالثاً: ويتجاهلون أن الاتحاد السوفييتي، حين عمد إلى التسلل إلى ليبيا، وإلى مساندة النظام الماركسي في كل من اليمن الجنوبية والصومال. لم يسئ إلى مصر وحدها، بل إلى العالم العربي قاطبة.
رابعاً: ثم يتجاهلون أن الاتحاد السوفييتي في هذه الأيام يسعى جاهداً - عن طريق الدس والوقيعة - لتفريق وحدة الصف العربي، منتهزاً أدنى الفرص للصيد في الماء العكر.. ويسعى كذلك لبلبلة الأفكار إزاء خطوة تخطوها مصر نحو السلام.(11/77)
وثالثة الأثافي: أن هذه المهاترات اليسارية الصبيانية تتحدث عن نضال أهل اليسار في مصر..ونحن لا ننكر أن لأهل اليسار هؤلاء دورا.. لكن ليس نضاليا ولا وطنيا على الإطلاق..بل إنه دور تخريبي بكل ما تحمل كلمة التخريب من معنى.. في مجالات السياسة والأخلاق والدين.. إن لهم دورا تخريبي في مجال السياسة حيث دأبوا على إثارة الشغب في الأوساط الطلابية والعمالية.. وفي مجال الأخلاق دأبوا - في صحفهم - على نشر الميوعة بين الشباب المراهق بين الجنسين، وتشجيع التنكر للتقليد، وفي مجال الدين دأبوا - في شتى وسائل الإعلام - على تقديم كل ما يسيء إلى الإسلام، ويشوه تاريخه.
ولعل الكاتب الشرقاوي في (روز اليوسف) كان ينفث حقده على الأزهر..الذي تصدى لمسرحيته (الحسين ثائر) حتى صادرها، وفوت عليه آلاف الجنيهات التي كان يتوقع الحصول عليها من الجهات الشيعية.
في معركة 1967- وكنا خلف الأسوار - نسينا كل ما لقينا من أذى يجل عن الوصف.. ولم ننس مصر، لأنه لا ذنب لها فيما أصابنا، فأبدينا تطوعنا للجهاد على أن نعود إلى أماكننا بعد انتهاء المعركة، وذلك بعد أن تبرعنا بدمائنا وقروشنا الزهيدة التي لم نكن نملك غيرها، أما القلة من أهل اليسار فقد كان لها منطق عجيب مثير للضحك - وشر البلاء ما يضحك - كانوا يعلنون في تبجح أن المعركة المقدسة بالنسبة لهم هي في فيتنام، وليست في مصر أو في فلسطين!
إن دفاع العلماء عن الأزهر في نظر أهل اليسار هو إرهاب فكري وكنا نعتقد أن الإرهاب الفكري هو آخر شيء يمكن أن يتبجحوا به، ولو أعادوا النظر فيما كتبه الشرقاوي في (روز اليوسف) لأدركوا أن الإرهاب الفكري هو المداد الذي يكتبون به، لقد أرغى الشرقاوي وأزبد..وهدد وتوعد، ونسي أن مصر الإسلامية - برغم أنوفهم - لن تقف مكتوفة الأيدي إذا حاول أهل اليسار(11/78)
وبعد ... فلست ممن يتشيعون لشيخ الأزهر.. ولكن المسألة أكبر من أن تكون حواراً أو خلافا بين الشرقاوي وشيخ الأزهر، إنها جريمة الوجود الشيوعي في مصر حتى بعد أن أعلنت على الملأ أنها (دولة العلم والإيمان) وبعد أن أعلن في آخر دساتيرها أن دين الدولة هو الإسلام.
عن (أخبار العالم الإسلامي)(11/79)
من حضارتنا الإسلامية
من بحث الأستاذ ظافر القاسمي في (المجلة العربية)
تجمع المصادر على أن الوليد بن عبد الملك كان من أكثر الخلفاء اهتماماً بالشؤون الاجتماعية، لا بل من أوائلهم، فقد روى الطبري أنه: "أعطى كل مُقْعَد خادماً، وكل ضرير قائداً".
وفي وصية طاهر إلى ابنه عبد الله التي ساقها الطبري: "وأجْرِ للأضراء، من بيت المال".
ويلوح لي أن خدمة المقعدين والأضراء، وتحمُّل الدولة مسؤولية العناية بهم لم يكن يفرّق فيه بين غني وفقير، ولم يلاحظ فيه ما إذا كان المقعد أو الضرير عنده من أسرته من يقوم بخدمته أم لا، وإنما كان التدبير عامّاً، نظر فيه إلى مسؤولية الدولة عنهم، وعدم إلزام أحد من عائلتهم القيام بخدمتهم، لأن لأفراد الأسرة شأنا يغنيهم ويلهيهم عن القيام بخدمة المقعد منهم.
"وكان يوسف بن عمر يحمل من خراج السواد إلى بيوت الأحداث والعواتق عشرة آلاف ألف".
وقد اجتهدت في هذا النص، وحاولت أن أفهمه على وجهه، فلم أجد إلا أن الدولة الإسلامية، في بداية القرن الثاني الهجري خصصت للفتيات راتباً، بلغت اعتماداته السنوية، أيام يوسف بن عمر عشرة ملايين درهم، على الأقل، إن لم يكن الرقم بالدينار، لأن النص لم يصرح أيهما يريد، وقد فكرت في سبب هذا التخصيص فبدا لي أن الدولة رأت أنها مسؤولة عن هؤلاء الأحداث والعواتق، فإلى أن يكتمل نضج الحدث ويصبح قادرا على الكسب.. تعطيه الدولة راتباً يكفيه، وإلى أن تتزوج العاتق تعطيها الدولة راتباً لتصون ماء وجهها عن الطلب، ولتحميها من أن تكون صيداً هيناً للأشرار، فإذا كانت هذه هي الأسباب الموجبة لهذا التدبير فإنها من أعظم ما عرف في حضارات الأمم السابقة واللاحقة.(11/80)
جواب مستفت
لسماحة رئيس الجامعة الإسلامية
من عبد العزيز بن عبد الله إلى حضرة الأخ الكريم: م. ح.ص زاده الله من العلم والإيمان وجعله مباركا أينما كان، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
أما بعد فقد وصلني كتابكم الكريم المؤرخ 1/1/1395 هـ وصلكم الله بهداه وسرني منه علم صحتكم الحمد له على ذلك.
أما رغبتكم في الإفادة عما نرى حول خطة الدعوة فليس هناك أحسن مما وجه الله به الدعاة في قوله سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وفي قوله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} الآية وفي قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . فنوصيكم بالسير على ضوء هذه الآيات مع الصبر والتحمل والحذر من العنف والشدة لأن ذلك ينفر عن قبول الحق كما لا يخفى.
ونسأل الله أن يعينكم ويبارك في جهودكم ويجعلنا جميعاً من دعاة الهدى وأنصار الحق إنه خير مسئول.(11/81)
أما حكم إيقاع الطلاق الثلاث بألفاظ متعددة ففيه تفصيل حسب ما اتضح لي من الأدلة وقد أوضح ذلك أهل العلم في باب ما يختلف به عدد الطلاق، وجمهور أهل العلم على أن الطلقات الثلاث تقع على الزوجة إذا كانت في العدة سواء أوقعها الزوج بكلمة أو كلمات إلا إذا ألقاها بكلمة تحتمل أنه أراد بالكلمة الثانية وما بعدها التأكيد مثل قوله: "أنت طالق، طالق، طالق"أو: "أنت مطلقة مطلقة مطلقة"وما أشبه ذلك فإنه والحال ما ذكر لا يقع على زوجته بذلك إلا طلقة واحدة ويعتبر اللفظ الثاني وما بعده تأكيدا للفظ الأول إذا كان الزوج لم يُرد بذلك إيقاع الثلاث بل أراد التأكيد أو إفهام المرأة، أو لم يرد شيئا بل كرر ذلك من أجل الغضب أو قصد آخر غير إيقاع الثلاث.
أما إن كان لفظه لا يحتمل التأكيد مثل أن يقول: "طالق ثم طالق ثم طالق"أو: "أنت طالق وطالق وطالق"وما أشبه ذلك فهذا يقع به الثلاث عند الجمهور وهكذا قوله: "أنت طالق أنت طالق أنت طالق"أو: "أنت مطلقة أنت مطلقة أنت مطلقة"فإنه يقع به الثلاث عند الأكثر كالتي قبلها إلا إذا أراد التأكيد أو الإفهام في قوله: "أنت طالق أنت طالق أنت طالق"أو: "أنت مطلقة أنت مطلقة أتن مطلقة".(11/82)
واختار شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى أنه لا يقع بهذه الألفاظ كلها إلا طلقة واحدة كما لو طلقها بثلاث بكلمة واحدة واحتج على ذلك بحديث ابن عباس رضي الله عنهما المخرج في صحيح مسلم ولفظه كان الطلاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر رضي الله عنهم طلاق الثلاث واحدة فقال عمر رضي الله عنه: "إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم, فأمضاه عليهم"، وله ألفاظ آخر عند مسلم وغيره. وقد بسط شيخ الإسلام بن تيمية رحمة الله عليه حكم هذه المسألة في مؤلفاته ومن أجمع ذلك ما نقله عنه الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في مجموع الفتاوى ويرى رحمه الله أن الثانية لا تقع على المرأة إلا إذا كان إيقاعها بعد نكاح أو رجعة وهكذا الثالثة ولا أعلم في ذلك دليلا واضحا يعتمد عليه إلا إطلاق حديث ابن عباس المذكور. وحديثه الآخر في قصة أبي ركانة وليسا صريحين في الموضوع والذي أفتي به من نحو ثلاثين عاما أو أكثر أن الثلاث لا يقع بها إلا واحدة إذا أوقعها الزوج بكلمة واحدة لأن ذلك أضيق ما يحمل حديثا ابن عباس المذكوران آنفاً وهكذا الكنايات كلها لا يقع بها إلا واحدة في أصح الأقوال إذا أراد بها الزوج الطلاق لأنها أضعف من إيقاع الطلقات الثلاث بلفظ واحد فإذا جاز اعتبار ذلك طلقة واحدة وجب أن تكون الكناية معتبرة طلقة واحدة من باب أولى ما لم يكررها.
وقد بسط الكلام في هذه المسألة أيضا العلامة ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين وزاد المعاد وإغاثة اللهفان وهذا كله إذا كان الزوج حين إيقاع الطلاق عاقلا مختارا أما المكره وزائل العقل وشديد الغضب الذي قد غير الغضب شعوره فإن طلاقهم لا يقع كما هو معلوم.
أما إذا كان الغضب شديدا ولكن لم يختل معه عقله ففي وقوع الطلاق منه والحال ما ذكر خلاف مشهور بين أهل العلم.(11/83)
أما الغضب القليل فلا يمنع وقوع الطلاق بإجماع المسلمين وبذلك يتضح لك أن الغضب له أحوال ثلاث، إحداها أن يزول معه العقل والشعور فهذا لا يقع معه الطلاق إجماعا كطلاق المجنون والمعتوه وزائل العقل بأمر يعذر به وهكذا السكران الآثم في أصح قولي العلماء إذا علم أنه أوقع الطلاق حال سكره وتغير عقله، والحال الثاني أن يكون الغضب شديدا قد ألجأه إلى الطلاق لكن لم يتغير معه شعوره فهذا هو محل الخلاف والأظهر عدم وقوع الطلاق في هذه الحال، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمة الله عليهما، وقد ألف ابن القيم رحمه الله رسالة صغيرة سماها "إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان"أجاد فيها وأفاد.
والحال الثالث: أن يكون الغضب خفيفا فهذا لا يمنع وقوع الطلاق بالإجماع والله سبحانه وتعالى أعلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/84)
أخبار الجامعة
نظام الجامعة الإسلامية الجديد
صدر نظام الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بالمرسوم الملكي الكريم رقم م/70 وتاريخ 7/8/1395هـ وفيما يلي نص المرسوم والنظام:
بعون الله تعالى:
المرسوم الملكي
نحن خالد بن عبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية:
بعد الإطلاع على المادتين التاسعة عشرة والعشرين من نظام مجلس الوزراء الصادر بالمرسوم الملكي رقم (38) وتاريخ 22/10/1377هـ.
وبعد الاطلاع على الأمر الملكي رقم (21) وتاريخ 16/4/1381هـ.
الصادر بالمصادقة على نظام المجلس الاستشاري الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
وبعد الاطلاع على نظام الجامعة الإسلامية، الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/18) وتاريخ 18/5/1386هـ.
وبعد الاطلاع على قرار مجلس الوزراء رقم (921) وتاريخ 28/7/1395هـ.
رسمنا بما هو آت:
أولاً: الموافقة على نظام الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بالصيغة المرافقة لهذا.
ثانياً: على نائب رئيس المجلس الوزراء تنفيذ مرسومنا هذا.
التوقيع الملكي الكريم
النظام
مادة 1: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - ويشار إليها في هذا النظام باسم (الجامعة) - مؤسسة إسلامية عالمية، من حيث الغاية، عربية سعودية من حيث التعبية، ذات شخصية اعتبارية مستقلة ولها ذمة مالية، تعطيها حق التملك والتصرف، وتتمتع باستقلال مالي وإداري.
مادة 2: أهداف الجامعة:
أ- تبليغ رسالة الإسلام الخالدة إلى العالم عن طريق الدعوة، والتعليم الجامعي والدراسات العليا.
ب- غرس روح الإسلام وتنميتها، وتعميق التدين العملي، في حياة الفرد والمجتمع، المبني على إخلاص العبادة لله وحده وتجريد المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم.(11/85)
ج- إعداد البحوث العلمية وترجمتها، ونشرها وتشجيعها في مجالات العلوم الإسلامية والعربية خاصة، وسائر العلوم وفروع المعرفة الإنسانية التي يحتاج إليها المجتمع الإسلامي عامة.
د- تثقيف ما يلتحق بها من طلاب العلم من المسلمين من شتى الأنحاء، وتكوِّين علماء متخصصين في العلوم الإسلامية والعربية، وفقهاء في الدين متزودين من العلوم والمعارف بما يؤهلهم للدعوة إلى الإسلام، وحل ما يعرض للمسلمين من مشكلات في شئون دينهم ودنياهم على هدي الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح.
هـ- تجميع التراث الإسلامي، والعناية بحفظه وتحقيقه ونشره.
و إقامة الروابط العلمية والثقافية بالجامعات والهيئات والمؤسسات العلمية في العالم وتوثيقها، لخدمة الإسلام، وتحقيق أهدافه.
مادة 3: مقر الجامعة (المدينة المنورة) ويجوز بقرار من المجلس الأعلى للجامعة أن يكون، مقر بعض الكليات والمعاهد التابعة للجامعة في غير المدينة المنورة داخل المملكة. وبقرار من مجلس الوزراء يوافق عليه جلالة الملك بناء على اقتراح المجلس الأعلى للجامعة.
مادة 4: تتكون الجامعة من:
قسم الدراسات العليا
كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية
كلية الشريعة
كلية الدعوة وأصول الدين
كلية اللغة والآداب
وغير ذلك من الكليات والمعاهد التي تنشأ بناء على اقتراح المجلس الأعلى وموافقة رئيس مجلس الوزراء، ويجوز للمجلس الأعلى تغيير أسماء الكليات والمعاهد القائمة أو تعديلها، كما يجوز أن تضم إلى الجامعة كليات أو معاهد قائمة بقرار من مجلس الوزراء. بناء على اقتراح المجلس الأعلى.
مادة 5: يكون لكل كلية أو معهد صلاحيات محددة في الشئون العلمية والمالية والإدارية في حدود هذا النظام واللوائح.(11/86)
مادة 6: تتكون كل كلية من عدد من الأقسام يتولَّى كل منها تدريس المواد التي تدخل في اختصاصه ولا يجوز أن تتكرر الأقسام المتماثلة إلا بقرار من المجلس الأعلى بناء على اقتراح مجلس الجامعة ويتكون قسم الدراسات العليا من الشعب التي يقترحها مجلس الجامعة ويوافق عليها المجلس الأعلى.
مادة 7: يتبع الجامعة معهد ثانوي لأعداد الطلاب من خارج المملكة وداخلها لالتحاق بكليات الجامعة ومعاهدها، ويتبعها معهد متوسط، ودار الحديث بمكة المكرمة ودار الحديث بالمدينة المنورة، لأعداد الطلاب للمرحلة الثانوية كما تتبعها شعبة لتعليم اللغة العربية لغير العرب.
وتبيِّن اللائحة التنفيذية نظام الدراسة بالمعاهد، والدور، والمدارس التي تتبع الجامعة والإشراف عليها وإدارتها.
مادة 8: اللغة العربية هي لغة التعليم، ويجوز عند الضرورة تدريس بعض المواد بلغة أخرى بقرار من مجلس الجامعة بناء على اقتراح مجلس الكلية أو المعهد.
السلطات في الجامعة:
مادة 9: جلالة الملك هو الرئيس الفخري للجامعة.
مادة 10: يتم اختيار الرئيس الأعلى للجامعة بأمر ملكي.
مادة 11: يتولى السلطات الجامعية:
أ- المجلس الأعلى
ب- مجلس الجامعة.
ج- رئيس الجامعة.
مادة 12: يتولى إدارة كل كلية أو معهد:
أ- عميد الكلية أو مدير المعهد.
ب- مجلس الكلية أو المعهد.
المجلس الأعلى
مادة 13: يؤلف المجلس الأعلى على النحو التالي:
أ- الرئيس الأعلى للجامعة وله رئاسة المجلس.
ب- رئيس الجامعة.
ج- نائب رئيس الجامعة.
د- وكيل وزارة المعارف.
هـ- رئيس إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
و الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي.
ز- الأمين العام للجامعة.
ح- رئيس قسم الدراسات العليا.
ط- عميد واحد يختاره مجلس الجامعة لمدة ثلاث سنوات غير قابلة للتجديد.(11/87)
ي- ثلاثة عشر عضوا من كبار العلماء وقادة الفكر الإسلامي ومديري الجامعات وأساتذتها أو ممن سبق لهم شغل هذه المناصب، ويراعى في اختيارهم تنوع الاختصاص، على أن يكون بينهم عشرة أعضاء من خارج المملكة، يمثلون مختلف المناطق الإسلامية ويصدر أمر ملكي بتعيينهم لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد، بناء على اقتراح رئيس الجامعة.
مادة 14: المجلس الأعلى هو السلطة المهيمنة على كافة الشئون العلمية، وشئون الدعوة والشئون المالية والإدارية للجامعة ووضع السياسة العامة التي تسير عليها، وله أن يتخذ ما يراه من القرارات لتحقيق الأغراض التي قامت الجامعة من أجلها وفقاً لأحكام هذا النظام، وله على الأخص:
أ- إقرار اللوائح التنفيذية التي يضعها مجلس الجامعة.
ب- اقتراح إنشاء كليات أو معاهد جديدة
ج- الموافقة على إنشاء أقسام في الكليات والمعاهد، وعلى إنشاء شُعَب في قسم الدراسات العليا، بناء على اقتراح مجلس الجامعة.
د- اقتراح ميزانية الجامعة، تمهيدا لإصدارها بمرسوم ملكي.
هـ- وضع نظام خاص بمرتبات ومكافآت أعضاء هيئة التدريس ومن في حكمهم ومكافآت وإعانات الطلبة وغيرهم في الجامعة بالاتفاق مع وزارة المالية والاقتصاد الوطني وديوان الموظفين العام.
و اقتراح قواعد وشروط منح الإعانات للجمعيات والمؤسسات والمنظمات التي تتعاون مع الجامعة في أداء رسالتها تمهيدا لإقرارها من مجلس الوزراء.
ز- الموافقة على الحساب الختامي للجامعة.
ح- اقتراح تعديل نظام الجامعة لاستصدار مرسوم ملكي به.
وللمجلس تكوين لجان دائمة أو مؤقتة، من بين أعضائه أو من المختصين، للقيام بما يكفلها إياه.(11/88)
مادة 15: يجتمع المجلس الأعلى بدعوة من رئيسه لدورتين في السنة، وللرئيس دعوته إلى دورة استثنائية كلما اقتضت الضرورة ذلك، ولا يعتبر انعقاد المجلس نظاميا إلا إذا حضره ثلثا أعضائه، وتصدر قراراته بالأغلبية المطلقة لأصوات الأعضاء الحاضرين، وعند تساوي الأصوات يرجع الجانب الذي فيه الرئيس.
مادة 16: تقرر مكافأة لرئيس المجلس الأعلى وأعضائه، مقابل حضورهم جلسات المجلس تحدد بقرار من مجلس الوزراء. تستنزل منها الجلسات التي تخلف فيها العضو عن حضور جلسة عادية أو استثنائية دعي إليها حسب الأصول.
رئيس الجامعة
مادة 17: يعيَّن رئيس الجامعة، ويعفى من منصبه بأمر ملكي.
مادة 18: يتولى رئيس الجامعة الإشراف على شئون الجامعة العلمية والإدارية والمالية وفقاً لأحكام هذا النظام، واللوائح التنفيذية التي يصدرها المجلس الأعلى، ويمثلها أمام الهيئات الأخرى، وله أن يفوِّض نائبه، في بعض اختصاصاته، ويكون رئيس الجامعة مسئولا أمام رئيسها الأعلى عن تنفيذ السياسة العامة الموضوعة لتحقيق أغراض الجامعة.
مادة 19: يقدم رئيس الجامعة إلى المجلس الأعلى تقريرا عن شئون الجامعة ونواحي نشاطها عن كل سنة دراسية في موعد لا يتجاوز الشهر السادس من السنة الدراسية التالية ويناقش التقرير في أول اجتماع للمجلس الأعلى، ويرفع التقرير بعد إقراره من المجلس الأعلى إلى الرئيس الأعلى للجامعة.
نائب رئيس الجامعة
مادة 20: يعيَّن نائب لرئيس الجامعة بقرار من مجلس الوزراء، لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد بناء على ترشيح الرئيس الأعلى للجامعة ويعفى من منصبه بقرار من مجلس الوزراء بناء على اقتراح الرئيس الأعلى للجامعة.
مادة 21: يعاون نائب رئيس الجامعة رئيس الجامعة في إدارة شئونها ويقوم مقامه عند غيابه.
الأمين العام(11/89)
مادة 22: يعيَّن أمين عام للجامعة من بين أعضاء هيئة التدريس بناء على اقتراح الرئيس الأعلى للجامعة ويصدر التعيين بقرار من مجلس الوزراء لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد، كما يعفى من منصبه بقرار من مجلس الوزراء بناء على اقتراح الرئيس الأعلى للجامعة.
مادة 23: يتولى الأمين العام للجامعة الأعمال الفنية والإدارية والمالية بالجامعة وذلك تحت إشراف رئيس الجامعة ونائبه ويكون مسئولا عن تنفيذ النظام واللوائح في حدود اختصاصه ويتولى أمانة المجلس الأعلى وأمانة مجلس الجامعة.
مجلس الجامعة
مادة 24: يؤلف مجلس الجامعة من:
أ- رئيس الجامعة وله رئاسة المجلس.
ب- نائب الرئيس.
ج- وكيل وزارة المعارف.
د- الأمين العام.
هـ- رئيس قسم الدراسات العليا.
و رئيس مجلس شئون الدعوة.
ز- رئيس المجلس العلمي.
ح- العمداء ومديرو المعاهد.
ط- عضو هيئة التدريس من كل كلية أو معهد يعين بقرار من المجلس الأعلى لمدة سنتين قابلة للتجديد لمرة واحدة.
مادة 25: يجتمع مجلس الجامعة بدعوة من رئيسه كل شهر وللرئيس دعوته كلما اقتضت الحاجة ذلك، وعليه أن يدعوَه كلما قدَّم إليه ثلث الأعضاء طلبا مكتوبا بذلك أو بناء على طلب الرئيس الأعلى الذي يكون له أن يطلب إدراج أية مسألة يراها في جدول الأعمال، وله رئاسة المجلس إذا حضره.
مادة 26: يتولى مجلس الجامعة تصريف الشئون العلمية والإدارية والمالية وتنفيذ السياسة العامة للجامعة دون تجاوز لصلاحيات المجلس الأعلى أو مخالفة لقراراته وله على الأخص:
أ- اقتراح إنشاء كليات ومعاهد جديدة وأقسام في الكليات والمعاهد وشُعَب في قسم الدراسات واقتراح إلغاء شعب قائمة أو إدماجها في شعب أخرى.
ب- اقتراح اللوائح التنفيذية للجامعة.
ج- دراسة مشروع الميزانية تمهيدا لعرضه على المجلس الأعلى.(11/90)
د- اقتراح النظام الخاص برواتب أعضاء هيئة التدريس ومن في حكمهم ومكافآتهم وبدلاتهم ومكافآت الطلبة وغيرهم وإعاناتهم.
هـ- تعيين أعضاء هيئة التدريس بالجامعة والبت في ترقياتهم وإعارتهم وندبهم وإنهاء خدمتهم في حدود هذا النظام ولوائحه.
و منح الدرجات العلمية والشهادات.
ز- نشر البحوث والدراسات التي يقرر المجلس نشرها.
ح- إقرار خطط الدراسة ومناهجها.
ط- وضع قواعد لتحديد مدة الدراسة ومدة العطلة ومواعيد الامتحانات.
ي- تنظيم شئون رعاية الطلاب.
ك- اقتراح قواعد وشروط لمنح الإعانات للجمعيات والمؤسسات والمنظمات التي تتعاون مع الجامعة في أداء رسالتها.
ل- اقتراح الموافقة على مشروع الحساب الختامي.
م- النظر في الموضوعات التي يحيلها عليه المجلس الأعلى أو رئيس الجامعة وللمجلس تكوين لجان دائمة أو مؤقتة من أعضائه أو من المختصين للقيام بما يكفلها إياه.
مادة 27: ينعقد مجلس الجامعة بحضور أغلبية أعضائه.
وتصدر قراراته بالأغلبية المطلقة للأعضاء الحاضرين وعند تساوي الأصوات يرجح جانب الذي فيه الرئيس.
مادة 28: تقرر مكافأة لرئيس مجلس الجامعة وأعضائه مقابل حضور جلسات المجلس، تحددها اللائحة التنفيذية على ألا يؤخذ بالاعتبار الجلسات التي يتخلف عنها العضو.
مجلس شئون الدعوة
مادة 29: ينشأ في الجامعة مجلس لشئون الدعوة الإسلامية يتولى الإشراف على شئون الدعوة بالجامعة، وتحدد اللائحة التنفيذية أعضائه واختصاصاته وصلاحياته
المجلس العلمي
مادة 30: ينشأ في الجامعة مجلس علمي يتولى شئون البحوث والدراسات العلمية وتحدد اللائحة التنفيذية أعضاءه واختصاصاته وصلاحياته.
قسم الدراسات العليا
مادة 31: تحدد اللائحة التنفيذية تنظيم قسم الدراسات العليا واختصاصاته.
عمداء الكليات ومديرو المعاهد ووكلاؤها(11/91)
مادة 32: يعيَّن عميد الكلية أو مدير المعهد من أعضاء هيئة التدريس لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة بقرار من المجلس الأعلى بناء على ترشيح مجلس الكلية وموافقة رئيس الجامعة.
مادة 33: يتولى العميد أو المدير المعهد إدارة شئون الكلية أو المعاهد العلمية والإدارية والمالية في حدود هذا النظام ولوائحه، ويقدم إلى رئيس الجامعة في نهاية كل سنة جامعية تقريراً عن شئون التعليم، وسائر وجوه النشاط في الكلية أو في المعهد.
مادة 34: يجوز تعيين عمداء من أعضاء هيئة التدريس للإشراف على جوانب النشاط الذي تقوم به الجامعة لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة.
مادة 35: يكون لكل كلية أو معهد وكيل من أعضاء هيئة التدريس يعينه رئيس الجامعة لمدة سنة بناء على ترشيح العميد أو مدير المعهد قابلة للتجديد مرة واحدة، وهو يعاون العميد في أعماله وينوب عنه أثناء غيابه ويتولى الوكيل في الكلية أو المعهد أمانة مجلسهما.
مجالس الكليات والمعاهد
مادة 36: يؤلف مجلس الكلية أو المعهد من:
أ- عميد الكلية أو مدير المعهد، وله رئاسة المجلس.
ب- وكيل المعهد أو الكلية.
ج- رؤساء الأقسام بالكلية أو المعهد.
ولمجلس الجامعة، بناء على اقتراح العميد أو المدير أن يضم إلى مجلس الكلية أو المعهد ثلاثة أعضاء على الأكثر من هيئة التدريس بالكلية أو المعهد ويحدد مدة عضويتهم، ويجوز أن يشترك رؤساء الأقسام من كلية أو معهد بالجامعة أو من ينيبونه في مجلس كلية أخرى أو معهد آخر عند النظر في المسائل الداخلية في اختصاصات أقسامهم.
مادة 37: يختص مجلس الكلية أو المعهد بالنظر في كل الأمور التي تتعلق بالكلية أو المعهد دون تجاوز لصلاحيات مجلس الجامعة أو مخالفة لقراراته وله على الأخص:
أ- وضع القواعد المتصلة بمواضبة الطلاب ونظام الدروس والمحضرات وبقبول الطلاب في الكلية أو في المعهد.(11/92)
ب- اقتراح خطط الدراسة ومناهجها مع مراعاة التنسيق بين الأقسام.
ج- تشجيع البحوث العلمية وتنسيقها بين أقسام الكلية أو المعهد والعمل على نشرها.
د- وضع التنظيمات الخاصة بإجراء الامتحانات واقتراح مواعيدها.
هـ- اقتراح البعثات اللازمة للكلية أو المعهد.
و إصدار القرارات في كل ما من شأنه النهوض بالتعليم والبحوث والدراسات والتأليف في الكلية أو المعهد في حدود أنظمة الجامعة ولوائحها.
مادة 38: يجتمع مجلس الكلية أو المعهد بدعوة من رئيسه مرة كل شهر على الأقل، وينعقد المجلس بحضور ثلثي أعضائه، وتصدر قراراته بالأغلبية المطلقة لأصوات الأعضاء الحاضرين، وعند التساوي يرجح الجانب الذي فيه الرئيس.
وتعرض قرارات المجلس على رئيس الجامعة، وله حق الاعتراض عليها خلال خمسة عشر يوما من تاريخ عرضها مكتملة عليه، فإذا أصر مجلس الكلية أو المعهد على القرار المعترض عليه يحال القرار على مجلس الجامعة للبت فيه، في أول جلسة عادية أو استثنائية ولمجلس الجامعة تصديق القرار أو تعديله أو إلغاؤه.
أقسام الكليات والمعاهد
مادة 39: يكون لكل قسم من أقسام الكليات أو المعاهد صلاحيات مناسبة في الشئون العلمية والمالية والإدارية في حدود هذا النظام ولوائحه ويكون لكل قسم مجلس يتكون من أعضاء هيئة التدريس فيه.
مادة 40: يعين رئيس القسم بقرار من مجلس الكلية بناء على ترشيح مجلس القسم لمدة سنتين قابلة للتجديد ويكون القرار نافذا بعد تصديق رئيس الجامعة عليه.(11/93)
مادة 41: يختص مجلس القسم بالإشراف على جميع الأعمال التعليمية والإدارية بالقسم واقتراح خطة الدراسة ومناهجها ومتابعة تنفيذها بعد إقرارها وتوزيع الدروس والمحضرات والتمارين والأعمال التدريبية على أعضاء هيئة التدريس والمدرسين والمساعدين والمعيدين، كما يقوم بتنظيم البحوث والدراسات العلمية بالقسم وتنسيقها وتشجيعها وتنظيم أعمال هيئة التدريس بالقسم وتنسيقها.
أعضاء هيئة التدريس
مادة 42: أعضاء هيئة التدريس بالجامعة هم:
أ- الأستاذ.
ب- الأساتذة المشاركون.
ج- الأساتذة المساعدون.
د- المدرسون.
مادة 43: يجوز أن يعين في الكليات والمعاهد مدرسون مساعدون ومعيدون مهمتهم القيام بالدراسات والبحوث العلمية وبما يعهد به إليهم من التمرينات والدروس العلمية وغير ذلك من الأعمال بإشراف أعضاء هيئة التدريس.
كما يجوز أن يعين فيها مدرسو لغات وموظفون فنيون. وتبين اللائحة التنفيذية القواعد المنظمة لتعيينهم وترقيتهم وعلاواتهم وندبهم وأعمالهم وغير ذلك من شئونهم الوظيفية.
مادة 44: يجوز تعيين غير السعوديين في هيئة التدريس كما يجوز أن يعين منهم مستشارون وخبراء، ومدرسون مساعدون ومعيدون ومدرسو لغات وموظفون فنيون بالشروط التي يقترحها مجلس الجامعة ويقرها المجلس الأعلى.
مادة 45: تجوز الاستعانة بعلماء وبأعضاء هيئة تدريس بصفة، زائرين، ومحاضرين غير متفرغين بالشروط التي يقترحها مجلس الجامعة ويقرها المجلس الأعلى.
مادة 46: يعود أعضاء هيئة التدريس الذين تعهد إليهم وظائف إدارية إلى العمل في أقسامهم عند انتهاء مدة تعيينهم.
مادة 47: لا يجوز أن يعمل في الجامعة وفروعها وتوابعها موظفون غير مسلمين.
النظام المالي للجامعة
مادة 48: للجامعة ميزانية مستقلة تحدد وارداتها ونفقاتها وتخضع في مراقبة تنفيذها لديوان المراقبة العامة.(11/94)
والسنة المالية للجامعة هي السنة المالية للدولة.
مادة 49: يضع المجلس الأعلى قواعد المراقبة المالية المسبقة طبقاً للوائح المالية للجامعة.
مادة 50: مع عدم الإخلال بمراقبة ديوان المراقبة العامة يعين المجلس الأعلى مراقبا أو أكثر للحسابات من الأشخاص الطبيعيين ممن تتوافر فيهم شروط القانونية وتكون لهم حقوق المراقب في شركات المساهمة وعليهم واجباته.
مادة 51: تتكون واردات الجامعة من:
أ- الإعانة التي تخصص لها في ميزانية الدولة.
ب- التبرعات والإعانات والمنح والوصايا والأوقاف.
ج- بيع أملاكها وما ينتج عن التصرف فيها.
مادة 52: لمجلس الجامعة قبول التبرعات والإعانات والمنح والهبات والوصايا والأوقاف ولو كانت مقترنة بشروط أو مخصصة لأغراض معينة لا تتعارض مع أهداف الجامعة.
مادة 53: يلغي هذا النظام الأمر الملكي رقم (21) وتاريخ 16/4/1381هـ الصادر بالمصادقة على نظام المجلس الاستشاري الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وكذلك نظام الجامعة الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/18 في 18/5/1386هـ. كما يلغي جميع ما يتعارض معه من أنظمة وأوامر وتعليمات سابقة.(11/95)
إن الحكم إلا لله
إن مصدر التشريع هو الله وحده خلق الكون، فالذي أحكم قوانين الطبيعة هو وحده الذي يليق به أن يضع دستور حضارة الإنسان ومعيشته، وليس هناك من أحد غيره سبحانه يمكن تخويله هذا الحق، فلا يمكن قبول إنسان حاكماً ومشرعاً للإنسان حيث أنه لا يتمتع بهذا الحق إلا خالق الإنسان وحاكمه الطبيعي الله.
إن الحل الوحيد لمشكلتنا هو الشرع الإلهي الذي يمنحنا جميع العناصر الأساسية الضرورية ويترك الباب مفتوحاً للاجتهاد وبحسب الزمان والمكان، والتشريع الإلهي لا يستطيع الإنسان أن يأتي ببديل عنه.. إن التجارب القاسية التي خاضتها البشرية تؤكد لنا أن الله الذي يعرف دقائق الطبيعة البشرية ومسائلها ومشكلاتها يجب أن يكون هو لا سواه واضع قوانينها، فهو منبع القانون الحقيقي. ويؤكد ذلك أن في الدين جواباً محدداً لكل الأسئلة التي تؤرقنا في حياتنا الدنيوية وفي ما بعد هذه الحياة الدنيوية. إنه يوجهنا إلى المشرع الحقيقي ويضع لنا الأساس السليم للقانون الإلهي وهو يمنحنا أساساً صائباً لكل مسألة في الحياة البشرية، وهو الصورة الوحيدة للمساواة الكاملة بين الحاكم والرعية.
مجلة (المسلم المعاصر) ربيع الثاني 95هـ.(11/96)
أضواء من التفسير
لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
قال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ. وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} .
المناسبة:
لما ذكر في أوائل السورة أن لقريش سلفا في التكذيب بالبعث من الأمم السابقة، وأنه أهلك أُمَماً معروفة بسبب هذا التكذيب. ذكر هنا أنه أهلك قرونا كثيرة جدا يعني بسبب هذا التكذيب تأكيدا لشأن البعث، وزيادة في تقريره.
القراءة:
قرأ الجمهور {فَنَقَّبُوا} بفتح القاف المشدد، وقرئ (فنقِّبوا) بكسر القاف مشدد على الأمر. وقرئ (فنقِبوا) بكسر القاف خفيفة. وقرأ الجمهور {أَلْقَى السَّمْعَ} ببناء الفعل للمعلوم ونصب السمع، وقرئ (أُلقي السمعُ) ببناء الفعل للمجهول ورفع السمع. وقرأ الجمهور {لُغُوبٍ} بضم اللام. وقرئ بفتحها.
المفردات:
{بَطْشاً} البطش الأخذ الشديد في كل شيء وقوة البأس، والتسلط.
{فَنَقَّبُوا} على قراءة الجمهور أي طافوا ومنه قول امرئ القيس:
رضيت من الغنيمة بالإياب
وقد نقبت في الآفاق حتى
ويروى: وقد طوفت. ومنه أيضا قول الحارث بن خلده:
ت وجلوا في الأرض كل مجال
نقبوا في البلاد من حذر المو(11/97)
والنقب الطريق في الجبل، وكذا النقاب والمنقب، والمناقب الطرق إلى اليمامة واليمن وغيرها واسم طريق الطائف من مكة: (ونقِبوا) بكسر القاف خفيفة أي دميت أقدامهم وحفيت إبلهم من السير في البلاد. {مَحِيصٍ} مهرب ومحيد. {لَذِكْرَى} أي لتذكرة وعظة. {أَلْقَى} أصغى. {شَهِيدٌ} من الشهود وهو الحضور أي هو حاضر بفطنته. {مَسَّنَا} أصابنا {لُغُوبٍ} تعب وإعياء.
التركيب:
قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} الواو استئنافية. و {كَمْ} خبرية بمعنى كثيرا. وهي منصوبة بـ {أَهْلَكْنَا} ، وقدمت لأن الخبرية تجري مجرى الاستفهامية في التصدير. ومن قرن تمييز لها. وقوله: {هُمْ أَشَدُّ} يجوز أن يكون صفة لـ {كَمْ} ويجوز أن يكون صفة لتمييزها. و {بَطْشاً} تمييز لأشد. وقوله: {فَنَقَّبُوا} الفاء للسببية، فالتنقيب تسبب عن شدة بطشهم فهي التي أقدرتهم على التنقيب. والظاهر أن الضمير في "نقبوا"يعود على {كَمْ} ويجوز أن يعود على "قريش"، ويؤيده قراءة (فنقِّبوا) على الأمر.(11/98)
وقوله: {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} هل حرف استفهام والمراد من الاستفهام النفي والتنبيه للغافل الذاهل والتقريع للمعاند الجاهل و {مِنْ} زائدة لاستغراق النفي. و {مَحِيصٍ} مبتدأ خبره محذوف تقديره للهالكين والجملة إما على إضمار "قول"وهو حال من واو {نَقَّبُوا} أي فنقبوا في البلاد قائلين هل من محيص أو هو كلام مستأنف وارد لتحقيق إهلاكهم. وعلى هذا فهو من كلام الله تعالى. والإشارة في قوله {إِنَّ فِي ذَلِكَ} إلى المذكور من إهلاك تلك القرون أو إلى ما ذكر من أول هذه السورة إلى هنا. وقوله: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} أي حي سليم فليس المراد من القلب هنا مجرد قطعة اللحم الصنوبرية الشكل فإنها موجودة في الحيوانات والكفار بل المراد اللطيفة الربانية التي بها تمييز الحق من الباطل. والانتفاع بالآيات. وقوله: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} "أو"بمعنى الواو. فإلقاء السمع لا يجدي بدون سلامة القلب و"أل"في السمع عوض عن المضاف إليه، أي ألقى سمعه. وقوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} يحتمل أن تكون الجملة حالية، ويحتمل أن يكون استئنافا. و"اللغوب"بالضم مصدر قياسي وبالفتح مصدر سماعي وهما بمعنى واحد. و"لغوب"فاعل مرفوع بضمة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
المعنى الإجمالي:
ولقد دمرنا كثيرا من القرون قبل قريش هم أكثر من قريش عددا وأقوى أجساما فطافوا في البلاد، ودوخوا العباد، أو فطفوا في البلاد لتقفوا على آثارهم، ولتروا ما حل بهم، هل استطاعوا فرارا من عذاب الله؟ إن في تدمير هؤلاء المكذبين بالبعث لتذكرة وعظة لمن كان له قلب يفهم، وأصغى لما يلقى إليه، وكان حاضرا بذهنه وفطنته.
ولقد أنشأنا السموات وما فيها من كواكب وأفلاك وشمس وقمر وبروج، والأرض وما فيها من جبال وأصول أقوات وغير ذلك في ستة أيام بقدر أيامكم وما أصابنا من تعب ولا إعياء.
ما ترشد إليه الآيات:(11/99)
1- تهديد منكري البعث.
2- في إهلاك المكذبين بالبعث دليل عليه.
3- لا ينتفع بالأدلة إلا من سلم قلبه وأصغى أذنه وحضر بفطنته.
4- لم يعجز الحق تبارك وتعالى عن إيجاد السموات والأرض فلا يعجزه البعث.
قال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ. وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ. يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ. إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ. يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ. نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}
المناسبة:
لما ذكر سبحانه الأدلة التي تنطق بقدرة الله على البعث، وهدد قريشا الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذاهم.
القراءة:
قرئ {أَدْبَارَ} بفتح الهزة وقرئ بكسرها. وقرأ الجمهور {يُنَادِ} بحذف الياء وصلا ووقفا. وقرأ بن كثير "ينادي"بإثبات الياء وقفا. وقرأ الجمهور {الْمُنَادِ} بحذف الياء وصلا ووقفا.. وقرأ ابن كثير بإثبات الياء وصلا ووقفا. وقرأ الجمهور {تَشَقَّقُ} بفتح التاء وتخفيف الشين وقرئ بفتحها وتشديد الشين، وقرئ "تُشقق"بضم التاء.
المفردات:(11/100)
{سَبِّحْ} أي برِّئ ربك من كل سوء وسارع إلى طاعته ونزهه تعالى عن وقوع الخُلف في أخباره التي من جملتها البعث. وقيل المراد بالتسبيح هنا الصلاة والتسبيح يطلق على الصلاة أيضا قالوا ومنه قوله تعالى: {كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} . قال قتادة: "فمعنى سبح بحمد ربك أي صل". {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} يعني صلاة الصبح. {وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} يعني صلاة العصر. وقال ابن عباس: " {قَبْلَ الْغُرُوبِ} الظهر والعصر {وَمِنَ اللَّيْلِ} صلاة العشاءين". {أَدْبَارَ} بفتح الهمزة جمع دبر. والمراد بالسجود الصلاة فدبر الصلاة عقبها، وفي الصحيح عن أبي هريرة مرفوعا: "من سبح دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمد الله ثلاث وثلاثين وكبر ثلاث وثلاثين فذلك تسع وتسعون وتمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر".
وقراءة "إدبار السجود"بكسر الهزة على أنه مصدر من أدبرت الصلاة إذا انقضت وتمت. وقد قام هذا المصدر مقام ظرف الزمان كقولهم آتيك خفوق النجم، والمعنى ووقت إدبار الصلاة أي انقضائها.
{الْمُنَادِ} المصوِّت بالحشر وهو إسرافيل. {الصَّيْحَةَ} النفخة الثانية. {بِالْحَقِّ} بالبعث. {الْخُرُوجِ} البعث من القبور. {الْمَصِيرُ} المرجع {تشَقَّقُ} تنفلق. {حَشْرٌ} بعث وجمع وسَوْقٌ {يَسِيرٌ} هين سهل. {بِجَبَّارٍ} أي بمتسلط تقهرهم على الإيمان وتفعل بهم ما تريد. {وَعِيد} عقابي.
التراكيب:(11/101)
{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} الفاء تفريعية، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. و {ما} مصدرية أو موصولة والعائد محذوف والضمير المرفوع في يقولون لقريش. والباء في قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} للملابسة وقوله: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} إن كان استمع على بابه وأنه بمعنى الإصغاء والإنصات فمفعوله محذوف يجوز أن يكون تقديره: "واستمع ما أقول لك"يعني في شأن البعث، وعليه فقوله: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} كلام مستأنف، ويوم حينئذ منصوب بـ "يخرجون"مقدرا وقد دل عليه قوله: {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوج} ، أو تقديره: "يعلمون عاقبة تكذيبهم". ويجوز أن يكون مفعول {اسْتَمِعْ} تقديره نداء المنادى أو نداء الكافر بالويل والثبور. وعلى هذا يكون {يَوْمَ يُنَادِ} ظرفا لـ {اسْتَمِعْ} أي استمع ذلك في يوم. وقيل إن {اسْتَمِعْ} بمعنى انتظر وعليه يكون {يَوْمَ يُنَادِ المُنَادِ} مفعولا به أي انتظر ذلك اليوم. ووجه حذف الياء من {يُنَادِ المُنَادِ} إتباع الرسم، ومن أثبتها فلأنه الأصل. وإنما وصف المكان بالقرب لبيان أنه يسمعه جميع الخلق. وقيل يسمعون الصوت من تحت أقدامهم. وقوله: {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} "يوم" بدل من "يوم"قبله، وما بينهما اعتراض. وقيل منصوب بـ"يخرجون"مقدرا. وضمير "يسمعون"للخلق. والباء في قوله: {بِالْحَقِّ} للتعدية إن قلنا أن المراد بالحق البعث. ويجوز أن تكون للملابسة أي يسمعون الصيحة ملابسين للحق أو ملابسة للحق. ومرجع الإشارة في قوله: {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوج} ليوم النداء والسماع وقوله: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً} يوم منصوب قيل على البدل من "يوم يسمعون"وقيل منصوب بالمصدر وهو الخروج. وانتصب "سراعا"على الحال من الضمير في عنهم والعامل "تشقق"، وقيل حال من مقدر أي فيخرجون مسرعين. ويجوز أن يكون(11/102)
هذا المقدر عاملا في "يوم تشقق". وقوله: {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} "ذلك"مبتدأ و"حشر"خبره و"يسير"صفة "حشر"و"علينا"متعلق بـ"يسير". وقُدِّم لإفادة تخصيص اليسر به تعالى ولا يضر في مثل هذا الفصل بين الموصوف وصفته لأن الفاصل معمول الصفة. والإشارة إلى الإحياء بعد الفناء والجمع للعرض والحساب المفهوم من السياق. وقوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} أي مِنْ نَفْي البعث والتكذيب بالآيات، وفيه تهديد شديد، ووعيد أكيد لكفار قريش، كما أن فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} "جبَّار" صيغة مبالغة من جبر الثلاثي فإن فعالا إنما يبنى من الثلاثي، وكثير من أهل الحجاز وبعض بني تميم يقولون جبره جبرا من باب قتل بمعنى قهره على الأمر قهرا، ولغة عامة العرب سوى من ذكرنا يقولون أجبره على كذا أي حمله عليه قهرا فهو مجبر. وهما لغتان جيدتان بمعنى واحد. قال الفراء: "قد سمعت العرب تقول: جبرته على الأمر وأجبرته". قالوا ولم يجيء من أفعل على فعال سوى دراك. وقوله: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} إنما قَصَرَ التذكير على من يخاف الوعيد لأنه هو الذي ينتفع به، وقد ختم السورة بذكر القرآن الذي بدأها به كما هو الملاحظ في السور المبدوءة بالفواتح المباركة، فما أجمل المطلع، وما أحسن الاختتام.
المعنى الإجمالي:
فلا تجزع بسبب الذي يصادرونك به من القول السيء، وبرِّئ ربك من كل نقص حال كونك تثني عليه بما هو أهله، طرفي النهار وزلفا من الليل، وعقيب الصلوات، واصغ لنداء المنادي يوم يصوت الملك من مكان ليس ببعيد عنهم، يقول: أيتها العظام البالية، والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء فيقوم الناس لرب العالمين. يوم يقرع أسماعهم صوت المنادي بالبعث. ذلك يوم النداء والسماع يوم القيامة من القبور.(11/103)
إنا - لا سوانا - نهب الحياة ونسلبها، وإلينا مرجع الخلائق أجمعين يوم تنفلق الأرض عن أجسام الموتى فيخرجون مسرعين. ذلك بعث وسوق وجمع سهل علينا ولا يستطيعه سوانا.
نحن المسيطرون على العباد، ولست عليهم بمسيطر، وما عليك إلا البلاغ، فعظ بهذا الذكر الحكيم أهل خشيتنا فهم المنتفعون بالذكر.
ما ترشد إليه الآيات:
1- الحض على الصبر.
2- طمأنينة القلب بذكر الله.
3- الإكثار من ذكر الله.
4- وقوع البعث لا محالة.
5- سهولة البعث على الله عز وجل.
6- تهديد الكفار ووعيدهم.
7- تسلية النبي صلى الله عليه وسلم.
8- لا ينتفع بالذكر إلا من يخاف وعيد الله.(11/104)
من أضاليل القاديانية (2)
لفضيلة الشيخ عبد الغفار حسن
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
(4) قال المبشر القادياني: "إن كلمة خاتم قد تستعمل في معنى الأفضل والأشرف, كما يقال خاتم الشعراء وخاتم المهاجرين، مثلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا عباس أنت خاتم المهاجرين كما أنا خاتم النبيين".. لم نجد هذه الرواية في الدر المنثور ولا في تكملة مجمع البحار كما جزم بذلك هذا القادياني، ولكن وجدناه في ميزان الاعتدال للذهبي وفي كنز العمال لعلي المتقى الهندي.
