هذا الطود الشامخ..
ويلجأ الإنجليز في محاربة الإمام المجاهد العظيم إلى كل الوسائل الاستعمارية التي أتقنوها ومارسوها في كل العصور محاولين إطفاء هذا القبس المضيء لأبناء أفريقيا عامة طريق النور والخير والحرية في ظل الإسلام العظيم، وكانت السلطات الحبشية الإيطالية جادة في مطاردته والقضاء عليه وقويت شوكة خصومه، وكانت سنه قد تقدمت فأخذ ينتقل من مكان إلى آخر حتى انتقل إلى رحمة الله ورضوانه، ودفن في مكان من الصومال الأوجادين لا يعرفه إلا خاصة أصدقائه، وحاول أعداؤه العثور على جثته فلم يهتدوا إليه، وبقي تاريخ جهاده بين أبناء الصومال جميعه يتناقلونه بالفخر والإعجاب.
ترجم له الأجانب ولقّبوه بأسد الصحراء، ولم يترجم له المؤرخون العرب بعد إلا ما كتبته بعثة الأزهر في بلاد الصومال وأرتيريا وعدن والحبشة عام 1368هـ بقلم الشيخين (عبد الله المشد) ، والمرحوم (محمود خليفة) في تقريرهما القيم الذي رجعنا إليه في كتابة هذا المقال، ولعل الله سبحانه وتعالى يوفق أبناء الجامعة الإسلامية من الطلاب الصوماليين إلى جمع تراث الشيخ رحمه الله، وإبراز حياته في صورة واضحة مشرقة كي تكون حياته مدرسة لأبناء أفريقيا عامة، وليقفوا صفا واحدا أمام هذه الحروب الوحشية البربرية التي لا زال الغرب المستعمر يشنها على أبناء أفريقيا لسلب حرياتهم وتغيير دينهم.. والاستيلاء على خيرات بلادهم، وقد ظهر ذلك في وضوح في مأساة نيجيريا التي راح ضحيتها المرحوم أحمدو بيللو رحمه الله رحمة واسعة.(7/47)
وكذا مأساة الكونغو وجنوب السودان وجنوب أفريقيا الخ، ولنا في بطل التضامن الإسلامي الملك فيصل حفظه الله خير قائد في العصر الحديث إلى حياة العزة الإسلامية في ظل نور الله تبارك وتعالى تحت راية القرآن الكريم وهدايته، ولعل وزراء المعارف والثقافة والإعلام يحرصون على جمع تراث هذا الشيخ المجاهد وتقديمه للمكتبة الإسلامية كي ينتفع به الجيل ويقبل على الارتشاف من مناهله الشباب الإسلامي في أفريقيا خاصة فيكون قدوة حسنة لحياة الجهاد والكفاح وحصانة لهم من التردي في مهاوي الغزو الفكري العنيف.
أما بعد:
فهل نرى لأبناء أفريقيا عامة وأبناء الصومال خاصة نشاطا قويا بنّاء ضد الاستعمار وأذناب الاستعمار الذين تثقفوا بثقافات استعمارية ضالة مغرقة في الكفر والضلال والانحراف فراحوا يتهافتون على المبادئ المنحرفة منخدعين بهذا السراب الكاذب.. لقد توالت الأنباء عن دولة الصومال الإسلامية التي سعدت بنور الإسلام وهدايته، وظلت فترة طويلة من الدهر قلعة من قلاع الإسلام وحصنا حصينا لتعاليم الإسلام.
توالت الأنباء - والحسرة تدمي قلوب المؤمنين -بأن الاتجاه الجديد في جمهورية الصومال إلى بناء المجتمع الصومالي على أسس الاشتراكية العلمية الماركسية، واستبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية، هذا الاتجاه الذي ينافي العقيدة الإسلامية, وتقاليد الشعب الصومالي المسلم الذي ظلّ وفيّا للإسلام رغم ضغوط الاستعمار.
يا شعب الصومال إن تاريخك المشرق.. في جهادك في نشر الإسلام العظيم المبارك، يسمو بك عن التردي في مهاوي هذا الظلام وهذا الضلال.. لقد عرف العالم كله الفشل الواضح للمبادئ الماركسية في كل الميادين، وهاهو الاتحاد السوفيتي يتراجع في خزي وذل وهوان عن نظريات ماركس الرئيسية.(7/48)
لقد اعترف الاتحاد السوفيتي بأنواع من الملكية الخاصة, وبالوراثة وبالحوافز المادية، لقد فشلت الاشتراكية العلمية في تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية ونجحت في سلب الحريات العامة، وإذلال الشعوب، وسفك الدماء، وقتل الأبرياء، وتشريد الأحرار, وتعذيبهم في السجون والمعتقلات بالوسائل التي تنم عن الوحشية والإجرام الذي لم يعرف التاريخ له مثيلا إلى في تاريخهم المظلم المغرق في الظلم والظلام والضلال المبين.
وهذه نتيجة طبيعية.. إذ إن الشيوعية لا تعترف بدين، ولا بخلق، ولا بحساب وبعث، إنها كفر وضلال وإلحاد.. إن أصولها خبيثة، إن نباتها سام، إنها شجرة الزقوم، إن الشيوعيين حيوانات سائمة فقدوا إنسانيتهم وفقدوا كرامتهم، فهم عبيد مسخرون لعبادة أشخاص أصحاب مبادئ ضالة أردتهم في أسوأ نهاية ثم لهم جهنم وبئس المصير.
يا علماء الصومال، يا أبناء الجامعة الإسلامية أعيدوها إسلامية واضحة مشرقة السنا والسناء، وجاهدوا في العمل بالحكم بكتاب الله حتى تنعم البلاد بنعمة الهدوء والاستقرار، واحرصوا على نشر اللغة العربية, وجعلها اللغة الرسمية للبلاد، حتى تظل الصلة وثيقة بالقرآن الكريم, والسنة النبوية, والتراث الإسلامي العظيم, والاخوة الإسلامية مع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، طهّروا البلاد من آثار الغزو الثقافي في ميادين التعليم, وفي أجهزة الإعلام عامة، وفي ثقافة المرأة والمحافظة على تقاليدها الإسلامية المباركة، مع الحرص على رعاية الشباب من الانحراف.
يا أبناء الصومال.. أعيدوها إسلامية واضحة نيرة، وإن مصادر النور والخير والسعادة والهداية والفضيلة والشرف والعزة والنصر, تتمثل هذه المصادر في:
أ- كتاب الله، وكتاب الله هو النور الخالد.. وفي سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم فالرسول صلوات الله وسلامه عليه هو الهادي الأمين إلى نور الله المبارك.(7/49)
ب- وفي ما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم فهم ورثة النور المحمدي.
وفق الله المسلمين إلى أسباب عزهم ومجدهم، هذا وبالله التوفيق.(7/50)
المسئولية في الإسلام
بقلم الشيخ عبد الله قادري
المشرف الاجتماعي بالجامعة
بقية الأقارب
المؤمنون كلهم مهما اختلفت أنسابهم وتباعدت أوطانهم يعتبرون بمنزلة الأشقاء، بل المؤمن البعيد النسب أحق وأولى بأخيه المؤمن من أقرب قريب إليه إذا لم يكن ذلك القريب مؤمنا، ولكن الله تعالى أنعم على عباده بتوثيق رابطة القرابة حيث جعلهم يتحابون ويعطف بعضهم على بعض، ولقد اعتنت نصوص الشريعة من كتاب وسنة بالأقارب والحث على صلتهم وتقديمهم في ذلك على من سواهم، فقد قرن الله تعالى حقهم بحقه فقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} ، وذم الله المشركين بعد مراقبتهم احترام قرابتهم من المؤمنين فقال: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاً وَلا ذِمَّةً} والآل: القرابة كما فسرها ابن عباس، وفُسرت بالعهد أيضا، وقرن الله تعالى بين الإفساد في الأرض وتقطيع الأرحام ولعن من يفعل ذلك فقال: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} , قال ابن كثير رحمه الله: "وقوله سبحانه: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أي عن الجهاد ونكلتم عنه {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} أي تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء، تسفكون الدماء وتقطعون الأرحام، ولهذا قال الله تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما وعن قطع الأرحام خصوصا، بل قد أمر الله تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال وبذل الأموال.(7/51)
وقد وردت الأحاديث الصحاح والحسان بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق عديدة ووجوه كثيرة.."، ثم ساق رحمه الله حديثا أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله تعالى الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقوى الرحمن عز وجل فقال: مه، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة فقال تعالى: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت بلى، قال: فذاك لك"، قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: "اقرأوا إن شئتم {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} ".
ثم ساق حديثا آخر أخرجه الإمام أحمد رحمه الله عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من ذنب أحرى أن يعجّل الله تعالى عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم" ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث إسماعيل هو ابن علية به, وقال الترمذي: "حديث صحيح"انتهى ج4 ص178.(7/52)
ولقد بلغت عناية الإسلام بالأقارب أن أمر المؤمنين بصلتهم ولو كانوا كفارا ما لم يتعرضوا لأذاهم قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ, إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، وفي الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: "قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال: "نعم صلي أمك" , والآية الكريمة عامة في الوالدين وغيرهم، وهي محكمة على الصحيح من أقوال العلماء، قال القرطبي رحمه الله: "اتفقت الملة أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة"أهـ.
إذا عرفنا ذلك بقي علينا أن نعرف الأمور التي تعتبر صلة للرحم، والأمور التي تعتبر قطيعة لها.
السبل التي يصل بها الرجل:(7/53)
1- إن من أعظم ما يصل الرجل به أقاربه تعليمهم أمور دينهم وبيان ما يحل وما يحرم، ودعوتهم إلى الله تعالى وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر حسب الاستطاعة، ولهذا كان أول ما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم إنذار عشيرته الأقربين، مع أنه رسول إلى جميع العالمين، قال الإمام البخاري رحمه الله في باب وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك - ألن جانبك, وساق بسنده إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر، يا بني عدي - لبطون قريش - حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال: "أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي، قالوا: نعم ما جرّبنا عليك إلا صدقا, قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ, مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} ثم ساق بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} قال: "يا معشر قريش أو كلمة نحوها اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا, يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا, يا عباس عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا, ويا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئا, ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا". فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبدأ بعشيرته الأقربين وما ذاك إلا لأن حقّهم مقدّم على حقّ غيرهم، وقد امتثل صلى الله عليه وسلم أمر ربه فبدأ بهم وعمّ في ندائه وخصّ, فنادى قريشا وخص منهم بيوتا كبني فهر وبني عدي وبني عبد مناف، وخص أفرادا هم أقرب الناس إليه كعمه وعمته وابنته، والآية(7/54)
الكريمة عامة لكل فرد من أفراد المسلمين وإن كان الخطاب أصلا للرسول صلى الله عليه وسلم فإن لنا فيه أسوة حسنة, وقد قال الله تعالى في آية أخرى مخاطبا كل مؤمن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} الآية, وأقارب الرجل من أهله وعدم القيام بهذا الأمر يعتبر أعظم قطيعة لذوي الأرحام.
2- أن فقراء أقارب الرجل أحق بوقفه وصدقته ووصيته من غيره، ولهذا لما أراد أبو طلحة أن يتصدق ببعض ماله وقفا قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "اجعلها لفقراء أقاربك" كما في صحيح البخاري، وقد رجّح كثير من أهل التفسير أن الآية الكريمة {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} محكمة وليست منسوخة، وأن قريب الميت الذي ليس بوارث إذا حضر قسمة التركة يرضخ له منها تطييبا لخاطره، ورأى بعضهم أن ذلك واجب، ورأى آخرون أنه مندوب، والأصل في الأمر الوجوب كما هو معروف، انظر تفسير الشوكاني ج 1 ص 393 والبخاري ج 6 ص 36.
وفي الصحيحين من حديث ميمونة رضي الله عنها أنها أعتقت وليدة ولم تستأذن النبي صلى الله عليه وسلم, فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي قال: "أو فعلت؟ "قالت: نعم، قال: "أما إنك لو أعطيتها أخوالك لكان أعظم لأجرك".(7/55)
3- ومن أهم الأمور التي يجب على الرجل أن يصل بها رحمه الإصلاح بينهم وتأليف قلوبهم حتى لا يحصل بينهم نزاع يفرق كلمتهم ويوقع بينهم العداوة والبغضاء والتدابر، والإصلاح وإن كان حقا على كل عاقل أن يقوم به بين كل الناس، فإن الأقارب أحق به وقد قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} , وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} , وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} ، وينبغي للرجل أن يترفع بنفسه عن قطع الرحم ولو قطعه أقاربه، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ وأحلم عنهم ويجهلون عليّ فقال: "لئن كنت كما قلت فكأنما تُسفّهم الملّ - والملّ الرماد الحار - ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت عليهم"، والأحاديث في صلة الرحم كثيرة جدا.
والخلاصة أن من حق ذوي الأرحام على الرجل أن يسعى قدر استطاعته في تحصيل ما ينفعهم ودفع ما يضرهم في دينهم ودنياهم.
حقوق الأيتام الذين يتولى شؤونهم لصغرهم(7/56)
كثير من الأطفال يتوفى الله آباءهم أو أمهاتهم أو الآباء والأمهات معا فيبقى هؤلاء الأطفال في حاجة شديدة إلى من يعطف عليهم ويرحمهم ويواسيهم، ويدخل عليهم السرور بما يسديه إليهم من نفقة أو كسوة أو كلمة طيبة، كما أنهم في حاجة إلى من يحفظ أموالهم إن كانت لهم أموال، وينميها لهم لتسد منها حاجاتهم في حال الصغر ويجدوا ثمرتها في حال الكبر، والله تعالى يبتلي بعض عباده ببعض، ليظهر المطيع من العاصي ويجازي كلا على عمله قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} ، وقد يبتلى الرجل بيتيم أو أيتام سواء كانوا من قرابته أو من غيرهم ليعولهم ويقوم بمصالحهم، فإن وفق للصبر عليهم والرحمة بهم والقيام بحقوقهم نال أجرا عظيما على ذلك، وإن لم يوفق فأغلظ لهم القول وآذاهم بالضرب ونحوه لغير تأديب وحرمهم من المأكل والمشرب, أو أكل أموالهم ظلما فقد تعرض لخطر عظيم، ولهذا يجب أن يتنبه القائمون على الأيتام لحقوقهم ويبتعدوا عن ظلمهم، ولنذكر على سبيل المثال بعض الحقوق التي لا ينبغي النقص فيها بالنسبة لليتيم.(7/57)
1- الرفق بهم وعدم الغلظة التي تدخل عليهم الهم والحزن، والرفق مطلوب في كل وقت ومع كل الناس ولكنه مع الطفل اليتيم آكد، وقد ذم الله المشركين وجعل من علامتهم الإغلاظ على اليتيم وعدم الرفق به قال تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} كما ذكر من صفاتهم عدم إكرامه قال تعالى: {كَلا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يحرم الرفق يحرم الخير" رواه مسلم من حديث جرير، وروي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه", وفي رواية "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه"، وفي حديث آخر عنها رواه مسلم أيضا قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيني هذا "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به"، وهذه الأحاديث عامة واليتيم كما قلت أولى الناس بمدلولها.(7/58)
2- ومن حقه أيضا أن يعتني بتعليمه عندما يبلغ سنّ التمييز القراءة والكتابة ومبادئ دينه كالوضوء والصلاة, وحسن السلوك كالصدق والأمانة والشجاعة والكرم، وألاّ يتكلم إلاّ بخير، إن استطاع وليّه أن يعلّمه بنفسه وإلاّ أدخله مدرسة يؤمن فيها على أخلاقه، كما ينبغي أن يعلّمه بعض الحِرَف التي يستفيد بها في الإنفاق على نفسه عند الكبر، ولا يكون عالة على المجتمع، وتعليمه دينه ودنياه من البر والتقوى اللذين أمر الله المؤمنين أن يتعاونوا عليهما كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وهو مما يحبه المرء لنفسه والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
3- أن ينفق عليه الولي من ماله - أي من مال الولي - لا سيما إذا كان اليتيم لا مال له، ويكسوه أيضا فإن في ذلك أجرا عظيما ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله", وأحسبه قال: "وكالقائم لا يفتر والصائم لا يفطر", وفيه أيضا عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة"وأشار مالك وهو أحد رواة الحديث بالسبابة والوسطى، والمراد بكافل اليتيم القائم بأموره من نفقة وكسوة وتربية وغيرها، وقوله: "له أو لغيره" أي سواء كان اليتيم له به صلة كابن أخيه ونحوه أو ليس من قرابته.(7/59)
4- أن يحفظ ماله إذا وليه وله مال، وينميه ولا يفرّط فيه حتى لا يضيع، ولا يأخذ منه شيئا ظلما فقد جاءت النصوص بالوعيد الشديد لمن يأكل مال اليتيم بغير حق قال تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً, إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} ففي الآية الأولى إشارة إلى أن ولي اليتيم يجب أن يعمل له كما يجب أن يعمل ولي أطفاله لهم من بعده، فليتق الله في مباشرة ماله، وفي الآية الثانية من الوعيد لمن أكل مال اليتيم ظلما ما لا يحتاج إلى بيان، فليتق الله أولياء الأيتام في أموالهم ومصالحهم فإنهم إن لم يخشوا من محاسبة الأيتام لهم لعدم معرفتهم مصالحهم ومضارهم، فالله وكيلهم وكفى بالله حسيبا، ويستثنى من هذا الوعيد من ولي مال اليتيم وقام بالواجب له من حفظ وتنمية وهو فقير لا مال له فإنه يجوزله أن يأخذ من مال اليتيم ما يحتاج إليه قوتا بالمعروف لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} , وفي الصحيحين من حديث عائشة أن هذه الآية الآنفة الذكر نزلت في ولي اليتيم إذا كان فقيرا أنه يأكل منه مكان قيامه عليه بالمعروف، وفي لفظ: "نزلت في ولي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلح ماله إن كان فقيرا أكل منه بالمعروف".(7/60)
5- ويجب ألاّ يمكّن الولي اليتيم من التصرف في ماله إلاّ بعد رشده وبعد اختباره في التصرف هل يحسنه أم لا قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} ويجب أن يشهد على دفع أموالهم إليهم حتى لا يحصل بينه وبينهم نزاع وخصومة قال تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} .
6- وإذا ولي الرجل يتيمة ورغب في نكاحها فيجب أن يعطيها مهرها كاملا كأمثالها، ولا يجوز أن يأخذ من مالها شيئا، فإن أحس من نفسه أنه سيظلمها بنقص مهرها أو غير ذلك من حقوقها, أو لم تكن له رغبة في الأصل وإنما أرادها لمالها فقط فينبغي أن يتركها وينكح غيرها من النساء اللاتي لا يقدر على أخذ حقوقهن أو نقص مهرهن؛ فقد جاء في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها, وكان لها عذق وكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت فيه: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية.
