ولقد عرض الفخر الرازي لهذا الرأي وفنده في كتابه (نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز) قال: "ومن الناس من جعل الإعجاز في أن أسلوبه مخالف لأسلوب الشعر والخطب والرسائل لا سيما في مقاطع الآيات مثل يعلمون ويؤمنون. وهو _ أيضا _ باطل من خمسة وجوه:
الأول: لو كان الابتداء بالأسلوب معجزاً لكان الابتداء بأسلوب الشعر معجزاً.
الثاني: أن الابتداء بأسلوب لا يمنع الغير من الإتيان بمثله.
الثالث: يلزم أن الذي تعاطاه مسيلمة من الحماقة في: (إنا أعطيناك الجماهر، فصل لربك وجاهر) وكذلك: (والطاحنات طحناً) في أعلى مراتب الفصاحة.
الرابع: أنا لما فاضلنا بين قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} , وبين قولهم: (القتل أنفى للقتل) لم تكن المفاضلة بسبب الوزن. والإعجاز إنما يتعلق بما به ظهرت الفضيلة.
الخامس: وهو أن وصف بعض العرب القرآن "بأن له حلاوة، وإن عليه لطلاوة لا يليق بالأسلوب".
هذا. وقد ذكر صاحب (البرهان) من بين الآراء التي قبلت في الإعجاز رأيين:
الأول: الفصاحة وغرابة الأسلوب، والسلامة من جميع العيوب وغير ذلك مقترناً بالتحدي. قال: "واختاره الإمام فخر الدين".
الثاني: ما في القرآن من النظم والتأليف والترصيف، وأنه خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلام العرب، ومباين لأساليب خطاباتهم، واختاره القاضي أبو بكر [13] .
فيبدو أنه يفرق بين (غرابة الأسلوب) وبين (خروج القرآن عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلام العرب) أو كما عبّر عنه بعضهم (الابتداء بأسلوب جديد) .
فيبدو أنه يظهر الفرق بين الأمرين، وإنما الفرق بين هذين الوجهين أن القائل الأول يجعل (غرابة الأسلوب) أحد أسرار الإعجاز، فهو وجه منضم إلى غيره من الفصاحة والسلامة من جميع العيوب.(8/300)
وقد سبق أن نقلت إبطال الرازي للوجه الثاني من هذين الوجهين، فهل هو قائل بالوجه الأول، كما نقل عنه السيوطي في (الإتقان) ؟.
الفخر في كتابه (نهاية الإيجاز) ذكر أربعة مذاهب في الإعجاز، وأبطلها جميعاً، وهي الصرفة (مذهب النظام ومن نهج نهجه) ، والأسلوب المخالف لأسلوب الشعر والخطب والرسائل، وعدم الاختلاف والتناقض في القرآن، وعدم اشتماله على العيوب.
ثم قال: "ولما بطلت هذه المذاهب، ولا بد من أمر معقول حتى يصح التحدي به، ويعجز عنه الغير، ولم يبق وجه معقول في الإعجازسوى الفصاحة علمنا أن الوجه في كون القرآن معجزاً هو الفصاحة".
ثم يفسر (الفصاحة) بأنها "المزايا التي ظهرت لهم في نظم القرآن، والبدائع التي راعتهم من مبادئ الآيات ومقاطعها، وفي مضرب كل مثل، ومساق كل خبر، وصورة كل عظة وتنبيه وإعلام وتذكير".
على أن الرازي نهج في رده على القائلين بأن وجه الإعجاز هو الابتداء بأسلوب نهج القاضي عبد الجبار المعتزلي، فأكثر الردود التي ذكرها الرازي أخذها مما كتابه هذا المؤلف [14] .
وسواء كان الأسلوب المنفرد وجه الإعجاز، أو أحد الوجوه، أو ليس وجهاً في الإعجاز، فالذي لا شك فيه أن القرآن الكريم في بنائه مخالف لكل أبنية الأدب العربي، ولكنه _ مع ذلك _ لم يترك وجهاً من وجوه فصاحتهم وبلاغتهم إلا اشتمل عليه.
فهو من ناحية البناء الكلي متميز عن ضروب شعرهم وألوان نثرهم، ومن ناحية استخدام الألفاظ، واستعمال التراكيب آخذ بكل مظاهر بلاغتهم وفصاحتهم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الإتقان في علوم القرآن ح2 ص117.
[2] الرسالة الشافية للإمام عبد القاهر الجرجاني (ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن) ص111.
[3] المصدر السابق ص113.
[4] الأقراء: القوافي. واحدها قرء.
[5] سورة الحاقة 38_43.(8/301)
[6] ص 102 ضمن ثلاث رسائل.
[7] إعجاز القرآن ص75. ط. دار المعارف. وتلاحظ أنه يجعل من الكلام (موزونا غير مقفى) ويبدو أنه يريد به (النثر الفني) .
[8] من حديث الشعر والنثر ص31.
[9] الفصل في الملل والنحل ح1 ص87.
[10] المصدر السابق ح3 ص12.
[11] ح1 ص87.
[12] انظر كتابنا (حول إعجاز القرآن) .
[13] ح2 ص97.
[14] انظر كتاب المغني للقاضي عبد الجبار ح16 ص116،217.(8/302)
قضايا أساسية في تطوير المكتبة العربية والإسلامية
بقلم عيد عبد الله السيد: خبير مكتبة الجامعة
تحدثنا في العدد السابق عن نشأة المكتبة الإسلامية وعن اهتمام الإسلام بالعلم وتدوينه وعن ازدهار المكتبات الإسلامية وانتشارها وضربنا أمثلة لذلك بخزانة الحكمة في بغداد وبالمكتبات الإسلامية في الأندلس وفي مصر الفاطمية. ثم تساءلنا عن مدى الاهتمام بالمخطوطات وتحدثنا عن خير الوسائل لحفظ التراث العربي الإسلامي. ثم تحدثنا عن ماهية المكتبة في العصر الحديث وعن موقع أمين المكتبة من الخدمة المكتبية وموقفه من المعرفة الإنسانية. وتحدثنا في شيء من الصراحة عن نواحي النقص الرئيسية التي تعاني منها المكتبات العربية. ثم تساءلنا بعد ذلك عمّا إذا كان من الممكن تقويم أداء المكتبة وبيان مدى ما تحققه من خدمة حالية وما يمكن أن تقدمه من خدمات مستقبلا؟
الجواب على هذا السؤال هو الذي نعالجه في مقالنا هذا إن شاء الله.
وبعد فإن أداء المكتبة - أي مكتبة - لوظيفتها يشمل تنظيم أقسام المكتبة وتوزيع الاختصاصات بينها وتحديد صلاتها بعضها ببعض ويشمل العمليات الإدارية المختلفة بالمكتبة من حيث الموظفون والمبنى والأثاث والأجهزة ويشمل كل العمليات المالية المتعلقة بإنفاق المكتبة لمخصصاتها ويشمل اختيار المواد العلمية من كتب ومطبوعات وغيرها ومن ثم إعدادها للاستعمال خلال إجراءات فنية خاصة ويشمل صيانتها وترميمها وتجليدها والتخلص من بعضها وتيسير استعمالها عن طريق إعارتها أوعن طريق إرشاد القراء لكيفية الانتفاع بها. وأداء الخدمة المكتبية قد يشمل فوق ذلك جهود المكتبة في توثيق التعاون مع مجتمعها أو مع غيرها من مكتبات أو مؤسسات علمية داخلية أو خارجية. ومن الجوانب الأساسية التي تثار عند تقويم مكتباتنا للحكم لها أو عليها.(8/303)
1- موارد المكتبة: (أي تمويلها ونظمها الإدارية وموظفيها ومجموعاتها من الكتب ومواد القراءة) .
2- خدمات المكتبة: (وتشمل إعداد المجموعات وإعارتها وخدمة المراجع وإرشاد القراء وتعليم الكبار واستعمال المواد التي لا تعار والدعوة المكتبية. والمقصود بإعداد المجموعات في المكتبة هو العمليات الفنية بالمكتبة كالتصنيف والفهرسة والببليوجرافيات وغير ذلك من وسائل.
ويعتمد تقويم المكتبة على سجلاتها وإحصائياتها، إلاّ أن كثيرا من المكتبات في عالمنا العربي لا تعني بسجلاتها عناية كافية أو تجمعها على أسس خاطئة لا قيمة لها من حيث المدلول العلمي.
على أن استعمال المكتبة وخدماتها التعليمية وصلاتها الاجتماعية هي مجالات لم تحظ عندنا حتى الآن بإشراف أو تفتيش أو تقويم، بل ولم تتعرض لأي نوع من النقد الذاتي والتقويم الذاتي داخل مكتبات قد لا يدري أمناؤها حدود مهنتهم بمعناها الكامل في العصر الحديث، وفي أكثر الأحيان لأسباب لا دخل لهم فيها.
وسأقتصر هنا على تقويم إعداد المجموعات العلمية داخل المكتبة وبمعنى آخر سأخصص حديثي للأعمال الفنية في المكتبات العربية وبخاصة الفهرسة والتصنيف ورءوس الموضوعات.
أولا- الفهرسة الوصفية:
مهمة الفهرس في المكتبة هو الإجابة عن الأسئلة التي بذهن القارئ: أي كتاب يقرأ؟ لأي مؤلف يقرأ؟ في أي موضوع يقرأ؟ لكن في أي شكل يعد هذا الفهرس؟ هل يكون على شكل بطاقات؟ أو يكون فهرسا محزوما؟ أو يكون فهرسا مطبوعا؟ وأي أنواع هذه الفهارس أفضل للاستعمال؟ وأيسر للقارئ؟
تستخدم معظم المكتبات الفهرس البطاقي ومنها ما يستخدم الفهرس المصنف على شكل كتاب مطبوع ولا زال قليل من المكتبات تستخدم الفهرس المحزوم كما هو الحال في المكتبة العامة لجامعة القاهرة [1] .(8/304)
وفهرس المكتبة بيان شامل لمحتوياتها من المطبوعات والمخطوطات والخرائط والمصورات وغير ذلك ينظم وفق ترتيب خاص ييسر الحصول على الكتاب المطلوب من المكتبة بأسرع ما يمكن.
وقد شاع في المكتبات الإسلامية في عصر ازدهارها فهارس منظمة بدقة حسب محتوياتها كما كانت تلصق قائمة بأسماء الكتب التي تحتويها دواليب هذه المكتبات على كل دولاب بالمكتبة. بجانب كل كتاب في هذه القوائم رقمه الخاص به على أن هذه النظم وغيرها قد اندثرت عند اختفاء هذه المكتبات وتفرقها.
على أن أيسر الطرق لفهرسة الكتب في العصر الحاضر هي الطريقة التي ترتب الكتب في الفهرس حسب حروف الهجاء التي كتبت بها هذه الكتب.
وغالبا ما يكون في المكتبات في العصر الحاضر فهارس بالمؤلف وأخرى بالعنوان وثالثة بالموضوع وكلها تستخدم الترتيب الهجائي بالإضافة إلى نوع رابع من الفهارس هو الفهرس المصنف أي الذي يصف الكتب طبقا لأرقام تصنيفها.
ويستخدم في إعداد فهرس البطاقات بطاقات من أحجام مختلفة منها ما هي 12×7 سم أو 13×9سم وهذا المقياس يجري العمل به في معظم المكتبات في كل دول العالم وتثقب البطاقة في منتصف طرفها الأسفل لتجمع مع مثيلاتها في قضيب معدني ضمن صندوق البطاقات التي سبقت فهرستها ويمكن أن تكون هذه البطاقات من ألوان مختلفة فيكون اللون الأبيض للبطاقات الخاصة بالمؤلفين مثلا ولون آخر لبطاقات العناوين ولون ثالث لبطاقات الموضوعات، ومهمة ذلك التيسير على المطالع في التعرف على الفهارس بمعرفة ألوانها. ومن مزايا فهرس البطاقات سهولة الاستعمال وإضافة الكتب الجديدة التي ترد إلى المكتبة إليه في حينها دون تأخير وربما كان أطول عمراً من الفهارس المطبوعة نفسها.(8/305)
وتعتمد معظم المكتبات في إعداد فهارسها على قواعد الفهرسة الوضعية المتبعة بمكتبة الكونجرس الأمريكية وعلى تلك التي أعدها الدكتور محمود الشنيطي والدكتور محمد المهدي في شكل كتاب باللغة العربية وربما استخدمت المكتبات في الفهرس المصنف [2] الجدول الثالث من نظام ديوي المعدل بمعرفة الدكتور الشنيطي والدكتور أحمد كابش.
وكانت المكتبات إلى عهد قريب تعتبر العنوان مدخلاً رئيسياً للكتاب كما كان الحال في دار الكتب المصرفية وغيرها حتى أكثر من عامين مع عمل بطاقات إضافية بالمؤلفين والموضوع وما إلى ذلك وفي إعادة إنشاء فهارس المكتبة يراعى حاليا آخر ما وصلت إليه قواعد الفهرسة الوصفية ومنها أن يكون المدخل الرئيسي للكتاب في بطاقات الفهارس بالمؤلف بدلاً من العنوان.
ومما يواجه المفهرس عند مزاولة عمله في أي مكتبة عربية مشكلة مداخل الأسماء العربية القديمة والحديثة وقد استقر رأي كثير من المفهرسين على أن يدخل الكتاب بالاسم الكامل للمؤلفيها عدا الأسماء العربية القديمة للكتب التي ألفت قبل سنة 1800 م أي سنة 1200هـ فهي تدخل في عرف هؤلاء المفهرسين تحت اسم الشهرة.
فمثلا كتاب (الأم) بن إدريس الشافعي يدخل في الفهرس البطاقي تحت اسم الشافعي مع عمل بطاقة إحالة (انظر) هكذا:
محمد بن إدريس الشافعي انظر الشافعي …………… وهكذا
أما كتاب (المكتبات العامة بين التخطيط والتنفيذ) لأحمد أنور عمر أستاذ علم المكتبات بجامعة القاهرة فيدخل تحت اسم أحمد أنور عمر دون تعديل أو تقديم أو تأخير في الاسم.
ولعل أفضل أن تكون مداخل الكتب باسم الشهرة في جميع الأسماء لأنها هي الأسماء المعروفة لدى القارئ والمعروف بها المؤلف حتى ولو كان قد ولد بعد سنة 1800 م. فمثلا كتاب (الميراث) للشيخ محمد عبد الرحيم منصور الكشكي وهو أستاذ معاصر بجامعة الأزهر ومعروف في الأوساط العلمية والطلابية بالشيخ الكشكي.(8/306)
نرى أنه من المفضل أن يدخل تحت اسمه الذي اشتهر به وكذلك عباس محمود العقاد اشتهر بالعقاد ومصطفى صادق الرافعي بشهرته الرافعي. . . إلى غير ذلك من أمثلة كثيرة.
وفي رأيي أن اسم الشهرة أدل على صاحبه دائما أما ما عدا ذلك من أسماء فيكون المدخل بالاسم الكامل للمؤلف وتكتب الأسماء الأجنبية بالخط العربي باسم الأسرة (Family Name.) كما هو متبع في لغته الأصلية.
فمثلا كتاب ول. ديورانت (قصة الحضارة) يدخل تحت (ديورانت، ول.) ومؤلفات شكسبير تدخل تحت (شكسبير) وهكذا.
ولا خلاف في أن هناك كثيراً من التصانيف والتآليف تحتاج إلى معالجة خاصة في الفهرسة فبعض الكتب له حاشية وتعليق, وتعليق على التعليق وحاشية على الحاشية أي أنه يكون في الواقع عدة كتب في كتاب أو مجلد واحد. وتعالج هذه المشكلة وما يناظرها - غالباً - أسفل البطاقة الرئيسية ببيان ما يشير إلى ذلك باقتضاب واختصار.
فمثلاً يكتب في أسفل البطاقة بالكتاب: شروح وهوامش وتعليق. . . الخ من أمور تفيد في وصف الكتاب وتقرب صورته للقارئ.
ومن الأمور المهمة أن تعتمد المكتبات العربية في تحقيق الأسماء العربية على كتب التراجم وكتب الببليوجرافيا مثل تراجم الفقهاء وطبقات الشافعية وطبقات الصحابة ومعجم الأدباء والضوء اللامع وتاريخ بغداد والفهرست لابن النديم وكشف الظنون لحاجي خليفة. . .
ونحن ننتظر اليوم الذي نتمكن فيه من عمل قائمة خاصة بهذه الأسماء تفيد في هذه الأمور، إلا أن الجهاز الحالي بمكتباتنا العربية لا يمكنه إنجاز مهمة ضخمة كهذه، ومن ثمة فسنظل لوقت طويل نعتمد على كتب التراجم ما ذكرت منها وما لم أذكر إلى أن يتم عمل بديل لذلك.(8/307)
هذا، وتصنف البطاقات في الفهرس دائماً هجائياً تحت اسم المؤلف وهجائيا تحت العنوان وهجائياً بالموضوع. أما فهارس المواد - غير الكتب - كالدوريات والخرائط والمواد السمعية والبصرية والأفلام والمخطوطات والاسطوانات وغير ذلك فليس لها وجود بكثرة في المكتبات العربية بل قد لا يكون لنفس هذه المواد وجود. وفي حالة وجودها والرغبة في فهرستها نرى اتباع الطريقة المستعملة بشأنها في دار الكتب المصرية ومكتبة الكونجرس الأمريكية.
ويمكن القول أن الفهرسة الوصفية في العالم العربي - حتى الآن - ليست موحدة ولا مقننة ونرى أن تبذل جهود جادة يتم بمقتضاها في القريب العاجل عمل الفهرس البطاقي الموحد لا بالنسبة لدولة عربية على حدة بل بالنسبة لكل الناطقين بالضاد كما هو الحال في مكتبة الكونجرس الأمريكية والمكتبات الأمريكية والإنجليزية الأخرى.
ثانيا - التصنيف:
يحتل التصنيف مكان الصدارة بين فروع علم المكتبات إذ هو يتناول التنظيم المقنن للمعرفة البشرية كما هي ممثلة في الكتب ومواد القراءة وهذه هي العملية الرئيسية الأولى من بين العمليات التي تقوم بها المكتبة لترتيب كتبها حتى يتيسر لها أداء الخدمة المكتبية للقارئ في أقل وقت ممكن ولهذا يعتبر الكثيرون أن التصنيف هو أساس علم المكتبات. لذا اهتم كثير من المشتغلين بالمكتبات بنظم التصنيف وخاصة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
ففي سنة 1876 م صدرت الطبعة الأولى من التصنيف العشري للمكتبات الذي يعد بمثابة نقطة هامة بل وحاسمة في تاريخ علم المكتبات.
ولعل علماء التصنيف أو بالأحرى واضعي خطط التصنيف هم أشهر علماء المكتبات وقد أصبح (ملفل ديوي) علماً على هذه المهنة في أمريكا وفي أجزاء أخرى من بلدان العالم.
كما وضع (كنز) خطة التصنيف الواسعة التي تلافي فيها العيوب العملية في خطة ديوي في رأي كثير من الناقدين.(8/308)
وفي بريطانيا وضع (براون) التصنيف الموضوعي رغبة منه في أن يفي باحتياجات المكتبة البريطانية التي أهملها ديوي. .
وقد حقق أوتليه ولافونتين في قارة أوروبا حلم الببليوجرافيا العالمية كما وضعت مكتبة الكونجرس الأمريكية نظاماً خاصاً بها.
وغير هؤلاء كثيرون نذكر منهم ريتشاردسون ثم رانجاناثان صاحب المدرسة الخاصة في التصنيف والذي تتلمذ عليه ملز صاحب كتاب.
Amodern out Line Library Classification
وقد ترجمه زميلنا الدكتور عبد الوهاب أبو النور مدرس علم المكتبات بجامعة القاهرة بعنوان (نظم التصنيف الحديثة في المكتبات) .
ولم تظهر حتى الآن مؤلفات كثيرة في التصنيف فيما يتعلق بالمكتبة العربية الإسلامية. وترتب الكتب بالمكتبات العربية النامية طبقا لخطة ديوي العشرية المعدلة وخاصة الجدول الثالث مضافا إلى ذلك الحرف الأول والثاني والثالث من اسم المؤلف وترتب على الرفوف طبقا لهذه الطريقة وربما استخدم الكثير من المكتبات حتى الآن الأرقام المسلسلة لورود الكتب في ترتيبها على الرفوف. وتستخدم بعض المكتبات الفهرس المصنف أو الفهارس الموضوعية ومن فوائد الفهرس المصنف أنه يفيد في جرد المكتبة وفي حصر عدد الكتب في مختلف فروع المعرفة بالمكتبة.
ونحن نرى أن التعديل الذي استحدثه الدكتور محمود الشنيطي وزميله الدكتور أحمد كابش والذي يعتمد على الطبعة الثامنة لخطة ديوي لا يكفي بشكله الحالي للعمل بالمكتبات العربية ولكنه يحتاج إلى تفريعات أدق. ونعتزم أن نقوم بذلك بجهودنا الذاتية أو بمعاونة من يهمه أمر تطوير العمل بالمكتبات العربية والإسلامية إن شاء الله.(8/309)
على أن الأمر بالنسبة لتصنيف المكتبة العربية يحتاج بلا شك إلى خطة عربية خالصة تراعي طبيعة التراث الإسلامي والعربي وتعتمد في نفس الوقت على الخطط الأخرى المستعملة في التصنيف ما ذكر منها هنا وما لم يذكر، ونرى مشاركة في وضع أساس مثل هذه الخطة أن تتم على النحو التالي:
تقسم المعرفة الإنسانية عشرة أقسام أو أكثر دون التقيد بمنطق ديوي في المعالجة.
فمثلًا يمكن أن نبدأ الخطة بالديانات وتنتهي بالمعارف العامة وأن تبدأ بالموضوعات وتنتهي بالأعمال الشاملة وهي مخالفة أصلية وجوهرية لما بخطة ديوي العشرية.
فالديانات تقسم إلى:
1- الدين الإسلامي. 2- الدين المسيحي. . . إلى غير ذلك من الديانات الأخرى مرتبة حسب أهميتها في التصنيف الحديث للمكتبات ومنتهية بالتفريعات التي تخص الدين عموماً. على أن يتم في الخطة وضع الفلسفة بعد الديانات لا قبلها لأن الديانات أسبق وجوداً من الفلسفة ثم التاريخ فالتراجم فالعلوم الاجتماعية والاقتصاد والقانون على أن تركز الخطة على معالجة التاريخ الإسلامي وفي كل ذلك تختم الخطة بالأعمال الشاملة في العلم بدلاً من البدء بها وإن كان ذلك لا يؤثر كثيراً في وضع التصنيف إلا أنه يعطي ملامح جديدة لخطة عربية خالصة.
يلي ذلك اللغة فالأدب فالفن ثم العلوم البحتة والتطبيقية ثم المعارف المتنوعة أو العامة في النهاية.
وبذلك يكون هذا التصنيف أكثر منطقية من تصنيف ديوي لأنه ربط بين التاريخ والعلوم الاجتماعية, وبين اللغة والأدب والفن, وبين العلوم البحتة والتطبيقية, وعالج الدين بما يستحق من تقدم على الفلسفة وجوداً وأثراً.
وفي النية إن شاء الله تقديم تصنيف يحمل مثل هذه السمات.
ثالثا - رؤوس الموضوعات:
ولكن الشيء المهم هو توحيد النظم الفنية في المكتبات العربية ومنها التصنيف ذلك أن تطبيق نظام شائع قد يفضل على نظام أكثر صحة ولا يتمتع بمثل ذلك الشيوع.(8/310)
وبالنسبة لاختيار رؤوس الموضوعات والإحالات فيمكن للمكتبات بصفة مبدئية استخدام جداول ديوي المترجمة في هذا الصدد بالنسبة للكتب العربية وقائمة سيرز بالنسبة للكتب الإفرنجية ولا مانع أن تستعين المكتبة - في اختيار رؤوس الموضوعات - بالمعلومات الواردة في كتاب إحصاء العلوم للفارابي والفهرست لابن النديم وكشف الظنون لحاجي خليفة ومفتاح السعادة لطاس كبرى زاده وغير ذلك من الكتب العربية، وخاصة فيما يتعلق بالعلوم العربية والإسلامية ويمكن بالاستعانة بأمثال هذه الببليوجرافيات العربية عمل قائمة موحدة لرؤوس الموضوعات تستخدم في المكتبات العربية كلها.
ويجب أن نختار رؤوس الموضوعات الدقيقة مع استخدام مصطلح واحد للدلالة عليها وعمل الإحالات المناسبة إلى الموضوع المستخدم من المصطلحات الأخرى ولم تتضح بعد الحاجة الشديدة إلى رؤوس الموضوعات الأجنبية لخلو التراث الفكري في كثير من المكتبات العربية من كتب أجنبية ولأن قوائم رؤوس الموضوعات الأجنبية متوفرة ومستخدمة بالفعل.
إما عن طريقة صياغة رؤوس الموضوعات فبالنسبة للرؤوس المفردة يختار رأس الموضوع الأكثر دلالة عليه وترتب هذه الموضوعات هجائيا.
أما رؤوس الموضوعات المكونة من أكثر من كلمة أي التي من عدة كلمات كالصفة والموصوف والمضاف والمضاف إليه فتعالج كما هو ترتيبها في اللغة العربية بلا تغيير وذلك بالنسبة للكتب العربية وقد يكون الأمر عكس ذلك بالنسبة للغات أخرى كالإنجليزية وغيرها.
وقد يكون من المستحسن ألا تلجأ المكتبة كثيراً إلى القلب في رؤوس الموضوعات فيما عدا بعض الحالات بالنسبة للأفراد والهيئات ولا سيما الجغرافيا العربية التي قد تكون الضرورة ملحة لقلبها في بعض الحالات.
ويجوز أن تجزأ رؤوس الموضوعات في المكتبة حسب الشكل أو الزمان أو المكان وذلك حسب ما تقتضيه طبيعة الكتب أو المواد العلمية وما تفرضه كيفية استعمالها.(8/311)
ولا بد أن تستخدم المكتبات الإحالات في رؤوس الموضوعات من الموضوع غير المستخدم إلى رأس الموضوع المستخدم، مستخدمة بطاقة (انظر) إذا كان رأس الموضوع مطابقاً للموضوع المستعمل، أما إذا كان قريباً منه أو يمت إليه بصلة معينة فنستخدم بطاقة (انظر أيضاً) .
ولا بد أن تراجع رؤوس الموضوعات المستخدمة باستمرار وأن تغير حسب الحاجة بالاستعانة بالكتب العربية القديمة كإحصاء العلوم وغيره مما ذكر.
والمشكلة التي تواجه أمناء المكتبات في اختيار رؤوس الموضوعات العربية هي بالضبط مشكلتهم بالنسبة لخطة تصنيف عربية إذ الأمر يحتاج إلى رؤوس موضوعات موحدة أو قوائم رؤوس موضوعات للمكتبات العامة وأخرى للمكتبات المتخصصة وثالثة للمكتبات الجامعية وهكذا.
ولا يمكن الاعتماد على الترجمة عن خطة أجنبية بالنسبة لقائمة رؤوس موضوعات عربية، بل لا بد من الرجوع إلى مصادر التراث العربية الببليوجرافي في هذا الشأن لمخالفة التراث العربي الإسلامي لغيره في الجوهر والشكل ونوعية الاهتمام.
فإلى كل غيور على مستقبل الثقافة العربية وحفظ التراث الإسلامي أكتب هذه الكلمات لعلنا نسعى إلى استجلاء ذلك المستقبل فنحاول شق الطريق إليه.
من مراجع هذا المقال وسابقه:
1- الفهرست لابن النديم.
2- كشف الظنون لحاجي خليفة.
3- مقدمة ابن خلدون وتاريخه.
4- السلوك للمقريزي.
5- تاريخ التربية الإسلامية لأحمد شبلي.
6- السنة قبل التدوين - محمد عجاج.
7- المكتبة والبحث والمصادر - محمد عجاج.
8- دراسات في الكتب والمكتبات - عبد اللطيف إبراهيم.
9- تاريخ الكتاب - سفندال.
10- المكتبات العامة بين التخطيط والتنفيذ - أحمد أنور عمر.
11- نظم التصنيف الحديثة في المكتبات - ملز.
12- موجز التصنيف العشري - ملفل ديوي.
13- تاريخ مكتبة الإسكندرية - محمد حسين.
عدا الكتب الأجنبية.(8/312)
(تجارة رابحة)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] يراد بالمحزوم ذلك النوع من الفهارس الذي يشمل بطاقات طولية الشكل غالبا بها بيانات مطبوعة عن الكتاب تملأ بمعرفة المفهرس وترتب أبجديا ثم تخرم معا بطريقة تيسر وضع بطاقات أخرى إليها عند الضرورة.
[2] يقوم تصنيف ديوي على تقسيم المعرفة الإنسانية إلى عشرة أقسام. وتفريع كل قسم إلى عشرة أفرع وتوزيع كل فرع إلى عشرة أجزاء وهكذا إلى ما لا نهاية.
وتجزئ الفروع إلى أجزاء هو ما يطلق عليه الجدول الثالث أو الرتبة الثالثة من نظام ديوي. أي المرحلة الثالثة من التقسيم.(8/313)
ليكن شعارنا الدائم الله وحده (2)
للشيخ السعيد الشربيني الشرباصي
المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
وإذا استقرت في نفوسها تلك الحقيقة الثابتة التي هي أم الحقائق وغاية الغايات ونهاية النهايات، وأصبحت محور وجودنا منها نندفع ولها نعمل وإليها نعود، فلم نر في هذا الوجود سوى الله وحده، وأن ما عداه صدر عنه ونشأ منه وخضع له واستكان لعزته ودان لسلطاته وخشع لجبروته، لا إله إلا هو الواحد القادر القهار، إذا استقرت في نفوسنا تلك الحقيقة أصبح الإيمان بالله هو الطاقة التي تخلق فينا الحياة، وتصنع لنا الوجود، وصار صدورنا له وورودنا منه وتلاشت الخلائق وما يبدو لها من قوة أو سلطان أو طغيان.
انظر معي عبر الزمن إلى فئات المعذبين من المؤمنين وهم حول محمد وعيسى وموسى وإخوانهم المرسلين ـصلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ وهم لا يقيمون وزناً لما يصيبهم من عدوان أو طغيان، وعندما كان يقال لهم: إن الناس قد جمعوا لكم. فما يزيدهم هذا التجمع إلا إيماناً على إيمان.
وانظر معي إلى قمم الهداية وهي تتعرض لعواصف الجهل وزوابع الكفر وحماقات الشرك فتلقى ذلك كله بالرضا والقبول، وتعطي في مقابل ذلك بسمات ودعوات وتضرعاً إلى صاحب السلطان ومالك الأمر والنهي متفقة بهم وهي تقول: "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون".
وهكذا كان الجهل وعدم العلم هو سر الأسرار في انغلاق الأفهام والأبصار، ولو أن الإنسانية فتحت عيونها على الكون متجردة من الغرض والمرض لوجدت الحقيقة الباهرة التي تجذب الأنظار وتزلزل القلوب والمشاعر:(8/314)
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
ولكن أين العقل؟ أين العقل والهوى غلاب، والشهوة تطغى، والضعف يعجز، والتقليد أيسر من الاجتهاد، أين العقل بل أين الرشاد؟
والإيمان قوة علوية تمد المؤمن بكل الطاقات التي تدفعه إلى التغلب على الصعاب والظفر بما يريد وأنه ليخلق في الفرد رقابة قوية تحاسبه وتسائله وتقيمه وتقعده، فإذا أحسن قصد بإحسانه وجه الله وحده، وذا اشتد كانت شدته غيرة على حدود الله تعالى وحده، وإن قسا كانت قسوته للإصلاح لا للانتقام.
وهذه الرقابة أعظم سلطة وأدق قانون وأكبر باعث على التنفيذ، ومعها لا تحتاج الجماعة إلى دعاة أو نهاة، ولا تحتاج الجيوش إلى إثارة حماس أو إلهاب مشاعر ... …
والوحدانية شيء وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله بداية لهذا الشيء العظيم وإشارة إلى هذه الحقيقة الكبرى. وإن مئات الملايين من المسلمين يرددون هذا القسم مرارا وتكرارا ولا أقول إنه صدر نفاقا أو رياء، بل إنه صدر عن تسليم ورضا، واعتراف وإذعان.
ولكن أين حقيقته؟
أين هؤلاء الاخوة الأحباب من حقيقة هذه الحقيقة؟ هل جعلوه الشعار العلوي لمبادئهم وأخلاقهم وتصرفاتهم؟ وهل تجردوا في أعمالهم وأقوالهم وقوانينهم من كل معارضة لهذا الشعار؟(8/315)
في كل زمان يتخذ الناس أربابا من دون الله تسيطر على تفكيرهم، وتصرفهم عن حقيقة الحقائق ويحسون أنها تصرف أمورهم ولا أقول: إنهم يعترفون بهذه الآلهةو الحمد لله ـ أو يدينون لها ويصلون من أجلها، ولكنهم من غير اعتراف منهم يتصرفون بوحي منها، وبتأثيرها عليهم، ناسين المصدر الأعلى والمنبع الزاخر لكل حس وكل نفس وكل حركة، وصدق الله العظيم حين كشف هؤلاء ...
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} . فالقوة الحقيقية لله, والقوة الفعالة له وحده..
وكثيرون يتخذون هؤلاء الأنداد وهم لا يشعرون ... هذا الذي يثق في عون فلان، أو يخيل له أن فلاناً هذا يقدم أو يؤخر وينفع أو قد يضر.. ثم هؤلاء المرؤوسون الذين يطأطئون رؤوسهم لسادتهم وكبرائهم ويصدرون عن رغباتهم وأهوائهم ولو تعارضت مع العدل أو تناطحت مع الحق، وما يصح أن تحنى الرؤوس إلا لخالقها، أو تميل ركوعاً إلا لموجدها.
لقد حارب الإسلام بصورة رائعة كل هذا الانحراف منذ البداية، وضرب أمامنا القدوة الكريمة وأعطى العظة البالغة للتخلص من كل شبهة والتجرد لله وحده، والقرآن يحدد وضعه فيقول: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} .
ثم لماذا نميل يمنة أو يسرة ونحن نرى الله أقرب إلينا من حبل الوريد، نجده تجاه عيوننا، وفي قلوبنا وأبصارنا. وحقيقة الحقائق تطالعنا في كل ضوء مع كل ظل، ولا تعزب عن خاطر المنصف لحظة..(8/316)
انظر معي هذه الشمس التي تملأ الدنيا ضياء، وهي مع ما تعطي من دلالات عن مصدرها وخلقها تعطي في الوقت نفسه دلالات أصلية على صدق هذه الحقيقة بحركتها وانتقالها وأشعتها، فالضوء والظل وهما ظاهرة مستمرة دائبة تعطي لنا هذه الظاهرة قصة حزينة عن طبيعة هذا العلم المتغير الفاني.
إن الظل يمثل الحياة تماماً، وهو في امتداده لا يستقر على حال بل وفي لحظات استقراره -كما يخيل لنا- يتحرك وينتقل ويتغير.. وفي مقابله الضوء يقوم بمثل هذه التغييرات.. وما هي إلا ساعات وتنقلب الحال، ويأخذ النور مكان الظلام، ويأخذ الظلام مكان النور، وتصبح الشمس في المغرب بعد أن كانت في المشرق.
هذا البرمج اليومي الذي تعرضه العناية الإلهية بالضوء والحس كل يوم لا يحتاج فقط إلى توجيه او تنبيه. وإنما يحتاج فقط إلى (لحظة تأمل) فتحة عين، نظرة فكر، وعلى أثر ذلك تحدث الهزة النفسية والإشراقة الروحية والتفتح القلبي لرؤية النور ولمعرفة الطريق.
وما هو إلا تجرد من الأوهام وتخلص من الجمود وانطلاق من الجهالة إلا ونرى الحقيقة العميقة، الحقيقة الرائعة ونسعد بالإيمان الصحيح يتبعه اعتراف صادع بعظمة الخلاق وإقرار قوي بسلطته المطلقة التي لا يشاركه فيها سواه.
إني أطلب تركيز هذه الحقائق في نفوسنا وضمائرنا ومشاعرنا لتظل عيوننا معلقة بالسماء، مقدرة لحق الله تعالى، فلا تنصرف إلى سواه ولا تتعلق بما عداه. {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ. .}
أيها الإيمان العظيم حينما تنزل إلى قلوبنا وتستقر بين جوانحنا نستطيع أن نكون قوة فعالة تستعذب المر، وتستطيب العلقم وتستذل الجبروت وتحتقر كل متاع الوجود، وتغير جهالات العالم، وتطهر دروبها، وتنير آفاقها. .(8/317)
ليبلوكم أيكم أحسن عملا
لفضيلة الشيخ ربيع بن هادي: الدراسات العليا بمكة المكرمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله إمام الموحدين وقائد الغر الميامين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وبعد: فإن الله العليم الحكيم في خلقه وشرعه وقدره وفي أقواله وأفعاله قد خلق هذا الكون الكبير السموات والأرض وما فيها من آيات عظيمة مما يشاهد وما لا يشاهد وما يعلمه الإنسان وما لا يعلمه لحكمة عظيمة وغاية جليلة هي ابتلاء البشر في هذه الحياة الدنيا واختبارهم أيهم أحسن عملاً، كما ذكر ذلك في محكم ذكره {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} , وهذا الابتلاء هو المذكور في قوله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} وهو المقصود في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} ومن هنا يعلم الإنسان مكانته في هذا الوجود ويعرف قيمته.(8/318)
وأن هذا الامتحان والابتلاء الذي أعده الله له أمر له خطره بحيث سخر من أجله هذا الكون العلوي والسفلي فالسماوات بأفلاكها وكواكبها وشمسها وقمرها قد سخرت لك أيها الإنسان لتقوم بأداء هذا الامتحان على أكمل الوجوه، قال الله تبارك وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وشكر الله المذكور في الآية يتحقق بالقيام بتلك الغاية التي خلقت من أجلها, والتفكير الجاد يؤدي إلى القيام بهذا الشكر، والله تباك وتعالى يلفت أنظار عباده إلى حسن عنايته بالإنسان {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} , فيها حض لعباده الواعين الذين أدركوا المهمة التي خلقوا من أجلها أن يغتنموا الفرصة التي أتيحت لهم فلا يضيعوها, ثم بيّن لهم أنه قد أعدّ لهم كل ما من شأنه أن يساعدهم على القيام بواجبهم على أتم الوجوه وأن لهم منزلة عظيمة عند الله بحيث أن ما يشاهدونه مما بين أيديهم وما خلفهم من السموات والأرض قد سخر لهم حتى يشعروا بعظم النعمة وجسامة المسؤولية {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ(8/319)
لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} .
إمكانية الإنسان
وإن الله سبحانه قد زود الإنسان بطاقات ومواهب ترفعه إلى مستوى المسؤولية التي ألقيت على كاهله وتؤهله للخلافة في الأرض فزوده بما يلي:
1- بالعقل الذي يميز به بين الحق والباطل والضار والنافع وأناط التكاليف وربطها بوجوده ورفع التكاليف عند فقدانه.
2- وهيأ تكوينه وتركيبه الجسمي أحسن تهيئة وأعده أحسن إعداد وخلقه في أحسن تقويم يتلائم تمام التلاؤم والموافقة مع ما كلفه الله به من أعمال وواجبات فيزاولها ويقوم بها بسهولة ويُسر فهو يختلف عن سائر الحيوانات بهذا التركيب الجميل الممتاز والتقويم الأحسن، كلفه بالطهارة على اختلاف أنواعها وتكوينه الجسمي يساعده على القيام بها. وكلفه بالصلاة وهيئته قد أعدها الله أحسن إعداد للقيام بهذا الواجب فهو يستطيع كل أفعال الصلاة من قيام وركوع وسجود كما يستطيع أن يؤدي كل الأقوال من قراءة وتسبيح وسائر الأذكار.(8/320)
3- وزوده إلى جانب ما ركزت فيه من فطرة الاعتراف بالله بإرسال الرسل وإنزال الكتب التي فيها يترتب تفاصيل وبيان كل الواجبات والتكاليف التي يجب أن ينهض بها وما يترتب عليها من سعادة ونعيم وجزاء حسن إن هو قام بها وأداها على الوجه المطلوب، وقبل هذا زوده إلى جانب ما فُطر عليه من فطرة الله وما يؤيد هذه المعرفة من آيات كونية باهرة يشاهدها بعينه ويسمعها بأذنه فتوحي إلى قلبه بما فيها من روعة وجمال وعظمة وإبداع بقدرة خالقها الهائلة وعمله المحيط الشامل وحكمته العليا التي تضع كل شيء في موضعه, زوده بما يعرف به من صفات خالقه ونعوت جلاله مما يزيده علماً وبصيرة ومحبة وتعلقاً بهذا الرب العظيم, وعلى ضوء ما سبق من ذكر الخالق العظيم الموصوف بصفات الكمال ونعوت الجلال, ومن ذكر العبد الذي زوده الله بوسائل عظيمة تؤهله لمعرفة الله وعبادته والقيام بالخلافة في أرضه نستطيع أن نقول إن توحيد الله الذي جاءت به الرسل ودعت إليه ونزلت لبيانه الكتب السماوية نوعان:
1- توحيد المعرفة والإثبات.
2- توحيد الطلب والقصد.
فتوحيد المعرفة والإثبات - وهو يشمل توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات, هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله على أساس تنزيهه عن مشابهة المخلوقين, وهذا المبدأ وهو مبدأ التنزيه يرتكز على أدلة وبراهين من القرآن العظيم مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} , {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} , {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} .(8/321)
وبتعبير آخر نقول إنه يجب الإيمان بما ورد في القرآن والسنة من صفات الله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل, وهذا المنهج هو منهج السلف الصالح وهو الصراط المستقيم الذي يضمن للمؤمن السلامة من التخبط في ظلمات التشبيه والتعطيل, إذا المشبه كما يُقال يعبد صنماً والمعطل يعبد العدم, وأدلة هذا النوع من التوحيد كثيرة جداً نذكر ما يتيسر، قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ, هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ, هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} , جمعت هذه الآية بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، وقال تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ, هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ, هو هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} الحديد. وقال تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى. إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى. تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى. الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ(8/322)
اسْتَوَى. لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى. وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} .
وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ, يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} السجدة. وقال تعالى: {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} , وقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} , دلت هذه الآيات على صفات كمال تليق بجلاله وعظمته وهي الإلهية وعلم الغيب والشهادة والرحمة والملك والقدوسية والهيمنة والعزة والجبروت والكبرياء وكونه السلام المؤمن الخالق البارئ المصور والمختص بالأسماء الحسنى وخضوع أهل السماوات والأرض له والعزة والحكمة الأولية والتفرد بالإحياء والإماتة والقدرة الشاملة والأولية المطلقة التي لم يسبقها شيء والآخرية التي ليس بعدها شيء والاستواء على العرش وكونه في السماء على الوجه اللائق به وله صفات أخرى مثل السمع والبصر والإرادة دلت عليها أدلة أخرى من الكتاب والسنة لا يتسع المقام لذكرها كلها يجب أن يكون موقف المؤمن إزاءها موقف الإيمان الكامل والتسليم المطلق وأن يتلقاها بصدر رحب ونفس مطمئنة لا يتسرب إليها حرج(8/323)
أو شك, إلا أنه مع الأسف قد لعب الشيطان برؤوس أناس اختلفت نظراتهم ومواقفهم من هذه الصفات ما بين غال في الإثبات إلى أن انحدر إلى مستوى لا يليق به فشبه الله بخلقه ولم يقرأ مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} , مما يفيد التنزيه وما بين معطل جريء جحد صفات الكمال ونعوت الجلال وهم ما بين شجاع أعلى هذا الجحد وأبدى صفحته غير هياب ولا متلعثم وما بين مختف وراء ستار من التحريفات سميت تأويلات, وبين ذلك الإفراط وهذا التفريط منهج السلف الصالح وعلى رأسهم رسول الله وصحابته الكرام والتابعون لهم بإحسان وأئمة الهدى, هذا المنهج هو كما قدمنا الإيمان بما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل ولنذكر هنا ثلاث صفات يتجلى له من خلال الكلام عليها أن الحق كان فيها حليف أهل السنة والجماعة وأن طريقهم هو الطريق المستقيم الذي لا يجوز العدول والإنحراف عنه.(8/324)
أولا: صفتا العلو والاستواء على العرش، أما صفة الاستواء فقد وردت في القرآن الكريم في سبعة مواضع, في سورة الأعراف.2- وفي سورة يونس. 3- وفي سورة هود. 4- وفي سورة طه. 5- وفي سورة السجدة. 6- وفي سورة الرعد. 7- وفي سورة الحديد. وأما صفة العلو فقد دلت عليها نصوص كثيرة من الكتاب والسنة مثل قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم} , وقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه} وقول الرسول صلى الله عليه وسلم للجارية "أين الله؟ قالت: في السماء, قال: اعتقها فإنها مؤمنة", وقصة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله في السماء، وقد ألفت كتب في موضوع العلو والاستواء؛ مثل اجتماع الجيوش الإسلامية للإمام ابن القيم, والعلو للعلي الغفار للذهبي بلغت الأدلة فيها ما يقارب ألف دليل, والواقع أن القليل منها يكفي المؤمن الصادق ويقنعه ويفرض عليه الإيمان بهاتين الصفتين العلو والاستواء.
ثانيا: صفة الرحمة, قال بعض العلماء وهو ابن الوزير وقد أخذته الدهشة من موقف الأشاعرة كيف تجرؤوا على تأويل صفة الرحمة وقد وردت في القرآن أكثر من خمسمائة مرة بأسلوبي التأكيد التكرار, والتأكيد والتكرار عند علماء البلاغة يرفعان احتمال المجاز لو قلّ هذا التكرار والتأكيد فكيف لا يرتفع المجاز عن كلام الله وإن أكد وكرر بالمئين.(8/325)
فمن ذينك الأسلوبين- التكرار والتأكيد- قوله تعالى في صدر كل سورة ما عدا سورة التوبة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مائة وثلاث عشرة مرة, وفي أثناء سورة النمل بعض آية {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} , ثم اختتام كثير من الآيات القرآنية باسمه تعالى الرحيم وإنه لموقف مدهش غريب ولون من التناقض غريب من قوم يدعون أنهم هم أهل السنة والجماعة, وقد ألفت كتب كثيرة جداً في بيان الطريق الصحيح في الإيمان بصفات الله والرد على المعطلة والمشبهة, منها كتاب التوحيد لإمام الأئمة ابن خزيمة, والسنة للإمام أحمد بن حنبل, والرد على بشر المريسي لعثمان بن سعيد الدارمي, والسنة للالكائي, وغيرها من المؤلفات, وفي تراجم أمهات السنة منها ما هو صريح في الرد على الجهمية وهم المعطلة فتجد مثل الإمام أبي داود يقول- عقب حديث أورده فيه ذكر صفة الاستواء والنزول-: "وفي هذا رد على الجهمية", وابن ماجه يقول في ترجمة في كتابه أورد تحت هذه الترجمة أحاديث في الصفات قال في الترجمة:"باب الرد على الجهمية" ويورد تحتها كثيراً من الأحاديث في الصفات ممّا يشجع طالب الحق على التمسك بكل ما ورد في الكتاب والسنة من الصفات, والعض عليها بالنواجذ.(8/326)
وأما توحيد الربوبية وهو الإيمان بأن الله وحده هو الخالق الرازق المحي المميت والمدبر لشؤون الكون فأدلته كثيرة جداً, منها ما تقدم ذكره في الآيات السابقة ومنها قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} , {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} , {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض} , {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} , {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} , {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} , {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} , {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} , والآيات الكونية السماوات وما فيها من كواكب وأفلاك وإبداع صنعها وروعة جمالها ونظم سير السيارات منها في دقة مدهشة والأرض وما فيها من جبال راسية, وبحار زاخرة وما فيها من حيوان وأشجار ونبات وأزهار من أعظم الأدلة على خالقها العليم القدير الحكيم وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد، وقال أعرابي حينما سئل عن الله أن البعرة تدل على البعير والسير يدل على المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا تدل على اللطيف الخبير، فهذا النوع من التوحيد من الأمور البديهية المسلمة عند جميع الأمم وفي جميع النحل إلا من كابر عقله وفطرته, وقد قصّ الله علينا في القرآن موضوع رسالات جميع الرسل إنه توحيد العبادة, وإن الرسل إنما كانوا يدعون أممهم إلى عبادة الله وحده، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا(8/327)
الطَّاغُوتَ} , وحكى عن المشركين أنهم كانوا معترفين بوجود الله, وأنه خالق السماوات والأرض, {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} , {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} . ومن الأدلة على هذا النوع وأن لهذا الكون خالقا أنشأه وأوجده؛ قانون السببية؛ وهو أنه لا بد لكل حادث من محدث، وإليه يرمز قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ؟} أي أوجدوا من غير موجد أم هم أوجدوا أنفسهم؟ أي لا هذا ولا هذا بل الله أوجدهم، وظاهرة العناية والحكمة في هذا الكون تدل على الخالق الحكيم, وأنه لا مجال للمصادفة العمياء التي يزعمها عمي القلوب والأبصار الصم والبكم الذين لا يعقلون.(8/328)
أما توحيد العبادة فهو محور جميع الرسالات السماوية ومعناه إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة, والعبادة هي الخضوع المطلق لله وتوجيه العبادات والمطالب والرغبات كلها إليه, أو بتعبير آخر هي أمر جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال, وتوجيه أيّ عبادة لغير الله المعبود الحق يعتبر شركاً به ومخالفة دنيئة لما فرضه الله على عباده وانحرافاً شنيعاً عن الغاية الرئيسية التي خلق الله الإنسان من أجلها وسخر له ما في السموات والأرض كي يتسنى له القيام بها على الوجه المطلوب، وإذا استعرضنا القرآن نجد أن مدار جميع الرسالات وهدفها الأصيل هو إرجاء الناس إلى هذه الغاية الخطيرة كلما انحرفوا عنها قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ، وقال: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ} ,وقال: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه} , وقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه} . وهذا النوع من التوحيد هو معنى لا إله إلا الله؛ فإن قولهم جميعاً {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} هو نفس معنى لا إله إلا الله, والمعنى الحقيقي لهذه الكلمة: لا معبود بحق إلا الله, وليس معناها لا خالق ولا رازق إلا الله, كما يتوهم بعض الناس ممن لا يفهم معناها, بل معناها ما ذكرنا لا معبود بحق إلا الله كما نقل ذلك عن ابن عباس وجماعة من أهل التفسير واللغة.(8/329)
ونرى لزاماً علينا أن نكشف عن معنى العبادة وأنواعها التي هي مدلول لا إله إلا الله, وأن صرفها لغير الله يُعد شركاً به وإبطالاً لمضمون هذه الكلمة، فمنها الدعاء قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} , وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} , وقال تعالى- زاجرا عن دعاء غيره من ميت وغائب-: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} , وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} . وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} , وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار", ومنها الاستعانة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله", ومنها الاستغاثة وهي دعاء في حال الشدة, ومن الأدلة عليها ما تقدم في الدعاء ومنها قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} , ومنها الذبح قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} .
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من ذبح لغير الله".(8/330)
ومنها الرجاء قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} ومنها الإنابة قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} ، ومنها التوكل قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} , ومنها المحبة قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} ومنها الخشية والخوف {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} , {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} , وقال تعالى في مدح الأنبياء: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} ، ومنها الركوع والسجود قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
ومنها الخشوع قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً} . ونستخلص من الأدلة السابقة أن الدعاء عبادة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء عبادة".
والاستعانة بالمخلوق في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله عبادة والاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله عبادة.(8/331)
والصلاة والذبح والنحر والرجاء والإنابة والتوكل والمحبة والخشية والرغبة والرهبة والركوع والسجود والخشوع هذه الأمور كلها عبادات لا يجوز أن يتوجه بها العبد إلا لله ولا يصرفها إلا لجلاله, وإن صرفها لغير الله يعد شركاً به في خالص حقه, وإن منهاج جميع الرسل وهدف كل الرسالات هو إفراده سبحانه بالعبادة التي لم يخلقوا إلا لكي يقوموا بها لله وحده مخلصين له الدين.
مكارم الأخلاق
قال أبو تمام:
إذا جاريت في خلق دنيئاً.
فأنت ومن تجاريه سواء.
رأيت الحر يجتنب المخازي.
ويحميه عن الغدر الوفاء.
وما من شدّة إلا سيأتي.
لها من بعد شدتها رخاء.
لقد جربت هذا الدهر حتى.
أفادتني التجارب والعناء.
يعيش الحر ما استحيا بخير.
ويبقى العود ما بقي اللحاء.
فلا والله ما في العيش خير.
ولا الدنيا إذا ذهب الحياء.
إذا لم تخش عاقبة الليالي.
ولم تستحي فاصنع ما تشاء.(8/332)
المسلمون في الولايات المتحدة
حقيقة أليجا محمد وجمعيته المسماة بـ (المسلمين السود)
بقلم المسلم الأمريكي: عمر فاروق عبد الله
عدد المسلمين التقريبي في الولايات المتحدة الآن أكثر من نصف مليون بعضهم من المهاجرين الذين هاجروا إلى أمريكا من البلاد الإسلامية المختلفة، وحوالي نصفهم الآخر أو أكثر من الأمريكيين الذين أسلموا وكانوا مسيحيين أو يهود من قبل، وأغلبية هؤلاء من الافرو_ أمريكيين أو (السود) فمن الممكن أن يمثل هذا العدد أكثر من 90% منهم. بسبب حرية الأديان في الدستور الأمريكي.
وليس للحكومة الأمريكية طريقة شرعية مباشرة ضد هؤلاء المسلمين، ففي معظم الأحيان إذا أرادت الحكومة الأمريكية أو أي منظمة أخرى أن تتخذ إجراء ضد المسلمين يجب عليها أن تجد طريقة غير مباشرة، فمن أكبر الموانع ضد انتشار الإسلام الصحيح في الولايات المتحدة الآن وجود حركة اليجيا _ أو_ الياس محمد المعروفة في العالم الإسلامي باسم (المسلمين السود) وللأسف نجد كثيراً من المسلمين يريدون أن يبرروا هذه الحركة على الرغم من أنهم لا يعرفون شيئا عنها أو عن دورها الذي تلعبه في الولايات المتحدة ضد انتشار الإسلام الصحيح.
فمن المهم أن نعلم أولاً أن جمعية الياس محمد لا تمثل الإسلام أبداً ولا يستحق أعضاؤها اسم (مسلمين) . إن إلياس محمد يدعي أنه رسول الله ويقول إنه يمثل النبي الياس في التوراة والنبي محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن.
وتعاليم هذا الرجل الكذاب تعاليم عنصرية، فمن تعاليمه: أن الرجل الأبيض شيطان والرجل الأسود إله.. ويعلم الياس محمد أيضاً أن الله عز وجل قد ظهر إليه في مدينة ديترويت في الولايات المتحدة في شكل رجل اسمه فرد محمد، فعلمه فرد محمد كل ما يعلم عن الإسلام وأسرار الغيب.(8/333)
والياس محمد ينكر وجود الآخرة ولا يسمح لأتباعه أن يقرؤوا القرآن الكريم، ولقد أخذ بعض الآيات من القرآن وجمعها في كتاب دعاه بـ (قرآن الياس محمد) وكان في أغلب الأحيان يعتمد على الإنجيل والتوراة.
ولا يسمح الياس محمد لأي شخص غير أسود أن يدخل جمعيته وفي نفس الوقت لا يسمح لكل رجل أسود أن يدخل في هذه الجمعية، فيختار الياس محمد وأصحابه المقربون هؤلاء الذين يمكن أن يدخلوا هذه الجمعية، إنه يريد فقط هذا النوع من الناس الذين يطيعون كل أمر ويؤمنون بكل عقيدة من عقائد جمعيته دون تفكير ودون برهان ودون منطق وبانقياد أعمى. فعند بعض المسلمين في العالم الإسلامي حسن الظن بالياس محمد، ويظنون أنه لو علم الياس محمد حقيقة الإسلام وتعاليمه الصحيحة لأسلم وأصبح عاملاً كبيراً في خدمة الإسلام وانتشاره في الولايات المتحدة.
وقد زار كثير منهم هذا الرجل الكذاب في بيته أو في مركزه في شيكاغو أو في غيرها وكل هذا دون نتيجة تذكر، فكان هذا الرجل يعلم الإسلام الحقيقي من قبل، ولكنه يعمل ضده وكان الياس محمد ممن دخل في حركة القادياني في الثلاثينات من قبل أن يؤسس جمعيته.(8/334)
وفي رأيي كمسلم أمريكي أن الياس محمد يمثل أكبر مانع ضد انتشار الإسلام الصحيح عند الأمريكيين لأسباب مختلفة؛ منها أنه يمثل الإسلام في عين الرجل العادي من الافرو_أمريكيين أو بعض الأمريكيين الآخرين، فعندما يفكر الأمريكيون في الإسلام أو يهتمون بتعاليم هذا الدين الحنيف يذهب فكرهم إلى التعليم الناقص، ومن ناحية أخرى ولعلها تكون الأهم يمارس الياس محمد وتابعوه الضغط والبطش ضد المسلمين الحقيقيين من الأفرو_أمريكيين فمثلاً في العام الماضي قتل ثمانية من المسلمين السنيين الافرو_أمريكيين في مدينة واشنطن على أيدي جمعية الياس محمد فكان رب هذا البيت يهتم بالدعوة الإسلامية في شوارع واشنطن فقال للناس عموما: أن الياس محمد لا يمثل الإسلام وأن تعاليم الإسلام الحقيقي شيء آخر تماماً. وأرسل بعض الرسائل لإلياس محمد وأكبر رجال جمعيته قال فيها إن الياس محمد رجل كذاب وشيطان … الخ … ودعا الناس إلى الإسلام الحقيقي وبعد ذلك ذهب إلى بيت هذا المسلم المجاهد ثمانية رجال من جمعية الياس محمد فقتلوا زوجته وبناته الثلاث وشاباً واحداً وأغرقوا في حمامه ثلاثة أطفال.
وليست هذه أول حادثة من هذا النوع فمن المعروف أنه إذا أسلم تابع لإلياس محمد وأصبح مسلماً صحيح الإسلام فمن المحتمل أنه يكون هذا الرجل وعائلته في خطر القتل على أيدي جمعية الياس محمد، ومن المعروف أيضاً أن الحاج مالك (مالكم اكس) قتل بأيدي هذه الجمعية وذلك لأنه كان أحدها أعضائها ثم تركها وأصبح مسلماً حقيقياً وأدى فريضة الحج، ثم رجع إلى أمريكا ودعا الناس إلى الإسلام الصحيح وإلى التخلص من تعاليم الياس الباطلة، فكان نتيجة ذلك أن قتل على أيدي جماعة الياس محمد كما ذكرت آنفا، ومن المحتمل أن سبب قتله يعود لنشاطه السياسي عند الافرو أمريكيين ونشاطه الإسلامي، ومن المحتمل أن تكون الحكومة قد استعملت جمعية الياس محمد كوسيلة غير مباشرة ضد الحاج مالك.(8/335)
والواجب على كل مسلم أن يعرف حقيقة جمعية الياس محمد ودورها ضد انتشار الإسلام في أمريكا ويجب عليه ألا يبرر هذه الجمعية، فهي من أكبر الموانع ضد انتشار الإسلام في أمريكا وعلى أيديها أريق دم بعض إخواننا الذين كانوا يدعون الأمريكيين للإسلام الصحيح.(8/336)
هكذا دَربُنا
بقلم الشيخ عبد الله قادري: مدير الاشراف الاجتماعي بالجامعة
درب المصلحين من الأنبياء والمرسلين، والدعاة إلى الله من العلماء العاملين واحد: قتل، تشريد، مضايقة في الأهل والمال والولد، ولكن القافلة مستمرة والطريق مسلوك دائماً: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله". كلما رحل إلى الله رائد حل مكانه قائد وكلما التحقت بالرفيق الأعلى جماعة حلت محلها أخرى سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا. والعاقبة للمتقين، والويل لأعداء الدين.
لقد قدم الدعاة إلى الله الشهيد تلو الشهيد، وكلما استشهد واحد أنار الطريق لإخوانه بدمه فواصلوا السير غير عابئين بما في الطريق من أشواك وما به من عقبات (هكذا دربنا) .
ومن أفراد هذه القافلة أخونا في الله الشيخ حسين بن أحمد الهجرة اليمني الذي تخرج في الجامعة الإسلامية وذهب إلى بلاده يلاحق الملحدين بالعلم والعمل مجاهداً مناضلاً صابراً محتسباً حتى أقض مضاجعهم وأقلق بالهم ووضع سداً منيعاً لحماية أهل بلاده من الملحدين الذين دربتهم قوى الإلحاد الشيوعي بواسطة ثلة من الصبيان المارقين من أبناء الجنوب. ومن عادة أعداء الإسلام أنهم لا يقر لهم قرار ما دام في الأرض مناضل ضد كفرهم خبير بمداخلهم ومخارجهم.(8/337)
إن ناظرهم ألقمهم الحجة، وإن حذر من خداعهم كشف عوارهم وعرى الخبث الذي تنطوي عليه ضمارئهم، وإن حمل ضدهم السلاح أرهبهم وأخافهم، فلم يبق لأعداء الله إلا الاغتيال الخفي في أماكن الأمن والسلام, عندما يضع الداعي يده اليمنى على اليسرى متوجها إلى ربه يناجيه أو يضع جبهته إلى الأرض في خشوع وتذلل، هنا تسنح الفرصة لأعداء الله فيطلقون نار حقدهم الدفين لينقلوا الداعي إلى الله من الدنيا إلى الآخرة الباقية إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، وهكذا كان الشيخ حسين الهجرة رحمه الله، لقد حاولوا اغتياله من قبل في مصلاه وكان أجله لم ينته فلم يصيبوه بأذى وبقي حربة في نحورهم حتى أدى واجبه، وهذه المرة كان الأجل قد انتهى فقضى نحبه شهيداً _ إن شاء الله _ في صلاته رحمه الله رحمة واسعة وهدى أبناء بلده إلى السير في طريقه حتى يكتب الله لهم النصر والشهادة، وهذه أبيات قليلة أنشدت بمناسبة نعيه:
جاءك الخير فاغتبط بلقاه
وأتى المجد باسطاً يمناه
إنه الفوز إن تيسر إلى الله
شهيداً مصلياً لرضاه
جاءك الغر بالرسالة يسعى
زاعماً أنه أصاب مناه
لو درى النكس ما بها من معان
لانثنى راجعاً يجر خطاه
إنها دعوة لضيف عزيز
يكرم الله أثرها مثواه
في نعيم تتوق حور حسان
لعريس مطيب بدماه
هكذا دربنا يضاء بشمع
من دمانا ليستمر سناه
إنه الحق يا ذويه فيسروا
في ثبات فغيرنا قد قلاه
طبت نفساً فقيدنا ثم طابت
أنفس مثلها اشتراها الإله(8/338)
برقية
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
لاهور- باكستان
فخامة رئيس مؤتمر القمة الإسلامي بلاهور
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإن الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تشكر لله تعالى أن وفق ملوك المسلمين ورؤساءهم للاجتماع تحت راية الإسلام معتصمين بحبل الله تعالى في هذه الفترة الحاسمة من تاريخ الأمة الإسلامية، وهي إذ تحيي بتحية الإسلام كل من أسهم في الدعوة لهذا المؤتمر، وكل من يحضره من قادة المسلمين تطلب من فخامتكم أن تنقلوا إليهم رغبة القائمين على أمر الجامعة وهيئة التدريس بها وطلابها الذين يمثلون أكثر من ثمانين دولة رغبتهم الصادقة في أن يكون لهذا المؤتمر أثره العملي الناجز في النهوض بالأمة الإسلامية والعودة بها إلى ماضيها المجيد وإعلان الجهاد في سبيل الله، وأنتم تعلمون جميعاً كما يعلم كل مسلم أنه لا صلاح لهذه الأمة إلا بما صلح به أولها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تعمل بهما وتطبق أحكامهما. فالشريعة الإسلامية هي فطرة الله التي فطر الناس عليها وكل خروج عنها إنما هو خروج عن الفطرة السليمة، وكل حكم بغير ما أنزل الله إنما هو بوار وجور.(8/339)
قال الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} , وما تأخرت الأمة الإسلامية، ولا اضطربت أمورها الداخلية، ولا طمع فيها أعداؤها إلا لأن بعض قادتها تنكروا لشريعة الله، وآثروا عليها القوانين المخالفة لها والمبادئ الضارة التي وفدت علينا من أقطار لا تريد بنا إلا شرّاً، فمن أول ما تدعو إليه شرعة الإسلام جمع كلمة المسلمين وتوثيق الروابط بينهم، وقد حاول أعداؤنا بكل أساليبهم الخبيثة بث الفرقة وإشعال نار العداوة بين المسلمين فتفرقت الكلمة وتصدع البناء وتداعت علينا الأمم، واليوم نشهد بحمد الله تعالى حركة جادة مخلصة لجمع كلمة المسلمين وتوحيد صفهم ليقفوا في وجه أعدائهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، ولا تتم وحدة المسلمين حتى يخضعوا جميعاً لحكم الله عز وجل كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} , وذروة الإسلام الجهاد فما تركه قوم إلاّ ذلوا.
وقد تألب على الإسلام جشع الاستعمار الغربي والشرقي وكلب الصهيونية فوقعت أجزاء من بلادنا بين براثنهم ودنست أقدامهم بعض مقدساتنا ولا خلاص من هذا الزحف الوحشي إلا بالجهاد المقدس والسماح لكل مسلم يرغب في الدفاع عن دينه ومقدساته أن يغبر قدميه في سبيل الله وفي بعض الأقطار يتعرض إخوان لنا لأقسى أنواع الاضطهاد والتعذيب والإبادة كما هو الحال في الفليبين وبلغاريا وواجب الأخوة الإسلامية يهيب بنا أن نسارع لنجدتهم، وأن نبذل النفس والنفيس لتخليصهم من أيدي جلاديهم.(8/340)
إن المسلمين في كل أقطارهم يتطلعون بأمل الواثق في وعد الله للصادقين إلى ما يسفر عنه مؤتمركم من خطوات عملية ناجزة لجمع كلمة المسلمين وتطبيق شريعة الله في كل شؤونهم، وجهاد أعدائهم، ونصرة اخوتهم، واستخلاص المسجد الأقصى من أيدي الغاصبين وسائر الأرض السليبة، قال الله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ, الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} .
وإنها لفرصة عظيمة هيأها الله لكم، ولعله اذخر لمؤتمركم هذا مكرمة سامية أن تعيدوا للأمة الإسلامية مجدها وعزتها، إن العظائم كفؤها العظماء.
وفقكم الله وسدد خطاكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . .
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(8/341)
مذكرة جمعية الإصلاح الاجتماعي في الكويت
إلى ملوك ورؤساء الدول الإسلامية. . في مؤتمر القمة الإسلامي المنعقد بلاهور _ باكستان في 30 محرم 1394 هـ الموافق 22 فبراير 1974 م.
السلام عليكم ورحمة الله وبراكته، وبعد:
جمعية الإصلاح الاجتماعي بالكويت تحييكم، وترجو الله لكم التوفيق والسداد في مؤتمركم هذا. . وتتقدم بهذه المذكرة. . كمساهمة شعبية إسلامية في إنجاح المؤتمر.
فمنذ انفراط عقد الخلافة الأخيرة انفرط عقد المسلمين. . في العالم. وانقضت عليهم القوى عليهم القوى الطامعة كما جاء في الحديث الشريف: "يأتي عليكم زمان تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها", وظل المسلمون يتطلعون إلى قيام وحدة إسلامية تحقق نداء الآيات القرآنية. . وتصون مصالح المسلمي,. وتنشئ لهم وزناً دولياً مرهوب الجانب في عصر التكتلات _ العقائدية والاقتصادية والسياسية.
فلما ظهرت في الأفق بوادر التجمع الإسلامي على مستوى الحكومات استبشر المسلمون خيراً وأخذوا يتابعون مسيرة التجمعات الإسلامية بانتباه وإشفاق.
انتباه لما يجري. . . وإشفاق على التجربة الوليد.
ومؤتمركم هذا يمثل حلقة من حلقات التجمع الإسلامي في العصر الحديث.
وبمقدار القضية. . تكون المسؤولية.
إن الشعوب الممثلة في هذا المؤتمر لا تستطيع أن تنهض وتحقق آمالها في التقدم والتعاون الإسلامي إلا من خلال شكل الحكومة، وصلاحياتها.
فلقد أصبحت الحكومة في العصر الحديث تهيمن على كل شيء في المجتمع الذي تحكمه.
تهيمن على التربية، والإعلام، والسياسة الخارجية, وتتحكم في نوع النظام الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي.
ومن هنا يتضح عظم المسؤولية التي يضطلع بها ملوك ورؤساء الدول الإسلامية المجتمعون في مؤتمر لاهور.(8/342)
إن الوحدة بين الشعوب الإسلامية قائمة بحكم العقيدة الإسلامية عقيدة التوحيد, والشريعة الواحدة, والقبلة الواحدة.
وإن أمام الملوك والرؤساء المحافظة على التمسك بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعل الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للتشريع، وتنحية الأشكال الرسمية التي تعيق تحقيق هذه الوحدة أو الاتحاد، وأمام المؤتمر جملة قضايا جديرة بالبحث والاهتمام: قضية فلسطين:
قضية فلسطين: فلا شك أنكم تتابعون المحاولات الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية، والاعتراف _ من ثم _ بالكيان الصهيوني في الأرض المحتلة.
من ناحية إسلامية هذه المحولات يحرمها الإسلام تحريماً قاطعاً ويدين أصحابها في الدنيا. . والآخرة.
ومن ناحية قانونية: الاعتراف بالكيان الصهيوني يعتبرخرقاً للقانون الدولي الذي لا يقر الاستيلاء على أرض الغير بالقوة.
ومن ناحية شعبية: فإن شعوب العالم الإسلامي ترفض هذه المحاولات بحزم وشدة.
وموضوع القدس: وضرورة هيمنة السيادة الإسلامية المطلقة عليه، وضرورة إعلان الجهاد لتحريره. .
لقد أذن الله في الآيات الأولى من سورة الإسراء بانتقال مواريث النبوة في القدس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَه..} .
وأمة الرسول عليه الصلاة والسلام هي الوريثة الوحيدة لنبيها محمد عليه الصلاة والسلام.
وفي ضوء هذه الحقيقة الراسخة تقدم عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ ففتح القدس، وتقدم صلاح الدين الأيوبي _ رحمه الله _ فحرره من الاستعمار الصليبي.
إن تدويل القدس كلياً أو جزئياً اتجاه يرفضه الإسلام وترفضه شعوبه في قارات الأرض كلها.
إن أكثر من سبعمائة مليون مسلم يطالبون بعودة فلسطين والقدس وكل الأراضي المغتصبة إلى السيادة الإسلامية.(8/343)
المسلمون في الفيليبين:
وهناك قضية اضطهاد المسلمين في الفليبين: ففي الوقت الذي ينعقد فيه مؤتمركم في لاهور يقصف الطيران الكاثوليكي الفليبيني مسلمين الفليبين بالطائرات.
ومع خطبة الافتتاح لو أرسلتم الطرف إلى أرخبيل سولو وغيره في الفيليبين لوجدتم أجساد الموحدين _ رجالاً ونساءً وشيوخاً وأطفالاً _ محترقة في العراء. .وبين أطلال البيوت المحطمة والمساجد المهدمة.
إن جمعية الإصلاح الاجتماعي تناشدكم الله أن تقفوا وقفة رجل واحد في وجه حكومة الفيليبين لوقف حرب الإبادة ضد المسلمين ومطالبتها بمنح الحكم الذاتي لهم. . فلقد ثبت بالوقائع الدامية أن الحكومة الكاثوليكية تستغل شكلها الرسمي لمحو الإسلام من الفليبين.
إن المقاطعة السياسية والاقتصادية والدبلوماسية من قبل المؤتمرين جميعاً لها أثر فعال بالإبقاء على حياة المسلمين في الفيليبين أهل البلاد الأصليين. . وتشعر أن إخوانهم في العقيدة يقفون إلى جانبهم.
وهناك قضية التبشير النصراني، وغزوه المستمر للعالم الإسلامي على نطاق واسع منظم يتمثل بمدارسه وهيئاته ومستشفياته ورجاله الذين يبثهم في العالم الإسلامي.
إن إندونيسيا تتعرض لحملات تبشير واسعة النطاق تستخدم فيها الأساطيل البحرية والجوية, وفي الحبشة, والسنغال,. ومصر, والسودان, وتونس, وباكستان, والخليج العربي, واليمن,. ولبنان وغيرها.. غزو تبشيري خطير مدعم بالمال والرجال يستهدف العقيدة الإسلامية.
إن مقاومة هذا التبشير تتطلب الجهود والأموال والدعاة والإمكانيات والأجهزة.
والعمل الجماعي أفضل من العمل الذي تقوم به كل دولة على حدة.
إن هذه المشكلة تستحق تشكيل لجنة خاصة مزودة بكل الإمكانات. . . تقاوم التبشير بجدارة وكفاءة وإخلاص.
وهناك قضية الحريات العامة. . فالإسلام لا ينتعش ودعاته لا يستطيعون الانطلاق الكامل إلا في جو الحرية، ومناخها الآمن.(8/344)
ويرتبط بقضية الحريات العامة إطلاق سراح دعاة الإسلام ورجاله المعتقلين والمسجونين في كل وطن إسلامي.
وهناك قضية التنمية والانتعاش الاقتصادي؛ فقد تحكمت القروض الأجنبية في مقادير العالم الإسلامي.
فعبر القرض جاء الغزو العقائدي, والسيطرة السياسية والاقتصادية, وليس من المستطاع تحرير المسلمين بغير النهضة الشاملة والتنمية الكاملة, في قطاعات الزراعة والصناعة والعلم والتقنية.
والعالم الإسلامي لا يشكو فقراً؛ ولكنه يشكو سوء توزيع ثرواته.
ولا يشكو ندرة الخبرة الفنية. . ولكنه يشكو هجرتها.
إن قيام تعاون اقتصادي بين دول العالم الإسلامي يحرر هذا العالم من السيطرة الأجنبية وينعش اقتصاديات المسلمين في كل مجال.
أيها الملوك والرؤساء في مؤتمر لاهور:
إن مسؤوليتكم أمام الله عظيمة.
وإن الأمانة بين أيديكم جد خطيرة.
نناشدكم التوصل إلى نتائج إيجابية في مؤتمركم. . نتائج لا تفقد المسلمين الثقة بالتجمعات الإسلامية الرسمية, وتحقق خطوات إيجابية في طريق الوحدة الإسلامية.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ, وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . .
جمعية الإصلاح الاجتماعي
في الكويت.(8/345)
بين الكتب
إعداد العلاقات العامة
وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد وضعت عقوباتها لمحاربة الجريمة والإجرام؛ فإن هذا وحده لا يكفي لإثبات صلاحية الشريعة وتفوقها على القوانين الوضعية, وإنما يجب أن يثبت بعد ذلك أن هذه العقوبات كافية للقضاء على الإجرام. إذ العبرة في هذا الأمر ليست بالوسائل أو الغايات, وإنما العبرة بكفاية الوسائل لإدراك ما وضعت له من غايات, والقوانين الوضعية نفسها قد قصدت لمحاربة الإجرام والجريمة ووضعت عقوبات معينة لهذا الغرض, ولكنها فشلت في القضاء على الإجرام, والتجربة وحدها هي التي تبين قيمة الأنظمة الجنائية. ولا عبرة بالمنطق المزوق الذي يصح مرة ويخيب أخرى ولست آتي بجديد حين أقول هذا, وإنما أكرر ما قاله علماء القوانين الوضعية مجتمعين في اتحاد القانون الدولي حيث قرّروا أن أحسن نظام جنائي هو الذي يؤدي عملاً إلى نتائج أكيدة في كفاح الجريمة وأن التجارب هي وحدها الكفيلة بإبراز هذا النظام المنشود.
ولقد أبرزت التجارب الحديثة أحسن الأنظمة الجنائية, وتبين أن هذا النظام المنشود هو الشريعة الإسلامية, وكانت التجارب التي امتحنت فيها عقوبات الشريعة على نوعين: كلية وجزئية.(8/346)
فأما التجربة الكلية فقد بدئت في الحجاز من حوالي عشرين عاماً [1] حيث طبقت الشريعة الإسلامية تطبيقاً تاماً, ونجحت نجاحاً منقطع النظير في القضاء على الإجرام وحفظ النظام والأمن, ولا يزال الناس يذكرون كيف كان الأمن مختلاً في الحجاز بل كيف كان الحجاز مضرب الأمثال في كثرة الجرائم وشناعة الإجرام؛ فقد كان المسافر فيه كالمقيم لا يأمن على ماله ولا على نفسه في بدو أو حضر في نهار أو ليل، وكانت الدول ترسل مع رعاياها الحجاج قوات مسلحة لتأمين سلامتهم ورد الاعتداء عنها. وما كانت هذه القوات الخاصة ولا القوات الحجازية بقادرة على إعادة الأمن وكبح جماح العصابات عن سلب الحجاج أو الرعايا الحجازيين وخطفهم والتمثيل بهم. وظل حماة الأمن في الحجاز عاجزين عن حماية الجمهور حتى طبقت الشريعة الإسلامية فانقلبت الحال بين يوم وليلة وساد الأمن بلاد الحجاز وانتشرت الطمأنينة بين المقيمين والمسافرين وانتهى عهد الخطف والنهب وقطع الطريق وأصبحت الجرائم القديمة أخباراً تروى فلا يكاد يصدقها من لم يعاصرها أو يشهدها، وبعد أن كان الناس يسمعون أشنع أخبار الإجرام عن الحجاز أصبحوا يسمعون أعجب الأخبار عن استتباب الأمن والنظام، فهذا يفقد كيس نقوده في الطريق العام فلا يكاد يذهب إلى دار الشرطة حتى يجد كيسه كما فقد منه معروضاً للتعرف عليه، وهذا يترك عصاه في الطريق فتنقطع حركة المرور حتى تأتي الشرطة لرفع العصا من مكانها، وهذا يفقد أمتعته وييأس من ردها ولا يبلغ عنها ولكنه يجد الشرطة يبحثون عنه ليردوا إليه ما فقد منه، وبعد أن كان الأمن يعجز عن حفظه قوات عسكرية عظيمة من الداخل وقوات عسكرية كبيرة من الخارج أصبح الأمن محفوظاً بحفنة من الشرطة المحليين.
تلك هي التجربة الكلية الكاملة وكفى بها دليلاً على أن النظام الجنائي في الشريعة الإسلامية يؤدي عملاً إلى قطع دابر الجريمة وأنه النظام الذي يبحث عنه ويتمناه اتحاد القانون الدولي.(8/347)
أما التجربة الجزئية فقد قامت بها إنجلترا وأمريكا ومصر وبعض الدول الأخرى ثم قامت بها أخيراً كل دول العالم تقريباً وقد نجحت هذه التجربة الجزئية أيضاً نجاحاً منقطع النظير.
وقد سمينا هذه التجربة بالتجربة الجزئية لأنها جاءت قاصرة على عقوبة واحدة من عقوبات الشريعة وهي عقوبة الجلد. فإنجلترا تعترف بالجلد عقوبة أساسية في قوانينها الجنائية والعسكرية، ومصر تعترف بها في قوانينها العسكرية, وأمريكا وبعض الدول تجعل الجلد عقوبة أساسية في الجرائم التي يرتكبها المسجون، ثم جاءت الحرب الأخيرة فقررت كل الدول تقريباً عقوبة الجلد على جرائم التموين والتسعير وبعض الجرائم الماسة بالنظام أو الأمن العام. وهذا اعتراف عام عالمي بأن عقوبة الجلد أفضل من أية عقوبة أخرى, وأنها الوحيدة التي تكفل حمل الجماهير على طاعة القانون وحفظ النظام, وأن كل عقوبات القوانين الوضعية لا تغني عن عقوبة الجلد شيئا في هذا الباب. وهذا الاعتراف العالمي هو في الوقت نفسه اعتراف بنجاح الشريعة الإسلامية في محاربة الجريمة؛ لأن عقوبة الجلد هي إحدى العقوبات الأساسية في الشريعة.
عن كتاب: التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي
للدكتور الشهيد عبد القادر عودة رحمه الله
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أي حين كتب المؤلف هذا الفصل من كتابه النفيس, وظاهر أن تطبيق الشريعة في الحجاز بدأ منذ فتح الملك عبد العزيز آل سعود مكة والمدينة عام 1345.(8/348)
من أعلام المحدثين
أبو الحسن الدارقطني 306 - 385 هـ
للشيخ عبد المحسن العباد: نائب رئيس الجامعة الإسلامية
نسبه:
هو على بن عمر بن مهدي بن مسعود بن النعمان بن دينار بن عبد الله, هكذا نسبه ابن السبكي في طبقات الشافعية, وابن كثير في البداية والنهاية, وقبلهما الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد.
كنيته ونسبته:
كنيته أبو الحسن واشتهر بالدراقطني نسبة إلى دار القطن محلة ببغداد.
ولادته:
ولد الدارقطني سنة ست وثلاثمائة.
ممن روى عنهم:
سمع الدارقطني أبا القاسم البغوي وأبا بكر بن أبي داود ويحيى بن صاعد وبدر بن الهيثم القاضي وأحمد بن إسحاق بن البهلول وعبد الوهاب بن أبي حية والفضل بن أحمد الزبيدي وأبا عمر محمد بن يوسف القاضي وأحمد ابن قاسم وأبا سعيد العدوي ويوسف ابن يعقوب النيسابوري وأبا حامد بن هارون الحضرمي ومحمد بن نوح الجنديسابوري وأحمد بن عيسى بن السكين البلدي وإسماعيل بن العباس الوراق وإبراهيم بن حماد القاضي وعبد الله بن محمد بن سعيد الجمال وأبا طالب أحمد بن نصر وغيرهم.
ممن رووا عنه:
روى عنه أبو نعيم الأصبهاني وأبو حامد الاسفرائيني الفقيه وأبو عبد الله الحاكم وعبد الغني بن سعيد المصري وتمام الرازي وأبو بكر البرقاني وأبو ذر الهروي وأبو محمد الخلال وأبو القاسم التنوخي وأبو طاهر بن عبد الرحيم الكاتب والقاضي أبو الطيب الطبري وأبو الحسن العتيقي وحمزة السهمي وأبو الغنائم بن المأمون وأبو الحسن بن المهتدي بالله وأبو محمد الجوهري وغيرهم.
رحلته في طلب الحديث:
قال الذهبي في التذكرة: وارتحل في كهولته إلى مصر والشام. وفي طبقات الشافعية لابن السبكي: روى عن خلق كثير ببغداد والكوفة والبصرة وواسط ورحل من الكوفة إلى الشام ومصر.
من ثناء الأئمة عليه:(8/349)
وقد اتفقت كلمة أهل العلم على الثناء عليه, وبيان عظم منزلته, وخدمته التامة للسنة, رواية ودراية. قال فيه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد: "وكان فريد عصره وقريع دهره ونسيج وحده وإمام وقته انتهى إليه علم الأثر والمعرفة بعلل الحديث وأسماء الرجال وأحوال الرواة مع الصدق والأمانة والفقه والعدالة وقبول الشهادة وصحة الاعتقاد وسلامة المذهب والاضطلاع بعلوم سوى علم الحديث, منها القراءات؛ فإن له فيها كتابا مختصا موجزا, جمع الأصول في أبواب عقدها في أول الكتاب, وسمعت بعض من يعتني بعلوم القرآن يقول: "لم يسبق أبو الحسن إلى طريقته التي سلكها في عقد الأبواب المقدمة في أول القراءات, وصار القراء بعده يسلكون طريقته في تصانيفهم ويحذون حذوه". ومنها المعرفة بمذاهب الفقهاء؛ فإن كتاب السنن الذي صنفه يدل على أنه كان ممن اعتنى بالفقه لأنه لا يقدر على جمع ما تضمنه ذلك الكتاب إلا من تقدمت معرفته بالاختلاف في الأحكام. وبلغني أنه درس فقه الشافعي على أبي سعيد الاصطخري, وقيل بل درس الفقه على صاحب لأبي سعيد, وكتب الحديث عن أبي سعيد نفسه. ومنها أيضا المعرفة بالأدب والشعر, وقيل إنه كان يحفظ دواوين جامعة من الشعراء وسمعت حمزة بن محمد بن طاهر الدقاق يقول: "كان أبو الحسن الدارقطني يحفظ ديوان السيد الحميدي في جملة ما يحفظ من الشعر فنسب إلى التشيع لذلك".(8/350)
وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ: "الإمام شيخ الإسلام, حافظ الزمان, الحافظ الشهير"، وقال ابن كثير المتوفي سنة 774 في البداية والنهاية: "الحافظ الكبير أستاذ هذه الصناعة قبله بمدة وبعده إلى زماننا هذا, سمع الكثير وجمع وصنف وألف وأجاد وأفاد وأحسن النظر والتعليل والانتقاد والاعتقاد وكان فريد عصره ونسيج وحده وإمام دهره في أسماء الرجال وصناعة التعليل والجرح والتعديل وحُسن التصنيف والتأليف واتساع الرواية والاطلاع التام في الرواية، له كتابه المشهور من أحسن المصنفات في بابه لم يسبق إلى مثله ولا يلحق في شكله إلا من استمد من بحره وعمل كعمله, وله كتاب العلل بيّن فيه الصواب من الدخل, والمتصل من المرسل والمنقطع والمعضل, وكتاب الأفراد الذي لا يفهمه فضلا عن أن ينظمه إلا من هو من الحفاظ الأفراد والأئمة النقاد والجهابذة الجياد, وله غير ذلك من المصنفات التي هي كالعقود في الأجياد, وكان من صغره موصوفا بالحفظ الباهر والفهم الثاقب والبحر الزاخر جلس مرة في مجلس إسماعيل الصفار وهو يملي على الناس الأحاديث فقال له بعض المحدثين في أثناء المجلس: إن سماعك لا يصح وأنت تنسخ. فقال الدارقطني: فهمي للإملاء أحسن من فهمك وأحضر ثم قال له الرجل: أتحفظ كم أملى حديثا؟ فقال: إنه أملى ثمانية عشر حديثا؟ إلى الآن, والحديث الأول منها عن فلان عن فلان ثم ساقها كلها بأسانيدها وألفاظها لم يخرم منها شيئا، فتعجب الناس منه وقال: "قال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري: "لم يرَ الدارقطني مثل نفسه". وقال ابن الجوزي: "وقد اجتمع له مع معرفة الحديث العلم بالقراءات والنحو والفقه والشعر مع الإمامة والعدالة وصحة العقيدة"، وفي تذكرة الحفاظ للذهبي قال الحاكم: "صار الدارقطني أوحد عصره في الحفظ والفهم والورع وإماما في القراء والنحويين وأقمت في سنة سبع وستين -أي وثلاثمائة- ببغداد أربعة أشهر وكثر اجتماعنا فصادفته فوق ما وصف لي وسألته عن العلل(8/351)
والشيوخ, وله مصنفات يطول ذكرها, فأشهد أنه لم يخلف على أديم الأرض مثله".
وقال أبو ذر الهروي: "قلت للحاكم: هل رأيت مثل الدارقطني؟ فقال: هو لم يرَ مثل نفسه فكيف أنا".
وكان عبد الغني بن سعيد المصري إذا ذكر الدارقطني قال: أستاذي. وفي تاريخ بغداد قال القاضي أبو الطيب الطبري:"كان الدارقطني أمير المؤمنين في الحديث وما رأيت حافظا ورد بغداد إلاّ مضى إليه وسلم له". يعني فسلم له التقدمة في الحفظ وعلو المنزلة في العلم.
وقال عبد الغني بن سعيد المصري: "أحسن الناس كلاما على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة: علي ابن المديني في وقته، وموسى بن هارون في وقته، وعلي بن عمر الدارقطني في وقته".
وقال ابن العماد في شذرات الذهب: "الحافظ الكبير شيخ الإسلام إليه النهاية في معرفة الحديث وعلومه وكان يدعى فيها: أمير المؤمنين".
وقال العراقي في طرح التثريب: "وكان أحفظ أهل زمانه, صنف السنن والعلل والمؤتلف والمختلف وغير ذلك".
وقال ابن خلكان في وفيات الأعيان: "الحافظ المشهور كان عالما حافظا فقيها على مذهب الإمام الشافعي"، وقال: "وانفرد بالإمامة في علم الحديث في عصره ولم ينازعه في ذلك أحد من نظرائه"، وقال ابن السبكي في طبقات الشافعية: "الحافظ المشهور الاسم صاحب المصنفات إمام زمانه وسيد أهل عصره وشيخ أهل الحديث".
آثاره:
وقد ترك الدارقطني بعده للأمة الإسلامية كتباً قيمة, ألفها وأحسن في تأليفها, وقد أثنى كبار المحدثين وجهابذتهم على هذه الكتب, فمنها كتاب العلل الذي قال فيه الذهبي في تذكرة الحفاظ:"وإذا شئت أن تبين براعة هذا الإمام فطالع العلل له فإنك تندهش ويطول تعجبك".(8/352)
وقال ابن كثير في البداية والنهاية: "له كتابه المشهور- يعني السنن - من أحسن المصنفات في بابه لم يسبق إلى مثله ولا يلحق في شكله إلاّ من استمد من بحره وعمل كعمله، وله كتاب العلل بيّن فيه الصواب من الدخل, والمتصل من المرسل والمنقطع والمعضل, وكتاب الأفراد الذي لا يفهمه فضلا عن أن ينظمه إلا من هو من الحفاظ الأفراد والأئمة النقاد والجهابذة الجياد وله غير ذلك من المصنفات التي هي كالعقود في الأجياد".
ومن مؤلفاته الكثيرة النافعة:
1- كتاب السنن وهو مطبوع.
2- كتاب العلل الذي نوه به الذهبي وابن كثير في كلامهما المتقدم.
3- كتاب أحاديث الموطأ وذكر اتفاق الرواة عن مالك واختلافهم وزيادتهم ونقصهم وهو مطبوع. وهو أيضا مخطوط في المكتبة الظاهيرية بدمشق ورقمه 525 حديث.
4- كتاب الضعفاء والمتروكين، وهو من مخطوطات الظاهرية بدمشق في المجموع رقم 124.
5- أخبار عمرو بن عبيد المعتزلي وكلامه في القرآن وإظهار بدعته، وهو من مخطوطات الظاهرية بدمشق في المجموع رقم 106.
6- كتاب المؤتلف والمختلف يوجد منه الجزء الثاني في معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية بالقاهرة تحت رقم 843 فهرس التاريخ.
7- رجال البخاري ومسلم يوجد مخطوطاً في الآصفية بجيد أباد وصورته في معهد المخطوطات بالقاهرة رقم 1062 فهرس التاريخ.
8- كتاب الأفراد يوجد بعضه مخطوطاً في ظاهرية دمشق في المجموع رقم 35 و 56.
9- كتاب في التصحيف, قال عنه أبو عمرو بن الصلاح في علوم الحديث ص 252: "هذا فن جليل إنما ينهض بأعبائه الحذاق من الحفاظ والدارقطني منهم وله فيه تصنيف مفيد".
10- كتاب في الذين رووا عن الشافعي الحديث, قال أبو إسحاق الشيرازي في كتابه طبقات الفقهاء ص104: "وأما من روى عنه الحديث فخلق كثير ذكرهم الدارقطني في جزءين".
11- كتاب الاستدراك على الصحيحين.
وفاته:(8/353)
توفي الدرقطني يوم الخميس لثمان خلون من ذي القعدة سنة خمس وثمانين وثلاثمائة أرخه بهذا ابن السبكي وقال: "قال أبو نصر بن ماكولا: رأيت في المنام كأني أسأل عن حال الدارقطني في الآخرة فقيل لي: ذلك يُدعى في الجنة الإمام".
وقال ابن خلكان في وفيات الأعيان: "توفي يوم الأربعاء لثمان خلون من ذي القعدة, وقيل ذي الحجة سنة خمس وثمانين وثلاثمائة ببغداد, وصلى عليه الشيخ أبو حامد الاسفرائيني الفقيه المشهور ودفن قريبا من معروف الكرخي في مقبرة باب حرب رحمه الله".
ممن ترجم له:
1- ترجم للدارقطني الحافظ الذهبي في العبر3/28, وفي تذكرة الحفاظ 3/199.
2-ابن كثير في البداية والنهاية 11/317.
3-السمعاني في الأنساب 217 مخطوط.
4-الخطيب في تاريخ بغداد 12/34.
5- ابن العماد في شذرات الذهب 3/116.
6- ابن خلكان في وفيات الأعيان 2/459.
7-ابن الأثير في اللباب 1/404.
8- ابن السبكي في طبقات الشافعية 2/310.
9-الخطيب التبريزي في الإكمال 3/805 آخر المشكاة.
10-العراقي في مقدمة طرح التثريب 1/86.
11-صديق خان في التاج المكلل82.
12- عمر كحالة في معجم المؤلفين 7/157.(8/354)
من الصحف والمجلات
إعداد العلاقات العامة
في بلغاريا ما يقارب المليون ونصف المليون من المسلمين يشكلون نسبة تزيد على 15% من مجموع السكان البالغ ثمانية ملايين نسمة. وقد قضى بعضهم نحبه بسبب صمودهم على عقيدتهم. ولكن مائة وخمسين ألفاً من مسلمي بلغاريا ليسوا من أصل تركي وهم (البرماك) والبوماك هم الهدف الرئيسي لمحاولات النظام لقمع الإسلام وهم موجودون بصورة رئيسية في جبال (رودب) في جنوب غرب بلغاريا حيث صمدوا في وجه الاهتمام الصارم الذي بذلته دائرة النشاط والدعاية في الحزب الشيوعي في المنطقة.
ويقول فاسيل زنفوف: "إن الإسلام هو عقبة في وجه التربية الشيوعية للشعوب العاملة", وأعلن نيكولاي ميزوف في صحيفة الإسلام في بلغاريا, وهي نشرة صدرت عام 1966 تهدف إلى تحويل المسلمين عن دينهم. "إن الإسلام يشمل من مظاهر الحياة الفردية والعائلية لأتباعه أكثر بكثير مما تشمله المسيحية"وجاء في دراسة نشرها في صحيفة (نارودنا كولتورا) التي صدرت في صوفيا في كانون الثاني (يناير) عام 1966 م إن ذلك هو أيضاً الأساس لدراسة الإسلام وكذلك للنضال من أجل إزالته.
ولقد أوجز غابوروف السكرتير - الأول للحزب الشيوعي في تركستان السوفياتية - مخاوف كل من موسكو وصوفيا عندما اشتكى من سوء نوع العمل الدعائي.
"إن عدد الناس الذين يمارسون الشعائر الدينية لا يتدنى في جمهوريتنا ولذا فلا بد من كفاح حثيث وعنيد ضد حاملي بقايا جراثيم الماضي, فالديانة الإسلامية لا يمكن إلا أن تكون مصدر قلق لنا؛ وذلك نتيجة لميزاتها الخاصة, وكما هي الحال في الديانات الأخرى فإن الإسلام يكتسب عادة دور (الحافظ) على العادات الوطنية الرجعية والتقاليد ويثير مشاعر وطنية اقتصادية معتمداً الوطنية كغطاء". (توركمنكا يا أيسكرا 3نيسان إبريل عام 1973) .
(عن مجلة المجتمع الكويتية - العدد 186 محرم 1394هـ)(8/355)
دعت الخطة الخمسية الأولى في (بنجلاديش) إلى جعل الإجهاض عملاً مشروعاً ودعت إلى فرض عقوبات على كل من ينجب أكثر من طفلين؟.
لأول مرة منذ خمسين سنة في المدارس الابتدائية والمتوسطة في تركيا يفرض درس الدين كمادة إجبارية على الطلاب. . . وقد لاقى هذا القرار استحساناً كبيراً لدى الشعب التركي المسلم. . . وكان أول ثمرة لفوز حزب السلامة الوطني.
(عن مجلة المجتمع الكويتية - العدد 189 صفر 1394) .(8/356)
مقتطفات من كتاب
الكنز المَرصود في قواعد التلمود (2)
ترجمه من اللغة الفرنساوية الدكتور: يوسف حنا نصْر الله
القسم الأول: عقائد اليهود بحسب التلمود
للدكتور روهلنج المدرس في مدرسة براج في فرنسا
الكتاب الأول: في معلومات عموميات
الفصل الأول: التلمود
أخذ الربيون والحاخامات تعاليمهم ومبادئهم عن الفريسيين الذين كانوا متسلطين على الشعب أيام المسيح، يحضونه على اتباع ظواهر شريعة موسى، ويحفظون لأنفسهم تفسير التقليدات المتصلة إليهم.
وبعد المسيح بمائة عام وخمسين خاف أحد الحاخامات المسمى يوضاس أن تلعب أيدي الضياع بهذه التعاليم، فجمعها في كتاب سماه (المشنا) .
وكلمة مشنا، معناها الشريعة المكررة لأن شريعة موسى المرصودة في الخمسة كتب التي كتبها مكررة في هذا الكتاب. أما الغرض من المشنا فهو إيضاح وتفسير ما التبس في شريعة موسى، وتكملة الشريعة على حسب ما يدعون وقد زيد في القرون التالية على كتاب المشنا الأصلي شروحات أخرى صار تأليفها في مدارس فلسطين وبابل.
ثم علق علماء اليهود على المشنا حواشي كثيرة وشروحات مسهبة دعوها باسم (غاماراة) . فالمشنا المشروحة على هذه الصورة مع الغاماراة كونت التلمود فكلمة التلمود معناها: كتاب تعليم ديانة وآداب اليهود.
وهذه الشروحات مأخوذة عن مصدرين أصليين:
(أحدهما) المسمى بتلمود أورشليم، وهو الذي كان موجوداً في فلسطين سنة (230) .
(وثانيهما) تلمود بابل وهو الذي كان موجوداً بها سنة (500) بعد المسيح ولا يحتوي على أقل من أربع عشرة ملزمة. وهو تارة يكون بمفرده وأخرى مضافاً مع المشنا وتلمود بابل. وهو المداول بين اليهود والمراد عند الإطلاق.(8/357)
ويوجد في نسخ كثيرة من التلمود المطبوع في المائة سنة الأخيرة بياض أو رسم دائرة بدلاً عن ألفاظ سب في حق المسيح والعذراء, والرسل كانت مذكورة في النسخ الأصلية. . ومع ذلك لم تخل من طعن في المسيحيين. فإنه يُستفاد من الشروحات أن كل ما جاء في التلمود بخصوص باقي الأمم غير الأمة اليهودية كلفظ (أميين، أو أجانب، أو وثنيين،) المراد منها المسيحيين.
ولما أطلع المسيحيون على هذه الألفاظ هالهم الأمر، وتذمروا ضد اليهود فقرر المجمع الديني لليهود وقتئذ في مدينة بولونيا سنة 1631 أنه من الآن فصاعداً تترك محلات هذه الألفاظ على بياض أو تعويض بدائرة على شرط أن هذه التعاليم لا تعلم إلا في مدارسهم فقط فيشرحون للتلميذ مثلاً أن المسيحيين مجبولون على الخطايا ولا يجب استعمال العدل معهم ولا محبتهم أصلا!!
وقال (المحامي هارت روسكي) أنه يوجد كثير من اليهود لم يطلعوا على التلمود ولم يعلموا ما فيه. ولكن من اطلع منهم يعتقد أنه كتاب منزل، ويبذل الجهد في نشر قواعده المضرة بين أبناء جنسه، وهؤلاء يبجلونها ويستعملونها في الغالب.
وقد اعتني بطبع التلمود طبعات مختلفة. والمستعمل منها هي النسخ التي طبعت منها في مدينة البندقية وهي الطبعة الكاملة. أما ما طبع في مدينة (أمستردام) في سنة (1644) ، وفي (سلزباج) سنة (1769) وفي (فارسوفيا) سنة (1863) وفي مدينة (براغ) سنة (1839) فكلها مشطورة وما لم يذكر من الألفاظ السالفة الذكر إلا في النسخ المطبوعة في مدينة البندقية يشيرون إليه في باقي النسخ بلفظة (بند) ، أي أن ما هو محذوف في هذه النسخة موجود في النسخ المطبوعة في مدينة البندقية، فعليك بمراجعتها.(8/358)
ندوة الطلبة
أضغاث أحلام
بقلم: محمد محمود جاد الله: الطالب بكلية الشريعة بالجامعة
يا إخوتي ما القول في الأمر.
في موثق يختال في الأسرِ.
في هذه الدنيا بزخرفها.
من حولنا في ثوبها المغرى.
نحيا بها فتظل تفتننا.
وتميتنا من حيث لا ندري.
والمرء يمضي نحو غابته.
حتى يوارى ظلمة القبر.
ونخالها في أوج زينتها.
دنيا البقاء وصحبة الدهر.
ولكم سبانا حسن مظهرها.
وفؤادها قد قُدّ من صخر.
إنْ أقبلت فالغي موردها.
أو أدبرت فالخير في الصبر.
ولو أنها نصفو لساكنها.
أو أنها تبقى لذي مكر.
لرأيتنا نزداد في نَهَمٍ.
ولأمعن الإنسان في الكبر.
لكنها وكما علمت رؤىً.
نقتاتُ أطيفها مدى العمرِ.
أضغاث أحلام تعاودنا.
ونحبها في العسر واليسر.
ما الناس فيها غير مرتقبٍ.
هماً يلوح وكُربة تفري.
دنيا الشقاء بكل رونقهاً.
دنيا الفناء بعيشها المر.
أيامنا تسعى لغايتها.
وهي التي انكشفت لذي خُبْر.
فاللهُ يرقبنا ويرصُدنا.
ويميز ما في السر والجهر.
وطريقنا لله قد وضحت.
بالسنة الغراء والذكر.
وإلهنا الرحمن ألْهمنا.
دربين درب الخير والشر.
فلنتبع أهداهما نَهَجاً.
سبل الهدى مضمونة الأجر.
والشر درب ضل سالكه.
يا بؤسه في موقف الحشرِ.
فالله ثم اللهَ في جسدٍ.
لا يستطيع تحمل الجمر.
والخيرُ كل الخيرِ في عملٍ.
يُدنيك من جناته الخُضرِ.(8/359)
أهمية صلاة الاستسقاء في الإسلام والاستغاثة المشروعة
للطالب محمد عزيزو المغربي: الطالب بالمعهد الثانوي بالجامعة
لقد أعلن جلالة الملك فيصل حفظه الله وأطال عمره لخدمة الإسلام والمسلمين، عن إقامة صلاة الاستسقاء في أنحاء المملكة نظراً لتأخر نزول المطر، وسمع الناس النداء الملكي عن طريق الإذاعة والتلفزيون وفي المساجد، وعُيّن اليوم المشهود لذلك. ولكن مع كامل الأسف والحسرة تخلف الكثير من المسلمين وكأن الأمر لا يعنيهم. ففُتحت المتاجر وعُرضت السلع والبضائع أمام مرأى المارين الممتثلين الأمر والقاصدين المسجد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. هذا المسجد العظيم الذي لم يمتلئ يوْمَها. وكان ينبغي أن يعمره المسلمون فيضيق بهم. وما ذلك التخلف إلا لجهلهم بحكمة وشدة حاجة الملة إلى هذه الشعيرة التعبدية العظيمة.
والاستسقاء هو طلب السقي أو الماء أو الغيث كما سماه الله تعالى في كثير من آيات كتابه العزيز. ولا يُطلب الغيث إلا من المغيث سبحانه وتعالى الذي يقدر وحده على إنزاله. وليس إنزال المطر مجرّد بُخار البحر تحت تأثير حرّ الشمس كما تدعيه عقولٌ مؤمنةٌ بالطبيعة إيماناً أعمى وكافرةٌ وجاحدةٌ لوجود الله، خالق الكون كله ورب العالمين. ثم هذه الطبيعة من خلقها وأوجدها؟ وهل تسمع وتبصر وتعطي وتمنع أم هي صمّاء وعمياء عاجزة لا تقدر؟ ولماذا لم تخلق البشر على صورة واحدة وطبع واحد؟ أأخطأت التقدير أم أساءت التدبير؟ أين عقولكم يا قوم؟
جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مفاتيح الغيب خمس ثم قرأ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} ".(8/360)
هذا الحديث انفرد به البخاري عن مسلم.
ويقول الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} . فسمى الله الغيث رحمة إذ تهتز به الأرض وتربو وتنبت من كل زوج بهيج فتسر الناظرين بعد أن لكانت يابسة ميْتة فينتفع بها الناس والحيوان. والله تعالى ينزل الغيث لحكمة ويؤخره أو يمنعه لأخرى، في الوقت الذي يشاء فيصيب به جهة دون جهة وقوما دون آخرين. ويسلّطه عقاباً أليماً على عباد له عصَوْه وفسقوا عن أمره: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ}(8/361)
ولا يهمني في عرض هذا الحديث ذكر صفة هذه الصلاة لأن كتب الحديث والفقه هي المرجع الوحيد، بقدر ما يهمني جوهرها. وأعني بالجوهر هو الدعاء والتضرع المشروع فيها، والإنابة والتوبة المرجُوّة منها، والاستقامة على أمر الله ليحصل المقصود منها. أجل إن الدعاء هو العبادة ولُبها. فإن مظهر هذه الصلاة بما فيه من خطبة ووقوف وتحويل للأردية ورفع للأيدي مع الضراعة إلى الله غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب ذي الطول، بقلوب منيبة معترفة بالخطأ والتقصير نحو الله جلّ وعلا، نادمة وعازمة على الإقلاع عن المعاصي والمخالفات التي تغضب رب الكائنات _ إذ الغضب صفة من صفاته _ مع عدم الرجوع إلى المنهيات؛ وبذلك تَتِمُ شروط توبتها إلى بارئها. هذا المظهر بمافيه من رفع الأيدي السائلة، والعيون الدامعة الذارفة، والأصوات الخافتة، لَهُوَ صورة حية ناطقة وشاهدة على إعلان العباد الافتقار إلى رحمة الله والاحتياج إلى مغفرة الله. وربنا يحب _ إذ المحبة صفة أخرى من صفاته التي تليق بجلاله وعظيم سلطانه _ أن يرى عبده متذللاً خاضعاً، ومنكسر القلب حياء من الرب. ومتى كان العباد صادقين في الطلب وإخلاص الدعاء له، استجاب لهم ربهم ومالكهم وهذا عام في كل العبادات. مِصْداق هذا قوله تعالى على لسان عبده ورسوله نوح عليه السلام {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارا} . الآية.. . وقوله تعالى: {وإذا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} . وكان السلف الصالح _ رضي الله عنهم _ لا يبرحون مصلاهم حتى تنالهم رحمة الله ويُسقون. وما ذلك الفضل إلاّ لإخلاصهم الدعاء لله تعالى. وإذا أردنا أن نقارن أنفسنا بهم وبمن بعدهم فلا وجه للمقارنة بيننا وبينهم. كم سنزن بجانبهم؟ إذا حاولنا ذاك استصغرنا أنفسنا واحتقرناها وضِعْناَ. فلنستغفر(8/362)
ربنا ولنتب إليه ولنستقم على دينه وشريعته إننا عندما نصلي صلاة الاستسقاء في المساجد وغيرها، إحياء لهذه السنة الكريمة، تمضي الشهور ولا نرى قطرة من الماء تنزل من السماء، بل قد ينقشع السحاب الذي جلل وغطى السماء ونتوقع منه المطر والسقي إذا أذن له خالقه. وليس هناك فرق بين زماننا وزمان الصدر الأول بالنسبة للمظاهر الكونية بل إن الثابت والمشاهد أن الله تعالى بسط علينا من نعمه ما لم يبسطه عليهم مع تميزهم علينا بتقوى الله وطاعته بالتزام كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، في حين أننا قد هجرنا تحكيم الكتاب والسنة ونبذناهما وراء ظهرنا.
فاللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً.
وبالمناسبة أشرح بإيجاز حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الاستسقاء بالعباس بن عبد المطلب، عم الرسول صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً؛ لأن كثيرا ممن ينتسب إلى العلم، وكل العوام الذين ما حققوا توحيد الله بأنواعه، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم علماً ومعرفة فأحرى تطبيقاً _ يغلطون ويغالطون أنفسهم وغيرهم ويحتجون بهذا الحديث _ وبحديث الأعمى الذي جاء يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله له ليرد عليه بصره [1]_ يحتجون به في جواز التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم أي بذاته. والحقيقة أنهم ما عقلوا معناه. وإليك أخي المسلم الحائر الجواب، والله الهادي للصواب.(8/363)
أصاب المدينة _ عام الرمادة _ قحط أجدب الأرض، على عهد الخليفة الراشد عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، فاجتمع الناس في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وتقدم عمر أمير المؤمنين، وقد تيقن أنه فقد أغلى كنز وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ما دعا الله إلاّ واستجاب له. فتواضعاً منه رضي الله عنه وهو الإمام في الدين والدنيا، التمس أتقى الناس وأخيرهم لأن جلال الموقف وعِظَم الخطب يقتضي ذلك، فعيّن العباس لأنه من قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يدعو الله تعالى. فقام العباس رضي الله عنه وتوضأ _ والوضوء وسيلة وعمل صالح تعبدنا الله به إذ هو مكفر للصغائر _ ودعا الله عز وجل، ولتطمئن أخي المسلم من صحة ما بينت لك، إليك هذا النقل الوارد في كتاب فتح الباري شرح البخاري، الجزء الثاني ص396 _ و399 في (باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء) .
"وقد بيّن الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة والوقت الذي وقع فيه ذلك فأخرج بإسناد له أن العباس لما استسقى به عمر قال: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلاّ بذنب ولم يكشف إلاّ بتوبة وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك, وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا إليك بالتوبة فاسقنا الغيث، فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس". وأخرج من طريق داود عن عطاء عن زيد بن أسلم عن ابن عمر بن الخطاب عام الرمادة أن عمر استسقى بالعباس بن عبد المطلب فذكر الحديث. وفيه فخطب الناس عمر فقال: "إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرى الولد للوالد فاقتدوا أيها الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم في عمه العباس واتخذوه وسيلة إلى الله". وفيه فما برحوا حتى سقاهم الله. انتهى الحديث.(8/364)
وورد أيضا: "حدثنا الحسن بن محمد حدثنا ابن عبد الله الأنصاري حدثني أبي عبد الله بن المثنى عن ثمامة بن عبد الله بن أنس رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب كان إذا قُحِطوا استسقى بالعباس ابن عبد المطلب فقال: اللهم إنا كنا نتوسل بنبينا صلى الله عليه وسلم فتسقنا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا قال فيُسقوْن". رواه البخاري.
قلت: قوله: "اللهم إنا كنا نستسقي بنبينا فتسقنا": أي بدعاء نبينا وهو صلى الله عليه وسلم حي يتلقى الوحي وبدليل أنه كان يدعو الله ويتضرع إليه وهو الذي شرع لنا الدعاء ولو شرع لنا غيره لما وسعنا إلاّ اتباعه لأنه أعطانا قاعدة جليلة وميزاناً منصفاً: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد". رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها.
وقوله: "وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا"والعباس يومئذ حي يُرزق وقام وتوضأ ودعا. ثم في الحديث محذوف فُهِم من السياق (ودعاء نبينا، ودعاء عم نبينا) . واعلم أخي المتطلع إلى طريق الحق أن التوسل يكون بالأعمال الصالحة المشروعة وبالدعاء. وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الناصح الأمين، إيضاح ذلك في حديث الثلاثة نفر الذين آواهم المبيت إلى غار في الجبل فانحدرت صخرة من أعلى الجبل فسدت عليهم الغار إلى آخر الحديث [2] .
وأما الوسيلة التي يدافع عنها بعضهم ويعادي فيها _ حتى في موسم الحج وقد جاء لمغفرة الذنوب وتصحيح العقيدة في مهبط الوحي ومهد أنصار السلفية _ وهي التوسل بذوات الأموات والأحياء فهي غير مشروعة من هنا نعلم أنها باطلة لا تجدي نفعاً.
وأما المشروعة هي أن تقول: اللهم إني أتوسل إليك وأتقرب إليك بإيماني بنبيك، وأنت مؤمن به، أو تقول: بمحبتي لنبيك وأنت تحبه، بأتباعي لنبيك وأنت صادق تتبعه.
وفي الحديث [3] الذي رواه المقدسي عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به".(8/365)
وفقني الله والمسلمين لمعرفة الحق واتباعه.
وختاماً أخي المؤمن، إن وجدت قوماً قد ساقوا إبلاً أو أبقاراً أوخرفاناً أو غيرها إلى قبر أو حجر لذبحها عنده، زعماً منهم أنهم بذلك يرضون الله ويعملون عملاًصالحاً، فانصحهم وبيّن لهم عدم مشروعية ما يصنعون، وامنعهم وردهم على أعقابهم إن استطعت إلى ذلك سبيلاً. وإياك أن تشاركهم أو تحضر معهم تكثيراً لسوادهم فإن ذلك من شهادة الزور. وعباد الرحمن _كما تعلم عن ربك في كتابه القرآن الكريم _لا يشهدون الزور.
واعلم أن الله تعالى إن أنزل الغيث في تلك الساعة أو بعدها فإنما يريد أن يبتلي إيمانهم ويُمحص قلوبهم, وليس إنزاله المطر استجابة لما قدموا من عمل الجاهلية، أو يريد أن يزيدهم ضلالاً على ضلالهم لتعلقهم بأصحاب القبور وغيرهم ولصرفهم العبادة إلى غيره، إن عَلم سبحانه وتعالى في قلوبهم إعراضاً عن توحيده وإخلاص العبادة له وحده، وإقبالاً على غيره خوفاً وطمعاً ورهبة ورجاء، فتزهق أواحهم وهم كافرون. فنعوذ بالله من الشرك بأنواعه. وربك لا يظلم أحداً, {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ} من سورة الأنفال.
الله أسأل أن يصلح أحوال المسلمين ويوفقهم للعمل بالكتاب والسنة؛ فهما النجاة من نقمة الجبار وفيهما السعادة العاجلة والآجلة. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه ورسوله محمد وعلى آله وصحبه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] راجع الحديث في باب الدعوات للترمذي.
[2] أنظر صحيح البخاري في باب البيوع رقم 98 وانظر الفتح الجزء السادس ص367.
[3] رواه الإمام المقدسي في كتاب الحجة على تارك المحجة بإسناد صحيح حسب ما ذكره النووي.(8/366)
وداعاً. . يا أماه!
بقلم سفر بن عبد الرحمن الحوالي
الطالب بكلية الشريعة بالجامعة
سكن الوجود ولم تنم عيناه.
ومضى الهزيع وحظه ينعاه.
في خيمة نصب الشقاء حبالها.
والهمّ فيها قد أطال سراه.
والنجم في نهر المجرة خافق.
كفؤاده حين ادّكار أساه.
واساه في السهر الطويل وليته.
فيما أصاب فؤاده واساه.
يتذكر الخطب الأليم إذا غفا.
فتشب نار الحزن من ذكراه.
خطب ألمّ وما أشد خطوبه.
سرقت عليه شبابه وصباه.
والرعب يعشي ناظريه وقد بدت.
تلقاءه أشباحه ورؤاهُ.
لا صبر لا سلوان يربط قلبه.
لا صاحبٌ يشكو إليه نواه.
لم يبق غير حنان أمٍ برة.
من بعد ما قتل العداة أباه.
مسحت بأنملها الرقيقة دمعه.
وبكت بحزن لا يُحدّ مداه.
وتوسّلت: نم يا بني، وما مضى.
ولّى وآن الآن أن تنساه.
فتنهد القلب المعذّب قائلاً.
كُفّي _ هداكِ الله _ يا أماه.
هل تذكرين سقوط مسجد قريتي.
وبه أُبينت أذرعٌ وجباه.
أو تذكرين القدس كنت أزورها.
واليوم طافت حولها الأشباه.
أو تذكرين الكوخ: كوخ جدودنا.
إذ أضرم الأعداء فيه لظاه.
أو تذكرين النهر: نهر حقولنا.
إذ غيّروا عن أرضنا مجراه.
أماه، هل أنسى رفاق طفولتي.
في موطنٍ تحنو عليّ رباه.
إذ نحن نجني من زهور حقوله.
ونبل أنفسنا ببرد نداه.
ونسير والأفراح تكتنف الربّا.
ما بين لطف نسيمه وصباه.
ونظل بين رياضه ومياهه.
تشدو القلوب وتنشد الأفواه.
لا والذي بالقدس شرف أرضه.
ما كان لي يا أمّ أن أسلاه.
لا والذي بالطهر أنقى تربه.(8/367)
ما كنت أرضى أن يُداس حماه.
كم في خيام الذل من فتياننا.
من ناله ما نالني ودهاه.
لكنني عفت الحياة مشرداً.
ورضيت درباً لا أريد سواه.
لا تمسحي دمعي ولكن ودّعي.
بطلاً يُبارك ربه مسعاه.
لا تجزعي فلقد يطول غيابه.
عن مقلتيك وتختفي رؤياه.
وإلى اللقاء لدى الإله وخلده.
في عالم الأرواح يا أماه.
… ومضى الفدائي الشهيد لربه.
عجلاً إليه كي ينال رضاه.
((كلام العرب))
قال عتبة بن أبي سفيان: "إن للعرب كلاماً هو أرق من الهواء. وأعذب من الماء. مرق من أفواههم مروق السهام من قسيّها, بكلمات مؤتلفات، إن فسرت بغيرها عطلت, وإن بدلت بسواها من الكلام استصعبت, فسهولة ألفاظهم توهمك أنها ممكنة إذا سمعت, وصعوبتها تعلمك أنها مفقودة إذا طلبت.(8/368)
الفتاوى
يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
حكم زكاة الحلي
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد فقد تكرر السؤال من كثير من الناس عن حكم زكاة الحلي من الذهب والفضة وما ورد في ذلك من الأدلة ولتعميم الفائدة أجبت بما يلي والله الموفق والهادي إلى الصواب.
لاريب أن هذه المسألة من مسائل الخلاف بين أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم وقد دل الكتاب والسنة على وجوب رد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عملاً بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ، وإذا رددنا هذه المسألة إلى الكتاب والسنة وجدناهما يدلان دلالة ظاهرة على وجوب الزكاة في حلي النساء من الذهب والفضة وإن كانت للاستعمال أو العارية سواءً كانت قلائد أو أسورة أو خواتيم أو غيرها من أنواع الذهب والفضة ومثل ذلك ما تحلى به السيوف والخناجر من الذهب والفضة إذا كان الموجود من ذلك نصاباً أو كان عند مالكه من الذهب أو الفضة أو عروض التجارة ما يكمل النصاب وهذا القول هو أصح أقوال أهل العلم في هذه المسألة والدليل على ذلك من القرآن الكريم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} .(8/369)
ومن السنة المطهرة ما ثبت في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفحت له يوم القيامة صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار", فهذان النصان العظيمان من الكتاب والسنة يعمّان جميع أنواع الذهب والفضة ويدخل المخصص لهذا العموم لو لم يرد إلا العموم في هذه المسألة فكيف وقد ورد في هذه المسألة بعينها أحاديث صحيحة دالة على وجوب الزكاة في الحلي منها ما خرجه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما "أن امرأة دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتعطين زكاة هذا"قالت: لا, قال: "أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامةسوارين من نار"فألقتهما وقالت: هما لله ولرسوله", قال الحافظ ابن القطان: إسناده صحيح, وخرج أبو داود بإسناد جيد عن أم سلمة رضي الله عنهما "أنها كانت تلبس أوضاحاً من ذهب فقالت: يا رسول الله أكنز هو؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكى فليس بكنز".
ففي هذا الحديث فائدتان جليلتان أحدهما اشتراط النصاب وأن ما لم يبلغ النصاب فلا زكاة فيه ولا يدخل في الكنز المتوعد عليه بالعذاب.(8/370)
والفائدة الثانية أن كل مال وجبت فيه الزكاة فلم يزك فهو من الكنز المتوعد عليه بالعذاب وفيه أيضاً فائدة ثالثة وهي المقصود من ذكره وهي الدلالة على وجوب الزكاة في الحلي لأن أم سلمة رضي الله عنها سألت عن ذلك كما هو صريح الحديث, ومن ذلك ما ثبت في سنن أبي داود عن عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى عليها فتخات من فضة فقال: "ما هذا يا عائشة؟ "قالت: صنعتهم أتزين لك يا رسول الله, فقال: "أتؤدين زكاتهن؟ "قلت: لا أو ما شاء الله قال: "هو حسبك من النار", ففي هذه النصوص الدلالة الظاهرة على وجوب الزكاة في حلي الذهب والفضة وإن أعدت للاستعمال أو العارية لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكر على عائشة والمرأة المذكورة في حديث عبد الله به عمرو ترك زكاة حليهما وهما مستعملتان له ولم يستثن صلى الله عليه وسلم من الحلي شيئاً لا المستعار ولا غيره فوجب الأخذ بصريح النص وعمومه ولا يجوز أن تخصص النصوص إلا بنص ثابت يقتضي التخصيص وأما ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس في الحلي زكاة", فهو حديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج ولا يقوى على معارضة وتخصيص هذه النصوص المتقدم ذكرها بل قال الحافظ البيهقي:"إنه حديث باطل لا أصل له", نقل عنه ذلك الحافظ الزيلعي في نصب الراية والحافظ ابن حجر في التلخيص.
ولتكميل الفائدة نوضح للقارئ نصاب الذهب والفضة حتى يكون على بصيرة فنقول:(8/371)
أما نصاب الذهب فهو عشرون مثقالاً ومقدار ذلك من العملة الموجودة حالياً من الذهب أحد عشر جنيهاً سعودياً وثلاثة أسباع جنيه لأن زنة الجنيه الواحد بتحرير أهل الخبرة من الصاغة مثقالان إلا ربعاً, وأما نصاب الفضة فهو مائة وأربعون مثقالاً ومقدار ذلك من العملة الفضية الحالية ستة وخمسون ريالاً سعودياً فضة, فمن ملك المبلغ المذكور من الذهب أو الفضة أو ملك من النقود الورقية أو عروض التجارة ما يساوي المبلغ المذكور من الذهب والفضة فعليه الزكاة إذا حال عليه الحول وما كان دون ذلك فليس فيه زكاة, والحجة في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "فيما دون خمس أواق صدقة", والأوقية: أربعون درهماً والدرهم نصف مثقال وخمس مثقال بتحرير أهل العلم والدرهم السعودي الفضي مثقالان ونصف.
فإذا نظرت في زنة الستة والخمسين الدرهم السعودي وجدتها تبلغ خمس أواق وهي مائة وأربعون مثقالاً, ومن الأدلة على ذلك أيضاً ما رواه أحمد وأبو داود بإسناد حسن واللفظ لأبي داود عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم وليس عليك شيء حتى يكون لك عشرون ديناراً وحال عليها الحول ففيها نصف دينار فما زاد فبحساب فلك وليس في مال الزكاة حتى يحول عليه الحول". انتهى. والدينار عملة ذهبية وزنته مثقال واحد بتحرير أهل العلم فيكون النصاب من الذهب عشرون مثقالاً كما تقدم والله أعلم …
س-من الأخ ع. أ.ح -يقول فيه:
امرأة سافرت قبل طواف الإفاضة فما الحكم وهل لزوجها وطؤها؟(8/372)
والجواب: يلزمها العودة إلى مكة فوراً مع القدرة لأداء طواف الإفاضة لأنه ركن من أركان الحج وإن أحرمت بالعمرة عند وصولها إلى الميقات فذلك أفضل فتطوف للعمرة وتسعى ثم تطوف لحجها السابق ثم تقصر وتحل وإن قدمت طواف الحج على طواف العمرة وسعيها فلا بأس وليس لزوجها وطؤها حتى تطوف طواف الإفاضة لأن الوطء لا يجوز إلا بعد الحل الكامل من الحج وهو لا يحصل إلا بالطواف والسعي لمن عليه سعي والرمي لجمرة العقبة والحلق أو التقصير.
س -من الأخ ح. س. م -يقول فيه:
رجل صائم اغتسل باللي وبواسطة قوة ضغط الماء، دخل الماء إلى جوفه من غير اختياره فهل عليه القضاء؟
والجواب: ليس عليه قضاء لكونه لم يتعمد ذلك فهو في حكم المكره والناسي.
س -من الأخ س. ص.ط -يقول فيه:
امرأة نامت وبجوارها طفلتها وبعد اليقظة وجدتها ميتة فماذا عليها؟
والجواب: إذا كانت لم تتيقن أنها ماتت بسببها فليس عليها شيء؛ لأن الأصل براءة الذمة من الواجبات ولا يجوز أن تشغل إلا بحجة لا شك فيها أما إن تيقنت موتها بسببها فعليها الدية والكفارة لأن هذا القتل في حكم الخطأ والواجب في ذلك عتق رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين أما الإطعام فليس له دخل في كفارة القتل.
س -من الأخ ر. أ. ز -يقول فيه:
نرجو من فضيلتكم التكرم بإفادتنا عن تعدد الزوجات, وحقوق المرأة في الإسلام.
إن الكتاب والسنة جاءا بالتعدد وأجمع المسلمون على حله، قال الله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا} الآية. .(8/373)
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين تسع نساء ونفع الله بهن الأمة وحملن إليها علوماً نافعة وأخلاقاً كريمة وآداباً صالحة، وكذلك النبيان الكريمان داود وسليمان -عليهما السلام -فقد جمعا بين عدد كثير من النساء بإذن الله وتشريعه، وجمع كثير من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وأتباعهم بإحسان، وقد كان التعدد معروفاً في الأمم الماضية ذوات الحضارة وفي الجاهلية بين العرب قبل الإسلام, فجاء الاسلام وحدد ذلك وقصر المسلمين على أربع، وأباح للرسول -صلى الله عليه وسلم -أكثر من ذلك لحكم وأسرار ومصالح اقتضت تخصيصه -صلى الله عليه وسلم -بالزيادة على أربع، وفي تعدد الزوجات -مع تحري العدل -مصالح كثيرة، وفوائد كثيرة، وفوائد جمة، منها عفة الرجل وإعفافه عدداً من النساء، ومنها كثرة النسل الذي يترتب عليه كثرة الأمة وقوتها، وكثرة من يعبد الله منها، ومنها إعالة الكثير من النساء والإنفاق عليهن، ومنها مباهات النبي -صلى الله عليه وسلم -بهم الأمم يوم القيامة، إلى غير ذلك من المصالح الكثيرة التي يعرفها من يعظم الشريعة وينظر في محاسنها وحكمها وأسرارها، وشدة حاجة العباد إليها بعين الرضا والمحبة والتعظيم والبصيرة، أما الجاهل أو الحاقد الذي ينظر إلى الشريعة بمنظار أسود وينظر إلى الغرب والشرق بكلتا عينيه معظماً مستحسناً كل ما جاء منهما، فمثل هذا بعيد عن معرفة محاسن الشريعة وحكمها وفوائدها ورعايتها لمصالح العباد رجالاً ونساءاً، وقد ذكر علماء الإسلام أن تعدد الزوجات من محاسن الشريعة الإسلامية، ومن رعايتها لمصالح المجتمع وعلاج مشاكله، وقد تنبه بعض أعداء الإسلام لهذا الأمر واعترفوا بحسن ما جاءت به الشريعة في هذه المسألة رغم عداوتهم لها إقراراً بالحق واضطراراً للاعتراف به، فمن ذلك ما نقله صاحب المنار في الجزء الرابع من تفسيره صفحة-360 -عن جريدة (لندن ثروت) بقلم بعض الكاتبات ما ترجمته ملخصاً: (لقد كثرت الشاردات من(8/374)
بناتنا وعم البلاء وقلّ الباحثون عن أسباب ذلك، وإذ كنت امرأة تراني أنظر إلى هاتيك البنات وقلبي يتقطع شفقة عليهن وحزناً وماذا عسى يفيدهن بشيء حزني وتفجعي وإن شاركني فيه الناس جميعاً إذ لا فائدة إلا في العمل بما ينفع هذه الحالة الرجسة، ولله درّ العالم (توس) فإنه رأى الداء ووصف له الدواء الكافل للشفاء وهو الإباحة للرجل التزوج بأكثر من واحدة، وبهذه الواسطة يزول البلاء لا محالة وتصبح بناتنا ربات بيوت، فالبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوروبي على الاكتفاء بامرأة واحدة، فهذا التحديد هو الذي جعل بناتنا شوارد وقذف بهن إلى التماس أعمال الرجال ولا بد من تفاقم الشر إذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة أي ظن وخرص يحيط بعدد الرجال المتزوجين الذين لهم أولاد غير شرعيين أصبحوا كلاً وعالة وعاراً على المجتمع الإنساني فلو كان تعدد الزوجات مباحاً لما حاق بأولئك الأولاد وأمهاتهم ما هم فيه من العذاب والهوان ولسلم عرضهن وعرض أولادهن، فإن مزاحمة المرأة للرجل ستحل بنا الدمار، ألم تروا أن حال خلقتها تنادي بأن عليها ما ليس على الرجل وعليه ما ليس عليها، وبإباحة تعدد الزوجات تصبح كل امرأة ربة بيت وأم أولاد شرعيين، ونقل صاحب المنار أيضاً -في صفحة _361 -من الجزء المذكور عن كاتبة أخرى أنها قالت:"لأن تشغل بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم خير وأخف بلاء من اشتغالهن في المعامل حيث تصبح البنت ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد، ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف، والطهارة حيث الخادمة والرقيق يتنعمان بأرغد عيش ويعاملان كما يعامل أولاد البيت ولا تمس الأعراض بسوء، نعم إنه لعار على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال فما بالنا لا نسعى وراءها بجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها الطبيعية من القيام في البيت وترك أعمال الرجال للرجال سلامة لشرفها"انتهى.(8/375)
وقال غيره، قال (غوستاف لوبون) : "إن نظام تعدد الزوجات نظام حسن يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تمارسه ويزيد الأسر ارتباطاً وتمنح المرأة احتراماً وسعادة لا تجدهما في أوروبا،.. ."
ويقول برناردشو الكاتب: "إن أوروبا ستضطر إلى الرجوع إلى الإسلام قبل نهاية القرن العشرين شاءت أم أبت".
هذا بعض ما اطلعت عليه من كلام أعداء الإسلام في محاسن الإسلام وتعدد الزوجات، وفيه عظة لكل ذي لب، والله المستعان.
أما سؤالك عن جواز ترجمة معاني القرآن الكريم إلى لغات أخرى غير العربية؟
فالجواب: أن ذلك جائز لمسيس الحاجة إليها، ولأنه ليس في الأدلة الشرعية ما يمنع ذلك، ولأن ذلك من وسائل التبليغ عن الله ورسوله وهو مأمور به شرعاً، ولأن الرسول -صلى الله عليه وسلم -أمر زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود ليترجم كتبهم للنبي -صلى الله عليه وسلم -فدل ذلك على أن جنس الترجمة من العربية وإليها أمر مطلوب عند الحاجة إليه، بشرط أن يكون المترجم عالماً باللغتين أميناً في ذلك.
أما سؤالك عن صحة ما سمعت من أن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه -كان اسمه (محمد) ؟
فلا نعلم أن أحداً من أهل العلم قال إنه قد سمي محمد، بل إن اسمه علي من الصغر، ولعلّ هذا القول صدر من بعض الشيعة للتلبيس على المسلمين، وتأييد قول من قال من الرافضة -قبحهم الله ولعنهم -"إن الرسالة كانت لعلي ولكن جبريل خان فصرفها لمحمد".
ونسأل الله تعالى أن يمنحنا وإياكم الفقه في دينه والثبات عليه إنه جواد كريم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . .(8/376)
أخبار الجامعة
إعداد العلاقات العامة
* بناءاً على موافقة جلالة الملك المعظم الرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية فقد تقرر أن يعقد المجلس الأعلى الاستشاري للجامعة دورته السادسة في مقر الجامعة ابتداء من يوم السبت الموافق الثاني عشر من شهر ربيع الثاني عام 94هـ. لبحث بعض الأمور المتعلقة بمصلحة الجامعة ويجيء عقد هذه الدورة بعد مضي خمسة أعوام على دورته السابقة المنعقدة في شهر صفر عام 1389 هـ. وجدير بالذكر أن المجلس الاستشاري يتألف من سماحة رئيس الجامعة - الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز- رئيساً. وعضوية كل من:
نائب رئيس الجامعة عبد المحسن بن حمد العباد واثنين من أعضاء هيئة التدريس بالجامعة وهما في هذه الدورة فضيلة الشيخ الدكتور سيد محمد الحكيم - الأستاذ بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر والمعار للتدريس بالجامعة الإسلامية وفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي المدرس بكلية الشريعة بالجامعة, وقد وجهت الدعوة للحضور إلى بقية الأعضاء من خارج الجامعة الإسلامية وعددهم سبعة عشر عضواً هم:
1- معالي وزير المعارف الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ.
2- سعادة مدير جامعة الرياض الدكتور عبد العزيز بن عبد الله الفدا.
3- فضيلة الدكتور محمد أمين المصري المشرف على قسم الدراسات العليا بمكة المكرمة.
4- فضيلة الشيخ محمد المبارك المستشار في جامعة الملك عبد العزيز.
5- فضيلة الشيخ محمد محمود الصواف مستشار وزارة المعارف.
6- فضيلة الدكتور كامل الباقر الأستاذ بكلية التربية بالرياض.
7- معالي الشيخ عبد العزيز محمد عيسى وزير شؤون الأزهر.
8- فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية سابقاً.
9- فضيلة الشيخ عبد الله غوشة رئيس قضاة الأردن.
10- فضيلة الشيخ محمد بهجة الأثري مدير الأوقاف العامة بالعراق سابقا.(8/377)
11- فضيلة الشيخ عبد الله العقيل مدير الشؤون الإسلامية في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الكويت.
12- فضيلة الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة عميد الكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين بتونس.
13- فضيلة الشيخ مصطفى العلوي مدير دار الحديث الحسنية بالرباط في المغرب.
14- فضيلة الشيخ أبي الأعلى المودودي رئيس الجماعة الإسلامية في باكستان.
15- فضيلة الشيخ أبي الحسن الندوي رئيس جمعية العلماء بلكنو بالهند.
16- فضيلة الشيخ أبي بكر جومي رئيس قضاء نيجيريا الشمالية.
17- فضيلة الشيخ محمد أمين الحسيني مفتي فلسطين سابقاً ورئيس الهيئة العليا لفلسطين.
أكثر من عشر محاضرات عامة تقيمها الجامعة الإسلامية خلال الأشهر الثلاثة الماضية
* حرصاً من المسؤولين في الجامعة على نشر الوعي الإسلامي والثقافة العامة بين طلبة الجامعة وغيرهم، فقد دأبت الجامعة على إقامة محاضرات عامة في مدرسة دار الحديث بالمدينة التابعة للجامعة الإسلامية يحضرها أعداد كبيرة، وقد بدأ الموسم هذا العام في أوائل شهر محرم حيث افتتح بمحاضرة لفضيلة الشيخ عطية محمد سالم القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة المنورة وكانت على أثر وفاة العلامة الكبير فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله وموضوعها مع صاحب الفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي نشأته وحياته، وقد نشرت هذه المحاضرة في العدد الماضي من مجلة الجامعة الإسلامية ثم توالت المحاضرات على النحو التالي:
المحاضرة الثانية لفضيلة الشيخ محمد محمد أبو فرحة المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين وموضوعها (الصهيونية ومخططاتها للسيطرة على العالم) .
المحاضرة الثالثة لفضيلة الشيخ أبو بكر الجزائري المدرس بكلية الشريعة بالجامعة وموضوعها (هؤلاء هم اليهود فاعتبروا يا أولي الأبصار) .(8/378)
المحاضرة الرابعة لفضيلة الشيخ محمد المجذوب المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة وموضوعها (النصرانية مصادرها وواقعها) .
المحاضرة الخامسة لفضيلة الشيخ زهير الخالد المدرس في المعهد الثانوي التابع للجامعة، وموضوعها (علاقة المعسكر النصراني الصليبي بالمسلمين عبر التاريخ ومنطلقاتها الأساسية) .
المحاضرة السادسة لفضيلة الشيخ محمد شريف الزيبق المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين، وموضوعها (زهد الصالحين وتفلسف المتصوفين) .
المحاضرة السابعة لفضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي أبو النصر المدرس في معهد الثانوي التابع للجامعة، وموضوعها (ماذا نقول نحن وماذا يقول خصومنا عن الغيب وصلته بالتوحيد) .
المحاضرة الثامنة لسماحة رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز. وموضوعها (توحيد المرسلين وما يضاده من الكفر والشرك) .
المحاضرة التاسعة لسعادة البرفسور داود كون أستاذ الدراسات الشرقية في جامعة لندن في بريطانيا، وموضوعها (الدراسات العربية والإسلامية القديمة منها والحديثة في المملكة المتحدة) .
المحاضرة العاشرة لنائب رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد. وموضوعها (الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فضلها وكيفيتها) .
المحاضرة الحادية عشرة لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد الباحث في الجامعة، وموضوعها (البهائية إحدى مطايا الاستعمار والصهيونية) .
المحاضرة الثانية عشرة لفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي المدرس في كلية الشريعة بالجامعة، وموضوعها (كيف نعد المدرس الصالح) .
المحاضرة الثالثة عشرة لفضيلة الشيخ عبد العزيز عبد الفتاح القارئ المدرس في المعهد الثانوي التابع للجامعة، وموضوعها (المستشرقون في الميزان) .
وهناك محاضرات أخرى سيتم إلقاؤها إن شاء الله في خلال شهر ربيع الثاني.(8/379)
هذا، وتقوم الجامعة بتوزيع كتب ورسائل مفيدة على مستمعي هذه المحاضرات الذين يبلغ عددهم في كل محاضرة ستمائة شخص تقريباً.
وستقوم الجامعة بحول الله بطباعة هذه المحاضرات في كتاب مستقل وتوزيعه لتعميم الفائدة.
كتب دينية مفيدة تطبعها الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة للتوزيع مجاناً
* لم تقتصر مهمة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة على تقديم المنح الدراسية لأبناء العالم الإسلامي ولم تكن فوائدها وقفاً على الطلبة المستفيدين من هذه المنح بل تجاوزت ذلك إلى ما هو أعم وأشمل، ولما كان تيسير الكتب النافعة للمسلمين وتمكينهم من الحصول عليها للاستفادة منها من أهم الوسائل التي تؤدي إلى تحقيق أهداف الجامعة لا سيما في حق من لم تتح له فرصة الالتحاق بها فقد حرص سماحة رئيس الجامعة على تخصيص مبلغ كبير من المال في ميزانية الجامعة لشراء وطبع بعض الكتب المفيدة للتوزيع وقد لقيت هذه الرغبة لدى جلالة الملك فيصل حفظه الله والمسؤولية في حكومته قبولاً كما في عادة جلالته في كل ما يعود على المسلمين بالمنفعة والخير فرصد لهذا الغرض في ميزانية الجامعة للعام المالي الحالي أكثر من مائة ألف ريال وقد جرى تأمين كميات كبيرة من الكتب المفيدة عن طريق الشراء مثل كتاب (مجموعة التوحيد) الذي أمنت الجامعة منه أكثر من ألف نسخة، كما تم الاتفاق بين الجامعة وبين إحدى مؤسسات الطباعة على طبع كميات كبيرة من الكتب التالية: كتاب الكبائر، وكتاب أصول الإيمان، وكتاب فضل الإسلام الثلاثة لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وكتاب الصلاة لابن القيم، وكتاب الحسبة في الإسلام وكتاب السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، وهما لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ومحاضرة في المصالح المرسلة لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله، وتبلغ تكاليف طبع هذه الكتب أكثر من أربعين ألف ريال.
دليل الخريجين(8/380)
* تقوم الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بطبع دليل الخريجين. وهو عبارة عن كتاب يحتوي على أسماء الخريجين من كليتي الشريعة والدعوة وأصول الدين منذ بدء التخرج في عام 84- 85 هـ وحتى نهاية عام 92- 93 هـ مع بيان جنسياتهم وتقديراتهم ومتى تخرجهم، ويتوقع أن يكون الكتاب في حوالي 10 ملازم. ومما تجدر إليه الإشارة أن عدد الخريجين في السنوات التسع الماضية بلغ 845 خريجاً ينتسبون إلى (54) قطراً من أقطار العالم المختلفة. وسيوزع الكتاب على السفارات الأجنبية والهيئات الرسمية, وسفارات جلالته في الخارج وبعض المسؤولين في المملكة.
* صدر قرار مجلس الوزراء الموقر بترقية فضيلة الشيخ عبد الله الفوزان إلى المرتبة العاشرة على وظيفة باحث بالجامعة وكان فضيلته يعمل مديراً للمعهدين الثانوي والمتوسط بالجامعة طيلة ثلاث سنوات الماضية.(8/381)
أضواء من التفسير
للشيخ عبد القادر شيبة الحمد: المدرس بكلية الشريعة
قال تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ}
المناسبة:
بعد أن قص الله تعالى ما كان من مسارعة الملائكة لأمر الله بالسجود لآدم وامتناع عدوه إبليس عن السجود. بيّن هنا السبب الذي دعا إبليس للامتناع وهو الاستكبار، وبيّن أن هذا الاستكبار أورثه الذل الأبدي والشقاء السرمدي.
القراءة:
قرأ الجمهور {لِمَا} بكسر اللام وتخفيف الميم. وقرئ {لَماّ} بفتح اللام وتشديد الميم. وقرأ الجمهور {بِيَدَيَّ} على التثنية. وقرئ بيدي على الإفراد. وقرأ الجمهور {أَسْتَكْبَرْتَ} بهمزة الاستفهام. وقرئ {استكبرت} بإسقاط الهمزة.
المفردات:
{الْعَالِينَ} جمع عال وهو الرفيع الشريف. {خَيْرٌ} أعلى وأفضل. {َاخْرُجْ} أي اهبط. {رَجِيمٌ} أي مطرود. {لَعْنَتِي} أي إبعادي إياك عن الرحمة. {الدِّينِ} الجزاء. وفي المثل: كما تدين تدان. ومنه قول الشاعر:
ولم يبق سوى العدوا.
ن دناهم كما دانوا.
{َأَنْظِرْنِي} أمهلني وأخرني. {يَوْمِ يُبْعَثُونَ} يوم القيامة. {الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} الزمن المعين يعني لبعث الخلائق أو لفنائها.
التراكيب:(8/382)
قوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} ما استفهامية للإنكار والتوبيخ. وأن تسجد في تأويل مصدر مجرور بمن المحذوفة قياسا وتقديره: أي شيء منعك من السجود. وما في قوله: {لِمَا} على قراءة الجمهور موصولة بمعنى الذي. وخلقت جملة الصلة والعائد محذوف. وعلى هذا فما مستعملة هنا للعاقل. وقال قوم إنها مصدرية, فهي مع مدخولها في تأويل مصدر بمعنى اسم المفعول يعني لمخلوق بيدي. وعلى قراءة {لَمّا} بالتشديد فهي بمعنى حين، وقوله: {بِيَدَيَّ} إشارة إلى شرف آدم عليه السلام. وقوله: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} على قراءة الجمهور بإثبات همزة الاستفهام المقصود منه الإنكار والتوبيخ. وأم على هذا متصلة معادلة للهمزة.
ونقل ابن عطية عن أكثر النحويين أنها لا تكون معادلة للهمزة مع اختلاف الفعلين كهذه الآية، وإنما تكون معادلة إذا دخلت على فعل واحد كقوله أقام زيد أم عمر وقولك أزيد قام أم عمرو؟ وهذا الذي حكاه ابن عطية فاسد, فجمهور النحاة على خلافه، وفي مقدمتهم سيبويه. وأما من قرأ {استكربت} بإسقاط الهمزة فيحتمل أن يكون الكلام على سبيل الاستفهام أيضا وقد حذفت همزته لدلالة أم عليها كقول الشاعر:
فوالله ما أدري وإن كنت داريا.
بسبع رمين الجمر أم بثمان.(8/383)
وعليه فتكون أم متصلة معادلة للهمزة المحذوفة أيضا. ويحتمل أن يكون الكلام خبرا على سبيل التقريع وأم منقطعة بمعنى بل. والمعنى أنت متعاط للكبر بل أنت من العالين عند نفسك. وهذا على سبيل الاستخفاف والتوبيخ. وقوله: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} جواب للاستفهام وتعليل للمانع من السجود. ويجوز أن يكون استئنافا بيانيا. وقوله: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} مستأنف لبيان الخيرية كأنه سئل ما وجه الخيرية؟ فأجاب: خلقتني من نار وخلقته من طين، أو تعليل لما ادعاه من الفضل. وقوله: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا} الفاء فصيحة، والضمير في قوله منها للجنة. وإنما أتى بضميرها - وإن لم يسبق لها ذكر - لشهرة كونه من سكانها. وقوله: {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} تعليل للأمر بالخروج. أي لأنك مطرود من الجنة عليك الذلة والصغار. ولا تكرار بين قوله: {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} وقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي} فإن الأول طرد من خصوص الجنة. والثاني إبعاد من عموم الرحمة. وقوله: {إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} ليس غاية للعنة تنتهي عنده بل للإيذان بأن اللعنة مع كمال فظاعتها ليست كافية في جزاء جنايته، بل إنه سيلقى يومئذ من ألوان العذاب وأنواع العقاب ما تنسى عنده اللعنة وتصير كالزائل. والفاء في قوله: {فَأَنْظِرْنِي} فصيحة كأنه قال: إذا جعلتني رجيما فأمهلني إلى يوم القيامة. والضمير في {يُبْعَثُونَ} لآدم وذريته, والفاء في قوله: {فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} لترتيب الإخبار بكونه من المنظرين على قوله: {َأَنْظِرْنِي} كما في قوله: {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} . وكما في الشطر الأول من قول الشاعر:
فإن ترحم - فأنت لذاك أهل.
وإن تطرد فمن يرحم سواكا(8/384)
فإن كونه أهلا للرحمة لا يترتب على رحمته الداعي فقط بل هو أهل للرحمة أزلا. فالآية إخبار بالانظار المقدر له أزلا, لا إنشاء لانظار خاص به وقع إجابة لدعائه. قيل إنه طلب تأخير موته إلى يوم القيامة فأخبر بأنه مؤجل إليه لحكمة يعلمها الله. وعليه فيوم الوقت المعلوم هو الوقت الذي قدره الله وعينه لفناء الخلائق. وقيل إن الذي طلبه هو تأجيل العقوبة فأخبر بأنه مؤجل مع المؤجلين إلى يوم القيامة. والله أعلم.
المعنى الإجمالي:
قال يا إبليس ما المانع من سجودك لآدم الذي كونته بيدي فنال بذلك شرفا عظيما. أتعاطيت الكبر وأنت لا تستحقه! أم أنت رفيع في ذاتك كبير عند نفسك. قال: أنا خير وأفضل منه أنا مخلوق من نار وهو مخلوق من طين والنار أشرف من الطين. قال أنت لا تستحق الكرامة فاخرج من الجنة لأنك مطرود ذليل ولأنك مبعد من رحمتي. قال: سيدي ومالكي: إذا جعلتني رجيما فأمهلني إلى يوم القيامة. قال: فأنت ممهل مع غيرك إلى الوقت المعين للإماتة أو للعقوبة.
ما ترشد إليه الآيات:
1-توبيخ إبليس على امتناعه من السجود. 2- شرف آدم. 3-إثبات اليدين لله عز وجل من غير تمثيل ولا تكييف. 4- تكبر إبليس. 5- إبليس مخلوق من نار. 6- حرمانه من أنواع الكرامة. 7- بيان أنه مؤجل. 8- معرفة الجن لأمر البعث.
قال تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} .
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى السبب الذي دعا إبليس إلى الامتناع عن السجود وما أورثه ذلك من الذل الأبدي واللعن السرمدي وما كان من تأجيل اللعين، بيّن هنا ما أقسم عليه عدو الله من إضلال الخلائق إلاّ من أخلص لله تعالى، وبيّن حال الضالين.
القراءة:(8/385)
قرأ الجمهور {الْمُخْلَصِينَ} بفتح اللام على صيغة اسم المفعول. وقرئ {المخلِصين} بكسر اللام على صيغة اسم الفاعل وقرأ الجمهور {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} بنصبهما. وقرئ برفعهما. وقرئ بجرهما وقرئ برفع فالحق ونصب والحق.
المفردات:
{بعِزَّتِكَ} أي بقهرك وسلطانك. {لأُغْوِيَنَّهُمْ} لأضلنهم. {الْمُخْلَصِينَ} بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته. وبكسر اللام أي الذين أخلصوا قلوبهم وأعمالهم لله تعالى. {فَالْحَقُّ} إما اسمه تعالى أو هو نقيض الباطل. {مِنْكَ} أي من جنسك وذريتك. {تَبِعَكَ} انقاد لك. {مِنْهُمْ} من ذرية آدم.
التراكيب:
قوله: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} الفاء لترتيب مضمون الجملة على الإنظار. والباء للقسم. ولأغوينهم جواب القسم. وقوله: {أَجْمَعِينَ} توكيد للمفعول في {لأُغْوِيَنَّهُمْ} وقوله: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} بنصبهما على أن الأول مقسم به حذف منه حرف القسم فانتصب كقول الشاعر:
إن عليك الله أن تبايعا.
تؤخذ كرها أو تجئ طائعا.
وجواب القسم {لأَمْلأَنَّ} وما بينهما اعتراض. وقيل هو منصوب على الإغراء أي فالزموا الحق، ولأملأن جواب قسم محذوف. والحق الثاني منصوب بأقول وقدم عليه للحصر. وأما على قراءة رفعهما فالأول مبتدأ وخبره محذوف أي فالحق قسمي أو هو خبر مبتدأ محذوف والتقدير أنا الحق أو قولي الحق. ولأملأن جواب القسم محذوف ورفع الثاني على أنه مبتدأ خبره جملة أقول. والرابط محذوف أي أقوله كقراءة ابن عامر {وَكُلاّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} , وكقول أبي النجم:
قد أصبحت أم الخيار تدعى.
علي ذنباً كلّه لم أصنع.(8/386)
برفع كل ليتأتى عموم السلب وشمول النفي المقصود للشاعر. وأما على قراءة جرهما فالأول مجرور بواو قسم محذوفة والثاني مجرور بالعطف عليه كقولك فوالله والله. وجواب القسم لأملأن. وأقول (اعتراض بين القسم وجوابه) وأما على قراءة رفع الأول ونصب الثاني فتخرج على أن الأول رفع على أنه مبتدأ أو خبر كما تقدم وعلى أن الثاني مفعول لأقول وقدم عليه للحصر أي لا أقول إلا الحق. والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها.
وقوله: {أَجْمَعِينَ} توكيد للضمير في {مِنْكَ} والضمير في {مِنْهُمْ} والمعنى لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين.
المعنى الإجمالي:
قال إبليس: فأقسم بسلطانك وقهرك لأضلنهم كلهم إلاّ من أخلصته لعبادتك أو أخلص قلبه لك. قال الله فأنا الحق ولا أقول إلا الحق، لأملأن جهنم من جنسك ومن أتباعك من ذرية آدم لا أفرّق بين متبوع وتابع بل أدخلهم فيها أجمعين.
ما ترشد إليه الآيات:
1- اعتراف إبليس بعزة الله مع تكبره. 2- إصراره على إضلال الخلق. 3- يأسه من المخلصين. 4- وعيد الله له بجهنم مع أتباعه. 5- ستمتلئ جهنم بالكافرين. 6- أن الكفار كلهم في النار.
قال تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} .
المناسبة:
هذا عود على بدء لتعظيم القرآن وتمجيده كما هو الملاحظ في السور المبدوءة بالفواتح المفرقة إذ تبدأ بعد الحرف بتعظيم القرآن وتمجيده ثم تذكر اختلاف الناس عليه ثم ما يؤول إليه حال الفريقين ثم يعود إلى تمجيده وتعظيمه ليكون مسك الختام.
المفردات:(8/387)
{أَسْأَلُكُمْ} أطلب منكم. {أَجْرٍ} جُعل. {الْمُتَكَلِّفِينَ} المتصنعين المتحلين بما ليسوا من أهله. {إِنْ} بمعنى ما. (أي القرآن) . {ذِكْرٌ} عظة وتذكير. {لِلْعَالَمِينَ} للثقلين كافة. {وَلَتَعْلَمُنَّ} ولتعرفن. {نَبَأَهُ} خبره الصادق. {بَعْدَ حِينٍ} بعد زمان.
التراكيب:
مرجع الضمير في {عَلَيْهِ} للقرآن وقيل على تبليغ الوحي. والظاهر الأول. وقوله: {مِنْ أَجْرٍ} من حرف جر صلة جيء به لاستغراق النفي وأجر هو المفعول الثاني لسأل وهو منصوب بفتحة مقدرة منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر. وقوله: {لِلْعَالَمِينَ} جمع عالم وهو ما سوى الله عز وجل فهو بعمومه يشمل جميع المخلوقات التي نصبت علامة ودلالة على الخالق عز وجل. لكن لما كان المراد بالذكر الموعظة والتخويف وتذكير العواقب كان خاصا بالمكلفين وهما الثقلان خاصة. وقوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} اللام موطئة للقسم، وعلم بمعنى عرف فهو متعد لمفعول واحد، وهو نبأه. وقيل إن علم على بابه فهو متعد لمفعولين الأول نبأه والثاني هو قوله بعد حين.
ما ترشد إليه الآيات:
1-لفت نظر الكفار لصدق الرسول صلى الله عليه وسلم. 2- أنه لا يطلب أي أجر على تبليغ القرآن. 3- إن سيما التصنع غير معهودة فيه. 4- هذا القرآن لتذكير الإنس والجن. 5- الوعد بنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم. 6- وعيد قريش وتهديدهم. 7- أن الله متم نوره.(8/388)
حديث مع زائر كريم
لفضيلة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
زارنا جماعة من أساتذة الأزهر وكنت ألقي درسا في الأديان موضوعه التلمود. فرجعت إلى أول الدرس ليكون الكلام مفهوما. فبدأت بذكر معنى تلمود لغة واصطلاحا، وبعد ذلك شرعت في ذكر بعض ما تضمنه التلمود فقال لي أحد الأساتذة الضيوف: حسبك. وبدا لي أن له كلمة يريد أن يقولها قبل الانصراف وكنت أظن أنه يريد أن يوجه نصيحة للطلبة لأني التمست منه ذلك من قبل، فإذا به يريد أن يستدرك علي شيئا، ظن أني أغفلته وكان ينبغي أن أذكره، وسأذكره هنا معنى ما قلته ثم أذكر استدراكه وجوابي عنه:(8/389)
قلت إن كلمة تلموذ بالذال المعجمة في اللغة العبرانية مشتقة من المصدر (لاموذ) وهو مصدر الفعل الثلاثي المعروف عند علماء هذا الشأن باسم (قال) وذكرت بعض مشتقاته من الثلاثي اسم الفاعل (لومذ) أي متعلم (يلمذ) بكسر أوله وسكون ثانيه وفتح ثالثه ومعناه يتعلم والفعل الرباعي (لمذ) بكسر اللام والميم المشددة ومعناه عَلّم من التعليم ومضارعه (يلمّذْ) واسم الفاعل (مِلَمّذْ) فهو تفعول بزيادة التاء والواو ومعناه في اللغة التعليم وذكرت أن الذال المعجمة لا وجود لها في اللغة العبرانية أصالة وإنما توجد الدال المهملة ويعرض لها الاعجام إذا جاءت بعد حركة ممدودة أو غير ممدودة أو سكون ناقص. ثم قلت ومشتقاته مادة ل م د في اللغة العبرانية كثيرة، وأما في اللغة العربية التي هي أصلها على الصحيح وقيل هي أختها الكبرى والأصل ضائع فلم يُستعمل من هذه المادة إلا تلميذ وهذا شأن اللغات التي تكون فروعا لأصل واحد كالإيطالية والإسبانية مثلا وهما فرعان من فروع اللغة اللاتينية بعض الكلمات تهمل في إحداهما وتوجد في الأخرى وبعضها تقل فروعها ومشتقاتها في إحدى الأختين وتكثر في الأخرى. وأزيد هنا أن بعض المؤلفين من المحدثين استعملوا من هذه المادة فعلا فقالوا فلان تتلمذ لفلان ولا يوجد هذا في كتب اللغة. أما في الاصطلاح فمعناه كتاب فقه اليهود الذي استنبطه أحبارهم من التوراة ثم بينت أن الطائفتين الباقيتين إلى هذا الزمان من طوائف اليهود وهما الربانيون والقراؤون لا تتفقان على الإيمان بالتلمود, فالربانيون يؤمنون به ويحكمون به وأما القراؤون فإنهم ينكرونه ولا يؤمنون إلا بالتوراة ثم لا يؤمنون إلا بنسختهم الخاصة ويطعنون في نسخة الربانيين وأكثر اليهود في هذا الزمان ربانيون وهم الذين أنشؤوا الحركة الصهيونية. أما القراؤون فإنهم يسكنون في نابلس من الضفة الغربية لنهر الأردن وبينهم وبين الربانيين عداوة دينية. لذلك بقوا مع العرب إلى الحرب(8/390)
الأخيرة التي وقعت بين العرب واليهود فاستولى اليهود على مدينة نابلس والظاهر من أحوالهم أنهم مع ذلك محافظون على عقيدتهم. وحاصل ما استدركه علي فضيلة الأستاذ:
أنه قال: إنك ذكرت الفعل (لاَمذْ) ولم تذكر ضميرا قبله نحو (أني لاَمذْ) فقلت له أيها الأستاذ أنا أتكلم في معنى الفعل وتصريفه ولا أريد أن أنشئ جملة فوافق على ذلك. ولم أرد أن أذكرله أمام الطلبة والزائرين أن اللفظ الذي قاله فاسد. لأن قولها بالعبرانية (أنيِ لاَمَذْ) كقولنا (أنا تعلم) أو (أنا قام) والعربية والعبرانية كلتاهما تبدأ الجملة الفعلية فيهما بالفعل ولا يلزم أن نذكر اسما قبل الفعل لا ضميرا ولا ظاهرا. فنقول طلعت الشمس وظهر الحق، ولو ذكرنا ضمير (أنا) قبل الفعل الماضي لم يصح إسناد الفعل إليه بل تتصل به وجوبا تاء متكلم فنقول في العربية أنا تعلمت وفي العبرانية (أنيِ لاملذْتِ) بكسر التاء لأن تاء المتكلم في العبرانية مكسورة وإنما يتحتم ذكر اسم ظاهر أو ضمير في اللغة العبرانية قبل الفعل الحاضر وهو (لُومِذْ) بكسر الميم فنقول (أني لومذ) أي أنا متعلم أو أتعلم الآن. لأن الفعل المضارع المبدوء بحرف من حروف أنيت عندهم في الأزمنة المتأخرة يختص بالمستقبل.(8/391)
ورب قائل يقول ما حاجتك إلى بيان معنى هذه الكلمة في لغتها الأصلية فإن لغة اليهود لا تستحق كل هذه العناية. فأقول على رسلك "إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود فقال عليه الصلاة والسلام لزيد: تعلم السريانية فإنها تأتيني كتب من يهود ولا آمن يهود على كتابي. قال زيد: فتعلمتها في نصف شهر". رواه أحمد والبخاري في صحيحه تعليقا. ولما قرأت صحيح البخاري لأول مرة ورأيت هذا الحديث استشكلته لأن المعروف أن لغة اليهود هي العبرانية لا السريانية فكيف يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بتعلم السريانية ليقرأ له كتب اليهود ويكتب الأجوبة. ولم أجد من يحل لي هذا الإشكال حتى شرعت أدرس تاريخ اللغات السامية في البلاد الجرمانية (ألمانيا) فانكشف لي أن اللغة العبرانية ماتت منذ تشتت اليهود وخروجهم من فلسطين بل ماتت قبل ذلك بمدة طويلة فإن بني إسرائيل في زمان عيسى عليه السلام كانوا يتكلمون باللغة السريانية في أمور دينهم ودنياهم ولم يبقَ عندهم من العبرانية إلا أدعية الصلوات، وباللغة السريانية ألّف التلمود ونزل الإنجيل. قال تعالى: في سورة إبراهيم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} .(8/392)
والإشكال الثاني: كيف استطاع زيد أن يتعلم هذه اللغة في نصف شهر؟ والجواب عن هذا الإشكال حسبما يظهر لي أن زيدا لم يتعلم اللغة السريانية في نصف شهر وإنما تعلم كتابتها وقراءتها لأن هذه اللغات الثلاث: العربية والعبرانية والسريانية متقاربة جدا في جملها ومفرداتها حتى في هذا الزمان الذي ضعفت فيه اللغة العربية. وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى الكبرى التي طبعت أخيرا: "إن اللغة العبرانية قريبة جدا من اللغة العربية حتى إن بعض مسلمة أهل الكتاب كان يقرأ عليّ التوراة فأفهم ما يقرأه دون أن أحتاج إلى ترجمة". فإذا كان هذا في شيخ الإسلام ابن تيمية فما بالك بزمان النبي صلى الله عليه وسلم؟ وإلى يومنا هذا لو أن شخصا تكلم باللغة العبرانية الفصحى القديمة وتمهل في كلامه لفهم أكثر ما يقول أو كثير منه ودونك جملة تسهل عليك فهم ما تقدم (إنيِ قُوري بسّفّرْ هَزِي) معناه أنا أقرأ في هذا الكتاب، جملة أخرى (أني لُومِذ هلْ لاشون ها عَرْبيت) معناه: أنا أتعلم اللسان العربي. فموسى أرسله الله إلى بني إسرائيل بلغتهم العبرانية وأنزل عليه التوراة بها. وعيسى أرسله الله إلى بني إسرائيل باللغة السريانية التي هي لسانهم في زمانه وأنزل عليه الإنجيل بها وهذا قول أكثر المؤرخين وهو صحيح.