في إسناد هذا الحديث راويان أحدهما الحارث بن الزبير، قال فيه الأزدي: "ذهب علمه" [1] . والثاني إسماعيل بن قيس بن سعد، قال فيه البخاري والدارقطني: "منكر الحديث". وقال النسائي وغيره: "ضعيف". ونقل بن القطان أن البخاري قال: "كل من قلت فيه منكر الحديث فلا تحل الرواية عنه" [2] . وقال ابن عدي [3] : حدثنا أحمد بن الحسين الصوفي حدثنا سعيد بن سلمة الأنصاري حدثنا إسماعيل بن قيس حدثنا أبو حازم عن سهل عن سعد قال: "استأذن العباس النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة فكتب إليه: يا عم، أقم مكانك فإن الله يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوة". ثم قال بن عدي: "عامة ما يرويه منكر" [4] . وفي كنز العمال: "اطمأن يا عم فإنك خاتم المهاجرين في الهجرة كما أنا خاتم النبيين في النبوة" [5] . الشاشي وابن عساكر عن سهل بن سعد والروياني وابن عساكر عن ابن شهاب مرسلا، هذه الرواية رواها ابن عساكر بإسنادين، أحدهما عن سهل بن سعد وفيه إسماعيل بن قيس وهو ضعيف جدا والثاني عن ابن شهاب مرسلا والمرسل لا يحتج به عند كثير من أهل العلم ومع ذلك لم نقف على رواة بين ابن شهاب الزهري المتوفى سنة 124هـ وبين ابن عساكر المتوفى سنة 571هـ بينهما مفاوز لا يعلمها إلا الله، فإسناده مظلم لا يعبأ به.(11/105)
وعلى سبيل التنزل يمكن أن يجاب عن ذلك أن العباس بن عبد المطلب هاجر قبيل [6] فتح مكة إلى المدينة فصار خاتم المهاجرين الذين هاجروا من مكة إلى المدينة لأنه لا هجرة بعد فتح مكة من مكة كما ورد في الحديث الصحيح "لا هجرة بعد الفتح"أي بعد فتح مكة [7] وإلى هذا المعنى يشير حديث سهل بن سعد: "يا عم أقم مكانك فإن الله يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوة"فالمراد بخاتم المهاجرين آخر المهاجرين فلا يثبت دعوى المبشر القادياني أن المراد بخاتم النبيين أفضل النبيين، فهذا الاستدلال في غاية الوهن والفساد، والله يهدي من يشاء إلى سبيل الرشاد.
(5) "لو عاش إبراهيم لكان صديقا نبيا"ابن ماجه.
قال المبشر القادياني: "في هذا الحديث دلالة على إمكان النبوة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم, والجواب عن ذلك من وجوه:
أ- في هذا الحديث حسب الإسناد في غاية الوهن والفساد، فيه أبو شيبة بن إبراهيم بن عثمان، قال السندي [8] في تعليقه على سنن لابن ماجه: "وفي الزوائد في إسناده إبراهيم بن عثمان أبو شيبة قاضي واسط. قال فيه البخاري: "سكتوا عنه". وقال ابن المبارك: "ارم به". وقال بن معي: "ليس بثقة". وقال أحمد: "منكر الحديث". وقال النسائي: "متروك الحديث" [9] . قال الذهبي: "كذبه شعبة" [10] . هذا الراوي متفق على ضعفه فكيف يحتج بروايته.(11/106)
ب- قد رويت آثار عن الصحابة تدل على خلاف ما استدل به هذا القادياني، منها ما روى عبد الله بن أبي أوفى، قيل له: "رأيت إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مات وهو صغير ولو قضي أن يكون بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي لعاش ابنه ولكن لا نبي بعده". رواه البخاري [11] في صحيحه وابن ماجه وأحمد في مسنده ولفظه: "ولو كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم نبي ما مات ابنه إبراهيم". منها عن أنس قال: "رحمة الله على إبراهيم لو عاش لكان صديقا نبيا". أخرجه أحمد بسند صحيح على شرط مسلم ورواه ابن ماجه في مسنده وزاد في روايته: "ولكن لم يكن ليبقى، لأن نبيكم آخر الأنبياء". ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري وصححه [12] وهذه الروايات وإن كانت موقوفة فلها حكم الرفع إذ هي من الأمور الغيبية التي لا مجال للرأي فيها.
ج- إن كلمة لولا تدل على الوقوع والثبوت كما ورد في القرآن الحكيم: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} .
(6) "أنا آخر الأنبياء ومسجدي آخر المساجد". (مسلم)
قال المبشر القادياني: "قد بنيت مساجد كثيرة بعد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يكون مسجده آخر المساجد على الإطلاق, بل معناه إن مسجده صلى الله عليه وسلم آخر المساجد بحيث لا يبنى مسجد بعده إلا وهو يوافق في طريق العبادة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولا يخالفه كذلك من يأتي بعده من نبي؛ لا يخالفه بل يتبع هديه ويحكم بشريعته". انتهى ملخصا ومنقولا عن كلامه باللغة الأردية.
الرد على هذا الاستدلال من وجوه:
أ- لا بد من النظر في سباق هذا الحديث وسياقه وبذلك يتبين معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ومسجدي آخر المساجد".(11/107)
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي عبد الله الأغر - وكانا من أصحاب أبي هريرة - أنهما سمعا أبا هريرة يقول: "صلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء وأن مسجده آخر المساجد". وفي رواية: قال لنا عبد الرحمن بن إبراهيم أشهد أني سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى عليه وسلم: "فإني آخر الأنبياء ومسجدي آخر المساجد " [13] .
في هذا الحديث مقارنة بين المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم في الثواب كما ورد في هذا الباب حديث آخر يدل على فضل المساجد الثلاثة أي المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى. فهذا السياق يدل على أن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "مسجدي آخر المساجد", آخر مساجد الأنبياء ولا شك أن هذه المساجد الثالثة أسست بأيدي الأنبياء وتحت إشرافهم فتكون كلمة "أل"في المساجد عوضا عن المضاف إليه فصار المعنى مسجدي آخر مساجد الأنبياء وهذا التأويل يوافق ما ذكرناه في الحلقة الأولى من النصوص الصريحة الصحيحة التي تدل على انقطاع النبوة لجميع أنواعها, فلا بد من تقديم المنطوق الصريح على المفهوم المشكوك فيه كما صرح به علماء الأصول:
ويؤيد هذا المعنى ما أخرجه البزار في مسنده من زيادة في هذا الحديث هو قوله صلى الله عليه وسلم: "ومسجدي هذا آخر مسجد الأنبياء". ذكره المنذري في الترغيب والترهيب وسكت عنه [14] وهذه الزيادة أخرجها ابن النجار في الدرة الثمينة [15] والديلمي في الفردوس كما أشار إلى ذلك المتقى الهندي في كتابه "كنز العمال" في باب فضل الحرمين [16] . وأخرج الهيشمي هذا الحديث في كتابه مجمع الزوائد ونسبه إلى البزار، وقال: "فيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف" [17] . ولكن مع ضعف هذه الزيادة يستأنس بها لأن سياق الحديث الصحيح يوافق هذه الزيادة.(11/108)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين خاتم النبيين وعلى آله وصحبه الغر الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ميزان الاعتدال ج ص433
[2] ميزان الاعتدال ج ص 6
[3] الكامل لابن عدي مخطوطة ق2 ج1 ص12
[4] ميزان الاعتدال للذهبي ج1 ص245
[5] كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال ج12 ص278 طبعة الهند الثانية
[6] الإصابة لابن حجر مع الاستيعاب ج2 ص263
[7] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري ج6 ص 37.
[8] السنن لابن ماجه ج1 ص460.
[9] ميزان الاعتدال ج1 ص47.
ج 1 ص47.
[10]
[11] مسند أحمد ج 3 ص282.
[12] صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري ج10 ص 577 كتاب الأدب.
[13] صحيح مسلم مع شرح للنووي ج9 ص164 الطبعة المصرية. كتاب الحج.
[14] الترغيب لترهيب للمنذري ج2 ص 214.
ج2 ص 357 الملحق بشفاء الغرام.
[15]
ج5 ص361 على هامش المسند لأحمد بن حنبل.
[16]
[17] مجمع الزوائد ج 4 وميزان الاعتدال ج4 ص213.(11/109)
استقبال المسلمين لرمضان
لفضيلة الشيخ عطية محمد سالم
القاضي بالمحكمة الشرعية بالمدينة
بسم الله والصلاة والسلام على خاتم رسل الله سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وارض اللهم عن أتباعهم الأئمة لهداة وعنا معهم ووفقنا اللهم إلى ما تحبه وترضاه. وبعد:
فقد كان المسلمون يستقبلون شهر رمضان بفائق العناية ويولونه أشد الاهتمام ويستعدون لمقدمه فرحا بقدومه، واستبشارا بفضله.
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعوا ببلوغه رمضان. فإذا دخل شهر رجب قال: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان".
وكان المسلمون يستقبلونه بقولهم: اللهم قد أظلنا شهر رمضان وحضر فسلمه لنا وسلمنا له، وارزقنا صيامه وقيامه. وارزقنا فيه الجد والاجتهاد والنشاط، وأعذنا فيه من الفتن. وذلك لما يعلمون من فضل رمضان وسعة فضل الله عليهم فيه، وما ينزله تعالى على عباده من الرحمات، ويفيضه عليهم من النفحات ويوسع عليهم من الأرزاق والخيرات ويجنبهم فيه من الزلات. حيث يفتح لهم أبواب الجنان، ويغلق عنهم أبواب النيران ويصفد فيه مردة الجان. فهو للأمة ربيعها، وللعبادات موسمها، وللخيرات سوقها. فلا شهر أفضل للمؤمن منه ولا عمل يفضل عما فيه. فهو بحق غنيمة للمؤمنين.(11/110)
قال صلى الله عليه وسلم: "أظلكم شهركم هذا. بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مر بالمسلمين شهر خير لهم منه. ولا مر بالمنافقين شهر شر لهم منه. بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليكتب أجره ونوافله قبل أن يدخله. ويكتب إصره وشقاءه قبل أن يدخله وذلك أن المؤمن يعد فيه القوت والنفقة للعبادة. ويعد فيه المنافق اتباع غفلات المؤمنين واتباع عوراتهم فغنم يغنمه المؤمن". إنه غنم له في العبادة تضاعف له فيها أجر الصلاة وأجر الصدقة ويتاح له القيام مع الصيام، ويتجه فيه إلى تلاوة القرآن. ومجالس الإيمان فيتزود منه إلى عامه كله. ولهذا كان السلف يسألون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، فإذا بلغوه سألوه أن يوفقهم فيه، ويرزقهم الجد والنشاط فإذا أكملوه سألوا الله بقية السنة أن يتقبله منهم.(11/111)
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن من حرم الفضل من رمضان لا يناله في غيره، ومن لم يغفر له في رمضان باعده الله في النار. وذلك لما صعد المنبر فقال: "آمين. آمين. آمين..". فسألوه عن ذلك فقال:"أتاني جبريل فقال: من أدرك شهر رمضان ولم يغفر له باعده الله في النار، فقل آمين فقلت آمين، ومن أدرك أبويه أو أحدهما ولم يغفر له باعده الله في النار فقل آمين فقلت آمين، ومن ذكرت عنده ولم يصل عليك باعده الله في النار فقل آمين فقلت آمين". ومن عجب أن جبريل عليه السلام وهو ملك الوحي والرحمة يقول عن مسلم أدرك شهر رمضان ولم يغفر له باعده الله في النار ولكن ينتفي العجب إذا تأملنا فضائل رمضان وتعرفنا خصائصه فوجدناه شهر الرحمة والمغفرة وأن وسائل المغفرة والرحمة من الطاعة والقربة متوفرة، ودواعيها ميسرة والأعوان عليها كثيرون. وفي الوقت نفسه عوامل الشر محدودة ومردة الشياطين موصدة ورحمة الله تعالى منزلة، ولله فيه عتقاء من النار في كل ليلة. وأبواب الجنة مفتحة كلها وأبواب النيران مغلقة كلها. فمن لم تنله الرحمة مع كل ذلك فمتى تناله إذاً، ومن لم يكن أهلا للمغفرة في هذا الشهر ففي أي وقت سيكون أهلا لها، كمن حضر موسم ربح فخفق ولم يربح فمتى يحصل على الربح. ومن خاض البحر ولم يطهر، فما الذي سيطهره.
وهكذا فمن لم ينل المغفرة في رمضان بالتوبة والإقلاع والعودة إلى الله والالتجاء وعمل الطاعات والدعاء فمتى ينالها وإذا حرم ليلة فيه خير من ألف شهر فماذا يرجى بعدها إن هذا شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم في الصلاة: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا". أي إذا كان وقوفه بين يدي ربه سبحانه ومناجاته إياه خمس مرات كل يوم لم تؤثر فيه ولم يجد لها أثرا في نفسه فأي مواقف بعدها ستنهاه.(11/112)
وكذلك هنا، وأيضا الذي يأبى أو يتوانى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند سماعه ذكره مع كبير حقه عليه وعظم قدره عند الله. وعظيم ما أجراه الله من الخيرات للأمة وللإنسانية كلها على يديه صلى الله عليه وسلم فما من خير يقربنا إلى الله إلا دلنا عليه ولا من شر يباعدنا عن الله إلا حذرنا منه وقد أمرنا بالصلاة والسلام عليه ووعدنا رب العزة بالصلاة علينا عشر مرات إذا نحن صلينا عليه مرة واحدة فمن يتأبى بعد ذلك يكون جاحدا للفضل كافرا للنعمة محروما من صلوات الله ورحماته عليه فباعده الله في النار.
وكذلك من يدرك أبويه اللذين هما سبب وجوده في الدنيا ولم يجعلهما سببا لوجوده في الجنة مع أن الجنة تحت أقدام الأمهات فإنه يكون عاقا لوالديه غير بار بهما فباعده الله في النار، ومن عجب أن نجد اقتران هذه الأمور الثلاثة: شهر رمضان بر الوالدين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم موجبات للجنة مبعدات في النار. لأن حق الوالدين مقرون ومرتبط بحق الله تعالى:(11/113)
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرون ومرتبط بذكر الله تعالى. فقرن بهما رمضان لعظم حقه، ومزيد فضله وما خصت به هذه الأمة فيه كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: "أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تعطها أمة قبلهم؛ خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الحيتان حتى يفطروا، ويزين الله عز وجل كل يوم جنته ثم يقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة ويصيروا إليك. وتصفد فيه مردة الشياطين فلن يخلصوا فيه إلى ما كانوا يخلصون فيه من غيره. ويغفر لهم في آخر ليلة. قيل يا رسول الله أهي ليلة القدر قال: لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله". وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري رحمه الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النيران فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب. وينادي مناد يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر. ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة".
نسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى الخير ويرزقنا الإقبال عليه، وأن يجنبنا الشر ويقصر خطانا عنه، وأن يجعلنا من عتاقائه من النار إنه سميع مجيب.
مشروعية الصيام
فيعتبر الصيام كعبادة دينية متقدم التشريع لدى الأمم الماضية، والأساس في هذا المبحث قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فهو مشروع لمن قبلنا. ومفروض عليهم ومؤكد بالكتابة علينا وعليهم سواء اتفقت الكيفية أو اختلفت فلكل أمة في فروعها وكيفيات عباداتها شرعة ومنهاج.
وقد جاءت صور متنوعة لصيام من قبلنا نورد بعضا منها لا للحصر وللاستقصاء ولكن على سبيل النماذج والأمثلة.(11/114)
فمن ذلك ما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: "خير الصيام صيام أخي داود كان يصوم يوما ويفطر يوما". وعنه أنه قال: "أما اليوم الذي أصوم فيه فأتذكر الفقراء، وأما اليوم الذي أفطر فيه فأشكر نعمة الله".
ومن ذلك ما جاء في نوع صيام مريم عليها السلام في قوله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} . فكان صياما عن الكلام لا إمساكا عن الطعام.
ومن ذلك صيام نبي الله موسى عليه السلام في المواعدة كما قال العلماء عند قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} فقالوا قضى أيامها صائما تهيؤا للملاقاة واستعدادا للمناجاة. وعن نبي الله موسى أيضا صيام يوم عاشوراء شكرا لله أن أنجاه الله من فرعون في ذلك اليوم وتوارث اليهود صيامه عنه إلى أن قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وكانوا في الجاهلية يصومونه كما في حديث عائشة رضي الله عنها، وكانوا يعظمون الكعبة فيه ويجددون كسوتها.(11/115)
أما أول مشروعية الصيام في الإسلام فكان هو صيام يوم عاشوراء لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة ووجد اليهود يصومونه سألهم عن السبب في صيامه فقالوا له: إنه يوم نجى الله فيه موسى من فرعون فصامه شكرا لله فصمناه وها نحن نصومه، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بموسى منكم" فصامه صلى الله عليه وسلم وأمر المسلمين بصيامه, وأرسل إلى ضواحي المدينة مناديه من كان صائما فليتم صيامه، ومن لم يكن صائما فليمسك بقية يومه. وقال صلى الله عليه وسلم: "لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر". أي ليغاير صيامه صيام اليهود بضم التاسع إلى العاشر، وهنا وقفة وتأمل في كلا الأمرين، صيامه صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء كصيام اليهود إياه، وصيامه التاسع مع العاشر مغايرة لهم. ففي الأول موافقة لهم في صومهم وفي الثاني مخالفة لهم بالزيادة عليهم.
والواقع أن صيامه صلى الله عليه وسلم لم يكن لمجرد موافقة اليهود بدليل مخالفته لهم بضم التاسع إليه ولتصريحه صلى الله عليه وسلم بأن السبب في صيامه هو السبب الذي دعا موسى عليه السلام إلى صومه وهو امتنان الله تعالى عليه بطريق في البحر يبسا ونجاته من فرعون وقومه فصامه شكرا لله وهذا السبب له أهميته وعظيم مدلوله في جميع الأديان وتاريخ الرسل مع الأمم لأنه إعلان وإثبات لانتصار الحق على الباطل في الصراع الدائم على البقاء وإلى الصلاح والإصلاح بصرف النظر عن الأطراف والأشخاص وعن الزمان والمكان، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بموسى منكم". كما بين صلى الله عليه وسلم رابطة النبوة بقوله: "نحن معاشر الأنبياء أبناء علات ديننا واحد". وأبناء العلات هم الإخوة لأب ووحدة الدين في الأصول وفي العقائد فنجاة موسى من عدوه انتصار لدين الله ونبيه. وسواء في المبدأ زمن موسى أو زمن محمد صلى الله عليه وسلم لأنها قضية حق وإظهار عدل. وهذه مبادئ الإسلام والمسلمين.(11/116)
وإن مما يلفت النظر ويستوقف الباحث هو تعظيم هذا اليوم بصيامه لما أجرى الله فيه من الخير وأن للأمة الاحتفاظ بذكرياتها الجليلة والتعبير عنها بما شرع فيها كالصوم في يوم عاشوراء.
ثم جاء فرض صيام رمضان في السنة الثانية من الهجرة وقد أشارت نصوص مشروعيته إلى ارتباطه بأعظم مناسبة في هذا الوجود كله هي انبثاق فجر الهداية وإشراقة شمس الرشاد التي بددت ظلمات الجهالة، ومهدت سبل السعادة يقول جبريل عليه السلام: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} .
فكانت فاتحة الرسالة المحمدية وكان ذلك في شهر رمضان كما قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} . فكان جديرا بزمن إنزاله تعظيمه بصيامه وإحياءه بقيامه. لتُجَدِدَ الأمة روابطها بربها، وتوثق عهودها بمبادئ دينها ويبقى على جدته لا تبليه الأعوام ولا توهنه الأيام.(11/117)
وقد جرت حكمة العليم الخبير في مشروعية هذا الركن العظيم فبدأ بالتدرج، أولاً يوم عاشوراء ثم فرض مطلقاً من غير تحديد: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ، ثم انتقل من الإجمال إلى التفصيل: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} . وإن كانت لم تقيد بعدد إلا أنها مقيدة بجمع القلة أياما معدودات. شبيه بما في قوله تعالى في مبيع يوسف عليه السلام: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} . وكذلك الأيام المعدودات ليهون على النفوس تقبلها، وقد شرع بادئ ذي بدء على التخيير: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} . ثم ألزموا به بعد أن توطنت نفوسهم عليه واطمأنت قلوبهم إليه. فحددت لهم أيامه وانتفى عنهم التخيير في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وبقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .
وبجانب ذلك نوافل وسنن من الصيام في مناسبات وملابسات أخرى انفرد بها الصيام عن سائر العبادات ما كان منها عاما وما كان منها خاصا.
فمن ذلك صيام يوم عاشوراء وإنه ليكفر سنة كاملة.
ومنها صيام يوم عرفة لمن ليس بعرفات وإنه ليكفر سنة قبله وسنة بعده ومنها صيام الست من شوال وإنها مع رمضان بمثابة صيام الدهر.
ومنها صوم يوم الاثنين؛ يوم ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه فيه.
وغير ذلك - الأيام المطلقة - كالأيام البيض كل شهر ويوم الخميس ... إلى غير ذلك.
كما شرع الصوم جبرانا لنقص أو تفاديا لخطأ، أو خروجا من مأزق؛ فمن صيام الجبران الصيام عن دم التمتع. ومن التفادي للخطأ عدل دم الصيد وجزائه. ومن الخروج من المأزق الكفارة عن الظهار واليمين وغير ذلك.
وهكذا تطور مشروعيته وينفسح تشريعه مما خص به الصيام دون غيره من العبادات.(11/118)
وإن للقرآن الكريم منهجا خاصا في سبيل تشريع الصيام جملة وتفصيلا وللصيام خصائص وحكم.
لكل عبادة في الإسلام خصائصها وحكمتها، وكلها أنواعُ غذاءٍ للروح تتنوع كأنواع غذاء البدن.
فالصلاة: تنهى عن الفحشاء، وتغسل الذنوب كما قال صلى الله عليه وسلم: "كنهر جار أمام بيت أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات"، وتأتي يوم القيامة نورا على الصراط: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . وكما في الحديث: "والصلاة نور والصدقة برهان".
والزكاة: طهرة للمال وتزكية لصاحبها: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} فهي طهرة للمال من شوائب الحقوق وتعلق عيون المساكين، وزيادة له وحصن. "ما نقص مال من صدقة". "حصنوا أموالكم بالزكاة".
والحج: منافع للناس عاجلا وآجلا: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} . وفي الحديث: "من أفاض من عرفات خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه". وأيضا: "والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". هذه هي آثار الصلاة والزكاة والحج فما هي آثار الصيام.
الواقع أنها كلها عبادة لله تعالى تعبدنا بها وأوجبها علينا ولا يستطيع إنسان الإحاطة بحكم العبادات لأنها حق لله ولا يعلمها إلا هو غير أننا أشرنا إلى بعض ما جاءت به النصوص فيما تقدم.(11/119)
أما الصوم فقد تناولته أقلام عديدة وحاولت أن تنسب إليه حِكماً شتى في أكثر من جانب إلا أن البعض قد يذهب إلى جوانب مادية كالعلاج وصحة البدن أو إنسانية كالعطف على المساكين والشفقة وهذه وإن كان الصوم يفيدها إلا أنه لا يختص بها فقد تحصل بغيره. والبعض قد يذهب إلى جانب خلقي تربوي يتعلق بالقوى النفسية من بهمية وسبعية. وروحانية ملكية وأن الصوم إضعاف للأولى بتقليل الطعام، فتتقوى الثانية. وقد يستأنس لذلك بحديث: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه". وهذه أيضاً تابعة للأولى لم تخرج عن الماديات ونطاق الحواشي.
ولكن القرآن نص صراحة على أهم خصائص الصيام وحكمته وأبان بأنها الحكمة والغاية من الأديان كلها. وأنها أخص خصائص الشريعة الإسلامية وهي "التقوى"وذلك في معرض التشريع الأول للصيام: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
و"لعل" أداة نص على العلة والحكمة التي هي التقوى وحقيقة التقوى الوقاية والستر كما قال الشاعر:
فتناولته واتقتنا باليد
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
وهي صيانة المرء من نوازع النفس، وهي جماع الأمر كله في عامة الأديان السماوية ودعوة الأمم السابقين وهذا باب واسع. وقد نص القرآن على أن الغاية من عبادة الناس أولهم وآخرهم من جميع الأمم هي التقوى كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، ومعلوم أنه تعالى ما خلق الجن والإنس إلا عبادته كما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} فتكون التقوى بمضمون هاتين الآيتين هي الغاية من خلق الثقلين الجن والإنس.(11/120)
ثم جاء النص في حق كل أمة ابتداء من قوم نوح عليه السلام في قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} .
وكذلك عاد لقوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} .
وكذلك ثمود لقوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} .
وقوم لوط لقوله تعالى: {كَذَّبَتْ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} .
وأصحاب الأيكة لقوله تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ لأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} .
فكل نبي يدعوا قومه إلى التقوى. وجاء القرآن كله دعوة إلى التقوى. وهداية المتقين كما في مطلع القرآن الكريم: {ألم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} ، وبيَّن نوع هدايتهم وطريقة عبادتهم: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .(11/121)
فبين أن الكتاب الكريم كله إنما هو هداية للمتقين وبيان أعمالهم في العقائد والعبادات. وأنها مرتبطة بالتقوى وارتبطت بها نتائج عظام عاجلا وآجلا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} حتى طريق العلم: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} ولو وقع في مأزق جاءته التقوى فأخرجته: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} . ولأن التقوى تمنح معية نصر الله للمتقين: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} .
وعلى هذا تكون التقوى مصاحبة لهم في الدنيا تصونهم وتحفظهم وتكون لهم وقاية وسترا وكلما جاء الصوم جددها وقواها واكتسبت حصانة ووقاية إلى عام قادم وهكذا كل عام في رمضان.
فإذ انتقل من الدنيا لازمته التقوى وساقته إلى أقصى غايته وأمانيه ابتداء من المحشر فيساق إلى الجنة: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} . وبعد دخولهم الجنة تأتي التقوى فتحلهم مقاما أمينا: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} ثم تنزلهم منزلة عزٍ لا يتطلعون إلى غيره: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} .
وصدق الشاعر في قوله:
ولكن التقي هو السعيد
ولست أرى السعادة جمع مال
وعند الله للأتقى مزيد
وتقوى الله خير الزاد ذخرا(11/122)
ومن نعم الله على هذه الأمة أن يجعل ذلك لنا في الصوم. وجعله جُنة نتقي بها كل ما نخشاه وننال بها كل ما نتمناه وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصوم جُنة" كما في صحيح البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم مرتين ... " إلى آخر الحديث. وعند النسائي: "الصوم جنة ما لم يخرقها". زاد في الأوسط: قيل بم يخرقها؟ قال: "بكذب أو غيبة". ولعل هذا إشارة إلى الكف عن جميع المعاصي كما نبه عليه حديث: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
وهنا في جُنة الصائم لم يطالب بترك الزور والعمل به فحسب لأن ذلك مطالب به في كل وقت. ولكنه طولب بترك ما هو له من حق الرد على المعتدي وإسكاته والانتصار لنفسه فإن شاتمه أحد يترك حق الرد عليه وإن كان حقا له ومباحا له إلا أن حق الصيام مقدم وأثر الصوم له فعاليته فكما ترك الطعام والشراب وغيرهما المباحين ومحض حلال له فكذلك يترك حق الرد على من سبه أو شتمه أو قاتله ويرد عليه بقوله: "إني صائم"أن ممسك عن ذلك وفيه وقاية من مجاراة السفهاء والمعتدين لأن الصائم إنسان مثالي ومسلم مسالم بجميع جوارحه لأن التقوى تملأ قلبه فيفيض إخلاصا ومحبة وخشية وخشوعا، ويطهر من الحقد والحسد، والتقوى ستظهر في منطوق لسانه فيكف عن الكذب والغيبة وعن المسابة والمشاتمة بل وعن الرد على من يسبه أو يشتمه..ويقابل الإساءة بالإحسان: "إني صائم". ومثله العين تجللها الوقاية وتحجبها عن النظر المحرم وكذلك الأذن في سماعها وتسمعها. وهكذا بقية الجوارح تصبح في وقاية تامة عن كل منهي عنه. على ما سيأتي بيانه فيما ينبغي على الصائم فعله أو تركه.(11/123)
وكفى بالصوم خصاصية أن اختصه تعالى لنفسه دون بقية الأعمال كما في الحديث القدسي: "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".
وللصيام منزلة خاصة بين الأعمال؛ ومما أجمع عليه المسلمون أن الصيام أفضل العبادات. وتقدم بيان عظم نتائجه من تقوى الله تعالى.. ومما يدل على علو منزلته وعظم مكانته أن الله تعالى اختصه لنفسه دون سائر الأعمال وتولى الجزاء عليه لعظيم أجره كما في الحديث القدسي؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشرة أمثالها إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".
ويعد هذا الحديث أعظم مبرز ومظهر لفضل الصيام وبيان منزلته عند الله وهذا الجزء من الحديث يشتمل مسألتين، الأولى بيان أجر الأعمال ومضاعفتها. والثانية منزلة الصوم عند الله تعالى؛ أما مضاعفة الأعمال فقد نص هنا عن الحسنة بعشر أمثالها. وهذا مبدأ عام تقرر ليلة الإسراء والمعراج لما فرض الله على الأمة خمسين صلاة. وراجع النبي ربه في التخفيف حتى استقرت إلى خمس وقال الحسنة بعشر أمثالها فكانت الصلوات الخمس بدلاً من الخمسين صلاة الأولى وتقرر مبدأ في الإسلام وحداً أدنى لمضاعفة الأجر عند الله.
أما الحد الأقصى فلا حد له. فقد يضاعف الأجر بحسب الأعمال أو باعتبار حال أهلها. فمنها ما يضاعف إلى مائة ومنها إلى سبعمائة. بل وأضعاف كثيرة وإلى ما لا يعلم قدره إلا الله.(11/124)
فمن الأعمال التي تضاف إلى سبعمائة وأكثر الإنفاق في سبيل الله لعظم منزلة الجهاد لقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} . وقد جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأعمال عند الله عز وجل سبع: عملان موجبان، وعملان بأمثالهما, وعمل بعشر أمثاله, وعمل بسبعمائة, وعمل لا يعلم ثوابه إلا الله عز وجل؛ فأما الموجبان فمن لقي الله يعبده لا يشرك به شيئا وجبت له الجنة. ومن لقي الله قد أشرك به وجبت له النار. ومن عمل سيئة جزي بها. ومن أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها جزي مثلها، ومن عمل حسنة جزي عشرا. ومن أنفق ماله في سبيل الله ضعفت له نفقته الدرهم بسبعمائة والدينار بسبعمائة، والصيام لله لا يعلم ثواب عامله إلا الله عز وجل". ففي هذا الحديث تفاوت الأعمال موجبان للجنة أو النار كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} وقال صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة". وعملان بمثلهما السيئة بواحدة ما لم يتب منها والعزم على الحسنة ما لم يتمكن من فعلها له حسنة فإن فعلها فله عشر حسنات؛ وفي الحديث: "من هم بسيئة ولم يعملها وكان تركه إياها لوجه الله فإن له بهذا الترك حسنة". أما الإنفاق في سبيل الله فإنه يضاعف مئات المرات بحسب إخلاص العبادة وقوة رغباتهم وطواعيتهم وإيثارهم لما عند الله تعالى وتقديم غيرهم على أنفسهم ثقة منهم بما عند الله عز وجل. ولو كانوا في حاجة ماسة لأن الإنفاق وقت الحاجة والفقر أعظم منه عند السعة والغنى كما قال صلى الله عليه وسلم في فضل الإنفاق أنه جهد المقل وفي الصحة والشباب وهو يرجو الغنى ويخشى الفقر لأنه يغالب شح النفس ومصداق ذلك في قوله تعالى: {وَمَنْ(11/125)
يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
لأن مقياس الإنفاق بحسب دوافع النفس وأحاسيسها لا بكثرة المال وتعداده كما قال صلى الله عليه وسلم: "درهم سبق مائة ألف درهم". فقال رجل: كيف يا رسول الله؟ قال: "رجل له مال كثير فأخذ من عرضه - أي من جانبه - مائة ألف تصدق بها ورجل له درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به". فلم يسبق الدرهم الواحد هنا مائة ألف لتميزه عنها في جنسه ولا لغلاء سعره فهو وإن كان نسبته واحدا من مائة ألف بالنسبة للإنفاق إلا أنه من جهة أخرى نسبة واحد من اثنين أي نصف مال صاحبه فكأنه تصدق بنصف ما يملك في هذا الدرهم الواحد أما صاحب المائة ألف فإن نسبة ما تصدق به نسبة جزء من كل وقد لا يؤثر عليه ولا يشعر به. فهذه منزلة الأعمال عمومها وخصوصها من حسنة إلى سبعمائة إلى مائة ألف بحسب الدوافع ونوازع النفس.
أما بالنسبة إلى الصوم لأنه فوق هذا كله وهو داخل في خصوص قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: "الصوم نصف الصبر".(11/126)
أما المنزلة العظمى للصوم فهي في قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به". مع أن جميع الأعمال لله وجميع الجزاء عليها من الله تعالى ولكنه خص الصوم بهذه الإضافة. فقيل في ذلك إنها إضافة تشريف كالإضافة في "بيت الله". وقيل لأن الصائم ليس عليه رقيب إلا الله كما في الحديث: "يدع طعامه وشرابه من أجلي". وقيل لأن الله يحفظه لصاحبه يوم القيامة إذا تقاضى الناس بالحسنات وأخذ ممن عليه الحق من حسناته توفية لصاحب الحق حتى تنفذ فلم يبق إلا حسنات الصوم فيقول الله: "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" إلى غير ذلك مما يعظم جوانبها كلها من مراقبة الله تعالى وإخلاص العمل إليه واستشعاره طيلة صومه أنه في عمل اختصه الله لنفسه قيل أيضا إن الله اختصه لنفسه لأن الصائم يتصف بصفة من صفات الله تعالى وهي عدم الطعام والشراب وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عمل يدخل الجنة فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله مرني بأمر ينفعني الله به. قال: "عليك بالصوم فإنه لا مثل له". وفي الصحيحين عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة بابا يدعى الريان يدعى له الصائمون فمن كان من الصائمين دخله ومن دخله لم يظمأ أبدا".
وإذا كانت هذه منزلة الصوم عند الله تعالى فإنها لمن صان صومه وحفظه كما تقدم عنه صلى الله عليه وسلم: "والصوم جُنة ما لم يخرقها" أي بكذب أو غيبة.(11/127)
ولأن الصوم يتفاوت أيضاً بحسب الأشخاص وشدة المراقبة والإخلاص وليس هو مجرد الإمساك عن الطعام والشراب فحسب بل عن كل ما نهى عنه ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش"أي إذا لم يصم لسانه أو بصره أو سمعه بل ولا قلبه وعموم جوارحه لأن الصوم في حقيقته عبادة البدن كله طيلة اليوم كله. فالصائم في مجاهدة النفس من الفجر إلى الليل شهرا كاملا وقد جمعت له الصلاة في قيام الليل والزكاة في منتهاه فخص هذا الشهر المبارك بثلاثة أركان الإسلام. ولذا فإن المسلم فيه ينعم في رحاب الجَنَّة نهاره صائم وليله قائم ومنتهاه إنفاق في سبيل الله.
وهنا نسوق حديث ابن عباس مرفوعا روي عنه: "إن الجنة لتزين من السنة إلى السنة لشهر رمضان فإذا دخل شهر رمضان قالت الجنة: اللهم اجعل لنا في هذا الشهر من عبادك سكانا. وتقول الحور العين: الله اجعل لنا من عبادك أزواجا من صان نفسه في شهر رمضان فلم يشرب فيه مسكرا ولم يرم فيه مؤمنا بالبهتان ولم يعمل خطيئة زوجه الله كل ليلة مائة حوراء. ... إلى قوله: فاتقوا شهر رمضان فإنه شهر الله أن تفرِّطوا فيه فقد جعل الله لكم أحد عشر شهرا تتنعمون فيها وتتلذذون وجعل لنفسه شهر رمضان فاحذروا شهر رمضان". وفقنا الله جميعا لحفظه والوفاء بحقه وأسكننا فسيح جنانه.
ولعظم منزلة هذا الشهر فإن له آدابا وأحكاما.
آداب الصيام وأحكامه.
كل عمل جليل له آدابه وأحكامه أداء لحقه وحفاظا عليه ورجاء لفضله ومن ذلك الصيام وقد تقدم لنا من آدابه صوم جميع الجوارح في النطق والعمل بل وفي التفكير.. يصوم المسلم عن جميع ما نهى الله بل وعن بعض ما أباحه الله له.(11/128)
أما أحكامه فمحلها كتب ودروس الفقه وتأتي حسب السؤال والاستفتاء بحسب ما يعرض للإنسان. إلا أن هناك أحكاما عامة تتصل بالآداب من جهة مراعاتها مما ينبغي تذكير الصائم بها.. وهي تتعلق بمأكله ومشربه وأفعاله وأقواله.
من ذلك التحري للمأكل الحلال ليكون عونا على طاعة الله. وليكون ذلك تعويدا على كسب الحلال والتحري عن الشبه طيلة العام فيرجح إذا وزن ويوفي إذا كال ولا يطفف إذا اكتال ولا يغش ولا يدلس ولا يختلس إلى غير ذلك من أنواع النقص في المعاملات التي تُدخل عليه مالا حراما. إذ الواجب عليه المطعم الحلال دائما وفي رمضان بالأخص لأنه لا يليق به الصوم عن الحلال وإباحته لنفسه الكسب الحرام.
ثم يأتي بعد ذلك آداب وأحكام المطعم والمشرب وهما وجبتا السحور والإفطار.
يعتبر السحور في رمضان خصوصية من خصوصيات هذه الأمة لأنه لم يكن للأمم الماضية في صيامهم سحور ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "فرق ما بيننا وبينهم أكلة السحر".(11/129)
إذا كان الصيام عند من قبلنا وفي أول الإسلام يحرم على الصائم الأكل والشرب والوطأ من حين ينام أو يصلي العشاء فأيهما حصل أولا حصل به التحريم، فيمسكون من صلاة العشاء إلى الغد حتى تغرب الشمس، وتكون مدة الإفطار هي مدة ما بين المغرب والعشاء فقط. وإذا نام بعد المغرب وقبل العشاء حرم عليه الأكل، إلى أن جاء رجل من مزرعته بعد المغرب فذهبت زوجته تحضر له الطعام، فغلبته عينه فنام فلم يستطع أن يأكل ولا يشرب، وأمسك لليوم الثاني وأصبح صائما فأغمي عليه في النهار فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم.. ووقع من رجل أن جاء إلى أهله فقالت إني قد نمت فظنها تمنع عليه فواقعها ثم تبين له أنه اختان نفسه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره فاشتد ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى قوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} . ونسخ المنع السابق وأبيح لنا الأكل والشرب والنساء، ومع إباحة الأكل والشرب طيلة الليل إلا أنه عمل عادي لكن أكلة السحر هي الرئيسية المرتبطة بالصوم ولذا أكدها النبي صلى الله عليه وسلم لأنها رخصة من الله امتن بها علينا ومن هنا يستحب تأخيرها لتحقق معنى امتداد الإباحة إلى آخر الليل فجاء عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بها: "تسحروا فإن في السحور بركة". والأمر بتأخيرها لتكون عونا على صيام النهار كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "إنها بركة أعطاكم الله فلا تدعوها". وقال: "استعينوا بطعام السحر على صيام النهار والقيلولة على قيام الليل". ونهى صلى الله عليه وسلم عن تقديمه في قوله: "لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر(11/130)
وأخروا السحور". وإن ذلك يحصل ولو بالقليل من الطعام أو الشراب كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "السحور كله بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء فإن الله عز وجل وملائكته يصلون على المتسحرين".
وكان سحور السلف قبل الآذان بما يتسع لقراءة خمسين آية. مع أنه يجوز إلى قبيل الفجر بلحظات.
أما الإفطار فينبغي تعجيله عند أول لحظة من الليل أي عند تحقق دخول الوقت كما تقدم: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر". رواه البخاري ومسلم. فلا يصح لإنسان بعد ذلك أن يؤخر الفطر إمعانا في التأكد فقد حذر صلى الله عليه وسلم من التأخير إلى طلوع النجوم في حديث سهل ابن سعد عند ابن حبان: "لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم".
وفي حديث أنس أيضا: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط صلى المغرب حتى يفطر ولو على شربة ماء". أما على أي شيء يكون إفطاره فجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإنه بركة فإن لم يجد تمرا فالماء فإنه طهور". وجاء أيضا أنه صلى الله عليه وسلم كان يفطر على ثلاث تمرات أو شيء لم تصبه النار.
ووردت أدعية وأذكار عند الفطر لأنه جاءت نصوص في أن للصائم دعوة عند فطره ومن الأذكار: "اللهم إني لك صمت وعلى رزقك أفطرت".
وفي المبادرة إلى الفطر سر لطيف هو الإشعار بأن العبد ضعيف وكان ممنوعا من رزق الله وقد جاء له الإذن بتناوله فلا يجمل به التأخر بل يبادر فرحا بنعمة الله عليه كما جاء في الحديث: "للصائم فرحتان إذا أفطر فرح بفطره. وإذا لقي ربه فرح بصومه".
ويستحب له أن يفطر غيره معه لقوله صلى الله عليه وسلم: "من فطَّر صائما كان له كأجر صيامه لا ينقص من أجورهما شيئا ويحصل ذلك ولو بمزقة لبن أو نحوه".(11/131)
أما ما بين السحور والإفطار فيجتنب شبهات الإفطار أو ما يؤدي إليه ومن ذلك المبالغة في الاستنشاق خشية أن يسبقه الماء إلى حلقه. ومنها الحجامة سواء الحاجم أو المحجوم أما الحاجم فخشية أن يتسرب الدم إلى فمه والمحجوم فخشية أن يضعف ويحتاج إلى الفطر وهذا ما عليه الجمهور وعند الحنابلة رواية أنها تفطر لما ورد من الأحاديث المتعددة فحملها الجمهور على الكراهية وحملها الحنابلة على التحريم ولهذا بحث مستقل إن شاء الله.
كما عليه أن يتجنب مثيرات القيء لأن إثارته مفطرة أما إذا جاءه عفوا وغلبه فإنه لا يفطر.
كما عليه أن يتجنب مداعبة أهله إذا خشي من نفسه كما قالت عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل نسائه وهو صائم وأيكم أملك لأربه". أي من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد نهى صلى الله عليه وسلم الشباب عن التعرض لما يخشى وقوعه. كما أن عليه أن يكثر من تلاوة القرآن كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام كان يدارسه القرآن في رمضان كل سنة مرة وفي السنة الأخيرة دارسه القرآن مرتين إحياء لبدء نزوله في رمضان.
وأن يكثر من الصدقات كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان أجود ما يكون في رمضان حينما يدارسه جبريل القرآن.
وللقرآن منهج خاص في تشريع الصيام آمل أن ييسر الله تقديمه والاستفادة منه.
والله نسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(11/132)
تعقيب على محاضرة
لفضيلة الشيخ محمد بخيت المستشار بالجامعة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه. وبعد:
نشرت مجلة (الرأي العام الكويتية) محاضرة ألقاها الدكتور أحمد عبد الكريم مصطفى، أستاذ التاريخ العربي الحديث في جامعة الكويت، في ندوة الفن الإذاعي تحدث فيها عن "العرب بين الحاضر والمستقبل".
ومن النظرة السريعة إلى هذه المحاضرة المستفيضة تبدو بعض الآراء والأفكار التي نرى أنها تتطلب التعقيب والإيضاح.
وقبل أن نعرض هذه الآراء والأفكار نذكِّر ببعض الحقائق العامة، التي يجب أن تكون الأساس والمنطلق عند دراسة حاضر العرب ومستقبلهم:
الحقيقة الأولى:
أن الأمة العربية بعد مجيء الإسلام أصبحت جزءاً من الأمة الإسلامية، وعضواً في كيانها..وأن بنيانها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لم يعد مستقلا عن بنيان المجتمع الإسلامي. الذي وحده الإسلام، وربط بين أفراده جميعا برباط الأخوة، وأعطاه كل مقومات البنيان القوي الصالح، وأمده في حركته على طريق التقدم والتحضر بكل العوامل والطاقات والقيم والنظم التي تجعل منه المجتمع الأعلى للحياة الطيبة في كل عصر ولكل شعب.. يقول الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} آل عمران: 110.. {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} طه: 123- 124.
الحقيقة الثانية:(11/133)
أن الإسلام ليس نظاما موقوتاً أو موروثاً. من وضع البشر، يقبل التغيير والتبديل استجابة لمقتضيات التطور أو مظاهر التحضر وإنما هو المنهج الإلهي الكامل للحياة في كل الأمكنة والعصور وفي إطاره الشامل تسير الحياة موجهة به إلى غايتها، متبينة حركتها وأهدافها وطبقاً لمبادئها تعاليمها الخالدة تتحدد صور الحضارات، ويتم بناؤها، واستجابة لندائه العالي تسير مواكب التقدم العلمي بكل طاقاتها في كل مجلات الحياة: بحثاً وتجربة، واستكشافا وتسخيراً، فتزداد بالله إيمانا وخشية، كلما هداها إلى سننه في خلقه، وأفاء عليها من نعمه.
الحقيقة الثالثة:
أن حاضر المسلمين اليوم في المنطقة العربية وفي غيرها إلا ما شاء الله لا يمثل الوجه الحقيقي التطبيقي للإسلام.
الحقيقة الرابعة:
أن الوضع التخلفي الذي يعاني منه المسلمون اليوم (ويسيئون به إلى الإسلام) هو النتيجة المنطقية الطبيعية لابتعاد المسلمين عن الإسلام في حياتهم التشريعية والعملية، وأن مسافة تخلفهم تقاس بمسافة بعدهم، وأن طي هذه المسافة يتوقف على تحقيق الاستجابة الكاملة الواعية لدعوة الإسلام.
الحقيقة الخامسة:
أن حضارة الإسلام حضارة متميزة بمبادئها وقيمها وأهدافها.. حضارة تقوم على تحقيق التكامل المعنوي والمادي معاً في حياة الإنسان مستوعبة مقومات هذه الحياة ووظائفها في الحياة الدنيا، وغايتها في الحياة الأخرى، ملبية في اعتدال المطالب الروحية الحسية معاً، حضارة توفر الخير والأمن السعادة للبشر جميعاً …
وبعد هذه المقدمة نشير إلى بعض النقاط التي وردت في المحاضرة.(11/134)
1- يذكر الدكتور المحاضر أن كل المجتمعات والثقافات تمر بطريق التغيُّر، ومن الممكن أن ننظر إلى المجتمع والثقافة باعتبارها كلا يمر بتطور معين ثم يقول: "وطبقاً لهذه النظرة أصبح على المؤرخ أن يعير اهتماماً إلى الثقافة والنظم والبنيان الاجتماعي والزعامات ومراكز السلطة والبيئة الطبيعية، وتركيب السكان والعلاقات المتداخلة المسئولة عن التغيرات".
ومع ذكر كل هذه العناصر والعوامل الجزئية ذات الصلة مما يحدث من تغيرات لا يرد ذكر (الدين) وهو الأساس في بناء المجتمعات وتوجيه حركتها وتحديد أهدافها وفي وجود الثقافات وتطويرها وتنميتها.
ولئن كان هذا مقبولا في الحديث عن المجتمعات الغربية التي انفصلت عن دينها فليس الأمر كذلك عند الحديث عن (المجتمع الإسلامي) أو جزء منه. وإلا لكنا متجاهلين لروح هذا المجتمع وأساس وجوده ومنهج حياته وهو (الإسلام) .
2- ثم يورد الدكتور هذه العبارة:
"والبنيان الموروث للأنماط الاجتماعية - الثقافة في العالم العربي إسلامي في أساسه وأنه في بعض النواحي يرجع إلى مؤثرات سابقة على الإسلام الذي برغم أنه وفَّر للمنطقة قدراً كبيراً من التماثل لم يستطع أن يقضي تماماً على مخلفات الحضارات السابقة عليه". ونرى أن في إطلاق هذا القول اتهاماً للإسلام بالقصور وبالعجز وهو اتهام تَبْرَأُ منه حقيقة الإسلام، وتَتَنَزَهُ عنه ساحته لما يلي:
أولاً:(11/135)
أن الإسلام هو دين الله الكامل ونهجه الأقوم للحياة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} المائدة: 3.. {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} الإسراء:10- 9.. {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} النحل: 89.
ثانياً:
أن الإسلام أوجد خير مجتمع يحتذى ويهتدى بمنهجه حتى تقوم الساعة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} آل عمران: 110.. {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} البقرة: 143. فهل يسوغ لنا بعد هذا الذي قرَّرَه القرآن الكريم وشهد له الواقع القول بأن الإسلام لم يوفِّر إلا قدراً كبيراً من التماثل فقط وما هو ذلك القدر القليل من التماثل الذي لم يوفره الإسلام؟!! ثم ما هي تلك المخالفات الحضارية التي عجز الإسلام عن القضاء عليها؟!! وكيف عجز عن ذلك؟!!
وهل إذا وجدت تلك المخالفات في حياة بعض الناس انحرافاً منهم عن منهج الإسلام، هل يفسر ذلك بأن الإسلام عجز عن القضاء عليها؟ وهل يراد من الإسلام الذي يعزز إرادة الإنسان أن يسلبه إياها؟ وهل يكون مع هذا السلب تكليف، ويتحقق ابتلاء، ويترتب مسئولية وجزاء؟ إن هذا القول البعيد عن الحقيقة هو أقرب ما يكون متابعة غير مدروسة للمستشرقين في مزاعمهم وافتراءاتهم على الإسلام والمسلمين.
3- يقول الدكتور المحاضر:(11/136)
"إن (المصلحين العثمانيين) بدأوا يقتبسون (التكنولوجيا) الغربية لمقاومة العدوان الأوربي". ويطلق هذا القول دون تعرض منه (للأسلوب) الذي اتبعه هؤلاء الذين يسميهم (مصلحين) (وعلى رأسهم مصطفى كمال أتاتورك) قي اقتباس (التكنولوجيا) وعلاقته بمقومات بنيان دولة إسلامية بل دولة الخلافة الإسلامية في ذلك الوقت وما أحدثه هذا الأسلوب في حياة المجتمع المسلم (تركيا) .