حقوق العبيد على السادة(7/61)
مضت سنة الله الكونية أن يختلف الناس وأن يتبع ذلك الاختلاف حروب بين طائفة وأخرى، تستولي الطائفة المنتصرة على أموال الطائفة المنهزمة، وتسبي نساءها وذراريها وتأسر رجالها وتسترق الجميع ويكونون عبيدا يتصرفون فيهم تصرفهم في أموالهم، هكذا كان الناس يفعلون قبل الإسلام من العرب وغيرهم، وكانت معاملة العبيد عندهم سيئة جدا، بل كانت طرق الاسترقاق متعددة؛ فمنهم من يسترق الأجير، ومنهم من يسترق المرأة ومنهم من يسترق ذا لون معين، فلما جاء الإسلام أبطل كل تلك الطرق ما عدا طريقا واحدة وهي استرقاق أسرى الحرب، فقد أبقاها لأن في إلغائها ضررا على المسلمين لأن الكفار إذا انتصروا عليهم سيسترقونهم، وترك استرقاق الكفار مع كونهم يسترقون المسلمين ليس من العدل، فالطريق الوحيد للاسترقاق في الإسلام هي استرقاق أسرى الحرب فقط وهي طريق عادلة كما مضى لأنها معاملة بالمثل.
عناية الإسلام بتحرير الرقيق
لقد اعتنى الإسلام بعتق المماليك عناية عظيمة وفتح له أبوابا كثيرة.
1- فهو يحث المؤمن أن يعتق مملوكه ويعده على ذلك بجزاء عظيم كما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب منها - أي عضو - إربا منه من النار".
2- أوجب على من حصل منه القتل خطأ عتق رقبة مؤمنة في ثلاث حالات لا ينتقل من العتق فيها إلى غيره إلاّ إذا لم يجد ما يعتق.
أ- أن يقتل مؤمنا خطأ وأولياؤه مؤمنون فيسلم لهم الدية ويعتق رقبة فإن لم يجد صام شهرين متتابعين.
ب- أن يقتل مؤمنا خطأ وليس له أولياء مؤمنون كان بكون من قوم كفار محاربين أو كان ذميا فعلى القاتل أن يعتق رقبة فإن لم يجد صام شهرين متتابعين كذلك.(7/62)
ج- أن يقتل ذميا فعليه دية وعتق فإن لم يجد صام شهرين أيضا، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} .
3- خيّر من حلف وحنث أن يكفّر بواحدة من ثلاث: تحرير رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم, فإن لم يجد انتقل إلى صيام ثلاثة أيام قال تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} الآية.
4- أو جب على من ظاهر من زوجته ثم أراد إبقاءها زوجة له أن يعتق رقبة ولا ينتقل منها إلى غيرها إلاّ إذا لم يجدها قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} الآية.(7/63)
5- أمر من ضرب مملوكه فأوجعه أن يعتقه وجعل ذلك كفارة له، ففي صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه"، وفي صحيح مسلم أيضا عن معاوية بن سويد قال: لطمت مولى لنا فهربت ثم جئت قبيل الظهر فصليت خلف أبي فدعاه ودعاني ثم قال: امتثل منه ثم قال: كنا بني مقرن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا إلا خادم واحدة فلطمها أحدها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اعتقوها"قالوا: ليس لهم خادم غيرها قال: "فليستخدموها فإذا استغنوا عنها فيخلوا سبيلها", والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
6- إذا كان العبد مشتركا بين جماعة فأعتق أحدهم نصيبه منه عتق سائره ووجب على المعتق أن يدفع من ماله نصيب الآخرين فإن لم يكن له مال طلب من العبد أن يسعى في تحصيل نصيبهم من غير أن يشق عليه في ذلك ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق شقصا [1] له في عبد فخلاصه في ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه" أي كلف العبد الاكتساب من غير مشقة حتى تحصل قيمة نصيب الشريك الآخر فإذا دفعها إليه أعتق.
7- أمر المالكين أن يلبوا طلب العبيد مكاتبتهم إذا علموا فيهم خيرا، والمكاتبة عقد بين العبد وسيده على مال يدفعه منجما أو دفعة إن قدر، يعتبر بعد دفعه إليه حرا، وأمر السيد أن يعين عبده بإعطائه شيئا من ماله قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} الآية, والظاهر أن الخير يشمل صلاح العبد في دينه وأخلاقه وفي قدرته على الكسب لنفسه.(7/64)
8- ورغّب الإسلام المؤمن في أن يعتق أمته ثم يتزوجها بعد تأديبها كما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما رجل كانت عنده وليدة فعلّمها فأحسن تعليمها وأدّبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران" الحديث، ومعنى هذا أن المطلوب من المؤمن أن يحوّل جاريته الخادمة إلى ربة بيت راعية.
9- وسن الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته جعل عتق الأمة صداقها إذا أراد أن يتزوجها عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وتزوجها فقال له - أي لأنس ثابت - ما أصدقها؟ قال: نفسها أعتقها وتزوجها" متفق عليه.
هكذا وقف الإسلام من عتق الرقيق له أبوابا وسبلا كثيرة جدا رغبة في تحرير الرقيق وتقليل الرق كما قطع كل سبل الاسترقاق التي كانت سائدة قبل الإسلام إلا طريقا واحدة عادلة وقد مضى بيانها.
حقوق العبد مع بقائه عبدا
لقد اعتنى الإسلام بالعبيد الباقين في ملك ساداتهم حتى لم تبق بينهم وبين السادة فروق جوهرية، فأمر سادتهم أن يطعموهم مما يطعمون، ويلبسونهم مما يلبسون، ونهاهم أن يكلفهم من الأعمال ما لا يطيقون، ففي صحيح مسلم عن المعرور بن سويد قال: رأيت أبا ذر وعليه حلة وعلى غلامه مثلها فسألته عن ذلك قال: فذكر أنه ساب رجلا على عهد رسول صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنك امرؤ فيك جاهلية إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه".(7/65)
ومما يدل على شدة اهتمام الإسلام بالرقيق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى به في آخر لحظة من حياته وقرنه بركن من أركان الإسلام وهو الصلاة كما روى أحمد وأبو داود وابن ماجة من حديث أنس رضي الله عنه قال: كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة وهو يغرغر بنفسه: "الصلاة وما ملكت أيمانكم" ,قال الشوكاني في نيل الأوطار: ج7 ص 3: "حديث أنس أخرجه أيضا النسائي وابن سعد وله عند النسائي أسانيد منها ما رجاله رجال الصحيح"أهـ.
وللعبد الحق في أن يقوم بشعائر دينه الواجبة عليه كالصلاة والصيام، ويجب على سيده أن يرفق به كما مضى في الحديث وأن يساعده على أداء الواجب عليه، كما ينبغي أن يساعده على أفعال الخير التي يريد فعلها وليست واجبة عليه كصلاة الجمعة والجماعة والحج والعمرة وغيرها، بل ينبغي أن يأمره سيده بذلك ويعلمه أمور دينه ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر، وينبغي أن يزوجه إذا رآه في حاجة إلى الزواج، ويزوج الأمة كذلك إن لم يكن راغبا فيها هو، حتى لا يضطر العبد أو الأمة إلى مقارفة الفاحشة.
ومن أراد الاطلاع على شبه الأعداء التي يوردونها للطعن في الإسلام بسبب موقفه من الرق والجواب على تلك الشبه فليراجع (فصل الإسلام والرق) من كتاب (شبهات حول الإسلام) للأستاذ محمد قطب.
7- الخادم
اقتضت مشيئة الله وحكمته أن يجعل بعض عباده أغنياء وبعضهم فقراء، وسخّر كلاّ من الطائفتين للأخرى، هذه تنمي المال وتنفق منه على تلك، وتلك تقوم بالعمل مقابل ذلك الإنفاق.
الناس للناس من بدو وحاضرة
بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم(7/66)
والإسلام يوجه الأغنياء المخدومين إلى التواضع وعدم التكبر على الخادمين، ويجعل لهؤلاء حقوقا على أولئك يجب عليهم أن يؤدوها بدون مماطلة ولا نقص، فمن صفات المؤمنين في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} ، وقوله {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} .
فالمخدوم ينبغي أن يتواضع مع خادمه ولا يترفع عليه لأنه قد يكون أعظم درجة منه عند الله، وليس الفضل بكثرة الأموال ولا بعظم الأجسام ولا بغير ذلك من متاع الدنيا وزينتها ومظاهرها وإنما الفضل بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ولقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في معاملة الخادم ويكفينا دلالة على ذلك أن نعلم أنّ أحد خادميه مكث معه صلى الله عليه وسلم عشر سنين يخدمه في حضره وسفره ولم يقل له في شيء صنعه لم صنعته؟ ولا في شيء لم يصنعه لمَ لم تصنعه. ففي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي أف قط، ولا قال لي لشيء لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا". والرسول صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة لأمته وهي إذا لم تستطع أن تصل إلى درجة الكمال التي بلغها صلى الله عليه وسلم فلتسدد ولتقارب.
بعض حقوق الخادم على سيده
وللخادم على سيده حقوق أذكر منها ما يلي:(7/67)
1- أن يعامله معاملة حسنة ويحلم عليه إذا بدر منه خطأ، قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ، وقال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس: "إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة"رواه مسلم عن ابن عباس، وروى مسلم أيضا عن جرير بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من يحرم الرفق يحرم الخير كله" وقد سبق، وسبق حديث أنس قريبا في خدمته للنبي صلى الله عليه وسلم.
2- أن يتواضع معه ولا يتكبر عليه فإن التواضع مع الخادم يؤنسه ويشعر معه بالطمأنينة وعدم الحرج من العسر والفقر، والتكبر عليه يوحشه ويشعر بسببه أنه محتقر لا قيمة له فيضطرب ويعيش كئيبا حزينا، وقد ذم الله الكبر والمتكبرين وأعدّ لهم عقابا أليما كما مدح التواضع والمتواضعين ووعدهم الجزاء الحسن قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وقال في وصف المؤمنين {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} وقال: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} ، وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد" وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: "إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت"، وفي الصحيحين من حديث حارثة بن وهب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر".(7/68)
3- قد يقوم الخادم بالخدمة في مقابل طعامه وشرابه وكسوته، وقد يقوم بها بأجر معلوم من النقود أو غيرها، وفي كلتا الحالتين يجب على المخدوم أن يؤدي إلى الخادم ما يستحق، ولا يجوزله أن يظلمه بنقص أجرته أو مماطلته فيها فإن فعل شيئا من ذلك فقد ظلمهن, والله تعالى ذم في كتابه الظلم والظالمين كما حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منه قال تعالى: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث: "واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب", وفي صحيح مسلم من حديث أبي أمامة الحارثي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة"فقال رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ فقال: "وإن كان قضيبا من أراك", وقد حذر الله المستأجر تحذيرا شديدا من عدم إعطاء الأجير أجره, قال البخاري رحمه الله: "باب إثم من منع أجر الأجير"ثم ساق بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجره"، فليحذر المستأجرون من أن يكون الله تعالى خصمهم يوم القيامة.
4- ومن أهم ما ينبغي أن يعتني به السيد للخادم تعليمه ما يجب عليه وما يحرم من أمور دينه, وحثه على التحلي بالأخلاق الفاضلة فإن في ذلك مصلحة عظيمة للسيد والخادم والمجتمع، كما ينبغي أن يحذره من الأخلاق الرذيلة واقتراف الأمور المحرمة ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر لأنه أصبح مسئولا عنه كمسئوليته عن بقية أهل بيته.(7/69)
5- وإذا كان الخادم صالحا كفؤا, وهو في حاجة إلى الزواج وعند السيد بنت أو أخت صالحة للزواج فيحسن أن يزوجه إياها، فقد عرض الرجل الصالح صاحب مدين على موسى أن ينكحه إحدى ابنتيه ونفذ ذلك بالفعل، وليس في عرض المرأة على الرجل الصالح غضاضة ولا عيب، وإنما العيب كل العيب في ترك المرأة تختلط بالرجال الأجانب وتختلي بهم فيحصل من ذلك ما يحصل من الشرور العظيمة، وهذا ما لا يبالي به كثير من الناس وهو أمر قبيح يدل على دياثة من يفعله، وإذا ذكر له عرض بنته على رجل صالح شمخ بأنفه وتكبر ورأى في ذلك حطا من كرامته, وهذا من قلب الحقائق ووضع الأمور في غير موضعها، فإن الكرامة والنزاهة في تزويج المرأة ولو اقتضى عرضها، والإهانة والخسة في إطلاقها تفعل ما تريد، وتتصل بمن تشاء، وعرضها على رجل صالح يتزوجها خير من اتصالها بفاسق يستبيح عرضها ويلطخ شرف أهلها برجس الفجور والفحشاء، وفي سيرة سلفنا الصالح - في هذا الباب وغيره - خير قدوة لمقتفي آثارهم والله المستعان.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] شقصا بكسر الشين وسكون القاف نصيباً وفي رواية لمسلم أيضاً شركاً(7/70)
يا نفس!
للأستاذ أحمد عبد الحميد عباس
مدير العلاقات العامة بالجامعة
أقول لنفسي وقد هالها وفاة قريب لها من نسب
أيا نفس مالك لا تجزعي ففي الموت راحتنا من تعب
ومهما تمر علينا السنون فلابد للموت أن يقترب
ولابد للعمر أن ينقضي ولابد للشمل أن ينقضب
فقالت لي النفس في حيرة وقد راعها ما رأت عن كثب
ألا هل بذرت لذاك المعاد فتحصد زرعك في المنقلب
فقلت سوى الله لا أرتجي إذا عصفت بالرجاء الكرب(7/71)
من الصحف والمجلات
إعداد العلاقات العامة
نشرت وكالة الأنباء السعودية حديثا مع فضيلة الشيخ محمد بن ناصر العبودي الأمين العام للجامعة أذيع من الإذاعة والتلفزيون ونشر في الصحف المحلية ونصه:
بمناسبة الزيارة التي سيقوم بها جلالة الملك فيصل للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة أجرى مندوب وكالة الأنباء السعودية في المدينة مقابلة صحفية مع فضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية الشيخ محمد ناصر العبودي أجاب فيها فضيلته على عدد من الأسئلة المتعلقة بتطور الجامعة ونشاطها في الحقل الأكاديمي ومجال الدعوة الإسلامية فقال فضليته في معرض الإجابة على سؤال لمندوب الوكالة حول مشاريع الجامعة الجديدة: "أن هناك لدى الجامعة مشروعات علمية ومشروعات عمرانية، أما المشروعات العلمية فيأتي في مقدمتها إنشاء كلية ثالثة هي كلية اللغة العربية والآداب، وفي مقدمة المشروعات العمرانية إنشاء مبنى ثان لمهاجع الطلبة يتسع لإسكان 740 طالبا وهو مماثل للمبنى الحالي الذي رصد له مبلغ خمسة ملايين وثمانمائة ألف ريال".
وأجاب على سؤال لمندوب الوكالة حول الدراسات العليا بالجامعة قال فضيلته:
"لقد أنجز مجلس الجامعة الإسلامية مشروع الدراسات العليا بمناهجه ونظمه ورفعه للمقامات العليا المختصة وآمل أن يحوز على الموافقة"، وحول دور الجامعة في نشر الإسلام وعمّا إذا كان سيقتصر نشاطها على الدراسات النظرية أم أنه سيكون لها نشاط في مجال الدعوة الإسلامية خارج هذا النطاق قال الأمين العام للجامعة الإسلامية:(7/72)
"إن أهم دور للجامعة هو أنها تعمل على تخريج جيل جديد من أبناء المسلمين مثقف ثقافة إسلامية صحيحة على المستوى الجامعي وبطريقة أكاديمية حديثة، وهذا الجيل يعود إلى بلاده في أنحاء العالم كي يقوم بالدعوة والإرشاد إلى الله، وهناك إلى جانب الناحية الدراسية الأكاديمية مساع للجامعة الإسلامية في سبيل نشر الإسلام وذلك عن طريق ابتعاث أعداد من موظفيها والمنسوبين إليها لتبصير من يلتقون بهم من المسلمين ودعوة غير المسلمين إلى الإسلام، كما أنّ الجامعة قائمة على توزيع طائفة صالحة من الكتب الإسلامية بعدة لغات وعلى رأسها ترجمة معاني القرآن الكريم وترجمة صحيح البخاري إلى اللغة الإنجليزية، هذا إلى جانب أن أعدادا من المتخرجين من الجامعة قد تعاقدوا مع رئاسة إدارة الإفتاء والبحوث العلمية والدعوة والإرشاد للعمل في حقل الدعوة الإسلامية في أفريقيا, وهم يقومون بنشاط بارز في هذا المضمار، وهناك ناحية هامة بدأت الجامعة بها بناء على توجيه من جلالة الملك فيصل - حفظه الله - وهي إرسال بعض مدرسيها للتدريس في بعض الجامعات الإسلامية في الهند وباكستان".
وحول التعاون بين الجامعة والمؤسسات الإسلامية غير الأكاديمية قال فضيلته:
"إن الجامعة تعادل مناهج بعض المعاهد الإسلامية وتقبل طلبة من المتخرجين منها لإكمال دراساتهم في الجامعة الإسلامية بالمدينة إذا كانت الدراسة فيها على المستوى المطلوب، وهناك بعض المؤسسات الإسلامية التي تمدها الجامعة بالكتب وتتوسط لها لدى الجهات المختصة للحصول على الدعم المطلوب".
وردًّا على سؤال لمندوب وكالة الأنباء السعودية حول ما إذا كانت الجامعة قد تبنّت فكرة توحيد المناهج الدراسية في العالم الإسلامي, والجهود التي بذلتها الجامعة في هذا السبيل قال فضيلة الشيخ محمد ناصر العبودي:(7/73)
"إن الجامعة قد تبنّت الفكرة مع الجامعات الإسلامية ومن خلال اشتراك الجامعة في جمعية الجامعات الإسلامية جرى تبادل في الرأي حول المناهج الدراسية في الجامعات الإسلامية بغية الاستفادة من الخبرات التي اكتسبتها الجامعات الإسلامية ذات الخبرة الطويلة في هذا الميدان، وطبيعي أن ذلك لا يعني أن الجامعة تنوي نقل مناهج الجامعات الأخرى إليها نقلا".
وعن الخطوات التي اتخذت لتنفيذ مقررات الندوة العالمية للجامعات الإسلامية قال: "إن أهم الخطوات هي دراسة تلك المقررات ومعرفة إمكانية تطبيقها على مراحل"، وإجابة على سؤال لمندوب الوكالة حول الدور الذي تؤدّيه الجامعة في التقريب بين الشعوب الإسلامية قال الأمين العام للجامعة الإسلامية:
"إن أهم عوامل التعاون: التقارب والتعارف وليس أكثر فعالية للتعارف من أن يعيش الطلبة المسلمون من الدول المختلفة في الشرق والغرب وأقصى الشمال والجنوب جنبا إلى جنب سنوات عدة متواصلين متحابّين في الله, تذوب بينهم فوارق اللغة واللون, وينعدم البعد القاري بينهم".