وبهذه المناسبة أذكر أني قرأت في كتاب الأبريز المنسوب إلى الشيخ عبد العزيز الدباغ ومؤلفه هو أحمد بن المبارك السجلماسي وكلاهما من المغرب كلاما يتعلق باللغة السريانية أريد أن أتحف القراء بذكره بمناسبة ذكر اللغة السريانية وهو من المضحكات المبكيات كما قال الشاعر:
أمور يضحك السفهاء منها
ويبكي من عواقبها اللبيب
فمن ذلك أنه زعم أن شيخه عبد العزيز الدباغ أخبره بالأمور التالية:(8/393)
1- قال المؤلف المذكور في كتاب الإبريز صفحة 217: "وسمعته رضي الله عنه يقول من تأمل كلام الصبيان الصغار وجد السريانية كثيرا في كلامهم فكان آدم عليه السلام يحدث أولاده في الصغر ويسكتهم بها ويسمي لهم أنواع المآكل والمشارب بها فنشأوا عليها وعلموها أولادهم وهلم جرا"ثم مضى إلى أن قال "وقد سبق أن لغة الأرواح هي السريانية". ثم قال:"ومن أسمائه تعالى لفظة أغ التي ينطق بها الصبي الرضيع وهو اسم يدل على الرفعة والعلو واللطف والحنان فهو بمنزلة من يقول يا علي يا رفيع يا حنان يا لطيف"، قال محمد تقي الدين: أقول في هذا سبحانك هذا بهتان عظيم وقد كنت نشرت في صحيفة الأخبار التي كانت تصدر في تطوان منذ سبع وعشرين سنة مقالا كذبت فيه ما ادعاه مؤلف كتاب الابريز من أن الحرف الواحد من السريانية يساوي كلمة من اللغات الأخرى كالعربية مثلا وذكرت أربعين كلمة من السريانية وقابلتها بالكلمات العربية فكانت إما مساوية للكلمات العربية في عدد الحروف أو تزيد عليها وبينت أن السريانية والعربية والعبرانية أخوات مشتركات في الضمائر وأغلب القواعد التي يعتمد عليها في تركيب الجمل وأن آلافا من الكلمات مشتركة بين اللغات الثلاث. فتحير في ذلك مقدم التيجانية أحمد الرهوني وأجاب من سأله وأحرجه بأن السريانية التي تتكلم بها الأرواح ويتكلم بها الأولياء في ديوانهم الذي يجتمعون فيه كل يوم قبل طلوع الفجر بغار حراء ليدبروا شئون العالم هي سريانية أخرى خاصة بالأولياء وليست هي السريانية المعروفة التي يتكلم بها السريانيون إلى يومنا هذا, والتي تكلم بها اليهود كما تقدم في أزمنتهم المتأخرة وهذا الجواب في غاية الوقاحة. فالسريانية شعب من الشعوب ولهم لغتهم، كما أن العرب شعب ولهم لغتهم والعبرانيون شعب من الشعوب ولهم لغتهم, فلما خنقته الحجة اخترع سريانية جديدة لم يذكرها أحد من الناس قبله. أما ما زعمه مؤلف كتاب الابريز أنه نقله عن شيخه من أن(8/394)
اسم الله بالسريانية أغ وأنه من بقايا لغة الروح يجري على لسان الصبيان الرضع فهو من أعظم الكذب والبهتان فإن اسم الله بالسريانية (الاها) هذا عند السريانيين الغربيين وعند السريانيين الشرقيين (ألاهو) . والسبب في ذلك أن جميع الأسماء عند السريانيين الغربيين تختم بألف مثل (بيتا) بيت, (ماي) ماء, (شمايا) سماء, (عليما) غلام. وهكذا.. أما السريانيون الشرقيون فإن الأسماء تختم عندهم بواو قبلها ضمة واسمه تعالى باللغة العبرانية (إلوهم) ولا تختلف الشعوب السامية فيما نعلم في اسم الله تعالى إلا فيما رأيت من تغيير الحركات ثم قال:"وإذا أراد الصبي أن يتغوط أعلم أمه وقال ع ع وهو موضوع في السريانية لإخراج خبث ذات الصبي", قال محمد تقي الدين: يا أسفا على العقول التي تصدق مثل هذا الهذيان ومن سوء الحظ أن كثيرا ممن يدعون أو يدعى لهم أنهم علماء في المغرب وفي مصر يصدقون هذا البهتان فنقول لهذا المخبول: إذا كانت السريانية بزعمك لغة الأرواح أي أرواح بني آدم كلهم وأن الصبيان الرضع لقرب عهدهم بعالم الأرواح بقيت على ألسنتهم هذه الكلمة السريانية فما بال صبيان العالم الرضع لا يتكلمون بها في أي شعب من الشعوب إلا في المغرب الأقصى فلعل صبيان المغاربة حفظوا ما نسيه جميع صبيان العالم وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال: "إن مما بقي من كلام النبوة الأولى (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) ". على أن حرف العين خاص بالشعوب السامية التي خرجت من جزيرة العرب ولا يوجد عند غيرهم, فالشعوب التي ليس في لغتها عين كالأوروبيين مثلا لا يستطيع الشخص الذي لم يسمع العين ولم يتدرب عليها مدة طويلة لا يستطيع أن ينطق بها أبدا إلاّ إذا خالط شعبا ساميا كالعرب والسريانيين والآشوريين والعبرانيين والقبط والبربر مدة طويلة وقد يخالطهم زمانا طويلا ولا يستطيع أن ينطق بها. والحق أن الكلمات المختصرة التي ينطق بها الصبيان في بعض البلدان إنما تلقنوها من(8/395)
أمهاتهم يضعنها لهم مختصرة ليسهل نطقهم بها في بعض البلدان فيسمون الخبز بابّ، والماء أمبوا، والتمر نينى أو نان, والطفل الصغير الذي هو مثلهم موم, وهنا في المدينة يقلبون الميم نونا فيقولون (نون) وقد جمع بعض المستشرقين لغة صبيان العرب من مثل ما تقدم فاجتمع عنده مائة وخمسون كلمة وهذا كما تقدم من تلقين الآباء والأمهات ولا علاقة له بالسريانية ولا بلغة الأرواح وذكر المؤلف كلمات أخرى من هذا القبيل لا نطيل بذكرها, ومن أراد الاطلاع عليها فلينظرها في الكتاب المذكور.
ثم قال مؤلف كتاب الابريز: "وسألته رضي الله عنه عن سؤال القبر هل يكون بالسريانية أم بغيرها وقد قال الحافظ السيوطي في منظومته:
ومن غريب ما ترى العينان
أن سؤال القبر بالسرياني
قال شارح هذه المنظومة نقلا عن كتاب للسيوطي سمّاه شرح الصدور في أحوال الموتى والقبور. "وقع في فتاوى شيخ الإسلام علم الدين البلقيني إن الميت يجيب السؤال بالسريان". قال الناظم: "ولم أقف له على سند". قال محمد تقي الدين: عفا الله عن السيوطي كيف ينقل شيئا لا يعتقد صحته, ولم يجد له دليلا, وهو من أمور الغيب ثم لا يرده, بل يكتفي باستغرابه. وقوله: ومن غريب ما تقرؤه العينان من الآراء في الكتب قول البلقيني أن سؤال القبر بالسرياني يدل عليه قوله في البيت الذي يلي البيت السابق:
كذا يقول شيخنا البلقيني
ولم أره لغيره بعيني(8/396)
فيه تكلف لأن العينين لا تريان سؤال القبر. ثم قال وقد سئل الحافظ ابن حجر عن ذلك فقال: "ظاهر الحديث أنه باللسان العربي ويحتمل مع ذلك أن يكون خطاب كل واحد بلسانه وهو متجه".اهـ. فقال رضي الله عنه يعني شيخه عبد العزيز الدباغ. نعم سؤال القبر بالسريانية لأنها لغة الملائكة والأرواح ومن جملة الملائكة ملائكة السؤال وإنما يجيب الميت عن سؤالهما روحه وهي تتكلم بالسريانية كسائر الأرواح؛ لأن الروح إذا زال عنها حجاب الذات عادت إلى الميت حالتها الأولى. قال رضي الله عنه: والولي المفتوح عليه فتحا كبيرا يتكلم بها من غير تعلم أصلا لأن الحكم لروحه فما ظنك بالميت فلا صعوبة عليه في التكلم بها. فقلت يا سيدي نريد من الله ثم منكم أن تمنوا علينا بذكر كيفية السؤال وكيفية الجواب باللغة السريانية؟
فقال رضي الله عنه: أما السؤال فإن الملكين يقولان له بلفظ السريانية (مرازهو) وضبطه بفتح الميم وبها تشديد ضعيف وبفتح الراء المهملة وبعدها ألف وبعد الألف زاي مسكنة وبعد الزاي هاء مضمومة بعدها واو ساكنة سكونا ميتا. فله ذلك ومعنى هذه الحروف المسئول بها يعرف بأصل وضع الحروف في اللغة السريانية فأما الميم المفتوحة وهي الحرف الأول فإنها وضعت لتدل على المكونات كلها والمخلوقات بأسرها، وأما الحرف الثاني وهو الراء فإنه وضع للخيرات التي في تلك المكونات، وأما الزاي فإنها وضعت للشر الذي فيها. وأما الهاء التي بعدها صلة فإنها وضعت لتدل على الذات المقدسة الخالقة للعوالم كلها سبحانه لا إله إلا هو.
ثم قال وأما الجواب فإن الميت إذا كان مؤمنا فإنه يجيبهما بقوله مراد أزيرهو، وضبطه بفتح الميم وفيها تشديد ضعيف وبعدها راء مفتوحة بعدها ألف ساكنة بعد الألف دال ساكنة وبعد الدال همزة مفتوحة وبعد الهمزة زاي مكسورة بعدها ياء ساكنة سكونا ميتا وبعد الياء راء ساكنة وبعد الراء هاء موصولة بواو ساكنة سكونا ميتا.(8/397)
ومعنى هذه الحروف: أن الحرف الأول أشير به كما سبق إلى المكونات كلها والمخلوقات بأسرها، وأشير بالحرف الثاني إلى نور محمد صلى الله عليه وسلم وإلى جميع الأنوار التي تفرعت منه كأنوار الملائكة والأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وأنوار اللوح والقلم والبرزخ وكل ما فيه نور، وأشير بالحرف الثالث وهو الدال المسكنة إلى حقيقة جميع ما دخل تحت الحرف الذي قبله فكأنه يقول: نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حق وسائر الأنبياء حق وسائر الملائكة حق لا شك في جميع ذلك وجميع ما دخل تحت الحرف السابق، وأشير بالحرف الرابع وهو الهمزة المفتوحة إلى مدلول ما بعدها فالهمزة المفتوحة في لغة السريانية من أدوات الإشارة كلفظة هذا أو هذه في العربية، والزاي التي بعدها وضعت لتدل على الشرك كما سبق فيدخل فيها جهنم وكل ما فيه ظلام وشر، وأشار بالراء المسكنة إلى حقيقة كل ما يدخل تحت الحرف الذي قبله وهي الزاي المكسورة المشبعة بالياء الساكنة، وأشير بالهاء الموصولة إلى الذات العلية من حيث أنها خالقة ومالكة ومتصرفة وقاهرة ومختارة فحاصل معنى الجواب أنه قيل جميع المكونات ونبينا الذي هو حق وسائر الأنبياء الذين هم حق وكافة الملائكة الذين هم حق وجميع الأنوار التي هي حق وعذاب جهنم الذي هو حق وكل الشر الذي هو حق هو سبحانه خالقها ومالكها ومتصرف فيها المختار فيها وحده لا معاند له ولا شريك ولا راد لحكمه. قال رضي الله عنه فإذا أجاب الميت بهذا الجواب الحق قال له الملكان عليهما الصلاة والسلام ناصر. وضبطه بفتح النون في أوله بعدها ألف وبعد الألف صاد مكسورة وبعد الصاد راء ساكنة ومعناه يُعلم مما وضعت له حروف في السريانية فالحرف الأول وهو نا بالنون المفتوحة بعدها ألف للنور الساكن في الذات المشتعل فيها والحرف الثاني وهو الصاد المكسورة وضعت لتدل على التراب، والراء الساكنة تدل على حقيقة المعنى السابق، فمعنى هذا الكلام حينئذ نور إيمانك الساكن(8/398)
في ذاتك الترابية. أي التي أصلها من التراب صحيح حق مطابق لا شك فيه فهو قريب من قوله في الحديث: "نم صالحا قد علمنا إن كنت لموقنا".
وسألته رضي الله عنه عن كلمات من القرآن اختلف العلماء فيها هل هي سريانية أم لا؟ فمنها أسفارا, قال الواسطي في الاشاد هي الكتب بالسريانية وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال هي الكتب بالقبطية قاله في الإتقان في علوم القرآن. فقال رضي الله عنه هي سريانية وهي الكتب كما قال الواسطي رحمه الله ومعنى الكلمة تلك محاسن الأشياء التي ليست طوق البشر لأن الهمزة المفتوحة إشارة لما يليها كما سبق. والسين المسكنة وضعت لمحاسن الأشياء. والفاء المفتوحة اسم لما ليس في طوق البشر، والراء المفتوحة إشارة أخرى إلى تلك المحاسن فكأنه يقول إن الكتب فيها هذه المحاسن التي لا تطاق والله أعلم.(8/399)
قال محمد تقي الدين كلمة (سفر) بكسر السين وسكون الفاء من الكلمات المشتركة بين اللغات السامية التي نعرفها ففي السريانية (سفرا) سواء أكان نكرة أم معرفة لأن كل اسم في السريانية ينتهي بالألف وليس فيها أداة تعريف، وبالعبرانية إذا لم تضف هذه الكلمة تلفظ (سفر) بكسر السين والفاء, وهكذا الأسماء الثلاثية في اللغة العبرانية كثير منها يكون بكسر أوله وثانيه وإذا أضيف إليه ياء المتكلم تقول (سفري) بكسر فسكون كما في العربية. أما الجمع فيختلف ففي العربية وحدها لا في أختيها يجمع على أسفار, ومؤلف كتاب الابريز توهم أن السفر يجمع على أسفار في اللغة السريانية فاخترع لكل حرف معنى حسبما تقدم من زعمه أن كل حرف في السريانية له معان وهو باطل كما أشرت إليه سابقا، فحرف التهجي في السريانية كغيرها ليس له معنىً , ومن المعلوم أن أكثر الكلمات في اللغات السامية سواء أكانت فعلاً أم اسماً لا يقل عددها في الكلمة الواحدة عن ثلاثة أحرف, وما جاء ناقصا؛ كيَدٍ ودَمٍ فالحرف الثالث فيه مقدر يظهر في الجمع نحو (اغسلوا أيديكم) وسالت دماء الأعداء، فهمزة دماء منقلبة عن ياء والأصل دماي وعلماء اللغات السامية متفقون على هذا ولكن أحمد بن المبارك اللمطي ظن أن اللغة السريانية ماتت موتا تاما وانقرض أهلها ولم يبق أحد يعرفها على وجه الأرض فافترى ماشاء له الخيال أن يفتري. ولم يدر أن قرىً كثيرة في شمال العراق لا تزال تتكلم بالسريانية, وقرى أخرى هناك تتكلم بالآشورية التي أختها الشقيقة, وما أحسن ما قال الشاعر:
في مثل هذا المفتري يحق إنشاده:
يا لك من قبرة بمعمر
خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري
قد ذهب الصياد عنك فابشري
لا بدّ من أخذك يوما فاحذري(8/400)
وقد رأيت في خزانة الكتب ببرلين مجلدين ضخمين يشتملان على أسماء الكتب السريانية المخطوطة الموجودة في هذه الدار وحدها فما بالك بخزائن الكتب التي توجد عند السريانيين في الشام والعراق وقد زرت مدرستهم في الموصل، والتدريس فيها باللغة السريانية وهي مؤسسة لتخريج القسيسين، ولما قال لي مدير المدرسة وهو قسيس: اسأل التلاميذ عمّا تريد. فقلت لا أريد أن أخجلهم. فقال: لا بل اسألهم. فأشرت إلى تلميذ عمره خمس عشرة سنة تقريبا يلبس لباس الرهبان كسائر التلاميذ وقلت له تستطيع أن تترجم أبياتا عربية بالسريانية فقال نعم. فقلت له ترجم الأبيات التالية:
تعلم فليس المرء يولد عالما
وليس أخ علم كمن هو جاهل
وإن كبير القوم لا علم عنده
صغير إذا التفت عليه المحافل
وإن صغير القوم والعلم عنده
كبيرا إذا ردت إليه المسائل
فترجمها شعرا بالسريانية أحسن ترجمة.(8/401)
ثم قال: ومنها (شهر) ذكر الجواليقي أن بعض أهل اللغة ذكر أنه سرياني فقال رضي الله عنه ليس بسرياني والشهر في لغة السريانيين اسم للماء, قلت ومن عرف تفسير حروفه لم يشك في ذلك، قال محمد تقي الدين وهذا أيضا افتراء, فإن الشهر موجود في السريانية بلفظ (سهرا) ومعناه الهلال والقمر. أما الماء الذي زعم أنه في السريانية شهر فقد كذب فالماء في السريانية ماي وجمعه مايي أي مياه، وأقتصر في الرد على هذا المفتري على هذا القدر. وهذا الرجل أحمد ابن المبارك اللمطي السجلماسي من كبار علماء وقته في مدينة فاس في القرن الثاني عشر للهجرة وقد حمله حب الشهرة أن اتّخذ رجلاً من آل البيت اسمه عبد العزيز الدباغ كان يعد من الصالحين وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب اتخذه شيخا ونسب إليه أجوبة كثيرة عن معاني الآيات والأحاديث لا يتسع المقام لذكرها وزعم أنه كان يقرأ اللوح المحفوظ ويجيب عن كل ما يُسأل عنه وهذا يدل على ذهاب العلم والعلماء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس بعد أن أعطاهموه وإنما يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتّخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا". وإذا أردت أيها القارئ أن تزداد علما بما ينسب من كلمات القرآن إلى غير لغة العرب فعليك بقراءة مقالي المنشور في مجلة الجامعة الإسلامية في الجزء الثالث من السنة الثالثة (محرم 91هـ) والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.(8/402)
حكم من لم يحكم بكتاب الله
بقلم الشيخ عطية محمد سالم
القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة
تقدم في أول مبحث من له حق الحكم والتشريع ومن المستحق للسمع والطاعة والإذعان والانقياد لأوامره. وأنه هو الله تعالى وحده. وبيان موجز بأن من شرع ما لم يأذن به الله فقد نصب نفسه شريكا مع الله ومن أطاعهم في تشريعهم واستحله فهو مشرك شرك الطاعة المعروف. وفي هذا المقام نورد تفصيل ذلك مما ورد في مجموع نصوص صريحة:
أولا- لما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْك} إلى آخر الآية. جاء بعدها في السياق {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} . فجعلهم شركاء تشريع بتشريعهم ما لم يأذن به الله؛ لأن التشريع حق لله ولا يملك هذا الحق إلا الله.
ثانيا- لما حرم الله الميتة جاء الشيطان لأوليائه من كفار مكة فأوحى إليهم بما يحاولون به في تحريمها ويدعون إلى تحليلها فقال لهم: قولوا لمحمد: الشاة الميتة من قتلها فقال لهم: الله قتلها فقال قولوا لهم ما قتله الله يكون حراما وما قتلتموه أنتم يكون حلالا فذبيحتكم إذا أحسن من ذبيحة الله التي ذبحها بسكين من ذهب بيده الكريمة.. فأنزل الله قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} .(8/403)
وقد بيّن فضيلة والدنا الشيخ محمد الأمين في أضواء البيان فيما يكتبه حفظه الله للجزء السابع وسمح بالنقل عنه أوسع بيان في ذلك. فقد ساق هذه القصة ببيانه المفصل وختمه بقوله تعليقا على الآية بقوله: وقوله تعالى: {لَفِسْقٌ} أي خروج عن طاعة الله واتباع لتشريع الشيطان. {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} أي بقولهم: ما ذبحتموه حلال وما ذبحه الله حرام. فأنتم إذاً أحسن من الله وأحل تذكية. ثم بيّن الفتوى السماوية من رب العالمين في الحكم بين الفريقين في قوله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} فهي فتوى سماوية من الخالق جل وعلا، ثم صرح فيها بأن متبع تشريع الشيطان المخالف لتشريع الرحمن مشرك بالله.(8/404)
وهذه الآية الكريمة مثل بها بعض علماء العربية لحذف اللام الموطئة للقسم. لحذف الفاء من الجواب وعدم اقترانه بها. وساق فضيلته مناقشة عربية في ذلك. ثم ذكر بعدها الآيات المتعلقة بالموضوع فقال: ومن الآيات الدالة على ما دلت عليه آية الأنعام قوله تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} . فصرح بتوليهم للشيطان أي باتباع ما يزين لهم من الكفر والمعاصي مخالفا لما جاءت به الرسل.. ثم صرح بأن ذلك إشراك به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} . وصرح أن الطاعة في ذلك الذي يشرعه الشيطان لهم ويزينه عبادة للشيطان. ومعلوم أن من عبد الشيطان فقد أشرك بالرحمن. قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ..} ويدخل فيهم متبعوا نظام الشيطان دخولا أوليا: (ولعل مما يشهد لأولية هذا الدخول ما سبق تقديمه من قوله تعالى فيمثل هذا المقام: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} . ثم يبين المصير الأخير لمن كان يعبد الشيطان في دار الدنيا في قوله: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .
وقال تعالى عن نبيه إبراهيم: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} فقوله: لا تعبد الشيطان أي باتباع ما يشرعه من الكفر والمعاصي مخالفا لما شرعه الله.(8/405)
وقال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً} . فقوله وإن يدعون إلا شيطانا يعني وما يعبدون إلا شيطانا مريدا.
وقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ. قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} فقوله تعالى: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} أي يتبعون الشياطين ويطيعونهم فيما يشرعون ويزينون لهم الكفر والمعاصي على أصح التفسيرين.(8/406)
والشيطان عالم بأن طاعتهم له المذكورة إشراك به كما صرح بذلك وتبرأ منه في الآخرة كما نص الله عليه في سورة إبراهيم في قوله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} إلى قوله: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} فقد اعترف بأنهم كانوا مشركين به من قبل أي في دار الدنيا ولم يكفر بشركهم إلا يوم القيامة. وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى الذي بيناه في الحديث لما سأله عدي بن حاتم رضي الله عنه عن قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} . كيف اتخذوهم أربابا وأجابه صلى الله عليه وسلم "أنهم أحلوا لهم ما حرّم الله وحرموا عليهم ما أحل الله" فاتبعوهم وبذلك الاتباع اتخذوهم أرباباً. ومن أصرح الأدلة في هذا أن الكفار إذا أحلوا شيئا يعلمون أن الله حرمه وحرّموا شيئا يعلمون أن الله أحله فإنهم يزدادون كفراً جديداً بذلك مع كفرهم الأول وذلك في قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّه} أي بالقتال وما لا يجوز في الأشهر الحُرم إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} .
وعلى كل فكل من أطاع غير الله في تشريع مخالف لما شرعه الله فقد أشرك به مع الله كما يدل لذلك قوله:
{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ} . فسماهم شركاء لما أطاعوهم في قتل الأولاد وقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} . فقد سمى تعالى الذين يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله شركاء.(8/407)
ومما يزيد ذلك إيضاحا أن ما ذكره الله عن الشيطان يوم القيامة من أنه يقول للذين كانوا يشركون في دار الدنيا {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُْ} أن ذلك الإشراك المذكور ليس فيه شيء زائد على أن دعاهم إلى طاعته فاستجابوا له كما صرح بذلك في قوله: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} .. الآية. وهو واضح كما ترى.
فتحصل من هذا السياق الوافي والبيان الكافي وقد زاده إيضاحا قوله حفظه الله في مطلع هذا البحث بقوله: "فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته؛ قال في حكمه: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} . وفي قراءة ابن عامر من السبعة {ولا يشركْ في حكمه أحدٌ} بصيغة النهي وقال في الإشراك به في عبادته: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} , فالأمران سواء". اهـ.
وقد سيق إيراد النصوص التي جمعت الحكم والعبادة والحكم والولاية معا.
ولعلنا بهذا العرض وهذا الإيراد لما ذكره فضيلة والدنا الشيخ محمد الأمين في هذا المبحث نكون قد أعطينا الضوء الكافي لمن أراد أن يبصر طريق الحق إلى مطلع النور والهدى والحكم بما أنزل الله من كتاب وحكمة.
ومن عجب كل العجب أن يعرض الإنسان عن شرع ربه وخالقه ومحييه ومميته وكادح إليه فملاقيه وموقفه بين يديه يأتونه فرادا كما خلقهم أول مرة في يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لا ملجأ من الله إلا إليه قد شرع له ما يصلح دنياه ويسعد آخرته.(8/408)
وهو مع هذا يعرض ويتولى. وما ذلك إلا ضياع منه لنفسه ونسيان لحظه وتمرد على ربه: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ, وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} . نسي خلقه من نطفة مخلقة فمضغة حتى إذا كان يافعا فتيا ناصب ربه العداء وشرع لخلق الله ما أراد.
وخير ما نختتم به هذا البحث الإنذار من الله لخلقه {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} . وإن حقيقة الإسلام لا تتحقق إلا بكمال الاستسلام كما قيل:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له الأرض تحمل صخرا ثقالا.
دحاها فلما استوت شدها.
سواء وأرسى عليها الجبالا.
وأسلمت وجهي لمن أسلمت.
له المزن تحمل عذبا زلالا.
إذا هي سيقت إلى بلدة
أطاعت فصبت عليها سجالا.
وأسلمت وجهي لمن أسلمت.
له الريح تصرف حالا فحالا.
ومن أبرز النصوص في موضوع من لم يحكم بما أنزل الله ما جاء متتاليا في سورة المائدة ثلاث مرات {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} والثانية {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وفي الثالثة {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .(8/409)
وجميع المفسرين والكتاب وعلماء الكلام فيهم الطحاوي يتناولون هذه النصوص بالبحث من وجهات علمية ثلاث تتلخص فيمن نزلت؟ , وبمن اختصت؟ , وعلامَ دلَّت؟. واتفقوا أنها نزلت في اليهود والنصارى أما بمن اختصت. فالبعض يخصها بمن نزلت فيهم والأكثرون يعمون بها على أساس أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وأن شرع من قبلنا شرع لنا. وأنها ما ذكرت لنا في شرعنا إلا من أجلنا لنحذر مما حذرت منه. أما مدلولها فالبعض أيضا على أن الألفاظ الثلاثة قد تكون مترادفة المعنى وكلها تأتي بمعنى الشرك وبمعنى العصيان وعليه هل هذا الكفر والظلم والفسق مخرجة من الملة أم هي كفر دون كفر وفسق عصيان وظلم في الفروع؟.
وقد بحث هذا الموضوع شارح الطحاوية بما نصه: قال: "وهنا أمر يجب أن يتفطن له وهو: أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرا ينقل عن الملة وقد يكون معصية كبيرة أو صغيرة. ويكون كفرا. إما مجازيا وإما كفرا أصغر على القولين المذكورين. وذلك بحسب حال الحاكم: فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب, وأنه مخير فيه, واستهان به مع تيقنه أنه حكم الله فهذا كفر أكبر. ون اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله وعلمه في هذه الواقعة وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق العقوبة. فهذا عاص. ويسمى كافرا كفرا مجازيا أو كفرا أصغر. وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه, فهذا مخطئ، له أجر على اجتهاده وخطؤه مغفور" هـ..
فقد أوجز الحكم على من حكم بغير ما أنزل الله بناء على اعتبارات مختلفة في نفس الحاكم من اعتقاده أو غير وجوبه وعلمه وجهالته ونحو ذلك.(8/410)
وقد بحث هذه النصوص الثلاثة فضيلة والدنا الشيخ محمد الأمين في أضواء البيان في الجزء الثاني على قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} في سورة المائدة قد استوفى البحث مما يغني عن أقوال جميع المفسرين () الموضوع نسوقه بتمامه لتمام فائدته. ثم نعرض وجهة نظر في الموضوع إن شاء الله.
قال حفظه الله: " قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} . اختلف العلماء في هذه الآية الكريمة هل هي في المسلمين أو في الكفار؟ , فرُوي عن الشعبي أنها في المسلمين. وروي عنه أنها في اليهود. وروي عن طاوس أيضا أنها في المسلمين. وأن المراد بالكفر فيها كفر دون كفر. وأنه ليس في الكفر المخرج من الملة. وروي عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: "ليس الكفر الذي تذهبون إليه". رواه عنه ابن أبي حاتم والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قاله ابن كثير. قال بعض العلماء والقرآن العظيم على أنها في اليهود لأنه تعالى ذكر فيما قبلها أنهم يحرفون الكلم من بعض مواضعه وأنهم يقولون {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا} يعني الحكم المحرف الذي هو غير حكم الله فخذوه. وإن لم تؤتوه أي المحرف بل أوتيتم حكم الله الحق فاحذروه. فهم يأمرون بالحذر من حكم الله الذي يعلمون أنه الحق. وقد قال تعالى بعدها {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} الآية.. تدل على أن الكلام فيهم.(8/411)
وممن قال بأن الآية في أهل الكتاب كما دل عليه ما ذكر (البراء بن عازب- وحذيفة بن اليمان، وابن عباس، وأبو مجلز، وأبو رجاء العطاردي، وعكرمة، وعبيد الله بن عبد الله، والحسن البصري وغيرهم. وزاد الحسن وهي علينا واجبة. نقله عنهم ابن كثير. ونقل نحو قول الحسن عن إبراهيم النخعي. وقال - القرطبي- في تفسيره {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ - والظَّالِمُونَ - والْفَاسِقُونَ} : "نزلت كلها في الكفار. ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء. وقد تقدم وعلى هذا المعظم.
فأما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة. وقيل فيه: (أي ومن لم يحكم بما أنزل الله) رداً للقرآن وجحدا لقول الرسول صلى الله وعليه وسلم فهو كافر قاله ابن عباس ومجاهد.
فالآية عامة على هذا. قال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار. أي معتقدا ذلك ومستحلاً له. فأما من فعل ذلك- وهو معتقداً أنه مرتكب محرما فهو من فساق المسلمين, وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.
وقال ابن عباس في رواية {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} فقد فعل فعلا يضاهي أفعال الكفار. وقيل أي ومن لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر. فأما من حكم بالتوحيد, ومن لم يحكم ببعض الشرائع فلا يدخل في هذه الآية. والصحيح الأول, إلا أن الشعبي قال: هي في اليهود خاصة. واختاره النحاس قال: ويدل على ذلك ثلاثة أشياء:(8/412)
منها أن اليهود ذكروا قبل هذا في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ هَادُوا} فعاد الضمير عليهم. وفيها أن سياق الكلام يدل على ذلك ألا ترى أن بعده {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} . فهذا الضمير لليهود بالاجماع. وأيضا فإن اليهود هم الذين أنكروا الرجم والقضاء. فإن قال قائل (من) إذا كانت للمجازاة فهي عامة إلا أن يقع دليل على تخصيصها, قيل له (من) هنا بمعنى (الذي) مع ما ذكرناه من الأدلة والتقرير, واليهود الذين لم يحكموا بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون. فهذا من أحسن ما قيل في هذا.
ويروى أن حذيفة سئل عن هذه الآيات أي في بني إسرائيل فقال: نعم هي فيهم ولنسلكن سبيلهم حذو النعل بالنعل - وقيل: {الْكَافِرُونَ} للمسلمين, و {الظَّالِمُونَ} لليهود, و {الْفَاسِقُونَ} للنصارى. وهذا اختيار أبي بكر بن العربي. قال: لأنه ظاهر الآيات.
وهو اختيار ابن عباس وجابر بن زيد وابن أبي زائدة وابن شبرمة والشعبي أيضا. قال طاووس وغيره: "ليس بكفر ينقل عن الملة. ولكنه كفر دون كفر". وهذا يختلف إن حكم ما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر، وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة الخ.. الغفران للمذنبين.
قال القشيري: "وقد ذهب الخوارج أن من ارتشى وحكم بغير حكم الله فهو كافر". وعزا هذا إلى الحسن والسدي. وقال الحسن أيضا: أخذ الله على الحكام ثلاثة أشياء:
1- ألا يتبعوا الهوى. 2- وأن لا يخشوا الناس ويخشوه. 3- وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا". انتهى كلام القرطبي.
قال مقيدة عفا الله عنه: الظاهر المتبادر من سياق الآيات: أن آية {هُمُ الْكَافِرُونَ} نازلة في المسلمين؛ لأنه تعالى قال قبلها مخاطبا لمسلمي هذه الأمة {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} . ثم قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} .(8/413)
فالخطاب للمسلمين كما هو ظاهر متبادر من سياق الآية. وعليه فالكفر إما كفر دون كفر وإما أن يكون فعل ذلك مستحلا له، أو قاصدا به جحد أحكام الله وردها مع العلم بها.
أما من حكم بغير حكم الله وهو عالم أنه مرتكب ذنبا, فاعلا قبيحا, وإنما حمله على ذلك الهوى فهو من سائر عصاة المسلمين. وسياق القرآن ظاهر أيضا في أن آية {هُمُ الظَّالِمُونَ} في اليهود لأنه قال قبلها: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .
فالخطاب لهم لوضوح دلالة السياق عليه كما أنه ظاهر أيضا مع أن آية: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} في النصارى لأنه قال قبلها {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
واعلم أن تحرير المقام في هذا البحث أن الكفر والظلم والفسق كل واحد منها ربما أطلق في الشرع مراد به المعصية تارة, والكفر المخرج من الملة تارة أخرى.
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} معارضة للرسول صلى الله عليه وسلم وإبطالا لحكم الله. فظلمه وفسقه وكفره كلها مخرج عن الملة. ومن لم يحكم بما أنزل الله معتقدا أنه مرتكب حراما فاعل قبيحا فكفره وظلمه وفسقه غير مخرج عن الملة. وقد عرفت أن ظاهر القرآن يدل على أن الأولى في المسلمين, والثانية في اليهود, والثالثة في النصارى. والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب. وتحقيق أحكام الكل هو ما رأيت. والعلم عند الله تعالى ". اهـ من الأضواء بلفظه قبل طبعه.(8/414)
وبعد هذا العرض من كلام شارح الطحاوية الموجز وكلام الأضواء المفصل, فإني أورد وجهة نظر في هذه النصوص الثلاثة مما توحي الآيات بسياقها:
أولا - الآية الأولى: جاءت تبعا لسباق مكتمل عن اليهود, بدأ من التحذير منهم, {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} إلى قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُم} إلى قوله: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّه} إلى قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ..} وإلى هنا كله في اليهود.. وفي عموم التوراة يحكم بها النبيون ثم جاء في السياق {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} وهنا خطاب للأمة, ثم جاء بعد هذا مباشرة {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ..}
ولكن بالنظر إلى ما أعقبه من قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} .. فإن {عَلَيْهِمْ} راجع لليهود قطعا, و {فِيهَا} راجع للتوراة قطعا.. وقوله: {بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} مجمل بالنسبة إلى القرآن أو التوراة، فيكون عطف عليهم فيها في السباق أقرب إلى اعتبار ما أنزل الله هو التوراة. وهذا على الأقل يرجح أن قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} يعني اليهود: أي نزلت فيهم.. أما حكمها عامة أو خاصة فهذا مبحث آخر..(8/415)
أما الثانية: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} : تصريح النص والسياق إنها في اليهود لقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} إلى آخر: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .
وكذلك الثالثة: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} لقوله: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} إلى قوله: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . فهذه في النصارى لذكر الإنجيل.
ومن ناحية أخرى: إننا لو نظرنا إلى لفظتي (كافرون) و (فاسقون) , لوجدناهما جاءتا بعد ذكر الكتابين التوراة والإنجيل, أو عموم ما أنزل الله أي أنها في الحكم على من لم يحكم حكما عاما ويأخذ بعموم التشريع بما فيه العقائد والعبادات وتحكيمه ككل لا كجزء.
أما لفظة: (الظالمون) فجاءت عقب تفصيل جزئي في تشريع جانبي خاص بحق الإنسان أي في حق خاص لا في حق عام..
والحق الخاص مبني على القصاص, وهو المساواة أو التسامح, فإن أسقط الإنسان حقه سقطت فيه المطالبة, فمن تصدق به فهو كفارة له.. بخلاف العقائد والعبادات فهي لازمة لا يملك المكلف إسقاطها ولا التصدق بشيء منها.
فهي حق دائر بين المسامحة والمطالبة, {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَه} , و {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ..} ومن طالب بحقه فلا بدّ فيها كلها من القصاص والمماثلة. {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ..} إلى {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} . وإذا لم ينفذ هذا ويحكم بمقتضاه كان الظلم لا محالة؛ لأنه إذا أخذت اليد بالعين والسن بالأنف لم تقع المساواة, وإن أخذت عروض وأموال في أحدها..(8/416)
والحال أن الجاني معتد فإن الظلم لم يرتفع؛ لأن المال عوض العضو وبقي حق الاعتداء, فأي عقوبة بغير القصاص ستكون ظلما؛ لأنها إما زائدة عن العضو فيظلم الجاني, وإما ناقصة فيظلم المجني عليه ولا يرتفع الظلم إلا بالمقاصة. {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . وهذا أيضا يجعل هذا الوصف وإن كان خاصا في اليهود إلا أنه عام في كل أمة, إذا لم ينفذ حكم القصاص في النفس والأطراف والجروح فهي ظالمة. ولا تكون بذلك وحده كافرة, أي أن هذا جور في الحكم وحيف في الحق وهذا من المعاصي وليس من الكفر والشرك.
وذلك مع اعتبار ما قاله شارح الطحاوية من معتقد الحاكم المتقدم تفصيله وبالله التوفيق.. وهذا ما يتعلق بالمسلمين حاكمين ومحكومين.
أما المواطنين غير المسلمين فإنهم لا يكون إلا محكومين ولكنهم يكونون متساوين مع المسلمين في التقاضي من العدالة والمساواة والإنصاف وضمان الحقوق, قياما لله بالحق {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} . وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
حق المواطنين غير المسلمين في التحاكم:
لقد رأينا في المقدمة ما كان عليه حال البلاد المسلمة حينما كانت تحت حكم الاستعمار وما كان عليه حال المستعمرين من تمييز وحماية ثم اختصاص بمحاكم خاصة في ظل الغلبة والقوة.(8/417)
أما الإسلام فليس فيه شيء من ذلك في نشر العدالة وميزان الحكم كما في قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً} أي لأنهم أضعف من ذلك. ومع هذا الضعف {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي ولو كان المحكوم عليه أو له عدو مخالف. وهكذا يعامل المسلم وغير المسلم على حد سواء. وفي قصة عمر بيان شاف لماّ تحاكم يهودي ومنافق فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد لعلمه أنه لا يأخذ الرشوة. وقال المنافق: نتحاكم إلى فلان, وأخيرا تحاكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فحكم لليهودي ولكن المنافق لم يقبل, فذهب به إلى أبي بكر رضي الله عنه فحكم بما حكم به صلى الله عليه وسلم فلم يقبل وذهب به إلى عمر رضي الله عنه فسبقه اليهودي بالقول وأخبره بما كان من حكمين سابقين فاستمهلهما ودخل فأتى بسيفه وقتل من لم يرضَ بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان الحكم لليهودي..(8/418)
وفي قصة شريح في قضية علي بن أبي طالب مع اليهودي في الدرع أعظم مثَلٍ للقضاء والمتقاضين والحكم النزيه. افتقد عليٌ درعَه سقط عن بعيره فأخذه يهودي فادعاه به فلم يعطه وقال درعي وفي يدي فاحتكما إلى شريح فطلب شريح من عليٍ البينة فقال: ليس عندي إلا الحسن والخادم. فقال له أما الحسن فولدك ولا تقبل شهادته لك, فقال علي: ويحك ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة", قال: بلى والله أعلم, ولكن لا بد لك من شاهد آخر, فقال: ليس عندي, فقال لليهودي: انطلق بالدرع, فلما خرج قال: واعجباً والله قاضي المسلمين وإمامه أمير المؤمنين ولم يقبل شهادة ولده له وهو ابن بنت رسول الله, هذا والله هو العدل, يا علي هذا الدرع لك سقط عن بعيرك فأخذته ولكن أردت أن أنظر ماذا سيصنع قاضيك لك وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله, ففرح علي وقال: خذ الدرع فهو لك وخذ هذه مائتا درهم لك.
هذه هي عدالة الإسلام ومساواته بين جميع المواطنين في الحقوق أمام القضاء مما لم يعرف له العالم مثيلاً, لا قديما ولا حديثا.
وقد وضع الفقهاء أبوابا لأهل الذمة في تآليفهم لبيان ما لهم في ظل الإسلام وتحت حكم المسلمين. وقضية الجيش في سمرقند وقضاؤه فيها بأمر أمير المؤمنين الخليفة عمر بن عبد العزيز أعظم شاهد على ذلك وسيأتي التنبيه على محاسن الشريعة ومساوئ القوانين فيما بعد إن شاء الله.(8/419)
تمثيل رسول الله وتمثيل آل بيته وأصحابه رضوان الله عليهم
لفضيلة الشيخ محمد المنتصر الكتاني
المستشار العام لرابطة العالم الإسلامي بمكة
تمثيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرام لا يجوز، بنصوص القرآن والسنة النبوية وإجماع المسلمين وقد يكون ذلك كفرا وزندقة.
وكما لا يجوز تمثيله صلوات الله عليه، لا يجوز حضور تمثيله، ولا الموافقة عليه، ولا مساعدة مرتكب ذلك بأي نوع من أنواع المساعدة إذناًله، أو تصوير الكعبة المشرفة، أومكة المكرمة، والضريح النبوي، والمدينة المنورة، أو أي شيء في معناها ليظهر حاكيه عليه الصلاة والسلام في منزل الوحي، ودار ولادته، ومرتع صباه، ودار هجرته ومدفنه صلوات الله وسلامه عليه.
ومرتكب ذلك بالتمثيل نفسه، أو الحضور فيه، أو معاونته، أو الموافقة عليه بفتوى، أو جاه، أو نفوذ أو أي شيء يكون منه لعمل ذلك التمثيل, فاعل ذلك بنفسه، أو بتأييده، ولو باللسان، فضلا عن المشاركة ملعون بلعنة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ومع اللعنة يعاقب أيضا بالطرد من بلده والنفي من بين قومه وعشيرته.
وكذلك لا يجوز ويحرم تمثيل آل بيت النبوة، وأصحاب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، ويجب احترامهم بأمر الله تعالى وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والممثلون أهل لعب ومجون، وأهل كذب واستخفاف، وقد يصل بهم اللعب في التمثيل والكذب إلى الاستخفاف بمن يجعلونه غرضا لذلك التمثيل وهدفاً، وإذ ذاك يصبح التمثيل كفرا وزندقة، عقوبته القتل بلا استتابة، ولا يبقى حكمه عدم الجواز والحرمة فقط، ولا يكفي في عقوبته اللعنة لمرتكبه والساعي فيه والنفي من البلاد فقط.(8/420)
ونص التحريم من القرآن الكريم قوله تعالى لمن جعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هدفا للعبهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} .
قال ابن العربي المعارفي: "لا يخلوا أن يكون ما قالوه من ذلك جدا أو هزلا، وهو كيفما كان كفر، فإن الهزل بالكفر كفر، لا خلاف فيه بين الأمة".
ونص التحريم من السنة النبوية، قصة الحكم بن أبي العاص الأموي، ومحاكاته للنبي صلوات الله وسلامه عليه، قال ابن عبد البر الأندلسي: "كان الحكَم يحاكي النبي صلى عليه وسلم في مشيته وبعض حركاته، أي كان الحكم يمثل النبي صلوات الله عليه، وكان الحكم من مسلمة الفتح ومطلقيهم.
ذكروا أن النبي صلوات الله وسلامه عليه كان إذا مشى يتكفأ، وكان الحكم بن أبي العاص يحكيه – يمثله-، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم فرآه يفعل ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: "فكذلك فلتكن"، فكان الحكم مختلجا يرتعش من يومئذ.
وأخرج البيهقي في دلائل النبوة عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق: "كان الحكم يجلس عند النبي صلى الله عليه وسلم، فبصر به عليه الصلاة والسلام، فقال: "كن كذلك"، فما زال يختلج حتى مات".
وروى الفاكهي: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخلوا عليه وهو يلعن الحكم بن أبي العاص ونفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة المنورة إلى الطائف.
وروى ابن أبي خيثمة وغيره بعدة أسانيد عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت لمروان: "فاشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أباك وأنت في صلبه"، ورواه النسائي والحاكم وابن مردويه وغيرهم، ورواه الإسماعيلي وسكت عنه الحافظ، وهو بسكوته عنه يعتبر صحيحا حسب قاعدته، وكذلك قال له أخوها عبد الرحمن: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباك" رواه البزار وحسنه الهيثمي.(8/421)
وورد ذلك عن الحسن والحسين ابني علي عند أبي يعلى في مسنده.
وورد أيضا عن ابن الزبير عند أحمد والبزار في مسنديهما، والطبراني في معجمه، وصححه الهيثمي, وعن عمرو بن مرة الجهني رفعه: فعلى -الحكم- لعنة الله والملائكة والناس أجمعين, ورواه الطبراني ووثقه الهيثمي، وورد لعنه عن عبد الرحمن بن عوف عند الحاكم، وعن عبد الله بن عمر عند الطبراني، وعن عطاء الخراساني مرسلا عند الفاكهي، فهو برواته العشر متواتر، وصححه الحاكم والحافظ والهيثمي.
وأخرج ابن عبد البر في الاستيعاب بسنده إلى قاسم بن أصبغ في سننه، عن عبد الله بن عمر وابن العاص قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يدخل عليكم رجل لعين، قال: فدخل الحكم ابن أبي العاص" ورواه احمد والبزار في مسنديهما والطبراني في معجمه، وصححه الهيثمي.
وهجا عبد الرحمن بن حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم مروان ولد الحكم فقال:
إن اللعين أبوك فارم عظامه
إن ترم ترم مخلجاً مجنونا
يمسي خميص البطن من عمل التقى
ويظل من عمل الخبيث بطينا
وقال الحافظ في الفتح: "وقد وردت أحاديث في لعن الحكم والد مروان.. أخرجهما الطبراني وغيره، بعضها جيد."
وروى الطبراني من حديث حذيفة بن اليمان: "لما ولي أبو بكر الصديق الخلافة، كُلِم في الحكم أن يرده من الطائف إلى المدينة فقال: ما كنت لأحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقصة الحكم في محاكاته وتمثيله للنبي صلوات الله وسلامه عليه بمشيته وحركاته، دليل على عين النازلة كما يقول الفقهاء وعلماء المناظرة.(8/422)
وتمثيل الحكم للحركات النبوية والمشية النبوية، إما أن يكون ذلك منه استهزاء برسول الله والرسالة، ولو كان استهزاء لكان الحكم مرتداً، وجزاء المرتد المستهزئ برسول الله والرسالة، القتل بإجماع الأمة، كان المستهزئ مسلماً أو ذمياً، كما نص على ذلك علماء جميع المذاهب، وفي هذه المسألة صنف أبو العباس ابن تيمية كتابه الكبير: الصارم المسلول على شاتم الرسول.
وإما أن يكون الحكم بتمثيله للحركات النبوية والمشية النبوية متلاعبا فقط، واكتفاء رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بلعنه ونفيه، دليل على اعتباره له يلعب، ولذلك لم يقتله، وبذلك يتم المقصود من أنه لعب وليس استهزاء.
فصح بهذا الدليل أن التمثيل برسول الله والرسالة لعب، واللعب بذلك حرام لا يجوز، ملعون اللاعب بفعله وحضوره وتأييده، ومع اللعنة حكمه أن ينفى من بلاده إلى بلاد لا عشيرة له فيها ولا أهل، كما نفى الحكم من المدينة المنورة من بين أهله وولده وعشيرته إلى الطائف، حيث عاش غريبا مطرودا بقية حياة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وفي خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وفي خلافة عمر الفاروق رضي الله عنه، وإلى سنوات من الخلافة العثمانية.
والممثل يتخيل ويكذب في كلامه على الذين يمثلهم، يكذب عليهم قولاً فيما تخيل عنهم أنهم قالوه، ويكذب عنهم في محاكاةحركاتهم وتصويرها للناس في حركات أعضائه من قيام وقعود وضحك وبكاء وحزن وفرح، فالممثل كاذب في تمثيله بحاله ومقاله، والممثل لرسول الله يكون كاذبا على رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
وفي الحديث المتواتر عن مائتي صحابي عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: "من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار".
وكما قال أبو العباس ابن تيمية: "وليس يخفى أن من كذب على من يجب تعظيمه - كرسول الله - فإنه مستخف به مستهين بحقه".(8/423)
وعقوبة الكاذب على رسول الله القتل، لقد أجمع الفقهاء على ذلك كما قال ابن تيمية، وقتل الخلفاء الكذبة على رسول الله في عهود مختلفة.
وقد أمر الله تعالى الناس كل الناس بتعظيم رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، واحترامه وتعزيره وتوقيره، زيادة على الإيمان بنبوته ورسالته وأنه خاتم الأنبياء، وأنه مرسل إلى الناس كافة إلى يوم القيامة، فمن مثله بشخصه الكريم جسما أو كلاما أو حركات يكون متلاعبا، والتلاعب منافٍ للتعزير والتوقير والتعظيم والاحترام.
قال أبو العباس ابن تيمية: "إن الله سبحانه وتعالى أوجب لنبينا صلى الله عليه وسلم على القلب واللسان والجوارح حقوقا زائد ة على مجرد التصديق بنبوته". قال:
"ومن حقه: أن يكون أولى بالمؤمنين من أنفسهم {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} .
ومن حقه: أن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه ووالده وجميع الخلق.
{قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} . وفي الصحيحين: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده وولده والناس أجمعين".
ومن ذلك أن الله أمر بتعزيره وتوقيره، {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} . قال: "والتعزير اسم جامع لنصره وتأييده من كل ما يؤذيه.. والتوقير اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والاكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار.(8/424)
ومن ذلك أنه حرم التقدم بين يديه بالكلام حتى يأذن، وحرم رفع الصوت فوق صوته، وأن يجهرله بالملام كما يجهر الرجل للرجل، وأخبر أن الذين ينادونه وهو في منزله لا يعقلون، لكونهم رفعوا أصواتهم عليه، ولكونهم لم يصبروا حتى يخرج إليهم. قال: وأخبر أن ذلك سبب حبوط العمل، فهذا يدل على أنه يقتضي الكفر، لأن العمل لا يحبط إلا به.
وأخبر أن الذين يغضون من أصواتهم عنده هم الذين امتحنت قلوبهم للتقوى، وأن الله يغفر لهم ويرحمهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ. إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . قال:
ومن ذلك: أن الله حرّم على الناس أن يؤذوه بما هو مباح أن يعامل به بعضهم بعضا، تمييزا له، مثل أن ينكح أزواجه من بعده {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} . قال:
ومن ذلك أنه خصه بالمخاطبة بما يليق به فقال: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} . فنهى الله أن يقول أحد من الناس: يا محمد, أو: يا أحمد, أو: يا أبا القاسم, ولكن يقولون: يا رسول الله, يا نبي الله.(8/425)
قال أبو علي: وإذا ذكر في غيبته حيا أو ميتا يقولون: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, نبي الله صلى الله وعليه وآله وسلم، فقد قال: "البخيل كل البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي".
قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: "وكيف لا يخاطبه الناس بذلك والله سبحانه وتعالى أكرمه في مخاطبته إياه بما لم يكرم به أحدا من الأنبياء، فلم يدعه باسمه في القرآن قط، بل يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ} , {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ..} , {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} , {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} , {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} , {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} , {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ} , {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} ". قال: "مع أنه سبحانه وتعالى قد قال للأنبياء قبله: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} , {يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِم} , {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} , {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} , {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاس} , {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} , {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} , قال:
"وقد أوجب الله على جميع الخلق أن يقابلوه من الصلاة والسلام والثناء والمدحة والمحبة والتعظيم والتعزير والتوقير والأدب معه في الكلام والطاعة للأمر والنهي. قال:
"ومن ذلك أن الله رفع له ذكره فلا يذكر الله سبحانه إلا ذكر معه، ولا تصح للأمة خطبة ولا تشهد حتى يشهدوا أنه عبده ورسوله، وأوجب ذكره في كل خطبة، وفي الشهادتين اللتين هما أساس الإسلام، وفي الأذان الذي هو شعار الإسلام، وفي الصلاة التي هي عماد الدين". قال:(8/426)
"وقرن الله ذكره بذكره، وجمع بينه وبينه في كتابة واحدة، وجعل بيعته بيعة له، وأذاه أذى له، إلى خصائص لا تحصى.
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} , {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً} قال:
"وكان من ربه بالمنزلة العليا التي تقاصرت العقول والألسنة عن معرفتها ونعتها، وصارت غايتها من ذلك بعد التناهي في العلم والبيان، الرجوع إلى عيها وصحتها". قال:
"فمن ذلك أن الله تعالى أمر بالصلاة عليه والتسليم بعد أن أخبر أن الله ملائكته يصلون عليه، والصلاة تتضمن ثناء الله عليه، ودعاء الخبر له، وقربته منه ورحمته له، والسلام عليه يتضمن سلامته من كل آفة، فقد جمعت الصلاة عليه والتسليم جميع الخيرات، ثم إنه يصلي سبحانه عشرا على من يصلي عليه مرة واحدة، حضا للناس على الصلاة عليه، ليسعدوا بذلك، وليرحمهم الله بها.
ويقول أبو علي - كما أبو العباس رحمه الله -:"فلرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود ولواء الحمد الذي تحته كل حماد، صلى الله عليه وعلى آله أفضل الصلوات وأعلاها وأكملها، وأنماها كما يحب سبحانه وتعالى أن يصلى عليه، كما ينبغي أن يصل على سيد البشر، والسلام على النبي ورحمة الله وبركاته أفضل تحية وأحسنها وأولاها وأبركها وأطيبها وأزكاها، صلاة وسلاما دائمين إلى يوم الثناء، باقيين بعد ذلك أبدا رزقا من الله ما له من نفاذ".(8/427)
فممثل رسول الله متلاعب به ومتماجن، ومفتر عليه كاذب، ومستهين برسول الله وحقه, لا أدب عنده معه وغير معظم له، ولا محترم ولا معزز له ولا موقر، ومن كان كذلك من الناس فهو عاص لله ولرسوله، مخالف لكتاب الله وسنة نبيه، وعليه ما على العصاة من لعنة وطرد وعقوبة ومقت.
وبذلك صح الاجماع من الأمة على أن التمثيل برسول الله حرام، والاجتماع حجة ثالثة، وكتاب ابن تيمية الصارم المسلول، هو بصفحاته الستمائة بيان لهذا الإجماع ودليل تفصيلي عليه.
وأما تمثيل آل بيت نبينا، وهو كذلك استهتار بهم وسوء أدب معهم، لم تطهرهم من رجس اللعب والمجون من الكذب عليهم والافتراء بالقول والحركات والملامح والشارات - من مثلهم أو مثل واحدا منهم وقد قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً..}
وقد ورد في تفسير الآية عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه فيما صح عنه وتواتر ورواه عنه عشرة من الصحابة رجالا ونساء ودونته عنه أمهات السنّة.
فعن أم سلمة أم المؤمنين عند سنن الترمذي وصححه، وصحيح الحاكم، وسنن البيهقي، وغيرهم قالت: "في بيتي نزلت: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} . وفي البيت فاطمة وعلي والحسن والحسين عليهم السلام، فجللهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكساء كان عليه ثم قال: هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا".(8/428)
وروته عائشة أم المؤمنين عند أحمد في المسند، ومسلم في الصحيح، ورواه أبو سعيد الخدري عند معجم الطبراني, وسعد عند صحيح الحاكم, وواثلة بن الأسقع عند أحمد في المسند، والحاكم في الصحيح، والبيهقي في السنن، وغيرهم, وأنس عند جامع الترمذي وصححه، ومسند أحمد، وصحيح الحاكم وغيرهم, وزيد بن أرقم عند صحيح مسلم, وابن عباس في معجم الطبراني ودلائل أبي نعيم، ودلائل البيهقي وأبو الحمراء عند تفسير ابن جرير، وتفسير ابن مردويه، قال الترمذي: وفي الباب عن معقل بن يسار فهو برواته العشر متواتر قال أبو العباس ابن تيمية: "وقد أوجب الله على جميع الخلق رعاية حرمة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، في أهل البيت والأصحاب، بما لا خفاء به على أحد من علماء المؤمنين".
فحرمتهم حرمة رسول الله، ومحبتهم محبة لرسول الله، والأدب معهم أدب مع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
ومن مثلهم أو مثل واحدا منهم لم يحترم رسول الله، ولم يحبه، ولم يتأدب معه، وكان من العصاة المستهزئين، وعليه ما على العصاة والجناة من أدب وتعزير.
وآل البيت قد أمر النبي صلوات الله وسلامه عليه بالتمسك بهم، وقرن التمسك والهداية بهم، بالتمسك والهداية بكتاب الله، وإن التمسك بهما منقذ من الضلال, وإنهما لن يفترقا إلى يوم القيامة, إلى لقاء رسول الله بهم في الجنة قال ذلك وخطب به في مائة ألف أو يزيدون من أصحابه يوم حجة الوداع.
ورواه عنه جماعة من الصحابة, وقرن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حبه بحب الله, وحب آل البيت بحبه.
فعن أبي سعيد الخدري وزيد بن أرقم قال: "قال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي , أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي, ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض, فانظروا كيف تخلفوني فيهما؟ ". أخرجه الترمذي في السنن وحسنه.(8/429)
ورواه جابر بن عبد الله فقال "رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحجة الوداع يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب, فسمعته يقول: "يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي". أخرجه الترمذي في السنن وحسنه وقال: "وفي الباب عن أبي ذر, وحذيفة ابن أسيد".
وعن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وىله وسلم: "أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه, وأحبوني بحب الله, وأحبوا أهل بيتي لحبي". أخرجه الترمذي في السنن وحسنه, والحاكم في الصحيح.
فمن مثل آل البيت لم يتمسك بهم, ولم يهتد بهديهم, ولم يقرنهم بالقرآن الكريم اهتداء وأسوة, وكان متلاعباً ماجناً عاصياً لرسول الله عليه الصلاة والسلام, ووجب عليه لذلك العقوبة والتعزير.
وتمثيل الصحابة كذلك مجون ولعب, قد أعرض عن حبهم واحترامهم من مثل بهم, وكذب في تمثيله عنهم, وافترى عليهم بتخيلاته عنهم قولا, وبحركاته التمثيلية لهم فعلا, وارتكب فاعل ذلك, المستهتر بهم مخالفة الله تعالى في رضاه عنهم مهاجرين وأنصاراً، واستبدل الدعاء لهم كما أمره الله، باللعب بهم، وعدم الأدب معهم.(8/430)
قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} . وقال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .
وقد أوصى بهم صلى الله عليه وسلم، وأمر أن لا يتخذوا غرضا وهدفا في اللعب والإستهتار بهم، وأوجب حبهم، وقرنه بحبه، وحرم بغضهم، وقرنه ببغضه، وجعل أذاهم أذاه.
فعن عمر بن الخطاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوصيكم بأصحابي". رواه أحمد في المسند، والترمذي في الجامع، والحاكم في الصحيح، وعن عبد الله بن المغفل المزني قال رسول الله لى الله عليه وسلم: "الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه". رواه أحمد في المسند والترمذي في الجامع.
وقد قال أبو العباس ابن تيمية: "قد أوجب الله على جميع الخلق رعاية الحرمة في أهل البيت والأصحاب بما لا خفاء به على أحد من علماء المؤمنين".(8/431)
فتمثيل الصحابة لعب بهم، ومن اتخذهم هدفا وغرضا للعبه أبغضهم ولم يحبهم ولم يقم بحقهم، وكان في ذلك آذاهم، ومن آذاهم آذى رسول الله، ومن آذى رسول الله آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه الله وينتقم منه، ولكن الله يمهل ولا يهمل، حتى إذا أخذ الفاجر لم يفلته، وجعله عبرة للمعتبر.
فتمثيل رسول الله موجب للعنة الله، ويعاقب بالنفي مع اللعنة.
وتمثيل آل بيت رسول الله موجب لغضب رسول الله مع التعزير.
وتمثيل أصحاب رسول الله إذاية لرسول الله وإذاية رسول الله مقت ومع المقت التعزير.
كل هذه العقوبات والتعزيرات إذا كان الممثل يلعب، أما إذا كان يستهزئ والاستهزاء برسول الله وما كان بسبيل من رسول الله كفر أو ردة، وعقوبة ذلك القتل بلا استتابة.
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ, إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} , {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} .
مراجع الحكم والفتوى:
1- كتاب الله. 2- تفسير ابن جرير. 3- تفسير القرطبي. 4- جامع البخاري. 5- صحيح مسلم. 6 - صحيح الحاكم. 7- جامع الترمذي. 8- مسند أحمد. 9- دلائل النبوة لأبي نعيم.10-دلائل النبوة للبيهقي. 11 - سنن البيهقي الكبرى. 12- مجمع الزوائد للهيثمي. 13- فتح الباري للحافظ. 14- شرح مسلم للنووي. 15- عارضة الأحوذي لابن العربي. 16- الاستيعاب لابن عبد البر. 17- الإصابة للحافظ. 18- الصارم المسلول لابن تيمية.(8/432)
العدوان على بنت عدنان
بقلم الدكتور يوسف عبد الرحمن الضبع
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
لقد سبقت كلمتنا في تبيان خطأ ما تلهج به الألسنة وتطالعنا به الصحف من جمع ما يوازن (مفعول) على (مفاعيل) مثل مشروع وموضوع ومكتوب ومنشور. وأن الصواب العدول بها وبأمثالها عن جمع التكسير على وزن (مفاعيل) فلا يستقيم وفق كلام العرب (مشاريع ومواضيع ومكاتيب ومناشير) وإنما يستقيم ويتعين في لغة الضاد جمعها جمع تصحيح لمذكر بالواو والنون رفعا وبالياء والنون نصبا وجرا إذا توفرت فيها شروط مفرده من علم أو صفة مما هو مسطور في كتب النحو وسيطها وبيسطها ولا يستعصى رجعه إلى نظم العلامة ابن مالك:
وارفع بواو واجرر بيا وانصب
سالم جمع عامر ومذنب
وألمعت إلى ما أفاده المحقق الصبان ماتحا من عباب الإمام ابن هشام, وسقت عشر آيات محكمات يسير على نارها من يروم الرشاد. وأبنت استحسان رجع جمع طائفة منها بالألف والتاء في أحواله الثلاثة إذا نبا به جمع المذكر السالم, وعليه فيقال في الفصيح: مشروعات لا مشاريع وموضوعات لا مواضيع ومكتوبات ومنشورات لا مكاتيب ولا مناشير, وغير خاف أن مفرد مناشير منشار لا منشور مثل مفاتيح ومصابيح جمع مفتاح ومصباح.
ولعله غير خاف أن موازن مفعول من الأسماء الآنفة، منقول من الوصف إلى الموصوف فهي صفة موصوف محذوف مثل {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} أي دروعا سابغات نظير {أَيَّامٍ مَعْدُودَات} , {وَقُدُورٍ رَاسِيَات} , مما ذكر فيه الموصوف. وذلك باب يسلم قارعه إلى نبراس القياس الذي جلاه الإمام الشاطبي في أرجوزته العذبة:
وقسه في ذي التا ونحو ذكرى
ودرهم مصفر وصحرا
وزينب ووصف غير العاقل
وغير ذا مسلم للناقل(8/433)
وما أجمل هندسة النحاة ومن ذاق عرف في تنسيقهم جنس الكساء بين الرجال والنساء وفق الشريعة الغراء {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُّنْثَيَيْن} . حيث أجرى الله على لسان ناظمهم:
وما بتا وألف قد جمعا
يكسر في الجر وفي النصب معا
وبديهي أن الكسرة نصف الياء التي يعرب بها ما سلم فيه بناء مفرده من جمع المذكر نصبا وجرا وإلى ذلك الإشارة من قول ابن مالك:
وبيا اجرر وانصب
سالم جمع عامر ومذنب
فإن قال نحوي عصري إن الواو وليدة الضمة, وإن الكسرة أم الياء, فكيف يفوق الفرع أصله, فقل لهذا الأعشى وأنت لا تخاف ولا تخشى: إن بين علامات الإعراب وأشراط الساعة نسبا وصهرا فلا بدع أن تلد الأمة ربتها ولا غرابة في سمو بنت عدنان كما سما برسول الله عدنان.
وإن لغة القرآن لتتوارى من القوم من سوء ما ينطقون به وتلوكه ألسنتهم من جمع كلمة (مدير) على (مدراء) ويستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير حيث يستعيضون عن السمحة بالسمحاء في وصف شريعة السماء, وهذان لحنان فاحشان يأباهما القياس الصحيح وينفر منهما ذوق العربي السليم ولا تقرهما نظرية الإمام ابن جني في خصائصه ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب.
فإن كان الكرام الكاتبون يقيسون السمحاء على الغراء والبيضاء فقد طاش قياسهم لأن موازن أفعل فعلاء مذكرا ومؤنثا إنما يطرد فيما دل على لون أو عيب أو حيلة, من ذلك قول أفصح من نطق بالضاد عليه الصلاة والسلام: "تركتكم على المحجة البيضاء". وقول الواصف العربي (يوم أغر وليلة غراء) وسوى ذينك كثير مما فاضت به ألسنة الشعراء وسالت معه أودية الكتاب والخطباء.(8/434)
ومحور المادة (سمح) الذي إليه ترد وتدور حوله إنما هو الجود والسهولة وهما مصدر ما انتزع منها مشتقاً من السماح والسماحة وغلب استعمال الثانية على الأولى قديما وحديثا مدلولا بها على نسبة معناها تسير جنبا إلى جنب مع الفضيلة كلقبين مرموقين من ألقاب نابهي العلماء, وقد سلك بصاحب السماحة طريق معين هذا العصر في مصر فصار علماً بالغلبة على لون خاص وما لبث أن انطلق به إلى ساحة السعودية فلز في قرن ألقاب المفتي الراحل غفر الله له الشيخ محمد بن إبراهيم تغمده الله برحمته ثم ورثه من بعده بحق خليفته وابنه الروحي العلامة الشيخ عبد العزيز ابن باز مدّ الله في حياته النافعة ويكاد زيته يضيء فتشرق به أسماء ثلة من رجالات القضاء.
وقد جاء لفظ السماحة درة في عقد مدائح الشعراء قديماً طوقوا بها أعناق ممدوحهم وفي طليعتهم أمير نيسابور عبد الله بن الحشرج الذي ود أن يكون كثير حينما جعل له لسان صدق في الآخرين حامل علم القريض معاراً مكروراً:
إن السماحة والمروءة والندى
في قبة ضربت على ابن الحشرج
بيت دعائمه أعز وأطول في باب المديح من قول تربه:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم
ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا
ولا يساميه إلا قول صنوه:
ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح
ونعود بالقارئ الكريم إلى مستقر المادة فنجد مذكرها مذكوراً في مضمار المديح:
والسمح في الناس محمود خلائقه
والجامد الكف لا ينفك ممقوتاً
كما نلقى مؤنثها بالتاء لا غير مسطوراً في وصف إحدى المعطرات الهاطلات:
ديمة سمحة القياد سكوب
مستغيث بها الثرى المكروب
وليست هناك علامة ثالثة للتأنيث سوى التاء والهمزة المقصورة والممدودة.
قال العلامة ابن مالك في ألفيته:
علامة التأنيث تاء أو ألف.(8/435)
ويقصد بالألف الهمزة بنوعيها السالفين فكلمة السمحاء التي يسرف في استعمالها الخاطئون المخطئون ليست من بين الألفات الممدودة التي تتدرج تحت وزن فَعْلاء لأن هذا الوزن محصور في الأسماء الجامدة كصحراء وفي المصادر كرغباء وفيما يدل معناه على الجمع كطرفاء اسم جنس جمعي واحدته طرفاءة وطرفة لشجرة الأثل وبها لقب الشاعر عمرو (طرفة بن العبد) .
ويأتي صفة لمؤنث مذكره على وزن أفعل ويطرد في الألوان والحلي والعيوب مثل أبيض وبيضاء وأفلج وفلجاء وأعور وعوراء. وقد لا يكون لذلك الوزن من المؤنث مذكر من لفظة على وزن أفعل, مثل حسناء توصف به الغادة ولا يوصف منه المذكر فلا يقال في مقابلها أحسن ومثل سحابة هطلاء فلم يسمع منه سحاب أهطل.
أما كلمة (مدراء) التي تطالعنا بها الصحف فأنا نراها نكراء بتراء تأباها الجموح القياسية وتلوى دونها أعنة الجموع السماعية وإن مفاتيح كنوز الصرف من لدن معاذ الهراء إلى عصر البهاء لم تدع دفيناً إلاّ جلّته ولا صدأ إلاّ جَلَته ولا خطأ يكون له وجه من الصواب إلا برأته. ألم ترَ إلى النحاة كيف نعوا على البهاء زهير إطلاق كلمة (الست) على حليلته بديلاً عن سيدة بيد أنه التمس لها تعليلاً حسناً ووجهاً متقبلاً معقولاً واتجه إلى أوديتهم مناجياً ومنادياً:
بروحي من أناديها بستي
فينظر لي النحاة بعين مقت
يرون بأنني قد قلت لحناً
وكيف وإنني لزهير وقتي
ولكن غادة ملأت جهاتي
فلا لحن إذا ما قلت ستي(8/436)
ومن قبله علماء الكوفة وقد لهجو بالأشعار والتندر بالقصص والأخبار على حين استبق الباب لحقول النحو عقول مشيخة البصرة فعقلوا شوارده وقيدوا أوابده وأرسوا قواعده على أسس قويمة من شواهد متواترة وأدلة متضافرة من كتاب الله وسنة رسوله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم يضيفون إليها ما صافح أسماعهم من مشافهة فصحاء البادية ويضفون عليها حلة الحكمة من ينابيع الشعراء الأقدمين.
وهذا طابع مذهب البصريين في قواعدهم وذلك منهجهم في القياس أدلة وبراهين يأخذ لاحقها بيد سابقها.
فلما أفاق الكوفيون من سباتهم وهم من جلدتهم ويتكلمون بألسنتهم كبر عليهم أن يتخلفوا عن ذوي قرباهم في ميدان النحو مروض اللسان وفتقت لهم منافستهم عن حيلتهم في استخلاص قواعد الصرف من مسائل النحو بعد أن أقبلوا إليه يزفون وفي أوديته يهيمون وكانت لهم إلى استنباط قواعد الصرف مشاركة للداتهم من أبناء البصرة في مذهب نحوي كوفي جديد على حين أنهم فتحوا باب السماحة والتسامح على مصراعيه كما تحروا رشداً في شواهدهم واستدلالهم لقواعدهم بل كانوا يستدلون بنصف البيت ولو كان مجهول القائل كشاهد نحوي مما جعل قياسهم يغشاه القيل والقال.(8/437)
ولقد عنيت بمراجعة صيغ الجموع وصيغ منتهى الجموع بعد دراسة تحليلية تفصيلية لعلي أجد على النار هدىً لتصويب جمع (مدير على مدراء) من عهد الإمام الأول لفن الصرف معاذ الهراء فكنت كالراقم على الماء والناقش في الهواء ثم أبت إلى التراكيب وإنه ليحزنني أن توصف بالأساليب التي تدع المخطئين الخاطئين إلى استعمال هذا الجمع النائي عن الصواب فوجدتها تأتي بعد ذكر الأمراء والوزراء وظني وهو يصدق أحيانا أن الذي طوع جمع مدير على مدراء لزها في قرن الأمراء والوزراء قياسا فاسدا عليهما مع البون الشاسع بينها وبينهما حيث إنه بوزن المفرد يتجلى الفرق لأن وزن أمير ووزير (فعيل) لأن فعليهما (أمر) و (وزر) وكلاهما ثلاثي غير مزيد فيه فيجمعان جمع تكسير على وزن فعلاء فيقال وزراء وأمراء. أما (مدير) فوزنها (مُفْعِل) بميم زائدة لأن فعلها (أدار) بهمزة زائدة في أوله فلا تجمع هذا الجمع لأنه خاص بمثل أمير ووزير وما تضمن معنى يضاهي ما تضمناه من صفة لازمة وكان على وزن فاعل مثل عالم وشاعر. قال العلامة ابن مالك:
ولكريم وبخيل فعلا
كذا لما ضاهاهما قد جعلا
ولقائل أن يقول: فعلام تجمع إذن كلمة مدير وأمثالها؟ , وإنا لنعم المجيبون إن لها في جمعي التصحيح مراغماً كثيراً وسعة وهي في أفيائهما مجمعة مرصعة، منيبين إليه واتقوه. ألا ترى أيها القارئ الكريم أن (مجيبون) جمع مرفوع مفرده (مجيب) وفعله أجاب على وزن أفعل وتصريفها في اسم الفاعل في كل منهما على نسق واحد حيث أعلا بنقل حركة الواو وهي الكسرة إلى ما قبلهما ثم أعلّى بقلب الواو ياء لسكونها بعد كسرة وتلك قاعدة حرفية مطردة ومثلهما كلمة (منيبين) منصوبة ومجرورة. {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} , والويل كل الويل لمن {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} الآية.(8/438)
{لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيما} .(8/439)
زائرة الليث
بقلم الشيخ محمد المجذوب
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة
يقول صحبي وأولو الفضل لي:.
أين الذي أعددت للمحفل؟.
وقد دروا بأنني مثلهم.
لا أنا بالسّالي ولا بالخلي.
لكنها الفجأةُ قد ضيقتْ.
مذاهب القول على المجتلي.
أفي لُيَيْلاتٍ قِصارِ المدى.
يقتحم الشعرُ حِمى الفيصل!.
وأين من أمجاده منطقي!.
وأين من وجدي به مِقْولي [1] .
مَلْكٌ حباه الله ما لم يُتَحْ.
لحاكمٍ من خُلُقٍ أمْثل.
أحيا به الأنموذج المقتدى.
من معجزاتِ السّلف الأول.
بصيرةٌ زوّدها ربُها.
بكل ما يُفضي إلى الأفضل.
وحكمةٌ مهما ادلهمّ الدجى.
واشتدّ وقعُ الخطبِ لم تُفْلل.
إذا هوى ذوو القُوى ذهّلاً.
في غمرةِ الأحداثِ لم تذهل.
كأنه منها _ ولو مفرداً _.
في قمة عَصماءَ أو جحفل.
وخشيةٌ للهِ قد ذلّلَتْ.
لهُ الصِعابَ اللاءِ لم تُذْلَل.
زفّت له قلوبَ أهلِ التقى.
ومَزّقتْ حُشاشةَ المُبْطِل.
فهذهِ أمةُ خير الورى.
تَحُفُه بحبها الأكمل.
من كل صوبٍ تقتضي إثرَه.
كظاميء يهفو إلى المنهل.
ترجو به عَوْداً إلى ربها.
غِبّ ضَياعٍ طال في المَجهل.
وبعد طغيان دجا ليلُه.
من مِحَنٍ لمّا تكدْ تنجلي.
دسّ لظاها بين أحنائها.
كلُ غوٍ من صفوةِ الجُهّل.
دمّرَ بالتضليل طاقاتِها.
وسامها الخسفَ ولم يَحفل.
ويزعم العقل رقيقاً له.
وهو الذي مذ كان لم يعقل.
حتى إذا الهولُ طغى قاصفاً.
يوشكُ أن يَعصفَ بالمشعل.
وطاشت الأحلامُ واستحكمتْ
.(8/440)
براثن الباطل في العُزّل.
واستيأس العُرْبُ، وقد طَوّحَبْ.
بهم رياح الغربِ والشّمْأل.
فأصبحوا منهبةً للورى.
ومغنماً للطامعِ المعجل.
يعدو عليهم كلُ ذي مِخلبٍ.
وعاث فيهم كل ذي مُنْصُل.
حتى غدوا، وبأسُهم بينهم،.
كخابطٍ ضلّ عن الموئل.
هناك، والأرزاءُ في أوجها.
قد طَمَسَتْ حتى الصراط الجلي.
دَوّى نداءُ الفيصل المجتبي.
بالحق يحيي مَيّتَ المَأمل.
يُهيبُ بالعرْب: ألا هَبّةً.
تغسلُ عارُ السابعِ المخجل.
وهاكمو نفسي وآلي، ولو.
سألتم الأرواحَ لم نبخل.
ما النفط إلاّ بعضُ أسيافنا.
لنصركم. . فأومئوا يُبْذَل.
وانطلقتْ من مكة صيحةٌ.
تهتف: لا.. بالغاشمِ الحُوّلِ.
زأرةُ ليثٍ قولُهُ فعلُهُ.
كنفخةِ الصورِ سَرَتْ من عَل.
تقولُ للسّادرِ في غَيّهِ:.
أسرفتَ في الكِبْرِ.. ألا فانزل.
فلم يكن إلاّ كخفق الرُؤى.
حتى أُصيبَ البغيُ في المَقْتَل.
فسلْ بعزم فيصلٍ (نِكْسُناً) .
وكلّ غلابٍ لدى المُعضِل.
واسألْ به (كِسِنْجِراً) والأولى.
وراءه من طغمة الكَرْمَل.
واستنطقِ الدنيا تُحَدّثْ بما.
قد خبرت من حزمهِ المُذهِل.
فكم بواشنطنَ من نائحٍ.
وكم بأوروبّةَ من مُعْوِل.
كُلّهمُ يَندبُ أحلامَه.
وناعمَ العيش الذي قد بَلي.
والطاقةَ التي بها سلّطوا.
على الحياةِ شِرعةَ السُفّل.
مصانعٌ قد جمدتْ فجأةً.
وقد تلاها جَمَدُ الأرجل.
وما ظلمناهم، وقد جاوزوا.
بالظلمِ حتى قسوةِ الجندل.
والثأرُ حقٌ، فإذا ما غلا.
في ردهِ الموتورُ لم يبْذَل
.(8/441)
وفي جنيفٍ_ ليتها لم تكن _.
قد وُضع السيفُ على المَفصلِ.
والويلُ للغربِ إذا لم يَشُبْ.
لمنهجِ الرشد، ولم يَعدل.
مآثرٌ عمّ بها فيصلٌ.
دنيا الأعاريبِ ولم يأتلي.
ألنيلُ والأردنُ من فيضِها.
وَبَرَدى في سُحُبٍ هُطّل.
فيا لها من هِمّةٍ حيّرَتْ.
أولي النهى، ولم تزل تعتلي.
ردّتْ إلى قومي إيمانَهم.
بوثبةٍ نحو الغد الأفضل.
وليسَ ينفكُ لهم دائباً.
يرأبُ صدعَ الاخوةِ الغُفّل.
حتى غدا التضامنُ المرتجى.
قائدَهم لِلموعدِ المُقْبلِ.
قد عرفوا في ضوئهِ دربَهم.
تحتَ لواءِ الصادقِ المرسَل.
يمضي بهم للنصر قُدْماً، ومن.
ينصرْ كتابَ اللهِ لا يُخْذَل.
فكل أرضٍ فوقها مُسلمٌ.
أو منصفٌ تُثني على فيصل.
فلا يلمني عاذلٌ إنْ رأى.
قصورَ شعري عن مداه العلي.
عجزُ بياني دونهُ حجةٌ.
عذري بها فوق مُنى العُذّل.
وفي حمى البيت تجيش الرؤى.
ويَشمُس الفكرُ على المِقول [2] .
وعيدُنا العيدُ الذي زانه.
معلّم المجد بأبهى الحلي.
والشعر فيض القلب قد تفرضُ ال.
ـعِيّ عليه هيبةُ المحفل.
فكيف.. والمَلْكُ إمامُ الهدى.
أخو الليوث وأبو الأشْبُل!.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المِقول هنا: اللسان.
[2] المِقول هنا: القول البليغ.
.(8/442)
لا محاباة في الإسلام
لفضيلة الشيخ محمود عبد الوهاب فايد
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
أخرج الإمام أحمد في مسنده ج1 ص106 عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما زوجه فاطمة بعث معه بخميلة ووسادة من أدم حشوها ليف ورحيين وسقاء وجرتين. فقال علي لفاطمة رضي الله عنهما ذات يوم: والله لقد سنوت حتى لقد اشتكيت صدري قال: وقد جاء الله أباك بسبي فاذهبي فاستخدميه فقالت: وأنا والله قد طحنت حتى مجلت يداي فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما جاء بك أي بنية؟ قالت: جئت لأسلم عليك واستحيت أن تسأله ورجعت, فقال: ما فعلت؟ قالت: استحييت أن أسأله فأتيناه جميعا فقال علي رضي الله عنه: يا رسول الله. والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري وقالت فاطمة رضي الله عنها: قد طحنت حتى مجلت يداي وقد جاءك الله بسبي وسعة فأخدمنا فقال رسول الله صلى الله. عليه وسلم: والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوي بطونهما لا أجد ما أنفق عليهم ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم فرجعا فأتاهما النبي صلى الله عليه وسلم وقد دخلا في قطيفتهما إذا غطت رؤوسهما تكشفت أقدامهما، وإذا غطيا أقدامهما تكشفت رؤوسهما. فثارا فقال: مكانكما ثم قال: ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ , قالا: بلى, فقال: كلمات علمنيهن جبريل عليه السلام فقال: تسبحان في دبر كل صلاة عشرا وتحمدان عشرا وتكبران عشرا وإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثا وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين وكبرا أربعا وثلاثين. قال: فوالله ما تركتهن منذ علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فقال له ابن الكواء: ولا ليلة صفين؟ فقال: قاتلكم الله يا أهل العراق ولا ليلة صفين".
ما أبدع هذا الحديث! وما أجمله!(8/443)
فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم يزفها والدها إلى زوجها بجهاز متواضع، جهاز لا يساوي سوى دراهم معدودة، جهاز لا يغريهما بالركون إلى الدنيا، والاشتغال بلذائذها، بل يزهدهما فيها ويباعد بينهم وبين الافتتان بها.
فاطمة هذه هي بنت محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلي هو ابن عمه، وزوج ابنته، يسقي للناس حتى آذاه برد الماء، جاء فجلس إلى جوار شريكته في الحياة، يسر إليها نجواه، ويبث إليها شكواه فلا يكاد ينتهي من شكايته حتى تبادله الشكوى من مثل ما اشتكى منه كلاهما يشكو من الفقر والتعب والمرض، كلاهما يهدده هذا الثالوث الرهيب ما العلاج؟ وما الدواء؟ فكر عليٌ ولم يطل تفكيره فقد سمع أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه سبي، وامتدت عينه، وتطلعت نفسه إلى خادم يعينه ويعينها على أعباء الزوجية، ومشاق الحياة، وذهبت فاطمة إلى أبيها بتحريض من زوجها لكنها لا تكاد ترى وجه والدها الحنون حتى يغلب عليها الحياء ويتملكها الخجل فلا تزيد على السلام وهو _ عليه الصلاة والسلام _ لا يزيد على الرد, وتعود فاطمة كما بدأت تجر أذيالها، لم تستطع أن تعرض أمرها، وعلى من؟ على أبيها وهو أملها الباقي بعد وفاة أمها. ما أعظم الهيبة، وما أجمل هذا الحياء، عادت فاطمة إلى زوجها لتقول له: إنها استحيت أن تسأله ولكن عليا رضي الله عنه يخشى أن تفوته الفرصة، ويحرص على ألا تضيع، وهو يفهم قول الشاعر
انتهز الفرصة إن الفرصة
تكون إن لم تنتهزها غصة(8/444)
وهل كل يوم يجود الزمان بسبي؟ وهل تهب الرياح دواماً بما تشتهيه السفن؟ بادر معها بالذهاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وماذا لو شكا بنفسه إليه؟ أليس هو ابن أبي طالب الذي كفل النبي صلى الله عليه وسلم في صغره، ونافح عنه بعد كبره؟ أليس هو مع ذلك زوج ابنته المحبوبة؟ فأي حرج في أن يشكو القريب إلى ذي قرابته، والزوج إلى أبي زوجته؟ وإلى من يشتكي إذا لم يشتك هؤلاء؟.
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع ليس هناك ما يدعو إلى التحفظ، ويحمل على التهيب، فالقرابة والمصاهرة والحاجة كلها تفتح باب الأمل، وتعبد طريق الرجاء، وتشجع على العرض، وهي مع ذلك تحفظ السر، وتصونه من الذيوع، وابتدأ علي رضي الله عنه يعرض شكايته على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثنت فاطمة كذلك، كلاهما يبثه شكواه بعد أن تعسرت عليه سبل الحياة، كلاهما ممتلئ القلب بالأمل في أن يجد فرجا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي هذه المرة تجرأت فاطمة، وتدفع عن نفسها تهمة التقصير، فصرحت بكل ما يدور في خلدها، ويجول في خاطرها، وأبدت رغبتها في أن يجود عليها أبوها بخادم يخفف عنها متاعب البيت، والرسول صلى الله عليه وسلم ينصت إليهما ويصيخ لهما في هدوء وأناة حتى إذا ما انتهيا لقنهما درساً لم يك في الحسبان، ألقى عليهما درساً قاسياً، لا يستطيعون له نسياناً ولا تناسياً، فاجأهما بدرس فيه عظة وعبرة، درس قضى على المحسوبية، وأتى على بنيانها من القواعد، درس ينادي ألاّ محاباة ولا مجاملة ولا استثناءات، درس يفيض محبة وحناناً ورأفة بالفقراء والمساكين وشفقة على البؤساء والمحتاجين, درس يسجله التاريخ بنِقْس الإعجاب على مر الأيام، وكر الأعوام، ينادي جهرة بفم الزمان "والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع لا أجد ما أنفق عليهم، ولكن أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم".(8/445)
يا له من شعور دقيق بالمسئولية، وإحساس رقيق بالتبعة، ليس هناك شعور يحاكيه ولا إحساس يدانيه.. إنه إحساس النبوة وشعور الرسالة، والرسالة رحمة للعالمين، فلا عجب إذا لمسنا هذه الرحمة وقد مست القريب والبعيد، بل آثرت البعيد على القريب واكتفت بأذكار يتسلى بها الأهل، ويأنس الآل بتردادها صباح مساء. وليس هناك أحد أحرص على ما سمع من أهل بيت النبوة وخريجي دار الرسالة، وحسبهم وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهم بها سلوة وأعظم سلوة.
ما أحلى هذا الحديث، وما أحوجنا في هذه الأيام أن نفهم معناه ونسير على مقتضاه، كأني برسول الله صلى الله عليه وسلم يتخطى الحجب، ويرقب بعينيه النفاذتين حال هذا العصر وصورة أهل هذا الزمان؛ أولئك الذين يلون أمور العباد فيصرفونها على هواهم، ويحرمون من بعد عنهم، حتى سلب النفعيون من ذوي الحقوق حقوقهم، وتقدموا عليهم دون أن يكون لهم سبق في فضل أو خلق أو خبرة أو معرفة إلا معرفتهم بما يرضي أسيادهم من الملق والنفاق والرياء والدس والوشاية حتى انتشرت الرذائل وعمّ الفساد، وضج الناس بالشكوى.
أرأيت كيف حارب الرسول صلى الله عليه وسلم الفساد, حتىلم يدع له طريقاً يسلكه، أو باباً يطرقه, وكيف بدأ بأهله فقطع أطماعهم، وعوّدهم الرضا والقناعة، وعلّمهم أن يتعبوا ويكدوا ويتحملوا حتى يستريح ضعفاء المسلمين، ويهنأ بال الفقراء والمساكين.(8/446)
لقد حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أموال المسلمين، وحجبها عن أنظار الأقارب والمقربين, وأوجب أن تصرف حسب حاجة المحتاجين، وبدأ يطبق هذه المبادئ على ابنته الوحيدة التي لم يبق له سواها، ولم يبق لها سواه، ولم يشفع لها أنها ابنة خديجة زوجته المحبوبة التي آزرته بمالها وجاهها وعقلها، وقابلت ربها راضية مرضية بعد أن أنفقت ما تملك في سبيل دين الله، ولم يبق لابنتها من ثرائها المشهور ما تستعين به على نوائب الحياة، أنقول: أنه صلى الله عليه وسلم قد تنكر لجميل أمها بعد أن ماتت أم نقول: إن زوجاته قد شغلنه عن خديجة وبنت خديجة؟ لا. لا. فقد كان عليه الصلاة والسلام المثل الأعلى في الوفاء.
روى أحمد بسنده عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى فأحسن الثناء, قالت: فغرت يوماً فقلت: ما أكثر ما تذكر حمراء الشدقين! قد أبدلك الله خيرا منها. قال: ما أبدلني خيرا منها قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله أولادها وحرمني أولاد الناس".
وفي رواية أخرجها الشيخان والترمذي قالت عائشة: "ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة رضي الله عنها، وما رأيتها قط ولكن كان يكثر ذكرها وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة وربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلاّ خديجة؟ فيقول: إنها كانت، وكانت، وان لي منها ولد. قالت: وتزوجني بعدها بثلاث سنين".
وفي رواية للبخاري في الأدب المفرد عن أنس قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى بهدية قال: اذهبوا بها إلى بيت فلانة فإنها كانت صديقة لخديجة رضي الله عنها، إنها كانت تحب خديجة".(8/447)
وفي رواية للحاكم من حديث عائشة قالت: "دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فهش لها وأحسن السؤال عنها فلما خرجت قال: إنها كانت تأتينا أيام خديجة وإن حسن العهد من الإيمان".
إذن فما الذي يمنعه أن يطيب خاطر فاطمة بنت خديجة بتحقيق مرامها وهو الحريص على أن يكرم صدائق أمها؟ , أليست ابنتها أولى بالكرم وأجدر بالعطف وأحق بالرعاية؟ , بلى, وليس هو في حاجة إلى من يذكره بحق ابنته أو زوجته فهو المثل الأعلى والقدوة الحسنة في بر الأهل وصلة الرحم، بيد أنه أراد أن ينقش في أذهان الناس أنه ما كان انتماء فاطمة إليه، وما كان انتسابها لخديجة يشفع لها في الحصول على أموال الله فالحاجة عند الرسول صلى الله عليه وسلم هي الشفيع الأول والأخير، وهناك من هم أحوج من ابنته فما كان له أن يدعهم ويشتغل ببنته عنهم وهو القدوة التي يجب أن يتأسى بها المسلمون جميعاً.
لقد اعترف عليه الصلاة والسلام بحق البطون وأصاخ إلى طلبها، فأبى أن يذعن لعطفة الأبوة، وعهد الزوجية، وصلة المصاهرة، وجاع هو وأهله في سبيل أن يوصل للرعية قوتها، ويقضي طلبتها، ويسد احتياجاتها، وأوصل لذوي الحق حقوقهم قبل أن يطلبوها، وفكر في شئونهم قبل أن يفكروا فيها، وكد هو وأهله من أجل لقمة العيش فلم يتعطل واحد منهم اعتماداً على أموال المجاهدين، ولم ينلهم مها على الرغم من فقرهم ونصبهم ومرضهم ما نال أهل الصفة وضعفاء المسلمين.
أيها الفقراء:
لقد جاع الرسول صلى الله عليه وسلم ليشبعكم، وتعب ليريحكم، وضيق على نفسه وأهله ليوسع عليكم، وقدم إليكم القوت قبل أن تطالبوا به، ووفر لكم ما يلزمكم قبل أن تثوروا في وجهه، فمم تفرون؟ ، وإلامَ تلجئون؟ , {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} .(8/448)
العدد 25
فهرس المحتويات
1-حكم الإسلام فيمن زعم أن الإسلام متناقض: رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز
2- الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فضلها وكيفيتها: بقلم فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
3- أضواء من التفسير:للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
4-توصيات المجلس الأعلى الاستشاري للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في دورته السادسة
5- الدّين وأثره في صلاح الفرد والأمة: بقلم الشيخ محمود عبد الوهاب فايد
6- هنا السعادة: من شعر الشيخ محمد المجذوب
7- الطريقة المثلى للإعداد خريجي الجامعة الإسلامية: بقلم فضيلة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي
8- تعقيب على رسالة الدكتور معروف الدَّواليبي: بقلم الدكتور أحمد عبيد الكبيسي
9- قضايا أساسية في تطوير المكتبة العربية والإسلامية: بقلم عيد عبد الله السيد
10- يا راحلا فَرِحت به "المعلا" في رثاء العلامة الفقيد الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
بقلم الأستاذ محمد عبد الله
11- الشرك وآثاره على حياة الإنسان: بقلم الشيخ أبي بكر جابر الجزائري
12- المستشرقون في الميزان: بقلم الأستاذ عبد العزيز القاري
13- من الصحف والمجلات:إعداد العلاقات العامة بالجامعة
14- غرور: الأستاذ أحمد عبد الحميد عباس
15- التطعيم وأهميته ومواعيده: بقلم الدكتور خالد زربا
16- دعوة التضامن الإسلامي وأثرها في العالم: بقلم عبد القادر بن حبيب الله السندي
17-ندوة الطلبة - الشباب ودورهم الفعال في بناء الأمم: بقلم الطالب عزيزو محمد مغربي
18- دمعة من القلب:بقلم الطالب محمد محمود جاد الله
19- قصة غدا نلتقي: بقلم الطالب محمد عبد الخالق عثمان
20- أخبار الجامعة: إعداد العلاقات العامة بالجامعة
21- الفتاوى: يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(8/449)
حكم الإسلام فيمن زعم أن الإسلام متناقض
رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز
أو مشتمل على بعض الخرافات، أو وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم- بما يتضمن تنقصه، أو الطعن في رسالته، والرد على الرئيس أبي رقيبة فيما نسب إليه من ذلك.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: فقد نشرت صحيفة "الشهاب"اللبنانية في عددها الصادر في 23/ربيع الأول 1394هـ، الموافق 1/نيسان 1974 م فقرات خطيرة من خطاب الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، الذي ألقاه في مؤتمر المدرسين والمربين، لمناسبة الملتقى الدولي، حول الثقافة الذاتية والوعي القومي، يتضمن الطعن في القرآن الكريم بأنه متناقض، ومشتمل على بعض الخرافات، ووصف الرسول محمدا - صلى الله عليه وسلم - بأنه إنسان بسيط يسافر كثيرا في الصحراء، ويستمع إلى الخرافات البسيطة السائدة في ذلك الوقت، وقد نقل تلك الخرافات إلى القرآن، وهذا نص ما نشرته الصحيفة المذكورة:
بورقيبة في خطاب بالملتقى الدولي حول الثقافة
القرآن متناقض حوى خرافات، مثل قصة أهل الكهف، وعصا موسى؟!(8/450)
عُقد في تونس، أواخر الشهر الماضي، مؤتمر للمدرسين والمربين، لمناسبة الملتقى الدولي حول الثقافة الذاتية، والوعي القومي، وقد ألقى الرئيس بورقيبة - رئيس الجمهورية التونسية، الحالي، والرئيس المرتقب للجمهورية العربية الإسلامية، التي أعلن عن قيامها، على أساس الإسلام بين ليبيا وتونس - خطابا طويلا بالمدرسين نشرته الصحف التونسية على فقرات، وقد تعرّض - الرئيس بورقيبة - لقضايا فكرية هامة، وأجرى عملية نقد جريئة وعلنية لنصوص قرآنية ثابتة، خلص إلى أنها متناقضة، حينا، وخرافية، حينا آخر، وقد نشرت نص الخطاب جريدة "الصباح"التونسية على جزأين في عددين صدرا بتاريخ 20 , 21 من شهر آذار، مارس الماضي، وعد عملت وسائل الإعلام الرسمية على حذف النقاط النافرة في الخطاب، وسنورد النقاط المحذوفة التي سمعت حية من الرئيس التونسي، ثم نورد ما نشرته جريدة "الصباح"حرفيا:
1- إن في القرآن تناقضا لم يعد يقبله العقل بين {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} ، و {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}
2 - الرسول محمد كان إنسانا بسيطا يسافر كثيرا عبر الصحراء العربية، ويستمع إلى الخرافات البسيطة السائدة في ذلك الوقت، وقد نقل تلك الخرافات إلى القرآن، مثال ذلك: عصا موسى، وهذا شيء لا يقبله العقل، بعد اكتشاف باستور، وقصة أهل الكهف.
3 - إن المسلمين وصلوا إلى تأليه الرسول محمد، فهم دائما يكررون محمد - صلى الله عليه وسلم - الله يصلي على محمد -، وهذا تأليه لمحمد، وقد دعى, في ختام خطابه، المربين وأهل التعليم إلى تلقين ما قاله حول الإسلام إلى تلاميذهم.(8/451)
انتهى المقصود مما ذكرته صحيفة "الشهاب" عن خطاب الرئيس أبي رقيبة، وقد أفزع هذا المقال كل مسلم قرأه أو سمعه لما اشتمل عليه من الكفر الصريح، والجرأة على الله سبحانه وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم- من رئيس دولة تنتسب إلى الإسلام، كان المفروض عليه أن يدافع عن دينه، وعن كتاب ربه، وعن رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - لو سمع مثل هذا المقال، أو ما هو أخف منه من أي أحد، ولكن الأمر كما قال الله سبحانه: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَْبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} , {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} .
ولما قرأت هذا المقال في صحيفة "الشهاب" بادرت بإرسال برقية للرئيس المذكور بتاريخ7/4/1394هـ، هذا نصها:
فخامة الرئيس الحبيب بورقيبة
نشرت صحيفة "الشهاب"بعدد 23/ ربيع الأول /1394 هـ حديثا نسب إليكم غاية في الخطورة، يتضمن الطعن في القرآن الكريم بالتناقض، والاشتمال على الخرافات والطعن في مقام الرسالة المحمدية العظيم.
وقد أزعج ذلك المسلمين واستنكروه غاية الاستنكار، فإن كان ذلك قد صدر منكم فالواجب - شرعا - المبادرة إلى التوبة النصوح منه وإعلانها بطرق الإعلان الرسمية، والأوجب إعلان بيان رسمي صريح بتكذيبه واعتقاد خلافه كي يطمئن المسلمون، وتهدأ ثائرتهم من هذه التصريحات الخطيرة.
ونسأل الله تعالى أن يوفق الجميع لما فيه الخير والصلاح في الدنيا والآخرة، والتوبة من جميع الآثام , سرها وجهرها، وأن يعز الإسلام وأهله وأوطانه إنه سميع مجيب.
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(8/452)
ثم أرسلت برقية مني ومن المشايخ: حسنين محمد مخلوف، وأبي الحسن علي الحسني الندوي، وأبي بكر محمود جومي، والدكتور محمد أمين المصري، وذلك بتاريخ 16/4/1394 هـ، هذا نصها:
السيد الحبيب بورقيبة، رئيس الجمهورية التونسية - تونس.
نسبت إليكم صحيفة "الشهاب"بعددها الصادر بتاريخ 23/ربيع الأول/ تصريحات مكفّرة لما فيها من الطعن في القرآن الكريم، والمصطفى صلى الله عليه وسلم، ودعوتكم لرجال التعليم لنشرها بين الطلاب.
فإن كنتم قد اقترفتموها، فالواجب عليكم المبادرة إلى التوبة والعودة إلى الإسلام، والأوجب عليكم المبادرة إلى التكذيب الصريح، ونشره في العالم بجميع وسائل النشر، وإعلان عقيدتكم الإسلامية الصحيحة في الله تعالى وكتابه ورسوله، تبرئة من الكفر، وتسكينا للفتن، وتطمينا للمسلمين في سائر الدول، وتقريرا لصلاحيتكم لحكم أمة إسلامية عريقة في الإسلام، وإن عدم التكذيب دليل على الإصرار والردة، ومثار فتن لا يعلم عواقبها إلا رب العالمين، تحمل وزرها ووزر من يرتكس فيها إلى يوم الدين، {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
أبو الحسن علي الحسني الندوي
عبد العزيز عبد الله بن باز
أمين عام ندوة العلماء لكنوا الهند
رئيس الجامعة الإسلامية
وعضو رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة
بالمدينة المنورة
أبو بكر محمود جومي
الدكتور محمد أمين المصري
قاضي قضاة ولايات شمال نيجيريا
جامعة الملك عبد العزيز بمكة
حسين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية سابقا
ثم اطلعت على صحيفة "الصباح"التونسية فألفيتها قد ذكرت، في عددها الصادر في 21/مارس/1974م، طبق ما نقلته عنها صحيفة "الشهاب"فيما يتعلق بعصا موسى، وقصة أهل الكهف، كما ألفيتها قد نصّت على منكر شنيع، في عددها الصادر في 20/مارس/1974م، وقع في خطاب الرئيس المذكور، لم تشر إليه صحيفة الشهاب وهذا نصه:(8/453)
على أني أريد أن ألفت نظركم إلى نقص سأبذل كل ما في وسعي لتداركه، قبل أن تصل مهمتي إلى نهايتها، وأريد أن أشير بهذا إلى موضوع المساواة بين الرجل والمرأة، وهي مساواة متوفرة في المدرسة، وفي المعمل، وفي النشاط الفلاحي، وحتى في الشرطة، لكنها لم تتوفر في الإرث، حيث بقي للذكر حظ الأنثيين، إن مثل هذا المبدأ يجد ما يبرره، عندما يكون الرجل قواما على المرأة، وقد كانت المرأة، بالفعل، في مستوى اجتماعي لا يسمح بإقرار مساواة بينها وبين الرجال، فقد كانت البنت تدفن حية، وتعامل باحتقار , وها هي اليوم تقتحم ميدان العمل، وقد تضطلع بشؤون أشقائها الأصغر منها سنا، فزوجتي - مثلا - هي التي تولّت السهر على شؤون شقيقها المنذر، وتكبدت - من أجل ذلك - كل متاعب العمل الفلاحي، ووفرت له سبل التعلم، وحرصت على تحقيق أمنية والدها الذي كان يرغب في توجيه ابنه نحو المحاماة، فهل يكون، من المنطق، في شيء أن ترث الشقيقة نصف ما يرثه شقيقها في هذه الحالة، فعلينا أن نتوخى طريق الاجتهاد في تحليلنا لهذه المسألة، وأن نبادر بتطوير الأحكام التشريعية، بحسب ما يقتضيه تطور المجتمع، وقد سبق أن حجرنا تعدد الزوجات بالاجتهاد في مفهوم الآية الكريمة، ومن حق الحكام - بوصفهم أمراء المؤمنين - أن يطوروا الأحكام بحسب تطور الشعب، وتطور مفهوم العدل، ونمط الحياة.
هكذا في الصحيفة المذكورة، وهذا - إن صحّ صدوره منه - فهو نوع آخر من الكفر الصريح، لأنه زعم أن إعطاء المرأة نصف ما يعطاه الذكر نقص، وليس من المنطق البقاء عليه، بعد مشاركة المرأة في ميدان العمل - كما ذكر - أنه حجر تعدد النساء بالاجتهاد، وأنه يجب تطوير الأحكام الشرعية بالاجتهاد حسب تطور المجتمع، وذكر أن هذا من حق الحكام لكونهم أمراء المؤمنين، وهذا من أبطل الباطل، وهو بتضمن شرا كثيرا، وفسادا عظيما سيأتي التنبيه عليه - إن شاء الله -.(8/454)
ثم في يوم الأربعاء الموافق 1/5/1394 هـ زارني، في مقر الجامعة الإسلامية بالمدينة، سعادة السفير التونسي لدى المملكة، وسلّم لي رسالة من الوزير مدير الديوان الرئاسي، الشاذلي القليبي، برقم 406 وتاريخ 11/ماي/1974م،وهذا نصها:
فضيلة الشيخ السيد عبد العزيز بن عبد الله بن باز، رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - المملكة العربية السعودية.
أما بعد: فأتشرف بإعلامكم أن فخامة الرئيس الجليل قد اطلع على برقيتكم المؤرخة 23/ربيع الأول/1394هـ، وهو إذ يشكر لكم حسن عنايتكم، وقيامكم بالنصيحة لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم. يرجو أن لا يغيب عن أذهان سائر إخواننا المسلمين أن الحبيب بورقيبة إنما جاهد فرنسا لإعلاء كلمة الله والوطن، وإرجاع تونس دولة مستقلة، دينها الإسلام، ولغتها العربية، وهو أول بند من بنود دستورها، وما كان ليدور بخلد فخامته الطعن في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا في مقام الرسول الأكرم - عليه أفضل الصلاة والتسليم - وهو الذي نصر الحق بالحق، وهدى إلى الصراط المستقيم وإني أرسل إليكم، صحبة هذا، نص خطاب فخامة الرئيس، بمناسبة المولد النبوي الشريف، حتى تكونوا على بينة من الأمر.
نسأل الله تعالى أن يعين الجميع على ما فيه خير الدين والدنيا، وأن يهدينا إلى ما فيه خير أمتنا الإسلامية وصلاحها.
وتفضلوا بقبول أزكى تحياتي ….
الشاذلي القليبي
الوزير مدير الديوان الرئاسي
وقد أجبت معاليه بما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة المكرم معالي الوزير مدير الديوان الرئاسي، الشاذلي القليبي وفقه الله لما فيه رضاه.(8/455)
أما بعد: فيسرني أن أذكر لمعاليكم أن رسالتكم رقم 406 وتاريخ 11/ ماي / 1974م قد وصلتني بيد سعادة السفير التونسي لدى المملكة العربية السعودية، وعلمت ما تضمنته من الإفادة عن اطلاع فخامة الرئيس على برقيتي المتضمنة نصيحته بإنكار ما نسب إليه من الطعن في كتاب الله العزيز، وفي مقام الرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم - إن كان لم يقع منه ذلك - أو إعلان التوبة، إن كان وقع منه ذلك، كما علمت منها ما ذكرتم عن فخامته من شكري على ما قمت به من واجب النصيحة، ورغبة فخامته في أن لا يغيب عن أذهان سائر المسلمين أن الحبيب بورقيبه إنما جاهد فرنسا لإعلاء كلمة الله والوطن وإرجاع تونس دولة مستقلة، دينها الإسلام، ولغتها العربية، وهو أول بند من بنود دستورها، إلى آخر ما ذكره معاليكم.(8/456)
وإني لأرجو من معاليكم تبليغ فخامته شكري له على ما أبداه من الشكر والمحبة للنصيحة، وما قام به من الجهود الطيبة لصالح تونس وشعبها، وسؤالي المولى - عز وجل - أن يجزيه، عن الجهود التي بذلها في صالح البلاد التونسية وشعبها, خيراً, مع إعلام فخامته بأن ما ذكر لايكفي في إنكار ما نسب إليه - إن كان لم يقع -، كما أنه لا يكفي عن إعلان التوبة بطرق الإعلام الرسمية، إن كان قد وقع، لأن ذلك هو الواجب عليه، ولأن في عدم إعلان ذلك دلالة على وقوعه والإصرار عليه، مع ما في ذلك من الدعاية إلى الكفر والضلال، والتنقص لكتاب الله وللرسول - عليه الصلاة والسلام - وقد علم بالأدلة الشرعية أن المنكر إذا أعلن وجب إنكاره علنا، أو إعلان التوبة منه، إن كان واقعا، كما قال الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ الآعِنُونَ إِلاَّالَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} ، وليس في إعلان ذلك نقص على فخامته ولا غضاضة، بل ذلك شرف له، ودليل على إنصافه وعلو همته، وعلى رغبته في إيثار الحق، ولا يخفى أن التمادي في الباطل نقص ورذيلة، وأن الرجوع إلى الحق وإعلانه شرف وفضيلة، بل فريضة من أهم الفرائض، ولا سيما مثل هذا المقام الذي يترتب عليه كفر وإسلام، وقد يقتدي به في ذلك الكفر غيره فيكون عليه مثل آثامه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: "من دعى إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعى إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا "، ولأن في عدم إعلان التكذيب أو التوبة تأييدا للطاعنين في الإسلام، وسيرا في ركابهم، ومشاركة لهم في الجريمة، وإني أربأ(8/457)
بفخامته أن يصرّ على أمر يغضب الله ورسوله، ويخرجه من دائرة الإسلام، إن كان قد وقع منه، ويجرئ أعداء الإسلام على النيل من حماه، والطعن في دستوره.
وقد اطلعت، أخيرا، على صحيفة "الصباح" التونسية فوجدتها تن، في عددها الصادر في 20/مارس/1974م، على تصريح خطير للرئيس، لم تشر إليه صحيفة "الشهاب"، مضمونه اعتبار إعطاء المرأة نصف حظ الذكر، في الميراث، نقصا ليس من المنطق البقاء عليه، بعد مشاركة المرأة في ميدان العمل، كما يتضمن التصريح بأنه قد حجر تعدد النساء، بالاجتهاد، وأنه يجوز للحكام تطوير الأحكام بالاجتهاد، حسب تطور المجتمع، لكونهم أمراء المؤمنين، وهذا منكر شنيع، وكفر صريح لما فيه من الطعن في القرآن، واتهامه بأن بعض أحكامه لا تناسب تطور المجتمع، وهو مخالف لإجماع أهل العلم، لكونهم قد أجمعوا على أن الاجتهاد إنما يكون في المسائل الفرعية التي لا نص فيها، أما الأحكام الشرعية التي نص عليها القرآن الكريم، أو السنة الصحيحة كإعطاء الزوجة والأنثى، من الأولاد والأخوة لأبوين أو لأب في الميراث، نصف الذكر وكتعدد النساء، فإنه لا مجال للاجتهاد في ذلك، لأن الله - سبحانه - هو الذي شرع الأحكام وفصلها، وهو العالم بأحوال عباده، وبما تتطور إليه مجتمعاتهم، والحكام ليس لهم تغيير الأحكام، وإنما الذي إليهم تنفيذها وإلزام الرعايا بمقتضاها لقول الله، سبحانه، يخاطب نبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} , إلى أن قال سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا(8/458)
أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .
فأرجو تبليغ الرئيس ما ذكرته، وأن عليه تكذيب هذا الخبر - إن كان لم يصدر منه - أو إعلان التوبة، إن كان قد صدر منه، كالمطاعن الأخرى التي سبق أن أبرقت أنا وبعض العلماء لفخامته في شأنها، وقد كتبت، في هذه المسائل، مقالا مفصلا إليكم نسخة منه لإطلاع الرئيس عليه.
والله المسؤول أن يهدينا، جميعا، صراطه المستقيم، وأن لا يزيغ قلوبنا عن الهدى، كما أسأله - عز وجل - أن يهدي فخامته للحق، وأن يعينه على تنفيذه وأن يرزقنا وإياه وسائر المسلمين إيثار الآخرة والعمل لها على الحظ الأدنى، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وتفضلوا بقبول تحياتي ….
رئيس الجامعة الإسلامية
بيان الأدلة على كفر من طعن في القرآن أو في الرسول - عليه الصلاة والسلام -(8/459)
إذا علم ما تقدم، فإن الواجب الإسلامي والنصيحة لله ولعباده، كل ذلك، يوجب علينا بيان حكم الإسلام فيمن طعن في القرآن بأنه متناقض، أو مشتمل على بعض الخرافات، وفيمن طعن في الرسول، صلى الله عليه وسلم - بأي نوع من أنواع الطعن غيرة لله سبحانه، وغضبا له - عز وجل - وانتصارا لكتابه العزيز، ولرسوله الكريم، وأداء لبعض حقه علينا، سواء كان ما ذكر، عن الرئيس المذكور، واقعا أم كان غير واقع، وسواء أعلن إنكاره له، أو التوبة منه، أم لم يعلن ذلك، إذ المقصود بيان حكم الله فيمن أقدم على شيء مما ذكرنا من التنقص لكتاب الله، أو لرسوله - صلى الله عليه وسلم - فنقول: قد دلّ كتاب الله، عزّ وجلّ، وسنة رسوله، عليه الصلاة والسلام، وإجماع الأمة على أن كتاب الله، سبحانه، محكم غاية الإحكام، وعلى أنه، كله، كلام الله - عزّ وجلّ - ومنزل من عنده، وليس فيه شيء من الخرافات والكذب، كما دلت الأدلة المذكورة على وجوب تعزير الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتوقيره، ونصرته، ودلت - أيضا - على أن الطعن، في كتاب الله أو في جناب الرسول - صلى الله عليه سلم - كفر أكبر، وردة عن الإسلام، وإليك - أيها القارئ الكريم - بيان ذلك.(8/460)
قال الله تعالى في أول سورة يونس: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} ، وقال في أول سورة هود: {ألر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} ، وقال عز وجل - في أول سورة لقمان: {الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} ، وذكر علماء التفسير - رحمهم الله - في تفسير هذه الآيات، أن معنى ذلك أنه متقن الألفاظ والمعاني، ومشتمل على الأحكام العادلة، والأخبار الصادقة، والشرائع المستقيمة، وأنه الحاكم بين العباد فيما يختلفون فيه، كما قال الله سبحانه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيه} الآية، وقال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الآية.. فكيف يكون محكم الألفاظ والمعاني، وحاكما بين الناس وهو متناقض مشتمل على بعض الخرافات، وكيف يكون محكما وموثوقا به إذا كان الرسول الذي جاء به إنسانا بسيطا لا يفرق بين الحق والخرافة، فعلم بذلك أن من وصف القرآن بالتناقض أو بالاشتمال على بعض الخرافات، أو وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما ذكرها فإنه متنقص لكتاب الله، ومكذب لخبر الله، وقادح في رسول الله، صلى الله عليه وسلم،- إن كان مسلما قبل أن يقول هذه المقالة-، وقال الله سبحانه، في أول سورة يوسف: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} ، وقال سبحانه، في سورة الزمر: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً(8/461)
مَثَانِيَ} الآية، ومعنى {مُتَشَابِهاً} في هذه الآية - عند أهل العلم - يشبه بعضه بعضا، ويصدّق بعضه بعضا فكيف يكون بهذا المعنى، وكيف يكون أحسن الحديث وأحسن القصص وهو متناقض، مشتمل على بعض الخرافات، سبحانك هذا بهتان عظيم.
وصح عن رسول الله صلى الله عليه سلم أنه كان يقول في خطبه: أما بعد:"فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد، صلى الله عليه سلم " فمن طعن في القرآن، بما ذكرنا أو غيره من أنواع المطاعن فهو مكذب لله عز وجل في وصفه لكتابه بأنه أحسن القصص وأحسن الحديث، ومكذب للرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: "إنه خير الحديث"، وقال سبحانه وتعالى في وصف القرآن الكريم: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، وقال: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} ، وقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} , وقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، وقال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} إلى أمثال هذه الآيات الكثيرة في كتاب الله، فمن زعم أنه متناقض أو مشتمل على بعض الخرافات التي أدخلها فيه الرسول صلى الله عليه وسلم مما تلقاه عن بادية الصحراء أو غيرهم، فقد زعم أن بعضه غير منزل من عند الله وأنه غير محفوظ، كما أنه، بذلك، قد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه كذب على الله وأدخل في كتابه ما ليس منه، وهو - مع ذلك - يقول للناس: إن القرآن كلام الله، وهذا غاية في الطعن في الرسول صلى الله عليه وسلم ووصفه بالكذب على الله وعلى عباده، وهذا من أقبح الكفر والضلال والظلم، كما قال الله سبحانه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ} ، وقال عز(8/462)
وجل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} الآية، وقال تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} الآية.
ذكر علماء التفسير - رحمهم الله - أن هذه الآية نزلت في جماعة كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، قال بعضهم: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء. وقال بعضهم: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا، والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال. وقال بعضهم: يظن هذا أن يفتح قصور الروم وحصونها، هيهات هيهات، فأنزل الله قوله، سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} الآية، فجاءوا إلى الرسل صلى الله عليه وسلم يعتذرون ويقولون: إنما كنا نخوض ونلعب، ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق، فلم يعذرهم، بل قال لهم - عليه الصلاة والسلام: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ، فإذا كان هذا الكلام، الذي قاله هؤلاء، يعتبر استهزاء بالله وآياته، ورسوله، وكفرا بعد إيمان، فكيف بحال من قال في القرآن العظيم: إنه متناقض أو مشتمل على بعض الخرافات، أو قال في الرسول صلى الله عليه وسلم إنه إنسان بسيط لا يميّز بين الحق والخرافة، لا شك أن من قال هذا هو أقبح استهزاء، وأعظم كفرا.
ذكر كلام العلماء فيمن طعن في القرآن الكريم، أو الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم أو استهزأ بما، أو سب الله أو الرسول صلى الله عليه وسلم:(8/463)
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي في تفسيره - الجامع لأحكام القرآن - عند تفسير هذه الآية ما نصه: " قال القاضي أبو بكر ابن العربي: لا يخلو أن يكون ما قالوه في ذلك - جداً أو هزلاً - وهو كيف ما كان كفر، فإن الهزل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الأمة"انتهى المقصود.
وقال القاضي عياض بن موسى- رحمه الله- في كتابه "الشفاء بتعريف حقوق المصطفى"ص/325/ ما نصه: "واعلم أن من استخف بالقرآن أو المصحف، أو بشيء منه، أو سبهما أو جحده أو حرفا منه أو آية، أو كذب به أو بشيء مما صرح به فيه من حكم، أو خبر أو أثبت ما نفاه، أو نفى ما أثبته على علم منه بذلك، أو شك في شيء من ذلك فهو كافر عند أهل العلم بإجماع، قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌلا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} "انتهى المقصود.(8/464)
وقال القاضي عياض - أيضا - في كتابه المذكور في حكم سب النبي - صلى الله عليه وسلم - ص/233/ ما نصه: "اعلم، وفقنا الله وإياك، أن جميع من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو عابه، أو ألحق نقصا في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله أو عرّض به، أو شبهه بشيء، على طريق السب له أو الإزراء عليه، أو التصغير لشأنه، أو الغض منه والعيب له، فهو ساب له، والحكم فيه حم الساب، يقتل - كما نبينه -، ولا نستثني فصلا من فصول هذا الباب على هذا المقصد، ولا نمتري فيه تصريحا أو تلويحا، وكذلك من لعنه أو دعا عليه أو تمنى له أو نسب إليه ما لا يليق بمنصبه، على طريق الذم، أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهجر ومنكر من القول وزور، أو عيّره بشيء مما جرى من البلاء أو المحنة عليه، أو غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة، والمعهودة لديه، وهذا كله إجماع العلماء وأئمة الفتوى من لدن الصحابة - رضوان الله عليهم إلى هلم جرا ". قال أبو بكر بن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل، وممن قال ذلك مالك بن أنس، والليث، وأحمد، واسحاق وهو مذهب الشافعي. انتهى.(8/465)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- في كتابه (الصارم المسلول على شاتم الرسول) ص/3/ما نصه: "المسألة الأولى: أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم وكافر، فإنه يجب قتله، هذا مذهب عليه عامة أهل العلم، ثم نقل كلام أبي بكر بن المنذر - المتقدم ذكره في كلام القاضي عياض - ثم قال شيخ الإسلام - رحمه الله - ما نصه: وقد حكى أبو بكر الفارسي، من أصحاب الشافعي، إجماع المسلمين على أن حدّ من سب النبي - صلى الله عليه وسلم - القتل، كما أن حد من سب غيره الجلد، وهذا الإجماع الذي حكاه هذا، محمول على إجماع الصدر الأول من الصحابة والتابعين أو أنه أراد به إجماعهم على أن ساب النبي - صلى الله عليه وسلم - يجب قتله، إذا كان مسلما، وكذلك قيده القاضي عياض فقال: أجمعت الأمة على قتل متنقصه من المسلمين، وسابّه، وكذلك حكى عن غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره، وقال الإمام إسحاق بن راهويه - أحد الأئمة الأعلام - رحمه الله -: أجمع المسلمون على أن من سب الله، أو سب رسوله - صلى لله عليه وسلم -، أو دفع شيئا مما أنزل الله - عز وجل - أو قتل نبيا من أنبياء الله - عز وجل - أنه كافر بذلك، وإن كان مقرا بكل ما أنزل الله، قال الخطابي - رحمه الله -: لا أعلم أحدا من المسلمين اختلف في وجوب قتله، وقال محمد بن سحنون: أجمع العلماء على أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم والمتنقص له كافر، والوعيد جاء عليه بعذاب الله له، وحكمه - عند الأمة - القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر، ثم قال شيخ الإسلام أبو العباس - رحمه الله -: وتحرير القول فيه أن الساب - إن كان مسلما - فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد تقدم ممن حكى الإجماع على ذلك إسحاق ابن راهويه وغيره، ثم ذكر الخلاف فيما إذا كان الساب ذميا، ثم ذكر - رحمه الله- في آخر الكتاب، ص/512/ ما نصه:(8/466)
"المسألة الرابعة في بيان السب المذكور، والفرق بينه وبين مجرد الكفر، وقبل ذلك لا بد من تقديم مقدمة، وقد كان يليق أن تذكر في أول المسألة الأولى، وذكرها هنا مناسب - أيضا - لنكشف سر المسألة، وذلك أن نقول: إن سب الله، أو سب رسوله - صلى الله عليه وسلم - كفر ظاهرا وباطنا، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلا له، أو كان ذاهلا عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل "إلى أن قال - رحمه الله - في ص/538/ ما نصه:(8/467)
"التكلم في تمثيل سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر صفته ذلك مما يثقل على القلب واللسان، ونحن نتعاظم أن نتفوه بذلك ذاكرين، لكن، للاحتياج إلى الكلام في حكم ذلك، نحن نفرض الكلام في أنواع السب مطلقا من غير تعيين، والفقيه يأخذ حظه من ذلك، فنقول: السب نوعان: دعاء وخبر، فأما الدعاء فمثل أن يقول القائل لغيره، لعنه الله أو قبحه الله أو أخزاه الله، أو لا رحمه الله أو لا رضي الله عنه أو قطع الله دابره، فهذا وأمثاله سب للأنبياء ولغيرهم وكذلك لو قال عن نبي لا صلى الله عليه أو لا سلم , أو لا رفع الله ذكره ,أومحى الله اسمه ونحو ذالك من الدعاء عليه , بما فيه ضرر عليه في الدنيا أو في الدين أو في الآخرة، فهذا كله، إذا صدر من مسلم أو معاهد فهو سب، فأما المسلم فيقتل به، بكل حال، وأما الذمي فيقتل بذلك إذا أظهره". إلى أن قال - رحمه الله - ص540: النوع الثاني: الخبر، فكل ما عده الناس شتما، أو سبا أو تنقصا، فإنه يجب به القتل - كما تقدم - فإن الكفر ليس مستلزما للسب، وقد يكون الرجل كافرا ليس بساب، والناس يعلمون علما عاما أن الرجل قد يبغض الرجل ويعتقد فيه العقيدة القبيحة ولا يسبه، وقد يضم إلى ذلك مسبة، وإن كانت المسبة مطابقة للمعتقد، فليس كل ما يحتمل عقدا يحتمل قولا، ولا ما يحتمل أن يقال سرا يحتمل أن يقال جهرا، والكلمة الواحدة تكون في حال سبا، وفي حال ليست بسب، فعلم أن هذا يختلف باختلاف الأقوال والأحوال، وإذا لم يكن للسب حد معروف في اللغة ولا في الشرع، فالمرجع فيه إلى عرف الناس، فما كان في العرف سبا للنبي فهو الذي يجب أن ننزل عليه كلام الصحابة والعلماء، ومالا فلا. انتهى المقصود.
كشف الشبه المذكورة في الخطاب المنسوب إلى الرئيس أبي رقيبه:
وقع في خطاب المنسوب إلى الرئيس التونسي ستة أمور شنيعة:(8/468)
الأول: القول بتناقض القرآن، وقد مثل لذلك بقوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} ، وقوله - عز وجل -: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .
الثاني: إنكار قصة عصا موسى، وقصة أهل الكهف، والتصريح بأنهما من الأساطير.
الثالث: أن الرسول محمدا - عليه الصلاة والسلام - كان إنسانا بسيطا يسافر كثيرا عبر الصحراء العربية ويستمع إلى الخرافات البسيطة، السائدة في ذلك الوقت، وقد نقل تلك الخرافات إلى القرآن، مثال ذلك عصا موسى، وقصة أهل الكهف.
الرابع: إنكار إعطاء المرأة نصف ما يعطى الذكر، في الميراث، وزعمه أن ذلك ليس من المنطق، وأنه نقص يجب البدار إلى إزالته، لأنه لا يناسب تطور المجتمع وذكر أنه ينبغي للحكام أن يطوروا الأحكام، حسب تطور المجتمع.
الخامس: إنكار تعدد النساء وحجره ذلك على الشعب التونسي، لأنه لا يناسب تطور المجتمع.
السادس: قوله: إن المسلمين وصلوا إلى تأليه الرسول محمد، فهم دائما يكررون محمد - صلى الله عليه وسلم -، الله يصلي على محمد، وهذا تأليه لمحمد. انتهى.
ونحن - إن شاء الله - نبين بطلان ما ذكره في هذه الأمور الستة، ونكشف الشبه بالأدلة القاطعة، وإن كان الأمر في ذلك واضحا، بحمد الله، لكل من له أدنى بصيرة، ولكن مقصودنا من ذلك إنكار هذا المنكر وإيضاح الحق لمن قد تروج عليه بعض هذه الشبه ويحار في ردها، والله المستعان.(8/469)
فنقول: أما قوله: إن القرآن متناقض، فهذا من أقبح المنكرات، ومن الكفر الصريح - كما سبق بيانه - لأنه تنقص للقرآن، وسب له، لأن السب هو التنقص للمسبوب ووصفه بما لا يليق، وقد بينا - فيما مضى بالأدلة القاطعة - أن القرآن بريء من ذلك، وأنه، بحمد الله، في غاية الإحكام والإتقان، كما قال الله سبحانه، {ِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِير} وقال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عزُيزٌ لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} وقال - عز وجل -: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} إلى غير ذلك من الآيات السابقات الدالة على إحكامه وإتقانه، وأنه أحسن الحديث، وأحسن القصص، وتقدم ذكر إجماع العلماء على ذلك، وعلى كفر من تنقصه أو جحد شيئا منه، أما الآيتان المذكورتان وما جاء في معناهما من الآيات الدالة على إثبات القدر، وعلى تعليق المسببات بأسبابها فليس بينها تناقض، وإنما أتى من زعم ذلك من جهة فساد فهمه، ونقص علمه، كما قال الشاعر:
وكم من عائب قولاً صحيحاً
وآفته من الفهم السقيم(8/470)
وقد أجمع، كل من لديه علم وإنصاف وبصيرة باللغة العربية من علماء الإسلام، وخصومه، أن كتاب الله في غاية من الإحكام والإتقان، وأنه خير كتاب وأفضل كتاب، وأنه لم ينزل كتاب أفضل منه، لما اشتمل عليه من العلوم النافعة والأحكام العادلة، والأخبار الصادقة، والشرائع القويمة، والأسلوب البليغ المقنع، كما قال الله سبحانه: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} أي صدقا في الأخبار، وعدلا في الشرائع والأحكام، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} الآية.. قال العلماء: الهدى: هو ما فيه من العلوم النافعة والأخبار الصادقة، ودين الحق: هو ما فيه من الشرائع القويمة والأحكام الرشيدة، إذا علم هذا فالجمع بين الآيتين المذكورتين وما جاء في معناهما هو أن الله، سبحانه، قد قدّر مقادير الخلائق، وعلم ما مهم عاملون، وقدر أرزاقهم وآجالهم، وكتب ذلك كله لديه، كما قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} الآية، وقال سبحانه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ، وقال سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وفي الصحيحين عن علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار، فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل، فقال - صلى الله عليه وسلم -: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة ثم قرأ النبي - صلى الله عليه(8/471)
وسلم - قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} ، وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب، وأبي هريرة - رضي الله عنهما - أن جبريل سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان، فقال- عليه الصلاة والسلام -: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره"، هذا لفظ عمر، ولفظ أبي هريرة: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه، ولقائه ورسله، وتؤمن بالبعث وتؤمن بالقدر كله"وفي صحيح مسلم - أيضا - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء". وفي صحيح مسلم - أيضا - عن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل شيء بقدر حتى العجز والكيس"والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وفي هذه الآيات والأحاديث الدلالة على أن الله، سبحانه، قد قدر الأشياء وعلمها وكتبها، وأن الإيمان بذلك أصل من أصول الإيمان الستة التي يجب على كل مسلم الإيمان بها، ويدخل في ذلك أنه، سبحانه، خلق الأشياء كلها، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، كما قال - عز وجل -: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} ، وقال سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ، وقال سبحانه: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إَِّلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} ، فعلمه، سبحانه، محيط بكل شيء، وقدرته شاملة لكل شيء، كما قال سبحانه: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ(8/472)
بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} وهو، مع ذلك سبحانه، قد أعطى العباد العقول والأسماع والأبصار والأدوات التي يستطيعون بها أن يفعلوا ما ينفعهم، ويتركوا ما يضرهم، وأن يعرفوا بها الضار والنافع، والخير والشر، والضلال والهدى، وغير ذلك من الأمور التي مكنّ الله العباد من إدراكها بعقولهم وأسماعهم وأبصارهم، وسائر حواسهم، وجعل لهم، سبحانه، عملا واختيارا ومشيئة، وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته وأمرهم بالأسباب، ووعدهم على طاعته الثواب الجزيل في الدنيا والآخرة، وعلى معاصيه العذاب الأليم، فهم يعملون ويكدحون وتنسب إليهم أعمالهم وطاعاتهم ومعاصيهم لأنهم فعلوها بالمشيئة واختيار، كما قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} , {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} ، {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} ، وقال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} الآيات. وقال سبحانه: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، وقال سبحانه: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلاً} والآيات في هذا المعنى كثيرة وفي الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك مالا يحصى ولكنهم، مع ذلك، لا يخرجون عن مشيئة الله بهذه الأعمال وإرادته الكونية، كما قال عز وجل: {كلاََّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} ، وقال سبحانه: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} وقال - عز وجل-: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى(8/473)
رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} ، وبما ذكرنا من هذه الآيات يتضح معنى قوله سبحانه: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} وقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} ، فالآية الأولى دلت على أن جميع ما يصيب العباد، مما يحبون ويكرهون، كله مكتوب عليهم، ودلت الثانية على أن الله سبحانه قد رتّب على أعمال العباد وما يقع منهم من الأسباب، مسبباتها وموجباتها، فالمؤمن، عند المصيبة، يفزع إلى القدر فيطمئن قلبه، وترتاح نفسه به لإيمانه بأن الله سبحانه، قد قدر كل شيء، وأنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، ويحارب الهموم والغموم والأوهام، ويصبر ويحتسب رجاء ما وعد الله به الصابرين بقوله سبحانه: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} ، ولا يمنعه ذلك من الأخذ بالأسباب والقيام بما أوجب الله عليه، وتركه ما حرم الله عليه عملاً بقول الله عز وجل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} الآية.. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزن، فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن {لو} تفتح عمل الشيطان" خرجه مسلم في صحيحه، وبذلك يستحق المدح والثناء والثواب العاجل والآجل، على أعماله الطيبة وأخذه بالأسباب النافعة، وابتعاده عن كل ما يضره ويستحق الذم والوعيد، وأنواع العقوبات، في الدنيا والآخرة، على ما يفعله من المعاصي(8/474)
والمخالفات، وعلى تفريطه في الأخذ بالأسباب وعدم إعداده لعدوه ما يستطيع من القوة، وقد جرت سنة الله في عباده أنهم إذا استقاموا على دينه وتباعدوا عن أسباب غضبه، وجاهدوا في سبيله، أنه ينصرهم على عدوهم، ويجمع كلمتهم ويجعل لهم العاقبة الحميدة، كما قال، سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، وقال سبحانه: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ، وقال عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} ، وقال سبحانه: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} أما إذا ضيعوا أمره وتابعوا الأهواء واختلفوا بينهم، فإن الله سبحانه، يغير ما بهم، من عز واجتماع كلمة، ويسلط عليهم الأعداء، ويصيبهم بأنواع العقوبات من القتل والخوف ونقص الأموال والأنفس والثمرات، وغير ذلك جزاءاً وفاقاً وما ربك بظلام للعبيد، وهذا هو معنى قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} والمعنى: أنه سبحانه، لا يغير ما بالعباد، من عز ورغد عيش واتحاد كلمة وغير ذلك من صنوف النعم، إلا إذا غيروا ما بأنفسهم، من طاعة الله والاستقامة على دينه والأخذ بالأسباب النافعة وإعداد المستطاع من القوة، والقيام بالجهاد، فإذا فعلوا ذلك غير الله ما بهم، فصاروا بعد العزة أذلة، وبعد الاجتماع والاتحاد متفرقين ومختلفين، وبعد رغد العيش وأمن السبل إلى فقر وحاجة واختلال أمن، إلى غير ذلك من أنواع العقوبات، وهذا هو معنى قوله عز وجل في الآية الأخرى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ(8/475)
حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} فإذا تابوا إلى الله سبحانه، وبادروا إلى الأعمال الصالحات والأخذ بالأسباب الشرعية والحسية وأعدوا لعدوهم ما استطاعوا من القوة وجاهدوا في الله حق جهاده، أعطاهم الله العزة بعد الذلة، والقوة بعد الضعف، والاتحاد بعد الاختلاف، والغنى بعد الفقر، والأمن بعد الخوف، إلى غير ذلك من أنواع النعم، وكما أن النصوص من الكتاب والسنة، قد دلت على ما ذكرنا، فالواقع التاريخي شاهد بذلك، ومن تأمل أحوال هذه الأمة، في ماضيها وحاضرها، وما جرى عليها من أنواع التغير والاختلاف عرف ما ذكرنا واتضح له معنى الآيتين، وأوضح شاهد على ذلك ما جرى لصدر هذه الملة من العز، والتمكين والنصر على الأعداء بسبب قيامهم بأمر الله وتعاونهم على البر والتقوى وصدقهم في الأخذ بالأسباب النافعة وجهاد الأعداء، فلما غيروا غير عليهم، وفي واقعة بدر، وأُحد شاهد لما ذكرنا، فإن المسلمين لما صدقوا مع نبيهم صلى الله عليه وسلم في جهاد العدو، يوم بدر نصرهم الله مع قلتهم وكثرة عدوهم، وصارت الدائرة على الكافرين، ولما أخل الرماة، يوم أحد، بموقفهم وفشلوا وتنازعوا وعصوا نبيهم صلى الله عليه وسلم في أمره لهم بلزوم موقفهم جرى ما جرى من الهزيمة، وقتل سبعين من المسلمين، وجرح عدد كثير منهم، ولما استنكر المسلمون ذلك واستغربوه أنزل الله في ذلك قوله سبحانه: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فإذا كان خير الأمة وأفضلهم وفيهم سيد الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إذا غيروا غير عليهم، فكيف بغيرهم من الناس، لا شك أن غيرهم من باب أولى أن يغير عليه إذا غير، وهم, في ذلك كله, لم يخرجوا عن قدر الله، سبحانه، وما كتبه عليهم لقوله عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ(8/476)
أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} الآية.. وقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وبهذا يتضح - لطالب الحق- معنى قوله، سبحانه،: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} وقوله، سبحانه: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} الآية، ويعلم أن كلا منهما حق ليس بينهما تناقض، مع العلم بأن الله عز وجل قد يبتلي عباده المؤمنين بالسراء والضراء ليمتحن صبرهم وجهادهم وليكونوا أسوة لغيرهم، ثم يجعل لهم العاقبة كما قال، سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وأما الثاني والثالث من الأمور المنكرة التي وقعت في خطاب المنسوب إلى الرئيس أبي رقيبه، التي أسلفنا ذكرها، فهما زعمه أن قصة عصا موسى، وقصة أهل الكهف من الأساطير، ومن الخرافات التي نقلها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى القرآن، لأنه عليه الصلاة والسلام في زعم هذا القائل كان إنسانا بسيطا يسافر في الصحراء العربية، ويستمع إلى الخرافات البسيطة السائدة في ذلك الوقت التي منها بزعمه القصتان المذكورتان.(8/477)
ولا ريب أن هذا الكلام الشنيع مما يثقل على القلب واللسان ذكره، لما اشتمل عليه من أنواع الكفر الصريح، والردة الكبرى عن الإسلام - كما تقدم بيان ذلك، ونقل الإجماع عليه-، ولكن لمسيس الحاجة إلى كشف شبهة قائله، اضطررنا إلى نقله وكتابته، وشبهته، فيما افتراه، من هذا الزعم الباطل، هي أن هاتين القصتين لا يقبلهما العقل، لكون العصا جماداً لا تقبل الحياة، ولأن نوم أهل الكهف طويل جداً، وهذه الشبهة باطلة من وجوه، الأول: أن العقل لا مجال له في هذا المقام، وإنما الواجب، على جميع العقلاء، التصديق بما أخبر الله به ورسوله واتباعه، وعدم التكذيب بشيء منه، وليس لأحد أن يحكّم عقله في الإيمان ببعض المنزل وإنكار بعضه، لقول الله، سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} الآية.. وقوله سبحانه: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} وقال - عز وجل-: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} ، وقد أثنى الله، سبحانه، على الرسول والمؤمنين بالتصديق بما أنزل إليهم من ربهم، ووصف المتقين بذلك وأخبر أنهم هم أهل الهدى والفلاح، فقال سبحانه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} ، وقال سبحانه: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(8/478)
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، وحكم سبحانه على من آمن ببعض وكفر ببعض بأنه هو الكافر - حقا -، فقال تعالىـ {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} ، وأنكر؛ سبحانه، على اليهود هذا التفريق وتوعدهم عليه، فقال - سبحانه -: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون} .(8/479)
الوجه الثاني: أن الله سبحانه، لا أصدق منه، وهو العالم بكل ما كان وما سيكون، وكتابه هو أحسن الحديث، وأحسن القصص، وقد ضمن حفظه وأخبر أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كما قال - عز وجل -: {اللَّهُ لا إِلَهَ إلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} ، وقال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} وقال سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} الآية، ومعنى قوله {مُتَشَابِهاً} في هذه الآية: يشبه بعضه بعضا، ويصدق بعضه بعضا - كما سبق بيان ذلك - وقال - جل وعلا -: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} الآية.. وقال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيز لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وقال تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} فكيف يجوز - بعد هذا - لأحد من الناس أن يُحكّم عقله في التصديق ببعض الكتاب، والكفر ببعضه، ثم الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو أصدق الناس وأعلمهم بما أنزل عليه، وأكملهم عقلاً وأزكاهم نفساً - بالنص والإجماع - وقد وصفه الله سبحانه، بأزكى الصفات وأفضلها، وأخبر أنه لا ينطق عن الهوى، كما قال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وقال سبحانه: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ(8/480)
وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} الآيات، وقد أجمع العلماء على أنه - عليه الصلاة والسلام - وجميع المرسلين، معصومون في كل ما يبلغونه عن الله - عز وجل - من الكتب والشرائع، وقد توعده الله سبحانه بالوعيد الشديد لو تقول عليه ما لم يقل، فقال - سبحانه -: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} وقد حماه الله من ذلك وصانه وحفظه ونصره وأيده حتى بلّغ الرسالة أجمل تبليغ، وأدى الأمانة أكمل أداء، فكيف - بعد هذا كله - يجوز لأحد من الناس أن ينكر شيئا مما جاء به - عليه الصلاة والسلام - من كتاب الله العظيم وشرعه الحكيم، ويزعم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أدخل في كتاب الله ما ليس منه، سبحانك هذا بهتان عظيم، وكفر صريح عامل الله قائله بما يستحق.
الوجه الثالث: أن وظيفة العقول هي التدبر للمنزل، والتعقل لما دل عليه من المعنى بقصد الاستفادة والعمل والاتباع، كما قال الله سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} ، وقال سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} أما تحكيمها في الإيمان ببعض المنزل ورد بعضه فهو خروج بها عن وظيفتها، وتجاوز لحدودها، وعدوان من فاعل ذلك - كما سبق بيانه-.(8/481)
الوجه الرابع: أن العقول الصحيحة الصريحة لا تخالف المنقول الصحيح ولا تضاده، لأن الرسل- عليهم الصلاة والسلام- لا يأتون بما تحيله العقول الصحيحة، ولكن قد يأتون بما تحار فيه العقول لقصورها وضعف إدراكها، فيجب عليها أن تسلم للصادق الحكيم العليم بكل شيء، خبره وحكمه، وأن تخضع لذلك وتؤمن به، وقصة عصا موسى، وقصة أهل الكهف ليستا مما تحيله العقول، لأن قدرة الله، سبحانه عظيمة، وشاملة، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، كما قال سبحانه: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} ، وقال سبحنه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، ولما سبق من الآيات الكثيرات، في هذا المعنى، وقد جعل الله هذه العصا معجزة باهرة لرسوله وكليمه موسى - عليه الصلاة والسلام- وأيده بها على عدوه فرعون ليقيم الحجة عليه وعلى قومه، فكانت من الآيات العظيمة التي خرق الله بها العادة من أجل تأييد الحق، وإبطال ما جاء به السحرة من السحر العظيم الذي سحروا به أعين الناس، واسترهبوهم، فلقفت هذه العصا في صورة ثعبان عظيم، جميع حبالهم وعصيهم، وعرف السحرة أن هذا شيء من عند الله لا طاقة لمخلوق به، فآمنوا برب موسى وهارون وخروّا لله سجداً، كما قال سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} ، ولأنه قد ثبت، بالنقل المعصوم والمشاهد المعلوم، ما هو من جنس قصة عصا موسى أو أعجب منها، فأما النقل المعصوم فهو ما ذكره الله، سبحانه، في قصة آدم والجان، وأن الله - عز وجل - خلق آدم من الطين، من صلصال كالفخار، وخلق الجان من مارج من نار،(8/482)
ثم نفخ في آدم من روحه، والطين جماد كالعصا، ولما نفخ الله فيه الروح صار إنساناً عاقلاً سميعاً بصيراً، وهكذا النار جماد محرق وقد خلق الله منها الجان وجعله سميعاً بصيراً، فالذي قدر على ذلك هو الذي جعل في عصا موسى الحياة حتى صارت بذلك حية تسعى، ولقفت ما ألقاه السحرة من العصي والحبال، وربك على كل شيء قدير، أما المشاهد المعلوم فجميع بني آدم كلهم مخلوقون من ماء مهين، كما قال الله - عز وجل - في سورة السجدة: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} ، وهذا الماء هو النطفة المتكوّنة من ماء الرجل وماء المرأة، ثم تكون - بعد ذلك - علقة، ثم مضغة وهي في أطوارها الثلاثة جماد، ثم ينفخ الله فيها الروح فتكون، بعد ذلك خلقاً آخر حياً ذا سمع وبصر وعقل، كما قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} ففي خلق آدم وذريته آيات بينات على قدرة الخالق، سبحانه، وأنه على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم، وأنه - سبحانه - لا يعجزه شيء، ومن المشاهد المعلوم - أيضاً - البيضة، فإنها مخلوق جماد، ثم يجعل الله في ذلك الجماد الذي في داخلها - بالأسباب التي قدرها وعلمها عباده - طائراً حياً سميعاً بصيراً والشواهد، من مخلوقاته - عز وجل - على قدرته العظيمة وحكمته وعلمه الشامل، كثيرة لا تحصى، وبما ذكرناه يتضح - لطالب الحق - بطلان هذه الشبهة التي شبه بها الرئيس التونسي في الخطاب المنسوب(8/483)
إليه، ويعلم بذلك أنها من أبطل الباطل - نقلاً وعقلاً وحساً -، ومن الدلائل القطعية - أيضاً - على بطلانها أن الله، سبحانه، قد خلق السماوات والأرض، وخلق جميع المخلوقات، الجامدة والمتحركة، بقدرته العظيمة وذلك أعظم وأكبر وأعجب من جعل عصا موسى حية تسعى، كما قال الله سبحانه: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} ، وقال سبحانه: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} ، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وأما قصة أهل الكهف فليس فيها - بحمد الله - ما تحيله العقول، بل أمرها أسهل وأيسر من قصة العصا، والله - سبحانه - قد أرانا شاهداً لها في أنفسنا وذلك بما منّ به على العباد من النوم الذي قدره عليهم وجعله رحمة لهم لما يترتب عليه من إجمامهم من التعب، واستعادة قواهم بعد الكلال والمشقة وضعف القوى، وجعل ذلك من آياته الدالة على قدرته العظيمة، وكمال إحسانه ولطفه بعباده، وجعله دليلاً على الحياة، بعد الموت، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ(8/484)
بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} ، وقال - عز وجل -: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ، وقال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وقد أوضح فيها سبحانه أن النوم وفاة ونعمة ورحمة وآية باهرة على قدرته العظيمة، فالذي قدر على ذلك وجعل ذلك نعمة عامة ورحمة لجميع عباده، في ليلهم ونهارهم، عند الحاجة إليه، وجعله دليلا على البعث والنشور والحياة بعد الموت، هو الذي قدر على أهل الكهف النومة الطويلة، لحِكمٍ كثيرة، وأسرار عظيمة، قد بيّن بعضها في كتابه العزيز حيث قال - سبحانه - في سورة الكهف: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً} إلى قوله سبحانه: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} ، فذكر سبحانه، في هذه الآية أن من الحكمة في إيوائهم إلى الكهف أن ينشر لهم من رحمته(8/485)
ويهيئ لهم من أمرهم مرفقاً، لمّا اعتزلوا قومهم وهجروهم لله بسبب شركهم وكفرهم، ثم قال - عز وجل - بعد آيات: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} الآية، فأبان - سبحانه في هذه الآية - أن في قصة أهل الكهف وإعثار الناس عليهم، إقامة الحجة على صدق وعد الله بالبعث، والنشور وقيام الساعة، وأن الذي يحيي النائم، بعد نومه الطويل ووفاته بالنوم، وهو الذي يحيي العباد بعد موتهم وتفرق أوصالهم، ومعلوم أن البعث والنشور قد أخبر به جميع الأنبياء، ودل عليه كتاب الله في مواضع كثيرة، وأجمع عليه المسلمون وغيرهم، ممن آمن بالرسل الماضين، فالذي يقدر على إحياء الموتى ومجازاتهم بأعمالهم هو القادر، سبحانه، على إنامة الأحياء ثم بعثهم، من باب أولى، فكل واحدة من الوفاتين - وفاة النوم، ووفاة الموت - دليل على الأخرى، وقد بين الله، سبحانه، في سورة البقرة إحياءه الموتى، في الدنيا قبل الآخرة، في خمسة مواضع ليقيم الحجة على المنكرين للبعث والنشور، وليوضح لهم - سبحانه - أنه القادر على إحياء الموتى في الدنيا والآخرة.
الموضع الأول: قوله سبحانه: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .(8/486)
الموضع الثاني: قوله سبحانه: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، والمعنى: أن الله سبحانه، أمرهم بضرب القتيل الذي اختلفوا في قاتله، ببعض البقرة التي أمر بنو إسرائيل بذبحها، فضربوه بجزء منها، فرد الله عليه روحه فتكلم وأخبرهم بقاتله، وبين - سبحانه - أن في هذه القصة دليلا على إحيائه الموتى لذوي العقول.
الموضع الثالث: قوله سبحانه: {ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} .
الموضع الرابع: قوله سبحانه: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} الآية..(8/487)
الموضع الخامس: قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، ففي هذا المواضع الخمسة، من كتاب الله، بيانه سبحانه لعباده إحياءه الموتى قبل يوم القيامة، فالذي قدر على ذلك هو القادر على إطالة مدة النائم ما شاء، سبحانه، من الوقت ثم بعثه متى شاء من باب أولى وأحرى، لأن إطالة النوم ثم بعث النائم من نومه أسهل بكثير من إحياء الموتى بعد انقطاع مادة الحياة منهم ومصيرهم جماداً لا إحساس فيه، كما أن ذلك أسهل وأيسر - أيضا - من إحياء الموتى يوم القيامة بعد تفرق أوصالهم ومصيرهم رفاتاً وتراباً وقد
دلت الدلائل القطعية، والكتب السماوية، والعقول الصحيحة على البعث، والنشور، كما جاءت به الرسل ونطق به الرسل ونطق به أفضل الكتب وأفضل الرسل، وأجمع عليه المسلمون، فكيف يبقى - بعد ذلك - شبهة لمن لديه أدنى عقل في قصة أهل الكهف، وقدرة الله- سبحانه- على ما أخبر به عنهم، فنسأل الله العافية من زيغ القلوب، والضلال بعد الهدى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..(8/488)
وأما الرابع والخامس من المنكرات الواقعة في الخطاب المنسوب إلى الرئيس أبي رقيبه - حسب ما ذكرته صحيفة "الصباح"التونسية في عددها الصادر في 20/3/1974م - فهما اعتراضه على إعطاء الأنثى، في الميراث، نصف ما للذكر، واعتراضه على تعدد النساء وزعمه أن إعطاء المرأة - في الميراث - مثل نصف الذكر نقص يجب تداركه، وأن الواجب - في هذا العصر - مساواة المرأة للذكر في الميراث، كما ساوته في المدرسة والمعمل والفلاحة والشرطة، وذكر أنه ليس من المنطق - في هذا العصر - أن يفضل الذكر على الأنثى، وزعم أن هذا المبدأ، وهو التفضيل، يجد ما يبرره عندما يكون الرجل قواما على المرأة، حين كانت المرأة في مستوى اجتماعي لا يسمح لها بمساواة الذكر، حين كانت تدفن حية وتحتقر، أما اليوم فقد اقتحمت ميدان العمل، وشاركت الرجال في ذلك، وذكر أن علينا أن نتوخى طريق الاجتهاد، في تحليلنا لهذه المسألة، وأن نبادر بتطوير الأحكام التشريعية، بحسب ما يقتضيه تطوّر المجتمع، وقد سبق لنا أن حجرنا تعدد الزوجات، والاجتهاد في مفهوم الآية الكريمة، وذكر أن من حق الحكام - بوصفهم أمراء المؤمنين - أن يطوروا الأحكام بحسب تطور الشعب وتطور مفهوم العدل ونمط الحياة. انتهى المقصود من كلامه الذي نشرته صحيفة "الصباح"التونسية، ولم تشر إليه صحيفة "الشهاب"اللبنانية - فيما نقلته من الخطاب المذكور، وفي هذا التصريح الخطير أنواع من الكفر والضلال منها اتهامه الله، سبحانه، في حكمه ودعوته الصريحة للحكام إلى أن يتلاعبوا بأحكام الشريعة، حسب عقولهم، واجتهادهم، وتطور الشعوب، وأساليب الحياة في نظرهم، ولا شك أن هذا من أبطل الباطل، وفيه تشبه باليهود والنصارى في تلاعبهم بشرائع أنبيائهم وافترائهم على الله، سبحانه، ما لم يشرعه ونسبتهم إلى أحكامه – سبحانه - ما ليس منها، ومقتضى ما ذكره هذا الرجل أن الله، سبحانه، لم يعلم ما تنتهي إليه الشعوب في آخر الزمان وما ستصل إليه(8/489)
مجتمعاتهم من التطور، فلهذا دعا الحكام إلى أن يبادروا إلى تطوير الأحكام، ومن المعلوم - بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة وإجماع الأمة - أن الله سبحانه يعلم ما كان وما سيكون، ويعلم أحوال عباده، في ماضيهم وفي حاضرهم، وقت التنزيل، وفيما سيصلون إليه في المستقبل، كما قال - عز وجل -: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} وقال سبحانه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} ، كما أن من المعلوم - أيضا - بالنص والإجماع - أن الله، سبحانه، حكيم عليم، وأنه الرحمن الرحيم لا يظلم ولا يجور، بل هو الحكيم العليم بأحوال عباده، واللطيف بهم، وقد شرع لهم من الأحكام ما فيه صلاحهم ورحمتهم وإقامة العدل بينهم، في المواريث وغيرها، فهو سبحانه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وهو العالم بأحوال عباده وما يصلحهم في آخر الزمان، كما أنه العالم - سبحانه - بما يصلحهم في وقت التشريع، ومن زعم خلاف ذلك فقد اتهم الله في حكمته وعلمه، ولو أراد، سبحانه، أن يقوم الحكام أو العلماء بتطوير الأحكام، في وقت من الأوقات، لبين ذلك لعباده في كتابه أو على لسان رسوله - عليه الصلاة والسلام - فلمّا لم يقع شيء من ذلك علم أن ما شرعه من الأحكام يجب الأخذ به والسير عليه والحكم به في وقت التشريع وفيما يأتي من الزمان إلى قيام الساعة، كيف وقد بين الله في كتابه أن الواجب اتباع ما أنزل والاستمساك به، والحكم بين الناس بذلك، والحذر من الخروج عنه، فقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} وقال سبحانه: {فَاسْتَمْسِكْ(8/490)
بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} ، وقال تعالى - يخاطب نبيه عليه الصلاة والسلام-: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .(8/491)
أوجب سبحانه، في هذه الآيات الكريمات الحكم بما أنزل، والحذر من مخالفته، كما حذر، سبحانه، من متابعة أهواء الناس في خلاف الحق وأخبر أن حكمه هو أحسن الأحكام، وأنه لا حكم أحسن منه، وبين أن ما خالف حكمه فهو من حكم الجاهلية، وبين في آية أخرى أن ما خالف حكمه فهو حكم الطاغوت، كما في قوله - عز وجل -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} ففي هذا أعظم بيان لمن يؤمن بالله واليوم الآخر، أن كل ما خالف ما أنزل الله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - من الأحكام فهو من حكم الطاغوت، ومن عمل المنافقين، وأنه في غاية البعد عن الهدى، وحكم - سبحانه - في آيات أخرى - على أن من لم يحكم بما أنزل على نبيه - صلى الله عليه سلم - فهو كافر ظالم فاسق، وأخبر تعالى - في موضع آخر من كتابه - أنه ليس لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، فقال عز وجل - في سورة الأحزاب: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} ، فهل يجوز-بعد هذا البيان العظيم والتحذير الشديد-لحاكم أو عالم أو غيرهم أن يخالف ما أنزل الله وحكم به في المواريث أو غيرها، وهل يجوز له أن يدعو الحكام إلى تطوير الأحكام باجتهادهم وآرائهم كلما تطورت الشعوب والمجتمعات وهل هذا إلا الكفر والضلال والاعتراض على الله، سبحانه، واتهامه(8/492)
في حكمه، والخروج عن شريعته والتلاعب بدينه.
ما أشنع هذا القول، وما اشدّ بعده عن الحق، وما أعظم كفر من استجازه أو استحسنه، أو دعا إليه، ثم يقال - أيضا -لهذا الرجل وأمثاله قد أجمع علماء المسلمين - من عهد الصحابة، رضي الله عنهم، إلى يومنا هذا - على أن الاجتهاد محله المسائل الفرعية التي لا نص فيها، أما العقيدة والأحكام التي فيها نص صريح، من الكتاب، أو السنة الصحيحة، فليست محلاً للاجتهاد، بل الواجب على الجميع الأخذ بالنص، وترك ما خالفه، وقد نص العلماء على ذلك في كل مذهب من المذاهب المتبعة، ثم الاجتهاد - حيث جاز - إنما يكون من أهل العلم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - الذين لهم قدم راسخ في معرفة أصول الأدلة الشرعية وأصول الفقه، والحديث، ولهم باع واسع في معرفة اللغة العربية، وليس ذلك لغيرهم من الحكام، لأنه ليس كل حاكم يكون عالماً يصحّ منه الاجتهاد، كما أنه ليس كل حاكم - سواء كان ملكا أو رئيس جمهورية - يسمى أمير المؤمنين، وإنما أمير المؤمنين من يحكم بينهم بشرع الله ويلزمهم به، ويمنعهم من مخالفته، هذا هو المعلوم بين علماء الإسلام والمعروف بينهم فليعلم الرئيس التونسي هذا الأمر على حقيقته، وليبادر إلى التوبة إلى الله مما نسب إليه، وليرجع إلى طريق الهدى فالرجوع إلى الحق شرف وفضيلة، بل واجب وفريضة، أما التمادي في الباطل فهو ذل وهوان واستكبار عن الحق وسير في ركاب الشيطان، والله -سبحانه- يتوب على التائبين، ويغفر زلات المذنبين، إذا صدقوا في التوبة إليه، كما قال الله سبحانه: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَف} الآية.. وقال في حق النصارى: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه: "الإسلام يهدم ما كان قبله، والتوبة تهدم ما كان قبلها"والله المستعان وهو(8/493)
سبحانه، ولي التوفيق والهادي إلى سواء السبيل.
تنبه عام:
قد علم بالأدلة الكثيرة - من الكتاب والسنة وبإجماع العلماء - أن الله- سبحانه- حكيم عليم في كل ما شرعه لعباده، كما أنه حكيم عليم في كل ما قضاه وقدّره عليهم، ولذلك أكثر - سبحانه - في كتابه العزيز من ذكر حكمته وعلمه ليعلم العقلاء من عباده أنه- سبحانه- عليم حكيم في كل ما قدّر وشرع، فتطمئن قلوبهم للإيمان بذلك وتنشرح صدورهم للعمل بشريعته وحكمه، ولهذا لما ذكر -سبحانه –ميراث الأولاد والأبوين،وتفضيل الذكر على الأنثى- ختم ذلك بقوله سبحانه {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} فأوضح- سبحانه- في هذه الآية، أنه العالم بأحوال عباده، أما العباد فلا يدرون أي أقاربهم أقرب نفعاً لهم، وبيّن سبحانه أن تفصيل هذه المواريث صدر عن علم وحكمة، لا عن جهل وعبث، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ثم ختم ما ذكره، من ميراث الزوجين وتفضيل الزوج على الزوجة وما ذكره من ميراث الأخوة من الأم والمساواة بينهم، بقوله سبحانه: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} ، كما ختم تفضيله الذكر على الأنثى، في ميراث الأخوة للأبوين أو لأب بالعلم، فقال: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فبيّن بذلك أنه فصّل هذه المواريث عن علم بأحوال عباده وما هو لائق بهم وأنه حليم لا يعاجل من عصى بالعقوبة لعله يندم ويتوب، ثم أخبر - عز وجل - بعدما ذكر أحكام المواريث، أن ذلك من حدوده، وتوعد من تعداها فقال سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ(8/494)
فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} ثم يقال، لهذا الرجل وأمثاله، إن مساواة المرأة بالرجل، في كل شيء، لا يقره شرع ولا عقل صحيح، لأن الله - سبحانه - قد فاوت بينهما، في الخلقة والعقل وفي أحكام كثيرة، وجعل الرجل أفضل منها وقواما عليها لكونه يتحمل من المشاق والأعمال ما لا تتحمله المرأة –غالبا-،ولأن عقله أكمل من عقلها – غالبا- ولذلك جعله الله -سبحانه- قائماً عليها حتى يصونها ويحفظها مما يضرها ويدنس عرضها وجعل شهادة المرأتين تعدل شهادة الرجل، لكونه أكمل عقلاً وحفظاً منها، وخصها- سبحانه- بأن تكون حرثاً للرجل ومحلّ الحمل، والولادة والرضاع، فهي - في هذه الأحوال - مطالبة بأمور لا يطالب بها الرجل، وهي - في نفس الوقت - تعجز عن الأعمال التي يقوم بها الرجل، لأن حملها وولادتها وما أوجب الله عليها من العناية بأطفالها وتربيتهم وإرضاعهم، عند ضرورتهم إلى إرضاعها لهم، يمنعها من الكثير من الأعمال، ولأن الرجل في حاجة شديدة إلى بقاء المرأة في البيت لتربية أطفالها والعناية بشؤون بيتها وإعداد ما يحتاجه زوجها - في الغالب، وليس كل أحد يجد من يقوم مقام زوجته، في العناية بهذه الشؤون، ثم المرأة هي موضع طمع الرجال للاستمتاع بها ويقف سداً منيعاً دون عبث السفهاء بها، أمّا ما ذكره من اختلاطها بالرجال، في المدرسة والعمل والشرطة وغير ذلك، فليس أمراً جائزاً على إطلاقه، بل فيه تفصيل، وهو أنه لا يجوز لها ذلك إلا في حدود الشريعة حيث تأمن على نفسها وعرضها وتتمكن من الحجاب الشرعي وحيث تسلم من خلوة الرجل الأجنبي بها لقول النبي صلى الله عليه وسلم - "ماخلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما" ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم"، ولأن(8/495)
الله سبحانه قد جعل الرجال قوّامين على النساء بما فضلهم الله به عليهن في الخَلق والخُلق والعقل - كما تقدم - ولما ينفقونه من الأموال عليهن، كما قال سبحانه: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} الآية، فأطلق - سبحانه - في هذه الآية قيام الرجال على النساء، ولم يخص ذلك بوقت دون وقت، وهو سبحانه يعلم ما يكون في آخر الزمان، فلو كان الحكم يتغير لبّين ذلك سبحانه، ولم يهمله أو لبيّنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سنته فلمّا لم يقع شيء من ذلك علم أن قيام الرجال على النساء حكم مستمر إلى يوم القيامة، وقد علم كل من له أدنى بصيرة بأحوال العالم الحاضر، ما قد ترتب على اختلاط المرأة بالرجل، في المدرسة والمعمل وغيرهما، من الفساد الكبير، والشر العظيم، والعواقب الوخيمة، وكل ذلك يبيّن فضل ما جاءت به الشريعة، وأن الواجب هو الالتزام بأحكامها في جميع الأحوال، في كل زمان ومكان، والحذر من خلافها، ومما ينبغي أن يعلم أن هذا التفضيل إنما هو للجنس على الجنس، ولا يلزم من ذلك أن يكون كل فرد من أفراد الرجال أفضل من كل واحدة من النساء، بل قد يكون بعض النساء أفضل من بعض الرجال من وجوه كثيرة - كما هو معلوم من النقل والواقع في كل زمن - فعائشة وخديجة وحفصة، وغيرهن من أمهات المؤمنين - رضي الله عنهن جميعا - أفضل من كثير من الرجال، وهكذا في كل زمان يوجد في النساء من تفوق بعض الرجال، في علمها وعقلها ودينها، ولكن ذلك كله لا يلزم منه مساواة المرأة للرجل في كل شيء، كما لا يلزم منه الدعوة إلى مساواتها في الميراث والأحكام، وقد سبق فيما ذكرنا من الأدلة عند الكلام على قصة عصا موسى وأهل الكهف، أن الواجب على جميع المكلفين هو الإيمان بالمنزّل، والخضوع له والتصديق به والعمل بمقتضاه، وأنه لا يجوز رده أو بعضه، أو التكذيب بشيء منه، لأن الله(8/496)
- سبحانه- هو أصدق قيلا من خلقه، وهو العالم بأحوال عباده وما يصلحهم، ولأنه سبحانه أمر باتباع المنزّل ولم يجعل لعباده الخيرة في ردّ شيء منه، ولأن رسوله - صلى الله عليه وسلم - هو أصدق الخلق وأكملهم عقلاً وأزكاهم نفساً، وهو الأمين على وحيه- سبحانه- وقد أخبر - عز وجل - أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وقد بلّغ كلام ربه كما أنزل، وبلّغ شريعته كما أمر بذلك فلا يجوز لأحد، بعد ذلك، مخالفة المنزّل أو تغيير المشروع برأي أو اجتهاد، وقد أجمع العلماء كافة على أنه لا يجوز لأحد التكذيب بشيء مما أنزل الله أو دفعه، وعدم الرضى به أو العدول عمّا شرع، وذكروا أن ذلك كفر صريح وردة عن الإسلام، لما سبق من الأدلة، ولقوله سبحانه في هذا المعنى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} ، وقد سبق ما نقله الإمام الكبير إسحاق بن راهويه والقاضي عياض بن موسى، وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمة الله عليهم - من إجماع العلماء على ما ذكرنا فراجعه تجد ما يشفي ويكفي..(8/497)
وأما اعتراضه على تعدد الزوجات وحجره على الشعب التونسي أن يجمع بين زوجتين فأكثر، وزعمه أنه فعل ذلك بالاجتهاد في مفهوم قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} الآية.. فجوابه أن يقال: هذا من الغلط الكبير، والجهل العظيم، لأنه ليس لأحد من الناس أن يفسر كتاب الله بما يخالف ما فسره به رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - أو فسره به أصحابه - رضي الله عنهم - أو أجمع عليه المسلمون، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو أعلم الناس بتفسير كتاب الله وأنصحهم لله ولعباده، وقد أباح الجمع لنفسه ولأمته، وأمر بالعدل بين النساء وحذّر من الميل، وهكذا أصحابه - رضي الله عنهم - هم أعلم الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بتفسير كتاب الله - عز وجل - كما أنهم أعلم الناس بسنته، وهم أنصح الناس للناس، بعد الأنبياء، ولم يقل أحد منهم بتحريم الجمع، فكيف يجوز - بعد ذلك - لحاكم أو عالم أن يقدم على خلافهم، وأن يقول على الله خلاف ما علموه، من شرع الله وأجمع عليه العلماء بعدهم، هذا من أبطل الباطل، ومن أقبح الكفر والضلال، ومن أعظم الجرأة على كتاب الله وعلى شريعته بغير حق، ثم إن من تأمل ما شرعه الله- سبحانه- من إباحة التعدد علم أن في ذلك مصالح كثيرة، للرجال والنساء وللمجتمع نفسه - كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله - وعلم - أيضا - أن ذلك من محاسن الشريعة الإسلامية التي بعث الله بها رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة وجعلها مشتملة على ما فيه صلاحهم وسعادتهم، في المعاش والمعاد، واتضح له، من ذلك، - أيضا - أن إباحة التعدد من كمال إحسان الله لعباده ولطفه بهم، وله فيه الحكمة البالغة، لمن تدبر هذا المقام وعقل عن الله شرعه وأحكامه، وما ذاك إلا لأن المرأة عرضة لأشياء كثيرة، منها(8/498)
المرض والعقم، وغير ذلك، فلو حرّم التعدد لكان الزوج بين أمرين، إذا كانت زوجته عاقرا أو كبيرة السن أو قد طال بها المرض وهو في حاجة إلى من يعفه ويصونه ويعينه على حاجاته، أو في حاجة إلى الولد أو غير ذلك، فإما أن يطلقها - وذلك مضرة عليه وعليها - وإما أن يبقيها في عصمته فيحصل له من الضرر والتعب الكثير، والتعرض لما حرّم الله من الفاحشة وغير ذلك من الأمور التي لا تخفى على المتأمل، وكلا الأمرين شرّ لا يرضى بهما عاقل، وقد يكون الرجل - أيضاً - لا تعفّه المرأة الواحدة فيحتاج إلى ثانية أو أكثر ليعفّ نفسه عمّا حرّم الله، وقد تكون المرأة التي لديه قليلة النسل، وإن لم تكن عاقراً، فيحتاج إلى زوجة ثانية أو أكثر لطلب تكثير النسل الذي حثّ عليه النّبي - صلى الله عليه وسلم - ورغّب فيه الأمة، وقد تكون المرأة عاجزة عن الكسب وليس لها من يقوم عليها ويصونها فتحتاج إلى زوج يقوم عليها ويعفّها، إلى غير ذلك من المصالح العظيمة للرجل والمرأة وللمجتمع نفسه، في تعدد الزوجات، وقد تكثر النساء بسبب الحرب أو غيرها فيقل من يقوم عليهن فيحتجن إلى زوج يعفهن ويرعى مصالحهن ويحصل لهن بسببه، الولد الشرعي، وقد علمت - مما ذكرنا سابقا - أن الله- سبحانه- هو الحكيم العليم في كل ما شرعه لعباده وأباحه لهم، كما أنه الحكيم العليم في كل ما قضاه وقدره فلا يجوز لأحد - كائنا من كان - أن يعترض عليه في حكمه أو يتهمه في شرعه، كما أنه لا يجوز لأحد أن يزعم أن غير حكم الله أحسن من حكمه، أو أن غير هدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحسن من هديه، كما قال الله - عز وجل -: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبه: "أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة" والآيات(8/499)
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وقد كان بعض أهل الجاهلية يجمعون بين العدد الكثير من النساء فجاء الإسلام وقصرهم على أربع، كما في قصة غيلان بن سلمة - رضي الله عنه - فإنه أسلم وتحته عشر نسوة، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يختار منهن أربعا ويفارق سائرهن، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أن الله- سبحانه- أباح لنبِيَيْهِ الكريمين، داود وسليمان، -عليهما السلام - أكثر من أربع، فجاءت الشريعة الإسلامية المحمدية الكاملة العامة لجميع البشر على يد أفضل الخلق وخاتم الرسل - عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام - بأمر وسط يجمع المصالح كلها وهو إباحة الجمع بين أربع من النساء، ومنع ما زاد على ذلك، وقد أجمع العلماء - رحمهم الله - على إباحة الجمع بين أربع - كما تقدم - وأجمعوا - أيضا - على تحريم ما زاد على ذلك، وقد شذ عنهم، في جواز الزيادة على ذلك، من لا يعتد بخلافه ما عدا النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الله خصّه بخصائص، منها جواز الجمع بين تسع نسوة، لأسباب وحكم كثيرة ليس هذا موضع ذكرها، ومن تأمل حال من أنكر التعدد، كالنصارى وأشباههم، علم - من واقع الكثير منهم - أنهم وقعوا فيما حرم الله من الزنا، واتخذوا الخدينات الكثيرات فاعتاضوا الحرام عن الحلال، والخبيث عن الطيب، وشابهوا من قال الله فيهم: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} ومعلوم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو أعلم الناس بتفسير كتاب الله، وقد فسر قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} ، المراد من ذل إباحة الجمع بين أربع من النساء فأقل دون ما زاد على ذلك، وهكذا(8/500)
أصحابه، رضي الله عنهم - لم يحفظ أن أحدا منهم أنكر الجمع بين أربع أو نكح أكثر من أربع، وهو أعلم الناس - بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتفسير كتاب الله، كما أنهم أعلم الناس بسنته - عليه الصلاة والسلام - كما سبق بيانه، وفي ذلك كفاية ومقنع لطالب الحق، والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به.