ثم يذكر بعد ذلك: "أن جمهرة المسلمين رأوا أن يقروا ويطوِّروا بعض المظاهر النافعة من الثقافة الغربية في إطار النظام القانوني والأخلاقي الذي تضمنته الشريعة الإسلامية، وبدت صعوبة هذه المشكلة في أنه لم يسهل تحديد ما يتمشى وما لا يتمشى مع الشريعة الإسلامية".
ولا أدري كيف نتصور وجود (هذه المشكلة) التي تجعلنا مع التمسك بشريعتنا نسير في طريق مسدود؟. ومن المعلوم أن الشريعة الإسلامية هي شريعة كل الأمم في كل العصور، وهي تستوعب في يسر كل شئون الحياة ومطالبها. وتحدد ما تقره وما لا تقره وتعطي كلا حكمه، مستمدا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} النحل: 89، {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} النحل: 44.
ومثل تلك المشكلة التي يشير إليها الدكتور- إن وجدت - فإنما تنشأ عن الجهل بالشريعة الإسلامية، أو عدم الانقياد لها، أو التعصب الأعمى لما نتلقاه عن غيرنا.
4- بعد ذلك يضيف الدكتور - مرتبا على ما سبق - قوله:(11/137)
"ولهذا كانت محاولات سَن القوانين في إطار الشريعة مترددة وحائرة". وهذه القضية مترتبة على (المشكلة) التي أوردها الدكتور والتي تبيَّنا أنها غير موجودة مع الشريعة الإسلامية ولا يمكن أن توجد. وما رتب على غير الموجود فهو غير موجود بداهة. وإذا كان هناك تردد وحيرة فليس لصعوبة سّنِ القوانين طبقاً للشريعة الإسلامية. ولكن لأن الحكام والقائمين بأمر المسلمين غير جادين ومخلصين فيما يريدون، فالتردد والحيرة في (إرادتهم) هم، وليس في تطبيق الشريعة الإسلامية السمحة بدليل أن الحكام الذين أرادوا ذلك جادين مخلصين تيسر لهم ما أرادوا كما هي الحال في المملكة العربية السعودية.
5- ثم يعقب بقوله:
"مع اتجاه قلة من المصلحين إلى التصريح بأن القوانين الإسلامية مشتقة من بداية التجربة المدنية للعرب، بمعنى أنها كانت مجرد استجابة لمتطلبات هذه الفترة الاجتماعية الأمر الذي يستلزم إعادة النظر فيها بحسب الظروف المتغيرة ... "الخ.
والدكتور المحاضر يذكر هذا الاتجاه منسوبا إلى من يسميهم قلة من (المصلحين) دون أن يذكر أسماءهم أوأسماء بعض منهم ودون تعقيب منه على اتجاههم.
وهذا الاتجاه افتراء على الإسلام ومحاولة لهدم شريعته.. فالشريعة الإسلامية كما نعلم هي شريعة إلهية لا وضعية وأحكامها جميعا إما نصية من الكتاب والسنة أو اجتهادية مستنبطة من النص ومرتبطة به طبقاً لما هو مقرر في أصول الفقه، وهي لم تشرع للعرب خاصة وإنما شرعت للناس كافة في كل الأزمنة والأمكنة حتى تقوم الساعة.
والقول (بالاشتقاق، أو الاستجابة) ترديد لمزاعم المستشرقين، وأعداء الإسلام.
6- ويتحدث الدكتور بعد ذلك:(11/138)
عن (الاتجاه العصري) أو الاقتباس عن الغرب فينقل عن المستشرق المعروف سير (هاملتون جب) تعريفه لهذا الاتجاه بأنه يغلب عليه كونه حركة فكرية عند المتعلمين ذوي الاتجاه العلماني..ثم يضيف إلى ذلك "من رأيه - المستشرق جب - أن العلمانية لم تستورد من أوربا على اعتبار أن بعض جوانبها كان يتضمنها (إسلام العصور الوسطي) ثم بعد أن مهدت الوهابية وغيرها الطريق دخلت المؤثرات العلمانية الوافدة من الغرب عن طريق العلم الغربي واقتصاد الغرب وآدابه وأثر التعليم العلماني الحديث الذي فكك البنيان الاجتماعي القديم"..والدكتور لا شك أنه يوافق (المستشرق جب) فيما ذهب إليه وإلا لعقب عليه أولما نقل عنه.
والمستشرق المذكور يذكر (العلمانية) مطلقة دون تحديد - كما هي عادة المستشرقين - في استعمال العبارات الغامضة الملتوية في حديثهم عن الإسلام والمسلمين.
فما المقصود بكلمة العلمانية هنا؟.
إن كان المقصود بها ما يتبادر منها عند الإطلاق، وهو التفسير المادي للكون، والاعتماد على العلم التجريبي ورفض ما عداه، فالإسلام يرفض هذه (العلمانية) لمنافاتها لعقيدته وشريعته ولا يمكن أن يتضمن شيئاً منها في أي عصر؛ لأن الإسلام واحد في كل العصور وليس هنا (إسلام العصور الوسطى) وإسلام غير العصور الوسطى.. نعم هناك مسلمو العصور الوسطى ومسلمو غير العصور الوسطى. ولكن يجب أن نعلم أن واقع المسلمين لا يعني الإسلام. فالإسلام هودين الله الواحد الخالد الذي أرسل به خاتم النبيين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إلى الناس كافة لا يتغير ولا يتبدل مع تلاحق العصور، وتوارد الأمم {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} الروم: 30.(11/139)
وادعاء المستشرقين أن (الوهابية) مهدت الطريق لهذه (العلمانية) هو محض افتراء وتجن على دعوة الحق. والوهابية ليست فرقة لها دعوتها الخاصة، أو مذهبا جديداً في الإسلام، وإنما هي دعوة مخلصة واعية أمينة إلى الإسلام، وتطبيقه عقيدة وشريعة تطبيقاً سليماً وشاملا لكل نواحي الحياة، وفق ما جاء به الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح.
وإن كان المقصود من (العلمانية) هو النهضة العلمية التي ظهرت في أوربا واتخذت منها طريقاً لبناء حضارتها. فالإسلام في كل العصور (وليس في العصور الوسطي فقط) ، يحث على العلم ويرفع من شأن العلماء النظريين والتجريبيين، ويدعو إلى العلم التجريبي اكتشافاً لسنن الله في الكون وآياته في الخلق، وانتفاعا بنعمة التسخير، وهو يحض المؤمنين على أن يتفوقوا في العلوم على غيرها تحقيقاً لعزتهم وحتى تكون لهم الكلمة العليا ولا يكون لغيرهم عليهم سبيل.
ولكن الإسلام لا يدعو إلى العلم النظري والتجريبي دعوة مطلقة بل دعوة موجهة وفق منهجه وفي إطار مبادئه وأحكامه وأهدافه، حتى يكون العلم سبيلاً لبناء الحضارات المتكاملة معنويا ومادياً معا، ووسيلة للتقدم وتيسير حياة الناس، وحل مشكلاتهم وإسعادهم في دنياهم وأخراهم.
وعلى هذا لا يقال: إن الإسلام (وهو دعوة العلم والإيمان) ، قد تضمن بعض جوانب تلك (العلمانية) الأوربية لأنه أشمل منها ولأنها انحرفت عن جادتها وابتعدت عن غايتها واتخذت لها طريقاً مادياً لا يقره الإسلام.
وإن كان الإسلام في دعوته العلمية لا يرفض الانتفاع المتبصر بما استخدمه الآخرون وتوصلوا إليه في ميادين العلم ومعامل التجارب.(11/140)
والقول: بأن الوهابية مهدت الطريق (للعلمانية) بهذا المفهوم فدخلت مؤثراتها الوافدة من الغرب عن طريق العلم الغربي واقتصاد الغرب وآدابه.. ألخ. قول غير مفهوم وغير مقبول لأن الوهابية (كما ذكرنا) ما هي إلا دعوة إسلامية خالصة تدعو إلى ما يدعو إليه الإسلام وتمهد السبيل لنشر دعوته وتطبيق شريعته. فكيف يقال إنها مهدت الطريق الآثار (العلمانية) التي لا يقر الإسلام كثيراً منها لتعارضها مع مبادئه وأحكامه ومنها الاقتصاد الغربي القائم على الربويات ونظم المعاملات المخالفة للنظم الإسلامية؟.
وواجبنا أن نتابع المستشرقين في آرائهم الخاطئة وادعاءاتهم المضللة واتهاماتهم الجائرة التي يريدون منها النيل من الإسلام، وتشويه حقيقته، وإلقاء الشبهات أمام دعوته.
(7) ثم يقول الدكتور المحاضر:
"أما مبعث الإعجاب بأوربا الذي ترتبت عليه حركة الاقتباس فهو:
أولاً: أنها حققت نظاماً ناجحاً يقوم على الدستور، ويحدد سلطة الحاكم، ويقيم العدالة، ويقر حرية كل من الفرد والمجموع.
ثانياً: عزا العرب حيوية أوربا إلى نظامها التعليمي وتنظيمها الاجتماعي وروح البحث الحر والنظم التعليمية والدراسية التي تسندها الدولة دون أن تشرف عليها.
وما أسهمت به المنظمات والجمعيات الخاصة في تقدم أوربا اقتصادياً وإنسانياً.
ثالثاً: أخذ العرب بمرور الزمن يقدرون آداب الغرب بغض النظر عن قيمتها العلمية فقاموا بترجمتها بحيث اكتسبت في النهاية أهمية لا تتناسب مع محتواها".(11/141)
وكنا نرجو من الدكتور وهو في عرض القضايا التاريخية عرضاً علمياً أن لا يورد بواعث الإعجاب. هذه قضايا مسلَّمة, لأنها إن سُلِّمَت أن تكون بواعث إعجاب لغير المسلمين فلا يصح أن تكون للمسلمين. فالإنسان إنما يعجب بشيء إذ لم يكن لديه مثله أو أحسن منه، وفي الإسلام - كما يعلم الدكتور - من النظم السياسية والاجتماعية والتعليمية والاقتصادية ما يفوق كل نظام آخر في أوربا وغيرها، وإعجاب من يعجب بأوربا من المسلمين لما يستهويهم عندها مبعثه في الحقيقة جهلهم أو تجاهلهم لما عندهم في دينهم وانصرافهم عن تطبيقه إلى تطبيق ما عند غيرهم.. والعجب ممن يستحسن شيئاً عند غيره وعنده ما هو أحسن منه، أو يستورد من بضاعة الغير ولديه لأفضل مما يستورده، وأكثر فائدة.
8- ثم يثير الدكتور في محاضرته قضية القومية العربية ويجعلها قمة أماني العرب من الخليج إلى المحيط.. وهي دعوة عنصرية شعوبية استعمارية يناصرها أعداء الإسلام لأن فيها تفريقاً للمسلمين، وتمزيقاً لوحدتهم الإسلامية وإضعافاً لوجودهم. وتمكينا لعدوهم منهم ولا فائدة يرجى للعرب من وراء استقلالهم بقوميتهم وارتباطهم بجنسيتهم، لأن عزتهم وقوتهم وسيادتهم في إيمانهم ووحدتهم الإسلامية لا في عرق أوفي أرض أو وحدة أمل أو وحدة مصير كما يزعم أصحاب هذه الدعوة المنكرة، ولا أمل ولا مصير لمسلم إلا من الإسلام وللإسلام.
ولا نطيل في هذا لأن ما كتب في تفنيد قضية القومية العربية، وبينان مخاطرهم ودحض الدعوة إليها كثير. وهي دعوة باطلة لاغية لن يكون لها أثر، مع قيام دعوة الإسلام دعوة الإيمان والإخاء والوحدة.
وبعد فهذه..النقاط التي رأينا التعقيب عليها إيضاحا للحقيقة وإزالة للشبهة، ونسأل الله أن يوفقنا جميعا ويعيننا على إتباع هداه.
وصلى الله تعالى وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والمهتدين بهديه.(11/142)
الاحتشام والاحترام والسخاء وعظم الأخلاق، والقيم والمشاعر السامية وكل ما يمكن اعتباره نفحات إلهية، لا يمكن الحصول عليها عن طريق الإلحاد. فالإلحاد أسوأ أنواع الأنانية ولسوف تفضي هذه الحضارة بدون العقيدة والدين سوف يحول النظام إلى فوضى. سوف ينعدم التوازن وضبط النفس والتمسك بالقيم. سوف يتفشى الشر في كل مكان.. إننا بحاجة ملحة أن نقوي صلتنا وعلاقتنا بالله.
(كريسبي مويسون)(11/143)
رسائل لم يحملها البريد
لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
المدرس بالجامعة
عجيب أمرك يا صديقي!! أبعد عشرات السنين وسنّ السبعين، وأنت ترفل في نعم الله، وتخضم خضراء الحياة، أبعد أن لبست شبابها جديدا، وطويت كهولتها رغيدا، أبعد أن امتلأ بجمالها عيناك، وانتضج بطعامها حضناك، أبعد هذا كله تتبرم بالحياة، وتتشكى من قدر الله؟!.
وأي شيء في أن يسترد الله نور عينيك، وقد استأمنك عليهما سبعين عاما؟! ماذا صنعت بهما في هذه السنين السبعين؟!
لقد رأيت بهما عدو الله وعدوك أربعين خريفا أو تزيد، رأيته وهو يضع قدمه الثقيلة على أرضك وأرض آبائك وأجدادك، رأيته وهو يسدد حربته الطويلة إلى صدور الشيوخ والنساء والأطفال من أبناء دينك وقومك، فماذا صنعت؟ أرأيت بهما طريق الجهاد فسرت عليها قدما، وأبصرت بهما الأعداء فتقحمتهم مهاجما؟ لم تصنع شيئا من ذلك يا صديقي، وإنما أبصرت بهما طريق الهزيمة فوليت عليها مدبرا، وليت وهما تفيضان بالدمع وتغمضان على القذى.
ظننت الحرب سحابة صيف سرعان ما تنقشع، وهزة أرض وشكان ما تسكن وتطمئن، خدعت أذناك بما كانتا تسمعان من عهود ووعود، وخدعت عيناك بما كانتا تبصران من أسلحة وجنود، ونسيت أنك مسؤول عن توليك وقعودك يوم يقوم الحساب.
رأيت بهما المنكرات تسعى بين يديك وعن أيمانك وشمائلك ومن ورائك، فماذا صنعت؟ كانت يديك شلاء، وكانت شفتك خرساء، ومضى قلبك ينبض باتساق وهدوء دون أن يشمئز، وظلت نفسك مطمئنة وادعة دونما تقزز.
ماذا تريد أن ترى بعينيك يا صديقي؟ أتريد أن تكون شاعرا ترى مطلع الشمس ورحلة القمر وأمواج البحر؟!(11/144)
لا تزال الشمس كما عهدتها من قبل تشرق ضاحكة مستبشرة، يطفح وجهها بالنور ويفيض بالحياة، تؤمل أن ترى في ديار المسلمين عزا وبزا، واعتصاما وفوزا، فتطوف بالأرض تسأل هنا وتنظر هناك، فلا تجد آخر النهار ما تطمئن به القلوب، ولا ما تقر به الأعين، فيحمر وجهها خجلا، وتلملم أشعتها حياء، وتتوارى عن الأنظار كاسفة حزينة خائبة الرجاء.
أتريد أن ترى القمر؟! لا يزال القمر كما تعهد، يبزغ أول الشهر نحيفاً هزيلا قد تقوس كالعرجون القديم، يطل على ديار العرب وغير العرب من هؤلاء المسلمين، فيرى تلك الاحتفالات بالأعياد القومية في كثير من العواصم وتلك المظاهرات الصاخبة والمعربدة في شوارع المدن الكبرى، ويسمع تلك التصريحات المجلجلة وتلك الخطب المصلصلة، فيظنها زحوف الجهاد إلى المعركة، ويخالها خطب القادة في جنود القتال، فيزداد نوره قوة وجمالا ويزداد جسمه صحة وكمالا، ويطفح وجهه بالسرور، وتفيض أشعته بالبهجة ثم يتبين له كذب ما خال، وباطل ما ظن، فيهزل جسمه من الحزن، ويخبو ضوءه من خيبة، ويتوارى عن الأنظار , تكاد لا تدركه الأبصار.
أتريد أن ترى بهما البحر وأمواج البحر؟!
لا تزال أمواج البحر كما تعهدها من قبل، تضرب شواطئ المسلمين بعنف، وغضب، وتصيح فوق رمالها والصخور الثائرة مزمجرة:
أين أنتم أيها المسلمون من آبائكم وأجدادكم في الزمن الغابر، وأين أنتم اليوم من هذه الدول الكبرى في العصر الحاضر، أين أساطيلكم الحربية التي تجوب المحيطات والبحار، وأين غواصات الذرة وحاملات الطائرات التي تحمي الذمار وتدرأ الأخطار؟!
فيكم عوامل التقدم فلم تتأخرون؟! ولديكم أسباب المنعة والقوة فلم تضعفون؟! كان آباؤكم قادة وورثتم تراث القيادة، فإلى متى هذا الوقوف؟! وفيم الحيرة وهذا التردد؟!(11/145)
أم تراك يا صديقي تريد أن ترى بهما بنيك وبناتك، لتصل حياتهم بحياتك، ولتملأ بهم عينيك قبل مماتك، ولكنهم - وا أسفاه لم يستطيعوا أن يحيوا بجوارك! ضاقت عليهم الأرض حواليك بما رحبت، لم يسمح لهم أن يعيشوا أحرارا، ولا أن يقولوا كلمة الحق جهارا، ففروا إلى بلاد الأجانب فرار العصافير عن أعشاشها، وقد جفّلها الصيادون، وروّعها القناصون، فأصبحت لا تراهم إلا رسائل، ولا تعرفهم إلا ذكريات.
نعم، لقد بقيت في عقر بيتك ابنتك الكبرى نائلة، ولكن ماذا تريد أن ترى فيها، لقد ذبل على وجنتيها الشباب الوريق، ومات على أجفانها معاني البر والعطف والرحمة، ألبستها ثياب الحقد والسخط والعقوق، فهي لا تنظر إليك إلا نظرات المظلوم إلى ظالمه، ولا تلحظك إلا لحظ المحروم ذوي النعمة.
كانت في ميعة الصبا ورونق الشباب، وقد وفد إليها كثير من الخطاب وفيهم قليل ممن ترضى دينهم والخلق، ولكنك أغليت المهر وشططت في الشرط، وابتغيت بزواجها عرض الدنيا وعلواً في الأرض، فأنت لا تريد إلا صهرا تفاخر بوظيفته الكبرى في الدولة، أو تباهي بثرائه العريض بين الناس، أو تخال مهنته كنزا لا ينفد، وأراد الله ما لم ترد، أعرضت عمن كان يريدك، وأعرض عنك من كنت تريد، وبقيت ابنتك عانسا تسأل الله غدوّا وعشيّا أن يعجل بك إلى الدار الآخرة، لعلها تأخذ نصيبها من الدنيا.
أم ماذا يا صديقي؟! أتريد أن تقرأ بهما صحفا ومجلات في بلاد عربية تطبع ثم تنشر على القارئين الغافلين وتوزع؟!
سوف تعشى عيناك وأنت تبحث فيها عن كلمة الصدق والرأي الحق بين ركام كلام ينطق بالحقد، وتراب أحاديث تثيره الرشوة، وضلال أقلام يملي عليها الباطل.(11/146)
أنا لا أنكر يا صديقي ما في هذا الكون من جمال وجلال وإبداع وإتقان وتناسق وروعة، فكيفما قلبت البصر في الأرض، وحيثما وجهت النظر في السماء، وأينما أرسلت العيون في هذا العالم، وجدت جمالا يأسر عيني وحسي وجلالا يملأ فؤادي ونفسي، وآيات وإبداع وإتقان مبثوثة في كل مكان.
وكأين من موقف وددت لو كان لي فيه ألف عين تبصر، وألف أذن تسمع، وألف حاسة تذوق وتستمع، وألف قلب يعقل ويخشع، وألف نفس تهتز إعجابا وانجذابا، وذهولا، ثم لا أملك إلا أن أخر ساجدا لوجه الله ذي الجمال والجلال والكمال والإبداع والإتقان.
ولكن ما حاجتك أنت إلى العينين، إذا كنت لا تبصر بهما إلا مواقع قدميك على الدرب، ولا ترى بهما إلا قطع الشطرنج وأوراق اللعب في ساعات الفراغ، ولا ترسلهما إلا في أصناف الطعام والشراب وأنت جالس على الموائد، ولا تتعرف بهما إلا أوراق النقد تقلبها بين يديك؟!
ما أكثر الذين أصابهم ما أصابك، ثم لم ينعموا بما كنت تنعم! لم ينعموا سبعين عاما ولا سبعين يوما ولا سبعين دقيقة، ومع ذلك اصطبروا وصابروا واستقبلوا قدر الله بسعة صدر وجلد، وشكر لله وحمد، ومضوا في هذه الحياة يجاهدون كما يجاهد المبصرون أو أشد، ثم فازوا فوزا عظيما، وقدموا لأنفسهم وللناس خيرا عميما، ما يزال يذكر ويؤثر، ويذاع وينشر، ويطوف بالأرض، وترويه الأجيال والعصور.
سبحانك يا إلهي!! ما أكثر النعم التي تهبها لهذا الإنسان!! ثم هو لا يشكرها ولا يذكرها ولا يأبه بها ولا يراها، وقد كان من قبل يتمناها، ويرى النعيم والسعادة في لقياها، حتى إذا ما ابتليته واسترجعتها منه، راح يبكي ويشكو، ويعول ويولول.
لا تحسب الإبصار كله ماتعا يا صديقي، فما أكثر ما تمر بالإنسان ساعات يتمنى فيها ألا يكون بصيرا!
ما حاجة الإنسان إلى عينيه حين يرى بهما ما رآه المتنبي حين قال:
غذاء تضوى به الأجسام
واحتمال الأذى ورؤية جانيه(11/147)
وما أكثر ما وضعت يدي على عيني كي لا أرى بهما أناسا يتصفون بالعلم، وينسبون إلى الدين، وهم يقفون مواقف الملق والنفاق والضراعة في سبيل عرض من أعراض الحياة الدنيا.
ما أجمل التلون والألوان في أزهار الربيع الناضرة تميس على سفوح الجبال، وتكلل بها هامات الروابي، وتغرق فيها بطون الأودية!! ولكن ما أقبح أن ترى التلون والألوان في أخلاق الرجال ومبادئهم على دروب الحياة الوعرة الطويلة!!
ما أكثر ما تأذى الأعين - ومن وراء الأعين قلوب وأنفس- ما أكثر ما تأذى وهي تشاهد أولئك السائحين الأجانب يطوفون بالبلاد كما يطوف البط المختال في برك حدائق الحيوان، ويحدجون أبناء البلاد باحتقار وينظرون إليهم النظر الشزر، كأنما هم حشرات تزحف فوق التراب العفن، أو ديدان تتمطى في الوحل الآسن.
وكم في هذه الحياة من رؤى وصور تقذى بها الأعين، وتضوى بها الأجسام والأنفس، وكم على وجه الأرض من أعمال أناس يكون فيها العمى من نعم الله.
فلا تذهب نفسك يا صديقي على ما فقدته حسرات، وليكن لك في عبد الله بن عباس أسوة مبصرة حين فقد بصره في أواخر عمره فقال:
ففي لساني وسمعي منهما نور
إن يسلب الله من عيني نورهما
ولتنظر إلى بشار بن برد كيف ألهم الحكمة وملأ الآذان صوابا:
وليس بعار أن يقال ضرير
وعيرني الأعداء والعيب فيهم
فإن عمى العينين ليس يضير
إذا أبصر المرء المروءة والتقى
وإني إلى تلك الثلاث فقير
رأيت العمى أجرا وذخرا وعصمة
صديقك
عبد الرءوف اللبدي
... هذه العصبية الدينية الإسلامية التي تتزعمها السعودية أمر مخيف ...
ففيه تعطيل لكل أمل لدينا -لدى إسرائيل - في أن نستطيع التعايش السلمي يوما مع غير التقدميين العرب ...(11/148)
فخير لنا أن تجاورنا نظم تقدمية مرتبطة بالمعسكر الاشتراكي الدولي. الذي من أساس دعوته السلام والتعايش بين مختلف النظم والجماعات والقوميات..من أن تجاورنا نظم رجعية إسلامية متعصبة لا نستطيع التعايش الفكري معها.
عن جريدة كول هام الصادرة في تل أبيب(11/149)
أثر العقيدة في الفن الإسلامي
بقلم الأستاذ رياض صالح جنزرلي
منذ سنوات وأنا أبحث في مجال الفن وأثر العقيدة الإسلامية فيه، آملا بأن انتهى إلى الكشف عن جوانب هذه المؤثرات وأبعادها. وخاصة بعد أن حاول الكثيرون - ممن كتب في هذا المجال - هدم بعض هذه المؤثرات، أو صرفها إلى غير وجهتها الحقيقية، وقصر زمانها على فترة محدودة، وإعادة زمنها إلى عصر انتهى وقته، علماً بأن الإسلام جاء تشريعاً متكاملا لكل زمان ومكان في شتى أحكامه وتشريعاته, إلا ما كان منها خاضعاً لتطورات الحياة البشرية ولم يكن لها نص أو أثر في كتاب الله وسنة رسوله.
ولعل أكثر من بحث في جوانب الفن الإسلامي تكلم عنه بصفة مجردة أو بصفة تاريخية، ولم يحاول البحث عن الأسباب التي جعلت هذا الفن فناً رائعاً جديداً من نوعه في العالم، وعن المؤثرات التي دفعته إلى هذا الطريق الجديد، وأكسبته روح الحياة والاستمرار والسيادة حتى تركت آثاره على ألبسة إمبراطور ألمانيا وكهنة أوروبا، والمنصة الأندلسية للملك البافاري (لودويك الثاني) مثالاً صارخاً على ذلك [1] .
والبحث في موضوع كهذا خضع لكثير من الأهواء الشخصية والتأويلات والاحتمالات المفرطة، يحتاج إلى عودة تامة لمنابعه الأصلية، دون الاعتماد على تأويلات المحدَثين لئلا يجرفنا تيار التحلل والانفلات.(11/150)
كما يحتاج إلى معرفة واسعة أيضاً بأحكامه الشرعية إلى جانب موهبة فنية وشيء من التخصص في الفن الإسلامي الأمر الذي جعلني أرجع فيه إلى القديم، الذي فيه كل ما أريد، فبحثت في كتب الفقه والحديث، فلم أجد أحكامه إلا متفرقة وبشكل خاص في كتب الفقه، فأنت تجدها في حكم اللباس، وفي حكم إجابة الدعاء إلى الوليمة وحكم كسر الدف، وباب الحظر والإباحة، فهي غير مجتمعة في باب واحد مما دعاني إلى مزيد من البحث والتنقيب وإني لا أزال بصدد هذا الموضوع أجمع وأطالع ما يقع تحت يدي من كتب تتعلق به حتى تكتمل جوانبه لدي إن شاء الله. وأستطيع أن أبرزها لقراء المسلمين نقية سليمة خالية من كل شائبة.
لم يكن الإسلام مفرطاً في أي حكم من أحكامه بل وزعها توزيعاً عادلاً وسطاً، إلى جانب من الشمول التام في هذه الأحكام بحيث أنها أحاطت المسلم بهالة إيمانية تامة نستطيع أن نرى آثارها في جوانب حياته عامة، وهذا الشمول التام والتكامل المتناهي يتضح لنا بقوله تعالى:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} [2]
وهذا الشمول هو الذي جعل للمفن [3] المسلم نصيباً وافياً في هذه العقيدة وأحكامها.
والمفن إنسان يمتاز بمشاعره الرقيقة والحساسة التي تتأثر بكل ما حولها وتحاول أن تعبر عنها كيفما تشاء.
وكما نرى من هذا التعريف للمفن بأن مجال الأهواء مفتوح للنفس وليس هناك من مقياس يلتزمه المفن في أعماله. لذا فقد جاء الإسلام بمبدأ الالتزام الذي حدد فيه الطرق التي ينبغي على المفن المسلم أن ينتهجها في أعماله الفنية، فلا يخضع للنفس وشهواتها أو الهوى وضلالاته، وخاصة في مسألة كهذه تعتمد على المشاعر النفسية الخاصة.(11/151)
إذا فقد جاءت الشريعة الإسلامية كموجه راشد يهدي للذي هو أقوم، ووينتشل البشرية من براثن الجهل والعذاب وضلالات النفوس وشرورها، ويقوِّمها على سبيل الحق والصلاح، ويأخذ بيدها إلى ما فيه خيرها ونجاتها.
لذا حرَّمت على المسلم رسم كل ذي روح، وذلك بنصوص صحيحة صريحة جاءت في أمهات كتب الحديث والفقه الإسلامي، بعبارات لا تخضع لتأويل بعيد كان أو قريب وذلك لوضوحها ونصاعة نصوصها.
ولم بك هذا التحريم إلا لإبعاد كل مظهر ينافي العقيدة الواحدة الصافية، ولمحو كل عهد جاهلي أو أثر وثني كان عليه الإنسان قبل أن يبصر طريق الهداية والرشاد. لذلك كان تحطيم الأصنام أو ل عمل قام به الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه، عندما فتح مكة المكرمة ودخل الكعبة، فلم يعد لها وجود في حياة العرب. وكذلك فعل المسلمون حينما فتحوا بلاد الروم فحطموا ما فيها من أصنام وأزالوا منها ما يتنافى مع الشريعة الإسلامية. كما حرم على المسلم صنعها وبيعها واقتناؤها لأنها دليل على الشرك والوثنية ومظهر من مظاهر العبودية لغير الله. وقد أشار إلى هذا ابن القيم رحمه الله في كتابه زاد المعاد وكذلك الصنعاني في سبل السلام وغيرهما.
ولم يكن التصوير بأقل شأنا من الأصنام، فقد نهى الإسلام عن التصوير وأنذر المصورين بأشد العقوبات، وذلك بأحاديث صحيحة تشير إلى أن أشد الناس عذباً يوم القيامة المصورون.
فعن عمر رضي الله تعالى عنه أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم" [4](11/152)
وأخرج الترمذي وقال حسن صحيح عن جابر رضي الله عنه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصور في البيت، ونهى أن يصنع ذلك". فإن أزيل من الصورة ما لا تبقى معه حياة لم تكره في المنصوص، بأن أزيل منها رأسها، أو لم يكن لها رأس، لا أن فصل رأسها عن بدنها بما يشابه الطوق مما يزيدها حسنا فهذا لا تزول به الحرمة [5] .
وقال النووي: "قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم, وهو من الكبائر, لأنه متوعد عليه بالوعيد الشديد المذكور في الأحاديث, وسواء صنعه لما يمتهن أو لغيره فصنعته حرام بكل حال, لأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى, وسواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس, وإناء وحائط وغيرهما" [6]
وأما تصوير صورة الشجر وجبال الأرض وغير ذلك مما ليس فيه صور حيوان فليس بحرام.
وهناك أحاديث أخرى تتضافر بالمعنى من ناحية تحريم صور ذوات الأرواح لا يتسع الوقت لتتبعها وسرد نصوصها هنا. ويكفينا أن الفقهاء قد أجمعوا على تحريم اتخاذ الصورة لكل ذي روح.
ولم ينه الإسلام عن تصوير ذوات الأرواح فقط بل نهى أيضاً عن تعليق وتزيين الجدران بها، كما تبين هذا من حديث عائشة المشهور [7] ومن أحاديث أخر، منها:
عن أبي طلحة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة" رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وبن ماجة. وفي رواية مسلم: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا تماثيل". كما شمل هذا التحريم اللباس المصور عند بعضهم كما جاء في منظومة الآداب للشيخ محمد السفاريني الحنبلي بقوله:
حوى صورة للحي في نص أحمد [8]
ويحرم ستر أو لباس الفتى الذي(11/153)
إن هذا التحريم لم يكن لهدف تخريبي كما قد يفهمه بعضهم، كما لم يكن يرمي إلى حجز المواهب الفنية والحد من نشاطها. إنما كان يهدف إلى ناحية معينة ومقصد محدد. وهو نقل الفرد المؤمن إلى حظيرة التوحيد والإسلام، وإبعاده عن كل أثر جاهلي، وصرف نظره عن كل ما يتصل بالجاهلية من أدران ومفاسد، وتنمية شعور الالتزام بالعقيدة الإسلامية وتشريعاتها. هذا من جانب ومن جانب آخر وهو الأهم، هو الحد من اتخاذ هذه الصور للشخصيات الإنسانية التي تستحق التعظيم ثم الانتهاء بعد أجيال إلى عبادتها، وقد حدث هذا في الأمم السابقة، وكنائس النصارى أكبر شاهد على هذا.
فالإسلام دين أدرك الواقع ونظر إلى المستقبل، فجاء بمنهج سليم يضمن الحال والمآل لذلك كان لباب سد الذرائع فيه أثر كبير في حفظ الكيان الإسلامي.
وقد يستغل بعض ما ذكرناه فيقول بأن التحريم كان بسبب عبادة الناس للأوثان حينما كانوا مشركين، والآن فقد آمن الناس جميعا، وبعدنا عن عهد الوثنية، إذاً فلا بقاء لحكم التحريم وفي هذا الادعاء جهل وتضليل.
فأما الجهل: فإنه على الرغم من تقدم الإنسان وعلى الرغم من حضارته المادية الغالبة في هذا الزمان فإن الكثير من البشر لا زالت عقائدهم تقوم على خرافات وأوهام باطلة، ومنها ما يقوم على عبادة الأوثان والأبقار - كما عند البوذيين والهندوسيين - ولهذا فإن عنصر الوثنية والجاهلية لا يزال موجوداً لدى بعض الفئات من البشر إلى جانب الضلالات كبير في عبادات بعضهم.(11/154)
وأما التضليل: فإن نصوص التحريم لم تكن لهذه العلة فقط، إنما جاءت لعلل كثيرة منها علة المضاهاة لخلق الله تعالى - تبارك الله أحسن الخالقين - وهي أهمها. وهذه العلة ملازمة لرسم ذوات الأرواح ولا تزول إلا بزوالها. وكل من حاول إخضاع الأحاديث الواردة لمثل تأويلات الادعاء السابق فقد أفرط إفراطاً كبيراً، وحملها مالا تحتمل، وزاغ بها عن طريقها الصحيح. فالمسلم ملتزم بالنصوص والعمل بها قبل أن يخضعها إلى أي تفسير وخاصة إذا كانت واضحة جلية.
كما لم يكن تحريم تصوير ذوات الأرواح في الإسلام لهدف قريب فقط، مقيد الأمد، بل هو لهدف بعيد، وهو الحافظ على الأجيال القادمة، ووقايتها من مكائد الشيطان، وحجزها عن الوقوع في الشرك بعد الإيمان. وإننا نلاحظ في زماننا الحاضر ما جلبه انتشار التصوير من فساد عارم شمل البشرية عامة، ولم تنج منه الأمة الإسلامية على الرغم من نصوص التحريم الصحيحة الصريحة، فلقد أصبح التصوير وسيلة هامة لعرض مفاسد الأخلاق في كثير من بقاع الأرض، والدفع بالناس إلى أحضان الرذيلة.
وهنا تتجلى روعة الإسلام وحكمته البالغة في هذا التحريم، لأنه خبير بنفوس البشر عليم بغرائزها وقد أراد لها النهوض بهذه الغرائز إلى المستوى اللائق بالإنسانية فلم يحرم عليها شيئاً، إلا وأباح لها ما يقوم مقامه ويسدّ مسدّه، ويفوقه في حسن عاقبته، لذا فقد أجاز للمسلم رسم كل شيء ما عدا الأرواح، وحديث ابن عباس واضح جلي:(11/155)
عن سعيد بن أبي الحسن رضي الله تعالى عنه قال: "جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنه فقال: إني رجل أصور هذه الصور فأفتني فيها. فقال له: أدن مني، فدنا, ثم قال: أدن مني، فدنا حتى وضع يده على رأسه وقال: أنبئك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مصوِّر في النار يجعل له بكل صورة صورها نفساً فيعذبه في جهنم" وقال ابن عباس فإن كنت ولابد فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له" [9] .
وقف المفن المسلم أمام هذه النصوص تتنازعه رغبتان: رغبة الفن الحبيسة في نفسه التي تطلب منه الخروج. ورغبة الالتزام بأمر الله ورسوله، لذلك بدأت عملية البحث عن منطلق سليم جديد، يحقق له رغبته ولا يتصادم مع تعاليم دينه، ويكون شاهداً على أصالته وغير مسبوق من أحد قبله، أي إيجاد أسلوب جديد يحطم ما كان قائما على أساس جاهلية ويعطي انطباعاً إسلامياً خالصاً.
وبالفعل بدأت عملية التفكير والتطوير لما يراه ثم يتبعها الإبداع الذي يصب فيه المفن أحاسيسه وذوقه. بدأ المفن المسلم يتفقد ما حوله وينظر إلى ما يراه محاولا أن يجرد الأشكال الطبيعية من صفتها الحقيقية مبتعداً عن أي شبهة في التحريم حتى ولو كان عمله مباحاً، محاولا أن يجعل أعماله في قوالب فنية بحتة رائعة، يمنحها عناصر جمالية فريدة من نوعها، وبذلك يكون قد انتهج أرقى خطة مثالية في التعبير عن المشاعر. فالفن يبدأ حينما يأخذ المفن في الانحراف عن المحاكاة الدقيقة للطبيعة. "ويفرض عليها (وزنا) من عنده (أشبه بأوزان الشعر) وفقا لما توحي به مشاعره وإحساساته بالجمال" [10] .(11/156)
وهكذا تكون العقيدة الإسلامية هي العامل الأول والأخير في قضية الفن الإسلامي وما وصل إليه من إبداع، فقد دفعت المفن المسلم إلى استغلال جميع قدراته العامة، فشحذ خياله لتحرير ما يراه حتى لا يطابق الطبيعة أو الواقع، فجاء فنه بطابع زخرفي بحت اعتبره بعضهم من أرقى الفنون.
لقد نظر المفن المسلم إلى الطبيعة بما فيها من ورود وزهور، وأوراق وغصون ولاحظ أشكالها وتمايلاتها وانحناءاتها، فجردها من واقعيتها وناغم بين حركاتها ثم كرر وناظر، وشابك وعانق، كل ذلك ضمن حركات فنية رائعة، وتوزيعات خلابة، وألوان ساحرة، ودقة متناهية لا نظير لها في باقي الفنون، حتى لتظن نفسك وأنت تنظر إلى زخرفة تشجيرية متشابكة وكأنك تائه في غابة متشابكة الغصون.
ونظر إلى ما يراه في أعمال المهندسين والرياضيين وما يرسمونه من أشكال هندسية، فأخذ عنها وراكب بعضها فوق بعض فكونت لديه أشكالا جميلة كالمسدسات والمثمنات والنجوميات وغيرها، فوزعها توزيعاً منطقياً دقيقاً متوازناً وجانس بينها، وجعل لنفسه نقاطًا ينطلق منها، فقرر بذلك قواعد وأصولا ثابتة اختص بها الفن الإسلامي.
ونظر أيضاً إلى ما يكتبه الناس في مراسلاتهم ومؤلفاتهم، وعلى الأخص كتابة القرآن الكريم الذي لاقى عناية بالغة لم يلقها كتاب في العالم، فاعتنى بخطوطه ونمقها وزخرفها ووشاها، وأبدع فيها غاية الإبداع فكان ما يسمى بالخط العربي الذي يعجز المقام بنا هنا عن استفاء حقه.
وفي كل هذا نرى المفن المسلم ينطلق من مبدأ الخلية الواحدة، واهباً الخلية الفنية صفة التوالد ليعمم بها الصفحة الفنية. ومبدأ الانطلاق من الأصل الواحد مبدأ أصيل في التصور الإسلامي النابع من تصور الإسلام للكون والحياة والإنسان.(11/157)
وأود أن أشير قبل أن أنهي كلمتي إلى أن الفن الإسلامي لم يكن في أي مرحلة من مراحله حكراً على فئة دون أخرى، أو منتشراً في طبقة دون غيرها إنما كان فناً شائعاً منتشراً في كل مكان وفي كل فئة دون تمايز أو تفاضل كشأنه في الفن الأوروبي في العصور الوسطى حيث كان حكراً على طبقة الأشراف والنبلاء.
كما أن الفن الإسلامي لم يستغل لخدمة الدين كما هو الحال في الفن المسيحي، فأنت لا تراه في كتب الإسلام الدينية على اختلافها. إنما وجهته العقيدة الإسلامية توجيهاً سليماً فقط لئلا يعزب على هواه.
رياض صالح جنزرلي
ماجستير لغة عربية دبلوم دراسات إسلامية عليا
شهادة الفنون التشكيلية
مكة
--------------------------------------------------------------------------------
[[1 مجلة فكر وفن عدد 19
[2] سورة المائدة آية (5)
[3] كلمة مفن كمسن هي الأصح لغة أما فنان فمعناها في اللغة حمار الوحش راجع لسان العرب ج13/ ص326.
[4] رواه البخاري ومسلم.
[5] غذاء الألباب 2/164.
[6] نفس المرجع 1/397.
[7] وهو حديث الستر المصور على الطاقة راجع رياض الصالحين ص593
[8] غذاء الألباب ج2/205
[9] رواه البخاري ومسلم
[10] دائرة معارف الشعب ص 465(11/158)
مشاهداتي في أوروبا والأمريكيتين وما حولهما
لفضيلة الشيخ سعد ندا
المدرس بالجامعة
كان من فضل الله تبارك وتعالى ونعمته على المغفور له جلالة الملك فيصل - رحمه الله وأسكنه أفسح جناته - أن وفقه إلى العناية بالدعوة الإسلامية، حتى أنه بذل لها جهوده المادية والمعنوية بإنفاق الأموال وبعث الدعاة إلى مختلف أنحاء المعمورة التي تعصف بها تيارات الفتن، ومد يد العون بكل وسائله على أشمل نطاق، من كل ما يسر الله تعالى له, ما ترك به أجل الآثار، بما لم يبلغه أي حاكم عصري في العالم، وبما لا سبيل لامرئ ما أن يجحده.
وفي الصيف الماضي، كنت - بتوفيق الله تعالى - واحد من هؤلاء الدعاة، فقد وافق الفيصل العظيم- غفر الله له - على سفري للدعوة إلى الله تعالى في غيانا بأمريكا الجنوبية لمدة شهرين ونصف.
وقد أحسست - عقب إبلاغي الموافقة السامية - بعظم المهمة، وثقل العبء، وضخامة الأمانة التي حملتها، وأهمية الرسالة التي كلفت بها، في آفاق جديدة لم يسبق لي طرقها، وبين شعوب متباينة العادات والأخلاق، وممزوجة المذاهب والمعتقدات. بيد أني وضعت رائدي قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} . ولم أتهيب قطع تلك المسافات الشاسعة، وولوج تلك الأقطار النائية، ذلك أني أحسست أن أي بقعة على سطح الأرض يظهر فيها وجه الإسلام إنما هي وطن كل مسلم، على ما قال القائل:
الشرق فيه كمثل الغرب سيان
ولست أدري سوى الإسلام لي وطنا
عددت أرجاءه من لب أوطاني
وكلما ذكر اسم الله في بلدٍ(11/159)
واستعنت بالله تعالى، وانطلقت جوا ميمما شطر تلك الآفاق، ماراً بانجلترا، ثم بكندا، ثم بترينيداد، حتى وصلت أخيراً إلى غيانا بأمريكا الجنوبية حيث ركزت نشاطي بالدعوة فيها طيلة شهرين، ثم عدت إلى نقطة انطلاقي بالمدينة المنورة مركز الإشعاع ومصدر النور إلى العالمين.
والحقيقة التي لمستها أن البلاد التي مررت بها قد غشي نواحي حياتها من مظاهر الحياة المادية الكثيرة. ففي كل مكان ترى آلات وعقولا إلكترونية تعمل على سرعة إنجاز العمل في وقت يسير. ولذا كان طابع الأعمال هناك السرعة المتناهية، وانعكس هذا على الناس، فهم ينطلقون إلى حيث يقصدون في خفة وسرعة حركة كانطلاق تلك الآلات، فلا تجد منهم من يقف متلكئا، أو من يسير متلفتا، أو من يتباطأ في حركاته مترددا، ومن ثم كان الإنتاج عندهم كثيرا، منظما، دقيقاً. فضلا عن ذلك فإن الغالب على حديث الناس هناك الاختصار ما أمكن، حتى أن كتابة الأسماء ونطقها بحروفها الأولى فحسب، والإجابة على السؤال بكلمة أو كلمتين، وربما تكون بمجرد الإشارة. فقلت حينذاك أبياتا منها:
من العرف والعادات والحضارة
وأبصرت فيها ما لم أشاهد مثيله
يضيع وقتا دون شغل وهمسة
ففي كل فج لا ترى المرء واقفا
جموع من النمل انبرت من خلية
ترى الناس فيها مسرعين كأنهم
وتبلغ حضارة تلك البلاد أوجها في الولايات المتحدة الأمريكية - التي مررت بها أثناء عودتي-حيث تمتلئ مدنها بأفخم المباني التي تسمى ناطحات السحاب وحيث يوجد بها كذلك أعلى ما أقيم من بناء في العالم كله، كما يوجد بها عديد من قناطر فوق الأنهار متقاطعة وعديد من الأنفاق تحت الأرض، وأنفاق امتدت لمدى بعيد تحت الأنهار.(11/160)
وبجانب هذه الحضارة المتشعبة في كل مظاهر الحياة، يوجد انحلال خلقي خطير؛ فالمرأة تسير في الطرقات شبه عارية، والرجل يقبل المرأة، ويخاصرها، ويعانقها، ويجلسها على فخذيه على أعين الناس دون مبالاة ولا حرج، إذ قد أصبحت هذه الأمور لديهم مشاهد عادية ترى في كل وقت وفي كل مكان، حتى تبلدت أحاسيس الناس، وماتت مشاعرهم تجاه هذه المشاهد الانحلالية، فلم ينكرها منهم منكر، ولم يثر ضدها منهم ثائر. ومن ثم فإن الشخص المسلم حين يخرج من محل إقامته إلى أي طريق عام، لا يحس للإسلام أدنى مظهر أو أقل أثر، بل يلمح سريعاً غربة الإسلام وأهله في تلك البلاد، خاصة وأن حكامها من اليهود والنصارى والشيوعيين.(11/161)
وقد زرت المراكز الإسلامية في تلك البلاد، وقابلت المسئولين بها، واستفسرت منهم عن مدى النشاط الذي تقوم به تلك المراكز، وتبين أن نشاطها محدود، إذ يقوم عليها بعض المسلمين الذين تسيطر عليهم البدعة والخرافة، والذين لا تدفعهم دوافع الرغبة الصادقة في إقامة صرح الإسلام في تلك البقاع، يؤدون عملا وظيفياً رتيباً يظهر تلك المراكز بمظهر باهت هزيل عاجز عن القيام بواجب الدعوة إلى هذا الدين القيم، ومن ثم لا تجد تلك المراكز أثرا فعالا في مجال الدعوة إلى الله، وتصحيح العقائد، والكشف عن حقائق الإسلام بما يرد كيد أعدائه، ويواجه الدعوات الزائفة والمبادئ الهدامة التي تحاول تحطيم الإسلام بأساليب متنوعة مثل الدعوة إلى: النوبية، والإليجية، والأحمدية (أو القديانية) والشيوعية، فضلا عن التخطيط اليهودي المقنع، والتبشير النصراني السافر. ومن ثم انتشرت تلك الدعوات الزائغة انتشارا له أثره الخارجي، بحيث أحاطت بالمسلمين في تلك المناطق، بل وتسربت إلى كثير منهم، وملأت عليهم حياتهم فاعتنقها بعضهم اعتناقا كليا، فبقي على إسلامه اسما وتجرد منه فعلا واعتنقها بعضهم اعتناقا جزئيا. وخلطها بما عرف من اليسير من الإسلام فشوه ولبّس به بصيص الحق الذي لديه.(11/162)
وقد نتج عن هذا كله أن المسلمين في تلك المناطق يَحْيَوْنَ حياة الضعف والهزال، ولا تتميز لهم شخصية عن غيرهم، بل إن حياتهم داخل بيوتهم بالاختلاط الشديد بين الرجال والنساء - وخارج بيوتهم - بالتزامهم زي غير المسلمين وسفور المرأة المزري- لا تفترق عن حياة غير المسلمين بحيث إذا دخلت بيتا - دون أن تُنبّه إلى أنه بيت مسلم - يصعب عليك أن تعرف أنه كذلك، وإذا قابلت مسلماً في أي طريق - دون أن تنبه أنه مسلم - من العسير عليك أن تعرف أنه كذلك أيضاً. وفوق ذلك لا يجد أدنى حرج في أن تظهر زوجته وبناته بهذا اللون السافر داخل بيته أمام غير المحارم، أو أن يسرن بجانبه على تلك الهيئة في الطرقات. بل أنه أكثر من ذلك إذا زرت مسلما في بيته أو دعاك لتناول طعامه، فإنه يسرع إلى تقديم زوجته وبناته ابتغاء السلام عليك ومصافحتك والجلوس إليك والتحدث معك، بل ومشاركتك على المائدة في تناول الطعام دون حياء.
فضلا عن ذلك فإن المسلمين في تلك البقاع تسمى بعضهم بأسماء عربية حرفت حتى ما تكاد تلمح عربيتها مما شابهت به أسماء غير المسلمين مثل اسم رمضان حرف إلى رمزا، ورمزان، ورام جون، واسم نذير حرف إلى اسم نادير. كما تسمى بعض المسلمين بأسماء غير إسلامية أو عربية مثل: بيير، وجولشير، وشيرين، ومورين، وزبار، وفرنكلين. الأمر الذي تنطق معه حالة المسلمين في تلك المناطق بذوبان شخصياتهم في غير المسلمين دون قصد منهم لذلك، بل مما توارثه خلفهم عن سلفهم ردحا طويلا من الزمن، لم يقم فيه بينهم ذو لسان صدق يمييز لهم الخبيث من الطيب، ويبصرهم - في جرأة المؤمن وشجاعة الناصح وإخلاص الموجه - بالحق الذي شرعه الله عز وجل.(11/163)
وحين تبهت شخصية المسلمين في تلك البقاع إلى هذا الحد، مما يعنون من جهل مطبق لمبادئ دينهم، وطغيان البدع والخرافات على النذر اليسير الذي علموه، فلا تبدو لهذه الشخصية أي وزن يقوى على التأثير أو التغيير في واقع تلك الأمم، فإننا نلمح شخصية غير المسلمين - الذين يحادون الله ورسوله - بارزة طاغية، لها قوة التأثير والتغير، في قوة جماعية منظمة تبني حركتها على تخطيط مدروس له فعاليته وأهدافه.