وقال الشيخ العبودي في معرض الإجابة على سؤال لمندوب الوكالة حول وجهة نظر الجامعة في منح الانتساب إليها "إن وجهة النظر التي تقول بمنع الانتساب إلى الجامعة تقوم على أن الجامعة الإسلامية بالمدينة أسست في الأصل لتربية الشباب المسلم من أنحاء العالم تربية إسلامية صحيحة بمعنى الإشراف على معظم وقت الشباب إن لم يكن كله، وإذا ما أبيح الانتساب فإن بعض هذه القيمة قد يفقد.
وهناك في الجامعة من يرون أنه بمزيد من الجهد يمكن تحقيق الهدف الأول بالنسبة لأكثرية الطلبة وتيسير الدراسة للذين لا يستطيعون الانتظار، وعلى كل حال فغن القول الفصل في هذا الأمر هو لمجلس الجامعة والموضوع لا يزال معروضا عليه".(7/74)
وقال فضيلته مجيباً على سؤال لمندوب الوكالة حول ما إذا كان هدف الجامعة قد تحقّق من خلال تجربتها مع أوائل الذين تخرجوا وعادوا إلى أوطانهم فعلا قال:
"إنّنا إذا نظرنا إلى ما يقوم به أكثر المتخرجين من الجامعة من عمل إسلامي جليل في أنحاء مختلفة من الأرض فإننا نتفاءل بل نطمئن إلى أن الجامعة سائرة في الطريق الصحيح إلى تحقيق أهدافها التي يسهر جلالة الملك فيصل حفظه الله على تحقيقها تطبيقا لسياسة التضامن الإسلامي التي من أهم أهدافها تعاون المسلمين على البر والتقوى، والسعي لنشر العلم والخير والمحبة للجميع".
وردًّا على سؤال لمندوب الوكالة حول الأسس التي يقوم عليها تحديد المنح للدول الإسلامية قال فضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية:
"إن أهم أسس لتحديد المنح هو حاجة البلاد الإسلامية للتعليم الإسلامي وليس كثرة عدد السكان، فقد تخصص منح أكثر لبلد أقل سكانا لأنه أحوج ما يكون إلى التعليم الإسلامي، والجامعة الإسلامية تضم الآن ألفا وثلاثمائة وخمسة وخمسين طالبا (1355) ينتمون إلى 81 دولة".
أرباح من غير بضاعة:
قال الحافظ أبو حاتم محمد بن حبان البستي في (روضة العقلاء) : أخبرنا عبد الله بن محمود بن سليمان السعدي حدثنا شعبة بن هبيرة حدثنا جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار قال: "اتخذ طاعة الله تجارة تأتك الأرباح من غير بضاعة".(7/75)
ألا هبوا للثأر
للشاعر اليمني حسن بن يحي علي
عضو الجمعية العلمية اليمنية في صنعاء
إباحية الأقزام تنذر بالشر
وتعلن آثام التحلل في جهر
فما سمعت أوطاننا قط فرية
كفرية رهط قد أصروا على الكفر
فلا حل في سلم لهم أو تهاون
وقد أسرفوا فيما أتوه من الغدر
وكيف وأشلاء الضحايا بساحنا ممزقة الأوصال تشعل في الصدر
جراحا بأعماق النفوس خطيرة
تنادي ألا هبوا بني الشعب للثأر
وشنوا على الإلحاد حربا فإنها
هي الحل إن رمنا الحفاظ مدى الدهر
على قيم عشنا نرى في وجودها
وجودا لنا في عالم العز والفخر
على قيم الإسلام أسمى عقيدة
ندين بها وهي السبيل إلى النصر
بني اليمن الأقيال هل يسمح الآبا
لكم أن تقادوا للمذلة والأسر؟
فيحكم فيكم إخوة المجد مارق
بأسلوب هدم كم تلوث بالوزر
دخيل تبنى لليهود طريقة
تمثل أحقاد اليهود وتستشري
ألا فاعلموا أن المخاطر جمة
إذا كفرهم ساد (الجنوب) ومن يدري
بعاقبة الإهمال إن ضاق مسلم
عن الصبر في ساح الكرامة والأجر
فخير لكم أن تستميتوا أعزة
دفاعا عن الأيمان والمثل الغر
فخوضوا غمار الموت فالخطب هين
إذا ما ثبتم في اللقا ساعة الكر
فلن يصمدوا عن واجهتهم أشاوس
تمثل روح الدين في الصدق والصبر
فما باطل الإلحاد أقوى شكيمة
وأمضى نفاذا في الثبات على الأمر
من المسلم الشاري حياة زهيدة
بدار نعيم دائم الخلد والبشر
بها ضمن الرحمن أسمى مكانة
لكل شهيد حافظ العهد والسر
بوعد صريح في كتاب مهيمن
تبارك من أوحى به ليلة القدر
إلى عبده كي يحكم الناس باسمه
ففيه خلاص للأنام من الشر(7/76)
وفيه شفاء للنفوس من العمى
وفيه انطلاق للإرادة والفكر
فلو حكم القرآن ما ساد باطل
ولا عبثت في غيها ظلم الكفر
ولو نفذت أحكامه في صرامة
لما ساد إلاّ واقع العدل واليسر
ولا انزاحت الظلماء عن أفق عالم
يواجه أهوالا جساما بلا حصر(7/77)
تاريخ الفلبين
جغرافيتها من حيث الموقع والحدود
والعاصمة والمدن الهامة والأماكن السياحية
تتألف الفلبين من مجموعة جزر عددها سبعة آلاف ومائة 7100، وتنقسم الفلبين إلى ثلاثة أقسام: 1- لوزون, 2- وبيساياس, 3- ومينداناو، وأكبر هذه الجزر جزيرة لوزون وتليها جزيرة مينداناو ثم سامار ثم نيغروس ثم فانى.
ومجموعة مساحتها تبلغ 115600 ميلا مربعا، وعدد سكانها في إحصائها الأخير 38 مليون نسمة، وعدد المسلمين منها يزيد على 4 ملايين, و30 مليون كاثوليك, و3 ملايين بروتستانت, ومليون لا دين لهم.
ويحيط بالفلبين شرقا المحيط الهادي، وشمالا الصين، وغربا بحر الصين، وجنوبا سيليبس وبورنيو وأندونسيا.
ولقد كانت مدينة مانيلا عاصمة الفلبين منذ بداية العهد الإسباني إلى أن أنشئت إلى جوارها مدينة (كيسون) فأصبحت الآن هي عاصمة لها، ويطلق اسم (مانيلا) على المنطقة التي تشمل مدينة مانيلا الأصلية والمدن الأخرى التي تقع في ضواحيها وتتصل بها.
ومن أهم مدنها مدينة (سيبو) حيث تعتبر مركز التجارة في وسط جنوب الفلبين, وأكبر المواني الموانئ الفلبينية بعد مانيلا، ولا تزال هذه المدينة تحتفظ بآثار المستعمرين الأوائل من الإسبان الذين اتخذوها قاعدة لهم قبل فتح مانيلا، ومنها مدينة (اليغان) في مينداناو، وهذه المدينة ترقد تحت أقدام شلالات (ماريا كريستانا) الشهيرة التي تعتبر من أبرز معالم الجمال الطبيعي في الفلبين، ومنها مدينة (باغيو) وترجع أهميتها إلى اعتدال الجو فيها حيث تقع في منطقة جبلية مرتفعة، وتعتبر مصيف الفلبيين وملجأ الهاربين من قسوة الحرارة بالمدن الواقعة في السهول المنخفضة.(7/78)
وأما أماكنها السياحية فكثيرة منها: ما يسمى بـ (لونيتافارك) , وهي من أجمل حدائق مانيلا التي لا تخلو من الناس ليلا ونهارا، وهي المكان الذي اجتمع فيه الشعب الفلبيني يوم نالت استقلالها في سنة 1946م، ومنها المزارع الجبلية (لايفوغاو) وهم من جنس سكان الفليبن الذين يسكنون في المناطق الجبلية في لوزون، ومنها حديقة الحيوانات في مانيلا ويوجد في هذه الحديقة كثير من أنواع الحيوانات من أفريقيا وغيرها من البلدان الأجنبية، ولا يزال الناس يزورونها في كل يوم، ومنها مساقط المياه في اليغان تسمى بـ (مارياكريستنا فول) التي سبق ذكرها، ومنها بحيرة (لانو) التي تقع في لانو الجنوبي منطقة المسلمين، وفي هذه البحيرة أنواع من الأسماك يبلغ عدد أنواعها ما يربو على أربعين نوعا، وكان المسلمون في هذه المنطقة يسكنون حول هذه البحيرة وفيها جزيرتان صغيرتان يتفسح فيهما دائما كثير من الناس، ومن أجمل هذه الأماكن السياحية ما يسمى بـ (فاسونانجكا) التي تقع في مدينة جميلة اسمها (زامبوانجا) ، وفي هذا المكان كثير من الآبار تحتها أشجار مختلفة الأنواع، وقد اتخذها الناس مكان نزهتهم لسعتها وجمالها.
تاريخ دخول الإسلام في الفلبين
وصل الإسلام إلى الفلبين في سنة (800هـ - 1380م) على أيدي التجار العرب من الحجاز واليمن وحضرموت عندما كانوا يقومون برحلاتهم الشهيرة إلى الصين، وعلى أيدي دعاة الإسلام من الملايو وأندونسيا، ومن هذا التاريخ بدأ الإسلام ينتشر من الشمال إلى الجنوب حيث سلطنة (صولو) ، وقد كان أول من تولى السلطنة فيها الشريف الهاشمي أبو بكر، وهو قادم إلى الفلبين من حضرموت، ثم سلطنة (ماغنداناو) التي تولاها السلطان الشريف محمد فبونصوان، وهو قادم من ولاية (مالكا) ، وقيل: إن أباه عربي وأمه من أصل (مالكا) ، والسلطنة الثالثة الكبيرة في مانيلا، وأول سلطان لها رجا سليمان.(7/79)
ولم تكن هذه السلطنات تخضع لحكومة واحدة وإن كانت بينهم علاقة وطيدة، وهناك آثار توجد الآن تدل على أن الإسلام دخل الفلبين من زمن بعيد في عهد العباسيين.
بداية الصراع
في عام (941هـ- 1521م) أرسلت إسبانيا بعثة من مبشرين نصارى للبحث عن طريق موصل للهند، خرجت هذه البعثة مارة على المحيط الباسفيكي، وبقدرة الله تعالى رست على جزر الفلبين، وحينما وصلوا وسط هذه الجزر خاصة وجدوا أن المسلمين بها قلة فاستقروا فيها، لكنه حدث صراع بين (ماجلان) قائد البعثة و (لافولافو) أحد رؤساء المسلمين في جزيرة (ماكتان) حيث قتل الاثنان ثم هرب الباقون من الإسبان ثم رجعوا إلى إسبانيا حيث قدموا تقريرا لملكهم، ودرست بناء على هذا التقرير طريقة الوصول إلى هذه الجزر، ومن تلك الفترة والصراع محتدم بين المسلمين والإسبان، وقد قاتلهم المسلمون في شجاعة خارقة وبطولة خالدة وتضحية نادرة دفاعا عن العقيدة الإسلامية وعن الوطن, ولكن شاء الله أن استولى الإسبانيون على الحكم, وأسموا الجزر بـ (الفلبين) نسبة إلى الملك (فليب الثاني) ملك إسبانيا في هذه الفترة، وقد استمر الحكم الإسباني من (980-1316هـ، 1560-1898م) حيث استطاعوا أثناء احتلالهم الاستيلاء على أكبر جزيرة (لوزون) وعلى وسطها حتى امتد إلى الجنوب، وإن كان الإسبان لم يستطيعوا الاستيلاء على (مينداناو) و (صولو) لقوة سلاطينها، ولذا ظل الصراع بين المسلمين والنصارى محتدما ما يربو على ثلاثمائة سنة.
والإسبان هم الذين نظموا جنود الفلبين لحرب أهل الجنوب, لكن الجيوش لم تستطع الانتصار على المسلمين، وكان القتلى أغلبهم من النصارى، أما عدد المسلمين الذين استشهدوا للدفاع عن إسلامهم منذ دخول الإسبان حتى الآن فلا يعد ولا يحصى، ومنذ احتلال الإسبان إلى خروجهم والحكومة القائمة بعدهم لم تستطع دخول (مينداناو) .(7/80)
وفي عام 1898م استطاع الأمريكان التغلب على الإسبان والانتصار عليهم, وعقدوا معاهدة بينهما تنصّ على ترك الفلبين لأمريكا، وبذلك أصبح الحكم أمريكيا، ثم بدأ الأمريكان يكملون نفس دور الإسبان بقتال المسلمين وإخضاعهم لحكمهم, ولكنهم لم يستطيعوا التغلب على مسلمي (مينداناو) و (أرخبيل صولو) .
نشاط المسلمين في نصر دينهم
وبعد أن نالت الفلبين استقلالها في سنة (1366هـ - 1946م) ابتدأ المسلمون بالنهضة الإسلامية عن طريق تأسيس الجمعيات الإسلامية والمعاهد والمدارس الإسلامية، ومن بين هذه الجمعيات (جمعية إقامة الإسلام) في مدينة (ماراوي) بالفلبين التي تأسست سنة (1375هـ- 1955م) ومن أهم أهدافها ما يلي:
1- القيام بتبليغ الدعوة الإسلامية في الشرق الأقصى عامة وفي جزر الفلبين خاصة، وشرح مبادئ الإسلام وتعاليمه، والدفاع عنه من تشويهات الملحدين والرد على مفتريات أعداء الإسلام من المبشرين الصلبيين الذين انتشروا في جميع أنحاء الفلبين.
2- القيام بتعليم اللغة العربية ليستطيع مسلمو الفلبين فهم معاني القرآن الكريم والأحاديث النبوية, وحتى تكون اللغة العربية هي لغة التفاهم بين مسلمي الفلبين.
3- السعي على توحيد كلمة المسلمين في الفلبين, عسى الله تعالى أن يعيد إليهم مجد الإسلام المسلوب عنهم منذ زمن بعيد، والجدير بالذكر - وبفضل الله تعالى- استطاع مجلس جمعية إقامة الإسلام أن يوحّد بين أربع وعشرين جمعية إسلامية في الفلبين كلها انضم تحت لواء منظمة واحدة اتفقوا على تسميتها بـ (اتحاد الجمعيات الإسلامية بالفلبين) .(7/81)
ولكل جمعية من هذه الجمعيات مدرسة واحدة أو مدرستان فأكثر, وكلها تعتني بتعليم اللغة العربية والدين الإسلامي، وأما (جمعية إقامة الإسلام) فلها ما يزيد على مائة مدرسة ابتدائية وتحضيرية لقراءة القرآن الكريم وإعدادية وثانوية، وبجانبها معهد مينداناو العربي الإسلامي، ويعتبر هذا المعهد أكبر معهد من المعاهد الإسلامية في الفلبين البحتة، وجعلته الجمعية مركزا لتعليم اللغة العربية والدين الإسلامي، والدراسة فيه تتكون على ثلاث مراحل: 1- ابتدائية ومدتها أربع سنوات، 2- وإعدادية ومدتها أربع سنوات، 3- وثانوية ومدتها أربع سنوات، ويحصل الطالب على الشهادة من كل مرحلة من مراحلها الثلاث، وقد تخرج من المعهد عدد كبير من الطلبة والطالبات أرسل بعضهم كبعثة علمية إلى الدول الإسلامية مثل الجمهورية المصرية العربية، والمملكة العربية السعودية، والمملكة الأردنية الهاشمية، والجمهورية الليبية، والجمهورية التونسية، والجمهورية السودانية، ودولة الكويت، ودولة قطر يتعلمون في هذه الدول الإسلامية اللغة العربية والدين الإسلامي على سبيل منحة دراسية، وبعض خريجي المعهد بقوا مدرسين في المدارس الإسلامية المنتشرة في المدن والقرى في الفلبين.
هكذا وقد قامت (جمعية إقامة الإسلام) بمباشرة بعض مهماتها منذ تأسيسها حتى الآن باتباع الوسائل التالية:
1- تأسيس المعاهد والمدارس في المدن والقرى.
2- إصدار مجلة إسلامية باللغة المحلية والعربية والإنجليزية.
3- إرسال الوعاظ والدعاة إلى المساجد والمجتمعات العامة وإلى المناطق المسلمة وغير المسلمة.
4- تعليم أبناء المسلمين أمور دينهم الحنيف في المدارس التابعة للحكومة.
5- إنشاء مكتبات إسلامية مزودة بالكتب الإسلامية والعربية والثقافية.
6- إلقاء المحاضرات الإسلامية ونشر تعاليم الإسلام عن طريق الإذاعة وفي بعض المناسبات.(7/82)
هذا نشاط المسلمين من ناحية نشر دينهم في الفلبين، وأما من ناحية الذود والدفاع عنه فهناك منظمات سرية قد تدربت تدريبا حربيا وكونت لأجل حماية الإسلام والوطن، بعد أن أحس المسلمون بأن الحكومة تتعصب للنصرانية, وتخطط مع النصارى تخطيطا يقصد به تنصير مسلمي الفلبين بالقوة حتى تكون دولة نصرانية محضة.
وإضافة إلى تلك المنظمات السرية فقد كلف المسلمون بشراء الأسلحة، فمنهم من استطاع ذلك ومنهم من لم يستطع، فاعتمد - بعد الله تعالى - على ما ترك له آباؤه وأجداده من الرماح والسيوف التي قاوَمُوا بها المستعمرين الأوائل من الإسبان واليابان والأمريكان.