وأما المنكر السادس، من المنكرات الستة التي سبق ذكرها، وهو زعمه أن المسلمين في إكثارهم من الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ألهّوهُ بذلك، فجوابه أن يقال: إن هذا ليس بتأليه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعبادة له، بل ذلك عبادة لله وحده وامتثال لأمره عزوجل - حيث قال في سورة الأحزاب: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فقد أخبر- سبحانه- أنه وملائكته يصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أمر المؤمنين بالصلاة والسلام عليه، فدل ذلك على شرعية الإكثار من الصلاة والسلام عليه - صلى الله عليه وسلم - وأن ذلك من أفضل القربات، وقد أجمع علماء الإسلام على ذلك وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بذلك ورغب فيه فقال:"إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة" وفي الصحيحين - واللفظ للبخاري -عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - أن الصحابة - رضي الله عنهم - قالوا: يا رسول الله أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟ فقال: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد"،(9/1)
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، والصلاة من الله سبحانه، معناها: الثناء على عبده في الملأ الأعلى بذكر صفاته الحميدة، وأعماله الجليلة، ومن العباد طلبهم ذلك من الله سبحانه، ويراد بالصلاة - أيضا - الثناء من الله سبحانه على عبده ورحمته إياه، كما في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} ، وهذه المسألة من أوضح المسائل لصغار طلبة العلم، وعامة المسلمين، فكيف خفي هذا على زعيم كبير؟ فالله المستعان.(9/2)
فإن قيل: إذا كان الإكثار من الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس تأليها له، فما هو التأليه للرسول - صلى الله عليه وسلم - والعبادة له؟ قلنا: إن التأليه للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولكثير ممن يسمون بالأولياء وغيره، واقع من كثير من الجهال، ومنتشر في أنحاء الأرض، يعلم ذلك من خبر واقع الناس، وعرف دين الله الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه، وخلق الثقلين من أجله،وهذا التأليه - الذي وقع من كثير من الجهال - هو صرف بعض العبادة للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو لغيره من المخلوقين، كدعائه والاستغاثة به وطلبه المدد والشفاء للمرضى، والنصر على الأعداء، ونحو ذلك من أنواع العبادة، والله سبحانه أوجب على عباده أن يخصوه بالعبادة، ونهاهم عن الشرك به، وبعث الرسل وأنزل الكتب لبيانها وبيان ما يضادها، كما قال - عز وجل - {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} ، وقال- سبحانه-: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَنْ لا تَعْبُدُوا إَِّلا اللَّهَ} الآية.. وقال - عز وجل -: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، فالله سبحانه، هو الذي يشفي المرضى، وينصر على الأعداء، ويكشف الكروب، يجيب المضطر، وينزل المدد على عباده، - إذا لجؤوا إليه واستغاثوا به - كما قال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، وقال سبحانه: {إِنْ تَنْصُرُوا(9/3)
اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، وقال - عز وجل -: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} الآية، وقال سبحانه: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} ، وقد عرف المشركون ذلك في جاهليتهم، فكانوا يشركون في حال الرخاء، وأما في حال الشدائد فيخلصون لله العبادة، كما قال - عز وجل -: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} ، كما اعترفوا - أيضا - أن الله- سبحانه- هو الخالق الرازق، النافع، الضار، المدبر لأمور العباد، وأنهم ما عبدوا غيره - من الأنبياء، والأولياء والملائكة والجن والأصنام والأوثان - إلا ليشفعوا لهم عند الله وليقربوهم لديه زلفى، كما ذكر الله عنهم ذلك في كتابه المبين حيث قال- عز وجل- في سورة يونس: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} الآية، وقال في سورة الزمر: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} ففي هذه الآيات وغيرها من الآيات الكثيرة، الدلالة الصريحة على أن الله سبحانه هو الإله الحق، المستحق للعبادة، وأنه لا يجوز تأليه غيره ولا صرف شيء من ذلك لسواه، كما قال -عز وجل -: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إَلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وقال(9/4)
سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} ، وقد أخبر سبحانه، في غير موضع من كتابه، أنه حرّم الشرك على عباده وأنه لا يغفره لمن لقيه به، كما أخبر أن صرف شيء من العبادة لغيره شرك به وعبادة لسواه كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} ، وقال - عز وجل - في سورة المائدة: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} ، وقال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} ، فبيّن سبحانه في هذه الآية، أن دعاءهم غيره شرك به - عز وجل - كما أوضح - سبحانه - أن ذلك من الكفر الأكبر فقال - عز وجل -: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ، وأخبر - عز وجل - أنه لا أضل ممن دعى غير الله وأن المدعوين من دونه - من الملائكة والأنبياء وغيرهم - يتبرءون من عابديهم وداعيهم، وأنهم غافلون عن ذلك لا شعور لهم به، فقال سبحانه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ(9/5)
الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} وقال سبحانه: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} والآيات في هذا المعنى كثيرة معلومة، وفيما ذكرناه كفاية ودلالة صريحة على أن العبادة حق الله وحده وأنه لا يجوز صرف شيء منها لغيره- سبحانه- فالواجب على أهل العلم أن يبينوا ذلك للناس وأن يشرحوا لهم حقيقة التوحيد(9/6)
الذي بعث الله به رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - ومن قبله من الرسل، وأن يعلِّموهم ما جهلوا من ذلك، وأن يحذّروهم من الشرك بالله - عز وجل -، وعلى الحكام أن يُنفّذوا أمر الله، وسنة رسوله، - صلى الله عليه وسلم - مستعينين بعلماء الحق على معرفة ما جهلوا من كتاب الله، أو سنة رسوله - عليه الصلاة والسلام-، وفي ذلك عزهم وشرفهم، ونجاتهم، في الدنيا والآخرة، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"، وقال - عليه الصلاة والسلام - "خيركم من تعلّم القرآن وعلمه"، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله"، وفي الأثر المشهور عن عثمان - رضي الله عنه - وهو مروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أيضا -: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، وقال الإمام مالك - رحمه الله -:"لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها"، وهذه الكلمة العظيمة هي قول جميع أهل العلم، والذي صلح به الأولون وصاروا به قادة الناس وأئمة الهدى وحكام الأرض، هو اتباع كتاب الله وسنة رسوله - عليه الصلاة والسلام - ورد ما تنازعوا فيه إليهما، لا إلى آراء الناس واجتهاداتهم، ولن يصلح آخرهم إلا بهذا الأمر، الذي صلح به أولهم، فنسأل الله أن يوفق أئمة المسلمين، وعلماءهم لذلك، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يصلح عامة المسلمين ويمن عليهم بالفقه في الدين، ويولي عليهم خيارهم إنه جواد كريم.
ماذا يجب على رؤساء الدول الإسلامية إزاء ما نسب إلى الرئيس أبي رقيبه؟؟(9/7)
لا شك أن ما نسب إلى الرئيس أبي رقيبه، من القول بتناقض القرآن وإنكار عصا موسى وقصة أهل الكهف، والتنقص للرسول - صلى الله عليه وسلم - ونسبته إلى الكذب على الله- سبحانه- أنواع من الكفر الصريح والردة عن الإسلام، وهكذا دعوته الحكام إلى تطوير الأحكام وزعمه أن إعطاء الأنثى - في الميراث - نصف الذكر، نقص تجب إزالته، لأنه ليس منطقيا ولا يناسب تطور المجتمع، وهكذا حجره تعدد النساء، لكونه لا يناسب تطور المجتمع، كل ذلك من الكفر الصريح والاعتراض على الله- سبحانه- والاتهام له في حكمه - كما تقدم بيان ذلك - فالواجب - على جميع رؤساء الدول الإسلامية - قطع العلاقات السياسية معه حتى يعلن التوبة الصريحة مما نسب إليه، أو التكذيب لذلك بطرق الإعلام الرسمية، حتى يعلم الناس حقيقة ما هو عليه، وحتى يعاملوه بما يجب أن يعامل به، وحتى لا يتأسى به غيره، من الحكام أو غيرهم، لأن ما نسب إليه من أنكر المنكرات التي يجب إنكارها على من وقعت منه - حسب القدرة -. ولا شك أن قطع العلاقات معه من إنكار المنكر المستطاع، من الدول الإسلامية، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"، وقال - عليه الصلاة والسلام-: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"، وأبلغ من ذلك وأشد في التحذير من السكون على المنكر قول الله - عز وجل -: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ(9/8)
مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ، والله المسؤول سبحانه، أن يهدينا وسائر المسلمين لما فيه صلاح الدين والدنيا، وأن يوفق حكام المسلمين للتمسك بكتابه، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، والحكم بشريعته، والتحاكم إليها، والإنكار على من خالفها، وأن يجمع كلمتهم على الهدى إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على عبده ورسوله وخيرته، من خلقه، نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين…
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(9/9)
يا راحلا فَرِحت به "المعلا"
في رثاء العلامة الفقيد الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
بقلم: الأستاذ محمد عبد الله
نعى الهدى فعلا القلوب سواد
وتفطرت لمصابها الأكباد
ألمٌ، يعذّب كلّ قلب في الورى
وأسى مرارة كربه تزداد
كيف الهنا والنفس يملؤها الأسى
ومن الأسى مِلء الجفون سهاد
خطب يجل عن البكا وفجيعة
هدت رواسي الأرض أولتكاد
كل الورى في مأتم لما نعى النا
عي الأمين نواطق وجماد
بكت المثاني ترجمان بيانها
حاميمها تبكي عليه وصاد
وكذا المعاني كالمثان ثوا كلا
أماتها تبكي وتبكي (الضاد) .
هذا (البيان) وهذه (أضواؤه) .
عزت لغير الشيخ لا تنقاد
قل للذي يرتاضها لا (تحسبن) .
أن البيان صحيفة ومداد
عجبوا ولا عجب فتلك حقيقة
إن البيان بصيرة وفؤاد
يا مبدعا معنى البيان ومبديا
عجباً ومن ختمت به الأمجاد.
إن المعاني بعدما ألفتها
وتآلفت ليصيدها المصطاد.
يخشى بفقدك أن تعود شواردا
بدداً فما يدرون كيف تصاد
يا شيخنا بل يا ضياء قلوبنا.
كنت الحياة فشق منك بعاد
نفس يشع النور في جنباتها
ويفيض منها العلم والإرشاد
وشفى الإله بها القلوب من العمى
فالحق بادٍ والضلال يباد
عفت فما علقت من الدنيا وقد
خطبت فأغلى الخاطبون وزادوا
سلكت سبيل الصالحين لكي تثمر
ما بنوا للعالمين وشادوا.
بهدى الكتاب هدت فبان كم اهتدت
فسبيلها أبدا هدى ورشاد.
أدت رسالتها وعادت بالرضا
وكذا النفوس الراضيات تعاد
دفن الأمين أعزة لو أنهم
علموا النفوس فدا الأمين لجادوا
بدر أضاء جلا الحقيقة للورى
فبه استفاد ذوو الهدى وأفادوا.
ومنار فضل يهتدى بمناره
سعدت به الدنيا تقى وسداد.
أسفا على قمر هوى من أفقه(9/10)
ومنار فضل ألحدوه وعادوا.
شمس تغيب في الثرى وضياؤها.
لذوي النهى الآصال والأرآد.
فأجلت فكري عندها متسائلا
والأمر يبدو ماله إيراد.
أين الضحى بعد المغيب من الدجا
وإذا المغيب به الظلام يذاد.
والشمس شرط في النهار فلا يرى.
بعد المغيب نهارها المعتاد.
فإذا بها آيات حق أشرقت.
أنوارها فتبدد الإلحاد.
وإذا الحقيقة وهي تهتف بالورى.
علناً وفي أعماقنا إنشاد.
ما مات من تحيى القلوب بعلمه
وبه الهدى رغم الردى يزداد.
ترك الحقائق ليلها كنهارها.
ولها بآفاق النهى أبعاد.
لما بدت سحب الضلال وجللت.
أفق السماء وجلجل الأرعاد.
ألف الكرى تحت الثرى كي لا يرى
آيا تضام بباطل وتباد.
يا من كسا بالعلم طلاب العلا.
حللا بها نالوا الكمال وسادوا.
تبا لمن أعشى سناك قلوبهم.
لم أركسوا أولئك الحساد.
فتنوا لضعف في بصائرهم خفا
فيش لمثل سناك لم يعتادوا.
لما رأوك مسودا قالوا: انتهى
هو مينهم ما للعلوم نفاد.
فلئن نزعت وأنت لب العصر من
ألبابنا ولك القلوب مهاد.
ولئن تخطتك المنايا ملحدا
ميتا ولم يور الحياة زناد.
ما زال علمك بالحقائق باقيا
يحمي الشريعة ما طغى الإلحاد.
يبقى كما تبقى الحقيقة نفسها
مهما تظاهر حاسدوك وكادوا.
يا راحلا فرحت به (المعلا) كما.
لبس الحداد لفقده (أجياد) .
كم راغب حققت من رغباته
حتى ولو فوق المراد أرادوا
هبة الإله لأرضنا وحي تضا
ء به المنى وسراجنا الوقاد.
كنا بعزك في البلاد أعزة.
ولنا الصفاء وأنت والإسعاد.
واليوم عدت مشيعا لجوار من
بجواره للصالحين معاد
يا رب من أهديته ووهبته
للخلق أنت أخذت وهو رشاد.
عبد قضى فيك الحياة وكان مّـ
من زاده التقوى ونعم الزاد.
أعل المقام وعلى من درجاته(9/11)
يا ذا الوداد ينله منك وداد.
وابعث لنا رفقاً بنا خلفاً له
فالخلق محتاج وأنت جواد.
ثم الصلاة على النبي وآله.
والممسكين بهديه ما حادوا(9/12)
الشرك وآثاره على حياة الإنسان
بقلم: الشيخ أبي بكر جابر الجزائري المدرس بالجامعة
بعد حمد الله تعالى، والصلاة والسلام على نبيه محمد وآله وصحبه، والتابعين بإحسان.
نتناول دراسة هذا الموضوع بدون تمهيد أو تقديم.
نقول: (الشرك) : اسم مشتق من فعل شرك الثلاثي، وأشرك الرباعي، ويطلق على الكفر بالله تعالى ويطلق على النصيب من الشيء يقال بيع من دار فلان شرك أي حصة منها ونصيب. وفي التنزيل: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} (في قراءة نافع) أي نصيبا حيث أطاعا اللعين وسميا ولدهما كما اقترح عليهما: عبد الحارث (كلمة الحرث مما تسقط ألفها خطا) والشرك في اصطلاح أهل الكلام: اعتقاد المرء وجود مشاكل لله تعالى في الخلق، والرزق والتدبير، أو في النفع والضر، والعطاء والمنع وهذا يعرف بشرك الربوبية. وصرف بعض أنواع العبادة التي تعبد الله بها الناس من دعاء واستغاثة وذبح قربان ونذر وخوف ورجاء ومحبة وتوكل، وهذا يعرف بشرك العبادة أو الألوهية. وإطلاق بعض أسماء الله وتعالى وصفاته المختصة به- عز وجل -على مخلوق من مخلوقاته، أو الميل والإلحاد فيها بتأويلها أو تعطيلها، أو نفيها أوتشبيهها بصفات المحدثين، ويعرف هذا بشرك الأسماء والصفات.(9/13)
ويقابل لفظ الشرك: لفظ التوحيد كما يقابل لفظ الشرك ويضاده لفظ الموحد. ومن الناحية العلمية الإيجابية فإن الشرك من أعظم الذنوب وأخطرها على الإنسان وتكمن خطورته في أمرين. أولهما: أنه ذنب لا يغقر لمرتكبه إلا بالتوبة منه قبل موته بخلاف سائر الذنوب فإنها موضوعة تحت المشيئة الإلهية إن شاء الله غفرها للعبد وإن شاء عاقبه بها وواخذه عليها، دليل ذلك في قول الله تعالى من سورة النساء {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} كما أن صاحب هذا الذنب إذا لم يتب منه قبل موته يخلد في النار ولا يخرج منها كما يخرج الموحدون ودليله قوله تعالى، من سورة المائدة {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} ، وثانيهما: أنه يحبط الأعمال الصالحة التي يفعلها العبد قبل توبته منه ومهما كانت وذلك لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وقوله عز وجل: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .(9/14)
ولقد صدق من شبه الشرك بالحدث الناقض للطهارة، إذ الطهارة رافعة للحدث معتد بها صاحبها حتى إذا وجد الحدث أفسدها وبطلت فكذلك الشرك _ والعياذ بالله _ لا يزال العبد في عافية وخير حتى يأتي فعل الشرك أو اعتقاده أو قوله فإذا حصل منه ذلك كفر وفسد كل عمله وخسر خسرانا لا مزيد عليه، والشرك رافق الحياة الإنسانية منذ بدايتها؛ لأنه من عمل الشيطان،والشيطان لم يبرح عاملا على إغواء الإنسان وإضلاله منذ أن قال لربه جل جلاله وعظم سلطانه {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} ، غير أن الشرك تجلى بصورة واضحة كبيرة في الأمة التي بعث الله تعالى إليها عبده ورسوله نوحا عليه السلام حيث عرفت تلك الأمة الهالكة الشرك وأصرت عليه ودافعت عنه أو وقفت في وجه دعوة التوحيد تسعمائة سنة أو يزيد، وكان من أشهر شركائها مع الله ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر كما حكى القرآن الكريم عنهم ذلك في قوله: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} . وقد صح في الحديث أن هؤلاء الآلهة المذكورين كانوا رجالا صالحين فلما ماتوا بنوا على قبورهم وزاروهم وغلوا في زيارتهم حتى عبدوهم مع الله بالتقرب والتبرك مرة والاستشفاع بهم مرة أخرى.
كما هي الحال في كثير من بلاد المسلمين اليوم حيث عبدت الأضرحة والقباب والقبور، بالحلف بأصحابها والنذر لهم والذبح عند قبورهم وعلى أرواحهم والاستغاثة بهم والالتجاء إليهم وما إلى ذلك مما هو محض عبادة لا تنبغي إلا لله رب العالمين.(9/15)
وما أن أهلك الله تعالى المشركين من قوم نوح وأنجى جماعة التوحيد مع نوح عليه السلام وعمرت الأرض بعد حادثة الطوفان حتى عاد الشرك فظهر في قوم عاد فبعث الله إليهم عبده ورسوله هوداً عليه السلام فقال: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، فما كان منهم إلا أن قالوا {أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} - تصرفنا - وأهلكهم الله بشركهم وأنجى الموحدين مع هود وما إن تناسل أولئك الناجون وكثر عددهم حتى عاودهم الشرك وظهر في ثمود من ذريتهم فأرسل الله إليهم عبده ورسوله صالحاً فدعاهم إلى عبادة الله وحده وخلع ما يعبدون من دون الله عز وجل، وما كان منهم إلا أن قاوموا دعوته دفاعاً عن باطل الشرك وانتقم الله منهم وأنجى صالحا ومن معه من الموحدين وظهر الشرك في أرض كنعان والعراق فبعث الله تعالى إبراهيم خليله فقاوموه بأشد أنواع المقاومة حتى نصره الله وأهلك أعداءه وفي نفس الوقت كان الشرك يفتك بالبشرية في الصين والهند ومصر وفي كل مكان يوجد فيه بنو الإنسان والتعليل الصحيح لذلك هو عزم إبليس عدو الإنسان على إغواء الإنسان وإفساده وإضلاله حتى يهلك كما هلك هو، ويخلد في العذاب كما خلد هو، غير أن الله تعالى ما زال يبعث رسله إلى كل أمة ظهر فيها الشرك وعبد فيها غير الله حتى أنه لم تخل أمة من نذير لقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} .(9/16)
وما أن عمرت مكة المكرمة بجرهم أخوال إسماعيل بن إبراهيم حيث تركه إبراهيم بمكة مع والدته هاجر ونزل عليهما قوم من العرب وهم قبيلة جرهم وتزوج إسماعيل منهم وولد له وكثر أولاده وبعثه الله فيهم رسولا فعبدوا الله تعالى ووحدوه ولكن ما إن مات إسماعيل والصالحون من أولاده وأحفاده حتى عاد الشرك إلى العرب العدنانيين وغيرهم من القحطانيين في جزيرة العرب وأول ما عرفوا عبادة الأصنام والتماثيل كان من طريق عمرو بن لحي حيث حمل إليهم أصناما من أرض الشام فعبدوها تحت شعار التقرب بها إلى الله تعالى، والاستشفاع بها لدى الله عز وجل إذ قالوا {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، وقالوا {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} ، كما هو مبين في القرآن الكريم وبعث الله رحمته إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى عبادة الله وحده وخلع كل ما يعبد سواه وبعد صراع مرير وعراك طويل عرفه الناس أجمعون نصر الله دعوته ورسوله وعباده الموحدين وامتد ظل التوحيد الخالص فغمر أصقاعا شاسعة من المعمورة وعاش المسلمون في الشرق والغرب زمناً موحدين مخلصين لا كدر في قلوبهم ولا غبار على عقيدتهم.(9/17)
ثم في غفلة من العلماء، وإضطرابات في السياسة والحكم كر الشيطان على هذه الأمة ناقما عليها أشد نقمة فشرق في ديارها وغرّب وجال جولته فيها وصال وعاد بها إلى أسوأ من الجاهلية الأولى شركا ووثنية فعبدت الأشجار والأحجار، والأضرحة والقبور والقباب، والمزارات فكم ذابح لغير الله وكم ناذر لغير الله وكم من مستغيث مستجير بغير الله وكم من داع ضارع خاشع أمام قبر، أو ضريح، وكم حالف مقسم معظم غير الله تعالى وكم وكم وكم وكل ذلك باسم التبرك والاستشفاع والتوسل وهو شرك جلي لا خفي وأكبر وليس بأصغر، ولا يطلقون عليه اسم الشرك خوفا من لعنة الله ظانين أن الأسماء تغير من الحقائق ووجدوا علماء جهالا ضلالا يأكلون ويشربون على حساب عقيدتهم فحسنوا لهم الشرك وزينوه لهم نيابة عن الشيطان فعلموهم الاحتجاج عليه والدفاع عنه، وأنه ليس بشرك وإنما هو توسل وتبرك واستشفاع، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وساءت أحوال المسلمين السياسية بسوء أحوالهم الدينية والعقائد فسهل على العدو الكافر المتربص بهم الانقضاض عليهم والفتك بهم وسلب السلطة والحكم من أيديهم، فما هي إلا سنيات وجل بلاد المسلمين تحت سلطان الكافرين والمسلمون مستضعفون محكومون مقهورون لا دولة لهم ولا سلطان كل ذلك من آثار الشرك السيئة على المسلمين، وما إن طلع في الأفق رجال من أهل التوحيد ينادون بإصلاح العقائد وتطهير النفوس من الشرك والخرافة حتى تحرك المسلمون نحو التحرر والخلاص من قبضة الكفر ما هذا الاستقلال وإن كان مكبلا مسلولا إلا من بركة تلك الحركة الإسلامية التي وجدت في ديار المسلمين والتي بدأت أول ما بدأت به تطهير عقائد المسلمين من الشرك والخرافات ثم انتظمت سائر وجوه الحياة.(9/18)
وهكذا من خلال هذه الجولة في تاريخ البشرية عامة والمسلمين خاصة يتبين للبصير المفكر أن أدوأ الداء هو فساد العقائد وانحرافها، وأن أنجح دواء هو تطهير العقائد وإصلاحها وأن الكمال البشري والسعادة الإنسانية متوقفان تماما على عبادة الله تعالى وحده لا شريك له عبادة تشمل طاعة الله تعالى في كل ما يحب، وفي كل ما يكره مما شرع لعباده وبين لهم في كتابه وعلى لسان خاتم أنبيائه وإمام رسله محمد صلى الله عليه وسلم، وعليه فمن أراد للمسلمين كمالا أو عزا أو سعادة فليأخذهم بشريعة ربهم عقيدة وخلقا وسلوكا وحكما وقانونا، فإنه واصلٌ بهم إلى أوج الكمال وقمة المجد، وسعادة الحال والمآل، ومن أراد ذلك لهم بغير هذا الطريق فهو عابث مضيع للوقت، ساخر من نفسه ومنهم يقودهم ويقود نفسه إلى متاهات الحيرة والضلال، وأودية الردى والهلاك، وتلك سنة الله فيمن أعرض عن ذكره وهداه والله يقول الحق وهو يهدي إلى سواء السبيل، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين …(9/19)
المستشرقون في الميزان
بقلم: الأستاذ عبد العزيز القاري المدرس بالجامعة الإسلامية
تاريخ حركة الاستشراق متى وكيف بدأت وما هي أسباب نشوئها.
من القرن الخامس الميلادي حتى أواخر القرن الرابع عشر الميلادي فترة من تاريخ أوروبا النصرانية يسمونها هم (العصور الوسطى) ويعدونها عصورا مظلمة حيث كانت شعوب الفرنجة تعيش حياء همجية بائسة في ظلال كنيسة متسلطة مستبدة ولكن كان أبرز حدث في تاريخ هذه الفترة هي تلك النافذة التي فتحت في جنوب أوروبا الغربي لتطل منه على الحضارة الإسلامية وذلك بوصول طلائع المسلمين إلى الأندلس وإقامتهم صرح الحضارة الإسلامية فيها والتي امتدت إلى أواخر القرن الرابع عشر الميلادي أي حوالي سبعة قرون
كانت فيها الأندلس مركزا حضاريا في هذا الجزء من أوروبا يشع عليها آثاره في زحف هادئ في معظم الأحيان ثم في صورة هجمات قوية كادت تخترق فرنسا إلى قلب أوروبا في أحيان أخرى.
وكان لهذه الحضارة الإسلامية أثر كبير على حياة الشعوب الأوروبية فأخذ الفرنجة يرتادون الأندلس كمركز حضاري ثقافي عظيم ينهلون فيه من مناهل العلوم والحكمة ويكفي أن نتصور قرطبة - أعظم حواضر الأندلس الإسلامية - وقد أضحت مكونة من مائتين وخمسين ألفا من القصور والمساكن الراقية يسكنها ألف ألف من المسلمين والنصارى واليهود، وأنه كان فيها دكان النسخ الواحد يستخدم مائة وسبعين جارية في نقل المؤلفات النادرة لطلاب الكتب، وأنه كان في قصر الخليفة أربعمائة ألف كتاب [1] .
ومهما وصفنا أو أثنينا على حضارتنا تلك فإن شهادة الأوروبيين أنفسهم أبلغ في هذا المجال فلنستمع للكاتب الأسباني بلاسكو أبانيز يقول في كتاب له اسمه ظلال الكنيسة:(9/20)
في خلال سنتين اثنتين استولى الغزاة على ملك قضى مستردوه سبعة قرون كاملة في استرداده، ولم يكن في الواقع فتحا فرض على الناس برهبة السلاح بل حضارة جديدة بسطت شعابها على جميع مرافق الحياة، ولم يتخل أبناء تلك الحضارة زمنا عن فضيلة حرية الضمير وهي الدعامة التي تقوم عليها كل عظمة حقة للشعوب فقبلوا في المدن التي ملكوها كنائس النصارى وبيع النهود ولم يخش المسجد معابد الأديان التي سبقته فعرف لها حقها واستقر إلى جانبها غير حاسد لها ولا راغب في السيطرة عليها ونمت على هذا ما بين القرن الثامن والقرن الخامس عشر أجمل الحضارات وأغناها في العصور الوسطى، في الزمن الذي كانت فيه أمم الشمال فريسة للفتن الدينية والمعارك الهمجية يعيشون عيشة القبائل المستوحشة في بلادهم المتخلفة، وبينما كانت شعوب الفرنجة والسكسون والجرمان يعيشون في الأكواخ ويعتلي ملوكهم وأشرافهم قمم الصخور في القلاع المظلمة ومن حولهم رجال هم عالة عليهم يلبسون الزرد ويأكلون طعام الإنسان الأول قبل التاريخ كان العرب الأندلسيون يشيدون قصورهم القوراء ويرودون الحمامات للمساجلة في مسائل العلم والأدب وتناشد الأشعار وتناقل الأخبار. ا -هـ[2] .
ويقول ستانلي لاين بول المؤرخ الإنكليزي واصفا تلك الحضارة بعبارة موجزة مملوءة بالمعاني" إن حكم عبد الرحمن الثالث الذي قارب خمسين سنة أدخل على أحوال إسبانيا تجديدا لا يلم الخيال - على أجمع ما يكون - بحقيقة فحواه " [3]- اهـ.(9/21)
وكانت هناك نافذة أخرى فتحت أمام أوروبا من الشرق وهي الحملات الصليبية على بلاد الإسلام فقد جلب الصليبيون معهم إلى أوروبا كثيرا من عادات المسلمين وأزيائهم وأنماط حياتهم ووسائلهم في الحرب والبناء فارتفعت الحصون والقلاع والكنائس في أوروبا متخذة في أشكالها هندسة البناء الشرقي الإسلامي، هذا إلى جانب ما حملوا هم أو حمله إليهم سفراء المسلمين وبعثاتهم من أنواع الثقافة وتحت الحضارة الإسلامية في العصور المختلفة حتى عصر العثمانيين. ولا شك أن عالم الكنيسة النصرانية أيقن أن زحف المسلمين هذا لم يكن زحفا عسكريا فحسب، بل كان حضارة تمتد وتبسط نفوذها وتنشر معالمها في كل بقعة تصل إليها فتغير من حياة الشعوب وأفكارهم وعقائدهم وأسلوب حياتهم …
وكان بداية ظهور تأثير الحضارة الإسلامية على شعوب أوروبا أن ملوك الفرنجة بدءوا يحاولون التخلص من نفوذ الكنيسة وتسلطها الرهيب، وقد كانت الكنيسة في تلك العصور إذا أعطت صكا بالرضا والغفران لواحد منهم استقر ملكه واطمأن على كرسيه فإن غضبت على أحدهم فحكمت عليه بالكفر والجحيم نهش الناس ملكه ومزقوه إربا إربا..
ووضع كثير من المفكرين الذين فتحت الحضارة الإسلامية أعينهم وضعوا الكنيسة موضع المناقشة والاتهام، حتى تجلت تلك المناقشات عن حركة انشقاقية في قلب الكنيسة عرفت فيما بعد باسم الكنيسة البروتستانتية..
وحاولت الكنيسة في روما إيقاف هذا المد ففتحت محاكم التفتيش تنكل وتحرق وتقتل كل من رفع راية العصيان في وجهها أو حاول التخلص من سيطرتها فعرف الأوروبيون حينذاك أبشع عصور الاضطهاد الديني والفكري فحنقوا ليس على الكنيسة فحسب بل على الدين الذي حملت تلك الكنيسة رايته وارتكبت الفظائع باسمه وكان بداية نشوء العلمانية..(9/22)
ورغم بطش الكنيسة فإنها عجزت عن إيقاف التيار فاضطرت إلى أن تدافع عن نفسها بطريقة أخرى، فبدأت بالاهتمام بدراسة اللغات الشرقية وفي مقدمتها اللغة العربية..
فكانت طلائع المستشرقين من القسس والرهبان فانكبوا على دراسة اللغة العربية وكان رجال الكنيسة يشكلون وحدهم الطبقة المتعلمة في أوروبا ويهيمنون على الجامعات ومراكز العلم فيها..
وأنشئ أول مركز لدراسة اللغة العربية في الفاتيكان لتخريج أهل جدل يقارعون فقهاء المسلمين ويجادلون البروتستانت..
ورحل أول فريق من الرهبان إلى المغرب للغاية نفسها فقتل منهم هناك عدد كثير ورحل آخرون إلى المشرق، إلى سوريا ومصر..
وأمر الفاتيكان بإدخال اللغة العربية واللغات الشرقية الأخرى في مدارس الأديرة والكاتدرائيات، وعمل على إنشاء كراسٍ لهذه اللغات في الجامعات في إسبانيا وفرنسا وإيطاليا، وأصبحت جامعة باريس تشكل أهم مركز للدراسات العربية والشرقية.. واستعين بعدد من علماء اللاهوت وبعدد من المستشرقين اليهود ممن أجادوا تلك اللغات للقيام بتدريسها في تلك المدارس ولتولى تلك الكراسي في الجامعات..
ثم توسعت الدراسات الشرقية والعربية أكثر عندما أمر بابا الفاتيكان الخامس في أوائل القرن الرابع عشر بإنشاء كراسٍ للغات: العربية والعبرية والكلدانية في عدد من الجامعات الرئيسية في أوروبا وهي:
جامعة باريس، وأكسفورد، وبولونيا، وجامعة الفاتيكان نفسه مع تنصيب أستاذين لكل من هذه اللغات في كل كرسي، وتكليفهم بترجمة نصوص عربية وعبرية وكلدانية للرد على منتقدي الدين المسيحي.. [4]
كان أول ما اتجه إليه المستشرقون في دراستهم العربية: كتب الفلسفة والمنطق والرياضيات فترجموا كتب ابن رشد والغزالي وابن سينا وأرسطو ونحوهم ثم توجهوا إلى العناية بآداب اللغة العربية والحضارة الإسلامية، وإلى دراسة الإسلام نفسه..(9/23)
وذلك حسبما يستجد من ظروف ومقتضيات، إذ أن الجامعات الأوروبية وقد كانت تحت السيطرة الكاملة للكنيسة تعتمد دراسة اللاهوت فحسب حتى أوائل العصر الصناعي فبدأت تهتم بالاختصاصات المختلفة تحت ضغوط النهضة الصناعية..
ولكن الذي لا ننساه أن الاستشراق بدأ من الفاتيكان، ورواد الاستشراق هم من رجال الكنيسة وعلماء اللاهوت وظلوا هم المشرفين على هذه الحركة المسيرين لها وكان هدفهم الدفاع عن الكنيسة ومواجهة الضغوط الشديدة المتزايدة من المفكرين المتمردين على سلطانها ممن فتحت الحضارة الإسلامية متنفسا لهم ومهدت لهم الفرصة للتفكير والنهوض..
ولذلك بدأت تلك الدراسات العربية ضيقة ومحدودة بحدود الأهداف التي أنشئت من أجلها، فكانت اللغة العربية تدرس كواحدة من اللغات السامية ولم تحظ باهتمام كاف كلغة لحضارة مستقلة كان لها تأثير كبير وفضل عظيم على أوروبا..
إلى أن فوجئت الدول الاستعمارية بالعالم الإسلامي يبدأ انتفاضاته من جديد بعد أن قضى قرونا طويلة يرزح تحت نير استعمارها البغيض.. فاضطرت مراكز الدراسات الإسلامية إلى أن توسع دائرة دراستها حسب مقتضيات الوضع الجديد..
دراسات المستشرقين للإسلام والعربية:
لو كان الأمر مقتصرا على مجرد الجمع واستيعاب المصادر والمعلومات والتنسيق والترتيب، فإن المستشرقين بلغوا في ذلك غاية كبرى من الدقة والإتقان، وليس ذلك ببدع في عالم الدراسات في أوروبا الذي تطورت وسائله وأساليبه بشكل كبير..(9/24)
لكن المستشرقين يتدخلون بشخصياتهم وآرائهم وأهوائهم الخاصة فيفسرون الحوادث ويناقشون النصوص التشريعية، ويحللون قضايا اللغة العربية وشخصيات الحضارة الإسلامية، كل ذلك يدرسونه من وجهة نظرهم ويطلون عليه من نافذتهم الخاصة فيلقون عليه ظلالا معينة تغير معالم الصورة الأصلية، وفي غالب الأحيان تعطينا دراساتهم صورة غربية مشوهة لحضارة شرقية، وتقدم لنا الإسلام نفسه من خلال نظرة علمانية أو نصرانية هذا مع أنه توفرت للمستشرقين من الإمكانيات والعوامل المساعدة ما لم يتوفر لأحد، خاصة عندما بسطت أوروبا نفوذها وسيطرتها الاستعمارية على منطقة العالم الإسلامي وفتحت الأجواء فسيحة للمستشرقين يتجولون في المنطقة بحرية تامة ويعبثون بمصادر الثقافة فيها ومعالم الحضارة.
بل ويستولون على كثير من المخطوطات الثمينة التي تشكل بمجموعها صرح المكتبة الإسلامية الكبرى، فينهبون هذه المخطوطات وينقلونها إلى أوروبا..
حتى أضحى بإمكاننا أن نجزم أن 90% من المخطوطات الثمينة نهبت وانتقلت إلى الغرب إلى مكتبات وجامعات أوروبا وأمريكا، وذلك على أيدي المستشرقين الذين كانوا ينتقونها بخبرة ومعرفة دقيقتين.. ولولا تنبه حكومة الخلافة العثمانية في أواخر أيامها إلى هذه الخطة ومدى خطرها على تراث المسلمين فعمدت إلى نقل كمية كبيرة من تلك المخطوطات إلى تركية لجزمت بأن التراث كله نهب وانتقل إلى يد المستشرقين. ووضعت أوروبا النصرانية تحت يد المستشرقين كل الإمكانيات التي يحتاجونها للتعمق في دراساتهم للعالم الإسلامي واللغة العربية..
فكيف يصعب بعد ذلك على المستشرقين إن يبرزوا للعالم إنتاجا ضخما منسقا وغزيرا في مادته، إنها نتيجة طبيعية لتلك العوامل المساعدة والجهود المبذولة.. ولا نكون مجاملين لأحد عندما نقول إن دراسات المستشرقين أدت خدمات في مجالين:(9/25)
1- استيعاب المصادر وجمع المعلومات بشكل واسع، وربما ساعدهم على ذلك اهتمامهم بالاختصاص والاختصاص الدقيق بحيث يقضي أحدهم فترة طويلة من عمره في بحث واحد يتفرغ له..
2- الترتيب والتنسيق في منهج البحث والتأليف، والإحصاء والفهرسة وعنايتهم بهما عناية كبيرة وكان ذلك شيئا جديدا على الدارسين في الفترة التي ظهرت فيها دراسات المستشرقين إلى عالم القراء..
وتنبهت الأوساط العلمية والدارسون في العالم الإسلامي إلى هذا المنهج المنسق الذي ظهر في دراسات المستشرقين فاستفادوا منه في بحوثهم ودراساتهم..
نعترف بهذه الخدمات التي أدتها دراسات المستشرقين مع أننا لا نتدخل الآن ولا نجزم بالنوايا والأهداف، وهل كان أداء هذه الخدمات مقصودا بإخلاص أم أن وراء الأكمة ما وراءها..
ندع ذلك لما سيأتي في آخر البحث حيث سنكشف حقيقة ذلك بشكل لا يدع مجالا للشك أو التردد..
إلا أننا نجد في دراسات المستشرقين عيوبا علمية عديدة تكشف لنا عوار تلك الدراسات بشكل تهبط معه قيمتها إلى درجة قريبة من الصفر!!
ولا نتجنى في الحكم ولا نجزم بغير دليل وكتب المستشرقين في متناول كل باحث بل هي أسرع انتشارا بيننا من كتبنا المعتمدة نفسها!!
1- من المتفق عليه بين الباحثين أنه لكي يصدر الباحث حكما صحيحا ودقيقا في أي قضية علمية أو تاريخية ينبغي أن تتوفر له أسباب عديدة أساسية:
فنظرته للإنسان يجب أن تكون نابعة من تصور سليم وفهم دقيق للنزعات والخصائص الإنسانية، ولكي يستطيع تفسير الحادثة التاريخية يجب أن يكون متفهما ليس لملابساتها فحسب بل لطبيعة الأمة التي تتعلق تلك الحادثة بتاريخها، ومتفهما للتاريخ كله التي تعد تلك الحادثة جزءا صغيرا من أجزاء بنائه المتكامل..(9/26)
وعندما يناقض ثقافة أو شريعة ما ينبغي أن تصدر مناقشته عن تصور سليم كلي لخصائص تلك الثقافة ومميزات تلك الشريعة وأسسها وإلا فإنه يخلط بين الأشياء خلطا يفقد رأيه كل قيمته العلمية..
وكذلك الأدب تختلف فيه المقاييس والأذواق من أمة لأخرى، ولكل أمة لون من ألوان الفنون والآداب يكون مستحسنا لديها حسب أذواقها ومقاييسها وقد لا يكون كذلك في أذواق أمة أخرى ومقاييسها.. فلا يكون الحكم دقيقا ولا التحليل سليما إذا لم يتذوق الدارس لأدب أمة ما بذوقها هي أولا.. فإذا ما حاول الإنجليزي أن يحكم على الأدب العربي بذوق إنجليزي فإنه يخلط شعبان برمضان ولا يكون لدارسته الأدبية حينئذ أية قيمة علمية..
وهذا الأساس في الدراسات الأدبية لا شك مفقود لدى المستشرقين فتذوقهم للغة العربية وآدابها ضعيف لأنهم لم يستطيعوا التخلص من تأثير أذواقهم الأوروبية، وإنك واجد أثر هذا الذي أقول في سائر دراساتهم للأدب العربي واللغة العربية، مع أنهم أحيانا يعبرون عن ضيق صدورهم بهذه الناحية كما ذكر أحد تلاميذهم من العرب وهو الدكتور صفاء خلوصي (في مقالة نشرت في مجلة الإذاعة البريطانية العدد295 مايو 1973) إذ قال: قال لي أحد المستشرقين الذين مضوا للقاء ربهم: باعتقادي أن المرء يجب أن يولد عربيا ليتذوق الشعر العربي حق التذوق فإذا استطعت أن تكتب لنا كتابا بالإنجليزية يساعدنا في تذوق الشعر العربي على الوجه الصحيح فسيكون عملك هذا عظيما. اهـ.
2- فإذا انتقلت من العربية لغتها وآدابها إلى الإسلام عقيدته وشريعته وتاريخه وحضارته فهناك ترى الخلط العجيب، إذ كيف يتسنى للمستشرقين أن يتفهموا طبيعة الإنسان المسلم وخصائصه أولا وهم ينظرون إليه بل إلى أهل الشرق جميعا من نافذة أوروبية ترى أن الشعوب الأوروبية أعلى وأشرف عرقا وجنسا وأن بقية الشعوب دونها رتبة.(9/27)
كما أنهم يعدون الشعوب المسلمة أدنى في التفكير ويقولون بأن عقلية المسلم- ذرية- ساذجة أي أنه لا يتمتع بالفهم الكلي الشمولي ولا يدرك الأمور إلا بواسطة جزئياتها. كما ذكر المستشرق-جب- في كتابه (وجهة الإسلام) [5] .
ولذلك لا نستغرب إن رأينا جميع المستشرقين يطبقون تقسيم التاريخ الأوروبي إلى ثلاثة عصور- العصور الأولى والعصور الوسطى وعصر النهضة الحديثة- يطبقون هذا التقسيم على تاريخ الشعوب جميعا حتى المسلمين، وهذا يعد منهم نقصا علميا فاحشا وجمودا عجيبا إذ أن لكل أمة تاريخها المستقل بأدواره ومراحله وخصائصه..
ثم تأتي العقدة الكبرى المستحكمة- عقدة النصرانية - ومعظم المستشرقين من رجال الكنيسة وعلماء اللاهوت يتبعهم قليل من اليهود..
ونحن لا نبالغ إذا قلنا إن سيطرة روح العداء النصرانية تخيم على سائر المستشرقين وتؤثر على مفاهيمهم وأفكارهم وأن هذه الروح أفسدت سائر دراساتهم للإسلام وهذا يشمل المستشرقين جميعا على اختلاف أشكالهم حتى العلمانيين منهم.. ولندع واحدا من هؤلاء العلمانيين وهو ممن يقال انهم منصفون في دراستهم وهو المستشرق غوستاف لوبون يقول في كتابه (حضارة العرب) [6] .(9/28)
قد يسأل القارئ بعدما تقدم لم ينكر تأثير العرب علماء الوقت الحاضر الذين يضعون مبدأ حرية الفكر فوق كل اعتبار ديني كما يلوح؟ لا أرى غير جواب واحد عن هذا السؤال الذي أسأل نفسي به أيضا وهو أن استقلالنا الفكري لم يكن في غير الظواهر بالحقيقة وأننا لسنا من أحرار الفكر في بعض الموضوعات كما نريد، فالمرء عندنا ذو شخصيتين: الشخصية العصرية التي كونتها الدراسات الخاصة والبيئة الخلقية والثقافية، والشخصية القديمة غير الشاعرة التي جمدت وتحجرت بفعل الأجداد وكانت خلاصة لماض طويل، والشخصية غير الشاعرة وحدها ووحدها فقط هي التي تتكلم عند أكثر الناس وتمسك فيهم المعتقدات نفسها مسماة بأسماء مختلفة وتملي عليهم آراءهم فيلوح ما تمليه عليهم من الآراء حرا في الظاهر فيُحترم، والحق أن أتباع محمد ظلوا أشد من عرفته أوروبة من الأعداء إرهابا عدة قرون وأنهم عندما كانوا لا يرعدوننا بأسلحتهم كما في زمن شارل مارتن والحروب الصليبية أو يهددون أوروبا بعد فتح القسطنطينية كانوا يذلوننا بأفضلية حضارتهم الساحقة وأننا لم نتحرر من نفوذهم إلا بالأمس وتراكمت مبتسراتنا الموروثة ضد الإسلام والمسلمين في قرون كثيرة وصارت جزءا من مزاجنا وأضحت طبيعة متأصلة فينا تأصل حقد اليهود على النصارى الخفي أحيانا والعميق دائما، وإذا أضفنا إلى مبتسراتنا الموروثة ضد المسلمين مبتسرنا الموروث الذي زاد مع القرون بفعل ثقافتنا المدرسية البغيضة القائلة إن اليونان واللاتين وحدهم منبع العلوم والآداب في الزمن الماضي أدركنا بسهولة سر جحودنا العام لتأثير العرب العظيم في تاريخ حضارة أوروبة..
ويتراءى لبعض الفضلاء أن من العار أن يُرى أن أوروبة النصرانية مدينة لأولئك الكافرين في خروجها من دور التوحش فعار ظاهر كهذا لا يقبل إلا بصعوبة. ا-هـ.(9/29)
ولا أظن أن الأمر بعد هذا الاعتراف من هذا المستشرق يحتاج إلى أي إيضاح إلا أن نقول أن عدداً من المستشرقين الذين تهاوت الغشاوة عن أعينهم فأدركوا إدراكاً جازماً حقيقة هذا الدين وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم. كانت عقدة الغرور الأوروبية تعود فتتغلب على عقولهم فإذا بهم يعربون في غرور وصلف عن الأسى الذي يحز في نفوسهم الحاقدة وعن عدم مقدرتهم لاتباعه الحق مع معرفتهم له: {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} ..
وينقل عن المستشرق الفرنسي رينان وهو من أشهرهم أنه قال:
إنني لم أدخل مسجدًا من غير أن أهتز خاشعاً وأشعر بشيء من الحسرة على أنني لست مسلما [7] .
3- ذكرنا اتهام المستشرق- جب - لعقلية المسلم بأنها عقلية (ذرية) لا تدرك الأشياء إدراكاً كلياً، ونحن لن نناقش هذه التهمة لكننا نقول إن المستشرقين في دراساتهم الإسلامية يصدرون عن عقلية عجيبة لا هي بالذرية التي تدرك الأشياء بجزئياتها ولا هي بالكلية التي تدركها إدراكا كليا..
فدراسة عقيدة الإسلام أو شريعته أو حضارته أو تاريخه تحتاج إلى فهم كلي شامل لطبيعة هذا الدين وخصائصه ومقوماته حينئذ فقط تكون دراسة أي جزء من أجزاء البناء الإسلامي المتكامل سليمة ومجدية هذا من جهة..
ومن جهة أخرى إن دراسة أي جزء من أجزاء بناء الثقافة الإسلامية يجب أن تكون وفق المنهج الإسلامي المتميز باصطلاحاته وقواعده إذ أن كل جزء من أجزاء ثقافتنا له مصطلحات ورموز وقواعد إن لم يدركها الدارس يتخبط في دراسته ويخلط الحابل بالنابل حتى يصل إلى مستوى علمي رديء فيه يسمى عند علمائنا حاطب ليل..
لكننا نرى المستشرقين في سائر دراساتهم فقدوا هاتين الناحيتين أو هم تجاهلوها فهم يفهمون الإسلام كما تهوى أفئدتهم بل كما تخيل إليهم نفوسهم غير الشاعرة المطبوعة على الروح النصرانية الحاقدة..(9/30)
فأنى لهم أن يدركوا حقيقة الإسلام الكلية الشاملة التي إن فقدت لدى باحث - أي باحث - اطرحنا أحكامه ودراساته جانباً لأنه حينئذ سيهيم على غير هدى في خضم (تراث) متلاطم الأمواج تلاطم بحر الظلمات..
إننا نجد المستشرقين في دراساتهم للإسلام فقدوا إدراكه حتى بالجزئيات فإذا درسوا الحديث أو الشريعة كان من مصادرهم الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني والعقد الفريد لابن عبد ربه وربما اعتمدوا عند الحاجة على أغرب من ذلك من المصادر الواهية المختلطة. فإن علم بعضهم المصادر الحقيقية من أمهات كتب الحديث والفقه فأنى لهم التمييز بين المرويات وتجريد الصحيح من الموضوع والراجح من مسائل الفقه من المرجوح.
وكم اعتمدوا في دراستهم التاريخية على (الإمامة والسياسة) المنسوب لابن قتيبة أو (بدائع الزهور ووقائع الدهور) وربما (ألف ليلة وليلة) وقد صار لها شأن عظيم لديهم فحرصوا على ترجمتها إلى لغاتهم وأحاطوها بعنايتهم.
وإن علم بعضهم أن تاريخ الإسلام يؤخذ من مصادره الحقيقية ككتب ابن جرير وابن كثير وابن إسحاق ونحوها فأنى لهم تحقيق ما في هذه المصادر الجامعة من الأخبار والتمييز بين سقيمها وصحيحها وهل تتحمل أفئدتهم وتقبل أهواؤهم تجشم المشاق الهائلة في سبيل ذلك كله..
إن الدارس المنصف لا يحتاج إلى أكثر من عقلية (ذرية) لكي يدرك أن حقيقة الإسلام لن يجدها عند أبي جهل كما أن حقيقة مريم الصديقة الطاهرة لن يجدها عند اليهود، وأن من يبحث عن الذهب والفضة والجواهر الكريمة لا يذهب إلى الحداد..
والمستشرقون يعترفون بناحية النقص الخطيرة هذه التي ذكرها في دراساتهم في بعض المناسبات يقول العلامة مصطفى السباعي رحمه الله عن حديثه عن المستشرقين في كتابه (السنة) :(9/31)
قال لي المستشرق (آربري) رئيس قسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة كمبردج: إننا نحن المستشرقين نقع في أخطاء كثيرة في بحوثنا عن الإسلام ومن الواجب ألا نخوض في هذا الميدان لأنكم أنتم المسلمين العرب أقدر منا على الخوض في هذه الأبحاث. [8] اهـ.
والأمثلة كثيرة على ما ذكرنا من دراساتهم لكنني سأكتفي بمثالين منها وعلى من يريد الاستقصاء الرجوع إلى كتبهم المتوفرة..
في مجموعة بحوث عن المغازي ومؤلفيها نشرت في مجلة - الثقافة الإسلامية- وهي مجلة استشراقية كانت تصدر في الهند يقول المستشرق الألماني (يوسف هوروفتس) في معرض كلامه عن موقف العلماء من الشعر:
ومن هؤلاء الفقهاء من لم يشتهر بقول الشعر ولكن اشتهر بتذوق الفن الشعري في عصره ونقده له مثل أحد الفقهاء الستة الذين ذكرهم عبيد الله - يقصد عبد الله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود - قال: أعني سعيد بن المسيب وهو ابن امرأة أبي هريرة وأحد أركان علم الحديث. ثم يذكر الروايات التي استند إليها في رأيه هذا فإذا بها من الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ومنها قوله:
وفي كتاب الأغاني خبر يبين إعجاب هذه الجماعات بالكلام البليغ في جميع الظروف فيروى عبد الله بن عمر: خرجت حاجا فرأيت امرأة جميلة تتكلم بكلام رفثت فيه فأدنيت ناقتي منها ثم قلت لها: يا أمة الله ألست حاجة أما تخافين الله؟ فسفرت عن وجه يبهر الشمس حسنا ثم قالت: تأمّل يا عمي فإني ممن عنى العرجي بقوله:
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة
ولكن ليقتلن البرئ المغفلا
قال فقلت لها: مهلا فإني أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار …
قال وبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال أما والله لو كان من بعض بغضاء العراق لقال لها: اعزبي قبحك الله، ولكنه ظرف عباد الحجاز [9] ا-هـ.(9/32)
ونحن لن نناقش صحة هذا الرأي عن تذوق العلماء عن الشعر وقد كان كثير منهم يتذوقه تذوق الناقد الخبير وإن كنا نقف عند قول - هورفتس -: في كل الظروف. مرتابين من مقصده؟ إلا أننا نبغي بهذا المثال الإشارة إلى نوع المصدر الذي عول عليه في هذه المسألة ألا وهو كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني الذي يقول عنه بعض علماء الأسانيد والرجال: إنه كان أكذب الناس [10] .
المثال الثاني: ما ذكره المستشرق المجري جولد زيهر في كتابه (مذاهب التفسير الإسلامي) عن حديثه عن تأويلات المعتزلة عند تفسيرهم للقرآن حسب ما تمليه عليهم آراؤهم في الاعتقاد، فقد ضرب مثالا بالشريف المرتضى في محاولته في كتابه الغرر في تأويل قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} بأن حرف- إلى - هو كلمة بمعنى النعمة.. يقول جولد زيهر: فالمرتضى في قوله: {وُجُوهٌ … إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} يستبعد اعتراض المشبهة بتجريد لفظ إلى من طابعه الحرفي وتفسيره على أنه جمع مفرده ألاً أي نعمة، أي ناظرة نعم ربها..ا- هـ.
هكذا فهمها هذا المستشرق الذي استعرض عضلاته العلمية في كتابه هذا متطفلا على علم التفسير: أن لفظة-إلى- بمعنى النعمة جمع مفردة ألاً بينما أصغر طالب علم عندنا يستطيع بمراجعة القاموس أن يعرف أن إلىً وألاً مفردان يجمعان على آلاء. فيكون المعنى الذي تكلفه المرتضى قسرا: وجوه ناظرة نعمة ربها..
هذا مع أن هذا المستشرق يعد لدى المستشرقين أعلمهم بعلوم الإسلام إذ قضى فترة طويلة في بلاد المسلمين يدرس على علمائهم وممن درس عليهم اللغة العربية الشيخ طاهر الجزائري..
ويكفينا هذان المثالان نموذجا لما ذكرنا من عيوب دراسات المستشرقين في خلال هذه الدراسة العاجلة..
المستشرقون في ميزان الإسلام:(9/33)
آيات كثيرة في القرآن تنبهنا إلى حقيقة دائمة إلى يوم القيامة هي أن العلاقة بيننا وبين أهل الكتاب ستبقى صراعا مريرا بين إيمان وكفر..
وأن أهل الكتاب - وهم اليهود والنصارى- سيبذلون قصارى جهودهم لتدميرنا وإخضاعنا لهم واتباعنا لملتهم..
ولنترك وقائع التاريخ تتكلم لتثبت لنا هذه الحقيقة:
يقول التاريخ إن الحركة الاستشراق وجه جديد لنشاط الكنيسة الصليبية التخريبي في بلاد المسلمين لا شك في ذلك ولا امتراء..
وهذا حكم لا ندعيه نحن فقط فيقال إنه مجازفة أو مبالغة ولكن الصليبيين أنفسهم يثبتونه، وما سجله التاريخ والدارسون من أهل الغرب:
يقل المستشرق المسلم - دود كاون - محاولا إضفاء مسحة من البراءة على أهداف حركة الاستشراق البريطانية في القرون الأخيرة ابتداء بالقرن السادس عشر الميلادي وذلك عند ذكره لشركة الهند الشرقية التي كنت طليعة الاستعمار البريطانية الوحشي للهند المسلمة يقول:
كان هنا ك نوع آخر من مستخدمي الشركة لا يهمه جمع ثروة أو الظهور كملك صغير فالرجال المنتمون إلى هذه الفئة كانوا يكرسون حياتهم لفهم ودراسة ثقافات الهند المتباينة وآدابها وأديانها المختلفة وقد ترك كثيرون من هؤلاء الرجال مؤلفات قيمة تدل على سعة أفكارهم وعطفهم على الشعب بل لشعوب التي رأوا أنفسهم مسئولين عنها. ا-هـ[11] .
ولعل هذا المستشرق يريد بالعطف المذكور إراقة دماء المسلمين بحاراً تجري على أرض الهند عندما ثار المسلمون في وجه الشركة المذكورة فتدخلت بريطانيا مباشرة لتكشف القناع الذي كانت تختفي وراءه، نعم هذه المذابح المريعة كانت دائما نتيجة عطف تلك الفئات على الشعوب التي رأوا أنفسهم مسئولين عن التمهيد لاستعمارها..
وهذا الشرح ليس لي أنا بل هو لنفس المستشرق المذكور آنفا إذ يقول بعد أسطر من كلامه ذاك مبينا حقيقة نوايا المستشرق:(9/34)
ارتفعت أصوات في الجزر البريطانية في أوائل هذا القرن تنادي بوجوب تأسيس معهد شرقي في بريطانيا تكون مهمته: إعداد وتخريج رجال ونساء يستطيعون أن يخدموا وطنهم في الشرق وفي اتصالاته بالشرق إما في السلك السياسي أو في التجارة أو في دوائر الحكومة وراء البحار أو في ميدان الثقافة غير أن هذه الأصوات لم تجد صدىً أو تشجيعاً من الحكومة إلا تحت ضغط الحرب العالمية الأولى التي أظهرت للحكومة البريطانية قلة عدد البريطانيين الذين يهتمون بلغات الشرق وذلك بالرغم من مصالح بريطانيا الكثيرة المتزايدة الممتدة من المحيط الأطلسي إلى بحر الصين، وفي أوائل الحرب العالمية الأولى كلفت الحكومة اللورد -رِيْ- برئاسة لجنة وظيفتها دراسة حاجة بريطانيا إلى معهد علمي من هذا الطراز وبعد مدة نشرت اللجنة تقريرها الذي أشارت فيه إلى وجوب الإسراع في إنشاء معهد شرقي فقبلت الحكومة مقترحات اللجنة وتم تأسيس معهد للدراسات الشرقية في جامعة لندن سنة 1917م. ا-هـ.
هذا ما جاء في محاضرة المستشرق- داود كاون - وهي تحتوي على إشارات خطيرة سوف تعيننا في سبر غور هذه الحركة الإستشراقية سواء كانت في بريطانيا أو في أي قطر آخر من الأقطار الأوروبية أو في القارة الأمريكية فإن كل هذه فروع والحقيقة واحدة والأهداف مشتركة. ولندع الحقائق تتكلم:
1- بينّا في أول هذه المحاضرة الموقف الذي وجدت الكنيسة الصليبية نفسها فيه أمام الحضارة الإسلامية الزاحفة على أوروبا منذ القرن الثامن الميلادي والهزات العنيفة التي منيت بها أمام تأثير هذه الحضارة فاتخذت هذه الكنيسة منذ البداية موقف المقاومة الشرسة والعداوة المستحكمة تجاه المسلمين وحضارتهم..(9/35)
وعندما بدأت دولة المسلمين يتصدع بنيانها في الأندلس أو في بيت المقدس ووجدت الكنيسة الصليبية الفرصة سانحة قامت بهجمات وحشية بربرية على المسلمين وأراقت دماءهم بغير حساب مكافأة لهم على جميلهم الذي أسدوه لأوروبا حينما علموا شعوبها كيف تكون الحضارة.. وكيف يمارس الإنسان دينه دون إكراه أو كما يعبرون هم - علموهم حرية الضمير - ونشط ما يسمى - بالتبشير - واتخذت هذه الحركة هدفاً واحداً وضعته نصب أعينها منذ تلك الحقب إلى اليوم وهو تدمير هذه الحضارة الإسلامية والقضاء على الإسلام واستئصال شأفة المسلمين.. بالمسائل المشروعة وغير المشروعة، والأساليب الممكنة والوحشية على قدم سواء..
2- رأت الكنيسة الصليبية بعد تجارب مريرة في العالم الإسلامي أن أخطر وأنجع الوسائل التي يمكن أن تستخدمها هو - التعليم - فاستغلته إلى أبعد الحدود وفتحت المدارس والكليات الصليبية ليس في أوروبا فحسب بل في قلب العالم الإسلامي منتهزة فرصة وقوعه تحت السيطرة الاستعمارية الأوروبية وكان من تلك الكليات - الكلية الإنجليزية - في بيروت التي غير اسمها فيما بعد بالجامعة الأمريكية ومثلها الجامعة الأمريكية في القاهرة وكلية أخرى في إسلامبول بتركية وبدأت الكنيسة حملات ثقافية وتعليمية لتشويه الإسلام في نفوس أبنائه ولكن بشكل سافر وأسلوب بذيء فيه الكثير من التحدي والاستفزاز والاستهانة بمشاعر المسلمين وعقلياتهم..
يقول - بنروز - رئيس الكلية الإنجيلية في بيروت في منتصف القرن العشرين النصراني:
"لقد برهن التعليم أنه أثمن الوسائل التي استطاع المبشرون أن يلجئوا إليها في سعيهم لتنصير سورية ولبنان"ا-هـ[12] .
وقد كانت آمال الكنيسة الصليبية عريضة حينذاك فقد كان كهنتها ينتظرون أن يقع المسلمون في شباكهم بسهولة وينقلبوا نصارى في فترة وجيزة ويكفروا بدينهم وقرآنهم ونبيهم صلى الله عليه سلم.(9/36)
حتى إن أحد زعمائهم كان يقول في مطلع هذا القرن وبكل استفزاز وغرور: متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا أن نرى حينئذ العربي يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يتعده إلا محمد وكتابه. ا-هـ.
نشرت ذلك مجلة (العالم الإسلامي) الصليبية الفرنسية [13] .
ولكن الكنيسة الصليبية تلاشت آمالها أمام صخرة من الصمود الإسلامي من الشعوب الإسلامية فقد كانت تلك الحملات الاستفزازية سبباً لنفور المسلم في كل قطر ويقظته لما يدبر له من مكائد الكنيسة فلم تثمر جهودها الواسعة شيئاً وكان عدد المنتصرين لايكاد يذكر حتى القليل المتنصرون كانوا يتظاهرون بذلك لأسباب مختلفة ليس منها الانخداع بأباطيل الكنيسة وخرافاتها.. وفوجئ رجال الكنيسة أن الإسلام رغم كل ما بذلوه لمحاربته يزحف بشكل رائع وبأبسط الوسائل. ومن بحوثهم يظهر أنهم يعتبرون أخطر وسائل انتشار الإسلام هو -السلوك الإسلامي - الذي كان يظهر به المسلمون الذين كانوا يجوبون أقطار إفريقيا أو جنوب شرق آسيا من التجار وغيرهم فقد كانت أخلاقهم ومعاملاتهم وحدها كفيلة بنشر هذا الدين العظيم..
فقدرت الكنيسة حينئذ قوة هذا الدين وتماسكه ومدى تأثيره في النفوس وأنه حضارة متكاملة الجوانب شديدة البنيان لم تستطع معاولهم التأثير عليها، جاء في مقدمة كتاب بعنوان - العالم الإسلامي - نشره القسيس صموئيل زويمر وكان رئيس الإرسالية الصليبية في البحرين في مطلع هذا القرن ونشرت بعض فصوله مجلة العالم الإسلامي الصليبية جاءت فيه هذه العبارة:
"إن الكنيسة المسيحية ارتكبت خطأً كبيراً بتركها المسلمين وشأنهم إذ ظهر لها أن أهمية الإسلام تأتي في الدرجة الثانية بالنسبة لثمانمائة مليون وثني رأت أن تشتغل بهم رأت هذا وهي لم تعرف عظمة الإسلام وحقيقة قوته وسرعة نموه إلا منذ ثلاثين سنة فقط" ( [14] ) .(9/37)
2- لما تنبهت الكنيسة الصليبية لهذه الحقيقة وزالت عن أعينها غشاوة الغرور بدأت تغير أسلوبها وتتبع أسلوبا آخر فيه الكثير من الخبث والفعالية..
ودفعها إلى ذلك أيضا ما رأت من وثبة العالم الإسلامي فجأة على مستعمريه الأوروبيين وبداية عهد الاستقلال والنهضة.. فعقدت ثلاثة مؤتمرات صليبية هامة أولها في القاهرة سنة 1906م وثانيها في أدنبرة سنة 1910 وثالثها في لكنو بالهند سنة 1911م وكان من أهم نتائج هذه المؤتمرات الذي نفذ مباشرة العناية بتوسيع دائرة دراسات رجال الكنيسة للإسلام واللغة العربية وتعميقها وذلك بإنشاء مدارس خاصة بتعليم رجالها العاملين في البلاد الإسلامية تعلم فيها اللغة العربية والعلوم الإسلامية وتاريخ الأوضاع الإسلامية والأمور الاجتماعية التي اقتبسها هؤلاء من بلاد الإسلام وتنشأ مكتبة ضخمة في كل مدرسة تحوي أمهات الكتب العربية وغير العربية المتعلقة بالإسلام..(9/38)
وفي بريطانيا بالذات وبعد هذه المؤتمرات بخمس سنين أنشئ معهد الدراسات الشرقية في جامعة لندن بعد أن شكلت لجنة بأمر من الحكومة البريطانية لدراسة حاجة بريطانيا لهذا النوع من الدراسات كما أشار إلى ذلك المستشرق داود كاون.. وربما قيل وما علاقة هذا بذاك فإن الحكومة البريطانية أو جامعة لندن أو غيرهما من الحكومات والجامعات الأوروبية ليس من الضروري أن تكون متضامنة مع الكنيسة في خططها لأنها جهات علمانية، ولكن الحقائق تقول إن الكنيسة عمدت إلى إظهار هذه الجامعات وخاصة مراكز الدراسات الشرقية فيها بمظهر علماني كخطة معينة، وإن التنسيق قائم بين الحكومات الاستعمارية والكنيسة الصليبية بل وكانت الشركات الكبرى الصناعية تشارك أحيانا كثيرة في تلك الجهود لأن مصالح الجميع التقت حول العالم الإسلامي، ولم يكن اسم - التبشير - الذي أطلقه رجال الكنيسة الصليبية على نشاطاتهم الهدامة إلا من قبيل التمويه والخداع وإلا فإنهم لم يكونوا مخلصين للإنسانية في يوم من الأيام وخاصة الشعوب الإسلامية وقد كانوا دائما في كل قطر إسلامي يحلون فيه طلائع جيوش الاستعمار وجواسيسه وعملاءه، وكان معظم المستشرقين موظفين في السلك السياسي للدول الاستعمارية أو في مخابراتها..
وقد اعتنت بهم تلك الحكومات وأمدتهم بالإمكانيات وقدمت لهم الحماية الكاملة لما رأت من فعالية جهودهم ونشاطهم حيث اطلعوا على أسرار العالم الإسلامي وعلومه ولغاته..
في مقالة للقسيس صموئيل زويمر نشرتها مجلة العالم الإسلامي الصليبية جاء ما يأتي:
"اتفقت آراء سفراء الدول الكبرى في عاصمة السلطنة العثمانية على أن معاهد التعليم الثانوية التي أنشأها الأوروبيون كان لها تأثير على حل المسألة الشرقية يرجح على العمل المشترك الذي قامت به دول أوروبا كلها " [15] ا-هـ.(9/39)
ومن العجيب أنه في نفس الوقت الذي عقدت فيه مؤتمرات رجال الكنيسة الصليبية والتي قرروا فيها أهمية توسيع دائرة الدراسات الإسلامية والعربية لاستخدامها في تحقيق مآربهم عقد مؤتمر اقتصادي استعماري في برلين بألمانيا كان من أهم قراراته ما ذكره رئيس غرفة التجارة في هامبورغ وهو قوله:
"إن نمو ثروة الاستعمار متوقف على أهمية الرجال الذين يذهبون إلى المستعمرات وأهم وسيلة للحصول على هذه الأمنية إدخال الدين المسيحي في البلاد المستعمرة لأن هذا هو الشرط الجوهري للحصول على الأمنية المنشودة حتى من الوجهة الاقتصادية.
ومن أسرار التاريخ المفجعة أن نعلم أن الكنيسة الصليبية تعاونت مع الصهيونية وحكومة بريطانيا على سلب فلسطين من المسلمين وتقديمها هدية رخيصة لليهود وأن روتشيلد الثري الصهيوني كان يساعد الجميع [16] .
ولا آتي بسر خفي إذا قلت أيضا أن معظم مراكز الدراسات الإسلامية والعربية في بريطانيا أسست بعد مؤتمري أدنبره ولكنو الصليبيين وبعد اللجنة التي أمرت الحكومة البريطانية بتكوينها لما أحست بأن مصالحها الاستعمارية في العالم الإسلامي تحتم استخدام هذه الدراسات كوسيلة فعالة..
وهذا شيء لا ندعيه نحن بل يصرحون به أنفسهم وهم لا يخفون أيضاً أن عدداً من تلك الكراسي كان يؤدي عمله بتمويل من بعض الشركات الصناعية أو أصحاب المصالح من المتمولين، يقول المستشرق -جون بيرتون - رئيس قسم الدراسات العربية بجامعة أندروز في مقالة نشرتها مجلة الإذاعة البريطانية [17] :
"لم تتأسس دائرة الدراسات العربية بوصفها الحاضر في جامعة سانت أندروز إلا في سنة 1968م وقد حصل ذلك إلى حد ما نتيجة لتقرير رفع إلى الحكومة (؟) يحث الجامعات على الاعتراف بخطورة دراسة حياة الشعوب العربية الحديثة ولقد أصبح استقلال العرب ومطامحهم القوية منذ الحرب عاملاً خطيراً متنامياً في السياسة العالمية".ا-هـ.(9/40)
وعن كرسي الدراسات الإسلامية في جامعة كمبردح يذكر المستشرق روبرت سارجنت أن أول كرسي أنشئ في الجامعة سنة 1632م حينما تعهد توماس آدامز رئيس بلدية لندن وكان تاجراً معروفاً بإخلاصه للملكية تعهد بتمويل الكرسي، وقد كلف الأستاذ فيما كلف به أن يعمل على تقدم التجارة مع الشعوب الشرقية؟؟ [18] .
ويذكر بعد ذلك أن مركز الشرق الأوسط للدراسات العربية أنشئ سنت 1960م بتمويل وعناية بعض شركات النفط؟؟.
لا شك أننا بمثل هذه المعلومات الخطيرة نكوّن فكرة واضحة عن الدوافع الحقيقية والنوايا الخفية وراء عناية الأوروبيين بالدراسات الإسلامية.
ولا يخدعنا بعد ذلك أن تلبس مراكز هذه الدراسات لبوس العلم البريء من كل هدف إلا اطلاع الشعوب الأوروبية على حضارة إخوانهم الشعوب الإسلامية التي ذاقت الويلات من إخوانهم في الإنسانية المستعمرين الأوروبيين الصليبيين..
أهداف الاستشراق والمستشرقين:
هناك شيء هام تمزقت أمام صلابته جهود الصليبيين وهو تمسك المسلمين بإسلامهم واعتزازهم به واستعلاؤهم بإيمانهم على ملل الكفر..
ويسمى المستشرقون استعلاء المسلم وعزته هذه ب (التعصب الإسلامي) ولقد أزعجهم كثيرا واعترفوا بمدى قوته وخطورته في عبارات تنضح بالمرارة والحقد، يقول القسيس رايد في معرض كلامه عن جهودهم في المغرب المسلم:
"إن ذلك الحاجز الذي يدعى عادة بالتعصب وهو ذلك الجدار الشاهق من الاعتزاز بالذات ومن الكره قد بناه الإسلام حول أتباعه ليحميهم في داخله وليترك المبشر خارجه إنه جدار طالما أثبت مع الأسف أن تسلقه أو اختراقه مستحيل, إن رجالا من المبشرين عملوا سنين متوالية وفي مدينة واحدة ثم لم يستطيعوا أن يكتسبوا صديقاً أن صديقين. ا -هـ[19] .(9/41)
ولقد كانت الكنيسة الصليبية وكل كافر ظالم محارب للإسلام تمتلئ قلوبهم رعباً وضيقاً بهذا الاستعلاء الإسلامي والعزة الإيمانية الذي ربما تمثل أحياناً في أوجه بوثبات المجاهدين الذين يعرف الصليبيون طعم سيوفهم ولذلك يهتف المستشرق الصليبي - رشتر - وهو يتحدث عن دعوة المهدي في السودان وجهاده قائلا: "هذا التعصب الإسلامي الضيق الأفق بكل ما فيه من بغض للثقافة " [20] . ا -هـ.
ولا شك أنه يعني هنا بالثقافة تلك السموم الفكرية التي يحملها هو وأمثاله من عملاء الكنيسة إلى شعوبنا لتحطيم كيانها ودينها وحضارتها..
ولقد أزعج الصليبيون كثيرا أن يروا مراكز العلم الراسخة الجذور في البلاد الإسلامية تؤدي مهمتها بتعليم المسلمين علوم الإسلام والعربية وتؤثر بفعالية في حياة المسلمين الفكرية.. فكان الأزهر مثلًا في مصر هدفاً لنشاطات الصليبيين فعملوا بكل طاقاتهم على إيجاد جامعات منافسة له وعلى هدمه هو نفسه ومسخه من داخله.. كما يتبين في تقريراتهم التي نشروها.. والتي يصف مضمونها أستاذ المجاهدين محمد قطب بارك الله في عمره بقوله:"إما أن يكون الأزهرله شبيه.. وإلا فليكن هو شبيهاً بالآخرين" [21] .
وقد أيقن رجال الكنيسة الصليبية والمستعمرون الأوروبيون أن بقاء القرآن مصدر قوة وتوجيه للمسلمين فيه الحكم الصارم بفشل جميع جهودهم ونشاطاتهم التخريبية وبنهاية جميع مطامحهم وأطماعهم الاستعمارية.
لذلك توجه عزم الجميع إلى هدف واحد هو: هزيمة المسلمين هزيمة روحية وفكرية وذلك بالقضاء على روح الاستعلاء الإيماني والاعتزاز بالإسلام في نفس المسلم وإذابة شخصيته الإسلامية عن طريق غسل دماغه شيئاً فشيئاً بأسلوب ماكر يعتمد على إخفاء النوايا الحقيقية والظهور بمظهر برئ لطيف وعدم الاحتكاك مباشرة المسلمين أو استفزاز عواطفهم..(9/42)
ويعتمد أسلوبهم الجديد على سياسة النفس الطويل الذي يقولون عنه: إنه أسلوب بطئ المفعول لكنه مضمون النتيجة..
وقد اشتركت مع الكنيسة الصليبية في هذا الهدف جهات مختلفة معادية للإسلام كالصهيونية والشيوعية..
ولقد عملت الكنيسة الصليبية مع العلمانيين والصهيونيين عملوا جميعاً بدقة في سبيل تحقيق ذلك الهدف الذي ذكرناه فمهدوا أولاً له بإنشاء المدارس والكليات العلمانية في طول العالم الإسلامي وعرضه، وأفسدوا مناهج في بقية مدارس العالم الإسلامي بل أشرفوا هم بأنفسهم على التخطيط لها ووضعها موضع التنفيذ.
ثم التفتوا إلى طبقة المفكرين والمثقفين بدراسات المستشرقين..
أسلوب جديد في محاربة الإسلام:
في أوائل هذا القرن عند بداية توسع الدراسات الإسلامية لدى مراكز المستشرقين كان الأسلوب المتبع في دراساتهم:
أولا: أن تتجنب إثارة المناقشات حول النصرانية أو المقارنة بينها وبين الإسلام حتى لا ينكشف غرضهم الحقيقي أمام القارئ المسلم، فقد اكتشف رجال الكنيسة الصليبية كما سبق أن دعوة المسلمين إلى النصرانية أمر لا جدوى من ورائه وأسلوب عقيم فرأوا أنه من الأجدى والأكثر فعالية أن يركزوا على زرع بذور الشك في أهم دعامات الحضارة الإسلامية والدين الإسلامي.
وثانيا: أن تظهر دراساتهم بشكل يعطي انطباعاً لدى القارئ عن تعمق أصحابها وعنايتهم بالمنهجية في البحث والأمانة العلمية وخاصة عندما يوجهون هجومهم على نقاط حساسة أو خفية محفوفة بالشبهات والأباطيل حيث يجدون مرتعا خصبا..
كان من رواد هذا الأسلوب في محاربة الإسلام المستشرق المجري -جولد زيهر - الذي بدأ كتابه - مذاهب التفسير الإسلامي - بالتشكيك في أعظم دعامة للإسلام وهي كتاب الله - القرآن - فقال:(9/43)
"لا يوجد كتاب تشريعي اعترفت به طائفة دينية اعترافاً عقدياً على أنه نص منزل أو موحىً به يقدم نصه في أقدم عصور تداوله مثل هذه الصورة من الإضطرابات وعدم الثبات كما نجد في القرآن" [22] . ا -هـ.
كما أننا نجد رواداً آخرين لهذه الفترة من تاريخ الدراسات الإستشراقية يحاولون في دراساتهم لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم تشويه بعض جوانب حياته الشريفة كزواجه من أمهات المؤمنين ورحلاته قبل البعثة إلى الشام مع عمه أبي طالب..
ثم نجدهم يحاولون تحطيم الدعائم الرئيسية للسنة النبوية عند دراستهم لها وذلك بالطعن ولو من طرف غير مباشر في رجالاتها العظام من الصحابة والتابعين..
ولنضرب شيئاً من الأمثلة وهي كثيرة لمن يريد الاستقصاء..
لقد ذكر محاضرنا - دود كاون - (مارغوليوث) مثنياً عليه معتبراً إياه من كبار المستشرقين الذين قاموا بخدمات جلى في مجال الدراسات الإسلامية..
يقوم هذا المستشرق -مارغوليوث - في مقدمة كتبها لترجمة رودل للقرآن الكريم:
"إن السر الذي يكمن وراء قوة القرآن يعود إلى الفكر الذي أنشأه..
إن مصدر القرآن الكريم إنما هو مأخوذ من الروايات المسيحية واليهودية عدا بعض الأساطير العربية الأصلية" [23] . اهـ.
ويقول أيضا في كتاب - موسوعة التاريخ العالم -:
"إن محمدا رجل مجهول النسب لأنه محمد بن عبد الله وقد كان العرب يطلقون على من لا يعرفون نسبه اسم عبد الله [24] .اهـ.
وأما النماذج لمحاولة هدم دعامات السنة النبوية فتجدها وافرة في دراسات - جولد زيهر - خاصة في كتابه - العقيدة والشريعة في الإسلام-
فقد وجه عنايته للطعن في أبي هريرة رضي الله عنه وابن شهاب الزهري..
وهما من نعلم من عظم مقامهما في رواية السنة ونقلها للأمة فإذا انهدمت الثقة بهما فقد نجح المستشرقون في هدم جانب كبير جداً من صرح السنة النبوية التي هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي؟؟(9/44)
ولو كان المقام يتسع لذكر أمثلة من طعنه في هاتين الشخصيتين لذكرتها لكن الكتاب مطبوع ومترجم ومعتنى به من قبل دكتورين مسلمين والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.. ولكن نذكر مثالاً واحداً لنتبين إما مدى سخف عقلية هؤلاء المستشرقين التي لا ندري أهي ذرية أم - كلية - أو مدى استخفافهم بعقليات المسلمين وذكائهم ويقظتهم وفهمهم لدينهم وتاريخهم:
يقول جولد زهير محاولا إثبات أن الزهري رحمه الله كان يضع الحديث؟ بناء على طلب الخلفاء الأمويين وقد ذكر ذلك في كتابه - دراسات إسلامية - كما ينقل عنه بعض تلاميذه.. يقول:
"إن الحكومة في الدول الأموية كانت إذا أرادت أن تعمم رأياً وتسكت العلماء الأتقياء الذين كانوا يميلون إلى أعداء البيت الأموي من العلويين كانت تتذرع بالأحاديث التي توافق وجهتها فتضع الحديث أو تدعو إلى وضعه".ا-هـ.
ثم ذكر بعض أدلته التي بنى عليها حكمه هذا الخطير العجيب وكان من أعجبها ما يأتي:
يقول: "وقد استغل الأمويون أمثال الإمام الزهري بدهائهم في سبيل وضع الحديث وذلك يظهر لنا من بعض الأخبار التي نجدها محفوظة عند الخطيب البغدادي ويمكن استخدامها هنا فقد حدثنا معمر عن الزهري بكلمة مهمة وهي قوله: أكرهنا هؤلاء الأمراء على أن نكتب أحاديث. فهذا الخبر يفهم منه استعداد الزهري لأن يكسو رغبات الحكومة باسمه المعترف به عند الأمة الإسلامية [25] .ا-هـ.
قلت: وفي هذا المقال يتجلى لك مدى الخبث والدهاء الذي يتمتع به أمثال هذا المستشرق فهو يصيب بمثل هذه الشبهة عدة أهداف في آن واحد:
يطعن في عدالة إمام الرواة والحفاظ ابن شهاب الزهري ليهدم أكبر جانب من السنة ويطعن في الدولة الأموية التي كانت من أعظم الدعائم لدولة الإسلام بعد الراشدين وفي عهده وصلت رايات المجاهدين أقصى الحدود.. ووطئت سنابك خيلهم أراضي الروم والفرس بل أعماق تلك الأراضي..(9/45)
ويطعن في عقلية الأمة الإسلامية وهي أزهى عصورها الذهبية حيث يصورها بصورة الأمة المتخلفة علمياً وذهنياً حيث تسيرها أهواء الأمويين والعلماء الأتقياء؟؟ حيثما شاءت فتنقاد الأمة أجمعها وراء الأباطيل المختلفة بسهولة ويسر.. دون أن يوجد فيها من يتولى فضح تلك الأباطيل ويبين زيفها.. في وقت كان فيه الصحابة متوفرين في الحجاز والشام والعراق..
الحق يقال إن المستشرقين في هذه الجولة خاضوا تجربة فشلت نوعاً ما إذ لم يقدروا مدى يقظة علماء المسلمين على الأقل فضلاً عن طبقة المثقفين، فإن ألاعيبهم هذه إن كانت قد انطلت على جهال المثقفين فإن كثيرا منهم تنبهوا لزيفها وسخافتها، ومع أنه تولى عدد من العلماء الراسخين مهمة التصدي لهذه الألاعيب وتجريدها من ثوبها الزائف الذي ظهرت به - ثوب المنهجية العلمية - فلم تغن هذه الحملة ولا هذا الأسلوب الغناء المطلوب لدى المستشرقين..
فمثلا ممن تولى تجريد كتابات - جولد زيهر - عن السنة من ثوبها الزائف وبيان مقدار هزلها وسخا فتها العالم المجاهد الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله فكان مما فند به التهمة التي ذكرناها عن الزهري:
أن - جولد زيهر - أولا: حرّف الرواية إذ أصل رواية الكلمة التي نقلها كما جاء عن ابن عساكر وابن سعد: أن الزهري يمتنع عن كتابة الأحاديث للناس فلما طلب منه هشام وأصر عليه أن يملي على ولده ليمتحن حفظه فأملى عليه أربعمائة حديث ثم خرج من عند هشام وقال بأعلى صوته: أيها الناس إنا كنا منعناكم أمراً قد بذلناه الآن لهؤلاء وإن هؤلاء الأمراء أكرهونا على كتابة الأحاديث فتعالوا حتى أحدثكم بها فحدثهم بالأربعمائة حديث.
ورواه الخطيب بلفظ:"كنا نكره كتاب العلم - أي كتابته - حتى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء فرأينا ألا نمنعه أحدا من المسلمين" [26] ا-هـ.(9/46)
فذهب ذلك المستشرق يلفق لرأيه الخطير السخيف ما يناسبه من الروايات والعبارات المحرفة.. فلجأ إلى تحريف يسير قد يفطن له القارئ وهو حذف - أل - من كلمة - الأحاديث - فتغير المعنى بتمامه..
وهذا يذكرنا بقرار (الأمم المتحدة) الذي تفضلوا به على المسلمين فجعلوه ينص على وجوب انسحاب اليهود من الأراضي المحتلة.. فترجمها المندوب البريطاني: من أراض محتلة!!
من أساليب المستشرقين الفكرية:
كل من تتبع دراساتهم يروعه أنهم يركزون بشكل غريب على نقاط رئيسية يعملون من أجل هدمها بكل دقة ودأب:
1- فهم يكررون دائما أن القرآن من تأليف محمد كأنها مسألة أصبحت مسلمة لدى الباحثين، بل يكررون دائما أن القرآن مجموع من مصادر مسيحية ويهودية.. وعربية جاهلية، وبالجملة فهم يجمعون على إنكار مسألة الوحي، وفي أحسن عباراتهم وأكثرها لطفاً وخبثاً يصورون رسول الله صلى الله عليه وسلم بصورة العبقري المصلح الذي استطاع بعبقريته وذكائه تأليف هذا القرآن وتربية أولئك العرب الصحراويين.. ولكن مع ذلك تزل من أفواه كثير منهم عبارات يتجلى فيها حقدهم على الرسالة المحمدية أو جهلهم بحقيقتها:
فهذا - غوستاف لوبون - الذي يقول عنه المغفلون إنه من المستشرقين المنصفين المتعمقين في دراستهم العربية والإسلامية يقول في كتابه (حضارة العرب) [27] في معرض ثنائه على ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"وقيل إن محمداً كان مصاباً بالصرع ولم أجد في تواريخ العرب ما يبيح القطع في هذا الرأي وكل ما في الأمر هو ما رواه معاصرو محمد وعائشة منهم من أنه كان إذا نزل الوحي عليه اعتراه احتقان وجهي فغطيط فغشيان، وإذا عدوت هوس محمد ككل مفتون وجدته حصيفاً سليم الفكر، ويجب عد محمد من فصيلة المتهوسين من الناحية العلمية كما هو واضح؟؟ "ا-هـ.(9/47)
- هكذا - يصور مثل هذا المستشرق قضية الوحي بصورة الهوس والصرع الذي يعتري المتهوس السليم الفكر أحياناً، فما الفرق بين هذا الادعاء وقول مشركي قريش من العرب الجاهلين {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} إلا أن يصاغ هذا الادعاء اليوم على لسان المستشرقين بصيغة تظهره بمظهر علمي منمق حتى ليخيل للقارئ ضعيف العلم والبصيرة أنها حقائق علمية تاريخية محايدة..
حاشا إمامنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يقولون..
وقد تصدى من فطاحل علماء المسلمين من ألقم هؤلاء المتفيهقين من النصارى حجراً في مسألة الوحي فساقوا من البراهين على إثباتها ما لا يدع مجالاً للشك منهم الشيخ محمد رشيد رضا والدكتور دراز في كتابيهما - الوحي المحمدي - و - النبأ العظيم - تغمدهما الله برحمته الواسعة وجزاهما عن الإسلام خيرا..
2- ووجهت دراسات استشراقية كثيرة لهدم بنيان الشريعة الإسلامية التي تشكل أعظم صرح تشريعي متماسك يمكن أن يوجد بين البشر، عرفوا هذه الحقيقة فوجهوا عنايتهم لطمس معالمها، فشنوا حملة شعواء على العقوبات والحدود الإسلامية: من قصاص، وقطع، ورجم وشنعوا عليها ووصفوها بالهمجية والوحشية، وقد علموا مدى مكانتها وعظم وظيفتها في المحافظة على مجتمع إسلامي متماسك سليم من الآفات والأمراض..
وانطلت افتراءاتهم على كثير من ضعاف الإيمان والبصيرة فتنازلوا عن هذه الشريعة..
وقد ذكرنا جانباً من محاولاتهم لهدم المصدرين الرئيسيين للشريعة الإسلامية كتاب الله - القرآن - والسنة النبوية.. وذلك بالتشكيك في نص القرآن الكريم، والطعن في رجالات السنة النبوية ورواتها من الصحابة والتابعين..
3- ولأجل تدمير المجتمع الإسلامي وطمس معالمه ركزوا على حياة المرأة المسلمة وقد علموا أنها ركيزته الداخلية الأساسية، فصوروا حياتها في ظل الإسلام بصورة الكبت والظلم والانحطاط..(9/48)
واعتنوا كثيرا بتشويه الحجاب، فاغتر كثير من مرضى النفوس وضعاف البصيرة بهذه الحملات الشرسة، فنشطوا لجر المرأة المسلمة إلى ميادين الفوضى والانحلال فهدموا بذلك بناء المجتمع الإسلامي أو تسببوا في زعزعته مع أن النبي صلى الله عليه وسلم الرءوف الرحيم بأمته حذرها من مغبة هذه المكيدة بالذات في كثير من الأحاديث الصحيحة..
4- ومن أعظم دعائم الإسلام - الجهاد - بل هو ذروة سنام الإسلام وقد أقض هذا الركن الإسلامي العظيم مضجع العالم الطاغي الكافر في كل أقطار الأرض، وهز الأرض تحت أقدام الكنيسة الصليبية في الغرب وانتزع منها عاصمتها الأولى القسطنطينية التي سماها المسلمون الفاتحون- اسلامبول -.
فليس غريباً أن يستميت المستشرقون في سبيل القضاء على هذا المبدأ العظيم وبكثير من الدقة والدهاء، وقد اتبعوا في ذلك ثلاثة طرق:
أولا: إثارة شبهة أن الإسلام انتشر بالسيف فيصيبوا بها هدفين:
التشكيك في قوة العقيدة الإسلامية من الناحية البرهانية وملاءمتها للفطرة السليمة، ودفع مفكري المسلمين إلى التخلي عن مبدأ الجهاد تحت تأثير تلك الشبهة أو في سبيل دحضها، أو على الأقل التراجع إلى فكرة أن الجهاد للدفاع عن النفس فقط..
ثانيا: تشويه تاريخ وحقيقة الفتوحات الإسلامية بالادعاء بأن الدوافع لها كانت اقتصادية أو توسيعية استعمارية..
ثالثا: العناية كثيرا بإظهار جانب التسامح الذي يدعو إليه دين الإسلام، على أن يصوروا هذا التسامح بصورة تؤدي إلى فتح أجوائنا على مصاريعها أمام النصارى واليهود ومفاسدهم ودسائسهم فيجولون في مجتمعاتنا كما يشاءون، ويعبثون بحياتنا كما يريدون فإن أوصدنا أبوابنا في وجوههم ومنعنا قاذوراتهم من التسرب إلينا رمونا بالتعصب والجمود والوحشية والتخلف … الخ.
ومن أكثر المستشرقين دهاء في التركيز على قضية التسامح - توماس آرنولد - في كتابه (الدعوة إلى الإسلام) .(9/49)
5- والعربية وعاء القرآن ولغة مقدسة تربط بين المسلمين برباط ثقافي متين، فاهتموا بهدمها ولجأوا في سبيل ذلك إلى وسيلتين:
الأولى: إحياء اللهجات العامية والدعوة إلى استبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية، ونشر تعليم اللغات الأوروبية وخاصة الإنكليزية والفرنسية بشتى الوسائل، وهذه النقطة لا تحتاج إلى شرح فالواقع أوضح ترجمة لها!!
الأخرى: التشكيك في الشعر الجاهلي وما روى من الأدب العربي وفي ذلك اشتهر الرأي الخطير الذي يعرف بقضية انتحال الشعر الجاهلي وقد أظهره لأول مرة المستشرق - إن جي داود - ثم تبنى إشاعة هذه السخافة في البلاد العربية المريد المخلص للمستشرقين طه حسين..
6- الوحدة الإسلامية التي يجتمع في إطارها المسلمون من مختلف الأجناس والألوان حيث تتجسد فيهم الأخوة الإسلامية، بناءً قوياً متماسكاً، هذا المبدأ الإسلامي أرعب المستشرقين كثيرا وخاصة عندما يتمثل في قمة ازدهاره في إطاره السياسي العظيم - الخلافة الإسلامية - التي ما فتئ اليهود والنصارى يجتهدون متكاتفين حتى أسقطوا آخر لبنة من لبناتها في الآستانة.. - اسلامبول - ليقيموا على أنقاضها دولة علمانية..
لا يزال المستشرقون يعملون دائبين على طمس معالم هذه الوحدة الإسلامية وذلك بعدة وسائل من أبرزها وأخطرها:
بعث المدنيات الجاهلية في كل قطر مسلم: كالفارسية، والهندية، والطورانية، والفرعونية، والفينيقية، والآشورية، والجاهلية العربية..الخ..
بالدراسات التاريخية والجغرافية، وبالعناية باستخراج الأثار والتنقيب عنها. وهذه الجهود ستؤدي حتماً إلى بعث القوميات الإقليمية الضيقة فتصبح الأمة الإسلامية الواحدة التي ذابت في بوتقتها القوميات والنعرات: تصبح أمماً متفرقة متناحرة..
والواقع أكبر دليل:
كل شعب قام يبني نهضة
وأرى بنيانكم منقسماً
في قديم الدهر كنتم أمة
لهف نفسي كيف صرتم أمما؟!!..(9/50)
هذه أبرز أساليب المستشرقين الفكرية في سبيل القضاء على كيان المسلمين والتي تبناها منهجهم الجديد الذي لا يزال ساري المفعول إلى اليوم في جميع مراكز الدراسات الاستشراقية في أوروبا وأمريكا وفي البلاد الإسلامية..
ومن يظن أن هذه المراكز قد تخلت عن هذا المنهج وتلك الأهداف فإنه يغمض عينيه وينكر الشمس، أو يدس رأسه في الرمال.. قال الله تعالى في القرآن الكريم:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ. وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} . سورة آل عمران 100-101.
من القرآن الكريم
قال تعالى:
{وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِين الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أثر العرب في الحضارة الأوروبية للعقاد ص115-119 (ط دار المعارف بمصر 1963) .
[2] أثر العرب في الحضارة الأوروبية للعقاد ص115-116.
[3] المصدر السابق ص116.
[[4 المستشرقون لنجيب العقيقى 1/134.
[5] السنة لمصطفى السباعي (ط الدار القومية بمصر ص30)
[6] ط الرابعة 1384 ص577.(9/51)
[7] حضارة العرب لغوستاف لوبون ص579.
[8] السنة ومكانتها في التشريع للسباعي ص22.
[9] المغازي ومؤلفوها ترجمة حسين نصار (ط- الحلبي بمصر ص7-8) .
[10] ميزان الاعتدال (ط الحلبي بمصر 3: 123) .
[11] من محاضرة ألقاها المستشرق المذكور في جامعة الملك عبد العزيز بجدة والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
[1 2] التبشير والاستعمار ص 45 (ط الثالثة 1384هـ) .
[13] الغارة على العالم الإسلامي (ط السلفية 1350هـ) .
[14] الغارة على العالم الإسلامي (ط السلفية 1350هـ) .
[15] الغارة على العالم الإسلامي ص72.
[16] التبشير والاستعمار ص182.
[17] مجلة هنا لندن العدد 301 نوفمبر 1973م.
[18] المصدر السابق العدد 298 أغسطس 1973م.
[19] التبشير والاستعمار ص47.
[20] نفس المصدر.
[21] هل نحن مسلمون ص159.
[22] مذاهب التفسير الإسلامي ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار (ط السنة المحمدية 1374هـ) ص4.
[23] الاستشراق لعبد القهار العانى (ط ببغداد 1973م) .
[24] هل نحن مسلمون لمحمد قطب ص173.
[25] السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي لمصطفى السباعي ص327.
[26] ارجع إلى كتاب السنة لمصطفى السباعي من ص 296 إلى ص 240 من ط الدار القومية بمصر.
[27] ط الحلبي بمصر 1384 هـ ص114
.(9/52)
من الصحف والمجلات
إعداد العلاقات العامة بالجامعة
كتبت جريدة (ندائي ملت) الأسبوعية: إذا استعرضنا خلفية دعوة التضامن الإسلامي نجد أن الفضل يرجع إلى السيد جمال الدين الأفغاني وشاعر الإسلام محمد إقبال. إنهما قضايا معظم عمرهما في حلم التضامن الإسلامي من طنجة إلى جاكرتا. ولكن حقق الله هذه الأمنية الطيبة بيد جلالة الملك فيصل الذي هو خادم الحرمين ورائد التضامن الإسلامي حقا وكتبت هذه الجريدة "إن المسلمين ما كانوا يتصورون مثل هذا التضامن الإسلامي قبل سنوات عديدة، وكان يعد كل هذه الجهود بهذا الصدد من الرجعية ولكن جلالة الملك فيصل بجهوده المتواصلة ودبلوماسيته الهادئة الصامتة.. وباستراتيجيته المؤثرة. استطاع استقطاب العالم الإسلامي فكريا. سياسيا. وقوة حيوية. وجمع كلمة المسلمين تحت لواء واحد فقد بطلت مزاعم القوى الذرية وتحدياتها أمام التضامن الإسلامي".
عن صحيفة الرائد - صفر 94هـ
يقول الدكتور دون لويس روخاس بايسترو أستاذ كرسي علم النفس في الجامعات الإسبانية: "إن الإنسان الآن لا يفكر في مصيره إلا بعد أن يبلغ الخامسة والأربعين.. عندما يسأل نفسه: من أنا؟.. ولِمَ أتيت؟.. ولِمَ أموت؟."
ثم قال موجها كلامه إلى العرب- ويريد بهم المسلمين-:
"احذروا يا عرب.. يا مسلمين أن تخلطوا تصوراتكم بتصورات الأوروبية.. أنتم أهل حضارة عريقة. وهي وإن كانت لم تصل من الناحية المادية إلى مستوى حضارة البلدان الغربية، إلا أن لها مقومات لا تملكها حضارة بلداننا الأوروبية.. ولذلك فإنني أشعر بالقرب منكم.(9/53)
غرور
الأستاذ أحمد عبد الحميد عباس
1_ يا أيها المغرور حسبك لا تكن.
في الأرض مختالا تدك حصاها.
2_وسر الهوينا في حياتك واتئد.
واحذر أخا الزلات من عقباها.
3_ فغداً وما هو بالبعيد ترى الذي.
يمشي على الدنيا يريد علاها.
4_ أضحى ذليلاً تائهاً متحسراً.
ويصيح يا ويلاه ذقت لظاها.
5_ يرجو معاداً كي يباشر صالحاً.
لكنه خابت مناه وتاها ….
6_ ولسوف يحصد ما مضى من زرعه.
كل امرئ يوما سيلقى الله.
7_ فاحرص على الطاعات إنك راحل.
واعجل إلى الخيرات تؤت جناها.
الحجاج وهند
أمر الحجاج ابن القريه أن يأتي هند بنت أسماء فيطلقها بكلمتين ويمتعها بعشرة آلاف درهم فأتاها فقال لها: إن الحجاج يقول لك: كنت فبنت وهذه عشرة آلاف متعة لك. فقالت قل له: كنا فما حمدنا. وبنّا فما ندمنا وهذه العشرة الآلاف لك ببشارتك إياي بطلاقي.(9/54)
التطعيم وأهميته ومواعيده
بقلم الدكتور خالد زربا
الأخصائي في أمراض الطفل - مونبليه - فرنسا
أخي المسلم: كلنا نعرف أن العقل السليم في الجسم السليم.. والكل يعرف قصة الأعرابي الذي قدم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن التوكل وكيفيته وضرب مثلًا بالناقة، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم له: "اعقلها وتوكل..".
من هنا نفهم ونقدر أنه يجب علينا مراعاة أمور إذا نظرنا إليها بمنظار قريب رأيناها بمنتهى السهولة واليسر، أما إذا نظرنا إليها بمنظار بعيد فسنشاهد الكثير من الآلام والمآسي والعاهات المستديمة..
هذه الأمور الخاصة بهذا الحديث هي أمور سهلة التطبيق.. عظيمة النتائج.. ويكفينا أخذ عبرة من آلام وعقد التشوه النفسية عند أولئك الذين أصيبوا بمرض الشلل وهم في سن الطفولة.. عدا الأمراض الأخرى التي لا تتيح للمصاب بها حياة أكثر من فترة المرض حيث يسلم روحه خلالها أو في نهايتها كما في مرض الكزاز والخناق.. وغيرهما..
والسؤال هنا: كيف نقي أطفالنا شر هذه الكوارث، التي تأخذ في معظم الأحيان شكلا وبائيا - جماعيا -؟ والجواب - بمنتهى السهولة -: لنعمل على القيام بإجراءات التطعيم في أوانها، وكل مركز صحي يستطيع القيام بهذه المهمة البسيطة.. إذ يكفي التوجه بالطفل إلى هذا المركز، خلال فترات محدودة ولوقت قصير جدا، كي نجنب أنفسنا وأطفالنا متاهات من الآلام والعذاب النفسي والقصور، عدا الخسائر المادية الجسيمة والمستمرة كما في مرض الشلل مثلا، إذا كتب الله لضحاياها الحياة بعد ذلك …
إن التطعيم - التلقيح - ضد الأمراض السارية يتم في مواعيد ثابتة من حياة الطفل. يجب مراعاتها وإعطاء جرعاتها في الوقت المحدد..
وهذه التطعيمات هي للأمراض التالية:
السل، الخناق، الكزاز، السعال الديكي، الجدري، وشلل الأطفال [1] .(9/55)
أما مواعيد القيام بإجرائها فهي كما يلي:
نوع الطعم
سن الطفل
بي.سي. جي (ضد السل)
الأيام الأولى بعد الولادة (1)
ضد الخناق، ضد الكزاز وضد السعال الديكي (أي ما يسمى بالطعم الثلاثي)
الشهر الثالث (2)
ضد الجدري
الشهر السادس (3)
ضد شلل الأطفال
الشهر السابع (4)
يعمل الـ بي. سي. جي إذا لم يكن قد عمل للطفل عند بداية حياته
الشهر العاشر - الثاني عشر (5)
يعاد عمل التطعيم الثلاثي
الشهر الخامس عشر- الثامن عشر (1)
يعاد التطعيم ضد شلل الأطفال
الشهر الثامن عشر - والعامين (2)
يعمل الـ بي. سي. جي إذا لم يكن قد عمل من قبل
سنتين (1)
الـ بي.سي. جي. تعمل لكل طفل إذا كانت التجربة الجلدية لمعرفة مقاومة الجسم ضد السل سالبة وكذلك في هذه الفترة يعاد التطعيم الثلاثي.
6 سنوات (2)
يعاد التطعيم ضد الجدري
10 سنوات (3)
يعاد التطعيم الثلاثي
11 سنة (4)
يعاد التطعيم ضد الكزاز والشلل - الطعم الثنائي-
16 سنة (5)
يعاد الـ بي. سي. جي إذا كانت التجربة الجلدية سالبة.
بين 6 - و20 سنة (6)
يعاد التطعيم ضد الجدري
20 سنة (7)
وبعد أن نُعِد أنفسنا للقيام بهذه الميسورة في كل مكان، نستطيع الانتقال إلى زاوية أخرى للحديث في كل من هذه الأمراض بشكل مفصل.. وبعد الانتهاء من سردها والتلميح إلى بعض عواقبها.. سنعود مرة أخرى إلى هذا البحث لنجد قيمته القيمة.. وحينئذ لن يغيب عن مخيلتنا قول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: "اعقلها وتوكل".
--------------------------------------------------------------------------------
[1] يوجد أنواع أخرى من التطعيمات لكنها غير إجبارية كالكوليرا والحصبة.(9/56)
دعوة التضامن الإسلامي وأثرها في العالم
بقلم عبد القادر بن حبيب الله السندي: خريج كلية الشريعة بالجامعة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلقد شاهدت عند الملتزم في موسم حج هذا العام 1393 ضيفاً كريماً من ضيوف الرحمن وهو يرفع يديه بالضراعة إلى الله- عز وجل- وعيناه تذرفان من شدة الفرح، وقد ظهر لي من منظره ذلك أن له أملاً كبيراً وقد تحقق وجاء هنا لكي يطلب الزيادة من مولاه جل وعلا، ولقد شاهدته مراراً، وتكراراً في هذا المكان المقدس خصوصاً في أواخر الليل.
ولقد علمت من خلال دعائه الطويل العريض بذلة وخشوع وخضوع ومحبة لمولاه جل وعلا أنه يحمل في قلبه الفياض الكبير محبة كبيرة، ومشاعر رقيقة، وعواطف نبيلة، وأماني سعيدة نحو جلالة عاهل المملكة العربية السعودية أمير المؤمنين الإمام فيصل بن عبد العزيز آل سعود العظيم حفظه الله تعالى وتولاه، ورعاه، هذا الإنسان الكريم الذي سيسجل له التاريخ الإسلامي العظيم صفحة مباركة خالدة لعمل خالد مبارك عظيم قام به وتهيأ له بكل إمكانياته، واستعداداته المادية والمعنوية.
نعم بقي الرجل أياماً وليالي باكياً أحياناً، وخاضعاً وخاشعاً في أحايين أخرى وهو يردد في دعائه (اللهم سدد فيصلاً، ووفقه واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى والمحبة لكي يعم به الخير، والبركة في ربوع العالم كله) ولم يكن نداؤك هذا الذي نادى إليك خليلك وصفيك إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأمر منك في قولك (وقولك حق، وصدق، وعدل) {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيق ِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَات} [1] .(9/57)
ولقد وجدته إنسانا كريماً وداعية مخلصاً يحمل فكرة سامية لها معانيها الأصيلة وآثارها الطيبة، وأبعادها العظيمة، فصليت بجانبه لكي أتعرف عليه قبل أن يغادر الأرض المقدسة. وكنت أسارقه النظر وقتاً فوقتاً لمحبتي له وبعد انتهاء الفريضة مد يمينه لمصافحتي، فصافحته شاكراً له هذه المبادرة الطيبة، ومرحباً به. وأثناء هذه المصافحة بادلني عبارات الحب والوئام فشكرته أجزل الشكر فرأيته وعيناه تسكب الدموع والعبرات، وهو يحاول أن يخفي عني ما في نفسه من آمال كبيرة، وأحلام سعيدة، ولم يكن بكاؤه ذلك إلا كبكاء الصديق رضي الله تعالى عنه عندما جاءه الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في الظهيرة وقت هجرته صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، ذلك البكاء الذي تقول عنه الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما في حديث طويل لها أخرجه محمد بن إسحاق في السيرة.
قالت:"كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة، وإما عشية حتى إذا كان يوم الذي أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، والخروج من مكة من بين ظهراني قومه، أتانا رسول الله عليه وسلم بالهاجرة في ساعة كان لا يأتيها، ثم قالت رضي الله تعالى عنها: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال: الصحبة، قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذٍ ثم ذكرت الحديث بطوله" [2] قلت: هذا هو الشاهد من إيراد هذه القصة المباركة.(9/58)
بأن بكاء هذا الرجل كان كبكاء الصديق رضي الله عنه في فرحه واستبشاره. فلم يكن منه حفظه الله تعالى إلا أن أخذني إلى جانب من جوانب الحرم المكي الفسيحة وهناك جلس معي بجلسته المتواضعة، وكأن هذا الموضع هو الذي خصصه لنفسه، لأنه كان يرمي طرفه كله إلى البيت العتيق لكي يتحنث فيه - وهو التعبد الليالي ذوات العدد [3] فبدأ بحديثه الممتع بعد كلام قصير عرّفني فيه نفسه فقال: يا بنيّ: منذ أن شددت الإزار، وأنا في أقصى الأرض أشاهد العالم الإسلامي، وحالة المسلمين الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، وغير ذلك من الأمور العظيمة التي دعا إليها الإسلام، فلا أجد لها أثراً كبيراً بارزاً على هذا العالم فضلاً عن العالم الإسلامي إلا في بعض الأجزاء، في عصور مختلفة.
أقرأ القرآن الكريم والسنة الصحيحة النبوية، والتاريخ الإسلامي الصحيح، فأجد فيها نوراً مبيناً، وبرهاناً واضحاً ونظاماً عالمياً، وسياسة حكيمة، وعقيدة صافية نقية، وأخوة كريمة، ودعوة سامية، وعلماً نافعاً ينفع في الدين والدنيا، ثم أتعمق في صفحات التاريخ الإسلامي مرة ثانية فأجد فيه تطبيقاً كاملاً، وموافقة تامة لما في هذين المصدرين العظيمين في تلك العصور الذهبية التي توالت، وتتابعت على الإنسانية، فكانت هذه العصور غرة في جبين التاريخ الإسلامي الحافل لأن العلم الصحيح كان فيها بارزاً في حياة المسلمين. وكانت له سيادة، وقيادة، وإمامة، وما كان الشيء يتحرك سواء كان كبيراً، أو صغيراً إلا بأمره، وإشارته، فوجدت يا بنيّ مطابقة كاملة، وتطابقاً كلياً بين آيات القرآن الحكيم والسنة النبوية المطهرة الصحيحة، والتاريخ الإسلامي الصحيح.(9/59)
وجدت في التاريخ حوادث عجيبة في النظام، والأمن، والاستقرار، والهدوء والأخوة والمحبة لا نظير لها فيما شاهدت منذ أن تحسست هذا الشعور، وحملت هذه الفكرة، فكان هذا التناقض الخطير بين حياة المسلمين الحالية وبين ما في الكتاب العزيز والسنة النبوية، والتاريخ الإسلامي في تلك العصور المشار إليها أقلقني جدا، وحيرني، ولقد عرفت الأسباب الأساسية لهذا التناقض تماما، والتي تكلم عنها، وأشار إليها أدباء المسلمين في عصرنا، في كتبهم ومقالاتهم، ومؤتمراتهم، واجتماعاتهم وكلٌ حسب طاقته، واستعداده. ولكن لا جدوى لأن القوة الباغية كانت أقوى بكثير، لأنها تملك وسائل الدعاية الماكرة التي لا يخفى أمرها على العالم كله، فضلا عن المسلمين والتي كسرت شوكة العرب في معارك دامية بينهم وبين عدوهم، وشتتت شملهم، وفرقت قلوبهم وقتلت شبابهم وأرواحهم فأتت بفساد كبير في الأخلاق والآداب وغير ذلك في المجتمع الإنساني فضلا عن المجتمعات الإسلامي وغيرها، ولم يتنبه لها إلا قليل من النفر الصادقين المخلصين، وقد غزت ديار المسلمين بشكل فظيع، وفلّست البلاد والعباد، وأفسدت الشباب، وحطمت الاقتصاد وانتهكت الحرمات والمقدسات إلى غير ذلك من الأمور الهائلة. وقد بدأ الرجل بحديثه هذا عن الشيوعية والاشتراكية، والصهيونية فأتى بمعلومات خطيرة وأثبت أنها فكرة الأعداء السياسية، وسلاحها الوحيد ضد الأمة الإسلامية، وكان ظهورها بين صفوف المسلمين لعدم تطبيق النظام الإسلامي العظيم الخالد الذي - لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد - ذلك النظام العالمي الرفيع الذي إن طبقه المسلمون كما جاء عن الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم تضمحل تلك الدعوات الهدامة تلقائياً دون الحاجة إلى وسائل دعاية أخرى تقوم بضدها، ولكن يا بنيّ: قد عرف العرب تماما الآن - فيما أشعر - أنهم كانوا في غمرتهم، وسكرتهم فيما مضى من الوقت. ولقد تنبهوا الآن(9/60)
أن أمامهم قوة هائلة باغية تتفق مع ما بينها من الخلاف على أنها في ميدان واحد، ومعركة واحدة وهي المحاربة الشديدة التي لا هوادة فيها لرسالة الإسلام الخالدة ولقد امتلكت هذه القوة الباغية وسائل دعاية كبيرة جداً فوق ما يتصوره الإنسان. إلا أنني متفائل الآن بحول الله وقوته في أمر عظيم وهو أن الله تعالى وفّق هذا الرجل العظيم عاهل هذه البلاد المقدسة - فيصل بن عبد العزيز حفظه الله - فأنزله بتوفيقه إياه، وسداده له في هذا الميدان العظيم وهو لا يحمل في نفسه الكبير الفياض إلا حباً عظيماً للإنسانية كلها فضلا عن المسلمين.(9/61)
فإذا كان يا بنيّ: جاز لأعداء الإنسانية - ولا أقول أعداء الإسلام في كل مكان - أن يعملوا بكل طاقتهم وإمكانياتهم بالفساد، والإفساد والتخريب، والهدم ويتمثل هذا في الأسلحة الفتاكة التي صرف عليها من المبالغ الهائلة التي لا يمكن حصرها والتي تدمر الإنسانية وغيرها في لحظات قليلة - انظروا إلى أرض هيروشيما اليابانية التي كانت قبل الدمار تأتي بالخيرات العظيمة من الحرث والنسل انظروا إليها الآن ماذا حصل لها من الدمار والخراب ولا تأتي بشيء إلا أنها تلعن بلسان حالها من عاملها هذه المعاملة السيئة القبيحة، وإلى مثل هؤلاء يشير القرآن الكريم: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [4] فإذا كان جاز لهؤلاء أن يعملوا هذا، وذاك - وحالة شعوبهم معروفة لدى العالم كله من النواحي الاجتماعية، والأخلاقية، والثقافية، وغيرها من النواحي الحساسة في الحياة الإنسانية كلها وكلها فساد، ودمار، وخراب - فكيف لا يجور للمسلمين أن يوحدوا صفوفهم وكلمتهم على الحق، والهدى ويتضامنوا على نصر الحق، والعدالة وغير ذلك من المعاني السامية العظيمة التي يكمن وراءها كل خير، وتقدم، وازدهار لجميع شعوب الأرض، ويمثلهم في هذا العمل المبارك هذا المؤمن بربه جل وعلا المخلص لوحدة المسلمين وتوحيد كلمتهم على الرشاد والهداية والإيمان والمساواة والأخوة الصادقة، والداعي لتضامن المسلمين لكي يرجعوا إلى دينهم الذي ارتضى لهم ربهم جل وعلا، ذلك الدين الخالص الذي أكرم الله به العالم كله، والذي أتى بنظام عادل موافق للطبيعة البشرية جمعاء، لماذا لا ينشط لهذه الدعوة الكريمة ويتشجع لها، وقد فتح الله له هذه الأموال المدفونة في هذه الأرض المقدسة، فعمر بلاده وأمته في ضوء ما تعلم، وأخذ عن هذه الرسالة الخالدة، فالإيمان الكامل برب هذا الكون هو الذي جعل الرجل المثالي يقف هذا(9/62)
الموقف العظيم الشامخ أمام من يقف في طريقه، ومنهجه، وسبيله، ولقد عرفت يا بنيّ أنه لا ينام الآن إلا قليلاً لأنه يحمل فكراً كبيرًا، ومخططاً سامياً، ومنهجاً عظيماً لكي ترجع هذه الأمة المجيدة - الأمة الإسلامية - إلى مجدها السالف، وثقافتها العالمية، وعقيدتها الراسخة، وقوتها البارعة، وعلمها المتين، وأخلاقها الفاضلة، وآدابها المرضية، وكرامتها المفقودة لكي يقف مرة ثانية موقفاً مباركاً من هذا العالم فتسير سيراً حثيثاً مباركاً نحو المجد الحقيقي الذي أشار إليه القرآن الكريم في سوره وآياته غير مرة.(9/63)
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [5] فالمسلم الآن قريب منه في كل مكان ويدعو له دائماً وأبداً، وكيف لا يدعو له ويتضرع إلى مولاه، وهو صامد في وقفته الرائعة لكي يكمل هذا البناء الراسخ بعلمه الغزير وخلقه النبيل، وأدبه الرفيع وأصالته النسبية، فرأيت الرجل منساقا في هذا الحديث وهو يبكي بكاء فرحٍ واستبشار، ويطيل نظرته إلى البيت العتيق، ويرفع يديه المرة تلو المرة ويقول: اللهم أوجد للمسلمين كياناً مستقلاً من هذا العالم الذي يسير في ركاب الجاهلية الجهلاء، والضلالة العمياء إلا ما شاء الله ذلك الكيان المبارك الذي ستتبعه الدنيا كلها، وتتأثر منه تأثراً عميقاً، فترجع إلى الحق والهدى، وهذا الكيان المنشود قد بدأت بوادره، وظهرت في الأفق معالمه، فمؤتمر لاهور الإسلامي العظيم الذي حضر فيه غالب رؤساء وملوك الأمم الإسلامية، والذي ظهر فيه المسلم الأسود، والأبيض، والعربي والعجمي والأفغاني، والفارسي، والتركي وغيره على مائدة واحدة بعد مضي قرون على تفرقهم بهذا المستوى الأعلى، فكان الفضل الأول بعد الله عز وجل يرجع إلى هذا المخلص الأمين البار، فكان هذا المؤتمر وقبله مؤتمر الدار البيضاء الإسلامي مظهراً مباركاً تجلت فيه الأخوة الإسلامية فوق جميع الاعتبارات وإلى هذا العمل المبارك يشير القرآن الكريم {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [6] ، ولقد كنت أستمع إلى الإذاعات العالمية حينئذ فكأنها أصابتها دهشة كبيرة وهزة قوية لما لهذا(9/64)
المؤتمر العظيم من النتائج الخطيرة بالنسبة لهؤلاء الأعداء في المستقبل القريب العاجل إن شاء الله تعالى، فكفى المسلمين هذا الاجتماع المثالي فضلا أن تكون هناك مجالس عامة وخاصة بين أقطاب المسلمين فكروا فيها لأعمال جليلة مباركة تعود على الأمة الإسلامية بالفوائد العظيمة، ولقد أحسست حينئذ بإحساس كبير، وشعور عظيم لمستقبل باهر تجتمع الأمة الإسلامية بكافة إمكانياتها، وطاقاتها لنشر الخير والعدالة، في ربوع العالم كله، ويخلص الله بها البشرية وغيرها من المصائب والحروب والفقر، والمرض، والجهل وغير ذلك من الأمراض الاجتماعية الفتاكة، وبينما الرجل منهمك في حديثه هذا ارتفع صوت حلو عذب من منائر الحرم المكي الشامخة - الله أكبر الله أكبر - فقطع الحديث، ووعد بالبقية في فرصة أخرى وودعني، وذهب لحاجته والوضوء، فأطلت إليه النظر حتى غاب عني، ولقد وجدته مخلصاً في حديثه ذلك العذب، ومتواضعاً في ملبسه الذي كان لا يساوي إلا عدة دراهم معدودة، وزودني بمعلومات قيمة نادرة، وحوادث عجيبة وقعت أمام نظره وبصره، ولقد أجاد وأفاد.
--------------------------------------------------------------------------------
( [1] ) الحج27.
( [2] ) سيرة ابن هشام 484-485/1، وحياة الصحابة للكاندهلوي 319-320/1 كنز العمال334/8.
( [3] ) كلمة مدرجة من تفسير الزهري للحديث الذي أخرجه البخاري في الجامع الصحيح انظر الفتح 23/1.
( [4] ) البقرة 205.
( [5] ) آل عمران (110) .
( [6] ) الأنفال 62- 63.(9/65)
ندوة الطلبة
الشباب ودورهم الفعال في بناء الأمم
عزيزو محمد مغربي
الطالب بالسنة الثانية بالمعهد الثانوي بالجامعة
الشباب زهرة الحياة وطور النضوج والإنتاج. وهو أعز ما يتمناه المرء إذا فقده. قال الشاعر يشكو المشيب للشباب:
فأخبره بما فعل المشيب
ألا ليت الشباب يعود يوماً
ولكن هيهات هيهات! فينبغي للشاب أن يغتنم هذه الفرصة الثمينة من العمر لأن الحق جل وعلا سيسأله عن شبابه فيم أفناه، ليس بينه وبين الله سبحانه وتعالى ترجمان. إن الأمم التي بادت واندثرت في الدنيا، فلم يبق لها أثر، ما بادت واندثرت بمعنى انقطاع جنسها، بل إنها بادت بمعنى أن كيانها الذي يضمن لها البقاء مع الرفعة والعزة، انهار وزال من الوجود. وزيادة في الإيضاح أقول: إن الحضارة التي كان أهلها يرفعون لواءها امحت خصائصها وذهبت سماتها المميزة هباء منثورا. أما جيلها - الذي جاء بعدها - فهو لا يزال يتناسل ويتوالد إلا أن شخصيته ومدنيته امحت بسبب رئيسي وهو أن الأجيال التي توالت، فقدت الكفاية التي تستطيع بها نقل ما توارثته عن أسلافها إلى أخلاقها.
فأهمية العنصر الإنساني توزن بما بثه من وعي وقيم مُثلى فيمن بعده من الأجيال المتعاقبة. قال الشاعر:
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت(9/66)
إن هذه الأرض التي نعيش عليها كان قد فتحها أسلافنا لتتمثل فيها الحضارة الإسلامية ويُطبق فيها نظام الحياة الذي كانوا يؤمنون بكماله، وإن استمرار الأجيال المسلمة كليا على سعي الجيل الحاضر لنقل الحضارة الإسلامية في منهجها الرباني الراشد إلى الجيل الناشئ. هذا المنهج الذي توارثناه عن أسلافنا الكرام رضي الله عنهم وتميزنا به عن أمم العالم أجمع. ولا تتحقق هذه الغاية إلا بطريقتين: الأولى: أن ينهض الطلبة أنفسهم لتحقيقها. والثانية: أن تضع الحكومة نظاما للتعليم والتربية يحقق هذه الغاية.
وأعلل هذه الفكرة فأقول: إن الطلبة الذين يدرسون في المعاهد والجامعات يبلغون الرشد، ويتمتعون بالنضج الفكري والوعي، ويستطيعون أن يميزوا الخبيث من الطيب والشر من الخير. ومن ثمّ فإن كل الثقل في هذا الشأن لا يكون على عاتق الحكومة فقط بل يكون على عتق الطلبة أنفسهم كذلك. ويجب أن يكون الطلبة الشباب على شعور تام بأنهم مسلمون وأنهم مدعوّون لأن يعيشوا على هذه الأرض حياة إسلامية، ويُحتّم ذلك أن تلتهب في نفوسهم المؤمنة جذوة الشوق إلى معرفة ما هو المنهاج الذي يضمن لهم البقاء، وما هي الخصائص البارزة المميّزة للأمة الإسلامية، أي الخصائص التي إذا تخلّوا عنها وفقدوها، ينهار كيان شخصية الأمة الإسلامية وتصبح خاوية على عروشها. إن أصل الإسلام وأساس بنائه الإيمان بهذه الرسالة المحمدية العظمى التي تقوم على عقيدة التوحيد. هذه العقيدة الغالية التي تجرّد أعمال العبد المؤمن لله رب العالمين وتوجّه قلب المؤمن في قضاء حاجاته الدنيوية والأخروية إلى الواحد الأحد الفرد الصمد.(9/67)
ويجب على الجيل المسلم أن يكون على علم ويقين بهذه العقيدة. وأدنى شك يتسرب إلى قلبه فيها يستأصل المدنية الإسلامية من جذورها، فالضرورة إذاً تدعو إلى تركيز الجهود للمحافظة على هذه الحقيقة الأساسية. ويجب على الطلبة الذين يتمتعون بالشعور الإسلامي أن ينهضوا لمقاومة كل حركة أو دعوة تدعو إلى الخرافة والإلحاد والمادية، وتعمل جادة للتشكيك في العقيدة الإسلامية وتوهن الإيمان بها. فلا يسمحون لحركة - من شأنها القضاء على هذه العقيدة الطاهرة والكنز الثمين - أن ترفع رأسها وتزدهر وتشق طريقها إلى الأمام بينهم. وإن من يبُثُ الشبهات حولها وحول غيرها - من أركان الإسلام - لا يقترف جريمة الكفر فقط بل يرتكب الخيانة الكبرى في حق الإسلام، ويهدف إلى محوه. كما يجب على الشباب المسلم أن يتحلى بالأخلاق والقيم المُثلى ليكون قدوة لغيره وليطهروا الأذهان والقلوب من شر هذه الصيحات الهدامة، وبالتالي يضطرون ويُرغمون أهل الفساد أن يرحلوا خائبين من ديار الإسلام، لأن المكان لم يَعُد خصباً وصالحاً لنماء جراثيمهم فتطهر الأرض جميعها ويخلو الجو للشباب، فيمكنهم أن يشيدوا صرح الأمة الإسلامية ويرفعوا رأسها عاليا بين الأمم الأخرى، ويُؤثّروا فيها. بما يقدمونه لها من نور الهداية والسعادة المنشودة. هذه السعادة التي حسبها الكثير من الشباب في تقليد الغرب فأسبلوا الشعور، وتعاطوا المخدرات وشرب الخمور، وانغمسوا في ألوان الفجور.
ونسوا بأن الله يعلم سرّهم
غَرِق الشباب وقد أضاعوا عمرهم(9/68)
والحقيقة أن السعادة مفقودة في غير ظل الإسلام، وأخيراً أُهيب بالآباء والأمهات أن لا يألوا جهداً ولا يدخروا وسعاً في تربية أبنائهم، شباب اليوم ورجال المستقبل، الذين سيتولون مقاليد الحكم، على روح الإسلام. فإن أحسنوا توجيههم، أحسنوا بدورهم إلى أمتهم وإن أهملوهم حيارى - لا يهود ولا نصارى - كما هو الوضع الآن، فسوف يرون منهم العجب العجاب ويُنكرون فعالهم ويصعب عليهم تدارك الأمر. والرسول صلى الله عليه وسلم كان يولي اهتمامه الشباب كثيراً. فنحن نلوم شبابنا إلى درجة أننا أصبحنا نبغضه ونتقزّز من رؤيته. والواقع أنه فَقَدَ الأيادي البيضاء الطاهرة الموجهة إلى الخير. والله أسأل أن يردنا إلى دينه ردّا جميلا. وصلى الله وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.(9/69)
دمعة من القلب
بقلم محمد محمود جاد الله
الطالب بكلية الشريعة بالجامعة
حادي الشوق رحمة بالقلوب.
هزنا الشوق بين هذي الخطوب.
والظلام المخيف أخنى علينا.
وطوانا في ليلنا المكروب.
ورياح الآلام تجري رخاء.
لم تزل نحونا بغيض اللغوب.
فلتذوبي قلوبنا من شقاء.
فلتذوبي قلوبنا فلتذوبي.
إن ذكرى الحبيب تفتح في القلب.
جراحا عميقة بالوجيب.
فتسح الآماق بالدمع يهمي.
مجهدات بدمعهن الصبيب.
يوم أن كانت الرؤى باسمات.
والدنا تزدهي كغصن رطيب.
إن ذكرى الرسول فيها عظات.
لو وعينا جميعها بالقلوب.
لأتانا الإله بالنصر يسعى.
وسلمنا من كل أمر مريب.
مات فينا الإحساس بالنفس حتى.
لم يعد نافعا كلام الطبيب.
قد رمت ثقلها علينا العوادي.
كم نرى شاكياً لحق سليب.
كل ذكرى تعيد في كل عام.
صرخة القدس مالها من مجيب.
غير دعوى ترن في كل حين.
عبر أسماعنا بقول رتيب.
وأمان تصاغ كالدر قولا.
من زعيم مفوه أو خطيب.
قولة الحق زمجرت من مليك.
قالها فيصل بقلب منيب.
إن في الدين مجدكم فاستعدوا.
أبشروا بالعلا وفتح قريب.
فتنادى في الله أبناء دين.
كلهم مسلم لرب رقيب.
هذه دمعة من القلب سالت.
لا خيال لشاعر أو أديب.(9/70)
قصة غدا نلتقي
بقلم محمد عبد الخالق عثمان
الطالب بكلية الشريعة بالجامعة
كنت أعرف هذا الشاب جيدا من خلال صداقة جمعتنا ثلاث سنوات ولقد أعجبت به كثيراً، ولقد كان أسامة مثالاً للشاب المسلم الواعي المدرك لشريعة دينه المدرك لما يدور حوله وفي عالمه وكان يتمتع بنفسية شفافة وفطرة لم تكدر فكان يعرف لكل مقام مقاله وكان يعالج معارفه بشيء كثير من الصبر. وكثيراً ما كنت أشفق عليه في حواره مع أحد الأشخاص، وطول صبره وكثرة ما يتغاضى في حديثه عن كلمات جارحة له مقصودة آملا في أن يصل لما يريد.
وإنني إذ أكتب عنه اليوم فإنما أضعه نموذجا وقدوة للشباب المسلم.
كنت وإياه نخرج سويا ًإلى المسجد في الصباح في الأيام التي كن نجتمع فيها، وكنت أرى علامات الحزن ترسم خطوطاً على وجهه ونحن نتهيأ للصلاة وليس معنا سوى ما يعد على أصابع اليد الواحدة من المصلين.
فلت له يوماً.. أخبرني بربك يا أسامة لماذا التحقت بكلية الطيران؟ إن والدك قد انتقل إلى رحمة الله وأنت الآن تعول أسرتك الكبيرة العدد وأخوتك كلهم صغار ويحتاجون لمن يكون بجانبهم دائما خاصة وأن دخلكم المعيشي قليل. تبسم من سؤالي ثم نظر إليّ نظرة المعاتب ثم قال: أنت تعرف يا محمد.. ألم نتحدث في هذا قبل ذلك - قلت بلى تحدثنا ولكن يبدو لي أحياناً أنك من أصحاب الشائبتين. أي أنك تريد الدنيا (ثم) الآخرة.. قال إن كنت كذلك - فلا بأس - قلت إذن لم تفهم سؤالي يا أسامة، إنني أقصد أنك ربما تكون من الذين يحبون أن يروا أنفسهم وهم يرتدون زي الضباط وتهب لهم الناس قياما وتؤدى لهم التحيات بالأيدي والأرجل ويقال هذا فلان وأنت تنتفخ ويمتلئ صدرك وتشمخ بأنفك وتضرب الأرض بقدمك ثم بعد ذلك لا بأس أن تكون لديك نية للآخرة أيضا ولكنها ثانوية.(9/71)
قال: إنني أستطيع الآن أن أقول أن كل الناس لا تفهمني، كنت أظنك الوحيد الذي تفهمني فإذا أنت تجتهد في فهمي أيضا، وما كان ينبغي لك ذلك ألم تقل لي أننا غرباء، فإذا كنا من أهل الدنيا فلسنا فيها بالغرباء..
نظرت إليه ثم سكت فترة ليست بالقصيرة وأنا أتابع ذكرياته معي في السنوات الماضية واجتهاده وتدينه. والحق أن سؤالي له كان بقصد مني، لقد أردت أن أعرف مقدار التدين وعمقه لديه، ثم نظرت إليه فجأة وفي توجيه خاطف سألته: وإلى أين بعد التخرج؟ قال: ولماذا تتعمد السؤال المفاجئ هكذا؟ أتريد أن أتلعثم في الإجابة. لا والله لقد أعددت الجواب منذ وقت طويل.. إنني يا أخي ذاهب إلى الله.. قلت عجباً والآن أليس إلى الله، قال بلى ولكن الوصف الذي ينطبق على نفسي الآن أنني مع الله، قلت له: أسامة أرجو تفسيرا أكثر.. قال لبيك.. أخي إنني بعت نفسي لله بكل رضا وما بقي إلا أن أتحين الفرصة المناسبة لعل الله يقبلني.. قلت: وتتركني وحدي يا أسامة، إن الرياح تعصف من حولي بشدة والغبار يحجب الرؤية والظلمة شديدة وماذا أفعل أنا يا أسامة؟ قال: لا تتعجل ومن يدري إن الأعمار بيد الله وفجأة صرخ طفل صغير فدخل أسامة مسرعاً ثم عاد بعد قليل، قلت خير قال خير إنه أخي أحمد، أمي مشغولة عنه بالصلاة وهو دائماً في عراك مع اخوته. وساد السكون بيننا وقتاً وخواطري تحوم وتجول، إن اخوته صغار ولكن كم يتعب الجسد إذا كانت النفس كبيرة الغاية شريفة الأمل. ثم نظر إليّ واستطرد قائلا: أين أنت؟ لعلك غبت عنّا إلى بعيد.. كفاك أخي هذا الشرود.. لا تفكر فيما تكفل الله به.
نظرت في ساعتي ثم قلت: أسامة أستودعك الله وإلى الغد نلتقي إن شاء الله..(9/72)
اسمح لي الآن أن أنصرف.. وانصرفت وفكري معه وصورته ما تزال تطوف بخيالي.. لكم أتمنى أن يكون كل الشباب المسلم هكذا؟ ولكن ليست الأمور بالتمني، إن الواقع وربما دلائل المستقبل تكذب هذا التمني.. وطال ليلي وأنا أفكر وأخيراً نمت وفي الصباح استيقظت وتوجهت إلى المسجد هادئاً لا صوت ولا حركة لكأنه غريب يلفظ أنفاسه الأخيرة في فلاة منقطعة وكانت الشوارع تبدو خالية إلا من مبكر إلى مزرعته آخذ بذنَب بقرته أو صاحب متجر طمع في بيعة زيادة فابتدر يومه، دخلت المسجد وإذا بأسامة جالسا ينتظر.. ألقيت عليه السلام ثم قلت أنت قضيت الليلة هنا أم جئت الآن.. تبسم وقال لو كنت أستطيع لفعلت لقد جئت منذ قليل ثم أذنت للفجر وجلست قلت هيا بنا نصلي قال هيا.. صلينا وخرجنا قلت له الإفطار عندي قال لا بأس ليكن عندك إنني سأسافر اليوم إن شاء الله اليوم اليوم ولماذا لم تخبرني قبل ذلك. قال وماذا كان سيحدث؟ إن الكلية ستبدأ غداً ولا بد لي أن أحضر الدروس الثنائية من أولها لننهي تلك المرحلة بعون الله. قلت موفق بإذن الله لا أستطيع أن أقول أكثر من ذلك.
دخلنا منزلنا وأفطرنا ثم جلسنا قليلا وخرجنا وتوجه هو إلى منزله وبعد فترة أرسل لي أخاه الصغير.. إن أسامة مسافر الآن. توجهت معه إلى السيارة ولقد كان وداعاً حاراً ومؤلماً لم يكن مثل كل وداع ولم أكن أدري أن هذه آخر مرة أرى فيها أسامة.
وتابعت السيارة وهي تغيب عن بصري رويداً رويداً ثم عدت لمنزلي والخواطر تذهب بي كل مذهب. وجاء موعد رحيلي أنا الآخر وتوجهت إلى المدينة المنورة وبعد حين وصلتني أول رسالة من أسامة جاء فيها:(9/73)
"عزيزي محمد: لقد تخرجت بعون الله وكنت أول دفعتي، والآن إن أملي يوشك أن يتحقق إنني أملك الآن تحت يدي طائرة حربية حديثة.. تدري ماذا وضعت فيها؟ لقد وضعت فيها عن يميني مصحفا وأمامي صورة للكعبة الشريفة، إنني فرح جداً وفخور للغاية كم أتمنى أن أراك، إنني أحياناً يا محمد أصلي داخل الطائرة إنها متسعة نعم تستطيع أن تحمل أطناناً من القنابل لتلقيها على أعداء الإسلام لكم هي جميلة إنني أحبها وأشعر أنها تحبني كم أتمنى أن تُصنع في بلادي. أما من جهة أمي واخوتي فهم بخير إن رسائلهم لا تنقطع عني، إنني مشتاق لهم وأرجو أن أراهم ولقد وافقت أمي على رغبتها في خطبة بنت خالي لي.. إنها متدينة.. أحمد الله.. وصيتي سر على الدرب يا أخي وأستودعك الله.. أخوك أسامة"كان هذا أول اتصال بيني وبين أسامة بعد تخرجه أما الاتصال الثاني فقد جاء في رسالته:
"أخي محمد: إنني أتألم كثيرا من رؤية شبابنا، يؤلمني منظر الشعر والبنطلون وسلاسل الرقبة واللبان -لقد هجروا المساجد وعمروا السينمات والمسارح إننا في الجبهة لا ننام ليلا ولا نهارا حتى إذا نزلنا اليوم الشهري الذي نرتاح فيه كأننا في عالم جديد.. إنهم يضحكون ويلعبون.. إنني لأشعر أن الفارق بيننا وبينهم كبير.. إن كثيرا من زملائي يشعرون نفس الشعور.. إنني لا أستطيع أن أعيش في هذا العالم - أذكر لك شيئا آلمني جدا: ثلاثة من الشبان المسلمين كانوا يمشون أمامي أحدهم كان ممسكا في يده بفرشاة وإناء به لون أحمر وكان المؤذن يؤذن للظهر في المسجد الذي أمامنا أحدهم قال للآخر انتظرني هنا (خارج المسجد) سأدخل الحمام ثم آتي حالا أما الآخران فقام أحدهما بوضع الفرشاة في اللون الأحمر ثم كتب على حائط المسجد (انتخبوا صاحب الرأي الحر …..) ثم انصرفوا جميعا.. لقد دخلت إلى الصلاة وقلبي يقطر دما. وصيتي العهد الذي بيني وبينك سر على الدرب يا أخي … أخوك: أسامة".(9/74)
ولم يمض أسبوع على تلك الرسالة حتى اندلع القتال الضاري في العاشر من رمضان والذي استمر ما يقرب من ثلاثة أسابيع وانتهى بنصر وليس بالنصر كله.
وبينما أنا مار لفت نظري بائع الصحف ولا أدري ما الذي استوقفني إنني أسمع الإذاعة وفيها ما يغني عن الصحافة.. سألت البائع هل جاءت صحف؟ قال نعم ناولني الجريدة ونظرت في الصفحة الأولى وفجأة كأنما الأرض تتزلزل تحت أقدامي واعتراني دوار شديد - ما هذا يا ترى؟ أهذا الذي أرى حقيقة - إنها صورة أسامة - إنها لتكاد تملأ الصفحة الأولى.. وما هذا العنوان؟ (استشهاد البطل) . استشهد أسامة.. لقد رحل أسامة.. لقد باع نفسه لله.. وداعا يا أسامة لقد انفردت وحدي.. ورحت أقرأ ما كتب عنه:
"هذا البطل الذي ننشر صورته اليوم رمز لتصميم المسلم وانتقامه، لقد انتقل صائماً أغار بطائرته على القواعد الإسرائيلية ستاً وثلاثين غارة كانت جميعها ناجحة لم يفلح رؤساؤه في إقناعه بالراحة قليلا، لقد رفض كل راحة كانت تعطى له وفي غارته الأخيرة استطاع أن يسقط للعدو في طلعة واحدة خمس طائرات ثم أحس أن الوقود المتبقي في الطائرة لا يكفي لعودته إلى قاعدته.. أخطر القيادة بالأمر.. قال سوف أتصرف.. سوف أنتقم الانتقام الأخير.. ثم ألقى بالطائرة على أضخم قاعدة للصواريخ (هوك) أرض جو ولقد اندلعت النيران في كل القاعدة إنه البطل أسامة، الذي ترك وراءه سبعة أطفال أشبه بالطيور التي ما يزال ريشها ممتلئا بالدم.. ترك أمه وخطيبته.. إنه لم يمت.. سيظل حيا دائما".(9/75)
وما أن انتهيت من قراءة السطور القليلة حتى جمعت قواي وتوجهت إلى منزلي وألقيت بنفسي على السرير وراح طيف أسامة يطوف بخيالي.. رحمك الله يا أسامة.. نعم الشاب المسلم كنت.. لقد كنت صادقاً وكنت غريباً في عالم تنكر لأعظم القيم والمبادئ، ما رأيتك يوماً إلا ذاكراً أو خاشعاً.. كان كلامك يحمل معاني كبيرة ويوحي بنفس عظيمة.. لقد عشت في الدنيا وما عاشت فيك ولقد ابتعدت بنفسك الأبية عن سفاسف الأمور ومادية العصر فكنت جديراً بما اختار الله لك.
وداعاً يا أسامة يا بطل، وسيظل صديقك كما أوصيت على الدرب حتى يلتقي بك فهنيئا لك ومفخرة لصديقك بك وصبراً لأخوتك الصغار ووالدتك المؤمنة الوقورة. وليعلم العالم أن الإسلام ما زال يعطي.. وليعلم العالم أن الإسلام لم يستنفد دوره وأننا ما زلنا بخير.. إن شموعنا لم تنطفئ جميعها …(9/76)
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فضلها وكيفيتها
بقلم فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم ارض عن الصحابة الكرام ومن تبعهم بإحسان، أما بعد:
فإن نعم الله تعالى على عباده كثيرة لا تحصى وأعظم نعمة أنعم الله بها على الثقلين الجن والإنس أن بعث فيهم عبده ورسوله وخليله وحبيبه وخيرته من خلقه محمداً صلى الله عليه وسلم ليخرجهم به من الظلمات إلى النور وينقلهم من ذل العبودية للمخلوق إلى عز العبودية للخالق سبحانه وتعالى يرشدهم إلى سبيل النجاة والسعادة ويحذرهم من سبل الهلاك والشقاوة وقد نوه الله بهذه النعمة العظيمة والمنة الجسيمة في كتابه العزيز: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
. وقال سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً}
وقد قام عليه أفضل الصلاة والسلام بإبلاغ الرسالة وأداء الأمانة والنصح للأمة على التمام والكمال فبشر وأنذر ودل على كل خير وحذّر من كل شر وأنزل الله تعالى عليه وهو واقف بعرفة قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بمدة يسيرة قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} ..(9/77)
وكان صلى الله عليه وسلم حريصا على سعادة الأمة غاية الحرص كمال قال الله تعالى منوها بما حباه الله به من صفات جليلة: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}
وهذا الذي قام به صلى الله عليه وسلم من إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة والنصح للأمة هو حق الأمة عليه كما قال الله تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} . وقال: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} . وروى البخاري في صحيحه عن الزهري أنه قال: من الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم. انتهى.(9/78)
وإن علامة سعادة المسلم أن يستسلم وينقاد لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} ، وقال تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، وعبادة الله تكون مقبولة عند الله ونافعة لديه إذا اشتملت على أمرين أساسين: أولهما: أن تكون العبادة لله خالصة لا شركة لغيره فيها كما أنه تعالى ليس له شريك في الملك فليس له شريك في العبادة كما قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وقال: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .(9/79)
الثاني: أن تكون العبادة عل وفق الشريعة التي جاء بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم} وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"، وفي رواية لمسلم "من عمل عمل ليس عليه أمرها فهو رد". وقال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة".
ولما كانت نعمة الله تعالى على المؤمنين بإرسال رسوله صلى الله عليه وسلم إليهم عظيمة أمرهم الله تعالى في كتابه أن يصلوا عليه ويسلموا تسليما بعد أن أخبرهم أنه وملائكته يصلون عليه فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} . وبين النبي صلى الله عليه وسلم في السنة المطهرة فضل الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وكيفيتها وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بها..
وسأتحدث عن فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وبيان كيفيتها ثم أشير إلى نماذج من الكتب المؤلفة في هذه العبادة العظيمة وأسأل الله تعالى التوفيق والسداد.
معنى الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وبيان كيفيتها(9/80)
صلاة الله على نبيه صلى الله عليه وسلم فسرت بثنائه عليه عند الملائكة وصلاة الملائكة عليه فسرت بدعائهم له فسرها بذلك أبو العالية كما ذكره عنه البخاري في صحيحه في مطلع باب {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وقال البخاري في تفسير صلاة الملائكة عليه بعد ذكر تفسير أبي العالية قال ابن عباس: يصلون يبركون أي يدعون له بالبركة.
وفسرت صلاة الله عليه بالمغفرة وبالرحمة كما نقله الحافظ ابن حجر في الفتح عن جماعة وتعقب تفسيرها بذلك ثم قال: وأولى الأقوال ما تقدم عن أبي العالية أن معنى صلاة الله على نبيه ثناؤه عليه وتعظيمه وصلاة الملائكة وغيرهم عليه طلب ذلك له من الله تعالى والمراد طلب الزيادة لا طلب أصل الصلاة وقال الحافظ: وقال الحليمي في الشعب: معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تعظيمه فمعنى قولنا اللهم صلى على محمد عظم محمداً والمراد تعظيمه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء شريعته وفي الآخرة بإجزال مثوبته وتشفيعه في أمته وإبداء فضيلته بالمقام المحمود وعلى هذا فالمراد بقوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ} ادعوا ربكم بالصلاة عليه. انتهى.(9/81)
وقال العلامة ابن القيم في كتابه جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام في معرض الكلام على صلاة الله وملائكته على رسوله صلى الله عليه وسلم: وأمر عباده المؤمنين بأن يصلوا عليه بعد أن رد أن يكون المعنى الرحمة والاستغفار قال: بل الصلاة المأمور بها فيها - يعني آية الأحزاب - هي الطلب من الله ما أخبر به عن صلاته وصلاة ملائكته وهي ثناء عليه وإظهار لفضله وشرفه وإرادة تكريمه وتقريبه فهي تتضمن الخبر والطلب وسمى هذا السؤال والدعاء منا نحن صلاةً عليه لوجهين أحدهما أنه يتضمن ثناء المصلى عليه والإشادة بذكر شرفه وفضله والإرادة والمحبة لذلك من الله فقد تضمنت الخبر والطلب والوجه الثاني أن ذلك سمى صلاة منا لسؤالنا من الله أن يصلي عليه فصلاة الله ثناؤه لرفع ذكره وتقريبه وصلاتنا نحن عليه سؤالنا الله تعالى أن يفعل ذلك به انتهى.
وأما معنى التسليم على النبي صلى الله لعيه وسلم فقد قال فيه المجد الفيروزآبادي في كتابه: الصلات والبشر في الصلاة على خير البشر. ومعناه: السلام الذي هو اسم من أسماء الله تالى عليك وتأويله: لا خلوت من الخيرات والبركات وسلمت من المكاره والآفات إذ كان اسم الله تعالى إنما يذكر على الأمور توقعا لاجتماع معاني الخير والبركة فيها وانتفاء عوارض الخلل والفساد عنها ويحتمل أن يكون السلام بمعنى السلامة أي ليكن قضاء الله تعالى عليك السلامة أي سلمت من الملام والنقائص فإذا قلت اللهم سلم على محمد فإنما تريد منه اللهم اكتب لمحمد في دعوته وأمته وذكره السلامة من كل نقص فتزداد دعوته على ممر الأيام علواً وأمته تكثراً وذكره ارتفاعاً.(9/82)
أما كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقد بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين سألوه عن ذلك ,وقد وردت هذه الكيفية من طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم, أذكر منها هنا ما كان في الصحيحين أو في أحدهما، روى البخاري في كتاب الأنبياء من صحيحه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال:"ألا أهدي لك هدية سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم فقلت بلى فأهدها إلي فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت فإن الله علمنا كيف نسلم قال قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد". وأخرج أيضا حديث كعب بن عجرة في كتاب التفسير من صحيحه في تفسير سورة الأحزاب ولفظه:"قيل يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف الصلاة عليك قال قولوا اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد". وأخرجه أيضا في كتاب الدعوات من صحيحه وقد أخرج هذا الحديث مسلم عن كعب بن عجرة رضي الله عنه من طرق متعددة عنه.
وأخرج البخاري في كتاب الدعوات من صحيحه عن أبي سعيد الخدري "قال قلنا يا رسول الله هذا السلام عليك فكيف نصلي قال قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم" وأخرجه عنه أيضا في تفسير سورة الأحزاب.(9/83)
وأخرج البخاري في كتاب الأنبياء من صحيحه عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد". وأخرج عنه أيضا في كتاب الدعوات بمثل هذا اللفظ، وأخرج هذا الحديث عن أبي حميد رضي الله عنه مسلم في صحيحه.
وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال. "أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله تعالى أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسلام كما علمتم"
هذه هي المواضع التي خرج فيها هذا الحديث في الصحيحين أو أحدهما وهي عن أربعة من الصحابة: كعب بن عجرة وأبي سعيد الخدري وأبي حميد الساعدي وأبي مسعود الأنصاري وقد اتفق البخاري ومسلم على إخراجه من حديث كعب وأبي حميد وانفرد البخاري بإخراجه من حديث أبي سعيد وانفرد مسلم بإخراجه من حديث أبي مسعود الأنصاري وقد أخرجه عن هؤلاء الأربعة غير الشيخين فرواه عن كعب بن عجرة أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والإمام أحمد والدارمي ورواه عن أبي سعيد الخدري النسائي وابن ماجه ورواه عن أبي حميد أبو داود والنسائي وابن ماجه ورواه عن أبي مسعود الأنصاري أبو داود والنسائي والدارمي.
وروى حديث كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة غير هؤلاء الأربعة منهم طلحة بن عبيد الله وأبو هريرة وبريدة بن الحصيب وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.(9/84)
وهذه الكيفية التي علم صلى الله عليه وسلم أصحابه إياها عندما سألوه عن كيفية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم هي أفضل كيفيات الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وأكملها الصيغة التي فيها الجمع بين الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وآله والصلاة على إبراهيم صلى الله عليه وسلم وآله وممن استدل بتفصيل الكيفية التي أجاب النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بها الحافظ ابن حجر في فتح الباري فقد قال فيه (11/166) قلت واستدل بتعليمه صلى الله عليه وسلم لأصحابه بالكيفية بعد سؤالهم عنها بأنها أفضل كيفيات الصلاة عليه لأنه لا يختار لنفسه إلا الأشرف الأفضل ويترتب على ذلك لو حلف أن يصلي عليه أفضل الصلاة فطريق البر أن يأتي بذلك ثم ذكر أن النووي صوب ذلك في الروضة وذكر كيفيات أخرى يحصل بها بر الحلف ثم قال والذي يرشد إليه الدليل أن البر يحصل بما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه لقوله من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا فليقل: اللهم صلى على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم.. الحديث والله أعلم انتهى.(9/85)
وقد درج السلف الصالح ومنهم المحدثون بذكر الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم عند ذكره بصيغتين مختصرتين إحداهما (صلى الله عليه وسلم) والثانية (عليه الصلاة والسلام) وهاتان الصيغتان قد امتلأت بهما ولله الحمد كتب الحديث بل إنهم يدونون في مؤلفاتهم الوصايا بالمحافظة على ذلك على الوجه الأكمل من الجمع بين الصلاة والتسليم عليه صلى الله عليه وسلم. يقول الإمام ابن الصلاح في كتابه علوم الحديث: ينبغي له - يعني كاتب الحديث - أن يحافظ على كتبة الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذكره ولا يسأم من تكرير ذلك عند تكرره فإن ذلك من أكبر الفوائد التي يتعجلها طلبة الحديث وكتبته ومن أغفل ذلك حرم حظا عظيما - إلى أن قال -: وليتجنب في إثباتها نقصين: أحدهما أن يكتبها منقوصة صورة رامزا إليها بحرفين أو نحو ذلك والثاني أن يكتبها منقوصة معنى بأن لا يكتب (وسلم) وإن وجد ذلك في خط بعض المتقدمين انتهى محل الغرض منه.
وقال النووي في كتاب الأذكار: إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فليجمع بين الصلاة والتسليم ولا يقتصر على أحدهما فلا يقل (صلى الله عليه) فقط ولا (عليه السلام) فقط انتهى.
وقد نقل هذا عنه ابن كثير في ختام تفسيره آية الأحزاب من كتاب التفسير ثم قال ابن كثير: وهذا الذي قاله منتزع من هذه الآية الكريمة وهي قوله: {ِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فالأولى أن يقال: صلى الله عليه وسلم تسليما. انتهى.
وقال الفيروزبادي في كتابه الصلات والبشر: ولا ينبغي أن ترمز للصلاة كما يفعله بعض الكسالى والجهلة وعوام الطلبة فيكتبون صورة (صلعم) بدلا من صلى الله عليه وسلم.
فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم(9/86)
قد ورد في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة جمعها الحافظ إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتاب أفرده لها وقد أشار الحافظ ابن حجر في فتح الباري عند شرحه حديث كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم الذي أورده البخاري في كتاب الدعوات من صحيحه إلى الجيد من أحاديث فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والحافظ ابن حجر من أهل الاستقراء التام والإطلاع الواسع على دواوين السنة النبوية فأنا أورد هنا ما ذكره في هذا الموضوع قال رحمه الله (11/ 167) واستدل به على فضيلة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من جهة ورود الأمر بها واعتناء الصحابة بالسؤال عن كيفيتها وقد ورد في التصريح بفضلها أحاديث قوية لم يخرج البخاري منها شيئا.
منها ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رفعه:"من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا" وله شاهد عن أنس عند أحمد والنسائي وصححه ابن حبان وعن أبي بردة بن نيار وأبي طلحة كلاهما عند النسائي ورواتهما ثقات ولفظ أبي بردة: "من صلى علي من أمتي صلاة مخلصا من قلبه صلى الله عليه بها عشر صلوات ورفعه بها عشر درجات وكتب له بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات" ولفظ أبي طلحة عنده نحوه وصححه ابن حبان. ومنها حديث ابن مسعود رفعه: "إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة". وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان وله شاهد عند البيهقي عن أبي أمامة بلفظ: "صلاة أمتي تعرض علي في كل يوم جمعة فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني منزلة" ولا بأس بسنده، وورد الأمر بإكثار الصلاة عليه يوم الجمعة من حديث أوس بن أوس وهو عند أحمد وأبي داود وصححه ابن حبان والحاكم.(9/87)
ومنها حديث "البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي" أخرجه الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم وإسماعيل القاضي وأطنب في تخريج طرقه وبيان الاختلاف فيه من حديث علي ومن حديث ابنه الحسين ولا يقصر عن درجة الحسن. ومنها "من نسي الصلاة علي خطئ طريق الجنة" أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس والبيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة وابن أبي حاتم من حديث جابر والطبراني من حديث حسين بن علي وهذه الطرق يشد بعضها بعضا.
وحديث "رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ" أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ "من ذكرت عنده فلم يصل علي فمات فدخل النار فأبعده الله " وله شاهد عنده وصححه الحاكم وله شاهد من حديث أبي ذر في الطبراني وآخر عن أنس عند ابن أبي شيبة وآخر مرسل عن الحسن عند سعيد بن منصور وأخرجه ابن حبان من حديث أبي هريرة ومن حديث مالك بن الحويرث ومن حديث عبد الله بن عباس عند الطبراني ومن حديث عبد الله بن جعفر عند الفريابي وعند الحاكم من حديث كعب بن عجرة بلفظ "بعد من ذكرت عنده فلم يصل علي" وعند الطبراني من حديث جابر رفعه "شقي عبد ذكرت عنده فلم يصل علي" وعند عبد الرزاق من مرسل قتادة "من الجفاء أن أذكر عند رجل فلا يصلي علي".
ومنها حديث أبي بن كعب "أن رجلا قال يا رسول الله إني أكثر الصلاة فما أجعل لك من صلاتي قال ما شئت قال الثلث قال ما شئت وإن زدت فهو خير - إلى أن قال - أجعل لك كل صلاتي قال "إذا تكفي همك" الحديث أخرجه أحمد وغيره بسند حسن.
فهذا الجيد من الأحاديث الواردة في ذلك وفي الباب أحاديث كثيرة ضعيفة وواهية. وأما ما وضعه القصاص في ذلك فلا يحصى كثرة، وفي الأحاديث القوية غنية عن ذلك انتهى كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله والمراد من الصلاة في حديث أبي بن كعب (فما أجعل لك من صلاتي) الدعاء.
مما ألف في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم(9/88)
وقد اعتنى العلماء بهذه العبادة العظيمة فأفردوها بالتأليف وأول من علمته ألف في ذلك الإمام إسماعيل ابن إسحاق القاضي المتوفى سنة 282هـ واسم كتابه فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقد طبع بتحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني وهو يشتمل على مائة وسبعة أحاديث كلها مسندة ومن الكتب المطبوعة المتداولة في هذا الباب كتاب جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام للعلامة ابن القيم وكتاب الصلات والبشر في الصلاة على خير البشر للفيروزبادي صاحب القاموس وكتاب القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع للسخاوي المتوفى سنة 902هـ وقد ختم كتابه هذا ببيان الكتب المصنفة في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وذكر جملة كبيرة من هذه الكتب مرتبة وخامسها بالترتيب كتاب جلاء الأفهام لابن القيم وقد أشار إلى قيمة كل منها ثم قال: " وفي الجملة فأحسنها وأكثرها فوائد خامسها يعني كتاب ابن القيم أقول: وهو في الحقيقة كتاب قيم جمع مؤلفه فيه بين ذكر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في العبادة العظيمة والكلام عليها صحة وضعفا فقها واستنباطا وقد قال عنه في مقدمته: وهو كتاب فرد في معناه لم يسبق إلى مثله في كثرة فوائده وغزارتها بينا فيه الأحاديث الواردة في الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم وصحيحها من حسنها ومعلولها وبينا ما في معلولها من العلل بيانا شافيا ثم أسرار هذا الدعاء وشرفه وما اشتمل عليه من الحكم والفوائد ثم مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ومحالها ثم الكلام في مقدار الواجب منها واختلاف أهل العلم فيه وترجيح الراجح وتزييف الزائف، ومخبر الكتاب فوق وصفه والحمد لله رب العالمين. انتهى.(9/89)
ومما ألف في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مبنياً على غير علم ومشتملاً على فضائل وكيفيات للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ما أنزل بها من سلطان كتاب دلائل الخيرات للجزولي المتوفى سنة 854هـ وقد شاع وانتشر في كثير من أقطار الأرض قال عنه صاحب كشف الظنون (1/495) :
"دلائل الخيرات وشوارق الأنوار في ذكر الصلاة على النبي المختار عليه الصلاة والسلام أوله الحمد لله الذي هدانا للإيمان الخ للشيخ أبي عبد الله محمد بن سليمان بن أبي بكر الجزولي السملالي الشريف الحسني المتوفى سنة 854هـ وهذا الكتاب آية من آيات الله في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يواظب بقراءته في المشارق والمغارب لا سيما في بلاد الروم"ثم أشار إلى بعض شروح هذا الكتاب:
أقول: ولم يكن إقبال الكثير من الناس على تلاوته مبنياً على أساس يعتمد عليه وإنما كان تقليداً عن جهل من بعضهم لبعض والأمر في ذلك كما قال الشيخ محمد الخضر بن مايابي الشنقيطي في كتابه مشتهى الخارف الجاني في رد زلقات التجاني الجاني قال في أثناء رده على التجاني: فإن الناس مولعة بحب الطارئ ولذلك تراهم يرغبون دائما في الصلوات المروية في دلائل الخيرات ونحوه وكثير منها لم يثبت له سند صحيح ويرغبون عن الصلوات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري فقل أن تجد أحداً من المشايخ أهل الفضل له وردٌ منها وما ذلك إلا للولوع بالطارئ وأمّا لو كان الفضل منظورا إليه لما عدل عاقل فضلا عن شيخ فاضل عن صلاة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد سؤاله كيف نصلي عليك يا رسول الله فقال: قولوا كذا وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى إلى صلاة لم يرد فيها حديث صحيح بل ربما كانت منامية من رجل صالح في الظاهر "انتهى.(9/90)
ولا شك أن ما جاءت به السنة وفعله الصحابة الكرام والتابعون لهم بإحسان هو الطريق المستقيم والمنهج القويم والفائدة للآخذ به محققة والمضرة عنه منتفية وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق على صحته عن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وفي رواية لمسلم "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" وقال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة".