ومن ثم أجد مما يناسب مقامي هذا أن ألقي بعض الضوء على تلك المنظمات المتجمعة المتباينة التي زاحمت المسلمين وملأت الجو من حولهم بالباطل، وحركت كوامن المعركة فأثارت نقعها وجلبتها فأصبح صوت الحق لا يكاد يسمعه أو يحس به أحد.
وإذا اتجه هذا الاتجاه، فإنني أهدف من ورائه إلى لفت المسلمين - حيثما كانوا - إلى خطورة تلك المنظمات، والحذر منها، وبذل كل وسائل الحيطة تجاهها، حتى يسكتوا أصواتها، ويخمدوا أنفاسها، ويقطعوا الطريق على من يخدعون بها ويتهافتون عليها.
وإليك - أخي المسلم - حقائق عن تلك المنظمات فيما يلي:
أولا: جمعية أنصار الله (النوبيون)
وهي جمعية لها بالغ خطورتها على الإسلام والمسلمين، إذ أنها منظمة يهودية لبست ثوب الإسلام لتلبس على الناس الحق بالباطل، هادفة من وراء ذلك إلى تشويه الإسلام وخلطه بغيره من الأديان الأخرى السالفة عليه، ومزج مبادئه بمبادئها حتى تذوب فيها، وتختفي حينذاك على مدى الزمن حقائق الإسلام.
وقد نشأت هذه الجمعية منذ أربع سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية، واتخذت مركزا لها في بروكلين - نيويورك، وتسمت باسم خداع هو (جمعية أنصار الله) ، وأعضاؤها جميعا سود اللون.(11/164)
ومنذ عام أنشأت هذه الجمعية فرعا لها في دولة (ترينيداد وتوبيجو) لتنشر مبادئها في دول البحر الكاريبي، وتجذب إليها العديد من سود اللون الذين يشكلون أغلبية سكان تلك البلاد. وقد استطاع هذا الفرع - في خلال عام واحد - أن يجذب إليه ألف عضو.
والمتفطن يستطيع - في يسر - أن يلمح سرعة انجذاب الأعضاء إلى هذا الفرع - فضلا عن مركزه الرئيسي - وتزايدهم المستمر، وتكتلهم في قلب عاصمة ترينيداد.
وخلال بعثتي - في الصيف الماضي - إلى غيانا بأمريكا الجنوبية، يسر الله تعالى لي المرور ببورت أف سبية عاصمة ترينيداد، وأنبئت بوجود فرع تلك الجمعية بها، فعمدت إلى مقره، أحاول بذلك أن أستكشف حقيقة مبادئ تلك الجمعية حين ترامت إلي أنباء خطروتها. وقد وجدت هذا المقر قد بني من خشب على شكل المسجد، وأقيم على ربوة بين المساكن، فدخلته، واستقبلني به وكيل الفرع وبعض أعضائه، ولاحظت أنهم جميعاً سود اللون، وأن كلا منهم قد خرم أنفه من فتحته اليمنى وعلق عليه حلقة بيضاء، ووضع على صدره علماً على شكل مستطيل نصفه الأعلى أسود اللون، ونصفه الأسفل أخضر اللون، ورسم فيه هلال في وسطه ما يشبه الشعلة، ثم جُعل على يمين المستطيل مثلث أبيض قاعدته العرض الأيمن للمستطيل، وكتب على داخل ضلع القاعدة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ، وعلى داخل ضلع المثلث العلوي (ومحمد أحمد المهدي) ، وعلى داخل ضلع المثلث السفلي (خليفة رسول الله) . ورسم في وسط المثلث هلال بداخله النجمة السداسية (وهي نجمة إسرائيل) . وقد كتب تحت المستطيل المنوه عنه عبارة (جمعية أنصار الله) .
فضلا عن ذلك فقد رأيت كل عضو قد لبس في خنصر يده اليسرى خاتما نقشت عليه النجمة السداسية كذلك.(11/165)
وقد سألت وكيل الفرع عن سندهم في لبس حلقة الأنف والخاتم والعلم بالنجمة السداسية فأجابني بأن سندهم في ذلك نصوص من التوراة. فدعاني هذا الجواب إلى سؤاله عما إذا كانوا مسلمين، فأجابني بالإثبات، فسألته عن سبب التزامه بنصوص التوراة، فأجابني بأنهم يؤمنون بجميع الرسل ويتبعونهم جميعا، ويؤمنون بكل الكتب المنزلة وينفذون مقتضاها جميعا.
ثم أحضر لي نسخاً مترجمة إلى اللغة الإنجليزية من: القرآن، والإنجيل، والتوراة، والزبور كانت جميعا موضوعة فوق مكتبة في جانب المسجد. وقد لاحظت أنه قد وضعت أربعة طبول - طول كل منها قرابة متر ونصف في أركان المسجد الأربعة، فسألت وكيل الفرع عن سبب وضعها، فأجابني بأنهم يدقون عليها قبل الأذان وبعده.
وقد علمت من الوكيل المذكور أن الفرع يصدر مجلة خاصة باللغة الإنجليزية لا توزع إلا على الأعضاء. واستطعت - بحيلة ما - أن أحصل على بعض نسخ هذه المجلة، وقد وجدت غلافها يختلف في كل عدد عن الآخر، ويحمل - فضلا عن اسم جمعية الأنصار الله - شعارات مختلفة مثل. (علمنا المفقود) وهو العلم الذي يحمله كل عضو على صدره والسالف الإشارة إليه، ومثل: (إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) ، ومثل: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) ، ومثل: (من فضلك لا تدمر) ومثل: (اللهم اغفرلي وارحمني) .
وقد تبين لي من قراءة أعداد المجلة المذكورة ما يأتي:
1- أن هذه الجمعية تتبع (محمد أحمد المهدي) السوداني، إذ أن الشعار على غلاف المجلة كتب عليه - كما أسلفت الذكر - (لا إله إلا لله محمد رسول الله، ومحمد أحمد المهدي خليفة رسول الله) .
2- أن أعضاء هذه الجمعية كلهم من سود اللون.(11/166)
3- أن الأعضاء ليسوا فقط منتسبين كأعضاء للأنصار في بوسطن (وهي تقع في شمال نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية) ، وفي بلاد البحر الكاريبي وإنما هم مترابطون كذلك مع الأنصار في السودان بإفريقيا.
4- أن الرئيس الروحي العام للجمعية في أمريكا هو (الإمام عيسى عبد الله محمد المهدي) وهو ابن عم (سيد صديق المهدي) رئيس أنصار السودان بإفريقيا.
5- أن الجمعية تجعل للأعضاء أئمة متعددين هم: الإمام عيسى عبد الله محمد المهدي ابن الإمام الهادي المهدي، والإمام سيد صديق المهدي ابن الإمام السيد صديق المهدي، والإمامان الهادي المهدي والسيد صديق المهدي ابنا الإمام عبد الرحمن المهدي وهو ابن الإمام محمد أحمد المهدي.
وتذكر المجلة عبارة (عليه السلام) عقب كل إمام، كما تذكر أن الإمام الأخير هو السليل التاسع عشر للمصطفى محمد الأمين (صلى الله عليه وسلم) السليل السادس والعشرون لإسماعيل (صلى الله عليه وسلم) السليل الأول لإبراهيم (صلى الله عليه وسلم) السليل المباشر لآدم (صلى الله عليه وسلم) .
6- أن المجلة تذكر أن النبي المصطفى محمد الأمين (صلى الله عليه وسلم) كان أسود اللون مثل محمد أحمد المهدي (وتذكر المجلة عقبه: عليه السلام) ، وكذلك كان أسود اللون مثل آدم (صلى الله عليه وسلم) .
وتذكر المجلة أن هذه التقريرات ليست تحيزا، وإنما هي لتوضيح الأخطاء، ولتفسير الحقائق، وأن الأعضاء - وهم النوبيون أي سود اللون - جميعا في سوادهم مثل الإمام عيسى عبد الله محمد المهدي.
7- وتورد المجلة عهدا وموثقاً تقول: (آمنوا بالله كخالق وحيد، وآمنوا بجميع أنبيائه، وبالإمام محمد أحمد المهدي عليه السلام كمهدي حقيقي مرسل لكل الناس في الدنيا. وآمنوا بكل ملائكته، وبكل كتبه المقدسة، وتعليمات المهدي عليه السلام. هذا هو النداء الأخير لجميع المسلمين لينضموا تحت جماعة واحدة هي المسماة: أنصار الله للعالم) .(11/167)
8- وتذكر المجلة أن (الإمام محمد أحمد المهدي - عليه السلام) المولود سنة 1845م المتوفى سنة 1885م كان عمله تجديد الإسلام لحالته الأصلية، وقمع البهتان، وإعداد مكان للنوبيين. وأنه بعد مائة سنة جاء الإمام المجدد عيسى عبد الله محمد المهدي - المولود سنة 1945- الذي يناضل منذ سنين ليعيد الإسلام الصافي للمسلمين في العالم.
وهو الرئيس العام للأنصار في أمريكا وبلاد البحر الكاريبي الآن.
9- وتذكر المجلة أن علمهم يخلق بين الناس أمور أربعة:
(1) الوحدة
(2) الحب
(3) الاحترام
(4) الاهتمام.
10- كما تذكر المجلة (أن كثيرا من البلاد العربية عندها علم قريب الشبه من علمهم لأنهم يعلمون البذرة الحقة لإبراهيم (صلى الله لعيه وسلم) ، والمسلمين الحقيقيين الذين تكلم عنهم كثيرا المصطفى محمد الأمين (صلى الله عليه وسلم) .
11- كما تذكر المجلة أن النبي المصطفى محمد الأمين صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها".
12- كما تذكر المجلة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل حبشي كأن رأسه زبيبة".
13- كما تذكر المجلة أن الإنجيل جاء فيه: (ثم نظرت فإذا خروف واقف على جبل صهيون ومعه مائة وأربعة وأربعون ألفا لهم اسم أبيه مكتوبا على جباههم) . كما جاء فيه: (بعد هذا نظرت وإذا جمع كثير لم يستطع أحد أن يعده من كل الأمم والقبائل والشعوب والألسنة واقفون أمام العرش وأمام الخروف مستترون بثياب بيض وفي أيديهم سعف النخل) .(11/168)
وإن دلت محتويات هذه المجلة على شيء فإنما تدل على أن هذه الجمعية تهدف - في تخطيط صهيوني عالمي منظم - إلى العبث بمبادئ الإسلام وخلطه بمبادئ أخرى زائفة تنقضه من الكتب السابقة التي نالتها جميعاً أيدي التحريف فلم تبقى منها أصولا ولا فروعا، وذلك كله ابتغاء تشويه حقائق الإسلام، وطمس معالمه تدريجيا، وجر أهله إلى متاهات من الزيغ والزيف والضلال.
إن هذه الأيدي الخفية العابثة المجرمة الأثيمة، التي تستحق أن تبتر كلية مع ذويها، تحتاج إلى استنهاض همم المسلمين وبعث أرواحهم، وتجميع قلوبهم، والاعتصام بدينهم للذود عن حياضه، ودفع تيارات الفكر الغادر الخائن من أهل الغدر والخيانة، وصد أمواج الإلحاد والرِّدّة التي تتردى فيها سراعا أفواج من عوام المسلمين وجهّالهم تحت ألوان متباينة من التأثيرات والدوافع العاتية.(11/169)
العدد 31
فهرس المحتويات
1-الدعوة إلى الله وما ينبغي أن يتحلى به الدعاة: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
2-أضواء من التفسير: لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
3-رسائل لم يحملها البريد: لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
4-القرآن أساس الحكم الصالح: لفضيلة الشيخ محمود عبد الوهاب فايد
5-رسالة إلى بيروت: لفضيلة الشيخ محمد مصطفى المجذوب
6-توحيد الله (2) : لفضيلة الشيخ عبد الله أحمد قادري
7-العيد في الإسلام معناه وحقيقته: لفضيلة الشيخ محمد أمان علي
8- نداء من الجامعة الإسلامية - عدوان جديد من اليهود على المسجد الإبراهيمي بمدينة الخليل
9-تنزيه الأصحاب عن تنقص أبي تراب (2) : لفضيلة الشيخ حمود عبد الله التويجري
10-من الأدب الإسلامي إليك يا أعز البنين: لفضيلة الشيخ إبراهيم محمد سرسيق
11-الإعلام والدعوة الإسلامية: للدكتور طه عبد الفتاح مقلد
12-إلقاء الضوء القرآني (على كتابة الدكتور علوي حول النبهاني) : لفضيلة الشيخ عبد القادر حبيب السندي
13-اهتمام القرآن بالعلم: لفضيلة الشيخ أحمد عبد الرحيم السايح
14-القدرة المطلقة تستوجب العجز المطلق: لفضيلة الشيخ السعيد الشربيني الشرباصي
15-مسجد الملك فيصل في البرازيل: للشيخ أحمد واكد
16-العبادة حق لله وحده: إبراهيم بن علي الدغيري
17-من الصحف والمجلات - ((نظرة محمد إقبال إلى العلوم والآداب)) : إعداد العلاقات العامة
18-ماذا تعرف عن ... الكبد ... ؟ : للدكتور سيد أحمد عبد البر
19-ندوة الطلبة - إلى الشباب: قصيدة للطالب عبد الرحمن شميله
20-العظات والعبر من هدي هجرة سيد البشر: للطالب عزيزو محمد
21-صرخة الحق: قصيدة للطالب حسين أحمد
22-أخبار الجامعة: إعداد العلاقات العامة
23-الفتاوى: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(11/170)
الدعوة إلى الله وما ينبغي أن يتحلى به الدعاة
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السموات والأرضين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وخليله، وأمينه على وحيه، أرسله إلى الناس كافة، بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين ساروا على طريقته في الدعوة إلى سبيله وصبروا على ذلك وجاهدوا فيه حتى أظهر الله بهم دينه، وأعلى كلمته ولو كره المشركون، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الجن والإنس ليُعْبَد وحده لا شريك له، وليعظم أمره ونهيه، وليعرف بأسمائه وصفاته، كما قال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} .
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
وقال عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} .
فبين سبحانه أنه خلق الخلق ليعبد، ويعظم ويطاع أمره ونهيه، لأن العبادة هي توحيده وطاعته مع تعظيم أوامره ونواهيه، وبين عز وجل أيضا أنه خلق السموات والأرض وما بينهما ليعلم أنه على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علما.(11/171)
فعلم بذلك أن من الحكمة في إيجاد الخليقة أن يعرف الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأنه على كل شيء قدير، وأنه العالم بكل شيء جل وعلا، كما أن من الحكمة في خلقهم وإيجادهم أن يعبدوه ويعظموه ويقدسوه ويخضعوا لعظمته إذ العبادة هي الخضوع لله جل وعلا والتذلل له، وسميت الوظائف التي أمر الله بها المكلفين من أوامر وترك نواهي عبادة لأنها تُؤَدّي بالخضوع والتذلل لله عز وجل.
ثم لما كانت العبادة لا يمكن أن تستقل بتفاصيلها العقول، كما أنه لا يمكن أن تعرف بها الأحكام من الأوامر والنواهي على التفصيل، أرسل سبحانه وتعالى الرسل، وأنزل الكتب لبيان الأمر الذي خَلق من أجله الخلق، ولإيضاحه وتفصيله للناس حتى يعبدوا الله على بصيرة، وحتى ينتهوا عما نهاهم عنه على بصيرة.(11/172)
فالرسل عليهم الصلاة والسلام هم هداة الخلق، وهم أئمة الهدى، وهم دعاة الثقلين جميعا إلى طاعة الله وعبادته، فالله سبحانه أكرم العباد بهم ورحمهم بإرسالهم إليهم، وأوضح على أيديهم الطريق السوي والصراط المستقيم، حتى يكون الناس على بينة من أمرهم، وحتى لا يقولوا: ما ندري ما أراده الله منا، ما جاءنا من بشير ولا نذير، ما نعرف مراد الله، فقطع الله المعذرة وأقام الحجة بإرسال الرسل، وأنزل الكتب كما قال جل وعلا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . وقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} . وقال عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} الآية وقال سبحانه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} .(11/173)
فبين سبحانه أنه أرسل الرسل وأنزل معهم الكتب ليحكم بين الناس بالحق والقسط، وليوضح للناس ما اختلفوا فيه من الشرائع والعقائد، من توحيد الله وشريعته عز وجل فإن قوله سبحانه وتعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} يعني على الحق لم يختلفوا من عهد آدم عليه الصلاة والسلام إلى نوح كان الناس على الهدى كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة من السلف والخلف، ثم وقع الشرك في قوم نوح فاختلفوا فيما بينهم، اختلفوا فيما يجب عليهم من حق الله، فلما وقع الشر والاختلاف أرسل الله نوحا عليه الصلاة والسلام وبعده الرسل كما قال عز وجل: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
فالله أنزل الكتاب يبين حكم الله فيما اختلف فيه الناس، ويبين شرعه فيما جهله الناس، وليؤمر الناس بالتزام شرع الله، والوقوف عند حدود الله، وينهى الناس عما يضرهم في العاجل والآجل، وقد ختم الرسل جل وعلا بأفضلهم وبإمامهم وبسيدهم نبينا وسيدنا محمد بن عبد الله عليه من ربهم أفضل الصلاة والتسليم.(11/174)
فبلَّغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، ودعا إلى الله سرا وجهرا، وأوذي في الله أشد الأذى ولكنه صبر على ذلك كما صبر مَنْ قبله مِنَ الرسل عليهم الصلاة والسلام. صبر كما صبروا، وبلغ كما بلغوا، ولكنه أُوذي أكثر، وصبر أكثر وقام بأعباء الرسالة أكمل قيام عليه وعليهم الصلاة والسلام. مكث ثلاثا وعشرين سنة يبلغ رسالات الله، ويدعو إليه، وينشر أحكامه، منها ثلاث عشرة سنة في أم القرى _ مكة المكرمة _ أولا بالسر ثم بالجهر، صدع بالحق وأُوذي وصبر على الدعوة وعلى أذى النَّاس مع أنهم يعرفون صدقه وأمانته ويعرفون فضله ونسبه ومكانته، ولكنه الهوى والحسد والعناد من الأكابر، والجهل والتقليد من العامة، فالأكابر جحدوا واستكبروا وحسدوا، والعامة قلدوا واتبعوا وأساؤوا، فأُذي بسبب ذلك أشد الأذى عليه الصلاة والسلام.
ويدلنا على أن الأكابر قد عرفوا الحق وعاندوا قوله سبحانه: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} .(11/175)
بين سبحانه أنهم لا يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم بل يعلمون صدقه وأمانته وكانوا يسمونه الأمين قبل أن يوحى إليه عليه الصلاة والسلام، ولكنهم جحدوا الحق حسدا وبغيا ونفاسة عليه - عليه الصلاة والسلام - لكنه عليه الصلاة والسلام لم يبال بذلك ولم يكترث به بل صبر واحتسب وسار في الطريق ولم يزل داعيا إلى الله جل وعلا، صابرا على الأذى مجاهدا بالدعوة كافا عن الأذى متحملا له صافحا عما يصدر منهم حسب الإمكان، حتى اشتد الأمر وعزموا على قتله عليه الصلاة والسلام فعند ذلك أذن الله له بالخروج والهجرة إلى المدينة.. فهاجر إليها عليه الصلاة والسلام، وصارت عاصمة الإسلام الأولى وظهر فيها دين الله وصار للمسلمين دولة وقوة واستمر عليه الصلاة والسلام في الدعوة وإيضاح الحق وشرع في الجهاد بالسيف وأرسل الرسل يدعون الناس إلى الخير والهدى ويشرحون لهم دعوة نبيهم محمد عليه الصلاة والسلام، وبث السرايا، وغزا الغزوات المعروفة حتى أظهر الله دينه على يديه وحتى أكمل الله به الدين وأتم عليه وعلى أمته النعمة ثم توفي عليه الصلاة والسلام بعدما أكمل الله به الدين وبلغ البلاغ المبين عليه الصلاة والسلام فتحمل أصحابه من بعده الأمانة وساروا على الطريق فدعوا إلى الله عز وجل، وانتشروا في أرجاء المعمورة دعاة للحق ومجاهدين في سبيل الله عز وجل لا يخشون في الله لومة لائم يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله جل وعلا فانتشروا في الأرض غزاة مجاهدين ودعاة مهتدين وصالحين مصلحين ينشرون دين الله، ويعلمون الناس شريعته ويوضحون لهم العقيدة التي بعث الله بها الرسل، وهي إخلاص العبادة لله وحدة وترك عبادة ما سواه من الأشجار والأحجار والأصنام وغير ذلك، فلا يدعى إلا الله وحده، ولا يستغاث إلا به ولا يحكَّم إلا شرعه ولا يصلى إلا له ولا ينذر إلا به إلى غير ذلك من العبادات وأوضحوا للناس أن العبادة حق الله وتلوا عليهم ما ورد في(11/176)
ذلك من الآيات مثل قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} ، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} ، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} ، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} . إلى غير ذلك من الآيات.
وصبروا على ذلك صبرا عظيما وجاهدوا في الله جهادا كبيرا رضي الله عنهم وأرضاهم وتبعهم على ذلك أئمة الهدى من التابعين وأتباع التابعين من العرب وغير العرب ساروا في هذا السبيل - سبيل الدعوة إلى الله عز وجل وتحملوا أعبائها وأدوا الأمانة مع الصدق والصبر والإخلاص في الجهاد في سبيل الله وقتال من خرج عن دينه وصد عن سبيله ولم يؤدوا الجزية التي فرضها الله إذا كان من أهلها. فهم حملة الدعوة وأئمة الهدى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا أتباع الصحابة من التابعين وأتباع التابعين وأئمة الهدى ساروا على الطريق كما تقدم وصبروا في ذلك، وانتشر دين الله وعلت كلمته على أيدي الصحابة ومن تبعهم من أهل العلم والإيمان من العرب والعجم من هذه الجزيرة جنوبها وشمالها ومن غير الجزيرة من سائر أرجاء الدنيا، ممن كتب الله له السعادة ودخل في دين الله وشارك في الدعوة والجهاد وصبر على ذلك وصارت لهم السيادة والقيادة والإمامة في الدين بسبب صبرهم وإيمانهم وجهادهم في سبيل الله عز وجل وصدق فيهم قوله سبحانه فيما ذكر في بني إسرائيل {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} صدق هذا في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وفي من سار على سبيلهم صاروا أئمة وهداة ودعاة للحق وأعلاما يقتدى بهم بسبب صبرهم وإيقانهم.(11/177)
فإن بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين فأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وأتباعه بإحسان إلى يومنا هذا هم الأئمة وهم الهداة وهم القادة في سبيل الحق، وبذلك يتضح لنا جميعا، ويتضح لكل طالب علم أن الدعوة إلى الله من أهم المهمات وأن الأمة في كل زمان ومكان في أشد الحاجة إليها بل في أشد الضرورة إلى ذلك ولذا رأيت أن تكون هذه المحاضرة في شأن الدعوة ويتخلص الكلام في الدعوة إلى الله عز وجل في أمور:
الأمر الأول: حكمها وفضلها.
الأمر الثاني: كيفية أدائها وأساليبها.
الأمر الثالث: بيان الأمر الذي يدعى إليه.
الأمر الرابع: بيان الأخلاق والصفات التي ينبغي للدعاة أن يتخلقوا بهما وأن يسروا عليهما فنقول - وبالله المستعان وعليه التكلان جل وعلا وهو المعين والموفق لعباده سبحانه وتعالى-:
الأمر الأول: بيان حكم الدعوة إلى الله عز وجل وبيان فضلها:(11/178)
أما حكمها: فقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب الدعوة إلى الله عز وجل وأنها من الفرائض والأدلة في ذلك كثيرة منها قوله سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . ومنها قوله جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّك الْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . ومنها قوله عز وجل: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . ومنها قوله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} . فبين سبحانه أن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هم الدعاة إلى الله وهم أهل البصائر والواجب كما هو معلوم هو اتباعه والسير على منهاجه عليه الصلاة والسلام كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} .(11/179)
وصرح العلماء أن الدعوة إلى الله عز وجل فرض كفاية بالنسبة إلى الأقطار التي يقوم فيها الدعاة فإن كل قطر وكل إقليم يحتاج إلى الدعوة وإلى النشاط فيها فهي فرض كفاية إذا قام بها من يكفي سقط عن الباقين.. ذلك الواجب وصارت الدعوة في حق الباقين سنة مؤكدة وعملا صالحا جليلا وإذا لم يقم أهل الإقليم أو أهل القطر المعين بالدعوة على التمام صار الإثم عاما وصار الواجب على الجميع وعلى كل إنسان أن يقوم بالدعوة حسب طاقته وإمكانه. أما بالنظر إلى عموم البلاد فالواجب أن يوجد طائفة منتصبة تقوم بالدعوة إلى الله جل وعلا في أرجاء المعمورة تبلغ رسالات الله وتبين أمر الله عز وجل بالطرق الممكنة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بعث الدعاة وأرسل الكتب إلى الناس وإلى الملوك والرؤساء ودعاهم إلى الله عز وجل وفي وقتنا اليوم قد يسر الله عز وجل أمر الدعوة أكثر بطرق لم يدركها من قبلنا ولم تحصل لمن قبلنا فأمور الدعوة اليوم متيسرة أكثر من طرق كثيرة وإقامة الحجة على الناس اليوم ممكنة بطرق كثيرة: عن طريق الإذاعة عن طر يق التلفزة - عن طريق الصحافة - من طرق شتى.. فالواجب على أهل العلم والإيمان وعلى خلفاء الرسول أن يقوموا بهذا الواجب وأن يتكاتفوا فيه وأن يبلغوا رسالات الله إلى عباد الله ولا يخشون في الله لومة لائم ولا يحابون في ذلك كبيرا ولا صغيرا ولا غنيا ولا فقيرا بل يبلغون أمر الله إلى عباد الله كما أنزل الله وكما شرع الله وقد يكون ذلك فرض عين إذا كنت في مكان ليس فيه من يؤدي ذلك سواك كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه يكون فرض عين ويكون فرض كفاية. فإن كنت في مكان ليس فيه من يقوى على هذا الأمر ويبلغ أمر الله سواك فالواجب عليك أنت أن تقوم بذلك فأما إذا وجد من يقوم بالدعوة والتبليغ والأمر والنهي غيرك فإنه يكون حينئذ في حقك سنة وإذا بادرت إليه وحرصت عليه كنت بذلك منافسا في الخيرات ومسابقا إلى الطاعات. ومما احتج به(11/180)
على أنها فرض كفاية قوله جل وعلا: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْر} الآية.
قال الحافظ ابن كثير عند هذه الآية وجماعة ما معناه: ولتكن منكم أمة منتصبة لهذا الأمر العظيم تدعوا إلى الله وتنشر دينه وتبلغ أمره سبحانه وتعالى ومعلوم أيضا أن الرسول عليه الصلاة والسلام دعا إلى الله وقام بأمر الله في مكة حسب طاقته وقام الصحابة كذلك رضي الله عنهم وأرضاهم بذلك حسب طاقتهم ثم لما هاجروا قاموا بالدعوة أكثر وأبلغ ولما انتشروا في البلاد بعد وفاته عليه الصلاة والسلام قاموا بذلك أيضا رضي الله عنهم وأرضاهم كل على قدر طاقته وعلى قدر علمه.
فعند قلة الدعاة وعند كثرة المنكرات وعند غلبة الجهل كحالنا اليوم تكون الدعوة فرض عين على كل واحد بحسب طاقته وإذا كان في محل محدود كقرية ومدينة ونحو ذلك ووجد فيها تولى هذا الأمر وقام به وبلغ أمر الله كفى وصار التبليغ في حق غيره سنة لأنه قد أُقيمت الحجة على يد غيره ونفذ أمر الله على يد سواه. ولكن بالنسبة إلى بقية أرض الله وإلى بقية الناس يجب على العلماء حسب طاقتهم وعلى ولاة الأمر حسب طاقتهم أن يبلغوا أمر الله بكل ما يستطيعون وهذا فرض عين عليهم بالتعيين على حسب الطاقة والقدرة وبهذا يعلم أن كونها فرض عين وكونها فرض كفاية أمر نسبي يختلف.(11/181)
فقد تكون الدعوة فرض عين بالنسبة إلى أقوام وإلى أشخاص وسنة بالنسبة إلى أشخاص وإلى أقوام لأنه وجد في محلهم وفي مكانهم من قام بالأمر وكفى عنهم أما بالنسبة إلى ولاة الأمور ومن لهم القدرة الواسعة فعليهم من الواجب أكثر وعليهم أن يبلغوا الدعوة إلى ما استطاعوا من الأقطار حسب الإمكان بالطرق الممكنة وباللغات الحية التي ينطق بها الناس. يجب أن يبلغوا أمر الله بتلك اللغات حتى يصل دين الله إلى كل أحد باللغة التي يعرفها: باللغة العربية وبغيرها فإن الأمر الآن ممكن وميسور بالطرق التي تقدم بيانها.. طرق الإذاعة والتلفزة والصحافة وغير ذلك من الطرق التي تيسرت اليوم ولم تتيسر في السابق كما أنه يجب على الخطباء في الاحتفالات وفي الجمع وفي غير ذلك أن يبلغوا ما استطاعوا من أمر الله عز وجل وأن ينشروا دين الله حسب طاقتهم وحسب علمهم. ونظرا إلى انتشار الدعوة إلى المبادئ الهدامة وإلى الإلحاد وإنكار رب العباد وإنكار الرسالات وإنكار الآخرة وانتشار الدعوة النصرانية في الكثير من البلدان وغير ذلك من الدعوات المضلِّلة نظرا إلى هذا فإن الدعوة إلى الله عز وجل اليوم أصبحت فرضا عاما وواجبا عاما على جميع العلماء وعلى جميع الحكام الذين يدينون بالإسلام فرض عليهم أن يبلغوا دين الله حسب الطاقة والإمكان بالكتابة وبالخطابة وبالإذاعة وبكل وسيلة استطاعوها وألا يتقاعسوا عن ذلك أو يتكلوا على زيد أو عمرو فإن الحاجة بل الضرورة ماسة اليوم إلى التعاون والاشتراك والتكاتف في هذا الأمر العظيم أكثر مما كان قبل ذلك لأن أعداء الله قد تكاتفوا وتعاونوا بكل وسيلة للصد عن سبيل الله والتشكيك في دينه ودعوة الناس إلى ما يخرجهم من دين الله عز وجل فوجب على أهل الإسلام أن يقابلوا هذا النشاط المضل وهذا النشاط الملحد بنشاط إسلامي وبدعوة إسلامية على شتى المستويات وبجميع الوسائل وبجميع الطرق الممكنة وهذا من باب أداء ما أوجب الله على عباده من(11/182)
الدعوة إلى سبيله.
فضل الدعوة:
وقد ورد في فضل الدعوة والدعاة آيات وأحاديث كثير كما أنه ورد في إرسال النبي صلى الله عليه وسلم الدعاة أحاديث لا تخفى على أهل العلم ومن ذلك قوله جل وعلا: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . فهذه الآية الكريمة فيها التنويه بالدعاة والثناء عليهم وأنه لا أحد أحسن قولا منهم وعلى رأسهم الرسول عليه الصلاة والسلام ثم أتباعه على حسب مراتبهم في الدعوة والعلم والفضل فأنت يا عبد الله يكفيك شرفا أن تكون من أتباع الرسل ومن المنتظمين في هذه الآية الكريمة {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} المعنى لا أحد أحسن قولا منه لكونه دعا إلى الله وأرشد إليه وعمل بما يدعو إليه يعني دعا إلى الحق وعمل به وأنكر الباطل وحذر منه وتركه ومع ذلك صرح بما هو عليه ولم يخجل بل قال: إنني من المسلمين.. مغتبطا وفرحا بما مَنَّ الله به عليه ليس كمن يستنكف عن ذلك ويكره أن ينطق بأنه مسلم أو بأنه يدعو إلى الإسلام لمراعاة فلان أو مجاملة فلان ولا حول ولا قوة إلى بالله. بل المؤمن الداعي إلى الله القوي الإيمان البصير بأمر الله يصرح بحق الله وينشط في الدعوة إلى الله ويعمل بما يدعو إليه ويحذر ما ينهى عنه فيكون من أسرع الناس إلى ما يدعو إليه ومن أبعد الناس عن كل ما ينهى عنه ومع ذلك يصرح بأنه مسلم وبأنه يدعو إلى الإسلام ويغتبط بذلك ويفرح به كما قال عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} .(11/183)
فالفرح برحمة الله فرح الاغتباط.. فرح السرور.. أمر مشروع، أما الفرح المنهي عنه فهو فرح الكبر والمرح هذا هو المنهي عنه كما قال عز وجل في قصة قارون: {لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} . هذا فرح الكبر والتعالي على الناس والتعاظم وهذا هو الذي ينهى عنه أما فرح الاغتباط والسرور بدين الله والفرح بهداية الله والاستبشار بذلك والتصريح بذلك ليعلم فأمر مشروع وممدوح ومحمود فهذه الآية الكريمة من أوضح الآيات في الدلالة على فضل الدعوة وأنها من أهم القربات ومن أفضل الطاعات وأن أهلها في غاية من الشرف وفي أرفع مكانة وعلى رأسهم الرسل عليهم الصلاة والسلام ومن ذلك قوله جل وعلا: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} . فبين سبحانه أن الرسول يدعو على بصيرة وأن أتباعه كذلك فهذا فيه فضل الدعوة وأن أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم هم الدعاة إلى سبيله على بصيرة والبصيرة هي العلم يما يدعو إليه وما ينهى عنه وفي هذا شرف لهم وتفضيل وقال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: "من دل عل خير فله مثل أجر فاعله". رواه مسلم في الصحيح.. وقال عليه الصلاة والسلام: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا". أخرجه مسلم أيضا. وهذا يدل على فضل الدعوة إلى الله عز وجل وصح عنه عليه السلام أنه قال لعلي رضي الله عنه وأرضاه: "فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم". متفق على صحته، وهذا أيضا يدلنا على فضل الدعوة إلى الله وما فيها من الخير العظيم وأن الداعي إلى الله جل وعلا يعطي مثل أجور من هداه الله على يديه ولو كآلاف الملايين تعطى أيها الداعية مثل أجورهم فهنيئا لك أيها الداعية إلى الله بهذا الخير العظيم وبهذا يتضح أيضا(11/184)
أن الرسول عليه الصلاة والسلام يعطى مثل أجور أتباعه فيالها من نعمة عظيمة يعطى نبينا عليه الصلاة والسلام مثل أجور أتباعه إلى يوم القيامة لأنه بلغهم رسالة الله ودلهم على الخير عليه الصلاة والسلام وهكذا الرسل يعطون مثل أُجور أتباعهم عليهم الصلاة والسلام وأنت كذلك أيها الداعية في كل زمان تعطى مثل أجور أتباعك والقابلين لدعوتك فاغتنم هذا الخير العظيم وسارع إليه.
كيفية الدعوة:
أما كيفية الدعوة أسلوبها فقد بين الله عز وجل في كتابه الكريم وفيما جاء في سنة نبيه عليه الصلاة والسلام ومن أوضح ذلك قوله تعالى جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} . فأوضح سبحانه الكيفية التي ينبغي أن يقوم بها الداعية ويسلكها. يبدأ أولا بالحكمة والمراد بها الأدلة المقنعة الواضحة الكاشفة للحق والداحضة للباطل ولهذا قال بعض المفسرين المعنى: "بالقرآن"لأنه الحكمة العظيمة لأن فيه البيان والإيضاح للحق بأكمل وجه وقال بعضهم معناه: "بالأدلة من الكتاب والسنة"وبكل حال فالحكمة كلمة عظيمة معناها الدعوة إلى الله بالعلم وبالبصيرة والأدلة الواضحة المقنعة الكاشفة للحق والمبينة له وهي كلمة مشتركة تطلق على معان كثيرة تطلق على النبوة وعلى العلم والفقه في الدين وعلى العقل وعلى الورع وعلى أشياء أخرى وهي في الأصل كما قال الشوكاني رحمه الله: "الأمر الذي يمنع عن السفه هذه هي الحكمة"والمعنى أن كل كلمة وكل مقالة تردعك عن السفه وتزجرك عن الباطل فهي حكمة وهكذا كل مقال واضح صريح صحيح في نفسه فهو حكمة فالآيات القرآنية أولى بأن تسمى حكمة وهكذا السنة الصحيحة أولى بأن تسمى حكمة بعد كتاب الله وقد سماها الله حكمة في كتابه العظيم كما في قوله جل وعلا: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} يعني السنة فالأدلة الواضحة تسمى حكمة والكلام الواضح المصيب(11/185)
للحق يسمى حكمة كما تقدم ومن ذلك الحكمة التي تكون في فم الفرس سميت بذلك لأنها تمنع الفرس من المضي في السير إذا جذبها صاحبها بهذه الحكمة.
فالحكمة كلمة تمنع من سمعها من المضي في الباطل وتدعوه إلى الأخذ بالحق والتأثر به والوقوف عند الحد الذي حده الله عز وجل. فعلى الداعية إلى الله عز وجل أن يدعو بالحكمة ويبدأ بها ويعنى بها. فإذا كان المدعو عنده بعض الجفاء والاعتراض دعوته بالموعظة الحسنة بالآيات والأحاديث التي فيها الوعظ والترغيب والترهيب فإن كان عنده شبهة جادلته بالتي هي أحسن ولا تغلظ عليه بل تصبر عليه ولا تعجل ولا تٌعنّف بل تجتهد في كشف الشبهة وإيضاح الأدلة هكذا ينبغي لك أيها الداعية أن تتحمل وتصبر ولا تشدد لأن هذا أقرب إلى الانتفاع بالحق وقبوله وتأثر المدعو وصبره على المجادلة والمناقشة وقد أمر الله جل وعلا موسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون أن يقولا له قولا لينا وهو أطغى الطغاة قال الله جل وعلا في أمره لموسى وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} وقال الله سبحانه في نبيه محمد عليه الصلاة والسلام: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} . الآية.. فعلم بذلك أن الأسلوب الحكيم والطريق المستقيم في الدعوة أن يكون في ذلك حكيما في الدعوة بصيرا بأسلوبها لا يعجل ولا يُعنّف بل يدعو بالحكمة وهي المقال الواضح المصيب للحق من الآيات والأحاديث وبالموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن هذا هو الأسلوب الذي ينبغي لك في الدعوة إلى الله عز وجل.(11/186)
أما الدعوة بالجهل فهذا يضر ولا ينفع كما يأتي بيان ذلك إن شاء الله عند ذكر أخلاق الدعاة لأن الدعوة مع الجهل بالأدلة قول على الله بغير علم وهكذا الدعوة بالعنف والشدة ضررها أكبر وإنما الواجب والمشروع ما بيَّنه الله عز وجل في آية النحل وهي قوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ} الآية أما الشيء الذي يدعى إليه ويجب على الدعاة أن يوضحوه للناس كما أوضحه الرسل عليهم الصلاة والسلام فهو الدعوة إلى صراط الله المستقيم وهو الإسلام وهو دين الله الحق، هذا هو محل الدعوة كما قال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّك} فسبيل الله جل وعلا هو الإسلام وهو الصراط المستقيم وهو دين الله الذي بعث به نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام هذا هو الذي يدعى إليه وتجب الدعوة إليه لا إلى مذهب فلان ولا إلى رأي فلان ولكن إلى دين الله إلى صراط الله المستقيم الذي بعث الله به نبيه وخليله محمدا عليه الصلاة والسلام وهو ما دل عليه القرآن العظيم والسنة المطهرة الثابتة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وعلى رأس ذلك الدعوة إلى العقيدة الصحيحة إلى الإخلاص لله وتوحيده بالعبادة والإيمان به وبرسله والإيمان باليوم الآخر وبكل ما أخبر الله به ورسوله هذا هو أساس الصراط المستقيم وهو الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ومعنى ذلك الدعوة إلى توحيد الله والإخلاص له والإيمان به وبرسله عليهم الصلاة والسلام ويدخل في ذلك الدعوة إلى الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسله مما كان وما يكون من أمر الآخرة وأمر آخر الزمان وغير ذلك. ويدخل في ذلك أيضا الدعوة إلى ما أوجب الله من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت إلى غير ذلك ويدخل أيضا الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ بما شرع الله في الطهارة والصلاة والمعاملات والنكاح والطلاق والجنايات والنفقات والحرب والسلم وفي كل(11/187)
شيء لأن دين الله عز وجل دين شامل يشمل مصالح العباد في المعاش والمعاد ويشمل كل ما يحتاج إليه الناس في أمر دينهم ودنياهم ويدعو إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال وينهى عن سفساف الأخلاق وعن سيئ الأعمال فهو عبادة وقيادة يكون عابدا ويكون قائدا للجيش عبادة وحكم يكون عابدا مصليا صائما ويكون حاكما بشرع الله منفذا لأحكامه عز وجل. عبادة وجهادا يدعو إلى الله ويجاهد في سبيل الله من خرج عن دين الله. مصحف وسيف: يتأمل القرآن ويتدبره وينفذ أحكامه بالقوة ولو بالسيف إذا دعت الحاجة إليه. سياسة واجتماع فهو يدعو إلى الأخلاق الفاضلة والأخوة الإيمانية والجمع بين المسلمين والتأليف بينهم كما قال جل وعلا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} . فدين الله يدعو إلى الاجتماع وإلى السياسة الصالحة الحكيمة التي تجمع ولا تفرق.. تؤلف ولا تباعد.. تدعو إلى صفاء القلوب واحترام الأخوة الإسلامية والتعاون على البر والتقوى والنصح لله ولعباده وهو أيضا يدعو إلى أداء الأمانة والحكم بالشريعة وترك الحكم بغير ما أنزل الله عز وجل كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} وهو أيضا سياسة واقتصاد كما أنه سياسة وعبادة وسياسة وجهاد فهو يدعو إلى الاقتصاد الشرعي المتوسط ليس رأسماليا غاشما ظالما لا يبالي بالحرمات وبجمع المال بكل وسيلة وبكل طريق وليس اقتصادا شيوعيا إلحاديا لا يحترم أموال الناس ولا يبالي بالضغط عليهم ولا بظلمهم والعدوان عليهم فليس هذا ولا هذا بل هو وسط بين الاقتصادين وسط بين الطرفين وحق بين الباطلين فالغرب عظموا المال وغلوا في حبه وفي جمعه حتى جمعوه بكل وسيلة واستحلوا فيه ما حرم الله عز وجل والشرق من الملحدين من السوفيت ومن سلك سبيلهم لم يحترموا أموال العباد بل أخذوها واستحلوها ولم(11/188)
يبالوا بما فعلوا في ذلك بل استعبدوا العباد اضطهدوا الشعوب وكفروا بالله وأنكروا الأديان وقالوا لا إله والحياة مادة فلم يبالوا بهذا المال ولم يكترثوا من أخذه بغير حله ولم يكترثوا بوسائل الإبادة والاستعباد واستيلاء الأموال والحيلولة بين الناس وبين ما فطرهم الله عليه منم الكسب والانتفاع والاستفادة من قدراتهم ومن عقولهم وما أعطاهم الله من الأدوات فلا هذا ولا هذا فالإسلام جاء يحفظ المال واكتسابه بالطرق الشرعية البعيدة عن الظلم والغشم والرباء وظلم الناس والتعدي عليهم كما جاء باحترام الملك الفردي والجماعي فهو وسط بين النظامين وبين الاقتصادين وبين الطريقين الغاشمين فأباح المال ودعا إليه ودعا إلى اكتسابه بالطرق الحكيمة من غير أن يشغل كاسبه عن طاعة الله ورسوله وعن أداء ما أوجب الله عليه ولهذا قال عز وجل سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} . وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" وقال: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا". وقال عليه الصلاة والسلام: "لأن يأخذ أحدكم حبلة فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من سؤال الناس أعطوه أو منعوه". وسئل صلى الله عليه وسلم: "أي الكسب أطيب"فقال: "عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور". وقال عليه الصلاة والسلام: "ما أكل أحدٌ طعاما أفضل من أن يأكل من عمل يده وكان نبي الله داود يأكل من عمل يده". فهذا يبين لنا أن نظام الإسلام في المال نظام متوسط لا مع رأس المال الغاشم من الغرب وأتباعه ولا مع الشيوعيين الملحدين الذين استباحوا الأموال وأهدروا حرمات أهلها لم يبالوا بها واستعبدوا الشعوب وقضوا عليها واستحلوا ما حرم الله منها. فلك أن تكسب المال وتطلبه بالطرق الشرعية وأنت أولى بمالك وبكسبك بالطريقة(11/189)
التي شرعها الله وأباحها جل وعلا.
والإسلام أيضا يدعو إلى الأخوة الإيمانية وإلى النصح لله ولعباده وإلى احترام المسلم لأخيه لا غل ولا حسد ولا غش ولا خيانة ولا غير ذلك من الأخلاق الذميمة كما قال جل وعلا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} . وقال جل وعلا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحتقره ولا يخذله" الحديث. فالمسلم أخو المسلم يجب عليه احترامه وعدم احتقاره ويجب عليه إنصافه وإعطاؤه حقه من كل الوجوه التي شرعها الله عز وجل قال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" وقال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن مرآة أخيه المؤمن". فأنت يا أخي مرآة أخيك وأنت لبنة من البناء الذي قام عليه بنيان الأخوة الإيمانية فاتق الله في حق أخيك واعرف حقه وعامله بالحق والنصح والصدق وعليك أن تأخذ الإسلام كله ولا تأخذ جانبا دون جانب. لا تأخذ العقيدة وتدع الأحكام والأعمال ولا تأخذ الأعمال والأحكام وتدع العقيدة بل خذ الإسلام كله خذه عقيدة وعملا وقولا وعبادة وجهادا واجتماعا وسياسة واقتصادا وغير ذلك خذه من كل الوجوه كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} . قال جماعة من السلف معنى ذلك ادخلوا في السلم جميعه يعني في الإسلام يقال للإسلام سلم لأنه طريق السلامة وطريق النجاة في الدنيا والآخرة فهو سلم وإسلام. فالإسلام يدعو إلى السلم. يدعو إلى حقن الدماء بما شرع من الحدود والقصاص والجهاد الشرعي الصادق فهو سلم وإسلام وأمن وإيمان ولهذا قال جل وعلا: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} . أي ادخلوا في جميع شعب الإيمان في جميع خصال الإيمان لا تأخذوا بعضا وتدعوا بعضا عليكم أن تأخذوا بالإسلام كله {وَلا(11/190)
تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} يعني المعاصي التي حرمها الله عز وجل فإن الشيطان يدعو إلى المعاصي وإلى ترك دين الله كله فهو أعدا عدو ولهذا يجب على المسلم أن يتمسك بالإسلام كله وأن يدين بالإسلام كله وأن يعتصم بحبل الله جل وعلا وأن يحذر أسباب الفرقة والاختلاف في جميع الأحوال فعليك أن تحكم شرع الله في العبادات وفي المعاملات وفي النكاح والطلاق وفي النفقات وفي الرضاع وفي السلم والحرب ومع العدو والصديق وفي الجنايات وفي كل شيء. دين الله يجب أن يحكم في كل شيء وإياك أن توالي أخاك لأنه وافقك في كذا وتعادي الآخر لأنه خالفك في رأي أو في مسألة فليس هذا من الإنصاف فالصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في مسائل ومع ذلك لم يؤثر ذلك في الصفاء بينهم والموالاة والمحبة رضي الله عنهم وأرضاهم فالمؤمن يعمل بشرع الله ويدين بالحق ويقدمه على كل أحد بالدليل ولكن لا يحمله ذلك على ظلم أخيه وعدم إنصافه إذا خالفه في الرأي في مسائل الاجتهاد التي قد يخفى دليلها وهكذا في المسائل التي قد يختلف في تأويل النص فيها فإنه قد يعذر فعليك أن تنصح له وأن تحب له الخير ولا يحملك ذلك على العداء والانشقاق وتمكين العدو منك ومن أخيك ولا حول ولا قوة إلا بالله.(11/191)
الإسلام دين العدالة.. دين الحكم بالحق وبالإحسان.. دين المساواة إلا فيما استثنى الله عز وجل ففيه الدعوة إلى كل خير وفيه الدعوة إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال والإنصاف والعدالة والبعد عن كل خلق ذميم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} والخلاصة أن الواجب على الداعية الإسلامي أن يدعو إلى الإسلام كله ولا يفرق بين الناس وألا يكون متعصبا لمذهب دون مذهب أو لقبيلة دون قبيلة أو لشيخه أو رئيسه أو غير ذلك بل الواجب أن يكون هدفه إثبات الحق وإيضاحه واستقامة الناس عليه وإن خالف رأي فلان أو فلان أو فلان. ولما نشأ في الناس من يتعصب للمذاهب ويقول: إن مذهب فلان أولى من مذهب فلان جاءت الفرقة والاختلاف حتى آل ببعض الناس هذا الأمر إلى أن لا يصلي مع من هو على غير مذهبه فلا يصلي الشافعي خلف الحنفي ولا الحنفي خلف المالكي ولا خلف الحنبلي هكذا وقع من بعض المتطرفين المتعصبين.. وهذا من البلاء ومن اتباع خطوات الشيطان فالأئمة أئمة هدى الشافعي ومالك وأحمد وأبو حنيفة والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وأشباههم كلهم أئمة هدى ودعاة حق دعوا الناس إلى دين الله وأرشدوهم إلى الحق ووقع هناك مسائل بينهم اختلفوا فيها لخفاء الدليل فهم بين مجتهد مصيب له أجران وبين مجتهد أخطأ الحق فله أجر واحد فعليك أن تعرف لهم قدرهم وفضلهم وأن تترحم عليهم وأن تعرف أنهم أئمة الإسلام ودعاة الهدى ولكن لا يحملك ذلك على التعصب والتقليد الأعمى فتقول: مذهب فلان أولى بالحق بكل حال أو مذهب فلان أولى بالحق(11/192)
بكل حال لا يخطئ. لا هذا غلط، عليك أن تأخذ بالحق وأن تتبع الحق إذا ظهر دليله ولو خالف فلانا أو فلانا وعليك ألا تتعصب وأن لا تقلد تقليدا أعمى بل تعرف لهم فضلهم وقدرهم ولكن مع ذلك تحتاط لنفسك.. تحتاط لدينك.. تأخذ بالحق وترشد إليه وترضى به إذا طلب منك وتخاف الله وتراقبه جل وعلا تنصف من نفسك مع إيمانك بأن الحق واحد وأن المجتهدين إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطؤوا فلهم أجر أعني مجتهدي أهل السنة.. أهل العلم والإيمان والهدى..