نشاط أعداء الإسلام في نشر المبادئ الهدامة
أما نشاط أعداء الإسلام في نشر المبادئ الهدامة في الفلبين فلا شك أنه كان ولا يزال في غاية الجهود والتعصب في بثه بين المواطنين اللادينيين فينصرونهم بكل وسيلة، وقد قامت الجمعيات التبشيرية النصرانية الصليبية بإنشاء مدارس في المناطق الإسلامية بلا استثناء, معتمدة في ذلك على حماية الحكومة وضمان العبادة وإقامة الطقوس الدينية، وكان من لا يجد ريا لظمئه للمعرفة لدى المدارس الإسلامية أو المدارس الحكومية ينتسب إلى مدارس الجمعيات التبشيرية النصرانية الصليبية حتى إن بعض من نشأوا بعيدا عن روح الإسلام والعقيدة الصحيحة جذبتهم هذه المدارس واستطاعت بفعل الروح التبشيرية المسيطرة فيها أن تكسبهم إلى صفوف النصرانية، ولقد استطاعت هذه الجمعيات التي تنهج طريقة التسليف أن ترسخ دعائمها في المناطق الإسلامية بفضل الأموال الطائلة التي يغدقها الفاتيكان والمنظمات الكاثوليكية كمنظمة (نوتريديم) التي استطاعت أن تحقق نجاحا كبيرا في مقاطعات (كوتباتو) بالفلبين إذ قامت بإنشاء جامعة نوتريديم في مدينة (كوتباتو) وزوّدتها بإحدى معدات الطباعة العصرية وأخذت تصدر نشرة تسمى (صليب مينداناو وصولو) .(7/83)
ولم يكتفوا بذلك فترجموا أناجيلهم المخترعة من عند أنفسهم إلى اللغات المحلية للمسلمين, فوزعوها مجانا على بعض قرى المسلمين، ولكن سرعان ما عرف بذلك العلماء بفضل الله تعالى وطردوا هؤلاء الذين قاموا بتوزيع هذه الكتب الكاذبة, ثم أمروا بجمعها فأحرقت.
وأهم هذه المبادئ المذكورة هو تحالفهم مع الحكومة الفلبينية سرا على القضاء على الإسلام والمسلمين بكل وسيلة من وسائل الإبادة والإفساد مهما خالفت قانون الدولة، والدليل على ذلك أن الحكومة قد نظمت معهم منظمة يطلق عليها اسم (ابلاغا) أي جماعة الفئران، وهي التي تعمل الآن بعمليات القتل والإرهاب ضد المسلمين.. ولها اتصالات بالمنظمة الصهيونية العالمية.
نظام البلاد في الماضي والحاضر
وبما أن الفلبين تعتبر ملتقى الحروب بين الشعوب الأجانب والشعب الفلبيني فلا غرابة أن نظامها قد اختلف حسب دور كل شعب استولى على البلاد، وقد سبق الكلام على أن نظام البلاد قبل مجيء الإسبان هو نظام السلاطين، ولما استولى الإسبان على البلاد أصبح الحكم تابعا لحكم إسبانيا، وهكذا كل من اليابان والأمريكان إلاّ أنّ وراء تلك الأحكام الثلاث المتتالية الاستعمار وإن اختلفت أساليبه، فالاستعمار الإسباني والاستعمار الياباني كانا يلتزمان دائما جميع أساليب القوة والعنف والقهر للوصول إلى تحقيق أهدافهما في غير رحمة ولا شفقة، وأما الاستعمار الأمريكي القديم فكان يلجأ إلى التحايل والمداهنة والخديعة لتحقيق أهدافه.
ولما استقلت الفلبين من أمريكا في سنة (1366هـ-1946م) وأصبحت جمهورية تحكم بالديمقراطية أصبح لكل فرد من أفراد الشعب مسلما كان أو غير مسلم الحق والحرية في أن يرشح نفسه إلى أي منصب من المناصب الانتخابية والتعينية بشرط أن يكون عنده أهلية لذلك المنصب، كما أنه له الحق والحرية في اختيار أحد من بين المرشحين ينتخبه.(7/84)
وأما من الناحية الدينية فللشعب حرية دينية فيستطيع كل فرد أن يعتنق أي دين من الأديان, ويستطيع كل شخص أن ينشر دعايته الدينية بأنواعها, فلا تمنعه الحكومة ما دامت لا تعارض قوانين الحكومة، هذه كلها كانت مقررة في دستور الفلبين إلاّ أن هذا الدستور محدود، كما أنه تجري حاليا دراسة تعديلها، وفي شعبان (1392هـ - 21 سبتمبر سنة 1972م) أعلن رئيس الفلبين الرئيس فرديناند ماركوس الأحكام العرفية بدعواه الكاذبة وهي منع الثورة والخارجين على الحكم، وبناء على هذا أصبحت المناطق قد استولى عليها الجيوش، فيمكن لهم القبض على أي شخص ولو بدون سبب ما دام متهما، وعلى كلٍّ, إنما فعل هذا الرئيس ماركوس لتتستر بها الحكومة حتى يتمكن الجيش الفلبيني من تدمير المسلمين وإبادتهم كما أخبرنا بذلك أقرباؤنا في البلاد عن طريق الرسائل.
حالة مسلمي الفلبين الحاضرة
إن حالة مسلمي الفلبين اليوم كانت ولا تزال في غاية البؤس والشدة والاضطراب، لأنه لما علمت الحكومة والنصارى أن مخططاتهم التي حددوها بعشرين سنة بتنصير جميع المسلمين - وقد انتهى هذا التحديد في سنة (1391هـ-1971م) - لم تنجح غيّروا أساليبهم إلى أسلوب آخر، فنظّموا منظمات إرهابية نصرانية تعمل الآن على محاولة تصفية المسلمين, فتقوم بعمليات القتل والإرهاب ضد مسلمي الفلبين، وذلك بتشجيع من القسّيسين ورهبان النصارى, وبمساعدة الحكومة الفلبينية والجيش الفلبيني، وبإمداد حكومة جولدا مائير رئيسة الوزراء لليهود بالمال والسلاح والذخيرة، وأكبر هذه المنظمات الإرهابية المنظمة التي تطلق على نفسها عصابة (ايلاغا) أي جماعة الفئران، وقد قيل في بعض الصحف أن الرئيس ماركوس رئيس جمهورية الفلبين هو الذي أسسها لتنفيذ مخططه.(7/85)
وأهم الجرائم التي يرتكبها أفراد العصابات النصرانية ضد المسلمين أنهم يطردون المسلمين من أراضيهم ويحرقون بيوتهم ومساجدهم ومدارسهم ومزارعهم, ويهتمون بإحراق القرآن الكريم وبقتل أئمة المساجد ويهتكون أعراض النساء قبل قتلهن، ويمثّلون بالشهداء من المسلمين، وذلك بقطع ثدي النساء وقطع رؤوس الأطفال وآذان الرجال، ومن الأغراض في تمثيلهم بالشهداء من المسلمين أن لكل من أحضر أذنا أو ثديا أو رأس طفل جائزة مالية من زعماء المنظمات السرية، وقدرها يتراوح من مائة (100) إلى (1000) بيسو من عملة الفلبين.
بعض الحوادث التي وقعت على المسلمين
1- في جمادى الأولى (1391هـ - 27-6-1971م) قتل سبعون مسلما فلبينيا في مذبحة رهيبة في إحدى قرى المسلمين في مقاطعة (كوتباتو) ، وقد كانوا في داخل أحد المساجد في انتظار عقد اجتماع صلح مع النصارى في تلك القرية، وعندما اقتحمت المسجد مجموعة من الأشخاص المسلحين المجهولين أخذت تطلق الرصاص على الرجال والنساء والأطفال، وقد قتل 70 وأصيب عدد كبير.
ومن الملاحظ أن هؤلاء المسلمين الشهداء لم يدفنوا في المقابر المعروفة؛ لتعذر نقل أجسامهم المفتتة من المسجد إلى المقابر, بل جعل المسجد مدفنا لهم اضطراريا, كما يلاحظ هنا أن ثلاثة أطفال ماتوا وهم يمسكون ثدي أمهاتهم وهم راضعون, إنه لدليل واضح على عدم إنسانية هؤلاء الإرهابيين المجرمين.(7/86)
2- أغارت عصابة (ايلاغا) على المسلمين في بلدية (ألمادا) في منطقة (كوتباتو) أثناء احتفالهم بمولد النبي صلى الله عليه وسلم فقتل جميع من في المولد وهم ثمانية وتسعون 98 مسلما ما عدا خمسة أولاد، فلجأ الأولاد الخمسة إلى ثكنة الجنود لطلب النجدة من الجيش الفلبيني فوجدوا أن قائد الثكنة هو مسلم فاتجه القائد المسلم إلى مكان الحادث وأخذ معه خمسة جنود نصارى، وبينما هم يمشون في الطريق أخذ الجنود الخمسة يطلقون الرصاص على ثلاثة من الأولاد فاستشهدوا في الحال وبقي صبي وصبية، ثم أطلق القائد المسلم الرصاص على الجنود الخمسة فماتوا كلهم ثم هرب القائد المسلم وانضم إلى المسلمين المقاتلين.
3- في شوال (1391هـ - 22 من نوفمبر 1971م) أوقف الجيش الفلبيني ثلاث سيارات مملوءة بالركاب في بلدية (تاكوب) في (لاناو الشمالي) وكلهم مسلمون, وهم في طريقهم إلى بلادهم في (لاناو الجنوبي) بعد أن أدلوا أصواتهم في انتخاب (بلدة ماغساي ساي) وعندما توقفت السيارات الثلاث أجبرهم الجيوش على النزول, ثم أمروا بالرقود على البطن, ثم أطلق عليهم الجيوش الرصاص, فاستشهد 63 منهم, وأصيب آخرون بجراح.
وتتلخص النتائج التي أسفرت عنها المذابح التي تعرض لها مسلمو الفلبين إلى ما يأتي:
1- أحرق أكثر من 2234 من بيوت المسلمين, وكما أحرق أكثر 300 مسجد, وأكثر من 70 مدرسة.
2- إن ضحايا المسلمين أكثر من ثلاثة ألاف شخص، كانوا رجالا ونساء وأطفالا وشيوخا.
3- جرح أكثر من ثمانية ألاف شخص كانوا رجالا ونساء وأطفالا وشيوخا.
4- لقد هاجر أكثر من خمسين ألف شخص من أراضيهم، وهم الآن بين الموت والحياة لمعاناتهم الجوع والألم.
5- المسلمون المهاجرون لم يستطيعوا أن يحصدوا مزارعهم لطردهم من أراضيهم, وإنما حصدها الجيش الفلبيني وأفراد العصابات النصرانية.
6- استولى النصارى على أكثر من 20 بلدة من أراضي المسلمين.(7/87)
وجدير بالذكر أن معظم هذه الخسائر حدثت قبل أن اتحد زعماء المسلمين في الفلبين، وبعد اتحادهم استطاع المسلمون المقاتلون - بصبرهم وشجاعتهم وإيمانهم - أن ينتصروا في كثير من المعارك التي نشبت بينهم وبين الجيش الفلبيني, كما استطاعوا أن يقتلوا عشرات مقابل شهيد واحد من المسلمين، وأيضا فقد أسقطوا اثنين من طائرات الهليكوبتر, ودمّروا بعض دبابات الجيوش التي استعملوها في الهجوم على المسلمين.
هذا وبالرغم من انتصارهم في كثير من المعارك التي دارت بينهم وبين الأعداء بعد اتحاد زعمائهم بالرغم من ذلك كله فإنهم بحاجة ماسة إلى المال والسلاح والذخيرة.
وقد اكتشف أن تخطيط الأعداء الأخير هو إجلاء المسلمين من المناطق النائية المحيطة بمراكز المسلمين حتى إذا لجأوا كلهم إلى تلك المراكز تمكن الأعداء من جمع قواهم فيسهل عليهم القضاء على المسلمين في وقت قليل.
وقد بدأت قوات الحكومة بالهجوم على أكبر مراكز المسلمين وهو مدينة (ماراوي) عاصمة (لاناو الجنوبي) بعد أن أعلن الرئيس ماركوس الأحكام العرفية، ذلك أن الحكومة أنذرت المسلمين في تلك المنطقة في شهر رمضان الماضي في هذه السنة 1392 أن يسلّموا أسلحتهم, وإلا فالجيوش سينطلقون على منازل المسلمين لقبض أسلحتهم، وقد حددت الحكومة وقت تسليم الأسلحة، وقبل هذا الموعد تقدم المسلمون إلى مهاجمة جيش الحكومة في معسكراتهم (كامف كيتلى) , واستطاعوا في أول هجومهم الاستيلاء على تلك المعسكرات, وأحرقوا اثنين من ثكنات الجنود وإذاعة واحدة للحكومة, ثم هرب من في المعسكرات من الجيوش، ولم تلبث ساعات حتى جاء المدد من جيوش الحكومة قادمين من (اليغان لاناو الشمالي) فحملوا على المسلمين في معسكرات الجيوش, ودار بينهم قتال عنيف خلال 24 ساعة، وقد استطاعت الجيوش استعادة معسكراتهم لكثرتهم وقوتهم.(7/88)
وقد قتل في هذه المعركة عدد كبير من الجانبين يبلغ إلى ستمائة قتيل، ومن بين قتلى المسلمين عدد من علمائهم من بينهم خرِّيجا الأزهر وهما الأستاذان مسلم صديق والأستاذ عبد المنان أبو بكر، ومما يشتد على المسلمين في تلك المنطقة أن الحكومة قد وضعت قواتها المسلحة الرابعة بعد هذه المعركة في مدينة (ماراوي) ترسل جماعات من الجيوش إلى بلديات المسلمين يستولون عليها بدعواهم أن الحكم حكم عرفي.
ومما يصعب على المسلمين عدم تمكن علمائهم وبعض رؤسائهم من توجيه المسلمين المقاتلين حيث يتهربون؛ لأن الحكومة أمرت بالبحث عنهم لسجنهم؛ بدعوى أنهم هم السبب الأكبر لإقامة الثورة ضد الحكومة.
أسباب مأساة مسلمي الفلبين
وقد بدأت مأساة مسلمي الفلبين من أيام مجيء الإسبان واستمرت إلى يومنا هذا حيث لم يخضع آباؤنا وأجدادنا لجميع المستعمرين من الخارج كالإسبانيين واليابانيين والأمريكانيين حتى فاضت دماؤهم تحت راية إسلامهم دفاعا عنه وعن الوطن، ثم جاء أحفادهم فواجه إليهم أعداءهم الداخلين الاستعمار الجديد يريدون بذلك تنصير هؤلاء الأحفاد عن طريق التحايل والمداهنة أولا, وعن طريق القوة والقهر أخيرا، فوقفوا على وجه الأعداء موقف آبائهم وأجدادهم من الدفاع والذود عن عقيدتهم الإسلامية وعن وطنهم الحبيب حتى لا يزال الآن ينتشر في جميع ربوع العالم ما يدور بينهم وبين أعدائهم ليل ونهار.
وتتلخص أسباب المأساة التي يتعرض لها مسلمو الفلبين في الوقت الحاضر إلى ما يأتي:(7/89)
1- اقتراح زعماء النصارى بضرورة جعل حكومة نصرانية بحتة، خالية من المسلمين بحجة أن انتشار الأمن والسلام بالفلبين يتوقف على خلوها من المسلمين، فمن المقترحين الجنرال (بالاو) قائد الجيش الفلبيني سابقا فقدم مشروعا إلى الحكومة الفلبينية في عام (1376هـ - 1956م) وهو ضرورة توحيد الدين, وإرغام أهالي الفلبين كلهم على دين النصرانية, مدعيا بأن تقدم البلاد أو انتشار الأمن والسلام فيها يتوقف على مشروعه، ولكن هذا المشروع قوبل بالنفي حيث رفضه المسلمون حتى استعدوا للجهاد، فلذلك غير زعماء النصارى اقتراحهم العلني بالاقتراح السري الذي لا يعرفه إلا أعضاء المنظمات السرية الإرهابية.
2- تأييد مسلمي الفلبين لجميع القضايا الإسلامية عامة ولقضية الشرق الأوسط بصفة خاصة، ويتجلى هذا التأييد في مطالبة مسلمي الفلبين بالتطوع الصادق في كل معركة تدور بين المسلمين وغيرهم من الطوائف الأخرى المعتدية، ومعارضة زعماء مسلمي الفلبين إقامة العلاقات بين الفلبين وإسرائيل، ومهاجمتهم الحكومة الفلبينية لدعوتها (جولدا مائير) لزيارة الفلبين عام (1387هـ-1967م) فطاردوا (جولدا مائير) حتى اضطرت إلى السفر بعد 12 ساعة من مجيئها إلى الفلبين، وحاصروا جامعة الفلبين أثناء زيارة (إيبان) وسدوا الطرقات المؤدية إليها من المطار مما اضطر (إيبان) إلى أن يخرج من باب جانبي في المطار, ويستخدم طائرة هليكوبتر ليذهب إلى (مالكانيان) قصر الجمهورية ثم إلى الجامعة، وكان مقررا أن يلقي محاضرة في الجامعة, ثم يفشل في أن يلقي محاضرته ويعود من حيث أتى.
ويظهر هذا التأييد في مظاهرة الطلبة المسلمين في مانيلا (عاصمة الفلبين سابقا) عندما سمعوا إحراق اليهود للمسجد الأقصى، حتى أحرق الطلبة علم إسرائيل في سفارتهم, كما أحرقوا سيارة سفيرها، وكاد هؤلاء الطلبة أن يقتلوا السفير لولا أن تعطلت مصعدة السفارة نفسها لولا جهود الشرطة الفلبينية.(7/90)
ويؤيد هذا السبب المذكور ما ورد في صحيفة الأهرام بالقاهرة بتاريخ شعبان (1391هـ - 29/9/1971م) نقلا عن مسئول حكومي بالفلبين أن المذابح التي يتعرض لها المسلمون في جنوب الفلبين كانت وراءها بعض المصالح الأجنبية, وأن اليهود قد تكون على صلة بالمصادمات بين الطوائف، وذلك بسبب مساندة مسلمي الفلبين لموقف العرب.
3- تواطؤ اليهود مع الحكومة الفلبينية والعصابات النصرانية لأجل القضاء على الإسلام والمسلمين بالفلبين والاستيلاء على أراضيهم، ويرجع السبب في هذا التواطؤ إلى أن للرئيس ماركوس مستشارا يهوديا صهيونيا هو (مانويل اليسالدي) واختصاصه هو شئون الأقليات من المسلمين والبوذيين واللادينيين، وهو المتهم الأول من حوادث الفلبين، وهو فضلا عن كونه مليونير فهو وزميله اليهودي الآخر الجنرال (هانز مينزي) المستشار الخاص للرئيس ماركوس يملكان مزارع شاسعة في جنوب الفلبين.
ويؤيد هذا ما ذكرته صحيفة الجمهورية بالقاهرة بتاريخ (1391هـ، 21/8/1971م) أن بعض المراقبين السياسيين يعزو إهمال حكومة الفلبين لمصالح الأقلية المسلمة التي تعيش في الجنوب إلى تسلل النفوذ الصهيوني إلى السلطة في الفلبين، إذ إن مستشار الرئيس ماركوس لشئون الأقليات شخص يهودي هو (مانويل اليسالدي) وهو يمتلك مزارع شاسعة في الجنوب ويمد رجال القبائل هناك بالسلاح لمهاجمة المسلمين.