وقد حذر عليه الصلاة والسلام أمته من الغلو فيه فقال في الحديث الصحيح "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله"ولما قال له رجل: ما شاء الله وشئت قال عليه الصلاة والسلام "أجعلتني لله ندا؟ ما شاء الله وحده".
وكتاب دلائل الخيرات قد اشتمل على الغث والسمين وشيب فيه الجائز بالممنوع وفيه أحاديث موضوعة وأحاديث ضعيفة وفيه مجاوزة للحد ووقوع في المحذور الذي لا يرضاه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وهو طارئ لم يكن من نهج السابقين بإحسان.
وحسبي هنا أن أشير إلى بعض الأمثلة مما فيه من الكيفيات المبتدعة في الصلاة والتسليم على النبي الكريم صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين ثم أتبع ذلك بنماذج مما فيه من الأحاديث الموضوعة في فضل الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم والتي يتنزه لسانه الشريف عن النطق بها فمن الكيفيات الواردة فيه:
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقى من الصلاة شيء وارحم محمدا وآل محمد حتى لا يبقى من الرحمة شيء وبارك على محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقى من البركة شيء وسلم على محمد وعلى آل محمد حتى لا يبقى من السلام شيء.(9/91)
وقال في ص71: اللهم صل على سيدنا محمد بحر أنوارك ومعدن أسرارك ولسان حجتك وعروس مملكتك وإمام حضرتك وطراز ملكك وخزائن رحمتك … إنسان عين الوجود والسبب في كل موجود …
وقال في ص64: اللهم صل على من تفتقت من نوره الأزهار …. اللهم صل على من اخضرت من بقية وضوئه الأشجار اللهم صل على من فاضت من نوره جميع الأنوار.
وقال في ص 144 و 145: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ما سجعت الحمائم وحمت الحوائم وسرحت البهائم ونفعت التمائم وشدت العمائم ونمت النوائم.
نماذج مما فيه من الأحاديث الموضوعة
وأذكر فيما يلي أمثلة لما فيه من أحاديث موضوعة أو ضعيفة جدا مع الإشارة إلى بعض ما قاله أهل العلم فيها وذلك على سبيل التمثيل لا الحصر.
قال في ص15: وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: من صل علي صلاة تعظيما لحقي خلق الله عز وجل من ذلك القول ملكا له جناح بالمشرق والآخر بالمغرب ورجلاه مقرورتان في الأرض السابعة السفلى وعنقه ملتوية تحت العرش يقول الله عز وجل له: صل على عبدي كما صلى على نبيي فهو يصلي عليه إلى يوم القيامة.
وقال في ص16: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد صلى علي إلا خرجت الصلاة مسرعة من فيه فلا يبقى بر ولا بحر ولا شرق ولا غرب إلا وتمر به وتقول أنا صلاة فلان بن فلان صلى على محمد المختار خير خلق الله فلا يبقى شيء إلا وصلى عليه ويخلق من تلك الصلاة طائر له سبعون ألف جناح في كل جناح سبعون ألف ريشة في كل ريشة سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف فم في كل فم سبعون ألف لسان يسبح الله تعالى بسبعين ألف لغة ويكتب الله له ثواب ذلك كله.
هذان حديثان من أحاديث دلائل الخيرات يصدق عليهما قول العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه المنار المنيف: والأحاديث الموضوعة عليها ظلمة وركاكة ومجازفات باردة تنادي على وضعها واختلاقها ثم ضرب لذلك بعض الأمثلة ثم قال:(9/92)
فصل: ونحن ننبه على أمور كلية يعرف بها كون الحديث موضوعا فمنها اشتماله على أمثال هذه المجازفات التي لا يقول مثلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي كثيرة جدا كقوله في الحديث المكذوب: من قال لا إله إلا الله خلق الله من تلك الكلمة طائرا له سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يستغفرون الله له ومن فعل كذا وكذا أعطي في الجنة سبعين ألف مدينة في كل مدينة سبعون ألف قصر في كل قصر سبعين ألف حوراء وأمثال هذه المجازفات الباردة التي لا يخلو حال واضعها من أحد أمرين: إما أن يكون في غاية الجهل والحمق وإما أن يكون زنديقا قصد التنقيص بالرسول صلى الله عليه وسلم بإضافة مثل هذه الكلمات إليه. انتهى.
وممن حكم على بطلان أمثال هذه الأحاديث من المعاصرين أبو الفضل عبد الله الصديق الغماري قال في تعليقه على كتاب بشارة المحبوب بتكفير الذنوب للأذرعي ص 125:
تنبيه: جاء في كثير من الأحاديث من عمل كذا خلق الله من ذلك العمل ملكا يسبح أو يحمد الله وكلها أحاديث باطلة.قال ذلك هنا, ومع هذا أثنى على كتاب دلائل الخيرات ثناءً عظيماً في كتابه خواطر دينية, ووصفه بأنه سار مسير الشمس.
ويطيب لي أن أختم هذه المحاضرة بإثبات قطعة مما كتبته في شرح حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه في كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو الحديث التاسع عشر من الأحاديث العشرين التي اخترتها من صحيح مسلم والتي طبعت تحت عنوان: (عشرون حديثا من صحيح مسلم دراسة أسانيدها وشرح متونها) وهذه القطعة هي:(9/93)
قول كعب بن عجرة رضي الله عنه لابن أبي ليلى: ألا أهدي لك هدية.. يدل على أن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة سنته صلى الله عليه وسلم وتطبيقها أنفس الأشياء عندهم وأحبها إلى نفوسهم ولهذا قال كعب ما قال منبها إلى أهمية ما سيلقيه على ابن أبي ليلى ليستعد لفهمه ويهيئ نفسه لتلقيه والإحاطة به، ولما كان السلف معنيين بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم حريصين عليها وهي أنفس هداياهم لما قام في قلوبهم من محبتها والحرص على تطبيقها كانوا سادة الأمم ومحط أنظار العالم وكان النصر على الأعداء حليفهم وكانت الشوكة والغلبة للإسلام وأهله كما قال الله تعالى: {يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} وعلى العكس من ذلك ما نشاهده اليوم من واقع المسلمين المؤلم من التخاذل والتفكك والزهد في تعاليم الشريعة والبعد عنها إلا من رحمه الله وقليل ما هم، لما كانوا كذلك لم يحسب أعداؤهم لهم أي حساب ولم يقيموا لهم أدنى وزن وكانوا هائبين بعد أن كان أسلافهم مهيبين وغزوا في عقر دارهم من عدوهم وممن تربى على أيديه من أبنائهم، وإذا تأمل العاقل ما تضمنه هذا الحديث الشريف من بيان قيمة السنة النبوية في نفوس السلف الصالح وعظيم منزلتها في نفوسهم وأنها أنفس هداياهم ثم نظر إلى حالة الكثير من المنتسبين إلى الإسلام اليوم وما ابتلوا به من الزهد في الشريعة والتحاكم إلى غيرها أقول: إذا تأمل العاقل أحوال أولئك وأحوال هؤلاء عرف السر الذي من أجله كان أولئك ينتصرون على أعدائهم مع قلة عددهم وكان هؤلاء ينهزمون وهو كثيرون أمام الأعداء ولن يقوم للمسلمين قائمة إلا إذا رجعوا إلى الكتاب العزيز والسنة المطهرة ولفظوا القوانين الوضعية الوضيغة وغيرها من البضائع الرديئة المستوردة مما وراء البحار ونظفوا نفوسهم وأوطانهم منها.(9/94)
وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يوفق المسلمين جميعا حاكمين ومحكومين إلى الرجوع إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ليظفروا بالأسباب الحقيقية لحصول النصر والغلبة على الأعداء إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حكيم مجيد.(9/95)
أخبار الجامعة
إعداد العلاقات العامة بالجامعة
(الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تقيم حفلا لتوزيع الشهادات على الخريجين، والجوائز على المتفوقين) .
* أقامت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، حفلاً بمناسبة انتهاء العام الدراسي 93/ 1394هـ، لتوزيع الشهادات على المتخرجين من كليتي الشريعة والدعوة وأصول الدين، ولتوزيع الجوائز على المتفوقين في اختبار الشهادات في الجامعة، وذلك بمقر الجامعة الإسلامية ليلة الاثنين 4/6/1394هـ، وقام سماحة رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز بتسليم الشهادات للخريجين، والجوائز للمتفوقين.
ومن الجدير بالذكر أن الذين تخرجوا، من كليتي الشريعة، والدعوة وأصول الدين، في الدور الأول هذا العام بلغ عددهم تسعين جامعياً، ينتمون إلى سبعة وعشرين قطراً من أقطار العالم، ويمثل هؤلاء الخريجون الدفعة العاشرة من خريجي الجامعة، وقد وزعت الجامعة - بهذه المناسبة - كتاب خريجي الجامعة الإسلامية، الذي طبعته الجامعة، والمشتمل على أسماء الخريجين خلال السنوات التسع الماضية وجنسياتهم، وتاريخ تخرجهم، وعددهم ثمانمائة وخمسة وأربعون جامعيا، ينتمون إلى أربعة وخمسين قطرا من أقطار العالم.
(الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - توفد مدرسين للعمل في الهند - باكستان - وإندونيسيا - والحبشة - وغانا)
*صدرت الموافقة السامية على إحداث وظائف في ميزانية الجامعة ليعين عليها مدرسون يقومون بالتدريس في الحبشة وغانا.
كما صدرت موافقة المقام السامي على تعيين اثنين من أبرز خريجي الجامعة في كل عام من أبناء إندونيسيا بمكافآت تصرف من ميزانية الجامعة وذلك للقيام بالدعوة إلى الله والتدريس في إندونيسيا.(9/96)
كما تقوم الجامعة الإسلامية منذ سنوات بإيفاد مدرسين. للتدريس في الجامعة المركزية في بنارس في الهند وفي الجامعة السلفية في لائلفور في باكستان بناء على موافقة جلالة الملك حفظه الله.
ومن جهة أخرى فقد اعتمد في ميزانية الجامعة الإسلامية للعام المالي 94/95هـ ست وظائف في المرتبة السادسة بناء على موافقة جلالة الملك المعظم ليعين عليها مدرسون للتدريس في المدرسة السلفية في بالجرشي.
(مؤتمر الدعوة والدعاة)
* ناقش مجلس الجامعة الإسلامية في جلسته المنعقدة في ليلة الجمعة 17/5/94هـ موضوع عقد مؤتمر للبحث في شؤون الدعوة وإعداد الدعاة وتبادل الآراء وتنسيق الجهود في هذا المجال الذي تزداد أهميته كل يوم إزاء التيارات المعاصرة الفكرية والمذهبية والخلقية المناوئة للإسلام. دين الفطرة والسعادة الكاملة.
*عهد إلى لجنة من أساتذة الجامعة القيام بالدراسات الأولية لعقد هذا المؤتمر في العام القادم إن شاء الله. تمهيدا لوضع خطة التنفيذ. والله الموفق والمستعان.(9/97)
الفتاوى
يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة المكرمة الآنسة ف. ح.ع. وفقها الله لما فيه رضاه ويسر أمرها وأصلح شأنها آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد وصلني كتابك المتضمن الإفادة أنك فتاة تبلغين الثالثة والعشرين من العمر وأنك على مذهب الشيعة أتباع داود بوهراوان ممثل مرجع الطائفة المذكورة المقيم في كينيا يمنع مأذون مدينة سباسا من عقد قرانك ورغبتك في بيان الحكم الشرعي في ذلك.
والجواب:
لا ريب أن الواجب على المسؤولين في جميع الطوائف المنتسبة للإسلام أن يلتزموا حكم الإسلام في جميع الأمور وأن يحذروا ما يخالف ذلك وقد علم من الشريعة الإسلامية أن الواجب على الأولياء تزويج مولياتهم إذا خطبهم الأكفاء لقول الله سبحانه {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .
ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" خرجه الإمام الترمذي وغيره.
وبناء على ذلك فإذا زوجك الأقرب من أوليائك على أحد أكفائك فليس لممثل طائفة البهرة اعتراض عليك ويكون النكاح بذلك صحيحا إذا توفرت شروطه وينبغي أن يكون ذلك بواسطة المحكمة الشرعية في مسباسا حتى لا ينبغي لممثل طائفة البوهرا اعتراض على النكاح وإذا صدر النكاح على الوجه المذكور فإن أولادك يكونون أولاداً شرعيين ليس لطائفة البوهرا ولا غيرهم حق في إنكار ذلك.(9/98)
وإذا امتنع أقاربك من تزويجك على الكفء إرضاء لممثل طائفة البوهرا فإن ولايتهم تبطل بذلك ويكون للقاضي الشرعي إجراء عقد القران لك على من خطبك من الأكفاء لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "السلطان ولي من لا ولي له". والقاضي هو نائب السلطان فيقوم مقامه في ذلك والوالي الفاضل حكمه حكم المعدوم.
هذا ونصيحتي لك ولأمثالك ترك الانتساب لمذهب البوهرا أو غيره من مذهب الشيعة لكونها مذاهب مخالفة للطريقة المحمدية الإسلامية من وجوه كثيرة فالواجب تركها والانتقال عنها إلى مذهب أهل السنة والجماعة السائرين على مقتضى الكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان وأسأل الله أن يهدي هذه الطائفة وغيرها من الطوائف المنحرفة عن طريق الصواب وأن يأخذ بأيديهم إلى طريق الحق وأن يوفقنا وإياك وسائر المسلمين لما فيه النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة إنه ولي ذلك والقادر عليه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..(9/99)
أضواء من التفسير
للشيخ عبد القادر شيبة الحمد: المدرس بكلية الشريعة
قال تعالى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيد بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ}
المناسبة:
لما أخبر في السورة السابقة أن هؤلاء الأعراب الذين قالوا آمنا لم يكن إيمانهم حقاً. وانتفاء إيمانهم دليل على إنكار القرآن والنبوة والبعث، صدر هنا بذكر القرآن والإنذار والبعث.
القراءة:
قرأن الجمهور قاف بسكون الفاء وقرئ بفتحها وقرئ بكسرها وقرئ بضمها أيضاً. وقرأ الجمهور {أَإِذَا} بهمزة الاستفهام وقرئإ {ذا} بهمزة واحدة. وقرأ الجمهور {لَمَّا} بفتح اللام وتشديد الميم. وقرئ {لما} بكسر اللام وتخفيف الميم.
المفردات:
{ق} من الفواتح الكريمة وقد تقدم الكلام عليها في ص معنى وإعرابا.
{الْمَجِيد} الكريم الشريف العظيم المبارك. {كُنَّا} صرنا. {رَجْعٌ} ردٌ وإرجاع. {بَعِيدٌ} أي مستبعد في الأوهام والفكر أو في العادة أو في الإمكان. {تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ} أي تبليه من أجسادهم، وتأكله من لحومهم وعظامهم. {كِتَابٌ} سجل وديوان. {حَفِيظٌ} أي حافظ حاو لكل ما تنقصه الأرض منهم، ومتى تنقصه وأين يذهب؟ وهو أيضا حافظ لأقوالهم الخبيثة. {بِالْحَقِّ} بالقرآن. {أَمْرٍ} شأن {مَرِِيجٍٍ} مضطرب مختلط فاسد من قولهم: مرج الخاتم في إصبعي إذا قلق من الهزال، ومن قولهم: مرج البيض إذا فسد.(9/100)
التراكيب:
جواب القسم في قوله تعالى: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيد} محذوف تقديره إن محمدا لرسول وإن الساعة لآتية ويدل عليه الآيتان بعده. و {بَلْ} للإضراب الانتقالي من حال حقية الرسول والبعث إلى حال عجب الكفار الرسول والبعث. وقوله {فَقَالَ الْكَافِرُونَ} الفاء للتفصيل كقوله {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَال} ومقتضى الظاهر أن يقال (فقالوا) ولكنه وضع الظاهر موضع الضمير لتسجيل هذا الوصف الشنيع عليهم، وللإشعار بعلية هذه المقالة. وقوله {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} على قراءة الجمهور بالاستفهام لتقرير التعجب وتأكيد الإنكار. وعلى قراءة إذا متنا بهمزة على صورة الخبر فيجوز أن يكون استفهاما حذفت منه الهمزة لظهورها ويجوز أن يكون خبراً، والمقصود منه الاستبعاد. والعامل في إذا جواب المحذوف وتقديره نرجع ودل عليه قوله ذلك رجع بعيد.
وقوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ} رد لاستبعادهم الرجع لأن من كان عالما بذلك كان قادرا على رجعهم، وقوله: {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} جملة حالية. وبل في قوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} للإضراب الانتقالي من بيان شناعتهم السابقة إلى بيان ما هو أشنع منه وأفظع، وهو تكذيبهم بالقرآن الثابت. وقوله: {لَمَّا جَاءَهُمْ} على قراءة الجمهور أي حين جاءهم بمعنى أنهم سارعوا بتكذيبه من غير تفكر وتأمل. وعلى قراءة {لما} بكسر اللام والتخفيف، فاللام فيه للتوقيت وما مصدرية والمعنى كذبوا به وقت مجيئه إياهم. والفاء في قوله: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} للسببية.
المعنى الإجمالي:(9/101)
هذا تحد لكم يا أرباب الفصاحة والبيان، تعجزون عن محاكاته والإتيان بمثله، مع أنه منظوم من مثل ما تنظمون منه كلامكم. وأقسم بكلامي الكريم الشريف العظيم المبارك المشتمل على خيري الدنيا والآخرة إن محمدا لرسول وإن الساعة لآتية. لقد استغرب هؤلاء الكفار وأنكروا أشد الإنكار لمجيء رسول عظيم يبلغهم عن ربه، ويعلمهم ويخوفهم، وهو من جنسهم في البشرية، ونوعهم في العربية والأمية. فقالوا هذا أمر غريب. أحين نموت ونبلى ونصير ترابا نرجع؟ ذلك رد مستبعد لا يخطر بالبال ولا يدور في الخيال.
قد علمنا ما أبلته الأرض من أجسادهم، والحال أن لدينا سجلا حاويا لما تبليه الأرض منهم ومتى تبليه وأين تبليه؟ بل لهؤلاء شناعات أفظع من هذا وهو تكذيبهم بالقرآن الثابت المعجز فسبب لهم هذا التكذيب اضطراب الأفكار، وفساد النفوس.
ما ترشد إليه الآيات:
1- تحدي العرب بالقرآن. 2 - بيان شرف القرآن وكثرة خيره. 3 - استغراب الكفار لمجيء الرسول منهم. 4 - بيان سبب الاستغراب. 5 - أن الكذب لا يأتي بخير. 6 - الكفار ينكرون البعث. 7 - قدرة الله على البعث. 8 - علم الله بكل ما يبلى من الموتى. 9 - تدوينه في كتاب. 10 - اضطراب الكفار وفساد رأيهم.
قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيد رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} .
المناسبة:(9/102)
لما بين أنهم أنكروا البعث واستبعدوه وذكر تمام قدرته على البعث بالطريق العلمي، شرع في بيان الدليل المادي الحسي على إمكان البعث ليدفع بذلك في نحر استبعادهم.
القراءة:
قرأ الجمهور {تَبْصِرَةً} بالنصب وقرئ بالرفع. وقرأ الجمهور {بَاسِقَاتٍ} بالسين وقرئ باصقات بالصاد.
المفردات:
{يَنْظُرُوا} يبصروا. {بَنَيْنَاهَا} رفعناها بلا عمد. {زَيَّنَّاهَا} جملناها وزخرفناها يعني بالكواكب. فُرُوجٍ فتوق وشقوق. {مَدَدْنَاهَا} بسطناها. {أَلْقَيْنَا} وضعنا. {رَوَاسِيَ} أي جبالا ثوابت. {زَوْجٍ} نوع وصنف. {بَهِيجٍ} أي حسن المنظر يبهج أي يسر من نظر إليه. {تَبْصِرَةً} أي آية مستمرة منصوبة أمام أبصارهم. {ذِكْرَى} أي آية متجددة مذكرة عند التناسي. {مُنِيبٍ} راجع إلى ربه متفكر في بدائع صنعه. {مُبَارَكا} ً كثير المنفعة. {جَنَّاتٍ} أي بساتين وأشجار ذات ثمار. {الْحَصِيدِ} فعيل بمعنى مفعول والمراد به كل ما يحصد ويقطع بالمنجل من الزرع والنبات الذي له حب. {بَاسِقَاتٍ} بالسين أي طوالا. جمع باسقة. {بَاصقَاتٍ} لغة في باسقات وهي لغة بني العنبر من تميم، يبدلون السين صادا إذا وليتها قاف أو طاء أو عين أو خاء. {طَلْعٌ} هو ما يبدو من ثمرة النخل في أول ظهورها. {نَضِيد} متراكم بعضه فوق بعض. {أَحْيَيْنَا} بعثنا وحركنا وأنمينا. {مَيْتاً} جامدة هامدة. وتذكيره باعتبار المكان. وقيل إن ميتا يستوي فيه المذكر والمؤنث {الْخُرُوجُ} البعث من القبور.
التراكيب:(9/103)
قوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ} الاستفهام فيه للتوبيخ. والفاء للعطف على محذوف تقديره: أعموا فلم ينظروا. وقوله {فَوْ قَهُمْ} منصوب على الحال من السماء وهي حال مؤكدة. وقوله {كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} كيف منصوبة ببنيناها على الحال. وجملة بنيناها بدل اشتمال من السماء. وقوله وَمَا {لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} الواو للحال، وقوله {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} معطوف على موضع إلى السماء المنصوب بينظروا. والتقدير وأفلم ينظروا الأرض. ويجوز أن ينصب على تقدير (ومددنا الأرض) وقوله {تَبْصِرَةً} بالنصب مفعول من أجله، والعامل فيه {كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} وذكرى معطوف عليه أي للتبصرة والتذكير. وقيل منصوبان بفعل مقدر من لفظهما أي بصرناهم تبصرة وذكرناهم ذكرى. وقيل هما حالان من فاعل بنينا ومددنا أي مبصرين ومذكرين. أو حال من المفعول أي ذات تبصرة وتذكير لمن يراها. وعلى قراءة الرفع هي خبر لمبتدأ محذوف أي هي تبصرة وذكرى. هذا ويجور أن يكون قوله تبصرة راجعا إلى السماء وقوله ذكرى راجعا إلى الأرض. فالسماء للتبصرة والأرض للتذكرة. ويجوز أن يكون كل واحد من المصدرين موجودا في كل واحد من الأمرين. وقوله {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} متعلق بكل من المصدرين. وقوله {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} فيه حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه للعلم به والتقدير: وحب الزرع الحصيد. وإنما خص الحب بالذكر لأنه المقصود المهم بالإنبات. وقوله باسقات: حال من النخل مقدرة. لأنها وقت الإنبات لم تكن طوالا. وإنما خص النخل بالذكر لفرط ارتفاعها وكثرة منافعها، ولذلك شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلم بها، ولأنها أيضا مع فرط طولها دقيقة الجذور جدا فكانت لذلك آية خاصة. وقوله {لَهَا طَلْعٌ نَضِيد} الجملة حال من الضمير في باسقات على التدخل أو حال أخرى من النخل. وقوله {رِزْقاً لِلْعِبَادِ} يجوز أن يكون قوله رزقا مفعولا لأجله والعامل فيه(9/104)
أنبتنا وللعباد صفة له، ولم يقيد العباد بوصف الإنابة كما تقدم في قوله {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} لأن الرزق لعموم العباد، أما التبصرة والتذكرة فلا ينتفع بها إلا المنيبون، وقيل إن رزقا مصدر من معنى أنبتنا. لأن النبات رزق. وقوله {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} كذلك خبر مقدم والخروج مبتدأ مؤخر وإنما قدم لإفادة الحصر ومرجع الإشارة إلى الحياة المستفادة من الإحياء.
المعنى الإجمالي:
أعموا فلم يمدوا أعينهم إلى السماء حالة كونها فوق رؤوسهم يسهل النظر إليها، فلم ينظروا إلى كيفية بنائها وعجيب صنعها، وجميل زخرفتها، والحال أنها خالية من الصدوع والشقوق، مع ضخامتها واتساعها وارتفاعها بغير عمد، وكذلك أغفلوا فلم ينظروا الأرض. لقد بسطناها ووضعنا فيها جبالا ترسيها حتى لا تميد بالناس وأنبتنا فيها من كل نوع يدخل البهجة والسرور على من ينظر إليه. لقد فعلنا ذلك. ليكون آية مستمرة منصوبة أمام أبصارهم وآية متجددة مذكرة عند التناسي، ينتفع بها كل عبد صالح. وأكثرنا من إنزال الماء العظيم المنافع إلى الأرض فأنشأنا به بساتين وأشجارا كثيرة وحب الزرع الذي يحصد ويقطع بالمناجل وتنال منافعه. وأيضا أنبتنا النخل حالة كونها طوالا وحال كونها لها ثمر في أول ظهوره متراكم ملتصق بعضه ببعض بداخل الكفرى كحب الرمان. لقد فعلنا هذا لأجل رزق العباد، وبعثنا بهذا الماء بلدة جامدة هامدة. كذلك بعث العباد من قبورهم يوم القيامة.
ما ترشد إليه الآيات:
1- وجوب النظر والتدبر في السموات والأرض. 2 - توبيخ من لم ينتفع بنظره. 3 - أن السماء مبنية. 4 - أنها محكمة. 5 - نصب الآيات الدائمة والمتجددة أمام الأبصار. 6 - لا يتذكر إلا المنيبون. 7 - في النخيل آية ظاهرة على قدرة الله. 8 - أن رزق المؤمن والكافر على الله. 9 - في إحياء الأرض الجامدة الهامدة بسبب المطر آية واضحة للقدرة على إحياء الموتى. 10 - تهويل أمر البعث.(9/105)
قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} .
المناسبة:
لما بين فيما سبق أن الكفار كذبوا بالحق لما جاءهم ذكر بعض الأمم المكذبة برسلها تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديدا لقريش وتقريرا لحقية البعث ببيان اتفاق كافة الرسل عليه وتعذيب منكريه.
القراءة:
قرأ الجمهور {الأَيْكَةِ} بلام التعريف. وقرئ {ليكة} بوزن ليلة. وسها أبو حيان - عفا الله عنه - فعكس ونسب القراءة الأخيرة إلى الجمهور.
المفردات:
{الرَّسِّ} تطلق على معان منها الحفر والدس ودفن الميت والرزّ والبئر المطوية بالحجارة، والمراد بها هنا بئر كانت لبقية من ثمود كذبوا نبيهم ورسوه في بئر أي دفنوه بها. {إِخْوَانُ لُوطٍ} أي قوم لوط والمراد بالأخوة هنا الخلطة والمصاهرة لأنه عليه السلام خالطهم وتزوج منهم لكنه ابن هاران أخي إبراهيم عليه السلام وأصله من بابل بالعراق وهو مهاجر إلى فلسطين ثم نزل سادوم وعامورة من دائرة الأردن وأرسله الله إلى أهلها. {تُبَّعٍ} رجل صالح من أهل اليمن يقال له: تبع الحميري كان قبل ولادة النبي صلى الله عليه وسلم بتسعمائة سنة. روى عن ابن عباس أنه قال: كان تبع نبيا. وقالت عائشة كان رجلا صالحا. وقد دعا قومه إلى الإسلام فكذبوه فأهلكهم الله {فَحَقَّ} فوجب وثبت وحل عليهم. {وَعِيدِ} أي وعيدي بالعقاب لهم.
التراكيب:(9/106)
قوله {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} استئناف وارد لتقرير حقية البعث. وإنما أنث الفعل لمراعاة معنى القوم لأنه بمعنى الأمة أو الجماعة. وقوله {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} التنوين في كل عوض عن المضاف إليه والتقدير كل واحد أو كل قوم منهم. وإنما أفرد الضمير في {كَذَّبَ} لملاحظة لفظ كل. وإنما نسبهم إلى تكذيب جميع الرسل لأن رسالة الرسل واحدة في الدعوة إلى التوحيد والبعث فتكذيب واحد منهم تكذيب لجميعهم. ومن قال إن "تبعا" لم يكن نبيا فيكون تكذيب قومه للرسل بالواسطة وذلك لأن قوم تبع كذبوا الرسول الذي دعاهم تبع إلى شريعته بواسطة تكذيبهم لتبع.
المعنى الإجمالي:
جحدت قبل قريش جماعة نوح وأهل البئر المطوية من بقية ثمود، وثمود وأهل الأحقاف وفرعون مصر وأصهار لوط، وأهل مدين أصحاب الأشجار الكثيرة. وجماعة تبع. كل واحد من هؤلاء المذكورين جحد الرسالة وأنكر البعث فاستحقوا كلمة العذاب، ونزل بهم أليم العقاب.
ما ترشد إليه الآيات:
1 - اتفاق الرسل على البعث. 2 - إنكار الأمم السابقة للبعث. 3 - تكذيب رسول واحد تكذيب للرسل كلهم. 4 - تدمير من كذب بالبعث.
قال تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}
المناسبة:
بعد أن ذكر الله بعض البراهين الدالة على البعث ساق هذه الآيات على سبيل الاستئناف المقرر لصحة البعث الذي حكيت أحوال المنكرين له من الأمم المهلكة. وفيها أيضا إقامة حجة واضحة وبراهين جلية للدلالة على البعث وتوبيخ الكفار الذين ينكرونه.
القراءة:(9/107)
قرأ الجمهور {يَلْفِظُ} بفتح الياء مبنيا للفاعل وقرئ بضم الياء مبنيا للمفعول.
المفردات:
{أَفَعَيِينَا} من عيى بالأمر كرضى إذا عجز عنه ولم يطق إحكامه، أي أفعجزنا. {بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ} هو إنشاء الإنسان من تراب ثم من نطفة ثم من علقة على التدريج. {لَبْسٍ} خلط وشبهة وحيرة وشك. ومنه الحديث: "فخفت أن يكون قد التبس بي" أي خولطت ومنه قول علي رضي الله عنه: يا جار: إنه لملبوس عليك الحق. اعرف الحق تعرف أهله، والعرب يقولون: في رأيه لبس، أي اختلاط. {خَلْقٍ جَدِيدٍ} يعني البعث: {الإِنْسَانَ} المراد به الجنس. {تُوَسْوِسُ} تحدث فالوسوسة هنا حديث النفس وما يخطر بالبال. وأصل الوسوسة الصوت الخفي ومنه وسواس الحلي. والجامع بين المعنى اللغوي والمعنى المراد هنا هو الخفاء في كل. {أَقْرَبُ} المراد من القرب هنا قرب العلم بفرينة اقترانه بالعلم في الأية،فهو كمعنى المعية بالسمع والبصر والعلم. وقيل المراد: قرب الملكين. وهذا بعيد. {حَبْلِ} يعني عرق. {الْوَرِيدِ} هو عرق كبير يجري فيه الدم ويصل إلى كل جزء من أجزاء البدن. ويكتنف صفحتي العنق. وهو في القلب الوتين وفي الظهر الأبهر وفي الذراع والفخذ الأكحل وعرق النسا، وفي الخنصر الأُسيلم. {يَتَلَقَّى} يأخذ ويثبت. {الْمُتَلَقِّيَانِ} الملكان الموكلان بالإنسان. {قَعِيدٌ} أي مقاعد كجليس بمعنى مجالس. ويحتمل أن يكون قعيد بمعنى قاعد وإنما عدل من فاعل إلى فعيل للمبالغة. {يَلْفِظُ} يرمي من فمه من خير أو شر. {لَدَيْهِ} عنده. {رَقِيبٌ} حافظ يرقب قوله ويكتبه. {عَتِيدٌ} حاضر معد مهيأ لكتابة ما يصدر عنه.
التراكيب:(9/108)
قوله {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ} الهمزة للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي. والفاء للعطف على مقدر ينبئ عنه العى من القصد والمباشرة. كأنه قيل أقصدنا الخلق الأول فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا عن الإعادة؟ والباء بمعنى عن. وقوله {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} بل فيه للعطف على مقدر يدل عليه الحال كأنه قيل ليسوا في لبس من الخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد. وفي هذا توبيخ لهم، وإقامة للحجة عليهم حيث أقروا بالخلق الأول وترددوا في الخلق الثاني الذي هو البعث ,مع أنه في الأذهان أهون، لأن الأول إيجاد من العدم والثاني من موجود. وقوله {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} الواو للحال ونعلم خبر لمبتدأ محذوف تقديره نحن أي ونحن نعلم والجملة في محل نصب على الحال المقدرة، ويجوز أن تكون مستأنفة. و {مَا} يجوز أن تكون موصولة والضمير في به لما، والباء قال أبو السعود: زائدة كما في صوت بكذا. ويجوز أن بكون ما مصدرية قالوا والباء حينئذ يجوز أن تكون زائدة والتقدير ونعلم وسوسة نفسه إياه. أو للتعدية والتقدير ونعلم وسوسة نفسه له. والضمير للإنسان لأنهم يقولون: حدث نفسه بكذا كما يقولون حدثته نفسه بكذا فجعل الإنسان مع نفسه كشخصين تجري بينهما مكالمة ومحادثة، فتارة يحدثها، وتارة أخرى تحدثه. وقوله {حَبْلِ الْوَرِيدِ} الإضافة فيه بيانية كقولهم بعير سانية. وقوله {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} العامل في إِذْ أقرب بما فيها من معنى الفعل. والمفعول محذوف والتقدير يتلقى المتلقيان ما يعمله. وقيل إذ منصوب باذكر مقدرا وهو مستأنف لتقرير مضمون ما قبله. ويجوز أن يكون تلقي الملكين بيانا للقرب على معنى نحن أقرب إليه مطلعون على أعماله لأن حفظتنا وكتبتنا موكلون به. وقوله ((عن اليمين وعن الشمال قعيد)) قعيد مبتدأ وخبره ما قبله، والجملة في محل نصب على الحال من {الْمُتَلَقِّيَانِ} ولم يقل قعيدان(9/109)
لأن فعيلا يستوي فيه الواحد والمثنى والجمع كما في قوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} فهو مفرد أريد منه المثنى وهذا مذهب الفراء وعليه فلا يحتاج إلى تقدير. قال أبو حيان: والأجود أن يكون حذف من الأول لدلالة الثاني عليه والتقدير: عن اليمين قعيد يعني وعن الشمال قعيد كما قال الشاعر:
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوى رماني
أي كنت منه بريئا ووالدي بريئا. ومذهب المبرد أن التقدير عن اليمين قعيد وعن الشمال فأخر قعيد عن موضعه. وقوله {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} {مِنْ} زائدة لاستغراق النفي داخلة على المفعول. والفاعل على ضمير يعود على الإنسان على قراءة الجمهور. وأما من قرأ {يَلْفِظُ} بالبناء للمفعول فنائب الفاعل من قول.
وقوله {لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} لديه خبر مقدم ورقيب مبتدأ مؤخر والجملة في محل نصب على الحال. فإن قيل: قد علم من قوله إذ يتلقى المتلقيان الآية.. أنهما يحفظان أعماله فما فائدة قوله {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} الآي ة؟ . أجيب بأنه يعلم من الآية الثانية أن الملكين مُعِدان لذلك بخلاف الأولى فإنه لا يعلم منها ذلك. وأيضا في الثانية التصريح بأن الملك يضبط كل لفظ ولا يعلم ذلك من الأولى. هذا وإذا كان على اللفظ رقيب عتيد فمن باب أولى أن يكون على الفعل.
المعنى الإجمالي:(9/110)
أقصدنا إيجاد الإنسان لأول مرة من العدم فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا عن الإعادة؟ . هم ليسوا بمنكرين لهذا الخلق الأول بل هم في خلط وشبهة وحيرة كشك من الإعادة. مع أن الإعادة أهون في الأذهان من البدء. فما أحراهم بالتوبيخ والإنكار؟ ولقد أوجدنا الإنسان ونحن نعلم خطرات نفسه ونحن أعلم به منه. ومع ذلك يأخذ ويثبت ملكان جميع ما يعمله، عن اليمين مجالس وعن الشمال مجالس. ما يرمي من كلمة في خير أو شر إلا عنده ملك يحفظها ويدونها في صحيفته. وهذا الملك معد مهيأ لذلك وهو حاضر معه.
ما ترشد إليه الآيات:
1 - تقرير صحة البعث. 2 - توبيخ الكفار على الإقرار بالخلق الأول واضطرابهم في الإعادة. 3 إحاطة علم الله بهواجس الأنفس. 4 أن الله أعلم بالإنسان من نفسه. 5 - تربية الخوف والمهابة من الله عز وجل. 6 - سكون قلوب الصالحين وأنسهم به. 7 - أن على الإنسان كاتبين يثبتان ما يعمل من خير أو شر. 8 - كل ما يقوله الإنسان مسجل عليه.(9/111)
توصيات المجلس الأعلى الاستشاري للجامعة الإسلامية
بالمدينة المنورة في دورته السادسة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
بناءاً على دعوة من سماحة رئيس الجامعة الإسلامية ورئيس المجلس الأعلى الاستشاري للجامعة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، عقد المجلس الأعلى الاستشاري للجامعة دورته السادسة بمقر الجامعة في الفترة من يوم السبت 12/4/1394 هـ إلى يوم الأحد 20/4/1494 هـ، قعد خلالها تسع جلسات، وكانت برئاسة سماحة رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وعضوية أصحاب الفضيلة، والمعالي، والسعادة التالية أسماؤهم وصفاتهم مرتبة على حروف الهجاء:
11
فضيلة الشيخ أبي بكر جومي
رئيس قضاء شمال نيجيريا.
12
فضيلة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي
الأمين العام لندوة العلماء بلكنو بالهند.
13
سعادة الدكتور أحمد محمد علي
وكيل وزارة المعارف للشئون الفنية، نائبا عن معالي وزير المعارف.
14
فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف
مفتي الديار المصرية- سابقا -.
15
فضيلة الدكتور السيد محمد الحكيم
الأستاذ في كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية.
16
فضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
الأستاذ في كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية
77
سعادة الدكتور عبد العزيز عبد الله الفدا
مدير جامعة الرياض.
88
معالي الشيخ عبد العزيز محمد عيسى
وزير شؤون الأزهر.
99
فضيلة الشيخ عبد الله العقيل
مدير إدارة الشؤون الإسلامية في وزارة الأوقاف في الكويت.
110
فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
نائب رئيس الجامعة الإسلامية.
111(9/112)
فضيلة الدكتور كامل محمد الباقر
الأستاذ في كلية التربية بجامعة الرياض.
112
فضيلة الدكتور محمد أمين المصري
المشرف على قسم الدراسات العليا بمكة المكرمة.
113
فضيلة الشيخ محمد بهجت الأثري
مدير الأوقاف العامة بالعراق سابقا، وعضو المجامع العربية.
114
فضيلة الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة
عميد الكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين. بتونس.
115
فضيلة الشيخ محمد المبارك
المستشار في جامعة الملك عبد العزيز في جدة.
116
فضيلة الشيخ مصطفى أحمد العلوي
مدير دار الحديث الحسنية بالرباط.
وقد تخلف عن الحضور في هذه الدورة لأسباب طارئة فضيلة الشيخ محمد أمين الحسيني، رئيس الهيئة العليا لفلسطين، وفضيلة الشيخ عبد الله غوشة رئيس قضاة الأردن، وفضيلة الشيخ أبي الأعلى المودودي، رئيس الجماعة الإسلامية في باكستان-سابقا-، والداعية الإسلامي الكبير لمرضهم، وفضيلة الشيخ محمد محمود الصواف المستشار في وزارة المعارف لسفره إلى بعض الدول الإفريقية في مهمة رسمية تتعلق بالدعوة الإسلامية.
وقد درس المجلس - في هذه الجلسات - المشاريع الثلاثة التي رأى مجلس الجامعة عرضها على المجلس الأعلى الاستشاري لاستطلاع الرأي فيها، وهي:
1- مشروع كلية القرآن الكريم.
2- مشروع مركز شؤون الدعوة.
3- مشروع تعديل المناهج القائمة في كليتي الشريعة، والدعوة وأصول الدين بالجامعة.
أولا - ما يتعلق بمشروع كلية القرآن الكريم:(9/113)
لما كانت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة أسست لغاية سامية، وهدف نبيل، هي تثقيف من يلتحق بها من الطلبة المسلمين، ثقافة إسلامية نقية، مستمدة من كتاب الله - عز وجل - وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم -، ولما كان كتاب الله -عز وجل - هو أساس كل خير، وهو كلام الله الذي تعبد الخلق بتلاوته، وأوجب عليهم التمسك به، وبسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم- وتكفل الله بحفظه، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فقد حرصت الجامعة على أن تساهم بما يمكنها من بذل الوسع والعناية التامة بكتاب الله -عز وجل - وذلك بإيجاد كلية تضم إلى كليات الجامعة باسم (كلية القرآن الكريم) ، وتم إعداد مشروع لهذه الكلية، وجرى عرضه على المجلس الأعلى الاستشاري للجامعة فأقره، بعد إدخال تعديلات عليه، واستحسن فكرة إنشاء هذه الكلية، وشكر الجامعة على اهتمامها بالقرآن الكريم، وعنايتها بعلومه، وأوصى بما يلي:
1- تنشأ في الجامعة الإسلامية كلية لخدمة كتاب الله -عز وجل - باسم: (كلية القرآن الكريم) .
2- تكون مدة الدراسة في هذه الكلية أربع سنوات.
3- تكون الاختبارات تحريرية في جميع المواد ما عدا مادة التلاوة، أما الاختبارات الشفوية فيحدد لها مجلس الكلية أربع مواد في كل عام، وتكون نسبة النجاح في كل اختبار خمسين في المائة.
4- شروط القبول في هذه الكلية هي شروط القبول في غيرها من كليات الجامعة، إلا أنه يضاف إلى ذلك: أن يكون الطالب الراغب في دخول هذه الكلية حافظا للقرآن الكريم كله، محسنا لتلاوته، ويجري له امتحان خاص لإثبات ذلك.
5- أن تكون حصة الطلاب السعوديين في هذه الكلية خمسين في المائة فأقل، نظرا لحاجة البلاد إلى هذا النوع من التخصص، ويتولى مجلس الجامعة تحديد ذلك.
6- يدرس في هذه الكلية المواد التالية:
1- تلاوة القرآن.
9- عدّ الآي(9/114)
2- المدخل إلى علم القراءات.
10- علوم القرآن.
3- القراءات السبع.
11- إعجاز القرآن وبلاغته.
4- القراءات الشاذة.
12- التفسير.
5- توجيه القراءات.
13- التوحيد.
6- تاريخ المصحف.
14- الحديث.
7- الوقف والابتداء.
15- النحو والصرف.
8- الرسم والضبط.
16- البحث والمراجع.
ويكون توزيع الحصص الأسبوعية على هذه المواد وفقا للخطة المقرة ضمن مشروع هذه الكلية، ويوضع لها منهج تفصيلي.
ثانيا- ما يتعلق بمركز شؤون الدعوة:(9/115)
إن الجامعة الإسلامية ليست جامعة إقليمية، أو جامعة تعليمية فحسب، وإنما هي مؤسسة إسلامية علمية عالمية تستمد رسالتها من رسالة الإسلام منهاجاً وهدفاً، وتتخذ من العلم أساسا للعمل، ومن التعليم طريقا للتعليم، عملاً بقول الله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} ، وتمشيا مع الصفة الخاصة لهذه الجامعة، وتحقيقا لرسالتها فإن جهودها لا تقتصر على تعليم طلابها ومنحهم شهاداتها، بل تتجاوز ذلك متابعة نتائج الجهود التعليمية في حقل الدعوة الإسلامية المترامي الأطراف، وتحقيق آمال المسلمين في أنحاء العالم في جامعتهم الإسلامية بمدينة رسولهم - صلى الله عليه وسلم- التي تعلقت بها قلوبهم، وعقدوا على وجودها آمالاً كبيرة، ونظرا لأن القيام بهذا العمل، بصورة علمية منهجية، ارتباطاً بمفهوم رسالة الجامعة، وتحقيقا للأهداف الإسلامية العظمى المقصودة من وجودها يتطلب جهازاً خاصاً على مستوى علمي وفني يمكنه من الاضطلاع بمهامه الكبيرة، فقد رأى مجلس الجامعة أهمية إنشاء هذا المركز في الجامعة، وأعد لذلك مشروعاً جرى عرضه على المجلس الأعلى الاستشاري لدراسته فأقرّه- بعد إدخال بعض تعديلات عليه- وأوصى بما يلي:
1- ينشأ بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة مركز يطلق عليه (مركز شؤون الدعوة) .
2- يرتبط هذا المركز مباشرة برئاسة الجامعة.
3- الإطار العام لأهداف مركز شؤون الدعوة يتمثل فيما يلي:
أ) بذل الجهود في تحقيق ارتباط الجانب العلمي في الجامعة بالجانب العملي في مجال الدعوة.(9/116)
ب) تنسيق جهود الجامعة الإسلامية مع جهود الهيئات والجامعات والشخصيات الإسلامية العاملة في مجال الدعوة، وتعزيز وسائل الاتصال بها والتعاون معها.
ج) تعرف أحوال المسلمين، في أنحاء العالم، وأوضاعهم الدينية والاجتماعية وخاصة في البلاد والأقطار التي يعاني فيها المسلمون ضروب التخلف في حياتهم الدينية، واقتراح الطرق المناسبة لمعاونتهم وتبصيرهم بدينهم.
د) دراسة منهجية للمذاهب الإلحادية، والدعوات المضللة، والاتجاهات المضادة للإسلام، وأنواع الانحراف والبدع، وتتبع ما يكتبه المستشرقون وأشباههم من المطاعن والشبه، واقتراح الوسائل الناجعة للتصدي لها، وإبطالها، وتطهير المجتمعات والبيئات الإسلامية منها.
هـ) القيام بالبحوث والدراسات التي تخدم الدعوة الإسلامية، ودعوة بعض العلماء والمفكرين لمعالجة هذه البحوث على المستوى العلمي الموائم، ونشر ذلك في مجلة يصدرها المركز، وبشتى الوسائل الأخرى، وبما أمكن من اللغات.
و) متابعة خريجي الجامعة في مجالات الدعوة في بلادهم وغيرها، ودعمهم بجميع الوسائل الممكنة.
4- يدير المركز مدير يعين بقرار من رئيس الجامعة، وتحدد لائحة المركز شروط تعيينه.
5- يكون للمركز مجلس يتألف من:
أ -
رئيس الجامعة أو من ينيبه
رئيساً
ب -
مدير المركز
عضوًا
ج -
عمداء الكليات في الجامعة
أعضاء
د -
اثنين من أعضاء التدريس يعينهما رئيس الجامعة لمدة سنتين، قابلة للتجديد
أعضاء
ولرئيس المجلس أن يدعو من يرى حاجة إلى حضوره لبعض الجلسات للاستفادة من خبراته.
6- اختصاصات المجلس:
أ) رسم السياسة العامة، وتحديد الوسائل التي تحقق أهداف المركز.
ب) اقتراح خطة العمل السنوية، وميزانية المركز.(9/117)
ج) وضع اللائحة التنفيذية للمركز التي تحدد أقسامه، واختصاص كل قسم منها، وتنظم أعماله.
7- يعقد المجلس كل ثلاثة أشهر مرة، على الأقل، وللرئيس دعوة المجلس كل ما اقتضى الأمر ذلك.
8- تكون قرارات المجلس بالأغلبية المطلقة، ولا تعتبر نافذة إلا بعد التصديق عليها من رئيس الجامعة.
9- تستكمل الجامعة القواعد التنظيمية اللازمة للمركز.
ثالثا- ما يتعلق بتعديل المناهج القائمة في كليتي الشريعة والدعوة وأصول الدين:
درس المجلس ما أعد للعرض عليه من مقترحات حيال تعديل المناهج القائمة في كلتي الشريعة، والدعوة وأصول الدين بالجامعة،وبعد مناقشتها أوصى بمايلي
أولا- بالنسبة لكلية الدعوة وأصول الدين:
1- أ) نقل مقرر السنة الرابعة في التفسير إلى السنة الأولى لسهولته واشتماله على أصول الدين، ومنهج الدعوة والأخلاق، وتهذيب النفس، والإصلاح الفردي والاجتماعي، ونقل مقرر السنة الأولى إلى الرابعة، ما عدا سورة الفاتحة، ونقل مقرر السنة الثالثة إلى السنة الثانية، وبالعكس.
ب) يضاف إلى المباحث التمهيدية المذكورة في المنهج:
1) مباحث في جمع القرآن وتدوينه وحفظه في جميع المراحل، مع بيان أدلة ثبوت نصه، وسلامته من كل تغيير.
2) فكرة موجزة عن القراءات والأحرف السبعة.
2- جمع مادتي الأدب والبلاغة في مادة واحدة هي مادة (النصوص الأدبية) ويكتفي فيها بدراسة
نصوص نثرية وشعرية من مختلف العصور، تتضمن شتى الأغراض الأدبية، مع ملاحظة أن يغلب عليها طابع الإسلام، والأخلاق الفاضلة، وأن تعالج الموضوعات المفيدة في البلاغة، من خلال هذه النصوص الأدبية، معالجة تذوقية.
3- إبقاء كل من مادة الأديان والفرق والمجتمع الإسلامي وحاضر العالم الإسلامي على أن تكون تسمية هذه المواد الثلاث كالتالي:
أ) الأديان والفرق.
ب) المجتمع الإسلامي الحديث، والمذاهب المعاصرة.(9/118)
ج) حاضر العالم الإسلامي.
ويكون لكل مادة من هذه المواد حصتان.
4- جعل مادة البحث والمناظرة في سنة واحدة لها حصتان بدلا من جعلها في سنتين في كل سنة حصة.
5- إيجاد مادة جديدة باسم (نظام الإسلام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي) تكون في السنة الرابعة بدلا عن مادة الفقه، وتكون الحصتان اللتان لمادة الفقه لهذه المادة.
6- نقل بعض مباحث مادة النحو من سنة إلى سنة، وتوزيع مباحث علم الصرف على السنوات الأربع وفقاً لما اقترحه الأساتذة المختصون في كليتي الشريعة، والدعوة وأصول الدين.
7- حذف مادة الإنشاء والخطابة، ويحل محلها مادة باسم (البحث والمراجع) .
8- تخصيص حصتين من حصص النحو في الأسبوع لدراسة القواعد النحوية، وتخصيص حصة للتطبيق.
ثانيا - بالنسبة لكلية الشريعة:
أ) في مادة التفسير يختار للسنة الأولى والثانية بعض الآيات والسور التي تشتمل على العقيدة والأخلاق، للسنة الثالثة، والرابعة بعض الآيات والسور المشتملة على الأحكام.
ب) يضاف إلى المباحث التمهيدية المذكورة في المنهج:
1) مباحث في جمع القرآن وتدوينه وحفظه في جميع المراحل مع بيان أدلة ثبوت نصه وسلامته من كل تغيير.
2) فكرة موجزة عن القراءات والأحرف السبعة.
2- نقل بعض مباحث مادة النحو من سنة إلى سنة، وتوزيع مباحث علم الصرف على السنوات الأربع وفقاً لما اقترحه الأساتذة المختصون في كليتي الشريعة، والدعوة وأصول الدين.
3- إدماج مادتي مصطلح الحديث والأسانيد وجعلها مادة واحدة.
4- حذف دراسة تاريخ الأمويين، والعباسيين، والاقتصار في دراسة مادة التاريخ الإسلامي على تاريخ الخلفاء الراشدين، بحيث يكون لهذه المادة حصة واحدة في السنة الثانية، ويكون للسيرة النبوية حصتان في السنة الأولى.(9/119)
5- إدماج مادة المجتمع الإسلامي الحديث، وحاضر العالم الإسلامي، وجعلهما مادة واحدة باسم (العالم الإسلامي والمذاهب المعاصرة) ، ويكون لها ثلاث حصص، وتبقى مادة الأديان والفرق مستقلة ولها حصتان.
6- جمع مادتي البلاغة والأدب في مادة واحدة هي مادة (النصوص الأدبية) ، ويكتفى فيها بدراسة نصوص شعرية، ونثرية من مختلف العصور تتضمن شتى الأغراض الأدبية، مع ملاحظة أن يغلب عليها طابع الإسلام والأخلاق الفاضلة، وأن تعالج الموضوعات المفيدة في البلاغة من خلال هذه النصوص الأدبية، معالجة تذوقية، ويحدد مجلس الجامعة الكمية التي تدرس من النثر والشعر.
7- إيجاد مادة جديدة باسم (نظام الإسلام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي) ، ويكون لها حصتا البلاغة في السنة الرابعة.
8- حذف مادة الإنشاء والخطابة، ويحل محلها مادة باسم (البحث والمراجع) .
9- تخصيص حصتين من حصص النحو في الأسبوع لدراسة القواعد النحوية، وتخصيص حصة للتطبيق.
توصيات تتعلق بنظام الجامعة:
يوصي المجلس بإعادة النظر في نظام الجامعة، صياغة تستكمل فيها الجوانب التي تمكن الجامعة من تقديم خدمات أكثر في سبيل تحقيق أهدافها النبيلة، التي أسست من أجلها، وتأليف لجنة من أعضائه المقيمين في المملكة، وهم: سعادة الدكتور عبد العزيز عبد الله الفدا، مدير جامعة الرياض، وسعادة الدكتور أحمد علي - وكيل وزارة المعارف للشؤون الفنية، وسعادة الدكتور كامل محمد الباقر - الأستاذ بكلية التربية بجامعة الرياض، لدراسة النظام، وبعث ما تتوصل إليه إلى الجامعة.
وقيام كل عضو بدراسته، وبعث ما يرى حياله للجامعة لدراسة الجميع في مجلس الجامعة تمهيدا لعرضه على المجلس الاستشاري في دورته السابعة.
توصيات تتعلق بالامتحان ومناهج الدراسة بصفة عامة:
يوصي المجلس بما يلي:(9/120)
1- إيجاد اختبار نصفي في جميع السنوات في الجامعة، ويوكل أمر تقدير الدرجات، وكيفية إجراء الاختبار إلى مجلس الجامعة.
2- تكون نسبة النجاح في كليات الجامعة (60%) بدل نسبة الخمسين في المائة.
3- إيجاد مادة التربية وعلم النفس، من الوجهة الإسلامية، في كل من كليتي الشريعة والدعوة وأصول الدين، ويطلب من بعض الأساتذة المختصين، مثل سعادة الدكتور كامل محمد الباقر، الأستاذ بكلية التربية بجامعة الرياض وفضيلة الشيخ أبي الحسي علي الحسني الندوي، الأمين العام لندوة العلماء في لكنو في الهند، وفضيلة الشيخ محمد قطب، الأستاذ بقسم الدراسات العليا بمكة المكرمة، وضع منهج مناسب لهذه المادة.
4- إلزام كل طالب من طلبة الجامعة بتقديم بحث علمي في كل سنة من سنوات النقل الثلاث كالمتبع في السنة الرابعة.
5- العمل على تقليل المواد في الكليات، بجعل المادة التي تدرس في سنتين لكل سنة حصة، جعلها في سنة واحدة لها حصتان -مثلا-.
توصيات تتعلق بالدعوة:
1- مضاعفة الجهود في إيفاد الدعاة، من أساتذة الجامعة وطلبتها، إلى خارج المملكة للدعوة إلى الله.
2- بذل المزيد من العناية في توفير الكتب التي تُعنى بالدعوة، والدعاة، ليتمكن الطلبة من دراستها، والاستفادة منها.
3- بذل المزيد من العناية في توفير الكتب الإسلامية بلغات شتى، وتوزيعها على نطاق واسع في أنحاء العالم.
4- توثيق الصلات بالعاملين لنشر الإسلام في العالم، سواء كانوا أفرادا أو جماعات، والاستفادة من خبراتهم، وتجاربهم، وتنسيق العمل معهم.
توصيات تتعلق بالطلبة:(9/121)
1- مضاعفة جهود المسؤولين، والمدرسين في الجامعة، لتمكين العقيدة الصحيحة في نفوس الطلبة، وتعميق الإيمان في قلوبهم، وإفهامهم الإسلام على أنه منهج يشمل جميع شؤون الحياة، عقيدة وعبادة وتشريعا ومنهج حياة، وبيان أن الدعوة واجبة على كل مسلم، وأن النهوض بأعبائها يكون بعد التزود بفقه الكتاب، والسنة، والعلم بأساليب الدعوة، ومعرفة طبائع النفوس، وطريقة مخاطبتها، وأن طريق الدعوة إلى الله شاق وطويل، وهو طريق الأنبياء والمرسلين، وحثهم على أن يكونوا أسوة حسنة لغيرهم، بتطبيق تعاليم الإسلام في حياتهم اليومية، بحيث يتمرسون في القول والعمل المأثور في الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح.
2- المزيد من العناية في تمرين الطلبة على أساليب الخطابة والوعظ، وتكليفهم إلقاء الكلمات، وعقد الندوات في الأوقات المناسبة.
3- زيادة الاهتمام بتدريب الطلاب على المراجعة والبحث، وتعويدهم على الاستقلال في الفهم، والاستفادة من المصادر النافعة، قديمها وحديثها.
4- زيادة الاهتمام بتنظيم الرحلات العلمية والثقافية للطلبة، لترغيبهم في الجد، والاجتهاد، وإيجاد حوافز لهم في النواحي العلمية، ومنحهم المكافآت التشجيعية.
5- حث الطلبة على مطالعة الكتب المفيدة، وتقديم تقريرات عما قرءوه منها.
6- حث الطلبة على كتابة تقريرات عن البلاد التي وفدوا منها، وينشر ما استحسن منها في مجلة الجامعة وغيرها، حسب الإمكان، وتحفظ في ملفات بلادهم.
7- حث الطلبة على أن يتكلموا باللغة العربية الفصحى، في داخل الجامعة وفيما بينهم، لما في ذلك من العون، على تمكينهم من النطق بها على وجه الكمال، وحث المدرسين على العناية بذلك.
8- مزيد العناية بإلزام الطلبة بالظهور بالمظهر اللائق بطالب العلم، في زيهم، وسلوكهم، والتقيد بآداب الإسلام في جميع شؤونهم.(9/122)
والحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وآله وصحبه …(9/123)
الدّين وأثره في صلاح الفرد والأمة
بقلم: الشيخ محمود عبد الوهاب فايد
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
الإنسان جسم وروح، وللجسم مطالب وللروح مطالب.
مطالب الجسم كثيرة قد تلجئ الإنسان في سبيل تحقيقها إلى أن يصطدم بغيره فينشأ الخلاف، ويتفاقم النزاع، ويضطر كل من المتخالفين إلى أن يحتمي في أسرته ويتقوى بمن ينتمي إليه.
وكثيرا ما يتطور الخلاف إلى شجار دموي تزهق فيه النفوس، وتطيح فيه الرؤوس وتكون الغلبة للأقوى، وهكذا يصبح العالم مسرحا للفتن، وتصبح الحياة جحيما لا تطاق. فلا بد من دين ينظم العلاقات، ويفصل الحقوق والواجبات، لا بد من دين توحي به هذه القوة الغيبية القدسية التي يؤمن الناس بها، ويشعرون بسلطانها، ويحسون بعظمتها ويجدون لها في نفوسهم هيبة وخشية فيذعنون لحكمها، ويسارعون إلى تنفيذ ما تقضي به.
كذلك للإنسان مطالب روحية تكمل إنسانيته، ويتميز بها عن بقية الحيوانات التي تكتفي بالماديات. والدين هو الذي يكفل حاجة الروح ويوفر لها مطالبها ويتعهدها بما تحتاجه وما يغذيها، ويمدها بما يصلحها وما يقويها، ويصل بينها وبين الخالق على أساس قوي متين، وهذا شيء خارج عن اختصاص الأخلاق والقوانين.
نعم. إن الدين هو الحصن الذي يحمي الإنسان من الفساد، ويحفظه من الرذيلة، ويربيه على الخلق القويم، ويهديه إلى الصراط المستقيم، الدين هو الذي يقاوم الشر، ويقضي على الميوعة، ويشيع الفضيلة ويقوي الروابط، ويصلح النفوس، ويعلي شأن الأمم.(9/124)
وحسبك لتعلم هذا أن توازن بين رجلين أحدهما ملحد خارج على الأديان، فهو إن فارق الشر أو فارقه الشر فإنما يحاول النجاة بنفسه والتخلص من صرامة القانون، وفي الساعة التي تتيسر له فيها الجريمة في أمان من الناس يقدم عليها دون أن يردعه رادع أو يمنعه مانع والآخر متدين له بجانب ذلك الوازع وازع آخر يلازمه ولا يفارقه هو وازع الدين يزعه في سره وجهره، في بيته ومتجره في طريقه وممشاه، في كل مكان.
استمع معي إلى هذه الواقعة لتعرف ما للدين من بالغ الأثر وقوة التأثير.
قال أسلم: بينما أنا مع عمر بن الخطاب وهو يعس بالمدينة إذ عيي فاتكأ على جانب جدار في جوف الليل وإذا امرأة تقول لابنتها: قومي إلى اللبن فامزجيه بالماء. قالت لها: يا أماه أو ما علمت بما كان من عزم أمير المؤمنين؟ قالت: وما كان من عزمه يا بنية؟ قالت: إنه أمر مناديه فنادى لا يشاب اللبن بالماء. فقالت لها: يا بنية قومي إلى اللبن فامزجيه بالماء فإنك بموضع لا يراك فيه عمر ولا منادي عمر فقالت الصبية لأمها: يا أماه. ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء. وهل يغيب عنا رب عمر إذا غاب عنا عمر؟ وعمر يسمع هذا كله. فقال: يا أسلم علّم الباب واعرف الموضع ثم مضى في عسه فلما أصبح قال: يا أسلم. امض إلى الموضع فانظر من القائلة ومن المقول لها وهل لها من بعل؟ قال أسلم: فأتيت الموضع فسألت فإذا الجارية أيم لا بعل لها وإذا تيك أمها ليس لها بعل فأتيت عمر فأخبرته فدعا عمر ولده فجمعهم فقال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة فأزوجه لو كان بأبيكم حركة إلى النساء ما سبقه منكم أحد إلى هذه الجارية فقال عبد الله: لي زوجة وقال عبد الرحمن: لي زوجة وقال عاصم: يا أبتاه لا زوجة لي فزوجني فبعث إلى الجارية فزوجها من عاصم فولدت له بنتا وولدت البنت عمر بن عبد العزيز رحمه الله.(9/125)
هذه قصة صريحة تشهد بأن الدين يقضي على ما لا يقضي عليه القانون من الجرائم وتفيد أنه خير ضمان لسعادة البشرية وهناءة الإنسانية.
ما الذي حرم أمير المؤمنين عمر لذة النوم بالليل، وكلفه البحث عن أحوال الرعية في جنح الظلام حتى تعبت قدماه وكل بدنه. إنه الدين.
ما الذي منع الفتاة من ارتكاب جريمة الغش وعمر لا يراها؟ إنه الدين.
ما الذي أهل بائعة كاللبن لتكون زوجة لابن حاكم المسلمين؟ إنه الدين نعم.الدين.
فالدين ضروري لكي يحيا الإنسان حياة هانئة مطمئنة في مجتمع هادئ متماسك تغمره السعادة، وتسوده المحبة، وتتردد في جوانبه أصداء النعيم.
والقوانين وحدها لا يمكن أن تطهر المجتمعات مما تموج به من خبث وفساد وأنّى لها ذلك وهي لا سلطان لها إلا على ما يقع تحت قبضتها وما يحدث على مشهد من سدنتها.
وأكثر الجرائم تدبر بليل وتحاك في الظلام، وتقع في الخفاء، وتنفذ بمهارة في مكان لا تراه العيون. فلو ترك الأمر للقانون وحده لاحتال المجرمون على التخلص منه والتهرب من سلطانه والنجاة من أحكامه بالابتعاد عن أعين الرقباء، وإخفاء معالم الجريمة وطمس آثارها، والتزيي بزي الأبرياء ولو ترك الإنسان وشأنه دون دين لاستطاع الهوى أن يتحكم فيه ويسيطر عليه، ولأمكن لشهوته أن تتغلب على عقله وتسخره في خدمتها فيصبح تفكيره محصورا في دائرتها، يتفنن في سبيل إرضائها، وإشباع رغباتها، ولجاز أيضا أن يتمكن منه الغضب فيجمح به حتى يستبيح انتهاك الأعراض وسلب الحقوق وسفك الدماء واستعباد الضعفاء، وإذلال الفقراء.
لا سبيل لحماية الأخلاق، وصون الآداب وحفظ الحقوق، ووقف العدوان، ومنع التلاعب إلا بتربية النفوس على الدين وطبعها بطابعه، وصبغها بتعاليمه. فالدين له حوك في الصدور وأثر في القلوب دونه أثر القوانين.(9/126)
الدين نعمة على الفرد والجماعة، راحة للنفس لأنه يساير فطرتها، ويوافق طبيعتها، وهناءة للمجتمع لأنه يقوي روابطه، ويوثق علائقه، ويزكي عواطفه، ويسير به قُدما نحو الخير والفضيلة.
الدين هو الذي يحرك مشاعر الإنسان نحو إخوانه المنكوبين وزملائه البائسين فيسارع إلى نجدتهم، ويخف إلى معونتهم ويضحي بجزء من ماله في سبيل هناءتهم.
الدين هو عماد التربية وحصن الفضيلة، ويكفي أن دعوته دعوة حارة تمتزج بالعاطفة وتختلط بالقلب وتسري في حنايا الضلوع، وتخالط اللحم والعظم، وذلك لأنها تتأسس على الإيمان بالله، وتقوم على محبته ومرضاته وتربط بين العمل والجزاء الدنيوي والأخروي فمن فاته الجزاء في الدنيا لم يفته في الآخرة.
إن أساس الدين هو الإيمان بالله، إيمان الناس بأنه ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
إن هذا الإيمان إذا تحكم في القلب وسيطر على شعور الإنسان واستولى على أحاسيسه ومشاعره حال بينه وبين الجريمة في السر والعلن طمعا في الثواب أو خوفاً من العقاب أو حرصاً على رضا الله ونيل محبته فالدين لا ريب أعمق أثراً وأعظم نفعاً وأكثر فائدةً.
فهو يؤدي وظيفته في جميع الظروف والأحوال … يرقى بالفرد والمجتمع إلى أعلى درجات الكمال، ويحمي حمى الدولة من كل خطر يعرضها للزوال: الدين جندي أمين وحارس يقظ يؤدي واجبه في الليل والنهار في الخفاء والعلانية.(9/127)
وإذا كان هنالك عصر يحتاج إلى الدين في صيانة الأمن ونشر السلام فإنما هو هذا العصر الذي اخترعت في أقوى أسلحة الدمار والهلاك.
وصارت مهمة الأمن الدولي شاقة لا يضطلع بها إلا من صفت روحه وسلمت فطرته وهدأت نفسه ونأى عن الغرض والهوى وكل ذلك لا يتحقق إلا بالتربية الدينية والإيمان بالله واليوم الآخر.
أسأل الله أن يقوي إيماننا، ويحفظها من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أسأل الله أن يطهر أرضنا من الإلحاد، والشر والفساد، ويرفع راية الدين ويملأ قلوبنا بالهدى واليقين.
ما هو؟؟
وذي وفاء طالما برّني وكان عوني في صروف القضا
حملته سبعا وستين لم ألمح محياه إلى أن قضى
فهو البديل عن شبابي الذي شيعته والصاحب المرتضى
ففارقتني بفراقي له لذاذة العيش وعهد الرضى
وكان فيه مطمعي سائغا فأصبح اليوم كشوك الغضا
كأنما الحياة من بعده لم تك إلا حلما وانقضى
فليته ما زال في صحبتي حيا يسليني عما مضى
محمد المجذوب(9/128)
هنا السعادة
من شعر الشيخ محمد المجذوب
ألا ها هنا النعماءُ يا قلبُ فانعمِ.
ولا تنس شكر المنعم المتكرمِ.
مهاجرُ خير الخلق بتّ نزيله.
وذلك فضل لا يُقوّم فاعلم.
إذا شئت كانت في (قباء) صلاتُنا.
وإلاّ ففي روض الحبيب المعظم.
وتحملنا للجنتين مطيةٌ.
من الصلب مهما تلقَ لا تتبرم.
ومن حولنا إخوانُ صدق أعزةٌ.
إلى ضوئهم تعشو العقولُ وتنتمي.
أساطين علم لا يُردّ دليلهم.
وحكمتهم ريّ لذي الغلة الظمي.
كأنهمو زهر النجوم بأيها.
اقتديت هديت الرشد والخير فاغنم.
على رأسهم باز يجوب مُحلّقاً.
بكل سماء من حديث ومُحكم.
أبى غير رضوان المهيمن غايةً.
فليس سواها عنده بمقدّم.
أخو شيمٍ تنمي إلى السلف الأُلى.
أُضيء بهم دربُ الهدى والتقدم.
به قد عرفنا الزهد والحِلم والتقى.
وما شئتَ من فضلٍ وخُلق مقوّم.
وأعظمْ بأيام نُطل خلالها.
على عالم الإسلام في كلّ موسم.
كأن حشود الحشر تحت عيوننا.
مواكبُ فيها كل لون ومعلم.
تسيل من ارجاء الوجود إلى منىً.
وطيبةَ والبيتِ العتيق وزمزم.
فننعم منها في ظلالِ أخوّةٍ.
تهون لديها نسبة الطين والدم.
وقد رحلت بالأمس عنّا وملؤها.
إلى عودة اللقيا حنينُ المتيّمم.
تود لوان الأربعين تضاعفت [1] .
وأن زمان القرب لم يتصرم.
ولطّف في الأكباد وقعَ فراقها.
توافد رهط العلمِ من كل مُعْلم.
جهابذةٌ تُغني مآثر فضلهم.
بكل مجال عن بيان المترجم.
توافوا من ابعاد البلاد لخدمة.
الحنيفة بالفكر الحصيف المنظّم.
فرعيا لهم في منزل الوحي أخوةً.
وأهلاً بهم من عالم ومعلم.(9/129)
وجامعة يهفو إليها أولو النهى.
ويفرَق من آثارها كلُ مجرم.
تجدد ما قد رَثّ من دعوة الهدى.
فيشرق من أضوائها كل مظلم.
نعدّ بها الجيل الذي يحمل المنى.
إلى كل هاوٍ للحقيقة أو عمي.
فيسري سناها في الوجود مبدداً.
دياجير من جهلٍ ووهم ومأثم.
رسالةُ إنقاذ تقي كل مُؤمن.
بها ذلة الدنيا وخزي جهنمِ.
تنزّل جبريلٌ بها محض رحمة.
فمن يستجبْ يسعد، ومن يأبَ يندم
وإنا لنرجو أن تعود كأمسها.
حياة لأمواتٍ وبُرأ لِمُسقَم.
فلا تبك داراً قد حُرمتَ لقاءَها.
وإن كنتَ يا قلبي بها جدّ مغرم.
ودع ذكريات الشام عنك وسحرَها.
ففي طابةٍ يسلو الحمى كل مسلم
وحسبك نعمى أن تكون على خطى.
نبيك في أسمى جوار وأكرم.
فروّضْ على طاعاته النفس والهوى.
وصلّ عليه ما حييتَ وسلّم.
فالاّ تكنْ هذي السعادةُ كلّها.
فما هي إلا خدعةُ المتوهم.
--------------------------------------------------------------------------------
( [1] ) إشارة إلى حديث الأربعين صلاة الذي لم يرتفع إلى مرتبة الصحة، ولكن له ما يؤيده من الآثار في شأن كل مسجد دون تخصيص
.(9/130)
الطريقة المثلى للإعداد خريجي الجامعة الإسلامية
بقلم: فضيلة الشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد كان يسعدني أن أشارك في موضوع إعداد خريجي الجامعة إعداداً لائقاً برسالة الجامعة الإسلامية العزيزة وأهدافها الكبيرة ورسالة البلد الطيب الذي قامت فيه وبروح العصر ومتطلباته وحاجاته وبالآمال الجسام التي يعقدها المسلون بها في مشارق الأرض ومغاربها، وما أكرمها الله به من فرص ووسائل وثقة وإجلال، وما تحف بها من أخطار وما تحتاج إليه في تحقيق غايتها وأداء رسالتها في أحسن شكل، ولذلك حضر أعضاء المجلس الاستشاري للجامعة من أنحاء بعيدة وتوافروا على دراسة موضوع الجامعة وإبداء أفضل ما عندهم من آراء وتجارب ولكن تأخر وصولي لأسباب قاسرة فما أدركت إلا آخر الحديث في هذا الموضوع فرأيت أن أسجل خواطري وأفكاري في ضوء تجاربي ومشاهداتي وفي ضوء الواقع والحقيقة، فأمليت هذه السطور على عجل أدعو الله أن تساعد في خدمة هذه الجامعة والتقدم بها إلى الأمام وتفاديها من الوقوع في مشكلات هي في غنى عنها، وبالله التوفيق …(9/131)
لقد علمنا جميعا أن هذا العصر، عصر المشكلات والأزمات، وإن كان لكل عصر طابع يغلب عليه ويكون له سمة وشعاراً، فطابع هذا العصر القلق النفسي والاضطراب الفكري، وعدم الثقة، والشعور المتزايد لدى كل طبقة وفرد بما له من حقوق، والتهرب من واجباته ومسئولياته، ولعل نصيب الجامعات أوفر من نصيب كل مؤسسة ومنظمة لأنها دار الشباب، وهم أكثر خضوعا لروح العصر ولما تغزوه من موجات واتجاهات لحداثة سنهم وعدم نضجهم، وقلة الصبر والاحتمال عندهم، ولأن جميع الأحزاب السياسية والحركات الثورية تستغل هذه الخصائص وما عند الشباب من حماس وجموح واندفاع، وتستخدمهم في كل بلد لغاياتها السياسية ولقلب النظام، ونشر الفوضى وتتخذهم مطية لأغراضها التافهة الخسيسة أحياناً، والهدامة أحياناً أخرى، فأصبحت الجامعات في الغرب والشرق أكبر مسرح للفوضى والقلق، ونقطة انطلاق للإضرابات والاضطرابات، وتوزعت جميع الجامعات بين معسكرين معسكر رجال الإدارة، وأسرة التعليم، ومعسكر التلاميذ والشباب، والحرب قائمة على قدم وساق بين هذين المعسكرين، كأنها حرب بين المستعمرين والمواطنين، وبين ظالمين ومظلومين.(9/132)
وقد أصبحت قضية الجامعات وما تعانيه من مشكلات وأزمات (فضلا عن هبوط المستوى الخلقي والعلمي والإنساني وإن التعليم عد أصبح لا يؤتي أكله ولا يحقق غايته) القضية الكبرى في الغرب والشرق وهي أكثر تعقدا في بلادنا لأنها تمر بمرحلة دقيقة انتقالية حتى أصبح بعض قادة الرأي وساسة البلاد يرون أن ضرر هذه الجامعات والتعليم العالي أكبر من نفعه ولكن الأمر قد أفلت من أيديهم لما نشروا من دعاية ساحرة مسلحة بأقوى الأساليب العلمية والنفسية للتعليم العالي وحاجة البلاد إلى أكبر عدد من الجامعات حتى أصبح ذلك مقياسا لحضارة البلاد وقابلية الشعوب ولما بالغ الكتاب والمثقفون في تمجيد العلم والثقافة خصوصا الثقافة الراقية مبالغة تشبه التقديس والتأليه، من غير اشتراط لشروط، وتنويه بالغايات، فأصبحت الثقافة والتعليم العالي في أي لون كان إلهاً يعبد ويقدس وأصبح شيئاً خيالياً شعرياً ككثير من المعاني والخيالات الشعرية عند الإغريق وبراهمة الهند حتى أصبح الواقعيون العمليون يشكون في منزلة العلم التي أنزله فيها الفلاسفة ويشكون في الفطرة الإنسانية وصلاحيتها، وليس الخطأ خطأ العلم ولا خطأ الفطرة البشرية، إنما الخطأ تقديس العلم مجرداً من كل غاية ومن كل خلق ومن الإيمان والعقيدة (ومبدأ العلم لأجل العلم) الذي آمن به الغرب أخيراً، والطريق القويم هو طريق الأنبياء، وطريق القرآن في وصف العلم والعلماء وما شرع له من آداب وأحكام، وما حدد له من غايات، ونحن في غنى في هذا المجلس الموقر الذي ضم نخبة العلماء وصفوة المفكرين في الإفاضة في هذا الموضوع.(9/133)
إن هذا السيل من القلق والفوضى لم يجس خلال جامعاتنا الإسلامية ومعاهدنا الدينية بعد، وإنها لا تزال تعيش في هدوء كثير حتى أصبحت الجامعات المدنية ورجالها يحسدونها ويستغربونها. والفضل في ذلك يرجع إلى الإيمان والعقيدة، وإجلال العلم والعلماء الذي أمرت به الشريعة الإسلامية وزخر به الكتاب والسنة، وما عند شبابنا المسلمين من بقايا أخلاق إسلامية وتقاليد اجتماعية.
ولكن الفتنة تدق أبواب هذه الجامعات فإنه لا مجال لجزيرة على البر. وإن هذه الجامعات مهما كانت لها من أسوار منيعة ليست بعيدة عن هذه الحياة القلقة الثائرة، والمجتمع المائج الهائج، فلنكن على حذر من هذه الأخطار التي تهددنا، ولنأخذ لها أهبتها.
ولهذا القلق الذي قد سيطر على الجامعات من زمان، وحوّلها إلى ميدان حرب ونضال أسباب كثيرة ليست بمكان من الدقة والغموض تحتاج فيه إلى تحليل وضرب أمثال ولكن أسبابه الرئيسية على ما يبدو لي خمسة أشير إليها باختصار:
1- عدم الإيمان بقيمة ما تعطيه هذه الجامعات من ثقافة ومعلومات وصلاحية، وعدم إيمان الشباب بحاجتهم إليها حاجة المشرف على الغرق والمعرض للتلف إلى الإنقاذ، بل بالعكس من ذلك إيمانهم بضآلة الفائدة التي تحصل لهم من هذا الطريق الطويل، الملتوي، الشاق العسير، المكلف للأموال الباهظة والمتاعب الجمة وبضحالة الثقافة التي تحصل لهم في هذه الجامعات وفصول الدروس، والإنسان منذ وجد على هذا الكوكب مؤمن بمنطق النفع خاضع مجلٌّ لمن كان سببا له في ذلك.
2- تشكك الشباب في إخلاص المعلمين والعاملين في هذه المراكز الثقافية ونزاهتهم وسموهم، وإنهم على مستوى هو فوق مستواهم في العلم والعمل والخلق والاستقامة، وفي الذكاء والمواهب، وفي الاجتهاد والجهاد لأداء رسالتهم، بل يرون كثيرا منهم دون مستواهم ويرونهم محترفين بصناعة التعليم لا يمتازون عن المحترفين الآخرين من أصحاب المهن والصناعات بكثير.(9/134)
3- ضعف الصلة بين الأساتذة والتلاميذ إذا كان هنالك أساتذة بالمعنى الحقيقي، فقد حولت الجامعات والمعاهد العلمية حتى الدينية الإسلامية منها من أسر مؤتلفة يسود عليها الإخاء والتعاون، والحب والرقة، يوقر فيها الكبير ويُرحم فيها الصغير إلى طبقات متنافسة لا تلتقي إلا على الأغراض والاستغلال، وصلة المعلم بالتلميذ صلة سطحية مؤقتة لا تتجاوز الفصول والدروس.
4- عدم وجود رسالة يؤمن بها الشباب ويتحمسون لها، ويتفانون في سبيلها، ويتشرفون ويتظرفون بحملها والاعتزاء إليها، وعدم وجود دعوة تشغلهم وتستحوذ على مشاعرهم وتجعلهم بمأمن من أن يكونوا فريسة لدعوات أخرى فلا سبيل إلى تأمين شباب متفتحي القلب والعقل من الوقوع في شباك الدعوات والفلسفات إلا أن يُحوّلوا إلى دعاة أصحاب عقيدة ومبدأ، ولا سياج للقلب ولا حارس له أفضل من الحب، فإن الحب إذا وقع في القلب واستولى عليه منع من أن يغزوه حب آخر و {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} .
5- عدم وجود العاطفة القوية الدافقة، والإيمان الملتهب، وقد عجز العلم - في تاريخه الذي دُوّن وعُثر عليه- عن أن يقاوم المغريات المادية والنزوات النفسية، كما عجز مقدار من العقل عن مقاومة الفتن الداخلية والخارجية، بل كانت وظيفة العقل مقصورة على تهيئة الدلائل العلمية والمبررات العقلية لما يزين له الشيطان وتجنح إليه النفس، وإن دوره في مثل هذه المواقف دور المحامي الحاذق والحقوقي البارع الذي يدافع عن كل قضية في لباقة ومهارة، وفي براعة وبلاغة، وخبرة دقيقة بالقوانين والحقوق.(9/135)
وقد أهملت المراكز التربوية كلها جانب العاطفة والحب والإيمان واعتبرته من خصائص بعض النظم التي كانت محدثة دخيلة على الإسلام والتي تنافي في نظر بعض قادة التعليم ورجال الفكر روح الشريعة الإسلامية والطريقة السلفية، مع أنه حاجة من حاجات البشر ومطلب من مطالب الإسلام إذا نُقّي مما التصق به في العهود الأخيرة، وقد اتصف بهذا الجانب الرعيل الأول من المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولولا هذا الإيمان القوي والولوع والحب العميق وقوة العاطفة (ولا مشاحة في الاصطلاح) لما ظهرت منهم هذه الروائع الإيمانية والبطولات التي لا نظير لها في تاريخ الأمم.
إن إهمال هذا الجانب قد جنى على نظامنا التعليمي جناية كبيرة وأفقده العمق والرقة والسمو، وقوة المقاومة وصلاحية الإبداع، وإشعال القرائح وتدفقها، فأصبح نظامنا التعليمي نظاما خشيباً جامداً لا حياة فيه ولا حركة، ولا نمو فيه ولا ازدهار، وأصبحت مراكزنا الثقافية وجامعاتنا الإسلامية مراكز حياة رتيبة جامدة يسود عليها الركود، ويهيمن عليها الجمود، وتتحكم فيها القوانين واللائحات.
وهذا الذي تحدثنا به من مشكلات مراكز التعليم العصري والجامعات المدنية طبيعي معقول يجب أن لا يثير استغرابا ولم يكن مجرد مفاجأة أو مصادفة، بل هي طبيعة الأشياء. والشجرة لا تلام على ثمرتها الطبيعية، ولا أبالغ من التعبير النبوي، فهذه المعاهد العلمية هلي (خضراء الدمن) .
أما بخصوص مراكز التعليم الديني والثقافة الإسلامية- والجامعة الإسلامية عضو كريم من أعضاء هذه الأسرة الكريمة - فكان من المفروض أن تكون بعيدة كل البعد عن تأثير هذه الأسباب وفعل هذه العوامل فإن الأسباب التي تحدثنا عنها وليدة المادية ونتيجة التعليم والعلوم والآداب وتجريد العلم عن الإيمان والعقيدة والخلق والسيرة، والفصل بين الدين والدنيا.(9/136)
بالعكس من ذلك إن نظامنا التعليمي قائم على الإيمان بشرف بالعلم، وفضل العلماء، ونظرته إلى العلم ومكانته ومصادره ومهمته ورسالته تختلف كل الاختلاف عن نظرة النظام التعليمي الغربي المادي، وكذلك نظرة التلاميذ إلى أساتذتهم وكل ما يتصل بالعلم من وسائل وأدوات، وأسباب ومقدمات، تختلف اختلافا كبيرا عن نظرة المتعلمين في الغرب وفي العصر الحديث، ولنظرة عجلى في فضائل العلم والعلماء في الإسلام، وما ورد فيها من آيات وأحاديث، وما أُلف فيها من كتب ورسائل، تكوّن مكتبة مستقلة تكفي لفهم الفرق بين أبناء المعاهد الدينية ومراكز التربية العصرية.
ولكن من الواقع الذي يجب أن نعترف به تأثير الزمان والبيئة والفلسفات العصرية والعوامل السياسية والاقتصادية كان عميقاً جداً في أبناء جامعاتنا الإسلامية ومعاهدنا الدينية لم يخل عنه المعلمون والمربون وقد أصيبت طائفة كبيرة من الطلبة بالبلبلة الفكرية والقلق النفسي وعدم الإجلال للعلم وقيمته، وندر من كان مخلصاً في طلبه للعلم يطلبه ويعكف عليه إيماناً واحتساباً، وابتغاء مرضاة الله يعتز بمكانته ويحمد الله عليها، منقطعا إليه بقلبه وقالبه متحملا للأذى في سبيله، يرى في اكتسابه لذة وعزة لا تعدلها لذة وعزة، متضلعا من الدعوة، متساميا برسالته، مؤمنا بها كل الإيمان صاحب عاطفة قوية وحب دافق يتمرد به على الشهوات والنزوات، والشكوك والشبهات، يؤثر ولا يتأثر، ويحرك ولا يتحرك، ويعلو ولا يعلى عليه.
بل مع الأسف نجد كثيراً منهم لا يمتازون عن نظرائهم وأقرانهم شباب الجامعات المدنية في الأخلاق والأذواق والإيمان بصلاحية الإسلام وخلوده وحاجة البشرية إليه بل ربما كان من تأثر من شباب الجامعات المدنية بدعوة دينية أو شخصية إسلامية قوية أو مطالعة صالحة أحسن حالا وأقوى إيمانا وأكثر حماسا للإسلام من شباب الجامعات المدنية الذين لم يسعدهم الحظ بذلك.(9/137)
وقد تجلى هذا الاضطراب في الفكر والعمل والهدف بوضوح في بيئة جامعية كانت ملتقى عناصر مختلفة من أنحاء العالم، وكان فيها مزيج من الثقافات واللغات والبيئات، ولم تجد الوقت الكافي والشخصيات القوية المؤثرة التي تربط بين هذه العناصر المختلفة والمزيج من الشباب وتضفي عليها صبغة واحدة ولم تستطع أن تصهرها في بوتقة عقيدة واحدة وغاية واحدة، وازدادت القضية تعقداً ودقة حين انضم إلى هذه العوامل المضعفة عامل الإغراء المادي، فكان الدافع لكثير من الشباب المنحة الكريمة ذات القيمة التي ينالونها في هذه الجامعة وزاد الطين بلة عدم وجود الحياة الاجتماعية حياة دور الإقامة والأروقة التي يعيشها الشباب في الجامعات الدينية القديمة وعدم وجود شخصية قوية مغناطيسية تشرف على هذه الأجنحة من دور الإقامة والأروقة، وتهيمن عليها بجاذبيتها وإخلاصها وتوجعها ومعرفتها الدقيقة بنفسية الشباب وعقدها، وتنمي الملكات وتربيها.
والعلاج عندي في هذه البيئة المضطربة المتناقضة يتلخص في النقاط الآتية:(9/138)
1- إثارة الإيمان والاحتساب في نفوس الشباب والاعتناء الزائد بفضائل العلم والعلماء ووجوب الإخلاص والتحذير من أغراض العلم الدنيوية، أو طلب العلم لغير الله ولغير الدين، وما ورد فيه من وعيد شديد، ومعلوم أن الكثرة الكاثرة من شبابنا اليوم ليس مرضه تحديد غرض الفساد أو الإفساد، والزيغ، والإلحاد إن مرضه هو عدم الجدية وعدم التفكير في غاية العلم ومقاصده والغفلة عنها، فنجد العدد الأكبر من هؤلاء الطلبة لم يفكروا في يوم من الأيام لماذا يتعلمون ولم يحددوا لهم غاية، فبدأوا عملهم من غير تفكير ومن غير تصميم، ويجب الاستعانة في ذلك بالاشادة بالآيات والأحاديث التي وردت في فضائل العلم والعلماء والتنويه بها بمناسبات مختلفة، وعن طريق المحاضرات والخطب والرسائل والحديث والمذاكرة، وقد أقر علماء النفس والتربية، أنه لا توجد قوة أكثر عمقا وأشد سلطانا على النفوس من الإيمان بالمنافع والإيمان بالفضائل وذلك الذي حدا بالصحابة ومن تبعهم إلى الشهادة في سبيل الله وبذل النفس والنفيس في خدمة الإسلام، وهانت عليهم بذلك حياتهم ولذاتهم وأوطانهم وولدانهم ومطالب النفس والجسد.
2- إن مشكلات دور التعليم مشكلات طريفة متجددة لا يأتي عليها حصر، ولا يضبطها قانون وهي، كالثوب البالي إذا رفي من جانب تناثر من جانب آخر، أو كقطيع من الغنم إذا ضُبط من جانب أفلت من جانب آخر، والمفتاح الرئيسي لهذه الأقفال التي ليس لها عدد ولا حصر، هو وجود الأساتذة الذين أكرمهم الله بقوة الشخصية ورسوخ الإيمان والعلم، والعقل السليم والقلب الرقيق والعاطفة القوية، فهي العصا السحرية التي لا تمس شيئا إلا غيرته وحجر الفلاسفة الذي لا يمس التراب إلا ويحوله تبرا، وهي الثروة الكبرى والطاقة الهائلة التي يمكن الاعتماد عليها في فض المشكلات وحل الأزمات.(9/139)
3- وجود دعوة إيجابية قوية تشغل عقول الشباب وتستولي على مشاعرهم وتحرك ملكاتهم العملية وما طبعوا عليه من حب للحركة والعمل والكفاح، ولا تدع مكانا لدعوة أخرى يؤمنون بفضلها وشدة الحاجة إليها.
وهذه الدعوة موجودة معلومة وعلى أساسها قامت كل جامعة إسلامية وخاصة هذه الجامعة التي تقوم في مهبط الوحي ومهجر الرسول صلى الله عليه وسلم ومنطق الدعوة الإسلامية في العالم وهي الدعوة إلى الله والدعوة إلى الدين الخالص والتوحيد النقي الصافي وإلى دار السلام والتحلي بفضائل الإسلام وإنقاذ البشرية من مستنقع الجاهلية - بأوسع معاني الكلمة - الذي تردّت فيه والخروج بالإنسان من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ويمكن إثارة هذه الدعوة وتنميتها عن طريقة السيرة النبوية وحياة المصلحين والمجددين في الإسلام، وتاريخ الدعوة الإسلامية في مختلف العصور، ويحسن أن تنظم للتربية عليها جولات دعوية ومخيمات خارجية ومحاضرات علمية.
4- إيجاد نظام اجتماعي رواقي، يعيش فيه الشباب حياة اجتماعية إسلامية تحت إشراف أساتذة ومراقبين يكونون القدوة الحسنة والمثل الكامل في الخلق والسيرة وذوق العلم وذوق العبادة يتميزون لا عن الطلبة وحدهم بل عن عامة العلماء والأساتذة بمحاسبة النفس والاحتساب لله والتقشف في الحياة والبعد عن غوائل النفس ومكائد الشيطان، يشعر الشباب بحرارة إيمانهم ورقة قلوبهم وشعورهم فيقتدون بهم بدافع من الحب والإجلال وحب للجمال والكمال لا بدافع قانوني ويتخذونهم مثلاً في الحياة.(9/140)
5- تنظيم محاضرات عامة يدعى لها كبار العلماء وأقطاب الفكر الإسلامي تغرس في نفوس الشباب العقيدة القوية وتلهب الجمرة الإيمانية وتعيد الثقة بالإسلام، وما اشتمل عليه من تشريع وتعليم ودعوة مناهج للحياة، وتتناول القضايا التي تشغل العالم وتشغل الشباب بصفة خاصة والتحديات التي سيواجهونها لمجرد تخرجهم من الجامعة الإسلامية ورجوعهم إلى بلادهم وتعرض لها حلولا في ضوء الكتاب والسنة وتعاليم الإسلام والعلم الصحيح وتحل العقد النفسية للشباب حلاً رفيقاً رقيقاً بحيث لا يشعرون أنهم يمرون بمرحلة (عملية جراحية) وأنهم يداوون كالمرضى أو يخرجون كالغرقى.
ومعلوم أن الجامعات مهما توسعت دائرتها وقوي نشاطها لا تستطيع أن تعطي الطالب الزاد الكافي من المعلومات عن التاريخ الماضي والعالم المعاصر والعلم الحديث لكثرة المواد الدراسية فلا بد أن يعتمد في إنارة عقول الشباب وتوسع نطاق معلوماتهم على المحاضرات التي ينتقى لها خيرة العلماء وأصحاب الاختصاص.
هذه هي الأساليب والطرق التي أعتقد أنها تزيل الشيء الكثير مما تعانيه الجامعات الإسلامية والمعاهد العلمية من أمراض وقلق واضطراب وعدم خضوع للنظام، وعدم استفادة حقيقية مما هيأته لهم هذه الجامعات من أساتذة فضلاء، ومكتبة غنية واسعة وأسباب الراحة والهدوء، والعكوف على الدراسة، وهي مما شرح الله لها صدور كثير من المربين وجربوها في مناطق عملهم وتجربتهم فنجحت.
ولا شك أن هذه البيئة الفائضة بالإيمان والحنان، العامرة بالرسالة والدعوة، الملهمة للصبر والتقوى وعلو الهمة وسمو النظر المليئة بالروحانية والسكينة - والجامعة تعيش في رحب المسجد النبوي وفي ظلال الآثار والذكريات الأولى - تساعد على تحقيق هذه الغاية في أكمل شكل، والله المستعان، وعليه الاعتماد والتكلان، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه.(9/141)
تعقيب على رسالة الدكتور معروف الدَّواليبي
بقلم: الدكتور أحمد عبيد الكبيسي
كلية القانون والسياسة- جامعة بغداد
السيد رئيس تحرير مجلة الجامعة الإسلامية الغراء.
وبعد: فقد كنت قرأت في مجلة العربي الكويتية مقالة للدكتور معروف الدواليبي بعنوان (تغيير الأحكام بتغير الأزمان وهي تتضمن رداً على مقالة كنت قد كتبتها في نفس المجلة تحت عنوان (الحكم بقطع يد السارق في الشريعة الإسلامية) .
ومع شيء من التغافل - الذي تعظم به النفوس - عن بعض العبارات التي وردت في مقالة الدكتور الدواليبي: فإني وجدت أن رده ذلك قد أزال اللبس الذي يوحي به منهجه في موضوع المصلحة الذي تطرق إليه في كتابه: (المدخل إلى علم أصول الفقه) .
فحمدت للدكتور الدواليبي تمسكه بالحق، ودفاعه عنه، وانحيازه لشريعة الله، وحرصه عليها. وهو أمر لا أظن أن أحدا ينسب للدواليبي غيره، ولا يتوقع منه سواه. وعلى الرغم من أنني لم أوافقه على بعض ما قال إلا أني لم أكن أنوي الرد على رده.
إلا أني عدت فقرأت في نفسي الرد في مجلتكم الغراء في عددها الثاني من سنتها السادسة تحت عنوان: (رسالة) . فتبينت أن مجلة العربي كانت قد حذفت بعض عبارات من كلام الدكتور الدواليبي التي رأت المجلة أن ورودها ليس ضروريا ضمن نقاش موضوعي.
وقد بدى لي من تلك العبارات الغاضبة أن الدكتور الدواليبي قد نظر إلى الموضوع على أنه نيل منه، أو خصومة شخصية ضده.
غير أن هذا في الحقيقة ليس وارداً على الإطلاق. فالدكتور الدواليبي معروف بمواقفه المشرفة في الدفاع عن الإسلام وإخلاصه في الذود عن حدود الله.(9/142)
كل ما في الأمر: هو أني كنت قد استعرضت بعض الآخذين بالفهم الذي أخالفهم فيه لمبدأ تغير الأحكام بتغير الأزمان. وعندما أخذت أناقش بعض عباراتهم لم يخطر ببالي من قال بقدر ما كان يهمني ما قيل. فإذا كان الدكتور الدواليبي قد استشعر شيئا من الحدة في بعض ما جاء في مقالتي من عبارات، أو استنبط شيئا من إيراد بعض الآيات القرآنية بعينها. فإنه مدعو إلى أن يتروى قليلا. ذلك أن الأمر لا يعنيه من قريب أو بعيد. وإنما الأمر كله ناتج عن الإحساس بوطأة العابثين بشريعة الله، ومنذ أن شنّ الغرب الحاقد غارته على الشرق الغافل مخترقا كل ما لنا من ماض نعتز به، أو فكر نفاخر فيه، أو هدف نجاهد من أجله أو ثروة فقهية هي مدار فخرنا على الزمن. فاستطاع أن يثير بين صفوف أمتنا الريبة والشك. وأن يزرع بين شباب جيلها هذا زرعا خبيثا، فاتخذ له قاعدة ضمن نفر من الناس لغتهم كلغتنا، ورسومهم كرسومنا، إلا أن هواهم مع عدونا وقلوبهم على غير مشاربنا، فكانوا قلة مشاغبة تعارض الكثرة في الرأي وتخالفها في الهوى، وتغري بها الشر، وتمالئ عليها العدو، وتحاول أن تتحيز في الفكر واللسان. وقد مكنت من ذلك بشتى الأساليب.(9/143)
ولقد انساق بعض حسني النية وراء هذه اللعبة الغامضة، ووقعوا في الشرك الدفين فأخذوا - بحسن نية وسذاجة - يحاولون التوفيق بين الخطأ الجديد والصواب القديم، ويجمعون بين الرأي الناصح الصادق، والإيحاء المخاتل المتآمر. وكان الفقه الإسلامي مدار عبثهم هذا، فطغت عليهم شهوة الاجتهاد الساذج المرذول، وسيطرت على عقولهم الجانحة نزوة التجديد والابتكار، واستجلاء ما غمض عن الفقهاء والمفسرين والمجتهدين من السلف الصالح. وإن كان لهذا من أسباب فهو لا يعدو كونه نتيجة للثقافة الخاوية، والأمية الغاشية، والتربية العقلية المهملة، والهوى المتنقل، والطبع الهازل السؤوم. فكان الضغط من هذه المواقع شديد على مواقع الإسلام، حتى استجاب بعض الناس لهذا الضغط، فأخذوا يؤولون ويدارون ويداورون.
فمن قائل بجواز القرض بالفائدة من الدولة مبرراً ذلك بأن التصرف مع الدولة يختلف عن التصرف مع الأفراد.
ولا أدري ما إذا كان هذا الرأي يشمل شرب الخمر ولعب القمار إذا ما تبنت الدولة ذلك؟
ويقول آخر: بأن الفائدة في التعامل المصرفي جائزة، مستنداً في ذلك إلى تشويه رأي لفقيه معاصر لا يقل حرصا على الشريعة عن الدكتور الدواليبي نفسه.
ويقول آخر: بأن السفور والاختلاط لا يتنافيان مع الشريعة الإسلامية، مستندا إلى حادثة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها بسطحية متناهية على فرض صحتها، متغاضيا عن ظروف النص وخصوصيات رسول الله والأمثلة على مثل هذا كثيرة. وكلها لا تعدو كونها استجابة لذلك الضغط الهائل الذي أخذ يضيق الحبل حول الفقه الإسلامي. لغرض لا أظنه خافيا على أحد.
أعود إلى ما ذكره الدكتور الدواليبي حول موضوع تغير الأحكام بتغير الأزمان وانطباق هذا على حد السرقة. لقد كان الدكتور الكريم قد ذكر في كتابه (المدخل إلى علم أصول الفقه) ما يلي:(9/144)
(ومن هذا القبيل - أي تغير الحكام بتغير الزمان - اجتهاد عمر رضي الله عنه عام المجاعة في وقف تنفيذ حد السرقة على السارقين وهو قطع اليد، واكتفاؤه بتعزير السارق عن قطع يده، معتبرا أن السرقة ربما كان يندفع إليها السارقون حينذاك بدافع الضرورة لا بدافع الإجرام، وفي ذلك شبهة في الجرم على الأقل، والحدود تدرأ بالشبهات. وفي هذا كما ترى تغيير لحكم السرقة الثابت بنص القرآن، عملا بتغير الظروف التي أحاطت بالسرقة) انتهى.
وهذا أمر - على حد علمي - لا يتلاءم والقواعد العامة في علم أصول الفقه.
ذلك أن قواعد هذا العلم ثابتة لا تتغير. وقد كنا طلاباً نشدو بأوليات أصول الفقه وكان أساتذتنا يقولون لنا ما يلي:
إن اعتبار هذا المثال من أمثلة تغير الحكم بتغير الأزمان لا يمكن التسليم به لأمور:
1- إن حكم السرقة ثبت بالنص، فهو الأصل المقتضي لهذا الحكم، والأحكام المبنية على النصوص تبقى ما بقيت النصوص، فهي بمنأى عن أن تنالها يد التغيير والتبديل، لأنها أحكام ثبت بأدلة شرعية لا تتبدل ولا تتغير.(9/145)
ولأن تبديلها معناه نسخ النصوص المثبتة لها، ومن المسلّمات في الشريعة أنه لا نسخ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، إذاً: مثل هذه الأحكام تبقى ما لم يوجد مانع يمنعها، نظرا لوجود مقتضيها. وأما الأحكام التي تتغير بتغير الزمان فهي تلك الحكام التي انبنت على العرف، واستمدت منه باعتباره دليلا من أدلة الأحكام، ومن الواضح أن العرف يتغير أحيانا بتغير الزمان أو المكان، وتبعا لتغيره تتغير الأحكام التي انبنت عليه، وكان الفقهاء يطلقون على ذلك أنه: اختلاف عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان. إذ العرف لما كان أصلا لتلك الأحكام فإنها تتبعه في تغيره، لأن ما يطرأ على الأصل يطرأ على ما تفرع منه، وهذا ما يقتضيه دوران الفرع مع الأصل ونظرا لهذا فإن المجتهد يغير رأيه في المسألة الواحدة تبعا لتغير العرف الذي بني عليه حكمه فيها.
2- إن ما جعل مناطا للحكم في هذه المسألة لا يخلو من أحد أمرين: إما السرقة نفسها وإما فعل عمر رضي الله عنه، وكل منهما لا سبيل إلى جعله مناطا للحكم، أما السرقة وتعارف الناس عليها فإنها لا يمكن جعلها مناطا للحكم لأنها إن جعلت مناطا فلأجل أنها عرف، ولو اعتبرت عرفا فإنه عرف فاسد ومصادم للنص، ومن المتفق عليه (بين القائلين بحجية العرف) أنه يشترط لحجية العرف لبناء الحكم عليه أن لا يصادم النص ولا يلغيه، وأما فعل عمر رضي الله عنه فلأنه لا يمكن جعله مناطا للحكم كعرف يبنى عليه الحكم. لأنه ليس عرفا. إذ من شرط العرف أن يكون عاما لا فعل فرد.(9/146)
3- إن فعل عمر لا يعتبر تغييرا لحكم السرقة: ذلك التغيير الذي لا يسوغ لأحد أن يقوم به غير الشارع وإنما هو تقديم للمانع على المقتضي، ومن المتفق عليه في أصول الفقه أنه: إذا اجتمع المانع والمقتضي قدم المانع، والمانع هنا من تطبيق الحكم هو شبهة الضرورة، والحدود تدرأ بالشبهات. وإذا منعت الضرورة من تطبيق حكم المنع لا يسمى تغييرا للحكم، وإلا للزم أن تكون الضرورة لأكل الميتة مغيرة لتحريمها ومحللة إياها ولا قائل بذلك إطلاقا، كل ما هنالك أن الاضطرار كان سببا للرخصة في أكل الميتة مع بقاء التحريم على ما كان عليه دون تغيير. وتسمية فعل عمر رخصة أولى من إدراجه ضمن الأحكام المتغيرة بتغير الزمان، بل إن ذلك متعين.
4- إن اعتبار فعل عمر من تخصيص العام أولى من جعله تغييرا للحكم بتغير الزمان، ذلك أن قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} عام نظرا للفظ (السارق) إذ هو مفرد معرف باللام، وإذا لم يكن هنالك عهد ولم يتعذر الحمل على الاستغراق كما هنا فإنه يحمل على الاستغراق. قد وردت أدلة استقي منها أن الضرورة لها أثرها في المنع من تطبيق الحكم، فتكون مخصصة للعمومات التي منها هذه الآية فتكون الآية مخصوصة في تطبيقها بغير حالات الضرورة، ولعل عمر رأى أن الضرورة ألجأتهم إلى السرقة في عام المجاعة.
كما أن حديث: "ادرءوا الحدود بالشبهات" يصلح أن يكون مخصصا لعموم الآية، ولا يضير أن يكون الحديث ظنيا، لأن الآية بعد تخصيصها بمخصصات أخرى كالأحاديث المبينة لشروط السرقة الموجبة للقطع، تكون دلالتها على الباقي ظنية فيقوى الظن على تخصيصه.
هذا هو مسلك الأصوليين في مثل هذه المسألة. وهو أمر يخالف مسلك الدكتور الدواليبي.(9/147)
ثم إن الدكتور الدواليبي نفسه قال: (إن الحد سقط بالشبهة) - أي أن النص لا ينطبق عليه - ثم عاد فقال: (وفي هذا تغيير لحكم السرقة الثابت بالنص) وهو تناقض لا يخفى على أحد فأين هو الحكم الثابت بالنص حتى نحكم عليه بالسقوط. ذلك أن الذي سقط: إنما هو حكم لم يثبت بالنص.
والله من وراء القصد.
من القرآن الكريم
قال الله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاكنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّفي كِتَابٍ مُبِينٍ أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(9/148)
قضايا أساسية في تطوير المكتبة العربية والإسلامية
بقلم: عيد عبد الله السيد: خبير المكتبات بالجامعة
قلنا في المقال السابق إن من الجوانب الأساسية التي تثار عند تقويم مكتباتنا للحكم لها أو عليها جانبين:
أولهما: موارد المكتبة: أي تمويلها ونظمها الإدارية وموظفوها ومجموعاتها من الكتب ومواد القراءة.
وثانيهما: خدمات المكتبة: أي إعداد المجموعات وإعارتها وخدمة المراجع وإرشاد القراء وتعليم الكبار واستعمال المواد التي لا تعار والدعوة المكتبية وقلنا إن المقصود بإعداد المجموعات هي العمليات الفنية المكتبية كالتصنيف والفهرسة والببليوجرافيا وغيرها.
واقتصرنا في مقالنا بالعدد السابق من هذه المجلة على تقويم إعداد المجموعات العلمية داخل المكتبة.
وفي هذا المقال نتناول الجانب الأول وهو موارد المكتبة. أي إننا نتساءل عن مدى الكفاية العددية والنوعية للموارد البشرية والمادية بالمكتبة العامة أو المكتبة الجامعية أو المكتبة المتخصصة أو حتى في المكتبة المدرسية وغير ذلك من أنواع المكتبات.
لا زالت المكتبة العربية حتى الآن تعتبر مؤسسة ثانوية إذا قيست بغيرها من المؤسسات كالمدارس والمستشفيات ومراكز الشرطة وغيرها من المؤسسات المهنية ومؤسسات الخدمات وهي في أغلب الأحيان تابعة لهذه المؤسسات. ولا تؤدي دورا يجعلها تلقى الدعم والاهتمام الذي يؤهلها لأداء دور بارز في تنمية القدرات وصقل المواهب وشغل وقت الفراغ وتأكيد قيم المجتمع ومثله ومبادئه وخلق الوعي المستنير إلى غير ذلك من أمور هامة.(9/149)
وبالنسبة للعالم العربي يجب أن تنتشر المكتبات على نطاق عربي لتشمل كل وحدة سكانية في العالم العربي ولقد حان الوقت في ظل جامعة الدول العربية أن ننشئ مكتبة عامة عربية لجامعة الدول العربية على غرار مكتبة الكونجرس الأمريكية يتم تمويلها من ميزانيات الدول العربية المختلفة. ويقع على عاتق هذه المكتبة حفظ التراث العربي والإسلامي والحضارة العالمية وأن تكون سجلا للمعارف الإنسانية قديمها وحديثها ولا بأس أن يقوم تعاون بين هذه المكتبة العربية المقترحة وبين المكتبات الوطنية في داخل الدول العربية وتنسيق فيما يختص بتوحيد الأعمال الفنية المكتبية وإعداد الفهرس العربي الموحد - ووجود مثل هذه المكتبة لا يقل في نظري أهمية عن وجود معهد المخطوطات العربية بجامعة الدول العربية.
أما بالنسبة للمكتبات داخل كل قطر عربي على حدة فإني ممن يطالبون بإنشاء وزارة للمكتبات والتأليف والنشر تكون مهمتها الاهتمام بالكتاب تأليفاً ونشراً وتوزيعاً وحفظاً وتيسيراً والاهتمام بالمكتبات مغزى ومبنى، أثاثاً وموظفين. أما أن تكون المكتبات قطاعاً مهملا من قطاعات وزارة من الوزارات فذلك ما لا أوده لها بحال من الأحوال بعد أن أثبت الواقع أن وزارات الإعلام في الدول العربية معنية بالدرجة الأولى بالوسائل الترفيهية.
وفيما يلقاه المطرب والممثل واللاعب الرياضي من اهتمامات وزارات الإعلام وغيرها من شبيهاتها لا يقارن مطلقا بمكتبات ميتة أو معدومة تعيش في كنف هذه الوزارات.
والملاحظ في كثير من البلدان العربية أن المكتبات تتبع أكثر من وزارة فمكتبات تتبع وزارة المعارف وأخرى تتبع وزارة الصحة وثالثة تتبع الجامعات ومن المكتبات ما يتبع وزارة الإعلام أو الثقافة وهي المكتبات العامة التي تسمى جامعات الشعب أو هي يجب أن تكون كذلك.(9/150)
وإني أرى ضرورة انتشار المكتبات بمختلف الوزارات وفي كل المستويات ليعم جميع الطبقات بل وأود أن تنتشر الخدمة المكتبية على نطاق عربي في كل قرية وفي كل تجمع سكاني ولكني أرى ضرورة وجود وزارة للمكتبات ترعى شئونها وتعمل على تطويرها وانتشارها وأن تحظى المكتبات بما تحظى به وسائل اللهو والترفيه من العناية والرعاية أو أن يكون للمكتبة العامة من الإمكانيات المالية ما يتهيأ لصحيفة يومية أو جريدة أسبوعية في بعض الدول العربية.
وبديل هذه الوزارة أي وزارة المكتبات المقترحة أن يتم في ميزانيات الوزارات المختلفة في الدول العربية تخصيص بنود مستقلة في ميزانياتها للمكتبات لنشرها وتشييد مبانيها وتزويدها بالكتب والموظفين الفنيين وترميم كتبها وتجليدها وتحسين خدماتها إلى غير ذلك من شئون المكتبات بالإضافة إلى الاهتمام بالتأليف والمؤلفين وبالترجمة والنشر من جانب من يهمهم الأمر.
وقد آن الأوان أن تتحول المكتبة في الوطن العربي من مؤسسة ثانوية إلى مؤسسة أساسية، ثقافية وتربوية وأن يكون دورها وامتدادها موازياً لدور المدرسة وانتشارها خاصة وقد أصبح من الواضح امتداد الثقافة وانتشار القراءة والرغبة في الطموح وتخطى التخلف العلمي والتكنولوجي عند العرب وستظل المكتبة العربية على حالتها الراهنة تؤدي خدمة ثانية حتى تصبح مطلبا أساسيا لا يقل عن الغذاء فحينما يدخل الكتاب كل بيت كما دخل الراديو والتلفزيون عندئذ ستتحرك الحكومات العربية لتدعيم المكتبات ونشرها في أنحائها لتصبح مؤسسات أساسية تأخذ موقعها في كل قرية وفي كل حي من المدينة وفي كل مدرسة وفي كل مسجد.(9/151)
على أن ظهور جمعيات مهنية للمكتبات في كل دولة من الدول العربية يعتبر خطوة على الطريق إذا كانت مثل هذه الجمعيات تتبع الحكومات وتحظى بتأييدها ودعمها المادي والأدبي وتمارس نشاطا مهنيا يرقى بفن المكتبات ويقدم أحدث الأساليب العالمية المستخدمة في هذا المجال مع إحداث التعديلات الملائمة للتراث العربي الإسلامي باستمرار.
ومهما يكن من أمر فان تخصيص بنود محددة في ميزانية الحكومات والوزارات للمكتبات هو الخطوة الأولى لرقي المكتبات وتقدمها في علمنا العربي بحيث تكون هذه الموارد المالية متناسبة مع حجم المكتبة ورسالتها ونوعيتها وأهدافها فالمكتبة المدرسية قد نكتفي فيها بأمين مكتبة متخصص أو حتى بمدرس يعاونه عامل كتابي (مناول) وبضعة آلاف من الكتب وغرفة ملائمة بها مناضد للاطلاع وأرفف للكتب … الخ.(9/152)
أما الأمر يتطلب أجهزة كبيرة وتخصصات كثيرة وخبرات متنوعة في فروع المعرفة المختلفة كما في مكتبة جامعة من الجامعات وما نتبعها من مكتبات وكما في المكتبة القومية أو العامة للدولة وما قد يتبعها من مكتبات فرعية في الأحياء والمدن والقرى والتجمعات السكنية فإنه في تلك الحالة يحتاج الأمر إلى إمكانيات مالية كبيرة وبنود في ميزانية الوزارة المختصة تكفي للصرف على وظائف متنوعة تغطي إعداد الكتب ونوعية هذه الكتب وأغراض المكتبة ورسالتها وخدماتها للباحث أو للقارئ وتكفي لتوسيع خدمات المكتبة مستقبلا وتكون قادرة على تحسين مستوى الأداء أي أن يكون بمثل هذه المكتبات ميزانيات تغطي احتياجات المبنى والأثاث والموظفين وتكاليف العمال الفنية كالتصنيف والفهرسة والمراجع والإرشاد وتكاليف التزويد ومجموعات الكتب والمواد العلمية الأخرى كالخرائط والمصورات والمخطوطات والأفلام والميكروفيلم وغير ذلك من مواد المعرفة وأن تكون الموارد المالية كافية للصرف على المراجع وعلى أعمال الاستعارة الداخلية والخارجية وأن تهيئ هذه الموارد للمكتبة القدرة على أن تحدث أثرها في مجتمعها وأن تكون على صلة بغيرها من المكتبات.
في النظم الإدارية للمكتبات العربية:
إن المكتبة العربية مؤسسة متطورة شأنها شأن غيرها من المؤسسات وهي تتبع العملية التعليمية بالدرجة الأولى من حيث المدّ والجزر فحيثما ازداد التعليم وانمحت الأمية عرفت قيمة الكتاب وأصبح ذا أثر بيّن في حياة الأفراد والجماعات على أن العمل بالمكتبات العربية لا بد أن توضع له من النظم والقواعد ما يكفل إجراءات موحدة للعمل داخل هذه المكتبات بحيث تتشابه النظم أو تتحد في كل المكتبات.
فالملاحظ مثلا أن النظم المستخدمة في مكتبات الجامعات داخل الوطن العربي غير موحدة فضلا عن النظم المستخدمة في مكتبات من نوع واحد داخل الدولة العربية الواحدة.(9/153)
فالقواعد المستخدمة في مكتبات جامعة الأزهر ليست هي المستخدمة في جامعة القاهرة والقواعد المطبقة في مكتبات الجامعة الإسلامية في المدينة ليست هي بعينها القائمة بجامعة الرياض أو جامعة الملك عبد العزيز.
ومن هنا كان ضرورة وضع النظم الثابتة للعمل داخل المكتبات ومن ثم فالضرورة ملحة لوجود لائحة للعمل بكل نوع من أنواع المكتبات بل ووضع لائحة عامة لكافة هذه الأنواع إن أمكن.
وعليه فلا بد من إصدار لوائح للعمل بمكتبات المدارس وأخرى للعمل بمكتبات الجامعات وثالثة للعمل بالمكتبات المتخصصة ومكتبات الأبحاث وبالدرجة الأولى قواعد منظمة للعمل بالمكتبات العامة هذا فضلا عن قواعد العمل بالمكتبة الوطنية أو المكتبة القومية للدولة تصدر هذه اللوائح الجهة المشرفة على كل نوع من هذه الأنواع … أو وزارة المكتبات والنشر المقترحة في صدر هذا المقال.(9/154)
وإني أرى أن يقوم بإعداد هذه اللوائح ذوو الاختصاص بحيث لا تتعارض هذه القواعد مع نظم الدولة المالية والإدارية العامة وبحيث تشتمل هذه اللوائح أو القواعد على أبواب عن مواد المكتبة وفروعها وأقسامها ومسميات الوظائف بها واختصاصات كل وظيفة مسئولياتها وقواعد الإعارة وطرقها ووسائلها وعدد الكتب المسموح بإعارتها لكل فئة من فئات المستعيرين والتعهدات والضمانات لرد الكتب والمطالبة بها وسجلات الاستعارة والأعمال الفنية بالمكتبة والنص على نظام التصنيف المطبق وقواعد الفهرسة والأعمال المتعلقة بالدوريات والمخطوطات والمرجع وعلاقة المكتبة بغيرها وكيفية تزويد المكتبة بالكتب عن طريق الشراء أو الإهداء أو التبادل وغير ذلك كما ينص في اللائحة على التفتيش على المكتبات وعلى الخبراء وعلى المحاضرات العامة والإرشاد والدفاتر والنماذج والسجلات المستعملة في المكتبات وجرد المكتبات والاستهلاك للتلف والفقد وغير ذلك مما يتصل بالعمل داخل المكتبات كالتقارير السنوية للموظفين والدورات التدريبية للعاملين وتبادل الزيارات ومعارض الكتب ومؤتمرات المكتبات ولجان المكتبات المتخصصة وتقارير المكتبات وغير ذلك مما لا بد من بيانه وتحديد وسائله وكيفية تنفيذه.
وإني أتطلع إلى يوم أرى فيه المكتبات العربية في كل الدول العربية وقد أصبحت واضحة من حيث المفهوم والمدلول والرسالة.
إن المكتبات مستودعات للكتب تبيح استخدام كتبها دون أجر للجميع وإن كان استخدام هذه المكتبات اختياري فالمكتبات لا ترغم أحدا على ارتيادها رغم أنها مرفق تربوي لا يقل أهمية عن المدارس والجامعات من حيث المهمة والأهمية ومن القضايا المهمة بالنسبة للمكتبات الطريقة التي تدار بها وكيفية الإشراف عليها. هل يصلح لها موظف عام واحد للإشراف أم تحتاج إلى لجنة أم إلى وسيلة أخرى لإدارتها؟(9/155)
إن المكتبة تستقبل جموعا من المواطنين منهم الأطفال والشباب وغيرهم من الفئات ومن المكتبات ما يخصص للدارسين والباحثين والعلماء وكبار المتخصصين وعليه يجب أن يكون الجهاز الوظيفي في مكتباتها العربية قادرا على خدمة هؤلاء بالتدريب المهني المتخصص والمناسب والمتنوع ويجب أن يكون الجهاز الوظيفي في المكتبة - أي مكتبة - قادرا على إيجاد اتصالات مفيدة ومثمرة مع المؤسسات الأخرى لتتمكن المكتبة من احتلال موقع لها بين هذه المؤسسات ولكي تتيح لرواد المؤسسات الأخرى الفرصة للتعارف معها والانتفاع بخدماتها - ولربما جاء يوم نرى فيه تعاونا وتجاوبا وتكاملا بين المكتبة والمدرسة والمسجد بل والجمعيات والهيئات الاجتماعية والثقافية.
على أن تعقد التنظيم المكتبي وتعدد الإدارات وتقسيمها إلى أقسام أصغر وأدق تحديدا يحدث بنسبة متزايدة كلما نمت المكتبات وزادت المناطق التي تخدمها كثافة أو سكانا، ولا بد أن يكون للمكتبة كيان إداري لأن ذلك أمر مهم من وجهة نظر العمل ولعلى أفضل أن يكون النمط الإداري الذي يستخدم لمكتباتنا العربية مبسطا كل التبسيط بعيدا عن الروتين والتعقيد قدر الطاقة وجهد الإمكان. والمكتبيون المهنيون وحدهم هم الذين يستطيعون أن يقرروا متى يكون تنسيق الإجراءات والنظم الإدارية ممكناً وسهلًا ومنفذاً بدقة دون إخلال بخدمات المكتبة التي وجدت وأقيمت من أجلها.
وفي المكتبات الصغيرة يعهد بالعمل الإداري الهام إلى الأمين الأول. Chief librarian الذي بدوره يعهد بالأعمال الفنية والإجراءات اليومية التقليدية في عمل المكتبة إلى موظفيه الذين يراهم أليق لهذا العمل أو ذلك.
على أن إدارة أي مكتبة كبيرة هو كإدارة المؤسسات الكبرى - لا بد أن تكون عملا متخصصا تحكمه أسس معترف بها في إدارة الأعمال.(9/156)
وإن من أعظم الواجبات حيوية في إدارة المكتبة الكبيرة هو وضع نظام يمكن بمقتضاه تنسيق كل دقائق فروع العمل والإشراف عليها تماما كما يضمن أيضاً تفويضاً ناجحاً للمسئولية والسلطة.
ويجب أن يوجه مدير المكتبة الكبيرة عنايته إلى مسألة العون المالي للمكتبة على أن وضع ميزانية لمثل هذا النوع من المكتبات يتطلب دراية بالمصروفات السابقة ومعرفة تامة دقيقة بوجود النشاط والاحتياجات والظروف والخدمات في كل مجال من مجال المكتبة.
وعلى مدير المكتبة الكبيرة ملاحظة صيانة المبنى واستبدال أو تكرار الأثاث والمعدات الفنية والتوريدات فلابد من أن يكون بمثل هذه المكتبات آلات كاتبة وأجهزة ناسخة وماكينات جمع وخطابات وبطاقات ذات أنماط مختلفة كبطاقات القراء وبطاقات الفهرس وبطاقات بريدية للمطالبة بالكتب واحتياجات المكتبة من حبر وأقلام وأوراق وغير ذلك.
ولا بد أن يدرب موظفو المكتبات على منهج العمل الابتدائي بمكتباتهم وعلى الأسس والطرق الإدارية ولا بد من إعادة تقويم العمليات بالنسبة للخدمات المكتبية وقد يتطلب الأمر استخدام أساليب جديدة في التنسيق العام لأقسام المكتبة أو لاستخدام وسائل أو آلات مثل ماكينات حصر العهدة.
موظفو المكتبات:
إن المعرفة التي يقدمها المدرس قائمة في رأسه، أما المعرفة التي يبسطها أمين المكتبة فمسجلة على نوع ما من المادة المكتوبة وما يحتفظ به المكتبي في رأسه هو المعرفة بالكتب التي تمكنه من وضع يد القارئ على الكتاب أو المجلة أو المادة العلمية مما يتضمن الإجابة على سؤاله والمكتبة في تعريفها الواسع هي قارئ يتسلم كتابا - أنسب كتاب - يدا بيد من أمين المكتبة.
ومن ثم فإن أهم عنصر في الخدمة المكتبية هو المكتبي نفسه شخصيته وتعليمه وتدريبه المهني فبدون ذلك تكون المكتبة والخدمة فيها عديمة الجدوى.(9/157)
والسؤال الآن ما هي المتطلبات الشخصية لوظائف المكتبة العامة؟ وما هي ضرورات التعليم والتدريب؟ وما هي طبيعة التدريب المطلوب؟ وأي نمط من المؤسسات يتولى هذا التدريب؟ وما هي المشكلات الهامة في ترتيب وإدارة الموظفين؟
الجواب على هذه التساؤلات في المقال القادم إن شاء الله ...
وما توفيقي إلى بالله ...(9/158)
العدد 26
فهرس المحتويات
1- حكم الاحتفال بليلة النصف من شعبان: رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز
2- من أعلام المحدثين - أبو جعفر العقيلي (322هـ) :بقلم الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
3- البهائية.. إحدى مطايا الاستعمار والصُهيونيَّة: بقلم الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
4- كيف نعد المعلم الصالح..: بقلم فضيلة الشيخ عبد الرءوف اللبدي
5- لعمري: بقلم فضيلة الشيخ حماد محمد الأنصاري
6- فتوى شرعية حول الملكية الفردية في الإسلام:بقلم فضيلة الشيخ حسين محمد مخلوف
7- علاقة المعسكر النصراني الصليبي بالمسلمين عبر التاريخ ومنطلقاتها الأساسية: بقلم فضيلة الشيخ زهير الخالد
8- دعوة التضامن الإسلامي وأثرها في العالم: بقلم عبد القادر بن حبيب الله السندي
9- ما هي علاقة الأمة المسلمة بالأمم الأخرى؟ : بقلم فضيلة الشيخ أحمد محمود الأحمد
10- الشيوعية.. وموقفها المعادي للإسلام: بقلم الأستاذ توفيق علي وهبه
11- شلل الأطفال: بقلم الدكتور خالد زربا
12- بيان مشيخة الأزهر - بشأن فيلم "محمّد رسول الله": أصدر فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر
13- ندوة الطلبة - "كوكبنا وكوكبهم": بقلم الطالب أحمد بن حسن المعلم
14- الفتاوى: يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
15- أخبار الجامعة: بشرى
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(9/159)
حكم الاحتفال بليلة النصف من شعبان
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة والصلاة والسلام على نبيه ورسوله محمد نبي التوبة والرحمة.
أما بعد فقد قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} الآية من سورة المائدة. وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} الآية من سورة الشورة0 وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وفي لفظ لمسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبة يوم الجمعة: "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة " والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وهي تدل دلالة صريحة على أن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها وأتم عليها نعمته ولم يتوف نبيه عليه الصلاة والسلام إلا بعد ما بلغ البلاغ المبين وبيّن للأمة كل ما شرعه الله لها من أقوال وأعمال وأوضح صلى الله عليه وسلم أن كل ما يحدثه الناس بعده وينسبونه إلى دين الإسلام من أقوال أو أعمال فكله بدعة مردود على من أحدثه ولو حسن قصده وقد عرف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر وهكذا علماء الإسلام بعدهم فأنكروا البدع وحذروا منها كما ذكر ذلك كل من صنف في تعظيم السنة وإنكار البدعة كابن وضاح، والطرطوشي وأبي شامة، وغيرهم، ومن البدع التي أحدثها بعض الناس بدعة الاحتفال بليلة النصف من شعبان وتخصيص يومها بالصيام وليس على ذلك دليل يجوز الاعتماد(9/160)
عليه وقد ورد في فضلها أحاديث ضعيفة لا يجوز الاعتماد عليها أما ما ورد في فضل الصلاة فيها فكله موضوع كما نبه على ذلك كثير من أهل العلم وسيأتي ذكر بعض كلامهم إن شاء الله. وورد فيها أيضاً آثار عن بعض السلف من أهل الشام وغيرهم والذي عليه جمهور العلماء أن الاحتفال بها بدعة وأن الأحاديث الواردة في فضلها كلها ضعيفة وبعضها موضوع وممن نبه على ذلك الحافظ ابن رجب في كتابه لطائف المعارف وغيره والأحاديث الضعيفة إنما يعمل بها في العبادات التي قد ثبت أصلها بأدلة صحيحة أما الاحتفال بليلة النصف من شعبان فليس له أصل صحيح حتى يستأنس له بالأحاديث الضعيفة.
وقد ذكر هذه القاعدة الجليلة الإمام أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأنا أنقل لك أيها القارئ ما قاله بعض أهل العلم في هذه المسألة حتى تكون على بينة في ذلك وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الواجب رد ما تنازع فيه الناس من المسائل إلى كتاب الله عز وجل وإلى سنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فما حكما به أو أحدهما فهو الشرع الواجب الإتباع وما خالفهما وجب إطراحه وما لم يرد فيهما من العبادات فهو بدعة لا يجوز فعله فضلاً عن الدعوة إليه وتحبيذه.(9/161)
كما قال الله سبحانه في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} وقال تعلى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} الآية من سورة الشورى. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} الآية من سورة آل عمران، وقال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} والآيات في هذا المعنى كثيرة وهي نص في وجوب رد مسائل الخلاف إلى الكتاب والسنة ووجوب الرضى بحكمهما وأن ذلك هو مقتضى الإيمان وخير للعباد في العاجل والآجل وأحسن تأويلاً أي عاقبة، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه (لطائف المعارف) في هذه المسألة بعد كلام سبق ما نصه: "وليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام كخالد به معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها وقد قيل أنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية فلما اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف الناس في ذلك فمنهم من قبله منهم ووافقهم على تعظيمها منهم طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم وأنكر ذلك أكثر علماء الحجاز منهم عطاء وابن أبي مليكة ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة وهو قول أصحاب مالك وغيرهم وقالوا: ذلك كله بدعة واختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين:(9/162)
أحدهما: أنه يستحب إحياؤها جماعة في المساجد كان خالد بن معدان ولقمان بن عامر وغيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم ويتبخرون ويكتحلون ويقومون في المسجد ليلتهم تلك ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك وقال في قيامها في المساجد جماعة ليس ذلك ببدعة نقله عنه حرب الكرماني في مسائله.
والثاني: أنه يكره الاجتماع فيها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه وهذا قول الأوزاعي إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم وهذا هو الأقرب إن شاء الله تعالى إلى أن قال ولا يعرف للإمام أحمد كلام في ليلة نصف شعبان ويتخرج في استحباب قيامها عنه روايتان من الروايتين عنه في قيام ليلتي العيد فإنه في رواية لم يستحب قيامها جماعة لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستحبها في رواية لفعل عبد الرحمن ابن يزيد بن الأسود لذلك وهو من التابعين فكذلك قيام ليلة النصف لم يثبت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه وثبت فيها عن طائفة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام"انتهى المقصود من كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله، وفيه التصريح منه بأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم شيء في ليلة النصف من شعبان وأما ما اختاره الأوزاعي رحمه الله من استحباب قيامها الأفراد واختيار الحافظ ابن رجب لهذا القول فهو غريب وضعيف لأن كل شيء لم يثبت بالأدلة الشرعية كونه مشروعاً لم يجز للمسلم أن يحدثه في دين الله سواء فعله مفرداً أو في جماعة وسواء أسره أو أعلنه لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" وغيره من الأدلة الدالة على إنكار البدع والتحذير منها.(9/163)
وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله في كتابه (البدع) ما نصه: "وروى ابن وضاح عن زيد بن أسلم قال:"ما أدركنا أحداً من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى النصف من شعبان ولا يلتفتون إلى حديث مكحول ولا يرون لها فضلاً على ما سواها "وقيل لابن أبي مليكة أن زياداً النميري يقول: "إن أجر ليلة النصف من شعبان كأجر ليلة القدر"فقال: "لو سمعته وبيدي عصا لضربته"وكان زياداً قاصاً"، انتهى المقصود.
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله في الفوائد المجموعة ما نصه:
"حديث: "يا علي من صلى مائة ركعة ليلة النصف من شعبان يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وقل هو الله أحد عشر مرات إلا قضى الله له كل حاجة..الخ".
هو موضوع في ألفاظه المصرحة بما يناله فاعلها من الصواب ما لا يمتري إنسان له تمييز في وضعه، ورجاله مجهولون، وقد روي من طريق ثانية وثالثة كلها موضوعة ورواتها مجاهيل، وقال في المختصر: حديث صلاة نصف شعبان باطل، ولابن حبان من حديث علي إذا كان ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها، ضعيف، وقال في اللآلئ مائة ركعة في نصف شعبان بالإخلاص عشر مرات مع طول فضله للديلمي وغيره موضوع وجمهور رواته في الطرق الثلاث مجاهيل ضعفاء، قال واثنتا عشر ركعة بالإخلاص ثلاثين مرة موضوع وأربع عشرة ركعة موضوع.(9/164)
وقد اغتر بهذا الحديث جماعة من الفقهاء كصاحب الأحياء وغيره وكذا من المفسرين وقد رويت صلاة هذه الليلة أعني ليلة النصف من شعبان على أنحاء مختلفة كلها باطلة موضوعة ولا ينافي هذا رواية الترمذي من حديث عائشة لذهابه صلى الله عليه وسلم إلى البقيع ونزول الرب ليلة النصف إلى سماء الدنيا وأنه يغفر لأكثر من عدة شعر غنم كلب فإن الكلام إنما هو في هذه الصلاة الموضوعة في هذه الليلة على أن حديث عائشة هذا فيه ضعف وانقطاع كما أن حديث علي الذي تقدم ذكره في مقام ليلها لا ينافي كون هذه الصلاة موضوعة على ما فيه من الضعف حسبما ذكرناه. انتهى المقصود.
وقال الحافظ العراقي: "حديث صلاة ليلة النصف موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب عليه"، وقال الإمام النووي في كتاب المجموع: "الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب وهي اثنتا عشرة ركعة بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة من رجب وصلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة هاتان الصلاتان بدعتان منكرتان ولا يغتر بذكرهما في كتاب قوت القلوب وإحياء علوم الدين ولا بالحديث المذكور فيهما فإن كل ذلك باطل ولا يغتر ببعض من اشتبه عليه حكمهما من الأئمة فصنف ورقات في استحبابهما فإنه غالط في ذلك.
وعد صنف الشيخ الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي كتاباً نفيساً في إبطالهما فأحسن فيه وأجاد وكلام أهل العلم في هذه المسألة كثير جداً ولو ذهبنا ننقل كل ما اطلعنا عليه من كلامهم في هذه المسألة لطال بنا الكلام ولعل فيما ذكرنا كفاية ومقنعاً لطالب الحق ومما تقدم من الآيات والأحاديث وكلام أهل العلم يتضح لطالب الحق أن الاحتفال بليلة النصف من شعبان بالصلاة أو غيرها وتخصيص يومها بالصيام بدعة منكرة عند أكثر أهل العلم وليس له أصل في الشرع المطهر بل هو مما حدث في الإسلام بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم.(9/165)
ويكفي طالب الحق في هذا الباب وغيره قول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وما جاء في معناها من الآيات وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "، وما جاء في معناه من الأحاديث وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوها يومها بالصيام من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم"، فلو كان تخصيص شيء من الليالي بشيء من العبادة جائزاً لكانت ليلة الجمعة أولى من غيرها لأن يومها هو خير يوم طلعت عليه الشمس بنص الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من تخصيصها بقيام من بين الليالي دل ذلك على أن غيرها من الليالي من باب أولى لا يجوز تخصيص شيء منها بشيء من العبادة إلا بدليل صحيح يدل على التخصيص ولما كانت ليلة القدر وليالي رمضان يشرع قيامها والاجتهاد فيها نبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وحث الأمة على قيامها وفعل ذلك بنفسه كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه"، فلو كانت ليلة النصف من شعبان أو ليلة أول جمعة من رجب أو ليلة الإسراء والمعراج يشرع تخصيصها باحتفال أو شيء من العبادة لأرشد النبي صلى الله عليه وسلم الأمة إليه أو فعله بنفسه ولو وقع شيء من ذلك لنقله الصحابة رضي الله عنهم إلى الأمة ولم يكتموه عنهم وهم خير الناس وأنصح الناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ورضي الله عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرضاهم وقد عرفت آنفاً من كلام العلماء أنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم شيء في فضل ليلة أول جمعة من رجب ولا في فضل ليلة(9/166)
النصف من شعبان فعلم أن الاحتفال بهما بدعة محدثة في الإسلام وهكذا تخصيصهما بشيء من العبادة بدعة منكرة وهكذا ليلة سبع وعشرين من رجب التي يعتقد بعض الناس أنها ليلة الإسراء والمعراج لا يجوز تخصيصها بشيء من العبادة كما لا يجوز الاحتفال بها للأدلة السابقة هذا لو علمت فكيف والصحيح من أقوال العلماء أنها لا تعرف وقول من قال إنها ليلة سبع وعشرين من رجب قول باطل لا أساس له في الأحاديث الصحيحة ولقد أحسن من قال:
وشر الأمور المحدثات البدائع
وخير الأمور السالفات على الهدى
والله المسئول أن يوفقنا وسائر المسلمين للتمسك بالسنة والثبات عليها والحذر مما خالفها إنه جواد كريم- وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين …(9/167)
الشيوعية.. وموقفها المعادي للإسلام
بقلم: الأستاذ توفيق علي وهبه
مدير الشئون القانونية
في بريد الدواوين - القاهرة
تطالعنا بين الحين والآخر بعض الكتب التي تهاجم الإسلام صادرة عن دور نشر شيوعية ثم تصدر المصادر الرسمية الشيوعية بيانات تدعي فيها تزوير هذه الكتب وتنفي نسبتها إليها … ودون الدخول في تفاصيل نود أن نوضح أن هذه الأجهزة تقصد من وراء نفي صدور الكتب عنها رواج هذه الكتب وتهافت الناس عليها لمعرفة ما تتضمنه.
وسواء أكان هذا النفي صحيحاً أم كاذباً فإن لدائرة المعارف السوفيتية موقفاً معادياً للإسلام لا يقل عن موقف الكتب التي تنفيها المصادر الشيوعية بل هي أخطر وأكثر عداء للإسلام والمسلمين بل الأهم من ذلك أنها أكثر صراحة من أي كتب تظهر عداءها للإسلام.
ترى ما هو موقف الأزهر وعلماء الدين في العالم العربي والإسلامي من هذا العداء الصريح للإسلام ولماذا لا تتدخل الهيئات الإسلامية لدى الحكومة السوفيتية لتوضيح رأيها فيما تقوله دائرة المعارف الروسية عن الإسلام والنبي محمد صلى الله عليه وسلم.
رأي دائرة المعارف السوفيتية عن القرآن:
جاء بالمجلد رقم 12 صفحة 564:(9/168)
"القرآن.. الكتاب المقدس الأساسي للمسلمين، مجموعة من المواد الدينية المذهبية والأسطورية والقانونية وقد وضع القرآن وشرع خلال حكم ثالث الخلفاء العرب عثمان (644 - 656م) ثم أدخلت عليه فيما بعد حتى بداية القرن الثامن - وفق ما وصلنا من المعلومات - بعض التغييرات ووفقاً للتقليد الإسلامي التاريخي الديني يعتبر محمد هو مشرع القرآن كما يعتبر مؤسس الإسلام، على أنه وفقاً للتحليل الموضوعي للقرآن هناك نظرية تقول إن جزءاً معيناً منه فقط ينتمي إلى عصر محمد، أما الأجزاء الأخرى من هذه المجموعة فلا بد أنها تنتمي لعصور متقدمة عليه أو متأخرة عنه. ويمكن أن نتبين هذا من وجود عدد من الأساليب المختلفة في القرآن يمكن أن تعزى لتطور اللغة العربية، ولزمن ظهور السور ومكانها. وتستخدم الطبقات الاستغلالية القرآن ورجال الدين الإسلامي الرجعيين كسلاح لخداع الجماهير الكادحة وكبحها".
النبي محمد صلى الله عليه وسلم:
أما سيدنا رسول الله عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام فقد وردت سيرته بالمجلد 28 صفحة 599 كما يلي: "محمد مبشر ديني يعتبر مؤسس الإسلام، ويصور في العقيدة الإسلامية على أنه "أعظم المرسلين وخاتمهم، وهو عربي نشأ في مكة، وأبعد ما أمكن الوصول إليه فيما كتب عن سيرة محمد كتب في النصف الثاني من القرن الثاني كتبه جامع للأساطير نشأ في المدينة يُدعى (ابن إسحاق) وعنوان كتابه هو (سيرة رسول الله) وقد ألف هذا الكتاب بناء على أمر من الخليفة في بغداد.
وإلى جانب الحقائق الواقعية عن حياة محمد يشمل الكتاب عدداً من الأساطير والخرافات وفي كتب السيرة الأكثر حداثة طمست هذه الأساطير تماماً صُوَر محمد التاريخية، وحتى يومنا هذا مازالت سيرة محمد تُشيد على المعلومات شبه الأسطورية الواردة في القرآن والتي يتقبلها علماء الإسلام البرجوازيون بغير مناقشة.(9/169)
وتقول إحدى الأساطير إن محمداً ينحدر من أسرة هاشم إحدى أسر قبيلة قريش التي كانت تعيش في مكة وقد هذب محمد تعاليم الموحدين قبل الإسلام - الحنفاء - وراح يبشر بالإسلام في مكة وقد مكن ظهور الإسلام ظهور مجتمع طبقي بين العرب تكون تدريجياً … وقد تحول محمد في نظر الأجيال التالية من المسلمين إلى (قديس) وصانع (المعجزات) (وشفيع) للمؤمنين. ويحاول المدافعون عن الإسلام والطبقات الاستغلالية استخدام صورة محمد لإضعاف الكفاح الطبقي".
هذا قليل من كثير ورد في دائرة المعارف الروسية التي تتبع هيئة تحريرها لرئاسة مجلس الوزراء السوفيتي مباشرة، وتتلخص الافتراءات على القرآن والرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم فيما يلي:
1- القرآن ألف في عهد عثمان ابن عفان وبعض من تآليف محمد صلى الله عليه وسلم وهذا ما يخالف ما أجمع عليه ثقات المؤرخين من أن القرآن وحي من الله سبحانه وتعالى إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم متضمناً رسالة الإسلام خاتمة الديانات وأن ما حدث في عهد ثالث الخلفاء عثمان بن عفان رضي الله عنه هو تدوين القرآن وجمعه وليس تأليفه.
2- تتعد أساليب القرآن تبعاً لتطور اللغة العربية، وهذا جهل فاضح وافتراء من جاهل لأن اختلاف الأساليب راجع إلى ما يعالجه القرآن من موضوعات فالحديث عن الاعتقاد يختلف عن الحديث عن الحياة الاجتماعية … وهكذا، ثم اختلاف العهد المكي عن العهد المدني ففي مكة كان المقصود هو بناء العقيدة، أما في المدينة فكان الاهتمام ببناء المجتمع بالإضافة إلى بناء العقيدة.
3- يستخدم رجال الدين الرجعيون القرآن لخداع الجماهير، وهذا هجوم على علماء المسلمين بدون مبرر ووصفهم بالرجعية لا يستقيم مع كونهم رجال دين يجب احترامهم وتوقيرهم، إن رجال الدين يستخدمون القرآن لإبلاغ رسالة الإسلام إلى الناس وبيان العقيدة الحقة لهم ولبناء المجتمع الصالح الفاضل.(9/170)
4- ترى دائرة المعارف الروسية أن محمداً صلى الله عليه وسلم مبشر ديني أخذ تعاليم الحنفاء الذين وجدوا على أيامه وطورها وأقام على أساسها الإسلام وأنه ألف بعضاً من القرآن الذي أكمل فيما بعد.
إن الحقد الذي أعمى قلوبهم وأفكارهم دفعهم إلى الافتراء على سيد خلق الله أجمعين والتطاول على مقامه السامي، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم وأكبر من أن تتناول سيرته الطاهرة دائرة معارف الملحدين الكفرة الذين لا يرون في الدين إلا مخدراً للشعوب.
إن ما ذكرته من مقتطفات أردت به إيقاظ الوعي لدى المسلمين لما يقال عن دينهم ونبيهم وكتابهم وما يدبر لهم بمعرفة أعداء الإسلام.
وإنني من على صفحات هذه المجلة أدعو الهيئات الرسمية الإسلامية وغير الرسمية وعلى رأسها الأزهر الشريف إلى الوقوف في وجه هذه الحركات المعادية للإسلام وأن يبعثوا إلى هيئة تحرير دائرة المعارف السوفيتية بالحقائق التي يتجاهلونها عن الإسلام وطلب إثبات هذه الحقائق بها بدلاً من الخرافات التي تملأ كتبهم عن ديننا الحنيف.
وأتوجه إلى هؤلاء الذين أعمت الأحقاد قلوبهم وصدورهم عن ذكر الله أدعوهم إلى الإسلام وإلى اعتناق دين الله الحق وشهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.(9/171)
شلل الأطفال
بقلم الدكتور خالد زربا
الأخصائي في أمراض الأطفال - مونبليه - فرنسا
هو مرض سار ووبائي ينتج عن فيروز اسمه (POLIO-VIRUS) بوليو - فيروس، ويتميز هذا الفيروس بتوضعة في القسم الأمامي من النخاع الشوكي.
تنتقل عدوى هذا مرض من المصابين أو حاملي فيروس المرض إلى الأصحاء عن طريقين:
1- عن طريق الأنف والحنجرة وحدة انتقال المرض عن هذا الطريق قصيرة.
2- عن طريق البراز وهذا هو الطريق الأهم، وطرح (الفيروس) عن هذا الطريق سريع ويتم بكميات كبيرة وستمر لفترة طويلة، مما يسبب تلوث بعض المأكولات والمياه أحياناً.
وهكذا نرى أن العدوى تتم بطريقة مباشرة - الطريق الأول - أو طريقة غير مباشرة - الطريق الثاني-.
وهذا المرض يصيب عادة الأطفال ما بين الشهر السادس والسنة الخامسة ولكنه قد يصيب الرضع الذين لم يبلغوا الستة أشهر أو أولئك الذين تعدوا هذا العمر ووصلوا سن المراهقة والنضوج ولكن نسبة المصابين منهم بسيطة جداً.
ويتولد المرض بسهولة لا سيما إذا عرفنا أن ال POLIO-VIRUS يستوطن الأمعاء ويتميز بميله للجهاز العصبي وبشكل خاص القسم الأمامي من جذور النخاع الشوكي وفيها الخلايا التي تحرك العضلات.
في أكثر الحالات يمر الفيروس في الأمعاء دون أن يعبر جدارها - والشخص هنا يكون حاملاًً للمرض دون أن يمرض ولكنه ينقل العدوى للآخرين - لأن الجسم يفرز أجساماً مضادة تؤمن الدماغ ضد هذا الفيروس. وفي بعض الحالات يعبر جدار الأمعاء ويصل إلى الدم ويسبب بعض الأمراض الخفيفة دون أن يسبب الشلل.(9/172)
أخيراً في بعض الحالات القليلة يعبر جدار الأمعاء ويصل إلى الدم ومن ثم يعبر السحايا (أنسجة تغلف الجهاز العصبي) وبالتالي يصل إلى النخاع الشوكي حيث يتوضع في خلايا الجزء الأمامي من جذور النخاع الشوكي، أو خلايا مراكز أعصاب الرأس ويدمرها.. وبالتالي يحدث الشلل.
أعراض المرض تظهر على شكلين:
1- حالات خفيفة لا يحدث فيها الشلل.
2- حالات شديدة يكون نتيجتها الشلل وهي مجال بحثنا هذا، والحالات التي يحدث فيها الشلل أيضاً نجدها متنوعة منها الحالات الخفيفة كشلل العصب الوجهي أو بعض الأعصاب الأخرى في الوجه، وحالات شديدة جداً تسبب الموت السريع بعد أن تسبب تعطيل عملية دوران الدم وعملية التنفس. لكنّ الحالات الغالبة والتي تزيد على70 %من الحالات المرضية هذه هي الحالات التي تصيب النخاع الشوكي والتي يسميها الناس عادة شلل الأطفال. وتتميز عادة عن الحالات الأخرى بكونها تمر في معظم الأحيان بمراحل أربعة:
1- المرحلة الأولى: وتسمى المرحلة التمهيدية للمرض وخلالها يشعر المريض بارتفاع الحرارة أو انحطاط جسمي، وعدم قابلية للأكل أو آلام رأس حادة وآلام في الحنجرة وحالات إسهال أو إمساك، والحرارة تصل إلى 38-39ْ درجة وبعد يومين أو ثلاثة تختفي ومعها تختفي بقية العوارض.
2- المرحلة الثانية: وتسمى مرحلة ما قبل الشلل. تبدأ فجأة بارتفاع الحرارة خلال24-48 ساعة تصل إلى 39-40ْ درجة ويرافقها حالة زكام أو نزلة صدرية بسيطة ويحدث في نفس الفترة آلام رأس وغالباً ما يتقيأ المريض مرة واحة. ويحدث أحياناً بعض التشنجات والآلام العضلية في الأطراف والظهر، ويمر المريض بحالة تعرق شديد وخاصة في مضمار الرأس وهذه المرحلة تستمر عدة أيام.(9/173)
3- المرحلة الثالثة أو مرحلة الشلل: بعد نهاية المرحلة الثانية وخلال ساعات يبدأ بالظهور الارتخاء أو الشلل العضلي لبعض العضلات أو لبعض المجموعات العضلية وغالباً لعضلات الأطراف السفلية، وفي بعض الأحيان بعد مرور عدة أيام يمكن أن تظهر موجة جديدة من الشلل لبعض العضلات الأخرى وميزة هذا الشلل أنه يصيب غالبياً الأطراف السفلية بشكل غير متناظر. أي يمكن أن يصيب الطرف الأول بشكل أقوى أو أضعف من الطرف الآخر، وفي هذه المرحلة غالباً ما نلاحظ انحباس البول في المثانة.
4- أما المرحلة الأخيرة وتسمى بمرحلة تطور المرض: وخلال هذه الفترة يحاول الجهاز العصبي (في النخاع الشوكي) إعادة بعض ما كان عليه من عمل قبل الإصابة بالمرض وهذه المرحلة قد تستمر من عدة أشهر إلى عدة سنوات (2-3-4) والتحسن يكون قوياً نسبياً في بداية الأشهر الثلاثة الأولى ويقل بالتدريج.
وبعد مضي هذه المدة تبقى الآثار النهائية وبشكل دائم. حيث تكون العضلات المصابة قد ضمرت مما يسبب تشوهات للأطراف المصابة وبالتالي تشوهات للعمود الفقري والحوض تبقى طول العمر..
أما تشخيص المرض فيرتكز على دراسة الأعراض وعلى التحاليل المخبرية.
والمعالجة هي أصلاً لأعراض المرض- وليس للمرض نفسه- وترتكز على:
- عزل المريض والراحة المطلقة في السرير.
-مراقبة الوظائف الحيوية عند المريض- القلب- التنفس - الوعي
-تخفيف الآلام.
- إعادة الحركة للمصاب بواسطة التدليك الطبي وإعطاء الفيتامينات ث، ب12، ب1 وكذلك هناك حقن ال NIVAILN النيفالين التي تساعد أحياناً في تقوية وتنشيط المرحلة الأخيرة بشكل جيد لا سيما إذا استعملت الأيام الأولى من حدوث الشلل.
أما الوقاية فهي الوسيلة المثلى لتفادي الإصابة خصوصاً أن العلاج الطبي المذكور لا يستطيع إزالة هذا الشلل بشكل أكيد وفعّال بسبب موت الخلايا العصبية التي يتوضع فيها الفيروس.(9/174)
إن الوقاية من هذا المرض ترتكز فعلاً، بشكل مضمون على عملية التلقيح (التطعيم ضد المرض) .(9/175)
بيان مشيخة الأزهر
بشأن فيلم "محمّد رسول الله" [1]
أصدر فضيلة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر البيان التالي:
باسمي
وباسم الأزهر
وباسم مجمع البحوث الإسلامية الذي درس هذا الموضوع في عدة جلسات عقدها لهذا الغرض.
أعلن عدم الموافقة على إنتاج فيلم بعنوان (محمد رسول الله) صلى الله عليه وسلم. أو أي فيلم آخر يتناول بالتمثيل على أي وضع كان شخصية الرسول وشخصية الصحابة رضوان الله عليهم.
ذلك لأن ظهور هذه الشخصيات على الشاشة السينمائية- تصريحاً أو تلميحاً- أو بأية صورة من الصور الخفية أو المعلنة - ينقص من قيمتها ويحط من منزلتها في وجدان المسلم.
هذا إذا افترضنا جدلاً أن الذي يقوم بتمثيلها على درجة عالية من الخلق الطيب والصلاح والتقوى، تقارب الشخصية التي هي موضوع التمثيل.
أما أن الأمر ليس كذلك على أي حال من الأحوال، فإن الإساءة إلى الشخصيات الإسلامية تصبح بالغة وشديدة الخطورة.
ومن ناحية أخرى فإن القصة بما فها من حوار ومناظر- مهما تكن درجة إجادتها أو مطابقتها للحقائق الإسلامية- يدخل فيها دائماً شيء من اجتهاد المؤلف ويبقى فيها دائماً جوانب خاضعة لاجتهاد الممثل والمخرج، والمصور، وغيرهم من سائر الفنيين العاملين في إنتاج الفيلم، يمكنهم التصرف فيها وفقاً لثقافتهم وعقائدهم واتجاهاتهم الخاصة. وهذا مصدر خطر شديد.
كذلك فإن الأمر يتصل بمجال عرض الفيلم في الدور المعدة لذلك. وهي دور معدة أساساً للهو والتسلية والترفيه - وذلك بلا شك يترك أثراً على قداسة الشخصيات الإسلامية التي يتعرض لها الفيلم..(9/176)
على أنه إذا كان الغرض من تمثيل هذا الفيلم - أو غيره مما تظهر فيه الشخصيات الإسلامية ذات المنزلة الخاصة - التعريف بالإسلام، أو بمجد من أمجاده فإن في تاريخ الإسلام متسعاً لذلك حيث يغني بالشخصيات والعهود والأحداث والأمجاد التي يمكن تقديمها دون التعرض لشخصية الرسول أو الصحابة
أو من يماثلهم من أصحاب القدوة بين المسلمين.
من ذلك كله:
يتبين أنه لا يجوز من الناحية الإسلامية السماح بإنتاج (فيلم محمد رسول الله) كما لا يجوز السماح بعرضه..
وندعو حكام المسلمين وأولياء أمورهم..
كما ندعو الأمة الإسلامية كلها..
إلى إيقاف العمل في هذا الفيلم.
شيخ الأزهر
دكتور عبد الحليم محمود
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سبق أن أصدر سماحة رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز استنكارا لإخراج فيلم (محمد رسول الله صلى عليه وسلم) ونشر في بعض الصحف والمجلات في داخل المملكة وخارجها وقد نشرته مجلة الجامعة الإسلامية في افتتاحية العدد الثالث من سنتها السادسة في محرم سنة 1394هـ(9/177)
ندوة الطلبة
"كوكبنا وكوكبهم"
بقلم الطالب أحمد بن حسن المعلم
رأيت في إحدى المجلات العربية هذه العبارة "ليتسابق الناس إلى الكواكب أما نحن فكوكبنا عندنا على الأرض"يعني بكوكبهم أم كلثوم.
فما لنا في الجو من مطمح.
قالوا إلى الكوكب فليصعدوا.
نلقاه في الشاشة والمسرح.
فإنما كوكبنا عندنا.
وغردي ما بيننا واصدحي.
يا أم كلثوم أديمي الغنا.
ولازمي الشدو ولا تبرحي.
وفرقي بالشدو آلامنا.
ففتقي أفكارنا وافتحي.
فيا لغنا تفتح أفكارنا.
تذهب بالهم عن المترح.
فإنما غايتنا نغمة.
بالحب من قومِكِ ولتفرحي.
يا كوكبَ المشرِقِ فلتهنئي.
في ساحة المرقص والمسرح.
فكم نرى حولَكِ من خُشّع.
كالذكر إن أثّر في المفلح.
يمتزجُ الشجو بأنفاسهم.
في حضرةِ المرشد والمصلح.
إنصاتُهم يفضل إنصاتنا.
من طلب الخِسة لا تستحي.
يا ضيعة الأمجاد في أُمةٍ.
على مرور الدهر لا تمحي.
أورثها آباؤها عزةً.
وفارقوا الصرحَ إلى الأبطح.
فذبحوها جهرةً في الضحى.
وفارقوا الأفضل للأقبح.
وخالفوا دَيْدَنَ آبائهم.
تعدو على الأصلح فالأصلح.
فها هي النيران مسعورةٌ.
فقد دنا القومُ من المذبح.
فليبكِ من شاء على قومه.(9/178)
الفتاوى
يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
السؤال الأول: إذا ارتد مسلم عن دينه سنوات عديدة ثم رجع إلى الإسلام مرة أخرى فهل عليه قضاء الصوم والصلوات المكتوبة التي تركها خلال الردة؟
والجواب: إذا ارتد المسلم عن الإسلام نعوذ بالله من ذلك ثم منّ الله عليه بالتوبة فليس عليه قضاء ما ترك من صلاة وصوم زمن الردة لقول الله سبحانه: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يهدم ما كان قبله والتوبة تهدم ما كان قبلها"وهذا هو أصح أقوال أهل العلم للآية المذكورة والحديث المذكور وما جاء في معنى ذلك ولأن الصحابة رضي الله عنهم لم يأمروا من أسلم من المرتدين في زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وغيره بقضاء ما تركوا من الصلاة والصوم وهم أعلم الناس بشريعة الله بعد نبيهم عليه الصلاة والسلام ولأن في إلزامه بقضاء ما ترك من الصلاة والصوم تنفيراً له من العودة إلى الإسلام وهكذا الزكاة لا يقضي ما ترك منها لأنها إنما تصح من المسلم ولا يطالب بها سواه فيه كالصلاة والصوم.
السؤال الثاني: إذا توفي عن المرأة المسلمة الموظفة زوجها وهي في دولة لا تعطي لأي إنسان توفي عنه قريبه إجازة أكثر ممن ثلاثة أيام فكيف تعتد فمثل هذه الظروف لأنها إن قررت أن تعتد المدة المشروعة تفصل من العمل فهل تترك الواجب الديني من أجل اكتساب المعيشة.؟(9/179)
الجواب: عليها أن تعتد العدة الشرعية وتلزم الإحداد الشرعي في جميع مدة العدة ولها الخروج نهاراً لعملها لأنه من جملة الحاجات المهمة وقد نص العلماء على جواز خروج المعتدة للوفاة في النهار لحاجتها والعمل من أهم الحاجات وإن احتاجت لذلك ليلاً جاز لها الخروج من أجل الضرورة خشية أن تفصل ولا يخفى ما يترتب على الفصل من المضار إذا كانت محتاجة لهذا العمل وقد ذكر العلماء أسباباً كثيرة في جواز خروجها من منزل زوجها الذي وجب أن تعتد فيه، بعضها أسهل من خروجها للعمل إذا كانت مضطرة إلى ذلك العمل والأصل في هذا قوله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" متفق على صحته والله سبحانه وتعالى أعلم.
السؤال الثالث: إذا وقع عيد من العيدين في يوم جمعة فهل تصلى الجمعة مع خطبتها في ذلك اليوم أم لا؟
الجواب: المشروع للمسلمين إذا اجتمع عيد وجمعة أن يقيموا صلاة العيد وصلاة الجمعة في المساجد التي تقام فيها الجمعة ويجوز لمن حضر صلاة العيد ترك الجمعة والاكتفاء بصلاة الظهر للأحاديث الآتية:
عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم العيد ثم رخص في الجمعة ثم قال: "من شاء أن يصلي فليصل" رواه الخمسة إلا الترمذي وصححه ابن خزيمة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "قد اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون" رواه أبو داود وابن ماجه. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما في الصلاتين" رواه مسلم.(9/180)
ففي هذه الأحاديث الدلالة على أن المسلمين يقيمون صلاة العيد وصلاة الجمعة إذا اجتمعا في يوم واحد وفي الأول منها والثاني على جواز ترك حضور صلاة الجمعة لمن حضر صلاة العيد إذا اجتمعا في يوم، وإن على من ترك صلاة الجمعة أن يصلي صلاة الظهر لأنه من المعلوم بالأدلة القاطعة أن على المسلم المكلف في كل خمس صلوات مفروضة ومن ذلك يوم الجمعة فصلاة الجمعة في وقتها هي أحد الفروض الخمسة فمن لم يصلها لمرض أو سفر أو لحضور صلاة العيد في اليوم الذي اجتمع فيه العيد والجمعة لزمه أن يصلي صلاة الظهر وهذا محل إجماع بين أهل العلم.
وأسأل الله أن يوفقنا وإياكم وسائر إخواننا للفقه في دينه والثبات عليه وأن يجعلنا وإياكم من أنصاره والدعاة إليه على بصيرة إنه جواد كريم.(9/181)
أخبار الجامعة
بشرى
نقلت إلينا رابطة العالم الإسلامي مكة بشرى موافقة الحكومة الباكستانية رسميا على قرار الجمعية الوطنية الباكستانية القاضي باعتبار القاديانية أقلية غير إسلامية في باكستان.
ويعتبر هذا القرار تعزيزا لقرار الحكومة السعودية القاضي بمنع دخول القاديانيين إلى المملكة ومنعهم من أداء فريضة الحج لخروجهم من الإسلام.
والمجلة إذ تزف هذا الخبر لقرائها الكرام تسأل الله أن يحفظ جلال الملك فيصل لخدمة هذا الدين والذود عنه والله الموفق.
المجلة
بدأت الدراسة في كليات الجامعة ومعاهدها يوم الاثنين الموافق 6/10/94 هـ ومن الجدير بالذكر أن في الجامعة ثلاث كليات هي: كليم الشريعة. وكلية أصول الدين. وكلية القرآن الكريم. ويعتبر يوم الاثنين 6/10/94 هو أول يوم من أيام كلية القرآن الكريم وقد قام بإلقاء أول محاضرة فيها فضيلة الشيخ عبد الفتاح القاضي العالم المشهور في القراءات وعلوم القرآن والذي زادت مؤلفاته على العشرين مؤلفا وقد ألقى قبله فضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد المحسن بن الحمد العباد كلمة مختصرة افتتح فيها الكلية باسم الله. وأشار إلى أهمية هذه الكلية وأنها جاءت في الوقت الذي اشتدت الحاجة إلى إيجادها وأن افتتاحها في هذه الجامعة بناءا على موافقة جلالة الملك فيصل حفظه الله من توفيق الله لجلالته إذ هي أول كلية من نوعها في العالم. وحث الطلبة على الإقبال على هذه العلوم النافعة ومضاعفة الجهود في تحصيلها ليحصل بهم سد الفراغ الموجود في العالم.
عقد مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة دورته الخامسة في الطائف في شهر شعبان وكانت هذه الدورة برئاسة سماحة رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وقد درس المجلس المواضيع المعروضة عليه.(9/182)
من أعلام المحدثين
أبو جعفر العقيلي (322هـ)
بقلم الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
نسبه:
هو محمد بن عمرو بن موسى بن محمد بن حماد.
كنيته ونسبته:
كنيته أبو جعفر وقد اشتهر بها وهو من أهل مكة فيقال له: المكي ويقال الحجازي، ويقال له: العقيلي بضم العين نسبة إلى قبيلته وقد اشتهر بهذه النسبة.
سمع جده لأمه محمد بن يزيد العقيلي ومحمد ابن إسماعيل الصائغ وأبا يحيى ابن أبي ميسرة ومحمد بن أحمد بن الوليد بن برد الأنطاكي ويحيى بن أيوب العلاف ومحمد بن إسماعيل الترمذي وإسحاق الدبري وعلي بن عبد العزيز البغوي ومحمد بن خزيمة ومحمد بن موسى البلخي والمقدم ابن داود الرعيني وبشر بن موسى الأسدي وغيرهم.