أما المقصود من الدعوة والهدف منها:
فالمقصود والهدف إخراج الناس من الظلمات إلى النور وإرشادهم إلى الحق حتى يأخذوا به وينجوا من النار وينجوا من غضب الله وإخراج الكافر من ظلمة الكفر إلى النور والهدى وإخراج العاصي من ظلمة الجهل إلى العلم والعاصي من ظلمة المعصية إلى نور الطاعة هذا هو المقصود من الدعوة.
كما قال جل وعلا: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} فالرسل بعثوا لإخراج الناس من الظلمات إلى النور ودعاة الحق كذلك يقومون بالدعوة وينشطون لها لإخراج الناس من الظلمات إلى النور ولإنقاذهم من النار ومن طاعة الشيطان ولإنقاذهم من طاعة الهوى إلى طاعة الله ورسوله.
أما أخلاق الدعاة وصفاتهم التي ينبغي أن يكونوا عليها فقد أوضحها الله جل وعلا في آيات كثيرة منها: الإخلاص.
فيجب على الداعية أن يكون مخلصا لله عز وجل لا يريد رياء ولا سمعة ولا ثناء الناس ولا حمدهم.. إنما يدعو لله يريد وجهه عز وجل كما قال الله سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} ، {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} . فعليك أن تخلص لله عز وجل هذا أهم الأخلاق.. هذا أعظم الصفات أن تكون في دعوتك تريد وجه الله والدار الآخرة..(11/193)
الأمر الثاني: أن تكون على بينة في دعوتك أي على علم لا تكن جاهلا بما تعدو إليه {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَة} فلا بد من العلم فالعلم فريضة فإياك أن تدعو على جهالة وإياك أن تتكلم فيما لا تعلم فالجاهل قد يهدم ولا يبْني وقد يُفسد ولا يُصلح فاتق الله يا عبد الله.. إياك أن تقول على الله بغير علم لا تدعو إلى شيء إلا بعد العلم به والبصيرة بما قاله الله ورسوله فلابد من بصيرة وهي العلم فعلى طالب العلم وعلى الداعية أن يتبصروا فيما يدعو إليه وأن ينظر فيما يدعو إليه ودليله فإن ظهر له الحق وعرف الحق ودعا إلى ذلك سواء كان فعلا أو تركا فيدعو إلى الفعل إذا كان طاعة لله ورسوله يدعو إلى ترك ما نهى الله عنه ورسوله على بينة وبصيرة.
الأمر الثالث: من الأخلاق التي ينبغي لك أن تكون عليها أيها الداعية أن تكون حليما في دعوتك رفيقا فيها متحملا صبورا كما فعل الرسل عليهم الصلاة والسلام إياك والعجلة.. إياك والعنف والشدة عليك بالصبر.. عليك بالحلم.. عليك بالرفق في دعوتك فقد سبق لك بعض الدليل على ذلك كقوله جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وقوله سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} الآية وقوله جل وعلا في قصة موسى وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم مَن وَليََ من أمر المسلمين شيئا فَرَفق بهم فارفق به ومن ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه".(11/194)
فعليك يا عبد الله أن ترفق في دعوتك ولا تشق على الناس ولا تنفرهم من الدين ولا تنفرهم بغلظتك ولا بجهلك ولا بأسلوبك العنيف المؤذي الضار عليك أن تكون حليما صبورا سلس القياد لين الكلام طيب الكلام حتى تؤثر في قلب أخيك وحتى تؤثر في قلب المدعو وحتى يأنس لدعوتك ويلين لها ويتأثر بها. ويثني عليك بها ويشكرك عليها أما العنف والشدة فهو منفر لا مقرب..
ومن الأخلاق والأوصاف التي ينبغي بل يجب أن يكون عليها الداعية العمل بدعوته وأن يكون قدوة صالحة فيما يدعو إليه ليس ممن يدعو إلى شيء ثم يتركه أو ينهى عنه ثم يرتكبه هذه حال الخاسرين نعوذ بالله من ذلك أما المؤمنون الرابحون فهم دعاة الحق يعملون به وينشطون فيه ويسارعون إليه ويبتعدون عما ينهون عنه قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور فيها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع عليه أهل النار فيقولون له يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.. فيقول بلى كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه".(11/195)
نعوذ بالله من ذلك هذه حال من دعا إلى الله وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ثم خالف قوله فعله وفعله قوله نعوذ بالله من ذلك. فمن أهم الأخلاق ومن أعظمها في حق الداعية أن يعمل بما يدعو إليه وأن ينتهي عما نهى عنه أن يكون ذا خلق فاضل وسيرة حميدة وصبر ومصابة وإخلاص في دعوته واجتهاد فيما يوصل الخير إلى الناس وفيما يبعدهم من الباطل ومع ذلك يدعو لهم مع دعوته يدعو لهم بالهداية هذا من الأخلاق الفاضلة أن تدعو لهم بالهداية وتقول للمدعو هداك الله وفقك الله لقبول الحق أعانك الله على قبول الحق.. تدعوه وترشده وتصبر على الأذى ومع ذلك تدعو له بالهداية.. قال النبي عليه الصلاة والسلام لما قيل عن دوس أنهم عصوا قال: "اللهم أهد دوسا وآت بهم". تدعو له بالهداية والتوفيق بقبول الحق وتصبر وتصابر في ذلك ولا تقنط ولا تيأس ولا تقل إلا خيرا لا تعنف ولا تقل كلاما شينا ينفر من الحق لكن من ظلم وتعدى له شأن آخر كما قال الله جل وعلا: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا} . فالظالم الذي يقابل الدعوة بالشر والعناد والأذى له حكم آخر في الإمكان تأديبه على ذلك بالسجن أو غيره ويكون تأديبه على ذلك على حسب مراتب الظلم لكن ما دام كافا عن الأذى فعليك أن تصبر عليه وتحتسب وتجادله بالتي هي أحسن وتصفح عما يتعلق بشخصك من بعض الأذى كما صبر الرسل وأتباعهم بإحسان..
وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا جميع لحسن الدعوة إليه وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا وأن يمنحنا جميعا الفقه في دينه والثبات عليه ويجعلنا من الهداة المهتدين والصالحين المصلحين إنه جل وعلا جواد كريم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.(11/196)
من الأدب الإسلامي إليك يا أعز البنين
لفضيلة الشيخ إبراهيم محمد سرسيق
المدرس في الجامعة الإسلامية
عندما من الله على الكاتب بمولود، استقبله بمناجاة حارة يبتهل فيها إلى الله، ويشكره على ما وهبه إياه، ويشرح فيها منهجه في إعداد ولده للحياة:
وهي مناجاة تمتزج فيها مشاعر الأبوة الحانية بتعاليم الإسلام الباقية، وتفصح عن اتجاه الكاتب إلى استخدام أسلوب الترسل في عرض الأفكار وترجمة الأحاسيس.
أي بني!
منذ لحظة وصول نبأ مولدك إليّ، وأنا أودّ لو سابقت الريح إليك، لتكتحل عيناي بإلقاء نظرة عليك، وطبع قبلة حانية على خديك، والتمتع بمصافحة يديك ومداعبة شفتيك ومطالعة نور البهجة في عينيك..
سبحانك ربي.. هأنت ذا قد منحتني ولدا يجفف في الحياة دمعي، ويكون لي بمثابة بصري وسمعي، أصِل به وجودي، وأحقق به موعودي، وأستثمر فيه ذاتي، وأمنحه معارفي وخبراتي، أتناوله بين أحضاني، وأضعه في قلبي ووجداني، وأكون له ناصحا معلما، وأجعل منه صديقا متفهما..
يا ولدي..(11/197)
إنك أجمل نعم الله عليّ وأجلّها، انتظرتك طويلا بالأمس، وخشيت ألا أراك وقد كادت تغرب الشمس، فبالله ما أبدع خلقك، وأوسع رزقك، وما أرق جوارحك، وما أحلى ملامحك.. تبارك مولاك الذي خلقك فسوّاك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركبك! سبحان من بيده مقاليد السموات والأرض سبحان من خلق فسوى، وقدر فهدى {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .!.. سبحان {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} سورة السجدة. {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 78_ النحل.
سبحان من خلق كل شيء فقدره تقديرا.
سبحان من فتح عينيك، وخطّ حاجبيك، وحرّك شفتيك، ومدّ ذراعيك، ووضع الدنيا كلها تحت قدميك..
لقد عانقتْكَ الحياة يا ولدي وقد أخذت الأرض زخرفها وازينت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها.. عانقتك الحياة يا ولدي وقد تبدل الزمان غير الزمان.
أتى الزمانَ بنوه في شبيبته
فسرّهم، وأتيناه على الهرم!
أتيت يا بني وقد سرى ظلام المادة في النفوس، وتسلل حب الدنيا إلى القلوب، وغاب عن البصائر والأبصار نور الأمن والإيمان، وفقد الإنسان مشاعر الأخوة والرحمة لأخيه الإنسان، وخطف الأبصار بريق الدرهم والدينار فبالله ماذا أنت صانع في خضم هذا التيار؟ وكيف تذود عن نفسك وحسّك كل هذه الأخطار؟ أكنت تحدس كل ذلك حين استهللت صارخا بالبكاء، كأنما تشكو هذا البلاء لرب الأرض والسماء؟ لقد أذكرتني هذه الأبيات الحكيمة لابن الرومي حين صاح قائلا:(11/198)
لما تؤذنْ الدنيا به من صروفها
يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنها
لأوسع مما كان عيشا وأرغد
إذا أبصر الدنيا استهلّ كأنه
بما سوف يلقى من أذاها يهدد.
أرسل معاوية إلى الأحنف بن قيس فلما أتاه قال: "يا أبا بحر. ما تقول في الولد؟ "قال: "يا أمير المؤمنين ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم يمنحوك ودهم، ويحبوك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقيلا فيملوا حياتك ويودوا وفاتك، وكرهوا قربك.."
في قرارة الموجة:
أي بني الحبيب.. ربما تناوشتك في مهيع حياتك عقبات عديدة، إلا أنها لن تكون بعون الله شديدة.. ستجد الملل والنحل، والمذاهب والعقائد، والأفكار والآراء، ينادَى عليها في أسواق الإعلام ومنابر الدعاية وبطون الكتب وأنهار الصحف.. كما ينادى على السلع الرديئة والجيدة، والبضائع الغثة والسمينة.. وسترى هذا كله وتضرب أخماسا لأسداس، متعجبا لما أصاب نفوس الناس! ماذا ستأخذ بحظك منه يا بني..؟ إن الاختيار كله بيديك، وأمر العقيدة لن يكون إلا إليك، لكن نتائج اختيارك حتما ستكون لك أو عليك.. وليت الأمر أشبه باختيار ثوب يلبس، أو طعام يؤكل، أو شراب يحتسى.. بل إنه لأخطر وأكبر …
إنه أمر عقيدة تمتزج بدمك، وتسري في مخ عظامك، وتتغلغل في حنايا روحك، وتقتضيك بذل النفس والنفيس، والغالي والرخيص، من أجل أن تكون بها أو لا تكون أبدا.(11/199)
وما قيمة المرء بدون عقيدة تحييه وتبعث الأمل فيه؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} . ما قيمة حياتك إن عشت والعياذ بالله دون هدف؟ كالعجماوات التي ترتع وتلعب انتظارا ليوم الذبح! لا! لن تكون أبدا ذلك الذبيح على معبد الشهوات، وإن الله تعالى لأرحم بي وبك من أن يجعلني في موضع الرثاء لك والإزراء عليك، أو يجعلك في موقف الذل الذي تجلبه المعصية، أو الشماتة التي يعقبها الشيطان.
والمسألة يا بني ليست مسألة رأى وهوى، فإن رسولنا صلى الله عليه وسلم قال: "لن يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به".
مولود على الفطرة:
دعنا أيها المولود السعيد نقف موقفا حاسما من أمر معاشك ومعادك..
إنك الآن يا قرة العين مولود على الفطرة بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه". وقد اختار الله لنا ولك الإسلام دينا. وتالله إنه لأكمل الأديان وأجملها، وكتابه المجيد أحكم الكتب المقدسة وأشملها ونبيه الكريم أفضل الأنبياء وخاتمها. وهو دين الفطرة الحكيمة يا بني. دين البشرية التي تعرف مقاصدها وتتلمس طريقها من أجل خلاصها. دين لا يأمر بفرض إلا ذكر علته في تقدم الإنسانية ورقيها وعزها، ولا ينهى عن أمر إلا ذكر أثره السيئ في إيلام النفس وإذلالها. دين يقف موقف الاعتدال من الطبيعة البشرية، فلا يكتم أنفاسها مرة واحدة، ولا يُرخي لها العنان في مجال العصيان. دين يستقيم مع فطرة البشر وسلوك الإنسان ولا يكلفنا من أمرنا شططا: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 30 - الروم.(11/200)
ولسوف تنمو يا بنيي عظامك، ويشتد عودك، ويصلب ساعدك، وينضج تفكيرك، وعندها يتحتم عليك أن تهجر سنة التقليد، وتعود إلى الإيمان بفكر جديد، ورأي سديد واختيار رشيد، فما أريدك يا بني مقلدا في إيمانك، أو تابعا جاهلا لإمامك، أو ملفقا للأحكام في عبادتك ومعاملاتك.. لا، بل أريدك مؤمنا بالله تعالى عن يقين نابع من العلم، وتبصر قائم على الاجتهاد، لتكون من بعد ذلك كله أسدا من أسود الدعوة، وكوكبا في سماء الإرشاد والهداية، ولكي تنضم إلى ركب المجاهدين الأعلام، والمناضلين من أجل الإسلام، الذين يرفعون اللواء ويكابدون اللأواء، ويواجهون الصعاب ويستعذبون العذاب، لكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى والله عزيز حكيم!
طيفك في الرؤيا:
كم يسعدني الآن يا صغيري أن أرى في المنام طيفك، وقد ضاعفت لله تعالى خوفك، وشهرت لإعلاء كلمته سيفك، وملأت بعبادته خريفك وشتاءك وربيعك وصيفك، وطهرت له من السحت والحرام جوفك، وأقريت في الشدة والرخاء ضيفك، وكففت في الغضب والرضا ظلمك وحيفك..
إذن لفاخرت بك الأقربين والأبعدين وشرفت بصحبتك في أعلى عليين، ودعوت ربي أن يحقق فينا قوله المبين: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} 21- الطور.
نعم.. يا ولدي! أولست تدري أن الولد الصالح امتداد لعمل أبيه في الآخرة؟ أو لست تدري كيف تكون أرواح المؤمنين بالشوق إلى أبنائهم طائرة؟ وكيف أعينهم بالرجاء إليهم يوم القيامة ناظرة؟(11/201)
ثم.. أو لست تدري يا بني، أنك امتداد لي في الصالحات بعد وفاتي؟ وأنك زيادة لي في كفة الحسنات بعد مماتي؟ اقرأ إن شئت قول الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
ولسوف تكون إن شاء الله ولدي الصالح. نعم يا ولدي.. ستكون إن شاء الله ولدي الصالح، النقي السيرة والسريرة الطاهر الذيل من غبار العار، المستقيم على الطريقة وإن كثر فيها السراب، الرافض للخطيئة وإن امتزجت بأحلى شراب. وإذا لم تكنه يا بني، وأعوذ بالله من ذلك، فمن ذا تكون؟؟
إنه ليس من أهلك:
هكذا خاطب رب العباد القاهر نبيه نوحا من فوق سبع سموات، مبينا قانون السماء في العلاقة الأبوية الصادقة والصلة البنويّة الموافقة. ذلك أنه عندما ظن ولد نوح أنه ناج بالصخرة العالية من الموجة العاتية: {قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} سورة هود.(11/202)
هذا منطق السماء في تحديد العلاقة بين الأبناء والآباء، فالطاعة للخالق هي أساس الصلة الطبيعية بين الناس، فإذا ما شذ إنسان عن طاعة الرحمن فقد انفصمت عرى المودة بيننا وبينه، كما أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وحتى لو عصى والدك الله تعالى - والعياذ بالله - فلا طاعة له عليك، تهتكت أستاره، وشاعت في ماخور المعصية أخباره، وأوشك في جحيم الغضب الإلهي عليه أن تحرقه ناره، اللهم إلا أن تصاحبه بمعروف وتغيثه كملهوف: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 15- لقمان.
مالك وما عليك:
أيها الولد.. لله ولي عليك أن تكون جادا في حياتك، مخلصا لربك ثم لوالديك إلى حين مماتك، قائما بصلاتك مؤديا لزكاتك، مخبتا لله في غدواتك وروحاتك، متبعا سنة نبيك ورسولك، محسنا علاقاتك بأهلك وجيرانك، وإخوانك، متحريا حسن الاختيار لرفقائك وأصدقائك، كريما في الإحسان لمن أساء إليك، حليما في البطش بمن غدر بك، مسلما الأمر فيه لربك.
ولك عليّ، أيها العزيز، أن أرعى حق الله فيك بقدر ما وهبني الله من مقدرة على إكرامك وإعزازك ورعاية قدومك في هذا العالم! لك عليّ أن أحسّن اسمك، وأرعى نفسك وجسمك وأذود الشرور بكل سرور عنك، وأوجهك إلى الخير ولا أهجره، وأجنبك الخطأ ولا آتيه، وأكون معك في السراء رائدا وقائدا، وفي الضراء عائدا وذائدا، ألاحقك بدعواتي وصلواتي، وأبتغي لك من العلم والهدى ما يفوق ثرواتي وثمراتي..
قال الشاعر العربي:
وإنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم
لامتنعت عيني من الغمض
ويا ولدي الحبيب..(11/203)
يحوطك قلبي بين القوم إن طافت بعيني سنة من النوم..
وتحميك الروح إذا هبت الريح لكيلا تحيا بقلب جريح..
ويفديك الجنان إذا خرس اللسان. فلا تخف عني شكاوى الزمان!
وتالله ما عدوت في حبك أمر الله فيك، فلقد أوصاك بحسن رعايتي، وإكرامي في شيخوختي، والدعاء لي بعد موتي - ولكنه لم يوصني بحسن رعايتك لأنه تعالى يعلم كم أنتم معشر الأبناء ملوك على عرش القلوب، متسلطون منا على الرقاب، آخذون منا باليمين، مدللون في أعيننا مهما مرّ بكم من سنين!
فيالك من مضغة صارت جسدا..
ويالك من رشفة صارت عسلا..
ويالك من بسمة صارت للجمال أصلا!
ويالك من فرحة صارت في كتاب السعادة فصلا!
ويالك من مخلوق أصبح على قدرة الخالق دليلا!
ويالك من مولود غرس في قلبي هناء طويلا..!
{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} .(11/204)
الإعلام والدعوة الإسلامية
للدكتور طه عبد الفتاح مقلد
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
((إن العالم اليوم يموج من حولنا بتيارات وعقائد متباينة كل يبغي السيطرة والسيادة عبر الكلمة المكتوبة والمسموعة. وأدركت الأمم الكافرة أهمية وسائل الإعلام فسخرتها لنشر سمومها وأباطيلها، إيمانا منها بالدور الفعال الذي تلعبه وسائل الإعلام في نشر الأفكار وتغيير العقائد. ويزداد ذلك يوما بعد يوم - في الداخل والخارج - أمام تيار الدعوة الإسلامية)) .
شهد النصف الثاني من هذا القرن الأثر الملحوظ في تطور وسائل الاتصال عبر الأثير عن طريق الكلمة التي تبثها الإذاعة المسموعة، والتي تخطت بها الحواجز المادية، عبر البحار والأنهار والصحاري والقفار وإلى كل الأماكن المجهولة والنائية … وانتقلت مع الإنسان أينما حلّ وأينما رحلّ.
وأصبح الفرد في مجتمعه لا يحيا منعزلا عن العالم الذي يعيش فيه ... وأضحى يتأثر بالقوى والمؤثرات الجديدة التي تؤثر عليه في الحاضر والمستقبل سواء بسواء.
وبما أن الإعلام وسيلة فعالة من وسائل الاتصال بالجماهير فإنه من البداهة أن يعتبر قيامها بدور فعال في الدعوة الإسلامية وفاء لواجب من واجبات الإسلام الأساسية عليها. بل إن هذا الواجب يتأكد نتيجة لمرور المجتمعات الإسلامية بعصور متطاولة من الجهل والتخلف الفكري.. كان من نتيجتها. أن تأثر وضوح الرؤية لدى هذه المجتمعات بالنسبة لأفكار الإسلام وقيمه. كما كان من نتيجته ظهور انحرافات بالغة ومدمرة، سواء من حيث السلوك أم من حيث التعلق بالخرافات والأوهام.(11/205)
واستخدام الإذاعة من أجل الدعوة إلى الله وفاء بواجب أساسي عليها تجاه المجتمع الإسلامي خاصة والمجتمع الإنساني كله عامة. يتأكد ذلك إذا عرفنا أن ما اصطلح على تسميته بالثقافة ينزع إلى الاختلاف والتفرقة عن الطريق وسائل الاتصال بالجماهير عبر الإذاعة كما أكد ذلك ((أبراهام مولز)) وبين أن الناس يستمعون إلى الأخبار والبرامج التي تخرج من مصادر واحدة (وكالات الأنباء) فالإنسانية تتجه لأن تعيش بنفس الأفكار وقد يكون لها نفس الاستجابات وهذا يفسر طغيان عقائد بعض الأمم على بعضها الآخر.
وهذا يدفعنا إلى أن ندعو إلى أن تهدف إذاعاتنا إلى الدعوة لدين الله الحق بالحكمة والموعظة الحسنة أمام تلك التيارات المتباينة تحقيقا لقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} النحل - 125.
وقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} يوسف -108.
ولعل واقع الإعلام الإذاعي اليوم باختلاف فنونه وأساليبه للتأثير على الجماهير يدعونا إلى أن ندعو إلى سبيل الله بحكمة وبصيرة لأننا نعرف أن الغالبية العظمى من المستمعين تميل إلى عدم الاهتمام بمعرفة الطريقة التي يتم بها خلق الثقافة بل تتقبلها على أنها إنتاج يعرض من محطات الإذاعة التي تبث برامجها. فالفرد في الغالب الأعم لا يفكر ولا يحلل بقدر ما يستمع وينصت ولعل هذا يجعلنا أكثر حذرا وأكثر بصيرة.
ولقد لاحظ لازارزفلد Lazarsfeld وشرام Schramm وبرلسن. أن هذا يبدو جليا بين من يخلق المواد المذاعة وبين من يسمعها.
إننا نجد أن الدول الكبرى تمتلك اليوم أقوى محطات للبث عن طريق الأقمار الصناعية. التي ملأت كوكبنا الأرضي بالعديد من العقائد والثقافات المرغوب فيها وغير المرغوب فيها.(11/206)
لقد فطنت كثير من الدول الكبرى إلى الإذاعة لما لها من القدرة على التأثير الوجداني والعقائدي من خلال الكلمة المسموعة والموسيقى والأغاني والبرامج الترفيهية. وفي ثنايا ذلك تبث سمومها لتحطيم إرادة الجماهير أو تعمل على نشر الشائعات لتضل الناس عن صراط الله المستقيم.
تأثيرات كامنة:
وهناك تأثيرات ظاهرة وأخرى كامنة تسعى إليها الإذاعات للتأثير على الجماهير (كما أوضح ذلك جوزف كليبر) حيث يكون هناك تركيز معين لتدعيم اتجاه ما، بل إن الإذاعة تكون في كثير من الأحيان قادرة على خلق اتجاه جديد أكثر من قدرتها على تحويل الاتجاهات المسبقة الراسخة. ولقد عمل أعداء الإسلام ردحا من الزمن على خلق تيارات فكرية وعقائدية جديدة. بل أخذوا يعلمون المسلمين لغتهم ويلقنونهم فكرهم. وتدخلوا في ثقافة المواطن المسلم كما حدث في جنوب إفريقيا وبلدان من آسيا. ألبسوا ذلك رداء الإسلام حينا وسموا الأشياء بغير مسمياتها حينا آخر.. لقد أكد ((اللورد ماكولي)) مرة أن سياسة الإعلام في الهند كانت تهدف إلى خلق طبقة من المثقفين في جلود هندية، ولكنهم يفكرون ويدركون بعقول إنجليزية، ويقومون كذلك بدور الوسطاء بين بريطانيا وبين الملايين من الناس.
تجاهل مقصود:
ونحن نجد اليوم كثيرا من الإذاعات تروج للعقائد والمذاهب الضالة عملا وفكرا، بل تسعى جاهدة على أن تصور الإسلام على أن الدين فيه غير الدنيا. ومما يؤسف له أن هذا التفكير الذي ينطوي على تجاهل مقصود لحقيقة الإسلام قد سرت عدواه إلى كثير من المثقفين في البلاد الإسلامية نتيجة لروافد الفكر المادي أو ((العلماني)) فأصبحت كلمة الإسلام في نظر الكثير منهم يمكن أن تعني أي شيء إلا الأمور المتعلقة بشؤون الحياة التي نحيا فيها فكانت تلك هي الهوة التي تفصل بين الدين وبين اللحاق بركب الحضارة.(11/207)
وطغى هذا المفهوم ((العلماني)) على ميدان الإرسال الإذاعي فتلك برامج دينية وهذه برامج غير دينية وهذا رجل دين وهذا ليس برجل دين. ولا يغيب عنا جميعا أن الإسلام ليس وقفا على رجل يعرف بأنه رجل دين وليس كذلك وقفا على برنامج دون آخر إعلامي أم ثقافي أم ترفيهي. فروح الإسلام يجب أن ترفرف على برامج الإذاعة كلها مهما اختلفت أشكالها وتعددت أغراضها.
لقد وقعت كثير من البلدان الإسلامية ردحا من الزمن تحت سيطرة الاحتلال الأجنبي الذي سمى نفسه استعمارا. لكي يوهم أممنا الإسلامية أنه ما جاء إلا لدفع عجلة العمران وهو في الحقيقة جاء ليستنزف خيراتها ويبدل عقائدها.
الإعلام المقنع:
ورحل المحتل عن بلادنا الإسلامية بجيشه وعتاده وأبقى لنا العديد من ضلاله وأوهامه وعقائده الفاسدة التي تضعف من روح الإسلام وأهله والتي ظل يمدها عن طريق إذاعاته الموجهة. إن الإذاعات الموجهة سلاح ماض استغلته اليوم جميع الدول التي تسعى إلى تحقيق مناطق نفوذ، ((فهتلر)) مثلا منذ توليه السلطة عام 1933 أنشأ شبكة ضخمة للإرسال الإذاعي الموجه إلى أوربا وإمريكا وإفريقيا وأستراليا بهدف التأثير على هذه البلاد ثم اهتمت إيطاليا كذلك بالإذاعات الموجهة، ونافستها في ذلك بريطانيا التي أخذت تعنى عناية فائقة بهذا الضرب من الإذاعات ثم أسهمت الولايات المتحدة الإمريكية والإتحاد السوفيتي بنصيب وافر في هذا المضمار.
والتزمت هذه الإذاعات بالواقع الإعلامي المقنع إذ تختار الأخبار والأفكار شبه الموضوعية مع حذف ما يريدون حذفه في دهاء وصياغة إعلامية لا يدركها المستمع بيسر وربما خلع عليها صفة الحياة.
فكانت جميع البرامج والأخبار تحررها مراكز التوجيه مع مراعاة الطابع الموجه لكل بلد من البلدان، والمهم عندها هو اجتناب الكذب الذي يسهل اكتشافه.
صراع وصراع:(11/208)
إن كثيرا من الإذاعات الموجهة تستهدف عزل الإسلام كقوة اجتماعية وكقوة سياسية لها أثرها في محيط السياسة العالمية وكقوة فكرية لها أثرها البالغ في صلة الإنسان بأخيه الإنسان.
وحصر الإسلام في نطاق ضيق يتقوقع على نفسه فيه حتى يبقى نصوصا تتلى وحديثا يقرأ. لا روح في ذلك ولا عمل يدفع إلى التقدم والعلم.
ومن الأمر الذي يجب أن يوضح بين أعين الإذاعات الإسلامية أن صليبية الغرب الثقافية وشيوعية الكتلة الشرقية على اختلاف المفاهيم بينهما يلتقيان ويتعاونان معا من أجل إضعاف العقائد الإسلامية وعزلها عن الحياة.. تلك الحرب التي تستهدف أول ما تستهدف حجب الرؤية عن المثقفين من أبناء المسلمين وجعلهم في موضع الحيرة والضياع فلا يرون ما بين أيديهم من نور وهداية وإنما يتلفتون شرقا وغربا بحثا عما يتخيلون أنه طريق التقدم والتطور.
أُصيب المجتمع الإسلامي بالتخلف ولجأت بعض الإذاعات الموجهة إلى بث برامجها إلى المستمع في بلادنا يزينون له الباطل والمبادئ الهدامة على أنه هو الحق.
وهذه الإذاعات الموجهة بعقليتها وتفكيرها تقلل من أهمية ما تملكه من عناصر وقوى حضارية يمكن إن أحسنت إذاعتنا استغلالها أن يقوم عليها بناؤها الفكري وأن يشكل منها قاعدة ومنطلقا لحضارة الإنسان وتقدم البشرية.
فالإذاعات الموجهة تهدف إلى أن تذوب حضارة الإسلام وعراقته.
ولذا ينبغي أن نكون على حذر من ذلك وأن نكون أمام هذه التيارات المختلفة في عالمنا الآن على مستوى المسئولية نهدي أمتنا ونحترم أهدافنا.
فإن الضباب الغريب عبر الأثير حجب رؤيتنا وشغلنا عن مصادر الثقافة الإسلامية الصحيحة وبعد بنا عن رؤية ما في الإسلام من نور وهداية ولا شك أن ما يمتلكه غيرنا من ضوضاء تزدحم بها أجواؤنا هو الذي ساعد على انتشار هذا الضباب الذي حجب رؤيانا وجعلنا لا نرى ما في الإسلام من ميادين الريادة والقيادة.(11/209)
وليس معنى ذلك أن تغلق الإذاعات الإسلامية أبوابها وتعيش في عزلة عن هذا العالم.
ولكن كل ما نأمله ألا تلجأ إلى تقليد الغير دون وعي أو أن تنقل عنه دون تبصر. وينبغي أن يكون اتصالها بغيرها مبعثه إيمانها بذاتها وإصرارها على الاحتفاظ بشخصيتها. كما لا يعني هذا أننا نقف في طريق التقدم من أي مكان يأتي. ولكننا نحذر أن نستورد الأفكار والقيم بنفس الطريقة التي تستورد بها السلع الغذائية والأدوات المنزلية.
ومن الواضح أن الشعوب الإسلامية في العصر الحاضر قد أغرقت بطوفان من الأيدلوجيات المختلفة بهدف تغيير عقائدها أو التأثير على قيمها وظهر التنافس حول ذلك واضحا. ولكن واحدة من هذه الأيدلوجيات لم تنجح في استقطاب الشعب المسلم أو الاستيثار بميوله.
ولقد كان يخيل في بعض الأحيان أنه تحت ظل السلطان السياسي أو العسكري نجحت أيدلوجية معينة في السيطرة على الشعب وميوله. ولكن حكم الأيام ومجريات الأحداث أكدت أن أيا من هذه الأيدلوجيات لم تلامس أفئدة الشعب المسلم ولا مشاعره الحقيقية. ولكن ليس معنى هذا أن تترك المجال لسلاح الكلمة المذاعة فللكلمة المذاعة خطورتها وما تحويه من عناصر الإفضاء كما عبر عن ذلك - إرك برنيو (Erik Barnow) فالكبير يفضي إلى الصغير والصغير يفضي بما سمع لأترابه.
وتسعى كثير من الدول عن طريق إذاعاتها إلى إعادة النظر ومعتقدات الإنسان ومدى تأثير البث الإذاعي فيه وتجري الإذاعات العديد من البحوث على عينات مختلفة من المستمعين إليها، باسم الإصلاح الفكري أو الإصلاح الأيديولوجي أو الاغتصاب العقلي أو التغيير الذهني أو ما يعرف باسم (غسيل المخ) .(11/210)
أمن الملائم أن تجري إذاعاتنا الإسلامية بعض البحوث التجريبية في مجال المستمعين إليها لقياس الأثر الناتج من سماع البرامج المذاعة وأن تقوم بدراسة دقيقة للسكان من حيث تجمعهم في مناطق دون أخرى وكذلك معرفة المستوى العلمي والعقائدي وعادات كل جماعة وظروفها وإمكانياتها وآمالها وتصوراتها في الحياة. فكما يرى (دوب) أن ردود الفعل للبرنامج الواحد يختلف في الجماعة الواحدة فقد يجد استحسانا عند البعض دون الآخرين. وقد يفهمه نفر منهم جيدا دون آخرين.
ولا شك أن لهذا أثره الواضح في مجال تحسين البرامج أو المادة المذاعة وفق دراسة واعية تستهدف النهوض بالمستمع المسلم وتتعرف عن وعي إلى أي حد استجاب المستمع إلى ما ندعو إليه من دين الله الذي ارتضاه لعباده حياة ومنهجا ومن الضروري أن يقترن ذلك بشجاعة رجل الإذاعة في مواجهة النتائج أيا كان نوعها والعمل على مزيد من التقدم والنجاح.
تصحيح المفاهيم:
يجب أن تقوم إذاعتنا الإسلامية على أُسس قوية من العلم والفكر والإيمان حتى تمد المسلم بالقيم الإسلامية الصحيحة وحتى يستطيع أن يعيش بها حاضره وتمده كذلك بالحقائق حتى يستطيع أن يقضي على المذاهب الباطلة المعادية للإسلام.
وتقوم كذلك بتصحيح المفاهيم العلمانية الخاطئة بالنسبة لعدد كبير من المسلمين الذين بهرتهم ثقافة الغرب وقضاياه، وأن تقدم البديل - البرامج الإسلامية المخططة والمدروسة -.
إن كثيرا من البلدان الإسلامية لا تحظى الإذاعة فيها بنسبة تتلاءم مع مسئولياتها تجاه القضية الإسلامية، فالبرامج الإسلامية فيها لا تزيد عن 14% من نسبة برامجها المذاعة. بل هناك إذاعات إسلامية لا تصل هذه النسبة فيها إلى 10% ولعل هذا يدعونا إلى إعادة النظر في خريطة البرامج من أجل مزيد من البرامج الإسلامية الهادفة التي تنبع عن فهم سليم واع لطبيعة هذا الدين الحنيف.(11/211)
فإذا نظرنا إلى الإذاعات من حولنا نجد أنفسنا أمام فلسفات مختلفة (وأيديولوجيات) مختلفة متباينة تجدد كل منها أهداف الإذاعة وطبيعتها من وجهة نظرها فليكن هدفنا الإسلام والدعوة إليه. ولتسع كل إذاعة للعمل في ميدانها ولكل وجهة هو موليها، فاستبقوا الخيرات إلى كلمة تهدي أُمة وتشيد حضارة لا إلى كلمة تضل الناس وتلهيهم عن صراط الله المستقيم.
والحق أن أمام إذاعاتنا مسئوليات كبرى تجاه الدعوة الإسلامية حتى يتعرف المسلم في بقاع الأرض على الإيمان الحق بالله رب العالمين الذي سخر له ما في الكون يفلح الأرض في مناكبها. نعمل حتى يدرك العالم كله أن الإسلام كرَّم الإنسان بالعلم والتقوى مما جعله يعيش مطمئنا على حياته وماله وعرضه فلا مجال لصراع بين الطبقات يمزق بعضها بعضا أو يسيطر بعضها على بعض. كما أنه لم يهدر كرامته كما فعلت بعض النظم الأرضية المنحرفة التي أخذ أهلها يتخبطون حتى اليوم في ظلام يبحثون فيه عن سبيل.
ميدان الدعوة:
إذن فميدان الدعوة فسيح في أرض الإسلام وفي بلدان تريد أن ترى نور الهداية والحق.
ونأمر أن تترابط الإذاعات الإسلامية بعضها من بعض برباط الأخوة في سبيل تحقيق الدعوة إلى الله سبحانه وأن نتبادل معا الخبرات الإعلامية والبرامج الإسلامية ذلك حتى تتحقق قوة الروابط الأخوية ويصبح المؤمن فردا يعيش في إطار الجماعة الإسلامية تجمع بينه وبين إخوانه على اختلاف الأوطان واللغات مبادئ الأخوة في الإسلام، عقيدتهم واحدة وقبلتهم واحدة ودينهم واحد وربهم واحد.
لتكن الدعوة الإسلامية هدفا أساسيا للإذاعة الإسلامية حتى تحقق قول الله سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} آل عمران -110.
وبالله التوفيق.(11/212)
إلقاء الضوء القرآني (على كتابة الدكتور علوي حول النبهاني)
لفضيلة الشيخ عبد القادر حبيب الس ندي
المدرس بمعهد الحرم المكي
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
فلقد كنت قد حررت بعض الملاحظات الخفيفة على كتابة فضيلة الدكتور السيد محمد حسن بن السيد علوي بن عباس المدرس بالمسجد الحرام، وبكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة، تلك الكتابة التي كتبها أخونا الدكتور مدحا، وثناء على الشيخين.. محمد زاهد الكوثري، وأحمد زيني دحلان، وكنت قد بينت بعض حال المذكورين في مقال متواضع نشرته مجلة الجامعة الإسلامية الغراء في عددها الثالث من السنة السابعة، وهو بعنوان ((عرض ونقد لما كتبه الدكتور محمد علوي مالكي حول الكوثري والدحلان)) .(11/213)
وكنت قد نفيت في المقال المذكور معرفتي لبقية الرجال الذين ترجم لهم الأخ الدكتور وهم الذين تتلمذ عليهم والده السيد الشيخ علوي بن عباس رحمه الله تعالى أو كانت له بهم صلة علمية، إلا أنني قد أمعنت النظر مرة ثانية فيما كتبه أخونا العزيز الدكتور السيد محمد علوي في رسالته ((إتحاف ذوي الهمم العلية برفع أسانيد والدي السنية)) المطبوعة بدمشق الشام في عام 1387هـ 1967م فوجدت رجلا آخر قد ترجم له الأخ الدكتور في رسالته المذكورة وهو الشيخ ((يوسف بن إسماعيل بن حسن النبهاني الشامي)) صاحب الكتاب ((شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق)) ذلك الكتاب الذي رد عليه العلامة الإمام محمود شكري الألوسي في كتابه البارع العظيم (غاية الأماني في الرد على النبهاني) هذا الكتاب المبارك الذي يقول عنه شيخنا العلامة الشيخ محمد بن عبد الله بن سبيل النائب للشئون الدينية بالمسجد الحرام، وإمام الحرم المكي متعنا الله بحياته ناقلا عن العلامة الشيخ رشيد رضا ((المنار 785-12)) (غاية الأماني في الرد على النبهاني) كتاب مؤلف من سفرين كبيرين لأحد علماء العراق الأعلام، المكنى بابي المعالي الحسيني السلامي الشافعي، رد فيها ما جاء به النبهاني في كتابه ((شواهد الحق)) من الجهالات. والنقول الكاذبة والآراء السخيفة، والدلائل المقلوبة في جواز الاستغاثة بغير الله تعالى، وما تعدى به طوره في سب أئمة العلم، وأنصار السنة، كشيخ الإسلام بن تيمية، إلى أن قال: "وفي هذا الكتاب ما لا أحصيه من الفوائد العلمية، في التوحيد، والحديث والتفسير، والفقه والتاريخ، والأدب، وما انفرد به بعض المشاهير، فأنكره العلماء عليه كالإنكار على الغزالي وابن عربي الحاتمي وغيرهما، فعلى هذا الكتاب نُحِيلُ الذين يكتبون إلينا في المشرق والغرب يسألوننا أن نرد على النبهاني، وكذا من اغتروا بقوله، ونُقُولِه وظنوا أن قولنا في الاعتذار عن عدم قراءة كتبه، والرد عليها أنه لا يوثق(11/214)
بعمله، ولا نقله، هو من قبيل السب حاشا لله ما هو إلا ما نعتقده فيه أو في كتبه بعد النظر في بعضها، ورؤية ما فيها من الأحاديث الموضوعة، والنقول المكذوبة، والاستنباطات الباطلة فمن جعل نفسه بالاستنباط مجتهدا وهو ينكر الاجتهاد، ويعترف بأنه ليس أهلا له" اه [1] .
قلت: ولقد وجدت الأخ الدكتور محمد علوي مع وجود كلام أهل العلم في النبهاني قد أثنى عليه في رسالته المذكورة ثناء عطرا ووصفه بأوصاف كبيرة، ولقبه بألقاب ضخمة، وهو بعيد عنها بعد المشرق من المغرب، فلما كان هذا الثناء العظيم، والوصف مخالفا للواقع، وتأييدا له في طعنه في أئمة الدعوة المحمدية من السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تعبهم بإحسان إلى يوم الدين في النهج القويم، والصراط المستقيم، والعقيدة الصافية النقية كالإمام شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية ومن معهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
كالإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى أحببت أن أُبين بعض حال النبهاني وما كان عليه من سوء الحال، وشنيع المقال مع بيان منزلته العلمية، وما قام به من الطعن في دعوة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ونشره الكفر الصريح، والضلال المبين والبدع المذمومة بجميع أنواعها ناقلا ذلك عن كتابه شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق، ليس ذلك تشنيعا على أحد أو شماتة فيه ولكن بيانا للحق إن شاء الله تعالى، ورفعا لشأن الدعوة المحمدية، ونشرها. ودفاعا عن الإسلام وعن دعوته الكريمة السامية.(11/215)
ولقد وجد في رسالة الأخ الدكتور محمد علوي ملاحظات أخرى ضرورية وهي خطيرة جدا سوف أتعرض لها إن شاء الله تعالى فيما بعد في حلقات مسلسلة بيانا للحق وتوضيحا له، وأداء للأمانة العلمية، وتبرئة للذمة أمام الله تعالى الله الذي أخذ الميثاق والعهد على أهل العلم بتبليغ الحق وتفسيره أمام الخلائق مع دعائي وتضرعي إلى الله جل وعلا أن يجعلنا والأخ الدكتور وسائر أهل العلم من دعاة الحق وأنصاره، وأعوانه حتى نلقى الله تعالى بلقاء كريم مرض فإن وفقت في هذه الكتابة بإصابة الحق والصواب فهو محض كرم وفضل وتوفيق من الله تعالى، وإن كان غير ذلك فهو من نفسي، ومن الشيطان فلا حول ولا قوة إلا بالله تعالى وهو حسبي ونعم الوكيل.
قال فضيلة الدكتور السيد محمد حسن في رسالته المذكورة مترجما الشيخ النبهاني (العلامة أبو المحاسن يوسف بن إسماعيل بن حسن النبيهاني، الشامي، الشافعي مذهبا، المولود سنة 1266هـ والمتوفى 1350هـ حسان آل البيت، وبوصيري عصره، الشاعر، المفلق، الذائع الصيت، محب آل البيت، متمكن في اللغة العربية، والفنون الأدبية، مداوم المطالعة، ولم يشتغل بالتأليف في العلوم الأدبية مع تبحره فيها، بل اقتصر على المدائح النبوية، والموضوعات الدينية، وأول ما ظهر من مؤلفاته: ((الشرف المؤبد لآل سيدنا محمد)) [2] .(11/216)
قلت: يا أخي العزيز لا يوافقكم أهل العلم العالمون بالكتاب والسنة وإجماع الأمة ممن عرفوا هذا الرجل معرفة جيدة بتشبيهكم له بحسان بن ثابت الأنصاري شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن رسالته السامية المخرجة عن ظلمات الشرك والبدعات إلى نور العلم الصحيح، والتوحيد الخالص والعقيدة الصافية النقية قال الحافظ: "وفي الصحيحين من طريق سعيد بن المسيب قال: مر عمر رضي الله تعالى عنه على حسان في المسجد وهو ينشد الشعر فلحظ إليه، فقال: "كنت أنشد وفيه من هو خير منك"، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال: "أنشدك الله أسمعت النبي صلى الله عليه وسل يقول: "أجب عني. اللهم أيده بالروح القدس" وقد أخرج الشيخان أيضا من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان: "أهجهم أو هاجهم وجبريل معك"، وقال الإمام أبو داود في سننه: حدثنا لوين، عن أبي الزناد عن أبيه، عن هشام بن عروة، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضع لحسان المنبر في المسجد يقوم عليه قائما يهجو الذين كانوا يهجون النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس مع حسان ما دام ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" [3] ، قلت: فهذه الأحاديث نص صريح على أنه صلى الله عليه وسلم رضي بشعر حسان ووافقه على ما دعا إليه من تقوية العقيدة الإسلامية وهجاء الكفار المعاندين لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعره فدعا له صلى الله عليه وسلم بالتأييد، والتوفيق، والسداد، فأين منزلة هذا الصحابي الجليل المؤيد بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم له من منزلة الشيخ النبهاني الذي قضى حياته كلها تقريبا في معارضة الدعوة المحمدية، وهي دعوة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام كما سوف يأتي ذلك مفصلا إن شاء الله تعالى كفى الشيخ النبهاني كفرا بواحا، ومعصية(11/217)
كبيرة، ومخالفة صريحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولدينه المتين ونظامه الرفيع أن يرأس في آخر حياته محكمة الحقوق المدنية ببيروت وهي محكمة مدنية، لا دينية لا يخفى حالها السيئ، ونظامها اللعين المخالف لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. قال الأستاذ عمر رضا كحالة: "تولى القضاء في قعبة جينين من أعمال نابلس، ورحل إلى القسطنطينية، وعين قاضيا بكوى سنجق من أعمال ولاية الموصل، فرئيسا لمحكمة الجزاء باللاذقية، ثم بالقدس، فرئيسا لمحكمة الحقوق ببيروت" [4] وقال الأستاذ الكبير خير الدين الزركلي: "قال صاحب معجم الشيوخ: للنبهاني كتب كثيرة خلط فيها الصالح بالطالح، وحمل على أعلام الإسلام كابن تيمية وابن القيم حملات شعواء، وتناول مثل الإمام الألوسي المفسر، والشيخ محمد عبده، والسيد جمال الدين الأفغاني، وآخرين ورد عليه محمود شكري الألوسي في غاية الأماني في الرد على النبهاني، والثاني الآية الكبرى على الرائية الصغرى" [5] .(11/218)
قلت: كيف هو محب آل البيت النبوي ويرأس في آخر حياته محكمة الحقوق المدنية ببيروت يقول العلامة الألوسي بعدما نقل عنه العقائد الفاسدة الكفرية كعقيدة وحدة الوجود والاتحاد والحلول قال رحمه الله تعالى: "هذا حال النبهاني في عقائده، وجهله في العلوم العقلية والنقلية أشهر من أن ينبه عليه كما ستعلمه إن شاء الله تعالى. لكن بقي علينا بيان حاله وما هو عليه إلى اليوم من أفعاله، وأعماله، وحيث أني لم أقف على حقيقة أمره وإن كان ما نشره من الكتب تطلعنا على حلوه ومره - سألت عنه بعض الأفاضل من الأصحاب ممن رآه واجتمع به وعرف ما عنده من الفصول والأبواب، فكتب كلاما طويلا فيه، وعرفني بظاهره، وخافيه فمن ذلك قوله: إن النبهاني قد قضى شطرا من عمره في المحاكم النظامية، وتسمى أيضا بالمحاكم القانونية" - ثم ذكر كلاما طويلا في بيان حال تلك القوانين وما فيها من المخالفة لقواعد الدين - ثم قال: "إن النبهاني تولى رياسة الجزاء في بيت الله المقدس عددا كثيرا من الأعوام، وبين حقيقة هذا المنصب وما يتعاطاه الرئيس من الأحكام، قال: ثم تحول إلى رياسة محكمة البداية في بيروت، وبين ما يرى في هذا المحل من الوظائف والمواد، ثم قال: وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت، قلت: إن كان صادقا عليه ذلك المقال يكون تائها في أودية الجهل والضلال، فكيف يدعى الإيمان فضلا عن دعواه المحبة لسيد ولد عد نان، وهو معرض عن هديه، وسنته، ناء عن العمل بشريعته فهلا قرأ قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} " [6] قلت: فليقارن بين ما ادعى من المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولآله وبين ما تولى من المناصب الهامة في تلك المحاكم القانونية المدنية المخالفة(11/219)
لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النظام العادل الموافق للطبيعة البشرية جميعا، فعجبا لهذه المحبة المزعومة ودعوى صاحبها الطويلة العريضة وهو بعيد عنها بعد المشرقين عن المغربين فإنا لله وإنا إليه راجعون، وأما البوصيرى فهو محمد بن سعيد البوصيري الشاعر فلم يكن من أهل العلم ولا البصيرة، وكان يعاني من الكتابة كما حكى ذلك العلامة ابن العماد في شذرات الذهب، والصفدي في الوافي بالوفيات، وابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات وغيرهم من أهل العلم رحمهم الله تعالى فماله معروف عندهم وهو صاحب قصيدة البردة وأكثر شعره مخالف لدعوة الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، وكانت وفاته في مصر في القرن السابع في بوصير قرية (من قرى مصر) وليست له منزلة علمية كبيرة، فلا بأس أن تشبهوا النبهاني به لأنهما وقفا موقفا واحدا يحاربان دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الدعوة الكريمة التي لأجلها أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الأذى من قريش وانجرحت قدماه بالطائف، فهاجر لأجلها من مسقط رأسه صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة إلى المدينة المنورة فلقي في سبيل نشرها ما لقي من ألوان المتاعب والمصاعب التي لا نظير لها في تاريخ الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ولأجلها سقطت ثنيتاه في غزوة أحد. وقد يكون حال البوصيري المذكور أحسن بكثير من حال النبهاني الذي ذهب مذهبا بعيدا جدا وقد نقله عنه الشيخ محمود شكري الألوسي في كتابه ((غاية الأماني في الرد على النبهاني)) إذ قال رحمه الله تعالى: "الأمر السابع من تلك الأمور: أن من علم حال النبهاني وما هو عليه من المعرفة، وما يعتقده من العقائد، ويراه من الآراء لم يلتفت إلى ما ذكره في كتابه الذي سماه (شواهد الحق) ولا غيره من هذيانه الصريح، فإن الرجل جاهل كما ستعلمه من رد كتابه هذا سقيم الفهم بأخبار العدول الثقاة، ورواية الصادقين من الرواة، وما نشره من هذيانه، أعدل شاهد على ذلك، وأصح(11/220)
دليل على ما هناك فضلا عما ذكره فيه جهابذة العصر الذين رأوه، وخالطوه، وعرفوا حاله، وشاهدوا أعماله، ومع ذلك نذكر كلام بعضهم فيه ليحمد الله من عوفي من شقائه، وعضال دائه،
قال العلامة الفاضل السيد بدر الدين الحلبي في كتابه (الإرشاد والتعليم) عند ذكره مقالات الأمم ما نصه:"ومن شنيع مقالاتهم في الإسلام قولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو منه زمان، ولا مكان يريدون بذلك أنه ما من زمان إلا وهو فيه موجود ولا من مكان إلا وهو فيه موجود، قال حفظه الله تعالى - وهذه المقالة الشنيعة لم نرها لأحد من المتكلمين المتقدمين منهم والمتأخرين، ولا رأيناها في كتب العقائد، ولا كنا نظن أحدا يقول هذه المقالة الشنيعة وإنما ذكرها الشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني البيروتي صاحب الكتب الكثيرة في الأدعية والصلوات في منظومة له سماها ((طيبة الغراء)) ناقلا لها عن البرهان، الحلبي، قال: ذكر يوسف النبهاني أنه اطلع على رسالة ألفها البرهان الحلبي في هذا الموضوع فطالعها، وانتفع بها [7] ثم أجابه الشيخ محمود الألوسي بقوله: ويا ليت شعري أي دليل قام عند هذا الذي قال هذه المقالة الشنيعة حتى قال بها.. هل تلا في ذلك آية منزلة من كتاب الله تعالى، أو حديثا صحيحا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
إن قال ذلك: فقد كذب وشهد على نفسه بالكذب أو ساق الدليل الذي أورده المتكلمون على أن الباري جل شأنه لا يحويه زمان ولا مكان في النبي صلى الله عليه وسلم فحكم له بما حكم به للباري جل وعلا فهو عين الشرك الصريح، ومثل هذه العقائد الفاسدة الباطلة الكاذبة يلقيها أهل الغفلة من المنتمين للعلم في آذان العامة فتصادف منهم قبولا، وتجتمع عليها قلوبهم حتى يصير من المتعذر نزعها من أذهانهم، وربما كفروا من أنكرها عليهم، ورأوا أن إنكار ذلك نوع من الإلحاد في الدين واستخفاف بصاحب الشريعة المطهرة صلى الله عليه وسلم"اه.(11/221)
قلت: هذه عقيدة أهل الحلول والاتحاد وهم القائلون بوحدة الوجود وإمامهم في ذلك محي الدين ابن عربي الحاتمي المكي صاحب ((فصوص الحكم)) و ((الفتوحات المكية)) وغيرها من الكتب الكفرية وهو القائل: "سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها"وقال عبد الكريم الجيلي: "إن النصارى لم يكفروا بأصل الحلول وإنما كفروا بالحصر الذي تضمنه كلامهم أن الله هو المسيح لا غيره من الأشياء ولو عمموا لم يكفروا"وهذا الكلام مما تقشعر منه جلود المؤمنين، نقول فقول النبهاني: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو منه زمان ولا مكان ناقلا ذلك عن البرهان الحلبي هو من شعب ذلك الوادي.