4- اكتشاف المليونير اليهودي (مانويل اليسالدي) أن في جزيرة (مينداناو) عدد من المعادن المختلفة, كالذهب والفضة والنحاس والحديد والمانجانيز والألومنيوم والكبريت، فبناء على هذا شجع المستشار أفراد العصابات النصرانية على عمليات القتل والإرهاب ضد المسلمين،، وطردهم من أراضيهم وأمدهم بكل ما يحتاجون إليه من المال والسلاح والذخيرة لمهاجمة المسلمين.(7/91)
5- عدم نجاح عمليات التبشير النصراني في تحويل جميع المسلمين إلى الدين النصراني، فبالرغم من أن البعثات التبشيرية النصرانية أقامت المستشفيات والمدارس والجمعيات الدينية، وكل صور الخدمات الممكنة, وشدت كثيرا من المسلمين الفقراء هذه المواقع، حيث وجد فيها التعليم والرعاية الطبية والغذاء والكساء بل والمال أحيانا، فبالرغم من ذلك كله فإن هذه البعثات لم تحقق جميع أغراضها في تحويل جميع المسلمين إلى الدين النصراني، وأنه يوجد هناك من يعتنق الإسلام من النصارى, والقسسين أكثر عددا ممن يعتنق الدين النصراني من أبناء المسلمين الذين تربوا في الملاجي والمدارس النصرانية، فلذلك لجأت هذه البعثات إلى تشجيع العصابات النصرانية على القيام بعمليات القتل والإرهاب ضد المسلمين.
6- تحيّز الحكومة الفلبينية وتعصبها للعناصر النصرانية الكاثوليكية, وإهمالها لمصالح الطوائف الأخرى, وبالأخص المسلمين، ويتجلى هذا التحيز في رفض الحكومة الفلبينية معاقبة المجرمين المسئولين عن الحوادث والمذابح التي يتعرض لها مسلمو الفلبين، وأكثر هذا تحيزا وتعصبا تحالفها مع العصابات النصرانية في قتالهم ضد المسلمين.
7- وهو الأخير (الدين) , أي انتماء المسلمين إلى الدين الإسلامي وانتسابهم إليه، فكل المآسي التي عاناها المسلمون في مختلف العصور من يوم مجيء الإسبان في الفلبين إلى يومنا هذا، وكل الحوادث والمذابح الدموية التي يتعرض لها مسلمو الفلبين أخيرا في بلادهم وأراضيهم وبيوتهم ومساجدهم ومدارسهم وحفلاتهم كل ذلك من أجل الفتنة في الدين، ويرجع سببها إلى انتماء المسلمين إلى الدين الإسلامي وانتسابهم إليه فيقتلون لأجل كونهم مسلمين، فلو كانوا نصارى لما أقامت الحكومة الفلبينية والعصابات النصرانية على محاولة تصفيتهم.(7/92)
ولقد تلقى زعماء المسلمين وأعضاء البرلمان من المسلمين البارزين رسائل تهديد تدعوهم لاعتناق النصرانية بقوة وإلا فالموت ينتظرهم، وهذا نص إحدى الرسائل التهديدية التي وجهت إلى السيد علي ديمافورؤ أحد أعضاء البرلمان من المسلمين، وقد ترجمتها مجلة المجتمع ونشرتها في عددها 122 بتاريخ 10 رمضان 1392هـ:
جمهورية الفلبين
إقليم كوتباتو
12 يولية 1972م
مجلس الفلبين
مانيلا
السيد/ علي ديمافورؤ
نكتب، نناشدك بأن يتحد النصارى والمسلمون تحت إله واحد عن طريق دين المسيح، فأيامك أصبحت معدودة كزعيم للمسلمين، ومصير (فينداتون) ليس إلا دليلا لكم يا مسلمي الفلبين، ومصير (أومفا) يجب أن يكون درسا لكم، ومصير (داتومانونج) في كوتباتو يجب أن يكون إنذارا لكم.
وإنه لمن الأفضل أن تعرفوا مبكرا وتفهموا المصير الذي أنتم بصدد مقابلته، وتذكر دائما بأن الفلبين أمة مسيحية, وبأن مصير المسلمين يجب أن يقرره المسيحيون وليس المسلمون أبدا، إن النزاعات بين المسلمين والمسيحيين بعيدة عن الحل, وليس هناك إبادة جماعية, وإنما الجهاد للوحدة في المسيح يجب أن يستمر، فعندما زرع (ماجلان) صليبه في جزيرة (ماكتان) منع انتشار الإسلام في هذا الأرخبيل, وكان أيضا إشارة إلى بداية التقدم، وأن الصليب علامة هذه الوحدة في المسيح، والمسيحية هي التي وهبت التقدم للفلبين، وإنما المسيحية التي حطمت حكم (الداتو) أي السلطان ومستعمرات (قيساي) ، إن الإسلام هو العامل الأكبر الذي يمنع تقدم المسلمين في الفلبين, وإنه لم يكن أبدا الدين الذي يمكن أن يكيف نفسه للحياة العصرية.(7/93)
ولقد آن الأوان أيها المسلمون (الداتو والزعماء السياسيون) أن تقطعوا اتصالكم بالعالم العربي، إن المسيحيين لن يتحملوا المزيد من إساءاتكم, وإننا لن نتحمل إنذاراتكم عن الحرب المقدسة، وكلما توقفتم عن الكلام مبكرا بخصوص المساعدة من الأمم الإسلامية كلما انتهت المشكلة في (مينداناو) سريعا.
وطالما أن الفرصة سائحة لكم لكي تظهروا رغبتكم للانضمام إلى الجهاد للوحدة في الله بواسطة المسيح، فمن الأفضل أن تفعلوا ذلك, فمكانتكم ذات النفوذ مؤقتة، ولكن قد تكون الفرصة مواتية بأن تظلوا ماسكين فيها إذا فكرتم بهذه الأشياء، ففي هذه الأمة المسيحية كنتم مشكلة أيها المسلمون, والرد على وأن تقودوا شعبكم إلى هذا الاقتراح النزاع المسيحي الإسلامي هي المسيحية هو الحل المريح لمشكلتكم.
قائد مجهول
وعلى كلٍّ، فلا شك أن حالة مسلمي الفلبين في الوقت الحاضر هي أخطر وأكبر مما تنشره الجرائد الرسمية وتذيعه الإذاعات، ولا ريب أنها أشد خطرا من حالة إخواننا الفلسطنيين؛ ذلك لأن فلسطين تحيط بها الأقطار العربية والإسلامية، أما مسلمو الفلبين فإنهم يقطنون في جزيرة بعيدة معزولة وسط المحيط الهادي، ومع هذا فإن عدد أعدائهم أكثر بكثير من عددهم، وعدتهم أقوى من عدتهم، ويكون مصيرهم الهلاك الجماعي إن لم تهتم بهم الدول الإسلامية والعربية بعد الله تعالى.
بعض الأحداث التي حدثت على المسلمين من قريب(7/94)
1- في 12 رمضان سنة 1392هـ هاجمت كتيبة من الجيش الفلبيني يزيد عددها على ثلاثمائة جندي في منطقة (لؤوك) ببلدة (صولو) وهي إحدى مراكز المسلمين, فدافعهم المسلمون دفاع الإيمان والصبر, وقاتلهم قتالا جهاديا استمر حوالي عشرة أيام, وبفضل الله تعالى ونصره استطاع المسلمون المقاتلون أن يقتلوا تلك الكتيبة من الجيش فلم ينج منهم أحد جزاء من الله تعالى عليهم بظلمهم وعداوتهم على المسلمين الأبرياء، ولم يقتل من المسلمين في هذه المعركة إلا نحو عشرة شهداء، ومن المؤسف ومما تهتز له القلوب المؤمنة أن في هذه المعركة فقدت الجامعة الإسلامية ابنا من أبنائها الذي ربته منذ ثمانية سنوات وزودته بالعلم والمعرفة ولاسيما العقيدة الصحيحة عسى أن يكون ممن يقوم بنشر الدعوة الإسلامية في الفلبين فلم يلبث أن خاض تلك المعركة يقود فرقة من المسلمين المقاتلين إلى أن سقط شهيدا في آخر أيام المعركة دفاعا عن دينه ووطنه، واسم هذا الطالب الذي باع نفسه في سبيل الله هو الشهيد عبد الباقي عبد الرزاق.. أدخله الله فسيح جنته.
2- وفي شوال من هذه السنة 1392هـ وقعت اشتباكات دامية بين القوات الفلبينية وبين المسلمين في مدينة (باسلان) إحدى مراكز المسلمين أيضا, قريبة من جزيرة (صولو) ولم تعرف نتيجة هذه المعركة حتى الآن.
ومن الملاحظ أن مبعوثا للأزهر إلى تلك المدينة قد أمسكه الجيش الفلبيني بدعوى أنه هو الذي يشجع المسلمين على قتال الجيوش، هذا لأن اهتمامهم بفناء العلماء أشد وأعظم من اهتمامهم بقتل غيرهم، ذلك لأنهم يعتقدون أن عدم وجود العلماء هو نفس محو الإسلام وتصفيته، ولذلك كان أكثر العلماء الآن في الفلبين لا يزالون يتهربون من الحكومة؛ لأنها أمرت بالبحث عنهم إما ليقتلوا أو ليسجنوا، ومن بين هؤلاء العلماء أحد أبناء الجامعة أيضا اسمه فاروق كالي المتخرج من كلية الشريعة سنة 1390 وبعض خريجي الأزهر.(7/95)
أهازيج للبحر
بقلم: محمد محمود جاد الله
الطالب بكلية الشريعة بالجامعة
يا بحر كم ذا أنت نائم
وعلى شواطئك الحمائم
يا ويح قلبك من غرير مثل طفل ذي تمائم
تمضي السنون على السنين
وأنت في دنياك جاثم
ولقد عهدتك ذا اصطخاب
في ربا الأيام هائم
تزهو بأشرعة الجمال
يسوقها مر النسائم
وأظل أرقبها بقلب
يرسل الأشواق حالم
هلا أفقت من الكرى
يا صاحب الدرر الكرائم
يا بحر كم أهوى شطوطك
في سكونك في ابتهالك
يا بحر في أمواهك النشوى
تبختر في دلالك
واختل على كل العصور
فلست أشبع من جمالك
وسألت شطئان الحياة
تحبه؟ .. قالت: كذلك
نهوى من البحر السكون
نحبه رغم المهالك
يا بحر يا رمز الخلود
وليت حالي مثل حالك
فالسر أنت شهيده
والبدر يطمع في وصالك
يا بحر كم مرت عليك
عواصف بعد العواصف
وترامت الأمواج تلهث
فوق صدرك كالملاحف
بيضا تصفق تارة
ما بين صخاب وزاحف
هدارة وكأن فيها
من دهاة الجن وطائف
وتسوق من نحف الطبيعة
ما تزان به المتاحف
فنظل نرقبها حيارى
بين مندهش وخائف
ما أجمل الفلك السوابح
واقفات كالوصائف
يا بحر يا حلم الدهور
تحيرت فيك البصائر
وتطاولت عبر الخليقة
من جريء أو مغامر
يبغون سرك ذا الغموص
وكلهم قد عاد خاسر
أو نام نومة عاجز
يدري بأن السر قاهر
لا يستطاع غلابه
ويظل من يلقاه حائر
هل أنت يا مهد العجائب
مثلنا تخشى الدوائر؟..
كم ذا سمعتك هامسا
للشط إن الله قادر(7/96)
أخبار الجامعة
الفيصل يتفقد الجامعة الإسلامية
إعداد العلاقات العامة
في صباح يوم الأربعاء الموافق 4/1/1393هـ شرف حضرة صاحب الجلالة الملك فيصل بن عبد العزيز الجامعة الإسلامية، وكان في استقبال جلالته رئيس الجامعة الإسلامية والأمين العام وكبار أعضاء الهيئة التدريسية ورؤساء الأقسام الإدارية، ثم تشرف بالسلام على جلالته ممثلو الطلاب الوافدين الذين في الجامعة وعددهم واحد وثمانون ممثلا لواحد وثمانين قطر..
وكانت الجامعة قد أعدت بهذه المناسبة برنامجا للاحتفال، بدأ بتلاوة من آيات الله البينات رتّلها الشيخ عبد القوي عبد المجيد المدرس في المعهد الثانوي التابع للجامعة.
ثم ارتجل سماحة الرئيس الشيخ عبد العزيز بن باز كلمة رحب فيها بجلالة الملك.. رئيس الجامعة الإسلامية الأعلى وشكر جلالته على ما يبذله لخدمة أبناء المسلمين في هذه الجامعة المباركة.
ثم ألقى الأمين العام للجامعة الشيخ محمد بن ناصر العبودي كلمة تضمنت بيانات وإحصاءات الجامعة.. وعدد طلابها.. والمتخرجين منها.. وميزانياتها.. وجنسيات طلابها.. منذ أول تأسيسها حتى الآن.
واختتم الحفل الخطابي فضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي المدرس في كلية الشريعة بالجامعة بكلمة نيابة عن الهيئة التدريسية في الجامعة.
ثم استأذن سماحة رئيس الجامعة جلالة الملك في أن يتفضل جلالته بزيارة تفقدية لكلية الشريعة فوافق - حفظه الله -.. وصحب جلالته كل من سماحة الرئيس والأمين العام.
وكان في استقبال جلالته عند مدخل الكلية عميد الكلية وكبار أعضاء الهيئة التدريسية.. وتفقد - حفظه الله - قاعات المحاضرات.. واستمع إلى بعض المدرسين.
وقد غادر- حفظه الله - مقر الجامعة الإسلامية مودعا بمثل ما استقبل به من حفاوة وتكريم.. حفظ الله جلالته في حله وترحاله.(7/97)
في يوم الاثنين الموافق 2/1/93هـ قام صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز وزير الدفاع والطيران والمفتش العام بزيارة الجامعة الإسلامية، وكان في استقباله سماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز.. وبعد أن ظل بعض الوقت مع سماحة الرئيس تفقد بعض أقسام الجامعة يصحبه الأمين العام، وأبدى سموه إعجابه بالتطور الذي حققته الجامعة.
في مساء يوم الاثنين الموافق 2/1/93هـ قام صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية.. والأمين العام الشيخ محمد بن ناصر العبودي.. وكبار أعضاء الهيئة التدريسية في الكليات والمعاهد الثانوية بالجامعة ورؤساء الأقسام بالسلام على حضرة صاحب الجلالة الملك فيصل بمناسبة وصوله إلى المدينة, وذلك في قصر الضيافة بسلطانة, حيث ينزل جلالته مدة إقامته في المدينة المنورة.
قام بزيارة الجامعة الإسلامية يوم الخميس الموافق 27/2/93هـ وفد من طلاب معهد العاصمة النموذجي بالرياض يتكون من حوالي 27 طالبا و 3 من المدرسين والمشرفين، وقد تجول الوفد في كافة أقسام الجامعة.. وفي ختام الزيارة قدمت لهم الجامعة بعض الكتب والنشرات هدية منها.
مجلس الجامعة الإسلامية
اجتمع مساء يوم الخميس الموافق 26/1/93هـ مجلس الجامعة الإسلامية الموقر برئاسة سماحة رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وباشتراك ممثل وزارة المعارف سعادة الدكتور أحمد محمد علي وكيل وزارة المعارف للشئون الفنية، وممثل وزارة المالية الأستاذ عمر عبد ربه.
وقد ناقش المجلس موضوع الانتساب لكليات الجامعة، وبعد تداول الآراء رأى المجلس بالإجماع الاستمرار في منع الانتساب وعدم السماح به.(7/98)
أقامت الجامعة الإسلامية يوم السبت 29/1/93هـ حفل غذاء في فندق التيسير بالمدينة المنورة لوفد طلاب معهد العاصمة النمزذجي بالرياض ومرافقيهم من المدرسين والمشرفين، وبعد تناول الطعام ارتجل سماحة رئيس الجامعة الإسلامية كلمة توجيهية في الطلاب ثم أقام أحد المدرسين بالمعهد فألقى كلمة شكر فيها الجامعة على حفاوتها واستقبالها.
ردّا على زيارة الوفد الطلابي لجامعة الملك عبد العزيز للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في العام الماضي 91/92هـ فقد قام وكيل جامعة الملك عبد العزيز بدعوة وفد طلابي من الجامعة الإسلامية لزيارتها، وبناء على توجيهات سماحة رئيس الجامعة سيقوم وفد طلابي يتكون من 40 طالبا يمثلون جنسيات مختلفة من أقسام الجامعة يرافقهم اثنان من أساتذة الجامعة هما الشيخ محمود عبد الوهاب فايد المدرس في كلية الدعوة والشيخ عبد القوي عبد المجيد المدرس في المعهد الثانوي والمشرف الاجتماعي والمشرف الرياضي برحلة لزيارة جامعة الملك عبد العزيز وبعض المؤسسات الحكومية والتعليمة بجدة ومكة والطائف.
والهدف من الرحلة هو: التعرف على المؤسسات العلمية والتقدم الحضاري في بلدان المملكة الأخرى, وتنظيم اللقاءات والتعارف بين طلاب الجامعة الإسلامية الذين يمثلون جنسيات متعددة وطلاب المؤسسات التعليمية الأخرى بكلٍّ من جدة ومكة والطائف.
وتشمل الرحلة ما يلي: أداء العمرة وصلاة الجمعة في مكة المكرمة, ثم زيارة كليتي الشريعة والتربية وقسم الدراسات العليا في فرع جامعة الملك بمكة، ثم زيارة دار الحديث المكية، المعهد العلمي بمكة، والرئاسة العامة للإشراف الديني بمكة، رابطة العالم الإسلامي، مكتبة الحرم المكي، وفي الطائف: زيارة دار التوحيد، المعهد العلمي، وفي جدة: زيارة جامعة الملك عبد العزيز، وميناء جدة الإسلامي، ومدارس الثغر النموذجية، ودار الإذاعة، ومصنع الإسمنت.(7/99)
أقامت الجامعة الإسلامية سلسلة من المحاضرات الثقافية جريا على العادة التي سارت عليها كل عام وذلك بمقر دار الحديث التابعة للجامعة، وفي نطاق هذه المحاضرات ألقى فضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد المدرس في كلية الشريعة بالجامعة محاضرة قيمة، وفضيلة الدكتور طه محمد الزيني المحاضر في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة محاضرة قيمة بعنوان (تكوين الأسرة المسلمة) ، حضرها لفيف من أهالي البلد وطلاب العلم والمدرسين.
كما ألقى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية محاضرة قيمة بعنوان (الإسلام دين العزة والعدل والأمن والسعادة) وذلك بعد صلاة العشاء من يوم الأربعاء الموافق 19/1/93هـ وقد حضرها جمع غفير من طلاب الجامعة.. ومحبي العلم والمعرفة.