ممن رووا عنه:
روى عنه أبو الحسن محمد بن نافع الخزاعي وأبو بكر بن المقرئ وغيرهما.
ثناء الأئمة عليه:
قال مسلمة بن قاسم: كان العقيلي جليل القدر عظيم الخطر وكان كثير التصانيف فكان من أتاه من المحدثين قال: اقرأ من كتابك ولا تخرج أصله فتكلمنا في ذلك وقلنا إما أن يكون أحفظ الناس وإما أن يكون من أكذب الناس فاجتمعنا عليه فلما أتيت بالزيادة والنقص فطن لها فأخذ مني الكتاب وأخذ القلم فأصلحها فانصرفنا من عنده وقد طابت أنفسنا وعلمنا أنه من أحفظ الناس. وقال الحافظ أبو الحسن بن سهل القطان: أبو جعفر ثقة جليل القدر عالم بالحديث مقدم بالحفظ، وقال الذهبي في التذكرة: الحافظ الإمام وقال: وكان مقيماً في الحرمين وقال في العبر: الحافظ صاحب الجرح والتعديل عداده في أهل الحجاز.
آثاره:(9/183)
قال الذهبي في تذكرة الحفاظ: صاحب كتاب الضعفاء الكبير وقال في العبر: صاحب الجرح والتعديل، وقال مسلمة بن قاسم: وكان حسن التأليف عارفًا بالتصنيف، وقال الفاسي في العقد الثمين في أخبار البلد الأمين: مؤلف كتاب الضعفاء، وقال الصفدي في الوافق بالوفيات: له مصنف جليل في الضعفاء: وقال الذهبي في أول كتابه ميزان الاعتدال: وله مصنف مفيد في معرفة الضعفاء.
وهذا الكتاب يوجد مخطوطاً في المكتبة الظاهرية بدمشق اسمه: الضعفاء ومن نسب إلى الكذب ووضع الحديث ومن غلب على حديثه الوهم ومن يتهم في بعض حديثه ومجهول روى ما لا يتابع عليه وصاحب بدعة يغلو فيها ويدعو إليها وإن كانت حاله مستقيمة.. قال عنها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في الفهرس الذي وضعه لمخطوطات الحديث في المكتبة قال: نسخة جيدة عليها سماع بتاريخ سنة 414هـ، وهي تحت رقم 362 حديث تبلغ صفحاتها 470 صفحة، ويوجد نسخة مصورة عنها محفوظة في معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية في القاهرة تحت رقم 718 فهرس قسم التاريخ.
وفاته:
توفي الحافظ أبو جعفر العقيلي سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة بمكة في شهر ربيع الأول أرخ وفاته في هذه السنة الذهبي في العبر وفي تذكرة الحفاظ وابن العماد في شذرات الذهب والصفدي في الوافي بالوفيات والفاسي في العقد الثمين وقال: توفي في ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة بمكة كما ذكر ابن زبرقي في وفياته وذكر أنه شهد جنازته.
ممن ترجم له:
1_ ترجم له الذهبي في العبر 2/194 وفي تذكرة الحفاظ 3/52.
2_ وابن العماد في شذرات الذهب 2/295.
3_ والسمعاني في النساب 396 مخطوط.
4_والفاسي في العقد الثمين 2/244.
5_ والصفدي في الوافي بالوفيات 4/291.
6_ وعمر رضا كحالة في معجم المؤلفين 11/98.
من أقوال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم
استحباب مجالسة الصالحين(9/184)
عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير: فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه. وإما أن تجد منه ريحًا طيبة. ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك, وإما أن تجد ريحًا خبيثة".
رواه مسلم(9/185)
البهائية.. إحدى مطايا الاستعمار والصُهيونيَّة
بقلم الشيخ: عبد القادر شيبة الحمد
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على محمد سيد المرسلين وخاتم النبيين وعلى آله وصحابته الطاهرين ومن سلك سبيلهم إلى يوم الدين أما بعد: فإن البهائية مؤامرة إلحادية خططت لها الماسونية السرية، والصهيونية العالمية، وتولت غرس شجرتها الجاسوسية الروسية لقصد تغيير دين الإسلام وطمس عقائده وهدم أنظمته، والتمكن من تنفيذ المؤامرات والعمل على إنشاء وطن قومي لليهود في أرض فلسطين.
كيف تم تكوين هذه العصابة؟
حوالي سنة 1231 هـ ظهر بكر بلاء في العراق رجل مجهول الأصل والمولد والمنشأ- ويذكر بعض الباحثين أنه كان قسيسًا نصرانيًا - فادعى أن اسمه كاظم الرشتي - ورشت قرية من قرى إيران بالرغم من أن أهل رشت لا يعرفون عنه شيئًا. وقد استغل من مبادئ الشيعة الاثني عشرية فكرة الغائب بالسرداب المنتظر وفكرة الباب لهذا الغائب فعمل على إيجاد شخص يضفي عليه هذا اللقب ويضعه على عينه ليصل بواسطة هذا الباب إلى كل ما يريد.
واتخذ لنفسه مجلسًا، واستطاع أن يستميل إليه بعض ذوي النفوس المنحرفة والقلوب المريضة وجعلهم تلاميذ له.
وكان من أخبث هؤلاء رجل يقال له: حسين البشروئي - من بشرويه إحدى قرى خراسان أضفى عليه المدعو كاظم الرشتي لقب كبير التلاميذ واختاره ليكون المنفذ الحقيقي لهذه المؤامرة البشعة ولقبه باب الباب.(9/186)
ومن أخطر هؤلاء التلاميذ امرأة أصلها من الشيعة الاثني عشرية كانت تسمى فاطمة بنت صالح القزويني كانت بارعة الجمال فلقبها أبوها بلقب زرين تاج لأنها كانت ذات شعر ذهبي. زوجها أبوها وهي صغيرة من ابن عم لها فنفرت منه وانفصلت عنه واتصلت بكاظم الرشتي بالمراسلة، ونشط هو في مكاتبتها إذ وجد فيها ضالة منشودة له. ولقبها في رسائله لها بأنها: قرة العين: ودعاها إلى ترك قزوين والحضور إلى كربلاء غير أنه هلك عام 1259هـ قبل وصولها إليه، وما أن وصلت إلى كربلاء حتى تلقفها حسين البشروئي وبقية تلاميذ الرشتي وقد صارت أجرأ هؤلاء التلاميذ على إعلان الخروج على الإسلام والدعوة إلى الشيوعية في النساء، ولما أخذت تطبق هذا الأمر علنًا مع بعض تلاميذ الرشتي أطلقوا عليها لقب الطاهرة وكان من بين تلاميذ الرشتي شاب يقال له علي محمد الشيرازي، المولود بشيراز عام 1235هـ الموافق لعام 1819م وقد توفي والده وهو صغير فكفله خاله علي الشيرازي وعهد به إلى أحد تلاميذ الرشتي وهو لا يعرف أهدافه ثم رحل به خاله إلى ثغر (بوشهر) على ساحل الخليج في مقابلة الكويت وافتتح له متجرًا هناك وقد لاحظ خاله أنه بدأ ينحرف عن مذهب الاثني عشرية وقد أصابته لوثة عقلية كانت تعتريه في بعض الأحيان فرأى خاله أن يبعثه إلى كربلاء وسنه إذ ذاك عشرون عامًا فبصر به بعض تلامذة الرشتي وحملوه إلى أستاذهم الذي أخذ يوصي إليه بقرب ظهور المهدي ويدس له من يملأ نفسه بأنه الباب.
ولما مات الرشتي توجه إلى شيراز فأقام حسين البشروئي (قرة العين) مقام الرشتي في التدريس لتلاميذ الرشتي بكربلاء وكانت قد اصطفت لنفسها من بينهم رجلاً قوياً يقال له محمد علي البارفروشي ولقبوه القدوس.(9/187)
وقد توجه البشروئي إلى شيراز ولحق بعلي محمد الشيرازي وأخذ يستغل سذاجة هذا الشاب وغروره فواصل الاجتماع به وأوهمه أنه يوشك أن يكون له شأن وأنه علم من شيخه الرشتي الإشارة إلى أن علي محمد الشيرازي يمكن أن يكون هو الباب وأن البشروئي هو باب الباب ولم يزل به حتى أعلن هذا الشاب المغرور في شيراز يوم 5 من جمادى الأول عام 1260 هـ أنه باب المهدي. وسارع حسين البشروئي ليبشر بقية التلاميذ بظهور الباب وأعلن أنه هو باب الباب.
وقد ظهر أن وراء هذه العصابة الجاسوس الروسي "كنياز دالكوركي"الذي كانت وظيفته الظاهرة مترجماً بالسفارة الروسية في طهران وقد ادعى هذا الجاسوس أنه اعتنق الإسلام وأخذ يلازم مجلس كاظم "الرشتي "ويغرس هذه الشجرة الملعونة في أرض الأمة الإسلامية وقد لعب دورًا خطيرًا في ضم مجموعة من الرجال إلى هذه العصابة إذ جلب لها رجلاً يقال له: حسين علي المازندراني والمولود بطهران عام 1233هـ وقد أوصى إليه هذا الجاسوس بعد ذلك بدعوى الألوهية والتلقب بالبهاء واستعمله مخلب القط لكل ما يريد. كما ضم إلى هذه العصابة يحيى المازندراني الأخ غير الشقيق لحسين علي ولقبه بعد ذلك بصبح الأزل.
ويقول هذا الجاسوس الروسي في مذكراته التي نشرت في مجلة الشرق "السوفيتية"سنة 1924-1925م: "والخلاصة أني خرجت حسب الأمر في أواخر سبتمبر مع راتب مكفى من روسيا إلى العتبات العاليات وفي لباس الروحانية باسم "الشيخ عيسى اللنكراني"ووردت كربلاء المقدسة.(9/188)
ويقول: وكان بقرب منزلي طالب علم يسمى السيد علي محمد وكان من أهل شيراز فأنا أيضًا صادقته بحرارة، والسيد علي محمد لم يترك صداقتي وكان يضيفني أكثر من قبل وكنا نشرب الحشيش وكان ابن الوقت متلون الاعتقاد. ثم يستمر هذا الجاسوس في مذكراته فيقول: سأل طالب تبريزي يوماً السيد كاظم الرشتي في مجلس تدريسه فقال: أيها السيد: أين صاحب الأمر الآن؟ وأي مكان مُشَرّف به الآن؟ فقال السند: أنا ما أدري ولعل هنا- مكان التدريس يكون الآن مشرفاً بحضوره. ولكني لا أعرفه.
ثم يشرح الجاسوس كيف حاول باستمرار الإيحاء إلى علي محمد رضا هذا أنه هو المنتظر إلى أن أقنعه بذلك بواسطة حسين البشروئي فأعلن أنه الباب.
ويصف الجاسوس نصائحه إلى هذا الباب فيقول له: ولا تكن متلوناً فإن الناس يقبلون منك كل ما تقول من رطب ويابس ويتحملون عنك كل شيء حتى ولو قلت بإباحة الأخت وتحليلها للأخ فكان السيد يصغي ويستمع كاملاً وبلا نهاية، صار طالباً ومشوقاً أن يدعي ادعاءاً ثم يسوق الجاسوس خبر رجوعه إلى إيران من العراق ثم يقول: فطفق كل من الميرزا حسين علي- البهاء- وأخيه الميرزا يحيى - صبح الأزل - والميرزا رضا علي - الباب - ونفر من رفقتهم يأتونني مجدداً ولكن مجيئهم كان من باب غير معتاد للسفارة الذي كان قرب سكة مغسل الأموات.(9/189)
ويصف هذا الجاسوس كيف اصطدم مع السفير الروسي "كراف سيمنويج"فاستدعته الحكومة الروسية إلى روسيا وفي ذلك يقول: لقد قطع هذا الوزير المفوض جميع رواتب أصدقائي ورفقائي حتى رواتب الميرزا حسين علي وأخيه الميرزا يحيى والميرزا علي رضا وغير هؤلاء الذين كانوا يأخذون الرواتب سراً فبقطعه رواتب هؤلاء قد هدم مؤسساتي جمعاء وقلب كل ما أنا فعلته ونقض كل ما أنا غزلته. ثم يصف اتصال هؤلاء به في روسيا فيقول: في كل شهر كانت تأتيني من الأصدقاء الطهرانيين رسائل ومكتوبات وكلهم كانوا يدعونني إلى إيران وحتى بعض عُبّاد البطن منهم مثل الميرزا علي رضا والميرزا حسين علي وبعد اقتناع الحكومة الروسية بضرورة إرجاعه إلى إيران يقول: وكان الميرزا حسين علي أول من ورد هذه الغرفة وأخبرني بمطالب مهمة جداً ثم يقول: انقضى رمضان وأنا كنت أربي نفراً من أصحاب سري تربية الجاسوسية ولم تكن لأي منهم لياقة الميرزا حسين علي وأخيه يحيى.
إعلانات علي محمد رضا الشيرازي المتناقضة(9/190)
أعلن علي محمد الشيرازي بتسويل حسين البشروئي وتدبير الجاسوس الروسي أنه الباب إلى الغائب الذي بالسرداب ثم توجه من شيراز إلى بوشهر مختفياً وأخذ البشروئي يذيع أنه رأى الباب بعينه وأخذ يدعو الناس إلى متابعته وأطلق على من تبعه اسم (البابية) ثم لم يلبث البشروئي أن حوله من باب المهدي إلى المهدي نفسه وأطلق عليه "قائم الزمان"وانضم إليه في ذلك رجل يقال له محمد علي البارفروشي وآخرون بلغ عددهم سبعة عشر رجلا ًوامرأة وهي الملقبة لديهم بقرة العين وتوجهوا إلى بوشهر واجتمعوا بزعيمهم الجديد (الباب) وصاروا معه تسعة عشر شخصاً فلذلك قرر أن يجعل عدة الشهور تسعة عشر شهراً والشهر تسعة عشر يوماً واعتبر اليوم الذي أعلن فيه دعوته يوم 5 من جمادى الأولى سنة 1260 هـ هو بدء التاريخ ثم جمع جملاً متناقضة مملوءة بالسفسطات والأكاذيب وجعلها أساس دينه الجديد وسماها البيان. ثم ادعى أنه الممثل الحقيقي لجميع الأنبياء والمرسلين فهو نوح يوم بعث نوح وهو موسى يوم بعث موسى وهو عيسى يوم بعث عيسى وهو محمد يوم بعث محمد عليهم الصلاة والسلام. ثم زعم أنه يجمع بين اليهودية والنصرانية والإسلام وأنه لا فرق بينهما ثم أنكر أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وحرّم قراءة القرآن ثم زعم أن الله تعالى حلّ فيه وادعى أنه أكمل هيكل بشرى ظهرت فيه الحقيقة الإلهية. وأنه هو الذي خلق كل شيء بكلمته. وألغى الصلوات الخمس وصلاة الجمعة وصلاة الجماعة إلا في الجنازة وقرر أن الطهر من الجنابة غير واجب، وأن القبلة هي البيت الذي ولد به في شيراز أو البيوت التي يعيش فيها هو وأتباعه، وجعل الحج هو زيارة هذه البيوت. أما الصوم فيكون من شروق الشمس إلى غروبها لمدة شهر بابي أي تسعة عشر يوماً وينتهي بعيد النيروز المجوسي وأباح لأتباعه خمسة أيام قبل الصيام يرتكبون فيها ما شاءوا من الشهوات وأوجب أن يؤخذ في الزكاة خمس المال وأوجب الزواج على من بلغ(9/191)
الحادية عشرة من الذكور والإناث ولا يحتاج الزواج لأكثر من رضا الذكر والأنثى ويجوز إيقاع الطلاق. تسع عشرة مرة وعدة المطلقة تسعة عشر يوماً، ولا يجوز الزواج بأرملة إلا بعد دفع دية وبعد انقضاء عدتها ومقداره خمسة وتسعون يوماً، وحرم على المرأة الحجاب، وقرر أنه لا وجود للنجاسة، وأوجب دفن الميت في قبر من البلور أو المرمر المصقول، مع وضع خاتم في يمناه منقوش عليه فقرة من كتابه البيان. وأوجب استقبال قرص الشمس ساعة عند شروقها. إلى غير ذلك من الآراء المتناقضة التي لا تلائم فطرة ولا يقرها عقل ولا تجلب للإنسانية غير البلبلة والاضطراب.
وقد ثار علماء شيراز على دعاة البابية فقبض واليها حسين خان عليهم ثم أمر بإحضار الباب من بوشهر فأحضر وحيل إلى مجلس الحاكم فخر على الأرض ترتعد فرائصه فلطمه الحاكم وبصق في وجهه ثم رمي به في السجن. ثم رأى الحاكم أن يختبره بنفسه فأرسل إليه وأحضره من السجن وأظهرله أنه تأسف على ما بدر منه فانطلق الباب المغرور يمنيه بأنه سيجعل منه سلطاناً فيما بعد على الدولة العثمانية حينما تدين الدنيا كلها له ولأتباعه. ثم فوجئ الباب بحشد من العلماء في قصر الحاكم ففزع فأوهمه الحاكم بأنهم جمعهم للتمكين لدعوته وإعلانها فاغتر الباب وحضر مجلس العلماء ثابت الجنان ثم بدأ يخاطب العلماء بقوله إن نبيكم لم يخلف لكم بعده غير القرآن فهاكم كتاب البيان فاتلوه تجدوه أفصح عبارة من القرآن، ولما اطلع العلماء عليه لم يجدوه فيه إلا كفراً بواحاً وأخطاء فاحشة في اللغة فلما نبهوه إلى هذه الأخطاء ألقى اللوم على الوحي الذي جاء بها هكذا. وهنا قال له الحاكم: كيف تدعي الرسالة وترجح نفسك خاتم النبيين وأنت عاجز عن التعبير عن مكنون نفسك ثم أمر الحاكم رجاله فعلقوه من رجليه ثم انهالوا عليه ضرباً فأعلن أنه كفر بدعوته ورضي أن يطاف به في الأسواق على دابة شوهاء ثم أعيد إلى سجن شيراز.(9/192)
بيد أن الجاسوس الروسي بواسطة جاسوس روسي آخر هو منوجهر خان الأرمني الذي دفعته الحكومة الروسية لإعلان إسلامه فغمره الشاه بالفضل وأولاه ثقته وعينه معتمداً للدولة في أصفهان استطاع منوجهر هذا أن يخلص الباب من السجن ويهربه إلى أصفهان. ولما مات منوجهر عثر بالباب يمرح في قصره فقررت الحكومة نفيه إلى قلعة ماكو بأذربيجان.
مؤتمر بدشت سنة 1264هـ
يقول الجاسوس الروسي في مذكراته فأنا بواسطة الميرزا حسين علي وأخيه يحيى ونفر آخر قمنا بالضجيج والعجيج أن صاحب الأمر قد قبض عليه. فاجتمع الدعاة المرتدون الثمانية عشر وقرروا أن يحضروا معهم كل الذين استمالوهم وأن يعقدوا منهم مؤتمراً في صحراء بدشت بين خراسان ومازندران وعلى رأسهم باب الباب (حسين البشروئي) وقرة العين وحسين علي المازندراني الذي تلقب فيما بعد بالبهاء وجعلوا الدعوة الظاهرة لهذا المؤتمر هي التفكير في الوسائل الممكنة لإخراج الباب من السجن، أما المقصود لهذا المؤتمر فهو إعلان نسخ دين الإسلام. وما أن انعقد المؤتمر حتى اندفعت (قرة العين) تلهب حماسهم وتقرر حقيقة نحلتهم الجديدة فقالت: اسمعوا أيها الأحباب والأغيار إن أحكام الشريعة المحمدية قد نسخت الآن بظهور الباب وأن أحكام الشريعة الجديدة البابية لم تصل إلينا، وأن اشتغالكم الآن بالصوم والصلاة والزكاة وسائر ما أتى به محمد كله عمل لغو وفعل باطل ولا يعمل بها بعد الآن إلا كل غافل وجاهل إن مولانا الباب سيفتح البلاد ويسخر العباد وستخضع له الأقاليم المسكونة وسيوحد الأديان الموجودة على وجه البسيطة حتى لا يبقى إلا دين واحد وذلك الدين الحق هو دينه الجديد وشرعه الحديث. وبناء على ذلك أقول لكم وقولي هو الحق: لا أمر اليوم ولا تكليف، ولا نهي ولا تعنيف فاخرجوا من الوحدة إلى الكثرة ومزقوا هذا الحجاب الحاجز بينكم وبين نسائكم بأن تشاركوهن بالأعمال وتقاسموهم بالأفعال، وأصلوهن بعد السلوة وأخرجوهن(9/193)
من الخلوة إلى الجلوة فما هن إلا زهرة الحياة الدنيا وأن الزهرة لا بد من قطفها وشمها لأنها خلقت للضم والشم ولا ينبغي أن يعد أو يحد شاموها بالكيف والكم، فالزهرة تجني وتقطف، وللأحباب تهدي وتتحف. وأما ادخار المال عند أحدكم وحرمان غيركم من التمتع به والاستعمال فهو أصل كل وزر وأساس كل وبال، ساووا فقيركم بغنيكم، ولا تحجبوا حلائلكم عن أحبابكم إذ لا ردع الآن ولا حد، ولا منع ولا تكليف ولا صد، فخذوا حظكم من هذه الحياة فلا شيء بعد الممات.
وبعد انفضاض المؤتمر وتسرب أنبائه ثارت ثائرة رجال الدين والدولة في إيران فطلب الشاه من ولي عهده ناصر الدين وهو في تبريز أن يحضر الباب لمحاكمته فأقر الباب أمام العلماء بأنه جاء بدين جديد فوجه إليه العلماء هذا السؤال: ما النقص الذي رأيته في دين الإسلام وما الذي كملت به هذا النقص لو كان؟ فارتج الدعي ولم يجد شيئاً، فاستقر الرأي على وجوب قتله مرتداً بعد أن أطبق العلماء على كفره وردته.(9/194)
ولما جاء وقت التنفيذ حمل الباب من سجنه ومعه أحد أتباعه لإعدامهما في أحد ميادين تبريز الذي كان مكتظاً بفئات كثيرة من الناس حضروا ليشاهدوا مصرع هذا الضال بيد أن القنصل الروسي استطاع أن يتصل بقائد الفرقة المكلفة بتنفيذ حكم الإعدام وأن يغريه برشوة كبرى ليحاول إنقاذ الباب. وشد هذا الباب إلى عمود طويل ومعه تابعه والناس يلعنونه ويستعجلون بالفتك به ن ووقف القنصل الروسي مشدوهاً بين هؤلاء وأطلق الجنود ثمانمائة رصاصة استقرت كلها في جسد تابعه المغرور غير واحدة من هذه الرصاصات فقد قطعت الحبل الذي ربط به الباب وحينما إنجاب الدخان الكثيف رأى الناس جسد التابع ممزقاً تحت العمود أما الباب فقد فر بعد أن قطعت الرصاص حبله. غير أن بعض الجند الذين كانوا يعرفونه ويجهلون قصد قائدهم قاموا بتمزيق جسده بالرصاص فانهار قنصل الروس وبكى من هول ما أصيب به. وقد تركت جثته في خندق طعاماً للوحوش بعد أن قام قنصل الروس بتصوير الجثة وقد بعث بالصورة إلى حكومته كما جاء في
كتاب الكواكب الدرية في تاريخ ظهور البابية والبهائية المطبوع في القاهرة سنة 1343هـ وهو لأحد البهائيين. وكان إعدام هذا الدعي يوم 28 من شعبان سنة 1266 هـ أو 1267هـ.
ثم قامت الحكومة بالتنكيل بأتباعه وأعدمت الكثير منهم ومن بينهم قرة العين.
من البابية إلى البهائية:(9/195)
بعد أن قتل الباب حاول الروس اختيار شخص آخر من أتباعه ليكون خليفة له ويقول الجاسوس الروسي كنياز د الكوركي في مذكراته: فوصلني خبر قتله بطهران فقلت لميرزا حسين علي - البهاء - ونفر آخرين أن يثيروا الغوغاء بالضجيج والعجيج وقد تعصب نفر آخرون وأطلقوا الرصاص على الشاه ناصر الدين فلذلك قبضوا على كثيرين من الناس وكذلك قبضوا على حسين علي المازندراني وبعض آخر من الذين كانوا لي أصحاب السر فأنا حاميت عنهم وبألف مشقة أثبت أنهم ليسوا بمجرمين وشهد عمال السفارة وموظفوها حتى أنا بنفسي أن هؤلاء ليسوا بابيين فنجيناهم من الموت وسيرناهم إلى بغداد وقلت لميرزا حسين علي: اجعل أنت أخاك الميرزا يحيى وراء الستر وادعوه (من يظهره الله) فلا تدعه أن يكلم أحداً وكن أنت بنفسك متوليه وأعطيتهم مبلغاً كبيراً رجاء أن أعمل بذلك عملاً"ثم يقول:فألحقت به في بغداد زوجته وأولاده وأقرباءه كي لا يكون له هوى من خلفه. ثم يقول: فشكلوا في بغداد تشكيلات وجعلوا له كاتب وحي. وكان قسم من أعمال السفارة الروسية في طهران منحصراً في تهيئة الألواح وتنظيم أعمال البابية ثم يقول: والدولة الروسية كانت تقويهم وبنت لهم مأوى وسكناً ثم يقول: ورقباؤنا كانوا ساعين أن يفشو الألواح المتضادة المتناقضة التي كانت صادرة بيد كتابنا ثم يقول: وكل من كان في طهران يصير بهائياً كنا نعاونه ونساعده ولم يكن لأولئك البتة مأوى وملجأ سوانا.
بيد أن الخلاف بدأ يدب بين البابيين فصار جماعة منهم يتبعون حسين المازندراني وجماعة يتبعون أخاه يحيى وجماعة رفضوا أن ينصاعوا لأحد الرجلين وبدأ النزاع بين هذه الفرق الثلاث وتأكد لشاه إيران أن البابية رغم مقامهم في بغداد بعيدا عن حدوده ما زالوا يمثلون خطراً داهما على دولته فطلب من الحكومة العثمانية إخراجهم من العراق، فأصدرت أمرا بنفي حسين المازندراني وأخيه وأتباعهما إلى الآستانة سنة 1281هـ.(9/196)
وتجمع هؤلاء في حديقة نجيب باشا والي بغداد استعداداً للرحيل فاستغل حسين المازندراني اجتماع هؤلاء وأعلن أنه الموعود الذي جاء الباب ليبشر به وأنه بهاء الله، وان الغاية من ظهور الباب أنها كانت لإعداد الناس لقدوم بهاء الله، وما أن وصل هؤلاء إلى الآستانة حتى طلب السفير الإيراني نقلهم إلى مكان بعيد عن العاصمة فنقلوا إلى أدرنة وفيها احتدم النزاع بين الأخوين فعرف أتباع يحيى بالأزليين إذ صار يحيى يلقب صبح الأزل وعرف أتباع حسين بالبهائيين إذ أطلق على نفسه لقب بهاء الله.
وحاول حسين القضاء على أخيه بدس السم له كما حاول قتله غيلة مما حدا بالحكومة إلى نفي يحيى إلى قبرص ونفي حسين إلى عكا في فلسطين وقد عمدت الحكومة العثمانية إلى إقامة عيون على كل واحد من الأخوين من أتباع الآخر.
وما أم وصل حسين إلى عكا واستمر في سجنها حوالي أربعة أشهر حتى امتدت الأيدي الماسونية والصهيونية لإمداده بالمال الوفير وتهيئته للدعوة لدينه الجديد وأطلق سراحه من السجن وما أن خرج من السجن حتى دبّر مؤامرة لأتباع أخيه فأبادهم ليلاً بالحراب والسواطير مما حمل الحكومة على اعتقال البهائيين في أحد معسكرات عكا. ولم يمض طويل زمن جميل كما وضع أتباعه في منزل آخر وأذن لأتباعه ولغيرهم في زيارته والتحدث إليه.
النحلة الجديدة(9/197)
بدأ حسين المازندراني بدعوى أنه وصي الباب ثم زعم أنه المسبح قد نزل ثم ادعى لنفسه النبوة ثم زاد في تبجحه وادعى إنه إله السموات والأرض زاعماً أن الحقيقة الإلهية لم تنل كمالها الأعظم إلا بتجسدها فيه. وقد أمدته الصهيونية بلقب بهاء الله الموجود في المزامير إذ قد ردد فيها (أن السموات تحكي عن بهاء الله) فزعم أو زعموا له أنه هو هذا البهاء وأنه مظهر الله الأكمل وأنه موعود كل الأزمنة ومجيئه الساعة الكبرى وقيامه القيامة والانتماء إليه هو الجنة ومخالفته هي النار وقد أخذ ينسخ من البابية ما لا يوافق هواه.
وبدأ يجمع كتباً يعارض بها كتاب الله ويؤسس فيها نحلته الفاجرة فألف الإتقان والإشتراقات ومجموعة الألواح والأقدس المطبوع ببغداد لأول مرة عام 1349هـ ويقع في 52 صفحة بالقطع المتوسط والذي هو أهم كتاب عندهم وهو في نظرهم أقدس من جميع الكتب المقدسة وقد حشاه بالآراء المضطربة والأقوال المتناقضة، ولم يخرج في جملته عن مثل ضلالات شيخه الباب، وإن كان نسخ جملة منها ويقول في الفقرة 275 ص26: "إنا أخبرنا الكل بأن لا يعادل بكلمة منك ما نزل في البيان إنك أنت المقتدر على ما تشاء".
هلاك حسين المازندراني
وقد استمر حسين المازندراني هذا في نشر افتراءاته وإشاعة أراجيفه بواسطة المؤسسات الماسونية ودعاة الصهيونية العالمية التي اتخذته مطية لقضاء مآربها وتحقيق أهدافها إلى أن أنهكته الحمى فهلك في اليوم الثاني من شهر ذي القعدة سنة 1309هـ الموافق مايو 1892هـ بعد أن عمل على تمهيد الطريق لأكبر أولاده الذي سماه (عبد البهاء) عباس. إذ حاول قبيل هلاكه أن يجمع وصف الألوهية له ولولده هذا إذ كتب له يقول: من الله العزيز الحكيم إلى الله اللطيف الخبير"كما كان يلقبه بالفرع العظيم المتشعب من الأصل القديم. وقد ترك وراءه من زوجتيه أربعة أبناء وثلاث بنات.
تنازع الإخوة على الرئاسة(9/198)
عندما أعلن عباس (عبد البهاء) أنه وصي أبيه نازعه أخوه محمد علي وانضم إليه بقية إخوانه غير أنه استطاع أن يستأثر بالأمر دونهم.
وقد كان عباس هذا أشد مكراً من أبيه وأعرق في الخبث والدهاء فأخذ يضم إلى ضلالات أبيه ضلالات أخرى وأخذ يتزلف إلى كل أعداء الإسلام في الأرض فقرر بنوة عيسى عليه السلام لله عز وجل وأعلن إيمانه بألوهية المسيح وصلبه مما قد نفاه الله عز وجل وفي ذلك يقول في مفاوضات عبد البهاء ص 102: ولما أشرقت كلمة الله من أوج الجلال بحكمة الحق المتعال في عالم الجسد اعتدى عليها في الجسد إذ وقعت في أيدي اليهود أسيرة لكل ظلوم وجهول وانتهى الأمر بالصلب. ويقول في"مكاتيب عبد البهاء ص13: وفي كور المسيح الأب والابن والواسطة روح القدس.
وادعى أن البهائي يجمع بين جميع الديانات فهو يقول في "خطابات عبد البهاء ص99: اعلم أن الملكوت ليس خاصاً بجمعية مخصوصة فإنك يمكن أن تكون بهائياً مسيحياً وبهائياً ماسونياً وبهائياً يهودياً وبهائياً مسلماً.
وقد أخذ عبد البهاء يدعو إلى التجمع الصهيوني ويحقق الغرض الذي من أجله أسست البهائية: وهو تغيير دين الإسلام والعمل على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين وفي ذلك يقول في مفاوضات عبد البهاء ص59: وفي زمان ذلك الغصن الممتاز وفي تلك الدورة سيجتمع بنو إسرائيل في الأرض المقدسة وتكون أمة اليهود التي تفرقت في الشرق والغرب والجنوب والشمال مجتمعة.ثم يقول: فانظروا الآن تأتي طوائف اليهود إلى الأرض المقدسة ويمتلكون الأراضي والقرى ويسكنون فيها ويزدادون تدريجياً إلى أن تصير فلسطين جميعاً وطناً لهم.(9/199)
وقد ذكر فريد وجدي في دائرة معارف القرن العشرين (الرابع عشر) الهجري في الجزء الثاني ص377 أن بعض دعاة البهائية فسر الفقرة الثانية من الإصحاح الثالث الثلاثين من سفر التثنية التي تقول: جاء الرب من سينا وأشرق من ساعير وتلألأ من جبل فاران"فقال: فهذه الآية المباركة تدل دلالة واضحة أن بين يدي الساعة وقدام مجيء القيامة لابد من أن يتجلى الله على الخلق أربع مرات ويظهر أربع ظهورات حتى يكمل بني إسرائيل وينتهي أمرهم إلى الرب الجليل فيجتمع شتيتهم من أقصى البلاد ويدفع عنهم كل العباد ويسكنهم في الأرض المقدسة ويرجع موازينهم القديمة.
وقد استمر هذا الأفاك في نشر ضلالاته وضلالات أبيه حتى أهلكه الله في يوم الاثنين السادس من ربيع الأول سنة 1340 هـ عن ثمان وسبعين سنة بعد أن عهد إلى المدعو شوقي ابن بنته ضيائية نكاية في أخيه محمد علي الذي استمر مناوئاً له إلى آخر رمق منه.
وقد حاول هؤلاء المجرمون نسخ الإسلام في كل شيء ولقد حملتهم هذه العداوة لدين الله أن حاربوا هديه حتى في عدة الشهور التي أطبق عليها بنوا البشر. فاخترعوا لأنفسهم تاريخاً جعلوا مبدأه يوم إعلان دعوة الباب وهو 5 من جمادى الأول سنة 1260هـ وجعلوا أشهر السنة تسعة عشر شهراً واخترعوا لهذه الشهور أسماء من وحي خيالهم ولبهم: وهي:
البهاء - الجمال - العظمة - النور - الرحمة - الكلمات - الأسماء - الكمال - العزة - المشيئة - العلم - القدر - القول - المسائل - الشرف - السلطان - الملك - العلا.
وهكذا حملتهم مصادفة بلوغ عدد جماعتهم عند إعلان دعوتهم تسعة عشر مرتداً أن جعلوا الشهور تسعة عشر شهراً والمهر تسعة عشر مثقالاً والزكاة تسعة عشر في المائة والصيام تسعة عشر يوماً إلى غير ذلك مما أسسوا به ديانة المصادفات.(9/200)
هذه لمحة موجزة تلقي ضوءاً كاشفاً على هذا المذهب الهدام ولا نحب أن نقارن هنا بين تعاليم الإسلام التي ما تركت باباً تلج منه الإنسانية إلى أسباب سعادتها إلا دلت عليه وأمرت به وأوضحت سبيله ورسمت منهجه. ولا تركت باباً يدخل على الإنسانية منه شر إلا حذرت منه ونهت عنه.
لا نحب أن نقارن بين الإسلام دين الفطرة والعقل والعلم والنظام والرحمة والعدل وأحسن مناهج السلوك في سائر صنوف المعاملات.لانحب أن نقارن بين دين الله وبين هذه التلفيقات الهدامة والتضليلات المارقة والخرافات الباطلة لأن المثل يقول:
إذا قيل هذا السيف أمضى من العصا
ألم ترَ أن السيف ينقص قدره
ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يثبت الله للذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء.
من أقوال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله متى الساعة". قال: "وما أعددت للساعة". قال: "حب الله ورسوله". قال: "فإنك مع من أحببت". قال أنس: "فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإنك مع من أحببت". قال أنس: "فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم".
رواه مسلم(9/201)
كيف نعد المعلم الصالح..
بقلم فضيلة الشيخ عبد الرءوف اللبدي
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
العملية التربوية - أيها الإخوة - تقوم على أربع قواعد: على معلّم، وعلى متعلّم، وعلى مادة تعلّم، وعلى طريقة يعلم بها. وما من ضرر، أو ضعف، أو انحراف، يصيب إحدى هذه القواعد، إلاّ أضر بالعملية كلّها، فعاقها عن الأهداف المبتغاة، وقصّر بها عن الآمال المرتجاة.
ولكنّ بعض الشر أهون من بعض، فما يصيب المتعلم من ضعف أو عجز، وما يلحق بالمادة العلمية من اضطراب أو تخمة، وما ينوب الطريقة من فوضى أو جمود، كل أولئك قد يهون على الأيام، ويقوّمُ فيستقيم.
ولكن المعلم إذا ما أصابه الفساد وكان غير صالح، فهنالك الخطب الفادح، هنالك ندعو واثبوراه، ولا ندعو ثبوراً واحداً، ولكن ندعو ثبوراً كثيراً.
لقد قال الناس كثيراً من القول بياناً لفضل المعلم، ولقد قالوا كثيراً فيما له من أيادٍ لا تمنن على تقدم العلم ونهوض الأمم، ولقد شكروا له ما يبذله من جهد في رفع مستوى الحياة الكريمة، وتحقيق الأهداف العظيمة، وإن المعلم لجدير بما قيل فيه من ثناء، حريّ بما يلاقيه من تكريم، على أنه - وا أسفاه - لا يزال دون المنزلة التي يستحقها في مجتمعات كثير من أمم هذا العالم الكنود.
ولكن المعلمين في هذه الدنيا كثير، فأيهم الذي استحق هذا الثناء؟ وأيهم الذي استأهل ذلكم التكريم؟ هنا نجد جواباً واحداً لا يختلف: هو المعلم الصالح، ولكن - مرة ثانية - ومن يكون المعلم الصالح؟ وهنا تختلف الإجابات، باختلاف أهداف التربية والتعليم لدى الأمم والجماعات، فلكل أمة هدف تُعِدُ المعلم لتحقيقه، ولكل جماعة غاية تريد المعلم أن يقود إليها.(9/202)
ولنترك الناس يختلفون في أهدافهم ويختصمون، ولننظر نحن في هذا المعلم كيف يُنَشّأ، وماذا ينبغي له، لينتفع به الطلاب، ويصلح به المجتمع، ونجني على يديه الخير الكثير:
لا بد لهذا المعلم أن يمرّ بثلاث مراحل، على أنني أود أن أستدرك هنا فأقول: إن بعض المعلمين يخلقون معلمين بالفطرة، كما يخلق الشعراء وغيرهم من ذوي المواهب الفنية المطبوعة التي لا تخضع كثيراً لقواعد الصناعة، ولا تحتاج طويلاً إلى تخطيط دقيق.
أما هذه المراحل التي ينبغي أن يمر بها المعلم وأعني به هنا معلم المدرسة الابتدائية - وهو ما أريد أن أقصر عليه القول - وأرجو ألا أكون بذلك قد فجعت آمال كثير منكم، كانوا يتوقعون أن يشمل حديثي المعلم الصالح في جميع مراحل الدراسة، وإني لأعتذر إلى هؤلاء، فإن حديثاً واحداً لا يتسع للمعلمين الصالحين جميعاً، وليس من المنطق والحكمة أن نتحدث عن مدرس المرحلة المتوسطة والثانوية، قبل أن نتعرف مدرس المرحلة الابتدائية التي هي القاعدة والأساس فإذا صلُحت صلحت بقية المراحل، وإذا فسدت فهيهات هيهات …
وعلى كل حال فالصورة التي سأرسمها للمعلم الصالح في المدرسة الابتدائية تعطيكم كثيراً من الصفات التي ينبغي أن تكون راسخة في المعلم الصالح لأي مرحلة من مراحل الدراسة. والآن أعود فأقول: لا بد للمعلم الصالح في المدرسة الابتدائية، أن يمر بثلاث مراحل: مرحلة التعلّم، ثم مرحلة الإعداد للتعليم، ثم مرحلة التعليم واتخاذه مهنة.
أما المرحلة الأولى
وهي مرحلة التعلّم فينبغي على وجه الإجمال ألا تقل عن مستوى التعليم الثانوي.
والمعلمون اللذون زاولوا مهنة التعليم وهم دون ذلك فينبغي أن تتاح لهم الفرص ليدركوا ما فات، كأن تُعقد لهم دورات صيفية،أو دراساتٌ ليلة، أو سنواتٌ تكميلية، إلى أن يصلوا هذا المستوى المطلوب.(9/203)
ذلك لأن المرحلة الابتدائية على الرغم من أنها أدنى مراحل التعليم في نظرنا نحن الكبار – هي مرحلة صعبة كؤود في نظر الصبية الصغار ولن يستطيع أن يقوم بأعبائها، ويذلل صعابها، ويجعل التلاميذ قادرين على هضمها واساغتها، على نهج سليم واضح، يحقق أهداف التربية والتعليم، لا يستطيع أن يفعل ذلك، إلا معلمون على مستوى غير قليل من العلم والخلق الكريم والتدريب المحكم.
والمعلم الضعيف في مادته العلمية يُلحق أذى كبيراً بالتلاميذ، ويضيع عليهم فرصاً ذهبية في حياتهم الدراسية، قد تحتاج إلى زمن غير قصير كي تعوض، وربما لا تعوض أبداً.
والمعلم الضعيف إذا ما أضاع شخصيته العلمية لدى تلاميذه، لجأ إلى وسائل شتى كي يعوض ما أضاع، ولكن على حساب التلاميذ وحساب التربية والتعليم.
والتلاميذ الذين يحسون بضعف معلمهم يفقدون ثقتهم فيه، ولا يتلقّون قوله بالقبول ولو كان صواباً، ولا يجدون في أنفسهم الرغبة في سؤاله ومناقشته، وقد يتطور الأمر إلى كراهية الدرس والمدرس والمدرسة جميعاً.
وأنا أفضل أن يظل الطفل في بيت أهله سنة أو سنتين انتظاراً للمعلم الصالح على أن يذهب إلى المدرسة في سن مبكرة ليجد أمامه معلماً ليس بذي علم نافع ولا خلق كريم ولا طريقة ذات صلاح وجدوى. وقد يسيء هذا المعلم إلى تلميذه إساءة تقضي على مستقبل مضيء في حياته الدراسية.
المرحلة الثانية
وهي مرحلة الإعداد أو مرحلة الدراسة بمعاهد المعلمين.
هذه المرحلة امتدادٌ لمرحلة التعلم السابقة، لا تكاد تتميز عنها إلا في الشكل والتسمية.
غير أن مرحلة التعلّم السابقة مرحلة عامة واسعة الأبواب يدخلها كثير من الطلاب، ومرحلة الإعداد هذه ذات باب ضيق، ومصفاة دقيقة.(9/204)
ذلك أنه ينبغي ألاّ يباح دخول معاهد المعلمين، إلا لمن نجح وحصل على معدّل جيد، في امتحان شهادة الدراسة الثانوية، وهذا المعدل تقوم بتقديره لجنة مسئولة على ألاّ يقل معدّل الدرجات العم فيما أرى عن خمس وسبعين في المائة، أو على الأقل ألا يقل عن هذا المعدل في المواد التي سيتخصص في دراستها، وتدريسها في المستقبل.
وإن إغماض العيون عن هذا الشرط، وفتح أبواب معاهد المعلمين على مصاريعها لكل من نجح،دون اصطفاء واختيار، إن ذلك كان ولا يزال وسوف يظل من أعظم الأسباب في هبوط مستوى التعليم.
ليست المدرسة داراً لإزالة الأمية، وليس التلاميذ أوعية فارغة تملأ بالمعلومات، وإنما المدرسة مسجدٌ يهدي للتي هي أقوم، وأُمٌ تحنو وترضع العلم، وأبٌ يربي باللسان والقدوة الصالحة، وعيادةٌ نفسية تكشف الميول والغرائز وتشبعها بما طاب وأفاد ومصنعُ رجال يبني الشخصيات على أساس أن يعتمد التلميذ على نفسه بعد الاعتماد على الله وأن يشارك في عملية التعليم مشاركة إيجابية لا أن يقف منها موقف المستقبل المتكل على المعلم في كل شيء.
وقيادة التلاميذ على هذا المستوى، عملية شاقة، لا يستطيعها معلمون عاديون نتلقفهم كيفما اتفق، دون اختيار دقيق، وميزان مقسط.
ولما في عملية التعليم من تربية عظيمة ومقاصد سامية وتوجيهٍ هادف مستمد من الدين، كان لا بد أن نشترط في هذا الطلب الذي نعده للتعليم في المستقبل شرطاً أخلاقياً، هو في الحقيقة أعظم أهمية من الشرط العلمي السابق، ذلك أن الطالب المختار لمعاهد المعلمين، لابد أن يكون على حظٍ موفور من حميد الأخلاق وكريم السجايا على المستوى الجدير بالمسلم الحق.(9/205)
وينبغي أن يعتمد في ذلك على شهادة أمنية صادقة من مدير مدرسته الذي أشرف على تعليمه، ومن معلميه الذين درّسوه وقتاً غير قصير، فالطالب الذي كان يؤدي واجباته الدينية طاعة واحتساباً، ويقوم بواجباته الدراسيةِ رغبة وصواباً، ثم كان ذا مودة وإحسان مع معلميه وزملائه، لم يتمرد على نظام، ولو يتأخر عن دوام، مثل هذا الطالب أهل لأن يكون معلماً صالحاً في المستقبل.
ولعل أقرب الصفات الحميدة إلى مهنة التدريس، وأوثقها صلة بالمعلم، هي التواضعُ والتعاونُ، والصبُر على العمل.
ولعل أقبح الصفات وأشدّها جفاء لمهنة التدريس هي الغرور، والملل، واللامبالاة.
ولن تجد معلماً ناجحاً صالحاً إلا وجدته متواضعاً يخفض جناحه لزملائه وتلاميذه، حريصاً على أداء الواجب، صبوراً على العمل، لا يتلمّس المعاذير في التقاعس عنه، معواناً على الخير كلما سنحت فرصة للعون، سواء أكان ذلك لرؤسائه أم لزملائه أم لتلاميذه.
ولن ترى معلماً خائباً غير موفق في تعليمه، إلا رأيته مغروراً لا يتقبل نصحاً، أو ملولاً لا يطيق عملاً، أو لا مبالياً لا يبالي أحضّر درسه أم لم يُحضّره، أفَهِم تلاميذه ما يقول لهم أم لم يفهموا، أدخَلَ على طلابه مع بَدْءِ الحصة أم بعد رُبْع ساعة، أقام الطلاب بواجباتهم أم لم يقوموا، هو لا يهتم بشيء من ذلكم ولا يكترث له، ولا يعرف المسئولية كيف تكون ومتى تكون وأين تكون.
وهناك صفة بالغة القيمة، ينبغي أن يتحلّى بها الطالب الذي نعدّه للتعليم في المستقبل، وينبغي أن نوليها عنايةً عظيمةً في مجال الاختيار والإعداد تلك هي الرغبة الصادقة في التعليم، على أن تكون رغبةً خاصةً لوجه الله، ليست لما يتوهمه أناس في هذه المهنة من سهولة العمل، أو حلاوة العطل، أو الحصول على وظيفة بأقلّ كلفةٍ وأيسر طريق.(9/206)
فإذا وجدت الرغبة الصادقة الخالصة في التعليم، فسوف يجد صاحبها في هذه المهنة لذةً ومتعة، تنسيه المتاعب، وتذلل المصاعب، وتوقد في صدره العزيمة، فيدخل على تلاميذه ووجهه يطفح بالبشر، ويصدرُ عنهم وهو مطمئن الفؤاد.
أما الذي لا يرغب في التعليم، وكان قد أخطأ الظن والتقدير في هذه المهنة، فسوف تجده يراوغ فيها كما تراوغ الثعالب، ويذهب إلى غرف التدريس وهو يقتلع أقدامه من الأرض اقتلاعاً كأنما يساق إلى الموت.
فما جدوى هؤلاء وأمثالهم؟ ولم يشقى بهم التلاميذ، وتشقى بهم الأمة، ويحملون أوزارهم وأوزاراً مع أوزارهم يوم يقوم الحساب.
وإذا كنت قد اشترطت في الطالب الذي أُعِدّه للتعليم أن يكون ذا معدلٍ جيد في الدرجات، وصفاتٍ حميدةٍ تلتزمُ الدين ورغبةٍ صادقةٍ في التعليم إذا كنت قد اشترطت ذلك كلّه فلست بناس أمراً رابعاً ذا أهمية عظمى.
ذلك أن يكون ذا صحة جيدة، ولسانٍ مبرأ ٍمن العيوب فصيح، وإذا كان زعماء السياسة وقادة الجماهير وخطباء المنابر إذا كان هؤلاء جميعاً لا يعرفون لهم سلاحاً أمضى من فصاحة اللسان، وسحر البيان، فإن المعلم لأولى من هؤلاء جميعاً أن يكون طلق اللسان فصيح اللهجة واضح الحروف، ذا حنجرة قوية الأوتار مرنان.
والآن وقد عرضت ما ينبغي أن يكون عليه الطالب المختار للتعليم، أرى أن لا غناء له عن سنتين يقضيهما في دراسة علمية ودراسة مسلكية في التربية، وعلم النفس، وطرق التدريس، والتدريب العملي، قبل أن يخرج إلى المرحلة الثالثة مرحلة العمل ومزاولة المهنة.
وهذه الدراسة ليست دراسة جامعية ولا نصف جامعية، وليست دراسة للثقافة العامة، وليست قادرة على أن تؤهل كل معلم لأن يعلم كل مادة من مواد المرحلة الابتدائية.
لهذا كله كان لا بد أن تقوم الدراسة في معاهد المعلمين على شيء من التخصص: تخصصٍ لتدريس الدين، تخصصٍ لتدريس اللغة العربية، تخصص لتدريس الرياضيات والعلوم.. وهكذا..(9/207)
وينبغي أن يقوم بالتدريس في معاهد المعلمين هذه أساتذة ذوو اختصاص علمي وتجربة، وأن يكونوا على حظ عظيم من الثقافة الإسلامية، والأخلاق الكريمة والتمسك بالدين بحيث يكونون قدوة صالحة لطلابهم في السلوك والقول والعمل لأن طالب معاهد المعلمين إذا لم يجد في أساتذته الكبار قدوةً قيمةً صالحة، فمن الصعب أن يكون هذا الطالب في المستقبل قدوةً صالحةً لتلاميذه الصغار.
ولا بد أن تكون المواد الدراسية في معاهد المعلمين سواءٌ أكانت علميةً أم مسلكية لا بد أن تكون مقصورة على ما يحتاج إليه الطالب في تدريسه في المستقبل دون إسراف ولا إرهاق.
وعلى سبيل المثال يكون منهج اللغة العربية مقصوراً على دراسة القواعد والقراءة والنصوص والتعبير والإملاء والخط، وأن تكون مباحث القواعد هي المباحث المقررة في المرحلة الابتدائية ولكن على نطاق واسع وتطبيقات أدق، وأن تكون القراءة جهريةً في الكثير الغالب، لأنها هي التي يحتاج إليها المعلم، ويعوّل عليها في تدريسه، وأن تكون دراسة النصوص قائمة على التحليل والتذوق البعيدين عن الصناعة ومصطلحات البلاغة، مع حفظ كثير من هذه النصوص ليزداد الطالب تمكناً في اللغة، وقدرة على التعبير، وأن تكون دراسة الإملاء دقيقة شاملة كثيرة التطبيقات، كافية لأن تغسل العار الذي تسيل به دفاتر التحضير وأن يكون تدريس الإنشاء قائماً على كثرة الكتابة وحسن التوجيه.(9/208)
أما النقد والبلاغة وتاريخ الأدب ونحو ذلك فلا حاجة إلى دراستها في هذه المعاهد، لأن المعلم لن يحتاج إلى تدريسها في المرحلة الابتدائية، وأرى أن نسير على هذا النهج وهذا المستوى في سائر المواد العلمية والمسلكية، فما يحتاج إليه الطالب معلمُ المستقبل نقرره عليه، وندرّسُه له، وما لا يحتاج إليه فلا داعي أن نرهقه به، ونُضيع عليه فرصة التوسع والتعمق في موادّ أخرى مفيدة له، فالمناهج إنما توضع على أساس أن يتسع لها الوقت، وعلى أساس أن تهضم وتستوعب، وعلى أساس أن ينتفع بها الطالب في مهنة المستقبل ويصطحبها حين تخرجه.
وبتخرّج الطالب من معهد المعلمين تنتهي المرحلة الثانية وهي مرحلة الإعداد وتبدأ المرحلة الثالثة.
المرحلة الثالثة
وتبدأ المرحلة الثالثة بمزاولة المعلم عمله، وبتجريب ما تعلّمه، والذين يظنون أن مرحلة الإعداد قد انتهت بانتهاء الدراسة في معاهد المعلمين هم أناس يتعجلون، فدراسة الطالب في المعهد دراسة نظرية لم تخضع للتجربة الصادقة والتمحيص الدقيق، ودروس التطبيق التي قام بها في أثناء دراسته دروس قليلة غلب عليها طابع التصنع والتكلف، وأسابيع التدريب التي علّم فيها قبيل تخرجه قليلة لا تكسبه خبره، ولا تشعره بالمسؤولية.
أما حين يصبح معلماً رسمياً مسئولاً، يعلّم دروسه وهو يعلم أنه مسئول عما يعلّم وعمّن يعلم، وتلاميذه يعرفون منه ذلك، فهو يعيش حياة جديدة وتجارب جديدة، وتلاقيه الصعوبات والمفاجآت التي لم تخطر له على بال وحينئذٍ يلتفت يمنةً ويَسْرة، لعله يجد من ينصح ويرشد ويعين.
وهنا يجب على التوجيه التربوي أن يقوم بزيارات سريعة لهؤلاء المعلمين الجدد، وأن تستمر هذه الزيارات إلى أن يصبح التدريس عملية طبيعية لا تكلف فيها ولا تخوّف، وتصبح خطوات الدرس في دفاتر التحضير وفي غرف التدريس سليمة من الاضطراب ومن العثار.
وحينئذ نستطيع أن نقول إنه قد تم إعداده بصورة مبدئية.(9/209)
ولكن لا بد لهذا المعلم أن يواصل إعداد نفسه بنفسه، غير راض أن يقف في أول الطريق، ولا على أولى درجات السلم، وعليه أن يبذل ما يستطيع من مال وجهد ووقت في سبيل تعميق مادته العلمية، وتوسيع ثقافته العامة، وتجديد معلوماته المسلكية، وعليه أن يقوم بتجارب متعددة في التدريس إلى أن يصل إلى ما هو أنجح وأجدى، أما إذا قنع بما ناله أيام الدراسة، واستعبدته طريقة واحدة من طرق التدريس فسوف يصدأ على الأيام ويبلى ويعلوه التراب، ويكون قد أضاع نفسه، وأضاع تلاميذه، وأضاع الأمانات التي حملها.
هذا، وعلى الوزارة المختصة ولا سيما قسم التوجيه التربوي، ألاّ تترك المعلمين وشأنهم، بل عليها أن تدعوهم إلى دورات صيفية عامة، أو دورات شهرية محلية، لتعرض عليهم ما لدى المختصين فيها، من جديد مفيد في شؤون العلم والتعليم وفي طرق التدريس، والتربية، وعلم النفس، وعليها أيضاً أن تستمع إلى آراء المعلمين في المناهج المقررة، وفي الكتب المدرسية. فهم أدرى الناس، وأعلمهم بما فيها من طول أو ضعف، أو صعاب، أو ارتفاع عن المستوى أو عدم صلاحية، وعليها أن تأخذ بآرائهم إذا رأت فيها الصواب وصدق التجربة.
هذا ما أردت أن أقوله لكم أيها الإخوة الكرام في سبيل إعداد المعلم الصالح للمرحلة الابتدائية.
ولقد كان في إمكاني أن أرسم صورة أخرى أكثر بريقاً وأشد لمعاناً وأبعد مثالية ولعلها صورة كانت تداعب خيال فريق منكم كما داعبت خيالي.
ولكني أردت معلماً صالحاً قريباً من الواقع أستطيع العثور عليه في هذه الدنيا بسهوله ويُسر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته …
من أقوال الرسول الكريم صلى الله عله وسلم(9/210)
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إن الله يحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه. فيحبه أهل السماء. ثم يوضع له القبول في أهل الأرض".
رواه البخاري(9/211)
لَعَمري
بقلم: فضيلة الشيخ حماد محمد الأنصاري
المدرس بالجامعة الإسلامية
الحمد لله رب العلمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
فلقد جرى بيني وبين بعض الإخوان بحث مهم حول زعم النحويين إن كلمة "لعمري"نص في اليمين كما قال ابن مالك في ألفيته:
وفي نص يمين "ذا استقر"
وبعد لولا غالباً حذف الخبر حتم
وأثارت هذه الدعوى بيننا استشكالاً عميقاً لأنها لا تتلاءم مع نهي الشارع عن الحلف بغير الله على القول بأنها يمين شرعاً، لما ثبت في حديث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه عند الشيخين.
قال البخاري حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يسير في ركب يحلف بأبيه، فقال: "ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت" وعند ابن أبي شيبة في مصنفه من طريق عكرمة قال: قال عمر: "حدثت قوماً حديثاً فقلت لا وأبي. فقال رجل من خلفي: لا تحلفوا بآبائكم فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو أن أحدكم حلف بالمسيح هلك والمسيح خير من آبائكم". قال الحافظ وهذا مرسل يتقوى بشواهده. وعند الترمذي من وجه آخر عن ابن عمر: "أنه سمع رجلاً يقول: لا والكعبة فقال: لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك". قال الترمذي حسن وصححه الحاكم. وقال النووي: "قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لأن أحلف بالله مائة مرة فآثم خير من أن أحلف بغيره فأبر".(9/212)
وروى عبد الرزاق عن الثوري عن أبي سلمة عن وبرة قال: "قال عبد الله لا أدري ابن مسعود أو ابن عمر: "لأن أحلف بالله كاذباً أحب إليّ من أن أحلف بغيره صادقاً". اهـ ج8 ص469. من المنصف91.
قال الهيثمي: "ورواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح". ج4 ص177.
وقال العلماء: السر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده وقال ابن عبد البر أجمع العلماء على أن اليمين بغير الله مكروهة منهي عنها لا يجوز لأحد الحلف بها وجزم غيره بالتفصيل فقال فإن اعتقد في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده في الله حرم الحلف به وكان بذلك كافراً وعلى هذا يتنزل حديث الترمذي المذكور.
وأما إذا حلف بغير الله لاعتقاده تعظيم المحلوف به على ما يليق به من التعظيم فلا يكفر بذلك ولا تنعقد يمينه. قال الماوردي لا يجوز لأحد أن يحلف أحدا بغير الله لا بطلاق ولا عتاق ولا نذر وإذا حلف الحاكم أحداً بشيء من ذلك وجب عزله لجهله - انتهى.
وهذا هو سبب الاستشكال المذكور آنفاً حول كلمة "لعمري" وفي ضمن البحث قلت إن لفظ "لعمري"ليس يميناً شرعياً بل هو يمين لغوية لخلوه من حروف القسم المعروفة المحصورة في الواو والباء والتاء ولعدم الكفارة على من أقسم بها. هذا مع ثبوت الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم نطق بها وصح عن بعض أصحابه رضي الله عنهم التفوه بها منهم ابن عباس وعثمان ابن أبي العاص وعائشة أم المؤمنين وأسماء بنت أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة ابن الجراح وغيرهم رضي الله عنهم وكذلك صح عن التابعين لهم بإحسان استعمالها منهم عطاء وقتادة وغيرهما كما سيأتي في محله إن شاء الله تعالى. ولم يثبت عن أحد حسب الاستقراء مخالفتهم إلا ما حكي عن الحسن البصري وإبراهيم النخعي.(9/213)
قال عبد الرزاق اخبرنا معمر عن مغيرة عن إبراهيم أنه كان يكره "لعمرك"ولا يرى بـ"لعمري بأسا"قال معمر وكان الحسن يقول لا بأس بـ"وأيم الله"، ويقول قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وأيم الذي نفسي بيده". انتهى ج8 ص469- 471. وهما محجوجان بالنصوص الواردة في جواز التكلم بها إن لم نحمل قولهما على عدم بلوغ النصوص إليهما وهذا هو الأظهر المظنون بمثلهما أو على أنهما منعا ذلك سداً للذريعة. وأما قياس إبراهيم النخعي هذه الكلمة "لعمري"على قول الإنسان "وحياتي" فقياس مع فارق وهو باطل كما هو معروف في فن الأصول لأن الأخيرة معها واحد من حروف القسم التي أجمع على أنها صريحة في اليمين بخلاف تلك أي "لعمري" فإن اللام فيه ليست من أدوات القسم لما تقدم. بل مثل هذه اللفظة تعتبر جرياً على رسم اللغة تذكر لتأكيد مضمون الكلام وترويجه فقط لأنه أقوى من سائر المؤكدات وأسلم من التأكيد بالقسم بالله لوجوب البر به وليس الغرض فيه اليمين الشرعي فصورة القسم على هذا الوجه المذكور لا بأس به ولهذا شاع بين المسلمين استعمالها. وقد قال النووي في شرحه على حديث مسلم والدارمي وأبي داود أعني حديث إسماعيل بن جعفر قال مسلم النيسابوري القشيري في صحيحه حدثني يحيى بن جعفر قال مسلم النييسابوري القشيري في صحيحه حدثني يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد جميعاً عن إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل عن أبيه واسم أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي ونافع هذا عم مالك بن أنس الإمام وهو تابعي سمى أنس بن مالك عن طلحة بن عبيد الله: أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات في اليوم والليلة. فقال: هل عليّ غيرهن؟ قال: لا إلا أن تطوع، وصيام شهر رمضان. فقال: هل عليّ غيره؟ قال: لا إلا أن(9/214)
تطوع. وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع. فأدبر الرجل وهو يقول: لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح وأبيه أو دخل الجنة وأبيه إن صدق" وقال الحافظ محيى الدين النووي في شرحه: "هذا مما جرت عادتهم أن يسألوا عن الجواب عنه مع قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم"وجوابه أن قوله صلى الله عليه وسلم: "أفلح وأبيه" ليس حلفاً إنما هو كلمة جرت عادة العرب أن تدخلها في كلامها غير قاصدة بها حقيقة الحلف والنهي إنما ورد فيمن قصد حقيقة الحلف لما فيه من إعظام المحلوف به ومضاهاته به ومضاهاته به الله سبحانه وتعالى فهذا هو الجواب المرضي وقيل يحتمل أن يكون هذا قبل النهي عن الحلف بغير الله تعالى والله أعلم".
وقد نقل الحافظ ابن حجر كلام النووي هذا وزاد: "ولأبي داود مثل رواية مسلم لكن بحذف (أو) في قوله: "أفلح وأبيه إن صدق ودخل الجنة وأبيه إن صدق". ثم قال: "إن هذه كلمة جارية على اللسان لا يقصد بها الحلف كما جرت على لسانهم (عقري وحلقي) وما أشبه ذلك أو فيه إضمار اسم الرب. وكأنه قال ورب أبيه وقيل هو خاص به صلى الله عليه وسلم ويحتاج هذا القول إلى دليل وحكى السهيلي عن بعض مشايخه أنه قال هو تصحيف، وإنما كان والله فقصرت اللامان واستنكر القرطبي هذا وقال أنه يجزم الثقة بالرواية الصحيحة وغفل القرافي فادعى أن الرواية بلفظ "وأبيه" لم تصح لأنها ليست في الموطأ وكأنه لم يرتض الجواب فعدل إلى رد الخبر وهو صحيح لا مرية فيه".(9/215)
قال البيهقي: "وأما الذي روينا في كتاب الصلاة عن طلحة بن عبيد الله في قصة الأعرابي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفلح وأبيه إن صدق". فيحتمل أن يكون هذا القول منه صلى الله عليه وسلم قبل النهي ويحتمل أن يكون جرى ذلك منه على عادة الكلام الجاري على الألسن وهو لا يقصد به القسم كلغو اليمين المعفو عنه. ويحتمل أن يكون النهي إنما وقع عنه إذا كان منه على وجه التوقير والتعظيم لحقه دون ما كان بخلافه ولم يكن ذلك منه على وجه التعظيم بل كان على وجه التوكيد.
ويحتمل أنه كان صلى الله عليه وسلم أضمر فيه اسم الله تعالى كأنه قال لا ورب أبيه وغيره لا يضمر بل يذهب فيه مذهب التعظيم لأبيه". قال السهيلي في روض الأنف ج6 ص548 غزوة خيبر حول شرح "فاغفر فداء لك ما أبقينا" بعنوان "استعمال الكلمة في غير موضعها"قال في ذلك: "فرب كلمة ترك أصلها واستعملت كالمثل في غير ما وضعت له أولا كما جاءوا بلفظ القسم في غير موضع القسم إذا أرادوا تعجباً واستعظاماً لأمر كقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الأعرابي من رواية إسماعيل بن جعفر: "أفلح وأبيه إن صدق" ومحال أن يقصد صلى الله عليه وسلم القسم بغير الله تبارك وتعالى لا سيما برجل مات عليه الكفر وإنما هو تعجب من قول الأعرابي والمتعجب منه مستعظم ولفظ القسم في أصل وضعه لما يعظم فاتسع في اللفظ على هذا الوجه قال الشاعر:
فلا وأبي أعدائها لا أخونها
فإن تك ليلى استودعتني أمانة(9/216)
لم يرد أن يقسم بأبي أعدائها ولكنه ضرب من التعجب وقد ذهب أكثر شراح الحديث إلى النسخ في قوله: "أفلح وأبيه" قالوا نسخه قوله: "لا تحلفوا بآبائكم" وهذا قول لا يصح لأنه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحلف قبل النسخ بغير الله ويقسم بقوم كفار وما أبعد هذا من شيمته صلى الله عليه وسلم تالله ما فعل هذا قط ولا كان له بخلق، وقال قوم رواية إسماعيل بن جعفر مصفحة وإنما هو "أفلح والله إن صدق"وهذا أيضاً منكر من القول واعتراض على الاثبات العدول فيما حفظوا. وقد خرج مسلم في كتاب الزكاة قوله عليه الصلاة والسلام لرجل سأله أي الصدقة أفضل فقال: "وأبيك لأنبئنك أو قال لأخبرنك "وذكر الحديث. وخرج في كتاب البر والصلة قوله لرجل سأله: "من أحق الناس بأن أبره؟ أو قال: "أصله فقال وأبيك لأنبئك صل أمك" الحديث.
فقال: "في هذه الأحاديث كما ترى "وأبيك" فلم يأت إسماعيل بن جعفر إذا في روايته بشيء إمر ولا بقول بدع. وقد حمل عليه في روايته رجل من علماء بلادنا وعظماء محدثيها يعني الحافظ بن عبد البر وغفل عفا الله عنه عن الحديثين اللذين تقدم ذكرهما وقد خرجهما مسلم بن الحجاج وفي تراجم أبي داود في كتاب الإيمان في مصنفه ما يدل على أنه كان يذهب إلى قول من قال بالنسخ وأن القسم بالآباء كان جائزاً. والذي ذكرناه ليس في باب الحلف بالآباء كما قدمنا ولا قال في الحديث وأبي، وإنما قال وأبيه أو وأبيك بالإضافة إلى ضمير المخاطب أو الغائب وبهذا الشرط يخرج عن معنى الحلف إلى معنى التعجب الذي ذكرناه هكذا في الروض الآنف ج6 ص548 في غزوة خيبر الطبعة الأخيرة.
وقال الحافظ: "وأقوى الأجوبة الأولان وهما أن هذا كان قبل النهي أو أنها كلمة جارية على اللسان كما تقدم في كلام النووي. وكونه منسوخاً أصح لحديث عمر وابنه".
فصل في ذكر بعض ما ورد في هذه الكلمة مرفوعاً وموقوفاً ومقطوعاً.(9/217)
فهاك أيها القارئ الطالب للحق بعض ما ورد في هذه الكلمة مرفوعاً اسرده لك بعدما مهدت به على هذه المسألة ولقد فتشت وسألت عمن ألف في خصوصيتها فلم أجد من قرع بابها قبل قلمي هذا.
فأقول وبالله التوفيق (الأحاديث المرفوعة) في المسألة قولاً وتقريراً من الشارع صلى الله عليه وسلم قال أبو داود سليمان بن الأشعث في سننه حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي ثنا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي عن خارجة بن الصلت عن عمه بن صحار التميمي أنه مر بقوم فأتوه فقالوا إنك جئت من عند هذا الرجل بخير فارق لنا هذا الرجل فأتوه برجل معتوه في القيود فرقاه بأم القرآن ثلاثة أيام غدوة وعشية وكلما ختمها جمع بزاقه ثم تفل فكأنما أنشط من عقال فأعطوه شيئاً فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل فلعمري لمن أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق" وقال أبو داود أيضا في سننه حدثنا عبد الله بن مسلمة عبد مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد أنه قال: "نزلت وأنا وأهلي ببقيع الغرقد فقال لي أهلي اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسله لنا شيئاً نأكله فجعلوا يذكرون من حاجتهم فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت عنده رجلاً يسأله ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا أجد ما أعطيك"فتولى الرجل وهو مغضب وهو يقول: "لعمري إنك لتعطي من شئت"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يغضب عليّ أن لا أجد ما أعطيه. من سأل منكم وله أوقية أو عد لها فقد سأل إلحافا". قال الأسدي فقلت للقحة لنا خير من أوقية والأوقية أربعون درهماً قال فرجعت ولم أسأله فقدم علي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك شعير أو زبيب فقسم لنا منه أو كما قال حتى أغنانا الله عز وجل"، قال أبو داود هكذا روى الثوري كما قال مالك. انتهى.
"فصل"في الآثار عن الصحابة(9/218)
وقد تقدم أن سبعة من الصحابة نطقوا بهذه الكلمة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي روى حديث النهي عن الحلف بغير الله فقد ثبت عنه في كتابه إلى أبي عبيدة بن الجراح أنه قال:
"أما بعد فقد قدم عليّ أخو ثمالة بكتابك يخبرني فيه بنفر الروم إلى المسلمين براً وبحراً وبما جاشوا عليكم من أساقفتهم وقسيسهم ورهبانهم وإن ربنا المحمود عندنا والصانع لنا والعظيم ذا المن والنعمة الدائمة علينا قد رأى مكان هؤلاء الأساقفة والرهبان حيث بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق وأعزه بالنصرة ونصره بالرعب على عدوه وقال وهو لا يخلف الميعاد {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} فلا تهولنك كثرة ما جاءك منهم فإن الله منهم بريء من برئ الله منه كان قمنا أن لا تنفعه كثرة وإن يكله الله إلى نفسه ويخذله ولا توحشنك قلة المسلمين في المشركين فإن الله معك وليس قليلاً من كان الله معه فأقم بمكانك الذي أنت فيه حتى تلقى عدوك وتناجزهم وتستظهر بالله عليهم وكفى به ظهيراً وولياً ونصيراً. وقد فهمت مقالتك احتسب أنفس المسلمين إن هم أقاموا ودينهم إن هم تفرقوا فقد جاءهم ما لا قبل لهم به إلا أن يمدهم الله بملائكته ويأتيهم بغياث من قبله.(9/219)
وأيم الله لولا استثناؤك بهذا لقد كنت أسأت ولعمري إن أقام لهم المسلمون وصبروا فأصيبوا لما عند الله خير الأبرار ولقد قال الله عز وجل {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} فطوبى للشهداء وإن لمن عقل عن الله ممن معك من المسلمين لأسوة بالمصرعين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطنه فما عجز الذين قاتلوا في سبيل الله ولا هابوا الموت في جنب الله ولا وهن الذين بقوا من بعده ولا استكانوا لمصيبتهم ولكنهم تأسوا بها وجاهدوا في الله من خالفهم منهم وفارق دوينهم ولقد أثنى الله على قوم بصبرهم فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ، وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فأما ثواب الدنيا فالغنيمة والفتح وأما ثواب الآخرة فالمغفرة والجنة واقرأ كتابي هذا على الناس ومرهم فليقاتلوا في سبيل الله وليصيروا كيما يؤتيهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة. فأما قولك أنهم قد جاءهم ما لا قبل لهم به فإن لا يكن لكم بهم قبل فإن لله بهم قبلا ولم يزل ربنا عليهم مقتدرا ولو كنا والله إنما نقاتل الناس بحولنا وقوتنا وكثرتنا لهيهات ما قد أبادونا وأهلكونا ولكن نتوكل على الله ربنا ونبرأ إليه من الحول والقوة ونسأله النصرة والرحمة وإنكم منصورون إن شاء الله على كل حال فأخلصوا لله نيتكم وارفعوا إليه رغبتكم واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم فتفلحون".(9/220)
قال أحمد زكي صفوت في جمهرة رسائل العرب في العصور العربية الزاهرة ذكرها صاحب فتوح الشام ص 162.
قلت: قال أبو عبد الله الواقدي مؤلف فتوج الشام والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة ما اعتمدت في أخبار هذه الفتوح إلا الصدق وما نقلت أحاديثها إلا عن الثقات.
قال الخطيب البغدادي في كتابه الموضح: "أخبرنا السكري أخبرنا جعفر الواسطي أخبرنا ابن المتوكل أخبرنا المدائني قال: قال عبد الله بن فائد وغسان ابن عبد الحميد عن جعفر بن عبد الله بن مسور بن مخرمة عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال لمتمم بن نويرة أنشدني مرثيتك أخاك مالكاً فأنشده:
ولا جزعاً مني وإن كنت موجعا
لعمري وما عمري بتابين هالك
قال الإمام أحمد حدثنا يزيد أخبرنا محمد بن عمرو عن أبيه عن جده علقمة بن وقاص قال أخبرتني عائشة رضي الله عنها قالت خرجت يوم الخندق أقفو الناس فسمعت وئيد الأرض ورائي فإذا أنا بسعد بن معاذ رضي الله عنه ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجنة قالت فجلست إلى الأرض فمر سعد رضي الله عنه وعليه درع من حديد قد خرجت منه أطرافه فأنا أتخوّف على أطراف سعد قالت وكان سعد رضي الله عنه من أعظم الناس وأطولهم فمر وهو يرتجز ويقول:
ما أحسن الموت إذا حان الأجل
ليث قليلاً يشهد الهيجا حمل
قالت فقمت فاقتحمت حديقة فإذا فيها نفر من المسلمين وإذا فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفيهم رجل عليه تسبغة له تعني المغفر فقال عمر رضي الله عنه ما جاء بك"لعمري"والله إنك لجريئة وما يؤمنك أن يكون بلاء أو يكون تخور قالت فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت في ساعتئذ فدخلت فيها فرفع الرجل التسبغة عن وجهه فإذا هو طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه فقال يا عمر ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم وأين التخور أو الفرار إلا إلى الله" الحديث ذكره ابن كثير بطوله جـ3 ص479.(9/221)
ومنهم ابن عمر رضي الله عنهما فقد جاء عن جويرية بنت أسماء عن نافع بن شيبة قال: "لقي الحسين معاوية بمكة عند الردم فأخذ بخطام راحلته فأناخ به ثم ساره طويلاً وانصرف فزجر معاوية الراحلة فقال له ابنه يزيد لا يزال الرجل قد عرض لك فأناخ بك"قال: "دعه لعله يطلبها من غيري فلا يسوغه فيقتله"في كلام طويل إلى أن قال: "وقال ابن عمر للحسين: "لا تخرج فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة وإنك بضعة منه ولا تنالها ثم اعتنقه وبكى وودعه فكان ابن عمر يقول غلبنا بخروجه ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة ورأى من الفتنة وخذلان الناس لهم ما كان ينبغي له أن يتحرك". انتهى من سير النبلاء جـ3ص199.
ومنهم ابن عباس قال الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري من بني قشير قبيلة من العرب معروفة النيسابوري في باب النساء الغازيات جـ12 ص190: "حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب حدثنا سليمان يعني ابن بلال عن جعفر بن محمد عن أبيه عن يزيد بن هرمز أن نجدة كتب إلى ابن عباس رضي الله عنهما يسأله عن خمس خلال فقال ابن عباس لولا أن أكتم علماً ما كاتبت إليه كتب إليه نجدة [1] أما بعد فأخبرني هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء وهل كان يضرب لهم بسهم وهل كان يقتل الصبيان ومتى يتقضى يتم اليتيم وعن الخمس لمن هو؟(9/222)
فكتب إليه ابن عباس رضي الله عنهما كتبت تسألني هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء وقد كان يغزو بهن فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة وأما بسهم فلم يضرب لهن وان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل الصبيان فلا تقتل الصبيان، وكتبت تسألني متى ينقضي يتم اليتيم"فلعمري" إن الرجل لتنبت لحيته وإنه لضعيف الأخذ لنفسه ضعيف العطاء منها فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس فقد ذهب عنه اليتم وكتبت تسألني عن الخمس لمن هو، وإنا كنا نقول هو لنا فأبى علينا قومنا ذلك"وأخرج مسلم عن عروة ابن الزبير أن عبد الله بن الزبير قام بمكة فقال ان ناساً أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة يعرض برجل فناداه أنك لجلف جاف"فلعمري"لقد كانت المتعة تفعل في عهد إمام المتقين، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ابن الزبير فجرب بنفسك فوالله لأن فعلتها لأرجمنك بأحجارك والمراد بالرجل ابن عباس انتهى من مسلم في باب نكاح المتعة جـ1 ص452.
وأما عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقد نطقت بـ"لعمري".
قال محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه في باب قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت له وهو يسألها عن قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} قال قلت: "أكذبوا أم كذّبوا"قالت عائشة: "كذّبوا"قلت: "فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن"قالت: "أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك"فقلت لها: "وظنوا أنهم قد كذبوا"قالت: "معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك بربها"قلت: "فما هذه الآية؟ "قالت: "هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم فطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأسوا ممن كذبوهم من قومهم فظنت الرسل أن أتباعهم كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك".(9/223)
وأخرج الحاكم في مستدركه بسنده إلى عبد الله بن وهب أخبرني عمرو ابن الحارث أن بكيراً حدثه أن أمه حدثته: أنها أرسلت إلى عائشة رضي الله عنها بأخيه مخرمة وكانت تداوي من قرحة تكون بالصبيان فلما داوته عائشة وفرغت منه رأت في رجليه خلخالين جديدين فقالت عائشة أظننتم أن هذين الخلخالين يدفعان عنه شيئاً كتبه الله عليه لو رأيتهما ما تداوى عندي وما مرّ عندي لعمري للخلخالين من فضة أطهر من هذين قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الذهبي في التلخيص سمعه ابن وهب منه.
وأما عثمان بن أبي العاص فقد أخرج إسحاق بن راهويه في مصنفه عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: "كانت يمين عثمان بن أبي العاص لعمري" [2] وقال الحافظ بن حجر في الإصابة في أسماء الصحابة: "ذكر المرزباني في معجم الشعراء أن عثمان بن بشر بن دهمان كان قد شد في الجاهلية على عمرو بن معد يكرب فهرب عمرو فقال عثمان:
حواسر يخمشن الوجوه على عمرو
لعمرك لولا الليل قامت مآتم
وأما أبو عبيدة بن الجراح: فإنه ثبت أنه تكلم بها في كتابه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ولفظه: بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله عمر أمير المؤمنين من أبي عبيدة بن الجراح.
سلام عليكم فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو أما بعد:(9/224)
فإن الروم قد أقبلت فنزلت فحل طائفة منهم مع أهلها وقد سارع إليهم أهل البلد ومن كان على دينهم من العرب وقد أرسلوا إلي أن أخرج من بلادنا التي تنبت الحنطة والشعير والفواكه والأعناب وأنكم لستم لها بأهل والحقوا ببلادكم بلاد الشقاء والبؤس فإن أنتم لم تفعلوا سرنا إليكم بما لا قبل لكم به ثم أعطينا لله عهداً أن لا ننصرف عنكم ومنكم عين تطرف فأرسلت إليهم: أما قولكم أخرجوا من بلادنا فلستم بأهله فلعمري ما كنا لنخرج منها وقد دخلناها وورّثناها الله منكم ونزعناها من أيديكم وإنما البلاد بلاد الله والعباد عباده وهو ملك الملوك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء وأما ما ذكرتم من بلادنا وزعمتم أنها بلاد البؤس والشقاء فقد صدقتم قد أبدلنا الله بها بلادكم بلاد العيش الرفيغ أي الواسع والسعر الرخيص والفواكه الكثيرة فلا تحسبونا بتاركيها ولا منصرفين عنها ولكن أقيموا لنا فوالله لا نجشمكم إتياننا ولتأتينكم إن أقمتم لنا فكتبت إليك حين نهضت إليهم متوكلاً على الله راضياً بقضاء الله واثقاً بنصر الله كفانا الله وإياكم والمؤمنين مكيدة كل كائد وحسد كل حاسد ونصر الله أهل دينه نصراً عزيزاً وفتح لهم فتحاً يسيراً وجعل لهم من لدنه سلطاناً نصيراً. انتهى. من جمهرة رسائل العرب وقد عزاها صاحبها إلى فتوح الشام ص109.
وروى البزار بسند فيه معلى بن عبد الرحمن الواسطي وهو ضعيف جداً وقال ابن عدي أرجو أنه لا بأس به عن جابر قال دخل علي بن أبي طالب على فاطمة رضي الله عنها يوم أحد فقال-
فلست برعديد ولا بلئيم أفاطمة هاك السيف غير ذميم
ومرضاة رب بالعباد عليم
"لعمري"لقد أبليت في نصر أحمد(9/225)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت أحسنت القتال فقد أحسنه سهل بن حنيف وابن الصمة وذكر آخر فنسيه علي فقال جبريل صلى الله عليه وسلم يا محمد هذا وأبيك المواساة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا جبريل إنه مني فقال جبريل وأنا منكما انتهى من مجمع الزوائد جـ6 ص 122.
وأما أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما فقد ذكر الحافظ الذهبي في سير النبلاء انها فاهت بهذه الكلمة بما لفظه سفيان بن عيينة عن إسماعيل عن الشعبي قال قدمت أسماء من الحبشة فقال لها عمر يا حبشية سبقناكم بالهجرة فقالت "لعمري"لقد صدقت كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم ويعلم جاهلكم وكنا البعداء الطرداء أما والله لأذكرنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته فقال للناس هجرة واحدة ولكم هجرتان.
وكذلك الصحابي الذي جاءه الأسدي يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أقره صلى الله عليه وسلم على النطق بها لما تولى وهو مغضب حين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أجد ما أعطيك فقال "لعمري" إنك لتعطي من شئت الحديث تقدم عند أبي داود في باب الأحاديث المرفوعة ومنهم أبو هريرة.
(قال عبد الرزاق) باب الحلف بغير الله وأيم الله "ولعمري"
قال الراوي أخبرها عبد الرزاق قال أخبرها ابن جريج قال سمعت عطاء يقول كان خالد بن العاص وشيبة بن عثمان يقولان إذا أقسما "وأبي" فنهاهما أبو هريرة عن ذلك أن يحلفا بآبائهما قال فغير شيبة فقال"لعمري"وذلك أن إنساناً سأل عطاء عن "لعمري"وعن"لا"ها الله إذا أبهما بأس فقال لا ثم حدث هذا الحديث عن أبي هريرة وأقول ما لم يكن حلف بغير الله فلا بأس فليس"لعمري"بقسم. انتهى منه جـ8 ص469 إلى 471.(9/226)
ورور عبد الرزاق أيضاً عن الثوري عن إبراهيم بن مسلم عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هذا الصلوات المكتوبة حيث ينادى بهن فإنهن من سنن الهدى وإن الله قد شرع لنبيكم سنن الهدى"ولعمري"ما أخال أحدكم إلا وقد اتخذ مسجداً في بيته ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم ولو تركتم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم لضللتم ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم نفاقه أو معروف نفاقه ولقد رأيت الرجل يهادي بين الرجلين حتى يقام في الصف فما من رجل يتطهر فيحسن الطهور فيخطو خطوة يعمد بها إلى مسجد لله تعالى إلا كتب الله له بها حسنة ورفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة حتى إن كنا لنقارب في الخطا جـ -1 ص 516 [3] .
الأحاديث المقطوعة في المسألة.
وقد ذكرنا في أول التمهيد أن كلمة "لعمري" تكلم بها التابعون منهم عمر بن عبد العزيز فقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة وكان عاملاً على البصرة: أما بعد فقد جاءني كتابك تذكر أن قبلك عمالاً قد ظهرت خيانتهم وتسألني أن آذن لك في عذابهم كأنك ترى أن لك جنة من دون الله فإذا جاءك كتابي هذا فإن قامت عليهم بينة فخذهم بذلك وإلا فاحلفهم دبر صلاة العصر بالله الذي لا إله إلا هو ما اختانوا من مال المسلمين شيئاً فإن حلفوا فخل سبيلهم فإنما هو مال المسلمين وليس للشحيح منهم إلا جهد إيمانهم "ولعمري" لأن يلقوا الله بخياناتهم أحبّ إليّ من أن ألقى الله بدمائهم والسلام - انتهى سيرة عمر بن عبد العزيز للإمام مالك ص55.
وذكر ابن كثير أنه لما احتضر عمر بن عبد العزيز سمع غسالاً يغسل الثياب فقال ما هذا فقالوا غسالاً فقال يا ليتني كنت غسالاً أكسب ما أعيش به يوماً بيوم ولم آل الخلافة ثم تمثل فقال:
ودانت في الدنيا بوقع البواتر
لعمري لقد عمرت في الملك برهة(9/227)
ولي سلّمت كل الملوك الجبابر
وأعطيت حمر المال والحكم والنهي
كحلم مضى في المزمنات الغوابر
وأضحى الذي قد كان مما برني
ولم أسع في لذات عيش نواضر
فيا ليتني لم أعن بالملك ليلة
وقد أنشد هذه الأبيات أيضاً معاوية بن أبي سفيان عند موته وقال عمر بن عبد العزيز لزوجته فاطمة بنت عبد الملك قد علمت حال هذا الجوهر كلها وما صنع فيه أبوك ومن أين أصابه فهل لك أن أجعله في تابوت ثم أطبع عليه وأجعله في أقصى بيت مال المسلمين وأنفق ما دونه فإن خلصت إليه أنفقته وإن مت قبل ذلك "فلعمري"ليردنه إليك قالت له افعل ما شئت ففعل ذلك فمات رحمه الله تعالى ولم يصل إليه فرد ذلك عليها أخوها يريد بن عبد الملك فامتنعت من أخذه وقالت ما كنت لأتركه ثم آخذه فقسمه يزيد بين نسائه ونساء بنيه. انتهى من سيرة عمر بن عبد العزيز برواية مالك بن أنس تأليف أبي محمد عبد الله بن عبد الحكم ص53.
وقال أيضاً كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وكان والي المدينة أما بعد فقد قرأت كتابك إلى سليمان تذكر فيه أنه كان يقطع لمن كان قبلك من أمراء المدينة من الشمع كذا وكذا يستضيئون به في مخرجهم فابتليت بجوابك فيه "ولعمري"لقد عهدتك يا ابن أم حزم وأنت تخرج من بيتك في الليلة الشاتية المظلمة بغير مصباح "ولعمري "لأنت يومتئذ خير منك اليوم ولقد كان في فتائل أهلك ما يغنيك والسلام- انتهى منه ص55.(9/228)
وقال أيضاً دخل عمر بن عبد العزيز على الوليد بن عبد الملك فقال يا أمير المؤمنين إن عندي نصيحة فإذا خلا لك عقلك واجتمع فهمك فسلني عنها قال ما يمنعك منها الآن قال أنت أعلم إذا اجتمع لك ما أقول فإنك أحق أن تفهم، فمكث أياماً ثم قال يا غلام من بالباب فقيل له ناس وفيهم عمر بن عبد العزيز فقال أدخله فدخل عليه فقال نصيحتك يا أبا حفص فقال عمر إنه ليس بعد الشرك إثم أعظم عند الله من الدم وإن عمالك يقتلون ويكتبون أن ذنب فلان المقتول كذا وكذا وأنت المسؤول عنه ومأخوذ به فاكتب إليهم أن لا يقتل أحد منهم أحدا حتى يكتب إليك بذنبه ثم يشهد عليه ثم تأمر بأمرك على أمر قد وضح لك قال بارك الله فيك يا أبا حفص ومنع فقدك عليّ بكتاب فكتب إلى أمراء الأمصار كلهم فلم يخرج من ذلك إلا الحجاج فإنه أمضه وشق عليه وأقلقه وظن أنه لم يكتب إلى أحد غيره، فبحث عن ذلك فقال من أين دهينا أو من أشار على أمير المؤمنين بهذا فأخبر أن عمر بن عبد العزيز هو الذي فعل ذلك فقال هيهات إن كان عمر فلا نقض لأمره ثم أن الحجاج أرسل إلى أعرابي حروري جاف من بكر بن وائل ثم قال له الحجاج ما تقول في معاوية فنال منه قال له ما تقول في يزيد فسبه قال فما تقول في عبد الملك فظلّمه قال فما تقول في الوليد فقال اجورهم حين ولاك وهو يعلم عداءك وظلمك قال فسكت عنه الحجاج واقترضها منه ثم بعث به إلى الوليد وكتب إليه أنا أحوط لديني وأرعى لما استرعيتني وأحفظ له من أن أقتل أحداً لم يستوجب ذلك وقد بعثت إليك ببعض من كنت أقتل على هذا الرأي فشأنك وإياه فدخل الحروري على الوليد وعنده أشراف أهل الشام وعمر فيهم فقال له الوليد ما تقول فيّ قال ظالم جائر جبار قال ما تقول في عبد الملك قال جبار عات قال فما تقول في معاوية قال ظالم قال الوليد لابن الريان اضرب عنقه فضرب عنقه ثم قام فدخل منزله وخرج الناس من عنده فقال يا غلام اردد عليّ عمر فرده عليه فقال يا أبا حفص ما تقول(9/229)
في هذا أصبنا فيه أم أخطأنا فقال عمر ما أصبت بقتله ولغير ذلك أرشد وأصوب كنت تسجنه حتى يراجع الله عز وجل أو تدركه منيته فقال الوليد شتمني وشتم عبد الملك وهو حروري أفتستحل ذلك قال "لعمري" ما أستحله لو كنت سجنته إن بدا لك أو تعفو عنه فقام الوليد مغضباً فقال ابن الريان لعمر يغفر الله لك يا أبا حفص لقد راددت أمير المؤمنين حتى ظننت أن يأمرني بضرب عنقك فقال عمر ولو أمرك كنت تفعل قال أي"لعمري"قال عمر أذهب إليك - انتهى ص115.
ومنهم قتادة، قال ابن جرير في تفسيره الجليل حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} قال فما بال أقوام يتكلفون علم الناس فلان في الجنة وفلان في النار فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال لا أدري "لعمري"أنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس ولقد تكلفت شيئاً ما تكلفته الأنبياء قبلك قال نبي الله نوح عليه السلام: {وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقال نبي الله شعيب عليه الصلاة والسلام {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} وقال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام {لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} .(9/230)
ومنهم عطاء فقد أخرج الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه في باب طواف النساء مع الرجال قال وقال لي عمرو بن علي حدثنا أبو عاصم قال ابن جريج أخبرنا قال أخبرني عطاء إذ منع ابن هشام الطواف مع الرجال قال كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجال قلت بعد الحجاب أو قبل قال إي "لعمري"لقد أدركته بعد الحجاب قلت كيف يخالطن الرجال قال لم يكن يخالطن. وروى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج عن عطاء قال قلت له أيحق على النساء إذا سمعن الأذان أن يجبن كما هو حق على الرجال قال لا "لعمري" جـ3 ص 147.
فصل في أقوال أئمة التفسير واللغة في "لعمرك"
قال الإمام أبو الفتح ناصر بن عبد السيد بن علي المطرزي الفقيه الحنفي الخوارزمي المولود سنة 538 المتوفى سنة 616 في كتابه المغرب في ترتيب المعرب العمر بالضم والفتح البقاء إلا أن الفتح غلب في القسم حتى لا يجوز فيه إلا الفتح ويقال لعمرك ولعمر الله لأفعلن كذا وارتفاعه على الابتداء وخبره محذوف.
وقال أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد الجزري المعروف بابن الأثير في النهاية في غريب الحديث وفي الحديث أنه اشترى من أعرابي حمل خبط فلما وجب البيع قال له اختر فقال له الأعرابي عمرك الله بيّعا أي أسأل الله تعميرك وأن يطيل عمرك والعمر بالفتح العمر ولا يقال في القسم إلا بالفتح وبيعا منصوب على التمييز أي عمرك الله من بيّع ومنه حديث لعمر الهك هو قسم ببقاء الله ودوامه وهو رفع بالابتداء والخبر محذوف تقديره لعمر الله قسمي أو ما أقسم به واللام للتوكيد فإن لم تأت باللام نصبته نصب المصادر، فقلت عمر الله وعمرك الله أي بإقرارك لله وتعميرك له بالبقاء.(9/231)
قال القرطبي في تفسيره والعمر بضم العين وفتحها لغتان ومعناهما واحد إلا أنه لا يستعمل في القسم إلا بالفتح لكثرة الاستعمال، وتقول عمرك الله أي أسأل الله تعميرك وكره كثير من العلماء أن يقول الإنسان لعمري لأن معناه وحياتي قال إبراهيم النخعي يكره للرجل أن يقول لعمري لأنه حلف بحياة نفسه وذلك من كلام ضعفة الرجال ونحو هذا قال مالك أن المستضعفين من الرجال والمؤنثين يقسمون بحياتك وعيشك وليس من كلام أهل الذكران وإن كان الله سبحانه أقسم به في قصة لوط عليه السلام فذلك بيان لشرف المنزلة والرفعة لمكانه فلا يحمل عليه سواه ولا يستعمل في غيره وقال ابن حبيب ينبغي أن يصرف"لعمرك"في الكلام لهذه الآية وقال قتادة هو من كلام العرب قال ابن العربي وبه أقول لكن الشرع قد قطعه في الاستعمال ورد القسم إليه وقال القرطبي القسم بلعمرك ولعمري في أشعار العرب وفصيح كلامهم كثير قال النابغة الذبياني:
لقد نطقت بطلا عليّ الاقارع
لعمري وما عمري عليّ بهين
أراد بالأقارع بني قريع بن عوف وكانوا قد وشوا به إلى النعمان.
وقال طرفة العبد:
لك الطول المرضى وثنياه باليد
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى
والطول بكسر الطاء وفتح الواو الحبل قوله وثنياه أي ما ثنى منه ثم قال وقال بعض أهل المعاني لا يجوز هذا لأنه لا يقال لله عمر وإنما هو تعالى أزلي ذكره الزهراوي وقال أبو حيان في البحر المحيط وهذا الكلام يوهم أن العمر لا يقال إلا فيما له انقطاع وليس كذلك العمر والعمر البقاء.
وقال الجوهري في صحاحه قال ابن الأعرابي احتشمته أغضبته وأنشد:
بطئ النضج محشوم الاكيل
لعمرك إن قرص أبي خبيب
وقال في صحاحه أيضا:(9/232)
عمر الرجل بالكسر يعمر عمراً وعمراً وعلى غير قياس مصدره التحريك أي عاش زمناً طويلاً ومنه قولهم أطال الله عمرك والعمر وهما وإن كانا مصدرين بمعنى واحد إلا أنه استعمل في القسم أحدهما وهو المفتوح فإذا أدخلت عليه اللام رفعته بالابتداء قلت لعمر الله واللام لتوكيد الابتداء والخبر محذوف والتقدير لعمر الله قسمي أو ما أقسم به، فإن لم تأت باللام نصبته نصب المصادر وقلت عمر الله ما فعلت كذا وعمرك الله ما فعلت ومعنى لعمر الله وعمر الله أحلف ببقاء الله ودوامه وإذا قلت عمرك الله فكأنك قلت بتعميرك الله أي بإقرارك له بالبقاء.
وقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
قمرك الله كيف يلتقيان
أيها المنكح الثريا سهيلاً
أي سألت الله أن يطيل عمرك لأنه لم يرد القسم بذلك.
قال أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم المعروف بابن المنظور الإفريقي المصري الأنصاري الخزرجي في كتابه لسان العرب العمر بالفتح والعمر بالضم والعمر بضم العين والميم الحياة يقال قد طال عمره وعمره لغتان فصيحتان فإذا أقسموا قال في القسم "لعمري ولعمرك"يرفعونه بالابتداء ويضمرون الخبر كأنه قال "لعمرك"قسمي أو يميني أو ما أحلف به.
قال ابن جني ومما يجيزه القياس غير أنه لم يرد به الاستعمال خبر العمر من قولهم لعمرك لأقومنّ فهذا مبتدأ محذوف الخبر وأصله لو أظهر خبره لعمرك ما أقسم به فصار طول الكلام بجواب القسم عوضاً من الخبر.
وقيل العمر هاهنا الدين وأياً كان فإنه لا يستعمل في القسم إلا مفتوحاً وفي التنزيل العزيز {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} لم يقرأ إلا بالفتح.(9/233)
وقال أبو حيان قال أبو الهيثم النحوي"لعمرك" لدينك الذي تعمر وقال ابن الأعرابي عمرت ربي أي عبدته وفلان عامر لربه أي عابد قال ويقال تركت فلاناً يعمر ربه أي يعبده فعلى هذا لعمرك لعبادتك وقال الزجاج ألزموا الفتح القسم لأنه أخف عليهم وهم يكثرون القسم بلعمري ولعمري فلزموا الأخف وقد تقدم من كلام القرطبي أن قتادة قال لعمري ولعمرك من كلام العرب قال ابن العربي وبه أقول لكن الشرع قطعه في الاستعمال ورد القسم إليه وقال ابن منظور روى عن ابن عباس في قوله تعالى {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ} الآية أي لحياتك قال وما حلف الله بحياة أحد إلا بحياة النبي صلى الله عليه وسلم وقال قال أبو الهيثم ويقولون معنى لعمرك لدينك الذي تعمر وأنشد بيت عمر بن أبي ربيعة المتقدم قال عمرك الله عبدتك الله فنصب وأنشد:
وذرينا من قول من يؤذينا
عمرك الله ساعة حدثينا
فأوقع الفعل على الله عز وجل في قوله "عمرك الله وقال الأخفش في قوله {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ} الآية وعيشك وإنما يريد العمر وقال أهل البصرة اضمر له ما رفعه لعمرك المحلوف به وقال الفراء الإيمان يرفعها جواباتها.
قال الأزهري وتدخل اللام في لعمرك فإذا أدخلتها رفعت بها بالابتداء فقلت لعمرك ولعمر أبيك فإذا قلت لعمر أبيك الخير نصبت الخير وخفضت فمن نصب أراد أن أباك عمر الخير يعمره عمراً وعمارة فنصب الخير بوقوع العمر عليه ومن خفض الخير جعله نعتاً لأبيك وقال المبرد في قوله عمرك الله إن شئت جعلت نصبه بفعل أضمرته وإن شئت نصبته بواو حذفته وعمرك الله وإن شئت كان على قولك عمّرتك الله تعميرا وأنشدتك الله نشيداً ثم وضعت عمرك في موضع التعمير وأنشد فيه:
هل كنت جارتنا أيام ذي سلم
عمرتك الله إلا ما ذكرت لنا(9/234)
يريد ذكرتك الله وقال الأزهري عمرك الله مثل نشدتك الله قال أبو عبيد سألت الفراء لم أرتفع لعمرك فقال على إضمار قسم ثان كأنه قال وعمرك فلعمرك عظيم وكذلك لحياتك مثله قال والدليل على ذلك قول الله عز وجل {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ} الآية.. كأنه أراد والله ليجمعنكم فأضمر القسم، قال المبرد وفي لغة وعملك يريدون لعمرك ومنه قول عمارة بن عقيل الحنظلي:
تعرض لي من طائر لصدوق
عملك ان الطائر الواقع الذي
وتقول إنك عمري لظريف وقال ابن منظور العرب تقول عمرك الله افعل كذا وإلا فعلت كذا بالنصب وهو من الأسماء الموضوعة في موضع المصادر المنصوبة على إضمار الفعل المتروك إظهاره وأصله من عمّرتك الله تعميرا فحذفت زيادته فجاء على الفعل وأعمرك الله أن تفعل كذا كأنك تحلّفه بالله وتسأله بطول عمرك قال الشاعر:
ألوي عليك لو أن لبك يهتدي
عمرتك الله الجليل فإنني
قال الكسائي عمرك الله لا أفعل ذاك نصب على معنى عمرتك الله أي سألت الله أن يعمّرك كأنه قال عمرت الله إياك قال ويقال أنه يمين بغير واو وقد يكون عمر الله وهو قبيح وعمر الله يعمر عمراً وعمارة وعمراً وعمر يعمر ويعمر الأخيرة عن سيبويه كلاهما عاش وبقي زمناً طويلاً.
قال لبيد:
لو كان للنفس اللجوج خلود
وعمرت حرسا قبل مجرى داحس
وأنشد محمد بن سلام كلمة جرير:
لقد حديت تيم حداء عصبصبا
لئن عمرت تيم زماناً بغرة
ومنه قولهم أطال الله عمرك قال الحافظ بن عبد البر في الاستيعاب قال عمرو بن الأهتم التميمي:
لصالح أخلاق الرجال سروق
ذريني فإن البخل يا أم هيتم
ولكن أخلاق الرجال تضيق
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها(9/235)
وقال الحافظ بن حجر قال هشام بن الكلبي حدثني جعفر بن كلاب أن عمر بن الخطاب ولى علقمة بن علاثة العامري حوران فنزلها إلى أن مات وخرج إليه الحطيئة في جده قد مات وأوصى له بجائزة فرثاه بقصيدة منها:
وبين الغنى إلا ليال قلائل فما كان بينني لولقيتك سالماً
بحور أن أمسى أدركته الحبائل لعمري لنعم المرء من آل جعفر
وأقوال الشعراء في هذه الكلمة كثيرة.
فصل في بيان أقوال أئمة المذاهب في الكلمة المسؤول عن حكمها
أما الإمام مالك ففي المدونة الكبرى رواية الإمام سحنون بن سعيد التنوخي عن عبد الرحمن بن القاسم وغيره عن مالك رحمه الله قال سحنون قلت أرايت قوله "لعمري "أتكون هذه يميناً قال قال مالك لا تكون يميناً.
قال الحطاب في كتابه مواهب الجليل شرح مختصر خليل لأبي المودة الجندي التركي المالكي ما نصه وقوله"لعمري"أو هو زان أو سارق أو قال والصلاة والصيام والحج أو قال هو يأكل لحم الخنزير والميتة أو يشرب الدم أو الخمر أو يترك الصلاة أو عليه لعنة الله أو غضبه أو أدخله الله النار وكل ما دعى به على نفسه لم يكن بشيء من هذا يميناً.(9/236)
وأما الإمام امام أهل السنة أحمد بن حنبل الشيباني فقد قال الموفق بن قدامة في المغني قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وقد سئل عن الرفع إي "لعمري"ومن يشك في هذا كان ابن عمر إذا رأى من لا يرفع حصبه وأمره أن يرفع وقال في موضع آخر في نفس الكتاب وإن قال "لعمري"أو "لعمرك"أو"عمرك"فليس بيمين، في قول أكثرهم وقال الحسن في قوله "لعمري"عليه الكفارة ثم قال والدليل على أنه ليس بيمين أنه أقسم بحياة مخلوق فلم تلزمه كفارة كما لو قال وحياتي وذاك لأن هذا اللفظ يكون قسماً بحياة الذي أضيف إليه العمر فإن التقدير لعمرك قسمي أو أقسم به والعمر الحياة والبقاء وقال أبو عبد الله محمد بن مفلح في كتابه الفروع وإن قال "لعمري"أو قطع الله يديه ورجليه أو أدخله الله النار إن فعل كذا فذلك لغو نص عليه الإمام أحمد ولا يلزمه إبرار القسم في الأصح.
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في مختصر الإنصاف وإن قال لعمري أو لعمرك فليس بيمين في قول الأكثر وقال الحسن في قول"لعمري" كفارة وبمثل هذا أفتى حفيده الشيخ عبد اللطيف في منهاج التأسيس في الرد على ابن جرجيس العراقي حيث قال إن المذهب والأكثر لا يرى أن لعمري أو لعمرك يمين وانتفاء الكفارة لانتفاء اليمين. وأما قول الحسن فمرجوح كما تقدم وقد يكون يوجب الكفارة لمعصية القائل وفجوره مع أن اليمين غير مقصودة بها بل هذا يجري على ألسنتهم من غير قصد كقوله عقري وحلقي وقوله ثكلتك أمك بل هو غير معلوم وغير مفهوم من كلام أهل العلم والإيمان وأئمة هذا الشأن أنه يمين بل صريح كلامهم نفي هذا وأنه ليس بقسم ثم قال وليس الغرض اليمين الشرعية وتشبيه غير الله به وفي التعظيم حتى يرد عليه أن الحلف بغير اسمه تعالى وصفاته عز وجل مكروه كما صرح به النووي في شرحه على مسلم بل الظاهر من كلام الحنفية أنه كفر إن كان باعتقاد أنه حلف يجب البر به وحرام إن كان بدونه كما صرح به بعض الفضلاء.(9/237)
3- الأحناف أما المذهب الحنفي فقد قال العيني في عمدة القاري شرح البخاري وإذا قال "لعمري"فقال الحسن البصري عليه الكفارة إذا حنث فيها وسائر الفقهاء لا يرون فيها كفارة لأنها ليست عندهم يمينا انتهى.
خاتمة المطاف
لقد تبين مما تقدم من النصوص الدالة على أن كلمة "لعمري" ليست يميناً شرعية تجب الكفارة به تبين من ذلك أن اليمين الشرعية هي اليمين التي تجب الكفارة على من حلف بها إذا حنث. وأما ما ذكره ابن القيم في كتابه (التبيان في أقسام القرآن ص 428 من أن أكثر المفسرين من السلف والخلف بل لا يعرف من السلف فيه نزاع أن "لعمرك "في قوله تعلى {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} قوله إن هذا قسم من الله بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا من أعظم فضائله أن يقسم الرب عز وجل بحياته وهذه مزية لا تعرف لغيره ولم يوافق الزمخشري على ذلك فصرف القسم إلى أنه بحياة لوط عليه الصلاة والسلام "لعمرك"إنهم لفي سكرتهم يعمهون "وليس في اللفظ ما يدل على واحد من الأمرين بل ظاهر اللفظ وسياقه إنما يدل على ما فهمه السلف لا أهل التعطيل والاعتزال. قال ابن عباس رضي الله عنهما والعمر بفتح العين المهملة والعمر بضمها واحد إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإثبات الأخف لكثرة دوران الحلف بها على ألسنتهم وأيضاً فإن العمر حياة مخصوصة فهو عمر شريف عظيم أهل أن يقسم به لمزيته على كل عمر من أعمار بني آدم ولا ريب أن عمره وحياته صلى الله عليه وسلم من أعظم النعم والآيات فهو أهل أن يقسم به أولى من القسم بغيره من المخلوقات - انتهى.(9/238)
فهذا الكلام من الإمام ابن القيم يحمل على أنه إنما أراد أن هذه الكلمة قسم لغة وإلا فإن الأحاديث الصحيحة المتقدمة تمنع وتنهى عن الحلف بغير الله من المخلوقات فإن ذلك من أعظم المحرمات كما دلت عليه الأحاديث المتقدمة هذا كله في غير قسم الله تعالى بما شاء من مخلوقاته فإنه يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون وقد تقدم في النصوص التي سردناها عن الأئمة أن هذه الكلمة ليست من الإيمان الشرعية التي تجب الكفارة بها عند الحنث بل هي محمولة على أحد الوجوه المتقدمة.
أولاً: حمله على حذف مضاف وقد نقل ذلك عن بعض أهل العلم فيكون التقدير "لواهب عمري"كما في أمثالها مما أقسم فيه بغير الله على قول كقوله تعالى والشمس والليل، والقمر.
وثانياً: أن يكون المراد بها وبأمثالها ذكر صورة القسم لتأكيد مضمون الكلام وترويجه فقط لأنه أقوى من سائر المؤكدات وأسلم من التأكيد بالقسم بالله تعالى لوجوب البر به وليس الغرض اليمين الشرعية وتشبيه غير الله تعالى به في التعظيم بل الظاهر من كلام الأحناف أنها كفر إن كان يعتقد أنه حلف يجب البر به. وحرام إن كان بدون ذلك كما صرح به بعض الفضلاء فعلى هذا فذكر صورة القسم على أحد الوجوه المذكورة لا بأس به ولهذا شاع استعمال هذه الكلمة بين العلماء بإجماعهم. كما تقدمت عليه النصوص.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه هداة الأمم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] هو نحدة بن عامر الحروري بن وؤس الخوارج زائغ عن الحق ذكر في الضعفاء الجرجاني وهو ابن عمير اليماني خرج باليمامة عقب موت يزيد بن معاوية وقدم مكة وله مقالات معروفة واتباع انقرضوا وقد ذكر له الحافظ ترجمة في تهذيب التهذيب قتل بعد ابن عباس بقليل في سنة 70 اللسان للحافظ.(9/239)
[2] قال الإمام أحمد بن حنبل حدثنا إسماعيل عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال كانت يمين عثمان بن أبي العاص"لعمري" انتهى من العلل للإمام أحمد ص406.
[3] أخرجه مسلم وأبو داود ففي مسلم ج1 ص232 وفي أبي داود ج1 ص81.(9/240)
فتوى شرعية حول الملكية الفردية في الإسلام
بقلم فضيلة الشيخ حسين محمد مخلوف
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد فقد طلبت منا وزارة … بيان الحكم الشرعي فيما تضمنه المنشور الذي وضع بعنوان (مشاكلنا الداخلية في ضوء النظام الإسلامي) من أن الإسلام يرفض أن توجد طبقة تحتكر الثروة وفي مقدمة ما عنى به من الناحية الاقتصادية توزيع الملكيات الزراعية. وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد وضع العلاج الناجع لما تعانيه مصر الآن من التباين الشاسع في توزيع هذه الملكيات فقال: "من كان له أرض واسعة فليزرعها أو يمنحها أخاه ولا يؤجرها إياه ولا يكريها" وأن مؤدى ذلك أن الملكية الفردية يجب أن تكون محدودة بطاقة الإنسان على زرع أرضه وما زاد عن ذلك يجب أن يوزع على المعدمين فلا استغلال بالإيجار بل لا تأجير مطلقاً.
وكذلك عمر بن الخطاب حينما فتح المسلمون أرض سواد العراق وأرادوا قسمة أربعة أخماسها بين الفاتحين أبى عليهم ذلك وقال: "ما يفتح بلد فيكون فيه كبير نيل حتى يأتي المسلمون من بعدهم فيجدوا الأرض قد قسمت وحيزت وورثت عن الآباء وتضيع الذرية والأرامل".
وانتهى المنشور إلى القول بأن الإسلام يحارب الإقطاعات الشائعة اليوم في الرأسمالي الذي يبيح الملكية المطلقة كما يحارب الشيوعية اللادينية التي تنادي بأن تكون الأرض ملكاً للدولة فينهار بذلك ركن من أركان الاقتصاد السليم فضلاً عن تجاهل المبدأ الغريزي في الإنسان وهو حب التملك وأن الحل الوسط بين الرأسمالية والشيوعية هو أن يتملك الإنسان بقدر طاقته الزراعية وما زاد عن ذلك يجب أن يعطيه لغيره من المعدمين مجاناً.
والجواب …
ذلك ما زعموا أنه حل لهذه المعضلة في ضوء النظام الإسلامي.(9/241)
والحق الذي لا مرية فيه أن في الشريعة الإسلامية ما يكفل تحقيق العدالة الاجتماعية بأوسع معانيها بالنسبة الأفراد والجماعات. فقد اعتبرت الفرد قواماً للجماعة وسنت له النظم الصالحة لحياته في نفسه وباعتباره عضواً في أسرته وفي عشيرته وفي أمته وفي المجتمع الإنساني عامة ليكون لبنة متينة في بنائه وعضواً قوياً في كيانه. كما اعتبرت الجماعة عضداً للفرد وظهيراً له في أداء رسالته والتمتع بحقوقه والقيام بواجباته ووثقت الصلة بين الرد والجماعة بالتكافل في جميع الحقوق والواجبات.
ولم تدع شأناً من شؤون الفرد والجماعة إلا أنارت فيه السبيل وأوضحت النهج وكشفت عما فيه من صلاح وفساد وخير وشر فكانت لذلك خاتمة الشرائع وأبقاها على الدهر وأصلحها لكل أمة وزمان.
قررت أسمى المبادئ وأعدل النظم في الاجتماع والسياسة والثقافة والاقتصاد وما إلى ذلك مما يكفل للأمة إذا هي استمسكت بها واعتصمت بهديها القوة والسلطان والحياة المشرقة الرافهة التي يسودها التعاون على البر والخير ويظلها الأمن والسلام.
وهذا كتاب الله الذي أنزل على صفوة خلقه بين أيدينا نطالع فيه ما يهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم في كل ما يمس شؤون الحياة ونجد فيه العلاج الشافي لكل نازلة والحل الموفق لكل معضلة مما فيه كل الغنى عما سواه من مذاهب وآراء استحدثها الغرباء عنه وأولع بها بعض الدخلاء فيه أو الجهلاء بمقاصده ومراميه.
وهل يستوي تشريع إلهي حكيم أنزله الله على رسوله لمصالح عباده وهو العليم الخبير بما يصلح لهم ويسعد حالهم ومذاهب وآراء يضعها آحاد الناس كتشريع ونظام عام على ما يظنون ويتخيلون. وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟(9/242)
وما هذه الثورات الفكرية والاضطرابات الدولية والدماء المهراقة والأموال المستنزفة والمدن المهدمة والحضارات المحتضرة والوشائج المقطعة إلا نتائج لتلك المذاهب والآراء المستحدثة التي لا يقرها الإسلام في سياسة الشعوب ونظام الاجتماع والعمران ويقرر في ضوء الحق والواقع ما فيها من هدم وإفساد.
ولسنا نطمع في أن يكون الناس أمة واحدة. ولكنا ندعو أمم الأرض على اختلاف العقائد والنحل وفيهم الفلاسفة والعباقرة ودعاة الأمن والإصلاح أن يدرسوا مبادئ الإسلام وتعاليمه في القرآن الكريم والسنة الصحيحة دراسة العالم المدقق والمفكر الحر ليعلموا أنها وحدها هي النظام المثالي الاجتماع والحضارة والعدل والسلام وأن لا منجى للعالم مما حاق به إلا بالأخذ بها والعيش في ظلالها.
اندفعت أمم من الغرب بدافع الجشع والطمع وعبادة المال إلى استعمار البلاد الشاسعة واستعباد الأمم الضعيفة واستغلال مواردها واحتكار مرافقها ولبست لذلك مسوح الرهبان خداعاً للشعوب وتغريراً بالعقول فمرة تزعم أنها إنما أقدمت على ذلك لترقيها وترفع مستواها وتسعد أهلها اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً ومرة تزعم أنها إنما تبسط يدها عليها وتتحكم في مواردها وثوراتها لتنقذ الطبقة الدنيا من مخالب الرأسمالية.
وهي في كل هذه المظاهر الكاذبة مخادعة مرائية لا تبغي إلا السيادة والغلبة واحتكار الأمم الضعيفة والشعوب المفككة كما تحتكر الأمتعة والسلع.
وأي فرق بين ما تنعاه على الأثرياء من احتكار الثروات العقارية وبين ما تهالكت عليه وبذلت في سبيله المهج والأموال من إخضاع الشعوب لسلطانها وبسط يدها في جميع مرافقها قهراً عنها وإرغاماً لها.
أليس ذلك احتكاراً لملكية الشعوب بأسرها نفوساً وأموالاً بل هو أبشع صورة الاحتكار وأفحش أساليبه.(9/243)
ليس لنا وراية الإسلام تظلنا وتعاليمه ترشدنا أن ننخدع بهذه البروق الخالية ونذعن لتلك الدعايات الهادمة ندع ما شرعه الله لنا من النظم الحكيمة المالية والاجتماعية. بل ذلك حقيق أن يوقظ دول الإسلام وينبه منها الشعور لما يراد بها ويدبر لها من كيد وإذلال وأن يحفزها لجمع الكلمة والتئام الصفوف وتضافر القوى للدفع في صدور هذه الدول الطامعة التي لا تبغي من وراء دعايتها إلا الهدم والتدمير.
وما احتالوا به لإذكاء نار الفتنة في نفوس طبقات العمال وأشباههم من الشعوب وهم الكثرة الغالبة.
إظهار التحنن لهم والحدب عليهم بدعوى وجوب محو الملكيات العقارية بتاتاً أو وجوب تقصير مداها إلى حد الكفاف على النحو الذي عالج به المنشور توزيع الثروة العقارية بين الأفراد، بزعم أنه علاج إسلامي.
الإسلام يبيح الملكية المطلقة للأفراد ويرتب عليها حقوقاً
أما الإسلام الحنيف فقد ساير سنن الوجود وطبيعة العمران وقرر أسمى المبادئ في نظام الملكية فأباح الملكية المطلقة للأفراد ولكنه أوجب بجانب ذلك على الأغنياء في أموالهم حقوقاً يؤدونها للفقراء والمساكين وذوي الحاجة سداً لخلتهم وينفقون منها في المصالح العامة التي تعود بالخير على المجتمع.
وفي آيات القرآن والأحاديث النبوية من الحث على أداء هذه الحقوق والترهيب من الإخلال بها والترغيب في التصدق والإنفاق والبر والمواساة ما لو ابتعه المسلمون كانوا أسعد الأمم حالاًً وأهنأها بالاً وأبعدها عما نراه من المآثم والشرور.
أوجب الزكاة في الأموال تؤخذ من الأغنياء وترد على الفقراء وهي الركن المالي من دعائم الإسلام.
وأمر بالبر والإحسان لذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل.(9/244)
قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وضاعف مثوبة الصدقات فقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .
وحث على صدقة السر فقال: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} إلى غير ذلك من الآيات التي عدلت الأغنياء بالفقراء وأسعدت الفقير بحظ من ثمرات ملكية الغنى يسد خلته ويكفي حاجته.
وبجانب ذلك حث القرآن في كثير من الآيات على العمل والكسب ونهت السنة عن البطالة وإراقة ماء الوجه بالسؤال والاستجداء كيلا يتكل الفقراء على الأغنياء ويعيشوا عليهم عالة يتكففونهم.
وفي ظلال هذه التعاليم التي يكمل بعضها بعضاً يعيش العامل والفقير والغني عيشة راضية مطمئنة لا يشوبها كدر ولا ينغصها ألم.
احترم الإسلام حق الملكية فأباح لكل فرد أن يتملك بالأسباب المشروعة ما يشاء من المنقولات والعقارات وأباح له استثمارها والانتفاع بها في نطاق الحدود التي رسمها. وخوله حق الدفاع عنها كالدفاع عن النفس والعرض ولو بقتل الصائل عليها وأوجب عليه صيانتها ونهاه عن إضاعتها وصرفها في غير المشروع من وجوهها استكمالاً لوسائل العمران.(9/245)
وفي الحديث: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله " وفي حديث آخر: "من قتل دون ماله فهو شهيد ". وقد أضاف القرآن الأموال إلى أصحابها إضافة التملك فقال: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً، وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} .
وشرع الإسلام أسباب ملكية الأعيان والمنافع وطرائق انتقالها من مالك إلى آخر وأقام للتعامل بين الناس نظماً وحدوداً تكفل صيانة حق الملكية وتمكن المالك من استيفاء حقه والانتفاع بثمرة ملكه وتخول المستأجر الانتفاع بملك غيره وحرم من وسائل التعامل ما يفضي إلى التهارج والتقاتل كالربا في صوره المختلفة والعقود التي فيها جهالة وغرر ومخاطرة وحرم الغضب والسرقة وأكل أموال الناس بالباطل وسن الحدود والعقوبات جزاء لمن ينتهك حرمة الملكية ويتعدى حدودها المشروعة {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .(9/246)
بل نهى سبحانه عن أدنى أنواع التعرض للأموال وهو تمني زوالها عن الغير فقال {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} للإرشاد إلى أن التفاضل في المال لا يسوغ العدوان عليه ولو بالتمني المذموم. فإن ذلك قسمة صادرة من الحكيم الخبير وعلى العبد أن يرضى بما قسم الله له ولا يتمنى حظ المفضل حسداً وحقداً بل يسأل الله من واسع فضله وجزيل إنعامه فإن خزائن ملكه لا تنفد {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} .
أقام الشارع هذه النظم الحكيمة الآخذ بعضها برقاب بعض صيانة للمجتمع من الفوضى والفساد ورعاية لمصالح العباد وهو أعلم بها ولم يترك الأمر سدى تعبث به الأهواء ويضل الناس فيه السبيل فأنزل القرآن الكريم هدى ونوراً. وجاءت السنة النبوية بياناً له وتنويراً. وجاء فيهما من التعاليم ما إن تمسك به المسلمون كانوا على بينة من دينهم وعلى هدى من أمرهم وكانت السعادة ملاك أيمانهم وليس بعد الحق إلا الضلال. فليس لمسلم أن يأخذ بغير هدى الإسلام فيما شرعه من الأحكام ولا أن يدعو الناس إلى غير ما دعا إليه من الحق والنور.(9/247)
هذه كلمة الإسلام في احترام حق الملكية الفردية للعقار وصيانته من العدوان وهو حق تقتضيه سنة العمران وغريزة الإنسان غير أن بعض العقول قد غشيتها في هذا العصر غواش من الظلم حجبت عنها نور الحق فارتطمت في عميائها بالصخور وتردت في المهاوي وتلقفها في إبان هذه العماية وغمرة هاتيك الحيرة شياطين من الإنس يوحون إليهم زخرف القول غروراً ويمنونهم بباطل الأماني وكاذب الأحلام.
فذهب دعاة هدامون إلى إهدار ملكية العقار الفردية وأقاموا نظامهم الاقتصادي والاجتماعي على هذا المبدأ وسيعلمون بعد حين أنه غير صالح للبقاء وأنه إن امتد به الزمن حيناً فسيقضي عليه بالفناء.
لا احتكار للثروة:
وقال آخرون إن الإسلام يرفض وجود طبقة تحتكر الثروة وإنه لحق لو كان هناك احتكار ولكنه في الواقع حديث عن وهم وخيال.
فليس هناك طبقة تحول بقوتها بين الناس وأسباب الغنى والثراء وتمنعهم بحولها من التملك والشراء وليس هناك احتكار من أحد للثروة بالمعنى المفهوم من الاحتكار بل هناك نواميس طبيعية وسنن اجتماعية قضت بتفاوت الناس في القوى والمدارك والعمل والإنتاج. فكان منهم طوائف العمال والصناع والزراع وفيهم الجهال والعلماء والأغبياء والأذكياء والكسالى والمجدون {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} ولهذا التفاوت آثاره الطبيعية في الكسب والتملك كما قضت هذه السنن بخضوع التعامل بين الناس لقاعدة العرض والطلب والحاجة والاستغناء. ولم يشذ عنها التعامل في العقار فلا يزال في ظلها حراً في الأسواق يتبادله من الأفراد من يشاء بالبيع والشراء لا حظر فيه من أحد على أحد.
وليس وجود طبقة عاجزة عن التملك بطريق الشراء مما يسوغ حسبان القادرين عليه محتكرين ما دام مرد الأمر فيه إلى عوامل أخرى ليس منها حجر فريق على حرية فريق.(9/248)
وقد ترك الإسلام الحنيف الناس أحراراً في التعامل بالبيع والشراء ولم يقيدهم في ذل إلا بما يكفل صحة العقود ويدفع التنازع والتخاصم وأكل الأموال بالباطل. وليس في أحكامه ما يحول بين المرء والتملك وما يسوغ تسمية الملاك محتكرين مهما اتسعت ثروتهم بل العمل على هدم هذه الثروات بزعم أنها ضرب من الاحتكار مما يأباه الإسلام الذي يقدس حق الملكية ويحرم العدوان عليه.
الملكية الفردية غير محدودة:
قالوا إن الإسلام يوجب أن تكون الملكية الفردية محدودة بطاقة الإنسان وما زاد عن طاقته الزراعية يجب أن يعطى منحة للمعدمين بالمجان ولا يجوز أن يستغل المالك أرضه بالتأجير بصوره المختلفة.
والعجب أن يشرعوا للناس ما لم يشرعه الله ويوجبوا عليهم ما لم يوجبه فمن البديهي أن الشريعة الإسلامية لم تحدد للملكية الفردية حداً لا يتجاوزه المالك ولم توجب عليه أن ينزل عما زاد عن طاقته الزراعية للمعدمين بالمجان ولا لغير المعدمين بالثمن.
وقد كان من الصحابة رضوان الله عليهم من يملك الثروات الطائلة كعبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة وأحد أصحاب الشورى في الخلافة.
وكان بجانب هؤلاء الجم الغفير ممن لا يملك شروى نقير كأهل الصفة وأشباههم وكان في الأنصار كثير من أهل المزارع الواسعة ولم يوجب الرسول على أحد ممن تضخمت ثرواتهم بجهودهم أن يوزع ما زاد عن طاقته الزراعية على المعدمين لا من العقار ولا من المنقول.
نعم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر الإسلام حين قدم المدينة بين المهاجرين والأنصار في دار أنس ابن مالك وكانوا تسعين رجلاً نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار.
آخى بينهم على المساواة والبر والتوارث بعد الموت دون ذوي الأرحام إلى أن نزل قوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} فنسخ التوارث بعقد الأخوة وبقي التوارث بالقرابة.(9/249)
أما المواساة والترافق بين المؤمنين عامة فأمر مندوب إليه مرغب فيه.
وفيما تلونا من آيات القرآن من الحث عليه وعلى معونة الفقراء والمحتاجين بلاغ للناس. ولكن هذا شيء ووجوب التنازل عن الملك شيء آخر ولا واجب في الدين إلا ما أوجبه الشارع الحكيم.
وقد أجازت الشريعة لمالك الأرض أن يتصرف فيها كيف يشاء فله أن يزرعها كلها أو بعضها بنفسه وله أن يؤجرها لغيره بطريق المزارعة أو بالنقد بلا تحديد بالطاقة وعيش الكفاف وله أن يمنها أو يمنحها أو يمنح منها للغير غنياً أو فقيراً.
الاستغلال بطريق المزارعة
فأما الاستغلال المزارعة وهي نوع من الأجير مشروع فأصله أن أهل المدينة كانوا أكثر الناس حقولاً ومزارع وكانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغلون الأرض بطريق المزارعة وتسمى أيضاً المخابرة مشتقة من الخبير وهو الفلاح. "وهي عقد بين المالك والعامل على كراء الأرض ببعض ما يخرج منها"فتارة كانوا يحددون نصيب المالك بالشطر أو الثلث أو الربع. وتارة يحددونه بما ينبت على حافة الأنهر أو الجداول أو السواقي أو أن له ثمرة قطعة معينة من الأرض وللعامل ثمرة قطعة أخرى ونحو ذلك مما شأنه أن يفضي إلى التنازع والتشاحن وأكل الأموال بالباطل لما فيه من الجهالة والغرر.
وتارة يجمعون بين التحديدين فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النوعين الأخيرين من الكراء لما فيهما من المخاطرة المفضية إلى النزاع.
وعن حنظلة بن قيس الأنصاري قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والفضة فقال لا بأس به. إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات "لفظة معربة معناها حافة النهر ومسايل الماء"وإقبال الجداول (رءوس الأنهر الصغيرة) وأشياء من الزرع فيهلك هذا ولم يكن للناس كراء إلا هذا فذلك زجر عنه. فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به. رواه مسلم وأبو داود والنسائي.(9/250)
وفي رواية عن رافع قال حدثني عماي أنهما كانا يكتريان الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ينبت على الأربعاء "جمع ربيع وهو النهر الصغير"وبشيء يستثنيه صاحب الأرض فنهى النبي عن ذلك"رواه البخاري وأحمد والنسائي.
وفي رواية عنه "كنا أكثر أهل المدينة مزدرعا. كنا نكري الأرض بالناحية منها تسمى لسيد الأرض فمما يصاب ذلك وتسلم الأرض ومما تصاب الأرض ويسلم ذاك فنهينا فأما الذهب والورق (الفضة) فلم يكن يومئذ" (رواه البخاري) .
وفي رواية عنه "كنا أكثر الأنصار حقلاً فكنا نكتري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك فأما الورق فلم ينهنا"أخرجه البخاري ومسلم.
وعن أسيد بن ظهير: كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أو افتقر إليه أعطاها بالنصف والثلث والربع ويشترط ثلاث جداول والقصارة "بضم القاف وهي الحب في السنبل بعد ما يداس"وما يسقي الربيع. وكان يعمل فيها عملاً شديداً ويصيب منها منفعة فأتانا رافع بن خديج فقال: "فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بكم رافقاً وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لكم نهاكم عن الحقل (الزرع) " (رواه أحمد وابن ماجه) .
فهذه الروايات صريحة في أنه عليه السلام إنما نهى عن كراء الأرض ببعض ما يخرج منها إذا اشتملت على ما يؤدي إلى المخاطرة والغرر من مثل هذه الشروط الفاسدة فأما إذا خلت منها فيجور كراؤها به مثل كرائها على النصف أو الربع مما يخرج منها.
وهذا هو الذي فهمه ابن عمر حيث رد على رافع في قوله: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كراء المزارع بقوله "قد علمت أنا كنا نكري مزارعنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الأربعاء وشيء من التبن"أخرجه في الصحيح.(9/251)
وحاصل رده كما ذكره القسطلاني أنه ينكر على رافع إطلاقه في النهي عن كراء الأرض ويقول: إن الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي كانوا يدخلون فيه الشرط الفاسد وهو إنهم يشترطون ما على الأربعاء وطائفة من التبن وهو مجهول وقد يسلم هذا ويصيب غيره آفة أو بالعكس فتقع المزارعة ويبقى الزارع أو رب الأرض بلا شيء. اهـ
وهو ما فهمه أيضاً ابن عباس رضي الله عنهما حيث قال كما في الصحيح أنه عليه السلام لم ينهه عنه أي عن كراء الأرض بشطر ما يخرج منها ولكن قال: لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ شيئاً معلوماً. اهـ
قال الخطابي: "وقد عقل ابن عباس المعنى من الخبر وأن ليس المراد به تحريم المزارعة بشطر ما يخرج من الأرض وإنما أراد بذلك أن يتمانحوا أراضيهم وأن يرفق بعضهم ببعض: وقد ذكر رافع في رواية عنه في هذا الباب (باب المزارعة) النوع الذي حرم منه، وذلك قوله كان الناس يؤاجرون.."الخ.
فأفاد أن المنهي عنه هو المجهول منه دون المعلوم وأنه كان من عادتهم أن يشترطوا فيها الشروط الفاسدة، وأن يستثنوا من الزرع لرب الأرض ما على السواقي والجداول. والمزارعة وحصة الشريك لا يجوز أن تكون مجهولة. وقد يسلم ما على السواقي والجداول ويهلك سائر الزرع فيبقى العامل لا شيء له وهذا خطر. اهـ ملخصاً.
وقال الليث بن سعد: "وكان الذي نهى عنه من ذلك ما لو نظر فيه ذوو الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه لما فيه من المخاطرة".اهـ
وهو موافق لما عليه الجمهور من حمل النهي عن كراء الأرض بما يخرج منها على الوجه المفضي إلى الغرر والجهالة.
قال في الفتح ونيل الأوطار: "وعليه تحمل الأحاديث المطلقة الواردة في النهي عن المزارعة والمخابرة كما هو شأن حمل المطلق على المقيد". اهـ
وفي منتقى الأخبار: "..إن حديث حنظلة بن قيس بيان لما أجمل في المتفق عليه من إطلاق النهي عن كراء الأرض". أهـ(9/252)
وممن حمل النهي على ذلك وأجاز كراء الأرض بجزء مما يخرج منها كالنصف والثلث والربع دون أن يقارنه شرط مفسد للعقد الخلفاء الراشدون وابن عمر وابن مسعود وسعد بن مالك وحذيفة ومعاذ ابن جبل وأسامة وخباب وعمار بن ياسر وهو قول ابن المسيب وطاووس وابن أبي ليلى والأوزاعي والثوري والقاضي أبي يوسف ومحمد ابن الحسن وابن المنذر وأحمد بن حنبل استناداً لما ثبت في الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر بعد أن ظهر عليهم على أن يزرعوا له أرضها ولهم نصف ما تخرجه من ثمر أو زرع واستمر اليهود على ذلك إلى صدر من خلافة عمر حتى أجلاهم عنها إلى تيماء وأريحاء.
وعن أبي جعفر قال: "ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع وزارع عمر وعلي وسعد بن مالك وابن مسعود ومعاذ وعمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد وعروة ابن الزبير وكثير غيرهم".
وقال ابن القيم في زاد المعاد: "في قصة خيبر دليل على جواز المساقاة والمزارعة بجزء من الغلة من ثمر أو زرع فإن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على ذلك واستمر إلى حين وفاته، ولم ينسخ البتة ودرج عليه الخلفاء الراشدون". اهـ
وجملة القول أنه يجوز استغلال الأرض بكرائها بجزء من الخارج منها على الوجه الذي لا يفضي إلى المنازعة والتخاصم وهو قول الجمهور والقول المفتى به عند الحنفية والمختار عند الشافعية كما ذكره النووي خلافاً لما ذهب إليه أبو حنيفة ومالك والشافعي من عدم جواز كرائها به استناداً إلى أحاديث النهي المطلقة وقد علمت أنها محمولة على ما فيه شروط مفسدة.
على أنه قد روى عن زيد بن ثابت أنه قال: "يغفر الله لرافع أنا والله أعلم بالحديث منه. إنما أتى النبي عليه السلام رجلان من الأنصار قد اقتتلا فقال: "إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع".اهـ
ومقصوده كما في سبل السلام، أن رافعاً اقتطع الحديث فروى النهي ولم يرو أوله فأخل بالمقصود. اهـ(9/253)
استغلال الأرض بالإيجار
ونعني به تأجيرها بالذهب أو الفضة أو بما جرى به التعامل من النقود والأوراق المالية. ولا شك في جوازه. ويقاس على ما ذكر التأجير بغيره من سائر الأشياء المعلومة المتقومة كما في سبل السلام ونيل الأوطار) ويدل عليه حديث حنظلة بن قيس السابق.
وعن ابن عباس قال: "إن أمثل ما أنتم صانعون أن تستأجروا الأرض البيضاء ليس فيها شجر من السنة إلى السنة "رواه البخاري.
وعن سعد بن أبي وقاص: "إن أصحاب المزارع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يكرون مزارعهم بما يكون على السواقي وما سعد بالماء (ما جاء من الماء من غير طلب) مما حول النبت فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختصموا في بعض ذلك فنهاهم أن يكروا بذلك وقال: "اكروا بالذهب والفضة". (رواه أحمد وأبو داود والنسائي) .
وقال ابن المنذر: "إن الصحابة أجمعوا على جواز كراء الأرض بالذهب والفضة ونقل ابن بطال اتفاق فقهاء الأمصار عليه. وقد تبين من ذلك أنه يجوز استغلال الأرض المملوكة بطريق المزارعة المستوفية شرائط الصحة وهي نوع من التأجير وبطريق التأجير بالنقد وما يقاس عليه. ولا شك أن في هذا رفقاً عظيماً بالناس. فإن الملاك قد يعجزون عن العمل بأنفسهم فلا يستطيعون الانتفاع بأرضهم إلا بتأجيرها للغير والمستأجرون قد لا يملكون الأرض مع استطاعة الزراعة فلا يتيسر عيشهم إلا بالاستئجار من الملاك فرعاية للمصلحتين أجازت الشريعة استغلال الأرض بهاتين الطريقتين.
وكثيراً ما كان حظ المستأجر أوفر من حظ المالك وخاصة إذا اتقى الله في عمله وعزم على الوفاء بدينه وإعطاء المالك حقه فإن الله يعينه ويربحه ويبارك له في رزقه.
فالقول بأنه لا استغلال بالإيجار للأرض المملوكة بل لا تأجير مطلقاً قول زائف لا يعول عليه ولا يلتفت إليه من الوجه الشرعية والعلمية.
الحديث الذي رووه - رواياته ومعناه:(9/254)
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليحرثها أخاه فإن أبى فليمسك أرضه" أخرجه البخاري ومسلم.
وأصل هذا الحديث ما رواه جابر رضي الله عنه قال: "كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من القصرى (القصرى كبشرى بقية الحب في السنبل بعد الدياس) ومن كذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له أرض فليزرعها أو فليحرثها أخاه وإلا فليدعها"رواه مسلم وأحمد.
وفي رواية عنه كنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ الأرض بالثلث أو الربع بالماذيانات فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال: "من كانت له أرض فليزرعها فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه فإن لم يمنحها أخاه فليمسكها". وما رواه رافع بن خديج عن عمه ظهير بن رافع قال ظهير:"لقد نهانا رسول الله عن أمر كان بنا رافقاً قلت ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق قال: "دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما تصنعون بمحاقلكم؟ قلت نؤاجرها على الربيع يشترطون لأنفسهم ما ينبت على النهر وعلى الأوسق من التمر والشعير. قال عليه السلام لا تفعلوا ازرعوها أو زارعوها أو امسكوها. قال رافع: قلت سمعاً وطاعة"رواه مسلم.(9/255)
وهذه الروايات يفسر بعضها بعضاً وتدل على أنه عليه السلام لما وجدهم في المدينة يكرون الأرض بعقود مزارعة تشتمل على شروط فاسدة نهاهم عنها لإفضائها إلى التنازع والتقاتل كما صرح به في حديث سعد بن أبي وقاص وحديث زيد بن ثابت وأرشدهم إلى ما ينبغي أن يفعلوه في استغلال مزارعهم فقال مرة كما في رواية سعد: "اكروا بالذهب والفضة" وهو جائز بالإجماع لأن الكراء بهماوبما في معناهما لا مخاطرة فيه وقال مرة كما في رواية ابن عباس: "لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها أجراً معلوماً". وفي رواية: "من كانت له أرض فإنه إن يمنحها أخاه خير له". وهو صريح في عدم إيجاب منح الأرض بدون أجر. وفي جواز أخذ الأجرة لأن الخيرية والأولوية ظاهرة في الجواز. فيكون المراد مجرد استحباب المنح والترغيب فيه مواساة ورفقاً كما صرح به ابن عباس. وخيرهم مرة ثالثة بين هذا الأمر المستحب. وهو إعطاء الأرض منحة بدون أجر وبين أن يزرعوها بأنفسهم أو يتركوها بدون زرع. والأمر في الثلاثة للندب لا للوجوب بقرينة جواز تأجير الأرض بالذهب أو الفضة بالإجماع. وجواز بأجيرها بالنصف أو الثلث أو الربع على طريق المزارعة كما فعل الرسول في أرض خيبر مستمراً على ذلك إلى وفاته وكما فعل أصحابه في حياته وبعد وفاته كما سبق وقد انعقد الإجماع على عدم وجوب الإعارة بلا فرق بين المزارعة وغيرها فوجب حمل هذا الحديث على الاستحباب والندب كما أوضحه صاحب منتقى الأخبار.(9/256)
على أن الإمام الصنعاني قال في سبل السلام بعد رواية حديث النهي عن المزارعة: "إنه كان في أول الأمر لحاجة الناس وكون المهاجرين ليس لهم أرض فأمر الأنصار بالتكرم والمواساة ويدل عليه ما أخرجه مسلم من حديث جابر قال: "كان لرجال من الأنصار فضول أرض وكانوا يكرونها بالثلث والربع فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه. فإن أبى فليمسكها" وهذا كما نهوا أول الأمر عن ادخار لحوم الأضاحي ليتصدقوا بها ثم بعد أن اتسع حال المسلمين زال الاحتياج فأبيح لهم المزارعة وتصرف المالك في ملكه بما يشاء من إجارة وغيرها ويدل على ذلك ما وقع من المزارعة في عهده صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء من بعده ومن البعيد غفلتهم من النهي وترك إشاعة رافع له في هذه المدة وذكره في آخر خلافة معاوية"اهـ.
وسواء أقلنا أن أحاديث النهي عن المزارعة إنما وردت في المزارعة الفاسدة أم أن النهي عنها كان عاماً أول الأمر للحاجة ثم زال بزوال سببه فإن الذي استقر عليه الأمر في حكم الشريعة الإسلامية أن المالك حر يتصرف في ملكه بما يشاء من زرع ومزارعة وتأجير لا حجر عليه في شيء من ذلك ولا إيجاب.
ما فعله عمر في سواد العراق(9/257)
لما فتح المسلمون سواد العراق في خلافة عمر بن الخطاب رأى الفاتحون أن يقسم بينهم قسمة تملك كقسمة الغنائم فأبى عمر عليهم ذلك وقال كما في كتاب الخراج لأبي يوسف:"والله لا يفتح بعدي بلد فيكون فيه كبير نيل بل عسى أن يكون كلا على المسلمين فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها وأرض الشام بعلوجها فما يسد به الثغور وما يكون للذرية والأرامل بهذا البلد وبغيره من أهل الشام والعراق فترك الأرض مملوكة لأهلها يجوز بيعهم لها وتصرفهم فيها وضرب على رؤوسهم الجزية وعلى الأرض الخراج ليكون ما يجبي من ذلك سداداً لحاجة المسلمين عامة ينفق منه على الجيوش المقاتلة وسد الثغور وبناء القناطر والجسور وأرزاق العمال والموظفين وما إلى ذلك مما يتوقف عليه صيانة البيضة وبقاء الدولة. وقد أسلم كثير من أهل السواد فوضعت عنهم الجزية وتداولت الأيدي أرضه وأصبح ملكاً للمسلمين وغيرهم يتصرف كل مالك في ملكه بما يريد من أنواع التصرف ومن هؤلاء الملاك التابعون وتابعوهم وأئمة المسلمين والفقهاء والمحدثين ومن بعدهم على تتابع القرون إلى وقتنا هذا فأي صلة بين هذا وبين ما يدعون إله من قصر ملكية الفرد على قدر عيش الكفاف ووجوب تنازله عما زاد عن ذلك منحة للمعدمين.
الرأسمالية(9/258)
ولقد أسرف الكاتبون في الطعن على الرأسمالية مجاراة لتلك الدعايات الهادمة وصوروها للعامة بأبشع الصور فإن عنوا احتكار الملكية بمعناه الحقيقي فنحن أول من ينكره وينعى عليه وإن أرادوا مجرد الملكية كان طعنهم مراغمة للشرائع ومكابرة للعقول وقد تبين مما أسلفنا أن النظام المالي في الإسلام يحترم حق الملكية ويعاقب على العدوان عليه ويبيح للمالك حق التصرف في ملكه بما يشاء من بيع ورهن وإجارة ومزارعة وإعارة ووقف ونحو ذلك ولا يوجب عليه أن يمنح ملكه لغيره ولا أن يكتفي من زراعة أرضه بما يحصل له عيش الكفاف كما تبين من سياق الحديث الذي استندوا إليه ومما ذكره أئمة الحديث في بيانه أنه لا يمت بصلة إلى ما زعموه وكذلك فعل عمر في سواد العراق لا يؤيد ما ذهبوا إليه.
ولسنا ننكر أن أمر الطبقات الفقيرة في بلادنا يحتاج إلى علاج حاسم ونرى بالإجمال أنه لا علاج له إلا باتباع تعاليم الإسلام الحقة في النظم المالية والاجتماعية ولبيان ذلك تفصيلاً مجال آخر والله أعلم …(9/259)
علاقة المعسكر النصراني الصليبي بالمسلمين عبر التاريخ ومنطلقاتها الأساسية
بقلم فضيلة الشيخ زهير الخالد
المدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.
من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
لقد قامت - عبر التاريخ - علاقة بين المسلمين وبين المعسكر النصراني الصليبي فعلى أي أساس قامت هذه العلاقة؟
هل قامت على أساس المحبة والإخاء في الإنسانية كما يقال: وعلى التعاون المشترك على ما ينفع الطرفين بلا أحقاد ولا أضغان ولا استغلال ولا استعمار، على اعتبار أن بيننا وبينهم صعيداً مشتركاً من الإيمان بالله تعالى والدار الآخرة - كما يقولون -؟
أم قامت على أساس العداء والكره والتعصب والأحقاد والحروب الدامية؟
وما هي الأسباب الجوهرية لتلك الحروب الدامية التي كانت بيننا وبينهم؟
وهل هذه الأسباب أصيلة أم عرضية يرجى زوالها؟
أم قامت على هذا تارة وعلى ذاك تارة أخرى؟ أم على غير ذلك كله؟
ثم ما هي الحال التي آلت إليها هذه العلاقة اليوم؟ وهل هي متأثرة فيما كان بيننا وبينهم في الماضي؟ وما هو مدى تأثرها؟ أم أنها بنت اليوم لا أثر للماضي فيها ولا سلطان له عليها؟
ثم ما هي نظرة المعسكر النصراني الصليبي اليوم لنا، وما هي منطلقاتها الأساسية؟ وهل تستوي دوله وشعوبه وهيئاته ومؤسساته وكنائسه ورؤوسه في نظرتهم إلينا أم يختلفون؟ وإذا اختلفوا فما هو السر في ذلك؟(9/260)
هذا ما سأحاول الإجابة عليه - إن شاء الله تعالى - في محاضرتي هذه موجزاً ما أمكنني الإيجاز، وإن كان من عادتي - ولله الحمد - أن لا أتولى الإجابة بنفسي، وإنما أدع الحقائق التي استخلصها من أصدق المصادر التي لا يتطرق إليها شك هي التي تتولى الإجابة في مثل هذه الموضوعات الشائكة التي تشكل مجالاً كبيراً لاختلاف الاجتهادات والمذاهب، وكذلك الآراء الشخصية والرغبات الذاتية لها أثرها الواضح وحتى الأهواء والأغراض تترك عليها بصماتها.. مما يكون لهذا كله أثره العميق في حجب الرؤية الصحيحة وتشويش الصورة الحقيقية أو طمس معالمها في الأذهان.. ولكن أذهان من؟ إنها أذهان المسلمين وحدهم - وللأسف الشديد - إلا من رحم ربك وقليل ما هم بالنسبة لعامة المسلمين وذراريهم..
المصادر التي اعتمدها:
لقد قلت إنني لا أجيب بنفسي وإنما أدع الحقائق التي أستخلصها من أصدق المصادر التي لا يتطرق إليها شك هي التي تتولى الإجابة، فما هي هذه المصادر؟
إنها مصدران اثنان، هما: الوحي الإلهي في الكتاب والسنة ثم الواقع التاريخي.
المصدر الأول: الوحي الإلهي في الكتاب والسنة:(9/261)
إن وحي الله - عز وجل - سواء كان في القرآن الكريم، أو على لسان الرسول الكريم، محمد بن عبد الله - صلوات الله وسلامه عليه - هو أوثق المصادر على الإطلاق، فهو الذي لا يرقى إليه شك ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنه تنزيل من حكيم حميد. قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} فصلت: 42. ومن ثم فإن تقريراته منزّهة عما تتعرض له تقريرات البشر واستنباطاتهم من نتائج ما فطروا عليه من جهل وقصور بشري، ورغبات في النفع الذاتي ومحاباة لذوي السلطان والنفوذ والمال والجاه، أو مجاراة للتيارات السائدة، والسعي وراء الأغراض والأهواء، وكذلك مراعاة لجماهير الأمة ومحاولات استرضائها والتقرب إليها.. ومن ثم فالقيمة العظمى والكبرى للتقريرات الربانية في الكتاب والسنة.
المصدر الثاني:الواقع التاريخي:
وأعني بالواقع التاريخي: الأحداث التاريخية كما حدثت ووقعت بالفعل بأشخاصها ودوافعهم الحقيقية، وأغراضهم وأهدافهم الخاصة والعامة. وقد جاء الواقع التاريخي مصدقاً ومترجماً للتقريرات الربانية، وهذا أمر بديهي بل أكثر من البديهي إن صح هذا التعبير لأن المقرر هو الله سبحانه وتعالى الذي يستوي لعلمه الحاضر المشاهد والماضي السحيق، والمستقبل الغائب.
هذا الذي أعنيه بالواقع التاريخي وليست كتب التاريخ وما كتب فيها جملة وحوته بين صفحاتها..لأن هناك فرقاً كبيراً جداً وبونًا شاسعاً بين الواقع التاريخي كما وقع وحدث بالفعل وبين ما كتب عنه وسجل في كتب التاريخ، لا سيما التي بين أيدي أبنائنا والتي كتبت خصيصاً لأبناء المسلمين فيما أعيد كتابته من تراثنا الإسلامي وبأيدي المستشرقين النصارى واليهود أو تحت إشرافهم وبتوجيه دوائرهم حين بدأوا غزونا الفكري وسأتعرض لهذا الموضوع إن شاء الله -عز وجل - في نهاية هذه المحاضرة.(9/262)
إننا كثيراً ما نجد في هذا النوع المبثوث بين أيدي أبنائنا من كتب التاريخ لا أصل لها أو حوادث أخذت يد التغيير والتبديل تلعب فيها وتدس عليها حتى طمستها ومسخت حقيقتها،وشوهت صورتها وأعطت عنها صورة أخرى تغير حقيقتها كل المغايرة، كالافتراءات على الصحابة - رضوان الله تعلى عليهم - خير أجيال البشرية بعد أنبياء الله ورسله عليهم - الصلاة والسلام - الذين اختارهم الله تعالى لحمل أكمل دين أنزله، ولصحبه خير نبي أرسله - عليه أفضل الصلاة والسلام -. كما نجد فيها بطولات مختلقة لا أصل لها تنتحل للطوائف غير المسلمة في عالم المسلمين، في الوقت الذي نجد فيه طمساً لبطولات المسلمين تشويهاً لها بأن يجعل الباعث عليها هو طلب الدنيا ومتاعها، أو تستند لغير المسلمين وبشكل خبيث وما كر بأن يجعل امرأة أو أحد أفراد الطوائف غير المسلمة وراء أبطال المسلمين الذين يقومون بها، كما يفعل الكاتب النصراني الحاقد جُرجي زيدان، في روايات الهلال، وغيره كثير.
كما نشاهد أن كتب التاريخ التي قررت في مدارس المسلمين وفي بلادهم قد أغفلت ذكر حوادث ووقائع تاريخية على الرغم من شهرتها ووضوحها وذلك مراعاةً لفئةٍ أو طائفةٍ أو خدمةً لغرضٍ في نفس المؤلف أو سواه. ومن هذا القبيل إغفال ذكر كل صدام وقع بين المسلمين وبين الطوائف غير المسلمة وإغفال وقوف الطوائف غير المسلمة إلى جانب الصليبيين والتتار الوثنيين ضد المسلمين وذلك إلى جانب الاستعمار الأوربي في العصر الحديث ثم الزعم بعد هذا أنهم أصحاب بطولات وطنية وحرب على الاستعمار وهم الضالعون معه.
فهذا شاعر نصراني مثلاً يسمي المستعمرين الفرنسيين بالفاتحين ويتحمس لهم حين يدخلون بعض البلاد العربية ويطلب أهل ملته بالتعصب لهم فيقول:
بالمسلمين العرب والإسلام!
وتعصبوا للفاتحين نكايةً(9/263)
كذلك نجد فيها تفسيرات وتوجيهات للحوادث التاريخية، التي يستحيل طمسها، بعد مسخها، كالحروب الصليبية فقد مسخت حتى حصرت بحدود قرنين من الزمان هما السادس والسابع الهجريان، وليس هذا فحسب بل حصرت بعدة حملات صليبية جاءت على شريط ضيق على الساحل السوري والمصري فقط، ثم لما اطمأنوا إلى أن عملية المسخ هذه انطلت على الكثير من المسلمين مسخوها كلية فقالوا: إنها ليست صليبية في حقيقتها وإنما هي حروب استعمارية اقتصادية وسياسية ولكنها جاءت تحت شعار الصليب وباسم الدين، لأن العصور الوسطى هي عصور دينية، وبعد هذا المسخ المتواصل لا تكاد تجد لها بحثاً في هذا النوع من كتب التاريخ، وإنما مجرد ذكر هو للإشارة أقرب منه للبحث.(9/264)
كما نجد تفسيرات متعسفة وتوجيهات لأحداث تاريخية هامة انتصاراً لفكرة فاسدة وتأييداً لمذهب باطل..إلى آخر ما هنالك من صور التشويه والدس على تاريخ المسلمين مما لا يمكن حصره في هذه المقدمة لهذه المحاضرة..إلا أن الذي أريد أن أقوله: إن هذا النوع المشوه من كتب التاريخ قد كثر كثرة فاحشة في هذه الأيام، مما بات معه من الضروري جداً أن ينهض المسلمون لكتابة تاريخهم من جديد، فإن التاريخ الإسلامي، لم يكتب بعد كما يجب أن يكتب، ولم ينل العناية الكافية من أبنائه، بل لعلّي لا أبالغ إذا قلت أن تاريخنا الإسلامي اليوم لم ينل الحد الأدنى من العناية به من المسلمين، ومن ثم لا يوجد أمامنا منه سوى المؤلفات الضخمة التي وضعها علماؤنا الأفذاذ على طريقتهم التي لا تصل إلا للمختصين والباحثين، كما سنشير بعد قليل إن شاء الله تعالى. ونوع آخر من كتب التاريخ وهو ما عنيته بالذكر مما كتبه المستشرقون أو تحت إشرافهم المباشر أو غير المباشر وبتوجيه من دوائرهم بشتى طرق التوجيه التي أقلها ألا يصبر المؤرخ المحدث على المؤلفات القديمة أو لا يحسن البحث فيها، فلا يجد مرجعاً له سوى ما وضعه المبشرون ومؤسساتهم فيعتمدها ومن ثم تتسرب توجيهاتهم وأغراضهم إلى ما يكتب ويؤرخ، ويستنتج ويقرر، والأمثلة كثيرة على هذه الأنواع كلها..
أمام هذه الافتراءات على التاريخ تارة، والتنكر لحوادثه والتغيير والمسخ في حقائقه تارة أخرى والتفسيرات المتعسفة لوقائعه والعرض الماكر لأحداثه تارة ثالثة نجد أنفسنا مضطرين للتمييز بين الواقع التاريخ كما حدث ووقع بالفعل وبين ما كتب عنه وسمي تاريخاً!.
إلا أننا نجد أنفسنا أمام سؤال يطرح نفسه وهو: كيف السبيل للوصول إلى الواقع التاريخي كما حدث ووقع بالفعل؟(9/265)
إن الوصول للواقع التاريخي كما حدث ووقع - بالفعل - أيها الأخوة ليس مستحيلاً.. بل هو ممكن إذا صحت العزيمة وصدقت النية وتوفرت الإمكانات، إذ أن سبيله قائمة، وأولها: الوحي الإلهي في الكتاب والسنة، كما ذكرنا حيث يشكل نوراً يستضيء به المؤرخ المسلم في بحثه عن الواقع التاريخي. وثانيها: أمهات كتب التاريخ التي ألفها علماؤنا الأفذاذ كالطبري وابن كثير وابن الأثير وغيرهم كثير، وقد امتازت كتبهم بذكر السند في الرواية التاريخية مما يمكن المؤرخ المتتبع اليوم من تحري الحادثة التاريخية كما وقعت بدراسة سندها على طريقة علماء الحديث في الجرح والتعديل وكذلك تمحيص متن الرواية التاريخية على ضوء الكتاب والسنة لاسيما إذا كانت تتعلق بالصحابة -رضوان الله تعالى عليهم - وتتعرض لعدالة أحد منهم.. الخ. وبذلك يتمكن المؤرخ من تحري الواقعة التاريخية، وإبعاد ما تعرض لنسيان الراوي - زيادة كان أو نقصاً - أو ما تعرض منها لتشيع الراوي أو غير ذلك من الشوائب التي تنقص من قيمة الواقعة التاريخية. بل إن بعض مؤرخينا الأفذاذ ساروا على هذه الطريقة في تجريد بعض الروايات وترك الأخرى جرياً على عادتهم في جمع كل ما يصلون إليه من روايات التاريخ دون تمحيص تاركين لمن يأتي بعدهم أن يقوم بهذه المهمة، بعد أن مهدوا له الطريق بذكر سند الرواية التاريخية. جزاهم الله تعالى عن الإسلام والمسلمين خيراً.(9/266)
لا شك أن هذا عمل ليس من السهولة بحيث يستطيع القيام به رجل واحد أو رجلان لا سيما إذا كان مشغولاً بالسعي لطلب الرزق له ولمن يعول. بل لا بد من توافر جهود المثير من المعنيين بدراسة التاريخ ممن عندهم الاستعداد النفسي والوعي الفكري والثقافي، والنضج العلمي، وتفريغهم لهذا العمل الهام جداً، والذي ستتعمق معرفتنا لأهميته كلما أدركنا مدى خطورته بالنسبة لنا ولمستقبل أمتنا..وليس من الضروري طبعاً أن يجتمع العدد المطلوب في مكان وزمان واحد، فإن حصل هذا فذلك غاية النهى في هذا المطلب العزيز، وإن لم يتوفر فحسبنا أن نشق الطريق أو نمشي بضع خطوات أو نقطع مرحلة منه تاركين لمن يأتي بعدنا متابعة السير في طريق شق وبدئ السير فيه حتى يصل المسلمون بإذن الله - تعالى - إلى هذه الغاية المرجوة من كتابة تاريخهم الإسلامي وتاريخ العالم كما يجب أن يكتب بأيدي مسلمة أمينة واعية. وأليس تقصيراً من المسلمين يخشى أن يكونوا آثمين فيه أن ينهض أعداؤهم لكتابة تاريخهم الإسلامي وصياغته وفق أغراضهم، والمسلمون ينظرون، أو يقتفون آثارهم وتنطبع في أذهان أبنائهم وأجيالهم وذراريهم الصور المشوهة التي أرادها أعداؤنا عن سلفنا الصالح وعظمائنا، مما دفع الكثير من أبناء المسلمين أن يستحيوا من الانتساب إلى تاريخهم وسلفهم الصالح ويتجملوا بتقليد أعدائهم؟.
إن إعادة كتابة تاريخنا الإسلامي أمر يحتاج إلى جهود ضخمة، هذا صحيح ولكن أي جهد صادق واع خلص لله - سبحانه - يبذل فيه لا بد أن يؤتي ثماره الطيبة بإذن الله تعالى ولو بعد حين.
ماذا نعني بمصطلح معسكر؟(9/267)
إن الدارس لأحوال الناس الدينية والاجتماعية والفكرية يلحظ ظاهرة هامة جداً في حياة الناس وهي: أن الناس يجتمعون بناء على اتفاقهم في الدين والعقيدة والفكرة والمذهب.. ويفترقون إذا اختلفوا فيها.. وليست هذه الظاهرة إلا ترجمة لما فطر عليه جنس الإنسان وهو الارتياح إلى من يشاركونه في الدين والعقيدة، والفكرة والمذهب والميل إليهم وموالاتهم والاندفاع لمناصرة قضاياهم والتحمس لها. وبالعكس من ذلك فإنه لا يرتاح إلى من يخالفونه في ذلك ويشعر بغربة دينهم، وينفر منهم، بل ويحاربهم إذا اقتضى الأمر مهما تكن الروابط المادية بينه وبينهم، وما ذلك إلا لأن الآصرة التي يجتمع عليها الناس ويفترقون، هي الدين والعقيدة، أو الفكرة والمذهب وليست اتحاد الجنس والنسب أو الاشتراك في الأرض والحدود الجغرافية أو السياسية وليست هي المصالح والمنافع القريبة.. فهذه كلها أمور عرضية لا علاقة لها بجوهر الإنسان الكريم..
ألا ترى إلى اليهودي كيف يتحمس لقضايا اليهود في العالم ويناصرها، ويوالي قيادتهم ولا يطمئن إلا لليهودي وقد كشف القرآن الكريم لنا كيف يوصي بعضهم بعضاً ويقولون: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} (آل عمران: 73)
وكذلك الماركسي (شيوعياً كان أو اشتراكياً) هواه مع العالم الماركسي ودوله وأحزابه الشيوعية والاشتراكية، فيهتم لأخبارهم ويناصر قضاياهم ويدافع عن موقفهم وقضاياهم ويبرر أخطاءهم حتى ولو كانت ضد شعبه هو أو ضد بلده وقضاياه..
وقل مثل ذلك عن النصراني والوثني.(9/268)
أما شأن المسلم فهو أكثر وضوحاً فهو يهتم لأمر المسلمين، فيحزن لما أصابهم ويفرح لما نالوه من خير في مشارق الأرض ومغاربها، فإن لم يجد مثل هذا الشعور فهو دليل المرض في قلبه، والضعف في إيمانه، وما أصدق وأعمق دلالة هذا الأثر: "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم".. بل إن المسلم مأمور بنص كتاب الله - تعالى - وسنة رسوله - عليه الصلاة والسلام - أن لا يوالي بعد الله - سبحانه - ورسوله-صلى الله عليه وسلم - غير المسلمين الملتزمين بإسلامهم الذين لم يخلطوا معه مبدءًا أو مذهباً أو شعاراً آخر ليس من الإسلام. قال تعلى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} .. الآيات.
ثم يقول تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (المائدة: 51-52-55-56) .(9/269)
وهكذا وبسبب هذه الفطرة وكون العقيدة هي جوهر الإنسان، فإن الإنسان يجد مع الذين يشاركونه في الدين والعقيدة، والفكرة والمذهب، وحدة آمال وأهداف، وأفراح وأتراح وبواعث ومواقف، ويشكل معهم كتلة واحدة، وجبهة واحدة أو معسكراً واحداً.. فالمعسكر إذن هو: أتباع الدين الواحد أو العقيدة الواحدة أو المذهب الواحد.. الخ. وما ينشأ عن هذا الإيمان من مشاعر وعواطف وانفعالات ومواقف متشابهة أو واحدة، وكذلك من عمل وسعي لمناصرة قضاياه وموالاة قياداته ورؤوسه.
هذا وإن دراسة واعية للتاريخ والحاضر تكشف لنا أن أتباع الدين أو المذهب أو الفكرة الواحدة الذين يعملون لها ويناصرون قضاياها ويتخذونها قضاياً لهم، ويجعلونها منطلقاً أساسياً لهم في موقفهم من غيرهم ومعاملتهم.. يشكلون فيما بينهم معسكراً واحداً على اختلاف مستوياتهم ورقعة الأرض التي يسكنونها وكذلك - ولعلنا لا نبالغ - إذا قلنا مع اختلاف أزمانهم..فالواقع التاريخي إذن يثبت هذا الذي نذهب إليه.
وبناء على هذا فاليهود على اختلاف أجناسهم وهيئاتهم وجماعاتهم ومؤسساتهم يشكلون معسكرًا واحدً هو المعسكر اليهودي الصهيوني..
وكذلك النصارى يشكلون معسكراً واحداً هو المعسكر النصراني الصليبي.
والشيوعيون والاشتراكيون الماركسيون يشكلون المعسكر الماركسي الملحد.
والوثنيون يشكلون المعسكر الوثني المشرك..
وهذه المعسكرات كلها تشكل فيما بينها وعلى اختلافها حزباً واحداً هو حزب الشيطان..