وهناك بوصيري آخر. وهو إمام أهل الحديث في عصره وهو الإمام العلامة أحمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن قايمماز عثمان بن عمر الكناني المحدث شهاب الدين ولد في محرم سنة 762 سمع الكثير من البرهان التنوخي، والبلقيني، والعراقي، والهيثمي والطبقة وحدث، وخرج، وألف تصانيف حسنة، منها زوائد سنن ابن ماجه على الكتب الخمسة، وزوائد سنن البيهقي الكبرى على الكتب الستة، وزوائد المسانيد العشرة على الكتب الستة، وهي مسند الطيالسي ومسند مسدد بن مسرهد، والحميدي، والعدني، وابن راهويه، وابن جميع، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي أُسامة، وأبي يعلى ولم يزل مكبا على كتب الحديث وتخريجه إلى أن مات رحمه الله تعالى في محرم سنة أربعين وثمانمائة قاله الحافظ تقي الدين بن فهد المكي، فإن أردتم تشبيه النبهاني بهذا الحافظ فلا يرضى أحد من أهل العلم بالحديث فأرجو أن يكون قصدكم بالبوصيري محمد بن سعيد الشاعر المعروف.
وأما قولكم في حق النبهاني: "متمكن في اللغة العربية، والفنون الأدبية، مداوم المطالعة، ولم يشتغل بالتأليف في العلوم الأدبية مع تبحره فيها".(11/222)
قلت: ليس الواقع كما ذكرتم بل الشواهد والحقائق التي سوف أنقلها لكم من كلامه في كتابه الذي سماه شواهد في الاستغاثة بسد الخلق ترد عليه ردا قاطعا فتجعله إنسانا لم يشم رائحة العلم أو عنده علم إلا أنه خالف طريق العلم الصحيحة عنادا، وتكبرا وزورا، وبهتانا على أئمة الدعوة المحمدية، وإن كان الأول فهو أهون وإن كان الثاني فالخطب جلل كبير خطير.
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة
وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم(11/223)
قال الشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني في كتابه ((شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق)) المطبوع بمصر سنة 1323هـ (: "الباب الثالث في نقل كلام الإمام العلامة ناصر السنة في هذا الزمان سيدي أحمد دحلان مفتي الشافعية في مكة المشرفة في كتابه خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام، وذكر الشبه التي تمسك بها الوهابية، ينبغي أولا أن نذكر الشبهات التي تمسك بها ابن عبد الوهاب في إضلال العباد، ثم نذكر الرد عليه ببيان أن كل ما تمسك به زور، وافتراء، وتلبيس على عوام الموحدين، فمن شبهاته التي تمسك بها زعمه أن الناس مشركون في توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبغيره من الأنبياء والأولياء، والصالحين، وفي زيارتهم قبره صلى الله عليه وسلم، وندائهم له بقولهم: يا رسول الله نسألك الشفاعة، وزعم أن ذلك كله شرك، وحمل الآيات القرآنية التي نزلت في المشركين على الخواص والعوام من المؤمنين، كقوله تعالى: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} وقوله تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} وقوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} وقوله تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا(11/224)
يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} وقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} .
وأمثال هذه الآيات كثير في القرآن كلها حملها على الموحدين، قال محمد بن عبد الوهاب: إن من استغاث أو توسل بالنبي صلى عليه وسلم أو بغيره من الأنبياء والأولياء والصالحين أو ناداه أو سأله الشفاعة فإنه يكون مثل هؤلاء المشركين، ويكون داخلا في عموم هذه الآيات، وجعل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أيضا مثل ذلك [8] .
قلت: هذا كلام شيخ والدكم نقلته لكم حرفيا، والذي وصفتموه بقولكم: "متمكن في اللغة العربية، والفنون الأدبية"يشهد عليه كلامه هذا بالجهل المركب، والسفاهة المتناهية لم يسبق لها مثال سابق في تاريخ العلم وأنا سوف أتصدى لكلامه هذا بالرد عليه فقرة فقرة مستعينا بالله جل وعلا ومستمدا العون منه سبحانه وتعالى لكي يتضح حاله وحال أتباعه الذين يضللون الأمة الإسلامية وما أكثرهم اليوم لا كثرهم الله تعالى.
فأقول: إن عنوان كتابه هذا (شواهد الحق بالاستغاثة بسيد الخلق) غير صحيح فضلا عما في داخل الكتاب من الضلال المبين، والكفر الصريح، والكتاب أجدر به أن يسمى شواهد الضلال والكفر والعياذ بالله.(11/225)
أخرج الإمام البخاري ومسلم وأحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: "قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول فعظمه، وعظم أمره"، قال: "لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة يقول: يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، وعلى رقبته بعير له رغاء، يقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، وعلى رقبته صامت، فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك أو رقبته رقاع تخفق فيقول: يا رسول الله أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئا وقد أبلغتك ... " ثم ذكر الحديث [9] ، قال الحافظ: "قوله: "لا أملك لك شيئا" أي من المغفرة لأن الشفاعة أمرها إلى الله تعالى، وقوله: "أبلغتك" أي فليس لك عذر بعد الإبلاغ [10] ". قلت فالشاهد في هذا الحديث الشريف على بطلان عنوان الكتاب - أي كتاب النبهاني - وعدم صحته واضح بين، وهو أنه صلى الله عليه وسلم وإن كان هو صاحب الشفاعة العظمى - كما جاءت بذلك الأحاديث الكثيرة - لا يغيث يوم القيامة أحدا قبل أن يأذن الله تعالى له بالشفاعة العظمى ليشفع لمذنبي أمته صلى الله عليه وسلم دون الكفار والمشركين، فكيف يستغاث به بعد انتقاله صلى الله عليه وسلم من هذه الدنيا الفانية إلى رفيقه الأعلى مع أن يوم القيامة هو أقرب الأوقات وأنسبها للاستغاثة به صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقول يوم القيامة لصاحب الفرس والبعير ويكرر: "لا أملك لك شيئا وقد أبلغتك" فالشيخ النبهاني في عنوان كتابه هذا يكذب النبي صلى الله عليه وسلم في مقالته تلك المباركة يوم القيامة، والتي أجمعت الدنيا كلها من السلف والخلف من علماء السنة المطهرة وعلى رأسهم أئمة الهدى الأئمة الأربعة الإمام الجليل أبو حنيفة والإمام الشافعي، والإمام مالك والإمام أحمد بن حنبل والبخاري، ومسلم وغيرهم رحمهم الله تعالى على أن تلك المقالة صدق، وحق(11/226)
ودين وأن صاحب الفرس الذي يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستغيثا به أن ذنبه ذلك ليس من الشرك بل من الكبائر، والذي يتبرأ منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يأذن له ربه جل وعلا بالشفاعة، فكيف حال من يدعوه من دون الله تعالى ويستغيث به في أمور لا يستطيعها أحد إلا المولى جل وعلا.
ومن هذا القبيل خطابه صلى الله عليه وسلم لابنته البتول فاطمة الزهراء أم الحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين وعمته صفية بنت عبد المطلب الهاشمية القرشية رضي الله عنها، أخرج الإمام البخاري في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله تعالى عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} قال: "يا معشر قريش أو كلمة نحوها اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا.. يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئا" [11] . ومن هذا القبيل ما أخرجه الإمام أحمد في المسند من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه بإسناد صحيح، خطابه صلى الله عليه وسلم لعمه العباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه قال العباس رضي الله عنه: "يا رسول الله أنا عمك كبرت سني، واقترب أجلي فعلمني شيئا ينفعني الله به"، قال: "يا عباس أنت عمي ولا أغني عنك من الله شيئا ولكن سل ربك العفو والعافية في الدنيا والآخرة" قالها ثلاثا". الحديث [12] . فكان النبي صلى الله عليه وسلم - معاذ الله - عند الشيخ النبهاني - ومن سار على نهجه - الذي هو متمكن في اللغة العربية ومحب آل البيت في نظركم في عنوان كتابه ((شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق)) غير صادق في خطابه هذا لجملة من أقاربه صلى الله عليه وسلم وهم عمه العباس وعمته صفية وابنته فاطمة رضي الله تعالى عنهم.(11/227)
وهؤلاء الثلاثة الذين تخلفوا من أكابر الصحابة رضي الله تعالى عنهم في غزوة تبوك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع رضي الله عنهم الذين اعترفوا بتخلفهم من غير عذر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم صلى الله عليه وسلم تلك المقالة المعروفة التي تناقلها ثقاة المحدثين بأسانيدهم الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا حتى يقضي الله فيكم وليس لكم عندي شيء يخرجكم من موقفكم هذا"، ونهى جميع الصحابة رضي الله عنهم عن كلامهم إياهم، فكان أمرهم، وشأنهم معروفا معلوما لدى جميع الصحابة رضي الله عنهم، وقد صور القرآن الكريم حالتهم التي توصلوا إليها في النهاية إذ يقول جل وعلا في محكم كتابه {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} 18 التوبة.
لماذا لم يستغيثوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرهم صلى الله عليه وسلم ولماذا لم يغثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الحال وهو رؤوف رحيم كما وصفه ربه جل وعلا في كتابه إذ يقول جل وعلا: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .(11/228)
أهذه الآيات نزلت أيضا في قريش في نظر الشيخ النبهاني الذي هو متمكن في اللغة العربية عندكم فانظر حال من اعتذر بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذبة المنافقين وغيرهم الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عذرهم وبايعهم ودعا لهم بالمغفرة صلى الله عليه وسلم ومبايعته فكان دعاؤه لهم حسب ما ظهر له صلى الله عليه وسلم من أمرهم وشأنهم دون ما كان في قلوبهم وضمائرهم من الكذب والغش ولم يفدهم ذلك شيئا بل زادهم نقمة وعذابا، وقد صور القرآن الكريم حالتهم إذ يقول جل وعلا: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} 196 التوبة.(11/229)
فكفى الشيخ النبهاني معصية كبيرة على أقل تقدير أن يكذب الله تعالى في كلامه هذا المبارك ورسوله صلى الله عليه وسلم في صحيح سنته المطهرة في عنوان كتابه هذا شواهد الحق بالاستغاثة بسيد الخلق. وقد استغاث به صلى الله عليه وسلم في آخر حياته عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق المعروف عندما بعث ابنه عبد الله الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعد مرجعه صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك لكي يدعو له ويصلي عليه بعد موته، وفعلا توجه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا له وصلى عليه صلاة الجنازة وهو على قبره وقد ذكر عمر رضي الله تعالى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بجميع مواقف هذا المنافق التي وقفها ضد الدعوة المحمدية.
ألم تكن هذه استغاثة تمكن منها النبي صلى الله عليه وسلم في حياته الدنيوية في حق ابن أبيّ بن سلول؟ ولكن ماذا كان من أمرها، وشأنها فيما بعد، هل نفعت صاحبه مع اعترافه بمقام النبي صلى الله عليه وسلم الرفيع عند مولاه جل وعلا؟(11/230)
نعم: ينزل القرآن بعد وقفات قليلة مبينا حال هذه الاستغاثة، وقيمتها إذ يقول جل وعلا مخاطبا نبيه الشافع العظيم في يوم الجزاء صلى الله عليه وسلم {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} نقف هنا قليلا لكي نطلع على موقف المصطفى صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية الكريمة هل توقف عليه الصلاة والسلام عن الاستغفار والدعاء له من ربه جل وعلا في حق ابن أبيّ بن سلول فثارت فيه عاطفته العظيمة ورحمته المثالية، ورأفته الشامخة كما وصف الله جل وعلا فاستمر في الدعاء والاستغفار للمنافق المذكور وقال صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى لم ينهني في هذه الآية صراحة عن الاستغفار والدعاء وسوف أزيد عليه فوق السبعين ما لم أنه عنه، ولا يزال الفاروق يذكره مواقف هذا الظالم المنافق ويقول له صلى الله عليه وسلم فداك أبي وأمي إن الله قد نهاك في هذه الآية وقد وردت الأحاديث الصحيحة الكثيرة في هذا المعنى، ولم يقتنع المصطفى عليه الصلاة والسلام بكلام عمر رضي الله تعالى عنه ثم ينزل القرآن الكريم لفصل الخطاب إذ يقول جل وعلا: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} . ولقد عرفنا إن شاء الله تعالى أثناء سرد هذه الأدلة من الكتاب والسنة أن تسمية الشيخ النبهاني لكتابه ذلك باطل شرعا، وعقلا، وأما الشرع فقد مضت بعض الأدلة على ذلك فارجع إليها أيها الأخ الكريم بالنظر الصحيح، والعقل السليم، وأما العقل فهو يمنع الإنسان الفطري عن هذه الغواية، والضلالة التي تمسك بها النبهاني ومقلدوه لأنها تخالف دعوة جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام الذين(11/231)
بعثهم الله تعالى ببعثة مباركة عظيمة بتوحيد الإنسانية كلها إلى خالقها، وبارئها جل وعلا في جميع أنواع العبادة، دون أن تصرف منها شيئا لغير الله تعالى. سواء كان هذا الغير ملكا مقربا أو نبيا مرسلا، أو وليا صالحا، فإن عبدوا واستغيث بهم بعد موتهم في أمر لا مجال لهم في التصرف فيه، ولا قدرة لهم في العطاء والمنع، فعبادتهم راجعة إلى الشيطان اللعين، لأنه هو الذي تسبب في تحويل هذه الفطرة السليمة إلى الفطرة الخبيثة وهذا واضح بيِّن جلي لا يخفى على أحد ممن فطره الله تعالى على فطرة سليمة، فكان هذا الكتاب معولا هداما، ووسيلة خبيثة، وسعيا شيطانيا في الموقوف أمام دعوة جميع الأنبياء والرسل الذين يقول الله تعالى في حقهم: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} .(11/232)
وأما قول الشيخ النبهاني في استشهاده من كلام إمامه الشيخ أحمد زينني دحلان وتلقيبه له بأنواع من الألقاب الضخمة ومنها قوله فيه: "الإمام العلامة ناصر السنة الخ"فقد قلدتموه أنتم أيضا في رسالتكم ((إتحاف ذوي الهمم العلية برفع أسانيد والدي السنية)) بتلقيبكم له أعظم، وأكبر مما لقبه به شيخ النبهاني إذ قلتم: إنه شيخ الإسلام، ومفتي الأنام، والحجة، والمشارك، الزاهد، الناسك، وغير ذلك من الأوصاف الكبيرة، وقد بينت بعض حاله، وكشفت عن بعض أمره وهو لا يستحق هذه الأوصاف بحال من الأحوال، وكنت قد نقلت عن الأستاذ الكبير العلامة الشيخ محمد رشيد رضا من مقدمته العلمية التي وضعها على كتاب صيانة الإنسان من وسوسة الشيخ دحلان للعلامة الأثري الشيخ بشير السهسواني الهندي رحمه الله تعالى. ولقد عرفنا ببعض المعرفة عن حقيقة هذا الرجل أعني أحمد زيني دحلان، وما تمسك به من العقائد الفاسدة الخرافية مع أدلتها التي هي أضعف من بيت العنكبوت، فارجع أيها الأخ الكريم إلى كتاب صيانة الإنسان فإن فيه زيادة، وكفاية إن شاء الله تعالى.
وأما الشبهات التي نقلها محبكم، ومحب آل البيت في نظركم عن شيخه أحمد زيني دحلان وهو بدوره يزعم فيقول: ناقلا عن شيخ الإسلام، ومجدد الملة المحمدية الحنيفية السمحة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى بنقل غير معزو إلى أحد من كتبه الجليلة ورسائله النافعة، إذ قال عامله الله بما يستحق: "فمن شبهاته التي تمسك بها زعمه أن الناس مشركون في توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم"قف!(11/233)
أين قال ذلك شيخ الإسلام، وفي أي كتاب صرح فيه بأن مجرد التوسل بالنبي صلى الله وعليه وسلم وبغيره من إخوانه الأنبياء والصالحين شرك يخرج عن الملة؟ فإن ثبت عنه رحمه الله تعالى ذلك بنقل صحيح في كتاب ما من كتبه العظيمة أو رسائله النافعة فيحمل على تلك الوسيلة الشركية التي يطلب فيها أصحابها من النبي صلى الله عليه وسلم ما نفاه عن نفسه الزكية الطاهرة في أحاديثه الصحيحة المخرجة في الكتب الصحاح المعتبرة عند أهل الحديث، وما نفاه عنه مولاه جل وعلا في محكم كتابه إذ قال جل وعلا مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم عندما كان يحاول بحرصه الشديد هداية عمه أبي طالب عند موته قال الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} القصص - وقال جل وعلا في سورة النحل: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} وأما توسل الصحابة رضي الله تعالى عنهم بدعائه صلى الله عليه وسلم في حياته فهذا مشروع ثابت بأسانيد صحيحة كثيرة لا غبار على صحتها، ومن ينكر ذلك فهو ضال مضل، ولم ينكر شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى هذه الوسيلة أبدا بل إنها جائزة ومستحبة في نظره وأنظار أهل الحديث رحمهم الله تعالى وهي أيضا مشروعة في حق كل من كان من أهل الخير والصلاح والعبادة، والزهد، والورع وهو على قيد الحياة يطلب منه الدعاء، ويقال له: ادع الله لي يا أخي بصلاح الدين والدنيا والآخرة، ونحو ذلك، وأما توسل الصحابة رضي الله تعالى عنهم بذاته الشريفة أو ذوات أخرى من الأنبياء والرسل والصالحين الميتين فلم يثبت في ذلك حديث صحيح خال من الشذوذ، أو عمل من أحد الصحابة بعد انتقال المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى رفيقه الأعلى إلا حديث الأعمى الذي تشبث به الشيخ النبهاني ودندن حوله، ومعه مقلدوه، وأتباعه فهم كثيرون - لا كثرهم الله تعالى - فأني سوف أتكلم عليه بالإسهاب متنا،(11/234)
وإسنادا إن شاء الله تعالى عند الرد على الشيخ النبهاني باستدلاله به، وبأحاديث أخرى على دعواه الباطلة، كل ذلك بالتفصيل، فكان هذا التوسل بذاته الشريفة، وبذوات أخرى عملا محدثا في الإسلام، نشأ عن الجهل، وقلة العلم بقواعد الشريعة الغراء، ومناف لكمال عدل الله تعالى، ورحمته، وشفقته على عباده، ومخالفا للقواعد الإسلامية التي بنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوته وجهاده لإعلاء كلمة الله تعالى، ولم يقل أحد من أهل العلم إن هذه الوسيلة شرك، بل إنه عمل محدث في الإسلام، وإن صاحبها والمتمسك بها على خطر عظيم، جسيم من أمر دينه، فليحذر منها، لأنه على قنطرة إبليسية خطيرة، تسقطه في أحضان الشرك في يوم من الأيام.
وأما مقالة النبهاني الشنيعة في شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وهي قوله: "إن كل ما تمسك به الوهابية،، وابن عبد الوهاب في إضلال العباد فهو زور، وافتراء وتلبيس على عوام الموحدين".
قلت: الأمر بالعكس كما سيأتي ذلك مفصلا إن شاء الله تعالى عند كلامي على الآيات القرآنية التي ساقها النبهاني في كتابه الباطل، وجعلها خاصة في كفار مكة الذين حاربوا دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يتناول منطوقها ولا مفهومها في نظره بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أحدا من المسلمين الحاليين، فلا يوجد في زعمه كفر ولا شرك أصلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في ذرية الذين آمنوا به صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، هكذا زعم هو وأتباعه الذين قلدوه في نظريته هذه.
((ما هو مفهوم كلمة الوهابية عند النبهاني وأتباعه؟)) .(11/235)
لقد كنت في بلادي السند وأنا صغير لم أبلغ الحلم وأسمع هذه الكلمة من أفواه مشائخ الطرق الذين كانوا دائما، وأبدا يحذرون عوام الناس وخواصهم منها، ووضعوا لها مفهوما خطيرا، تقليدا لغيرهم ممن سمعوا منهم لدعاية خبيثة ماكرة مع علمهم أنها جاءت من أسيادهم المستعمرين الذين كانوا يحكمون البلاد الهندية وغيرها بالحديد والنار لكي يسدوا بها الناس لئلا يقبلوا على هذه الدعوة الكريمة التي جدد الله بها دينه، وأعلى بها كلمته، وكان العدو يخشى من ظهور هذه الدعوة الكريمة، وانتشارها في العالم كله خصوصا في القارات التي كانت تحت سيطرته وبطشه لأن هذه الدعوة الكريمة كانت تقف أمام العدو بالمرصاد وتحول بينه وبين تنفيذ مخططاته الاستعمارية الخبيثة، ولم يكن هذا النوع من الدعوة الكريمة منحصرا وجوده في (نَجْد) وحدها فقط بل كان في كل مكان وزمان، وهناك رجال مخلصون يدعون إلى هذه الدعوة الكريمة إلا أن الدعوة لم تلق دعما قويا، ومساندة فعالة مثالية إلا في ديار نجد على يد الأمراء السعوديين وعلى رأسهم الإمام محمد بن سعود تغمده الله تعالى برحمته ورضوانه وجعل الجنة مثواه وسائر أبناءه وأحفاده رحمهم الله تعالى فتقوى أمر هذه الدعوة السامية فصار لها صدى عظيم في أنحاء العالم وأعدل دليل على ذلك أن من سمع الإذاعة البريطانية في تلك الأيام المباركة التي رجعت هذه البلاد مرة ثانية إلى أهلها كانت تقول الإذاعة البريطانية: إن الجيش الوهابي فعل كذا، وترك كذا ومن هنا كان انتشار هذه الكلمة بمفهومها الخاص في أطراف العالم نعم وصل صوت الدعوة الحلو الرنين من أقصى الدنيا إلى أعلاها، ومن أعلاها إلى أقصاها، في وقت لم تكن وسائل المواصلات موجودة البتة بمثل ما توجد في الوقت الحاضر، إلا أن العدو اللعين الماكر اتخذ بسياسته الماكرة الخبيثة، وحيله الإبليسية دفاعا لنفسه، ومخططاته الاستعمارية سماسرة مأجورين من كل نوع وصنف في كل مكان ممن عرفوا ببيع(11/236)
الضمائر رخيصة للاستعمار وهم ينتسبون إلى العلم زورا، وبهتانا أمثال الشيخ أحمد زيني دحلان بمكة، والنبهاني بالشام، وأحمد رضا خان بالهند وغيرهم عاملهم الله تعالى بما يستحقون.
نعم فاتخذهم العدو واشترى ضمائرهم بمبلغ كبير من المال لكي يشوهوا حقائق هذه الدعوة السامية فأساؤا إليها بتلصيقهم إياها بأنواع من الدعايات المغرضة الفاسدة فحرفوا مبادئها العليا، وقواعدها الرفيعة وفي ضوء تلك الدعاية حرفوا القرآن الكريم ونصوص السنة الصحيحة حسب هواهم الفاسد، فجعلوا لهذه الكلمة (الوهابية) مفهوما خاصا، ومعنى بشعا خبيثا لكي يدندنوا حوله فلما كان نجد قد ورد ذكره في الأحاديث الصحيحة وعدم دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لأهله دون أن يحققوا ما هو النجد المعني في الحديث الشريف، ولم يلتفتوا إلى تلك القرائن الواضحة الظاهرة التي تنطبق على ذلك النجد، وما هو كلام أهل الحديث من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في نجد الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حديثه.. وقد ذكر العلامة ياقوت الحموي في معجم البلدان عشرات من النجود وكذا غيره وليس المراد الذي عينوه هم فتركوا كل هذا مع علمهم ويقينهم أن نجدا الوارد في الحديث ليس هو الذي عينوه، وأشاروا إليه في هذه الدعاية الماكرة الخبيثة الفظيعة التي أقامها الاستعمار وعملاؤه في أطراف العالم على أنقاض هؤلاء السماسرة الدخلاء المأجورين، ومن هنا كان هذا المفهوم الجديد الخبيث شائعا في أطراف العالم وهو أن الوهابية تعادي الرسول صلى الله عليه وسلم وتحرم الصلاة عليه، وهدمت القباب والأبنية التي كانت مبنية على قبور الصحابة وغيرهم رضي الله تعالى عنهم، وكان للاستعمار في كل بلد، وقرية ممثل يقوم بنشر هذه السخافات والترهات، ومن هنا انتشرت ((كلمة الوهابية)) في العالم كله في شرقه، وغربه، وجنوبه، وشماله، بمفهومها الخاص، فانظر فلسفة المستعمر أن الداعي في نجد إلى هذه الدعوة المحمدية كان(11/237)
اسمه بلا خلاف بين جميع المسلمين (محمد بن عبد الوهاب) فكان من الواجب أن تنسب الدعوة بمفهومها الخاص عند هؤلاء بالقياس الصحيح عند جميع أهل اللغة (بالمحمدية) لأن اسم صاحبها والداعي لها ((محمد)) وليس الوهاب إلا أنهم لم يرضوا بهذه النسبة الصحيحة الموافقة للواقع واللغة العربية خوفا على كشف مؤامرتهم الخبيثة أمام عوام الناس من المسلمين وخواصهم لأن الدعوة إذا حملت اسما صحيحا، ونسبة صحيحة فلا بد لها من قبول، وإقبال عليها لأنها تحمل اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت ممن اغتر بهذه الدعاية الماكرة الخبيثة وأنا في بلدي - السند - فلما أكرمني الله تعالى بالهجرة إلى هذه البلاد المقدسة وذلك في عام 1368هـ من بلدي ومسقط رأسي حظيت بلقاء إنسان كريم فاضل جاء من الهند إلى المدينة مهاجرا إلى الله تعالى، وكان حاله سابقا كحالي إلا أنه رحمه الله التجأ بعد الله تعالى إلى مطالعة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن طريق الشيخ العلامة الطيب الأنصاري رحمه الله تعالى فتلذذ بمطالعتها جدا حتى اعتنق العقيدة السلفية عن طريق هذه الكتب النافعة ولا بد من ذكر هذا الرجل رحمه الله تعالى وهو العلامة الأثري الشيخ رشيد أحمد بن إبراهيم الهندي رحمه الله تعالى المتوفى في ذي القعدة عام 1381هـ بالمدينة المنورة وكان رحمه الله تعالى قد أسس بعد اعتناقه العقيدة السلفية مدرسة بناء على موافقة سامية كريمة سماها دار العلوم السلفية، ومن هنا بدأت لي حياة جديدة بلقاء هذا الرجل الكريم فكان يلقي إليّ دروسه في المسجد النبوي الشريف مساء وكان يبكي كثيرا عند إلقائه الدروس في التوحيد فرحا، واستبشارا وكان يقول دائما رحمه الله تعالى لو مت يا بنيّ قبل اعتناق هذه العقيدة الصافية النقية لمت على غير ملة الإسلام، ولما كان يأتي اسم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وكذا اسم الإمام ابن القيم والإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد(11/238)
الوهاب رحمه الله تعالى أثناء إلقائه الدروس كان يترحم عليهم كثيرا ويمجد ذكرهم وشأنهم ودائما يوصي الطلبة بمطالعة كتبهم رحمه الله تعالى وفي تلك الأيام بالذات قد كشف الله تعالى عن قلبي الغطاء ثم عرفت بعد ذلك أن الدنيا والله في غيبوبتها وضلالها إلا ما شاء الله تعالى، ولقد تأكدت حينئذ تماما أن هذه الوهابية المزعومة في أنظار هؤلاء لا تعادي الرسول صلى الله عليه وسلم أبدا وإنما هي التي تحبه وحدها، لما درست عنها دراسة وافية شافية وعما تعتقده في رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي التي توجب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجعلها ركنا من أركان الصلاة، فإن تركها أحد عامدا، أو ناسيا بطلت صلاته عندها وهذا هو مذهب أهل الحديث، وبينما تنص كتب أخرى فقهية والتي تمسك بها هؤلاء الذين أقاموا هذه الدعاية الكبرى فإن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست ركنا من أركان الصلاة عندهم فإن تركها أحد ناسيا سجد سجدتي سهو، فلا تبطل صلاته عندهم، ومن هنا كتب العلامة المحدث الشيخ مسعود علم الندوي كتابا بارعا عظيما في ترجمة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في اللغة الأردية دفاعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن دعوته الكريمة وفند جميع شبه أهل الباطل من عباد القبور والأضرحة التي تمسكوا بها فجزاه الله تعالى أحسن الجزاء، وجعل الجنة مثواه هذا هو مفهوم الوهابية عند النبهاني والدحلان وأتباعهما فقد أكثرا من استعمال كلمة الوهابية في كتبهم ورسائلهم التي سبق الوصف الدقيق عنها. وللمقال بقية في العدد القادم وصلى الله عليه وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
--------------------------------------------------------------------------------(11/239)
[1] من ترجمة المؤلف لشيخنا العلامة محمد بن عبد الله بن سبيل من غاية الأماني في الرد على النبهاني ص10/1.
[2] إتحاف ذوي الهمم العلية ص 26_27.
[3] الإصابة 326/1.
[4] معجم المؤلفين 275-276/13.
[5] الإعلام 229/9.
[6] المائدة: 44– 45– 47 انظر غاية الأماني 53/1.
[7] غاية الأماني في الرد على النبهاني ص59/1.
[8] شواهد الحق للنبهاني ص75_76 من طبعة سنة 1313 بمصر.
[9] أخرجه البخاري: الجهاد 189، مسلم: الإمارة 24ن والإمام أحمد في: السنة 426/2.
[10] فتح الباري 185_186/6.
[11] أخرجه البخاري في الجامع الصحيح.
[12] الإمام أحمد في المسند 206/1.(11/240)
اهتمام القرآن بالعلم
لفضيلة الشيخ أحمد عبد الرحيم السايح
إن من يمعن النظر.. في أعماق الحضارة الإسلامية، وما حققته للإنسانية من أسباب النمو، وعوامل الازدهار.. ويلم بما جاء به الفكر الإسلامي، من مفاهيم تناولت أهم معضلات الحياة..
إن من يتعمق في ذلك.. يدهشه مدى عمق التفكير الواعي، الذي بلغ ذروته علماء الإسلام.. ويتضاعف إعجاب الباحث، بهذا الفيض الزاخر من الجهود العلمية العظيمة التي ملأت الدنيا..
وتزداد دهشة المفكر، ويتعاظم تمجيده، لحركة التحول الخطيرة التي أصابت المجتمع العربي، في تلك الفترة القصيرة..
تُرَى.. أي سر هذا الذي استطاع أن يحول عرب الصحراء، إلى أساطين في العلم، ومشاعل في الحضارة، وأفذاذ في المعرفة، ومنارات في الثقافة؟ وأي قوة رفعت العرب من حال البداوة التي كانوا عليها، إلى أبطال وقادة، غير هيابين ولا وجلين؟.
وترى. . كيف نفسر سرعة تطور العرب من الجاهلية الجهلاء.. إلى الحضارة العلياء، في أقل مدة عرفتها الإنسانية؟.
تقول الكاتبة الألمانية الدكتورة (سيجريدهونكه) : "إن هذه الطفرة العلمية الجبارة، التي نهض بها أبناء الصحراء، من العدم، من أعجب النهضات العلمية الحقيقية، في تاريخ العقل البشري".
وليس من المعقول في نظر المفكر، والباحث، والدارس.. أن يطفر الفكر العربي الذي قيدته ظروف الحياة القبلية الآسنة اليبوس، إلى مثل هذه المرتبة العالية، دون أن تكون هناك الأسباب القوية التي دفعت به إلى الحياة المتحركة دفعا..(11/241)
ومن المُسَلَّم به، أنه لم تظهر قبل الإسلام.. أية دلائل على التطور الفكري من العرب المنتشرين في الجزيرة العربية [1] .. وكان الشعر، والخطابة والتنجيم، أحب شيء إلى عرب الجاهلية إذن.. ما هي تلك الأسباب التي استقى منها الفكر العربي، مادة حيويته، وتطوره؟ وما هي الموارد التي نهل منها أسباب تكامله، وقوته؟؟..
إن المنبع الأول والأصيل في كل ذلك.. هو: القرآن الكريم.. وذلك أن القرآن، لم يكن كتاب دين يحث على العبادة فحسب.. وإنما كان إلى جانب تأكيد وحدانية الله، وما يتبعها من عقائد، وعبادات، وأوامر، ونواهي، كان أعظم الدساتير التي عرفتها الإنسانية، في تاريخها الطويل الممتد عبر الزمن.. وذلك بما تضمنه من القواعد الرصينة الكفيلة بقيام المجتمع الإنساني الصالح.
ولقد كان أول أثر من آثار القرآن في الفكر الإنساني.. اهتمامه الواسع بالعلم.. وذلك أن العلم أساس التقدم والتعاون، وتبادل الخبرات والمنفعة، وقد كانت عناية القرآن بالعلم.. تفوق حد الوصف..
تأمل القرآن وتدبر آياته، تجده يدعو إلى تحكيم العقل والمنطق، في مظاهر الكون، وأحداث الماضي..
ولقد اشتمل القرآن على ستة آلاف ومائتين وستة وثلاثين آية.. منها سبعمائة وخمسون آية كونية وعليمة.. احتوت أصولا وحقائق تتصل بعلوم الفلك والطبيعة، وما وراء الطبيعة، والأحياء، والنبات، والحيوان، وطبقات الأرض، والأجنة، والوراثة، والصحة، والصحة الوقائية، والتعدين والصناعة، والتجارة، والمال، والاقتصاد، إلى غير ذلك من أمور الحياة.. واحتوت باقي الآيات على الأصول والأحكام في المعاملات، وعلاقات الأمم والشعوب، في السلم والحرب، وفي سياسة الحكم، وإقامة العدل، والعدالة الاجتماعية.. وكل ما يتصل ببناء المجتمع..(11/242)
وهذا كله بخلاف العبادات، والعقائد، والتكاليف، والقصص، والمواعظ، والأمثال، وغير ذلك من شتى أمور الدين والدنيا.. مما كان محلا للدراسة والاستنتاج، والتخريج، والتأصيل، والبحث، والتنقيب.. وكان أساسا لعلوم الفقه، والتفسير، والحديث والأصول، والأخلاق، والبلاغة، والنحو، والأدب.. ذلك أن القرآن من العمق، والاتساع، والعموم، والشمول.. بما يقبل تفهم البشر له.. أياً كان مبلغهم من العلم، وبما يفي بحاجاتهم في كل عصر، ويتجاوب مع أهل البداوة في يسر، ويبهر في عمقه أهل الحضارة الذين صعدوا في سلم الرقي، وبرعوا في فنون العلم والمعرفة.
واسم القرآن نفسه مشتق من القراءة، والقراءة أدنى مفاتيح العلم للإنسان.. وللقراءة أهميتها الكبرى، في التقدم العلمي والفكري.. وما دام الإنسان يقرأ فإنه إلى نمو ثقافي رائع..
وأول ما تنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، خمس آيات.. هي قوله تعالى..: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ..
فالقراءة مفتاح العلم، والطريق الدائم للمعرفة.. لذلك كما ترى كان الأمر القرآني الأول لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمرا متكررا للقراءة، وأوضحها مؤكدا ما رمى إليه من معنى وهو: العلم، والتعلم، والتعليم.. بكل ما تحمله الكلمات الثلاث في أصلها الصرفي من أبعاد خيرة، ومجالات نافعة.. [2](11/243)
وزاد القرآن التأكيد بذكر القلم.. والقلم من أعظم نعم الله على عباده.. إذ به تخلد العلوم، وتثبت الحقوق، وتعلم الوصايا، وتحفظ الشهادات، ويضبط حساب المعاملات الواقعة بين الناس.. وبهذا تقيد أخبار الماضين للباقين اللاحقين.. ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض ودرست السنن، وتخبطت الأحكام، ولم يعرف الخلف مذهب السلف. وكان معظم الخلل الداخل على الناس، في دينهم، ودنياهم، إنما يعتريهم من النسيان الذي يمحو صور العلم من قلوبهم، فجعل لهم الكتاب وعاء حافظا، من الضياع.. كالأوعية التي تحفظ الأمتعة من الذهاب والبطلان [3] .
وأول قسم في القرآن أقسم به رب العزة.. صدر بحرف من حروف الهجاء، وكان بالقلم وبما يسطر العالمون..قال تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} .
فأول سورة نزلت من القرآن.. سورة العلق.. ومن العلق يخلق الإنسان، وكانت السورة التالية لسورة العلق، هي سورة القلم، وبالقلم يكتب ويتعلم الإنسان..
فإنسانية الإنسان لا تكون إلا بالخلق، ولا تتم إلا بالعلم..
وما ألطف قول الشاعر:
إذا افتخر الأبطال يوما بسيفهم
وعدوه مما يكسب المجد والكرم
كفى قلم الكتاب مجدا ورفعة
مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم
وأقسم الله سبحانه وتعالى في سورة القلم.. بالقلم والكتب، فتحاً لباب التعليم بهما، ولا يقسم ربنا إلا بالأمور العظام. فإذا أقسم بالشمس والقمر، والليل والفجر، فإنما ذلك لعظمة الخلق، وجمال الصنع، وإذا أقسم بالقلم والكتب، فإنما ذلك ليعم العلم والعرفان وبه تتهذب النفوس، وترقى شئوننا الاجتماعية والعمرانية [4] .
وما أروع لفظ {وَمَا يَسْطُرُونَ} حيث يشمل كل فنون الكتابة والتعبير عما في الضمير، بالرسم، والرمز، ويشمل كل آلة أو نظام استحدث للتوصل إلى ذلك، من آلات، ومعدات حدثت أو ستحدث [5] ..(11/244)
والقرآن.. يهتف بالإنسانية: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} ..
وبجانب هذا يرفض أن يقف بالعلم عند حد.. بل يفتح للإنسانية باحة ليس لها نهاية..
ولقد وضع القواعد السليمة، لوزن المعلومات، وتمييز صحيحها من زائفها. فقرر أن المسائل لا تأخذ الطابع العلمي، ولا ترقى إلى درجة المعلومات.. إلا إذا قامت عليها بينة، واستندت إلى دليل، ومن ثم كان القرآن ولا يزال ينادي دائما: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .. {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} ..
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} .
وهذه الآية الأخيرة.. تنهى عن اتباع ما لم يقم به علم يستند إلى حجة سمعية، أو رؤية بصرية، أو براهين عقلية.. وهي طرق الاستدلال التي تنحصر في العقليات، والسمعيات، والمحسوسات..
وهذا الميزان الذي وضعه القرآن دفع بالناس دفعا، إلى تلمس الأدلة، ومعرفة ما يفيد المجتمع.. قال تعالى في سورة البقرة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ..
فأمعن الناس فكرهم في هذا الكون الفسيح، وأنعموا النظر فيما حوى من عجائب، ليستغلوا ما حواه من موارد.
وتتكرر كلمة العلم بجميع اشتقاقاتها وتصريفاتها في سور وآيات القرآن تكرارا، يكفي لتقدير منزلة العلم والعلماء..(11/245)
وكلمة العلم في القرآن عامة.. تشمل مختلف أغراضه ومراميه.. ويرشدنا هذا العموم، إلى أن العلم في القرآن، ليس خاصا بعلم الشرائع والأحكام.. إنما المراد هو كل علم يفيد الإنسان، توفيقا في القيام بمهمته، التي على كاهله، منذ قدر الله خلقه، وجعله خليفة في الأرض..
فإدراك ما يصلح النبات والأشجار علم.. وإدراك ما يصلح الحيوان والطير علم.. وإدراك موارد الصناعية وكيفياتها علم.. وإدراك الأمراض وعللها والوقاية منها علم.. وإدراك الأمم لكل ما يفيد المجتمعات الإنسانية علم..
فالعلم في القرآن يشمل كل أنواع المعرفة، التي تتصل بكل ما يفيد الناس، في دينهم، ودنياهم، وفي معاشهم ومعادهم، وفي أجسادهم وأرواحهم. ولهاذ كله.. فسح القرآن مجال العلم للعقل الإنساني، وتعدى به أسوار الطبيعة وتغلغل به في أسرار الكون والحياة.. ولم يقف به عند حدود الماديات الطبيعية، بل تعداها إلى كل شيء في الحياة يفيد المجتمع، ويعود عليه بالتقدم والرقي.. ومن هذا المنطلق.. عرف المسلمون منزلة العلم وفضله.. وأدركوا مبلغ الحاجة إليه.. وأنه هو الذي يوضح لهم معالم الطريق، ويفتح أمامهم آفاق الحياة.. فوجهوا عزائمهم إلى طلب العلوم.. ولم يشغلهم عنها ترف الحضارة، ولا ثنت عزائمهم بأساء الحياة وضراؤها.
بحثوا عن العلوم حتى أقاموا لها في كل قطر منارا عاليا، وحملوا مشاعلها مشارق الأرض ومغاربها.. ولم يقفوا بجهودهم عند نتاج عقولهم وأفهامهم بل اتجهوا بها أيضا إلى علوم السابقين.. يدرسونها، ويمحصونها، ويأخذون عنها، ويزيدون عليها، ما هداهم إليه البحث، والنظر، والاستدلال.. فاستخرجوا العلوم من زوايا الإهمال والنسيان، وزادوها نقاء وصفاء، وكانوا يطلبون العلوم طلب الناقد البصير.
وبهذه النهضة العلمية.. استطاعوا أن يعملوا عمل الأقوياء، لأن العمل لبناء المجتمعات لا يصدر إلا عن إرادة قوية، والإرادة القوية لا تأتي إلا من العلم..(11/246)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] بل قد ظهرت بوادر التطور الفكري قبيل البعثة النبوية ويبدو جليا في شعر الحكماء وخطبهم، وكان ذلك ضروريا لإقدار العقل العربي على فهم المعاني العليا التي جاء بها الإسلام. - المجلة
[2] انظر استراتيجية العالم الإسلامي. مجموعة محاضرات وزارة الحج والأوقاف ص17.
[3] تفسير القاسمي ج17 ص6209.
[4] تفسير المراغي ج19 ص27.
[5] التفسير الواضح ج29 ص13.(11/247)
القدرة المطلقة تستوجب العجز المطلق
لفضيلة الشيخ السعيد الشربيني الشرباصي
المدرس بدار الحديث المكية
إن ما تراه العيون والأبصار من صنعة البديع الخلاق في الفضاء والآفاق تسوقها إلى الإيمان المطلق بالله القدير الصانع لهذا الوجود.
وإذا ما استقر هذا الإيمان في القلب واستخدم الإنسان العقل والفهم وجد أن الاعتراف بالقدرة المطلقة يستلزم الإقرار بالعجز المطلق، الشامل لكل ما في الكون من خلائق وحقائق، ومن مقدمات ونتائج وغايات ووسائل …
والعجز الشامل المطلق يلغي الواسطة والحيلة، ويجعل المؤمن المفكر يقر بعدم ارتباط التأثير في المسبب للسبب، أو خضوع النتيجة للمقدمة، أو استتباع الغاية للوسيلة. لأن ارتباط هذه الأشياء ببعضها ليس ارتباطا ذاتيا، وإنما هو ارتباط عارض جاء تنظيما من الله سبحانه وتعالى لهذا الوجود. فالمصدر الأصلي لهذا الارتباط إنما هو إرادة الله تعالى. حتى أننا لنجد هذا الارتباط ينفك تماما عندما يريد الله ذلك مثل ما حدث لإبراهيم عليه السلام حينما أراد العلي العظيم ذلك فقال: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} وفي المسند عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم".
وقدرة الله تعالى واضحة وظاهرة، وثابتة وشاخصة، ومشهودة ومحسوسة وعجز المخلوق يشهد له الواقع، وتبديه التجربة. وكل من القدرة والعجز شاهد على صحة الآخر. فعجز المخلوق دليل على قدرة الخالق، وقدرة الخالق المطلقة دليل على عجز المخلوق البالغ والشامل {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} .(11/248)
وإنا لنرى عجز الإنسان واضحا حتى فيما يظن أنه يملكه ويختص به ومن شأنه هو، كفضائله الذاتية وخصائصه البدنية. إذ أنه لا يستطيع نقل هذه الفضائل وتلك الخصائص إلى أحب الناس إليه وهم أولاده، إلا إذا أراد الله ذلك. فالقوي لا يملك بالحتمية أن يجعل ابنه قويا إلا إذا أراد الله ذلك. والذكي لا يمنح ابنه ذكاءه إلا بمشيئة من الله تعالى. والجميلة لا تأتي ابنتها جميلة، والقبيحة قد تأتي ابنتها جميلة، ورغم ما يقال عن قانون الوراثة فإن تناقضه وتخلفه كثيرا من جيل إلى جيل يرد الأمر إلى القوة الخفية التي تدير القانون وتنفذه أو لا تنفذه، وتمضيه أو تثنيه. {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .
فإذا تركنا ما هو مرتبط بذات المخلوق إلى ما يعرض له من عوارض نجد أن الحال واحد لا يختلف الأمر فيهما. فالإنسان لا يملك أن يجعل ولده سعيدا أو شقيا، غنيا أو فقيرا، عظيما أو حقيرا.
وإنما هي عيوننا الشاخصة صوب السماء بأحر الدعاء تسأل الله أن يجعلهم سعداء أغنياء، وأن يجنبهم الفقر والشقاء.
وإننا لنجد أحرص الناس على المال قد يرزقون بأفسد الأولاد للمال. وقد نجد أنشط الناس للجد والعمل يرزقون بأولاد لا يفهمون للحياة معنى سوى النوم والكسل، والتواكل والفرار من المسؤولية.(11/249)
ويستمر العجز البشري واضحا ومنطلقا في مداه، فالذين يحلمون بالأطفال قد يعيشون عقما، والذين لا يريدون أطفالا قد يولد لهم توائم. ومن أراد الذكور تأتيهم الإناث.. ومن يريدون الإناث تأتيهم الذكور. والمريض الذي تجمعوا حوله يعدون ساعاته قد ينشط ويعمر، والقوي الوثاب قد يسقط فلا ينهض، والمتخلف الذي سبق، والسابق الذي تخلف، والتلميذ الذي تحول أستاذا لأستاذه، والأستاذ الذي تتلمذ على تلميذه، والصفقة التي توقع صاحبها أن تكون مصدر الغني والثراء، فكانت باب الفقر والخراب، والتجارة البائرة التي تحولت إلى صفقة رابحة فأعزت وأغنت صاحبها. والصديق الذي أمنته فخان، والعدو الذي خفته فكان أمنا وسلاما..