اجتمع مجلس الجامعة الإسلامية برئاسة فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة وبكامل أعضائه واشتراك سعادة وكيل وزارة المعارف للشئون الفنية الدكتور أحمد محمد علي ممثلا لوزارة المعارف، وسعادة الأستاذ عمر يوسف عبد ربه ممثلا عن وزارة المالية، وقد درس المجلس عدة مواضيع أهمها موضوع زيادة المنح الدراسية، وقرر ما يلي:
اعتماد زيادة المنح الدراسية للعام الدراسي القادم 93/94هـ للطلاب الوافدين مائتي منحة.. ومما تجدر الإشارة إليه أن الأمر لا يقف عند حد اعتماد هذه المنح بل يتعداها في وجوب توفير ما يلزم للطلاب الذين سيستفيدون منها.. مثل تجهيز المساكن اللازمة لهم.. وتوفير الرعاية الاجتماعية والصحية واعتماد المكافآت والكتب الدراسية لهم، وما يلزم من وسائل النقل وتوفير المدرسين لمقابلة هذه الزيادة.
ودرس المجلس الموقر ميزانية الجامعة للعام المالي 93/94هـ وقد صدق عليها وأقرها.(7/100)
من المنتظر أن تطرح الجامعة الإسلامية مشروع إنشاء مسجد جامع فيها على الطراز الإسلامي يتسع لحوالي 1500 مصلي، وقد رصد له مبلغ 400000ريال، وما تجدر إليه الإشارة أنه يوجد في الجامعة حاليا مسجدا يتسع لحوالي 500 مصلي.
اجتمعت يوم أمس لجنة خاصة لشراء كتب الدعوة الإسلامية برئاسة الأمين العام للجامعة الإسلامية الشيخ محمد بن ناصر العبودي وعضوية كل من مدير الشئون المالية ورئيس المحاسبة وبعض المدرسين، وقد وافقت على شراء كمية من الكتب لتوزيعها على أبناء المسلمين في أفريقيا الذين هم في أمس الحاجة إلى المساعدات، هذا وإدارة العلاقات العامة في الجامعة تتولى الإجابة على ما يرد للجامعة بهذا الصدد وتتولى عملية الإرسال.(7/101)
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب
لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي المدرس بالجامعة
سورة التين
قوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} .
قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} هذه الآية الكريمة توهم أن الإنسان ينكر أن ربه خلقه, لما تقرر في المعاني من أن خالي الذهن من التردد والإنكار لا يؤكّد له الكلام، ويسمّى ذلك ابتدائيا, والمتردد يحسن التوكيد له بمؤكد واحد ويسمى طلبيا، والمنكر يجب التوكيد له بحسب إنكاره ويسمى إنكاريا، والله تعالى في هذه الآية أكّد إخباره بأنه خلق الإنسان في أحسن تقويم بأربعة أقسام وباللام وبقد, فهي ستة تأكيدات, وهذا التوكيد يوهم أن الإنسان منكر لأن ربه خلقه، وقد جاءت آية أخرى صريحة في أن الكفار يقرّون بأن الله هو خالقهم وهي قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} .
والجواب من وجهين:
الأول: هو ما حرره علماء البلاغة من أن المقر إذا ظهرت عليه أمارة الإنكار جعل كالمنكر، فأكد له الخبر كقول حجل بن نضلة:
جاء شقيق عارضا رمحه
إنّ بني عمك فيهم رماح
فشقيق لا ينكر أنّ في بني عمه رماحا, ولكن مجيئه عارضا رمحه أي جاعلا عرضه جهتهم من غير التفات أمارة أنه يعتقد أن لا رمح فيهم فأكد له الخبر.(7/102)
فإذا حققت ذلك فاعلم أن الكفار لما أنكروا البعث ظهرت عليهم أمارة إنكار الإيجاد الأول؛ لأن من أقر بالأول لزمه الإقرار بالثاني؛ لأن الإعادة أيسر من البدء فأكد لهم الإيجاد الأول، ويوضّح هذا أن الله بيّن أنه المقصود بقوله: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} أي ما يحملك أيها الإنسان على التكذيب بالبعث والجزاء بعد علمك أن الله أوجدك أوّلا، فمن أوجدك أوّلا قادر على أن يوجدك ثانيا كما قال تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} الآية، وقال: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} الآية، وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} ، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَاب} والآيات بمثل هذه كثيرة، ولذا ذكر تعالى أن من أنكر البعث فقد نسي إيجاده الأول بقوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} , وبقوله: {وَيَقُولُ الأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلا يَذْكُرُ الأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} .
وقال البعض: معنى {فَمَا يُكَذِّبُكَ} : فمن يقدر على تكذيبك يا نبي الله بالثواب والعقاب بعد ما تبين له أنا خلقنا الإنسان على ما وصفنا، وهو في دلالته على ما ذكرنا كالأوّل, فظهرت النكتة في جعل الابتدائي كالإنكاري.(7/103)
الوجه الثاني: أن القسم شامل لقوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أي إلى النار، وهم لا يصدّقون بالنار بدليل قوله تعالى {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} وهذا الوجه في معنى قوله: {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} أصح من القول بأن معناه الهرم والرد إلى أرذل العمر لكون قوله: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} أظهر في الأول من الثاني، وإذا كان القسم شاملا للإنكاري فلا إشكال؛ لأن التوكيد منصبّ على ذلك الإنكاري، والعلم عند الله تعالى.
سورة العلق
قوله تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} الآية، أسند الكذب في هذه الآية الكريمة إلى ناصية هذا الكافر وهي مقدّم شعر رأسه مع أنه أسنده في آيات كثيرة إلى غير الناصية كقوله: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} والجواب ظاهر: وهو أنه هنا أطلق الناصية وأراد صاحبها على عادة العرب في إطلاق البعض وإرادة الكل, وهو كثير في كلام العرب وفي القرآن، فمن أمثلته في القرآن هذه الآية الكريمة، وقوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} , وقوله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} يعني بما قدمتم، ومن ذلك تسمية العرب الرقيب عينا.
وقوله: {خَاطِئَةٍ} لا يعارضه قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِه ِ} ؛ لأنّ الخاطئ هو فاعل الخطيئة أو الخطء بكسر الخاء، وكلاهما الذنب كما بيّنه قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً} , وقوله: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} فالخاطئ المذنب عمدا، والمخطئ من صدر منه الفعل من غير قصد فهو معذور.
سورة القدر(7/104)
قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} لا تعارض بينه وبين قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} ؛ لأنّ الليلة المباركة هي ليلة القدر وهي من رمضان بنصّ قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} فما يزعمه كثير من العلماء من أن الليلة المباركة ليلة النصف من شعبان تردّه هذه النصوص القرآنية والعلم عند الله تعالى.
سورة الزلزلة
قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} هذه الآية الكريمة تقتضي أن كل إنسان كافرا أو مسلما يجازى بالقليل من الخير والشر, وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف هذا العموم، أمّا ما فعله الكافر من الخير فالآيات تصرّح بإحباطه كقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} , وقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} وكقوله: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} الآية, وقوله: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} الآية, إلى غير ذلك من الآيات، وأمّا ما عمله المسلم من الشر فقد صرّحت الآيات بعدم لزوم مؤاخذته به لاحتمال المغفرة أو لوعد الله بها كقوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} , وقوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُم} إلى غير ذلك من الآيات، والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:
الأول: أن الآية من العام المخصوص، والمعنى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره إن لم يحبطه الكفر بدليل آيات إحباط الكفر عمل الكفار، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره إن لم يغفره الله له بدليل آيات احتمال الغفران والوعد به.(7/105)
الثاني: أنّ الآية على عمومها وأنّ الكافر يرى جزاء كل عمله الحسن في الدنيا كما يدل عليه قوله تعالى: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} الآية, وقوله: {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا} الآية, وقوله تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} ، والمؤمن يرى جزاء كل عمله السيّء في الدنيا بالمصائب والأمراض والآلام، ويدل لهذا ما أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب وابن أبي حاتم وجماعة عن أنس قال: "بينا أبو بكر رضي الله عنه يأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} الآية فرفع أبو بكر يده وقال: يا رسول الله إني لراء ما عملت من مثقال ذرة من شر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر أرأيت ما ترى في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر"الحديث.
الوجه الثالث: أن الآية أيضاً على عمومها وأن معناها أن المؤمن يرى كل ما قدم من خير وشر فيغفر الله له الشر ويثيبه بالخير، والكافر يرى كل ما قدم من خير وشر فيحبط ما قدم من خير ويجازيه بما فعل من الشر.
سورة العاديات
قوله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} الآية، هذه الآية تدل على أنّ الإنسان شاهد على كنود نفسه أي مبالغته في الكفر، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} وقوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} , وقوله: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} , والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:
الأول: أنّ شهادة الإنسان بأنه كنود هي شهادة حالة بظهور كنوده، والحال ربما تكفي عن المقال.(7/106)
الثاني: أن شهادته على نفسه بذلك يوم القيامة كما يدل له قوله: {وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} , وقوله: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ} , وقوله: {بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} .
الوجه الثالث: أن الضمير في قوله {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} راجع إلى رب الإنسان المذكور في قوله: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} وعليه فلا إشكال في الآية، ولكن رجوعه إلى الإنسان أظهر بدليل قوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} والعلم عند الله تعالى.
سورة القارعة
قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} هذه الآية الكريمة تدل على أن الهاوية وصف لا علَم للنار إذ تنوينها ينافي كونها اسما من أسماء النار يلزم فيها المنع من الصرف للعلمية والتأنيث، وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} يدل على أن الهاوية من أسماء النار.
اعلم أولا أنّ في معنى قوله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} ثلاثة أوجه للعلماء، اثنان منها لا إشكال في الآية عليهما، والثالث هو الذي فيه الإشكال المذكور، أمّا اللذان لا إشكال في الآية عليهما فالأول منهما أن المعنى {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} أي أمّ رأسه هاوية في قعر جهنم؛ لأنه يطرح فيها منكوسا رأسه أسفل ورجلاه أعلا، وروي هذا القول عن قتادة وأبي صالح وعكرمة والكلبي وغيرهم، وعلى هذا القول فالضمير في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} عائد إلى محذوف دلّ عليه المقام أي أم رأسه هاوية في نار وما أدراك ما هيه نار حامية.
والثاني: أنه من قول العرب إذا دعَوا على الرجل بالهلكة قالوا: "هوت أمه"لأنه إذا هوى أي سقط وهلك فقد هوت أمه ثكلا وحزنا، ومن هذا المعنى قول كعب بن سعد الغنوي:
هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا(7/107)
يؤوب وماذا يرد الليل حين
وهذا القول رواية أخرى عن قتادة، وعلى هذا القول فالضمير في قوله: {هِيَهْ} للداهية التي دلّ عليها الكلام، وذكر الألوسي في تفسيره أن صاحب الكشف قال: إنّ هذا القول أحسن, وأن الطيبي قال: إنه أظهر, وقال هو: وللبحث فيه مجال.
الثالث الذي فيه إشكال: أنّ المعنى {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} أي مأواه الذي يحيط به ويضمّه هاوية وهي النار؛ لأن الأمّ تؤوي ولدها وتضمّه، والنار تضمّ هذا العاصي وتكون مأواه.
والجواب على هذا القول هو ما أشار له الألوسي في تفسيره من أنه نكّر الهاوية في محلّ التعريف لأجل الإشعار بخروجها عن المعهود للتفخيم والتهويل, ثم بعد إبهامها لهذه النكتة قرّرها بوصفها الهائل بقوله {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} .
قال مقيده عفا الله عنه: هذا الجواب الذي ذكره الألوسي يدخل في حد نوع من أنواع البديع المعنوي يسمّيه علماء البلاغة التجريد، فحد التجريد عندهم هو أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله فيها مبالغة في كمالها فيه، وأقسامه معروفة عند البيانيين؛ فمنه ما يكون التجريد فيه بحرف نحو قولهم: "لي من فلان صديق حميم"أي بلغ من الصداقة حدا صح معه أن يستخلص منه آخر مثله فيها مبالغة في كمالها فيه, وقولهم: "لئن سألته لتسألن به البحر"بالغ في اتصافه بالسماحة حتى انتزع منه بحرا في السماحة، ومن التجريد بواسطة الحرف قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْد} وهو أشبه شيء بالآية التي نحن بصددها؛ لأن النار هي دار الخلد بعينها لكنه انتزع منها دارا أخرى وجعلها معدة في جهنم للكفار تهويلا لأمرها ومبالغة في اتصافها بالشدة، ومن التجريد ما يكون من غير توسط الحرف نحو قول قتادة بن سلمة الحنفي:
ولئن بقيت لأرحلن بغزوة
تحوي الغنائم أو يموت كريم(7/108)
يعني نفسه انتزع من نفسه كريما مبالغة في كرمه، فإذا عرفت هذا فالنار سميت الهاوية لغاية عمقها وبعد مهواها، فقد روي أن داخلها يهوي فيها سبعين خريفا، وخصها البعض بالباب الأسفل من النار فانتزع منها هاوية أخرى مثلها في شدة العمق وبعد المهوى مبالغة في عمقها وبعد مهواها، والعلم عند الله تعالى.
سورة العصر
قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} هذه الآية الكريمة يدل ظاهرها على أن هذا المخبر عنه أنه في خسر إنسان واحد بدليل إفراد لفظة الإنسان، واستثناؤه من ذلك الذين آمنوا وعملوا الصالحات يقتضي أنه ليس إنسانا واحدا.
والجواب عن هذا هو أن لفظ الإنسان وإن كان واحدا فالألف واللام للاستغراق يصير المفرد بسببهما ما صيغة عموم، وعليه فمعنى أن الإنسان أي أن كل إنسان لدلالة (أل) الاستغراقية على ذلك، والعلم عند الله تعالى.
سورة الماعون
قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} الآية، هذه الآية يتوهم منها الجاهل أن الله توعد المصلين بالويل، وقد جاء في آية أخرى أن عدم الصلاة من أسباب دخول سقر وهي قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} ، والجواب عن هذا في غاية الظهور، وهو أن التوعد بالويل منصب على قوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} الآية، وهم المنافقون على التحقيق، وإنما ذكرنا هذا الجواب مع ضعف الإشكال وظهور الجواب عنه؛ لأن الزنادقة الذين لا يصلون يحتجون لترك الصلاة بهذه الآية، وقد سمعنا من ثقات وغيرهم أن رجلا قال لظالم تارك الصلاة مالك لا تصلي؟ فقال: لأن الله توعد على الصلاة بالويل في قوله {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} فقال له: اقرأ ما بعدها، فقال: لا حاجة لي فيما بعدها فيها كفاية في التحذير من الصلاة، ومن هذا القبيل قول الشاعر:
دع المساجد للعباد تسكنها
وسر إلى حانة الخمار يسقينا
ما قال ربك ويل للأولى سكروا(7/109)
وإنما قال ويل للمصلينا
فإذا كان تعالى توعد بالويل المصلى الذي هو ساه عن صلاته ويراءي فيها فكيف بالذي لا يصلي أصلاً فالويل كل الويل له وعليه لعائن الله إلى يوم القيامة مالم يتب.
سورة الكافرون
قوله تعالى: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} يدل بظاهره على أن الكفار المخاطبين بها لا يعبدون الله أبدا مع أنه دلّت آيات أخر على أن منهم من يؤمن بالله تعالى كقوله {وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} الآية.
والجواب من وجهين:
الأول: أنه خطاب لجنس الكفار وإن أسلموا فيما بعد فهو خطاب لهم ما داموا كفارا، فإذا أسلموا لم يتناولهم ذلك لأنهم حينئذ مؤمنون لا كافرون وإن كانوا منافقين فهم كافرون في الباطن فيتناولهم الخطاب، واختار هذا الوجه أبو العباس بن تيمية رحمه الله.(7/110)
الفتاوى
يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
س: من الأخ ج. م.ع:
ما حكم نقل حجارة مسجد قديم جدا ومع استمرار الزمان قد كبسته السيول ويحتمل أن يكون فيه قبر فهل يصح لأحد من المسلمين نقل حجارته إلى بيته ويتخذها ملكا؟
الجواب: إذا خرب المسجد ونحوه بأسباب سيل أو غيره شرع لأهل المحل التي فيها المسجد أن يعمروه ويقيموا الصلاة فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة"، ولقول عائشة رضي الله عنها "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب" أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة بإسناد حسن، والمراد بالدور: القبائل والحارات ونحوها، والأحاديث في فضل تعمير المساجد كثيرة, فإن كان في المحلة مسجد يغني عنه صرفت حجارته وأنقاضه في مسجد آخر في محلة أخرى, أو بلدة أخرى محتاجة إلى ذلك، وعلى ولي الأمر في البلد التي فيها المسجد المذكور من قاضي أو أمير أو شيخ قبيلة ونحوهم العناية بذلك, ونقل هذه الأنقاض إلى تعمير المساجد المحتاجة إليها, أو بيعها وصرفها في مصالح المسلمين، وليس لأحد من أهل البلد أن يأخذ شيئا منها إلا بإذن ولي الأمر، وإذا كان في المسجد قبر وجب أن ينبش وينقل ما فيه من عظام إن وجدت إلى مقبرة البلد فيحفر لها وتدفن في المقبرة؛ لأنه لا يجوز شرعا وضع قبور في المساجد, ولا بناء المساجد عليها؛ لأن ذلك من وسائل الشرك والفتنة بالمقبور, كما قد وقع ذلك في أكثر بلاد المسلمين من أزمان طويلة بأسباب الغلو في أصحاب القبور، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بنبش القبور التي كانت في محل مسجده عليه الصلاة والسلام، وثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وفي صحيح مسلم عن(7/111)
أبي مرثد الغنوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها", وفي صحيح مسلم أيضا عن جندب بن عبد الله البجلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا وإنّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد, ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك", وفي الصحيحين عن أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما أنهما ذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها في الحبشة وما فيها من الصور فقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا, وصوروا فيه تلك الصور, أولئك شرار الخلق عند الله", وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه", زاد الترمذي رحمه الله في روايته بإسناد صحيح "وأن يكتب عليه", فهذه الأحاديث وما جاء في معناها كلها تدل على تحريم البناء على القبور, واتخاذ المساجد عليها والصلاة عليها وتجصصها ونحو ذلك مما هو من أسباب الشرك بأربابها، ويلحق بذلك وضع الستور والكتابة عليها وإراقة الأطياب عليها وتبخيرها؛ لأن هذا كله من وسائل الغلو فيها والشرك بأهلها، فالواجب على جميع المسلمين الحذر من ذلك, والتحذير منه, ولاسيما ولاة الأمر؛ فإن الواجب عليهم أكبر ومسئوليتهم أعظم لأنهم أقدر من غيرهم على إزالة هذه المنكرات وغيرها، وبسبب تساهلهم وسكوت الكثيرين من المنسوبين إلى العلم كثرت هذه الشرور وانتشرت في أغلب البلاد الإسلامية, ووقع بسببها الشرك والوقوع فيما وقع فيه أهل الجاهلية الذين عبدوا اللات والعزى ومناة وغيرها, وقالوا كما ذكر الله عنهم في كتابه العظيم {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} , {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، وذكر أهل العلم أن القبر إذا وضع في مسجد وجب نبشه وإبعاده عن المسجد، وإن كان المسجد هو الذي(7/112)
حدث أخيرا بعد وجود القبر وجب هدم المسجد وإزالته؛ لأنه هو الذي حصل ببنائه المنكر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حذر أمته من بناء المساجد على القبور, ولعن اليهود والنصارى على ذلك, ونهى أمته عن مشابهتهم, وقال لعلي رضي الله عنه: "لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته". والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين جميعا, ويمنحهم الفقه في دينه ويصلح قادتهم ويجمع كلمتهم على التقوى ويوفقهم للحكم بشريعته والحذر مما خالفها إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
وهذه أسئلة من الأخ ع. س.ط:
السؤال الأول: يوجد لدينا عادة وهي ترك النساء يخرجن من البيوت كاشفات الوجوه, والسبب أننا نكلف المرأة في عدة أعمال؛ منها جلب الحطب والماء من مسافات بعيدة, ومساعدة الزوج على أنواع الزراعة, وهذه العملية لابد للمرأة أن تكون كاشفة الوجه حتى يكون لديها القدرة على القيام بهذه الأعمال فما الحكم؟
الجواب: لا يجوز شرعا كشف المرأة لوجهها إلا لذوي محرمها فقط لقول الله سبحانه {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} وقوله سبحانه {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} والوجه أعظم الزينة والعوائد إذا خالفت الشرع وجب تركها والحذر منها.