ولما كانت هذه المعسكرات لا تهتدي بهدي الله تعالى ولا تحكم شريعته - سبحانه -(9/270)
ولما كانت الجاهلية هي كل حالة أو وضع لا يهتدي بهدي الله تعالى ولا يحكم شريعته - سبحانه - وليست فترة زمنية محدودة [1] ، فوصف الجاهلية يشملهم جميعاً، فهم إذن معسكرات جاهلية وأممهم أمم جاهلية، بل كافرة ومشركة. وقد نص القرآن الكريم والسنة المطهرة على كفرهم جميعاً اليهود والنصارى والمشركين والملحدين. والكفر يشكل بينهم عاملاً مشتركاً "الكفر ملة واحدة".
أما المسلمون فإنهم يشكلون فيما بينهم ومن دون الناس جميعاً أمة واحدة هي الأمة المسلمة أو الإسلامية، ومعسكراً واحداً هو المعسكر الإسلامي، وحزباً واحداً هو حزب الله تعالى ما داموا متمسكين بكتاب الله تعالى وسنة - رسوله صلى الله عليه وسلم -.
من هذا الواقع وهو كون المعسكرات الجاهلية كلها كافرة، وكون المسلمين يشكلون أمة من دون الناس، من هذا الواقع نشأت علاقة غير المسلمين بالمسلمين وتحدد نوعها وهو العداء. عداؤهم لنا وقد كشف القرآن الكريم عنها بقوله تعالى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} (النساء:101) .
وفي القرآن الكريم آيات أخرى وردت كهذه الآية الكريمة، بصيغ نهائية قطعية مما يفيد أن عداوتهم ليست عرضية زائلة بل هي أصيلة طويلة الأمد لا يرجى لها زوال ما دام على الأرض كفر وكفار.
هذا وقد نشأ عن هذا العداء الأصيل للمسلمين من قبل غيرهم حقيقتان تاريخيتان هما:
الأولى: استحالة المصلحة والتعايش بسلام دائم بين المسلمين وأي من المعسكرات الجاهلية سواء كانوا الصهاينة أو الصليبيين أو الملحدين أو الوثنيين، وقد بيّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استحالة هذا اللقاء والتعايش واستحالة المصالحة بين المؤمنين والكافرين بقوله: "لا تراءى ناراهما".(9/271)
وإذن لا يمكن أن يتعايش المؤمنون المسلمون مع الكافرين أياً كان دينهم ومعسكرهم إلا إذا أمكن أن يعيش الإيمان إلى جانب الكفر في قلب رجل واحد، وهذا مستحيل، نعم مستحيل لأن المعركة قائمة منذ بدء الحياة البشرية إلى ما يشاء الله تعالى بين الإيمان والكفر، وبين الإسلام والجاهلية بين الهدى والضلال بين الحق والباطل، بين التوحيد والشرك.. ومن ثم فالمعركة قائمة ومستمرة بين المؤمنين المسلمين أتباع الحق والهدى، أهل التوحيد وبين الكافرين أتباع الباطل والضلال أهل الشرك والوثنيات..
أما سبب هذه المعركة الطويلة الأمد وسرها فهو الخلاف الأصيل والمناقضة التامة بين الإسلام وطبيعته وما يهدف إليه في حياة البشر، وبين الكفر وطبيعته وما يهدف إليه في حياة البشر..
الإسلام بما في طبيعته من حق يريد تحرير الناس من العبودية لغير الله - تبارك وتعالى - أياً كان شكل هذه العبودية وصورتُها، ويريد إخلاصها لله -تعالى -وحده، فلا يعبد غير الله - تعالى - معه أو دونه.
أما الكفر فبما في طبيعته من بغي (ممثلاً بإبليس عليه لعنة الله - وجنده وأوليائه) فيريد فتنة الناس عن دين الله - تبارك وتعالى - وتعبيدهم لغير الله - سبحانه -.
{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (الأعراف 16 - 17) .
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (القصص: 38)(9/272)
وهدّد فرعون موسى - عليه الصلاة والسلام - قائلاً: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} (الشعراء: 29) . فهو لا ترضيه السيطرة على أوضاع الناس بل يطغى للسيطرة على عقولهم وقلوبهم فلا تنشرح لشيء إلا بعد استئذانه ولو كان الإيمان بالله تعالى. قال فرعون لسحرته حين أسلموا ولم يستأذنوه بانشراح صدورهم للإيمان بالله تعالى وتغيير معتقدهم الباطل، وتصديق موسى -عليه الصلاة والسلام - {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} (طه 71) . إنها بنظر الكفر هي الجريمة الكبرى التي يستحقون عليها القتل والصلب وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف فهددهم قائلاً: {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} .
والإسلام بما في طبيعته من طهر ونظافة يريد تطهير الناس وضمائرهم وبيوتهم وواقعهم من لوثات الكفر والفسق والعصيان.
ولكن الكفر بما في طبيعته من انحراف وفجور ورجس: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (براءة 28) يكره هذا الذي يريده الإسلام للناس وينقم عليه، لأنه يريد لهم الانحراف واتباع الشهوات.
قال تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} (النساء26) .
والإسلام بما في طبيعته من حيوية وحركة وجد ينطلق يجاهد الكفر أنّى وُجد ويطارده من القلوب والعقول، ومن واقع الناس وأنظمتهم.. وقد ظهر إصرار الإسلام، على مطاردة الكفر، في انطلاقه خطوة بعد خطوة، وغزوة بعد غزوة، ومرحلة بعد مرحلة، يطارد الكفر ويحطم قواه التي بها يصول ويجول، ويزيل أنظمته وأوضاعه الجاهلية التي يعبد بها الناس لغير ربهم - سبحانه - ويفتنهم عن دين الله تعالى وهداه. [2](9/273)
وأما الكفر فهو الآخر بما في طبيعته من طغيان يعمل على محاربة الإسلام وملاحقته والصد عنه ما واتته الفرصة من ليل أو نهار، وقد ظهر إصرار الكفر على محاربة الإسلام ومحاولات رد المسلمين عن دينهم في ظاهرتين اثنتين:
الظاهرة الأولى: مسارعة رؤوس الكفر وأئمة الضلال في قوم كل نبي يرسله الله - تعالى - للوقوف في وجه نبيهم - عليه الصلاة والسلام - والصد عن دين الله - تعالى - وفتنة المؤمنين به.
الظاهرة الثانية: مسارعة المعسكرات الجاهلية لنقض عهودها مع المسلمين حالما تلوح لهم فرصة ضعف المسلمين وعجزهم عن تأديب ناقضي العهد معهم.
وهكذا نجد أن كلاً من الإسلام والكفر يعمل بإصرار على إزالة الآخر من العقول والضمائر والقلوب ومن حياة الناس وأوضاعهم وأنظمتهم، لأنه لا يوجد أحدهما إلا حيث يخسر الآخر وينسحب، ولا وجود لأحدهما إلا على حساب الآخر، وأن بداية أحدهما في عقل أو ضمير أو قلب، أو وضع أو نظام أو مكان هي بداية النهاية للآخر..
قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (الأنفال:39) .
وقال تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} (التوبة: 36) .
وقال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (البقرة: 217) .(9/274)
2- أما الحقيقة التاريخية الثانية فهي تعاون القوى الكافرة ومعسكراتها ضد الإسلام والمسلمين.. وهذا ما كشف عنه الكتاب والسنة أيضاً في أكثر من آية وحديث.. وبأكثر من أسلوب تصريحاً وتلميحاً.. من ذلك جمع الكفار كلهم في سياق آية واحدة، والحديث عن مرادهم في المسلمين وموقفهم منه مما يدل على وحدة بواعثهم وأهدافهم تجاه الإسلام والمسلمين، وكذلك وحدة مواقفهم كقوله تعالى - على سبيل المثال لا الحصر: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} (البقرة: 105) [3] .
أما الواقع التاريخي فقد ترجم هذه الحقيقة وأظهرها خلال الأربعة عشر قرناً من الزمان "لمن كان له قلب أو القي السمع وهو شهيد" وما يزال يظهرها اليوم ويبينها أجلى ما يكون بياناً..
وهذه الحقيقة التاريخية وسابقتها تحتاج إلى محاضرة مستقلة إن لم يكن أكثر من محاضرة، وأرجو أن أوفق لذلك في المستقبل بإذن الله تعالى. وهذه إشارات خاطفة على سبيل المثال لا الحصر:
أيها الأخوة: كلنا يعلم الحروب الطويلة الأمد التي كانت بين الفرس والروم، وأن هذه الحروب توقفت فجأة بظهور الإسلام وتحولت القوتان المتخاصمتان دهراً طويلاً إلى قوتين متعاونتين ضد الإسلام والمسلمين..فحارب المسلمون على الجبهتين الفارسية والرومية في وقت واحد ونصرهم الله تعالى عليهما..(9/275)
كذلك إن الذي يدرس تاريخ الحروب الصليبية وغزو التتار لبلاد المسلمين يعلم السفارات التي كانت تتبادل بين دول المعسكر الصليبي وإماراته ورؤوسه وبين التتار في بلادهم قبل بدئهم بغزو العالم الإسلامي، ولما جاءوا إلى بلاد الإسلام انضم إليهم غير المسلمين من الطوائف الأخرى في بغداد وبلاد الشام وغيرهما وتعاونوا معهم، بل إن النصارى هللوا واستبشروا بقدوم التتار الوثنيين واعتبروا غزوهم لبلاد المسلمين حملة صليبية جديدة جاءت من الشرق بدلاً من أن تأتي من الغرب، وقد رأينا كيف أنه لم ينج من مذبحتهم الرهيبة في بغداد إلا هؤلاء الذين تعاونوا معهم من الطوائف غير المسلمة، ومنحهم الغزاة قصور المسلمين وأمرائهم الذين ذبحوا منهم من ذبحوا، وفر منهم من استطاع الفرار، واختفى الباقون في الأقنية والسراديب، فلما خرجوا لقوا حتفهم بسبب المرض الذي فتك بهم.
أما تعاون القوى الكافرة والمعسكرات الجاهلية فيما بينها اليوم ضد الإسلام والمسلمين وقضاياهم فهي أوضح من أن تحتاج إلى بيان في فلسطين وباكستان الشرقية والفلبين والحبشة بل في إفريقيا كلها وفي كل قضية يكون المسلمون طرفاً فيها..
أيها الأخوة: إن إدراكنا لهذا الواقع، وهو كون المسلمين أمة من دون الناس، وكون الكفر عاملاً مشتركاً بين سائر المعسكرات الجاهلية "الكفر ملة واحدة"..
وإن إدراكنا لسر الصراع الطويل الأمد بين الحق وجنده، وبين الباطل وجنده.. إن هذا يمكننا من إدراك عدة أمور هامة جداً في حياتنا اليوم، يجب أن تبحث وتفصل حتى يعرفها شبابنا وأبناؤنا ليكونوا على بصيرة بعصرهم هذا الذي أقبلت فيه الفتن كقطع الليل المظلم، وركب بعضها بعضاً، وأخذ بعضها برقاب بعض، بحيث تدع الحليم حيراناً، فما بالك بغير الحليم؟! ..(9/276)
ومن هذه الأمور: انه يمكننا من فهم طبيعة الجهاد في سبيل الله- تعالى - وبواعث المجاهدين من سلفنا الصالح ولماذا كانوا لا يقتلون إلا المقاتلين الذين لا يرمون السلاح وهو يمكننا من فهم أسباب الحروب الطويلة التي شنتها المعسكرات الجاهلية على المسلمين في كل مكان غلب فيه المسلمون على أمرهم، وكذلك لماذا كانت حروبهم معنا ولنا حرب إبادة واستئصال؟
وهو يمكننا من فهم أسرار الطغيان وعمليات السحق الوحشية لشباب المسلمين والفتك بعلمائهم وقادة فكرهم على أيدي الأنظمة الجاهلية وأوضاعها، ومطاردتهم وتشريدهم؟ !
وهو يمكننا كذلك من فهم الصمت المطبق في وسائل الإعلام العالمية حين تكون الضحية مسلمة والقضية إسلامية، والضجة الكبرى حين يوجه إيذاء لغير المسلمين أو يمنعون من ممارسة شعائرهم أو نشاطاتهم؟ [4]
كما أنه يمكننا من إدراك حقيقة العلاقة التي قامت عبر التاريخ وتقوم الآن بيننا وبين المعسكر النصراني الصليبي هو أحد معسكرات الكفر، ومن ثم فعلاقته بنا إذن تنبثق من العداء الأصيل بين الحق وأهله وبين الباطل وأهله، وأن كل ما بين الإسلام والكفر من عداء وإصرار كل منهما على ملاحقة الآخر وتعقب آثاره لتصفيته من دنيا الناس وواقعهم وقلوبهم وضمائرهم هو قائم بين المؤمنين المسلمين وبين المعسكر النصراني الصليبي.
قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة: 29) .
وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة: 120)
وهذا ما ترجمه الواقع التاريخي طوال الأربعة عشر قرناً من الزمان..(9/277)
أيها الأخوة: لقد قلنا: من واقع كون المسلمين أمة من دون الناس جميعاً، وكون المعسكرات الجاهلية كلها كافرة نشأت علاقة غير المسلمين بالمسلمين وتحدد نوعها وهو عداؤهم لنا عداء أصيلاً مستمراً لا يرجى له زوال ما دام على الأرض كفر وكفار أو يتحول المسلمون عن دينهم إلى الكفر - والعياذ بالله تعالى -، وأن القرآن الكريم كشف عن هذا بقوله تعالى: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} هذا من جهة، ومن جهة أخرى: فإن الإسلام بما فيه من حق وطهر وحيوية وحركة لا بد وأن ينطلق يحرر الناس ويطارد الكفر بشتى صوره، ويحطم قواه التي يصول بها ويجول ويزيل أنظمته الجاهلية وأوضاعه التي يفتن بها الناس عن دين الله - تعالى - ويصدهم عنه.. وكان بديهياً ومنتظراً أن يصطدم بالمعسكر النصراني الصليبي القابع في شمال الجزيرة العربية - باعتباره أحد معسكرات الكفر - والذي بدأ يتحرك ويتحفز للانقضاض على المسلمين منذ أن أصبح لهم دولة وقوة في هذه المدينة المنورة، ويترجم بذلك خوف الكفر وحذره من انطلاق الإسلام وإصراره على حرب الإسلام ومحاولات القضاء عليه، ومدفوعاً بطغيان الكفر وبغيه وكرهه للإسلام.. فكانت غزوة مؤتة وكانت غزوة تبوك، وغيرهما..(9/278)
هذا بعض ما كان منه، أو بدأ به، أما ما كان من الإسلام.. فإن الإسلام ما أن أخضع الجزيرة العربية واستخلصها لنفسه قاعدة له لا يشاركه فيها دين آخر "لا يجتمع في جزيرة العرب دينان"حتى بدأ بالزحف على المعسكر النصراني في انطلاقه العام لتحرير الناس كلهم وتعبيدهم لخالقهم وحده، فكانت اليرموك وكان غيرها..واستمر الصراع حتى اليوم، لم يهدأ، ولم يفتر، بل كثرت ألوانه وأساليبه، وترك بصماته قوية على مكانة العالم النصراني العالمية، وأحدث تغييراً كبيراً في خارطته وأوضاع الشعوب التي كانت تخضع له، مما كان له تأثيره العميق على تفكيره ونفسيته، واتصالاته بنا وتجاربه التي خرج بها خلال هذه القرون الأربعة عشر، فنشأت من ذلك أمور أخذت مع الزمن تترسم في أذهان قادته ورؤوسه من ملوكه وأمرائه ورجال كنيسته وتترسخ في قلوبهم ومشاعرهم وتشكل منطلقات أساسية لنظرتهم إلينا وعلاقتهم بنا، لا يستطيعون فكاكاً منها، ولا تخلصاً من ضغطها بل التحمت بلحمهم وعظمهم، وسرت روحاً في كيانهم لا تفارقهم لحظة من ليل أو نهار.. وقد كانت أولى هذه الأمور: روحاً صليبية حاقدة..فما هي الروح؟ وكيف تشكلت عبر التاريخ؟ وما هو مدى تأثيرها على نظرتهم إلينا وعلاقتهم بنا؟
هذا ما أبدأ الإجابة عليه (بإذن الله تعلى) .
الروح الصليبية ونشأتها:
1- لقد كان عيسى بن مريم - عليه الصلاة والسلام - آخر الرسل قبل سيدهم وخاتمهم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
ومن ثم كان حواريوه من بعده هم أساتذة العالم ومرشدي الأمم..(9/279)
لكن المسيحية أصابها انحراف كبير وخطير نقلها من ديانة توحيدية سهلة إلى ديانة وثنية معقدة وذلك في عهدها الباكر، وفي منتصف القرن المسيحي الأول على يد اليهودي الماكر (بولس) . إلا أن النصارى ممثلين برجال كنيستهم ظلوا يمنحون أنفسهم وكنيستهم ذلك الاعتبار الذي كان لحواريي عيسى - عليه الصلاة والسلام - وحواريوه - رحمهم الله تعالى - وعلى الرغم من إمعانهم في تحريف ما ورثوه من هذه النصرانية المحرفة وحشوها بالخرافات والأضاليل الكنسية، حتى ظهور الإسلام، وحتى يومنا هذا..
فلما ظهر الإسلام بتوحيده الصافي وحقه المبين، كشف انحراف النصرانية وبطلان ما آلت إليه وأظهر ضلال رجال كنيستها وأتباعها وأقصاهم عما زعموه لأنفسهم من أستاذية العالم وهدايته، وآلت الصدارة للإسلام وغدا المسلمون هم أساتذة العالم وهداة البشرية وقادة الأمم ومرشدي الناس إلى الحق والهدى، وانتزعوا تلك المكانة من النصارى (كما انتزعوها من اليهود في هذه المدينة المنورة بعد الهجرة إليها) .
وقضى المسلمون على ما كان لرجال الكنيسة من سلطة ومصالح، وما زعموه لأنفسهم من وصاية على البشر وأوضاعهم وعلى عقولهم وأرواحهم، وما فرضوه عليهم من حق السخرة وما ابتزوه من أموالهم ضريبة يؤدونها إلى رجال الكنيسة دون تلكؤ أو تردد أو مراجعة أو استفسار.. وهذا كله عدا تعبيدهم لهم من دون الله -تبارك وتعالى -..
قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم".
فكانت ذلك سبباً أصيلاً وعميقاً في كراهية النصارى - لاسيما رجال كنيستهم - للإسلام والمسلمين، وكان وراء ذلك محاولاتهم المستمرة للصد عن الإسلام ورد المسلمين عن دينهم أو القضاء عليهم وعلى إسلامهم..(9/280)
قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة: 120) .
وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقّ} (البقرة: 109) .
2- ثم نشأ سبب آخر زاد في عمق وتأصيل كراهية النصارى - لا سيما رؤوسهم من رجال كنيستهم وملوكهم - للإسلام والمسلمين، والجهد في حرب المعسكر الإسلامي.. هذا السبب هو: انطلاق الإسلام في الأرض لتحرير الناس من العبودية لله تعلى وحده ولإخراجهم من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.. واصطدامه بالمعسكر النصراني الصليبي وتحطيمه جيوشه وأنظمته.. والفتوحات التي أحرزها في العالم النصراني نفسه، وانتزاعه منه بلاد الشام ومصر وشمال إفريقيا، ووثبته على الأندلس وتوغله في أوربا من الغرب حتى شاء الله - تعالى - أن يقف المسلمون في تلك الجولة قريباً من (باريس) عاصمة فرنسا، ثم دخوله أوروبا مرة أخرى من الشرق وانتزاعه منه الأناضول والبلقان، وقضاؤه على الإمبراطورية البيزنطية وفتحه عاصمتها القسطنطينية وتحويلها إلى عاصمة الإسلام (إسلام بول) وتوغله بعدها في قلب أوروبا حتى شاء الله - عز وجل - أن يقف في هذه الجولة عند أسوار فيينا عاصمة النمسا. وكذلك صعوده على أوروبا من الجنوب من إيطاليا حتى دق أبواب روما وهدد دولة الفاتيكان. ثم صعوده على روسيا القيصرية وانتزاعه منها أطرافها الجنوبية والشرقية..
وجد المعسكر النصراني الصليبي نفسه أمام عملاق قوي خرج من هذه المدينة المنورة، فحطم له قواه وجيوشه التي كان بها يصول ويجول ويحكم بها نصف العالم، وطارده حتى حصره في أوروبا وحدها بل في جزء منها وطوقه من الشرق والغرب بذراعين قويتين يهدده بهما صباح مساء..(9/281)
فكان هذا، أيضاً، سبباً في تأصيل كراهية المعسكر النصراني الصليبي وعدائه للإسلام والمسلمين وتعميق هذه العداوة والكراهية وامتزاجها بلحنه ودمه وعظمه وعصبه، وغدوها جزءاً من تركيبه وتحولها إلى روح خبيثة من الحقد الدفين الذي أُترع به قلبه، وامتلأ بها صدره وأكلت كبده، فظهرت على ألسنة رؤوسه ورجاله {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} (آل عمران: 119) .
هذه الروح الحاقدة على الإسلام والمسلمين هي الروح الصليبية..
فالروح الصليبية إذن: هي روح العداء والحقد والكراهية للإسلام والمسلمين في نفوس رؤوس المعسكر النصراني الصليبي، من رجال كنيسته وملوكه، ومن والاهم وأطاع أوامرهم وخضع لهم وعمل بتوجيهاتهم واقتفى أثرهم في كره الإسلام والمسلمين وحربهم والحقد عليهم..(9/282)
لقد سرت هذه الروح في جسم المعسكر الصليبي - بفعل رؤوسه - حتى كادت تشمل كيانه وتتغلغل في أجزائه وتشمل شعوبه وجماعاته وطوائفه وأفراده لولا وجود مجموعات أو طوائف بدت منهم المودة للإسلام والمسلمين، بسبب بقائهم أو قربهم من التوحيد الذي جاء به عيسى - عليه الصلاة والسلام - ولذا بقيت بمنأى عن التلوث بهذه الروح الخبيثة، التي دأب رجال الكنيسة وسواهم من رؤوس المعسكر النصراني الصليبي على غرسها وإحيائها في شعوبهم وأتباعهم تضليلاً لهم وحقداً على الإسلام والمسلمين، ومن ثم دخلت مجموعات من هذه الطوائف في الإسلام حين وصلها وعرفته، كما فعلت طائفة منهم كانت في إقليم (البوسنة) تدعى (طائفة البوغوميل) (رفضوا عبادة السيدة مريم، وأبوا نظام التعميد، وأنكروا الصليب رمزاً دينياً، واعتبروا الانحناء أمام الصور الدينية والتماثيل إنما هو ضرب من عبادة الأصنام، وكرهوا نواقيس الكنائس وأطلقوا عليها أبواق الشياطين، وكانت دور صلاتهم على درجة كبيرة من البساطة والبعد عن الزينة والزخارف على عكس الكنائس الكاثوليكية التي كانت تتميز بالزخارف الزاهية.. وفوق هذا كله كان أفراد هذه الطائفة يعتقدون أن المسيح نفسه عليه الصلاة والسلام لم يصلب ولكن حل محله شبح آخر، وهم يتفقون مع الآية الكريمة التي جاء فيها {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} (النساء: 157) وكانوا يحرمون على أنفسهم شرب الخمر ويحرصون على أن يكون سلوكهم الخارجي وعلاقاتهم الاجتماعية مبرأة من العيوب التي حفلت بها المجتمعات المسيحية في أوروبا في ذلك الوقت.(9/283)
"وكان من الطبيعي أن تنظر الكنيسة شذراً إلى هذه الطائفة ودعت البابوية إلى شن حملات صليبية عليهم، وقد تعرضوا لموجات من الاضطهاد العنيف على يد ملوك البوسنة الذين كانوا يستجيبون إلى توجيهات البابوية في روما. واستغاثت أفراد هذه الطائفة بالأتراك العثمانيين في القرن الخامس عشر لتخليصهم مما هم فيه من اضطهاد وبؤس وشقاء. ولما غزا السلطان محمد الفاتح البوسنة في سنة 1464م انضمت طائفة البوغوميل إلى الفاتحين، واستولى الجيش العثماني في خلال أسبوع واحد على معظم مدن البوسنة، وعلى إثر الفتح العثماني دخل البوغوميل في الإسلام أفواجاً بمحض إرادتهم، إذ وجدوا الفروق ضئيلة جداً بين مذهبهم وبين تعاليم الإسلام. أما البقية الباقية من أفراد هذه الطائفة فقد أسلموا تدريجياً. وبقي الكاثوليك من أهالي البوسنة على ديانتهم وآثروا الهجرة إلى النمسا والمجر " [5] .(9/284)
ولعل هؤلاء النصارى (طائفة البوغوميل وأمثالهم) كأولئك الذين وجدوا في عصر الدعوة الإسلامية الأول ولم يجدوا في نفوسهم ما وجد غيرهم من الكبر الذي يصدهم عن الإسلام فأسلموا.. لعل هؤلاء وأولئك هم المعنيون بقول الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ. وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ. فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (المائدة: 82-86) .(9/285)
وهكذا نجد أن الروح الصليبية نشأت منذ وجد للإسلام كيان ودولة في هذه المدينة المنورة وانتزع من النصارى ما زعموه لأنفسهم من مكانة دينية، ثم تفجرت وغلى مرجلها بعد الصدام المسلح الذي وقع بين المسلمين والدولة البيزنطية لا سيما بعد معركة اليرموك الظافرة التي لقيت فيها جيوشهم هزيمة نكراء تحطمت فيها قواهم وخرج بعدها رأسهم هرقل إمبراطور الدولة الرومانية من بلاد الشام هارباً والأسى والحزن يعصر قلبه عصراً، وقد عبر عن ذلك حين ركب البحر واستقل السفينة وألقى نظرات الوداع الأخيرة على شواطئ سورية الجميلة فلم يملك نفسه أن أطلق صرخة أودعها كل ما عنده من أسى وحزن وكمد فصاح قائلاً: الوداع، الوداع، إلى الأبد يا سورية، وداعاً لا لقاء بعده. وقد كان كذلك ولله الحمد …
لقد نشأت هذه الروح منذ ذلك الحين ثم ما زادتها الأيام والأحداث إلا اشتعالاً واتقاداً وتفجراً وغلياناً، إذ دأب رجال الكنيسة إلى إبقاء جذوتها متقدة متوهجة، منتهزين كل انتصار يحرزه المسلمون ليسهل عليهم تسخيرها في أي وقت لدفع الكتل البشرية النصرانية في موجات تخريبية من الغزو الصليبي المدمر، والفتك بالمسلمين كلما قدروا عليهم.. وليس هذا فحسب بل أراد رؤوس المعسكر النصراني الصليبي أن يجعلوا هذه الروح الحاقدة تقليداً لأتباعهم وشعوبهم وطقساً من طقوسهم يشيب عليها الكبير، وينشأ عليها الصغير، ويرضعها الوليد مع لبن أمه.. وذلك حتى يمسي التخلص من الإسلام ورد المسلمين عنه أو إبادتهم هو الشغل الشاغل لكل نصراني على وجه الأرض وليس فقط لرؤوس المعسكر النصراني الصليبي..(9/286)
وهكذا نجد أن الروح الصليبية ذات تأثير عميق جداً على نظرة المعسكر النصراني الصليبي إلينا ومن ثم علاقتهم بنا، إلى درجة أنها تشكل شطر منطلق على نظرة المعسكر النصراني الصليبي إلينا أما الشطر الآخر لهذا المنطلق فقد نشأ من نفس الظروف والأحداث التي نشأت عنها الروح الصليبية.. هذا الشطر الآخر: هو الثأر القديم الذي يشعر به المعسكر النصراني الصليبي تجاه الإسلام والمسلمين..
الثأر القديم:
أيها الأخوة: فقد قلنا إن المعسكر النصراني الصليبي وجد نفسه أمام عملاق خرج من هذه المدينة المنورة فانتزع منه مكانة الأستاذية والإرشاد في العالم، وما زعمه لنفسه من مكانة دينية في غفلة من الناس وبعدهم عن دين الله تعالى.. وانتزع منه شعوباً وأمماً كانت تخضع له وتدين لملوكه وكنيسته بالطاعة فأصبحت من جند الإسلام المخلصين تحمله وتفتح به البلاد وتهدي العباد بإذن الله تعالى..
وانتزع منه أيضاً أراضٍ واسعةٍ وبلاداً شتى كان ينفرد وحده باستغلال خيراتها لا يشاركه فيها أحد من الناس..
وانتزع كذلك أربع مدن رئيسية من أعز خمس مدن عليه في العالم وهي: (القدس، وإنطاكية، ونيقيه، والقسطنطينية) وبات يهدد الخامسة بالفتح وهي (روما) .
وفوق هذا كله فقد قضى على إمبراطوريته البيزنطية التي كان يعتبر إمبراطورها رأساً للعالم النصراني، ونائباً عن الله - تبارك وتعالى عن ذلك علواً كبيرًا.
وهكذا وجد المعسكر النصراني الصليبي نفسه أمام عدو طعنه طعنات نجلاء، وجرحه جروحاً غائرة لا تندمل، ولا يمكن أن تندمل حتى يثأر لنفسه منه، ويسترد - بزعمه وتصوره -مكانته
وسائر ما انتزعه الإسلام منه من البلاد والعباد، وهداها الله تعالى به..(9/287)
إلا أن أشد ما أثار المعسكر النصراني الصليبي وأقامه ولن يقعده هو فتح الإسلام لبلاد الشام وفيها (القدس) وقد رأينا حسرته ولوعته التي بدت بصرخة رأس من رؤوسه وهو هرقل حين خرج منها وهو يقول: "الوداع. الوداع يا سورية. وداعاً لا لقاء بعده". وكذلك فتح الإسلام للقسطنطينية وتحويلها إلى دار إسلام (إسلام بول) .
إن اهتمام المعسكر النصراني الصليبي بالقدس والقسطنطينية جعله يجهد بدأب واستمرار وعلى كافة المستويات منذ فتحهما الله تعالى على يد المسلمين وحتى اللحظة الحاضرة لانتزاعهما من أيدي المسلمين وإعادتهما مركزين أوليين من مراكز الصليب.. وإن أية دراسة واعية للحروب الصليبية تكشف لنا أن انتزاع (القدس) من أيدي المسلمين هو في رأس القائمة [6] قائمة أهدافهم ونشاطاتهم وحروبهم التي يعتقدون بقدسيتها والتي يعتقدون أنها لا تنتهي ولن تنتهي ما دامت القدس بأيدي المسلمين، كما صرح بذلك الجنرال الإنكليزي (أللنبي) حين دخل القدس في الحرب العالمية الأولى وظن أنهم انتزعوها من أيدي المسلمين فقال: (الآن انتهت الحروب الصليبية) .. فلما عادت للمسلمين رجعت المحاولات تبذل من جديد ولم يتغير فيها إلا الشكل والاسم.. كانت من قبل صريحة واضحة هكذا.. يريدون انتزاع القدس من أيدي المسلمين الذين يسمونهم كفرة. قال رأس من رؤوسهم وهو البابا أوروبا الثاني منفذ فكرة الحروب الصليبية المقدسة المعروفة بهذا الاسم والذي بدأ بدفع الكتل البشرية الأوروبية إلى بلاد الشام ومصر ثم استمرت بعده طوال قرنين من الزمان.. قال: "..فاتخذوا محجة القبر المقدس، وخلصوا الأراضي المقدسة من أيدي المختلسين الكفار (يقصد المسلمين) … " [7] أما اليوم فقد جاءت هذه الجهود على مراحل، المرحلة الأولى منها جاءت تحت اسم (التدويل) وما ذلك إلا لخداع المسلمين وتمويه الحقيقة عليهم، فإذا تمت لهم هذه المرحلة - لا سمح الله - خطوا للمرحلة الأخيرة وهي انتزاعها(9/288)
نهائياً من أيدي المسلمين، وجعلها مركزاً رئيسياً من مراكز الصليب والاستعمار الصليبي.. هذا هو الغرض الذي يرمي إليه كل من ينادي بالتدويل..
أيها الأخوة: نخرج من هذا العرض الموجز أن المعسكر النصراني الصليبي يشعر بأن له فينا ثأر قديم ينتظر أية فرصة وبادرة كي يثأر لنفسه وينتقم منا وهذا الثأر من الروح الصليبية يشكلان منطلقاً جوهرياً وأساسياً لنظرته إلينا ومعاملته لنا، وعلاقته بنا..
المصالح الآنية:
أيها الإخوة: لقد كان للمعسكر النصراني في صراعه مع المسلمين لا سيما في الحديث جولات اجتاح فيها العالم الإسلامي بجيوشه من عسكريين ومبشرين وفنيين وخبراء وسوى ذلك، وقد أجرى خلال ذلك - وما زال يجري دراسات هامة ودقيقة عن العالم الإسلامي، وطبيعة أرضه وشعوبه وثرواته، خدمة لأغراضه هو ومصالحه قبل غيره، ولتمديد فترة وجوده وبقائه فيه، واستعماره له، واستغلاله لخيراته أطول فترة ممكنة، وذلك في حال عجزه عن رد المسلمين عن دينهم أو إبادتهم وتصفيته تصفية جسدية، وقد خرج من هذه الدراسات بنتائج جد هامة.
1- وجد أن العالم الإسلامي يمتد على رقعة من الأرض كبيرة جداً تمتد من أواسط أوروبا حتى أواسط روسيا فأواسط الصين، ثم ينحدر نحو الجنوب الشرقي ليشمل جنوب شرقي آسيا حتى أستراليا ثم يتجه نحو الجنوب ليشمل إفريقيا كلها تقريباً حتى أسبانيا (الأندلس الفردوس المفقود) .
ووجد أن هذا العالم الإسلامي المترامي الأطراف يضم جوانحه على أهم البحار التي تجري على سطحها معظم تجارة العالم، وأنه يملك معظم سواحلها ومداخلها، كالمحيط الهندي والبحر الأحمر والأبيض، والأسود، والساحل الشرقي للمحيط الأطلسي من رأس الرجاء الصالح حتى مضيق جبل طارق، وأنه إذا كانت بعض دول المعسكرات الجاهلية الأخرى تشاركه في السيطرة على القليل من سواحل هذه البحار، فإنه ينفرد دونها بامتلاك مداخلها والسيطرة عليها..فمثلاً:(9/289)
المحيط الهندي: مدخله من الشرق: مضيق مالقا بين جزيرة سومطرة مشبه جزيرة الملايو من إندونيسيا المسلمة.
وأما مدخله من الشمال الغربي فهو مضيق باب المندب، بين الجزيرة العربية والصومال المسلمة.
البحر الأحمر: مدخله الجنوبي: هو مضيق باب المندب المذكور آنفاً، أما مدخله الشمالي فقناة السويس (الشريان الحيوي لرفاهية أوروبا وأمريكا) .
البحر الأبيض المتوسط: مدخله من الجنوب قناة السويس. ومن الشمال البوسفور والدردنيل في أرض مسلمة (تركيا) .
البحر الأسود: مدخله الوحيد هو من الجنوب وهو من الجنوب مضيقا البوسفور والدردنيل المذكورين.
فماذا يعني هذا الموقع الاستراتيجي للعالم الإسلامي؟
إنه يعني أن الأمة المسلمة عملاق كبير يجلس على رقعة كبيرة من الكرة الأرضية وتمر من تحته كل قوافل التجارة العالمية وكل وسائل الرفاه الدولي، وإن المعسكر النصراني الصليبي لا يستطيع الاستغناء عن هذه الطرق البحرية، ومعنى ذلك أن تجارته العالمية ورفاهية شعوبه متعمدة اعتماداً كبيراً على العالم الإسلامي.. هذه واحدة..
2- والنتيجة الثانية التي وجدها المعسكر النصراني الصليبي عقب دراسته المشار إليها: أن الله سبحانه قد حبا العالم خيرات كثيرة هائلة وكنوزاً ضخمة ظاهرة وباطنة، تشكل عصب الحياة لصناعاته وحياته.. فالعالم الإسلامي يملك نسبة عالية من الثروات العالمية المعدنية والنباتية والحيوانية.. فمثلاً: ينتج العالم الإسلامي 31% من جملة الإنتاج العالمي للبترول، ويملك في جوفه3 ,69 % من احتياطي البترول العالمي، وينتج أكثر من 28% من جملة الإنتاج العالمي للكروم و 23% من الانتاج العالمي من الفوسفات، ونسبة كبيرة من اليورانيوم والنوريوم، وهذا كله سوى الحديد والذهب والفضة والنحاس، وكذلك الثروات النباتية كالأخشاب والقطن والمطاط وأيضاً الثروات الحيوانية..(9/290)
هذه الإحصائيات هي ما يقوله خبراء العالم فماذا يعني هذا؟ إنه يعني أن العالم يأتي إلينا ليستجدي منا لقمة العيش وكفاف الحياة [8] .
وهذا يعني أيضاً: أن صناعات المعسكر النصراني الصليبي تقوم على ما ينتجه العالم الإسلامي ويملكه المسلمون من مواد أولية..هذا من جهة..
ومن جهة أخرى تقوم صناعاته أيضاً على أسواق تصريفها في العالم الإسلامي، لأن المصنوعات إذا لم تجد لها أسواقاً فإنها تقف.. فالعالم الإسلامي إذن هو مصدر أو نبع للمواد الخام التي يحتاجها المعسكر النصراني الصليبي [9] لصناعاته، وهو - أي العالم الإسلامي - سوق لتصريف صناعات المعسكر النصراني الصليبي [10] .
أيها الإخوة: إن هذا الموقع الممتاز للعالم الإسلامي وسيطرته على طرق التجارة البحرية ومدخلها وهذه الثروات الضخمة التي يملكها المسلمون …(9/291)
واعتماد المعسكر النصراني الصليبي على هذا الموقع وهذه الثروات له دلالته عنهم.. وهي: أن مصالحه الحيوية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالعالم الإسلامي، ولكن هذا المعسكر بدافع الروح الصليبية الحاقدة، والثأر القديم، لا يريد أن يعامل المسلمين معاملة كريمة لائقة أو معاملة المثل بالمثل على الأقل، وإنما يريد استعمارهم واستعبادهم وإذلالهم والانفراد بخيرات بلادهم دونهم! ومن ثم فهو يدرك أنه لن يصل إلى ما يريده من استعمار المسلمين بخيرات أرضهم دونهم إلا في غفلة منهم وفي حال بعدهم عن مصدر قوتهم وهو إسلامهم العظيم، ومن ثم يعمل جاهداً للإبقاء على المسلمين في حالة نوم عميق وغفلة طويلة.. ويحذر حذراً شديداً أية صحوة لهم، ويحارب بلا هوادة كل شخص أو حركة تريد تنبيه المسلمين عملاق متى ما صحا وعادت إليه قوته بعودته إلى دينه ووحدته سيطرة وبقوة على التجارة العالمية وتحكم في صناعات العالم، وأمسك بلقمة عيشهم وفرض هيبته وسلطانه وأخضع كافة المعسكرات الجاهلية لإرادته وسهل عليه بعد ذلك نشر دينه بين شعوبها، وهذا ما تحذره وتخافه أشد الخوف والحذر- كما سيأتي إن شاء الله تعالى معنا في الفقرة الثالثة والأخيرة - … ويضمن له استعمار العالم الإسلامي واستعباد شعوبه والانفراد دونهم بخيراتهم هو نشر النصرانية وأفكارها بين المسلمين وتغريبهم (أي نشر الأفكار الغربية بينهم) [11] وكل ما من شأنه أن يضعف صلة المسلمين بإسلامهم ويردهم عنه..ومن هنا كان الاهتمام الكبير من الحكومات والمؤسسات الاقتصادية والهيئات السياسية في المعسكر النصراني الصليبي بالتبشير والأعمال التبشيرية في العالم الإسلامي، والإنفاق بسخاء على المبشرين الذين يعملون بين المسلمين، وينشرون الفساد والإنحلال في مجتمعاتهم.
ورد في كتاب الغارة على العالم الإسلامي ما يلي:(9/292)
"ولما انتهت اللجنة من أعمالها قال اللورد بلفور [12] ، رئيس الشرف: إن المبشرين ساعد لكل الحكومات في أمور هامة، ولولاها لتعذر عليها أن تقاوم كثيراً من العقبات، وعلى هذا فنحن في حاجة إلى لجنة دائمة يناط بها التوسط والعمل لما فيه مصلحة المبشرين.
"فأجيب اللورد بلفور إلى اقتراحه وتشكلت لجنة مختلطة ولجنة لمواصلة العمل وقال: م. ن.اكسنفلد عن المؤتمر الاستعماري الألماني:
"إن المؤتمر الاستعماري امتاز بميزتين:
الأولى: أنه بحث في الشؤون الصناعية والاقتصادية.
والثانية: إجماعه على وجوب ضم المقاصد السياسية والاقتصادية إلى الأعمال الأخلاقية والدينية في سياسة الاستعمار الألماني.
ثم استشهد بقول (شنكال) رئيس غرفة التجارة في همبرغ: إن نمو ثروة الاستعمار متوقف على أهمية الرجال الذين يذهبون إلى المستعمرات، وأهم وسيلة للحصول على هذه الأمنية إدخال الدين المسيحي في البلاد المستعمرة، لأن هذا هو الشرط الجوهري للحصول على هذه الأمنية المنشودة حتى من الوجهة الاقتصادية ".
ثم قال:"وتوسعوا في القول حتى خيّل للجميع أن المؤتمر الاستعماري تحول إلى مؤتمر تبشيري..".
وورد في الكتاب المذكور أيضاً وهو (الغارة على العالم الإسلامي) ذكر لبعض الإحصائيات التي تبين مدى الاهتمام والمساعدات الكبيرة التي يلقاها المبشرون الأمريكان من أغنياء أمتهم ومتمولي بلادهم الذين يمدونهم بالأموال الطائلة لأداء مهمتهم التبشيرية في العالم الإسلامي..(9/293)
والذي ننتهي إليه من هذه النماذج التي لا تمثل إلا قطرة من بحر، هو أن المعسكر النصراني الصليبي له مصالح هامة في بلادنا، وهو يرى أن الضمان الوحيد لمصالحه هو رد المسلمين عن دينهم سواء بنشر النصرانية وهذا أهم شيء وأضمنه بالنسبة لهم إذ يخضع المنتصرون بعدها لأوامر وتوجيهات رؤوسه مباشرة أو نشر الأفكار الغربية الأخرى التي تبعد المسلم عن دينه وترده عنه في حال عجزهم عن تنصير المسلمين.. قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة: 120) .
وقال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} (البقرة: 109) .
وهكذا نجد أن مصالح المعسكر النصراني الصليبي في بلادنا، والكيفية التي يريد الحفاظ بها عليها، تضغط على أعصابه وتستحوذ على تفكيره وتؤثر تأثيراً عميقاً على علاقته بنا، ومن ثم فهي تشكل منطلقاً آخر من منطلقات علاقته بنا وعاملاً من العوامل الموجهة لمعاملته لنا، يضاف إلى العوامل الأخرى التي سلف بحثها وهي العداء بين الإسلام والكفر، والروح الصليبية الحاقدة، والثارات القديمة..
مخاوف مستقبلة:(9/294)
ولكن في الواقع إن الذي يدرس أحوال المعسكر النصراني الصليبي يجد أن هذه العوامل ليست هي كل العوامل التي تؤثر على معاملته لنا وعلاقته بنا، وتوجهها وجهة معينة، بل إنه يعثر على عامل آخر يبدو من نظراته للمسلمين ومعاملته لهم. وقد كان نتيجة الدروس التي خرج بها: أن المسلمين إذا حلت بهم هزيمة - نتيجة ضعفهم وتمزقهم وبعدهم عن دينهم - إن هذه الهزيمة لم تكن دائمة ولو طال أمدها، بل كانت هزيمة مؤقتة لا تلبث أن تتعقبها صحوة لهذا العملاق المسلم فينقض على أعدائه يطاردهم حتى في عقر دارهم فيفتح بلاداً جديدة، ينشر فيها الإسلام وينتزعها من أعدائه الذين غلبوه في ساعة غفلته وانقسامه وضعفه.. وأن هذه البلاد التي يفتحها يستأثر بها إلى الأبد ويحول أهلها إلى مسلمين..
لقد حدث هذا أكثر من مرة وتكرر عبر التاريخ، ومن ثم فالمعسكر النصراني الصليبي ما زال يخشى حدوثه اليوم ويخشى أن يعيد التاريخ نفسه..
يروي الحاج أمين الحسيني في بعض مذكراته: أن دول المعسكر النصراني الصليبي تعارض وحدة أيٍّ من الأقطار الإسلامية في دولة واحدة خشية أن تعود لهم قوتهم بوحدتهم، ومن ذلك معارضتهم استقلال دول المغرب العربي ووحدتها، في حديث كان بينه وبين (بروفر) وكيل وزارة الخارجية الألمانية للشؤون الشرقية في حكومة هتلر النازية [13] . ويقول الحاج أمين حين ألمح لبروفر:"أن معارضة دول المعسكر النصراني الصليبي لاستقلال دول المسلمين قد تدفعنا للتعاون مع دول المعسكر الشيوعي ومن ثم تحولها للشيوعية التي تخاف منها أوروبا".
قال: فأجابني بروفر قائلاً:"إن هذه الدول الاستعمارية ترى أن الإسلام أشد خطراً من الشيوعية، لأن الشيوعية تمكن معالجتها ودرء أخطارها برفع مستوى المعيشة عند الشعوب وتعميم العدل الاجتماعين وغير ذلك من الوسائل".(9/295)
"ولكنها ترى في الإسلام عقيدة زاحفة يخشى خطرها على أوروبا التي نخرت المدنية الفاسدة عظامها. وأضعفت قيمها الخلقية والروحية والعسكرية، وهم يخشون إذا تألفت هذه الدول المغربية المتحدة أن يكون لها شأن عظيم ويتوهمون أنها لا تلبث أن تقفز على أوروبا مرة أخرى، ويعيد التاريخ نفسه". [14] .
فهم إذن يعيشون في خوف دائم قلق مستمر من عودة المسلمين إلى دينهم ووحدتهم خوفاً من أن يعيد التاريخ نفسه، وهم يرون أن الإسلام هو الخطر الحقيقي عليهم، وهو الجدار الوحيد في وجه استعمارهم لبلاد المسلمين وانفرادهم بخيراتها كما يودون.
يقول جورج براون في كتاب له صدر عام 1364هـ ما يلي معبراً عن مخاوف المعسكر النصراني الصليبي من الإسلام، فقال:
"كنا نخوف بشعوب مختلفة ولكنا بعد اختبار لهم لم نجد مبرراً لمثل هذا الخوف. لقد كنا نخوف من قبل بالخطر اليهودي، والخطر الأصفر، والخطر البلشفي..إلا أن هذا التخويف لم يتفق كما تخيلناه..
إننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا الألد! [15] .
ثم رأينا البلاشفة حلفاء لنا..
أما الشعوب الصفراء فهناك دول ديمقراطية كبرى تقاومها..
ولكن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام، وفي قوته على التوسع والإخضاع وفي حيويته.. إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوروبي."(9/296)
هذا الذي يخيفهم فقط، إنه الإسلام ويقظة المسلمين وعودتهم إليه. وخوفهم من الإسلام ويقظة المسلمين ليس على مصالحهم في العالم الإسلامي فحسب، بل حتى وجودهم في بلادهم. ومن ثم فهم يحذرون كل تحرك للمسلمين ويرقبونه ويرصدونه كل حركة أو دعوة إسلامية ترمي لإيقاظ هذا العملاق النائم لتوحيد أعضائه وربطها بقلبه ويتتبعون أخبارها وليس هذا فقط، بل يهتمون ويغتمون لقيام كل شخصية أو داعية إسلامي يصيح في المسلمين ليستيقظوا من غفلتهم ويعودوا إلى ربهم -سبحانه - ويتمسكوا بكتاب ربهم - سبحانه - وسنة نبيه - عليه الصلاة والسلام - ويرجعوا إلى وحداتهم، ومن ثم فهم يبذلون جهوداً ضخمة للتخلص منه ومن دعوته بشتى الوسائل والأساليب، وإن كانوا اليوم وبعد تجارب كثيرة يفضلون أن يكون التخلص منه على أيدي أبناء المسلمين حتى لا يشكل ذلك ردة فعل عند المسلمين ويحدث الذي يخشونه من عودة المسلمين إلى كتاب ربهم -سبحانه - وسنة نبيهم - عليه الصلاة والسلام - ولذلك نجدهم يخططون لهذا ويعبرون عن ذلك بقولهم "علينا أن نخرج من المسلمين من يتولى حرب الإسلام، لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد فروعها".ومن هنا وجدنا كيف أوعزت الدوائر الاستعمارية الصليبية لربيب نعمتها محمد علي باشا (الذي يسمونه بالكبير) أن يزحف على الدرعية بالسلاح الذي زودته به أوروبا وبالتدريب العسكري الذي دربت جنوده عليه. ولكن هذا كله تم باسم الباب العالي أو قل باسم خليفة المسلمين، وبصرف النظر عن الملابسات الأخرى، لكن المهم هو أنهم ما أن عرفوا حقيقة دعوة مجدد الإسلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى - حتى أقامهم ذلك وأقعدهم وملأ قلوبهم رعباً، وراحوا يسعون سعياً حثيثاً لإجهاض هذه الحركة الإسلامية العظيمة التي تروم العودة بالمسلمين إلى الكتاب والسنة مما كان لها آثارها العظيمة ولله الحمد في إعادة المسلمين إلى كتاب ربهم - سبحانه - وسنة نبيهم - عليه الصلاة والسلام -(9/297)
وتطهيرهم من الخرافات والبدع والشركيات والضلالات. والعجيب من أمر المسلمين أنه بينما يعوم المعسكر النصراني الصليبي ويقعد لأنباء الحركات والدعوات والشخصيات الإسلامية وترتعد فرائصه لقيامها، ويموج فرحاً بشعوبه ومؤسساته لوأدها وقتل رجالها وقادتها، يبقى المسلمون - إلا من رحم ربك - في غفلة عن ذلك كله وكأن الأمر لا يعنيهم وهذا في أحسن أحوالهم، وهذا إذا لم يستخدموا كما يستخدم المعول في الهدم، أو يصفقوا ببلاهة وسذاجة للهدامين..
يقول العالم الشهيد - سيد قطب - رحمه الله تعالى - عن هياج المعسكر النصراني الصليبي لقتل إحدى هذه الشخصيات الإسلامية التي خلفت الإمام المجدد محمد عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - في إيقاظ المسلمين والعمل على توحيدهم-
يقول: "كنت يومها في أمريكا- أي يوم قتل الشهيد حسن البنا - رحمه الله تعالى - ولم أكن أعط الحركة الإسلامية ولا مرشدها من اهتمامي - ما هو جدير به - ولم أكن أتصور أنها تشكل في بؤرة الشعور الغربي شيئاً يذكر حتى صدمني الواقع من حولي في أمريكا وهزني هزاً فتح أعيني فتحاً ما لم أفطن إليه من قبل".
"لقد شهدت مظاهر الابتهاج والفرح بل والشماتة في كل شيء من حولي في الصحافة، وفي جميع أجهزة الإعلام، ووفي كافة المنتديات، كلها تهلل وتهنئ بعضها بعضاً بالتخلص من أخطر رجل في الشرق فعجبت من هذا الاهتمام به والتقييم لحركته والتتبع الواعي لها إلى هذا الحد الذي لا وجود لمثله في بلادنا نفسها، وعلمت أن في الأمر سراً أكبر يغيب عني يكمن في طبيعة دعوة هذا الرجل، وفي شخصه العظيم الذي لم أحظ بمعرفته على الوجه الأكمل، وأنا أعيش معه في وطن واحد، الأمر الذي لم أستوِ فيه حتى مع المستعمرين، وصممت بعد عودتي من أمريكا أن أعيد بحث الأمر من جديد.." [16](9/298)
وهكذا نجد أن المعسكر النصراني الصليبي يعيش في خوف دائم، وحذر شديد من يقظة المسلمين وعودتهم لإسلامهم، وتسودّ الدنيا في عينيه حين يرى شخصية إسلامية يصيح في المسلمين لتوقظهم أو توحد كلمتهم فترتعد فرائص رؤوسه ويقومون يقابلون دعوته هذه باجتماعات يتداعون لها، وأحلاف يعقدونها كما رأينا منهم عبر التاريخ، وكما نرى اليوم.. كل ذلك خوفاً من أن يستيقظ هذا العملاق المسلم النائم الذي بدأ يتحرك ويصحوا وينتبه من غفلته ونومه الطويل، وخوفاً من أن يعيد التاريخ نفسه..
وهكذا نجد أن المخاوف من المستقبل تضغط هي الأخرى على أعصابهم وتسيطر على تفكيرهم ونظرتهم للإسلام والمسلمين فلا تبرحهم لحظة من ليل أو نهار، ومن ثم تشكل منطلقاً أساسياً آخر من منطلقات نظرتم إلينا ومعاملتهم لنا ينضم إلى المنطلقات الأخرى السالفة الذكر، وهي المصالح الآنية، والثارات القديمة، والروح الصليبية.. التي تنبع كلها من الصراع الطويل الأمد بين الإسلام والكفر..والتي تعمل كلها مجتمعة في عقله وقلبه وفي (بؤرة شعوره) وتسيطر على تفكيره وضميره، وكيانه كله، والتي كانت وما تزال تدفعه دفعاً لحرب الإسلام والمسلمين بشتى الوسائل وعلى كافة المستويات00ولا تدعه يرتاح ويطمئن ما دام في الدنيا إسلام ومسلمون.. فهو إن نسي ثاراته، وخبت روحه الصليبية - مثلاً وجدلاً - ذكرته مصالحه الآنية، فإذا نسي مصالحه أقلقه مخاوفه المستقبلة من صحوة المسلمين وعودتهم إلى دينهم، فهو إذن من أمر الإسلام والمسلمين في شغل شاغل وعمل دائب مستمر - ولقد عمل للتخلص من الإسلام والمسلمين منذ زمن بعيد، وما تلك الحروب التي شنها في الماضي البعيد والقريب (ويشنها اليوم في الفلبين والحبشة وسواهما على المسلمين إلا لوناً من ألوان جهوده للتخلص من الإسلام والمسلمين.. ولكنه اليوم وفي العصر الحاضر يعمل وهو مزود بتجاربه ودروسه التي استفادها من صراعه مع المسلمين..(9/299)
لقد عرف المعسكر النصراني الصليبي أن المسلم لا يمكن أن يواجه في معركة مكشوفة يكشف فيها عدوه عن حقيقة أهدافه وهي رده عن الإسلام أو قتله، فإن هذا الكشف كفيل بأن يوجد لدى المسلم ردة فعل ترجعه إلى إسلامه فيتمسك بكتاب ربه - تعالى - وسنة نبيه - عليه الصلاة والسلام - وفي ذلك قوته التي لا يقهرها كفر بإذن الله تعالى ونصره.
وعرف كذلك أن المسلم يتمتع برصيد عالٍ من الاستعداد الإيماني حتى والهزيمة تحل به فهو دائماً وأبداً يشعر أنه أعلى من عدوه الذي خدمته ظروف المعركة ولوقت ما، ومن ثم كان المسلم يعتبر أن هذه الهزيمة مؤقتة ولو طال أمدها، يعود بعدها وينتصر على عدوه..
لقد أدرك المعسكر النصراني الصليبي هذا السر في المسلم فعمل وبدأب واستمرار وبشتى الوسائل لتحطيم هذا الاستعلاء الإيماني ووأد روح المقاومة عنده، هذا من جهة، ومن جهة أخرى جاء يتسلل تسللاً يخادع المسلمين ويرفع لهم فوق حروبه معهم شعارات متعددة تخفي طابع غزوه الديني، وتستر حقيقة مقصده وهي التخلص من الإسلام والمسلمين بردهم أو إبادتهم.. والحق أن الظروف ساعدت المعسكر النصراني الصليبي لتحقيق قدر كبير من أهدافه، وأشير الآن إشارات خاطفة لبعض أعماله..
1- لقد عرف المعسكر النصراني الصليبي أن مصدر قوة المسلم هو الكتاب والسنة فعمل على الفصل بينه وبينهما، فشجع على نشر الخرافات والبدع والضلالات والصوفيات [17] ، وكلما تحمل على الفصل بين المسلم وكتاب ربه - عز وجل وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام.(9/300)
2- ولكنه وجد أنه إن استطاع الفصل بين المسلم وكتاب ربه - تعالى - وسنة نبيه - عليه الصلاة والسلام - فهناك التراث الإسلامي في الفكر والتاريخ وسوى ذلك، فإن هذا التراث كفيل لو رجع إليه المسلم، ولا بد أن يرجع إليه وأن ينبه المسلم الغافل، ومن ثم عمدت دوائره الاستشراقية إلى دراسة هذا التراث الأصيل وإعادة كتابته ما أمكن كتابته منه وباللون الذي يريده المعسكر النصراني الصليبي، ويخدم أغراضه من قتل روح الاستعلاء عند المسلم واستبدالها بروح التبعية للغرب، كما أشرنا لذلك في بداية هذه المحاضرة على صنيعهم في التاريخ.
3- ثم قامت وسائله الإعلامية بتسليط أضواء قوية على الفكر الغربي وإنتاجه والثقافة الغربية، وبالمقابل إسدال ستار كثيف على التراث الإسلامي الأصيل، وذلك حتى يبهر المسلم بالغرب وثقافته، وبقدر ما يبهر بالغرب يستحيي من الانتماء للإسلام وكتابه وسنة نبيه - عليه الصلاة والسلام - وتاريخه وتراثه الأصيل.(9/301)
4- ثم عمل على وأد روح الإبداع عند المسلم، فسيطر على مناهج التعليم ووضع لها سياسة معينة هدفها توسيع عملية التعليم كما يقال: أفقياً بحيث يزداد حملة الشهادات (التي لا تشهد لحاملها بالعلم بل تشهد له بالضحالة العلمية) . ويقل بسبب ذلك العلماء والخبراء.. أو بتعبير آخر: كان هدف هاتيك السياسات التعليمية هو: ليس تخريج علماء ومخترعين وبحاثين وإنما تخريج موظفين وكتبة، وحسب، بحيث لا يصلحون إلا لهذا النوع من العمل، وفي نفس الوقت لا يكون لهم سوى تحصيل الربح المادي الوفير والاسترزاق بشهاداته التي يحملها، فهو عبء على شهاداته، وهو أيضاً عبء على دولته وعالة على أمته لإطعامه وكسوته وما إلى ذلك دون أن يقدم لها هو شيئاً يذكر سوى هذا العمل الذي يمكن أن تقوم به آلة حاسبة أو كاتبة مثلاً، وذلك لأن روح المتابعة والتحصيل العلمي والفكري والإنتاج والإبداع قد قتلت في نفسه، قتلتها سياسات التعليم ومناهجها التي وضعتها له الدوائر الاستعمارية الصليبية وغيرها. [18] وكانت النتيجة هي أن الكم بدأ يتغلب على الكيف والنوع..
وفي نهاية كل سنة دراسية كان - وما يزال - في عالمنا الإسلامي يدخل الحياة العامة جيل من هذا النوع من حملة الشهادات، ويحمل معه الضحالة في العلم والسطحية في التفكير، والرغبة الجامحة في الحصول على أعلى نسبة ممكنة من الربح المادي مما شغله عن الاهتمام بتعميق وعيه وإدراكه ومتابعة الحركات العلمية والأدبية، فتحولت الكثرة الغالبة من هذه الأجيال إلى فئات من المرتزقة بالشهادات التي تحملها.
"والمؤسف حقاً أن هذه الفئات هي التي بدأت منذ منتصف القرن الحاضر تملأ الشواغر في الأجهزة العلمية والإعلامية والتربوية حتى أصبحنا اليوم نرى أن الأمية الفكرية هي الصبغة الغالبة على جيوش المثقفين" [19] .(9/302)
وقد تم هذا كله دون أن تشعر الأجيال الجديدة من المسلمين بخطورة هذا الاتجاه وآثاره على مستويات الثقافة، وذلك لأن قدرتها على التمييز والاختيار تضعف بالقدر الذي تهبط فيه مستويات التعليم.. بل إن أجيالنا أصبحت لا تستمرئ ولا ترضى إلا هذا النوع المنخفض من التعليم، فتحرص عليه بدافع حب الراحة والكسل. وإذا رأت مثلاً - وعلى سبيل المثال فقط - مدرساً يتوسع في مادته أو مذكرته لهم، ويطالبهم بالرجوع إلى المصادر الأصيلة والبحث فيها، علت أصواتهم بالاحتجاج، لأنهم يريدون النجاح والشهادة وحسب. أما العلم فهو من شأن طلابه..
هذا بعض ما فعله بنا أعداؤنا، هناك أمور أخرى ومستويات حاربونا عليها لا مجال لذكرها الآن، لضيق الوقت عنها وأكتفي بالإشارة إليها بذكر خطاب القسيس (زويمر) الذي يوضح سياسة المعسكر النصراني الصليبي فينا، وهو الخطاب الذي ألقاه في مؤتمر المبشرين المنعقد في جبل الزيتون بالقدس في عام 1327هـ. وقد كان رداً على خطاب ألقاه مقرر المؤتمر الذي قال فيه:
"إن جهود المبشرين فشلت فشلاً ذريعاً في العالم الإسلامي لأنه لم ينتقل من الإسلام إلى المسيحية إلا واحداً من اثنين إما قاصر خضع بوسائل الإغراء أو بالإكراه أو معدم تقطعت به أسباب الرزق فجاءنا مكرهاً ليعيش".
فرد عليه زويمر قائلاً، كاشفاً عن خطة المعسكر النصراني الصليبي في العالم الإسلامي:
قال: "كلا، إن هذا الكلام يدل على أن المبشرين لا يعرفون حقيقة مهمتهم في العالم الإسلامي، إنه ليس من مهمتنا أن نخرج المسلمين من الإسلام إلى المسيحية، كلا.(9/303)
إنما كل مهمتنا أن نخرجهم من الإسلام فحسب، وأن نجعلهم ذلولين لتعاليمنا ونفوذنا وأفكارنا.. ولقد نجحنا في هذا نجاحاً كاملاً، فكل من تخرج من هذه المدارس لا مدارس الإرساليات التبشيرية فحسب، ولكن المدارس الحكومة والأهلية التي تتبع المناهج التي وضعناها بأيدينا وأيدي من ربيناهم من رجال التعليم.. كل من تخرج من هذه المدارس خرج من الإسلام بالفعل وإن لم يخرج بالاسم، وأصبح عوناً لنا في سياستنا دون أن يشعر، أو أصبح مأموناً علينا.. ولا خطر علينا منه..لقد نجحنا نجاحاً منقطع النظير..".
ثم قال: " … إنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية، وهذا ما قمتم به خلال المئة السالفة خير قيام، وهذا ما أهنئكم عليه وتهنئكم دول المسيحية والمسيحيون جميعاً كل التهنئة".
"لقد قبضنا أيها الإخوان في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية، ونشرها في تلك الربوع مكامن التبشير والكنائس والجمعيات والمدارس المسيحية الكثيرة التي تهيمن عليها الدول الأوروبية والأمريكية والفضل إليكم وحدكم أيها الزملاء.
إنكم أعددتم بوسائلكم جميع العقول في الممالك الإسلامية إلى قبول السير في الطريق الذي مهدتم له كل التمهيد.. إنكم أعددتم نشأ (في ديار المسلمين) لا يعرف الصلة بالله ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من إسلامه ولم تدخلوه في المسيحية. وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقاً لما أراده الاستعمار المسيحي لا يهتم بعظائم الأمور، ويحب الراحة والكسل ولا يصرف همه في دنياه إلا في الشهوات، فإذا تعلم فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإذا تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات يجود بكل شيء".(9/304)
"إن مهمتكم تمت على أكمل الوجوه وانتهيتم إلى خير النتائج وباركتكم المسيحية ورضي عنكم الاستعمار فاستمروا في أداء رسالتكم فقد أصبحتم بفضل جهادكم المبارك موضع بركات الرب". [20] .
هذا ما يريده بنا المعسكر النصراني الصليبي، وهذه نظرته ومعاملته لنا، وهذه منطلقاته الأساسية، روح صليبية حاقدة، ثارات عديمة، مصالح آنية، مخاوف مستقبله، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
أيها الأخوة: لعل أسئلة ترد سائلة عن سبيل الخلاص والوقوف في وجه هذا المعسكر الحاقد وغيره من المعسكرات الجاهلية الأخرى.
وهي بكلمات موجزة:
1- عودة صادقة جادة إلى الله سبحانه. وكتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وتربية لنفوسنا وأبنائنا على ما كان عليه سلفنا الصالح، من عقيدة سليمة وإيثار للآخرة على الدنيا، ولرضوان الله تعالى على كل شيء..
وصبر على الطاعة بصورها وتكاليفها كلها.. وصبر عن المعاصي كلها بأنواعها ومغرياتها كلها.. وتخليص لتراثنا الأصيل مما علق به أو دس عليه.
وإحياء لروح الاستعلاء الإيماني في ناشئتنا وأجيالنا..
وتمتين للمحبة والإخاء بينهم، والعمل على توحيد صفوف المسلمين، وتنبيه للغافلين منهم وتوعيتهم لقضايا دينهم في عصرهم هذا..
وبكلمة موجزة: عودة كاملة شاملة إلى الحياة الإسلامية كما كان سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى، ورضي عنهم..
ما بغير الإسلام تؤتى الحياة..
مسلماً إن ترد حياة فهيّا
وكلمة ختامية لا بد منها:(9/305)
إن هذا هو طريق الخلاص ولكن لا بد له من قدوة حسنة تتمثله تمثلاً كاملاً وتنطلق به. فالقدوة أمرها هام وعظيم.. ومن أولى من العلماء والقادة بهذه القدوة..ونماذج من هؤلاء العلماء والقادة موجودون بحمد الله تعالى، لكن الذي نرجو أن يلتفّ المسلمون حول هذا النموذج الصادق العامل من العلماء والقادة وأن يكثر عددهم في عالمنا الإسلامي حتى يتمكنوا من قيادته وإنقاذه والوقوف بوجه أعدائه والانتصار عليهم بإذن الله تعالى وتوفيقه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
--------------------------------------------------------------------------------
[[1 انظر الكتاب القيم: جاهلية القرن العشرين للداعية الإسلامي المجاهد الأستاذ محمد قطب حفظه الله تعالى ورعاه.
[2] انظر سورة براءة في الكتاب القيم (في ظلال القرآن) للعالم الشهيد سيد قطب - رحمه الله تعالى -.
[3] وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها".. الحديث..
[4] انظر الكتاب القيم (في ظلال القرآن) للعالم الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى. ج
[5] من كتاب أوروبا في مطلع العصور الحديثة. ص657 -659 من الجزء الأول للدكتور عبد العزيز محمد الشناوي. أستاذ كرسي التاريخ الحديث بجامعة الأزهر.(9/306)
[6] وكذلك وضعت القسطنطينية منذ فتحها في رأس قائمة أهدافهم ونشاطاتهم، وقد تحلى ذلك في أكثر من مناسبة لا سيما في الحرب العالمية الأولى حين دخلتها جيوش الحلفاء (المعسكر النصراني الصليبية) وخيل إليهم أن يوم الثأر وانتزاعها من المسلمين قد حان فثار المعسكر النصراني الصليبي بمؤسساته وهيئاته وصحفه.. الخ. ثورة عارمة ونشط رجال الكنيسة الشرقية والغربية نشاطاً غريباً يستحثون حكوماتهم من أجل انتزاعها من أيدي المسلمين. وقد شعر المسلمون بذلك ورأوه بأعينهم وسمعوه بآذانهم. وقد بينت ذلك في محاضرة لي بعنوان (الحروب الصليبية طبيعتها ومداها في الزمان والمكان) . وبينت فيها إلى جانب ذلك كما يشير العنوان طبيعة الحروب الصليبية وحقيقتها والزمن الذي استغرقته وهي الأربعة عشر قرناً، وكذلك المكان الذي دارت عليه خلال هذه الفترة الطويلة.
[7] انظر المحاضرة المذكورة فقد بينت فيها بعض المحاولات الكبرى التي قام بها المعسكر النصراني الصليبي عبر هذا التاريخ لانتزاع مدينة القدس ولا سيما محاولة الإمبراطورين نقفور فوقاس وحنا شمشقيق في منتصف القرن الرابع الهجري، وكذلك محاولات أوروبا خلال القرنين السادس والسابع الهجريين والتي أول من وضعها موضع التنفيذ البابا أوربان الثاني كما أشرنا أعلاه. ثم المحاولات الأخيرة في القرن الرابع عشر الهجري والتي بدأت قبيل سقوط الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية حتى االلحظة الحاضرة.. بالتعاون مع المعسكرات الجاهلية الأخرى كما لا يخفى.
[8] انظر مجلة البلاغ الكويتية عدد 186 تاريخ 26/12/92 هـ ص35-36 عن كتاب: الإسلام خلاصنا للأستاذ هادي المدرسي.
[9] وكذلك المعسكرات الأخرى إلا أن حديثنا هنا عن المعسكر النصراني الصليبي.
[11] انظر خطاب القسيس زويمر في نهاية هذه المحاضرة.(9/307)
[12] اللورد بلفور هو نفسه صاحب الوعد المشؤوم لليهود بإنشاء كيان لهم في فلسطين المسلمة.
[13] يقول عنه الحاج أمين:" إن بروفر من كبار الساسة الألمان الواقفين على شؤون الأقطار العربية والإسلامية حتى إن حكومة الهند استعانت به بعدما انتهت الحرب، وظل يعمل لديها بضع سنين، وهو يتكلم اللغات العربية والتركية والفارسية وكان سفيراً لألمانيا في القاهرة.
[14] مذكرات الحاج أمين الحسيني نشرتها بعض المجلات في البلاد العربية خلال العام الهجري 1392هـ.
[15] صدق الله تعالى: {بعضهم أولياء بعض} .
[16] مجلة المجتمع الكويتية عدد (115) تاريخ 19/7/1392هـ ص10-11 بشيء من التصرف اليسير.
[17] قد لا يرتاح البعض أو يعترضون على إدخال الصوفيات بين البدع والضلالات التي يشجعها الاستعمار في عالم المسلمين، ويقولون ليست كل الصوفيات ضالة..الخ، وأقول: نحن نفرق بين الزهد الحقيقي الذي كان عليه سلف هذه الأمة الصالح وبين الزندقة التي دخلت باسم الصوفية على المسلمين.. لكن الواقع المشاهد هو أن ما تحويه كتب الصوفية اليوم هو خليط من هذا وذاك أو على الأقل لا يخلو من الدس والشرك والبدع00 هذه واحدة.. وأمر آخر ولعله أشد خطراً وهو: أن صالحي الصوفيين يؤولون الكفر والزندقة والخرافات فيها إن لم يقبلوها بقبول حسن.. ومن ثم يتسرب الشرك والبدع والزندقة للمسلمين من كتب الصوفية، وصالحوهم يساهمون بلا قصد أو يسكتون.. ثم إننا نلاحظ السلبية القاتلة على عامة الصوفيين، القاتلة لامكاناتهم وروح الجهاد فيهم، وهذا ما يطلبه الاستعمار ومعسكراته..
[18] حمداً لله تعالى واعترافاً بنعمته فقد وفق سبحانه لوضع سياسة تعليمية مستقلة إسلامية لهذه المملكة، وقد قام بوضعها علماء مسلمون مختصون فطاحل جزاهم الله تعالى خيراً.(9/308)
[19] محلة البلاغ الكويتية عدد 138 ص24-25. وانظر بالتفصيل الكتاب القيم (هل نحن مسلمون) للأستاذ الكبير محمد قطب، حفظه الله تعالى.
[20] عن محاضرة الحروب الصليبية طبيعتها ومداها في الزمان والمكان ص32-34 للمحاضر نفسه.(9/309)
دعوة التضامن الإسلامي وأثرها في العالم
بقلم عبد القادر بن حبيب الله السندي
خريج كلية الشريعة بالجامعة
وهذه حلقة ثانية من الحديث الممتع العذب الذي حدثني به أحد الضيوف في الأسبوع الماضي في الطابق العلوي من الحرم المكي الشريف، وكان قد انتهى حديثه عن وصف دقيق للمؤتمر الإسلامي العظيم الذي عقده رؤساء الدول الإسلامية، وملوكها في مدينة لاهور الباكستانية، ومن نتائجه المثمرة، وفوائده العظيمة، وآثرها الطيبة على العالم كله.(9/310)
وأفاض في هذه الجلسة الثانية الأخيرة عن مناهج التعليم في العالم الإسلامي، تلك المناهج التي هي في حاجة ماسة إلى التغيير الجذري في كثير من الدول الإسلامية لأنها من مخلفات الدول الاستعمارية التي وضعتها حسب رغباتها المادية، وميولها السياسية، وشهواتها الحيوانية لا صلة لها بهذه الأمة المجيدة، وبتاريخها الحافل، ورسالتها السماوية، وضعت تلك المناهج التعليمية في ضوء المكاسب المادية التي تعود على المستعمرين بالفائدة الكبيرة من تخريب أذهان الشباب المسلم، والبعد عن دينه، ورسالته بعداً لا مثيل له في التاريخ، تلك المناهج التي كانت سبباً حقيقياً للفساد الكبير الذي وطد أقدام المستعمرين في البلاد الإسلامية بشكل فظيع. ولم يكن المستعمر ليترك هذه الأراضي الإسلامية والعربية إلا وهو متيقن في نفسه أنه لا حاجة الآن إلى بقائه ظاهراً، لأن الشعب الذي ترك له أرضه هو مستعمر فكرياً رغم أنفه شعر أم لم يشعر، فهذه المناهج التي وضعتها في التعليم والثقافة في بلاده كافية لاستمرار الاستعمار الحقيقي الذي قصده منذ أن وطدت أقدامي على بلاده ووطنه، ولا يمكن له أن يتحرك بحركة أخرى معاكسة ما دام هو مقيد الفكر، والحواس، والشعور في ضوء هذه المناهج التي وضعتها له. نعم قد أقمت الجامعات الكبيرة العالمية في بلادي التي ترتبط بها الجامعات في بلاد المسلمين برباط وثيق. وقد جمعت التراث الإسلامي العظيم من نوادر المخطوطات التي استنار الغرب والشرق من طريقها، وعما فيها من العلوم النافعة، وقد احتفظت بهذا التراث الذي كنت خصصت له جملة كبيرة من الباحثين المستشرقين لكي يحضروا هذا التراث مهما يكلفني من المبالغ الهائلة من بلاد الشرق الإسلامية، وقد نجح في ذلك نجاحاً باهراً، فانظروا فهارس مكتبة جامعة الهارفرد الأمريكية وكذا فهارس جميع الجامعات الأوروبية كجامعة كمبريدج وأكسفورد ولندن وألمانيا، وجامعة سربون الفرنسية بباريس وغيرها من الجامعات(9/311)
العالمية والتي يقصدها المسلمون بأعداد كبيرة جداً لنيل درجاته العلمية، وهذا هو المخطط الخطير الذي وضع قبل مائتين سنة أو أكثر لسد الطريق أمام الشعوب الإسلامية لكي لا تتحرر تحرراً يتفق مع دينها المتين، ورسالته السامية، فهذه مادة التربية التي تدرس هناك والتي يتخصص فيها عدد كبير من أولاد المسلمين، فانظروا فيها نظرة علمية دقيقة، وتعمقوا فيها وستجدون أن هناك اتفاقاً كاملاً مع مجتمعهم وما في هذه المادة. فانظروا البرامج التلفزيونية التي تعرض على شاشة التلفزيون في أوروبا وأمريكا، وروسيا وغيرها من البلدان، وكذا الأفلام التي تعرض هناك في دور السينما وفي ذلك أكبر دليل على تقدمهم العليم المزعوم الذي توصلوا إليه ولقد شاهدت أنهم فقدوا الآن جميع مقومات الحياة الحرة الكريمة وقد تعدوا حدود الإنسانية الكريمة (فشتان) بين حياتهم الجاهلية الحاضرة والجاهلية الأولى التي حاربها الإسلام، وهكذا يا بني ستجد في صفحات التاريخ الإسلامي عندما بدأت حملة اليونان الفلاسفة وذلك في نهاية القرن الثاني، واستفحل أمرها وشررها في عهد عبد الله المأمون العباسي على العقيدة الإسلامية، تلك الحملة الشنعاء التي أزهقت فيها الأرواح البريئة المؤمنة من المحدثين البارعين في الإسلام؟ فإذا كان من أسبابها وآثارها السيئة على العالم الإسلامي إلى يومنا هذا؟ فانظروا العقائد النسفية التي تدرس في أغلب المدارس الإسلامية الآن، فكان لتلك الحملة لون متغاير، وتفسير وجيه في نظر هؤلاء الذين ساروا في ضوء هذه الحملة النكراء، وكانوا يريدون بذلك تنزيه الرب جل وعلا عن صفات الله جل وعلا الثابتة في كتابه الكريم، وصحيح سنته المطهرة، وفي ضوء تلك العقائد جردت ذات الله تبارك عن كثير من صفاته العلى، وأسمائه الحسنى، وكان يقصد العدو حينذاك من هذه الحملة أن ينكر المسلمون وجود ربهم، ومعبودهم لأن ذات المجردة عن الصفات لا وجود لها في الحقيقة، ثم أقيمت المدارس(9/312)
في العالم الإسلامي على هذا النمط إلا أن جماعة كبيرة من أهل الحديث كأحمد بن حنبل والبخاري، وأبي زرعة، وابن أبي حاتم، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة السلمي النيسابوري، وابن أبي عاصم وغيرهم كثيرين عليهم رحمة الله تعالى وقفوا ضد هذه المدارس العقيلة وحاربوها وألفوا تأليفات نافعة يحذرون فيها الأمة الإسلامية من هذه العقليات، فانظر كتب الفريقين في هذا المجال ستجد الحق إن كنت منصفاً مع الذين ساروا مع نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة وهكذا لعبت يا بنيّ هذه الفلسفة لعبة خطيرة في صفوف المسلمين، وشقت طريقهم، ثم حملة المادية اللعينة التي أشرت إليها آنفاً من قبل أعداء الإسلام من الغربيين والشرقيين وغيرهم من الشعوبيين الحاقدين على هذه الرسالة السماوية من اليهود والنصارى، والمجوس عليهم لعائن الله تعالى، وقد أكثرت عليك يا بني من هذا الحديث الذي لا يخفى على من له أدنى علم بالحوادث التاريخية، والمقصود يجب على المسلمين العودة الحميدة والرجوع المشرف إلى منابع العلم الصحيح، وإلى الثقافة الإسلامية الحرة النزيهة التي سار عليها الآباء الأمجدون من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
(ابن تيمية مدرسة إسلامية عظيمة)(9/313)
ثم تكلم أخيراً عن الإمام العلامة شيخ الإسلام، وبركة الأنام، المجدد للملة المحمدية أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني، العالم الرباني والمفكر الإسلامي العظيم الذي كسر الله به شوكة الفلسفة اليونانية، وقوتها، وأبطلها بعلمه الغزير. وكشف عوارها وعيبها، فألف في إبطالها، ومحاربتها تلك التأليفات النافعة التي قال بعض أساطين الغرب عنها "إنها لو ترجمت إلى لغات أخرى منها اللغة الأوروبية لأسلم نصف أوروبا". فكان بذلك مدرسة إسلامية عظيمة، أو جامعة إسلامية كبيرة ضخمة، جمع الله فيه علوم الأولين والآخرين فوقف في الميدان وقفة رائعة مثالية كان لها أعظم الأثر في العالم كله، فهذه فئات الكتب التي تركها للأمة الإسلامية لتدل دلالة واضحة على أن الله تعالى جدد به الدين الإسلامي الحنيف، وأيد به العقيدة الإسلامية الصافية النقية التي هي رمز الجهاد والحق، والقوة والعظمة لله سبحانه وتعالى، ولقد صدق الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي أخرجه الإمام أبو داود السجستاني في سننه والحاكم في المستدرك، والبيهقي في معرفة الآثار والسنن، وأورده صاحب المشكاة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: فيما علمت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" [1] فلو حلفت يا بني على أن هذا الإمام أعني شيخ الإسلام ابن تيمية هو أحد مجددي هذا الدين الحنيف ومن بعده شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي رحمة الله عليهما وعلى جميع المسلمين لما كنت حانثاً إن شاء الله تعالى، وهذا الأخير كان أثراً بارزاً من آثار الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى فسار في حياته العلمية الحافلة سيراً مباركاً عظيماً، وخطى خطوات سريعة في الإصلاح، والدعوة إلى الله عز وجل في تلك الظلمات التي كادت لا نظير لها في حياة المسلمين من الشرك والظلم، والاستبداد وغير ذلك من المعاني المنكرة(9/314)
الشائعة حينذاك في بلاد نجد، والحجاز وغير ذلك من الوديان والبراري، فأنار الله جل وعلى به الطريق السوي المستقيم لجميع الشعوب الإسلامية، واستمر الرجل العظيم في دعوته، وجهاده بل حزم، وإيمان، ونشاط حتى انتشرت الدعوة وبلغت جميع الآفاق فعم به الخير، والبركة في بلاد نجد وغيرها فجمع بها شمل هذا الشعب العظيم من إقامة الدولة الإسلامية العظيمة التي أقامت الحدود الإسلامية في ربوعها، ووضعت الحق في نصابه، وأرجعت الأمور إلى طبيعتها، وقطعت جميع سبل الشر، والفساد، والنهب، واللصوصية، والإجرام، وأمنت البلاد والعباد في ضوء هذه الرسالة الكريمة، فكان بذلك بركة عظيمة في جميع مناحي حياتنا المادية والمعنوية ذلك مثل عظيم لصلاحية رسالة الإسلام في كل زمان، ومكان، انظروا إلى الإحصائيات الجنائية التي تقع في العالم كله، ثم طالعوا دفاتر الأمن والاستقرار لهذه البلاد المقدسة، ثم قارنوا بين هذا، وذاك حتى يقفوا على الحقيقة الناصعة البيضاء التي يمكن أن تتقطع جميع الشبهات التي أثارها أعداء الدين من أن صلاحية هذا الدين في جميع شئون الحياة غير ممكنة في الوقت الحاضر، تلك شبهة تافهة هزيلة لا أضيع الوقت في ردها.(9/315)
وقد أكثرت عليك يا بني من هذا الحديث الذي يعرفه كل من له صلة بالعلم في عالمنا الإسلامي، وهناك حديث آخر، وقد يكون أخيراً في هذه الجلسة وهو أن تكون المنح التي تخصص في جامعات هذه البلاد المقدسة لأولاد المسلمين وهي لا شك عمل إسلامي عظيم تنبه له هذا الإمام العظيم حفظه الله تعالى، والمخلصون من علماء هذه البلاد المقدسة أمثال العلامة الشيخ الفاضل عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ونائبه العلامة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد. وغيرهما حفظهم الله تعالى وتولاهم. فلتكن هذه المنح كلها أو جلها للطالب الذي يريد التخصص في مادة العلوم الشريعة، ما عدا البلاد الإفريقية، والأمريكية والأوروبية التي خلت عن الدراسة الدينية مطلقاً ومعنى هذا أن تكون هناك في الجامعة الإسلامية في جميع كلياتها شعبة التخصص في جميع الفنون الإسلامية التي تساعد الطالب في دعوته إلى الله تعالى على بصيرة، والقاضي في قضائه الذي سيتولاه بعد تغيير المناهج التعليمية في بلاده، وكل في فنه من الفنون الإسلامية ولا جدوى الآن يا بني: من المناهج النظرية التي تدرس في الكليات الإسلامية لأنها غير كافية في تثقيف الطالب ثقافة عالية رفيعة يمكن له أن يقف بها موقفاً صلباً أمام دعاة الإلحاد، الفساد، فالإسلام الآن في حاجة ماسة إلى دعاة أقوياء علماً، وعملاً، وصلاحاً، ورشاداً، وإخلاصاً، ولا أقول إن هذه الدولة العظيمة تتحمل بجميع نفقات هذا التخصص المشار إليه، وإنما تكون بعضها على الطالب الذي أعطي من المال حظاً وافراً، يرغب الذهاب إلى أوروبا في سبيل هذا التخصص وهو مستعد أن يتحمل هذه النفقات بكل سهولة، ويسر هناك، فإذا خرج الداعي المتخصص في فنه من هذه الجامعة المباركة فسيكون له بصر تام، وعلم غزير في ميدان الدعوة الإسلامية الصحيحة، ومعه علم مع الخلق العظيم، والأدب الرفيع فسوف يؤثر إن شاء الله تعالى بحوله، وقوته المجتمع الذي سيعيش فيه. فلتكن هناك مكتبة(9/316)
كبيرة عالمية بجوار هذا التخصص في هذا البلد المقدس الطاهر والتي يستمد منها الطالب مصادره، ومراجعه وهي أكبر نواة لهذا البناء الراسخ وأرى أن يسمح لأي طالب مسلم حاز على درجة الليسانس أو البكالوريوس من أي جامعة إسلامية، أو مدرسة معروفة، أو الاختبار كما هو معمول به الآن في جميع الجامعات الأوروبية والأمريكية، فإذا تخصص الطالب مخصصاً علمياً في هذه الجامعة، وأمامه المكتبة الكبيرة التي لا نظير لها في العالم كله، وفيها من المراجع الهامة من المطبوعات، والمخطوطات، فإذا تخصص في عالم السيرة النبوية مثلاً، أو الحديث الشريف، أو الفقه الإسلامي المقارن، أو التاريخ أو غير ذلك من الفنون، فإنه يكون على حقيقة ناصعة من علمه، تاركاً كل شيء وراءه لم يثبت لديه علمياً، فهذا هو الحق الذي أخذه من هنا، ودعا إليه المسلمين، فهذا بناء راسخ قوي، للدعوة الإسلامية، والقضاء الإسلامي، والفكرة الإسلامية، وغير ذلك من ذلك من الأمور المتخصص فيها وليس هذا بمشكل أمام هذا الإمام العظيم حفظه الله تعالى الذي هيأ الله تعالى له جميع أسباب الرخاء والتقدم وبعمله هذا سوف يقطع خطاً كبيراً امتد طولاً، وعرضاً من ديار المسلمين إلى بلاد الكفار وتمر قوافل طلبة المسلمين عليه ليلاً، ونهاراً في سبيل تخصصاتهم العلمية كما سبقت الإشارة إليه، وإن قطع هذا الخط سيعتبر عملاً جليلاً في الإسلام وبداية كبيرة للعهد المبارك الذي سيأتي على المسلمين إن شاء الله تعالى.(9/317)
ولقد علمت، وتأكدت أن جلالة الفيصل العظيم حفظه الله تعالى ورعاه قد وضع حجر الأساس في العام المنصرم للمكتبة الإسلامية العظيمة في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وسميت بمكتبة جلالة الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود تغمده الله برحمته، ورضوانه. فلتكن هذه المكتبة هي التي تخدم رواد الثقافة الإسلامية من كل مكان ولتجمع إلى جنباتها من أندر المخطوطات الإسلامية وغيرها وبذلك تكون أعظم مكتبة في الدنيا كلها لما لها من أهمية بالغة في العالم كله من ناحية الموقع الجغرافي ومن ناحية المادة العلمية التي اشتملت عليها، وأخبرك يا بني عن بعض المكتبات الإسلامية التي تعمل ليلاً ونهاراً في خدمة العلم - كمكتبة دار الكتب المصرية التي أقامها رجل بارز في بداية القرن الحالي وهو علي بن المبارك الباشا أحد الوزراء المصريين بالقاهرة ولا شك أنها مكتبة كبيرة يقال: أن فيها تسعين ألفاً من أندر المخطوطات زيادة على ما فيها من المطبوعات، وتملك هذه المكتبة أعظم مطبعة عصرية في الوقت الحاضر تطبع فيها الكتب القيمة وهناك مكتبات أخرى وإن كانت أقل مستوى من دار الكتب المصرية، وفي دمشق الشام توجد مكتبة كبيرة وهي مكتبة دار الكتب الظاهرية أقامها الملك العادل ظاهر بيبرس في القرن السابع ولا تزال تقدم خدمة كبيرة للعلم والثقافة. وفي تركيا الإسلامية عدة مكتبات أثرية كمكتبة أحمد الثالث باستنبول، وآيا صوفيا، ومكتبة ملا مراد إلا أن إمكانيات أصحابها محدودة جداً بمكة المكرمة عاصمة الإسلام الأولى مكتبة وهي مكتبة مثالية في المملكة العربية السعودية ولم أجد لها نظيراً في سائر المكتبات التي زرتها وإن كانت صغيرة في حجمها بالنسبة للمكتبات المشار إليها إلا أن الخدمة العلمية فيها ممتازة للغاية، حبذا لو كان النظام في سائر المكتبات العالمية كنظامها لكان خيراً كبيراً من حيث تنول المراجع والمصادر بسهولة، ويسر، زيادة على ما تهيئ هذه المكتبة(9/318)
لروادها ما يحتاجون إليه من المرافق الهامة، والورق والحبر والماء البارد وتكييف الهواء في موسم الحر، والهدوء التام وغير ذلك من الأشياء.
لو سارت جميع المكتبات في هذه البلاد المقدسة على غرارها وكمكتبة الجامعة الملك عبد العزيز الواقعة بمكة المكرمة، وجُدّة لكان عملاً مباركاً عظيماً يرجع على الباحثين بالفائدة العلمية الكبيرة. فلتكن مكتبة جلال الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى مثالية شامخة، تلك المكتبة العظيمة التي رعاها برعاية الله تعالى ابن عبد العزيز المخلص فيصل بن عبد العزيز حفظه الله تعالى نعم: فلتكن هذه المكتبة عالمية بمعناها الصحيح فلتكن بجوارها شعبة التخصص، تلك الشعبة التي تحمل مسئولية كبيرة فذة في العالم الإسلامي في الدعوة والإرشاد، والإصلاح وهكذا يعم الخير في ربوع الدنيا كلها بفضل الله تعالى، ثم بفضل هذا الإمام أيده الله تعالى، ونصره.
وهكذا تستقل هذه البلاد الطاهرة المقدسة بهذا التعليم الإسلامي لئلا يكون هناك مجال لخروج الطالب المسلم إلى أوروبا أو أمريكا في سبيل تخصصه في المادة الإسلامية ويتردد على أبواب هؤلاء الكفرة في سبيل علمه، وخلقه، وأدبه، وعنده ما ليس عند غيره وهكذا يرتفع هذه البلاد رويداً، رويداً في جميع شعب الحياة فتكون بذلك مرجعاً لجميع المسلمين في جميع شعب حياتهم المادية والمعنوية، وهذا الذي أحلم به ويحلم به معي كل مسلم في كل مكان وهذا الذي فكره الإمام فيصل بن عبد العزيز المعظم رعاه الله تعالى، وليس هذا ببعيد إن شاء الله تعالى. وفي الختام أستودع الله دينك، وأمانتك وخواتيم أعمالك وأصلي وأسلم على عبده، ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(9/319)
هكذا تمت هذه الجلسة الأخيرة في رحاب البيت العتيق وقد أجاد وأفاد فيها هذا الأخ المسلم وما أكثر هؤلاء الذين يحملون اليوم هذه الفكرة في العالم الإسلامي لعلها تجد إن شاء الله تعالى تجاوباً كريماً، واستجابة طيبة وقد حررت هذه الأسطر أداء للأمانة التي حملني إياها ذلك الأخ الفاضل المخلص لإبلاغها وإيصالها إلى الأسماع المؤمنة المخلصة في هذه البلاد الإسلامية العظيمة وصلى الله على رسوله محمد وصحبه أجمعين..
--------------------------------------------------------------------------------
[1]-أخرجه أبو داود في سننه في أول كتاب الملاحم 109/4، والحاكم في المستدرك في كتاب الفتن 523/4 والبيهقي في معرفة الآثار والسنن، في انظر المرقاة شرح االمشكاة 248/1 وإسناده حسن.(9/320)
ما هي علاقة الأمة المسلمة بالأمم الأخرى؟
بقلم فضيلة الشيخ أحمد محمود الأحمد
المدرس في كلية الدعوة وشعبة اللغة بالجامعة
لعل من الواجب أن نكشف عن (هُوّية) [1] هذه الأمة المسلمة قبل أن نأخذ بالإجابة عن هذا السؤال، بل لعل الكشف عن هويتها يتضمن الجواب في جوهره وحقيقته، إذ لا يخفى ما بين هوية الكائن الاجتماعي أو السياسي، كالأمة والدولة وبين علاقته بالأمم والدول الأخرى من صلات وشيجة.
وخير وسيلة للكشف عن (هوية) أمتنا المسلمة الكريمة - هي - النظر إليها من خلال العاملين الأساسين اللذين صاغاها على نحو ما نعلم، وهما الكتاب والسنة، وهذان العاملان غنيان - ولله الحمد والمنة - بما يسهل علينا هدفنا هذا.
يقول الله سبحانه: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [2] .
ويقول: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [3] .
ويقول: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [4] .
ويقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْك َر ... } [5] .
ويقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [6] .
ويقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [7] .(9/321)
ويقول: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [8] .
ويقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [9] .
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب في غزوة خيبر، وقد عهد إليه بمهمة عسكرية: " … فوالله لأن يُهدَى بك رجل واحد خير لك من حمر النعم" أخرجه البخاري.
ويقول صلى الله عليه وسلم مبيناً أن إمكاناتنا جميعاً يجب أن تجعل في سبيل الله، وأننا مسؤولون عن ذل بين يديه سبحانه: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ما عمل فيه".
وكان عليه الصلاة والسلام يبعث أصحابه - على حبه إياهم وحرصه عليهم - ليدعوا إلى الله، ويبلغوا عنه، يسهموا في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ولو كان طريق الدعوة محفوفاً بالشدائد، وما خبر أصحاب الرجيع (في السنة الثالثة من الهجرة) ، ولا أصحاب بئر منونة (في السنة الرابعة) عنا ببعيد، فلقد استشهد على طريق الدعوة في هاتين المناسبتين وحدهما زهاء ثمانين رجلاً من خيار المسلمين، فرضي الله عنهم وأرضا لهم، ورزقنا اقتفاء آثارهم.
والآيات والأحاديث، ووقائع السيرة النبوية، والتاريخ الراشدي، في ذلك كثيرة …
وفي ضوء ما تقدم يمكننا في يسر وسهولة أن نحدد (هويّة) أمتنا المسلمة الكريمة على النحو التالي:(9/322)
"إن هذه الأمة هي ناس من خيار الناس، أكرمهم الله سبحانه بالاجتماع على الإيمان والعمل بما جاء من عنده، وجعل ولاءهم المطلق له ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وشرفهم بتكليفهم دعوة العالم كله إلى ما هداهم إليه من الحق وأوجب عليهم جعل حياتهم خالصة له، لا يضنون بشيء منها نفساً أو نفيساً في سبيل تبليغ الدعوة، تصحيحاً لحياة الناس، وإخراجاً لهم من عبادة العباد إلى عبادة الله، وإسعاداً لهم في معاشهم ومعادهم، وهذه الأمة بطبيعة هويتها تسمو في تفكيرها وسلوكها فوق جميع الاعتبارات التي لا تنطوي على قيم حقيقية، كالاعتزاز باللون أو الجنس أو النسب أو الأرض، أو ما شاكل ذلك، وهي إنما تبتغي بدعوة الناس كل الناس إلى الحق وجه الله والدار الآخرة، دونما تطلع إلى استعلاء، أو استعمار، وإنما هي الرغبة المخلصة، والجهاد الجاهد لإشراك الجميع فيما أولاها الباري سبحانه من نعم معنوية أو مادية.
ولعلي أستطيع أن ألخص الكلام في (هوية) أمتنا المسلمة بقولي: "إنها أمة عقيدة ودعوة"، فإذا عرفنا ذلك وتذكرها أثر (هوية) الأمم والدول في سلوكها، وفي علاقتها بسواها من الأمم أدركنا غير ما عناء أن علاقة أمتنا المختارة بالأمم الأخرى على اختلاف ألوانها، ولغاتها، وأديانها ليست في- حقيقتها - علاقة سلم ولا حرب، ولا دفاع ولا هجوم، وإنما هي (علاقة دعوة) ، وصدق العلي القدير إذ يقول - كما سلف الاستشهاد -: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
فالأمة المسلمة – إذن - أمة دعوة عالمية تتخطى في إيمان، وسمو، وعفوية، كل الحدود والحواجز التي تنتهي إليها، أو تتهاوى عندها المبادئ الأخرى،سواء كانت هذه الحدود جغرافية أو سياسية أو عرقية أو لغوية … أو نحوها، وهي بذلك تفتح أبواب رحمة السماء لأهل الأرض أجمعين.(9/323)
والآن أود أن أطرح على نفسي هذا السؤال: ما حقيقة هذه العلاقة التي أسميتها (علاقة دعوة) ؟ إن هذه العلاقة في حقيقتها هي منهج متكامل لمواجهة أيما عقبة يحتمل ظهورها في طريق تبليغ دعوة الحق للأحمر والأسود، وهذه المواجهة مبنية في حكمة بالغة، ودقة دقيقة على سنن الله في الأشياء، ومقتضيات الظروف في كل مرحلة من مراحل تاريخ الدعوة الذي لن ينتهي - بإذن الله - إلا بقيام الساعة.
فهذه العلاقة - بناء على ذلك - تتخذ أشكالاً شتى تبعاً لمصلحة الدعوة أي تبعاً للمصلحة الحقيقية لأهل الأرض جميعاً، لأن مصلحتهم الحقة هي التي تترتب عليها سعادتهم الشاملة في هذه العاجلة، سعادتهم الأبدية في الآجلة، وكل مصلحة سواها، ليست سوى (ملهاة) .
ولأستعرض الآن نماذج للأشكال التي عرفتها هذه العلاقة في ضوء الواقع التاريخي، وفي ضوء الظروف العلمية التي مرت بها0
أولاً: المرحلة المكية:
كل الظروف التي واجهت علاقة المسلمين بالمشركين في هذه المرحلة كانتا تقضي أن تكون علاقة غير قتالية، أي علاقة بيان للحق، وصبر على الأذى فيه، واحتساب لكل ما عرفت رباع مكة ورمضاؤها، والطائف وفجاجها، من أذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعذاب لبلال وآل ياسر، وزنّيرة، وخباب، وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، وليس معنى ذلك أن علاقة المسلمين بغيرهم هي - أبداً - علاقة بيان وسلام فحسب، بل إن مصلحة الدعوة في مواجهة ظروفها في هذه المرحلة، هي التي اقتضت أن تكون كذلك، بحيث تتناول الناس بالأساليب السلمية، وبيان الحقائق بياناً مؤثراً، ما كان - أجدره بأن يستجيب له القوم، لولا إتباع الهوى، ولولا سلطان المصالح الحائلة الزائلة، من زعامة، ووجاهة، ومكاسب مادية، وما إلى ذلك.(9/324)
وكلنا يعلم ما كان من أمر عتبة بن ربيعة العبشمي عندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم ممثلاً لكفار قريش، عله يصرفه عن دعوته بإغراء المال، أو الجاه، أو الملك، فما كان منه عليه الصلاة والسلام، إلا أن تلا عليه قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ، قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ، قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ، فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ، إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ(9/325)
أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [10] .
وما إن بلغ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية حتى أخذ عتبة بفيه، وناشده الرحم أن يكفّ، ثم عاد الرجل إلى من وراءه بغير الوجه الذي جاء به، ونصح إليهم أن يخلوا بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين ما هو فيه من الدعوة، ولكن هيهات، لقد رموه بأنه قد سُحر …
وهكذا نرى أن علاقة المسلمين بغيرهم قد اتخذت في هذه المرحلة المكية شكلاً اقتضته طبيعة المرحلة التاريخية، وهو البيان، والصبر، والصمود، والاحتساب.
ثانياً: مرحلة ما بعد الهجرة:
لقد تغيرت ظروف الدعوة بعد الهجرة، وكان تغيرها من جهات عدة، لقد شعر المسلمون في دارهم الجديدة بأمن لم يعرفوه في المرحلة السابقة، وبعد الهجرة أذن لهم بالقتال، ثم فرض عليهم قتال من يقاتلهم، ثم فرض عليهم قتال المشركين كافة فصدعوا بالأمر، وقاتلوا لأن القتال كان مما اقتضته ظروف الدعوة الجديدة، وليس معنى ذلك أن علاقة المسلمين بغيرهم صارت قتالاً صرفاً، بل بقيت كما كانت علاقة دعوة، بمعنى أنها تهدف إلى نشر الدعوة التي كلفوا نشرها بالوسائل الأكثر مناسبة للظروف المواجهة، ومع الإذن بالحرب، بل مع فرضها بقي المجال واسعاً للطرق الودية إذا كانت - هي - الأجدى على الدعوة.
لقد عقد النبي صلى الله عليه وسلم بين أهل يثرب من المسلمين واليهود والمشركين معاهدة رائدة، يمكن أن توصف بأنها دستور لدولة المدينة التي ولدت بعد الهجرة، والتي أصبح الرسول صلى الله عليه وسلم بحكم الواقع رجلها الأول، ثم جاءت هذه المعاهدة فأكدت ذلك، وقد اعتبر العام الباحث محمد حميد الله معاهدتنا هذه أول دستور مكتوب في العالم، وإليكم نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم(9/326)
هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم: بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم.
إنهم أمة واحدة من دون الناس.
المهاجرون من قريش على رِبعتهم [11] ، يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم [12] بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو عوف على ربعتعم، يتعاقلون معاقلهم الأولى [13] ، كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين. وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو جُشَم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة نفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وأن المؤمنين لا يتركون مفرَحاً ( [14] ) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.
وألا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.
وإن المؤمنين المتقين على من بغى منهم، أو ابتغى دَسِيعة [15] ظلم، أو إثم، أو عدوان، أو فسادٍ بين المؤمنين.
وإن أيديهم عليه جميعاً، ولو كان والد أحدهم.
ولا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر، ولا ينصر كافراً على مؤمن.
وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.(9/327)
وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين، ولا متناصر عليهم.
وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم.
وإن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً.
وإن المؤمنين يُبيء [16] بعضهم على بعض، بما نال دماءهم في سبيل الله.
وإن المؤمنين المتقين على أحسن هَدْيٍ وأقومه. وإنه
لا يجير مشرك مالاً لقريش ولا نفساً، ولا يحول دونه على مؤمن.
وإنه من اعتبط [17] مؤمناً قتلاً عن بينة، فإنه قود به، إلا أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه.
وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثاً ولا يؤويه وأنه من نصره أو آوه، فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيمة ولا يؤخذ منه صَرْف ولا عَدْل0
وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد صلى الله عليه وسلم.
وإن يهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
وإن يهود بني عوفٍ أمة مع المؤمنين.
لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وإثم، فإنه لا يوتغ [18] إلا نفسه وأهل بيته.
وإن جفنة بطن من ثعلبة كأنفسهم.
وإن لبني الشُطيبة مثل ما ليهود بني عوف، وإن البر دون الإثم [19] .
وإن موالي ثعلبة كأنفسهم، وإن بطانة [20] يهود كأنفسهم، وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم.
وإنه لا ينحجز على ثأر جُرح.
وإنه من فَتَك فبنفسه فتك، وأهل بيته، إلا من ظلم.
وإن الله على أبر هذا [21] .
وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم.
وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وإن بينهم النصح والنصيحة، والبر دون الإثم.
وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم.(9/328)
وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
وإن يثرب حرام جوفُها لأهل هذه الصحيفة.
وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
وإنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره [22] .
وإنه لاتجار قريش ولا من نصرها.
وإن بينهم النصر على من دهم يثرب.
وإن دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وإنهم إذا دُعوا إلى مثل ذلك، فإن لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين، على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.
وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم، على مثل ما لأهل هذه الصحيفة، مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة.
وإنه البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه.
وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.
وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم، وإنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثِم.
وإن الله جار لمن بَرّ واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم" [23] .
إن هذه المعاهدة إذ عقدت كانت مصلحة الدعوة في الظروف المواجهة تقتضي عقدها، وليس معنى ذلك أن العلاقة بين المسلمين وغيرهم أضحت علاقة معاهدات، وعلاقة حبر على ورق، بل الواقع أن هذه العلاقة بقيت كما كانت (علاقة دعوة) ، وقد عقدت هذه المعاهدة، لأن مصلحة الدعوة - كما قلنا - كانت تقتضيها.
ولما أن تبدلت الظروف بخيانة اليهود، ونقضهم المعاهدة، وأصبحت مصلحة الدعوة - وهي المصلحة الحقيقية للبشر قاطبة - تتطلب الحرب حاربهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأجلى بني قينقاع في السنة الثانية للهجرة، وأجلى بني النضير في السنة الرابعة، وكان ما كان من أمر بني قريظة بعد غزوة الأحزاب في السنة الخامسة.(9/329)
فهذه الحروب، ومثلها سائر حروب المسلمين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، لم يكن لها من هدف سوى إزالة العقبات من طريق الدعوة كي يتاح تبليغها الناس في جو خال، من الضغط أو الفتنة، وفي غيبه الطواغيت الذين كانت مصالحهم الذاتية تستلزم الحؤول بين الدعوة الهادية وبين الشعوب التي كانت ترزح تحت كابوس مظالمهم واستغلالهم، فكان لا بد من أجل مصلحة الدعوة، بل مصلحة الشعوب أن يزاح هؤلاء ولو بشبا السيوف حين لا يكون بد من ذلك، لأن المسلمين ما كانوا ليستطيعوا بحسب تعاليم دينهم التضحية بمصلحة العباد من أجل حفنة من الطواغيت الذين كانوا يستغلون اليهودية، والنصرانية، والوثنية، والمجوسية إبقاء على مصالحهم الخاصة.
وليس من المعقول أن توصف هذه الحروب بدفاع أو هجوم، لأن مثل الوصف غير واردٍ أصلاً، فهي - كما رأينا، وكما هو الواقع - حروب لإزالة العقبات، أياً كانت، من طريق المصلحة البشرية الحقيقية، أو من طريق الدعوة الربانية.
وقد استمرت علاقة الأمة المسلمة بالأمم الأخرى خلال العهدين النبوي والراشدي منهجاً متكاملاً يواجه أيما عقبة تبدو في طريق الدعوة، مواجهة مكافئة لمقتضيات الظروف، وطبائع الأمور، ولذلك فإننا نرى أن الحروب والأساليب السلمية من وساطة، ومعاهدات، وتحكيم، وما إلى ذلك تتناوب وتتعاون حسب مصلحة الدعوة وحدها، دونما نظر إلى أي اعتبار آخر، ولا سيما اعتبار الدفاع الذي فتن به بعض المعاصرين كما سنرى.(9/330)
ففي رمضان من السنة الأولى للهجرة، على رأس سبعة أشهر من مهاجرته [24] صلى الله عليه وسلم رأى من مصلحة الدعوة أن يعترض عيراً لقريش كانت آيبة من الشام، وعلى رأسها أبو جهل في ثلاثمائة من المشركين، فعقد لعمه حمزة وأرسله في ثلاثين رجلاً من المهجرين لهذه الغاية، فسار ركب المجاهدين الدعاة حتى بلغوا ساحل البحر من ناحية العيص، فصادفوا العير هناك، ولما تصافوا للقتال تدخل مجديُّ بن عمرو الجهني، وبذل وساطته للكف عن القتال، فرضي الطرفان وساطته، وانصرف أحدهما عن الآخر، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم قبول وساطة مَجْدي، بل شكرها له فيما ذهب إليه الشيخ محمد الخضري [25] 0(9/331)
فلو رحنا نتلمس الدوافع التي كانت وراء هذا التحرك العسكري لما رأيناه دفع هجوم قامت به قريش، بل لرأينا أنه كان هنالك دافعان اثنان وراءه، الأول اعتراض العير لإضعاف قريش عدوة الإسلام الأولى مالياً، وبما أنها قبيلة تقوم حياتها على التجارة، فاعتراض عيرها وعرقلة نشاطها التجاري مما يضعفها، وفي ضعفها مصلحة للدعوة، لأنها - كما قلنا آنفاً - عدوة الإسلام الأولى بل زعيمة العرب في هذا العداء، والدافع الثاني إشعار المتربصين من مشركي يثرب ويهودها، ومن حولها من القبائل أن المسلمين أضحوا قوة، وأن الوضع الذي كانوا عليه من قبل قد مضى إلى غير معاد، فما عليهم إلا أن يحسبوا لهذه القوة حسابها في تصرفاتهم إزاء أصحابها، وإن في قبول المسلمين وساطة مَجْدي، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم له لما يدل على أن منهج المواجهة للظروف والاحتمالات في علاقة المسلمين بغيرهم كامل العناصر والأدوات، … فهناك الحرب حين تدعو مصلحة الدعوة إليها، وهناك الأخذ بالوسائل السلمية من وساطة وتحكيم وغيرهما حين يكون من مصلحة الدعوة الأخذ بها، … وإذن فلا داعي بل لا مساغ لفكرة الدفاع والهجوم، إنما هي مصلحة الدعوة أو مصلحة البشرية الحقيقية، وتتكرر العوامل والمقتضيات على هذا المنوال نفسه طول المرحلة التاريخية التي تنتهي تقريباً في صفائها، ونقائها، ومثاليتها بانتهاء عهد الخلفاء الراشدين..(9/332)
ولنضرب مثالاً آخر من حياة المسلمين المبكرة في المدينة المنورة، ولنرَ كيف تكمن وراءه الدوافع نفسها، وهي مصلحة الدعوة … ففي صفر على رأس اثني عشر شهراً من مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة [26] خرج يريد عيراً لقريش، ويريد بني ضمْرة أيضاً، وسار حتى بلغ وَدّان [27] غير أن العير فاتته، فاكتفى عند ذلك بموادعة بني ضمرة، ثم عاد إلى المدينة ولم يلق كيداً، وقد كان موضوع هذه الموادعة أن بني ضمْرة آمنون على أنفسهم، وأن لهم النصرَ على من رامهم، وأن عليهم نُصرةَ المسلمين إذا دُعوا [28] .
فالدوافع التي كانت وراء هذه الغزوة هي نفسها التي كانت وراء صلات المسلمين بغيرهم ألا وهي مصلحة الدعوة، والنتائج التي انتهت إليها هي مصلحة الدعوة أيضاً، ألم تر أنها كسبت تأييد قبيلة لها قيمتها في المنطقة، ولا شك أن لهذا الكسب وزنه في سير الأمور في هاتيك الظروف.
ثم تتوالى الأحداث والعلاقات الكثيرةُُ بين المسلمين والمشركين، وكلها تلتقي على مبدأ واحد، وهو معالجتها من قبل المسلمين على أساس خدمة الدعوة، والتمكين لها، وتهيئة الأسباب الموضوعية لتسهيل وصولها إلى الناس كي يعتنقوها، ويحققوا باعتناقها مصلحتهم الحقيقية في الدنيا والآخرة.
ونسير مع الأحداث حتى نبلغ السنة السادسة للهجرة، فإذا بنا أمام غزوة الحديبية، وهنا نود أن نقف قليلاً مع هذه الغزوة لما فيها من دلالة على ما نحن بصدده.(9/333)
"رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين، فأخبرهم أنه يريد العمرة [29] ، وخرج في ذي القعدة بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم من الأعراب، وساق الهدي، وأحرم بالعمرة ليأمن الناس حربه، وليعلموا أنه إنما خرج زائراً للبيت معظماً له، [30] حتى إذا كانوا بثنية المُرار بركت ناقته القصواء، فقال الناس:"خلأت الناقة"، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما خلأت؟ وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها"، ثم أمر الناس أن ينزلوا" [31] .
على أن قريشاً لم تطب نفساً بهذه العمرة، ولم ترض عن دخول المسلمين عليها مكة، ولو كانوا إنما يريدون زيارة البيت وتعظيم حرمته، فأعدت ما استطاعت من قوة، وخرجت بالعوذ المطافيل تريد صد النبي صلى الله عليه وسلم عما أراد ….
وأنّى لها صده؟! وقد التف حوله أولئكم الآساد الظماء، الذين يستعذبون الموت في طاعته، وفي نصرة عقيدتهم، وإعلاء راي دعوتهم … فعمدت مكرهة إلى المفاوضات، علها تأخذ لنفسها منه ما ترضى به … وطالت هذه المفاوضات، واختلفت الرسل بينه صلى الله عليه وسلم وبينها، وبلغ عدد رسلها إليه خمسة: بُديل بن ورقاء الخزاعي، ومِكرَز بن حفص بن الأخيف، والحليس بن علقمة، وعروة بن مسعود الثقفي، وسهيل بن عمر أخو بني عامر بن لؤي [32] ،وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتلقاهم بصدر رحب، ويبين لهم في قاله وحاله أنه ما جاء يريد حرباً، وأنه إنما جاء معظماً لحرمة البيت … وكان هؤلاء السفراء يعودون إلى قريش وهم أميل إلى مواتاة المسلمين والسماح لهم بأداء نسكهم الذي جاؤوا من أجله، غير أن قريشاً كانت تأبى في ذلك عناد ومكابرة، وعدم تقدير لواقع الظروف التي تطيف بها.(9/334)
وأخيراً اضطرت إلى تفويض رسولها الخامس سهيل بن عمرو بمصالحة المسلمين على شروط اشترطتها، وخلاصتها ما يلي:
1 - وضع الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنين، وعند بعضهم أربع سنين.
2 -من جاء المسلمين بغير إذن وليه رُدّ عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع النبي صلى الله عليه وسلم لم يُرَد.
3- أن يرجع عنهم النبي صلى الله عليه وسلم عامهم هذا، فلا يدخل عليهم مكة، وإنه إذا كان عام قابل، خرجوا منها، فدخلها بأصحابه، فأقام بها ثلاثاً ليس معهم إلا سلاح الراكب، السيوف في القرب.
4- من أراد الدخول في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من قبائل العرب دخل، ومن أراد الدخول في عهد قريش دخل.
ولا شك أن هذه الشروط تنطوي - في ظاهرها - على إجحاف كبير بحق المسلمين، وتسامح عظيم مع قريش لا يكاد يحتمل، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبلها، واحتمل كل ما فيها نظراً لما كان يرى بتعليم الله إياه من عواقبها المفيدة للدعوة، والمبشرة بانتشارها وانتصارها في الجزيرة العربية وفيما وراءها …(9/335)
وقد انضاف إلى ما في ظاهر هذه الشروط من إجحاف مرارة موقف الأصحاب - رضي الله عنهم - إزاءها، وما داخلهم بشأنها من غم أوفوا معه على الهلاك، وقد زاد الموقف حرجاً تعنت مفاوض قريش بشأن ذكر البسملة، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رسول الله في صلب المعاهدة، ثم مجيء أبي جندل بن المفاوض سهيل بن عمرو فاراً بدينه من قريش، وموافقته صلى الله عليه وسلم على رده إليها عملاً بشروط المعاهدة … وهكذا انعقدت كل هذه السحب الكثيفة الكئيبة في جو هذا الصلح - ومع ذلك احتملها الرسول صلى الله عليه وسلم في صبر ورفق واطمئنان، لأنه- كما قلنا آنفاً - كان يلمح وراء ما الأكمة من تحقيق مصلحة الدعوة، وما كان ينتظرها من ظفر عظيم من جراء هذه الشروط التي فرحت بها قريش، وساء الأصحاب قبولها، ولم يستطيعوا أن يدركوا ما أدركه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم من فوائدها، ولا غرو فهو عبد الله ورسوله لا يخالف أمر ربه ولا يضيعه ربه.
وقد حققت الأيام صحة تقدير النبي صلى الله عليه وسلم الأمور، وصواب ما كان يلمحه من مصلحة الدعوة، وما كان لها ألا تفعل، حتى استحق صلح الحديبية هذا أن يسمى فتحاً، يقول الزهري - رحمه الله -: "فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة، ووضعت الحرب، وأمن الناس بعضهم بعضاً، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يُكلّم أحدٌ بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر" [33] .
والدليل على صحة قول الزهري - كما يقول ابن هشام - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة، في قول جابر بن عبد الله - ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف [34] .(9/336)
وأصدق من ذلك كله قول الله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} [35] ، وهذا الفتح هو صلح الحديبية [36] .
ونحن نحس- بلا شك- أن جميع المتاعب التي عاناها الرسول صلى الله عليه وسلم، في جميع مراحل هذا الصلح، إنما كانت من أجل تكييف علاقته بقريش على نحو يحقق مصلحة الدعوة، ويمهد أمامها سبل الوصول إلى ما يريد لها من انتشار، وانتصار، وإلى ما يريد للناس من اهتداء وانتفاع … وبذلك لم تخرج علاقة المسلمين بقريش- كما تبدت من خلال ملابسات الحديبية الدقيقة - عن الخط العام، وهو كون علاقة المسلمين بغيرهم هي علاقة دعوة، يهدف - هذه العلاقة - إلى نشر الدعوة، وتعمل على تحقيق أهدافها التي من أجلها بعث النبي صلى الله عليه وسلم بشيراً ونذيراً.
وثمة ظاهرة أخرى في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام تدل على صحة ما نذهب إليه في تفسير علاقة الأمة المسلمة بغيرها من الأمم، وهذه الظاهرة هي إرساله صلى الله عليه وسلم الكتب إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإسلام بعد رجوعه من الحديبية – لأنه - إذ ذاك - قد أمن السبل على أصحابه أكثر من ذي قبل، وتخفف مؤقتاً وإلى حد ما من التفكير في شأن قريش، فبعث - فيما روى ابن سعد في الطبقات الكبرى [37] ستة نفر في يوم واحد، يحملون كتبه صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء، وذلك في المحرم سنة سبع، ومن هؤلاء دَحية بن خليفة الكلبي، الذي توجه بكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيصر ملك الروم، وجاء في هذا الكتاب كما أخرجه البخاري رحمه الله بسنده:(9/337)
"من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئاَ، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون".
وظاهر أن محور هذا الكتاب هو الدعوة إلى الإسلام، مدعمة بما يترتب على الاستجابة إليها من سلامة وأجر، وإنّ الكتب الأخرى التي حملها سائر من بَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك لا تخرج - في الجملة - عن معنى هذا الكتاب، فهي تنضح بروح الدعوة التي هي - كما نعلم - جوهر العلاقة بين أمتنا المسلمة والأمم الأخرى.
وهناك شيء آخر يشارك إرسال الرسول بالكتب إلى الملوك في الدلالة على ما نحن بصدده، ألا وهو استقبال الوفود التي وفدت على رسول الله صلى الله عله وسلم، ولا سيما في السنة التاسعة والعاشرة، حتى دعيت السنة التاسعة - فيما ذهب إليه ابن هشام [38]- سنة الوفود.
والسبب الأول في إقبال هذه الوفود على المدينة هو فتح مكة سنة ثمانٍ، إذ بفتحها سقطت زعامة الشرك، وهوت رايته من أقوى يد كانت تحملها، وسبب آخر له أثره في تحريك هذه الوفود إلى طيبة عاصمة الدعوة المنتصرة، ألا وهو غزاة تبوك سنة تسعٍ، وما واكبها من انسحاب الروم إلى معاقلهم داخل بلاد الشام، فأيقن العرب بعد هاتين الحادثتين أن الأمر جد أي جد، وانه لا مناص من الاستجابة للحق، فالمكابرة مهما طالت غير مجدية …
وعامل آخر كان له أثره في تعميق شعور القبائل بوجوب هذه الاستجابة، وهو إسلام ثقيف، لأنها كانت آخر قبيلة عزيزة الجانب لم تدن بالإسلام، على أن استجابتها هي نفسها كانت من نتائج إسلام العرب من حولها، وإحساسها بأنها لا طاقة لها بحربهم جميعاً.(9/338)
وأيا ما كان الأمر،فقد تحركت وفود القبائل قاصدة المدينة، وقد بلغت من الكثرة مبلغاً كبيراً، حتى أن عددها قد جاوز عند ابن سعد سبعين وفداً، وما إخاله قد أحصاها جميعاً.
وقد بدا الرسول صلى اله عليه وسلم من خلال محادثاته مع هذه الوفود ذلكم الداعية الحكيم الذي يحرص كل الحرص على هداية الناس، وتبليغ رسالته التي أرسله الله بها، وتحقيق مصلحة دعوته التي تشكل جوهر العلاقات بين أمته وسواها من الأمم والشعوب.
وإن موقفه هذا لا يعروه تغير سواء مع وفود القبائل العربية، أو مع وفود الدول الكبرى كدولة الروم، فها إنه يبدأ رسول هرقل إليه الذي وافاه بتبوك أول ما يبدؤه بقوله:"هل لك إلى الإسلام الحنيفية ملة أبيكم إبراهيم؟ " [39] .
والخلاصة أن الأمة المسلمة هي في هويتها الأصيلة أمة (عقيدة ودعوة) وإن دعوتها إلى هذه العقيدة التي كرمها الله بها هي ملاك صلتها بالأمم والشعوب الأخرى، وأن هذه الصلة القائمة على العقيدة لتتخذ شكل منهجٍ متكامل العناصر ليواجه مختلف الاحتمالات بما يناسبها، وإن الحرب عنصر أساسي من عناصر هذا المنهج، وإن استخدامها ليدور مع مصلحة الدعوة وجوداً وعدماً، فلا يعقل وصفها بأنها دفاعية أو هجومية، وإنما الوصف الملائم لها أنها عنصر من عناصر المنهج الذي تواجه به الدعوة مختلف الاحتمالات والظروف، وما هدف هذه الحرب إلا إزالة العقبات والحوائل من طريق الدعوة التي تتمثل فيها المصلحة الحقيقية للبشرية قاطبة - كما قلنا غير مرة - وسأعود إلى هذه النقطة فيما يأتي من الكلام.
عهد الخلفاء الراشدين:
وقد استمرت صلة الأمة المسلمة بالأمم الأخرى على هذا النحو الذي ذكرنا طول عهد الخلفاء الراشدين، وحسبنا أن نسوق للدلالة على ذلك مثالاً واحداً حدث في الجبهة الشرقية سنة أبرع عشرة للهجرة، قبيل نشوب معركة القادسية، وما أكثر الأمثلة التي تلتقي معه في الروح والدلالة.(9/339)
يروي الطبري [40]- رحمه الله - ما خلاصته: بعث سعد بن أبي وقاص عن أمر عمر - رضي الله عنهما- وفداً من خيار رجاله إلى ملك الفرس يزدجرد يدعونه إلى الإسلام، وكان فيهم النعمان بن مقرن، وبسر بن أبي رهم، والمغيرة بن شعبة، والمغيرة بن زرارة، والمعنى بن حارثة، فلما بلغوا المدائن وأدخلوا على الملك سألهم بواسطة ترجمانه، ما جاء بكم؟ وما دعاكم إلى غزونا والولوع ببلادنا؟ أمن أجل أنا تشاغلنا عنكم اجترأتن علينا؟ فأجابه النعمان ابن مقرن: "إن الله رحمنا فأرسل إلينا رسولاً يدلنا على الخير، ويأمرنا به ويعرفنا الشر وينهانا عنه، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة، فلم يَدْعُ إلى ذلك قبيلة إلا صاروا فرقتين، فرقة تقربه، وفرقة تباعده، ولا يدخل معه في دينه إلا الخواص [41] ، فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث، ثم أُمِرَ أن ينبذ إلى من خالفه من العرب، وبدأ بهم وفعل، فدخلوا معه جميعاً على وجهين: مكره عليه فاغتبط، وطائع أتاه فازداد، فعرفنا جميعاً فضل ما جاء به على الذي كنا عليه من العداوة والضيق، ثم أمرنا أن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهو دين حسّن الحسن، وقبّح القبيح كله، فإن أبيتن فأمر من الشرين هو أهون من أخر شر منه الجزاء، فإن أبيتم فالمناجزة، فإن أجبتم إلى ديننا خلفنا فيكم كتاب الله، وأقمناكم عليه، على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم، وشأنكم وبلادكم، وإن اتقيتمونا بالجزاء، قبلنا منكم، وإلا قاتلناكم". والخبر جد عظيم، ولكن الرغبة في الاختصار تحول دون نقله بتمامه.
الحرب وبدعة الدفاع:
لقد عرفنا مما سلف أن الحرب في الإسلام- هي - عنصر من عناصر المنهج الذي تواجه به الدعوة الإسلامية مختلف الاحتمالات والظروف في صلاتها بالأمم الأخرى، وجدير بنا أن نلاحظ أن التحرك لبدء الآخرين بالدعوة إلى الإسلام هو خصيصة ذاتية من خصائص هذا الدين.(9/340)
يدل على ذلك قول النعمان بن مقرن الآنف ذكره، وهو " ثم أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نبدأ بمن يلينا من الأمم، فندعوهم إلى الإنصاف "فهل يسوغ مع ذلك أن نقول: إن الحرب في الإسلام - هي - حرب دفاعية؟ كلا، إنها حرب لإزالة العقبات من طريق الدعوة، وللإسلام في تهيئة المناخ المناسب لدخول الناس في دين الله تحقيقاً لسعادتهم الحقيقية في العاجلة والآجلة.
ثم هل من المعقول أن تواجه دعوة عالمية كالإسلام الأمم والشعوب بمنطق الدفاع، وعلى رأس هذه الأمم وتلك الشعوب حكام جبابرة كالأكاسرة والقياصرة، يحولون دون امتداد الدعوة بمختلف أنواع القوة؟ أليس من طبائع الأشياء أن يبدأ المسلمون هؤلاء الجبابرة بالدعوة في إطار من القوة، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم؟ فإن استجابوا كف المسلمون عنهم، وتركوهم وشأنهم، وإن أبو لم يكن أمام المسلمين إلا أن يزيلوا سلطانهم ليخلوا بين الأمم وبين دعوة الإسلام، تتفهمها في جو من الأمن والاطمئنان، عسى أن ينتهي هذا التفهم إلى اعتناقها، والوصول إلى مصالحهم الحقة في معاشهم ومعادهم.. وهذا ما حصل فعلاً على مدى التاريخ الملتزم بالإسلام.
ثم هل كان النعمان بن مقرن وغيره من الصحابة يجهلون تعاليم الإسلام حين قالوا لكسرى وأمثاله: "وأمَرنا نبينا صلى الله عليه وسلم بأن نبدأ بمن يلينا من الأمم فندعوهم إلى الإنصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا" إلى آخر ما سلفت روايته من كلامه؟
ويقول أحد الكتاب المعاصرين:
ترى لو كان أبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - قد أمنوا عدوان الروم والفرس على الجزيرة، أكانوا يقعدون إذن عن دفع المد الإسلامي إلى أطراف الأرض؟ وكيف كانوا يدفعون هذا المد؟ وأمام الدعوة تلك العقبات المادية، وأنظمة المجتمع العنصرية والطبقية، التي تحميها تلك القوة المادية الجبارة؟!(9/341)
أليس من السذاجة بمكانٍ أن يتصور الإنسان دعوة عازمة على هدية العالم كله، ثم تقف أمام هذه العقبات تجاهد باللسان والبيان فحسب؟!
وشيء آخر، لماذا لم تظهر فكرة الحرب الدفاعية قبل وقوعنا تحت ضغط الاستعمار الغربي، وتخاذلنا أمام مخططاته الرهيبة، ومخططات المبشرين والمستشرقين؟
لماذا لم يقل بهذه الفكرة أحد من علماء هذه الأمة، سلفها أو حتى خلفها؟ أجهلوا جميعاً هذا التفسير العبقري للحرب في الإسلام، حتى جاء ضحايا المخططات فاكتشفوه وقدموه غذاءً عصرياً - ولكنه غير صحي- للفكر الإسلامي.
لماذا خلت الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الحاسمة في وجوب القتال من هذه البدعة "بدعة الحرب الدفاعية"؟
ألم يقل الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [42] كما قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} سواء بسواء؟
ألم يقل رسوله صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من النفاق" رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
ألم يصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية قال له: " … وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (أو خلال) فأيتهن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم … فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم" [43] .
وأعود فأقول: أعن جهل أم عن تقصير خلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية من بيان (بدعة الحرب الدفاعية) ؟ حاشا لله، ولكن ضحايا المخططات يتأولون الأمور على غير وجهها …(9/342)
إن هذه البدعة، تشبه أن تكون مقدمة للقول بما ذهبت إليه القاديانية من إلغاء الجهاد بالسيف والاكتفاء بالجهاد عن طريق البيان، ولا شك أن مذهب هؤلاء خطة استعمارية هدفها إبطال مفعول الجهاد الذي طالما حال دون الاستعماريين وما يشتهون من إخلاد تسلطهم على البلاد الإسلامية.
اللهم إننا لا نستطيع أن نقبل هذه البدعة إلا أن نتخلى عن نقائضها وهي خمسة أشياء:
أولاً: الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الني توجب علينا الجهاد كعنصر من عناصر منهج المواجهة، وقد عرفنا ذلك آنفاً.
ثانياً: فهم الصحابة رضوان الله عليهم، وفهم من تبعهم بإحسان لمعنى الجهاد في الإسلام، وتطبيقهم إياه باذلين فيه النفس والنفيس، والطريف والتليد.
ثالثاً: وقائع السيرة النبوية والتاريخ الراشدي.
رابعاً: كون الإسلام دعوة حركية مبادِهَة.
خامساًً: الاحتفاظ بعقولنا حرة دون وقوعها فريسة لمخططات الأعداء.
أجل، إننا لا نستطيع قبول بدعة الحرب الدفاعية إلا بالتخلي عن هذه الأمور جميعاً، وهذا ما لا سبيل إليه!
وإذن فلا سبيل إلى قبول هذه البدعة، التي لا تعدوا - في الحقيقة - أن تكون ضرباً من الإلقاء بالنفس إلى التهلكة، على أن موضوع القتال في الإسلام حري بأن يفرد ببحث بل بأبحاث ضافية.
مناقشة شبهة:
وبمناسبة الكلام في علاقة الأمة المسلمة بالأمم الأخرى أود أن أعرض ببعض المناقشة لشبهة أثارها الأستاذ مجيد خدوري [44] في كتابه" War And Peace in Islam "
أي (الحرب والسلم في الشريعة الإسلامية) إذ قال: " إن القانون الدولي الحديث يعترف بداهة بوجود الأسرة الدولية المؤلفة من دول تتمتع بحقوق السيادة كاملة، وبالمساواة فيما بينها، أما القانون الدولي الإسلامي فلا يعترف بأمة سوى أمته … " [45] .(9/343)
وأقول هذا كلام ليس بمنصف ولا دقيق، إن المسلمين قد اعترفوا منذ البداية بوجود الأمم والدول غير الإسلامية، وكان اعترافهم بها - على الأقل - من النوع الذي يسمى في اصطلاح الحقوق الدولية المعاصرة اعترافاً بالأمر الواقع (De Pacto) وهو الذي يجيء نتيجة تعامل فعلي كعقد الاتفاقيات وتبادل الوفود، وما إلى ذلك، وكلنا يعلم أن المسلمين منذ العهد النبوي عقدوا الاتفاقيات، والموادعات، وتبادلوا الوفود مع الدول والجماعات غير المسلمة.
ولكن هذا الاعتراف الواقعي لا يعني إقرار ما انطوت عليه حياتها من زيغ وانحراف وشوائب، لأن هذا الإقرار ينافي طبيعة الإسلام الذي أخذ على عاتقه تصحيح أوضاع الأمم كلها، وإخراجها جميعاً من الظلام إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى الذي لا يضارعه هدى.
وعلى ذلك فقد كان أجدر بالأستاذ خدوري أن يقول لو أراد رعاية جانب الإنصاف والروح العلمي: "إن القانون الدولي الإسلامي يعترف بوجود الأمم والدول غير الإسلامية ولكنه لا يرضى عن إهمالها وتركها على ما هي عليه من الزيغ والانحراف، لأن ذلك يتنافى والخصائص الذاتية للإسلام".
تبدل وابتعاد:
ومما يؤسف له حقاً أن (هُوّيّة) هذه الأمة لم تبق دائماً على ما كان لها من صفاء وقوة وسمو في العهدين النبوي والراشدي، بل داخلها ولو على بعض المستويات شيء من التبدل الذي ظهرت آثاره في علاقاتها بالأمم الأخرى، على أنها كانت تعود إلى هذه الهوية من حين إلى حين، وحينئذ كانت تعود علاقاتها بالأمم الأخرى إلى أصالتها الأولى، وآثارها الحميدة العظيمة، فإذا عادت وابتعدت عن هويتها هذه عادت فظهرت آثار هذا الابتعاد في تلك العلاقات.(9/344)
ومن فترات العودة إلى الهوية الحقيقية الفترة التي حكم خلالها خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز رحمه الله، إذ عادت علاقة الأمة المسلمة بالأمم الأخرى إلى كونها علاقة قائمة على أساس الدعوة ومقتضياتها (لا على أساس الجباية والسطوة) ، مما سبب دخول الملوك في الإسلام على يديه، ولكن الذين جاؤوا بعده عادوا إلى الانفصال النسبي عن هذه الهوية، فظهرت آثار هذا الانفصال السيئة على مسرح العلاقات الخارجية الإسلامية.
يقول البلاذري في كتابه فتوح البلدان [46] :
"ثم مات سليمان بن عبد الملك، وكانت خلافة عمر بن عبد العزيز بعده، فكتب إلى الملوك (ملوك السند) يدعوهم إلى الإسلام والطاعة، على أن يملكهم، ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وقد كانت بلغتهم سيرته ومذهبه فأسلم حليشة [47] والملوك، وتسموا بأسماء العرب".
ولكن ولاية السند صارت في أيام هشام بن عبد الملك إلى الجنيد بن عبد الرحمن المري، (فأتي الجنيد الديبل [48] ، ثم نزل شط مِهران [49] ، فمنعه حليشة العبور، وأرسل إليه:"إني قد أسلمت وولاني الرجل الصالح بلادي ولست آمنك". فأعطاه رهناً وأخذ منه رهناً بما على بلاده من الخارج، ثم إنهما ترادّا الرهن، وكفر حليشة وحارب، وقيل إنه لم يحارب، ولكن الجنيد تجنى عليه، فأتى الهند فجمع جموعاً، وأخذ السفن، واستعد للحرب، فسار إليه الجنيد في السفن، فالتقوا في بطيحة الشرقي، فأُخذ حليشة أسيراً، وقد جنحت سفينته فقتله.
وهرب صصة بن داهر [50] ، وهو يريد أن يمضي إلى العراق فيشكو غدر الجنيد، فلم يزل الجنيد يؤنسه حتى وضع يده في يده فقتله) [51] وقد أورد ابن الأثير هذا الخبر في (الكامل) [52] بنحو رواية البلاذري.(9/345)
وعندي أن المسؤولين في هذه الأمة عبر التاريخ لو استقاموا على سنن النبوة، والخلافة الراشدة في تكييف علاقاتهم بالأمم الأخرى لدانت لهم البلاد والعباد، ولمكن الله لهم في الأرض، ولأحلوا أمتهم المسلمة المكان الذي خلقت لتحله، لكنهم انحرفوا عن هذا السنن، فالتوت عليهم الأمور، وجعلوا ينحدرون شيئاً فشيئاً إلى مستوى المسؤولين العاديين في أنفسهم وفي علاقاتهم بالأمم الأخرى.
غير أنه قد كان لهذه الأمة - كما قلنا - عودات إلى (هويتها الحقيقية) وليس الآن مكان استيعابها، وقد كان من آخرها عودتها في القرن الثاني عشر في عهد الإمامين محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى، وجزاهما عن الإسلام وأهله خيراً، وهذه العودة حقيقة بدراسة متخصصة مستوعبة.
صفوة القول:
أن الأمة المسلمة العظيمة لها (هُوّيّة) متميزة، وذلك أنها أمة (عقيدة ودعوة) عالميتين، ومن هذه الهوية انبثقت علاقتها بالأمم الأخرى، فكانت علاقة قائمة على (الدعوة والعقيدة) ، هادفة إلى إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى، أي أنها كانت دعوة هادفة إلى إبلاغ الناس قاطبة مصلحتهم الحقيقية في العاجلة والآجلة، وقد أعدت لذلك منهجاً متكاملاً لمواجهة مختلف الظروف والاحتمالات وهي في زحفها الحاني الحكيم لتبليغ الناس ما كلفها الله تعالى تبليغه من الحق والهدى، وشعارها في كل ذلك (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) و {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .(9/346)
وكانت الحرب، وما زالت عنصراً من عناصر منهج المواجهة المتكامل، وكانت وما زالت فرضاً مفروضاً، غير أن استخدامها إنما يتوجب بحسب مصلحة وجوداً وعدماً، ولا يجوز بوجه ما أن توصف بأنها دفاعية أو هجومية، وأحق ما توصف به أنها حرب لإماطة العقبات، أيّاً كانت، عن طريق الدعوة، أو عن طريق المصلحة الحقيقية للإنسانية كافة …
ثم كان لهذه الأمة إنفصالات عن هويتها الحقيقية، أورثت خللاً في علاقتها بالأمم الأخرى، ثم كانت لها عودات إلى هذه الهوية، أورثت استقامة في علاقاتها تلك.
ويبدو أنه من واجبنا في هذا العصر أن نحشد الجهود لتربية الأجيال المسلمة في ضوء الهوية الأصلية لهذه الأمة، لعل الله تعالى يصلح بهم أمر أمتهم - بل أمر العالم أجمع، وما أجدر المؤسسات العلمية في العالم الإسلامي، جامعاتٍ وغير جامعاتٍ، والمؤسسات الإعلامية أن تدير مناهجها وبرامجها على أساس هذه (الهوية) .
إن مصلحة العالم قاطبة لن تتم إلا يوم تكون الهيمنة فيه للهوية الإسلامية الأصيلة هوية العقيدة والدعوة، التي تجعل علاقة الأمم بعضها ببعض ملاكها التلاقي على الدعوة الربانية، والعقيدة الصحيحة، والفكرة الموضوعية المستعلية - كما قلنا في بداية هذه المحاضرة - على جميع الاعتبارات التي لا تنطوي على قيم حقيقة كالاعتزاز، باللون، أو اللغة، أو الجنس، أو الأرض، وتنأى بجانبها عن أي ضربٍ من ضروب الاستغلال، أو الاستعمار، أو غمط الآخرين أي حق من حقوقهم التي جعل الله لهم قواماً، وكلنا يعلم أن هذه الأمور التي يشجبها الإسلام جملة وتفصيلاً هي أكبر أسباب التوتر والقلاقل والحروب في العالم قديمة وحديثة.
وخير ما أختم به محاضرتي هذه - هو - قوله تعالى:(9/347)
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [53] ، وقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [54] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [55] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الهوية: حقيقة الشيء الذي تميزه عن غيره.
[2] السورة - 103
[3] سورة لقمان - 22
[4] سورة يونس - 62 و 63
[5] سورة التوبة - 71
[6] سورة يوسف -108
[7] سورة فصلت - 33
[8] سورة التوبة - 24
[9] سورة الحجرات - 13
[10] سورة فصلت: 1 - 14.
[11] الربعة: الحال التي جاء الإسلام وهم عليها.
[12] العاني: الأسير.
[13] المعاقل: الديات، الواحدة: معقلة.
[14] مفرحاً: المثقل بالدّين، والكثير العيال.
[15] الدسيعة: العظيمة، وأراد بها هنا: ما ينال عنهم من ظلم.
[16] يُبيء: هو من البواء أي المساواة.
[17] إعتبطه: قتله بلا جناية منه توجب قتله.
[18] يوتغ: يهلك.
[19] وإن البر دون الآثم: وإن البر والوفاء ينبغي أن يكون حاجزاً عن الإثم.
[20] بطانة الرجل: خاصته وأهل بيته.
[21] وإن الله على أبر هذا: وإن الله على الرضا به.
[22] وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره: وإن الله وحزبه المؤمنين على الرضى به.(9/348)
[23] ابن هشام، السيرة، جـ1 ص501 - 504، الطبعة الثانية 1375هـ 1955م. وقد أورد الباحث العالم محمد حميد الله هذه المعاهدة في كتابه (أول دستور مكتوب في العالم) the first written constitution in the world واستقصى رواياتها ومصادرها استقصاء حسناً.
[24] الطبري، جـ2 ص402، تحقيق الجيزاوي، 1962م.
[25] محمد الخضري، نور اليقين، ص: 101، الطبعة الخامسة عشرة.
[26] عبد السلام هارون، تهذيب سيرة ابن هشام، جـ2 ص139.
[27] وَدان قرية بين مكة والمدينة، بينها وبين الأبواء ستة أميال، ولذا تدعى هذه الغزوة غزوة الأبواء.
[28] محمد الخضري، المرجع السابق، ص102.
[29] محمد الخضري، المرجع السابق، ص186.
[30] عبد السلام هارون، المرجع السابق، ص27.
[31] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، جـ4ص195، ط دار إحياء الكتب العربية، القاهرة.
[32] عبد السلام هارون، المرجع السابق، جـ2 ص28- 32-
[33] (2) ابن هشام، السيرة، جـ2، ص322.
[34] ابن هشام،السيرة، جـ2، ص322
[35] سورة الفتح-27.
[36] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، جـ4 ص203.
[37] جـ1 ص 258.
[38] السيرة، جـ2 ص 560.
[39] ابن كثير، السيرة النبوية، جـ4، ص27، تحقيق مصطفى عبد الواحد، ط1385 - 1966 القاهرة.
[40] تاريخ الأمم والملوك، جـ3 ص17، القاهرة، 1357هـ - 1939م.
[41] يريد بالخواص الخواص من حيث جودة الاستعداد لتقبل الحق، فقراء كانوا أو أغنياء، ضعفاء أو أقوياء وليس الخواص من حيث المكانة الدنيوية متمثلة في الجاه، والمال، والقبيل.
[42] البقرة - 216.
[43] صحيح مسلم، جـ12 ص37.
[44] مستشرق عراقي الأصل.
p.p.4.4
[45]
[46] ص540.
[47] يسميه ابن الأثير جيشبة بن ذاهر (الكامل، جـ4، ص197، طبعة محمد منير الدمشقي) .(9/349)
[48] يقال إن الديبل تقع مكان كرا تشي اليوم، أو قريباً منها.
[49] وادٍ يجري فيه نهر السند.
[50] أخو حليشة أو جيشبة (ابن الأثير، المرجع السابق) .
[51] البلاذي، فتوح البلدان، جـ3 ص541، ط، مكتبة النهضة المصرية.
[52] جـ4، ص 197.
[53] سورة التوبة - 105
[54] انظر ص: 1
[55] انظر ص: 2(9/350)
العدد 27
فهرس المحتويات
1- العقيدة الصحيحة وما يضادها: رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عبد العزيز بن عبد الله بن باز
2- من أعلام المحدثين - أبو أحمد بن عدي الجرجاني 277-365هـ: بقلم فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
3- الإسلام والحركات الهدامة المعاصرة: بقلم الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
4- رسائل لم يحملها البريد: بقلم فضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
5- أول معهد في الإسلام: لفضيلة الدكتور محمد محمد خليفة
6- عرض ونقد لما كتبه الدكتور محمد علوي المالكي حول الكوثري والدحلان: بقلم الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي
7- بنو إسرائيل في ضوء الإسلام: بقلم الشيخ محمد أمين سليم
8- حول ترجمة القرآن بالإنجليزية المطبوعة في اليابان: لفضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف
9- فمن لها?: لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
10- حول نظرية الالتزام - يا ولد?ما مفهومها؟ وما مدلولها في المجتمع السلفي؟ : بقلم السعيد الشربيني الشرباصي
11- قضايا أساسية في تطوير المكتبة العربية والإسلامية: بقلم عيد عبد الله السيد
12- خطر الصحافة المنحرفة على الشباب والأسرة والمجتمع والدولة: بقلم الشيخ محمد المهدي محمود
13- الشاعر الأمريكي المتحرر أزارا باوند: بقلم الشيخ أحمد صالح محايري
14- من الصحف والمجلات: إعداد العلاقات العامة
15- ندوة الطلبة - الحب العظيم: للطالب أحمد بن حسن المعلم
16- الحقائق والمعاني من هدي السبع المثاني: للطالب عزيزو محمد مغربي
17- سيروا: بقلم محمد عبد الرحمن شميلة الأهدل
18- الفتاوى: يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
19- أخبار الجامعة: إعداد العلاقات العامة
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(9/351)
العقيدة الصحيحة وما يضادها
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلما كانت العقيدة الصحيحة هي أصل دين الإسلام، وأساس الملة، رأيت أن تكون هي موضوع المحاضرة، ومعلوم بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة أن الأعمال والأقوال إنما تصح وتقبل إذا صدرت عن عقيدة صحيحة، فإن كانت العقيدة غير صحيحة بطل ما يتفرع عنها من أعمال وأقوال كما قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (المائدة:5)
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الزمر:65)
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقد دل كتاب الله المبين، وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم على أن العقيدة الصحيحة تتلخص في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره؛ فهذه الأمور الستة هي أصول العقيدة الصحيحة التي نزل بها كتاب الله العزيز، وبعث الله بها رسوله محمدا عليه الصلاة والسلام، ويتفرع عن هذه الأصول كل ما يجب الإيمان به من أمور الغيب، وجميع ما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأدلة هذه الأصول في الكتاب والسنة كثيرة جدا.(9/352)
فمن ذلك قول الله سبحانه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (البقرة:177) {الآية. وقوله سبحانه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه} (البقرة:285)
الآية. وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} (النساء:136) وقوله سبحانه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحج:70) .
أما الأحاديث الصحيحة الدالة على هذه الأصول فكثيرة جدا، منها الحديث الصحيح المشهور الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جبريل عليه السلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال له: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" الحديث. وأخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة.
وهذه الأصول الستة يتفرع عنها جميع ما يجب على المسلم اعتقاده في حق الله سبحانه، وفي أمر المعاد وغير ذلك من أمور الغيب.(9/353)
فمن الإيمان بالله سبحانه الإيمان بأنه الإله الحق المستحق للعبادة دون كل ما سواه، لكونه خالق العباد والمحسن إليهم، والقائم بأرزاقهم، والعالم بسرهم وعلانيتهم، والقادر على إثابة مطيعهم وعقاب عاصيهم؛ ولهذه العبادة خلق الله الثقلين وأمرهم بها كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُون مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (الذاريات:56 - 57 - 58) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة21 -22)
وقد أرسل الله الرسل وأنزل الكتب لبيان هذا الحق والدعوة إليه، والتحذير مما يضاده، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: من الآية36) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء:25)
وقال عز وجل: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍأَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} (هود:1- 2) .(9/354)
وحقيقة هذه العبادة هي إفراد الله سبحانه بجميع ما تعبد العباد به من دعاء وخوف ورجاء وصلاة وصوم وذبح ونذر وغير ذلك من أنواع العبادة على وجه الخضوع له والرغبة والرهبة، مع كمال الحب له سبحانه، والذل لعظمته؛ وغالب القرآن الكريم نزل في هذا الأصل العظيم، كقوله سبحانه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ {وقوله سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاه {وقوله عز وجل: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. {
وفي الصحيحين عن معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا".
ومن الإيمان بالله أيضا الإيمان بجميع ما أوجبه على عباده وفرضه عليهم من أركان الإسلام الخمسة الظاهرة وهي: "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا"، وغير ذلك من الفرائض التي جاء بها الشرع المطهر، وأهم هذه الأركان وأعظمها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؛ فشهادة أن لا إله إلا الله تقتضي إخلاص العبادة له وحده ونفيها عما سواه، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإن معناها لا معبود بحق إلا الله، فكل ما عبد من دون الله من بشر أو ملك أو جني أو غير ذلك فكله معبود بالباطل، والمعبود بالحق هو الله وحده كما قال سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِل { (الحج: من الآية62) .(9/355)
وقد سبق بيان أن الله سبحانه خلق الثقلين لهذا الأصل الأصيل وأمرهم به، وأرسل به رسله وأنزل به كتبه، فتأمل ذلك جيدا وتدبره كثيرا ليتضح لك ما وقع فيه أكثر المسلمين من الجهل العظيم بهذا الأصل الأصيل حتى عبدوا مع الله غيره، وصرفوا خالص حقه لسواه، فالله المستعان.
ومن الإيمان بالله سبحانه، الإيمان بأنه خالق العالم ومدبر شؤونهم، والمتصرف فيهم بعلمه وقدرته كما يشاء سبحانه، وأنه مالك الدنيا والآخرة ورب العالمين جميعا، لا خالق غيره، ولا رب سواه، وأنه أرسل الرسل وأنزل الكتب لإصلاح العباد ودعوتهم إلى ما فيه نجاتهم وصلاحهم في العاجل والآجل، وأنه سبحانه لا شريك له في جميع ذلك؛ كما قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ {وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (الأعراف:54) .
ومن الإيمان بالله أيضا الإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العلا الواردة في كتابه العزيز، والثابتة عن رسوله الأمين من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، بل يجب أن تمر كما جاءت بلا كيف، مع الإيمان بما دلت عليه من المعاني العظيمة التي هي أوصاف لله عز وجل يجب وصفه بها على الوجه اللائق به من غير أن يشابه به خلقه في شيء من صفاته، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ { (الشورى: من الآية11) وقال عز وجل: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (النحل:74)(9/356)
وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان، وهي التي نقلها أبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتابه "المقالات عن أصحاب الحديث وأهل السنة"ونقلها غيره من أهل العلم والإيمان.
وقال الأوزاعي رحمه الله: "كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله سبحانه على عرشه، ونؤمن بما ورد في السنة من الصفات. ولما سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك رحمة الله عليهما عن الاستواء قال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ المبين، وعلينا التصديق"ولما سئل الإمام مالك رحمه الله عن ذلك قال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"ثم قال للسائل: "ما أراك إلا رجل سوء، وأمر به فأخرج". وروي هذا المعنى عن أم المؤمنين سلمة رضي الله عنها. وقال الإمام أبو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك رحمة الله عليه: "نعرف ربنا سبحانه بأنه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه".(9/357)
وكلام الأئمة في هذا الباب كثير جدا لا يمكن نقله في هذه المحاضرة، ومن أراد الوقوف على كثير من ذلك فليراجع ما كتبه علماء السنة في هذا الباب، مثل كتاب "السنة"لعبد الله بن الإمام أحمد، وكتاب "التوحيد"للإمام الجليل محمد بن خزيمة، وكتاب "السنة"لأبي القاسم اللالكائي الطبري، وكتاب "السنة"لأبي بكر بن أبي عاصم، وجواب شيخ الإسلام ابن تيمية لأهل حماه، وهو جواب عظيم كثير الفائدة، قد أوضح فيه رحمه الله عقيدة أهل السنة، ونقل فيه الكثير من كلامهم، والأدلة الشرعية والعقلية على صحة ما قاله أهل السنة، وبطلان ما قاله خصومهم، وهكذا رسالته الموسومة بالتدمرية، قد بسط فيها المقام وبين فيها عقيدة أهل السنة بأدلتها النقلية والعقلية، والرد على المخالفين بما يظهر الحق ويدمغ الباطل لكل من نظر في ذلك من أهل العلم بقصد صالح ورغبة في معرفة الحق، وكل من خالف أهل السنة فيما اعتقدوه في باب الأسماء والصفات فإنه يقع ولابد في مخالفة الأدلة النقلية والعقلية، مع التناقض الواضح في كل ما يثبته وينفيه.
أما أهل السنة والجماعة فأثبتوا لله سبحانه ما أثبته لنفسه في كتابه الكريم، أو أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة إثباتا بلا تمثيل، ونزهوه سبحانه عن مشابهة خلقه تنزيها بريئا من التعطيل، ففازوا بالسلامة من التناقض، وعملوا بالأدلة كلها، وهذه سنة الله سبحانه فيمن تمسك بالحق الذي بعث به رسله، وبذل وسعه في ذلك، وأخلص لله في طلبه أن يوفقه للحق ويظهر حجته، كما قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: من الآية18) وقال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} (الفرقان:33)(9/358)
وقد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره المشهور عند كلامه على قول الله عز وجل: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} (لأعراف: من الآية54) الآية كلاما حسنا في هذا الباب يحسن نقله هاهنا لعظم فائدته، قال رحمه الله ما نصه: "للناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح، مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير، بل الأمر كما قال الأئمة منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قال: "من شبه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة، والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله، ونفى عن الله تعالى النقائص فقد سلك سبيل الهدى".
وأما الإيمان بالملائكة فيتضمن الإيمان بهم إجمالا وتفصيلا، فيؤمن المسلم بأن لله ملائكة خلقهم لطاعته، ووصفهم بأنهم عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء:28)
وهم أصناف كثيرة؛ منهم الموكلون بحمل العرش، ومنهم خزنة الجنة والنار، ومنهم الموكلون بحفظ أعمال العباد؛ ونؤمن على سبيل التفصيل بمن سمى الله ورسوله منهم، كجبريل، وميكائيل، ومالك خازن النار، وإسرافيل الموكل بالنفخ في الصور، وقد جاء ذكره في أحاديث صحيحة.(9/359)
وقد ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم" خرجه مسلم في صحيحه.
وهكذا الإيمان بالكتب يجب الإيمان إجمالا بأن الله سبحانه أنزل كتبا على أنبيائه ورسله لبيان حقه والدعوة إليه، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: من الآية25) . وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيه} (البقرة: من الآية213) .
ونؤمن على سبيل التفصيل بما سمى الله منها؛ كالتوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن؛ والقرآن هو أفضلها وخاتمتها، وهو المهيمن عليها والمصدق لها، وهو الذي يجب على جميع الأمة اتباعه وتحكيمه مع ما صحت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الله سبحانه بعث رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا إلى جميع الثقلين، وأنزل عليه هذا القرآن ليحكم به بينهم، وجعله شفاء لما في الصدور وتبيانا لكل شيء، وهدى ورحمة للمؤمنين، كما قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأنعام:155)(9/360)
وقال سبحانه: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: من الآية 89) وقال سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف:158) والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وهكذا الرسل يجب الإيمان بهم إجمالا وتفصيلا، فنؤمن أن الله سبحانه أرسل إلى عباده رسلا منهم مبشرين ومنذرين ودعاة إلى الحق، فمن أجابهم فاز بالسعادة، ومن خالفهم باء بالخيبة والندامة، وخاتمهم وأفضلهم هو نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: من الآية36) وقال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: من الآية165) وقال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب: من الآية40) ومن سمى الله منهم أو ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسميته آمنا به على سبيل التفصيل والتعيين، كنوح وهود وصالح وإبراهيم وغيرهم صلى الله وسلم عليهم وعلى آلهم وأتباعهم.(9/361)
وأما الإيمان باليوم الآخر فيدخل فيه الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت كفتنة القبر وعذابه ونعيمه، وما يكون يوم القيامة من الأهوال والشدائد والصراط والميزان، والحساب، والجزاء، ونشر الصحف بين الناس، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره، ويدخل في ذلك أيضا الإيمان بالحوض المورود لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالجنة والنار، ورؤية المؤمنين لربهم سبحانه وتكليمه إياهم، وغير ذلك مما جاء في القرآن الكريم والسنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما الإيمان بالقدر فيتضمن الإيمان بأمور أربعة أولها: أن الله سبحانه قد علم ما كان وما يكون، وعلم أحوال عباده، وعلم أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم وغير ذلك من شئونهم، لا يخفى عليه من ذلك شيء سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الأنفال: من الآية75) وقال عز وجل: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} (الطلاق: من الآية12) .
والأمر الثاني: كتابته سبحانه لكل ما قدره وقضاه كم قال سبحانه: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} (قّ:4) وقال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (يّس: من الآية12) وقال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحج:70) .(9/362)
الأمر الثالث: الإيمان بمشيئته النافذة، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (الحج: من الآية18) وقال عز وجل: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يّس:82) وقال سبحانه: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (التكوير:29) .
الأمر الرابع: خلقه سبحانه لجميع الموجودات، لا خالق غيره ولا رب سواه، كما قال سبحانه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (الزمر:62) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (فاطر:3) .
فالإيمان بالقدر يشمل هذه الأمور الأربعة عند أهل السنة والجماعة، خلافا لما أنكر بعض ذلك من أهل البدع. ويدخل في الإيمان بالله اعتقاد أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأنه لا يجوز تكفير أحد من المسلمين بشيء من المعاصي التي دون الشرك والكفر؛ كالزنا والسرقة، وأكل الربا وشرب المسكرات، وعقوق الوالدين وغير ذلك من الكبائر ما لم يستحل ذلك؛ لقول الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (النساء: من الآية48) ، ولما ثبت في الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان.(9/363)
ومن الإيمان بالله الحب في الله والبغض في الله، والموالات في الله والمعاداة في الله؛ فيحب المؤمن المؤمنين ويواليهم، ويبغض الكفار ويعاديهم، وعلى رأس المؤمنين من هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهل السنة والجماعة يحبونهم ويوالونهم، ويعتقدون أنهم خير الناس بعد الأنبياء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" متفق على صحته. ويعتقدون أن أفضلهم أبوبكر الصديق، ثم الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضى رضي الله عنه الله عنهم أجمعين؛ وبعدهم بقية العشرة، ثم بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين؛ ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويعتقدون أنهم في ذلك مجتهدون، من أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر؛ ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين به، ويتولونهم، ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، ويترضون عنهن جميعا، ويتبرؤن من طريقة الروافض الذين يبغضون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسبونهم، ويغلون في أهل البيت، ويرفعونهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله عز وجل، كما يتبرؤن من طريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل.(9/364)
وجميع ما ذكرناه في هذه الكلمة الموجزة داخل في العقيدة الصحيحة التي بعث الله بها رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، وهي عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصور، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله سبحانه" وقال عليه الصلاة والسلام: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" فقال الصحابة: من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي" وهي العقيدة التي يجب التمسك بها والاستقامة عليها، والحذر مما خالفها.(9/365)
وأما المنحرفون عن هذه العقيدة والسائرون على ضدها فهم أصناف كثيرة؛ فمنهم عباد الأصنام والأوثان والملائكة والأولياء والجن والأشجار والأحجار وغيرها، فهؤلاء لم يستجيبوا لدعوة الرسل، بل خالفوهم وعاندوهم كما فعلت قريش وأصناف العرب مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وكانوا يسألون معبوداتهم قضاء الحاجات، وشفاء المرضى، والنصر على الأعداء، ويذبحون لهم وينذرون لهم، فلما أنكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وأمرهم بإخلاص العبادة لله وحده، استغربوا ذلك وأنكروه وقالوا: {أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (صّ:5) فلم يزل صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الله وينذرهم من الشرك، ويشرح لهم حقيقة ما يدعو إليه حتى هدى الله منهم من هدى، ثم دخلوا بعد ذلك في دين الله أفواجا، فظهر دين الله على سائر الأديان بعد دعوة متواصلة وجهاد طويل من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان؛ ثم تغيرت الأحوال، وغلب الجهل على أكثر الخلق، حتى عاد الأكثرون إلى دين الجاهلية، بالغلو في الأنبياء والأولياء، ودعائهم والاستغاثة بهم، وغير ذلك من أنواع الشرك، ولم يعرفوا معنى لا إله إلا الله كما عرف معناها كفار العرب، فالله المستعان.
ولم يزل هذا الشرك يفشو في الناس إلى عصرنا هذا بسبب غلبة الجهل وبعد العهد بعصر النبوة.(9/366)
وشبهة هؤلاء المتأخرين هي شبهة الأولين، وهي قولهم: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (يونس: من الآية18) {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: من الآية3) ، وقد أبطل الله هذه الشبهة، وبين أن من عبد غيره كائنا من كان فقد أشرك به وكفر، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} (يونس: من الآية18) فرد الله عليهم سبحانه بقوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: من الآية18) فبين سبحانه في هذه الآية أن عبادة غيره من الأنبياء والأولياء أو غيرهم هي الشرك الأكبر وإن سماها فاعلوها بغير ذلك، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: من الآية3) فرد الله عليهم سبحانه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: من الآية3) فأبان بذلك سبحانه أن عبادتهم لغيره بالدعاء والخوف والرجاء ونحو ذلك كفر به سبحانه، وأكذبهم في قولهم أن آلهتهم تقربهم إليه زلفى.(9/367)
ومن العقائد الكفرية المضادة للعقيدة الصحيحة والمخالفة لما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، ما يعتقده الملاحدة في هذا العصر من أتباع ماركس، ولينين وغيرهما من دعاة الإلحاد والكفر؛ سواء سموا ذلك اشتراكية، أو شيوعية، أو بعثية أو غير ذلك من الأسماء، فإن من أصول هؤلاء الملاحدة أنه لا إله والحياة مادة، ومن أصولهم إنكار المعاد، وإنكار الجنة والنار، والكفر بالأديان كلها، ومن نظر في كتبهم ودرس ما هم عليه علم ذلك يقينا، ولا ريب أن هذه العقيدة مضادة لجميع الأديان السماوية، ومفضية بأهلها إلى أسوأ العواقب في الدنيا والآخرة.
ومن العقائد المضادة للحق ما يعتقده بعض الباطنية وبعض المتصوفة من أن بعض ما يسمونهم بالأولياء يشاركون الله في التدبير، ويتصرفون في شؤون العالم، ويسمونهم بالأقطاب والأوتاد والأغواث وغير ذلك من الأسماء التي اخترعوها لآلهتهم، وهذا من أقبح الشرك في الربوبية، وهو شر من شرك جاهلية العرب، لأن كفار العرب لم يشركوا في الربوبية، وإنما أشركوا في العبادة، وكان شركهم في حال الرخاء، أما في حال الشدة فيخلصون لله العبادة، كما قال الله سبحانه: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت:65) أما الربوبية فكانوا معترفين بها لله وحده، كما قال سبحانه: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (الزخرف: من الآية87) وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} (يونس:31) والآيات في هذا المعنى كثيرة.(9/368)
أما المشركون المتأخرون فزادوا على الأولين من جهتين إحداهما: شرك بعضهم في الربوبية. والثانية: شركهم في الرخاء والشدة كما يعلم ذلك من خالطهم وسبر أحوالهم، ورأى ما يفعلون عند قبر الحسين، والبدوي وغيرهما في مصر، وعند قبر العيدروس في عدن، والهادي في اليمن، وابن عربي في الشام، والشيخ عبد القادر الجيلاني في العراق، وغيرها من القبور المشهورة التي غلت فيها العامة، وصرفوا لها الكثير من حق الله عز وجل، وقل من ينكر عليهم ذلك ويبين لهم حقيقة التوحيد الذي بعث الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الرسل عليهم الصلاة والسلام، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ونسأله سبحانه أن يردهم إلى رشدهم، وأن يكثر بينهم دعاة الهدى، وأن يوفق قادة المسلمين وعلماءهم لمحاربة هذا الشرك والقضاء عليه ووسائله، إنه سميع قريب.(9/369)
ومن العقائد المضادة للعقيدة الصحيحة في باب الأسماء والصفات عقائد أهل البدع من الجهمية والمعتزلة ومن سلك سبيلهم في نفي صفات الله عز وجل، وتعطيله سبحانه من صفات الكمال، ووصفه عز وجل بصفة المعدومات والجمادات والمستحيلات، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا؛ ويدخل في ذلك من نفى بعض الصفات وأثبت بعضها كالأشاعرة، فإنه يلزمهم فيما أثبتوه من الصفات نظير ما فروا منه في الصفات التي نفوها وتأولوا أدلتها، فخالفوا بذلك الأدلة السمعية والعقلية، وتناقضوا في ذلك تناقضا بينا؛ أما أهل السنة والجماعة فقد أثبتوا لله سبحانه ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات على وجه الكمال، ونزهوه عن مشابهة خلقه تنزيها بريئا من شائبة التعطيل، فعملوا بالأدلة كلها ولم يحرفوا ولم يعطلوا، وسلموا من التناقض الذي وقع فيه غيرهم - كما سبق بيان ذلك -، وهذا هو سبيل النجاة، والسعادة في الدنيا والآخرة، وهو الصراط المستقيم الذي سلكه سلف هذه الأمة وأئمتها، ولن يصلح آخرهم إلا بما صلح به أولهم، وهو اتباع الكتاب والسنة وترك ما خالفهما.