والجبابرة الذي صرعوا بأتفه الأسباب والمستضعفين الذين اضطهدوا فورثوا الأرض وعمروها. والجميلة التي شقيت بجمالها، والقبيحة التي فتحت لها الآفاق صور لا حصر لها ولا عد كلها تثبت العجز المطلق للمخلوق حتى فيما يظن أنه مصدر لقوته واعتداده. وفي الوقت ذاته تثبت القدرة المطلقة للواحد الخلاق سواء فيما يدخل في كسبنا أو لا يدخل في قدرتنا.
ومن هنا ندرك أن أمر الهداية وهي شيء أعلى وأجل من الصفات البدنية والخصائص الجسدية ومن العوارض الدنيوية والمظاهر المعيشية متروكة لله وحده لا شريك له ولا معين. وحينما نؤمر بالدعوة إنما ننفذ الأمر فقط والنتيجة لله سبحانه وتعالى، وهو الذي يهدي من يشاء. وهذا هو الخطاب الذي وجهه الله إلى خير الدعاة وأفضل الرسل قائلا له: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} .
ولقد كان عليه الصلاة والسلام في بداية الدعوة حريصا كل الحرص على إيمان قريش واستجابتها له، ودخول نفر من آله إلى الدعوة ولكن ذلك لم يتم إلا عندما أراد ذلك ولمن أراد الله له ذلك!..(11/250)
وقديما عجز نوح عليه السلام عن أن يفعل شيئا لأعز الناس عليه: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} .
فلا عاصم اليوم والغد والأمس لأحد إلا لمن رحم ربك ولمن شاء له الهداية والتوفيق. وسواء كانوا من أصلابنا أو كانوا أحبابا ورفقاء لنا فالأمر دائما لله، وقد جاء هذا الأمر إلى لوط: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} .
وهكذا كتب الله على امرأة لوط عليه السلام ما كتبه على العصاة والمخالفين {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} .
وفي قصة يوسف عليه السلام لا يختلف الحال، وإن فيها لآيات للسائلين والمفكرين حينما تجمع إخوته عصبة وقرروا أن يقتلوه أو يطرحوه أرضا، ولكن يعقوب عليه السلام يقول لهم: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ويرد الأمر لله وحده ويستعين به ويعود يوسف مكرما معززا بفضل الله لا يضره ما كان وما دبر.
كل هذه العبر تدعو المسلم إلى التطلع للسماء والنظر إلى خالق الكائنات وحصر الرجاء في الله، وقصر الطلب عليه. وندائه وحده وترك الاعتماد على من عداه. لأن غيره مسكين من المساكين، ومخلوق من المخلوقات. وعبد من عباد القوي الجبار.(11/251)
ألا ما أضل الإنسان حينما يغلق عيونه عن نور السماء، وما أهونه حينما يتعلق بأوهى الأسباب من المخلوقات، وما أضعفه حينما يعتمد على ضعيف مثله..
وما أقواه حينما يمضي في طريقه معتمدا على الله، مرتكزا على الثقة فيه، مستلهما العون منه، معتصما بحوله وقوته مستنصرا بنصره {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} .(11/252)
مسجد الملك فيصل في البرازيل
للشيخ أحمد واكد
جاءنا من السيد أحمد واكد نائب رئيس الجمعية الخيرية الإسلامية في لوندرينا البرازيل ما يأتي:
تلقت الجمعية الخيرية الإسلامية في مدينة كويابا بالبرازيل مساعدة سخية من المملكة السعودية لإنشاء جامع في كويابا عاصمة ماتوكروسو. وقد حمل المساعدة إلى الجمعية الشيخ أحمد صالح المحايري مبعوث رئاسة البحوث العلمية السعودية بتكليف من سعادة السفير السعودي الدكتور مأمون القباني.
وفي شهر شعبان الماضي (أغسطس) أقامتْ الجمعية احتفالا رسميا بمناسبة وضع الحجر الأساسي لهذا الجامع حضره سفراء الدول الإسلامية والعربية الذين وصلوا إلى كويابا في العاصمة البرازيلية بطائرة تابعة لسلاح الجو البرازيلي وهم السادة: السفير السعودي والتركي والإيراني، والعراقي والباكستاني والسوري واللبناني والجزائري والمصري، مع الملحق الثقافي السعودي والوزير المفوض الإيراني، وهؤلاء يمثلون المركز الإسلامي الذي تم إنشاؤه مؤخرا في برازيليا وتديره الدول الإسلامية الأعضاء بواسطة سفرائها.
وكان في استقبالهم حاكم الولاية كارسيا نيتون وكبار الرسميين المدنيين والعسكريين وجموع غفيرة من أبناء الطائفة الإسلامية والعربية. وبعد أن أُلقيتْ عدة كلمات في الحفل ألقى سعادة السفير السعودي الدكتور مأمون القباني كلمة المركز فقال: "إنه ليشرفنا أن نضع باسم المركز الإسلامي الأحجار الأولى لجامع كويابا". وقد نقل في كلمته استعداد المملكة السعودية لتقديم كافة المساعدات الثقافية الإسلامية لمستحقيها في كل مكان..
وقد نظم الحفل وأعد له وأجري من أجله كافة الاتصالات الرسمية الشيخ أحمد المحايري مبعوث رئاسة إدارات البحوث العلمية السعودية في البرازيل.(11/253)
وبعد عشرين يوما من احتفال الطائفة الإسلامية في كويابا.. احتفل المسلمون في مدينة لوندرينا البرازيلية، بتدشين جامع الملك فيصل الذي تم بناؤه مؤخرا بمساعي الجمعية الإسلامية فيها. وبدعم مالي من المملكة السعودية.
وقد كان الاحتفال أكبر تجمع إسلامي شهدته البرازيل إذ توافد إلى لوندرينا ممثلوا المؤسسات الإسلامية والعربية في البرازيل وبعض الديبلوماسيين العرب والمسلمين كما حضر وجهاء المنطقة من رسميين وصحفيين. وقد دعي للحفل سماحة الرئيس العام الشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ حفظه الله الذي أيد المشروع وهنأ المسلمين واعتذر ببرقية عن الحضور لظروف طارئة وأوكل الشيخ أحمد صالح المحايري لينوب عنه في الحفل.
كما دعي معالي الأمين لرابطة العالم الإسلامي الذي أرسل برقية ينيب فيها ممثل الرابطة الشيخ عبد العزيز العناني. كما دعيت الجامعة الإسلامية بسماحة رئيسها العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله وقد وردت برقية من سماحة الشيخ عبد المحسن العباد يهنئ المسلمين لنجاح مشروعهم.. كما وردت برقية السكرتير العام للرئاسة سماحة الشيخ محمد ناصر العبودي الذي اعتذر فيها أيضا عن تلبية الدعوة. وقد قرأت البرقيات في الحفل وترجمت إلى اللغة البرتغالية.
افتتح الحفل إمام الجامع الشيخ المحايري الذي رحب بالحضور جميعا وقال: "إن كان البعض يتساءل عن أهمية هذا الجامع الجميل في هذا البلد النائي عن مهبط الوحي، ومدى فعاليته في هذا المحيط، فإني بكل فخر أقرر أنه سيلعب إن شاء الله نفس الدور الذي لعبه المسلمون في فجر الإسلام لما انطلقوا من بلادهم، وسيكون مركزا يشع نورا وهداية للعالم التائه الضال بحضارة المادية التي لا تمت إلى الأخلاق الروحية والقيم بصلة. وفي مقامي هذا أطلب الرحمة للذي دعم هذا المشروع واعتنى به بتقديم العون له؛ ألا وهو جلالة الملك فيصل رحمه الله تعالى وطيب ثراه".(11/254)
وبعد أن ألقى الشيخ العناني كلمة الرابطة وألقت بقية الوفود كلماتها التي تعبر جميعها عن فرحة المسلمين بنعم الله. وقف سماحة الشيخ محمد أبو السمح الملحق الثقافي وممثل المركز الإسلامي وألقى كلمة طيبة تعرض فيها لوجوب تكاتف المسلمين، وخاصة في المهجر عندما يكونون هم الأقلية ثم أبدى فضيلة أبو السمح إعجابه بالإنجازات التي حققتها بعثة رئاسة البحوث العلمية والممثلة في الشيخ المحايري إلى جانب البعثات الأخرى في الميدان الإسلامي وحقل الدعوة في المهجر وقال سعادته: "إني أكبر رجال هذه الجمعية الأشبال الذين استطاعوا بالتعاون مع شيخهم إنجاز مشروع بيت الله في أقرب وأخصر وقت إذ أن مسجدا واسعا كهذا يحتاج إلى المزيد من الوقت ولكن بركة الله يسرت كل عسير".
واختتم الحفل حاكم الولاية الذي قال: "إن كنت أفخر بشعبي فإني أفخر بالمسلمين منهم الذين نظموا أنفسهم في جمعية قامت بخدمات ثقافية كبيرة قدمتها للبرازيل".(11/255)
العبادة حق لله وحده
إبراهيم بن علي الدغيري
نشرت مجلة (العقيدة) التي تصدر عن دار العقيدة في (مسقط) عمان ورئيس تحريرها سعيد السمحان الكثيري في عددها 58 السنة الرابعة تاريخ 3 صفر عام 1395 الموافق فبراير 1975 كلمة بعنوان: (انطفأ كوكب الشرق) وقد جاء فيها ما نصه:
أعلن الحداد في كل بيت مصري وعربي على أم كلثوم التي كانت معبودتهم التي لا نظير لها على مر العصور ...
وهذه الكلمة تتنافى مع العقيدة الإسلامية التي سميت المجلة باسمها ونأسف كل الأسف أن من يدعي الإسلام يفتري هذه الفرية على أهل مصر وغيرهم من العرب، لأن كل مسلم يعبد الله جل وعلا.. ولا يجوز له عبادة غير الله لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، فكيف تكون أم كلثوم معبودتهم!؟ فهذا الناشر قد ارتكب فرية كبيرة بنسبته إلى المصريين وغيرهم من العرب عبادة أم كلثوم، لأن من عبد مع الله غيره فهو مشرك كافر بالله، ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار.. فنحن العرب أهل عقيدة إسلامية نرد هذا المقال على قائله وناشره.. فالعقيدة الإسلامية هي عقيدتنا نبرأ إلى الله من كل ما يخالفها والسلام.(11/256)
من الصحف والمجلات
((نظرة محمد إقبال إلى العلوم والآداب))
إعداد العلاقات العامة
إن الأدب موهبة كبيرة من مواهب الله وقوة عظيمة يحدث به صاحبه انقلابا في المجتمع، وثورة فكرية، يضرب به الأوضاع الفاسدة الضربة القاضية. ويملأ القلوب حماسة وغضبا. ويشعل البلاد نارا، ويملأ النفوس قلقا واضطرابا، وتذمرا من الشر، وتطلعا إلى الخير، فلابد أن يكون في قلم الأديب والشاعر التأثير الذي هو أشبه بعصا موسى وأن يؤدي رسالته في العالم. وكل أدب استغل لجمع المادة أو إرضاء الأغنياء والأثرياء أو إثارة الشهوات. أو على الأقل كان أداة للهو والتسلية، والتذوق بالجمال والتغني به.. فهو أدب ضائع مظلوم استعمل لغير ما خلق له، ولغير ما وهب له.
ويعتقد محمد إقبال أن الأدب لا يصل إلى الذروة العليا حتى يستمد حياته وقوته من أعماق القلب الحي، ويسقى بدمه.(11/257)
عرف الشاعر صديقا له من الهاشميين قد أثرت فيه الفلسفة تأثيرا كبيرا. وتزلزلت عقيدته الإسلامية.. فكتب إليه محمد إقبال قصيدة. يقول: "أنا رجل كما تعرف أنتهي في الأصل إلى سومناه (المعبد الوثني المعروف في الهند) وكان - أي المعبد - من عباد اللات ومناة، وإن أسرتي عريقة في البرهمية ولكن يجري في عروقك دم الهاشميين وتنتمي إلى سيد الأولين والآخرين وقد امتزجت الفلسفة بلحمي ودمي. وجرت مني مجرى الروح. أنا وإن كنت لا أحسن شيئا فلا شك أني نزلت في أعماق هذه الفلسفة. وتغلغلت في أحشائها، وبعد ذلك أقول: إن الحكمة الفلسفية ليست إلا حجابا للحقيقة وإنها لا تزيد صاحبها إلا بعدا عن صميم الحياة. وأن بحوثها وتدقيقاتها تقضي على روح العمل. هذا (هيجل) الذي تبالغ في تقديره إن صدفته خالية من اللؤلؤة وأن نظامه ليس إلا وهما من الأوهام. لقد انطفأت شعلة القلب في حياتك أيها السيد؟ وفقدت شخصيتك. فأصبحت أسيرا، لبرجسان إن البشرية تريد أن تعلم كيف تتقن حياتها وكيف تخلد شخصيتها. إن بني آدم يطلبون الثبات ويطلبون دستورا للحياة. ولكن الفلسفة لا تساعدهم في ذلك بالعكس من ذلك. إن المؤمن إذا نادى الآفاق بأذانه أشرق العالم واستيقظ الكون.
إن الدين هو الذي ينظم الحياة. وإنه لا يكتسب إلا من إبراهيم ومحمد فعليك أيها السيد بتعاليم جدك صلى الله عليه وسلم إلى متى يا ابن علي - رضي الله عنه - تقلد أبا علي (ابن سينا) إذا لم تكن بصيرا بالطريق فالقائد القرشي (يعني رسول الله صلى الله عليه سلم) خير لك من القائد البخاري (يعني ابن سينا) .
عن مجلة البعث الإسلامي المجلد 19.(11/258)
ماذا تعرف عن ... الكبد. ..؟
للدكتور سيد أحمد عبد البر
أخصائي الأمراض الباطنية بالجامعة
- إذا كنت واحدا ممن يغرمون بالمعلومات الطبية.
- إذا كنت واحدا ممن يغرمون بمعرفة حقائق طبية عن جسم الإنسان.
- فإني أدعوك لقراءة هذه الصفحات ففيها بعض اللقطات السريعة عن الكبد.
من أجل صحتك.....
أكبر عضو في جسم الإنسان هو الكبد ويزن حوالي 2% من وزن الجسم أي حوالي واحد ونصف كيلوجرام. ومهما قام العلماء ببحوثهم فإن الأيام تؤكد أن الكبد مليء بالأسرار.
ويقع الكبد في الجزء الأيمن العلوي من التجويف البطني تحت الضلوع ويصل سطحه العلوي إلى حلمة الثدي الأيمن ويمتد هذا السطح إلى حلمة الثدي الأيسر وهو يقع تحت الحجاب الحاجز مباشرة وهو الذي يفصله عن القلب والرئتين.
والكبد ينقسم إلى عدة أجزاء تسمى الفصوص وله أربطة كثيرة تربطه بالحجاب الحاجز والمعدة والإثنى عشر وله بوابة يدخل منها الدم من القلب إلى الكبد وتبلغ كمية الدم الداخلة عن هذا الطريق حوالي 300 سنتيمتر مكعب في الدقيقة. وكذلك الوريد البابي وهو يحمل الدم من المعدة والأمعاء والبنكرياس والطحال إلى الكبد وتبلغ كمية الدم الداخلة عن هذا الطريق حوالي 200 سنتمتر مكعب في الدقيقة.
وبعملية حسابية بسيطة تجد أن كمية الدم الواردة للكبد في الدقيقة تساوي وزنه تقريبا.
ويجدر الذكر هنا أن كمية الدم في الدورة الدموية لجسم الإنسان تبلغ حوالي 6 لتر فإن هذه الكمية تقريبا تصل الكبد كل دقيقة.
ويخرج الدم من الكبد بواسطة الأوردة الكبدية ليعود إلى القلب وتتم الدورة الدموية.
ويوصل الكبد بالإثنى عشر قناة هي قناة الصفراوية وهي تحمل العصارة الصفراوية من المرارة إلى الأمعاء لتؤدي دورها في عملية الهضم.(11/259)
ويفرز الكبد حوالي لترين من السائل المراري في اليوم، ومن المعلوم أن الجسم لا يحتاج إلى هذا السائل إلا أثناء عملية الهضم فقط..وعلى هذا الأساس لابد أن يكون هناك مخزن لتخزين العصارة الصفراوية وهي كيس المرارة وبها تتم عملية تركيز هذا السائل بين كل وجبة وأخرى، وحجم السائل المراري هنا 600سنتمتر مكعب يتم تركيزها 20 مرة فيصبح 30 سنتمتر مكعب وهو حجم الحويصلة المرارية فإذا فقدت المرارة قدرتها على التركيز فإنها بذلك تكون قد فقدت وظيفتها الأساسية وفي هذه الحالة من المستحسن بل من الضروري إزالتها واستئصالها حتى لا تكون سببا في متاعب يتعرض لها صاحبها حيث أن وجود المرارة الغير قادرة على التركيز له أضراره حيث أنها قد تلتهب وتبدأ في تكوين الحصوات.
وكبد الإنسان معمل متقدم جدا يقوم بوظائف وأعمال لا يقدر عليها أكبر وأحدث المعامل في العالم، إنه معجزة من معجزات الخالق جلّت قدرته فإنه يقوم بوظائف عديدة منها:
- تكوين السائل المراري الذي يساعد على الهضم وعلى امتصاص فيتامين "أ "وفيتامين "د " ويترتب على نقص في فيتامين "د "نقص الكلسيوم في الدم ونقص فيتامين "ك "اللازم لتجلط الدم، كما يترتب على ذلك نقص فيتامين "أ "الذي يسبب العش الليلي.
- تحضير مواد هامة ولازمة لتجلط الدم.
- الكبد له دور هام في تمثيل البروتينات وتموين الجسم ببروتينات الدم اللازمة لأكثر العمليات الحيوية في الجسم.
- تكوين بعض الإنزيمات في الجسم والتحكم فيها.
- تعطيل عمل الهرمونات الزائدة عن احتياج الجسم.
- المساعدة على تكوين الدم.
- تخليص الدم من المواد العالقة به والجراثيم.
- يقوم الكبد بامتصاص السكر من الدم ويقوم بتحويله إلى مركب آخر يسمى (جليكوجين) ويخزن في الكبد على هذه الصورة ويقوم الجسم بحسب ما يحتاجه من السكر من هذه المادة المخزنة حسب حاجة الجسم.
سكر(11/260)
جليكوجين (يخزن في الكبد)
يتحول في الكبد
عند الاحتياج
سكر
- يقوم الكبد بعمل اليولينا حتى يمكن إفرازها بعد ذلك بواسطة الكلية.
- يقوم الكبد بتخليص الجسم من مواد ضارة وسامة مثل الكينين والأقراص المنومة والفوسفور.
- يقوم الكبد باختزان السكريات والدهنيات والبروتينات والفيتامينات لاستبدالها عند الحاجة.
وحينما يمرض الكبد فإنه يفقد السيطرة على وظائفه هذه أو بعضها وهنا تبدأ المتاعب.
ولنتكلم هنا في هذا الحديث عن بعض أمراض الكبد الشائعة وطرق الوقاية منها:
أولا: الالتهاب الكبدي:
تحدث العدوى للإنسان من أحد طريقين:
1- عن طريق الطعام الملوث تماما كما يحدث في التيفود فإن براز المريض يحمل الفيروس المسبب للمرض ومن هنا تنتقل العدوى بالوسائل المألوفة التي ندخل تحت بند عدم مراعاة الاهتمام بالنظافة وتحدث الحالة عادة في الصغار والشباب وبعد التعرض للميكروب بمدة تتراوح بين أسبوعين وستة أسابيع وتسمى دور الحضانة.
فإذا كنت مخاطا لمريض يجب عليك اتباع الشؤون الصحية العامة ويستحسن تعاطي حقن جاما جلوبيولين. فإذا أعطيت هذه الحقنة في فترة مبكرة أو في أي وقت من دور الحضانة المذكور فإن هذه الحقن تمنع ظهور المرض وتعطي مناعة منه لمدة حوالي ستة شهور وعلى هذا يجب إعطاء هذا العلاج للسيدات الحوامل المخالطات للمريض حيث أن لهذا المريض خطورة خاصة على الحوامل.(11/261)
2- عن طريق الدم ويكون ذلك عن طريق حقنة ملوثة بفيروس هذا المريض سواء كانت من الوريد أو في عضل أو تحت الجلد. والوقاية هنا تكون بتعقيم الحقنة وليكن مفهوم هنا بأن مجرد غلي الحقنة لا يقوم بعملية التعقيم وهكذا قد يحقن الممرض مريضا بالتهاب كبدي وبائي فينقل العدوى إلى الحقنة التي يستعملها في حقن مريض آخر فينقل إلى المريض. وهنا أقول بأن مجرد غليان الحقنة في الماء لا يقتل الفيروس ولا يعقم الحقنة. والنصيحة هنا هو تخصيص حقنة للبيت بحيث يكون مضمونا بأن الحقنة لم تتلوث من مريض آخر في بيت آخر.
والمرض هنا لا يظهر إلا في مدة حوالي شهرين. وقد يتحول المريض إلى حامل للميكروب بعد شفائه..ويظل مصدرا للعدوى لمدة خمس سنوات. وهذا المريض عندما يتبرع بدمه يسبب المرض للأشخاص الذين سينقل إليهم الدم والملاحظ أن هذا النوع يحدث في أي سن.
الشفاء الكامل من هذا المرض مضمون ولكن الراحة التامة ضرورية - ممنوع ترك الفراش – ويجب أن يطبق المريض نظام العلاج بدقة شديدة وإلا فشل العلاج وأصبح الالتهاب مزمنا وأصبح علاجه مشكلة كبيرة. وعندما يحدث المرض لابد أن يلزم المريض فراشه ولا يتركه فالراحة التامة في الفراش مفيدة فهي تزيد الدورة الدموية بالكبد وتساعد على زوال الالتهاب..ولذلك تعتبر الراحة في هذا المرض العلاج الأساسي، ومغادرة الفراش قبل المدة المقدرة قد تسبب نكسة أو مضاعفات.
أما عن غذاء المريض فإنه في أولى مراحل المرض ينصح بأكل الخضار المسلوق الكثير النشويات أما في دور النقاهة فيجب تعاطي الغذاء العالي البروتين الكثير النشويات والسكريات والابتعاد عن الدهنيات.
ويجب على المريض زيارة طبيبه بعد مغادرة الفراش مرة كل شهر لمدة ثلاثة أشهر متوالية على الأقل.
وإنني أكرر بأنه باتباع التعليمات والمحافظة على العلاج ونظام الأكل فإن الشفاء كامل ومضمون إن شاء الله.
ثانيا: خراج الكبد الأميبي:(11/262)
من وظائف الكبد أن يقوم بتقطير الدم الواصل من الأمعاء وهكذا قد تصل إليه بعض الجراثيم أو الطفيليات وبذلك قد تحدث هذه الجراثيم بعض الالتهابات بالكبد ومنها خراج الكبد الأميبي عندما تصل الأميبا التي تسبب (الدوسنتاريا) إلى الكبد عن طريق الأوردة القادمة من الأمعاء الغليظة فتسبب التهابا كبديا ويتضخم الكبد وتضعف قدرته على القيام بأعماله ووظائفه.
ويكثر حدوث ذلك بين مرضى الدوسنتاريا.. ولكن العلاج يعيد الكبد إلى سابق نشاطه ووظائفه.
وإذا أهمل التهاب الكبد الأميبي فإنه يؤدي إلى حدوث خراج في الكبد. وقد يكبر حجم خراج الكبد وفي الغالب لا يكون ذلك مصحوبا بارتفاع في الحرارة - ويحتوي على سائل لونه مثل لون الشكولاتة. ويحتاج إلى علاج حاسم بالسحب في غالبية الأحوال وفي حالات قليلة يحتاج إلى جراحة – وهذا الخراج قد يتحول من خراج أميبي إلى خراج عادي يحتوي على صديد وفي هذه الحالة ترتفع درجة الحرارة – وفي هذه الحالة تكون الجراحة هي العلاج في أغلب الأحيان.
ثالثا: تليُّف الكبد:
إنه أخطر أمراض الكبد وفي حالة التليُّف يتحول نسيج الكبد الرخو إلى نسيج صلب وينكمش في الحجم وتضمر خلاياه.
وأسباب التليُّف كثيرة منها: البلهارسيا التي تصيب الكبد وسوء التغذية.. إدمان الخمور.. أو مضاعفات للالتهاب الكبدي الوبائي.. أو انسداد في القنوات الصفراوية أو تعاطي بعض الأدوية بجرعات كبيرة مخالفا لتعليمات الأطباء.
والواقع فإن تليُّف الكبد يؤدي إلى:
1- عدم قدرة الكبد على القيام بواجبه على الوجه الأكمل.. وهكذا قد يحدث خمول أو ارتباك في بعض وظائف الجسم ... أو تورم بالجسم.. أو الاستسقاء وهو وجود سائل شفاف بالبطن بكميات كبيرة قد تصل إلى عدة لترات وقد تحدث أمراض عصبية أو حالة غيبوبة متقطعة وفي الحالات المتأخرة قد يحدث ما يسمى غيبوبة كبدية.(11/263)
2- صعوبة يلقاها الدم الوارد إلى الكبد من المرور به وعلى ذلك تحتقن هذه الأوردة ويزيد الضغط على جدرانها ويحاول الدم أن يجد له المخرج الآخر ويسير في طرق متشعبة محاولا الوصول إلى القلب بطريق أو بآخر وبذلك تتكون أوردة جانبية وأوردة مساعدة.. وقد نرى بعضها على جدران البطن حول السرة.
وقد يجد هذا الدم الراكد مخرجا فيسير في طرق ملتوية متجها نحو أوردة أخرى في محاولة أن يكمل دورته ويصل إلى القلب.
وبعض هذه الطرقات الملتوية التي توصف بالدوالي توجد في جدار المريء وأعلى المعدة – وهي قابلة للانفجار وهذا يؤدي على النزف عن طريق الفم ويكون مصحوبا بقيء ولونه أحمر قان أو فاتح حسب الكمية – وقد يتراكم في الأمعاء ويحدث إسهالا ويكون البراز أسود اللون مع حدوث التعفن ...
وقد تصل بعض مركباته إلى الدم وهي النوشادر ومنها إلى المخ وتسبب غيبوبة ويساعد النزف على هبوط الكبد وهكذا نجد مريض تليُّف الكبد مهدد بخطرين ... الأول هبوط الكبد والثاني هو النزف من دوالي المريء.
وفي بعض حالات التليف - وهذا نادر جدا بالنسبة للنوع الناتج عن البلهارسيا – قد يساعد التليف الكبدي على حدوث أورام خبيثة بالكبد.
وتليف الكبد يكون مصحوبا بتضخم الطحال أو استسقاء أو كليهما. وقد يكون مصحوبا أيضا بوجود دوالي بالمريء.. وهذه الدوالي تراها بمنظار خاص يصل إلى أسفل المريء أو بالتصوير بالأشعة بعد ابتلاع مادة الباريوم.
ويمكن معرفة قدرة الكبد على أداء وظائفه عن طريق مجموعة كبيرة متن الاختبارات.. وهناك طريقة أخرى هي أخذ عينة من الكبد بواسطة إبرة خاصة تدخل من فوق سطح الجلد..
وعلاج حالات تليف الكبد ينقسم إلى قسمين كل واحد منهما يهدف إلى علاج أحد آثار التليف.
القسم الأول: وهو محاولة تنشيط الكبد وإعادته إلى حالته التي تعطيه قدرة القيام بعمله العادي وذلك عن طريق العلاج الدوائي.(11/264)
القسم الثاني: وهو محاولة وقف النزف من دوالي المريء وكذلك الاحتياط حتى لا يحدث النزف مرة أخرى.
وإنني أنصح مريض الكبد بالابتعاد عن بعض الأدوية مثل الأدوية المكونة من المثيونين والكولين مثل اللتريزون التي يتعاطاها المرضى باستمرار ولمدد طويلة دون إلى الطبيب فإنه في حالات تليف الكبد وبداية حدوث هبوط في الكبد فإن هذه الحبوب تكون من الخطورة بحيث تزيد الهبوط وفشل الكبد.
وكذلك توجد عديد من الأدوية ضارة بالكبد إذا استعملت بكميات كبيرة وعليه فإنني انصح بعدم تعاطي أي دواء دون الرجوع للطبيب المعالج وذلك من أجل صحتك.
وأخيرا أيها القاريء العزيز لقد حاولت إلقاء بعض الضوء على عضو من أهم أعضاء الجسم وهو الكبد إلي لقاء آخر مع دراسة طبية عن عضو آخر من أعضاء الجسم والسلام عليكم ورحمة الله.(11/265)
ندوة الطلبة
إلى الشباب
قصيدة للطالب عبد الرحمن شميلة
كلية الشريعة
أيا شباب العلى والمجد والفخر
ويا دعاةً سَمَوا بالدِّين والنّصر
على بساط الرِّضا سيروا بمكرمة
فالكون من طربٍ قد فاح بالنّشر
وطائر السّعد غنّى بالهناَ فرحاً
وجاء مبتساما رضوان بالبشر
والحقّ شع سنا في الكون أجمعه
وصيّر الباطل المسودّ في قبر
فحبّذا النّور يهدي السّالكين إلى
طريقة المصطفى والفوز بالأجر
ونعم دارا بحور العين أهلة
جزاء ما صبروا والخير في الصبر
فاهنأ بمقعد صدقٍ قد دعيت له
واقرأ إذا شئت سطر آخر الفجر
ويا شباب الخنا والفسق والكفر
ويا دعاةً إلى التّضليل والخسر
إلى شواظ لظى سيروا بخزيكم
فالكون من ضجرٍ أضحى على الجمر
وطائر النّحس غنّى بالشقاء لكم
والرّب أوعدكم بالويل في الحشر
لقد ضللتم فكان اللهو صنعتكم
والظلم شيمتكم يا سوءة الدّهر
فبئس جهلا تعدّى الحدَّ في خطل
ثمت جاوزه في اللؤم والسّخر
وبئس دارا بابدان توقدها
جزاء عمر مضى في الغيّ والسّكر
فاخسأ بمقعد نارٍ قد وعدت به
واقرأ بغاشيةٍ من أول السَّطر(11/266)
أضواء من التفسير
لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى. وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى. ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} .
المناسبة:
لما حكى عن الكفار في السورة السابقة أنهم يقولون تقوله، ونسبوه إلى الشعر والكهانة والجنون. وختم السورة بذكر النجوم افتتح هذه السورة بالنجم إذا هوى، وأقسم أن محمدا ما ضل وما غوى.
سبب النزول:
كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلن القرآن بمكة في أول أمره، وكان يشاع ما يتلى منه، وكان المشركون يقولون: إن محمدا يختلق القرآن الذي يذكره لأصحابه، فنزلت هذه السورة وأعلنها رسول الله بمكة وقرأها على الناس فلما انتهى منها سجد وسجد من معه من الكفار غير شيخ أخذ كفا من حصى وسجد عليه.. قال عبد الله بن مسعود فلقد رأيته قبل كافرا يعني ببدر. وقد أُشيع عقيب تلاوتها وسجود الكفار أن النبي صلى الله عليه وسلم يمدح الأصنام والواقع وصريح الآيات يكذب هذه الإشاعة.
القراءة:
قرأ الجمهور: ما كذب بتخفيف الذال. وقرئ ما كذّب بتشديد الذال.
المفردات:
{النَّجْمِ} قيل المراد به الجنس أي النجوم قال الشاعر:
فباتت تعد النجم في مستجره
سريع بأيدي الآكلين جُمُودها
وقيل هو الثريا وهو علم عليها بالغلبة ولا تقول العرب النجم مطلقا إلا للثريا.
ومنه قول الشاعر:
طلع النجم عشاء
فابتغى الراعي كساء
طلع النجم غديه
فابتغى الراعي كسيه(11/267)
وقيل الزهرَة وكانت تعبد. وقيل الشعرى كما قال في أواخر السورة وأنه هو رب الشعرى. وقيل غير ذلك. وأصل النجم الطلوع، وكل طالع نجم، يقال نجم السن والنبت والقرن إذا طلع {هَوَى} أي سقط للغروب. والهوى بالفتح وبالضم والهويان السقوط من علو إلى سفل.
وقيل الهَوِي بالفتح للإصعاد والهُوي بالضم للانحدار. {ضَل} حاد عن طريق الحق. {غَوَى} جهل ولابس الباطل، {يَنْطِقُ} يتكلم. {الْهَوَى} ميل النفس إلى ما تشتهي. {إِنْ} بمعنى ما. {هُوَ} الذي ينطق به أو القرآن. {وَحْيٌ} أصل الوحي الإشارة الشريعة يقال أمر وحي أي سريع ثم اختص في عرف اللغة بالأمر الإلهي الملقى إلى الأنبياء. {يُوحَى} أي يلقى من الله عز وجل. {شَدِيدُ الْقُوَى} يعنى جبريل وقال الحسن هو الله تعالى: {ذُو مِرَّةٍ} المرة: القوة من أمررت الحبل إذا أحكمت فتله، ومنه قوله عليه السلام: "لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى". وتطلق على العقل والآصالة والإحكام، وقوة الخلق، وشدته: {فَاسْتَوَى} فتعلم واستقام أو فارتفع أو فاستقر.
{الأُفُقِ} ناحية السماء. وجمعه آفاق. وقال قتادة: هو الموضع الذي تأتي منه الشمس. ويقال أفق يأفق كفرح يفرح إذا بلغ النهاية في العلم أو في الكرم. و {الأَعْلَى} الرفيع {دَنَا} قرب {فَتَدَلَّى} زاد في القرب {قَابَ} قدر. {قَوْسَيْنِ} تثنية قوس وقيل هو الذراع على لغة لأهل الحجاز وقد روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "القوس هنا ذراع تقاس به الأطوال"وقيل غير ذلك. {أَدْنَى} أقرب {فَأَوْحَى} ألقى من الأمر الإلهي. {مَا كَذَبَ} بالتخفيف أي ما اختلق. وبالتشديد ما أنكر ولا جحد ولا رد.
التراكيب:(11/268)
قوله {إِذَا هَوَى} العامل في إذا فعل القسم، فإنه بمعنى مطلق الوقت منسلخ من معنى الاستقبال. كما في قولك: آتيك إذا احمر البسر. فلا يعترض بأن فعل القسم حال، وإذا لما يستقبل من الزمان، فلا يتلاقيان. وقوله {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} هذا جواب القسم، وفي الإقسام بالنجوم على ما ذكر فن من البلاغة بديع، فإن من شأن النجم أن يهتدي به الساري، وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم من رغب عن سبيله ضل، كما أن القرآن علم في الهداية إلى مناهج الدين، ومسالك الحق، وإنما عبر بالصحبة لأنها - مع كونها أدل على القصد - مرغبة لهم فيه ومقبلة بهم إليه، ومشنعة عليهم تكذيبهم به، وهم يعرفون طهارة شمائله. والضمير المنصوب في {عَلَّمَهُ} قيل عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم فالمفعول الثاني محذوف أي علمه الوحي. وقيل عائد على القرآن فالمفعول الأول محذوف أي علمه الرسول. وقوله {فَاسْتَوَى} يجوز أن يرجع الضمير فيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم كأنه قيل علمه جبريل فتعلم واستقام، ذكره الماوردي. وقيل الضمير فيه راجع إلى جبريل والفاء للعطف على علمه والتقدير علمه جبريل فارتفع إلى مكانه في السماء أي بعد أن علمه، وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير، أو فقام وظهر في صورته التي خلق عليها. وقيل الضمير فيه راجع إلى الله عز وجل أي فاستقر على العرش، وهذا قول الحسن. وقوله {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} الضمير فيه راجع إلى جبريل والواو للحال، أي علمه صاحب هذه الصفات حال كونه بالأفق الأعلى. وهذا بيان لحال من أحوال التعليم. وقوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى} بيان لحال أخرى من أحوال التعليم. وقوله {أَوْ أَدْنَى} {أَوْ} فيه بمعنى بل التي للإضراب الانتقالي. وقوله {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} الظاهر أن فاعل أوحى هو جبريل والضمير في(11/269)
{عَبْدِهِ} لله أي فأوحى جبريل إلى عبد الله. وهذا قول الحسن، وإضماره قبل الذكر لغاية ظهوره.
وقيل: فأوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل فأوحى الله إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى.
و {مَا} في قوله: {مَا أَوْحَى} موصولة في محل نصب مفعول به لقوله فأوحى، والعائد محذوف والتقدير ما أوحاه. وإنما عبّر بـ {مَا} لقصد الإبهام على جهة التعظيم والتفخيم. و {مَا} في قوله {مَا رَأَى} مفعول به وهي موصولة والعائد محذوف ومفاعل رأى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا على قراءة التشديد في {مَا كَذَب} . وأما على قراءة التخفيف فقيل هي كذلك مفعول به، وكَذَب يتعدى بنفسه. وقيل هو منصوب على نزع الخافض، أي ما كذب فيما رآه. والمرئي قيل جبريل وإلى هذا ذهبت عائشة وابن مسعود وقتادة. وقيل المرئي الله عز وجل وهو قول ابن عباس. وممن أثبت هذه الرؤية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم الإمام أحمد فروى الخلال في كتاب السنة عن المروزي؛ قلت لأحمد: "إنهم يقولون: إن عائشة قالت من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله! فبأي شيء يدفع قولها؟ "قال: "بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيت ربي"- قول النبي صلى الله عليه وسلم أكبر من قولها". وقد أنكر صاحب الهدى على من زعم أن أحمد قال: رأى ربه بعيني رأسه. قال: وإنما قال مرة: رأى محمد ربه، وقال مرة: بفؤاده.
المعنى الإجمالي:(11/270)
أقسم بالنجوم وقت سقوطها للغروب. ما حاد محمد الذي صحبتموه وخبرتم حاله عن طريق الحق، وما لابس الباطل، وما يتكلم بما تهواه نفسه وتشتهيه دون وحي من ربه، ما الذي يأتيكم به إلا أمر إلهي، ملقى إليه، فهمه إياه جبريل الموصوف بشدة قوته، وأصالة عقله، فتعلم واستحكم علمه، وقد علمه جبريل حال كونه بناحية السماء، ثم قرب منه فازداد في القرب، فصار في قربه قدر ذراعين بل أقرب. فألقى إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما ألقاه. ما افترى قلب محمد الرؤية ولا اختلقها، وما ردها ولا جحدها.
ما ترشد إليه الآيات:
1-التفكر في النجوم وقت سقوطها.
2- تصديق محمد صلى الله عليه وسلم.
3- لا يأتي محمد بشيء من عند نفسه.
4- شدة قوة جبريل.
5- تنوع حالة وحيه للنبي صلى الله على وسلم.
6-تعظيم الموحى.
قال تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} .
المناسبة:
لما ذكر أحواله الداعية إلى عدم المماراة، أنكر عليهم ما يحدث منهم من المماراة.
القراءة:
قرأ الجمهور {أَفَتُمَارُونَهُ} وقرئ {أَفَتَمْرُونُه} بفتح التاء وسكون الميم.
المفردات:(11/271)
{أَفَتُمَارُونَهُ} أفتجادلونه وتغلبونه. من المراء وهو الملاحاة والمجادلة، وأصل اشتقاقه من مَرَى الناقة يَمْريها إذا مسح ضرعها للدر. كأن كلاً من المتجادلين يمرى ما عند صاحبه. {أفتمرونه} أي {أفتجحدونه} ممن مراه حقه إذا جحده. {نَزْلَةً} مرة من النزول. {سِدْرَةِ} شجرة نَبِق في السماء السابعة ثمرها كقلال هجر وأوراقها كآذان الفيلة. {الْمُنْتَهَى} موضع الانتهاء أو الانتهاء كأنها في منتهى الجنة وآخرها. أو إليها ينتهي علم من دونها أو تنتهي إليها أرواح الشهداء.. وقيل غير ذلك {الْمَأْوَى} التي يأوي إليها المؤمنون وينزلونها ويسكنونها فلا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين. {يَغْشَى} من الغشيان بمعنى التغطية والستر ومنه الغواشي، أو بمعنى الإتيان، من قوله فلان يغشاني كل حين أي يأتيني وينتابني {زَاغَ} ما وعدل، يعني عما رآه {مَا طَغَى} ما تجاوز ما رآه فما يخبر به هو الحق. {رَأَى} أبصر وعاين. {آيَات} دلائل وبراهين وعجائب. {الْكُبْرَى} العظمى.
التراكيب:
قوله {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} الهمزة للاستفهام الإنكاري المقصود منه التوبيخ. الفاء للعطف على محذوف تقديره: أتكذبونه فتجادلونه. كان من حق الفعل أن يتعدى بـ (في) كما يقال: جادلته في كذا وماريته فيه. لكنه لما ضمِّن معنى الغلبة عُدِّي تعديتها. وأما الفعل على قراءة {أفتمرونه} فكان من حقه أن يتعدى بنفسه ولكنه لتضمنه معنى الغلبة أيضا عُدي بـ (على) كذلك. و {مَا} في {مَا يَرَى} موصولة والعائد محذوف أو مصدرية. وإنما جاء {يَرَى} بصيغة المضارع - وإن كانت الرؤية قد مضت - إشارة إلى ما يمكن حدوثه بعد، ولحكاية الحالة الماضية استحضارا لصورتها البديعة في ذهن المخاطبين.(11/272)
وقوله {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} اللام فيه موطئة للقسم، و {نَزْلَةً} قيل منصوب على الظرفية نصب الظرف الذي هو مرة لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل فكانت في حكمها والتقدير ولقد رآه مرةً أخرى. وهذا مذهب الفراء. وقيل منصوب على المصدر والتقدير: ولقد رآه نازلا نزلة أخرى. والضمير المنصوب في {رَآهُ} عائد على جبريل أي رآه محمد مرة أخرى أو نازلا نزلة أخرى في صورة نفسه. وقيل راجع إلى الله عز وجل كما هو مذهب ابن عباس ويقول: "إن محمدا رأى ربه مرتين". و {عِنْدَ} في قوله {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} ظرف لرآه أو حال من الفاعل أو المفعول أو منهما. وإضافة {سِدْرَةِ} إلى {الْمُنْتَهَى} إما من إضافة الشيء إلى مكانه، كأشجار البستان. أو من إضافة المحل إلى الحالِّ مثل كتاب الفقه. وقوله {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} جملة حالية والضمير راجع إلى السدرة. وقيل ويحتمل عند النزلة. وقوله {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} {إِذْ} ظرف زمان لرآه و {مَا} موصولة في محل رفع فاعل. وإنما عبر بالموصول لما في الإبهام من التفخيم والتعظيم. كما أخر الفاعل للتشويق. وقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} مستأنف لتحقيق الأمر ونفي الريب عنه صلى الله عليه وسلم وقوله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} اللام واقعة في جواب قسم محذوف. و {الْكُبْرَى} إما مفعول به لرأى، ومن آيات ربه حال مقدمة. والتقدير: لقد رأى الآيات الكبرى حال كونها من جملة آيات ربه. وإما صفة لآيات ربه وعليه فقوله: {مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ} هو المفعول به و {مِنْ} تبعيضية: أي رأى بعض آيات ربه الكبرى. ومثل هذا الجمع يوصف بوصف المؤنثة الواحدة. وقد حسنه هنا كونها فاصلة، كما في قوله: {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} .
المعنى الإجمالي:(11/273)
أتكذبونه فتجادلونه وتغلبونه على الذي أبصره وعاينه، ووالله لقد أبصر وعاين من أوحى إليه مرة أخرى لدى شجرة النبق التي ينتهي إليها علم من دونها أو التي تنتهي إليها أرواح الشهداء.
لدى هذه الشجرة أو هذه النزلة دار النعيم التي يأوي إليها المتقون فيأمنون فيها، ويسعدون بها، ولا يخرجون منها، لقد رآه وقت أن غطى الشجرة ما غطاها أو انتابها ما أنتابها من أمر الله عز وجل. ما مال ولا عدل بصر محمد عما رآه، ولا تجاوزه إلى غيره، فما يخبر به هو الحق الذي أبصره وعاينه.
لقد أبصر وعاين بعض عجائب ربه العظمى.
ما ترشد إليه الآيات:
1-توبيخ المشركين على المراء الباطل.
2-ما يخبر به محمد صلى الله عليه وسلم هو العلم.
3-رأى محمد صلى الله عليه وسلم جنة المأوى.
4-شأن هذه السدرة عظيم.
5-رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعض العجائب الكبرى.
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى. أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى. تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى. إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى. أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى. فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى} .
المناسبة:
لما قرر الرسالة، وذكر عظمة الله وقدرته الباهرة التي تقضي بالتوحيد، وتمنع عن الشرك بالله تعالى، وقفهم على حقارة معبوداتهم.
القراءة:(11/274)
قرأ الجمهور {اللاَّت} بتخفيف التاء. وقرئ بتشديدها. وقرأ الجمهور {مَنَاةَ} وقرئ مناءة.. بالمد والهمزة. وقرأ الجمهور {ضِيزَى} بكسر الضاد من غير همز، وقرئ ضئزى بالهمز. كما قرئ ضيزى بفتح الضاد وسكون الياء. وقرأ الجمهور {إِنْ يَتَّبِعُونَ} بالياء. وقرئ {إن تتبعون} بالتاء.
المفردات:
{اللاَّتَ} صنم بالطائف أو بنخلة عند سوق عكاظ. قال ابن عباس: "كان رجلا يلت السويق للحاج فمات فعكفوا على قبره. وقد كان لثقيف". وفيه يقول الشاعر:
وفرَّت ثقيف إلى لاتها
بمنقلب الخائب الخاسر
قيل أصلها من لتَّ السويق. وهذا ظاهر على قراءة التشديد، ولا مانع منه على قراءة التخفيف أيضا. وقيل هي مشتقة من لوى يلوي لأنهم كانوا يلوون أعناقهم إليها، أو يلتوون أي يعتكفون عليها. وأصلها لوية فألفها منقلبة عن واو. والتاء فيها زائدة، وقد حذفت لامها.
{َالْعُزَّى} تأنيث لأعز يعني الأغلب. وهي صنم لغطفان كانوا يعبدونها وهي سمرة بوادي نخلة فوق ذات عرق، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد عام الفتح فهدمها وهو يقول:
يا عز كفرانك لا سبحانك
إني رأيت الله قد أهانك
{مَنَاةَ} صنم كانت بالمشلل وهو موضع جهة البحر من قديد المعروف بين مكة والمدينة، وكانت تعبدها غسان، والأوس والخزرج، وكان من أهل لم يطف بين الصفا والمروة. وهي على قراءة الجمهور مشتقة من منى يمني إذا أراق وصب. لأن دماء النسائك كانت تراق عندها. ووزنها فعلة. وأما على قراءة المد والهمزة {مناءة} فقيل مشتقة من النوء لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركا بها. ووزنها مفعلة فألفها منقلبة عن واو، وهمزتها أصلية وميمها زائدة. {ضِيزَى} جائرة من ضازه يضيزه إذا ضامه قال الشاعر:
ضازت بنو أسد بحكمهم
إذ يجعلون الرأس كالذنب
وقيل عوجاء وقيل ناقصة قال أبو عبيدة: تقول: ضأزنه حقه أي نقصته.
وأنشد الأخفش:(11/275)
فإن تنأ عنها تقتضيك وإن تغب
فسهمك مضئوز وأنفك راغم
قيل أصلها على وزن حبلى وأنثى فكسرت فاء الكلمة لتصح الياء وهذا مبني على ادعاء سيبويه أنه لا يوجد فعلى بكسر الفاء في الصفات. وأثبت ثعلب وغيره وجودها فحكى: مشية حيكى بكسر الحال أي فيها تبختر واختيال. وبعضهم يحكيها مشية حَيَكى كَجَمَزَى. ومن قرأ بالهمز أو بالفتح فهي لغات في ضيزى كما في القاموس. {سُلْطَانٍ} برهان، {الظَّنّ} الخاطر الشيطاني. {تَهْوَى} تحب. {الْهُدَى} البيان الشافي بالكتاب المنزل والنبي المرسل {تَمَنَّى} اشتهى. {الأُولَى} الدنيا.
التراكيب:(11/276)
قوله {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ} الهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف يقتضيه السياق، ورأى بصرية، واللات مفعولها. وقيل علمية ومفعولها الثاني محذوف لدلالة الحال عليه. تقديره: بنات الله أو شركاء لله تعالى. وقال أبو حيان هو قوله {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى} . ولم يعد ضمير من جملة الاستفهام على اللات والعزى ومناة لأن قوله وله الأنثى في معنى وله هذه الإناث فإنهم كانوا يقولون في هذه الأصنام هي بنات الله. وأل في اللات والعزى زائدة فإن كانا علمين بالوضع فهي لازمة، وإن كانا علمين بالغلبة وأصلهما وصفان فأل غير لازمة وهي للمح الصفة. ووصف مناة بالأخرى تهكم بها لأنها بمعنى المتأخرة الوضيعة المقدار. والإشارة في قوله {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} إلى القسمة المفهومة من الجملة الاستفهامية. وقوله {إِذاً} أي إذ جعلتم البنات له والبنين لكم، وقوله {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} {إِنْ} بمعنى ما. و {هِيَ} عائد على الأصنام المذكورة التي اتخذوها آلهة، وقوله {سَمَّيْتُمُوهَا} صفة لأسماء والضمير المنصوب فيها للأسماء لا للأصنام يعني هي مجرد أسماء جعلتموها لا حقيقة لها في استحقاق العبادة كما في قوله {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} والهاء هي المفعول الثاني، والأول محذوف تقديره: أصناما تعبدونها. وقوله {أَنْتُمْ} تأكيد للواو لأجل التوصل لعطف {وَآبَاؤُكُمْ} عليها على حد قوله:
وإن على ضمير رفع متصل
عطفت فافصل بالضمير المنفصل(11/277)
وقوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ} على قراءة الجمهور فيه التفات إلى الغيبة للإيذان بأن تعدد قبائحهم اقتضى الإعراض عنهم، وقوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} يجوز أن تكون الجملة حالية من فاعل يتبعون. ويجوز أن يكون اعتراضا بين قوله {وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} وقوله {أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} {أَمْ} منقطعة بمعنى بل وهمزة الإنكار. والإضراب فيه للانتقال عن اتباعهم التوهم الباطل إلى إنكار ما هو أفحش منه وهو أن يكون لهم ما يتمنونه من شفاعة آلهتهم. وقوله: {فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى} تعليل لانتفاء أن يكون للإنسان ما يتمناه حتما.