السؤال الثاني: يوجد لدينا عادة أخرى وهي اختلاط الرجال بالنساء؛ والسبب أننا نعمل معهن في كثير من الأعمال, وننظر إليهن وهن يؤدين أعمالهن كاشفات الوجوه, ونقول: إن نياتنا سليمة, والشخص فينا ينظر إلى زوجة شقيقه فيعتبرها في مكانة شقيقته في المحرم، ونساء جيرانه يعدهن في مكانة محارمه اللاتي يحرم الزواج منهن، فالرجل فينا يسكن مع شقيقه وابن عمه والذي من جماعته ويأكلون ويشربون معا الرجال والنساء فما هو الحكم؟(7/113)
الجواب: هذه الأمور من عادات الجاهلية الأولى, والواجب شرعا عدم كشف المرأة وجهها إلا لذوي محرمها كما أسلفنا ذلك في الجواب على السؤال الأول, كما أن الواجب على المرأة عدم الاختلاط بالأجانب وهي متكشفة, ويجب عليها أيضا أن لا تخلو في مكان مع رجل أجنبي وهو الذي لا يكون محرما لها، ولا شك أن اختلاط الرجال بالنساء بالصورة التي ذكرت من الأمور المخالفة للشرع؛ لأنه يحدث بسبب ذلك من المفاسد ما لا حصر له، أما الاختلاط السليم فلا حرج فيه كصلاتهن مع الرجال في المساجد وشبه ذلك.
السؤال الثالث: إذا ألزمت المرأة بالحجاب فهل للزوج أو الوالي عليها إلزامها بإحضار الحطب من الوادي وكذا إحضار الماء ورعي الغنم ومساعدته على الزراعة كحصد الزرع ومختلف أنواع الزراعة وهي متحجبة أم أنّ عليه إبقاءها في البيت ويكلف بإحضار ما كان خارج البيت؟
الجواب: إذا كان مثلها يقوم بهذه الأعمال فإن عليها أن تقوم بها وهي متحجبة لأن نساء المهاجرين والأنصار رضي الله عن الجميع كن يساعدن أزواجهن في بعض الأعمال التي يقدرن عليها وهم القدوة في الخير، والأولى للزوج أن يقوم بما هو خارج البيت والمرأة تقوم بما هو داخل البيت حيث تيسر ذلك، وهذه المسألة تختلف بحسب اختلاف الناس، والواجب مراعاة الحدود الشرعية في جميع الأمور وكل عرف يخالف الشرع المطهر يجب تركه، وأسأل الله أن يوفق الجميع للفقه في الدين والثبات عليه إنه جواد كريم.
سؤال من الأخ ج. ح.ش:
إن والدي عقد نكاح شقيقتي البالغة من العمر ست عشرة سنة إجباريا على رجل لا ترغبه وإنها تحاول قتل نفسها بكل طريقة وتقول الموت أحب إليه منه.(7/114)
الجواب: مثل هذا الزواج منكر لا يجوز ولا يصح في أصح أقوال العلماء لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تزويج النساء إلا بإذنهن، وأخبر أن البكر إذنها سكوتها، ولما أخبرته صلى الله عليه وسلم جارية أن أباها زوّجها وهي كارهة خيّرها النبي صلى الله عليه وسلم بين البقاء معه أو الترك، وما اعتاده بعض البادية وغيرهم من تزويج الأبكار دون مشاورتهن فهي عادة سيئة باطلة، والغضب لا يأتي بخير بل يضر الجميع، والذي أرى أن توسطوا أهل الخير في فسخ هذا النكاح فإن أجدت الوساطة فذلك المطلوب وإلا فاعرضوا الموضوع على المحكمة وهي إن شاء الله تحل المشكل وفق الله الجميع.
وهذه أسئلة من الأخ ص. ع.ح:
السؤال الأول: يوجد نساء يستعملن حبوب منع الحمل ويتوقفن ستة أيام من كل شهر عن أكل تلك الحبوب ويحضن في تلك الأيام، وفي شهر رمضان يستعملن تلك الحبوب طيلة الشهر تهربا من الإفطار فيه فما الحكم؟
الجواب: استعمال حبوب الحمل إذا كان المقصود منه الاستعمال لمدة معينة نظرا لمرض المرأة أو لتأجيل الحمل حتى تفطم طفلها وما أشبه ذلك من الحاجات فهذا لا بأس به، أما إن كان المقصود منه منع الحمل بالكلية بدون سبب يضطرها إلى ذلك فهذا لا يجوز، ولا بأس باستعمال تلك الحبوب في شهر رمضان لمنع الحيض والاستمرار في الصيام لأن في ذلك مصلحة بدون مضرة.
السؤال الثاني: إذا مات الميت وعليه أسنان ذهب فهل تنزع منه إذا كان عليه دين ولو كان نزعها لا يحصل بسهولة، أم تترك إذا لم يكن عليه دين؟
الجواب: إذا مات الميت وعليه أسنان ذهب أو فضة ونزعها لا يحصل بسهولة فلا بأس بتركها، سواء كان مدينا أم غير مدين, وفي الإمكان نبشه بعد حين وأخذها للورثة أو الدين، أما إذا تيسر نزعها وجب ذلك لأنها مال لا ينبغي إضاعته مع القدرة.
السؤال الثالث: ما حكم لحم الدجاج الذي يأتي من الخارج مذبوحا ومصبرا؟(7/115)
الجواب: إذا كان الدجاج الذي يذبح في الخارج وغيره من اللحوم التي ترد مصبرة يرد من بلاد أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فهو حلال، لأن طعام أهل الكتاب حل لنا بنص القرآن الكريم ما لم يعلم سبب يحرمه مثل كونه مما أهل به لغير الله أو ذبح بغير قطع الرأس، أما إن كان ذلك يرد من بلاد المجوس أو الشيوعيين والاشتراكيين أو غيرهم من الوثنيين فهو حرام لا يجوز أكله.
سؤال من الأخ ح. م.م:
نسأل عن رجل طلق زوجته وهي حائض هل تطلق أم لا؟ وأن الطلقة هي آخر طلقة.
الجواب: الذي عليه جمهور أهل العلم أنها تحسب عليه مع الإثم؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما لما طلق امرأته في الحيض طلقة واحدة أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بالمراجعة ولم يقل له الطلاق غير واقع، بل ثبت في صحيح البخاري أن الطلقة حسبت عليه ولم يثبت فيما نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل المستفتين في الطلاق هل طلقوا في الحيض أم لا، ولو كان طلاقهم في الحيض لا يقع لاستفصلهم وهذا هو الأظهر، والله سبحانه وتعالى أعلم.(7/116)
رسائل لم يحملها البريد
بقلم الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
جاء القط الصغير:
لا أزال أذكر بشيء كثير من الأسى والألم تلك الأيام الأخيرة من حياة أمك، على الرغم من أن حياتنا معها لم تعرف وثاما وسلاما، ولا أمنا وطمأنينة، لقد عشناها حياة قلق واضطراب، حياة ليل مفزع ونهار مروع، لا أذكر إلا أياما قليلة مرت في حياتنا الطويلة دون أن نشهد غاراتها الخاطفة وهجماتها العاصفة.
ما أنس لا أنس ما حييت تلك اللحظات التي لا أزال حتى اليوم أرتعد فرقا، وأكاد أقع مغشيا علي كلما مرت بي ذكراها وطاف بي خيالها، لقد كنت أرى بعيني الاثنتين أجدادي الأعزاء وأبناء عشيرتي الخلصاء أراهم يوما بعد يوم، وليلة بعد أخرى، أراهم أمام والدتك وهي تلاعبهم لعبة الموت، تضرب الفريسة باليمين تارة وباليسار تارة أخرى، وتعضها عضات هشة، ثم تتخلى عنها قليلا، فتظن الفريسة المسكينة الحياة ممكنة، فيعدو بها حب الحياة، ولكن هيهات هيهات الحياة..
لقد كنت أغمض عيني حين أرى الضحية وقد خارت قواها تتمزق بين المخالب والأنياب ولا أفتحهما إلا على لسان يلعق الدم على أطراف الفم وعلى يدين تمسح بهما ما عسى أن يكون عليه من بقايا، يا لهول تلك اللحظات! ويا لمراراة تلك الذكرى!
جاري العزيز:(7/117)
على الرغم من كل هذا فلا أزال أذكر أيامها الأخيرة بشيء كثير من الأسى والألم، أيام ذابت عضلاتها المفتولة التي كانت تتموج من تحت شعرها اللماح، أيام أخنت عليها الشيخوخة، فلم تترك لها غير جلد على عظم، لقد ذهبت أيام الشباب، أيام كانت تطوف بأرجاء هذا البيت وهي تحرك ذيلها في كبرياء، وتسير الهويني بخطواتها الخرس، وأصحاب البيت يقدمون إليها طيب الطعام وسائغ الشراب، تسمر معهم ليالي الشتاء حول الموقد، فيمسح الكبار شعرها بالأيدي ويتسابق الصغار في ضمها إلى الصدور، إني لأصدقك الحديث أيها الجار الكريم حين أقول لك: إن الدموع كانت تترقرق في عيني وفي عيون كثير من فيران هذا البيت، حين كنا نرى الصغار يضربونها وقد أثقلتها الشيخوخة، يضربونها بعيدان الخشب وأغصان الشجر ضربا مبرحا يملأ البيت مواءات ألم.
كم مرة رأينا صاحبة هذه الدار تركلها بقدميها، وهي تنظر إليها نظرات ازدراء صائحة في زوجها: إلى متى ستظل هذه القطة العجوز عندنا، وهي لا تستطيع أن ترد عادية الفيران في المطبخ، أو تقضي على الهوام في الحديقة؟! إنك لم تسمع جواب زوجها وهو يجلجل في أرجاء البيت، فيملأ علينا جحورنا رعبا ورهبا، كان يصيح: ماذا أصنع بهذه القطة وقد أعيتني فيها الحيل.. كم مرة قذفت بها وراء السور في المساء فوجدتها مع الصباح في الحديقة.. ألم أضعها في كيس وأذهب بها إلى مكان قصي في أطراف المدينة، فإذا بنا نجدها بعد يومين على الباب تموء.. دعيها، سوف يأكلها الجوع ويحرقها الظمأ ويطويها الموت.
ما أسرع ما ماتت ولكن كما يموت الغرباء المشردون، لم تذرف عليها دمعة، ولم تتلظ لها لوعة، ثم بقيت أنت وإخوتك من بعدها للذل والهوان، والجوع والحرمان، فأخذ الموت يتخطف إخوتك واحدا بعد واحد، وقد لطف الله بك فسلمت، وها أنت ذا لا تكاد تبلغ الكفاف من هذا الفتات المرذول والعظام المعروقة.(7/118)
إننا _ فيران هذا البيت _ نستطيع أن نقدم إليك الكثير من طعامك وشرابك، فنوفر لك الشحم واللحم، والبيض والجبن، والحليب واللبن, وأشياء أخرى كثيرة أنت لا تدريها، وكل ما نرجوه منك أن تكف عنا شرك، وأن تكفينا مؤونة حربك.
الطعام في هذا البيت كثير، والفناء واسع كبير، فماذا يضيرك أنت أن نأكل منه جميعا، ونعيش فيه آمنين مطمئنين على غير خوف وقلق دون أن تجلس لنا كل مرصد، وأن تنغص علينا حياتنا ليل نهار.
إننا لا نذوق النوم إلا غرارا، ولا نعرف المراح واللعب إلا خلسة.
لا نريد أن تقع بيننا العداوة والبغضاء كما كانت من قبل بيننا وبين والدتك التي ماتت محرومة جائعة مهملة، وإننا لنخشى عليك أن تلاقي ذلك المصير الحزين الذي لاقته أمك من قبل، بعد أن بذلت كل ما تستطيع من جهد وسهر في رعاية هذا البيت.. والحفاظ على ما فيه.
لقد تغير العالم هذه الأيام، وأخذت تخفق على ربوعه رايات السلام، هاهي ذي الشعوب والأجناس على اختلاف أوطانها وألوانها في جميع بقاع الأرض تتنادى إلى تعايش سلمي وتفاهم أخوي، أفلا نكون نحن أولى بهذا منها ونحن نعيش في بيت واحد وتحت سقف واحد ونأكل من مائدة واحدة.
لقد دعا آبائي وأجدادي والدتك إلى هذا الذي أدعوك إليه، ولكن والدتك- رحمها الله - كانت فطيرة الرأي، قليلة التجربة، تدور في رأسها حميا الغرور، ويملأ صدرها أحلام الشباب فصمت أذنيها عن تلك الدعوة، وأبت أن تجيب ذلك النداء، ولو أنها في أخريات أيامها استقبلت من أمرها ما استدبرت لتغير الموقف، فوصلت حبالا كانت قطعتها، ولبت دعوة كانت رفضتها، وإني لعلى ثقة أن الندم كان يأكلها أكلا، حين أمست في شيخوختها عاجزة عن الصيد لا تستطيع لحاقا بالفريسة.(7/119)
والعاقل من اتعظ بغيره، وحاد عن طريق هلك فيها السالكون من قبل، فإياك والغرور، وإياك أن تعمى عن شيخوخة باردة ستدركك يوما ما، فلا تجد فيها عاطفا ولا نصيرا، خير لك أن تمد إلينا يدك اليوم، لنمد إليك أيدينا في المستقبل.
نعم, إنه لأمر جديد هذا الذي ندعوك إليه، وهو على خلاف عادتك وإلفك، وربما عظم على نفسك وأصابك من ارتكابه حسرة وألم، ولكنك بعد طول معاودة ومعاناة ستطيب نفسا، وتهدأ قلبا، وتستمرئ هذه الحياة السهلة, وهذا الرزق الذي يأتيك رغدا دون أن تبذل في سبيله جهدا أو تجد من ورائه نصبا.
انظر إلى هذه الخادم التي تشاركنا الحياة في هذا البيت, يعطيها أهله الأجر، ويشركونها في طعام وشراب ثم هي لا تتذمم أن تسرق السكر والشاي والخبز والجبن والأرز كلما آنست من أهله طمأنينة، أو كانوا عنها في شغل، على حين أنها من أمة جاءها المرسلون، وبعث فيها النبيون، وتوالت فيها النذر، وضربت لها الأمثال.
كم وقف على أبواب هذه الدار التي دافعتنا أمك عن خيراتها وذادتنا عن حماها، ثم هاأنت ذا من بعدها تذود وتدافع، كم وقف على أبوابها أناس أكلهم الجوع وشربهم الظمأ، فما نالوا منها بلالة حلق، ولا بلالة معدة، ولقد سمعت أنت ورأيت كما كنت أنا أسمع وأرى، كيف كان الرد خشنا، وكيف كان الجواب غليظا، وفي الدار رزقها المغدق، وفيها ماؤها المتدفق.
ولعلك لا تزال تذكر ما حدث منذ أسبوعين حين كرمت هذه الدار بعض ذوي الحول والطول من رجالات هذا البلد، أرأيت كيف ضاقت الدار على رحبها بأصحاب اليسار والموظفين الكبار.. أرأيت كيف كان الطعام غنيا، شهيا، سخيا، ملأ العيون وأوفى على البطون، وجاوز الظنون، على حين أن أصحاب الطعام لا يكنون لمن دعوهم ودا، ولا يحفظون لهم عهدا، وإنما يرجون من وراء ذلك جلب مصلحة أو دفع أذى.(7/120)
الأمانة، والإخلاص، والوفاء، والاستقامة، والمروءة، والامتيازات الفردية والجماعية، والعقائد الموروثة, والأمجاد الأثيلة، والأنساب العريقة, كل هذا وأمثاله - مما كان يؤمن به الآباء والأجداد ويحافظون عليه كل الحفاظ - قد ذهب فلا رجعة، وأمسى في هذا العالم كهذه الأزهار الصناعية التي تراها في غرفة الاستقبال من هذه الدار، ليس فيها حياة ترقص بها في الجو، وتميس بها فوق الأرض، وتنطق بجماله صنع الله، ليس فيها رائحة تفغم الأنوف، وتنعش الأنفس، وتثير الحياة، إنها مظهر جذاب، ومنظر خلاب، يخادع به الناس بعضهم بعضا وهم يعلمون.
وأنا لم أقل لك ما قلت، ولا ضربت لك تلك الأمثال، إلا لأبين لك كيف يعيش الأحياء من الناس على الأرض في هذه الأيام، لا تكاد تربطهم رابطة من دين، أو خلق، أو جنس وإنما هي المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، لماذا لا نأخذ بهذا المبدأ ونسير على هذا الطريق ونحيا حياة مسالمة ودعة ينعم فيها الطرفان، ويتفيأ ظلالها القطط والفيران..
وهل هناك حياة أمتع وأروع من حياة السلم والسكينة، والأمن والطمأنينة، مع راحة وهناء، وطعام دون عناء.
علام هذا الخصام بين مخلوقات الله في لقمة خبز، وجرعة ماء.. لو تراضى الخلق بالمساواة وأخذ كل مخلوق ما كفاه، لعاشوا جميعا عيشة هادئة وادعة، لا قلق فيها ولا اضطراب، ولا دماء ولا حراب.