والله ولي التوفيق، وهو سبحانه حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا به؛ وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.(9/370)
حول نظرية الالتزام
يا ولد… ما مفهومها؟ وما مدلولها في المجتمع السلفي؟
بقلم السعيد الشربيني الشرباصي
المدرس بدار الحديث المكية التابعة للجامعة
اعتمدت الدعوة السلفية المباركة على "نظرية الالتزام"التي أعد بحثا علميا فيها يحدد مبادئها، ويشرح اتجاهاتها، ويوضح مظاهرها، ويبين نهجها السليم في اتباع طريق لا يشتط ولا يهن ولا يفرط أو يتعصب، ولا ينحرف يمنة أو ينعطف يسرة.
ولقد ضمنت هذه الدعوة للشريعة الغراء الالتزام بالنصوص العظيمة التي وصلت إلينا من مصادرها الوثيقة. وقد كان لهذا الالتزام أثره المحمود في حماية الدين من الأهواء والآراء، ومن الأمزجة والمتاهات، ومن الشطحات والنطحات، والاختراعات والابتكارات التي يحسب أصحابها أنهم على شيء وما هم على شيء، إن هي إلا أوهام توهموها، وخزعبلات اصطنعوها، تذهب دخانا مع نور الحقيقة، وإشراقة اليقين، وفلق الحق المبين.
ولقد عكست "نظرية الالتزام"أخلاقها العظيمة على المجتمع السعودي بحيث جعلت له اتجاهات معينة، وأخلاقا بارزة لا يتسع المجال لعرضها، وإني لمعني بتسجيلها في بحثي العلمي عن "نظرية الالتزام"في الدعوة السلفية.
واليوم أريد تسجيل ظاهرة عابرة عكستها "نظرية الالتزام"على العامة في الطريق، وفي السوق، وفي الأندية، وهي أسلوب التخاطب الواقعي الذي يتم بلا مبالغة أو تضخيم، ومن غير إطراء أو تحسين. والذي يستخدم كلمة "يا ولد"مع كل الناس، حتى أنه ليروع الغريب الذي لم يفهم حقيقة هذا المجتمع وصدقه وواقعيته حينما ينصرف عن بائع الجرجير مثلا، وقد نسي أن يعطيه قرشا من حقه فيصرخ عليه مناديا يا ولد… ويتلفت يمنه ويسره فلا يجد أحدا بجواره، ويدرك أنه المقصود بهذا اللقب العظيم… وأن البائع يريده ليعطيه بقية حقه.(9/371)
وعلماء اللغة يقولون في كتبهم: "الولد: كل ما ولده شيء. ويطلق على الذكر والأنثى، والمثنى والجمع"اهـ ومن هنا نجد القرآن المجيد يستخدم هذه الكلمة بإيجازه الرائع مشيرا إلى هذه المعاني كلها حين يقول في سورة النساء: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ} (النساء: من الآية12) . ومن هنا يقرر علماء الفروض - الميراث - أن الزوج يرث النصف من زوجته عند انعدام ولد لها. فإذا كان لها ولد - ذكرا كان أو أنثى، واحدا أو أكثر، منه أو من غيره - فله الربع…
وهذا بخلاف كلمة "الابن" فإنها لا تطلق إلا على الواحد الذكر. ولهذا جاءت كلمة البنت والأبناء والبنات لبيان أن هناك تفريقا في المراد، على عكس كلمة ولد فليس منها "ولدة".
واستعمال المجتمع السلفي لهذه الكلمة يوحي بالروح الإسلامي الذي يميل إلى العدالة العامة، واحترام الإنسان باعتباره خليفة في أرض الله، سواء كان ذكرا أو أنثى، فردا أو جماعة، كبيرا أو صغيرا، غنيا أو فقيرا، عالما أو جاهلا. فلا فرق بين سيد ومسود، ولا بين عظيم وحقير. فالكل خلق الله، والكل أبناء آدم، والكل من تراب، والكل متحد في المصدر والكل مولود والكل معدوم والكل عند الله سواء، لا ميزة لأحد إلا بحسن العلاقة ومع الخلاق وهي التقوى، وإنها لفي الصدور وليست بالسيارات ولا بالقصور.
وهذه الحقيقة تستلزم الحقيقة الكبرى وهي أن هذه الخلائق لابد لها من خالق، وأن الحادث لابد له من موجد، وأن الفاني يحتاج إلى معدم يحكم عليه بالعدم، ويبقى هو وحده لا شريك له. فلا أول له ولا آخر له، وهو وحده الذي لم يلد ولم يولد وليس كمثله شيء.(9/372)
وقد حرصت الدعوة الإسلامية تثبيت هذه الحقائق، لأنها جاءت لتحطيم الطواغيت، ورفع ظلم الإنسان للإنسان وعدوانه عليه، وفي الوقت ذاته جاءت لتحرير الإنسان من عبادة الإنسان، والأخذ بيده قائلة له:
"انظر إلى الأعلى… انظر إلى السماء وما فيها… وتأمل هذه القبة الرائعة اللامعة، تأمل كيف يبدل الله حالا بعد حال، صباح ومساء، وإشراق وإعتام، وليل ونهار، وقر وحر، ومطر وصفاء فسبحان الواحد الخلاق، وسبحان المبدع العظيم الذي ليس كمثله شيء".
ولما كانت الدعوة السلفية قوامها غرس مبدأ "الالتزام"وهو يقوم على التشبث بالحقيقة، والميل إلى الالتزام الواقع، واستخدام الصدق بلا افتعال أو تصنع، وبدون مبالغة، فقد امتد هذا المفهوم إلى المجتمع السلفي - كما نرى -.
فلا بيه، ولا أستاذ، ولا مولانا، ولا سيادتك، ولا عظمتك، واختفت هذه الألقاب من فم السلفي العادي يعيش في السوق وفي الشارع وفي البادية بعيدا عن المؤثرات الوافدة.
وإني لأنقل هذا المشهد الحي الذي وقع أمامي. ها نحن نتزاحم في سيارة الأتوبيس بعد صلاة التراويح في البيت العتيق في طريقنا إلى منازلنا، ولكن سيارة فاخرة تمرق بجوار الأتوبيس وقد استرعت السيارة أنظار الركاب لأنهم تعرفوا على شخصيات معينة فيها. وبدأ الحوار عن هذه الشخصيات فقال شاب: "إن هذا أحمد. ورد عليه آخر وقال: لا إنه فواز. وعلق الأول قائلا: لا إن فواز على سفر وأحمد هو الموجود". وكان الراكبون قد تعمدوا المرور في مناطق الزحام ليشرفوا بأنفسهم علة تنظيمه، وليتخذوا أسبابا لتلافيه، وقد بدأت تباشير العيد تلوح من خلال الأيام الأخيرة من رمضان المبارك.
وعرفت من فحوى الحديث أنه يدور عن أمراء مكة ولكني لم أسمع واحدا يسبق بلقب ما… الحوار يدور بالأسماء المجردة بدون ألقاب في سماحة إسلامية وبساطة أخوية واقعية سلفية التي تلزم بالوحدانية لله وحده.(9/373)
لقد قلت في حديثي عن "نظرية الالتزام"التي ترسي قواعدها الدعوة السلفية أن الطريق الصحيح لصنع مجتمع إسلامي سليم هو تلاحم الدعاة مع الحماة، وذلك سر نجاح الدعوة السلفية حينما توفر لها الجو الروحي الذي يصنع الإيمان، والجنود الشجعان الذين يحملون الدعوة بالحزم والإصرار والاندفاع.
وأعود للحديث عن واقعية الألقاب التي أملتها خطة الالتزام لنقارن بين هذا الواقع الصادق وبين سواه - مقارنة علمية خالصة - فنجد في الوجه الآخر للمجتمعات الإسلامية التي ابتعدت عن مبدأ الالتزام الإغراق في الألقاب والتطاول في الحديث، والمبالغة في استخدام الصفات؛ فهذا شيخ المشايخ التقي النقي الصالح الورع العارف بالله، وهذا صاحب الفضيلة الأوزعي الألمعي الأستاذ الكبير الشيخ فتح الباب القطب الرباني. وتمتد الألقاب الوظيفية والسياسية أيضا بشكل مزعج يتنافى مع البساطة فضلا عن مجافاتها للواقع. وفي جو هذه الألقاب المطاطة تنكمش روح الإخاء الإسلامي، وتطوى سماحته وبساطته، ويشيع جو من الفواصل المصنوعة والفوارق المدعاة حتى يشعر الأتباع أنهم لا شيء، وأن شيخهم أشياء أشياء، تجعل له أحوالا وأسرارا، وباطنا وظاهرا، ثم تعميهم المظاهر الكاذبة عن النظر إلى الحقيقة، فيذكرون هؤلاء العبيد وينسون ربهم ورب آبائهم وخالقهم وخالق الكون وما فيه.
أما "الملتزم"بالحق وبالنهج فإنه لا يقبل قبل هذه الدعاوي ويرفضها من وقت مبكر قبل أن تتعاظم وتتطاول، وقبل أن تنتفخ وتتورم.
"والملتزم"إذا سئل عن أستاذه مثلا فإنه يقول: "سعيد"، مكتفيا بذلك ولا يزيد، كما أنه إذا سئل عن واقع فإنه يرويه بلا نقص ولا زيادة راغبا في الصدق وفي الالتزام به. أما المتحلل - غير ملتزم - فلا يعنيه الأمر، ولا يجد بأسا من أن يجعل من الحبة قبة، ومن البعرة بعيرا، ومن البحر عسلا وطحينة - كما يقولون - ومن القردة وردة، ومن المبتدئ إماما وعالما جليلا.(9/374)
وقد يعكس الأمر عندما يكون هواه في هذا فيجرد الشيء من خصائصه بكل طاقة له ومن غير إنصاف أو اعتدال.
ولقد حاولت بلاد إسلامية - وقد راعها سخافة هذه الألقاب - أن تكون واقعية، فأصدرت القوانين لمحاربتها ولكنها لم تنجح مع استمرار التجربة سنوات وسنوات، وما تزال هذه الألقاب هي واسطة التخاطب في مجتمعها.
فما السر؟
السر هو أن هذه المجتمعات لا يسود فيها مبدأ الالتزام الذي يجعل المرء يلتزم بما قال، ويفي بما تعهد، وينفذ ما اعتزم، ويرتبط بالمبدأ الذي قطعه على نفسه، وارتضاه لنهجه، ولهذا نجد المجتمع كله يردد هذه الألقاب على الدوام؛ بل إن الأجهزة الحكومية نفسها لا يسود فيها نداء سوى هذه الألقاب، ويمتد هذا من الأجهزة البسيطة إلى أكبر المستويات، وإذا استمعت إلى أجهزة الإعلام لا تجد غير هذه الألقاب الملغاة.
ولا أحد يلتفت، ولا أحد يلوم… لأنه لا "التزام"بما يقال.
وبعد، ألا ما أشبه الالتزام لصحة المسيرة بخيط البناء الذي يشده على الجدار ليلتزم وضع كل حجر في حدود هذا الخيط المستقيم فلا يبرز الجدار ولا يدخل عن وضعه المستقيم.
إن رجال الرياضة يقولون: إن الخط المستقيم هو أقرب الطرق للوصول إلى النقطة، وإن الالتزام والطريق المستقيم للشريعة الغراء بلا انحراف أو انعطاف يمنه أو يسره هو أقرب الطرق للوصول إلى الحقيقة، وأسلم الوسائل لضمان الوصول.
وللكلام بقاية…(9/375)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:38-40) .(9/376)
قضايا أساسية في تطوير المكتبة العربية والإسلامية
بقلم عيد عبد الله السيد
خبير مكتبات الجامعة
"تساءلنا في العدد السابق عن المتطلبات الشخصية لوظائف المكتبة العامة وعن ضرورات التعليم والتدريب وعن طبيعة هذا التدريب وعن نمط المؤسسات التي تتولى هذا التدريب، ثم تساءلنا عن المشكلات الهامة في ترتيب وإدارة موظفي المكتبات.
وسنحاول في هذا المقال أن نجيب عن هذه التساؤلات وأن نستوفي الجانب الأول الذي يثار عند تقويم مكتباتنا، وهو موارد المكتبة، أي أننا سنتحدث عن مجموعات الكتب وعن مواد القراءة.
أما الإعارة وخدمة المراجع وإرشاد القراء وتعليم الكبار واستعمال التي لا تعار والدعوة إلى المكتبية وما إلى ذلك، فسنعالجها في مقالاتنا القادمة إن شاء الله تعالى".
المتطلبات الشخصية لوظائف المكتبة.
إن هذه المتطلبات تتحدد بالدرجة الأولى برسالة المكتبة وماهيتها ونوعها ونوعية خدماتها والبيئة التي توجد فيها.
ويمكن أن نطرح هذا السؤال:
هل الغرض من إنشاء مكتبة ما إمداد القارئ بالمطبوعات ومواد المعرفة الأخرى دون مناقشة في نوعية هذه المواد والمطبوعات؟ أم أن من مسئوليات المكتبة ورسالتها أن ترشد القراء وتوجههم وتدعو من يتخلف منهم عن متابعة القراءة ليتابع قراءته؟ هل للمكتبة أن تشارك في رفع مستوى العلمي والثقافي لجمهورها وللبيئة التي تخدمها؟
إن المكتبة ذات الإمكانيات المكتملة عليها أن تقدم لمن يقصدها الكتب والنشرات والصحف والخرائط والصور والأفلام وغيرها.
ليس فقط بل إن من واجبها أن ترشد روادها إلى كيفية استعمال هذه المواد واستخدام هذه الأدوات، ويمكن القول إن الهدف من إنشاء المكتبات هو تهيئة الفرص للأطفال والشباب والرجال والنساء وكل فئات المجتمع وطوائفه ليواصلوا تعليم أنفسهم بعد انقطاع صلتهم بمدارسهم.(9/377)
أو لمتابعة ما يطرأ على المعرفة الإنسانية في مختلف المجالات، أو للمحافظة على التعبير والتفكير والنقد تجاه جميع المسائل العلمية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
أو لخلق الوعي المستنير بقصد جعل المواطنين أصلح لبلادهم وللبشرية، أو لرفع مستوى الأداء والإنتاج في الأعمال اليومية والمهنية. وهناك من يقصد المكتبة لتنمية قدرته على الخلق والتذوق والإبداع في محيط الآداب والفنون.
أو للمعاونة الأتم والأوفى في الإضافة لحصيلة المعرفة البشرية، وقد لا يتعدى الأمر الانتفاع بوقت الفراغ.
ولعل هذه الأغراض تدفع المكتبة العامة إلى أن تربط بين نشاطها ونشاط الهيئات التعليمية والثقافية والاجتماعية الأخرى؛ كالمدارس والجامعات والمتاحف والنقابات والنوادي والجمعيات العلمية ومنظمات مكافحة الأمية…الخ".
ويمكن القول إنه إذا توفر للمكتبة هيئة من الموظفين أحسن اختيارهم واكتمل إعدادهم المهني وتوفر لها في نفس الوقت ميزانية كافية ومساندة اجتماعية صادقة، أصبحت بحق "جامعة"للشعب تهب العلم حرا لكل من يقصدها.
ولكي تؤدي المكتبة رسالتها وأغراضها فلابد أن تتعدد وظائفها وتتنوع بما يكفل لها تغطية جميع المجالات وخدمة كافة المستويات.
وإذا كان معظم المكتبات في عالمنا العربي ليس لها اعتمادات مالية مناسبة، إن لم نقل ليس مخصصات مالية على الإطلاق، فلا غرو أن إمكانياتها لا تسمح لتوظيف مكتبيين فنيين.
على أن أمين المكتبة لا يمكن أن يزاول عمله بكفاءة ونجاح إلا إذا كان حاصلا على درجة علمية من إحدى الكليات مع دراسة سنتين على الأقل في إحدى معاهد المكتبات المتخصصة، ولعل هذا هو الحد الأدنى لمتطلبات مهنة أمناء المكتبات فيما نرى.(9/378)
ولما كانت الوظائف في المكتبات متنوعة ومختلفة ومتباينة فعلية لابد من تنوع مستويات التدريب المهني، وتنوع المرتبات واختلاف المسئوليات. ومما تجدر الإشارة إليه أنه لا يوجد حتى الآن في منطقة الشرق الأوسط سوى معهدين لدراسة المكتبات أحدهما في إيران، والثاني في جمهورية مصر العربية، وقد تحول إلى قسم من أقسام كلية الآداب في جامعة القاهرة، وأصبح يمنح درجة الليسانس في الوثائق والمكتبات درجتي الماجستير والدكتوراه، ويوجد بمصر أيضا منذ سنوات قليلة مضت معهد عال للمكتبات مدة الدراسة به ثلاث سنوات بعد الليسانس أو البكالوريوس.
وقد بلغني نبأ إنشاء قسم للمكتبات في جامعة الرياض بالمملكة العربية السعودية، ونحن ننتظر اليوم الذي نرى فيه معاهد المكتبات وقد انتشرت في كل أرجاء الوطن العربي، لتغطي الاحتياجات الملحة للمكتبات العربية، والأمل أن تنشر الدراسات في علم المكتبات فتصبح بين مقررات الكليات والمعاهد العليا بكل الجامعات العربية.
وما تجدر الإشارة إليه أن التدريب الممتاز الذي تقدمه مثل هذه المعاهد والجامعات، وإيمان المشرفين على المكتبات بفحوى هذا التدريب وأهميته لاشك يسمو بمستوى العمل في المكتبات إلى درجة كبيرة في فترة زمنية وجيزة لا تتجاوز بضع سنين.
ولاشك أن العمل في المكتبات العربية قد أصبح الآن يحتاج إلى درجات علمية أو تدريب عال على كافة المستويات الفكرية، يبرر ذلك ويؤكده أن الكثيرين من موظفي المكتبات عندنا ليسوا على أدنى مستوى من الكفاءة - ولا زالوا يمارسون العمل داخل المكتبات في الوطن العربي دون استعداد أو كفاءة - وربما كان عدد وفير منهم لا تسمح حالتهم حتى بمجرد البدء في التعليم، لانعدام هذا الأساس عندهم من الأصل.(9/379)
وعسى أن ينظم لهؤلاء ومن على شاكلتهم مناهج خاصة مبسطة، تعقدها معاهد المكتبات أو السلطات المسؤولة عن المكتبات داخل الحكومات العربية، وربما كان واضحا في الأذهان أن معرفة المكتبي بالمادة الموضوعية للكتاب تتكيف وفق معيار الفائدة والاستعمال، ومما لاشك فيه أن الخدمة المكتبية تحتاج إلى معرفة الكثير من الموضوعات والفنون، وإلى دراسة المراجع ومصادر الكشف الببليوجرافي وطرق البحث ومناهجه.
وإذا كان على عالم الرياضة أن يكون ملما بالمعرفة الرياضية، وعالم التاريخ أن يكون محيطا بالأحداث التاريخية وفلسفة التاريخ، فإن على المكتبي أن يعرف المصادر الأدبية لهذه الموضوعات كلها أو جزء منها.
على أن التدريب العالي ضروري إلى حد كبير في كثير من الأعمال في المكتبات، ولعل تزايد الفنيين في المكتبات أمر له أهمية كبيرة عند من يعنيهم أمر الثقافة والتربية.
ويظهر أثر التدريب على فن المكتبات بنجاح في إدارتها وتنظيم أعمالها بكفاءة، وربما تسبب انعدام التدريب أو ضآلة كفاءته في انصراف العاملين في المكتبات عن أداء رسالتهم، بل والتفكير في ممارسة أعمال أخرى بعيدا عن هذا المجال. ومما تجدر الإشارة إليه أن الخدمة المكتبية تحتاج إلى عدد مناسب من الكفاءات، على أن تغطي هذه الكفاءات احتياجات المكتبة المهنية خاصة، وأنها متعددة وتحتاج إلى في الغالب إلى كفاءات عالية.
على أن ممارسة المكتبي لمهنته داخل المكتبات شيء لا يقل أهمية عن دراسته بالمدارس المهنية وحصوله على برامج تدريبية متطورة.
ويلاحظ أن هذه المعايير نسبة بين أنواع المكتبات، فاحتياجات المكتبة العامة تختلف عن المكتبة الجامعية، ومتطلبات المكتبة المتخصصة غير متطلبات المكتبة المدرسية، على أن كل أنواع المكتبات تخضع لمقاييس متشابهة عند تقويم مدى تقدمها. ومن ذلك:
(1) فتح الأرفف لاستخدام الجمهور دون وسيط أو رقيب.(9/380)
(2) التعاون مع الهيئات والجمعيات؛ كالجامعات والمدارس في تقديم المساعدات وتلقي العون من الكتب ومواد القراءة وغير ذلك.
(3) ماذا تفعل هذه المكتبات للأطفال ولمختلف فئات السن، وبخاصة الكبار.
(4) مدى اتفاق هذه المكتبات من حيث التشريعات والنظم المكتبية والمالية والإشراف والرقابة…الخ.
(5) مدى انتشار المكتبات داخل أقاليم الدولة ومحافظاتها ومدنها وقراها. ولعل المسئولين في الوطن العربي يهمهم أن تتطور مهنة أمناء المكتبات في بلادهم، وإذا كانوا كذلك فعليهم أن يشاركوا في صنع هذا التطور بالوسائل الآتية:
(1) تشجيع تكوين الجمعيات المهنية للمكتبات؛ كالجمعية المصرية للوثائق والمكتبات في القاهرة.
(2) إصدار مجلات متخصصة في علم المكتبات كلما كان ذلك في الإمكان.
(3) إعداد نشرات عن المكتبات العربية عن طريق الجهات المسئولة والوزارات المعنية.
(4) الاصطلاح على تقسيم العمل داخل المكتبات الكبيرة بطريقة موحدة، فقسم للتواصي والتزويد، وقسم للإعارة، وقسم للمكتبات الفرعية، وقسم للأعمال الفنية، وقسم للتدريب المهني، وقسم للطباعة والنشر، وقسم للكبار، وقسم للأطفال، وقسم للوسائل السمعية…الخ.
(5) الاهتمام بالتعليم المهني في مجال المكتبات، وذلك بزيادة إنشاء مدارس المكتبات والمنظمات المكتبية.
على أن توحيد المسميات الوظيفية في نطاق أعمال المكتبات ووظائفها أمر له مغزاه ومعناه في تقدم هذه المهنة وإبراز مداها وخطورتها، فمدير عام المكتبات ومساعده ومدير المكتبة والأمناء والخبراء ورؤساء الأقسام والمصنفون والمفهرسون ومرشدوا القراء والفنيون والأخصائيون وأمناء القاعة، بل والملاحظون؛ هي مسميات بوظائف فنية يمكن أن تكون داخل مكتباتنا حسب نوعها وحجمها، وإن كانت كلها وظائف فنية تحتاج إلى دراسة فن المكتبات وإلى التدريب على أعمالها في برامج تعد لهذا الغرض.(9/381)
أما وظائف المسجلين والكتبة وطابعي الآلة الكاتبة والعاملين في الآلات الحاسبة وورشة التجليد والمطبعة وغيرهم من الوظائف التي لها علاقة قريبة بالمكتبات قد لا تحتاج إلى مثل هذا النوع من التدريب.
على أن العمل داخل المكتبات الجامعية بوجه خاص يحتاج إلى إشراف جماعي على المكتبات، لذا فلابد من وجود لجنة لمكتبات الجامعات بكل جامعة تكون عادة برئاسة رئيس الجامعة أو نائبه، وسكرتارية مدير المكتبات في الجامعة وعضوية عدد من أعضاء هيئة التدريس وبعض الشخصيات الاعتبارية من خارج الجامعة، وتقاس قيمة هذه اللجنة بالنظر إلى أعمار أعضائها ومدة العضوية فيها والمستوى التعليمي لمنتسبيها ونوعية هذا التعليم ونسبة حضورهم الاجتماعات، ويمكن أن تشكل مجالس إشراف للمكتبات العامة الكبيرة قريبة من لجان المكتبات الجامعية.
وتكون مهمة مثل هذه المجالس واللجان رسم السياسة العامة للمكتبات واختيار الكتب.
مجموعات الكتب والمواد العلمية.
كيف تحصل المكتبة على ما تحتاجه من كتب؟ بالشراء أم بالإهداء؟ أم بالتبادل الثقافي؟ … أم بطريقة أخرى كالإيداع القانوني مثلا؟ كما في مكتبات الدولة. وهل مجموعات الكتب في مكتبة ما ولتكن مكتبة جامعية تكفي وتغطي احتياجات الباحثين والقراء؟ وهل هذه المجموعات تطابق المحيط الجامعي مثلا؟
من الضروري أن نعرف ما تتخذه المكتبة من إجراءات لبناء مجموعاتها من الكتب وغيرها من مواد المعرفة، ولابد أن نقرر إذا كان رصيد المكتبة من مواد المعرفة يناسب أغراض هذه المكتبة ورسالتها، وإلى أي حد يكفي احتياجات مجتمعها ويكفي احتياجات مجتمعها وبيتها وجمهورها.
علينا أن نسأل كيف يتم اختيار الكتب في مكتباتنا؟ وهل للقراء دور في هذا.
ومن الضروري أن يشعر المترددون على المكتبة أن من حقهم أن يشاركوا في اختيار كتبها، وربما يقاس نجاح أي مكتبة بعدد المقترحات التي تردها من القراء لاختيار كتب لمكتبهم.(9/382)
وهذا لا ينفي ضرورة وجود موظفين مسئولين يشاركون مشاركة فعلية في اقتراح الكتب التي تحتاجها المكتبة، بل وترجمة هذه المقترحات إلى مشتروات.
ويقاس أداء المكتبة لرسالتها عادة بعدد الكتب التي تخص القارئ الفرد، بمعنى أن نقسم العدد الكلي لمحتويات مكتبة ما على كل من لهم حق الانتفاع بهذه المكتبة - حتى ولو لم يستخدموها بعد - فمكتبة جامعية جمهورها وبيئتها هم الطلاب والأساتذة وموظفوا الجامعة، ومكتبة عامة جمهورها وبيئتها المدينة أو البلدة أو القرية التي تخدمها.
ولا بأس عند تقويم أداء مكتبة ما لرسالتها أن نقسم مجموع عدد الكتب على العدد الكلي للمستعيرين قابل للتغير زيادة ونقصا، ولا يمكن اعتباره ثابت الدلالة، لاحتمال أن يتردد على المكتبة من يستخدم قاعات المطالعة بها… ومثل هؤلاء بلا جدال يدخلون في حساب مجموعات المكتبة.
وفي بعض المكتبات قد نكتفي بذكر الرقم العام لرصيد المكتبة على أساس أن من السهل إدراك ما ترمي إليه، ومن مساوئ هذه الأساليب في تقويم الأداء:
(1) أن هذه الطرق عددية وليست نوعية.
(2) أنها لا توفق في التمييز بين العناوين والمجلدات التي تملكها المكتبة.
(3) أنها لا تعطينا تعريفا للمواد العلمية داخل المكتبة.
ويمكن للباحث أن يتفادى هذه العيوب، وذلك بتحليل عدد المجلدات على أساس الموضوعات التي تعالجها، أو على أساس فئات القراء التي يمكن أن تنتفع بها، وربما أعطي ذلك فكرة أدق عن مدى كفاية المجموعات.(9/383)
ولابد أن يكون واضحا في الذهن أن مجموعات الكتب داخل مكتبة ما هي كتب في المعارف العامة أو الفلسفة أو علم النفس أو الدين أو العلوم الاجتماعية والقانون والتربية أو اللغات أو العلوم البحتة أو التطبيقية؛ كالطب والزراعة والهندسة والتدبير المنزلي والأعمال المالية والصناعات والمباني، أو الفنون الجميلة أو الأدب أو التاريخ والجغرافيا أوالتراجم. وهذه المواضيع واضحة في الفهرس الموضوعي المصنف للمكتبة، وقد تظهر في قائمة الأرفف… ومن بين كتب المكتبة ما يصلح للأطفال ومنها ما يصلح للكبار أو لغير ذلك من الفئات. ومن كتب المكتبة ما نطلق عليه "القصص"ومنها ما هو بلغات مختلفة غير اللغة العربية.
ومن محتويات المكتبة ما يغاير الكتاب فيكون على شكل مجلد أو دورية أو مخطوط أو شريط أو مادة سمعية…الخ.
ومن محتويات المكتبة ما يحتاج إلى استبعاد لعدم جدوى وجوده بين رصيدها، لكون مثل هذا النوع لا يعالج موضوعات يهتم بها أحد من القراء، أو لأنها تحوي نصوصا تسيء إلى مشاعر آخرين، أو لأنها نقدت قيمتها العلمية لتقادم معلوماتها، أو لأي سبب آخر، وربما استبعدت المكتبة بعض الكتب لأنها مستهلكة إلى حد يتعذر معه تداولها أو ترميمها أو تجليدها، وربما كان الاستبعاد بسبب تكرار في النسخ يزيد عما تحتاجه المكتبة.
ومن بين مجموعات الكتب في المكتبة ما يعرف عند المشتغلين في المكتبات باسم المراجع، وهي لفظ يطلق على القوانين ودوائر المعارف والتقاويم والحوليات والأدلة والأطالس والببلوجرافيات والجداول الإحصائية وقواميس التراجم وغيرها، وهي مواد ذات طبيعة خاصة تمنع من إعارتها خارج المكتبة، وتحتاج إلى تدريب القراء على استعمالها، ويستحسن أن يتم ذلك في المكتبة عن طريق برامج منظمة، وسنعالجها إن شاء الله في موقع آخر تفصيلا.
مواد المعرفة والقراءة.(9/384)
ولعلنا الآن أصبحنا مقتنعين بأن هناك أنواعا لا حصر لها من العمل الذي يجري في المكتبات، والذي يزاوله عدد معين من الأخصائيين، ولعلنا اقتنعنا أيضا بأن المكتبات تحوي كتبا في كل نوع من أنواع المعرفة وفي عدد هائل من الموضوعات والمواد المتعلقة بالقراءة.
ويبدو أن تزايد المعرفة ووسائلها أصبح من الأمور المحيرة داخل مكتبات تتزايد المواد داخلها بشكل مدهش ما بين كتاب ومجلة وأسطوانة وصور وشرائح ونشرات ووثائق حكومية ومواد فنية، كلها تسعى إلى تجلية الثقافة ونشر المعرفة.
وقد تعرض المكتبة حديثا على الهواء أو فِلْماً إخباريا، بل لعلها مستقبلا تنقل كتبا إلى قارئ مريض في بيته، وقد تنقل مجموعة من محتوياتها إلى جناح في مستشفى للمرضى… أو في السجون.
وتتنوع الكتب داخل المكتبات الحديثة ما بين كتب إرشاد وأعلام، وكتب ذات مستوى رفيع أو خيال خصب أو تأملات…الخ.
والخلاصة أنه توجد كتب في جميع فروع المعرفة داخل إطار العقل البشري، على أنه يتحتم على مكتباتنا إذا أريد لها البقاء وأداء الخدمة بنجاح واستمرار أن تلجأ إلى الطرق المتغيرة وآلات العمل الحديثة؛ فالكتب والمواد المطبوعة هي الأدوات التي تعبر عن جوهر المعرفة وتفسره، وهي أساس العمل في المكتبات.
على أن المعرفة في أيامنا هذه أصبحت تنقل للناس بوسائل أخرى غير الكتاب وبدون الكلمة المطبوعة؛ فالراديو والتلفزيون أمست قائمة في كل بيت ويستخدمها الملايين الكثيرة في شتى بقاع العالم، بينما الكلمة المطبوعة لا زالت حبيسة الكتاب والمكتبة تنشر في تؤدة وبطء إلى الراغبين من محبي المعرفة والباحثين عن الثقافة.(9/385)
على أن المعرفة المنقولة يمكن معالجتها بأسلوب غير الطباعة، مثال ذلك الميكروفيلم الذي يعتبر وسيلة سهلة وبسيطة لنقل المعلومات، فعن طريقه يتمكن القارئ من الجلوس مستريحا وأمامه جهاز تسجيل يلمسه بأصبعه ليدير الفلم، فإذا به أمام المادة العلمية التي يريدها.
وإذا كانت آلات الميكروفيلم غالية الثمن وكثيرة التكاليف، فإن الأمر لا زال كذلك بالنسبة لكل مستلزمات إنتاج الكتب وآلات الطباعة، ولقد أصبحت الماكينات والآلات كالراديو والحاكي من المعدات الضرورية، بل والأساسية لبعض أنواع المكتبات؛ فالراديو قد ينشط النقاش وفي قاعات الاستماع توجد سماعات جماعية أو فردية، كما يتزايد في المكتبات المواد المصورة من جميع الأنواع.
ومن بين الأدوات الحديثة التي تستخدمها المكتبات لتبسيط أداء واجبات المكتبة الفنية آلة العهد Charging Machine لختم البطاقات عند الإعارة وعند الإعادة، كما تستخدم الآلة الكاتبة والحاسبة حاليا في أعمال المكتبات أيضا.
وظائف المكتبات.
توجد في العالم الآن مستويات رفيعة لمهنة المكتبات سواء في القدرة أو في التدريب أو في الأداء. على أن العاملين في المكتبات ينقسمون إلى نوعين مختلفين اختلافا بينا. الفني والإداري، وقد أصبح الأمر يتطلب وجود الأخصائي مثل أمين مكتبة الطفل ومرشد القراء…الخ، وكل هؤلاء يلزم تدريبهم مهنيا كما سبق بيانه.
على أن المكتبات في عالمنا العربي لا زالت – للأسف - تعاني من قلة الاعتمادات التي تكفي لإنشاء عدد من الوظائف العليا في المكتبات التي تثير عند العاملين فيها الطموح والنبوغ وحب الوظيفة والتحمس لها.
ويحتاج العمل في مكتباتنا العربية إلى تنظيم متنوع يراعي الإعداد المهني والمؤهلات الشخصية ونوع الوظيفة…الخ.(9/386)
ويوجد في بعض المكتبات الكبيرة في الوطن العربي كما في دار الكتب والوثائق القومية في مصر مثلا نظام للدرجات والمرتبات يراعي مراكز المستويات المهنية حتى رتبة وكيل وزارة ومدير عام، وربما يضع هذا النظام الشروط اللازمة لكل وظيفة ومستوى التدريب والخبرة، وما يحكم الترقيات والعلاوات من قواعد ولكنها عمل فردي يمكن الاسترشاد به والاستشهاد لا أكثر ولا أقل.
على أن نظام الدرجات في المكتبات غالبا ما يكون جامدا لا يعرف المرونة، وهو ذو طابع عام لا يضمن التنوع في الوظائف بالنسبة لمهنة تتطلب نظاما واسعا من المراكز التي تختلف من حيث السلطة والمسؤولية والقدرة، أي أنه لابد بالنسبة للمكتبات من وجود كيان إداري ذي كفاية عالية.
والخلاصة أننا في حاجة ملحة إلى زيادة المواد التي تدرس في علم المكتبات، وتطوير هذا النوع من الدراسة، وإعداد المكتبيين مهنيا وترقية فن المكتبات وعلوم المكتبات، وضبط النماذج الإدارية داخل مكتباتنا.
لقد فقدت المكتبة العربية والإسلامية أمهات كتبها لتصبح حبيسة المتاحف والمكتبات في الدول الأوروبية والأمريكية، وتختل المكتبات في عالمنا العربي شأن أمور أخرى كثيرة وقعت لنا لعوامل متباينة.
ولا زالت المكتبة في الوطن العربي متخلفة عن أداء رسالتها ربما لعدم قدرتها على شراء قدر كاف من الكتب في مختلف العلوم والفنون، أو لعدم كفاءة العاملين فيها وكفايتهم وعجزهم عن تقديم المعلومات اللازمة للقارئ، وعدم توافر أعمال الإرشاد والخدمة المكتبية في هذه المكتبات. ولكن ومع قدرة العرب مؤخرا على تخطي كثير من الحواجز التي كانت تمنعهم من التقدم، وفي مقدمة ذلك الاهتمام بالتعليم، فإنه قد أصبح أمام المكتبة العربية حاليا فرصة طيبة لتعيد عصرها الذهبي مرة ثانية مرفقا حيويا عظيما، وتأخذ دورها الطليعي بين المدرسة والمسجد والجامعة والمتحف وغير ذلك من المؤسسات العلمية والأكاديمية والاجتماعية.(9/387)
خطر الصحافة المنحرفة على الشباب والأسرة والمجتمع والدولة
بقلم الشيخ محمد المهدي محمود
المدرس بدار الحديث التابعة للجامعة
قال الفتى لأستاذه: "ذهبت لأشتري صحيفة يومية من مكتب بيع الصحف والمجلات وإذا بي أرى الكثير من المجلات الواردة من بعض الدول وقد رسمت على غلافها صور النساء شبه عاريات مستغلة إثارة الغرائز الجنسية للإغراء بشراء هاتيك المجلات المنحرفة".
فأجابه الشيخ: "كانت الصحافة في عصورنا الخوالي المشرقة بالنور، المملؤة بالجهاد العظيم من أجل إسعاد العالم الإسلامي، ترسم الطرق المثلى لمكارم الأخلاق، وتبين للناس معالم الفضيلة… ترى في صفحاتها نور الحق والخير، وتشم منها عطر الإيمان… يسكن إليها القلب وتطمئن لها العاطفة… إنها تستهدف الصالح العام، وجهتها الخير ورفعة شأن الإسلام والمسلمين، وسبيلها الكفاح المتواصل لبعث النهضة الإسلامية والعمل على إعادة الوحدة بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
تلك هي صحف الحق والفضيلة والخير العام… الصحف الإسلامية الطاهرة التي نمت وأزهرت، وآتت ثمرا طيبا مباركا، يشرف عليها ويوجهها رجال أصحاب مبادئ، ومثل عليا وصفات نبيلة وأخلاق عالية.
وبينما ننعم بهذه الصحف الطاهرة إذا بنا نرى الصحافة الصفراء تغزوا الأسواق، وينخدع بها المرضى بحب التقاليد الأجنبية ولو كانت على حساب الطهر والفضيلة والعفاف والحياء…
تنساب هذه الصحافة الفاجرة كما تنساب الأفاعي الرقطاء الناعمة الملمس إلى الآمنين في أوطانهم فلا يخشون في أول الأمر خطرها، ثم لا يلبث أن يسري سمها إلى القلب وهيهات بعد ذلك أي صلاح!! إذ أن خطرها عام جامح عنيف عظيم الخطر على:
أ –الشباب ب- والأسرة ج- والمجتمع د- والدولة.
فهي تستهوي الأغرار من المراهقين ويقع في حبائلها فتيان نعدهم لنهضة قوية في عصر لا حياة فيه إلا للأقوياء.(9/388)
إن تلك الصحافة تلهي الشباب عن الجد والاجتهاد، وبينما يجاهد المدرس والمربي والوالد والواعظ والناصح في تثقيف الناشئة ونشر الفضيلة، وغرس العقائد الصحيحة، والأخلاق الكريمة، والصفات الحسنة، والمبادئ القويمة؛ إذا بهذا الجهاد العلمي والمجد الخلقي ينهار أمام حرب البيئة وما يراه الشباب المراهق من صحافة تصور له ملكات الجمال في العالم، وتبرز مفاتن الجسد وتغريه بالجمال الفاضح المكشوف، فتظهر له جمال الصدر والذراعين والساقين…!! الخ ما في هذه الصحافة الصفراء من قذارة وامتهان لكرامة الإنسانية، وتوغل في الفساد الخلقي، وجنوح نحو الحيوانية، وجموح نحو البهيمية.
هذه الصحافة هدفها أن ترى مذهب العراة يروج في الشرق فتنحل الأسرة ويفسد المجتمع وتنهار الدولة. إن تلك الصحافة من بقايا آثار المدرسة الاستعمارية التي تهدف إلى زلزلة العقائد، وهتك حجاب الفضيلة، ونشر الرذيلة والفساد الخلقي والانحلال العام، لكي يستسلم الشعب لعوامل الضعف، ولا يفكر في الذود عن حياض الوطن والاستبسال في الدفاع عنه بعد أن انهارت منه الأخلاق وهي عصب الحياة، ومركز القوة، وعنوان الشجاعة والبطولة.
وهكذا تصل تلك الصحافة الآثمة الطاغية الفاجرة الداعرة، تصل إلى ما تريد، من هدم صرح المجد والشرف والعزة والكرامة. ثم ماذا يبقى للدولة بعد هذا الخسران المبين، وبعد نجاح المخطط الصهيوني في نشر الفساد العام، بكل صوره وألوانه.
إن الواجب المقدس يدعونا إلى حماية المجتمعات الإسلامية من تيار الفساد الذي تحمله في طياتها تلك الصحافة الآثمة. إنها تحمل الرذيلة المجسمة، وتنادي بصوت الإغراء الجامح العنيف.(9/389)
أناشدكم الله يا أولي الأمر ويا رجال الإسلام ويا حماة الفضيلة والآداب الإسلامية العمل الجاد المثمر على صد هذا الاعتداء الوحشي على الحرمات الإسلامية صيانة لأعراض المسلمين، وحفظا لكرامة الأسرة الإسلامية، وإنقاذا للشباب عماد النهضة، وصيانة للشعوب مما يغضب الله، وحرصا على ما ورثناه من الأمجاد الخلقية؛ من الشرف والفضيلة، والعفاف والحياء، فلكل دين خلق، وخلق الإسلام الحياء.
كتب الله للمسلمين عودة كريمة إلى مكارم الأخلاق في ظل كتاب الله وسنة الهادي الأمين المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وسلم الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم [1] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] * المجلة: وصف أحد الأدباء المعاصرين أثر الصحف التي تنشر الصور الفاضحة والموضوعات الماجنة بقوله: "قد يعبس الفتى أو الفتاة حينا إذا قرأ أو قرأت مجونا جريئا عريان، ولكن إذا ألفت العين والنفس أمرا كان مبعثا للحياء أمس، فقد لا تلبث العين والنفس أن تنزعا إليه تطلباه.
فإذا فقد النفس نفورها من قراءة المخازي وتصور معانيها، فقد هانت عليها المرحلة التالية، وهي التلبس بهذه المعايب سلوكا وعملا؛ وإذًا فعلى الصون والعفاف ألف عفاء.."(9/390)
الشاعر الأمريكي المتحرر أزارا باوند
بقلم الشيخ أحمد صالح محايري
خريج كلية الشريعة بالجامعة
كان الاقتصاديون في دول الكفر الشرقية والغربية يسلمون بأن "الربا"نظرية اقتصادية واضحة الحجة، وطريقة وحيدة للحياة الأفضل والتطور الاقتصادي.
… وأخيرا وجد الاقتصاديون أنفسهم أمام مشاكل اقتصادية مستجدة لم تدخل في حساباتهم، ولم ترد إلى خواطرهم وعقولهم البشرية والكهربائية "الإلكترونية"، منها أنهم تبينوا أن أهم احتياطي النقد والمواد الرئيسية آلت إلى يد حفنة قليلة في العالم هم: "اليهود".
كما اكتشفوا بأن اليهود الذين يبشرون بنجاح نظرية الربا ويفلسفونها ويجعلون لها كراسي جامعية ومنصات للمحاضرة لا يتعاملون بالربا فيما بينهم، أي يستحلون أكل الربا من الأممي ويحرمون دفعه.
ولهذا بدأت أقلام المتحررين من الأدباء والشعراء تتحرك ضد نظرية الربا وضد اليهود الذين أوجدوها، كما بدأت فئات تظهر من المفكرين الاقتصاديين العالميين ترجح نظرية الشركات المساهمة والمغفلة "والتي تتفق معانيها إلى حد قريب جدا مع شرعنا في المضاربة وغيرها"وذلك - على حد تعبيرهم - لأن نظرية الشركات تحمل جميع الأطراف الربح والخسارة المادية والأدبية، أما نظرية الربا فإن الخسارة يتحملها دائما المستقرض الفقير في جميع الحالات القاسية والظروف الصعبة.
أظن أن نسبة كبيرة من هؤلاء الاقتصاديين لو علموا أن الإسلام هدد المتعاملين في الربا بحرب من الله ورسوله لدخلت في الإسلام، ولدخلت عقائد الإسلام إلى قلوبهم عن طريق فهمهم الاقتصادي الذي تخصصوا به.(9/391)
ومن هؤلاء الأدباء اللامعين الذين تحركت أقلامهم ومشاعرهم ضد نظرية الربا الشاعر الأمريكي الأديب أزارا باوند الذي ألف قصيدة فند فيها مضار الربا، ثم قاد حركة التمرد - أدبيا - على سلوك اليهود في المجتمعات الإنسانية وخاصة في الميدان الاقتصادي، واعتبر أن مهنة الربا التي أخلص لها اليهود وتفننوا فيها بمختل العصور كانت سببا لكل فقر ونزاع وشر.
وهذه مقتطفات من قصيدته المشهورة التي ألفها باللغة الإنكليزية.
إن الربا يحمل إلى الحياة
كل أنواع الشلل وذلك عندما
ينام الربا بين العروسين
حقا إن الربا يهدم كل قوانين الطبيعة وسننها السليمة…
صدق الله سبحانه القائل في سورة فصلت: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت:53) .
لقد أفلح اليهود بنفوذهم في حرمان هذا الأديب اللامع المتحرر من وسام الشرف الذي استحقه عام 1971م، إذ رفضت الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم منحه إياه بحجة أنه عدو لليهودية، وليس غريبا على اليهود أن يقفوا في وجه هذا الأديب وهم الذين شتموا بالأمس الأديب الإنجليزي شكسبير لأنه تهكم على الربا وعليهم في قصته المشهورة "تاجر البندقية".
هم أنفسهم اليهود قتلة الأنبياء وأعداء الرسل.(9/392)
من الصحف والمجلات
إعداد العلاقات العامة
نشرت صحيفة الشمس اللبنانية في عددها الصادر يوم الثلاثاء الموافق 12/11/1974م مقالا للأستاذ محمد الفرحاني بعنوان:
عهد الملك فيصل خلال عشر سنوات من عمره
إنجازات هائلة شملت كل مرافق الحياة
في مثل هذه الأيام من تشرين الثاني 1964م كانت المملكة العربية السعودية تعيش أحلى أعيادها لمناسبة أداء البيعة لجلالة الملك فيصل بن عبد العزيز العبد الرحمن الفيصل آل سعود ليعتلي عرش آبائه وأجداده فيزيده شرفا وقدرا. ولا يلبث إلا سنوات قليلة حتى يثبت للملأ أنه الجدير بملء الفراغ الهائل الذي تركه والده أسد الجزيرة العربية، عبد العزيز بن سعود… يوم رحل عن هذه الدنيا الفانية تلبية منه لنداء ربه… في تشرين الثاني 1953م.
سنوات عشر مضت على تأدية هذه البيعة وعلى ذلك الاختيار، هي ليست شيئا في عمر الإنسان ولكنها جاءت مليئة بالأحداث الجسام، والمفترقات التي هي نقطة تحول في التاريخ المعاصر، فقد أثبت الملك فيصل خلالها أنه طاقة إسلامية هائلة وقدرة ذاتية جبارة، وقوة إنسانية خارقة، وشخصية فذة لها وزنها وحجمها في تحريك مسيرة الحياة، وقمة شامخة راسخة… حتى لقد قيل: "إنه أقوى زعيم عربي ظهر في النصف الثاني من القرن العشرين…"أما في النصف الأول من هذا القرن فبلا شك وبلا جدال أبوه الملك عبد العزيز الذي بدأ طفولته وصباه شريدا طريدا، فإذا به يستعيد في شبابه ملك آبائه وأجداده مغامرة أسطورية مذهلة، ولا يلبث أن يوجد تحت رايته وضمن مبادئه شبه الجزيرة العربية كلها التي تبلغ مليونا وربع المليون من الكيلومترات المربعة.
الملك فيصل هو من القادة العالميين(9/393)
كتب غوردون غيسكل في صحيفة "الريذرزد إيجست" الأمريكية يقول: "حقا إن جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز من الرجال القلائل الذين يندر وجودهم جدا، ولا يكاد المهتمون بشؤون العالم يعثرون على نسخ متكررة منهم في هذه الحياة، وإن جلالة الملك فيصل يكاد يكون هو الشخص الوحيد الذي نلمحه دائما وسط الساحة العربية المسلمة، ويدفع الأمتين الإسلامية والعربية إلى الأمام، ويجنبها زحام الدنيا وصدام الحياة وضوضاء العالم". لقد قطع جلالة الملك فيصل شوطا كبيرا في مرحلة التضامن الذي استنبطه من صلب الشريعة، واستخرجه من آيات القرآن، وقاس خطوطه ورسم خطواته على خطوط وخطوات العقيدة الإسلامية الصحيحة، وإن جلالته استطاع أن يطرق بيد التضامن الإسلامي أبواب القارات، كما استطاع - جلالته - بالتالي أن يصل إلى حنايا القلوب ومنابت الأمم والشعوب، حتى تمكن من استيعاب أو استقطاب أكثر من خمسين دولة إسلامية داخل إطار هذا التضامن الكبير وجلالته في هذا السبيل يجود بكل شيء ابتغاء مرضاة الله ومن أجل تجميع كلمة الإسلام والمسلمين، ولقد عرف جلالة الملك فيصل - وهو القائد الخبير بفنون المعارك - كيف يحرك أسلحة التضامن ويجردها في "معركة العاشر من رمضان"ضد القوات الصهيونية العالمية مما كان له الفضل الكبير… والأثر الفعال في تحقيق النصر وشده إلى جانب الظهير العربي الذي قاتل أشرف قتال وخاضها معركة باسم الله، وبقيادة زعيم العرب والمسلمين فيصل بن عبد العزيز آل سعود.
الأمة الإسلامية في عهد الفيصل العظيم تشد قامتها وترفع هامتها(9/394)
وفي الحقيقة… إن الفيصل بن عبد العزيز قد نذر نفسه لله ووهب كيانه وحسه لخدمة الإسلام وقضايا المسلمين. إن الواقع الذي نعيشه ونحياه اليوم ليؤكد في كل لحظة العطاء الذي يبذله الفيصل من نفسه إلى كيان الأمة المسلمة فيستحيل أمنا ورخاء، فإذا بهذه الأمة الخالدة مشدودة القامة مرفوعة الهامة، لقد سار الفيصل بن عبد العزيز على صعيد الأمة الإسلامية أبعد مسيرة عرفها التاريخ منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين… فكانت هنالك منجزات كبرى أقوى من التعبير وأبلغ من التصوير، وأعمق جدا من الإحاطة والتقدير… منها وقوفه المستمر الدائم بجانب الحق العربي وإقناعه بضرورة استمرار التلازم والتلاحم بين العروبة والإسلام والمسلمين والعرب، ومنها قيادته الحكيمة والرشيدة لمعركة العاشر من رمضان مع أخويه الرئيس محمد أنور السادات والفريق حافظ الأسد. ومنها افتتاحه المراكز الثقافية الإسلامية على مستوى العالم الإسلامي كله، وتزويدها بكل ما تحتاج إليه من دعم مادي وأدبي، لتتمكن من أداء رسالتها كاملة. ومنها مساهمته المادية الفعالة في تعمير مدن وقناة السويس التي خربتها الحروب المتوالية، وهجرها أهلوها منظمة الدولة الإسلامية، ورابطة العالم الإسلامي، وفي عهد الفيصل بن عبد العزيز أمكن إنشاء "الأمانة العامة لمنظمة الدول الإسلامية"تمهيدا لربط أجزاء الجسد الإسلامي الواحد بعضها ببعض، مما يقارب الشقة ويطوي المسافة ويقصر آماد الطريق وأبعاده، ويجمع المسلمين جميعا على بساط الوحدة وضمن نطاق العقيدة والشريعة. وبالإضافة إلى الأمانة العامة لمنظمة الدول الإسلامية نجد حرص الفيصل منذ بداية عهده على إنشاء وتأسيس وتقوية "رابطة العالم الإسلامي"في مكة المكرمة لتكون الواجهة المشرفة الوضاءة التي يطل منها الإسلام على سائر المسلمين في جميع أرجاء الحياة وفي كافة أنحاء العالم، وإذا كنا نعني أن هذه "الرابطة" أشبه ما تكون وهي تؤدي عملها(9/395)
بخلية النحل، وأنها ذات أقسام متعددة وإدارات متنوعة، وأجهزة مرتبطة تمام الارتباط بالعالم الإسلامي كله عبر احتياجاته ومتطلباته، وعلى مستوى التبعات وتحمل المسئوليات، وفي خلال الحاجة والضرورة… وإذا كنا نعي ذلك وندخله في حسابنا، فإننا ندرك بالتالي قيمة المجهود العظيم الذي تقوم به رابطة العالم الإسلامي.
بنك التنمية الإسلامي
وهنا إلى جانب ما أسلفته من الروائع الفيصلية على درب الإسلام كما يقول فضيلة الشيخ عبد الحفيظ عبد ربه: "بنك التنمية الإسلامي الذي رعاه ودعمه جلالة الملك فيصل وزخمه بعطائه ووفائه وحشده ورصده تلبية للمسلمين، وإغاثة للمحتاجين، واستثمارا للمال الإسلامي، وتدربا إسلاميا على نظافة الأسلوب المصرفي في سياسة المال بعيدا عن شبهات الربا وأطياف الحرام، وأباطيل المضاربات الملوثة المسعورة".
المرصد الإسلامي
وفوق ربوات المملكة العربية السعودية، وفي بطحاء مكة على مقربة من غار حراء الذي نزلت فيه أول آيات القرآن، سوف يقوم مبنى شامخ عملاق مهمته أن يوضح للمسلمين أمرهم، ويبين زمنهم ويجمعهم على رأي واحد وهلال واحد وزمن واحد؛ ذلكم هو "المرصد الإسلامي"الذي رأى فيه جلالة الفيصل طريقا إلى التضامن يوحد آراء المسلمين واجتهاداتهم، ويعيدهم إلى زمن واحد ويجمعهم جميعا في مكان واحد، وفي ذلك ما فيه من قوة الصف وتوحيد الهدف، والتعجيل السريع بجمع كلمة المسلمين، وشمولية سلطان الإسلام ونفاذ أحكامه.
الجامعة الإسلامية(9/396)
وكان من أنور منجزات جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز العلمية على ساحة الإسلام وساحة الأمة الإسلامية إنشاؤه "الجامعة الإسلامية"التي لم يمض على إنشائها إلا فترة وجيزة حتى رأيناها ترتفع صرحا علميا كبيرا يؤمه الطلبة المسلمون من أقصى شرقي الكرة الأرضية حتى أقصى غربها، فأصبحت تلك المؤسسة الإسلامية التي يديرها منذ تأسيسها - لايزال - عالم جليل هو من أبرز علماء المملكة العربية السعودية وفي مقدمتهم، أكثرهم بذلا وعطاء، وأعني به فضيلة الأستاذ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الذي جعل منها مؤسسة تفتح صدرها دائما وتبسط ذراعها أبدا لاستقبال واستقطاب أبناء اكثر من مائة دولة إسلامية سنويا في مشارق الدنيا ومغاربها، لتصقلهم وتثقفهم وتهذبهم وتطبعهم على طابع الدين الإسلامي الصحيح، وتصبهم في قالب الشريعة، وتجعل منهم الهداة والدعاة بمستوى أكاديمي راق، وأسلوب علمي رصين ومنهج أخلاقي سليم.
كل هذا… خلال "عقد"واحد من الزمن، وهنالك "كلية القرآن الكريم"التي تقوم بتدريس علوم القرآن وإعجازه وبلاغته، وأنواع القراءات وآداب التلاوة، ورسم المصحف وضبطه وما يتعلق بالقرآن من أحكام وعقائد، وما يتصل به من التفسير والحديث وسائر العلوم المساعدة والمعاونة من النحو والصرف والبلاغة وشتى البحوث والمراجع…
كما أن هناك "جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية"التي أنشئت حديثا لتوفير أسباب التعليم الجامعي والدراسات العليا في العلوم الإسلامية وعلوم اللغة العربية وما يتصل بها من العلوم الاجتماعية والتاريخ الإسلامي.(9/397)
كل هذه الإنجازات مما ذكرنا ومما لم نذكر… إنما هي خلال عقد واحد من الزمن… أي خلال عشر سنوات ميلادية فحسب، وهي لا تعني شيئا في حياة الأمم والشعوب، ولكننا نجد أنها قد عنت وستعني الكثير في حياة المملكة العربية السعودية، قلب العالم العربي الرأسمالي، ودماغ العالم الإسلامي النابه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وهو على كل شيء قدير.
الانحطاط الخلقي
أكبر قضية يواجهها العالم الإنساني اليوم هي قضية الانحطاط الخلقي، وكانت الإنسانية تستطيع أن تتخلص من عذاب قلة التنمية والجوع والخوف والذعر وعدم الثقة فيما بينها لو كانت تملك المثالية والأخلاق الفاضلة، ولكن الواقع اليوم أن إنسانا لا يثق بإنسان ولا يرجو منه خيرا ولا نصيحة ولا برا أو معروفا، ولا رأفة ولا رحمة، ولا يتوقع منه إنجاز الوعد والصدق والأمان والوفاء، وتكاد بأن تزول هذه القيم الخلقية السامية التي هي جوهرة الإنسانية الغالية. إن هذا الانحطاط الخلقي وفقدان السيرة المثالية قد دمرت سياستنا واجتماعنا واقتصادنا، وما بقي الناس متخلقين بهذه القيم الخلقية في أي ناحية من نواحي الحياة، لا يشعرون بالتلكؤ والخجل والحياء في الكذب والخداع والخيانة وإخلاف الوعد، ويشعرون بحرية تامة في الرشوة والارتشاء، ويسيطرون على حقوق غيرهم بدون حياء واحتشام، ولا يراعون في تداوي الإنسان وصحته لجلب الأموال وإكثار الغنى، ويوقعون خلق الله في مصائب كبيرة بالاحتكار وجلب المنافع التافهة، والفوائد العاجلة. إنهم يدوسون أعراض الناس الآخرين وأرواحهم وأموالهم لأغراض تافهة، ولحصول الجاه والمنصب والثراء. والطامة الكبرى هي أن جيلنا الجديد هو مستقبل هذه الأمة يسير مهرولا إلى الانحطاط الخلقي.
نقلا عن مجلة المجتمع.
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} (القصص: من الآية88)(9/398)
لقد كشف العلم بعد سنة 1937م أو حولها "الكهيرب الاكتروني"الذي يقرر أن الموجب نقيض الكهيرب السالب، بحيث إذا التقيا تحولت مادتهما إلى طاقة صرفة تسير في الكون بسرعة الضوء، أي بسرعة ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية. وكذلك كشف عن نقيض البرتون "الأبيب" الموجب، أي عن أبيب سالب إذا التقى بعكسه الموجب، وهو عبارة عن نواة ذرة الأيدروجين، تحول إلى طاقة صرفة تسير في الكون بسرعة الضوء. أي فنيت مادة الأيدروجين بتحولها إلى طاقة خرجت عن سلطان الإنسان وانحلت بذلك شبهة قدم المادة التي قامت عليها شبهة قدم العالم عند فلاسفة اليونان.
عن مجلة قافلة الزيت.
"اليمين والشمال"
"اليمين والشمال مضلة، والطريق الوسطى هي الجادة، عليها باقي الكتاب، وآثار النبوة، ومنها منفذ السنة، وإليها مصير العاقبة"
"من كلام الإمام علي رضي الله عنه"
شرح النهج لابن أبي الحبيب ص273ج1.
الشيوعيون في كمبوديا يواصلون اضطهادهم للمسلمين
انتهاك حرمة المساجد واعتقال أربعة من العلماء
يواصل الشيوعيون في كمبوديا اضطهادهم للمسلمين، ويقومون بانتهاك حرمة المساجد والأسرة المسلمة…
وقد قاموا بإلقاء القبض على أربعة من علماء المسلمين في جمهورية خيمر – كمبوديا - وهم الأساتذة: 1- محمد كجي. 2- سليمان بن يوسف. 3- يعقوب بن خطيب يوسف. 4- إبراهيم بن سليمان. وقد أودعوا في السجن ومنعوا منعا باتا الاتصال أو السؤال عنهم أو عن مصيرهم، واضطهدوا أهاليهم.(9/399)
هذا، ويعاني مسلموا خيمر كل يوم من عنت الشيوعيين وإرهابهم، لذا يطالبون جميع الدول الإسلامية ومؤسسات العالم الإسلامي بتبني قضيتهم لدفع الظلم والاضطهاد عنهم، ويناشدون قادة العالم الإسلامي أن يمدوا يد المعونة إليهم وإنقاذهم مما يجري اليوم في خيمر من اضطهادات وانتهاكات وقتل للمسلمين، وقد قتل من المسلمين عالم جليل هو الشيخ محمد بن محسن… هذا الجرائم التي ترتكب في حق الإسلام والمسلمين يجب أن يقابلها شعور بضرورة مساعدة مسلمي جمهورية خيمر وإنقاذهم من براثن الشيوعية.
فهل من سامع؟ … وهل من مجيب؟
عن "أخبار العالم الإسلامي"(9/400)
ندوة الطلبة
الحب العظيم
للطالب: أحمد بن حسن المعلم
المعهد الثانوي بالجامعة
غيري يرى في اللهو راحة باله
وأنا بذكر الله ينعم بالي
وتقر عيني بالكتاب تلاوة
وتدبرًا وأحب صوت التالي
إن المحب يحب ذكر حبيبه
وتراه منبسطا لذلك سالي
فهناك من شغفوا بأصوات الغنا
وصبوا إلى الزمار والطبال
وهناك من عشقوا النساء وأسرفوا
في وصفهن بفاحش الأقوال
وهناك أقوام تشعب حبهم
وجميعهم في حيرة وضلال
بعدوا عن الحب العظيم وظنهم
أني به في الضيق والأغلال
غلطوا فإني في السكينة رائع
ومنعه في فيضها المتوالي
إني جعلت الله خير أحبتي
فلذا مجالس ذكره أحلى لي
وهناك أقوام تشاركني الهنا
فأحب ذي الإنعام والإجلال
والله ما تركوه لو أعطوا به
ما في البسيطة من جميل غالي
لو يعرف الأقوام ما في حبنا
لشروه بالأرواح والأموال
ولزاحمونا في مجالسه التي
حضيت بكل كرامة وجلال
وتفرغوا للذكر لو لم يطعموا
قوتا ولم يجدوا سوى الأسمال
هذا هو الحب العظيم سعادة
الأرواح فيه وعزة الأحوال(9/401)
الحقائق والمعاني من هدي السبع المثاني
للطالب: عزيزو محمد مغربي
السنة الثالثة من المعهد الثانوي بالجامعة
الحمد لله الذي افتتح كتابه بالحمد فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة:2-4)
وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا للآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} (الكهف:1-5)
والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(9/402)
أما بعد: فموضوع حديثنا الموجز هذا يتناول دراسة حقيقة من حقائق سورة فاتحة الكتاب، وما أكثر الحقائق والأسرار في القرآن الكريم كتاب الهداية. وقد ثبت في الصحيح عند الترمذي وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحمد لله رب العالمين أم القرآن وأم الكتاب، والسبع المثاني والقرآن العظيم" [1] . ويقال لها "الصلاة"لقوله صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين، قال الله عز وجل حمدني عبدي" الحديث. فسميت الفاتحة صلاة لأنها شرط فيها؛ ويقال لها "الشفاء"لما رواه الدارمي عن أبي سعيد مرفوعا "فاتحة الكتاب شفاء من كل سم"ويقال لها "الواقية"و "الكافية"لأنها تكفي عما عداها ولا يكفي ما سواها عنها كما جاء في بعض الأحاديث المرسلة "أم القرآن عوض من غيرها وليس من غيرها عوض منها"وهي مكية، قاله ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة وأبو العالية رضي الله عن الجميع. ويكفي في ذكر فضلها ما رواه الإمام مالك رحمه الله في الموطأ من حديث العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي، أن أبا سعيد مولى ابن عامر ابن كريز أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب وهو يصلي في المسجد، فلما فرغ من صلاته لحقه، قال: "فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على يدي وهو يريد أن يخرج من باب المسجد، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إني لأرجو أن لا تخرج من باب المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها". الحديث.
ومن أراد المزيد من البيان والتفصيل في تفسير هذه السورة المباركة العظيمة، فليراجع كتب التفسير فهي تروي وتشفي العليل. ولنعش ساعة مع هدي قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} (الفاتحة:6،7)(9/403)
هذه الآيات تهدف وتقصد إقرار حقيقة ثابتة غالية جعلها الله نورا في قلوبنا وهداية في حياتنا إنه ولي ذلك والقادر عليه. فالآيات المباركات تذكر أن الرجال أصناف ثلاثة: الصنف الأول [2] منهم عرف الله في جلاله وعلو قدره وسعة رحمته ومحكم تدبيره وصنعه؛ فأقبل عليه وهرع إليه ولم يفتح عينيه متعرفا إلى سواه، ولم يحرك شفتيه سئلا غيره، بل طرق بابه وعلق قلبه به وحده سبحانه وتعالى، فحصر العبادة فيه وحده ولم يصرفها إلى غيره كائنا من كان، فكان بذلك أهلا للفوز بهداية الله والسعادة في الدنيا وفي الآخرة بمجاورة ومساكنة الأصفياء العباد من النبيين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.(9/404)
أجل، لقد نالوا هذه الدرجة العالية بسبب تمسكهم بهدي نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وبالتحاكم إلى كتاب ربهم عز وجل إذ أمروا بالرجوع إليهما عند التنازع، فلم يعيشوا على التعصب المقيت لرأي فقيه يخطئ ويصيب، لم يعيشوا غير مبالين بنص المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، ولم يبتدعوا في دين الله علما منهم أن الدين قد تم وكمل وارتضاه الله دينا لعباده يدان الله به. فهذه الزمرة الطيبة تستحق أن يسقيها نبيهم وإمامهم في الدنيا صلى الله عليه وسلم من الحوض لا أحرمنا الله من الإرتواء منه؛ ومن مساكنة هذه النخبة من الأطهار الأبرار الذين أنعم الله عليهم تفضلا وتكرما منه، إذ هو الموفق سبحانه وتعالى للثبات على صراطه الحق. وأما الصنف الثاني: فقد يسر الله له سبيل الهداية، هداه إليها فعلا فتنكر للجميل، وكفر النعمة واستحب العمى على الهدى إيثارا للحياة الدنيا على الآخرة، وتفلتا من الانقياد لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم حتى يطلق لنفسه الأمارة بالسوء العنان لتمرح وتسرح وتلعب وتلهو، وتأتي الفواحش ما ظهر منها وما بطن؛ فهذا الصنف من البشر استحق بذلك غضب الله، وباء بالخيبة والخسران. فهذا اللون من الناس وجد في اليهود عليهم لعائن الله، فهم كانوا يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، عرفوه نبيا ورسولا معرفة عالم باحث منقب، إذ ذكرت رسالته وبعثته في صحفهم، ومع هذا وذاك فقد رفضوا وردوا هداية الله وهم علماء. ويا ليتهم اكتفوا بذلك، بل امتدت أيديهم الشريرة إلى سفك دماء أنبياء الله صفوة الله من خلقه؛ فضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله. اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك. واستوحينا هذا المعنى من قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: من الآية7) .(9/405)
وأخيرا يبقى الصنف الثالث وهم الضالون أعاذنا الله منهم؛ فكل من يعبد الله بما وجد عليه آباءه وأجداده وقومه وعشيرته وهم على غير هدي من الله، فهو ضال طريق الصواب، وتائه في ظلمات التقليد الأعمى، ويخبط خبط عشواء. فمهما تقرب إلى الله بأنواع الطاعات وألوا العبادات والقربات، فلا حظ له في الآخرة، وإنما نصيبه النصب والتعب. وصورة هذا القسم تتجلى واضحة في النصارى الذين عبدوا الله بأهوائهم وضلالاتهم، وابتدعوا رهبانية ما فرضها الله عليهم ولا أذن لهم فيها، فغلوا في دين الله واختاروا الطريق الشاق الوعر؛ فتراهم يبنون الكنائس والمستشفيات، وينفقون في سبيل إنشاء ذلك ملايين الدولارات، ولكن حالهم كما وصفهم الله تعالى في كتابه العزيز {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الكهف:103،104)(9/406)
الله أكبر! الله أكبر! فالآية الكريمة تفضح جماعات من الناس يجدُّون وينصبون ليلا ونهارا كحال المبشرين اليوم من النصارى، ونسوا أن المسيح عيسى عليه السلام لو كان حيا لما وسعه إلا اتباع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فكل من ينتسب إلى الإسلام ثم لا يرفع رأسا بما جاء به عن الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فهو داخل في الوعيد الشديد لهذه الآية، لمشابهته النصارى في عبادة الله بالأهواء والخرافات والبدع والضلالات. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم الناصح الأمين والرؤوف الرحيم بأمته يفتح جل خطبه بقولته الذهبية الخالدة: "أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار". كما علمنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن نقول عند خروجنا من البيت ونحن نريد الصلاة والتقرب إليه بعد البسملة: "اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أذل أو أذل، أو أجهل أو يجهل علي"انتهى الغرض منه. فالله أسأل أن يرزقنا اتباع كتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ويتوفانا على ذلك غير مبدلين ولا مغيرين ولا خزايا ولا مفتونين.
فالنجاة النجاة يا عباد الله، فالفرصة مواتية- ولا سبيل إلى ذلك للتخلص من القيود والويلات والضلالات التي نرتع فيها إلا بمراجعة دين الله عز وجل، والتحاكم في كل صغيرة وكبيرة إلى كتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء:65)(9/407)
اللهم اشرح صدورنا لما فيه الخير والنفع، واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وأرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى في أول سورة الفاتحة.
[2] وقد يقل أو يكثر بحسب إعراض الناس عن شرع الله وإقبالهم عليه.(9/408)
سيروا
بقلم محمد عبد الرحمن شميلة الأهدل
الطالب بكلية الشريعة بالجامعة
سيروا إلى العلياء والفخر
وتدرعوا بالصدق والصبر
واستنصروا الرحمن واجتهدوا
وادعوا لدين الله في جهر
وتعصبوا للحق وانتقدوا
من ساير الشيطان في أمر
الدرب مفروش بكل أذى
لاسيما في مثل ذا العصر
إن الكرام من الأولى سلفوا
جدوا وداء الجهل مستشري
فاسْتَحْلوا التعذيبَ واصطبروا
وتجلدوا في موقف العسر
سيروا إلى أن تدركوا غرضا
أو تظفروا بالشكر والأجر
يا أمة الإسلام في بلد
شرفت بنور المصطفى البدر
من ها هنا كان انطلاق سناً
أردى ظلام الشرك والكفر
فجددوا ذكرى أوائلكم
وسددوا سهماً لذي الشر
ونفذوا أحكام بارئكم
وطبقوا ما جاء في الذكر
إن تنصروا الرحمن يهدكم
ويثبكموا في ساحة الحشر
سيروا إلى أن تدركوا غرضا
أو تثنوا بالشكر والأجر(9/409)
الفتاوى
يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
لقد وردني من المكرم ي. ع.ص الأسئلة الآتية.
س1: هل يجوز الجمع بين مطلقة رجل وابنته من غيرها، وما حكم القاعدة المشهورة التي نصها "كل امرأتين بينهما قرابة لو كانت إحداهما ذكرا لم يجز له أن يتزوج الأخرى حرم الجمع بينهما".
ج1: قد نص أهل العلم في باب المحرمات في النكاح على هاتين المسألتين، وأوضحوا أنه لا حرج في جمع الرجل بين امرأة رجل توفي عنها أو مطلقها، وبين ابنته من غيرها، وذكروا في ذلك أن عبد الله بن جعفر ابن أبي طالب رضي الله عنهما جمع بين إحدى زوجات عمه علي رضي الله عنه بعد وفاته وبين ابنته من غيرها. وهذا الجمع لا يخالف القاعدة المذكورة، لأن المرأتين المذكورتين ليس بينهما قرابة تحريم النكاح إحداهما لأخرى لو كانت إحداهما ذكرا، وإنما الذي بينهما مصاهرة، والمصاهرة في هذا لا تمنع الجمع؛ أما المرأتان اللتان بينهما قرابة تمنع نكاح إحداهما للأخرى لو كانت إحداهما ذكرا فهي تتصور في الأختين، والمرأة وخالتها، والمرأة وعمتها نسبا ورضاعا، وفي مسائل أخرى؛ وقد جاء النص القرآني في تحريم الجمع بين الأختين في قوله سبحانه في سورة النساء {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيَيْنِ} (النساء: من الآية23) . وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما "أنه نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها". أخرج حديث أبي هريرة الشيخان، وانفرد البخاري عن مسلم بحديث جابر، وذكر البخاري رحمه الله في كتاب النكاح في باب ما يحل ويحرم من النساء أثر عبد الله بن جعفر الذي ذكرنا معلقا بصيغة الجزم ولفظه: "وجمع عبد الله بن جعفر بين ابنه علي وامرأة علي"ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حل الجمع بين امرأتي رجل وابنته من غيرها(9/410)
عن الأئمة الأربعة وأكثر أهل العلم، ذكر ذلك عنه العلامة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله في المجلد الثاني والثلاثين من مجموع الفتاوى ص71. ونقل الحافظ ابن حجر في الفتح مثل ما فعل عبد الله بن جعفر عن صحابي يدعى جبلة تولى إمرة مصر، ونقل مثل ذلك نسبا عن عبد الله بن صفوان بن أمية؛ وبذلك يتضح لكم أنه لا وجه للتوقف في حل هذه المسألة، لأن من ذكر فعلوا ذلك من غير نكير. ولأن الأصل حل ذلك فلا يحرم من الفروج إلا ما حرمه الله سبحانه، لأن الله عز وجل لما ذكر المحرمات في النكاح في سورة النساء قال بعد ذلك: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم} (النساء: من الآية24) فعلم بذلك أنه لا يحرم من النساء إلا ما قام الدليل على تحريمه، وينبغي أن يعلم أن الخؤولة والعمومة لا فرق فيهما بين القرب والبعد؛ فيحرم على الرجل أن يجمع بين المرأة وعمتها وإن علت، وبينها وبين ابنة أخيها وإن سفلت، وهكذا يحرم عليه أن يجمع بين المرأة وخالتها وإن علت، وبين المرأة وابنة أختها وإن سفلت كما نص على ذلك أهل العلم؛ ووجه ذلك أن عمة الرجل والمرأة تعتبر عمة لأولادهما وإن سفلوا، وهكذا الخالة.
س2: إذا كان عند رجل أربع نسوة وتزوج خامسة وأنجبت منه ولدا فأكثر، فهل ينسب ولدها إليه.
ج2: لا شك في بطلان نكاح الخامسة، وهو كالإجماع من أهل العلم رحمهم الله. وقد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره "إن أهل العلم - ما عدا الشيعة - قد أجمعوا على تحريم نكاح الخامسة، وفي وجوب إقامة الحد على ناكح الخامسة خلاف مشهور ذكره القرطبي رحمه الله في تفسيره وغيره من أهل العلم".(9/411)
أما إلحاق الولد به ففيه تفصيل؛ فإن كان يعتقد حل هذا النكاح لجهل أو شبهة أو تقليد لحق به، وإلا لم يلحق به. وقد ذكر صاحب المغني وغيره هذا المعنى فيمن تزوج امرأة في عدتها، ومعلوم أن نكاح المرأة في عدتها باطل بإجماع أهل العلم، ومع ذلك يلحق النسب بالناكح إذا كان له شبهة؛ كالجهل بتحريم نكاح المعتدة إذا كان مثله يجهل ذلك، فإذا لحق النسب في هذه المسألة بالناكح إذا كان له شبهة، فلحوقه بناكح الخامسة أولى؛ لأن نكاح المعتدة لا خلاف في بطلانه بخلاف نكاح الخامسة، فقد خالف في تحريمه وبطلانه الشيعة، وإن كان مثلهم لا ينبغي أن يعتد بخلافه. وخالف فيه أيضا بعض الظاهرية كما ذكر ذلك القرطبي في تفسيره، ولأن الأدلة الشرعية قد دلت على رغبة الشارع في حفظ الأنساب وعدم إضاعتها، فوجب أن يعتنى بذلك وأن لا يضاع أي نسب مهما وجد إلى ذلك سبيل شرعي، ولا شك أن الشبهة تدرأ الحدود، وتقتضي إلحاق النسب، وقد يدرأ الحد بالشبهة ولا يمنع ذلك تعزير المتهم بما دون الحد مع القول بلحوق النسب، جمعا بين المصالح الشرعية؛ والله ولي التوفيق.
س3: رجل قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي لمدة شهر، قضى الشهر وعاد إلى زوجته؛ فهل تلزمه كفارة ظهار أم لا؟
ج3: مثل هذا لا كفارة عليه إذا كان لم يطأها في الشهر المذكور في أصح أقوال العلماء، ويسمى هذا الظهار ظهارا مؤقتا. وقد ذكر أهل العلم أن الظهار يكون منجزا ومعلقا ومؤقتا؛ فالأول مثل أن يقول: "أنت علي كظهر أمي"والثاني أن يقول: "إذا دخل رمضان أو شعبان، أو قدم فلان فأنت علي كظهر أمي"والثالث مثل أن يقول: "أنت علي كظهر أمي شهر رمضان"فإذا خرج الشهر ولم يطأها فيه فلا كفارة عليه، لكونه لم يعد فيه إلى ما قال، وقد بين هذه الأقسام أبو محمد موفق الدين عبد الله بن قدامة رحمه الله في كتابه المغني، وذكر كلام أهل العلم في ذلك كما ذكر غيره من أهل العلم، والله أعلم.(9/412)
س4: هل يجوز بيع غير الطعام بالطعام نسيئة؛ كبيع الثياب بالقمح مثلا…الخ.
ج4: يجوز ذلك في أصح أقوال أهل العلم، والأدلة عليه كثيرة؛ منها عموم الأدلة في حل البيع والمداينة. ومنها ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما نسيئة، ورهنه درعا من حديد. ومنها بيع السلم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة والناس يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال عليه الصلاة والسلام: "من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" ولم يشترط أن يكون الثمن نقدا، فدل ذلك على أنه يجوز أن يسلف مكيلا من الطعام أو موزونا من الطعام في حيوان أو ثياب على أوصاف أو غيرها مما ينضبط بالصفة إذا توفرت بقية الشروط، والله سبحانه وتعالى أعلم.
س5: لاحظت أنه يوجد في كلية الطب في القاهرة مكان لتشريح الإنسان، مجموعة من الأموات رجال ونساء وأطفال المشرحة لتشريح وتقطيع أجزائهم، وذلك للعلم العملي؛ فهل يجوز مثل ذلك شرعا للضرورة، وخصوصا تشريح الرجل لأجزاء المرأة، والمرأة لأجزاء الرجل، وهل يجوز تقطيع أجزاء وأعضاء الإنسان؟
ج5: إذا كان الميت معصوما في حياته سواء كان مسلما أو كافرا، وسواء كان رجلا أو امرأة، فإنه لا يجوز تشريحه؛ لما في ذلك من الإساءة إليه وانتهاك حرمته، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كسر عظم الميت ككسره حيا". أما إذا كان غير معصوم؛ كالمرتد والحربي، فلا أعلم حرجا في تشريحه للمصلحة الطبية، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(9/413)
أخبار الجامعة
إعداد العلاقات العامة
تقرر أن يعقد المجلس الأعلى الاستشاري للجامعة الإسلامية دورته السابعة في مقر الجامعة ابتداء من يوم الإثنين الموافق 15 محرم 1395هـ لبحث بعض الأمور المتعلقة بمصلحة الجامعة، ويتألف المجلس الاستشاري من:-
سماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيسا، وعضوية كل من:- نائب رئيس الجامعة فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد واثنين من أعضاء هيئة التدريس بالجامعة وهما في هذه الدورة: فضيلة الدكتور سيد محمد الحكيم، الأستاذ في كلية أصول الدين بجامعة الأزهر، والمعار للتدريس بالجامعة الإسلامية. وفضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي، المدرس في كلية الشريعة بالجامعة.
وقد وجهت الدعوة للحضور إلى بقية الأعضاء من خارج الجامعة الإسلامية التالية أسماؤهم:
1- معالي وزير المعارف الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ.
2- معالي مدير جامعة الرياض الدكتور عبد العزيز عبد الله الفدا.
3- فضيلة الدكتور محمد أمين المصري، المشرف على قسم الدراسات العليا بمكة المكرمة.
4- فضيلة الشيخ محمد المبارك، المستشار في جامعة الملك عبد العزيز بجدة.
5- فضيلة الشيخ محمد محمود الصواف، مستشار وزارة المعارف.
6- سعادة الدكتور كامل الباقر، الأستاذ بكلية التربية بالرياض.
7- معالي الشيخ عبد العزيز محمد عيسى، وزير شؤون الأزهر.
8- فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف، مفتي الديار المصرية سابقا.
9- فضيلة الشيخ عبد الله غوشة، رئيس قضاة الأردن
10- فضيلة الشيخ محمد بهجة الأثري، مدير الأوقاف العامة بالعراق سابقا.
11- فضيلة الشيخ عبد الله العقيل، مدير الشئؤون الإسلامية في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الكويت.
12- سعادة الدكتور محمد الحبيب الخوجة، عميد الكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين بتونس.(9/414)
13- فضيلة الشيخ مصطفى العلوي، مدير دار الحديث الحسنية بالرباط بالمغرب.
14- فضيلة الشيخ أبي الأعلى المودودي، رئيس الجماعة الإسلامية في باكستان سابقا.
15- فضيلة الشيخ أبي الحسن الندوي، رئيس جمعية ندوة العلماء بلكنو في الهند.
16- فضيلة الشيخ أبي بكر جومي، رئيس قضاة شمال نيجيريا.
هذا ويقوم بأمانة المجلس فضيلة الشيخ عمر محمد فلاته، الأمين العام للجامعة.
الجامعة الإسلامية تساهم في توعية حجاج بيت الله الحرام
أقامت الجامعة الإسلامية جريا على عادتها مخيما في منى ساهمت فيه بإفتاء الحجاج وتوعيتهم، كما ألقى فيه سماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وبعض أساتذتها محاضرات استمع لها كثيرون من حجاج بيت الله الحرام، كما قامت بتوزيع كميات كبيرة من مطبوعاتها التي طبعت على حسابها للتوزيع.
التعبير عن السرور بافتتاح كلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
لقد تم بحمد الله تعالى افتتاح كلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية، وبدأت الدراسة فيها فعلا في أوائل شهر شوال عام 1394هـ؛ ومنذ أن أعلن نبأ صدور الموافقة السامية على إنشاء هذه الكلية ورد إلى الجامعة رسائل كثيرة من داخل المملكة وخارجها تعبر عن الفرح والسرور بإنشائها، وتهنئ الجامعة على هذه الخطوة المباركة في توسيع نطاق التعليم فيها وتنويع تخصصات طلابها، لاسيما وهذه الكلية هي الأولى من نوعها في العالم. وقد أسست لخدمة كتاب أنزله الله على أفضل رسول بعث لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
وهذه الكلية هي الثالثة في الجامعة الإسلامية، وأولها كلية الشريعة، والثانية كلية الدعوة وأصول الدين، وتمنح هذه الكليات لخريجيها درجة الإجازة العالية "الليسانس"ولخريجيها من الحقوق ما لحملة الشهادات الأخرى المماثلة التي تصدرها جامعات المملكة.(9/415)
من أعلام المحدثين
أبو أحمد بن عدي الجرجاني 277-365هـ.
بقلم فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
نائب رئيس الجامعة الإسلامية.
نسبه:
هو عبد الله بن عدي بن عبد الله بن محمد بن مبارك، هكذا نسبه الذهبي في "تذكرة الحفاظ"، واسم أبيه عدي في "التذكرة"، وفي "العبر"و"اللباب"و "طرح التثريب"و "شذرات الذهب"، وفي "طبقات الشافعية"لابن السبكي اسم أبيه محمد، وجده عدي.
كنيته ونسبته:
كنيته أبو أحمد، ووطنه "جرجان" ينسب إليه فيقال: الجرجاني؛ وقد اشتهر بابن عدي، وبابن القطان.
رحلته في طلب الحديث:
بدأ سماع الحديث سنة تسعين ومائتين، ورحل في طلب الحديث ما بين الأسكندرية وسمرقند، وأول رحلاته في سنة سبع وتسعين ومائتين وعمره عشرون سنة.
ممن روى عنهم:
روى عن بهلول بن إسحاق الأنباري، ومحمد بن عثمان بن أبي سويد، ومحمد بن يحيى المروزي، وأبي خليفة الجمحي، والحسن بن سفيان، وأبي عبد الرحمن النسائي، وعمران بن مجاشع، وعبدان الأهوازي، وأبي يعلى الموصلي؛ وقد زاد شيوخه على أكثر من ألف شيخ، قاله ابن ناصر الدين كما في شذرات الذهب لابن عماد.
ممن رووا عنه:
روى عنه شيخه أبو العباس بن عقدة، وأبو سعد الماليني، وحمزة بن يوسف السهمي، وأبو عبد الله الحاكم النيسابوري وغيرهم.
ثناء العلماء عليه:(9/416)
قال حمزة السهمي: "كان حافظا متقنا لم يكن في زمانه أحد مثله". وقال الخليلي: "كان عديم النظير حفظا وجلالة". وقال أبو القاسم ابن عساكر: "كان ثقة على لحن فيه". وقال الذهبي: "كان لا يعرف العربية مع عجمة فيه، وأما العلل والرجال فحافظ لا يجارى". وقال أبو الوليد الباجي: "ابن عدي حافظ لا بأس به". وقال ابن الأثير في اللباب: "كان إمام عصره". وقال الذهبي في التذكرة: "الإمام الحافظ الكبير"، وقال: "كان أحد الأعلام"، وقال: "وهو المصنف في الكلام على الرجال، عارف بالعلل". وقال ابن كثير في البداية والنهاية: "الحافظ الكبير المفيد الإمام العالم الجوال النقال الرحال". وقال ابن قاضي شهبة (كما في شذرات الذهب لابن العماد) : "هو أحد الأئمة الأعلام، وأركان الإسلام، طاف البلاد في طلب العلم، وسمع الكبار". وقال أحمد أبي بن مسلم الحافظ: "لم أر أحدا مثل أبي أحمد بن عدي، فكيف فوقه في الحفظ".
آثاره:
قال ابن الأثير في اللباب: "وله التصانيف المشهورة". انتهى. وهذه التصانيف أشهرها على الاطلاق كتاب "الكامل في الجرح والتعديل"وقد أثنى عليه العلماء ورفعوا من شأنه. قال فيه حمزة السهمي: "سألت الدارقطني أن يصنف كتابا في الضعفاء قال: "أليس عندك كتاب ابن عدي؟ "فقلت "بلى". قال: "فيه كفاية لا يزاد عليه". وقال ابن كثير في البداية والنهاية: "له كتاب الكامل في الجرح والتعديل لم يسبق إلى مثله، ولم يلحق في شكله". وقال ابن قاضي شهبة كما في شذرات الذهب: "وهو كامل في بابه كما سمي". وقال ابن السبكي في طبقات الشافعية: "وكتاب الكامل طابق اسمه معناه، ووافق لفظه فحواه، من عينه انتجع المنتجعون، وبشهادته حكم المحكمون، وإلى ما يقول رجع المتقدمون والمتأخرون". وقال الذهبي في أول كتاب (الميزان) : "ولأبي أحمد بن عدي كتاب الكامل هو أكمل الكتب وأجلها في ذلك".(9/417)
وهذا الكتاب العظيم الذي نعته هؤلاء العلماء بهذه النعوت وأثنوا عليه هذا الثناء، يوجد بعضه مخطوطا في المكتبة الظاهرية بدمشق تحت رقم "364"حديث، وفي معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية بالقاهرة تحت رقم "388"ورقم "759"فهرس قسم التاريخ، وكذا يوجد منه أجزاء مختلفة ملفقة من ثلاث نسخ في دار الكتب المصرية نوه عنها في فهرس مصطلح الحديث في دار الكتب؛ ومن آثاره كتاب "الانتصار على مختصر المزني" ذكره الذهبي في التذكرة، وابن العماد في شذرات الذهب، وابن السبكي في طبقات الشافعية وقال: "وددت لو وقفت عليه".
ومنها "أسامي من روى عنهم البخاري"من مشايخه الذي ذكرهم في صحيحه على حروف المعجم، وهو من مخطوطات المكتبة الظاهرية بدمشق تحت رقم "389"حديث.
وفاته:
توفي الحافظ أبو أحمد بن عدي سنة خمس وستين وثلاثمائة في شهر جمادى الآخرة في "جرجان"، وصلى عليه أبو بكر الإسماعيلي، وولادته سنة سبع وسبعين ومائتين، وهي السنة التي مات فيها أبو حاتم الرازي، وعمره ثمان وثمانون سنة، وقد أرخ وفاته بهذا الذهبي في تذكرة الحفاظ وفي العبر، وابن الأثير في اللباب، وابن السبكي في طبقات الشافعية، والعراقي في طرح التثريب، وابن العماد في شذرات الذهب، وابن كثير في البداية والنهاية.
ممن ترجم له:
1- ترجم له الذهبي في العبر 2/337 وفي التذكرة 3/152.
2- وابن العماد في شذرات الذهب 3/51.
3- وابن كثير في البداية والنهاية 11/283.
4- والسمعاني في الأنساب مخطوط 126.
5- والعراقي في طرح التثريب 1/71.
6- وابن السبكي في طبقات الشافعية 2/233.
7- وابن الأثير في اللباب 1/219.
8- وعمر رضا كحالة في معجم المؤلفين 6/82.(9/418)
الإسلام والحركات الهدامة المعاصرة
بقلم الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وإمام المهتدين، وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين، ومن سلك سبيلهم، وترسم خطاهم، ونهج مناهجهم إلى يوم الدين أما بعد:
فإن الحركات الهدامة قد استشرى خطرها، واتسع نطاق ضررها، وأصبحت محاربتها ألزم من محاربة جميع الأمراض الفتاكة، والأوبئة المبيدة، لأن شرها على الإنسانية أكثر من شر تلك الأمراض وهذه الأوبئة؛ لأن هذه الحركات تمسخ الإنسان وهو لا يدري، وتجعله أحط من بهيمة الأنعام، وهو يعد نفسه أو يعده غيره من العقلاء. وقد تنوعت أساليب هذه الحركات واختلفت أشكاله، وأخطر هذه الحركات في هذا العصر الماسونية وفروعها من الشيوعية والاشتراكية، والصهيونية التي تنبع من عين واحدة وإن اختلفت مظاهرها، وتعمل لهدف واحد وإن تغايرت أساليبها، حتى صار بعض الناس يحسب - بسبب هذا التغاير المظهري - أنها حركات متعادية، وهي في الواقع مؤسسة يهودية عالمية.
وأساس هذه الحركات هي الماسونية، وهي جمعية سرية يهودية الأصل، ومعنى (ماسون) أو فرسون:
(البناءون الأحرار)
وقد أسس المحفل الأعظم لهذه الجمعية لأول مرة في بريطانيا عام 1717م، وقد زعم دعاتها أنهم يهدفون إلى مبادئ ثلاث، هي الحرية والإخاء والمساواة، ومقصودهم من الحرية في الواقع أن يتحرر الناس من أديانهم، وأن يرتكب الإنسان ما شاء له هواه دون رادع أو زاجر، وأن يخالف جميع ما تأمر به الشرائع، وأن تفعل المرأة ما شاءت من الزيغ والرجس والفساد والتهتك والانحلال تحت ستار هذه الحرية.(9/419)
كما أن مقصودهم من الإخاء هو محاربة روح التمسك بالدين، وأنه لا فرق بين يهودي ونصراني ومسلم ومجوسي وبوذي ودهري وملحد؛ فالناس كلهم إخوان، وعليهم أن يحاربوا أي استمساك بأي دين، ويسمون من يلتزم مبادئ دينه بأنه متعصب مذموم. كما أن مقصودهم من المساواة كذلك هو ملء قلوب الفقراء بالحقد والضغينة ضد من وسع الله عليهم من الأغنياء، وملء قلوب الأغنياء بالحقد والضغينة على الفقراء.
وبعد مائتي سنة تقريبا من وجود المحفل الأعظم الماسوني في بريطانيا، انتشرت المحافل في العالم ولا سيما في فرنسا وروسيا وأمريكا والهند، حتى صار في أمريكا وحدها عام 1907م أكثر من خمسين محفلا ماسونيا رئيسيا تتبعها آلاف المحافل. وقد نشرت المخابرات الإيطالية عام 1927م في عهد موسوليني أنها اكتشفت 36 ألف جمعية ماسونية في العالم يتبعها ملايين الناس.
وقد عمد الماسان إلى اصطياد رجال ونساء في فخاخهم من جميع الديانات ممن يأملون فيهم أن يخدموا أهدافهم في بلادهم، فإذا تمت تجاربهم على العضو، وأيقنوا أنه يمكن أن يكون عبدا مطيعا لمبادئهم وأغراضهم، بذلوا كل ممكن لديهم لتنصيبه في مركز حساس في بلاده، وبذلوا حوله كل ما يستطيعون من وسائل الدعاية لتركيزه، وصار له عندهم وصف؛ كسكرتير أعظم، أو أستاذ أعظم، أو قطب أعظم في المحفل الماسوني الذي ينتمي إليه. ولا يصل العضو إلى هذه المراتب إلا بعد اختبار شاق.(9/420)
فهم في بادئ دعوة العضو وبعد أن يدرسوه نفسيا يدخل العضو في سرداب طويل، قد ملئ بالجماجم الإنسانية المعلقة، والسيوف والخناجر التي تكاد تمس رأسه ورقبته، ويمر به من تحتها وجوانبها ويقال له: هذه رأس من باحوا بالسر، ثم تعصب عيناه ويتسلمه رجلان قويان نشيطان، ويضعان حبلا في عنقه كأنهما يريدان شنقه وهو مستسلم لهما، ثم يدفعانه إلى غرفة سوداء، فيرفعان غطاء عينيه ليرى صندوقا، ثم يدخلانه في الصندوق وحبل المشنقة في عنقه، فإذا وجدوا منه استسلاما كاملا فعلوا به كقوم لوط، فإذا لم يجدوا منه أية مقاومة اعتبر ناجحا، وأعطي الدرجة الماسونية التي يستحق.
وقد بدأ الماسون في تشكيل هيئات أخرى لتظهر في صورة غير ماسونية، وقد كان من أخطرها الشيوعية الحديثة، والاشتراكية، والصهيونية، فهذه المذاهب الثلاثة تلتقي مع الماسونية في أغراضها وأهدافها وإن تشكلت بأشكال مختلفة، وتظاهرت في بعض الأحيان بأنها متعادية، فالأفعى الرمزية هي الشعار اليهودي الصهيوني الشيوعي الماسوني، والمنجل الشيوعي شبيه بالمطرقة والسندان الماسوني، وماركس داعي الشيوعية والاشتراكية، ولينين وعصابته التي قامت بالانقلابات الشيوعي جلهم من اليهود؛ بل أكثر أعضاء الحكومة الروسية في نصف القرن الماضي عاماهم إما يهود، أو متزوجون بيهوديات؛ ولذلك رأينا دعاة الاشتراكية في البلاد العربية - مع اختلافهم - يرددون نفس شعار الماسون، فهتافهم: الحرية، والوحدة، والاشتراكية، وهي في الحقيقة عين ما يردده الماسان في هتافهم "الحرية، والإخاء، والمساواة".
فالهدف الأول لم يختلف حتى في الاسم، والهدف الثاني معناه عندهما واحد، وكذلك الهدف الثالث؛ والغرض الحقيقي للماسونية والصهيونية هو السيطرة على العالم بعد إشاعة الانحلال الأخلاقي، والتسلط على اقتصادياته، والعمل على قيام دولة يهودية، وإعادة بناء هيكل سليمان عليه السلام.(9/421)
وقد مثل اليهود الصهيونيون والماسان حركتهم بأفعى زحف رأسها من فلسطين ليبتلع العالم، وقد بقي ذنبها في فلسطين، حتى إذا ما التقى رأس الأفعى بذنبها يكون اليهود قد أطبقوا على العالم وسيطروا عليه بشتى الوسائل ومختلف المظاهر، كما ثبت أن جميع دعاة الشيوعية وخاصة في البلاد العربية كانوا يهودا، وأكثرهم بعث من روسيا السوفيتية، فقد اتضح أن أول دعاة الشيوعية في سوريا ولبنان كان يهوديا بولونيا يدعى (جوزيف برجز) ثم (الياهو تيبر) وهو يهودي من ليتوانيا؛ وكذلك (نخمان ليتفتسكي) كان يهوديا روسيا، وقد جاء هؤلاء الثلاثة إلى بيروت عن طريق حيفا، وعملوا على تأسيس حزب شيوعي في سوريا ولبنان، على أن يكون تابعا للحزب الشيوعي اليهودي في فلسطين، وبعد بضع عشرة سنة صار تابعا للحزب الشيوعي الفرنسي، فلما أنشأت روسيا سفارة لها في سوريا ولبنان صار هذا الحزب يتبعها مباشرة.
وفي عام 1922م قدم إلى الاسكندرية بمصر يهودي روسي اسمه (جوزيف روزنتال) وقد جاء من الاتحاد السوفيتي، وأنشأ محلا لبيع المجوهرات، وكانت له ابنة تدعى (شارلوت) أخذت هي وأبوها في الدعوة للشيوعية حتى اعتقلت بعد انكشاف أمرها، فاعترفت بأنها تقوم بنشر الشيوعية وفقا للتعليمات التي تتلقاها من الاتحاد السوفيتي. وقد جاء بعدهما (هنري كوريل) اليهودي، و (ايلي شوارتز) اليهودي، و (ريمون دويك) اليهودي وغير هؤلاء من اليهود.
كما قدم إلى العراق من موسكو أحد الضباط الروس واسمه (بتروف) وافتتح حانوتا للخياطة وتسمى باسم (بطرس أبو ناصر) وأسس الحزب الشيوعي العراقي، ولذلك كانت روسيا الشيوعية، وأمريكا الرأسمالية أسرع دول العالم للاعتراف بما يسمى (دولة إسرائيل) وكان عدد الجنرالات الروس المحاربين مع اليهود عام 1948م لا يقل عن عدد الجنرالات الأمريكيين المحاربين لتثبيت اليهود في أرض فلسطين، وذلك كله أثر من آثار المخطط الماسوني الخطير.(9/422)
كما رأينا كمال جنبلاط الاشتراكي المعروف يدعو إلى اتحاد يهودي عربي فيدرالي في أرض فلسطين، مع دمج هذا الاتحاد في الدول العربية؛ فقد ألقى كمال جنبلاط هذا محاضرة بعنوان (دور القومية في تقوية المجتمعات الحرة أو في تقويضها) باللغة الفرنسية في ميلانو عام 1954م، ثم عاد وألقاها في شهر مايو سنة 1956م باللغة العربية في (حلقة دراسات مفاهيم الحرية) برعاية المركز الإقليمي في الشرق الأوسط للمنظمة العالمية لحرية الثقافة في لبنان، وقد اقترح كمال جنبلاط في هذه المحاضرة إقامة اتحاد فدرالي عربي يهودي فلسطيني، ليحل معضلة مشكلة فلسطين وقال: "بينما كان من الواجب حل المعضلة على أساس قومية متفتحة إنسانيا، وهي وحدها الوصفة المحكمة التي يمكن الإشارة بها في هذه المنطقة الحساسة من العالم على أساس اتحاد فدرالي عربي يهودي فلسطيني، يفسح مجال إدخال فلسطين ودمجها معنويا إن لم يكن سياسيا في مجموعة بلدان الشرق الأدنى، وقد نشرت هذه المحاضرة في كتاب (دراسات) الذي أصدرته (حلقة دراسات مفاهيم الحرية) .(9/423)
وقد رحبت الدوائر اليهودية آنذاك باقتراح كمال جنبلاط، فقد نشرت جريدة (هاعولام زاده) اليهودية في أواخر عام 1956م في فلسطين المحتلة تقريرا نص على وجوب حل قضية فلسطين على أساس توطين النازحين في الضفة الغربية وغزة بعد تحويلها إلى وطن فلسطيني يرتبط (بإسرائيل) في اتحاد فدرالي يكون منطلقا لاتحاد أشمل مع الدول العربية وفي 8/6/1972م أعرب شمعون بيرز وزير المواصلات اليهودي في فلسطين المحتلة عن أمله بأن يقوم اتحاد يضم دولة يهودية وأخرى عربية في فلسطين، وقال الوزير الصهيوني: "إني آمل بأن أرى قيام أسس لدولة اتحادية جديدة، يعيش فيها العرب واليهود معا في قطاعين مختلفين، يكون لكل منهما برلمانه وحكومته، وكل منهما يتحدث اللغة التي يفضلها، ويتعبد على طريقته". وقد تنبه مجلس النواب الأردني لهذه الدسيسة، وناقشها في جلسة المجلس بتاريخ 11/6/1972م، أي بعد إعلان الوزير الصهيوني بثلاثة أيام.
وبهذه المناسبة أحب أن ألفت الانتباه إلى أن كمال جنبلاط يسعى مع زعماء الشيوعيين في الجنوب العربي لإعادة مجد القرامطة، وبعث مذهبهم من جديد؛ فقد نشرت جريدة النهار للمدعو كمال جنبلاط امتداحا لدولة القرامطة، وأنهم كمنظمة ثورية كان لهم موقع الريادة في الدعوة إلى المساواة. وطبعا كمال جنبلاط درزي، وأخص عقائد الدروز أن خالق السماوات والأرض هو الحاكم العبيدي المجنون اليهودي، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.(9/424)
ولم يكن كمال جنبلاط وحده في هذا الميدان المنحرف الهدام، بل قد نشرت جريدة السياسة الكويتية حديثا للمدعو/ عبد الله عبد الرزاق باذيب، وزير السياحة والثقافة والآثار في حكومة عدن الشيوعية في 15/2/73م اعتز فيه بأن حكومته منسوبة للقرامطة وقال: "يقولون إننا من القرامطة ... ليكن، نحن نعتز بهذا الأصل ونؤكد عليه، إذ نمثل استطرادا في مجتمعنا لذلك الطموح إلى الاشتراكية الذي بدأ من أيام القرامطة"، ويكرر قائلا: "نعتز بأصلنا القرمطي، القرامطة عبروا منذ القدم عن طموح شعبنا العربي لمجتمع اشتراكي".(9/425)
على أن المؤرخين مطبقون على أن القرامطة ليس لهم في التاريخ العربي أي مجد، بل تاريخهم أسوا تاريخ مر بالأمة العربية، علما بأنهم ليسوا من العرب، بل هم جماعة من فروخ المجوس، واليهود أرادوا القضاء على الإسلام، فلما صار لهم دولة عاثوا في الأرض فسادا، واستولوا على البحرين وهجر، وأخافوا البلاد، وروعوا العباد. قال ابن كثير رحمه الله في حوادث سنة ثمان وسبعين ومائتين هجرية: "وفيها تحركت القرامطة، وهم فرقة من الزنادقة الملاحدة أتباع الفلاسفة من الفرس الذين يعتقدون نبوة زرادشت ومزدك، وكانا يبيحان المحرمات، ثم هم بعد ذلك أتباع كل ناعق إلى باطل، وفي سنة سبع عشرة وثلثمائة اشتدت شوكتهم، وتمكنوا من الوصول إلى الكعبة والناس يوم التروية، فما شعروا إلا والقرامطة برئاسة المدعو بابي طاهر الجنابي قد انتهبوا أموالهم، وقتلوا كل من وجدوا من الحجيج في رحاب مكة وشعابها، وفي المسجد الحرام وفي جوف الكعبة، وجلس أميرهم أبو طاهر الجنابي على باب الكعبة والرجال تصرع حوله، والسيوف تعمل في المسجد الحرام في الشهر الحرام في يوم التروية، ويقول هذا الملعون: أنا الله وبالله أنا، أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا، ولم يدع أحد طائفا أو متعلقا بأستار الكعبة إلا قتله؛ ثم أمر بإلقاء القتلى في بئر زمزم، وأمر بقلع باب الكعبة ونزع كسوتها عنها، ثم أمر بأن يقلع الحجر الأسود، فجاء قرمطي فضرب الحجر بمثقل في يده وهو يقول: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ ثم قلع الحجر الأسود، وأخذوه معهم، فمكث عندهم اثنتين وعشرين سنة. وقد اعتز عبد الله باذيب بعلي بن الفضل الذي تغلب على اليمن، وزعم أنه طلع من يافع، وقد جهل أو تجاهل هذا المغرور أن علي بن الفضل هذا كان يعمل هو وأتباعه عمل قوم لوط، ويحرض نساءه على الزنا والدعارة، ويرغب أتباعه كالشيوعيين المحدثين في وقاع أمهاتهم وأخواتهم وبناتهم؛ إذ يقول في قصيدته المشهورة:(9/426)
ولا تمنعي نفسك المعرسين
من الأقربين ومن أجنبي
فكيف حللت لهذا الغريب
وصرت محرمة للأب
أليس الغراس لمن ربه
ورواه في الزمن المجدب
وقد أرجع ابن كثير وغيره من المؤرخين أصل القرامطة إلى اليهود والمجوس، وذكروا أنه بعد أن أظهر الله الإسلام، وبسط رواقه على أرض فارس، تشاور جماعة من المجوس والمزدكية، وشرذمة من الثنوية، وطائفة من ملاحدة الفلاسفة، وبعض اليهود في حيلة يدفعون بها في نحر الإسلام، ويعملون بها على تشتيت شمل المسلمين، فاتفقوا على انتحال مذهب يستمد أصوله من أصول الفلاسفة، وقواعد المزدكية، وعقائد الثنوية واليهود، ورأوا أن أنجع الوسائل لتحقيق أهدافهم أن يتمسحوا بالانتساب إلى نصرة آل البيت، بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يختاروا رجلا يزعمون للرعاع بأنه من آل البيت، وأنه يجب على كافة الخلق مبايعته، وتتعين عليهم طاعته، مدعين أنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه معصوم عن الخطأ؛ وقد تذرعوا بذلك إلى استدراج العامة لينسلخوا من الدين، فإن أراد أحد أن يتمسك بظاهر القرآن ومتواتر الأخبار، أخبروه أن تلك الظواهر لها أسرار وبواطن، وأن أمارة الأحمق الانخداع بظواهرها، وأن الفطن هو من لا يرى هذه الظواهر، وإنما يتبع الإمام في تفسير الباطن، فكان هؤلاء الباطنيون كما قيل عنهم: ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض. وقد اتفقت كلمة الناس عنهم أنهم كانوا يسلطون أتباعهم على الشهوات، وقضاء الملذات، وانتهاك الحرمات، وأنهم كانوا يستبيحون كل محرم، وكان لهم ليلة يجتمعون فيها رجالهم ونساؤهم، ويطفئون سرجهم، ثم يتناهبون النساء، وأنهم كانوا يؤمنون برجل في جاهلية الفرس قبل الإسلام يدعى شروين، ويزعمون أنه كان نبيا، وأنه أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. هذا وقد قسمت الماسونية جمعياتها حسب مخططاتها وأغراضها، فبعض هذه الجمعيات(9/427)
لإثارة الطلاب، وبعضها للاستيلاء على أفكار الصحفيين والكتاب والمؤلفين، وبعضها لإثارة العمال والفلاحين، وبعضها مختصة بالعسكريين، وبعضها لإحداث الانقلابات في الدول، إلى غير ذلك؛ فالماسون كانوا وراء الثورة الفرنسية، وهم وراء مذبحة استنبول التي ذبح فيها 68 ألف مسلم عام 1908م، وهم كذلك وراء حرب البلقان عام 1912م، والتي أثارت كذلك الحرب العالمية الأولى، وهم كذلك مدبروا الانقلاب ضد السلطان عبد الحميد، وهم مزيلوا الخلافة الإسلامية.(9/428)
وقد يؤيد الماسون دعوات ليسوا في الأصل منشئيها إذا وجدوا أن هذه الدعوات تخدم بعض أغراضهم ولو إلى حين؛ ولذلك أيدوا داروين النصراني في نظريته التطور والارتقاء، وبذلوا كل دعاية ممكنة لترويج مذهبه الفاسد، لأنه يحدث بلبلة ضد الأديان، كما أيدوا كذلك دعاة القومية العربية مع أنها في الواقع أسسها دعاة النصرانية، وعقدوا لها أول مؤتمر في باريس عام 1910م، ومع أنها كذلك تخالف بعض مبادئهم ضد الأمميين، لكنها لما كان ترويجها يحطم روح الدين في نفوس أهلها، ويؤدي إلى محاربة الأديان، قام الماسون بالترويج والدعاية لها. كما أيدوا القاديانية التي أنشئت لتكون كالخراج الحار في جسم الأمة الإسلامية؛ كما أيدوا البهائية التي تدعوا صراحة للتجمع الصهيوني في فلسطين، إذ قام رئيس هذه العصابة - عباس المسمى بعبد البهاء - يعمل على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وفي ذلك يقول في (مفاوضات عبد البهاء) ص59: "وفي زمان ذلك العصن الممتاز، وفي تلك الدورة سيجتمع بنو إسرائيل في الأرض المقدسة، وتكون أمة اليهود التي تفرقت في الشرق والغرب والجنوب والشمال مجتمعة"ثم يقول: "فانظروا الآن تأتي طوائف اليهود إلى الأرض المقدسة، ويتملكون الأرض والقرى ويسكنون فيها، ويزدادون تدريجيا إلى أن تصير فلسطين جميعا وطنا لهم"وقد ذكر صاحب دائرة معارف القرن العشرين "الرابع عشر في الجزء الثاني ص377 ... أن بعض دعاة البهائية فسر الفقرة الثانية من الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية التي تقول: "جاء الرب من سيناء، وأشرق من ساعير، وتلألأ من جبل فاران// فقال: فهذه الآية المباركة تدل دلالة واضحة أن بين يدي الساعة وقدام مجيء القيامة، لابد أن يتجلى الله على الخلق أربع مرات، ويظهر أربع ظهورات حتى يكمل بني إسرائيل وينتهي أمرهم إلى الرب الجليل، فيجمع شتيتهم من أقصى البلاد، ويدفع عنهم كل العباد، ويسكنهم في الأرض المقدسة، ويرجع موازينهم القديمة.(9/429)
ومن أهم وسائل الماسون لتحقيق أغراضهم هو الاستيلاء على جميع وسائل الدعاية في العالم، من الصحافة والإذاعة والكتابة والتلفزيون وغيرها من شئون الإعلام، كما أن من أعظم وسائلهم الاستيلاء على المناصب الحساسة في إدارات الدول، بوضع رجال خبراء من اليهود أو مؤيديهم في تلك المناصب.
أما الصهيونية نسبة لصهيون، وهو جبل يقع في جنوب بيت المقدس، والصهيونية حركة يهودية تسعى بكل الوسائل إلى إعادة بناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى، والسعي إلى السيطرة على العالم وحكمه من القدس أولا، ثم روما ثانيا على يد ملك من اليهود يكون من نسل سليمان. والصهيونية كما أشرت سابقا: هي إحدى فروع الماسونية، وقد برزت قرونها في القرن السابع عشر الميلادي باسم حركة منشة بن إسرائيل، وبدأت بالدعوة إلى توطين اليهود في بريطانيا تمهيدا لنقلهم إلى فلسطين، وقد استطاعت هذه الحركة أن تسخر الإنجليز لتحقيق أهداف اليهود. وقد نشطت في فرنسا في عهد نابليون بعد الثورة الفرنسية التي كان الماسون من ورائها؛ ففي سنة 1798م وجه أحد زعماء الصهيونية خطابا يعتبره اليهود دستور الصهيونية، وقد جاء فيه: "هيا بنا أيها الإخوان لتجديد هيكل أورشليم، إن عددنا يبلغ ستة ملايين منتشرين في أقطار العالم، وفي حوزتنا ثروات طائلة واسعة، وممتلكات عظيمة، فيجب أن نتذرع بكل ما لدينا من الوسائل لاستعادة بلادنا، إنه يجب العمل وإقامة مجلس ينتخبه اليهود المقيمون في بلدان أوربا وآسيا وأفريقيا، واللجنة الممثلة لليهود المقيمين في هذه البلدان يمكنها أن تبحث في مهمتها وتتخذ ما تراه من القرارات، وعلى اليهود أن يقبلوا هذه القرارات، ويجعلوها قانونا يخضعون له". وقد حدد الوطن القومي لليهود بفلسطين وسيناء إلى النيل من أرض مصر، ثم يقول: "فهذا المركز يجعلنا قابضين على ناصية تجارة الهند وبلاد العرب وأفريقيا، مع سهولة الاتصال ببلاد أوربا"، ثم يختم خطابه بقوله: أيها(9/430)
الإسرائيليون: "لقد قربت الساعة التي ينتهي فيها حالتكم التعسة، وإن الفرصة الآن سانحة، فحاذروا أن تفلت من أيديكم". وقد عمل اليهود بكل الوسائل على شراء الأراضي في فلسطين، وبناء المستعمرات بمساعدة كبار اليهود من الإنجليز مثل: درزائيلي اليهودي الإنجليزي الذي تنصر وصار رئيسا للوزارة البريطانية. ثم نشطت الصهيونية بقيادة هرتزل الذي يلقبونه "بأبي الصهيونية الحديثة"وهو صحفي نمساوي، وقد حاول هرتسل هذا أن يدفع للسلطان عبد الحميد خمسة ملايين ليرة ذهبية عثمانية هدية للخزينة السلطانية الخاصة، وعشرين مليونا كقرض من الجمعية اليهودية للحكومة العثمانية لمدة تعينها الحكومة العثمانية، وقد تنبه السلطان عبد الحميد إلى خطر هذه الحركة الإجرامية، ورفض أي وعد باستيطان اليهود في أرض فلسطين؛ ففكر اليهود في إقامة وطن مؤقت في سيناء أو يوغنده، ولكن المؤتمر اليهودي السادس المنعقد سنة 1903م رفض هذه الفكرة وأصر على أرض فلسطين، ومات هرتزل سنة 1904م بعد أن وضع كثيرا من الوسائل لتحقيق هدفهم الخبيث؛ ومن أهم هذه الوسائل وجوب عقد مؤتمر في كل عام يضم قادة الحركة الصهيونية، وقد انعقد أول مؤتمر لهم في مدينة بال بسويسرا عام 1897م واتخذ هذا المؤتمر قرارات ترمي كلها لتحقيق إقامة دولة يهودية في أرض فلسطين، وتعهدت فيه السر اليهودية الغنية مثل أسرة "روتشليد" بتقديم الأموال اللازمة لتحقيق أهداف اليهود.
وقد عرفت القرارات السرية التي اتخذت في هذا المؤتمر باسم "بروتوكولات حكماء صهيون"التي كان من بينها: يجب ألا تتردد في أعمال الرشوة والخديعة والخيانة إذا كانت تخدم أغراضنا.
- إن المحفل الماسوني المنتشر في العالم يعمل في غفلة كقناع لأغراضنا.
- يجب علينا أن نحطم كل عقائد الإيمان، وعندما نصل إلى مملكتنا لن نبيح قيام أي دين غير ديننا.(9/431)
فيتعين علينا أن تكتسح جميع العقائد والأديان الأخرى، وإذا كان هذا يؤدي إلى وجود ملحدين ينكرون وجود الخالق، فإن هذا مما لا يتعارض مع وجهة نظرنا، ويعتبر في ذاته مرحلة تطور وانتقال. ولقد كان من أبرز ثمار هذه التعاليم وأخطرها على الإنسانية هو الانقلاب الشيوعي في روسيا، والذي قام به عصابة من اليهود الروس بزعمة اليهودي لينين تبعا للمخطط الماسوني الذي روج من قبل لكارل ماركس. والشيوعية قد عرفت في التاريخ القديم، ومن ذلك ما أثر عن مزدك الفارسي الذي ظهر في عهد الملك قباذ ملك فارس، وكان هذا الملك ضعيفا مهينا، فسدت في عهده الرعية، فزعم مزدك أنه نبي، وأخذ ينهى الناس عن المباغضة والمخالفة والقتال، وأعلن أن سبب هذه الفتن هي النساء والأموال، لذا رأى أن تباح النساء لكل راغب، وأن تباح الأموال لكل طالب حتى يشترك فيها الناس اشتراكهم في الماء والهواء.
وقد انتشر مذهبه في عامة بلاد فارس، ودخل فيه قباذ نفسه، وقام الفقراء بتقتيل الأغنياء، وصار الجماعة منهم يدخلون على الرجل فيقتلونه ويثبون على أمواله ونسائه؛ فغضب لذلك بعض عظماء فارس، وبخاصة أنوشروان بن الملك قباذ، وزعيم آخر يقال له ساجوروتا، مروا على مزدك وقتلوه، وخلعوا قباذ وعينوا أخاه "جاماسب" ملكا عليهم، وحاولوا القضاء على فتنة المزدكية.(9/432)
غير أن قباذ استطاع أن يعود إلى الملك وأن يحبس أخاه، فقوي شر المزدكية من جديد، واستمرت إلى أن قتل قباذ وتولى بعده ابنه أنوشروان الذي ولد في عهده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما استقل بالملك وجلس على السرير قال لخواصه: "إني عاهدت الله إذا صار إلي الملك ألا أبقي على أحد من المزدكية الذين أفسدوا أموال الناس ونساءهم"، وكان عند سريره رجل مزدكي فقال: "أتقتل الناس جميعا؟ "فنظر إليه أنوشروان وقال له: "أتذكر يا ابن الخبيثة يوم طلبت من أبي أن يأذن لك في المبيت عند أمي فأذن لك، ولما ذهبت إلى حجرتها لحقت بك وقبلت رجلك وتضرعت إليك حتى وهبتها لي ورجعت؟ "فأقر الرجل أمام الحاشية بما قال الملك، فأمر بقتله فضربت عنقه وأحرقت جثته، ثم أمر أنوشروان باستئصال شأفة المزدكية وقضى عليهم.
كما عرفت الشيوعية في العصر الحديث في صور متقاربة بزعامة رجال تكاد تتشابه ظروف حياتهم مع حياة مزدك الفارسي، وأشهر هؤلاء كارل ماركس المولود عام 1818م من أبوين يهوديين، غير أن اباه أظهر أنه تنصر وترك دين اليهودية، وكذلك فعل ابنه كارل ماركس، وقد وصف "أوتورهل"ماركس بأنه كان على الدوام متقلبا حقودا لا يزال في تصرفه عرضة لتأثير سوء الهضم والانتفاخ، وهياج الصفراء، وكان موسوسا يغلو كجميع الموسوسين في الشعور بمتاعبه الحسدية، وقد كان كارل ماركس يهمل دروسه، وينقطع عن معهده الأسابيع المتواصلة متابعا لما شذ من الآراء التي يبنيها اليوم ويهدمها غدا؛ أو باحثا عن اللذة الجنسية والمتاع الجسدي، وقد شغف أولا بدراسة القانون ثم تركه وشغف بدراسة الفلسفة ثم تركها، واشتغل بدراسة المذاهب الاقتصادية وحصل على دكتوراه بالمراسلة من جامعة جينا الألمانية عام 1841م.(9/433)
وكان ماركس أيام حياته الدراسية عالة على أبيه "هرشل" فلما مات أبوه صار عالة على أمه وأخته حتى عجزتا عن مواصلة الإنفاق عليه، فصار يلجأ إلى الاستدانة من أقربائه وأصدقائه، وبخاصة من انجلز الذي صار قرينه في الدعوة إلى الشيوعية. وكان أصدقاؤه إذا ضاقوا من طلباته حاولوا أن يكلفوه ببعض الأعمال التي قد تدر عليه ببعض الرزق، ولكنه كان يبوء بالفشل في كل عمل يسند إليه.
وكان ماركس قد تعرف على فتاة أثناء دراسته للحقوق في جامعة بون تدعى جيني، ولم يكن أحد قد اشتم منه رائحة نزعته الشيوعية إلى ذلك الحين. وكان عمره لا يتجاوز العشرين، وقد وقعت الفتاة في قلبه وهام بها، ولم يكن في أول أمره ذلك يفكر في الزواج منها لأنها من طبقة فوق طبقة أهله، والتقاليد تقف حجر عثرة في سبيله، غير أن الفتاة رغبت في الزواج منه ولم تعبأ بالفوارق الطبقية التي توجد بينهما. وقد أعلنت الفتاة أنها لن تتخلى عنه مهما كانت الفوارق، وأنها راضية به على أي حال. وعلى الرغم من تحقيق هذا الحلم فقد بدأ ماركس يشعر بالحقد الثائر نحو نظام الطبقات الذي كاد يحول بينه وبين جيني، وقد بدأت مشكلة المعاش - له ولزوجته - تتعقد أمام ماركس، فقد زادت نفقاته ولم يتحسن إنتاجه، ولاسيما بعد أن صار ذا أولاد، وقد صورت زوجته جيني ما صارت إليه هي وزوجها من البؤس وتعاسة العيش في كتاب إلى صديق لها تطلب منه أن يمد لها المساعدة؛ قالت فيه:(9/434)
"ائذن لي أن أصف لك يوما من أيام هذه الحياة وسترى أن غيرنا لم يقاس ما قاسينا، فأنا مريضة سقيمة، ومع أن ثديي وظهري بهما أوجاع وآلام بالغة، فأنا مضطرة إلى أن أرضع طفلي الرابع الحديث الولادة، لأنني لا أستطيع أن أدفع أجرة مرضعة، ولكن طفلي كان يرضع الحزن والألم والوجع، فيتلوى من المرض ليلا ونهارا، ومع هذا الفقر والحاجة فقد دخلت علينا صاحبة المنزل وطلبت منا أجرة البيت، كما طالبت بما علينا لها من القروض، ولما كنا عاجزين عن الدفع فقد حجزت على كل ما نملك في البيت حتى فراش الطفل، وباعته بما لها علينا من الدين. ثم طردتنا إلى الشارع والمطر ينهمر بغزارة، والبرد قارس لا يرحم، وبذل زوجي ماركس كل ما في وسعه من جهد فلم نجد من يقبل إيواءنا"؛ كما كتبت جيني مرة أخرى تصف إحدى ليالي البؤس التي مرت بها وبماركس فتقول: "أحست ابنتنا بنزلة شعبية، وصارعت الموت ثلاثة أيام ثم ماتت، وأخذنا نبكي عليها، ولم يكن لدينا ما نجهزها ونكفنها به، وأبقينا الجثة حتى نجد ما نستعين به على دفنها، ومضيت إلى جار فرنسي مهاجر فأعطاني جنيهين ... وا أسفاه!! وفدت ابنتنا إلى الدنيا فلم تجد مهدا، وعندما غادرت الدنيا لم تجد كفنا". ويبدو أن الماسون قد استغلوا هذه الحوادث، وأثاروا في ماركس هذه الدوافع حتى حدت به أن يكون داعيا لمصارعة الطبقات، عنيدا في الدعوة إلى الشيوعية، عبدا ضارعا أمام محراب المادية، ينفث سمومه في نواح متعددة من أوربا، ولاسيما إنجلترا، حتى هلك عام 1883م، غير أن دعوته لم تنجح في أوربا، حتى قام اليهود الروس بالثورة الشيوعية ضد القياصرة من آل رومانوف بقيادة اليهودي لينين عام 1917م تحقيقا لمقررات الماسونية والصهيونية، وقد جعل السوفيت المادة الأولى من دستورهم أنه لا إله والكون مادة؛ والمادية في نظر الماركسيين تعني عدم الإيمان بالغيب، وإنكار جميع المظاهر الدينية والمذاهب الروحية والمنازع الأخلاقية، وحرب التقاليد ونظام(9/435)
الزواج والأسرة، وقد كان ماركس يرى أنه لابد لقيام المجتمع الشيوعي من خمسة أركان يبنى عليها وهي:
1- استيلاء الطبقة الكادحة من العمال والفلاحين على مقاليد الحكم في أول الأمر.
2- تأميم وسائل الإنتاج ومصادر الثروة.
3- القضاء على رأس المال.
4- القضاء على الطبقات.
5- ثم القضاء على الحكومة.
غير أن نظام الماركسيين ينص على "أن قيام حكومة العمال والفلاحين هو شيء مؤقت، وأنه حركة انتقالية إلى مرحلة الشيوعية الحقيقة التي لا تبقى فيها حكومة، وإنما ينطلق الشعب حرا بلا حكومة ولا سلطان". بيد أن واقع الشيوعية لم ير هذه النظرية مطبقة في قطر من الأقطار التي بليت بهذا النظام، فجميع البلاد التي صارت إلى الشيوعية قامت حكومتها من جنس الحكومات التي كانت في تلك البلاد قبل الحكم الشيوعي؛ ففي روسيا مثلا كان الدور الذي قام به العمال والفلاحون هو إشعال نار الثورة ضد الحكم القيصري والقضاء عليه، فلما تم لرؤساء الحزب الشيوعي ما أرادوا من سقوط عرش آل رومانوف، قبض رؤساء الحزب الشيوعي على زمام الحكم، وأزاحوا العمال والفلاحين من الطريق، وردوهم مدحورين إلى المصانع والمزارع، ليقاسوا تحت نيران الحزب الشيوعي أشد ألوان المهانة والإرهاق.(9/436)
وقد قام العمال والفلاحون بعدة ثورات كانت تقابل بأنكى صنوف القمع والإرهاب، ولم تمنع وسائل التعذيب الإجرامية هؤلاء من أن يقوم الكثير منهم بإحراق المحاصيل، وتبديد الماشية والأموال حتى لا تقع في يد هؤلاء الحكام المستبدين. وقد حاول ستالين أن يقضي على ثورات الطبقة الكادحة بألوان شتى من أنواع القتل والحبس والنفي في مجاهل سيبيريا، والتهديد والوعيد فلم يفلح؛ وفي منشور له في هذا الصدد يقول: "لكي يضمن الكولخوزيون "المزارعون"لأنفسهم الحياة والعيشة، يتطلب ذلك منهم أن يعملوا في الكولخوزات "المزارع التعاونية"ويحافظوا عليها، ولا ينسوا مسؤوليتهم تجاهها!! " ولما قال العمال لستالين: "لقد وعدتمونا بأن تكون الحكومة من العمال والفلاحين فلم لا تنفذون وعودكم؟ "قال ستالين: "لقد انتقلت السلطة، وتركزت في يد حزب واحد هو حزبنا، ولن يشاركنا في توجيه الدولة أي فئة أخرى؛ وهذا ما نعنيه بالدكتاتورية العمالية. وهكذا نرى المخطط الأول من المخططات التي رسمت للمجتمع الشيوعي لم تكن إلا حبرا على ورق - كما يقولون - بل صار العمال والفلاحون في المجتمع الشيوعي أحط أنواع العمال والفلاحين في العالم.(9/437)
أما تأميم وسائل الإنتاج ومصادر الثروة ثم القضاء على رأس المال ثم القضاء على الطبقات، فقد كانت سلب الغني من الأغنياء وإدامة الفقر والمسكنة للمساكين والفقراء، والذين يزورون برلين الشرقية وبرلين الغربية يذكرون أنهم إذا تجاوزوا سور برلين إلى الشرق، صاروا كالمنتقلين من النهار إلى الليل؛ فالمحال مقفرة، والشوارع تكاد تكون خالية، ومظاهر سوء الحالة الاقتصادية لا يكاد يخفى على ذي عينين. ومع أن الشيوعيين قد بذلوا كل جهدهم للقضاء على النظام الطبقي، فإن المجتمع الشيوعي يتمثل فيه ما يتمثل في غيره من نظام الطبقات؛ فلا يزال روسيا - مثلا - طبقة العمال والفلاحين، وطبقة القادة العسكريين، وطبقة البوليس السري والمخابرات، وطبقة العمال والأكاديميين، وطبقة المهندسين، وطبقة الفنانين والرقاصين، وطبقة زعماء الحزب الشيوعي؛ وقد وجدت هذه الطبقات في المجتمع الشيوعي بحسب تفاوت الدخل الذي قدرته الحكومة لهؤلاء حسب ميزان الاحتياج الذي صنعوه، فقد جعل المعدل الوسط لحاجة العمال والفلاحين ما بين 600 إلى 700روبل، كما جعل المعدل الوسط للفنانين والرقاصين يتراوح ما بين 1400 إلى 2000روبل، وجعل المعدل الوسط للقادة العسكريين والمهندسين ما بين 4000 إلى 7000روبل؛ وبعد الحرب العالمية الثانية بدأت الحكومة الشيوعية ببناء منازل ومنح سيارة وسائق لبعض الطبقات.(9/438)
أما إلغاء الحكومة فيقول ماركس: "وبعد أن تزول المنازعات بين الطبقات زوالا نهائيا خلال التطور، وبعد أن يتركز الإنتاج كله في أيدي الأفراد المتشاركين، عندئذ تفقد السلطة العامة طابعها السياسي"ثم يقول: "والدولة هي سلطة الطبقة المنظمة، تزول بزوال الطبقة، وعندئذ يكون عهد الشيوعية بكل ما تعني الكلمة ... "ويقول: "الشيوعية هي عهد تسوده الحرية، وعصر يزدهر فيه الإنسان أكمل ازدهار، فهو يحتم مع زوال الطبقات زوال الحكومة". ونحن لا نستطيع أن نجزم هل كان ماركس متمتعا بقواه العقلية حينما يخرج على الناس بمثل هذه النظرية التي لا يعرفها التاريخ البشري في المجتمعات المتمدنة أو الهمجية على حد سواء، وحتى ولو فرض وجودها في مجتمع بدائي همجي فهل يجيز العقل وجود مثلها في مجتمع ذي حاجات متفاوتة، بل وإلحاح في طلب الكماليات. وهل ظن ماركس والذين خططوا له أن فطر الناس المتباينة، وطبائعهم المتنازعة سيئول بها الحال إلى الزوال؟ فيعيش الناس في الأرض يأكلون من نباتاتها المختلفة، ولحوم حيواناتها المتغايرة الطبائع ثم يصيرون في نفس الوقت كملائكة السماء. ولا نذهب بعيدا لنراجع نحن أو غيرنا في ذلك حوادث التاريخ، وإنما نلقي نظرة عابرة على واقع الحكومة في المجتمع الشيوعي لنرى أن الحكومة في المجتمع الشيوعي تسير في طريق الدكتاتورية إلى حد لا نظير له في المجتمعات الأخرى، وفي ذلك يقول ستالين: "إن تقرير المصير لأي فرد أو أمة أو جماعة يجب ألا يتضارب مع حق الحزب الذي يمثل الجماهير الكادحة في أن يحكم حكما دكتاتوريا" هذا وكثير من الناس لا يفرقون بين الشيوعية والاشتراكية؛ فروسيا وبلاد أوربا الشرقية الشيوعية يطلق عليها اسم البلاد الاشتراكية، إلا أن بعض الناس يفرق بين الشيوعية والاشتراكية في الجملة من وجوه:
1- أن الاشتراكية هي الخطوة الأولى للشيوعية.(9/439)
2- أن الاشتراكية لا تمانع في قيام حكومة "البروليتاريا" العمال والفلاحين، بخلاف الشيوعية الحقيقة فإنها لا تجيز أي نوع من الحكومات.
3- أن الشيوعية لا تبيح أي نوع من الملكيات، بخلاف الاشتراكية فإنها تجيز بعض الملكيات الفردية في حدود ضيقة وعلى قواعد تؤدي في النهاية إلى تلاشي هذه الملكية.
هذا ولم يزعم زاعم - مهما كان - أن الإسلام والشيوعية قد يلتقيان، فلم نسمع إلى الآن صوتا واحدا يقول: إن الإسلام لا يتنافى مع الشيوعية؛ إذ أصل الشيوعية إنكار ألوهية خالق السماوات والأرض وإنكار الدين، وإنما سمعنا أن بعض الناس - وقد يكونون من المنتسبين للإسلام أو للعلم - يزعمون أن الإسلام لا يتنافى مع الاشتراكية، وقد يتعامون عن أن الاشتراكية مذهب خاص، ذاتية هذا المذهب تخالف ذاتية الإسلام في روحه وصورته، وأن ثلاثة عشر قرنا مرت على الإسلام والمسلمين ولم يعثر على كلمة الاشتراكية في كتب الإسلام التي تجاوزت آلاف الملايين، سواء كانت كتب الفقه أو التفسير أو الحديث أو سائر كتب العلم الإسلامية، ولا وجود لها قبل وجود دعاتها الماسونيين. كما يتجاهلون أن الإسلام - وهو دين الله الحقلا - قد أتى بجميع ما يسعد الناس في معاشهم ومعادهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يترك بابا من أبواب الخير إلا دل الناس عليه، ولا بابا من أبواب الشر إلا حذر الناس منه، بيد أن جماعة من هؤلاء يقولون: إن بعض نصوص القرآن كقوله تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ} (الحشر: من الآية7) وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الناس شركاء في ثلاثة: في الماء والنار والكلأ" تدل على صحة المذهب الاشتراكي، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على جهل هؤلاء بحقيقة الإسلام عموما، وبمعنى هذه الآية وذلك الحديث خصوصا؛ فإن الآية نزلت تشرح مصرف الفيء، وهو نوع خاص له طابع خاص من بين الأموال الإسلامية، وأما الحديث فقد بين موضع الشركة(9/440)
وهو الماء والنار والكلأ، ولفظ الحديث يدل بمفهومه على أن ما عدا هذه الأشياء الثلاثة من الأموال والأشياء التي يمكن أن يتملكها الإنسان لا اشتراك فيها، على أن صريح القرآن وصحيح وصريح السنة يدل بما لا مجال للشك فيه على حفظ ممتلكات الناس وأموالهم إلا برضا منهم، وفي ذلك يقول الله عز وجل: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة:188) وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: " ... ألا أن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت اللهم فاشهد" وكما قال صلى الله عليه وسلم: "من غصب شبرا من أرض طوقه الله بسبع أرضين يوم القيامة" وتاريخ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كالزبير بن العوام الذي مات عن أرض الغابة وإحدى عشرة دارا بالمدينة، ودارين بالبصرة، ودار بالكوفة، ودار بمصر، وقد كان عليه دين يبلغ ألفي ألف ومائتي ألف "أي مليونين وربع تقريبا"وأن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما حصر مال أبيه فوجده خمسين ألف ألف "أي خمسين مليونا"ومائتي ألف، والزبير من المبشرين بالجنة. وكذلك عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وهو أحد العشرة كذلك رضي الله عنهم قد كان نصيب نسائه من تركته فوق ستين ألفا. ومعنى ذلك أن تركته تجاوزت أربعمائة وثمانين ألفا؛ ولا طعن على أحد في ذلك ما دام يأخذه من حل ويضعه في حل، ويؤدي حق الله فيه. وقد أكمل الله الدين، وأتم الشريعة، فلا حاجة معها لمذاهب مستوردة أتعست أهلها، وجلبت الشقاء للمبتلين بها، والحق يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: من الآية3)
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(9/441)
رسائل لم يحملها البريد
بقلم فضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
صديقي …
تسألني يا صديقي كيف أمسيت بعد ثلاثة وعشرين عاما من ذاك الزواج.
أمسيت يا صديقي كما أصبحت، أحمد الله على ما أنعم، وأشكر له ما رزق، لا يزال ذاك الزواج ريَّان مونقا مورقا كأشجار الربيع، لم يصبه الجفاف، ولم يدركه الخريف، لم أصر بعد إلى ما كنت تحدس وتقدر، فأرى في بيتي ظلمة المغاور، وأحس له وحشة المقابر، لا يزال بيتي يشرق بالنور، ويفيض بالحياة، ويزين كل جدار فيه. {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: من الآية21) .
ولا تحسبن أني قد نسيت، فأنا لا أذكر تمام الذكرى ما منحتنيه من نصح، حين أشرت علي أن أستبدل بشجرة السرو شجرة من أشجار العنب، وقلت: هذه ذات أغصان تفيء إلى ظلها وقت الحرور، وذات عناقيد تستمتع بها في مصيف العمر وفي شتاء الحياة، ثم هي زينة لك في حياتك الدنيا، تدوم بها الصحبة وتتوثق الألفة، وتعمق المودة، ويكثر الخير، وتتنوع طعوم الحياة.
ولقد شكرت لك هذا النصح حين ذاك، وقلت لك: أنا يا صديقي في فسحة من الوقت، وليس هناك ما يدعو إلى هذا التعجل، دعني آخذ الأمر بشيء من الأناة، وأعالجه بشيء من التبصر.
وما كان جوابي هذا لينال رضاك، فهززت رأسك هزات ذات معان، ورميت ببصرك إلى الأرض بضع ثوان، ثم رفعته إلي وأنشأت تقول:
لا تركن إلى ما أنت فيه من شباب، ولا يخدعنك ما أنت فيه من نعيم، ولا تقعد الجبن عن لقاء الحياة، فتقعد في هذه الحياة أسيفا حسيرا، ولا تكن من المستقبل في خشية، فالمستقبل بيد الله، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} (هود: من الآية6) .(9/442)
لقد نسيت يا صديقي كثيرا من أيام حياتي، ولكنني لم أنس ذلك اليوم الذي أبديت فيه ما كنت عنك أخفيه، وجهرت لك بما كنت من قبل قد أسررت، وقلت لك حين عرفت أن لا مناص من القول:
دعني يا صديقي فالخيرة فيما اختاره الله، لا فيما تختاره أنت، أنني راحل في هذه الحياة، وكل شيء من حولي وحولك راحل، فأشجار الزيتون التي تغطي سفوح الجبال، وتفيض بها بطون الأودية، وأشجار البرتقال هذه التي تملأ السهول، ويفيض بها الساحل، وهؤلاء الناس الذين يغدون ويروحون وهم لا يشعرون، هؤلاء وأولئك كلهم راحلون راحلون، وحتى هذه الأرض التي أنت فوق ثراها راحلة سوف أكون أنا يا صديقي في هذه الدنيا عابر سبيل، وفلّ طريق، ونضو سفر، فدعني أعبر فجاجها العميقة، وثنياتها الضيقة، وشعابها الصعاب، دعني أعبرها خفيف الظهر، طلق اليدين، واسع الخطا، ولا ترهقني من أمري عسرا.
دعني يا صديقي من أعنابك وعناقيدك، فأنا لا أحب العناقيد حصرمًا، ولا أحب الأعناب ذوات أكل خمط، ولا أريد أن أزيد غثاء السيل غثاء، وعسى أن يجعل الله فيما تكرهه أنت خيرا كثيرا.
أما أنت يا صديقي فسر على الدرب الذي أحببت، وتزوج من النساء مثنى وثلاث ورباع، واترك من خلفك ذرية مباركة من البنات والبنين والحفدة، تحمل اسمك الكريم، وتحفظ ذكرك الطيب، وتكون شجرة باسقة الفروع، كثيرة الثمر، تنشر من حولك الظل، وتكون لحياتك زينة.
ونم يا صديقي ليلك الهادئ الطويل، تهدهدك الأحلام، وتربتك الأماني، وتطوف بخيالك صور غد باسم مشرق.(9/443)
وسوف أظل أصغي إلى ما ترجيه في أولادك من مستقبل شامخ البنيان، ثابت الأركان، وأستمع إلى ما ترسمه لهم من خطط حياة طويلة عريضة، ودراسات علمية متخصصة عالية، وسوف أضرع إلى الله مخلصا، كلما طاف بي طائف من أولادك، أو رن في أذني صدى صوت من كلماتك - أن يجعل فيهم الولد الصالح الذي لا ينقطع به عملك بعد الموت، ويخلفك على المنبر في وعظ الجماعات - فنحن في أيام قد أغطش فيها ليل الفتن، فعميت على الناس الطريق، وعصفت بقلوب كثير منهم عاصفات انحراف وأعاصير ضلال.
سر ياصديقي على الدرب الذي أحببت، وإني لأسأله تعالى صادقا أن يهب لك الذرية على الصورة المرجوة التي رسمت، فيكون فيهم الطيب الحاذق الذي يعالج المرضى وقد جعل همه الأول ابتغاء مرضاة الله وثواب الآخرة، لا زهرة الدنيا ولا زينة الحياة، قد اتخذ له عيادة في وطن من أوطان المسلمين، لا يطير إلى بلد من بلاد أوروبا وراء فتاة جميلة لعوب قد ملكت حبه، ولا إلى بلد من بلاد أمريكا طمعا في ثروة واسعة تملأ جيبه. ويكون فيهم الجندي الشجاع الذي يخوض غمرات الحرب إعلاء لكلمة الله، أو دفاعا عن أرض يذكر فيها اسمه، لا أن يكون جندي زينة في عراض المواكب، أو شاكي سلاح تسيل على حده لهوات تنطق بالحق.
وتكون فيهم الفتاة المتعلمة المهذبة التي أكبر همها زوج صالح يكون لها منه رجال صالحون ونساء صالحات، ليست بعارضة أزياء في الغدوات والروحات، ولا بمبدية لحما غضا غريضا لجياع القطط عاى أرصفة الشوارع.(9/444)
ويكون فيهم المهندس الواسع الخيال، ذاك الذي يحسن تخطيط الطرق الطويلة الآمنة على سفوح الجبال، والجسور المديدة القوية على بطون الأودية وضفاف الأنهار، والعمارات المتطاولة الجميلة في أحياء المدن الكبرى، لا أن يكون مهندسا بارعا في تخطيط طرق الفساد في قلوب العباد، وإقامة الجسور لعبور أفكار خبيثة باسم العلم والثقافة، وبناء الخلايا الخبيئة المدمرة لصروح مجتمعات سليمة وعمائر خير وصلاح.
وأسأله تعالى أن يكون لأولادك جميعا نصيب من وقتك وجهدك وتوجيهك، وأن يكونوا جميعا تحت سمعك وبصرك، تراقبهم من قرب ومن بعد، وتنصح لهم بالقدوة وبالقول، ولا تتلمس المعاذير الواهية بكثرة الأعمال وضيق المجال وإرهاق الجسد، فتكون كمن يلقي البذور في الأرض حتى إذا خرج الزرع واستغلظ واستوى على سوقه، تركه مهبطا لطيور وافدة غريبة تغزوه، ومسرحا لديدان أوحال وحشرات تراب ترتع فيه.
وفي نهاية هذه الرسالة أسأل الله في أولادك أن يكونوا لك لا أن يكونوا عليك، أن يكونوا شبابك وقد أفنيت فيهم الشباب، أن يكونوا ثروتك وقد أنفقت عليهم ما جمعته من ثروة، أن يكونوا ثمرا يانعا وقد زرعت وسقيت وقلمت وحرست، أن يكونوا ظلا وارفا رطبا إذا هبت عليك سموم الحياة، أن يكونوا في عداد المسلمين حقا إذا عد المسلمون الصادقون فوق هذه الأرض.
ويا لهف نفسي، ويا لهف نفسك! ويا ضيعة مالك وجهدك! إن ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وعاشوا أرقاء لشرق أو لغرب، واتبعوا أهواءهم، وكان أمرهم فرطا.
سر ياصديقي على الدرب الذي أحببت، ودعني أسير على الدرب الذي أحب، وأرجو أن لا تجد في نفسك حرجا مما قضى الله.(9/445)
أول معهد في الإسلام
لفضيلة الدكتور: محمد محمد خليفة
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
ماجت دور يثرب وقصورها وآطامها بأحاديث الإسلام بعد بيعتي العقبة الأولى والثانية، وكانت من قبل مسرحا للوثنية واليهودية، ثم دخل الإسلام دورها، وسرت أصوله وتعاليمه بين مجتمعاتها، فأصبحت المدينة بين لهج بالإسلام، ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم مترقب إشراقه عليها متحمس لدعوته، وبين خائف تنتفض أحاسيسه خوفا على سلطانه أو دنيا جاهه أو ماله، وبين سائل عن دعوة الدين الجديد متقص ألوان الأذى التي يواجهها أصحابه من أقوامهم. وكلما ألقى الرجال بينهم صحابي أحدق المسلمون به يسمعون منه ما أوحاه الله إلى رسوله أو ما حدث به أو ما لقي أصحابه من ضروب النكال، أو ما يلقى الرسول من كيد من أنكروا إنسانيتهم فخروا سجدا لآلهة نحتتها من الصخر أيدي صناع الآلهة.
ووقف اليهود عن كثب يستنبئون أو يصيخون إلى ما تتناقله الألسنة مما يدور حول محمد ورسالة محمد {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه} (البقرة: من الآية89)
وتطلع الوثنيون الحيارى من الأوس والخزرج وغيرهم إلى فجر من اليقين يبدد ما ضربته عليهم ظلمات الحيرة، ويأخذ بأيديهم من متاهات الشكوك.
بكل هذا أفعمت خواطر اليثربيين على اختلاف أديانهم حتى أذن الله لرسوله بالهجرة فلم يكد يستقر مقامه في يثرب حتى أسس أول مسجد في الإسلام تطهر في محرابه الأرواح حين تصل دنياها بصانع الأرواح، وفي هذا المسجد وضعت خطوط الدولة الجديدة في الإدارة والسياسة والحكم والاقتصاد، وفيه انعقدت مجالس الشورى، واستقبلت الوفود من القبائل والملوك، وأعلنت فيه التعبئة لقتال أعداء الإسلام، وعقدت في حرمه الألوية، ووجهت الوصايا للقادة.(9/446)
وإلى جانب كل هذا أقيم فيه أول معهد عرفه الإسلام يعمل فيه وحي الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم على تهذيب النفوس وتربية العقول، وتنظيم المجتمع الجديد على ضوء الدين الجديد الذي صنع للوجود أمة هي {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: من الآية110) .
وقد تلقى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه في هذا المعهد ما أوحى الله من قرآن فكتبه من كتب، وحفظه من حفظ، وتساءل عن بعض آياته من تساءل حين اختلفت الأفهام أو تعايت عن إدراك ما تحمل الكلمات أو ما تهدف إليه الآيات، فكان عند صاحب الإلهام جواب.
وعاشت العقول والأسماع والأبصار والأرواح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع بيانه وما يتدفق فيه من جوامع الكلم، ومع إرشاده البصير الذي يأخذ بأيدي الضاربين في ظلمات الشكوك إلى صبح الحق ونور اليقين، ومع حركاته وإشاراته وما تحمل أساريره من انطباعات في رضاه وغضبه، ومع عظاته التي تربط القانتين الخاشعين بربهم في صلاتهم بل في حياتهم، وكأنما ربطتهم العظات التي أحكم نسجها إيمان الواعظ الأكبر، وأوثقت أرواحهم بالله فهم مع الله أبدا {إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (المجادلة: من الآية7) ولم تتقيد الدراسة في هذا المعهد بمنهج ولا بزمن، وإنما كان قوام الدراسة فيه العقيدة والشريعة والأخلاق والآداب: العقيدة الواضحة والشريعة التي ترسم للمجتمع طريقه، وتحدد له معالم الحياة الصحيحة التي يريدها الله لخير الإنسانية والأمة، الأخلاق التي تحدد سلوك الفرد والمجتمع، والآداب التي تصون النفوس من التردي - وواجهت الداعي الأول إلى وحدانية الله - وثنية اتخذت الأرباب من الصخر وقال عبادها: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى} (الزمر: من الآية3) فاتخذوا من الحجر الأصم وسيلة تقربهم إلى الله، وحين دعتهم الإنسانية العاقلة إلى عبادة الله دون وسيلة تحدوا دعوته.(9/447)
كما واجه اليهودية المنحرفة التي ترى عزيرا ابن الله، والنصرانية التي ترى المسيح ابن الله {مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ} (مريم: من الآية35) {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} (الجن:3) .
وعانى الرسول صلى الله عليه وسلم ما عانى في حرب الضلال حتى وطد أركان العقيدة الحقة في قلوب المسلمين، ثم انطلق طلاب المعهد الأول في الآفاق دعاة لا تثنيهم عن دعوتهم قوة ولا تفتر لهم همة، وكانت الشريعة الإسلامية المادة الثانية التي عني بدراستها في هذا المعهد يستنبطها الفقيه الأول من كتاب الله فرضا أو حدا أو وصية أو أمرا أو نهيا أو توجيها، فكانت الشريعة الإسلامية التي أوحى الله قواعدها وبنيانها هي خير شريعة بنت وحمت الكيان الإسلامي، وربطت بين مجتمعاته على تنائي أوطانهم وتباين أفكارهم، وكان المعلم الأول قدوة لطلابه في سلوكه وخلقه الذي امتدحه به ربه في قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4) ، وقد حملت أخلاقه المسلمين على الاقتداء به في زهده وصبره وجوده وتسامحه، واجتمعت فيه كل فضائل الخير، فكان أزهد الناس في متاع الدنيا، وكان أصبرهم على المكاره، وكان في جوده الريح المرسلة، وكان سمحا لا يغضب إلا حين تمس حرمات الله.
وقد ربى أمته على آداب الإسلام، فبنى بها أمة عنت لآدابها حياة القياصرة، وخشعت تيجان الأكاسرة، وكان أهل المدينة جميعا طلابا في المعهد يطلبون في علم المعلم الأول وعمله ما ينقي نفوسهم من رواسب الجاهلية الأولى، وما ينقي عقولهم من زيف الضلال وما يفقههم في الحياة.
ثم كان أبناء المدينة ومن هاجروا إليهم من آفاق الجزيرة من بعده روافد انطلقت في الآفاق تروي عطاش العقول وتزودهم بخير الزاد وزاد الخير.(9/448)
ولم يقيد الانتساب إلى هذا المعهد بسن ولا بجنس، فقد تلاقى في حلقاته المكتهلون والشباب والغلمان والنساء والعذارى، وسمعوا جميعا من المعلم الأول وأخذوا عنه واستفتوه، وقيدت عقولهم كل آبدة، ولم تفر من أذهانهم شاردة، أخذوا الكثير وفقهوا الكثير، ثم حملوا عن المعلم الأول شريعة الله إلى العالم، فقضوا بها بين الناس أحكاما وفتاوى عاشت على الأحقاب مرجعا يفيء إليه طلاب الحق حين تختلف أفهامهم وأفكارهم. ولقد تطلعت الأقطار في فجر الإسلام إلى طلاب معهد الرسول فأخذ طلاب الخير والشرع عنهم ما أخذوا، ونهلوا مما أفاء الله على علماء المدينة ما نهلوا، وخرجت من المدينة أجيال حملت إلى العالم الإسلامي خير شريعة عرفها الوجود، فكم كان فيها من هداة! وكم انطلق منها من دعاة! وكم تربى في رحابها من أئمة!.
فهل آن لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعود إليها مكانها العلمي فيرى العالم الإسلامي أفواجا من المتخرجين في جامعتها الإسلامية تحمل إلى العالم رسالة الإسلام عقيدة خالية من الشوائب، وشريعة حاكمة قوامها كتاب الله وسنة رسول الله، تنطق بها أفواج المبعوثين كما انطلق بها علماء هذه المدينة في فجر الإسلام.
وهل آن للوافدين من الأقطار الإسلامية إلى هذه الجامعة أن يتزودوا من الثقافة الإسلامية زادا يملأ عقولهم وأرواحهم قبل أن يعودوا إلى أقوامهم ليأخذوا بأيديهم إلى طريق الحق، ولينتشلوهم من الحبائل التي نصبتها الصليبية أو الإلحادية؟.
وهل آن لهذه الجامعة الإسلامية الفتية أن تحمل عن كهولة الأزهر الأعباء التي حملتها كواهله عشرة قرون؟.
وهل آن لهذه الجامعة الإسلامية أن تعيد إلى الإسلام مكانة أول معهد في الإسلام؟.(9/449)
عرض ونقد لما كتبه الدكتور محمد علوي المالكي
حول الكوثري والدحلان
بقلم الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي
خريج كلية الشريعة بالجامعة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد؛ فقد وقعت في يدي رسالة صغيرة بعنوان "إتحاف ذوي الهمم العلية برفع أسانيد والدي السنية" (للأستاذ الدكتور محمد حسن بن السيد علوي المالكي الحسني) المدرس بالمسجد الحرام، وبكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة، وقد طبعت في عام 1387هـ 1967م بدمشق الشام، وهي عبارة عن تراجم الرجال الذين تتلمذ عليهم والده السيد علوي بن عباس رحمه الله تعالى، أو كانت له بهم صلة علمية، وقد بلغ عددهم أربعة وستين رجلا، ولم أعرف منهم إلا الاثنين وهما:
الشيخ محمد زاهد الكوثري.
الشيخ أحمد زيني دحلان.
وقد أثنى عليهما الدكتور محمد ثناء جميلا، ووصفهما بالأمانة في العلم والبصيرة، والنقد والتحرير والسعي المشكور في نشر العلم وغير ذلك من الأمور الطيبة، والواقع هو بالعكس كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فحررت هذه الملاحظات حول كتابته بيانا للحق، وأداء للأمانة العلمية، وتبرئة للذمة أمام الله جل وعلا مع احترامي للأخ الأستاذ محمد المالكي.(9/450)
قال الأستاذ الدكتور محمد في حق الأستاذ الكوثري: "العلامة السيد محمد بن زاهد بن العلامة حسن الحلمي بن علي الكوثري المتوفى بمصر سنة 1371هـ المولود سنة1296هـ. المحدث الشهير، الإمام، الناقد، البصير، حجة لا يبارى في علم الرجال، بارع في الحديث ورجاله، ماهر في علم الكلام، أديب في النقاش والجدال، مجاهد بقلمه ولسانه في بلاده تركيا وفي مصر. مؤلفاته التي سار بها الركبان، وتحدث عنها الأعيان دليل عظيم واضح على علو كتب هذا الإمام، ورسوخ قدميه، وطول باعه في العلوم مع تحقيق وتدقيق وتحبير وتحرير، وله المقالات الكبرى، والمؤلفات العديدة رحمه الله رحمة واسعة" [1] انتهى.
قلت: قال الله في كتابه الكريم في سورة البقرة مخاطبا اليهود عليهم لعائن الله تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [2] وقال أيضا جل وعلا في سورة آل عمران: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [3] والآيتان الأخريان أشار إليها الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله تعالى عنه في حديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده بإسناد حسن فقال: "إن الناس يقولون: أكثر أبوهريرة، والله لولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثا، ثم تلا هاتين الآيتين" [4] .
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} [5] (البقرة:159) .(9/451)
فأقول أنا أيضا: والله لولا هذه الآيات الكريمات والأخرى في معناها، وكذا الأحاديث النبوية في هذا المعنى لما تعرضت لما كتبه الدكتور محمد العلوي في رسالته آنفة الذكر. وهذه الآيات نص صريح في وجوب بيان العلم، وعدم كتمانه عن الناس، خصوصا في هذه الأمور التي يلتبس فيها الحق بالباطل. ولقد ترك الرجلان - أعني الكوثري والدحلان - من المؤلفات التي أشرتم إليها بقولكم "سار بها الركبان وتحدث عنها الأعيان"وفيها من الكفر والإلحاد والشر والطعن في أئمة السنة النبوية ما لا يعلم ضررها إلا الله جل وعلا على الأمة الإسلامية وعلى جميع الناس. أردت أن أقول كلمة الحق التي أعلمها في حق هذين الرجلين اللذين أطلقت عليهما من الأوصاف البراقة، وهما في بعد بمكان وأنت على كل حال مأجور إن شاء الله تعالى إن كنت لا تعلم عن حالهما وحقيقتهما، وأنا سوف أضع أمامك وأمام من لا يعلم حالهما هذه الحقائق العلمية الثابتة ناقلا عن كتبهما ومؤلفاتهما التي مجدتموها ثم الرد عليها بما يناسب. ثم أنت حري أخي الفاضل الكريم بما أنعم الله تعالى عليك من مكانة علمية في حرمة المقدس في الظاهر بالرجوع إلى الحق، أو تثبت لنا أنهما رجعا عن تلك العقيدة الفاسدة التي كانا عليها، ودعيا لها.
قال الشيخ محمد زاهد الكوثري في المقالات الكبرى التي أشرتم إليها في ترجمته قال: تحت عنوان "بدعة الصوتية حول القرآن"ثم قال: "والواقع أن القرآن في اللوح، وفي لسان جبريل عليه الصلاة والسلام، وفي لسان النبي صلى الله عليه وسلم وألسنة سائر التالين، وقلوبهم، وألواحهم، مخلوق حادث محدث ضرورة، ومن ينكر ذلك يكون مسفسطا ساقطا من مرتبة الخطاب" [6] ثم قال بعد كلام طويل: "وبهذا نتبين شهادة ابن تيمية في حق العلماء، وليس عنده سوى ألفاظ مرصوصة، لا إفادة تحتها في بحوثه الشاذة كلها. وغير المفيد لا يعد كلاما ولم يصح في نسبة الصوت إلى الله حديث" [7] .(9/452)
قلت: حاصل كلام الكوثري أن هذا القرآن الكريم الذي بين أيدي المسلمين مهما كانت صفته فهو مخلوق عنده، وأنه لا يثق ببحوث شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
فإذا كانت بحوث شيخ الإسلام عليه رحمة الله شاذة في نظره ولذا لا أحب أن أنقل له من كلامه شيئا من كتبه ومؤلفاته التي سوف يأتي الوصف الدقيق عنها فيما بعد إن شاء الله تعالى، وإنما سأنقل له شفاء لمرضه ومرض أتباعه عن مؤلفات الأئمة من السلف الذين مضت بينهم وبين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله تعالى جميعا مئات السنين.
فمثلا هذا الإمام العلامة أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي المتوفى 280هـ والذي لا تخفى منزلته العلمية على أحد ممن ينتسب إلى العلم قال عنه الذهبي في تذكرة الحفاظ: "الحافظ، الإمام الحجة محدث هراة أو تلك البلاد، أخذ الحديث عن المديني ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية، وأكثر الترحال في طلب الحديث" [8] يقول في كتابه البارع الفذ الرد على الجهمية باب الاحتجاج للقرآن أنه غير مخلوق ثم قال رحمه الله تعالى: "فمن ذلك ما أخبر الله تعالى في كتابه عن زعيم هؤلاء الأكبر وإمامهم الأكفر الذي ادعى أولا أنه مخلوق وهو الوحيد، واسمه الوليد بن المغيرة، فأخبر الله تعالى عن الكافر ودعواه، وردها ووعده بالنار أن ادعى أن قول الله قول البشر وقوله {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} (المدثر:25) وقول الجهمية هو مخلوق واحد لا فرق بينهما فبئس التابع وبئس المتبوع، وقال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} (المدثر:11) إلى قوله: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} (المدثر:22-26) "(9/453)
يعني أنه ليس بقول البشر كما ادعى الوليد، ولكنه قول الله تعالى، ثم ساق الأحاديث بأسانيدها، وهي نص صريح على أن القرآن هو كلام الله تعالى تكلم به جل وعلا حقا وحقيقة، ثم قال رحمه الله تعالى: "فهذا ينبئك أنه نفس كلام الله تعالى، وأنه غير مخلوق، لأن الله لم يخلق كلاما إلا على لسان مخلوق، فلو كان القرآن مخلوقا كما يزعم هؤلاء المعطلون لكان إذا من كلام المخلوقين" [9] .
وقال الحافظ الإمام أبو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري الرازي اللالكائي في كتابه البارع العظيم شرح السنن المتوفى في بدينور سنة 418هـ تحت عنوان سياق ما روي من المأثور عن السلف في جمل اعتقاد أهل السنة والتمسك بها والوصية لحفظها قرنا بعد قرن، ثم قال: "اعتقاد أبي عبد الله سفيان بن سعيد الثوري رضي الله تعالى عنه"، ثم قال رحمه الله تعالى: "أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن العباس [10] قال حدثنا أبو الفضل شعيب بن محمد بن الراجيان [11] . قال حدثنا علي بن حرب الموصلي [12] بسر من رأى سنة سبع وخمسين ومائتين، قال: سمعت شعيب بن حرب [13] يقول: "قلت لأبي عبد الله سفيان بن سعيد الثوري [14] حدثني بحديث من السنة ينفعني الله عز وجل، فإذا وقفت بين يدي الله تبارك وتعالى، وسألني عنه فقال لي من أين أخذت هذا؟ قلت: يا رب حدثني بهذا الحديث سفيان الثوري وأخذته عنه، فأنجو أنا وتؤخذ أنت. فقال لي: يا شعيب هذا توكيد وأي توكيد؟ اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، من قال غير هذا فهو كافر، والإيمان قول وعمل ونية، يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية"؛ ثم ذكر بقية العقيد بتمامها [15] . نقل الإمام العلامة الذهبي في تذكرة الحفاظ هذا الكلام بنصه في ترجمة سفيان بن سعيد الثوري ثم قال: "وهذا ثابت عن سفيان كما قال الحافظ اللالكائي في كتاب السنة" [16] . وقال الإمام العلامة بقية السلف الصالح، إمام المحدثين(9/454)
في عصره الحافظ الجليل أبوبكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي المتوفى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة في كتابه الأسماء والصفات،: "باب ما روي عن الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين رضي الله تعالى عنهم أن القرآن كلام لله غير مخلوق، ثم ساق إسناده إلى أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه الله قال: "إن أبابكر رضي الله تعالى عنه قادل قوما من أهل مكة على أن الروم تغلب فارس، فغلبت الروم فارس فقرأها عليهم، فقالوا: كلامك هذا! أم كلام صاحبك، فقال: ليس بكلامي ولا كلام صاحبي ولكنه كلام الله عز وجل"، ثم قال الإمام البيهقي: "تابعه محمد بن يحيى الذهلي عن شريح ابن النعمان، إلا أنه قال: فقال رؤساء مشركي مكة: يا ابن أبي قحافة: هذا مما أتى به صاحبك؟ قال لا: ولكنه كلام الله وقوله"، ثم قال: "وهذا إسناد صحيح". وهكذا نقل الإمام البيهقي هذا المعنى بأسانيده عن جملة كبيرة من الصحابة والتابعين رحمهم الله تعالى، ثم قال: "وعن عامر بن شهر قال: كنت عند النجاشي فقرأ ابن له آية من الإنجيل فضحكت، فقال النجاشي: أتضحك من كلام الله عز وجل؟ "وهكذا نقل بمثل هذه القصة عن خباب الأرث رضي الله تعالى عنه. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: "إن القرآن كلام الله تعالى، فمن كذب على القرآن فإنما كذب على الله عز وجل". وعن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: "قرآنا عربيا غير ذي عوج: قال: غير مخلوق" [17] وقد أطال الإمام البيهقي رحمه الله تعالى الكلام، وانتقل في هذا الباب عن أئمة السلف من الصحابة والتابعين، ومن تبعهم رحمهم الله تعالى جميعا. وقال الإمام العلامة أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة المصري الحنفي المتوفى سنة320هـ في عقيدته "إن القرآن كلام الله منه بدأ بلا كيفية قولا، وأنزله على رسوله وحيا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد(9/455)
كفر، وقد ذمه الله تعالى وعابه، وواعده بالسقر، حيث قال جل وعلا: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} (المدثر:26) فلما أوعد بسقر لمن قال {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} (المدثر:25) علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبهه قول البشر" [18] وعقد الإمام أبو داوود السجستاني في كتابه السنن بابا مهما عظيما فقال: "باب في القرآن"، ثم ساق بأسانيده ستة أحاديث وهي نص صريح على أن القرآن غير مخلوق ثم قال الإمام أبو داوود في نهاية هذه الأحاديث: "وهذا دليل على أن القرآن ليس بمخلوق" [19] .(9/456)
ولقد جاد وأفاد العلامة الشيخ شرف الحق شارح السنن في الكلام على هذه الأحاديث، وفند دعوى الجهمية وأبطلها. وهكذا صنع الإمام العلامة ناصر السنة، وقامع البدعة الشيخ أبو محمد حسين بن مسعود البغوي في كتابه العظيم النافع شرح السنة، فوضع بابا مهما بعنوان باب الرد على من قال بخلق القرآن، ثم ساق تحته الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والآثار الموقوفة والمقطوعة، ثم قال رحمه الله تعالى: "وقد مضى سلف هذه الأمة وعلماء السنة على أن القرآن كلام الله ووحيه ليس بخالق ولا مخلوق، والقول بخلق القرآن ضلالة، وبدعة لم يتكلم بها أحد في عهد الصحابة والتابعين رحمهم الله تعالى، وخالف الجماعة الجعد بن درهم فقتله خالد بن عبد الله القسري، قال سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: "سمعت مشائخنا منذ سبعين سنة يقولون: إن القرآن كلام الله ليس بمخلوق". وعن جعفر بن محمد الصادق أنه سئل عن القرآن فقال: "أقول فيه ما يقول أبي وجدي: ليس بخالق ولا مخلوق، ولكنه كلام الله". قال يحيى بن خلف المقرئ: "كنت جالسا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال: ما تقول فيمن يقول القرآن مخلوق فقال: عندي كافر فاقتلوه". وعن ابن المبارك وليث بن سعد وسفيان بن عيينة، وهشيم بن بشير، وعلي بن عاصم، وحفص بن غياث ووكيع بن الجراح مثله. قيل لعبد الرحمن بن مهدي: "إن الجهمية يقولون إن القرآن مخلوق فقال: إن الجهمية أرادوا أن ينفوا أن يكون الرحمن على العرش استوى، وأرادوا أن ينفوا أن يكون الله كلم موسى. وأرادوا أن ينفوا أن يكون القرآن كلام الله، أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم" [20] . وقال الإمام العلامة الشيخ أبوبكر محمد بن حسين الآجري التلميذ الرشيد للإمام أبي داوود السجستاني في كتابه العظيم "الشريعة": "القرآن كلام الله عز وجل، وأن كلامه جل وعلا ليس بمخلوق، ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر"، ثم قال رحمه الله تعالى: "اعلموا رحمنا الله تعالى(9/457)
وإياكم أن قول المسلمين الذين لم تزغ قلوبهم عن الحق، ووفقوا للرشاد قديما وحديثا، أن القرآن كلام الله عز وجل ليس بمخلوق، لأن القرآن من علم الله تعالى عز وجل، وعلمه لا يكون مخلوقا تعالى عز وجل عن ذلك، دل على ذلك الكتاب والسنة، وقول الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقول أئمة المسلمين رحمة الله عليهم، ولا ينكر هذا إلا جهمي خبيث، والجهمية عند العلماء كفرة".