المعنى الإجمالي:
ألكم أعين فأبصرتم هذه الأصنام الحقيرة، وإنه لشيء منكر أن تجعلوا لله الإناث ولكم الذكور مع أنه إذا بشر أحدكم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم. هذه قسمة جائرة، ما هذه المذكورات من الأصنام إلا مجرد أسماء جعلتموها أنتم وهي لا حقيقة لها في استحقاق العبادة.
ما تنقادون إلا للخاطر الشيطاني وما تشتهيه أنفسكم. ولقد أتاكم من سيدكم ومالككم ومدبر أموركم البيان الشافي بالكتاب المنزل والنبي المرسل، فكيف تتركون داعي الحق، وتنقادون لخاطر الشيطان! بل ننكر أن يكون للإنسان ما يشتهيه، لأن أمر الدنيا والآخرة لله عز وجل فهو مالك الملك يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء، وبيده الخير.
ما ترشد إليه الآيات:
1-تحقير الأصنام وعابديها.
2-بيان جور الكفار وسخافة عقولهم.
3-هذه المعبودات أسماء لا حقيقة لها.
4-انقياد الكفار للخاطر الشيطاني دون الحق الرباني.
5-أمر الدنيا والآخرة بيد الله.(11/278)
العظات والعبر من هدي هجرة سيد البشر
للطالب عزيزو محمد
للهجرة من مسقط رأس سيد الدعاة صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أسبابٌ دعت إليها - وأهمُّها: مضايقةُ واشتدادُ أذى المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم ومَن آمن معه - ولقد سبق للرسول صلى الله عليه وسلم أن أَذِنَ لثلَّة من المؤمنين بالهجرة إلى أرض الحبشة بحثا لهم عن بيئة صالحة يطمئن فيها إيمانهم الفتي وتخلصا من أذى المشركين. ثم تكررت هجرتهم إلى الحبشة في السنة السادسة من البعثة.. وأكتفي بهذه الإشارة..
وأما الهجرة من مكة إلى المدينة فكانت بإذن الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم عقب اجتماع المتآمرين، غلاظ الأكباد وقساة القلوب، من مشركي قريش في دار الندوة حيث لم يتخلف أحد من ذوي الرأي والحجى للشورى في أمره صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله قرآنا يكشف ويُزيح الأستار وفضح لهم الأسرار ليزداد الرسول ومن آمن معه إيمانا بأن الله مع أوليائه بالنصر والتأييد وصبرا على تحمل أذى قريش في سبيل الدعوة إليه سبحانه: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} الأنفال.
ولم يهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم حفاظا على ذاته بل صيانة لدعوة الله عز وجل حتى تنتشر في ربوع هذا الكون. وصاحبه في هذه الرحلة المباركة والمحفوفة بالأخطار أبو بكر الصديق رضي الله عنه الذي أعدَّ لها كل ما يلزم، فتوجَّها إلى غار ثور جنوب مكة حيث اختفيا فيه ثلاث ليالٍ حتى هدأ عنهما الطلب.
وأما قريش فقد جدَّت في البحث وجعلت الجوائز لمن يأتي بمحمد صلى الله عليه وسلم إليها حيًّا أو ميتا..(11/279)
ويحسن أن نذكر هنا حادثة تشهد أن محمدا رسول الله بلا شك ولا ريب، وهي واحدة من معجزاته الكثيرة الدالة على صدق نبوته وصحة رسالته. ذلك أن جماعة من كفار قريش وقفوا أمام الغار يبحثون عنه صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه خوفا على حبيبه: "يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا.."فأجابه إمام الموحدين صلى الله عليه وسلم مُطمئنا: "يا أبا بكر ما بالك باثنين اللهُ ثالثُهما؟ " وهذه هي المعيّة الخاصة لأولياء الله بالنصر والتأييد فالله جل جلاله مستوٍ على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته وعلمه في كل مكان سبحانه وتعالى عما يصفه المشبِّهون. ثم خرج الرسول صلى الله عليه وسلم ورفيقه الصديق رضي الله عنه واتخذا طريقا غير مطروق للإمعان في التخفي والحذر، وكان الدليل لهما عبد الله بن أُريقط، رجلا من الكفار حتى وصلا إلى يثرب آنذاك سالمين في الثاني عشر من ربيع الأول.. لقد دامت الرحلة الميمونة سبعة أيام وثلاثة في غار ثور ولا يفوتني أن أذكر وأنبه إلى أنه خلال الأيام الثلاثة كانت أخبار قريش وتحركاتها تبلغه عن طريق عبد الله بن أبي بكر، وأخته أسماء، وعامر بن فُهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنهم - فكانت أسماء تحمل الطعام في المساء طول الثلاثة الأيام إلى النبي والصديق، وكان عبد الله يتتبَّع أخبار وخطوات قريش كما هو شأن العباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة حيث كان يُمثل محطة الأخبار أو بالتعبير العصري مركزا للمخابرات. وأما عامر بن فُهيرة فكان يرعى الغنم في النهار ويعرج بالغار مساء ليُخفي أثر أقدام عبد الله وأخته أسماء. إذن لقد كانت طرقُ الحيطة وأسباب الحذر مستعملة من أجل أن تنجح الرحلة ويقضي الله أمرا كان مفعولا.(11/280)
أما الذين يتغنَّون بأمداح - يزعمون أنها تُرضي عنهم رسول الهدى صلى الله عليه وسلم - وفيها من الشرك ما تكاد تتفطر منه السموات، ومن الضلالات والمفتريات ما تكاد تخِرُّ منه الجبال الشامخات، فأولئك ما فقهوا دينهم ويخالفون النقل والعقل - فتراهم يقررون أن العنكبوت نسجت على باب الغار نسيجها الرقيق فستر أعين المشركين عن رؤية الرسول الكريم وصاحبه، وأن حمامتين باضتا في فم الغار فظن المشركون أن هذا الغار من عهد قديم لا يستطيع إنسيّ أن يلجه فيجعلون نجاة الرسول وصاحبه منحصرة في هذه الأشياء التافهة وينفون بهذا وذاك أسباب الحيطة التي اتُخذت وأن الله مع نبيه بالحفظ والتأييد.
فيا ليت قومي يستفيقون من غفلتهم وينتبهون لهفواتهم وزلاتهم.
ومرة أخيرة لنعش لحظات ممتعة مع هذه الحادثة العجيبة ألا وهي قصة سراقة بن مالك الذي كبا فرسه مرتين فعلم أن هناك قوة خفية قاهرة تحمي محمدا عليه الصلاة وأفضل التسليم، فتراجع عن إبلاغ قريش عثوره على صاحب الهجرة بل وَعَدَ وأقسم للرسول صلى الله عليه وسلم أن يضلِّل كل من يبحث عن نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم فوعده الرسول صلى الله عليه وسلم بسوار كسرى، ملك الفرس ورجع سراقة بن مالك بفكرٍ غير الفكر الذي خرج به من مكة باحثا عن محمد، وبعقيدةٍ غير العقيدة التي حملها أول مرة ونستطيع أن نقرر أنه عاد داعيا إلى اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وكفِّ الأذى عنه. ذلك ما نستنبطه من أبياته التالية يخاطب بها أبا جهل زعيم الكفر والطغيان:
أبا حكم والله لو كنتَ شاهداً.
لأمر دوادي إذ تسوخُ قوائمه.
علمت ولم تشكك بأن محمدا.
رسولٌ ببرهانٍ فمن ذا يُقاومُه.
عليك بكف القوم عنه فإنني
أرى أمره يوماً ستبدو معالمُه.
بأمر يوَدُّ الناس فيه بأسرهم.
بأن جميع الناس طرّاً يُسالمُه.(11/281)
ثم أسلم سراقة بعد ذلك وحَسُن إسلامه. وحقق الله وعد نبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم فحصل سراقةُ على سوار كسرى لما هُزم الهرمُزان ملك الفرس على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ويهمني الآن أن أركز على نتائج الهجرة ومدى استفادة الداعي إلى الله منها. فهي مصنع الرجال والمنطلق إلى الفتوحات وإشعاع النور السماوي في ربوع المعمورة.
نتائج الهجرة:
بالجملة فإن الهجرة تُعَدُّ تحولا من الجمود إلى الحيوية وانتفاضة من نطاق الدعوة الضيق إلى نطاق أوسع انفسحت له رقعة الإسلام بالفتوحات المتوالية في العراق والشام وغيرهما.
فمن نتائجها:
1- الإخاء الصادق بين الأنصار والمهاجرين حتى إن الأنصاري ليُقاسم أخاه المهاجري في المطعم والملبس والمسكن.
ومدح الله صنيع الأنصار في كتابه العزيز.
2- القضاءُ التام على الحزازات الباطنية والعقد النفسية التي كانت عند القبائل ونمت في الجاهلية.
3- بناء المسجد النبوي ليكون مقرّاً للعبادة ومدرسة بل جامعة للتفقه في الدين ولتخريج علماء ربانيين صالحين مصلحين يبلغون دعوة الله إلى الناس بكل نزاهة وعفة عن أطماع الدنيا الفانية لأن حياتهم كانت وقْفا على الله عز وجل عملا بقول الله عز وجل لنبيه محمد وأمته بالتبع: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} آخر سورة الأنعام.
4- انتصار المسلمين في غزوة بدر الكبرى، وهي أول غزوة خاضها المسلمون مع المشركين أكسبتهم هيبة وقوة وعزّاً، فكانت الفارقَ بين الحق والباطل. ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "نُصرت بالرعب مسيرة شهر". وبتوالي الغزوات والانتصارات فيها عبد الهجرة، قويت شوكة الإسلام وكُسرت شوكة الشرك والضلال..(11/282)
فأنجز الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، وتمَّت النعمة الكبرى بفتح مكة في السنة العاشرة للهجرة حيث دخل الناس في دين الله أفواجا وطهر بيت الله الحرام من الأصنام - فجاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا.
هذه بعض النتائج بإيجاز وهناك أخرى لا يسع المقام ذكرها.
ماذا يستفيد الداعي من ذكرى الهجرة النبوية؟؟
1- لقد سبق أن علمنا أن السبب الرئيسي للهجرة هو اشتداد أذى المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم ومَن آمن معه. فمن هنا يجب على الداعي إلى الله أن يكون متهيئ للهجرة عند كل مضايقة تُضعف إسلامه أو تحاول إخفات إيمانه أو إطفاء شعلته.
2-اختيار الزمان والمكان المناسبين للهجرة وإلا لم تبق فائدة لهذا التحول.
3- الإطلاع عن طريق الإذاعة والصحف على أخبار العالم على وجه العموم وعلى أخبار المسلمين على وجه الخصوص. وهذا ضربٌ من الاهتمام بأمور المسلمين.
- فالداعية الحق لا يكون غرّاً ساذج الفكر، لا يخالط المجتمع ويحتك به بل يجب أن يتعرف الأحوال ويسعى في إيجاد الحلول للمشاكل التي تنزل بالمسلمين.
4- تأسيس الجماعة المؤمنة في المكان المتخذ موطنا جديدا للانطلاق منه بعد التربية الإسلامية والتدريب الكافي على الخطابة والدعوة وغيرهما لفتح القلوب المغلقة، وما التوفيق والنصر إلا من عند الله. وأختم كلمتي هذه بالنصح الصادق لأولئك الذين هاجروا إلى هذا البلد الحبيب واكتفوا بالجوار ثم لا يدعون إلى الله عز وجل على قدر استطاعتهم ولا يغيرون منكرا رأوه - ولو كان التخلف عن الصلاة - فأقول لهم ولكم من أحبّ الإقامة هنا على شاكلتهم إن المقصد من الهجرة ليس الأمن من الفتن فقط وإنما التعلم والتفقه من أجل الانطلاق إلى الدعوة في كل مكان بإخلاص وصدق والله هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل، والله لا يضيع أجر المحسنين.
وأسأله سبحانه أن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.(11/283)
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الإمضاء: عزيزو محمد عبد السلام مغربي. أولى من كلية الدعوة وأصول الدين.(11/284)
صرخة الحق
قصيدة للطالب حسين أحمد
كلية الدعوة
أيها الثائرون يا من أجبتم
صرخة الحق من سماء المعالي
واستقمتم على الجهاد بعزم
وبذلتم في دربكم كل غالي
ورفضتم مبادئا ليس فيها
غير هدم الإسلام والأجيال
ونهضتم إلى الذرى وحملتم
مشعل النور والهدى المتوالي
أبشروا واهنئوا بجنات عدن
ونعيم مؤبد وظلال
عصبة البشر والفساد أتتكم
صيحة الحق فابشروا بالزوال
أرضنا لا تسيع غُمْداً خؤونا
يتبنى مبادئ الإضلال
قد مشيتم على مناهج ماوٍ
واتبعتم سبيله في الفعال
أمن العقل أن نحكم فينا
طغمة لا تريد غير انحلال
ونبذتم كتاب ربي جهارا
وسلكتم طرائق الأنذال
كبروا إخوتي وهبوا وصولوا
وانصروا الدين تسعدوا في المآل(11/285)
أخبار الجامعة
إعداد العلاقات العامة
صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز رئيسا أعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
يولي جلالة الملك المعظم خالد بن عبد العزيز - حفظه الله ورعاه - وحكومته الرشيدة الجامعة الإسلامية بالمدينة مزيدا من الرعاية والعناية تقديرا لرسالتها السامية رسالة الإسلام الخالدة في العالم بأسره.
فقد صدر الأمر السامي الكريم بتعيين حضرة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد والنائب الأول لرئيس مجلس الوزراء حفظه الله وسدد خطاه رئيسا أعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة وكان لهذا التعيين صداه الطيب وأثره العميق في محيط الجامعة وخارجها غمر النفوس بالغبطة تيمنا واستبشارا.
والله تبارك وتعالى المسئول أن يوفق هذه الجامعة للنهوض بأعباء رسالتها الكبرى وتحقيق أهدافها السامية بفضل رعاية جلالة الملك المعظم رئيسها الفخري وسمو ولي العهد المكرم رئيسها الأعلى إنه سميع مجيب.
افتتاح قسم الدراسات العليا(11/286)
تم بحمد الله وتوفيقه افتتاح قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية يوم الأربعاء الموافق الثالث والعشرين من شهر ذي القعدة وقد ألقى نائب رئيس الجامعة فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد كلمة بهذه المناسبة الطيبة بين فيها أهمية افتتاح هذا القسم بالجامعة وإنه كان أمنية حققها الله هذا العام وإنه حصل به اكتمال بناء الجامعة وأن الفرصة متاحة لكثيرين من خريجي الجامعة بإكمال دراستهم دون حاجة إلى البحث عن إكمال التعليم في جهات أخرى ثم ألقى كل من فضيلة الدكتور محمد أمين المصري المشرف على قسم الدراسات العليا بالجامعة وفضيلة الشيخ محمد المرشد عميد كلية الشريعة كلمة بهذه المناسبة وقد بدأت الدراسة هذا العام بشعبة السنة حيث يتوافر في الجامعة لها أساتذة متخصصون في هذا المجال وهم فضيلة الدكتور محمد أمين المصري المشرف على قسم الدراسات العليا بكلية الشريعة بمكة سابقا والمعار من جامعة الملك عبد العزيز للإشراف على قسم الدراسات العليا بالجامعة وفضيلة الدكتور الشيخ سيد محمد الحكيم وفضيلة الدكتور عبد الرحمن عثمان وهما أستاذان في قسم الدراسات العليا بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر وقد أعيرت خدماتهما للتدريس بالجامعة الإسلامية وسيتم افتتاح شعب أخرى بهذا القسم في العام الدراسي القادم بمشيئة الله.
كلية اللغة العربية(11/287)
تم بحمد الله وتوفيقه افتتاح كلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية يوم السبت السبت الموافق27/10/1395هــ وقد ألقى نائب رئيس الجامعة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد كلمة بهذه المناسبة بين فيها أهمية هذه الكلية ودورها المرتقب في خدمة اللغة العربية. . لغة القرآن الكريم، وحث الطلبة الذين التحقوا بها على الجد والمثابرة باعتبارهم الطليعة في هذه الكلية ثم ألقى كل من فضيلة الدكتور محمد نائل الأستاذ بهذه الكلية وعميد كلية اللغة العربية بالأزهر سابقا وفضيلة الشيخ صالح المحيسن عميد كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة كلمة بهذه المناسبة الطيبة، وتجدر الإشارة إلى أن هذه الكلية هي الكلية الرابعة في الجامعة والكليات الثلاث الأخرى هي كلية الشريعة وكان إنشاؤها في عام 1381هـ. وكلية الدعوة وأصول الدين قد أنشئت في عام 1386هـ وكلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية وقد تم افتتاحها في شهر شوال من العام الفائت 1394هـ، وقد اعتمدت المبالغ اللازمة في ميزانية العام المالي الحالي لافتتاح كلية خامسة في كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية وسيتم افتتاحها إن شاء الله بعد صدور الموافقة السامية على افتتاحها.
تلقت الجامعة برقية سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله الآتي نصها:
فضيلة نائب رئيس الجامعة الشيخ عبد المحسن العباد وفقه الله.
وصلنا مكة بحال الصحة شاكرين لفضيلتكم ما لقيناه من حفاوة وتكريم كما نشكر لفضيلتكم ولجميع المدرسين والموظفين والطلبة مشاعر الجميع النبيلة ودعواتكم الطيبة سائلين المولى عز وجل أن يجزيكم عنا خيرا وأن يمنحكم التوفيق والسداد إنه خير مسئول.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
وقد أجيب عليها بالبرقية الآتي نصها:(11/288)
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد. - حفظه الله.
تلقيت برقية سماحتكم رقم 3016 -1 وتاريخ 19/11/1395هـ التي أعربتم فيها عن شكر جميع منسوبي الجامعة من مدرسين وموظفين وطلبة على مشاعرهم التي أبدوها لسماحتكم وفي الحقيقة إن ما أبداه الجميع بعض ما يجب عليهم تجاه عالم جليل ومرب كبير شمل الجميع بعطفه ونصحه وتوجيهه فجزاكم الله عن ما بذلتموه من جهود عظيمة في مصالح الجامعة خاصة ومصالح المسلمين عامة خير الجزاء وإني أصالة عن نفسي ونيابة عن جميع منسوبي الجامعة أتقدم بالشكر لسماحتكم سائلا المولى عز وجل أن يديم توفيقكم لكل خير وأن يمد في حياتكم لتواصلوا جهادكم في سبيله والدعوة إليه وبذل النصح للخاص والعام إنه سميع مجيب والسلام عليكم.
نائب رئيس الجامعة الإسلامية.
عبد المحسن بن حمد العباد.
((مؤتمر لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة))
صدرت الموافقة الملكية السامية على قيام الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بتنظيم مؤتمر عام لتوجيه الدعوة وإعداد الدعاة والدعوة إلى عقده.
ومما يستهدف عقد هذا المؤتمر..
أولا: التعريف بالدعوة الإسلامية ومنهاجها الأقوم في توجيه الحياة الإنسانية في كل جوانبها إلى غايتها الفاضلة، التي يسعد بها الإنسان في دنياه وأخراه وفي توجيه بناء حضارتها بناء متكاملا يلبي دائما مطالب الروح والجسم معا.
ثانيا: الأخذ بأفضل المناهج العلمية والأساليب العملية في إعداد الدعاة وتمكينهم من أداء رسالتهم.
ثالثا: التطوير العلمي لأساليب الدعوة على ضوء النتائج العلمية في حقل الدعوة.
رابعا: دراسة المشاكل والصعوبات العامة التي تعترض مسار الدعوة والعمل على حلها بالوسائل الممكنة.(11/289)
خامسا: تعزيز سبل الإيصال والتعاون بين الهيئات والمؤسسات المعنية بالدعوة الإسلامية والتنسيق العام للجهود المبذولة في هذا الميدان على الصعيد العالمي وتنظيم سبل التعاون الإيجابي بين الدعاة.
سادسا: المتابعة العلمية المستمرة لحركة الدعوة الإسلامية وملاحظة اتجاهاتها وتقويم نتائجها وآثارها والعمل المشترك على تعزيزها وتحقيق مسارها وتحقيق أهدافها. وسيدعى لحضور هذا المؤتمر ممثلون للهيئات والمؤسسات المعنية بالدعوة الإسلامية داخل المملكة وخارجها وبعض قادة الفكر الإسلامي المشتغلين بالدعوة..
موضوعات المؤتمر:
وسيتناول هذا المؤتمر بالبحث والمناقشة الموضوعات الرئيسية التالية:
1_ مناهج الدعوة الإسلامية وأساليبها.
2_ إعداد الدعاة ومسئولية الجامعة في هذا المجال.
3_ أساليب الدعوات المضادة وأهدافها وآثارها.
4_ المذاهب والاتجاهات الإلحادية والمعادية للإسلام والفرق المرتدة والزائفة في هذا العصر وتحديد موقف الإسلام والمسلمين فيها.
5_ أجهزة الإعلام والنشر ودورها في توجيه المجتمعات وتأثيراتها الضارة للدعوة الإسلامية في المجتمعات الإسلامية خاصة وفي غيرها عامة وما يجب أن يتخذ إزائها.
6_ مشاكل الدعوة والدعاة إلى الإسلام في العصر الحديث وكيف يمكن التغلب عليها. وتقوم الجامعة باتخاذ الترتيبات اللازمة لعقد هذا المؤتمر بتوفيق الله تبارك وتعالى في عام 1396 هـ إن شاء الله.
وفد الجامعة إلى المهرجان التعليمي.
تلبية للدعوة التي تلقتها الجامعة من (ندوة العلماء) في الهند لحضور المهرجان التعليمي الأول، الذي تعقده الندوة بمناسبة مرور 85 عاما على تأسيسها- لبحث القضايا التربوية الإسلامية والحلول العديدة التي اقترحها ونفذها قادة الفكر والتربية المسلمون لهذه القضايا-(11/290)
توجه وفد من الجامعة برئاسة الشيخ أبي بكر جابر الجزائري المدرس في كلية الشريعة، وعضوية فضيلة الشيخ حماد الأنصاري المدرس بكلية الشريعة، و. ف عبد الرحيم المدرس بالمعهد الثانوي التابع للجامعة يوم الجمعة 19 - 10 – 1395هـ لحضور هذا المهرجان بمدينة لكهنو في الهند.
وقد اشترك الوفد في أعمال المهرجان ولجانه وقدم بحثا في موضوع ((التربية الإسلامية في عصرنا الحاضر)) كان موضع تقدير المؤتمرين من رجال التربية والتعليم، كما قدم تبرعا من الجامعة الإسلامية لندوة العلماء (50 ألف ريال سعودي) وزار الوفد بعض المدن الهندية إجابة لرغبات الإخوة المسلمين في هذه المدن - كما زار الجامعة السلفية ببنارس التي تزودها الجامعة الإسلامية ببعض المدرسين، واشترك في وضع الحجر الأساسي لمسجد هذه الجامعة. وزار مكتبة (خدابخش) الشهيرة.
والتقى خلال زياراته ببعض خريجي الجامعة الإسلامية في الهند وتابع نشاطهم في مجال الدعوة وألقى خلال هذه الزيارات واللقاءات بعض الدروس والمحاضرات.
وقد قوبل وفد الجامعة بالحفاوة والتكريم من جميع الإخوة المسلمين الذين التقى بهم ومن المسئولين عن المهرجان وعلى رأسهم سماحة الشيخ أبي الحسن الندوي الأمين العام لندوة العلماء.. وعاد الوفد إلى المدينة المنورة يوم الاثنين 7-11-95هـ.
المجلس الأعلى للجامعة.
صدر الأمر الملكي الكريم رقم 1- 233 في 29- 9- 1395هـ بتعيين الأعضاء المختارين بالمجلس الأعلى للجامعة بناء على اقتراح رئيس الجامعة لمدة ثلاث سنوات.
وطبقا لنظام الجامعة الجديد الصادر بالمرسوم الملكي رقم م - 70 في 7- 8- 1395هـ يتألف المجلس الأعلى للجامعة من:
- الرئيس الأعلى للجامعة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء حفظه الله.
- رئيس الجامعة.
- نائب رئيس الجامعة.
- وكيل وزارة المعارف.(11/291)
- رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
- الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي.
- رئيس قسم الدراسات العليا بالجامعة.
- عميد واحد يختاره مجلس الجامعة لمدة ثلاث سنوات.
ثلاثة عشر عضوا من كبار العلماء وقادة الفكر الإسلامي ومديري الجامعات وأساتذتها أو من سبق لهم شغل هذه المناصب، ويراعى في اختيارهم تنوع الاختصاص على أن يكون من بينهم عشرة أعضاء من خارج المملكة يمثلون مختلف المناطق الإسلامية ويصدر أمر ملكي بتعيينهم.
وقد صدر الأمر السامي المشار إليه بتعيين هؤلاء الأعضاء. وهم:
1_ فضيلة الشيخ أبي الحسن الندوي أمين عام ندوة العلماء. بلكهنو في الهند.
2_ فضيلة الدكتور كامل محمد الباقر مدير جامعة أم درمان الإسلامية.
3_ فضيلة الشيخ مصطفى أحمد العلوي مدير دار الحديث الحسنية في الرباط.
4_ فضيلة الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة عميد كلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين بتونس.
5_ مدير جامعة الأزهر.
6_ الدكتور أحمد عبيد الكبيسي مدرس الشريعة الإسلامية بجامعة بغداد.
7_ فضيلة الشيخ عبد الله غوشه رئيس قضاة الأردن.
8_ فضيلة الشيخ محمد الغزالي من العلماء المشهورين في مصر.
9_ فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني من العلماء المشهورين في سوريا.
10_ فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي أحد العلماء المشهورين في مصر.
11_ معالي مدير جامعة الرياض.
12_ معالي مدير جامعة الملك عبد العزيز بجدة.
13_ معالي الشيخ صالح الحصين.(11/292)
الفتاوى
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم م. غ. وفقه الله لكل خير آمين _ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
بعده كتابكم الكريم المتضمن للأسئلة الخمسة وصل وصلكم الله بهداه وهذا نصها وجوابها والله ولي التوفيق.
السؤال الأول: خطب رجل امرأة ووافق أقربها على ذلك واتفقوا معه على المهر ولكنه لم يدفعه ثم مات الخاطب فما حم ذلك وهل ترثه المرأة المذكورة وتحاد عليه.
والجواب: إذا كان الواقع هو ما ذكرتم في السؤال ولم يجر عقد النكاح بينهما بالإيجاب والولي والقبول من الزوج مع توفر الشروط المعتبرة وخلو الزوجين من الموانع فإن المرأة المذكورة لا ترث وليس عليها عدة ولا حداد لأنها ليست زوجة لخاطبها بل هي أجنبية منه لكونه لم يتم له عقد النكاح الشرعي وإما حصلت منه الخطبة والاتفاق مع أقاربها على المهر فقط وهذا وحده لا يعتبر نكاحا وليس في هذا خلاف بين أهل العلم رحمهم الله وإن كان أهل المخطوبة قد قبضوا منه مالا فعليهم رده إلى ورثته.
السؤال الثاني: تزوج رجل بامرأة مسلمة ثم ظهر أن الرجل كافر فما الحكم.
والجواب: إذا ثبت أن الرجل المذكور حين عقد النكاح كان كافرا والمرأة مسلمة فإن العقد يكون باطلا لأنه لا يجوز بإجماع المسلمين نكاح الكافر للمسلمة لقول الله تعالى سبحانه _ {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} وقوله عز وجل: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} الآية.
السؤال الثالث: زوج رجل ابنته على آخر ثم تبين أن الزوج ولد زنا فما الحكم.(11/293)
والجواب: إذا كان مسلما فالنكاح صحيح لأنه ليس عليه ذنب أمه ومن زنا بها شيء لقول الله سبحانه: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ولأنه لا عار عليه من عملهما إذا استقام على دين الله وتخلق بالأخلاق المرضية لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أكرم الناس قال: "أتقاكم. ."وقال عليه الصلاة والسلام: "من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" _ وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إن لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" خرجه الترمذي.
السؤال الرابع: خطب رجل من آخر موليته وزعم أنه شريف فزوجه ثم اتضح أنه ليس بشريف فما الحكم.
والجواب: إذا كانت الشروط متوفرة في العقد المذكور فالنكاح صحيح وإذا كان ولي المرأة قد اشترط على الخاطب أنه شريف ثم اتضح خلاف ذلك فله الخيار إن شاء أبقى موليته عنده وإن شاء طالبه بالطلاق وإذا كان قد دخل بها فلها المهر كله بما استحل من فرجها وإن امتنع من طلاقها ترافعا إلى الحاكم الشرعي لينظر في أمرها على ضوء الشريعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج" وإن كان لم يشترط ذلك وإنما صدقه في قوله ول يعتبره شرطا في الموافقة على النكاح فليس له الخيار فيما أعلم من الشرع لأنه لم يقع بينهما مشارطة والعرب بعضهم لبعض أكفاء سواء كانوا أشرافا أم غير أشراف، وقال جماعة من العلماء المسلمون كلهم بعضهم لبعض أكفاء إذا استقام الدين ولو كان الزوج عربيا وهي عجمية أو مولاة وهكذا العكس وهو قول قوي جدا لما تقدم من الأدلة الشرعية.(11/294)
السؤال الخامس: تزوج رجل امرأة حرة على أنه حر ثم اتضح أنه عبد مملوك فما الحكم؟.
والجواب: إذا كان الواقع هو ما ذكر في السؤال فللمرأة الخيار إن شاءت البقاء معه فلها ذلك وإن شاءت الفسخ فلها ذلك لأن عليها ضررا كبيرا في كونه مملوكا وقد غشها لعدم إظهار الحقيقة فوجب لها اختيار لما ثبت في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن بريرة لما عتقت تحت زوجها مغيث وكان عبدا مملوكا خيرها النبي صلى الله عليه وسلم فاختارت نفسها، متفق على صحته. والمرأة المسؤول عنها أولى بالخيار لأنها مخدوعة لم تعلم أنه مملوك وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المسلم أخ المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يكذبه ولا يخذله" وقال عليه الصلاة والسلام: "من غشنا فليس منا"وهذا قد غشنا وكتم عليها أمره وكذب عليها بإظهاره ما يدل على أنه حر.
وإذا كان قد دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها فإن تنازعا ترافعا إلى الحاكم الشرعي لينظر في أمرهما على مقتضى الشريعة المحمدية.
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم ع-ح. وفقه الله لما فيه رضاه آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
بعده: كتابكم الكريم وصل وصلكم الله بهداه وما تضمنه من الأسئلة كان معلوما وإليكم جوابا:
الأول: حكم تعليق الصور.
والجواب: لا يجوز تعليق الصور في الجدران ولا في المكاتب ولا غيرها مطلقا بل الواجب طمسها لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: "لا تدع صورة إلا طمستها" ولأن تعليقها يفضي لتعظيمها وعبادتها من دون الله إذا كانت من صور المعظمين كالملوك والزعماء وإن كانت من صور النساء والمردان فتعليقها من أسباب الفتنة بها.
الثاني: حكم الصور الباقية منصور استمارة المدرسة ماذا يجب نحوها.(11/295)
والجواب: الواجب إتلافها إذا لم يكن هناك حاجة إليها أما حديث _ إلا رقما _ فهو وارد في الحديث الذي يدل على أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة وهو محمول على الثوب الذي يفترش كالمخدة والبساط أما الذي يعلق فهو غير داخل في ذلك بدليل أنه عليه الصلاة والسلام أنكر على عائشة تعليق الثوب الذي فيه تصاوير.
الثالث: ونصه: حكم من قال: اللهم احشرني مع صاحب النقب
والجواب: هذا الدعاء لا أعلم له أصلا في الشرع وإنما يذكر أنه من كلام بعض الأمراء لما رأى بعض الجنود نقب في بعض أسوار العدو نقبا صار سببا للفتح على المسلمين ومثل هذا لا يكون كلامه شرعا للناس وإنما المشروع أن يقال اللهم احشرني في زمرة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم أو في زمرة عبادك الصالحين ونحو ذلك وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم في دينه والثبات عليه أنه خير مسؤول.
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم الشيخ س ن ذ وفقه الله لكل خير آمين _ سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: أما بعد فقد وصلني كتابكم الكريم المتضمن الأسئلة الأربعة وصلكم الله بهداه ومنحنى وإياكم وسائر المسلمين الفقه في دينه والثبات عليه وهذا نصها وجوابها:
الأول ذكرتم أنكم أحجمتم عن أكل اللحوم بأنواعها لاعتقادكم بأنها لا تذبح على الطريقة الإسلامية ولا على طريقة أهل الكتاب والنصارى أي لا يذكر اسم الله عليها وتسألني هل أكلها حلال أم حرام؟(11/296)
والجواب: قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} الآية، من سورة المائدة، هذه الآية أوضحت لنا أن طعام أهل الكتاب مباح لنا وهم اليهود والنصارى إلا إذا علمنا أنهم ذبحوا الحيوان المباح على غير الوجه الشرعي كأن يذبحوه بالخنق أو الكهرباء أو ضرب الرأس ونحو ذلك فإنه بذلك يكون منخنقا أو موقوذا فيحرم علينا كما تحرم علينا المنخنقة والموقوذة التي ذبحها مسلم على هذا الوجه، أما إذا لم نعلم الواقع فذبيحتهم حل لنا عملا بالآية الكريمة وإليكم جوابا قد صدر منا بالموضوع للاستفادة منه.
أما كونهم لا يذكرون اسم الله على الذبيحة فهذا من جملة جهلهم فلا يمنع حل ذبيحتهم كالمسلم إذا نسي التسمية أو جهل حكمها عند الذبح لقول الله سبحانه: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} الآية من سورة البقرة وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما تلا هذه الآية قال: "قال الله: قد فعلت". وقال تعالى في سورة الأحزاب: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله وضع عن أُمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"خرجه ابن ماجه والحاكم وفي إسناده ضعف ولكن شواهده كثيرة.
الثاني: ما رأي فضيلتك في الجلود التي تستعمل لأغراض عديدة من المحافظ والأحزمة والشنط اليدوية المصنوعة من تلك الجلود؟.(11/297)
والجواب: مثل هذه الجلود التي يحكم شرعا بحل ذبيحتها يجوز استعمالها في الأغراض التي ذكرتم وغيرها لأنها في حكم ذبائح المسلمين وهكذا جلود الحيوانات التي يؤكل لحمها كالإبل والبقر والغنم وغيرها مما يؤكل لحمه إذا ماتت حتف أنفها فإنه يجوز دبغ جلودها واستعمالها في جميع الأغراض المباحة كجلود المذكاة لأن الدباغ يطهرها لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "دباغ جلود الميتة طهورها" وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر"خرجه مسلم في صحيحه واللفظ الأول أخرجه أصحاب السنن والأحاديث في هذا الباب كثيرة. واختلف العلماء في جلود الحيوانات المحرمة كالأسد والذئب والحمار الأهلي هل تطهر جلودها بالدباغ على أقوال وهذه الحيوانات المحرمة لا تؤثر فيها الذكاة فلا يطهر جلدها بالدبغ والقول بتطهير جميع الجلود بالدبغ قول قوي لعموم الأحاديث في إطلاق تطهير الجلود بالدبغ وهو محل اجتهاد ونظر أما جلد الميتة من الحيوانات المباحة الأكل كالإبل والغنم فلا إشكال في طهارته بالدبغ وهكذا جلود ذبائح أهل الكتاب لا إشكال في طهارتها بالدبغ لأنها خير من الميتة وهي في حكم ذبائح المسلمين في الحل، إذا كان الحيوان مأكول اللحم كما سبق.
الثالث: نتيجة لدراستنا في أمريكا تطرح علينا مواضيع عن الدين المسيحي والدين اليهودي فهل يجوز لنا الحديث عنهما.(11/298)
الجواب: نعم يجوز لكم الكلام في ذلك بحسب علمكم ولا يجوز الكلام فيها ولا في غيرها بغير علم ومعلوم أن شريعة التوراة والإنجيل من جملة الشرائع التي أنزلها الله على رسله على حسب ما يليق بأهلها في زمانهم وظروفهم والله سبحانه هو الحكيم العليم في كل ما يشرعه ويقدره كما قال سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} وذلك بعدما ذكر إنزاله التوراة والإنجيل والقرآن في سورة المائدة وقال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} ثم إن اليهود والنصارى حرفوا وبدلوا وأدخلوا في شرائعهم ما ليس منها ثم بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم برسالة عامة لجميع أهل الأرض من جن وإنس وشرع له شريعة عامة وبذلك نسخ بها شريعة التوراة والإنجيل وأوجب على جميع أهل الأرض أن يتحاكموا إلى الشريعة التي بعث الله بها محمدا صلى الله عليه وسلم وأن يأخذوا بها دون كل ما سواه كما قال عز وجل يخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم في سورة المائدة: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} الآية. وقال سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وقال سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .
والآيات في هذا كثير ومن تدبر القرآن الكريم وأكثر من تلاوته لقصد الاستفادة والعمل هداه إلى سبيل الحق كما قال الله سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} الآية من سورة سبحان.(11/299)
الرابع: ما رأي فضيلة الشيخ في المرأة المسلمة المحتشمة لباسا وعملا ولكنها لا ترتدي العباءة؟.
الجواب: ليس من شروط الحجاب لبس العباءة. بل الواجب الاحتجاب بما يتيسر للمرأة من الثياب والملابس المعتادة في عرف أهل بلادها لأن الله سبحانه لم يحدد الحجاب بنوع دون نوع بل قال سبحانه في كتابه المبين في سورة الأحزاب: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ} الآية، وقال سبحانه في السورة المذكورة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} . والجلابيب جمع جلباب وهو ما تلبسه المرأة فوق ثيابها لتغطي به جميع بدنها أما الوجه والكفان فقد اختلف العلماء في وجوب سترها عند الأجانب على قولين مبنيين على الخلاف في معنى قوله سبحانه في سورة النور: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أحدهما أن المراد بذلك ما ظهر من الملابس وهو قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وجماعة من أهل العلم وهو ظاهر ما ثبت عن عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما والثاني أن المراد بذلك الوجه والكفان وهو المعروف عن ابن عباس رضي الله عنهما وجماعة من المفسرين وقد أجمع العلماء على أن سترهما أولى وأفضل وإنما الخلاف في جواز الكشف كما أجمعوا على أن المرأة إذا كانت ذات جمال يخشى من سفورها الفتنة فإنه يجب عليها أن تحتجب وأجمعوا أيضا على أنه لا يجوز لها عند من قال بجواز السفور أن تحسن وجهها وكفيها بشيء مما يسبب الفتنة كالكحل وجعل شيء من أنواع التجميل في الخدين والشفة والكفين وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن جواز كشف الوجه والكفين كان في أول الإسلام ثم نسخ بآية الحجاب التي(11/300)
قدمنا ذكرها وهذا هو ظاهر ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك لأنها قالت عن صفوان بن معطل: "فلما رآني استرجع وكان يعرفني قبل الحجاب فلما سمعت استرجاعه انتبهت وخمرت وجهي"وهذا القول الذي ذكره شيخ الإسلام يرفع الخلاف ويجمع القولين على قول واحد وهو وجوب ستر الوجه والكفين فيما استقرت عيه الشريعة الإسلامية ولا يخفى على كل من له أدنى بصيرة بأحوال العالم ما يترتب على السفور من الفتن الكثيرة والعواقب الوخيمة التي منها تمتع الرجال بالنساء وجرأة النساء على الاختلاط بالرجال وما يخشى وراء ذلك من أنواع الفتن والله المستعان وهو سبحانه ولي التوفيق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..(11/301)
رسائل لم يحملها البريد
لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
زوجي الذي كان …
منذ أسبوعين أو ثلاثة، أو أقل من ذلك أو أكثر، لا أدري، فأنا الآن لا أعرف حساب الأيام ولا تعداد الليالي _ جاءني موظف من المحكمة الشرعية في هذا البلد الذي فيه أقيم، جاء يبلغني أنك قد طلقتني، فذهلت لهذا النبأ الفاجع الفاجئ المروع، وهرولت مسرعة غير مصدقة إلى المحكمة الشرعية أسأل عن هذا الأمر وأتوثق، ولكن القاضي أكد الطلاق الذي طلقتنيه في بلدك، وصدّق البلاغ الذي بلّغنيه موظف المحكمة.
وخرجت من لدن القاضي أتعثر في أثوابي وأنا أبكي، وأصادم الناس والأشياء لا أدري أين الطريق. وبعد لأي وجهد وعذاب وصلت إلى بيت شقيقتي هذه التي أُقيم عندها ضيفة منذ ثلاثة أشهر، وانتبذت إلى زاوية مظلمة لا أدري ماذا أصنع غير أن أنفث الزفرات، وأرسل الآهات، وأريق الدموع.
وأشارت عليّ أُختي أن أرسل إليك ابنها يتعرف أسباب هذا الطلاق، ودوافع هذا الفراق، ولقد كنت حريصة على أن أجيء أنا نفسي، ولكن هذا الخطب الجلل الذي رميتني به، لم يترك لي قدرة على الحراك والسفر، ولا أن أرى دارا سلخت فيها من عمري خمسا وأربعين سنة، فإذا هي محرمة عليّ، وإذا أنا غريبة عنها.
ورجع ابن أختي من عندك يحمل أسبابا غريبة، وينقل إليّ أحداثا عجيبة:(11/302)
تقول إن ضرتي وأبناءها هم الذين حملوك على هذا الطلاق، وزينوا لك هذا الفراق، وأنهم كانوا يحاولون ذلك منذ أزمان طويلة وآماد بعيدة، فكنت تجيبهم بجفاء وغلظة، وتردهم بالخيبة والخسران، ولم تك تخبرني شيئا من ذلك حرصا على هدوء الأحوال واطمئنان البال، وتوفير أسباب الحياة الآمنة الوادعة، حتى إذا شبوا عن الطوق، وأصبحوا يسهمون في كسب الرزق، ويحسنون تدبير شؤون الزراعة، ويقدرون على جمع الحصاد وتخزين الغلال، حتى إذا بلغوا هذا المبلغ، وبلغت أنت من الكبر ما أوهن عظامك وألان قناتك ولوى كفك على العصا اقترحوا عليك أن أزور شقيقتي هذه النائية عنك مائتي ميل، حرصا على راحة أعصابك وهدوء بالك وجمام جسمك، وحسما للمشكلات التي كانت تثور بين ضرتين تسكنان بيتا واحدا.
وجئت أزور أختي هذه سعيا وراء راحتك وابتغاء رضاك، وما كنت أعلم ما تدبره أنت ولا أبناؤك، وما كنت أدري أنها زيارة ليس بعدها رجوع.
تقول إن غيابي البعيد عن البيت، واحتجابي الطويل عن الأعين، أطمعا فيك الضرة وأبناء تلك الضرة، وانتزعا منك زعامة العرين وزمجرة الآساد، فلم تستطع أن تفلت حين قادك أكبرهم إلى المحكمة الشرعية، ومن حولكما إخوة له ثلاثة يشدون عضده، ويضعون أيديهم في يده، ويدخلون قاعة المحكمة على قلب رجل واحد.
وكم حاول القاضي حين عرف أنك مغلوب على أمرك، وأن غاية أولادك حرماني إرثك، كم حاول أن يثنيك عن هذا الطلاق، وكم بيَّن لك ما فيه من إثم وظلم وجنف.
ولكنك كنت لا تعي شيئا مما تسمع، كانت عيناك تنظران إلى الأرض، لا تكاد ترفعهما إلى أعلى خشية أن تلتقيا بأعين أبنائك من حولك، وقد صوبوها نحوك كما تصوب الذئاب الضارية عيونها إلى شاة آمنة جاثية في الحظيرة.
ونطقت بالطلاق بيسر وسهولة، لم يتلجلج لسان، ولا ارتجفت شفتان، ولا تهدّج صوت، ولا غصّت حنجرة.(11/303)
وخرجت من المحكمة كالشرعية مسرعا تغذ الخطا كأنما أنشطت من عقال، وعدت إلى بيتك هادئ النفس رخيّ البال خفيف الظهر، كأنما كنت أنا شوالا ثقيلا من القمح تحمله على عاتقك فألقيته على الأرض واسترحت.
نعم، عدت إلى بيتك وقد أصبحت السيادة فيه لأم بنيك، أما أنا فواحسرتاه! لقد تقطعت الأسباب ما بيني وبينه، ولم يبق لي منه إلا ذكريات!!
أذكر أنه كان لي في ذلك البيت غرفة، غرفة ذات نمارق مصفوفة وزرابيّ مبثوثة، وقطع من القماش مرقشة جميلة تزين الجدران، وستائر من الحرير مطرّزة تسدل على النوافذ، ومرآة كبيرة تقوم في إحدى الزوايا، كم وقفت أمامها تسرح شعرك السبط الوحف، وتبصر فيها وجهك الأزهر الناضر، وترتدي على هديها ملابسك الأنيقة الفاخرة، ثم تمس شعرك بشيء من العطر وتلتفت إليّ وتقول: إن أهنأ ساعات حياتي هي هذه التي أقضيها في هذه الغرفة، ففي هذه الغرفة أنسى متاعب التجارة وهموم الزراعة ومطل المدينين.
وحين أسمع ذلك منك أكاد أطير من النشوة والفرحة، فليس هناك شيء ألذ في سمع المرأة من أن تملأ آذانها كلمات الحب والثناء والإعجاب من زوج مخلص.
ومضى على تلك الحياة السعيدة الودود بضعة عشر عاما، ظلت الغرفة طوالها قادرة على أن تنسيك متاعب الزراعة والمزارعين، وهموم التجارة ومطل المدينين، على الرغم من أنها لم تسمعك هدهدة رضيع في الليل، ولا مناغاة وليد في النهار.(11/304)
ثم بدأت الغرفة السعيدة بعد تلك السنوات المديدة تسمع كلمات جديدة، لم تعد الغرفة قادرة على أن تنسيك هموم العيش ولا متاعب الحياة، لم تعد كما كانت من قبل تتنفس عطرا وحبا وسعادة، بدأت الغرفة تسمع الشكاة من كثرة الأعمال وقلة الأعوان والأنصار، وبدأت الغرفة تردد صدى حسراتك من أن يتخطف الأباعد أموالك الواسعة وثمرات تجارتك اليانعة، وبدأت المرآة القائمة في إحدى زوايا الغرفة ترسم على وجهك القلق والخوف من أن يتلقف الأدنون جنى سعيك ونصبك وهم قائلون في الظل حرّ الصيف، وسامرون حول المدافئ زمهرير الشتاء وفهمت الغرفة المسكينة ماذا تعني، وأي شيء كنت تريد، فهمت أنك تريد الزواج والبنين بعد صمت تلك السنين.
وذات صباح غائم ماطر، وبينا أنا أعد طعام الإفطار، ونار الشتاء الدفيئة الجميلة في كانونها تتوهج، وإبريق الشاي على طرف منها يصفر وينذر، وقطع الخبز على طرف آخر تحمّر وتقمّر، وصحاف العسل والزبد والبيض والجبن والزيت والزيتون والسعتر تنتظر، وعيناي تنظران في جمرات النار كيف يعلوها الرماد بعد اتقاد، بينا أنا هذه الحال إذ طرق سمعي خفق نعالك وأنت تعبر الدهليز الممتد ما بين الدكان والغرفة، ورأى معك فتاة صبيحة الوجه، فارعة الطول، تمشي على استحياء، لم تجاوز ربيعها السادس عشر، وتقف على مقربة مني تقول: "انظري، كيف ترين؟! "وفهمت ما تعنين فقلت: "لا بأس، إذا أعجبتك".(11/305)
ثم عدت بها من حيث أتيت، ورجعت بعد قليل إلى طعام إفطارك، وأنشأت تقول: "جاء أخوها يمتار لأهله، وجاءت معه لتشترى بعض الملابس، هي من أسرة فقيرة، وسوف ترى في هذه الحياة التي نحيا نعمة كبرى لم تكن لتخطر لها على بال، وهي _ كما يبدو _ خرقاء غير صناع، لا تحسن شيئا من أمور المنزل، وغريرة لم تجرب شيئا من أمور الحياة، فلن تلقي منها كيدا ولا غيرة ولا سخيمة قلب، وسوف تعيش معك خادما ليس لها إلا أن تسمع وتطيع، ولا يهمنا من أمرها سوى أن تنجب بأولاد يعينون على تصريف تجارتنا الواسعة، وتدبير زراعة أراضينا الشاسعة ويحفظون هذا المال من الهلاك والضياع".
وظننت هذا الكلام يخفف المصيبة التي أصابت، ويجعل الحياة تمضي سهلة راضية رخاء كما كانت عليه في السنين الخالية.
وتجلدت، وأظهرت لك الرضا، ونار الغيظ والغيرة في حشاي موقدة. ولم تمض غير أيام معدودة حتى وفدت علينا تلك الفتاة لتكون لك زوجا وأم بنين، ولتكون لي شجا في الحلق إذا ما أكلت، وحسك السعدان على فراشي إذا ما نمت.
وعلى ما كنت ألاقي من كيد وكمد وكبد، فقد غبرت على ما كنت عليه من قبل من إعداد طعامك الهنيء وشرابك المريء، والحفاظ على نظافة ثوبك وبيتك، ورعاية أموالك في غيبتك، مع تربية أولادك حين كانوا صغارا يدرجون في البيت، وتلاميذ يغدون على المدارس.
وما أنا بقائلة في تلك الضرة شيئا، وأنى يقبل لي فيها قول؟! ولكنك تعلم أن أخاها كان مدينا فأصبح دائنا، وكان يسكن بيتا من الطين، فأصبح ذا دور وأراض وبساتين في بضع سنين.
يا سبحان الله! خمسة وأربعون عاما وأنا أرعى بيتك وأربّ مالك، وأهذب زوجك وأربي عيالك، وأكابد ما أكابد ابتغاء رضاك، ثم يكون جزائي أن أنزع من بيتي كما تنزع قشور البرتقال، وأن ألفظ من داري كما يلفظ نوى التمر.(11/306)