ثم بدأ بإيراد الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة فأجاد وأفاد رحمه الله رحمة واسعة [21] . وقال الإمام أبو داوود السجستاني صاحب السنن في كتابه الفذ المبارك "مسائل الإمام أحمد"تحت باب في الجهمية: "أخبرنا أبوبكر قال أبو داوود: سمعت أحمد قال: "سمعت عبد الرحمن بن مهدي أيام صنع بشر المريس ما صنع يقول: من زعم أن الله لم يكلم موسى يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه" [22] . وقال الإمام الحافظ الكبير محمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب الصحيح في كتابه العظيم كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب… باب ذكر البيان من كتاب ربنا المنزل على نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على الفرق بين كلام الله عز وجل الذي به يكون خلقه، وبين خلقه الذي يكون بكلامه وقوله، والدليل على نبذ قول الجهمية الذين يزعمون أن كلام الله مخلوق، جل ربنا وعز عن ذلك؛ ثم ساق الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على ذلك، ثم قال رحمه الله تعالى: "فاسمع الآن الأخبار الثابتة الصحيحة بنقل العدل عن العدل موصولا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الدالة على أن كلمات ربنا ليست بمخلوقة على ما زعمت المعطلة الجهمية، عليهم لعائن الله". وبعد سياقه الروايات الكثيرة قال: "أفليس العلم محيطا - يا ذوي الحجا - أنه غير جائز أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتعوذ بخلق الله من شر خلقه، هل سمعت عالما يجيز أن يقول: أعوذ بالكعبة من شر خلق الله، أو يجيز أن يقول: أعوذ بالصفا والمروة، أو أعوذ(9/458)
بعرفات ومنى من شر ما خلق الله، هذا لا يقوله ولا يجيز القول به مسلم يعرف دين الله محال أن يستعيذ مسلم بخلق الله من شر خلقه"ثم قال: "ولذكر القرآن أنه غير مخلوق مسألة طويلة تأتي في موضعها من هذا الكتاب إن وفق الله ذلك لإملائها" [23] . قلت: وقد ألف الإمام أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد بن محمد بن حنبل كتابا عظيما جليلا وسماه السنة، وقد طبع لأول مرة على نفقة جلالة الإمام المغفور له - إن شاء الله - عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود المعظم، وهو جدير بهذا الشأن الخطير. فهذه بعض النقول عن أئمة السلف رحمهم الله تعالى نصت على أن القرآن كلام الله تعالى حقيقة وليس بمخلوق، ومن يذهب خلاف هذا المذهب فهو كافر عندهم كما جاء عن الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى، وعن غيره من أئمة الإسلام السابقين، ولا أزيد على هذه النقول إلا كلمة واحدة وهي: أشهد الله تعالى على أنها حق وصدق ودين أدين الله بها فأقول- وإن كنت لست ممن يعتمد على كلامه -: إن القائل بخلق القرآن كافر مرتد حلال الدم والمال، يفرق بينه وبين زوجته المسلمة.
وأما قول الشيخ الكوثري في شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وفي بحوثه كما مر بكم آنفا من كلامه فأقول: ليس هذا أول سهام مسمومة توجه إلى حامل لواء السنة النبوية، وقد سبق الكوثري في هذا الشيخ الهيتمي المكي في كتبه ورسائله التي وصفها العلامة الإمام أبي المعالي محمود شكري الألوسي في كتابه غاية الأماني في الرد على النبهاني بقوله: "وأما كتب ابن حجر "المكي"التي فرح بها الزائغ، فإنها لا تصلح عند من له بصيرة ونظر لغير العطار والإسكاف، فهي إما مزاود للعقاقير، وإما بطائن للخفاف، حيث إنها قشور لا لب فيها، وهكذا كتب السبكي وابنه" [24] . قلت: وهكذا بعض كتب أحمد زيني دحلان ومحمد زاهد الكوثري.(9/459)
وقال عن كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "إن كتب الشيخ بحمد الله محفوظة عند أهلها من أهل الحديث، وناصري السنة، وأتباع الإمام أحمد نضر الله وجهه في الهند وبلاد نجد ومصر والشام والعراق، وهذه هي الكتب التي لا نظير لها، وإنها مما يتنافس بها المتنافسون، فليت شعري أي كتاب فقد منها ولم يوجد منه نسخ كثيرة، وليت هذا الزائغ راجع دفاتر خزائن دار السلطنة المحروسة، ودفاتر خزائن كتب مصر الخديوية وغيرها، وخزائن كتب الشام والعراق والهند وغير ذلك [25] . قلت: إن كلام الشيخ الكوثري في حق شيخ الإسلام ابن تيمية وفي حق بحوثه لا وجه له، بل هو دليل على جهله ويعقبه للباطل، واتباعه لهواه، وإن قوله هذا لا يصدر عن طفل مبتدئ في العلم، ولكن الله تعالى فضحه بسبب تطاوله على خير عالم في الزمان الأخير، ولم يلتفت إلى ما هو فيه من المسلك والحال الذي ينبغي أن يرثى له، وقد سبقه رجل آخر وهو زنديق واسمه محمد بن محمد العلاء البخاري، فقد ألف كتابا خبيثا وسماه "من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام كان كافرا"فرد عليه الإمام الحافظ محمد بن أبي بكر ابن ناصر الدين الدمشقي الشافعي ردا جليلا علميا سماه "الرد الوافر"وقد حققه الأستاذ الشيخ محمد زهير الشاويش، صاحب المكتب الإسلامي ببيروت ودمشق، وطبعه في عام 1393هـ وهو كتاب فريد في بابه، سلك فيه مؤلفه العلامة ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله تعالى مسلكا فريدا دافع فيه عن شيخ الإسلام "ابن تيمية"بطريقة بلغت الغاية في بيان فضل شيخ الإسلام، إذ جمع أسماء جمهرة كبيرة من العلماء الذين عاصروا "ابن تيمية"أو جاءوا بعده ولقبوه بـ "شيخ الإسلام"وترجم لكل واحد منهم ترجمة وافية جمع فيها فضائله، ومؤلفاته، وشيئا من سيرته، بحيث أصبحت تراجم هؤلاء الأعلام في هذا الكتاب من أفضل ما ترجم لهم به، ولقد شاهدت عرضا لهذا الكتاب المبارك في بعض أعداد جريدة الدعوة الإسلامية التي تصدر بمدينة الرياض،(9/460)
ويقول العلامة ابن ناصر الدين في كتابه هذا تحت عنوان وسبب تأليف الكتاب: "وجمهور النقاد، وأئمة السنة أهل الإسناد، كلامهم منقسم في الجرح والتعديل إلى قوي ومتوسط، وكلام فيه تسهيل وفي عصرنا هذا الذي قل فيه من يدري هذا الفن، أو يرويه، أو يحقق تراجم من رأى من أهل مصره، فضلا عمن لم يره، أو مات قبل عصره، قد نطق فيه من لا خبرة له بتراجم الرجال، ولا عبرة له فيما تقلده من سوء المقال، ولا فكرة له فيما تطرق به إلى تكفير خلق من الأعلام بأن قال: من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام كان كافرا لا تصح الصلاة وراءه"وهذا القول الشنيع الذي نرجو من الله العظيم أن يعجل لقائله جزاءه، قد أبان قدر قائله في الفهم، وأفصح عن مبلغه من العلم، وكشف عن حمله من الهوى، ووصف كيف اتباعه لسبيل الهدى ولا يرد بأكثر من روايته عنه ونسبته إليه، فكلام الإنسان عنوان عقله، يدل عليه، أما علم هذا القائل أن لفظة "شيخ الإسلام"تحتمل وجوها من معاني الكلام" [26] وقال الإمام العلامة الذهبي في حق شيخ الإسلام ابن تيمية: "الشيخ الإمام العلامة الحافظ الناقد الفقيه المجتهد، المفسر البارع شيخ الإسلام، علم الزهاد، نادرة العصر، تقي الدين أبو العباس أحمد ابن مفتي شهاب الدين عبد الحليم ابن الإمام المجتهد شيخ الإسلام مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن القاسم الحراني، أحد الأعلام، ولد في ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة، ثم ذكر عمن أخذ ثم قال: "وعني بالحديث، ونسخ الأجزاء، ودار على الشيوخ وخرج، وانتقى وبرع في الرجال وعلل الحديث وفقهه، وفي علوم الإسلام وعلم الكلام وغير ذلك. وكان من بحور العلم من الأذكياء المعدودين والزهاد الأفراد، والشجعان الكبار، والكرماء الأجواد، أثنى عليه الموافق والمخالف، وسارت بتصانيفه الركبان، لعلها ثلاث مائة مجلد" [27] . قلت: اللهم إلا الكوثري والسبكي وابنه، والدحلان تكلموا فيه حسدا وعدوانا، وبغضا فأنت حسيبهم.(9/461)
وأما الحديث الذي زعم الكوثري عدم صحته، وهو حديث نسبة الصوت إلى الله تعالى، فإذا كان الرجل ينكر أن يكون هذا القرآن هو كلام الله تعالى ووحيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزعم أنه مخلوق، فكيف بهذا الحديث المبارك الذي صح عند جماهير أهل الحديث؛ منهم الحافظ الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله تعالى وإن كان ليس على شرطه في الجامع الصحيح، فقد أورده رحمه الله في جامعه معلقا في موضعين في كتاب العلم، وفي كتاب التوحيد، وأخرجه بإسناده في كتاب الأدب المفرد، وأخرجه أيضا الإمامان الجليلان أحمد بن حنبل، وأبو يعلى الموصلي في مسنديهما، وأخرجه أيضا الحافظ تمام الرازي في فوائده، وأخرجه أيضا الإمام ابن أبي عاصم النبيل "أحمد بن عمرو"في كتاب العلم، والحافظ الإمام الحارث بن أبي أسامة في مسنده، وأخرجه أيضا الإمام نصر المقدس في كتابه الحجة، والخطيب البغدادي في رسالته الرحلة في طلب الحديث؛ كلهم من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل بن جابر رضي الله تعالى عنه، وهذا نصه: عن جابر عن عبد الله بن أنس رضي الله تعالى عنهما قال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يحشر العباد يوم القيامة عراة، غرلا، بُهْمًا" قال قلنا: وما بهما؟ قال: "ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من قرب ومن بعد، أنا الملك، أنا الديان." ثم ذكر الحديث بطوله، وتكلم عليه الحافظ في الفتح في الموضعين [28] ، وعبد الله بن محمد بن عقيل وإن كان اختلف في الاحتجاج بأحاديثه كما حكى ذلك الحافظ في الفتح، إلا أنه توبع بمتابعة تامة، تابعه محمد بن المنكدر، عن جابر وهو في مسند الشاميين للإمام أبي القاسم الطبراني [29] .(9/462)
وله طريق ثالث أخرجها الخطيب البغدادي في طلب الحديث من طريق أبي الجارود العبسي، وصحح الحافظ ابن حجر هذا الحديث بقوله في الفتح بعد أن قال: "وأصل الاحتجاج للنفي الرجوع إلى القياس على أصوات المخلوقين، لأنها التي عهد أنها ذات مخارج، ولا يخفى ما فيه، إذ الصوت قد يكون من غير مخارج كما أن الرؤية قد تكون من غير اتصال أشعة كما سبق، ولكن تمنع القياس المذكور، صفات الخالق لا تقاس على صفة المخلوقين، وإذا ثبت الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة وجب الإيمان به". قلت: ومن هنا كانت دعوى الشيخ الكوثري كاذبة المائة في المائة، أو مجازفة قبيحة، وقد جمع العلامة أبو الحسن بن الفضل جزءا مهما في أحاديث الصوت، أشار إليها الحافظ في الفتح، فلو وجدت لكانت قاصمة الظهر للمنكر؛ وأما قول الحافظ: "إذ الصوت قد يكون من غير مخارج"فنعم فهو صحيح. قال الله تعالى في محكم كتابه في حق السماء والأرض: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [30] فهذا خطابه جل وعلا للسماء والأرض، وأمره لهما وهما مخلوقان جامدان لا مخارج لها في الحس، مع أنهما أجابا ربهما بقولهما {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} فإذا كان المخلوق الجامد يسمع منه الصوت بدون مخارج معهودة، فكيف الخالق جل جلاله، وبهذا المعنى ثبت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه سمع صوت الجذع، أي جذع النخلة عندما فارقها إلى المنبر الخشبي الذي صنع له صلى الله عليه وسلم. قال الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب إلى جذع قبل أن يتخذ المنبر، فلما اتخذ المنبر، وتحول إليه حن عليه، فأتاه فاحتضنه فسكن. قال: "ولو لم أحتضنه لحن إلي يوم القيامة." والحديث أخرجه البخاري والترمذي، والنسائي، وابن ماجة بألفاظ متغايرة [31] . وقال الحافظ في الفتح: "وقد نقل ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي،(9/463)
عن أبيه، عن عمرو ابن سواد، عن الشافعي قال: ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا، فقلت: أعطى عيسى إحياء الموتى، قال: أعطى محمدا حنين الجذع حتى سمع صوته، فهذا أكبر من ذلك" [32] . قلت: وبهذا عرف أن المخلوق الجامد قد يصدر منه الصوت بدون مخارج معهودة، فكيف الإنكار في حق الخالق! وللشيخ محمد العربي التباني المالكي رسالة قيمة سماها تبنية الباحث السري عما في مقالات الكوثري، فعليك أن تطالع هذه الرسالة حتى تقف على حقيقة ناصعة من أمر هذا الرجل الذي وصفته بالبراعة في فن الحديث ورجاله.(9/464)
وأما ما قام به الشيخ الكوثري كتابه في "التأنيب" من مغالطات فاحشة قبيحة، وخيانة علمية كبرى لم يسبق لها مثيل في تاريخ العلم، فانظر بدقة فائقة، ونظرة فاحصة فيما رد عليه العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه الفذ البارع "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل"وأنا سوف أنقل لك من الكتاب المذكور مثالا واحدا حتى تكون على بصيرة تامة مما أطلقت في حقه من عبارات طويلة عريضة من إمامة في العلم، وبصارة في النقد والتحرير، وبراعة في الحديث ورجاله وهو لا يستحق شيئا من ذلك إلا إذا قلنا: "إنه كان مع سعة اطلاعه وعلمه كذوبا خائنا متعصبا لما يذهب إليه من إنكار صفات الباري جل وعلا، وطاعنا في أئمة السنة وحماتها وحفاظها - كما سوف يأت - فقد أضله الله على علم"فهذا لا بأس به. وقد كشفه العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في "التنكيل"إذ قال رحمه الله تعالى في مقدمة التنكيل: "فرأيت الأستاذ قد تعدى ما لا يوافقه أهل العلم من توقير أبي حنيفة، وحسن الذب عنه إلى ما لا يرضاه عالم متثبت من المغالطات المضادة للأمانة العلمية، ومن التخليط في القواعد، والطعن في أئمة السنة ونقلتها، حتى تناول بعض أفاضل الصحابة والتابعين، والأئمة الثلاثة ,مالكا والشافعي وأحمد وأضرابهم، وكبار أئمة الحديث وثقات نقلته، ورد الأحاديث الصحيحة الثابتة، والعيب للعقيدة السلفية، فأساء في ذلك جدا حتى إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى" [33] . ثم قال العلامة المعلمي: "وطعن الكوثري في الأئمة الرواة وهم نحو ثلاثمائة، وفيهم أنس بن مالك رضي الله عنه، فمن أوابده تبديل الرواة، يتكلم في الأسانيد التي يسوقها الخطيب طاعنا في رجالها واحدا واحدا، فيمر به الرجل الثقة الذي لا يجد فيه طعنا مقبولا، فيفتش الأستاذ عن رجل آخر يوافق ذلك الثقة في الاسم واسم الأب ويكون مقدوحا فيه، فإذا ظفر به زعم أنه هو الذي في السند". ثم أورد العلامة المعلمي على ذلك(9/465)
أمثلة كثيرة جدا، وبذلك ظهرت براعة الكوثري في الحديث ورجاله بالمعنى الذي ذكره العلامة المعلمي، وإليك المثال المذكور آنفا. قال في طليعة التنكيل (1-2) : "صالح بن أحمد ومحمد بن أيوب. قال الخطيب في تاريخ بغداد: "أخبرنا محمد بن عيسى بن عبد العزيز البزاز بهمذان، حدثنا صالح بن أحمد التميمي الحافظ، حدثنا القاسم بن أبي صالح، حدثنا محمد بن أيوب، أخبرنا إبراهيم بن بشار، قال: سمعت سفيان بن عيينة …"قال العلامة المعلمي: "تكلم الأستاذ في هذه الرواية في ص97 من التأنيب فقال: "في سنده صالح بن أحمد التميمي، وهو ابن أبي مقاتل القيراطي هروي الأصل، ذكر الخطيب عن ابن حبان أنه كان يسرق الحديث… والقاسم بن أبي صالح الحذاء ذهبت كتبه بعد الفتنة، فكان يقرأ عن كتب الناس، وكف بصره كما قاله العراقي، ونقله ابن حجر في لسان الميزان، ومحمد بن أيوب ابن هشام الرازي كذبه أبو حاتم، ولا أدري كيف يسوق الخطيب مثل ذلك الخبر بمثل السند المذكور، لعل الله سبحانه وتعالى طمس بصيرته ليفضحه فيما يدعي أنه المحفوظ عند النقلة بخذلانه المكشوف في كل خطوة" [34] قلت: فقد ظهر أدبه في النقاش والجدال، وننظر الآن من الذي خذله الله تعالى وهتك ستره، وفضحه، وطمس بصيرته ووسمه بعار الخيانة العظمى؟ قال العلامة عبد الرحمن المعلمي ذاكرا عدة أمور إسنادية لا تخفى على أحد من طلبة العلم، وهي قوية اعتمد عليها، واطلع بها على خيانة كبيرة ارتكبها الأستاذ الكوثري في ترجمة صالح بن أحمد المذكور الذي بدله الكوثري برجل آخر وهو: صالح بن أحمد التميمي الحافظ الهمذاني الثقة الثبت"، ثم قال أخيرا رحمه الله تعالى: "المقصود هنا إثبات أن الكوثري قد عرف يقينا أن صالح بن أحمد الواقع في السند ليس هو بالقيراطي، بل هو ذاك الحافظ الفهم الثقة الثبت، ولكن الكوثري كان مضطرا إلى الطعن في تلك الرواية ولم يجد في ذاك الحافظ مغمزا، ووقعت بيده ترجمة القيراطي المطعون فيه، وعرف أن(9/466)
هذا الفن أصبح في غاية الغربة، فغلب على ظنه أنه إذا زعم أن الواقع في السند هو القيراطي لا يرد عليه أحد، والله تعالى له معه حساب آخر والله المستعان". قلت: وهكذا صنع الأستاذ الكوثري في محمد بن أيوب بن يحيى بن الضريس الإمام. ولا أريد أن أطول عليك في مثل هذا المقام، فقد تعدى الكوثري عن الوصف الدقيق فيه تعصبه وبغضه لأهل السنة، فإن كنت ذا فهم وبصر في فن الرجال، فعليك أن تدرس كتاب التنكيل كله من أوله إلى آخره حتى تطلع على الخبايا من الزوايا، والله ما أريد التشنيع بهذه الكتابة، وإنما القصد إن شاء الله تعالى بيان الحق من أمر الأستاذ الكوثري، وما آل إليه أمره، ومساعيه في رد السنة النبوية الصحيحة، وطعنه في أئمتها الأخيار الأبرار الذين حفظ الله بهم هذا الكيان المبارك.
وإليك أيها الأخ الفاضل هذا الكلام نقلا عن العلامة الشيخ المعلمي فيما يتعلق بجرأة الكوثري في غير الحق، قال رحمه الله تعالى في التنكيل: "ومن ذلك أن الخطيب ساق عدة روايات عن الثوري، والأوزاعي"قال:… فقال الأستاذ الكوثري في التأنيب ص72: "لو كان هذا الخبر ثبت عن الثوري والأوزاعي، لسقطا بتلك الكلمة وحدها في هوة الهوى والمجازفة، كما سقط مذهباهما لبعدهما سقوطا لا نهوض لها أمام الفقه الناضج، وقد ورد لا شئوم في الإسلام، وعلى مزمن أن الشئوم يوجد في غير الثلاث الوارد في السنة، وأن صاحبنا مشئوم فمن أين لها معرفة أنه في أعلى درجات المشئومين"؟.(9/467)
أجاب العلامة المعلمي بكلام طويل أنقل منه ما يأتي: "شاهد الثوري والأوزاعي طرفا من ذلك، ودلتهما الحال على ما سيصير إليه الأمر، فكان كما ظنا، هل كانت المحنة في زمان المأمون، والمعتصم، والواثق إلا على يدي أصحابكم؟ ينسبون أقوالهم إلى صاحبكم؟ وفي كتاب قضاة مصر طرف من ذلك. وهل جر إلى استفحال تلك المقالات إلا تلك المحنة؟ وأي ضرر نزل بالأمة أشد من هذه المقالات؟ وأما سقوط مذهبيهما فخيرة اختارها الله تعالى لهما، فإن المجتهد قد يخطئ خطأ لا يخلو من تقصير، وقد يقصر في زجر أتباعه عن تقليده هذا التقليد الذي نرى عليه كثيرا من الناس منذ زمن طويل الذي يتعسر، أو يتعذر الفرق بينه وبين اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله، فقد يلحق المجتهد كفل تلك التبعات، فسلم الله تعالى الثوري والأوزاعي من ذلك، فأما ما يرجى من الأجر على الأتباع في الحق، فلهما من ذلك النصيب الأوفر مما نشراه من السنة علما وعملا، وهذه الأحاديث الواردة في الأمهات الست المتداولة بين الناس حافلة بالأحاديث المروية عن طريقهما، وليس فيها لصاحبكم ومشاهير أصحابه حديث واحد. وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في تاريخه الكبير في ترجمة الثوري: "قال لنا عبدان عن ابن المبارك، كنت إذا شئت رأيت سفيان مصليا، وإذا شئت رأيته محدثا في غامض الفقه" [35] . قلت: والأوزاعي لا تقل درجته العلمية عن أمير المؤمنين في الحديث سفيان الثوري، فهو إمام أهل الشام وشيخ الإسلام. قال الإمام الذهبي: "ربي يتيما فقيرا في حجر أمه تعجز الملوك أن تؤدب أولادها أدبه في نفسه، ما سمعت منه كلمة فاضلة إلا احتاج مستمعها إلى إثباته عنه. قال الوليد بن مزيد: "ولا رأيته ضاحكا يقهقه، ولقد كان إذا أخذ في ذكر المعاد أقول ما ترى في المجلس قلب إلا وهو يبكي". قال إسماعيل بن عياش: "سمعتهم يقولون سنة أربعين ومائة: الأوزاعي اليوم عالم الأمة". وقال الخريبي: "كان الأوزاعي(9/468)
أفضل أهل زمانه، وكان يصلح للخلافة". فقال أبو إسحاق الفزاري: "لو خيرت هذه الأمة لاخترت لها الأوزاعي". قال بشر بن المنذر: "رأيت الأوزاعي كأنه عمي من الخشوع". وكان الوليد يقول: "ما رأيت أكثر اجتهادا في العبادة منه". وقال أبو مهر: "كان الأوزاعي يحيي الليل صلاة وقرآنا وبكاء". وقال محمد بن كثير المصيصي: "سمعت الأوزاعي يقول: كنا والتابعون متوافرون- نقول: إن الله تعالى فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته". قال الحاكم: "الأوزاعي إمام عصره عموما، وإمام أهل الشام خصوصا". قال الوليد: "سمعت الأوزاعي يقول: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك ورأس الرجال وإن زخرفوه بالقول، فإن الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم". قال عامر بن يساف: "سمعت الأوزاعي يقول: إذا بلغك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث فإياك أن تقول بغيره، فإنه كان مبلغا عن الله". قال أبو إسحاق الفزاري عن الأوزاعي كان يقول: "خمسة كان عليها الصحابة والتابعون: لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المساجد، والتلاوة، والجهاد" [36] .(9/469)
قلت: ومن هنا كان تطاول الكوثري على الأوزاعي لدفاعه عن السنة النبوية والاستماتة في سبيلها. نقل الحافظ في التهذيب عن بقية بن الوليد قال: "إنا لنمتحن الناس بالأوزاعي، فمن ذكره بخير عرفنا أنه صاحب سنة" [37] . وقد أطلت عليك أيها الأخ الفاضل فيما يتعلق بالشيخ الكوثري، وبقي معك حديث طويل فيما يتعلق بالأستاذ أحمد زيني دحلان الذي أفردت له ذكرا في رسالتك فقلت في حقه: "الفصل الثالث- المبحث الأول", ثم قلت: "وذكر السيد أحمد دحلان، وعمن أخذ، واتصال الوالد به، وقد أفردته بالذكر دون غيره، لأنه مدار الرواية في الحجاز وغيره لهذا العصر، مع ترجمة موجزة جدا له: "فهو شيخ الإسلام، ومفتي الأنام، وأحد مجددي هذا الدين الحنيف، وأساطينه، وباعث النهضة العلمية المتينة في الحجاز، العابد الزاهد الناسك، الإمام، الحجة، المشارك، السيد أحمد بن زيني دحلان المولود بمكة سنة 1231هـ، المتوفى بالمدينة سنة 1304هـ. تولى الافتاء بمكة واشتغل بالعلوم والتدريس، وقامت بجهوده في عصره نهضات علمية، فأنشئت أول مطبعة بمكة في أيامه واكن متوليا نظارتها، وقد تخرج على يده علماء أماثل، فهو أستاذ أمة، ومربي جيل، وله في كل العلوم باع طويل، وقدم راسخة، ومؤلف أو رسالة، ومن أهم مؤلفاته الفتوحات، وخلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام" [38] .(9/470)
قلت: هكذا وصفت الرجل يا أخي فمجدته، ورفعت شأنه، ولعلك قد اطلعت على جميع مؤلفاته، أو على الأقل على أكثرها، ومنها: خلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام، وهي من أهمها في نظركم كما أشرتم إليها، وتوجد منه نسخة في مكتبة الحرم المكي العامرة، يقول فيها الشيخ أحمد زيني دحلان بعد كلام طويل لا فائدة في نقله: "ثم أمر محمد بن سعود علماء مكة أن يدرسوا عقيدته التي ألفها محمد بن عبد الوهاب، وسماها كشف الشبهات، ووقع فيها شيء من الكفريات، فقرءوها ورأوا ما فيها من التلبيس الذي هو من وساوس إبليس، ولم يقدروا على الإنكار" [39] .(9/471)
قلت: أهكذا الرجل الذي وصفته بشيخ الإسلام، ومفتي الأنام، وأحد مجددي هذا الدين الحنيف، وأساطينه في نظرك في غير ذلك من الألقاب الفارغة يعبر عما في كتاب كشف الشبهات مع وجازته، واختصاره من علم نافع عظيم جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، إن هذه العبارة القبيحة الصادرة من أحمد زيني دحلان في حق شيخ الإسلام، وناصر السنة الشيخ محمد عبد الوهاب رحمه الله تعالى لدليل واضح على خباثة نفسية الرجل، وما تحمل من حقد وبغض وحسد نحو دعاة الحق والهدى، والله إنها رزية كل الرزية أن تطلع على كلامه هذا الخبيث القبيح ثم تصفه بما وصفته من ألقاب كاذبة فارغة لا تفيده بشيء إلا الاشتهار بدعوته النكرة الخبيثة إلى الإلحاد والكفر والزندقة والعياذ بالله، أهكذا الإسلام الصحيح الذي جاء به المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ أهذه دعوته صلى الله عليه وسلم من دعاء الأموات والاستغاثة بهم، والتي دعا إليها أحمد زيني دحلان! ستقف بين يدي الجبار غدا، فاتق الله في نفسك إن كنت يا أخي فيما زين لك من أمور هذه الدنيا الفانية، والرجوع إلى الحق أفضل من التمادي في الباطل، وقد تكون المناقشة هنا معك حادة بالنسبة لما مضى من الكلام، لأنك فيما يبدو لي أنك اطلعت على كتب الدحلان كلها أو جلها، وقد تكون أكثرها عندكم في البيت حتى أحطت بها علما، ثم حكمت على الدحلان عليه من الله ما يستحق بما حكمت بتلك الأوصاف الضخمة، أو قلدت أحدا ولا يخلو شأنك من أحد الأمرين، ولا أظن بك الأول، وإن كان الثاني فالمشكلة لا تزال قائمة، فهذا التقليد قد أعمى البصيرة وسد الطريق، وأغلق الباب، أي باب العلم، وما كان المسلمون الأوائل يطلقون العبارات الفارغة البراقة دون أن يكون هناك حقائق علمية ثابتة في الرجل، فيعتبر عملك هذا عملا شاذا مرتجلا مبنيا على الأوهام الخطيرة التي أحاطت بك من كل جانب، أطلعني في كتاب كشف الشبهات لشيخ الإسلام، ومجدد الملة المحمدية، وناصر السنة وقامع(9/472)
البدعة، الإمام العلامة محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى تلك الكفريات التي زعمها - ولعلك اطلعت على كلامه - أحمد زيني دحلان. وإليك فهرست كتاب كشف الشبهات:
1- بيان إفراد الله بالعبادة. 2- الفرح بفضل الله. 3- بيان أن الطريق إلى الله لابد من أعداء. 4- الجواب المجمل. 5- الجواب المفصل. 6- الشبه الثلاث هي أكبر ما عند المشركين. 7- النبي صلى الله عليه وسلم لا يشفع إلا بإذن الله. 8- بيان عبادة الأصنام. 9- حكم من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وجحد ركنا من أركان الإسلام. 10- شبهة أخرى للمشركين. 11- حكم الاستغاثة. 12- المسألة المهمة. انتهى الفهرست.(9/473)
قال الله تعالى في سورة النساء: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [40] فارجع إلى تفسير هذه الآية الكريمة، وإلى سبب نزولها فسوف تجد إن شاء الله تعالى أن صاحبك أحمد زيني دحلان داخل في هذه الآية الكريمة، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مذهب أهل الأصول، فعليك أيها الأخ الفاضل أن تدرس دراسة وافية حرة نزيهة لهذه الرسالة القيمة التي ألفها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ثم الخروج منها بفوائد علمية إذا كنت ذا بصر وفهم، وطابق بما فيها من المعاني بالقرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة، وستجد إن شاء الله تعالى أمام كل مسألة دليلها من الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، ثم انظر مرة أخرى ما تفوه به الشيخ أحمد زيني دحلان في رسائله، وكتبه ضد الدعوة المحمدية وهي دعوة التوحيد الخالص التي دعا إليها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، والأحرى أن تحلل عبارات الرسالة "كشف الشبهات"تحليلا علميا، فقد حملت بحمد الله أعظم شهادة من جامعة الأزهر وهي العالمية - الدكتوراه - وسوف تجد إن شاء الله تعالى إن جردت نفسك بتوفيق المولى جل وعلا عن التعصب والتقليد، أن مضمون الرسالة المذكورة الأخذ عن معان الكتاب والسنة، وإجماع الأمة جميعا إلا الشاذ منهم، ولم يخرج شيخ الإسلام عن هذه الثلاث، وهذا كتاب التوحيد إذا نظرت فيه بنظرة علمية دقيقة، ستجد إن شاء الله تعالى أن الرجل العظيم عليه رحمة الله تعالى لسار فيه وسائر تواليفه المباركة سيرا مباركا كسائر المحدثين القدماء في الإسلام، يعقد بابا ثم يأتي بالآية القرآنية، ثم بالأحاديث النبوية تقوية للباب الذي عقده، وهكذا صنع رحمه الله تعالى رحمة واسعة، ونور مرقده، وجعل الجنة مثواه في جميع تواليفه المباركة كما ذكرت آنفا.(9/474)
وإني لعلى علم أنك قد اطلعت على كتاب "صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ الدحلان"لمؤلفه المحدث الشيخ العلامة بشير السهواني الهندي رحمه الله تعالى. يقول الأستاذ الكبير صاحب المنار، الشيخ رشيد رضا معرفا هذا التأليف المبارك في مقدمته التي وضعها على كتاب "صيانة الإنسان"قال: "وكان أشهر هؤلاء الطاعنين - يعني في دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - مفتي مكة المكرمة، الشيخ أحمد زيني دحلان المتوفى سنة 1304هـ، ألف رسالة في ذلك تدور جميع مسائلها على قطبين اثنين، قطب الكذب والافتراء على الشيخ، وقطب الجهل بتخطئته فيما هو مصيب فيه" [41] ثم ذكر أشياء وبعده قال: "ومما أجملناه أن قواعد الجهل التي بنى عليها الشيخ أحمد دحلان رده على الوهابية إباحة دعاء لغير الله تعالى من الأنبياء، والصالحين الميتين، والاستغاثة بهم، وشد الرحال إلى قبورهم لدعائهم عندها، وطلب قضاء الحوائج منهم ثلاث قواعد:
1- الروايات الباطلة وما في معناها من الحكايات والمنامات والأشعار، وهي لا قيمة لها عند أحد من علماء الملة، وإنما تروج بضاعتها في سوق العوام.
2- الاستدلال بالنصوص على ما لا تدل عليه شرعا؛ كاستدلاله بالسلام على أهل القبور، وبخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بقتلى المشركين ببدر، واحتال ذلك قياسا على حياة الموتى، وجواز دعائهم، ومطالبتهم بقضاء الحوائج، ودفع المصائب، ووجه الجهل في هذا أنه يقيس حياة البرزخ على حياة الدنيا، وعالم الغيب على عالم الشهادة، وهو قياس باطل عند علماء أصول الشرع، وعند جميع العقلاء، ويترتب عليه عقائد وأحكام تعبدية لا تثبت إلا بنص الشارع الحكيم عليه الصلاة والسلام، مع كون الذي يثبتها مقلدا للغير ليس من أهل الاجتهاد، وباعترافه واعتراف متبعيه في جهله هذا.(9/475)
3- قلب الحقائق، وتعكيس القضية فيما ورد من الترغيب في اتباع جماعة المسلمين، والترهيب عن مفارقة الجماعة بزعمه، ومقتضى جهله هم الأكثرون في العدد في كل عصر". وهذه الدعوى مخالفة لنصوص القرآن، والأحاديث الصحيحة، وآثار السلف، والواقع ونفس الأمر في كثير من البلاد والأزمنة، وقد فند المؤلف – أي مؤلف صيانة الإنسان - هذه الدعوى بما أوتي من سعة الاطلاع على كتب الحديث والآثار، فبين ما ورد من الآيات والروايات فيها، وما قاله الأئمة العلماء في تفسيرها وما في معناها من فشو البدع، ثم يقول العلامة الشيخ رشيد رضا: "وجملة ما يقال عن هذا الكتاب أنه ليس ردا على الشيخ دحلان وحده، ولا على من احتج بما نقله عنهم من الفقهاء مما لا حجة فيه، كالشيخ تقي الدين السبكي، والشيخ ابن حجر الهيتمي المكي، بل هو رد على جميع القبوريين، والمبتدعة، حتى الذين جاءوا بعده إلى زماننا هذا" [42] . قلت: هكذا وصف العلامة الشيخ رشيد رضا هذا الرد المحكم، فوجب عليك أن تطالعه، وكتاب غاية الأماني في الرد على النبهاني، للعلامة الإمام أبي المعالي محمود شكري الألوسي، وأن تجرد نفسك عن التعصب لأحد كائنا من كان إلا للحق وحده، والله جل وعلا سوف يفتح عليك، ويشرح صدرك للحق، ولا أريد أن أنقل لك الأمثلة الكثيرة التي استدل بها الشيخ دحلان على دعواه الباطلة من مخالفته طريق الحق والصواب في كتابه"الدرر السنية في الرد على الوهابية"وقد رد عليه العلامة بشير في كتابه هذا المبارك "صيانة الإنسان"وعلى كل دليل باطل استدل به على زعمه الباطل، فأورد لك مثالا واحدا، فانظر ثم انظر كيف استدل به على دعواه الباطلة من جواز نداء الأموات.(9/476)
قال العلامة بشير في صيانة الإنسان: "قوله "أي قول الدحلان"وروى البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه، أن فاطمة رضي الله تعالى عنها قالت لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبتاه" إلى قوله: ففي هذا الحديث أيضا نداؤه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته…".
أجابه العلامة بشير رحمه الله تعالى بقوله: "هذا ليس من النداء في شيء، بل هو ندبة، يرشدك إلى هذا كون هذا الكلام صادرا وقت الوفاة، ووقوع لفظ النعي فيه، وزيادة الألف في آخره لمد الصوت المطلوب في الندبة، فالقول بكونه نداء أدل دليل على جهل قائله" [43] . قلت: هذا الحديث أخرجه البخاري، والإمام أحمد في المسند، والنسائي وابن ماجة، والدارمي في سننهم [44] , وتكلم عليه الحافظ في الفتح بقوله: " (يا أبتاه) كأنها قالت: يا أبي، والمثناة بدل من التحتانية، والألف للندبة، ولمد الصوت، والهاء للسكت" [45] . قلت: هكذا مبلغ علم دحلان في السنة النبوية وعلمه في اللغة العربية ومع ذلك فهو شيخ الإسلام وحجة الأنام، ومفتي الأنام. فلا حول ولا قوة إلا بالله العظيم، ولقد صدق المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح الذي أخرجه البخاري من الجامع الصحيح وكذا مسلم، والإمام أحمد في مسنده، والترمذي في الجامع وكذا ابن ماجة، والدارمي في سننه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينزعه عن الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا". هكذا كانت الأحوال في مكة المكرمة وغيرها من المدن الإسلامية بسيطرة هؤلاء الجهلة على مناصب هامة من الدولة، وعن طريقهم فشت البدعة، وظهرت الفتن والشرك، وخفي على الناس أمر دينهم الصحيح الذي أنزل الله تعالى به الكتب، وأرسل الرسل.(9/477)
استدل هذا شيخ الإسلام، ومفتي الأنام المزعوم على جواز نداء الميت بعد الموت بحديث ضعيف أخرجه الإمام أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير، عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه بسياقة طويلة، وفيه التلقين للميت بعد الموت. قال الشيخ دحلان: "وفي التلقين الخطاب والنداء، وقد ذكره كثير من الفقهاء، واستندوا في ذلك على هذا الحديث، فكيف يمنعون النداء مطلقا؟ ".
أجابه العلامة بشير بجواب مفصل ومقنع، واستند رحمه الله تعالى على عدم صحة هذا الخبر، ونقل عن أئمة الجرح والتعديل ما يكفي ويشفي في هذا الباب، ثم نقل عن الإمام ابن القيم من كتابه "الروح"أنه قال: "وحاصل كلام الأئمة أنه حديث ضعيف، والعمل به بدعة، ولا يغتر بكثرة من يفعله, وفي نزل الأبرار: "وقد أنكر هذا التلقين جماعة من أهل العلم وبدعوه"؛ انظر ذلك في الهدي النبوي وغيره، كثمار التنكيت للمؤلف [46] . قلت: والحديث أورده صاحب مجمع الزوائد وقال في نهاية الحديث: "رواه الطبراني في الكبير، وفيه من لم أعرفه جماعة" [47] . قلت: لأن في سنده عاصم بن عبد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب العدوي أيضا. قال الذهبي: "ضعفه مالك". وقال يحيى: "ضعيف لا يحتج به". وقال ابن حبان: "كثير الوهم، فاحش الخطأ فترك". وقال أحمد: "قال ابن عيينة: كان الأشياخ يتقون حديثه". وقال النسائي: "ضعيف". وقال أبو زرعة وأبو حاتم: "منكر الحديث". وقال الدارقطني: "يترك، وهو مغفل" [48] . وفي الختام أدعو الله جل وعلا، وأتضرع إليه سبحانه وتعالى أن يهدينا جميعا صراطه المستقيم، ويرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، ويجعلنا من دعاة الحق وأنصاره، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (الحشر: من الآية10) وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد(9/478)
وعلى آله وصحبه أجمعين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] اتحاف ذوي الهمم العلية ص41.
[2] البقرة آية 42.
[3] آل عمران 187.
[4] مسند الإمام أحمد2/240.
[5] البقرة 159.
[6] المقالات الكبرى للكوثري ص27.
[7] المصدر السابق ص28.
[8] تذكرة الحفاظ2/621.
[9] الرد على الجهمية ص 85-89 للإمام الدارمي.
[10] هو ثقة، إمام مترجم في تاريخ بغداد 2/322-323.
[11] وهو ثقة توفي سنة 326هـ تاريخ بغداد 9/296.
[12] صدوق فاضل من صغار العاشرة مات 265هـ وهو من شيوخ الإمام النسائي، التقريب 2/33.
[13] هو المدائني، أبو صالح، نزيل مكة، ثقة، عابد، من التاسعة وهو من شيوخ البخاري. التقريب 1/352.
[14] هو حافظ الدنيا، وأمير المؤمنين في الحديث، ثقة، حافظ، فقيه، عابد، إمام حجة، من رؤوس الطبقة السابعة المتوفى سنة161هـ.
[15] شرح السنن للحافظ اللالكائي الطبري ص39-40 من نسخة جامعة الملك عبد العزيز.
[16] تذكرة الحفاظ 1/106.
[17] الأسماء والصفات ص239-258.
[18] شرح العقيدة الطحاوية ص194-197.
[19] سنن أبي داود مع حاشية عون المعبود 4/376-377.
[20] شرح السنة للبغوي 1/181-188.
[21] الشريعة للإمام الآجري ص75-87.
[22] مسائل الإمام أحمد ص262-272.
[23] كتاب التوحيد لابن خزيمة ص161-167.
[24] غاية الأماني2/271.
[25] غاية الأماني 2/275.
[26] الرد الوافر ص21.
[27] تذكرة الحفاظ للذهبي 4/1496.
[28] الفتح، كتاب العلم 1/174، وكتاب التوحيد 13/457.
[29] مسند الشاميين للطبراني 2/127من نسختى خ.
[30] سورة فصلت 11.(9/479)
[31] أحمد في المسند1/149، 1/267، 1/315، 1/363، البخاري المناقب25، الترمذي الجمعة10، النسائي الجمعة 17, الدارمي المقدمة 6.
[32] فتح الباري6/603.
[33] التنكيل1/2-19.
[34] التنكيل1/20.
[35] التنكيل 1/259.
[36] تذكرة الحفاظ1/178-183.
[37] تهذيب التهذيب6/241.
[38] إتحاف ذوي الهمم العلية ص76.
[39] خلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام لأحمد زيني دحلان ص279 من نسخة مكتبة الحرم المكي.
[40] سورة النساء 112.
[41] مقدمة صيانة الإنسان ص7-8.
[42] مقدمة صيانة الإنسان ص11-12.
[43] صيانة الإنسان ص392.
[44] في علم 34 "م" علم حديث 13 "ت" علم 5 ابن ماجة المقدمة 8 دارمي في المقدمة 227 أحمد في المسند 2/190.
[45] الفتح 8/149.
[46] صيانة الإنسان 392-399.
[47] مجمع الزوائد 2/324.
[48] ميزان الاعتدال2/353-354.(9/480)
بنو إسرائيل في ضوء الإسلام
بقلم الشيخ محمد أمين سليم
المدرس بمعهد إمام الدعوة بالرياض.
قال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولا ًثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً
فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} (الإسراء:4 – 8)
الحديث عن بني إسرائيل حديث طويل، ويكاد يكون على وتيرة واحدة لا تشعب فيه ولا تعقيد كتعقيد نفوسهم، ويعجب فيه المؤرخ الباحث لتلك السجايا الغريبة التي وسمت اليهود من طبائع الشر والحقد على المجتمعات التي يعيشون فيها، والاستذلال والصغار والمهانة التي لازمت أفرادهم عبر القرون، ويمكن القول إن أبرز الصفات التي انطبعت فيهم الحسد، والأنانية والجبن والتردد وضعف الرأي واللؤم والوقاحة والشح والتعبد للمال وكنزه واتباع الهوى والمكابرة في الباطل.(9/481)
على أنه لا يفوت الباحث النزيه أن يذكر أن بني إسرائيل برعوا في المهن اليدوية والفنية، كالطب والهندسة والصيدلة وصياغة المجوهرات منذ زمن بعيد، فكانوا هم عصب الحضارة النشيط أيام الفراعنة، ولذا فقد رفض فرعون أن يسمح بهجرتهم من بلاده مع موسى عليه السلام، لأن هجرتهم ستسبب شلل الحضارة في بلاده. ولست بهذا ألقي القول على عواهنه، فقد ذكر القرآن الكريم أن السامري قد صنع لبني إسرائيل عجلا من الذهب، إذا ضربته الريح صوت، وهذا فن عظيم بلا مراء، والسامري هو أحد أفاد بني إسرائيل.
سأعرض مقدمة تاريخية بين يدي البحث أبين فيها خلاصة تاريخهم المعتمد، وأعرض فيها ما وسعني المقام صورا من أخلاقهم التي ذكرتها آنفا، مستنيرا بما صوره الله لنا عنهم في كتابه القرآن الكريم، ثم أطوي الزمن حتى نقف معهم وقفة نناقش أوضاعهم وأحوالهم في المدينة المنورة بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وهجرته إليها، وكيف كان موقفهم من الرسول صلى الله عليه وسلم موقف العناد والتحدي، وما آل إليه أمرهم من القتل والطرد والإبعاد عن الجزيرة العربية.
يطلق المؤرخون أسماء "العبرانيين واليهود وبني إسرائيل"ويريدون بها طائفة واحدة معينة من الناس وهم: أبناء يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، بيد أن اليهود وإن تبجحوا بهذا النسب الكريم لا يستطيعون أن يقيموا الدليل على نقاوة الدم السامي في عروق المعاصرين منهم بعد هذه السنين الطويلة التي مرت عليهم حافلة بالأحداث والفتن والمذابح والتشريد والاضطهاد بسبب طبائعهم الشاذة التي مر ذكرها.
وقد ذكر بعض المؤرخين أن اسم العبرانيين أطلق عليهم بعد أن عبروا نهر الأردن قادمين من سيناء والعقبة صوب مدينة أريحا، وهو النهر الذي ذكره الله في سورة البقرة {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} آية 249.(9/482)
أما كلمة "اليهود"فقد ذكر الله على لسان موسى عليه السلام الدعاء المشهور… {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أية156 من الأعراف وما حولها، أي تبنا ورجعنا. وقال تعالى في سورة الجمعة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (الجمعة:6)
فهم على هذا المعنى في أصل التسمية الطائفة التائبة الراجعة إلى الله زمن موسى عليه السلام، ولعلهم سموا باليهود كذلك نسبة إلى يهوذا أحد أبناء يعقوب عليه السلام، ويعقوب عليه السلام جدهم جميعا، وكان يسمى "إسرائيل"أيضا كما ورد ذلك في القرآن الكريم.
عند التأمل يجد الباحث أن أبا الأنبياء [1] إبراهيم عليه السلام الكلداني الأصل، وقد بعثه الله رسولا في قومه عبدة الكواكب والأصنام في العراق، فبعد يأسه من استجابة قومه له يمم وجهه مهاجرا تلقاء الأرض المقدسة "فلسطين" [2] وعاش عيشة البداوة متنقلا بين نابلس والخليل والقدس بقطعان الأبقار والماشية التي كان يمتلكها… (لاحظ حادثة الملائكة الذين زاروه فقدم لهم عجلا حنيذا وهو لا يعرفهم، راجع سورة الذاريات) . وقد أشار الله إلى حياة البادية هذه فقال على لسان يوسف عليه السلام بن يعقوب عليه السلام في سورة يوسف: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} (يوسف: من الآية100) .
وتقدمت السنون بإبراهيم عليه السلام ولم يرزق البنين، وكان يكثر من الدعاء فوهبه الله إسماعيل عليه السلام من زوجه المصرية هاجر، ثم هاجر بهما وإسماعيل رضيع إلى الحجاز بأمر من الله. ثم امتن الله كذلك على زوجه الأولى "سارة"التي آمنت به حين كذبه الناس، فرزقه الله منها إسحاق بعد أن بلغت الثمانين كما قيل، "راجع سورة الذارات وغيرها".(9/483)
ولإسماعيل عليه السلام وأحفاده في بوادي الحجاز قصة طويلة ممتعة تستهوي القارئ ليس هذا صددها، لأنها تاريخ حافل بالأحداث المثيرة في صحاري الجزيرة العربية، تتكامل أمجادها ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أحد أحفاد إسماعيل عليه السلام رسولا للبشرية جمعاء.
أما إسحاق عليه السلام فقد رزقه الله البنين، ويهمنا منهم يعقوب عليه السلام، وكان يسمى إسرائيل أيضا، وقد أنعم الله على يعقوب باثني عشر ولدا من الذكور، وهم أجداد جميع بني إسرائيل، والذي يطالع قصة يوسف بن إسرائيل عليهما السلام كما وردت في القرآن الكريم يرى فيها عبرا بليغة ومواعظ جمة.
فإننا نرى عاطفة الحسد تتجسد في قلوب إخوته العشرة، وتكاثفت هذه العاطفة السوداء حتى جمعتهم في مؤتمر جمعوا فيه على قتل أخيهم يوسف لمنزلته في قلب أبيهم، ولم يشذ منهم إلا واحد، ثم ألقوه في غيابة الجب، وادعوا كذبا أن الذئب أكله، ثم يباع يوسف عليه السلام عبدا في مصر، وبعد أحداث طويلة يرتقي يوسف إلى أن يعين وزيرا للمالية لدي ملك مصر، ويصيب القحط الأرض المقدسة، ويأتي إخوة يوسف إلى مصر ليمتاروا، وأخيرا يتم التعارف بينهم ويأمر بإحضارهم جميعا ووالده يعقوب معهم مهاجرين إلى مصر.
بهذا ينتهي الفصل الأول من سيرة أجداد بني إسرائيل "أعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب"أولئك الكرام من الأنبياء والرسل الذين عاشوا عيشة البداوة والفطرة والكرامة في شعاب الأرض المقدسة، وتبدأ صفحة جديدة من حياة بني إسرائيل في حضارة مصر ونعيمها وبذخها وترفها.(9/484)
يختلف المؤرخون في تقدير المدة الزمنية التي انقضت ما بين هجرة إسرائيل عليه السلام وجميع آل بيته إلى مصر وما بين خروج بني إسرائيل من مصر بقيادة الرسول الكريم موسى عليه السلام، وأغلبهم يقدرها بحوالي "600"عام، وفي خلال هذه الفترة الطويلة التي مرت على المجتمع المصري، استطاع أن يسيطر فيها بنو إسرائيل على عناصر الحضارة في مصر كما سبق ذكره، ثم رأى الطاغية فرعون أن يستذل بني إسرائيل خوفا منهم لما رأى في منامه ما أزعجه، فقام باحتياطات لم يسبق إليها على ما أظن، فقد أمر بقتل كل ذكر يولد من بني إسرائيل واستحياء الإناث منهم.
طغى فرعون وتجبر، وأذاق بني إسرائيل أصناف الاضطهاد والعذاب، حتى أصبح الصغار والمسكنة والهوان لازمة لهم، وأورثهم الحسد الذي ورثوه من أجدادهم إخوة يوسف لؤما وحقدا على المجتمعات التي يعايشونها، فأصبحت الخيانة والزور والبهتان واستحلال أموال الآخرين من غير بني إسرائيل، فأصبحت مزاياهم اللاصقة بهم، قال الله تعالى حاكيا عنهم: {قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} (آل عمران: من الآية75) . وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن نساء بني إسرائيل استعارت حلي نساء الأقباط قبيل هجرتهم مع موسى عليه السلام بأيام، وغادروا مصر وهي معهم، ومنها صنع السامري عجل الذهب الذي عبدوه.(9/485)
بيد أن الله أراد - ولا راد لقضائه - أن يرسل رسولا منهم لينقذهم من ظلم فرعون وعتوه. وكأنه يبدو من سنن الله أن الذليل لا يكون رسولا ولا نبيا، فقضت حكمته تعالى أن يبعث لهم موسى، وأن يتربى موسى عليه السلام في بلاط أعز الناس في مصر حينذاك – بلاط فرعون نفسه، حتى ينشأ عزيز النفس قوي القلب، رابط الجنان، مفتول العضلات، ونحن نستطيع أن نسرح بخيالنا ونتصور كيف كان ينشأ أبناء الملوك في قديم الزمان، وقصة وصول موسى عليه السلام وهو طفل رضيع إلى بلاط فرعون في تابوت تدافعه مياه النيل مشهورة معروفة في القرآن الكريم.
نشأ إذن موسى عليه السلام نشأة تخالف ما نشأ عليه السلام أترابه ومن هم أكبر منه سنا من بني إسرائيل، فنشأ شجاعا لا يعرف الخوف، مفتول الذراعين قوي العضلات، وقد قص الله علينا من قوة عضلاته أنه بطش بالقبطي فقتله بلكمة واحدة. "راجع سورة القصص أوائلها " وسقى أغنام شيخ مدين وحده. وتظهر شجاعة موسى عليه السلام كذلك حين فارق صهره شيخ مدين في ليلة باردة مظلمة ومعه أهله، وفي تلك الليلة نال أعظم حظوة في حياته حين كلمه الله وأرسله لإنقاذ قومه بني إسرائيل.
فرسول هذه صفاته هو الذي يمكن أن تنعقد عليه السلام الآمال بعد الله لإنقاذ هذا الشعب المسكين الذليل الخاوي النفس، الذي قاسى الأمرين في حياة العبودية تحت طغيان فرعون وملئه.(9/486)
ويذهب موسى عليه السلام إلى مصر قادما من مدين، ويذهب إلى فرعون ومعه أخوه هارون يحملان رسالة الله إلى فرعون، يطلبان منه أن يسمح بهجرة بني إسرائيل من مصر مع موسى، ولكن فرعون وهو يعلم أن بني إسرائيل هم عصب الحضارة في مملكته، وهم حمير هواه ورغباته رفض طلب موسى، وأخذته العزة بالإثم، ودأب موسى على الدعوة إلى الله، وكذبه فرعون وقومه. وانتصر موسى عليه السلام على سحرة فرعون الذين آمنوا به مراغمة لفرعون، فراحوا شهداء بغيه وظلمه. وقال الله إخبار عن جبن بني إسرائيل: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلإِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} (يونس: من الآية83) . وابتلى الله قوم فرعون بالمصائب المتنوعة علهم يتوبون ويؤمنون، ولكن بلا جدوى، وأخيرا أذن الله لموسى وقومه بني إسرائيل بالهجرة من دار الظل والذل والكفر والترف إلى الأرض المقدسة "فلسطين".
وخرجوا ليلا وشعر بهم فرعون وجنوده، فأتبعوهم مشرقين عند البحيرات المرة، فضرب موسى البحر بعصاه فاستحال بعضه طريقا ولجه موسى وقومه فنجوا، وغرق فيه فرعون وجنده وبنو إسرائيل ينظرون. وبهذا ينتهي الفصل الثاني من حياة بني إسرائيل في مصر، حياة الحضارة والترف، مقرونة بالذل والهوان، وتفتح صفحة جديدة في تاريخهم ومعهم نبيهم موسى عليه السلام، وهي مرحلة ما بين خروجهم من مصر وقبل دخولهم الأرض المقدسة.
وهنا تتفاعل عناصر الذل والهوان والعبودية التي مرنت عليها نفوسهم عشرات السنين في أرض الحضارات، وتأبى إلا أن تفرز ذلا وهوانا كما قيل: "وكل إناء بالذي فيه ينضح"فقد مروا في طريقهم يقودهم عليه السلام على أقوام يعكفون على أصنام لهم يعبدونها، فقالوا: "يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة". فانظر إلى هذه العقلية التافهة كيف نسيت ربها وخالقها الذي أنعم عليها ونجاها من الذل والهوان.(9/487)
وقد بقيت فكرة تجسيد الإله ووضع مثال له راسخة في عقول الكثير من بني إسرائيل حتى مع وجود موسى بينهم، قال تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} (البقرة: من الآية93) . ولعل لفرط ما رأوا من عبادة الأقباط لفرعون ولخضوعهم له زمانا طويلا أثرا في ذلك؛ فلما غاب عنهم موسى أربعين ليلة تاركا أخاه هارون بينهم، استطاع السامري أن يصنع لهم عجلا من الذهب يصوت إذا ضربته الريح، وسرعان ما أقنعهم أنه إلههم وإله موسى، فعكفوا على عبادته، فإذا تذكرنا أن العجل كان من بين آلهة المصريين التي يقدسونها تبين لنا إلى أي مدى تفعل البيئة فعلها في الأمم والشعوب.
ويأتيهم موسى عليه السلام بكتاب الله التوراة ويرفضونها ويقولون سمعنا وعصينا، ولا عجب في ذلك، فإن النفوس الذليلة التي تعبدت لفرعون والعجل يصعب عليها أن ترفع عنها نير الذل والخور دفعة واحدة وترفع رؤوسها إلى خالق السماوات والأرض لتناجيه في السراء والضراء.(9/488)
أما جبنهم فإن الآيات القرآنية الآتية تسجله عليهم بأوضح بيان في نقاش معهم: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} (المائدة:21،22) إلى أن قال: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة:24) . وفي آخر آية 26حرم الله دخولها عليهم أربعين سنة تاهوا في سيناء، وهيأ الله لهم الغمام يظلهم، والمن والسلوى طعامهم، فسئموها وطلبوا القثاء والفوم والعدس والبصل… فدخلوا العقبة "أيلة"ومات عليه السلام في هذه الفترة ولم يدخل فلسطين. وما أصدق قول الشاعر العربي الأبي الحارث بن حلزة البشكري:
لا يقيم العزيز في البلد السهل
ولا ينفع الذليل النجاء
فهذه قصة أرض الميعاد أمرهم الله بدخولها ومعهم نبيهم موسى عليه السلام فرفضوا الأوامر ولفظوها وتطاولوا بسوء أدبهم على الله، وسلكوا مسلك الأطفال المدللين العاجزين. وأما ترددهم وضعف الرأي عندهم، وتفاهة تفكيرهم وسطحيته ووقاحتهم، فيبدو عند كل أمر إلهي أو تشريع سماوي، إذ يقابلونه بالإهمال وعدم الاكتراث وقلة المبالاة، بل يقولون {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} (البقرة: من الآية93) .
حدثت جريمة قتل في عهد موسى وجهل القاتل، فأوحى الله إلى موسى أن يأمر قومه بذبح بقرة ليضربوا الميت بها فيحييه الله ويفضح قاتله، فاستهان بنو إسرائيل بهذا الأمر، وطفقوا يسألون أسئلة عن البقرة لو صدرت من طفل دون الاحتلام لأتهم بالحماقة وضعف البصيرة والوقاحة وسوء الأدب: ما لون البقرة؟ وما نوعها؟ ما طبيعتها؟ ولولا أن بعضهم قال:(9/489)
{وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} (البقرة: من الآية70) لما اهتدوا إليها ولركبهم شيطان السخف والغرور وقادهم إلى الجحيم.
شاء الله سبحانه وتعالى وبعد هذا كله أن يخرج من صلب إبراهيم وإسحاق ويعقوب أناسا طيبين، فبعد أن هلك الجيل الذي عاش الذل والهوان أيام فرعون في تيه صحراء سيناء والعقبة، نشأ جيل الصحراء من بني إسرائيل في بيئة الحرية القاسية، فطلبوا من نبي لهم من بعد موت موسى عليه السلام في ساعة من ساعات النشاط وصفاء الذهن أن يبعث لهم ملكا للجهاد في سبيل الله؛ فانظر إلى التباين بين بيئة الحضارة التي تخرج نفوسا ذليلة وبيئة الحرية في الصحراء القاسية:
فقال لهم نبيهم والأرجح أنه يوشع بن نون: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} (البقرة: من الآية247.
وهنا تبرز العقلية اليهودية الفاشلة، عقلية اتباع الهوى والأنانية والتعبد للمال، وناقشوا نبيهم برفض طالوت لفقره، وأنهم أفضل منه، فبين الله لهم أنه أفضلهم وأعظمهم جسما "البقرة 247وما بعدها"ومع ذلك لم يقبلوه ملكا عليهم حتى أيده الله بمعجزة؛ إذ أرجعت الملائكة توراة موسى عليه السلام في تابوت، وكانت كما قيل مسروقة.
ويمرون في طريقهم بنهر الأردن وينهاهم ملكهم العالم المجرب لأمور القتال، ينهاهم أن يسرفوا في شرب الماء، لأن ذلك مدعاة إلى البطنة والكظة والترهل، ثم الفتور والتكاسل، فعصوا أوامر الملك ووقعوا في الماء شربا وعبا إلا قليلا منهم، ووقع ما حذرهم منه ملكهم، وقالوا لا طاقة لنا اليوم بحرب الأعداء "سورة البقرة 248-250"ولكن الله نصر الفئة القليلة المؤمنة الصابرة منهم، واستطاع داود عليه السلام أن يقتل ملك الأعداء ويفتح البلاد، وأتاه الله الملك والنبوة والرسالة.(9/490)
ويبدأ عهد جديد في تاريخ بني إسرائيل، عهد الملك المشفوع بالنبوة والرسالة، وهو العصر الذهبي لهم، حيث مَنَّ الله عليهم بأنبياء ملوك؛ كداود وسليمان، وأنبياء بلا ملك، وملوك بلا نبوة، وظهر فيهم المخلصون الربانيون الذين جاهدوا في الله حق جهاده مع أنبيائهم السابقين، حتى يكاد يخيل لقارئ قصصهم أنهم فارقوا تلك الصفات السوداء التي سودت صحائف نفوسهم فاستحقوا بذلك الأفضلية في عالم زمانهم؛ قال تعالى: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة:47) . وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (الدخان:30-32) .
وانتهى عصرهم الذهبي الذي لم يدم أكثر من حكم داود وسليمان عليهما السلام، وتفسخت دولتهم بعدهما وانقسمت إلى دولتين.(9/491)
وكانت الفترة ما بين سليمان ومبعث المسيح عليهما السلام فترة مليئة بالعبر والمحن والابتلاء، وقد حقق الله وعيده فيهم حين قال: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} (لأعراف: من الآية167) فقد كذبوا فريقا من الأنبياء وقتلوا فريقا، فسلط الله على الدولة الأولى الأشورييين، فدمروا ملكهم وفتكوا بهم، وسلط الله على الدولة الأخرى بختنصر "نبوخذ نصر"البابلي، فحطم ملكهم وأعمل السيف فيهم، وسبى الألوف منهم إلى بابل، ثم أرجعهم كورش الفارسي وسمح لهم بممارسة طقوسهم الدينية تابعين له، ثم سلط الله عليهم السلوقيين اليونان، وصار لهم شبه دولة تحت حكمهم، وكانت الفتن والثورات لا تنفك تحدث بينهم تسيل فيها الدماء، ولما دالت دولة اليونان السلوقيين خلفهم الرومان، فاستبدوا في البلاد كلها، وفي أوائل عهد الرومان ولد المسيح وزكريا ويحيى عليهم الصلاة والسلام، وحكم الرومان فلسطين حوالي سبعة قرون، وكان حكما صارما مستبدا.(9/492)
عادت غرائز الشر التي انطبعت في اليهود وسكتت إلى حين تحت سلطة الرومان القاهرة – عادت ترفع رأسها من جديد ومضت هذه المرة مضي المهاجم المتحدي لله وشرعه وأنبيائه، فتطاولوا على حرمات الله، فقتلوا الأنبياء وكذبوهم، وابتلاهم الله بالمحن ليتوبوا ويهتدوا فما ازدادوا إلا ضلالا وتمردا وعتوا، وأراد الله أن يعطيهم آخر فرصة للتوبة والرجوع إلى الهدى والحق كما فعلوا أيام موسى عليه السلام بعد عبادة العجل، فأرسل إليهم آخر رسل منهم وهم: زكريا ويحيى وعيسى في عصر واحد، فقتلوا زكريا ويحيى، وحاولوا قتل عيسى عليه السلام بتأليب الحاكم الروماني عليه وادعاء أنه أفسد الشباب بدينه الجديد، وأنه ساحر، واتهموا أمه بالفاحشة وقد برأها الله، فغضب الله عليهم ولعنهم وسلط عليهم الرومان فدمروا الهيكل، وهو مسجد سليمان عليه السلام عام70 للميلاد، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، ونزح الباقون منهم إلى الجزيرة العربية ومصر والعراق وأوربا، ثم أخرج النبوة منهم إلى أبناء عمهم بني إسماعيل عليه السلام، فقد أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم من بني إسماعيل عليه السلام، فكان آخر رسل الله وأنبيائه إلى الناس، وجعله الله رسولا إلى عامة البشر ومعجزته الخالدة القرآن الكريم، وتكفل الله بحفظه من التغيير والتبديل والتحريف ليبقى صالحا لكل زمان ومكان.
وينتهي بذلك أكبر فصل في حياة بني إسرائيل، لأنه الفصل الذي انتهى بغضب الله عليهم ولعنهم وطردهم من رحمته، أعني أولئك الذين اشتركوا في تكذيب المسيح ومحاولة قتله واتهام أمه. وباع اليهود أنفسهم للشيطان وعملوا معه حلفا موثقا، وأجمع فلاسفتهم ودهاتهم على تحدي الله ومحاربة كل خير في الأرض.(9/493)
وخلاصة القول أنه بموت داود وسليمان عليهما السلام تنتهي زعامة بني إسرائيل السياسية والدينية والعسكرية، ويصبح الشعب اليهودي أعزل كغيره من الشعوب البائسة يقطن الأرض المقدسة، يشاركه فيها غيره من الشعوب السامية والعربية المجاورة، تحكمهم جميعا سلطة وثنية قاهرة فوقهم بدأت بالأشوريين، ثم البابليين، ثم دولة الفرس الأولى، ثم اليونان السلوقيين أحفاد قواد الاسكندر المقدوني، ثم الرومان الذين سلطهم الله على بني إسرائيل بعد إفسادهم الآنف الذكر، ويشردونهم من فلسطين، ثم يأتي العرب المسلمون ويفتحون البلاد كلها باسم الإسلام، فيهزمون الروم ويقيمون شرع الله منذ القرن الأول الهجري إلى نهاية الخلافة العثمانية المسلمة عام 1337هـ الموافق 1918م، ومع ذلك يشهد التاريخ أن المسلمين عطفوا على اليهود وآووهم وأنصفوهم في الشام وإفريقيا والأندلس، وكان بيت المال يساعد العجزة والمقعدين منهم، وأوصى النبي المسلمين بهم خيرا ما داموا أهل ذمة؛ فأين فرية حق اليهود في فلسطين؟.
إن اليونان حكموا فلسطين حوالي ثلاثة قرون.
والرومان حكموا فلسطين حوالي سبعة قرون.
والصليبيين حكموا فلسطين أثناء ضعف المسلمين حوالي قرنين.
واليهود حكموا فلسطين حوالي دون قرنين من الزمان ثم شردوا منها.
والعرب ثم المسلمون حكموا فلسطين واستوطنوها أكثر من 20 قرنا.
ولم نسمع أن أحدا من أحفاد هؤلاء الأقوام يطالب بالرجوع إلى فلسطين بحجة أن أجدادهم قد سكنوها وحكموها في الماضي. ولو اتبع عقلاء العالم منطق اليهود وحججهم لزم أن تعود أسبانيا إلى العرب المسلمين وقد حكموها ثمانية قرون، وأن يعود سكان الأمريكتين وأستراليا إلى أوروبا، وأن تحتل إيطاليا بريطانيا؛ لأن الرومان قد حكموا بريطانيا عدة قرون.(9/494)
نزح كثير من اليهود بعد أن خرب الرومان هيكلهم عام 70م إلى المدينة المنورة وخيبر، واختاروا الحجاز بالذات موطنا لعلمهم أن آخر رسل الله سيبعث منها كما نصت التوراة، فلعل الله يخرجه منهم ويتوب عليهم، واشتغلوا بالتجارة، وآثروا على عادتهم في سلوك طرق المكر والتحايل والربا الفاحش، وصار لهم قوة، وحالفوا الأوس والخزرج سكان المدينة المنورة.
ويبعث الله محمد القرشي صلى الله عليه وسلم من بني إسماعيل رسولا إلى البشرية، وهاديا لها ليخرجها من الظلمات إلى النور، وكان اليهود يبشرون به العرب قبل أن يولد ويستفتحون به عليهم، وتبدأ صفحة جديدة في حياة بني إسرائيل، ويأكل الحسد قلوبهم لخروج النبوة منهم.
ذكر ابن هشام في السيرة قال:
حدث عبد الله بن أبي بكر قال: "حدثت عن صفية بنت حيي أنها قالت: كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، ولم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه. قالت: فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف، غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين. قالت: فلم يرجعا حتى كان غروب الشمس. قالت: فأتيا كالَّين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى. قالت: فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله. قال: تعرفه وتثبته؟ قال: نعم. قال: فما في نفسك؟ قال: عداوته والله ما بقيت".
وصفية المذكورة هي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوها حيي المذكور كان من كبار زعماء اليهود، وبقي يعادي رسول الله ويحرض ضد المسلمين حتى قتل صبرا يوم الأحزاب "الخندق".
إسلام عبد الله بن سلام:(9/495)
قال ابن إسحاق: "وكان من حديث عبد الله بن سلام كما حدثني بعض أهله عنه وعن إسلامه حين أسلم، وكان حبرا عالما "من علماء اليهود"قال: "لما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف له "أي نترقب" فكنت مسرا لذلك صامتا عليه، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف، أقبل رجل حتى أخبر بقدومه وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة ابنة الحارث تحتي جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري: "خيبك الله، والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادما ما زدت". قال: فقلت لها: "أي عمة هو والله أخو موسى بن عمران وعلى دينه، بعث بما بعث به". قال: فقالت: "أي ابن أخي أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة؟ "قال: فقلت لها: نعم. قال: فقالت: فذاك إذن. قال: ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت، ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا. قال: وكتمت إسلامي من يهود، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: "يا رسول الله إن يهود قوم بهت، وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك وتغيبني عنهم "أي تسترني"ثم تسألهم عني حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا إسلامي، فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني". قال: فأدخلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض بيوته ودخلوا عليه فكلموه وسألوه ثم قال لهم: "أي رجل عبد الله بن سلام فيكم"قالوا: "سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا". قال: فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم فقلت لهم: "يا معشر يهود اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله وأومن به وأصدقه وأعرفه"؛ فقالوا: كذبت، ثم وقعوا بي، فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم بهت، أهل(9/496)
غدر وكذب وفجور؟ "قال: وأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث فحسن إسلامها، وكذلك أسلم مخيريق وكان حبرا عالما غنيا كثير الأموال، ودعا قومه للإسلام فأبوا، فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وقتل شهيدا، وأوصى بأمواله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مخيريق خير يهود".
هذه الروايات تصور نفسية بني إسرائيل بأجلى بيان وأوضح تبيان على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وصوله المدينة مهاجرا أراد أن يبدأ اليهود بالخير والمسالمة والتآلف واللين، فعقد معهم معاهدة صلح ليأمن شرهم ويغريهم بالدين الجديد، ولكن أنى لحلفاء الشيطان أن يعيشوا عيشة الكرامة والمسالمة، إذ ما لبث شيطان الحسد أن ثار في نفوسهم وهاج هيجانا عظيما بعد موقعة بدر، فخان بنو قينقاع، ونقضوا العهد، فطردوا من المدينة ونزحوا إلى خيبر، ثم تأسى بهم بنو النضير في الخيانة، وحاولوا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم بإلقاء صخرة عظيمة عليه من أعلى السور، فأعلمه الله بخيانتهم وحاصرهم المسلمون وطردوهم، وفيهم نزلت سورة الحشر.
أما بنو قريظة فكانت خيانتهم أعظم وأشد وقعا على نفوس المسلمين، ذلك أنها حدث في أحرج الأوقات على المسلمين، وجيوش قريش ومشركي العرب تحاصر المدينة من وراء الخندق بقيادة أبي سفيان. هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا، وانتهت خيانة بني قريظة بذبح كل قادر على حمل السلاح وكل محتلم.
بعد أن عقد اليهود العزم على معارضة رسول الله صلى الله عليه وسلم والكفر به وتحديه وصرف الناس عن دينه بكل وسيلة، سلكوا في ذلك مسالك شتى:(9/497)
أولا: وسيلة الكذب؛ فقد سأل مسلموا المدينة اليهود لِمَ لَمْ يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كانوا يبشرون به قبل مبعثه ويستفتحون به عليهم؟ فكان جوابهم كذبا وزورا أنه ليس النبي الذي يعرفون. وقد كذبهم في ذلك أحبار اليهود الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (آل عمران:71)
ثانيا: في مؤتمر يهودي خبيث اتفق شياطينهم أن يؤمن بعض اليهود برسول الله صلى الله عليه وسلم أول النهار ويرتدوا عن دينه آخر النهار، وإذا سئلوا عن ذلك قالوا: "قد اتضح لنا أنه ليس النبي المبعوث آخر الرسل الذي نجد صفته عندنا في التوراة، وقد فضحهم الله في هذا"، وكذلك علماؤهم الذين آمنوا برسول الله، قال الله تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (آل عمران:72) الخ.
ثالثا: سألت قريش زعماء اليهود عن دين محمد وأيهم أهدى سبيلا وأحب إلى الله، أملة قريش وهم يطعمون الطعام ويكرمون الجار ويغيثون الصريخ؛ أم ملة محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقالت يهود: "بل ملة قريش أهدى وأولى بالاتباع من ملة محمد"، وهم كاذبون في ذلك ويعلمون أنهم كاذبون. قال لله تعالى يدمغهم في ذلك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً}
(النساء 51-52) .(9/498)
رابعا: الاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم وتعاليمه:
لما نزل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} (الحديد:11)
قالت اليهود: "إن الله فقير ومحتاج إلى أموالنا"، فنزل قوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} (آل عمران:181) .
وقالوا كذلك: "إن الله لما فرغ من الخلق يوم الجمعة استراح على العرش يوم السبت من الإعياء"؛ فأنزل الله قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} (سورة ق 38-39) .
وكانوا يقولون "راعنا"وهي كلمة استهزاء، ولعلها من الرعونة، فنهى الله المسلمين عن قولها، وكانوا يسلمون على الرسول صلى الله عليه وسلم قائلين: "السام عليك"أي الموت استهزاء وحقدا؛ فنزل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (المجادلة:8) . ومن استهزائهم قولهم يد الله مغلولة، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان} (المائدة: من الآية64) .(9/499)
خامسا: إعداد الألغاز والأسئلة المعقدة وعرضها على رسول الله ليعجزوه ويشغلوه بها عن الدعوة ويحرجوه أمام المؤمنين في ظنهم:
فقد سألوه عن الروح وعن ذي القرنين وأهل الكهف.
سادسا: حاولوا قتله مرارا وآخرها يوم دست له السم إحدى نساء اليهود في ذراع الشاة المطبوخة، فمضغ مضغة ثم لفظها لتغير طعمها في فيه، أو لأن الله أخبره.
سابعا: وأخيرا حملوا السلاح في وجهه وخانوا عهدهم معه كما فعل بنو قريظة وسكان خيبر، ولكن الله رد كيدهم إلى نحورهم ثم طردوا من الجزيرة.(9/500)
والعقد النفسية التي سيطرت على عقليات اليهود عبر الأجيال أنهم "شعب الله المختار"وأنهم "أبناء الله وأحباؤه"وأنه "لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا": {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَة} (البقرة: من الآية80) "عدد أيام عبادتهم العجل"على أن بعض هذه العقد يرجع إلى أصل صحيح، فالله سبحانه قد فضل بني إسرائيل على عالم زمانهم حين كانوا يعملون بشريعته ويتحاكمون إليها أيام يوسف عليه السلام، وموسى وداود وسليمان عليهم السلام وغيرهم من الأنبياء والرسل. ولكنهم نسوا أو تناسوا أن هذه الأفضلية جاءتهم من تحكيمهم كتاب الله وطاعتهم لأنبيائهم، فلما تمردوا على أوامر الله وقتلوا أنبياءه واستهزءوا بشريعته انفصمت عنهم هذه الأفضلية، وسقطت بالبداهة، ثم غضب الله عليهم ولعنهم. بيد أن شياطينهم وطواغيتهم موهوا على شعوبهم الحقائق وزيفوها، وأوحوا إليهم أنهم لا يزالون شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه ولا يمكن أن يتخلى الله عن إسرائيل ولا عن أبنائه، ولا يزالون يجترون هذه الأوهام في نفوسهم حتى يجيئهم عذاب الاستئصال. وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم عذاب استئصالهم في صحيح البخاري قال: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود فيختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر يا مسلم ها هو يهودي خلفي تعال فاقتله إلا الغرقد…الخ".(10/1)
وقد اتبعت الآلاف المؤلفة من جماهير المسلمين في العصور الأخيرة سنن اليهود في هذه الفكرة، وصرنا نسمع بالمسلم الشيوعي والبعثي والقومي والاشتراكي وغيرهم، وكلهم يقول بلسان القرآن: "نحن خير أمة أخرجت للناس"أو بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة" وهم لا يعلمون شيئا عن حقائق الدين وأصوله إلا أماني، فقد استدبروا الثقافة الإسلامية المشرفة، واستقبلوا ثقافات الأمم الأخرى الملحدة الماجنة، فجهلوا الأمور المخرجة من الملة وإن صلى الواحد وصام وزعم أنه مسلم. {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الكهف:103،104)
وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (يوسف:106)
يتعرض القرآن الكريم إلى نقاش وجدال طويل هادئ مع اليهود، ويبين أخطاءهم الفكرية، ويفضح عنادهم ومكرهم ودخائل نفوسهم وتصديهم لمعارضة الدعوة، ويعتب عليهم أن لم يستجيبوا للدعوة مع أنها مصدقة لما معهم من التوراة، قال تعالى: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِه} (البقرة: من الآية41) لعلهم يرجعون ويهودون، وهو يسلك سبيل الترغيب والترهيب، ويذكرهم بنعم الله السابقة عليهم وبجرائم أجدادهم ومكرهم وعقاب الله لهم كما فعل بأهل السبت، إذ مسخهم قردة وخنازير.(10/2)
ولو ذهبت أعدد الآيات التي وردت في بني إسرائيل في القرآن الكريم لطال الأمر كثيرا، ولخرج البحث من مقال موجزا إلى بحث مستفيض يستوعب الصفحات الكثيرة الطويلة، ولكن أذكر على سبيل المثال أن الآيات من رقم "40- 133"من سورة البقرة كلها في بني إسرائيل بدون استثناء، 8صفحات كاملة ثم يعود الحديث إليهم متقطعا حسب المناسبات، بحيث يشمل الحديث عنهم ما يقارب ثلث سورة البقرة، ولا تكاد تخلو سورة طويلة من الإشارة إليهم وإلى أنبيائهم.
بقيت شبهة يثيرها الشيطان على ألسنة المتحذلقين ممن يتبعون ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة:62) .
فهل يكون اليهودي الذي يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحا، ولا يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم هل يكون ناجيا من عذاب الله يوم القيامة، وممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون كما تنص الآية السابقة؟
والجواب أنه لا ينجو بل هو مخلد في النار. ويشهد لهذا الآيات التالية:
قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85) .
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} (النساء 150-151) .(10/3)
في دعاء موسى لله {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف 156-157) .
وقد ختم الآية باسم الإشارة البعيد لتضخيم شأنهم، ثم أتبعه بضمير الفصل ليدل على تأكيد الخبر واختصاصهم بالفلاح والنجاة من النار، وأن غير أولئك الذين سبقت صفاتهم لا يفلح ولا ينجو من النار.
فمن لم يؤمن بجميع رسل الله، أولهم نوح وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم يكون كافرا مخلدا في النار كما تنص آيات النساء والأعراف الآنفة الذكر.
وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر} (البقرة: من الآية62) الخ أي آمن بالله الإيمان الكامل الذي بينه الله في الآيات السابقة؛ فآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله جميعهم بدون استثناء.
ولعلها تعني أيضا من آمن منهم بالله واهتدى على أيدي رسلهم الذين جاءوهم في أزمانهم الماضية قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم، وقبل حصول التحريف في كتبهم والله أعلم.
وبعد يا معشر المسلمين!(10/4)
لقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من تقليد اليهود والنصارى واتباع سننهم والركون إليهم، وخوفنا عاقبة ذلك؛ ومما قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة" وقد ورد هذا الخبر مورد الذم والنهي والتقبيح، فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لنا: "يا معشر المسلمين هذا تاريخ بني إسرائيل أمامكم، وهذه عقوبات الله عليهم تتوالى إلى يوم القيامة، وقد كانوا يوما ما أفضل العالمين، فلا تكونوا مثلهم فيعاقبكم كما عاقبهم، ولا تقولوا إن الله قال عنا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: من الآية110) فليست الأفضلية ملكا ثابتا يتوارثه الأحفاد عن الأجداد كما يزعم اليهود أنهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، وإن الأفضلية توحيد الله وطاعته، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشهادة الحق القيام بالدعوة، وبالاختصار تطبيق شرع الله كاملا.
والواقع المؤلم يشهد أن المسلمين استدبروا كتاب الله وسنة رسوله إلا القليل منهم، واتبعوا السبل التي سنها وخططها لهم شياطين اليهود وطواغيتهم فاستحقوا هذه العقوبات المتوالية عليهم في أكثر أرجاء العالم، ولن يغير الله عليهم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وتغيير ما بالنفوس لا يكون إلا باقتلاع جذور مفاهيم مغلوطة عن الذين وزرع بدلها جذور الفطرة الإسلامية الصافية التي أشرقت على الرعيل الأول وفتحوا العالم بها. تغيير ما بالنفوس أن ننتقل من مرحلة سرد المعلومات الدينية الصحيحة واختزانها في الذاكرة واستظهارها على اللسان إلى مرحلة تطبيقها على أنفسنا وأطفالنا، وبذا نخالف اليهود الذين قال الله فيهم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (البقرة:44)
وقد وعظ الواعظون وذكر المذكرون بهذا طويلا، فهل آن أن نذَّكَّر؟.(10/5)
والآن ماذا يبغي بنو إسرائيل من هذه العاصفة التي حشدوا لها كل طاقاتهم وآثروا على قلب العالم العربي، ومن ورائه العالم الإسلامي؟.
ويبدو لمن يذهب بعيدا ويتوغل وراء أخبار السياسة والاجتماع أن دعاة النصارى في أوروبا وأمريكا أحسوا بأخطبوط الصهيونية اليهودية، وأفعى الماسونية العالمية قد استشرى شرها في مجتمعاتهم تنفث سموم الإباحية والإلحاد، مع سيطرتها الرهيبة على معظم موارد الاقتصاد ورأس المال، حتى أضحت أوروبا وأمريكا أسرى لأثرياء اليهود القليلين، فضاقوا ذرعا بهم، وأيقنوا بفناء مجتمعاتهم على أيديهم إن عاجلا أو آجلا.
كما رأوا في نفس الوقت النهضة الإسلامية المباركة يتراقص شعاعها الضعيف في الآفاق، فخشوا أن يستحيل هذا الشعاع الضعيف إلى إشراقة يعم نورها العالم ثم يحرق وهجها أباطيلهم.
لهذا خطط دعاة النصارى أن يصطادوا العصفورين برمية واحدة، إذ يتخلصون من شرور اليهودية والصهيونية والماسونية، وينقذون مجتمعاتهم منها، وفي ذات الوقت يقضون على نهضة العالم الإسلامي المباركة التي تلوح أشعتها في الأفق البعيد، لذا فقد عطفوا على الجريمة اليهودية، وتهافتوا على تشجيع الحركة الصهيونية، فأغدقوا عليها الأموال والسلاح ووجهوها ضد العالم العربي الذي هو قلب العالم الإسلامي، ولكن الله لهم بالمرصاد، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} (لأنفال: من الآية36) الخ.(10/6)
ولْيَصْحُ قادة العالم الإسلامي قبل فوات الأوان، وليعلموا كيف المسير وأين المصير، وليكن أبرز شعار ينصبونه ماثلا أمام أعينهم قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} (لأنفال:60)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] قال تعالى عنه: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} (العنكبوت: من الآية27) . وكرر المعنى في سورة الحديد.
[2] قال تعالى عنه: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} (الانبياء:71) .(10/7)
حول ترجمة القرآن بالإنجليزية المطبوعة في اليابان
لفضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف
مفتي الديار المصرية سابقا
وعضو جماعة كبار العلماء والمجلس التأسيسي بمكة المكرمة
إن مما دبره أعداء الإسلام وتوصوا به جميعا الطعن في القرآن كراهة له وحقدا بالغا على هدم قواعده ومبادئه، والقضاء على تعاليمه وتبديل معانيه وصرفا عنه للراغبين في الإسلام، وذلك بترجمته ترجمة تغير أحكامه ومعانيه، وتخل بمقاصده ومراميه، وتحرف كلماته وآياته أفحش التحريف، وتضل الناس عما فيه من العلم والهدى والخير الدنيوي والأخروي، وسبل السعادة الدائمة.
ذلك دأبهم حيال القرآن الكريم الذي أنزله الله رحمة للعالمين وبينات من الهدى والفرقان، ونورا وضياء للسائرين، وهدي به بعد الضلالة وبصر به بعد الغواية، ومنهم "طائفة القاديانية"المارقة عن الإسلام بالباكستان التي عمدت إلى كتاب الله المبين فترجمته ترجمة ضالة غاوية، ونشرتها في الأقطار الإسلامية عامة منذ سنين.
وقد حذرت جميع المسلمين، منها رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة منذ سنتين لشدة خطرها وافترائها على الله الذي أنزل القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وممن سار على دربهم ودرج على مخططهم "هاشم أمير علي"في ترجمته التي سماها "رسالة القرآن"وطبعها ونشرها بالإنجليزية في اليابان، مغيرا فيها ترتيب سور القرآن، ذلك الترتيب التوقيفي الذي نزل به القرآن وأوحى به الرحمن إلى رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومحرفا فيها الآيات عن معانيها، ومعبرا عنها أسوا التعبير، مما يدل على عقيدة فاسدة وضلال مبين، وكره للإسلام شديد دفين.(10/8)
ولذلك يجب على دعاة الحق من المسلمين وخاصة العلماء والقادة أن ينبهوا العامة إلى أخطار هذه الترجمات الضالة، وإلى أنها وسيلة الأعداء للكيد للإسلام ولرسوله ولكتابه ولدعوته ولأمته، وإلى أنها فتنة وضلال مبين، وأن يحثوهم على نبذها وتطهير البلاد منها قياما بحق الإسلام ودفعا للأعداء عنه.
وواجب على المسلمين أن يعلموا يقينا ما يأتي:
أولا: أن ترجمة القرآن المقدورة للبشر هي الترجمة المعنوية لا غير، أما الترجمة الحرفية فغير مقدورة لهم وهم عنها عاجزون، لقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (الاسراء:88)
فلا قدرة لهم على الإتيان بمثله عربيا أو غير عربي، بأية لغة وفصاحته وبلاغته وأسلوبه وأحكامه وحكمه ومعانيه ومقاصده وعلومه الكفيلة بخيري الدنيا والآخرة.
فمن زعم لأية ترجمة حرفية للقرآن أنها تحاكيه وتعادله فيما جاء به ودل عليه فهو مفتر أثيم.(10/9)
ثانيا: إن القرآن الكريم أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم آيات على حسب الحاجة والوقائع لحكمة سابقة، فكان أمين الوحي "جبريل عليه السلام"ينزل بالآيات على الرسول ويعلمه أنها تكتب عقب آية كذا في سورة كذا، وكان صلى الله عليه وسلم يبلغ كل ما ينزل عليه تباعا للناس كافة، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة: من الآية67) وقوله تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ} (المائدة: من الآية99) . فكان ترتيب الآيات في سورها ترتيبا توقيفيا من جبريل عليه السلام عن رب العالمين، وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن في الصلاة وغيرها بالترتيب التوقيفي ويعلمه الناس حتى يقرءوا القرآن به، وكانت الآيات تكتب بأمره صلى الله عليه وسلم على هذا الترتيب التوقيفي، وقد جمع الصحابة القرآن بعده صلى الله عليه وسلم مرتبا هذا الترتيب لم يقدم فيه مؤخر ولم يؤخر فيه مقدم، ودلت الأحاديث على أن القرآن في اللوح المحفوظ ثابت على هذا الترتيب، وهو ترتيب إلهي لا يجوز مخالفته إجماعا.
وكذلك ترتيب السور توقيفي على ما رجحه الأئمة الأعلام، لا يجوز تأخير مقدم ولا تقديم مؤخر في سور القرآن، وهو على هذا الترتيب في اللوح المحفوظ كما نصوا عليه.
وممن نص على أن ترتيب الآيات في سورها توقيفي لا يجوز مخالفته بحال الإمام الزركشي في البرهان، والإمام أبو جعفر بن الزبير في مناسباته فقالا: "إن ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه صلى الله عليه وسلم وأمره به من غير خلاف بين المسلمين فيه".(10/10)
وقال الإمام أبوبكر في الانتصار: "ترتيب الآيات أمر واجب وحكم لازم، لقد كان جبريل يقول: ضع آية كذا في موضع كذا؛ والذي نذهب إليه أن جميع القرآن الذي أنزله الله وأمر بإثبات رسمه هو هذا الذي بين الدفتين الذي حواه مصحف "عثمان رضي الله عنه"وأنه لم ينقص منه شيء ولا زيد فيه شيء، وأن ترتيبه ونظمه ثابت على ما نظمه الله تعالى ورتبه عليه رسول الله في آي السور لم يقدم في ذلك مؤخر ولا أخر مقدم، وأن الأمة ضبطت عن النبي صلى الله عليه وسلم ترتيب آي كل السور ومواضعها وعرفت مواقعها، كما ضبطت عنه نفس القراءات وذات التلاوة".
وقال البغوي في شرح السنة: "إن الصحابة رضي الله عنهم قد أجمعوا بين الدفتين القرآن دون أن يزيدوا فيه شيئا أو ينقصوا منه شيئا كما سمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم دون أن يقدموا شيئا أو يؤخروا شيئا أو يضعوا له ترتيبا غير ما أخذوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم".
وكان عليه الصلاة والسلام يلقن أصحابه ويعلمهم ما نزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو في مصاحفنا بتوقيف جبريل عليه السلام إياه على ذلك وإعلانه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقب آية كذا في سورة كذا، وهو على هذا الترتيب مكتوب كله في اللوح المحفوظ، وقد أنزله الله مفرقا على رسوله على حسب الحاجة.
وقال العلامة الألوسي في مقدمة تفسيره: "كان صلى الله عليه وسلم يأمر كتاب الوحي بكتابة ما نزل، وكان القرآن على عهده صلى الله عليه وسلم مجموعا مؤلفا على ما هو عليه الآن في مصاحفنا، وقد حفظه على هذا الترتيب جماعة من الصحابة منهم "عبد الله بن مسعود"وأبي بن كعب وغيرهما، وختموا القرآن عدة ختمات بهذا الترتيب، ومن خالف ذلك لا يعتد به، وأن ترتيب آياته وسوره بتوقيف من الرسول صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن رب العالمين، وقد أجمعت الأئمة على أن ترتيب الآيات توقيفي، وهذا لا شبهة فيه ولا خلاف…"(10/11)
وأما ترتيب السور فالراجح عند الأئمة الأعلام أنه توقيفي أيضا، وهو هكذا عند الله في اللوح المحفوظ وفي عرض الرسول القرآن على جبريل كل سنة في شهر رمضان مرة وفي السنة التي توفي فيها مرتين…
وقد خالف هذا المترجم هذا الترتيب التوقيفي للسور في ترجمته، فأخر المقدم وقدم المؤخر، فباء بشؤم مخالفته الرسول صلى الله عليه وسلم واستحسان ذلك في ترجمته.
ولا ندري كيف استباح مشاقة الرسول بل مشاقة الله في ترتيب نظم كتابه ولأي سبب آثر ترتيبه على ترتيب الله ورسوله… اللهم إنه ضلال وعمى يبلغ الكفر إذا اعتقد أن ترتيبه أولى وأصح وأجدر…
ثالثا: أن من كبائر الذنوب والآثام القول في القرآن بغير علم ولا هدى في التفسير والترجمة؛ ففي الحديث: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار"وفي رواية "من قال في القرآن برأيه"وذلك بأن يتأول آيات القرآن على مراده وهواه؛ كتأويلات الفرق الضالة من القاديانية والبهائية والإسماعلية وغيرها في تفاسيرهم وترجماتهم للقرآن تأييدا لمزاعمهم الفاسدة ومقاصدهم الضالة، كتأويلات الجهال الحمقى بالتفسير الصحيح والرأي الرجيح كما اجترأ على ذلك هؤلاء المترجمون في آيات الكتاب العظيم.
رابعا: إن ترجمة معاني القرآن إنما تتم على الوجه الصحيح السائغ إذا توفر للمترجم فهم معاني القرآن فهما صحيحا كما فهمه الصحابة والأئمة الأعلام في الإسلام، ثم ترجم مفاهمه من معاني آياته ترجمة صحيحة…(10/12)
أما الفهم الصحيح لمعاني الآيات فإنما يتم له إذا توفرت فيه الشروط التي لابد منها لمن تصدى لتفسيره، ومنها على ما ذكره الأئمة: "علمه باللغة العربية علما تاما وافيا مفرداتها وأساليبها وحقائقها ومجازاتها وكتاباتها، وعلمه بسائر علوم العربية، وعلمه بما يجوز في حق الله تعالى وما يجب وما يستحيل، وعلمه بالنبوات ونشؤها وبالرسالات السماوية وما يتعلق بذلك ثم مع ذلك كله إخلاصه لله تعالى في تفسير كلامه والبيان عن مراده حتى لا يدخل في مداخل السوء ولا يصده الهوى عن الحق والهدى".
والترجمة الصحيحة إنما تتم إذا توفر للمترجم العلم بكل ذلك والتزم الصدق والإخلاص والأمانة والحق في الترجمة…
وكل ذلك مفقود فيمن تصدى لترجمة القرآن الكريم من الفرق الضالة وأمثالهم، فإن أكثرهم لا يقيمون وزنا للعلوم الدينية ولا للسنن الصحيحة التي وردت في الآيات تفسيرا لها وبيانا لأسباب نزولها، ولا لأقوال الصحابة والأئمة في معاني الآيات؛ ثم إنهم جميعا لا يؤمنون بقداسة كلام الله وجلالة قدره العظيم، بل لا يؤمنون بالله وبصفاته وكلامه وكتابه ولا برسوله الذي أنزل عليه كتابه الكريم ولا بأقواله وأفعاله، وأنها سنن هدى للمؤمنين، فمن الذي يقيم وزنا لهذه الترجمات الضالة بعد ذلك من المسلمين.
خامسا: أنه يرحم شرعا على من لم يكن راسخا في العلوم الشرعية، عليما بما جاء بها من الأحكام، قديرا على دفع الشبه ورد المزاعم الباطلة، أن ينظر في التراجم الضالة خشية أن تفتنه وتغويه ويضل السبيل؛ قال تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} (هود:113) …
وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: من الآية63) …(10/13)
أما الراسخون في العلم فعليهم أن يبينوا للناس ما فيها من ضلال وافتراء وبطلان، وينصحوهم باجتنابها لمزيد أخطارها ومضارها وأخطائها.
سادسا: يجب على العلماء وولاة الأمر في الأقطار الإسلامية تحذير عامة المسلمين من هذه التراجم مطالعة واقتناء، ويجب منع تداولها في البلاد الإسلامية عامة، ويجب بيان ما فيها من ضلالات وآراء زائفة، وأفكار سامة صيانة للمسلمين من أخطارها كما قررت رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة بالنسبة لترجمة القاديانية المارقة من الإسلام ولما ماثلها من الترجمات الضالة الفاتنة، وذلك من النصيحة في الدين ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواجب على القادرين من المسلمين، وفي القيام بحق الإسلام على أهله وبحق الأمة ووجوب دفع المضار عنها.
أما الترجمات الأخرى لمعاني القرآن التي توافرت فيها الشروط المشار إليها سابقا وليست من هذا القبيل، فلا مانع من نشرها في البلاد الإسلامية ودراستها، بل قد يكون ذلك ضروريا بالنسبة للمسلمين الذين لا يعرفون اللغة العربية ويريدون معرفة معاني القرآن الكريم وما فيه من عقائد وأحكام وحكم وعلوم وآداب وقصص وأمثال وأحوال الآخرة وما أعده الله فيها للمؤمنين من نعيم مقيم، وللكافرين من عذاب أليم، وجزى الله خير الجزاء من ترجم معاني القرآن من علماء الإسلام ترجمة صحيحة سائغة ونشرها سدا لحاجة هؤلاء المسلمين في أقطارهم النائية، وتنويرا لبصائرهم وحماية لهم من أولئك الضالين المضللين.
وقبل أن نختم الحديث ندعو جميع الأمم الإسلامية إلى وجوب مراقبة ما يرد إليها من الترجمات للقرآن وعدم السماح بنشرها في البلاد إلا بعد التثبت من صحتها بواسطة لجان علمية إسلامية دقيقة البحث، وصدور قرار بإجازتها كما قررت الرابطة ذلك في مجلسها التأسيسي بمكة المكرمة.
والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين.(10/14)
فمن لها…
لفضيلة الشيخ محمد المجذوب
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة.
مظلومة يا طيبةُ الحبيبه
ومرة مأساتُك الغريبَه
والجارحوك اليومَ أولى بهمُ
لو ضّمدوا جراحَك الخضيبة
فيالمَطعونٍ بأيدي أهلهِ
يشكو –ولا يدري به- طبيبَه
شرّفكِ الله بمثوى سيدٍ
لم يَرَ قطّ ناظرٌ ضريبَه
نلتِ به ما لم ينلْه موطنٌ
من بركات ثَرّةٍ عجيبه
بها استحال القفرُ روضا وغدت
من سندس صحراؤك الجديبه
تجبي إليك الأرَضَونَ خير ما
تُخرجه آفاقها الرحيبه
وتَأرِزُ الأرواح للجّو الذي
قد مازجت أنفاسُه طيوبه
فكل شيء فيك سحر عجب
تبلى الدّنى وروحُه قشيبه
لكنْ …وما أوجعَ لكن…كم أرى
فيك إمرأ لا يتقي رقيبه!
وربما عمّ المشيبُ رأسَه
ولا يراعي –سادرًا- مشيبه
يمرّ بالمسجد لا يلوي على
داعي الهدى ولا يرى ذنوبه
فهو بعيدٌ عنك روحًا ودمًا
وأنت منه الرحمةُ القريبه
…يا شقوةَ الخاسر قد مكّن من
جنانِهِ شيطانَه وحُوبه
تغمره النّعمى ولا يشكرها
فيستحيل فيضُها مصيه
ولو وعاها ما جفاها لحظةً
ولا جفا إكسيرُها نُدوبه
…فمن لها…لطيبةَ الحريبه
إلاك يا مانحَها حبيبه(10/15)
العدد 28
فهرس المحتويات
1- لا أخوة بين المسلمين والكافرين ولا دين حق غير دين الإسلام: رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عبد العزيز بن عبد الله بن باز
2- من أعلام المحدثين - أبو الفرج ابن الجوزي 510 تقريبا - 597 هـ: بقلم فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
3- أثر المخدرات في تدهور الشعوب: بقلم فضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
4- حكم التبني في الإسلام: بقلم فضيلة الشيخ عبد الفتاح القاضي
5- كيف تكون مُدرسا ناجحا: بقلم فضيلة الشيخ عبد الرءوف اللبدي
6- معارك الدعوة الإسلامية: بقلم فضيلة الشيخ د. محمد حمد خليفة
7- مع المجاهد الأعظم. . ومنهجه في الجهاد: بقلم فضيلة الشيخ محمود عبد الوهاب فايد
8- الدعوة العامة لتحديد النسل ينكرها الإسلام: بقلم: فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف
9- شعر شوقي في ميزان النقد: بقلم فضيلة الشيخ محمد المجذوب
10- الأقليات الإسلامية في قارات الدنيا الخمس: بقلم فضيلة الشيخ محمد المنتصر الكتاني
11- مع الأخ أحمد جمال العتاب قبل الجواب: بقلم فضيلة الشيخ عطية محمد سالم
12- الفداء: بقلم فضيلة الشيخ عبد الله أحمد قادري
13- من أضاليل القاديانية: بقلم الشيخ عبد الغفار حسن
14- من المشكلات اللغوية في القرآن الكريم: بقلم فضيلة الشيخ عبد الجليل شلبي
15- قضايا أساسية في تطوير المكتبة العربية والإسلامية: بقلم الأستاذ عيد عبد الله عيد السيد
16- حول نظرية الالتزام - والعيب ما عابه الشرع - دراسات أخلاقية لمجتمع السلفي:
بقلم: فضية الشيخ السعيد الشربيني الشرباصي
17- من آيات الله في الكون: الضمان الاجتماعي
18- نداءٌ واحتكامٌ إلى ضمير العالم الإسلامي: بقلم السردار محمد عبد القيوم خان
19- من الصحف والمجلات - محنة الإسلام في الصومال: إعداد العلاقات العامة
20- ندوة الطلبة - عجباً لمن يرثى لقاتله: بقلم الطالب أحمد بن حسن المعلم
21- محاورة هادفة: بقلم محمد عبد الرحمن الأهدل
22- يا حماة الدين: بقلم الطالب عبد الرحمن عبد الرحمن شميله
23- أخبار الجامعة: إعداد: العلاقات العامة
24- الفتاوى: يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
25- ***
- إنا لله وإنا إليه راجعون
-كلمة للتاريخ
-صفحة مشرقة في حاضر العالم الإسلامي
بقلم فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
بقلم فضيلة الشيخ محمد شريف الزبيق
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(10/16)
لا أخوة بين المسلمين والكافرين ولا دين حق غير دين الإسلام
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: فقد نشرت صحيفة عكاظ في عددها 3031 الصادر بتاريخ 27/8/1394 خبرا يتعلق بإقامة صلاة الجمعة في مسجد قرطبة وذكرت فيه أن الاحتفال بذلك يعد تأكيدا لعلاقات الأخوة والمحبة بين أبناء الديانتين الإسلام والمسيحية. انتهى المقصود.
كما نشرت أخبار العالم الإسلامي في عددها 395 الصادر بتاريخ 29/8/1394 الخبر المذكور وذكرت ما نصه"ولا شك أن هذا العمل يعتبر تأكيدا لسماحة الإسلام وأن الدين واحد"إلى آخره.(10/17)
ونظراً إلى ما في هذا الكلام من مصادمة الأدلة الشرعية الدالة على أنه لا أخوة ولا محبة بين المسلمين والكافرين وإنما ذلك بين المسلمين أنفسهم، وأنه لا اتحاد بين الدينين الإسلامي والنصراني؛ لأن الدين الإسلامي هو الحق الذي يجب على جميع أهل الأرض المكلفين اتباعه, أما النصرانية فكفر وضلال بنص القرآن الكريم, ومن الأدلة على ما ذكرنا قول الله سبحانه في سورة الحجرات: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} الآية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره" الحديث، وقول الله عز وجل في سورة الممتحنة: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} الآية، وقوله سبحانه في سورة المجادلة: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، وقوله تعالى في سورة التوبة: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} الآية، وقوله سبحانه في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ(10/18)
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
وقوله عز وجل في سورة آل عمران: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} الآية، وقوله تعالى في السورة المذكورة: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} , وقوله عز وجل في سورة المائدة: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} الآية، وقوله سبحانه في سورة المائدة أيضاً: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} الآية، وقوله تعالى في سورة الكهف: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} ، ففي هذه الآيات الكريمات والحديث الشريف وما جاء في معنى ذلك من الآيات والأحاديث ما يدل دلالة ظاهرة على أن الأخوة والمحبة إنما تكون بين المؤمنين أنفسهم, أما الكفار فيجب بغضهم في الله ومعاداتهم فيه سبحانه، وتحرم موالاتهم وتوليهم حتى يؤمنوا بالله وحده ويدعوا ما هم عليه من الكفر والضلال.(10/19)
كما دلّت الآيات الأخيرة على أن الدين الحق هو دين الإسلام الذي بعث الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وسائر المرسلين وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "نحن معاشر الأنبياء ديننا واحد", أما ما سواه من الأديان الأخرى سواء كانت يهودية أو نصرانية أو غيرهما فهو باطل, وما فيه من حق فقد جاءت شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم به, أو ما أكمل منه؛ لأنها شريعة عامة لجميع أهل الأرض, أمّا ماسواها فشرائع خاصة نسخت بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم التي هي أكمل الشرائع وأعمها وأنفعها للعباد في المعاش والمعاد كما قال الله سبحانه يخاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} الآية، وقد أوجب الله على جميع المكلفين من أهل الأرض اتباعه والتمسك بشرعه كما قال تعالى في سورة الأعراف بعد ذكر صفة محمد عليه الصلاة والسلام: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} , ثم قال عز وجل بعدها: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} , ونفى الإيمان عن جميع من لم يحكّمه فقال سبحانه في سورة النساء: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ(10/20)
حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماًً} ، وحكم على اليهود والنصارى بالكفر والشرك من أجل نسبتهم الولد لله سبحانه واتخاذه أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله عز وجل بقوله تعالى في سورة التوبة: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتخذوا أحباراهم اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ يريدون أن يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون} .
ولو قيل إن هذا الاحتفال يعتبر تأكيداً لعلاقات التعاون بين أبناء الديانتين فيما ينفع الجميع لكان ذلك وجيها ولا محذور فيه، ولواجب النصح لله ولعباده رأيت التنبيه على ذلك لكونه من الأمور العظيمة التي قد تلتبس على بعض الناس.
وأسأل الله أن يوفقنا وسائر المسلمين للأخوة الصادقة في الله والمحبة فيه ومن أجله وأن يهدي أبناء البشرية جميعاً للدخول في دين الله الذي بعث به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم والتمسك به وتحكيمه ونبذ ما خالفه؛ لأن في ذلك السعادة الأبدية والنجاة في الدنيا والآخرة وحل جميع المشاكل في الحاضر والمستقبل إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه ...(10/21)
الأقليات الإسلامية في قارات الدنيا الخمس
بقلم فضيلة الشيخ محمد المنتصر الكتاني
المستشار العام لرابطة العالم الإسلامي بمكة
يبلغ تعداد المسلمين في الأرض سبعاً وعشرين مليوناً وثمانمائة مليون نسمة، أكثريات في دول غير مسلمة وشعوب وأقليات في شعوب غير مسلمة ودول.
والأقليات المسلمة التي تساكن أكثريات غير مسلمة، يقارب عددهم الثلث من جميع مسلمي الأرض: يبلغون أكثر من ستة وخمسين مليوناً ومائتي مليون نسمة، في قارات آسيا من الأقليات اثنان وثلاثون مليوناً ومائتا مليون مسلم.
وفي إفريقيا منهم اثنان وعشرون مليوناً مسلماً.
ويسكن أوربا منهم سبعة وعشرون مليونا من المسلمين.
وفي أمريكا مليونان من المسلمين أقليات.
ويسكن قارة أوقيانوسيا: استراليا وغيرها سبعون ألف مسلم ومائتا ألف من المسلمين أقليات.
وهذه الأعداد من المسلمين: أكثريات وأقليات، آخر ما وصل إليه إحصاء جمعية الأمم في العام الماضي، وإحصاء مؤسسات إسلامية مختصة وشخصيات.
وأكبر الأقليات وأكثرها عدداً، مسلمو الصين والهند وروسيا والفليبين وتايلاند وبورما.
فمسلمو الصين ستة وثمانون مليوناً, ومسلمو الهند ثلاثة وثمانون مليونا, ومسلمو روسيا خمسون مليونا, ومسلمو الفليبين أربعة ملايين، وتايلاند خمسة ملايين، وبورما ثلاثة ملايين مسلم؛ وسيلان مليون.
وفي بعض دول آسيا ودول إفريقيا مفارقات شاذة: أكثريات إسلامية تحكمها أقليات غير مسلمة، منها كمثال والمثال لا يخصص، الحبشة والمسلمون فيها قريب من السبعين في المائة، وتشاد ومسلموها خمس وثمانون في المائة، والسنغال والمسلمون فيها خمس وتسعون في المائة، وتانزانيا ومسلموها ثمانية وستون في المائة.(10/22)
وهذه الأكثرية المسلمة المغلوبة على أمرها، هي مع الأقلية الحاكمة غير المسلمة أشبه بالأقليات الإسلامية مع الأكثرية غير المسلمة: اضطهاداً وقهراً وتجويعاً واستئثاراً بخيرات البلاد: وظائف داخلية وخارجية وتجارية وصناعة وزراعة، وحجراً على الحريات: حريات العقيدة واللغة والتعلم والتعليم، والطباعة والنشر والترجمة، والتقاليد والعادات وأسلوب الحياة، والسفر للخارج للحج أو الدراسة أو التجارة، إلا النادر من هذه الأقليات الحاكمة، وقديماً قيل: النادر لا حكم له.
وهذه الأقليات الإسلامية في قارات الدنيا الخمس، بإعدادها الستة والخمسين مليوناً ومائتي مليون مسلم قد زارها وتخلل أرضها وسماءها، برها وبحرها وفنائها، بطاحها الخضراء وصحاريها الجرداء وغاباتها الغناء، طائراً ومبحراً وزحفاً بالقطار والسيارة، قد جاس خلال قاراتها الخمس سبعة وفود، أوفدتهم إليها رابطة العالم الإسلامي خدمة للإسلام والمسلمين، بتوجيه خادم الحرمين الشريفين الملك الإمام فيصل بن عبد العزيز، ومن بين الوفود السبعة أب وابن قد زارا ضمن وفدين أربع قارات من الخمس: أسيا وأوقيانوسيا وأوروبا وأمريكا، وتعداد أقلياتها المسلمة أربعة وثلاثون مليوناً ومائتا مليون نسمة، ولم يبق عليهما ممن لم يزوراه إلا الأقليات المسلمة في إفريقيا، وعددهم لا يتجاوز اثنين وعشرين مليوناً.(10/23)
وبالعلم معرفة، وبالرحلة خبرة، أتكلم وأخطب وأصرح، وأرفع صوتي عالياً من على منبر هذه القاعة قاعة المركز العام لرابطة العالم الإسلامي وقد جمع لها الناس من مختلف قارات الأرض، لحج بيت الله الحرام ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله على أيام معلومات أعلن بأن هذه الأقليات الإسلامية بملايينها الستة والخمسين والمائتين، الموجودة في جميع قارات هذا الكوكب الأرضي، تعيش تحت تسلط الأكثرية غير المسلمة من مواطنيهم واستعبادهم، حقوقهم قليلة، وواجباتهم كثيرة، احتكرت الأكثرية: القيادة والسيادة والسلطان تشريعاً وتنفيذاً، أمراً ونهياً، تعلماً وتعليماً، تقاليد وعادات.
استباحت الأكثرية الطاغية نساء أقلية المسلمين زوجات لهم، وإسلامهم يأبى ذلك، ويعتبره سفاحاً، لا أثرله في نسب ولا نفقة ولا إرث، ولم يعترف لهم بأحكام شخصية ولا عامة فلا محاكم لهم وفق دينهم، ولا مدارس ببرامج ثقافتهم ولغة نبيهم، فضلاً عن المعاهد العليا والجامعات، وتأسيس الجمعيات لمصالحهم وتكوين الجامعات.
أما الأقليات الإسلامية ذات عشرات الملايين، في الصين وروسيا والهند وتايلاند وبورما وسيلان والفليبين ويضاف إليهم الأكثرية الإسلامية التي تحكمها الأقلية غير المسلمة: في الحبشة وتانزانيا وتشاد وغيرها. وهم يعيشون بين حاكميهم وغير المسلمين من مواطنيهم أسرى، يستعبدون الرجال منهم والنساء، في الدور والإدارات والمصانع والمزارع، وفي تكنيس الأزقة والشوارع والطرقات، ليس لهم في قوانينهم كرامة للإنسان ولا حتى رحمة الحيوان.(10/24)
يذبحون رجالهم ولا يستحيون نساءهم، لأقل بادرة تبدو منهم ولو كانت هذه البادرة صيحة في وجه ظالم، أو تأففاً من اعتداء باغ، طرحوا الآلاف ومئات الآلاف بل الملايين من أرض لهم، حسدوهم على خصبها ومياهها، وخيراتها الباطنة والظاهرة، طردوهم منها إلى صحار وجبال لا تمطر ولا تنبت، وكاثروا تكتلاتهم وتجمعاتهم بعشرات الآلاف ومئات الآلاف بل وبالملايين ليذيبوهم فيهم، ويبعثروهم أيدي سبا ضائعين تائهين.
هدموا الكثير من مساجدهم، ومدارسهم، وجعلوا منها خمارات ودور فساد، ومعابد لنصب وأوثان، ومنعوهم حتى من دفن موتاهم مسلمين، فحرموا عليهم غسلهم والصلاة عليهم، وإفرادهم بمقابر ومدافن، ومن عارضهم في شيء من ذلك، قتلوه ضرباً بالسيف، ورمياً بالرصاص، وقصفاً بالرماح، وشنقاً بالحبال، كل هذا حدث في روسيا والصين والهند وتايلاند وبورما، وسيلان والفليبين والحبشة وتنزانيا وإريتريا وتشاد، ولا يزال يحدث، وعلى ضروب وأشكال من الفتك والتدمير والطغيان، وهو ما فجر الثورات الإسلامية في هذه البلاد، فسحق بعضها بوحشية وقسوة دونها قسوة وحوش الغاب, وبعضها لا يزال قائماً يستغيث ويستنجد إخوانه المسلمين في العالم، ومنها حروب التحرير في الفليبين وتايلاند وإريتريا.(10/25)
أما تايلاند فمسلموها ذو الملايين الخمسة، فكأنهم الحيوانات السائمة، فلا حقوق لهم في تعليم ولا وظائف ولا بعثات دراسية في الخارج، وحتى البلديات ليس لهم فيها رأي ولا مشورة واستنكر ذلك مسلمو تايلاند واحتجوا رافعين أصواتهم بالألم والشكوى، فلم يشكهم إخوانهم المسلمون في العالم الإسلامي ولم تشكهم جمعية الأمم، ولا المحافل الدولية، فانفجروا بثورة مسلحة في جبال ولاياتهم التي يتكتلون فيها ولا تزال الثورة ملتهبة ولكن تواطأ على إخمادها صحف الأكثرية البوذية، وأجهزة الإعلام الدولية البوذية، وجميع أجهزة الإعلام في العوالم الأربعة: الوثنية والملحدة واليهودية والصليبية، عملوا لإخمادها بإغفال ذكرها بل وإنكارها حين عجزوا عن إخمادها بالحديد والنار والأسلحة الجهنمية، وحين عجزوا عن إخمادها باستسلام أبطالها وقاداتها.
وقد اجتمعنا بملك تايلاند والمارشال رئيس وزرائه وأعضاء من وزارته فطلبنا الرفق بالمسلمين ومعاملتهم معاملة المواطنين، فوعدونا وأنكروا وجود ثورة مسلحة في تايلاند، فعقدنا ندوة صحفية لإعلان حال المسلمين في البلاد وإذا بالصحافة تصدر في اليوم التالي منكرة علينا ما أسمته التدخل في أمور تايلاند الداخلية، واستعدت علينا حكومتها محتجة هائجة.
أما بورما فقد أخذت جميع أموال مسلميها المنقولة والعقار، وأفقرتهم فجأة بعد أن كانوا فيها هم رجال المال والأعمال تجارة وصناعة وزراعة واضطهدوا ومنعوا من مغادرة البلاد ولو للحج، وسجن منهم عشرات الآلاف، وعذبوا وطوردوا بذنب وبغير ذنب، حتى انفجرت فيها كذلك ثورة إسلامية مسلحة، وظنوا أن إغفال أجهزة إعلامها إذاعة وصحافة سيخمدها، حين عجز الجيش عن إخماد أوارها، فعلت بورما فعل تايلاند مع ثورة المسلمين.(10/26)
وأما الفليبين وما أدراك ما الفليبين؟ فقد اتخذ طاغيتها ماركوس من الفليبين معسكراً لقوى الشر من أعداء الإسلام والمسلمين في الأرض: الوثنية بكل أشكالها والإلحاد بكل أنواعه وبمختلف أسمائه، واليهودية العالمية والصليبية الدولية، اتخذ منهم ماركوس حلفاء له، وجعل جزر المسلمين وتدمير المسلمين، لا في الفليبين وحدها، بل وفي جميع منطقة الشرق الأقصى، بجميع شعوبها الإسلامية أكثريات وأقليات.
فالمئات من أوكار التضليل التي تسمي نفسها: التبشير، تتفنن في اتخاذ العناوين الخداعة لأسماء مؤسساتها، من دورحضانة للأطفال، إلى الجامعات، ومن المستوصفات إلى المستشفيات إلى الكنائس والأديرة، والبعثات الصادرة والواردة، لإخراج المسلمين من دينهم، وتشكيكهم في الله الواحد وكتابه ونبيه خاتم الأنبياء، ويغرون الشباب فتيات وغلماناً لذلك، بالمال وببعضهم وبأنواع من الملاهي واللعب ويسخرون لهم الآلاف من الكهنة رجالاً ونساء ومن كل جنس ليقوموا على تضليلهم مع بذل مئات الملايين من الجنيهات والدولارات رواتب ونفقات وعطايا.
وماركوس جنّد صليبية لعشرات الآلاف من المحاربين، وسلحهم بجميع أنواع الأسلحة الفتاكة الحارقة والمدمرة، طائرة وعائمة وغواصة وزاحفة، لتخريب جزر الفليبين ومناطقهم، وتصفية الإسلام عقيدة ولغة وعلماً وتصفية المسلمين فيها رجالاً ونساء، شيوخاً وأطفالاً، جماعات وأفراداً.
ويهود فلسطين المحتلة، ويهود أمريكا، اليهودية العالمية، يدربون المدنيين من صليبي الفليبين على القتل والاغتيال، الفردي والجماعي، وعلى تحريق الفرد والجماعة وهدم البيوت والإحياء على ساكنيها أيقاظاً أو هم رقود، ومن أفلت منهم يفر بنفسه وتبقى لهم أرض المسلمين خاوية من أهلها، فيستولون عليها ثم يجعلون لها صكوكاً وملكيات يزعمون فيها أنهم اشتروها من أهلها عن طيب خاطر منذ سنوات.(10/27)
وهؤلاء اليهود الذي يدربون النصارى الفليبين، هم خبراء المخربين اليهود في فلسطين منذ الانتداب البريطاني وإلى اليوم، قالوا لماركوس: هذه أنجع طريقة لحرب المسلمين، وبها نحن تسلطنا على فلسطين واستولينا عليها، والمسلمون هم المسلمون عربا كانوا أو غير عرب، لا تفيد معهم حرب القانون والنظام ولكن حرب المكر والخديعة والضرب من الخلف وقالوا له: وضرب المجاهدين من المسلمين يكون بذبح نسائهم وأطفالهم وهدم بيوتهم عليهم وحرقها، فاستجاب لهم الصليبي ماركوس وصادف ذلك هوى في نفسه ونفذ لهم جميع تعاليمهم.
وصدق الله العظيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} .
واجتمع بنا ماركوس مرتين: مرة قبل لقائنا بإخواننا المسلمين في جزرهم، ومرة أخرى بعد اجتماعنا بهم، ومقامتنا بينهم ليالي وأياما، فقصصنا عليه قصصهم وما أصابهم من ضرّ وبلواء، من جنده وبنيه من الفليبين النصارى وحلفائهم، فوعدنا باستقلال المسلمين في ولايتهم وجزرهم الاستقلال الذاتي، ولكن لا يزال يراوغ بوعوده مراوغة الثعلب، يلتوي بها التواء الأفعى.
ومسلمو الهند الذين يربو عددهم على الثمانين مليوناً، والذين هم بعد مسلمي الصين أكبر أقلية مسلمة بين شعوب ودولة غير مسلمة، وعلى كثرتهم يعمل الهندوس جاهدين على مكاثرتهم والفيضان عليهم بقوانينهم الهندوسية، وبمئات الملايين من الهندوس.
هم أيضاً يكاد لهم بإلغاء ثقافتهم الإسلامية، ولغتهم الدينية، وأحكامهم الشخصية والعامة، وتقليص معاهدهم وجامعاتهم ومداسهم وجمعياتهم، ليذوب كل ذلك في الوثنية الهندوسية، وتذوب شخصيتهم في الهندوس، وعلى كثرة مسلمي الهند لا وظائف قيادية لهم، لا عسكرية ولا مدنية، لا تشريعية ولا تنفيذية وهي تتقلص وتتراجع بينهم يوماً عن يوم وعهداً بعد عهد.(10/28)
ولدفع مسلم لبقرة عن مسار سيارته أو كلاء مزرعته، يقتل الهندوس من أجلها عشرات المئات من المسلمين. بل والآلاف منهم في كل أرض من الهند وكل مقاطعة، وقد يغني الطرف عن ذلك الشرطة، وقد يشاركون هم أيضاً مواطنيهم الهندوس في الضرب والتقبيل.
وقد اجتمع بنا كذلك وزير خارجيتهم ووزراء معه وقصصنا عليهم ما يعلمون عن مواطنيهم المسلمين فوعدونا بإصلاح أحوالهم.
وبعد فالأقليات الإسلامية بين الأكثريات غير المسلمة، يراد تصفيتها والقضاء عليها جسدا وديناً وكياناً وحضارة ولغة كما رأيتم وسمعتم، أيجوز هذا أن يبقى ويستمر؟ ونحن بعد لا نزال نعمر من العالم قارتين، ونشارك الباقين في القارات الأخرى الثلاث؟ ولنا مع ذلك مقاعد دولية تعد بالعشرات، ولنا دول وجيوش وثروات فاضت بركاتها على الدنيا، أيجوز أن يستمر هذا ويدوم ونحن نكاد نصل للمليار عداً ووجوداً؟
يهودي واحد إذا مسّ في أي رقعة من رقاع الأرض، تعاوى له اليهود من كل جانب، وتعاوى معهم جميع حلفائهم من قوى الكيد للإسلام وعدوانه: ملاحدة ووثنيين وصليبيين, ونصراني واحد إذا مسّ كذلك في ركن من العالم تصايحت له أمريكا وأوروبا والدنيا كلها، ومنها المجامع الدولية في كل القارات.
والمسلمون يعذبون ويضطهدون ويقتلون، وتستباح أرضهم، وتغتصب أموالهم وتسرق خيراتهم بالآلاف والملايين، ولا يرفع صوت بشكوى ولا ألم، لا بين القارات، ولا بين الشعوب، ولا في المجالس الأممية ولا في المحاكم الدولية.
أيجوز إذا سكت هؤلاء راضين أو متواطئين، أن يسكت المسلمون وهم خير أمة أخرجت للناس ورسالتهم التي أرسلوا بها للناس، إنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله؟(10/29)
أيجوز إذا سكت هؤلاء راضين أو متواطئين، أن يسكت المسلمون وكتابهم يفرض الأخوة بينهم؟ ويقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} , والنبي الهادي صلوات الله وسلامه عليه يؤكد ذلك ويفسره فيقول: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه. والمسلمون يد على من سواهم".
هذا والأديان الأخرى قد استوفت أغراضها ونسخت، ورسلها قد أدت رسالاتها وانتهت، لتترك لخاتمهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم رسالة الكون والعالم، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين وكتابه يقول: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} , ويقول: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} . وسنته تقول: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون عليه، لا يضرهم من خذلهم، وهم على ذلك إلى يوم القيامة".
ويطلب كتاب دعوة الداعية الإسلامي الأمين العام لرابطة العالم الإسلام محاضرة عن الأقليات الإسلامية وواجب المسلمين تجاههم للأقليات الإسلامية على إخوانهم المسلمين واجبات لا واجب واحد، لهم واجبات على المسلمين: حكومات وشعوباً، جماعات وأفراداً علماء وعامة، أغنياء وفقراء، كل حسب قدرته وكل حسب علمه، وكل حسب ماله وعمله.
فواجب العلماء هو الحفاظ على الإسلام بين هؤلاء المسلمين الأسرى بين يدي الأكثرية غير المسلمة، أن يعلموهم دينهم عقائد ونظماً وأحكاماً ابتداء من ترجمته للغتهم، وإنتهاء بتعليمهم دينهم بلغة كتاب ربهم القرآن الكريم، وبلغة نبيهم وشريعته عليه أفضل الصلاة والتسليم، التي لا يتم معرفة الإسلام كتاباً وسنة وإجماعاً وفقهاً إلا بها.(10/30)
وعلى العلماء أن يرحلوا إلى هؤلاء الأقليات الإسلامية، فيخالطوهم في مجتمعاتهم وأوساطهم، ويشرفوا على مدارسهم ومساجدهم، ونواديهم وجمعياتهم، وصحافتهم الخاصة بهم، يسعوا للربط بينهم وبين إخوانهم المسلمين في دولهم وشعوبهم ليحسوا بهذه الأخوة الإسلامية روحاً ومادة، وليقوموا بحقوقها وواجباتها.
وتكاد هذه الأقليات في أكثريتها الكاثرة في قارات الدنيا الخمس، لا تعرف عن دينها إلا أنها مسلمة بالوراثة أو بالرحلة، فلا تعرف صلاة ولاصياماً ولا زكاة ولاحجاً، فضلاً عن معرفة الإسلام: حلاله وحرامه وآدابه، فلا تعرف قرآناً ولا سنة ولا فقهاً، ولا تعرف علماً من علوم الإسلام، لا تاريخاً ولا سيرة ولا تراثاً.
وقلة لا تكاد تذكر هي التي تعرف بعض ذلك، وفي بعض الأقليات المسلمة فقط، وهذه المعرفة على قلة أهلها بينهم، لا تروي غلة، ولا تشفي علة، ولا تخرج من جهل.
وقديماً قال نبي الإسلام والعالم صلوات الله وسلامه عليه:"العلماء ورثة الأنبياء ". وما هذا الإرث الذي ورثوا النبوة فيه، إلا الدعوة إلى الله والدعوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم والدين الحق دين الإسلام، يدعون إليه بالحال والمقال رحلة ومقاماً، كتابة وخطابة، تعليماً وهداية، باللسان والقلم، وبالمدارسة والمحاضرة والمسامرة في الدار والمسجد والمدرسة، وإن لم يفعل العلماء هذا، فقد أخلوا بواجب الأمانة في الإرث النبوي وأوشكوا أن يشملهم وعيد الله في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ فأولئك أتوب عليهم وأنا} .(10/31)
وواجب المفكرين من الكتاب والأدباء نحو إخوانهم المسلمين بين الأكثرية غير المسلمة، أن يفكروا لهم في المخرج من ظلمهم، واضطهادهم، وتذويبهم فيهم، وتغيير أسمائهم الإسلامية، والبعد بهم عن دينهم، أسرة ومجتمعاً، ومنعهم من تعليمه في مدارسهم، والرحلة لتعلمه في ديار المسلمين، وتردد هؤلاء المفكرين من الكتاب والأدباء على إخوانهم الأقليات المسلمة في بلادهم، للتعرف بهم، والتعرف على آلامهم وآمالهم، والسعي للوصول إليها وزوال ما يتألمون منه، بين الشعوب الإسلامية ودولهم، كل في محيطه، وعلى ما يستطيعه وتصل إليه يده.
وواجب رجال الإعلام نحو إخوانهم بين غير المسلمين، أن يتبعوا أخبارهم منهم، وفي بلادهم، ومن أجهزة إعلامهم صحافة وإذاعة وتلفزة، وندوات ومجتمعات، ونشرات وكتباً، فينشروا ذلك بدورهم: السّار منهم ليسرّ به إخوانهم المسلمون، والضارّ منه ليهتم به المسلمون، ويبذلون الجهد لزواله والمواساة فيه بالنفس والدرهم والكلمة الطيبة. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ".
يجب على المسلمين من أعلام الكلمة: صحفيين وكتاباً ومذيعين وخطباء، وناشرين ومؤلفين وأدباء وشعراء أن يهتموا جميعاً بأحوال هؤلاء الأقليات من إخوانهم المسلمين، فيعلنوا حالهم ووضعهم بين الأكثرية غير المسلمة في بلادهم، بعد تتبعها ومعرفة ظاهرها وخفيها، سارها وضارها، خاصها وعامها، وينشروه في صحفهم ومجلاتهم، ويكتبوه في رسائلهم ونشراتهم، ويخطبوا به على المنابر وبين جميع الناس، ويجعلوه ضمن مطبوعاتهم ومؤلفاتهم، ويصدر عنه الأدباء قصصاً وروايات، وينظمه الشعراء قصائد ومعلقات، ليكونوا بذلك كما يأمرهم نبيهم عليه الصلاة والسلام:"يداً على من سواهم ". يداً للأخ المسلم المظلوم، ويداَ على ظالمه والمعتدي عليه.(10/32)
وواجب الدول الإسلامية: ملوكاً ورؤساء وحكومات، أن يبعثوا إليهم الوفود دون انقطاع، ليعلموا حالهم ويعرفوا شكواهم وممن يشكون؟ وما الذي يريدون؟ إن كانوا يريدون مدارس ومساجد أشادوها لهم وقاموا عليها وإن كانوا يريدون معلمين وكتباً وهداة أعطوهم من ذلك ما يكفيهم، وإن كانوا يريدون بعثات من طلابهم للخارج، أنفقوا عليهم وحققوا لهم رغباتهم، كما فعل ويفعل الملك الإمام الداعية فيصل أيده الله وخذل شانئيه.
ويجب على الدول الإسلامية: ملوكاً ورؤساء وحكومات، أن يرفعوا عن إخوانهم المسلمين ظلم مواطنيهم الأكثرية، بما يملكون لرفع ذلك الظلم، بجاههم في المؤتمرات الإقليمية وفي المحافل الدولية، وأن يزيلوا عنهم العنت برجالهم وأموالهم.
وأقترح على الحكومات الإسلامية أن يخصصوا وزيراً من أعضاء وزاراتهم، لشؤون الأقليات الإسلامية في كل ما لهم وعليهم، ويحمل هذا الوزير لقب: وزير الأقليات الإسلامية, أقترح على جميع الحكومات الإسلامية أن تفعل ذلك.
وأقترح على الحكومات الإسلامية أن يكون سفيرها في الدول غير المسلمة ذات الأقليات المسلمة، من المتخصصين في الشؤون الإسلامية والدارسين للإسلام جيداً، وأن يكون جميع أعضاء سفارته أو قنصليته من الملتزمين للإسلام: واجبات وآدابا، لأن السفارة الإسلامية في البلاد غير الإسلامية بين الأقلية المسلمة تكون مرجعاً للمسلمين فيها للسؤال عن دينهم وتكون موضعاً للإقتداء بها والأسوة في سلوكهم وأخلاقهم.
ويجب على المؤتمرات الإسلامية الدولية، أن تنتخب من بين الأقليات المسلمة من يمثلها لديها، ويجب أن يكونوا من مسلميهم الواعين الصادقين والدعاة بينهم، وأن تكون عضويتهم في هذه المؤتمرات عضوية كاملة رأياً ومشورة وصوتاً.(10/33)
وكذلك يجب على المؤتمرات الإسلامية الشعبية، أن تفعل، فتنتخب من بين الأقليات الإسلامية من يمثلها بينها، وعياً وصدقاً ودعوة، كما صنعت وتصنع رابطة العالم الإسلامي، وفق الله الموجهين لها والقائمين عليها.
وبذلك يتم التآخي بين جميع مسلمي الدنيا: أكثريات وأقليات، وبذلك يتم التناصر والتآزر في مؤتمراتهم الدولية وفي مؤتمراتهم الشعبية، بحيث لا يبقى في المسلمين من هو مهمل من إخوانه المسلمين أو من هو في عزلة عنهم، "فالمسلمون يد على من سواهم، ويقوم بذمتهم أدناهم, والمسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً "كما يأمر رسول اله صلوات الله وسلامه عليه.
إنما العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون.
والحمد لله رب العالمين. . .(10/34)
مع الأخ أحمد جمال
العتاب قبل الجواب
بقلم فضيلة الشيخ عطية محمد سالم
القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة
منذ توفي والدنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمة الله عليه وطلاب العلم يتبادلون التعازي في فقيد العلم وراحل العلماء. ولا يزالون في كل مناسبة وعند كل بحث علمي يتذكرونه ويتذاكرون حديثه ويعرضون أقواله, فهم لا يزالون يعيشون في ظل تراثه العلمي, وما خلفه من نفائس التأليف.
غير أن الأخ الأستاذ أحمد جمال توجه إلى ما كانت تنشره مجلة الجامعة الإسلامية في حياة الشيخ رحمة الله تعالى عليه من كتابه (دفع إيهام الاضطراب) وأداه توجهه إلى وجهات نظر عنده بعث بها إلى مجلة الجامعة لنشرها فأحيلت إلى المسئولين ليروا رأيهم في صلاحية نشرها. وقبل جوابهم عليها بعث بها إلى مجلة التضامن الإسلامي فنشرتها حالاً على ما هي عليه طبعاً.
وكان هذا العمل من الوجهة الصحافية قد يعتبر من حرية الصحافة وإن اتسم بالعجلة وعدم التريث.
ولكن من الناحية العلمية والموضوعية قد لفت أنظار طلاب العلم وخاصة أبناء الشيخ وتلامذته فكتب الأخ أحمد الأحمد بياناً لنواح علمية ونشر في جريدة المدينة. فلم يرق للأخ أحمد جمال ما نشر فكتب في جريدة عكاظ تعقيباً على الرد وجاء بما لا ينبغي لمثله أن يأتي به.
فكتب الأخ أحمد الأحمد ليرد عن نفسه فلم تفسح له ولا جريدة مجالاً آنذاك للنشر ولغرض ما كان ذلك.
فكتبت للأخ أحمد جمال عتاباً قبل الجواب ولكنه لم ينشر ولأمرٍ ما أيضاً فتركت وشغلت ولربما كان الترك نوعاً من الرد.(10/35)
غير أن الأخ أحمد جمال لم يترك, بل ولم يكتف بالصحف المحلية ولا بجرائد المملكة, فراح إلى خارجها فعبر الصحراء وقطع الربع الخالي حتى وصل إلى الشقيقة الكويت فنشر في الزميلة مجلة الوعي الإسلامي, وبنفس الموضوع حول دفع إيهام الاضطراب مع تغييره في العنوان فقط, ولست أدري ما الحامل على ذلك أهو الحرص على نشر العلم والمعرفة؟ فإن الموضوع لم يتغير والصحف والمجلات تغطي المنطقة.
أم هو تجاهل مكانة الصحافة؟ وكانت في وقت ما تسمى (صاحبة الجلالة) لحريتها واحترام كلمتها, أم هو إستجهال القراء بتغيير العنوان فقط؟ أم هي أشياء أخرى تعتمل في نفسية الكاتب ولم يستطع الإفصاح عنها ولم يستطع أيضاً الإفلات من جاذبيتها ولا الخروج عن نطاقها فراح يكتب هنا وهناك؟.
ومرة أخرى: فقد نقرأ حتى لطالب ثانوي في موضوع يناسب مرحلته الدراسية فنكبره ونقدر كتابته ونقرأ لأستاذ توجيهاً فنستمع إليه ونستفيد منه.
ولكن أن نقرأ لكاتب نقاشاً علمياً مع كبار العلماء ولم يقدم ولا دليلاً علمياً على ما يأتي به فهذا مالا يستسيغه قارئ ولا يقدم عليه كاتب مخافة من خطيئة وتجنباً لزلة.
وهذا ما كنت أظنه بالأخ أحمد جمال ولكنه سارع فماذا كانت النتيجة وماذا بعد الخطأ في العقدية إذ يقول في كلام الشيخ رحمة الله تعالى عليه عن أخذ الكتب يوم القيامة باليمين وبالشمال ومن وراء الظهر, إنه لا كتب ولا يمين ولا شمال ولا وراء ظهر, إنه ضري مثال عن اليمن والتشاؤم, أبمثل هذا القول وبمثل هذه الجرأة على الله وعلى كتابه يرد ويناقش كبار العلماء.(10/36)
ولو تساءلنا مع الأخ أحمد جمال بأي نوع من أنواع الدلالات أخذت هذا المعنى؟ إن القرآن ليدل في هذا المعنى بدلالة التطابق على وجود الكتب وعلى أخذ الناس كتبهم بأيديهم فالمؤمن يأخذ كتابه بيمينه والكافر يأخذه بشماله أو من وراء ظهره، والقرآن يدل بدلالة الالتزام على وجوب الإيمان بذلك بدون تأويل ولا تعطيل, ويدل بدلالة الإيماء والتنبيه أن من رد ذلك فهو من جهله وفساد عقيدته وهذا ما أربأ به عنه.
وقد يكون قد رآه في بعض كتب التفاسير مما لا يفرق بين رأي المعتزلة وغيرهم ولم يحاول الأخ أحمد جمال أن يقف عنده ويرد أو يناقشه بمدلول منطوق القرآن.
وحيث أن الأخ أحمد جمال لم يكف عن الكتابة ولا يزال يبعث بمقاله هنا وهناك على ما فيه من أخطاء علمية وتهجمات أدبية على سلطان العلماء العز بن عبد السلام ووالدنا الشيخ محمد الأمين فقد استوجب زيادة العتاب عليه ولزم الكتابة إليه فعدت إلى الموضوع وفي مجلة الجامعة.
وبعد هذا فليكتب الأستاذ ما شاء وليبعث به إلى حيث أراد فإن جاء بجديد فعسى أن يفيد وإن كان تكرارا لما قال ويقول فإن الباطل لا يروج أكثر من مرة والخطأ لا يصححه التكرار.
فأقول وبالله التوفيق:
بسم الله أبدأ وبه أستعين والحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على أشرف الخلق أجمعين وخاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد. . . فإلى الأستاذ أحمد محمد جمال حفظه الله.(10/37)
سلام الله تعالى عليك ورحمته وبركاته كنت منذ عدة أشهر سمعت أنك كتبت مقالاً حول (دفع إيهام الاضطراب) لوالدنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله وقد قرأته على شكل مقالات في مجلة الجامعة الإسلامية وكان مقالك عبارة عن ملاحظات على الكتاب وبعثت به إلى سماحة رئيس الجامعة لاستطلاع رأيه ونشره في المجلة وسمعت أن سماحته أحاله على جهة مختصة فلاحظت عليه ما يمنع نشره وأعادته لسماحته مع ملاحظاتها عليه.
ثم فوجئت بنشر المقال في مجلة (التضامن) وبدون ملاحظة ولا تعليق عليه وإن كان هذا حقا من حقوق كلتا المجلتين من قبول ورفض فقد عجبت لنشره أكثر من كتابته وبما أن الحقيقة العلمية هي بغية كل محق وهدف كل باحث وغاية كل منصف تصفحت المجلة وطالعت المقال فبدت لي ملاحظات من عدة جهات حتى في العقيدة من حيث النفي والإثبات لحقائق القرآن وصريح النصوص ودلالة المطابقة في بعض ما تناوله مقالكم ورغبة في بيان الحقائق وواجب النصح أحببت إخبارك بها ولكن قبل إبدائها والتحدث فيها لي معك عتاب أخوي قبل البحث العلمي يتلخص في الآتي:
أولاً: بنيت مقالك على أن الشيخ رحمه الله توهم اضطراباً في آيات كتاب الله ثم راح يدفعه والحال في نظرك أنه لا إيهام ولا اضطراب والواقع أن هذا وهم منكم سبق إليكم في حق الشيخ وسأحاول دفعه عنكم إن شاء الله في بيان حقيقة الكتاب وسبب تأليفه وعتابي عليك هنا: أنك كتبت المقال وأبديت الملاحظات على كتاب لم تطلع على مقدمته وهذا ما ساقك إلى توهمك في الشيخ ما لم يكن فيه، وملاحظاتك على كتاب ما ليس فيه ومعلوم أن مقدمة كل كتاب هي توجيه لما فيه وهي موجز موضوعه ومرآة محتوياته.
فمثلك يعاتب على ملاحظاته على كتاب لم يقرأ مقدمته أو قرأها ثم أغفلها. .(10/38)
ولو كنت قرأتها قبل ذلك لعرفت هدف الشيخ رحمه الله ولكانت استفادتك من الكتاب أكثر ولقدمت للشيخ وافر الشكر وسألت الله له الرحمة والرضوان ولعل مما يكشف عن حقيقة هذا الكتاب ويدفع ما توهمته في الشيخ وقوفك على سبب تأليفه كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن معرفة أسباب النزول تعين على فهم الآيات", فكذلك هنا معرفة سبب التأليف تعين على فهم موضوع الكتاب، والغرض من تأليفه، ومعلوم لديكم ما يقوله الأدباء والكتاب والنقاد:
إن معرفة ظروف وملابسات إنشاء القصيد وكتابة المقال تحدد نقاط النقد وتضع الميزان الصحيح للناقد الموجه بناء على أن لكل مقام مقال.
وحقيقة هذا الكتاب وسبب تأليفه يخصني في الدرجة الأولى وأستطيع أن أقول: إنما وضع بسببي إن لم يكن من أجلي وذلك حينما كنت أقرأ على الشيخ رحمه الله تفسير سورة البقرة وكان رحمه الله مخصصاً لي حصة يومياً ما بين المغرب والعشاء. . ومكثت فيها لمدة سنتين في تلك الحصة وكان رحمه الله يأتي بما فتح الله عليه من دقائق التفسير ولطائفه. . على أن تفسير هذه السورة يعتبر أساساً لتفسير القرآن كله. فكان رحمه الله يمعن في بيان شتى علوم القرآن من بلاغة ولغة وأصول وأحكام وغير ذلك وخاصة بيان أوجه الجمع بين بعض الآيات التي ظاهرها التعارض، وبيان أقوال السلف في ذلك ابتداء من قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} مع قوله تعالى: {هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى} , ومثل قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} , مع قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} , ومثل ذلك كثير مما هو مسطور في الكتاب.
فسألته: وهل يوجد تأليف يوقف طالب العلم على هذه الأوجه للجمع بين تلك الآيات؟
فأجاب: أنه لم يطلع على مثله.(10/39)
ورغبته في وضع رسالة في ذلك خدمة لكتاب الله وتسهيلا لطلاب العلم، لأنها توهم كما يوجد في الأحاديث ما يوهم ويحتاج إلى بيان أوجه الجمع. فشرع رحمه الله في تأليفه في أوجز وقت وذلك في عطلة المذاكرة قبل الاختبار حوالي العشرين يوماً وأعطانيه أبيضه للطبع فكانت لي دراسة خاصة لجميع نقاطه وكنت أعرف الناس بموضوعه وقد أشار رحمه الله في مقدمته بأوضح عبارة حيث قال ما نصه:
"أما بعد فإن مقيد هذه الحروف عفا الله عنه أراد أن يبين في هذه الرسالة ما تيسر من أوجه الجمع بين الآيات التي يظن بها التعارض في القرآن العظيم". فترى أنه عفا الله عنه ورحمه أراد بيان أوجه الجمع ودفع الظن عن كتاب الله. فكان رحمه الله عالماً ولم يك متوهماً وحاشاه رحمه الله من مثل ذلك مع ما أعطاه الله من فهم في كتاب الله.
ولعل بهذا الإجمال يكون قد ذهب عنك ما توهمته أنت في الشيخ رحمه الله، والتقيت مع الشيخ في موضوع الكتاب وأنه أراد تصحيح مفاهيم من يظنون توهماً في كتاب الله ومن هنا يكون منطلق عتابي معك ثم إن موضوع (إيهام الاضطراب) الذي ينفيه سيادتكم ليس جديداً ولا حادثاً. وقد سئل عثمان رضي الله عنه عن الاستمتاع بالأختين بملك اليمين فقال:"أحلتهما آية وحرمتهما آية يعني {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} مع {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} وقد ذكر البخاري رحمه الله أن رجلاً أتى ابن عباس وسأله عن آيتي البقرة والنازعات في خلق السماوات والأرض فقال له ابن عباس: أشك في كتاب الله؟ فقال لا: بل أسأل.(10/40)
فبين له ابن عباس وجه الجمع بينهما. فهذا في زمن ابن عباس توهم اختلافاً واضطراباً في كتاب الله وكشف له ابن عباس عن المعنى وبيّن له وجه الجمع فلا غرابة إذاً أن يتوهم إنسان اليوم وأن يدفع أحد العلماء هذا التوهم وهكذا فعل الشيخ رحمه الله في هذا الكتاب فلم يوجد اضطراب فعلاً في كتاب الله كما قال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} ولكن يوجد إيهام عند من ليسو بعلماء به كما قال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فخص التفصيل بقوم يعلمون ومفهومه أنه غير مفصل عند غير العالمين وليس غريبا منهم أن يتوهموا والعلماء هم الذين يبينون.
ثانيا- بين الترك والاستعجال:(10/41)
وهو أن الكتاب قد طبع منذ عشرين عاماً والمقالات نشرت منذ خمس سنوات ولم تظهر ملاحظاتك إلا بعد وفاة الشيخ رحمه الله وقد عاتبك الأخ أحمد الأحمد على تركك إبدائها طيلة هذه المدة فاستثارك عتابه واعتذرت بأنك لم تطلع عليه في حين طبعه وهذا يمكن قبوله منطقياً بالنسبة لطبع الكتاب ولكن لا يقبل بالنسبة لنشر المقالات في مجلة الجامعة وقراءتك له فيها وقد اعتذرت أيضاً عن اطلاعك على المقالات بأنك كتبت ملاحظاتك قبل وفاة الشيخ ولكن يا أستاذ أحمد: أعلم يقيناً أنك لم ترسلها إلى مجلة الجامعة إلا بعد وفاته بأشهر وهنا عتابي عليك كعتابي على سلف لك من قبل. لِمَ لَمْ تقدمها للشيخ شخصيا في بعض لقاءاتك إياه في الرابطة؟ أو ترسلها إليه خاصة؟ فكنت تلقيت منه الجواب وكان في ذلك فائدة عظيمة وكفيت المؤونة في ذلك كله وسلمت مما قيل عنك وقلته أنت عن غيرك وسلمت أفكار الناس من هذا الاضطراب. علماً بأنك قلت إنها كانت مكتوبة في حياة الشيخ فماذا كان المانع إذا؟ هذا من ناحية الترك والتأخير. أما من ناحية الاستعجال فما هو موجب التسرع في النشر في مجلة أخرى بعد امتناع الأولى عن النشر؟ أليس كان من الأولى التريث؟ حتى تعلم ما هو المانع من النشر وكان يجمل الاستفسار عن ذلك فلربما قدموا لك ما فيه مقنع أو على الأقل عرفت وجهة نظر غيرك قبل إبداء ما عندك ولن تعدم فائدة في ذلك.
فأين اصطبارك مدة حياة الشيخ من استعجالك إثر وفاته؟ وأرجو ألا يثيرك هذا التساؤل كما أثارك مثله من قبل.(10/42)
ثالثاً: قد تقول: إن كل شيء مرهون يوقته وقد كنت مشغولاً بمهام عملك وكان مقالك يحتاج إلى تنقيح وتصفية أو تبييض وتهيئة وقد فرغت من ذلك كله وقدمته وبعد وفاة الشيخ وأنا معك على هذا كله لأنه منطق مقبول وقد تتحكم الظروف خاصة مع مثلك لكثرة أشغاله وتعدد التزاماته ولم يكن هناك توقيت لوفاة الشيخ رحمه الله وحرصاً منك على الفائدة للقراء قدمت ملاحظاتك أو نشرت مقالك وذلك قطعاً بعد وفاة الشيخ وأنت قطعاً تعلم بها ويدفن في مكة وقد نشرت مجلة الجامعة محاضرة كاملة في نعيه وترجمته ونشرت قبل مقالك وهنا عتابي عليك هو أن مقالك كله وأنت الكاتب الأديب جاء خلواً نهائياً من أية عبارة تنم عن أسىً وأسف أو تعزية لموت الشيخ رحمه الله وقد أسف وتوجع من هو أقل صلة به منك علماً بأن موته لم يكن رزءاً في شخصه ولا على أبنائه فحسب بل كان على العلم والعلماء وقد علمت قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من صدور الرجال ولكن بموت العلماء"، فكان من حقه عليك أن يتضمن مقالك ما يشعر القارئ بأحاسيسك نحوه وقد قال القاضي عياض عن بعض مشايخه: "ما لكم تأخذون العلم عنا وتذكروننا فلا تترحمون علينا", وقد نوهت في مقدمة المقال مدى استفادتك من تأليفه رحمه الله وقد يكون تداركاً منك لذلك في كلماتك التي أوردتها في ردك على الأخ أحمد الأحمد وترحمك عليه ثم أعقبتها بقولك أقول ذلك طائعاً مختاراً ولكنها جاءت بعد عتاب ولو سبقته لكانت كافية وافية وقد أذكرتني بذلك لوعة الأسى فيه وشدة الحرمان من بعده مما يدفعني نيابة عنك أن أجدد التعازي لكل طالب علم والمجلس الأغر في المسجد النبوي في الشهر المبارك (شهر رمضان) من كل عام والذي كان بحق روضة من رياض الجنة يسعد فيه الصوام بتفسير القرآن وترتع فيه ملائكة الرحمن وقد خلا فيه هذا العام فعظم علينا في المدينة فقده وحرمنا درسه فإنا لله وإنا إليه راجعون.(10/43)
رابعاً - في النقد الشخصي والنقد الموضوعي:
من المعلوم لسيادتكم ولكل كاتب وناقد أن النقد الهادف هو النقد الموضوعي وأن النقد الشخصي إنما هو من قبيل الهجاء. والعتاب هنا أنك أدخلت النقد الشخصي في النقد الموضوعي فبدأت باتهام الشيخ بأنه توهم اضطراباً في كتاب الله ثم حكمت عليه بأنه أسرف في ادعاء النسخ ثم كنت مع الأخ أحمد الأحمد في مطلع كلامك افتتحته بهراء ونداء وطعن شخصي وتعريض بإيراد آيات من كتاب الله تمتدح نفسك وتنتقص غيرك فجئت بما عبت وهذا وإن كان يقع فيه الكثيرون وللأسف فإنه لا يليق بمثلك لأنك كما قلت كما قلت طالب علم متأدب بآداب القرآن ثم جئت في نهاية مقالك بالسلام على من اتبع الهدى. فلمن توجه هذه التحية وترسلها من جوار البيت الحرام وأنت تخاطب زميلاً لك مسلماً يدرس في معهد المسجد الحرام وقراء مسلمين. إن هذا كله أمر شخصي لا صلة له بالموضوع ولذا فإني لا ولن أقصد إلى أية جانب من الجوانب الشخصية وهو مبدأي دائماً لا مع سيادتك فحسب ولكن مع كل إنسان وقد أصلته أثناء تدريس الفقه المقارن بالجامعة وضمنته مقدمة رسالة (زكاة الحلي) لأن الغرض معرفة الحق من غير تعرض ولا تأثر بقائله كما قال النووي في مقدمة (المجموع) قال:"إني لأعرض المسائل الخلافية وأبيّن الحق والراجح فيها وأبين الخطأ وأبالغ في تزييفه وإن كان قائله كبيراً عندنا لئلا يغتر أحد بنسبة القول إليه مع إقامة الدليل عليه والعتاب هنا هو إدعاؤك على الشيخ الإسرف في النسخ بدون دليل عليه وأنت تعلم أن النسخ من بين علوم القرآن الذي لا يقال فيه بالرأي لأنه متوقف على معرفة التاريخ لمعرفة المتقدم من المتأخر وهذا لا يكون إلا عن طريق الرواية والإثبات بالسند. فكل من ادعى نسخاً بدون دليل فادعاؤه مردود عليه وكل من نفى نسخاً ثابتاً بالدليل فنفيه باطل ولكي تقف على حقيقة موقف الشيخ من النسخ أذكر لك ما لم تطلع عليه من رسالة في النسخ وهي مخطوطة لدي(10/44)
وستنشر إن شاء الله مع تتمة (أضواء البيان) وهي شرح لأبيات السيوطي رحمه الله التي ذكرها في الإتقان وقد عاب السيوطي على من يسرف في ادعاء النسخ وذكر المتفق على أنه منسوخ بصفة إجمالية وشرحها الشيخ وبيّن المراد منها وموقفه من الموضوع وأنه بعيد كل البعد عن دعوة الإسراف في النسخ ولعل بهذا تلتقي مع الشيخ في أمر النسخ إلا فيما ذكرته ولم تعقب عليه من القول بعدم النسخ نهائياً وسكوتك عنه يوهم رضاك به ومعلوم أن القول بعدم النسخ هو قول اليهود لعدم البداءة على الله وهو مذهب باطل كما لا يخفى.
خامساً: أبديت جميع ملاحظاتك وأوردت جميع تعقيباتك دونما نص يعتمد عليه وبنيتها كلها على قولك (قلت) بينما من تلاحظ عليه لم يورد مسألة إلا ومعها دليلها والنص الذي بناها عليه. والعتاب عليك أنك تفتح باباً (لقلت) وهو باب (رأيت) الذي عابه سلف الأمة وسموا أصحابه بأصحاب الرأي وقال الشافعي رحمه الله في رسالة (جماع العلم) ما معناه:"ليس لنا أن نقول بشيء في هذا الدين إلا بدليل وإلا لكان كلامنا مثل كلام من نعيب عليهم وكان لكل شخص أن يقول برأيه ما شاء وليس لقولنا فضل على قوله: "إلا بما نورده من دليل"والواقع أن هذا الباب هو أخطر أبواب القول في الدين وخاصة في كتاب الله وقد أجمعوا على تحريمه نهائياً في كتاب الله تعالى ولم يدخل الشك على الشباب إلا من هذا الباب وأنت ممن يعمل على سد هذا وصيانة الفكر الإسلامي من الحيرة والشك.(10/45)
سادساً: بعد إبداء ملاحظاتك وبعد الرد عليها ماذا تكون النتائج؟ وما هو موقف القراء بعد ذلك؟ أيعيدون النظر أم لا يبالون بما قلت؟ على كل فإن العالم الإسلامي لم يعد يحتمل تشكيكاً في علمائه ولا إهمالاً لكتابه وهو في أمس الحاجة لتقوية أواصر روابطه بالعلماء والأدباء في نطاق الدعوة والإرشاد والتوجيه والتضامن والترابط ليصل بهم علماؤهم إلى ما يرضي ربهم وأداء واجبهم في حياتهم ويأخذوا عن أدبائهم محاسن أخلاقهم ومن هنا لم أكُ لآخذ النقاش العلمي على صفحات الجرائد بالقيل والقال فقد يقع المقال في يد القارئ ولا يقع الجواب في يده إما لفواته عليه أو لعدم نشره إليه أو غير ذلك فيقع الشك ولا يأتي ما يزيله وقد كان الشيخ رحمه الله يأبى أشد الإباء مناقشة أي موضوع علمي على الجريدة بل يترفع بالعلم أن ينشر في الجرائد وقد امتنع فعلاً عن الرد على من تكلم عن الكتاب في حين طبعه وتولى الرد أحد طلابه هو أحمد الأحمد نفسه ولو كان رحمه الله موجوداً الآن لما سمح بالرد ولا بالمناقشة على هذا النحو ولذا فإني أقول كلمة أخيرة وهي خطوة أولى: إن كل ما قدمته هو عتاب أخوي وليس بحثاً علمياً ولا رداً ولا مناقشة إنما البحث العلمي والمناقشة تكون مني مع سيادتكم على أحد تلك الأمور:
1- إما أن نلتقي شخصيا نتعاون معاً على طلب الحقيقة العلمية يهديها كل منا لأخيه.(10/46)
2- وإما أن تختار من شئت من أصحاب الفضيلة العلماء وهم لله الحمد قريب مني ومنك يشهدون بحثنا ويعاوننا على تحقيق غايتنا والحكمة ضالة المؤمن والحق أحق أن يتبع وقد قال مالك رضي الله عنه:"كل كلام فيه مقبول ومردود إلا كلام صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم"، وليكن محضر من شئت من العلماء لبيان ما يقبل وما يرد من القول عملاً بقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} , والعلماء هم ورثة الأنبياء وليس هناك تعصب ولكن إنصاف ليس هنا ادعاء ولكن مطالبة بالحق وإذا كان الرأي والقول موافقاً للصواب فهو ملزم بالقبول مهما كان قائله ومهما كانت منزلته كما قيل في ذلك:
حكم الصواب إذا أتى من ناقص
لا تحقرن الرأي وهو موافق
ما حط قيمته هوان الغائص
فالدر وهو أعز شيء يقتن
وقديماً قبل أبو هريرة رضي الله عنه الحكمة من الشيطان وأقره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وختاماً: نظراً لضيق الوقت عندي وعدم استعدادي للمقاولات والتلاقي على صفحات الجرائد فأقول:
أرجو أن تتقبل كلماتي بروح أخوية وتفسرها تفسيراً أدبياً لا يخرجها عن نطاق العتاب ولا تحملها أي معنى آخر فإنني أقرر مقدماً ونهائياً أني لم أضمن كلامي ولا أقصد به سوى ما تنطبق عليه حرفياً وإذا كان فيها مالا يرضيك فمعذرتي إليك لأني لا أرضى من نفسي ما لا أرضاه لها من غيري وتقبل فائق تحياتي وتحية الله لمؤمنين {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ..(10/47)
الفداء
بقلم: فضيلة الشيخ عبد الله أحمد قادري
مدير الإشراف الاجتماعي بالجامعة
سراعاً إليك إله السماء.
سنفدي عقيدتنا بالدماء.
فناد يلب الجميع النداء.
ونحن عبيدك أهل الولاء.
وثبت قلوب حُداة الفداء.
وزلزل قلوب الطغاة العصاة.
وخوفك وحدك فيه النجاء.
فليس سواك يهاب الهداه.
تزيل من الأرض هذا الشقاء.
فإما حياة الكرام الأباه.
تنال البرية فيه الرخاء.
وترسي دعائم حكم الإله.
وفيها الخلود وفيها البقاء.
وإما الشهادة ثم الجنان.
ضعاف النفوس عبيد الإماء.
وبئست حياةُ هُواة الهوان.
وهل من حياة بدون فداء.
سنفدي عقيدتنا بالحياة
.(10/48)
من أضاليل القاديانية
بقلم الشيخ عبد الغفار حسن
المدرس بكلية الشريعة في الجامعة
ورد خطاب من بعض مسلمي سيام (تايلند) إلى طالب سيامي يدرس بالجامعة الإسلامية بالمدينة يذكرون فيه جهود القاديانيين في نشر أغاليطهم وأكاذيبهم في تلك البلاد.
هؤلاء المبشرون من القاديانيين يخدعون مسلمي سيام متظاهرين بالإخلاص للإسلام وينشرون عقائدهم الكاذبة والأحاديث الواهية المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم يريدون بذلك إثبات نبوة المتنبي القادياني الميرزا غلام أحمد القادياني، ونحن نذكر هنا نماذج من جدلهم وخداعهم مع نقدها والرد عليها، ليكون المسلمون على حذر من هذه الترهات والأباطيل.
من الجدير بالذكر أن المجادل القادياني الذي يسمي نفسه (الأحمدي) يزعم أن الروايات والآثار التي يعتمد عليها في إثبات بقاء النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم قد ذكرت في تفسير الدر المنثور للحافظ السيوطي ت (911 هـ) وتكملة مجمع البحار لمحمد طاهر الهندي الفتني ت (986 هـ) وقد بحثنا عنها في مظانها في هذين المرجعين فلم نجد أغلب الروايات والآثار فيهما، بل وجدنا فيهما ما يخالف هواه ويبطل دعواه.
نماذج الأغاليط:
1- "أنا خاتم الأنبياء وأنت علي خاتم الأولياء ".
أخرجه الخطيب البغدادي ت (363 هـ) في تاريخه [1] من طريق عمر بن واصل وقال: "هذا من عمل القصاص وضعه عمر بن واصل أو وضع عليه"، وقال الذهبي ت (748 هـ) : "عمر بن واصل الصوفي شيخ روى عن سهل بن عبد الله اتهمه الخطيب بالوضع" [2] .(10/49)