لا تفكر في الماضي، فالماضي مليء بالأحقاد والترات، زاخر بالعداوات والذكريات، فكر فيما نحن فيه، وما أنت عليه، ودع عنك ماضيا سحيقا سحقته السنين والقرون.(7/121)
أرجو ألا تستصغر شأني، أو تهمل ما أدعوك إليه، حين ترى رسالتي هذه قد جاءتك حقائق عارية من حلل الفصاحة والبلاغة، خالية من زخرف القول ومكذوب الوداد، فنحن - معاشر الفيران- قد ابتلينا بشتى المصائب، ولعل أعظمها أن الله لم يهب لنا فصاحة نملك بها الأسماع، ونختلب العواطف، ونستهوي الأنفس، ونلبس الحق بالباطل، ألا ترى إلى الفأر منا يسرق قطعة الجبن، أو لقمة الخبز يدفع بها عادية الجوع، فإذا هي سرقة ملء السمع والبصر، نذوق بها الموت وعذاب الحريق، ويسرق ابن آدم _ وهو المتخم _ سرقاته الكبر فيسميها أسماء شتى، ولكن ليس بين هذه الأسماء وبين السرقة نسب، ثم لا يلحق به عاب، ولا يأخذه عقاب أو عذاب.
ولي بعد هذا أصدق العذر ألاّ أبعد في هذه الرسالة وأطيل، وفيما قلته غناء وكفاية، وفيما أتوقعه من سداد رأيك في الأمور، وحسن تبصرك في العواقب ما يرأب الصدع، وينزع غلا في القلوب طال عليه الأمد.
وفي نهاية هذه الرسالة أود أن أقول: إن هذه المسالمة التي ندعوك إليها ليست عن قلة ولا ذلة ولا ضعف، فنحن - معاشر الفيران- أشد منكم خطرا، وأوسع نفوذا في الأرض، وأقدر على أن نكثر فيها الفساد، لا أقول هذا تهديدا ووعيدا، معاذ الله فنحن ننتظر منك مكرمة تطوق أعناقنا بالجميل، وتلهج ألسنتنا بالشكر الجزيل، وتغرس في قلوب صغارنا والكبار كل احترام لك وتجله.
جارك المخلص الفأر(7/122)
أضواء من التفسير
للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
المدرس بكلية الشريعة
والقرآن العظيم كالدر النظيم كل آية منه لها صلة ومناسبة لما قبلها ولما بعدها، فلا يعقل أن يكون المقام مقام تشجيع وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم من توعد الكفار له ثم يقول له: أذكر قصة العاشق المحب داود، برأه الله مما قالوا, إذ كان عند الله وجيها.
ومصدر هذه الأباطيل أن اليهود لعنهم الله لما عجزوا عن محاربة الإسلام بالأسنة والرماح، أظهروا اعتناق الإسلام وأبطنوا الكفر والعزم على محاربة دعوة الله تعالى بسلاح ممقوت رذيل هو سلاح الدس على الله تعالى في كتبه المنزلة والطعن في رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ولا يهولنك أن القصة على هذا مذكورة في التوراة، وأن فيها "وقبح داود في عين الرب"فالله تعالى بيّن لنا أنهم غيّروا وبدلوا تبديلا.
ومن جميل ما يروى أنه كان عمر بن عبد العزيز جالسا, وعنده رجل من أهل الحق, وبالقرب منهما رجل قاص يقص على الناس هذه القصة وينسبها إلى داود عليه السلام، فقال الرجل للقاص: يا هذا إن كان الأمر كما تقول وستر الله عبده داود وكنى وقال: "نعجة", فما يحل لك أن تفضح نبي الله داود عليه السلام, وإن كان الأمر غير ذلك فقد افتريت على نبي الله داود، فقال عمر بن عبد العزيز: هذا الكلام أحب إلي مما طلعت عليه الشمس.
ما ترشد إليه الآيات:
1- فزع داود عند دخول الخصمين.
2- الأسلوب البدوي الجاف.
3- كثرة بغي الشركاء غير المسلمين.
4- قلة المؤمنين.
5- سرعة خاطر داود عليه السلام.
6- مسارعة الصالحين بالإنابة إلى الله.
7- أن الهوي إلى الأرض لله عند الإنابة من عمل الصالحين.
8- أن الله تجاوز لداود عما فتن به.
9- منزلة داود عند الله.
10- حسن مرجعه في الآخرة.
11- الاعتبار والتأسي.(7/123)
قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ. وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ. كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} .
المناسبة:
بعد أن ساق الله تعالى قصة داود نبّه إلى مكانته عنده واصطفائه له، وأن منزلته بعد الفتنة والتوبة منها كمنزلة قبلها, وأن فتنته لم تسلب خلافته.
القراءة:
قرأ الجمهور (يضلون) بفتح الياء وقرئ بضمها، وقرأ الجمهور (مبارك) بالرفع وقرئ (مباركا) على النصب، وقرأ الجمهور (ليدبروا) بالياء وتشديد الدال، وقرئ (ليتدبروا) ، وقرئ (لتدبروا) بالتاء وتخفيف الدال.
المفردات:
خليفة: أي مستخلفا على الملك والحكم بين الناس بمعنى نصّبناك حاكما لتنفيذ أوامرنا أو صيرناك نائبا عنا.
بالحق: بالعدل.
الهوى: ميل النفس إلى شهوتها ولو عارض الشرع، وقد يراد به الشيء المهوي، كما في قول جعفر بن علبة:
هواي مع الركب اليمانين مصعد جنيب وجثماني بمكة موثق
يضلك: يصرفك ويبعدك.
سبيل الله: طريقه المستقيم.
شديد: شاق.
نسوا: تركوا بمعنى أنهم لم يذكروه ولم يعملوا.
يوم الحساب: يوم القيامة والنقاش والجزاء.
خلقنا: أنشأنا وأوجدنا.
باطلا: لعبا وعبثا وبلا حكمة.(7/124)
ذلك: إشارة إلى خلقها للعب والعبث وعدم الحكمة.
ظن الذين كفروا: أي مظنونهم الخاطر ببالهم والقائم بنفوسهم.
فويل: فهلاك ودمار أو هو واد في جهنم.
مبارك: أي كثير المنافع.
ليدّبروا: ليتأملوا وينظروا.
وليتذكر: وليتعظ.
أولوا الألباب: أصحاب العقول.
التراكيب:
قوله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} يجوز أن يكون مستأنفا لبيان زلفاه، ويجوز أن يكون مقولا لقول مقدر معطوف على (غفرنا) أو حال من فاعل (غفرنا) أي غفرنا وقلنا أو قائلين يا داود، والكاف مفعول أول لـ (جعلنا) ، و (خليفة) المفعول الثاني.
وقوله {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} الفاء تفريعية، وقد فرع الأمر بالحكم على ما سبقه، لأن جعله خليفة يقتضي الحكم بالعدل.
والمراد بالأمر مداومة داود للحكم بالحق وتنبيه لغيره ممن ولي أمور الناس أن يحكم بينهم بالحق، وهو عليه السلام لا يحكم إلا بالحق، وكذلك قوله: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} نهي له يقصد منه المداومة على ترك اتباع الهوى وتنبيه لغيره ممن ولي أمور الناس ألاّ يتبع في حكمه الهوى.
وقوله: {فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} بنصب المضارع بأن مضمرة بعد فاء السببية لكونه في جواب النهي، ويجوز أن تكون الفاء للعطف على النهي، وإنما فتحت اللام لأجل التقاء الساكنين، والفاعل في (فيضلك) ضمير الهوى أو ضمير المصدر المفهوم من قوله: {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} أي فيضلك الهوى أو اتباع الهوى.
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه} تعليل لما قبله ببيان غائلته، وكان مقتضى الظاهر أن يقول إن الذين يضلون عنه، ولكنه أظهر في موضع الإضمار فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} لزيادة التقرير، والإيذان بكمال شناعة الضلال عنه.(7/125)
وقوله {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} لهم: خبر مقدم، وعذاب: مبتدأ مؤخر، وشديد: صفته، والجملة في محل رفع خبر إن، والباء في قوله {بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} سببية، وما مصدرية، ويوم الحساب: مفعول لنسوا، والمعنى: لهم عذاب شديد لعدم ذكرهم يوم الحساب، ويكون قوله: {بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} تعليلا تصريحا لثبوت العذاب الشديد لهم بنسيانهم يوم الحساب، وقيل: إن يوم الحساب ظرف لقوله (لهم) ففي الكلام تقديم وتأخير والأصل: لهم يوم الحساب عذاب شديد بما نسوا، وعليه فمفعول نسوا محذوف مفهوم من السياق تقديره: بما نسوا سبيل الله، والأول أولى، ومن قرأ (يضلون) بضم الياء فهي على حذف المفعول.
وقوله {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} كلام مستأنف لتقرير مضمون ما قبله من أمر الحساب، ويجوز أن تكون الجملة في موضع الحال من فاعل نسوا، وقد جيء بها لتفظيع أمر النسيان كأنه قيل: بما نسوا يوم الحساب حالة وجود دلائله ووضوح حقيقته، و (باطلا) منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف أي خلقا باطلا، ويجوز أن يكون حالا أي مبطلين أي ذوي باطل، كما يجوز أن يكون مفعولا لأجله أي لأجل الباطل، والإشارة بقوله: {ذَلِكَ ظَنُّ} راجعة إلى كون خلقها باطلا، والكفار وإن أقروا أن الله خالق السموات والأرض, ظانون أن خلق ذلك ليس لحكمة, وأنها خلقت عبثا ولعبا، ولذلك قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} .(7/126)
وقوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} مبتدأ وخبر، والفاء لإفادة ترتيب ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل، وكان مقتضى الظاهر أن يقول (فويل لهم) وإنما وضع الاسم الموصول موضع الضمير لإشعار جملة الصلة بسبب استحقاقهم الويل، ومن في قوله: {مِنَ النَّارِ} بمعنى في، وقيل تعليلية كما في قوله: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} أي فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم وكفرهم، و (أم) في قوله: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ} منقطعة بمعنى بل وهمزة الإنكار، والإضراب للانتقال من تقرير أمر البعث والحساب بنفيه خلق العالم لغير حكمة إلى تقريره وتحقيقه بما في الهمزة من إنكار التسوية بين الفريقين ونفيها على أبلغ وجه وآكده.
وقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار ِ} يجوز أن يراد بهذين الفريقين عين الأولين ويكون التكرار باعتبار وصفين آخرين هما أدخل في إنكار التسوية من الوصفين الأولين، ويجوز أن يكون انتقالا من إثبات الحساب بلزوم استحالة التسوية بين الفريقين المذكورين على الإطلاق إلى إثباته بلزوم ما هو أظهر منه استحالة وهو التسوية بين أتقياء المؤمنين وفجرة الكافرين.(7/127)
وقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} مستأنف لبيان ما ترسم به الطريق التي يكون سالكوها من أهل السعادة يوم الحساب، وفي ذكر الكتاب هنا بهذا الوصف تنبيه إلى أن القصة السابقة فيها كفاية لأصحاب العقول ولقريش لو كانوا يعقلون، ومع ذلك يذكر بعدها بعض القصص إمعانا في النصح ومبالغة في الإعذار، وفيه إشارة إلى إعجازهم بالقرآن وتحديهم به، و (كتاب) خبر مبتدأ محذوف أي هذا كتاب، و (أنزلناه) صفته، وقوله: (مبارك) على قراءة الرفع يصح أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف أيضا، أو هو خبر ثان، ولا يجوز أن يكون نعتا ثانيا عند الجمهور؛ لأنهم لا يجيزون أن يتأخر الوصف الصريح على غير الصريح، أما الذين لا يمنعون ذلك فيجوزون أن يعرب وصفا ثانيا، وقرئ (مباركا) بالنصب على أنه حال من مفعول (أنزلنا) وهي حال لازمة؛ لأن البركة لا تفارقه، وقوله: {لِيَدَّبَّرُوا} متعلق بأنزلنا، وضمير الفاعل في (ليدبروا) لأولي الألباب على سبيل التنازع مع إعمال الثاني، أو للمؤمنين والمفسدين، ومن قرأ (لتدبروا) فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وعلماء المسلمين.
المعنى الإجمالي:
يا داود إنا نصبناك حاكما لتنفيذ أوامرنا فافصل في قضايا الناس بالعدل، واتبع نظام الشرع، ولا تخضع لميول نفسك وما تهوى، فإن الهوى يحيد بك عن صراط الله المستقيم، ومنهجه القويم، إنّ الذين يحيدون عن صراط الله المستقيم، وينسون يوم النقاش العظيم قد هُيئ لهم عقاب قاس, لا يخطر على البال, ولا يدور في الخيال بسبب تركهم العمل ليوم مناقشة الخلائق على ما قدموا، إنّ يوم الحساب كائن لا محالة؛ لأنه لو لم يكن حساب ولا بعث لكان خلق السموات والأرض وسائر العوالم عبثا ولعبا لأنها تكون حينئذ إنما خلقت للفناء، ولا يخطر هذا إلا ببال الجاحدين الأشقياء.(7/128)
فهلاك ودمار أو واد في جهنم لهؤلاء الجاحدين، إنه لو لم يكن بعث ولا حساب لاستوى الصالح والمفسد، والتقي والفاجر، ولا يمكن لعاقل أن يسوي بينهما، فشتان بين من يغض طرفه إن بادت له جارته وبين من ينهب النساء للخنا والفجور، وشتان بين من يمد يد المساعدة والإنفاق للفقراء والمساكين وبين من يمد يده لنهب أموال اليتامى والمستضعفين.
هذا كتاب أوحينا به إليك كثير الخيرات، عظيم المنافع، لا تفارقه البركة أبدا، أنزلناه ليتفكروا في آياته، وينظروا في عجائبه وبدائعه، وليتعظ أصحاب العقول.
ما ترشد إليه الآيات:
1- أنّ داود من خلفاء الله في الأرض.
2- وجوب الحكم بالعدل.
3- عدم جواز الحكم بغير كتاب الله.
4- الحكم بغير كتاب الله يسبب شقاء العاجلة والآجلة.
5- الحاكم بغير كتاب الله لا يؤمن بيوم الحساب.
6- البعث حق ولابد منه.
7- منكر البعث يرى أن خلق العالم لعب.
8- لا ينكر البعث إلا كافر.
9- إنكار البعث تسوية بين الصالحين والمفسدين.
10- القرآن كثير الخيرات جليل المنافع لا ينأى عنه إلا محروم.
11- يجب تدبر القرآن.
12- لا يتعظ به إلا أصحاب العقول.
13- في القصة السابقة كفاية لو كانوا يعقلون.(7/129)
من أعلام المحدثين
أبو حاتم الرازي 195-277هـ
بقلم: الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
نسبه:
هو محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران.
كنيته:
يكنى أبا حاتم وقد اشتهر بهذه الكنية.
نسبته:
يقال له الرازي نسبة إلى وطنه الري بزيادة زاي، وأصله من أصبهان, ومن أجل ذلك ترجم له أبونعيم في كتابه أخبار أصبهان، ويقال له الغطفاني، ويقال الحنظلي، وحنظلة بطن من غطفان، ونسبته إليهم نسبة ولاء كما في الخلاصة للخزرجي، وقال ابنه عبد الرحمن كما في اللباب: "نحن من موالي تميم بن حنظلة الغطفاني من غطفان"، وقال ابن الأثير: "وأما أبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي فمنسوب إلى درب بالري يقال له: درب حنظلة".
رحلته في طلب الحديث:
بدأ كتابة الحديث سنة تسع ومائتين أي وعمره أربع عشرة سنة، ورحل في طلبه وهو صغير، فرحل إلى الكوفة والبصرة وبغداد ودمشق وحمص، ورحل إلى مصر وبقي في الرحلة زمانا, وحصل له في ذلك أمور عجيبة قال ابنه: سمعت أبي يقول: "أول سنة خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ ثم تركت العدد بعد ذلك، وخرجت من البحرين إلى مصر ماشيا، ثم إلى الرملة ماشيا، ثم إلى دمشق ثم إلى أنطاكية ثم إلى طرسوس ثم رجعت إلى حمص ثم منها إلى الرقة ثم ركبت إلى العراق كل ذلك وأنا ابن عشرين سنة، وقال: بقيت بالبصرة سنة أربع عشرة أي ومائتين فبعت ثيابي حتى نفدت، وجعت يومين فأعلمت رفيقي فقال: معي دينار فأعطاني نصفه، وطلعنا مرة من البحر وقد فرغ زادنا فمشينا ثلاثة أيام لا نأكل شيئا …"إلى آخر القصة، وهي مذكورة في طبقات الشافعية وتذكرة الحفاظ وغيرهما.
ممن روى عنهم:(7/130)
روى عن محمد بن عبد الله الأنصاري وعثمان بن الهيثم وعفان بن مسلم وأبي نعيم عبيد الله بن موسى وآدم بن أبي إياس وأبي اليمان وسعيد بن أبي مريم وأبي مسهر وغيرهم.
ممن رووا عنه:
روى عنه أبو داود والنسائي وابن ماجة وابنه عبد الرحمن، وروى عنه عبدة بن سليمان المروزي والربيع بن سليمان المرادي ويونس بن عبد الأعلى ومحمد بن عوف الطائي وهم من شيوخه، ورفيقه وابن خالته أبو زرعة الرازي ومحمد بن هارون الروياني وأبو عوانة الإسفرائيني وابن أبي الدنيا وأبو زرعة الدمشقي وأبو عمرو بن حكيم وغيرهم.
من خرج حديثه:
خرج حديثه أبو داود والنسائي وابن ماجة، وقد رمز لإخراجهم حديثه في سننهم الحافظ في تهذيب التهذيب وتقريبه والخزرجي في الخلاصة، وذكر الحافظ في تهذيب التهذيب أن ابن ماجة روى عنه في التفسير، وقد روى البخاري في الصحيح في باب المحصر عن محمد غير منسوب عن يحي بن صالح, وفي آخر تفسير سورة البقرة عن محمد غير منسوب عن النفيلي ويحتمل أن يكون هو أبا حاتم الرازي كما في فتح الباري 4/7 و 8/206 وقال ابن السبكي في طبقات الشافعية: "وقيل إن البخاري وابن ماجة رويا عنه ولم يثبت ذلك".
من ثناء العلماء عليه:(7/131)
قال أبو بكر الخلال: "أبو حاتم إمام في الحديث"، وقال ابن خراش: "كان من أهل الأمانة والمعرفة"، وقال النسائي: "ثقة"، وقال أبو نعيم: "إمام في الحفظ والفهم"، وقال اللالكائي: "كان إماما عالما بالحديث حافظا متقنا ثبتا"، وقال ابن أبي حاتم: "سمعت موسى بن إسحاق القاضي يقول: ما رأيت أحفظ من والدك، قلت له فرأيت أبا زرعة؟ قال لا، قال: وسمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: أبو زرعة وأبو حاتم إماما خراسان ودعا لهما وقال: بقاؤهما صلاح للمسلمين"، وقال الخطيب: "كان أحد الأئمة الحفاظ الأثبات مشهورا بالعلم مذكورا بالفضل"، وقال ابن أبي حاتم: "سمعت أبي يقول: قلت على باب أبي الوليد الطيالسي: من أغرب عليّ حديثا غريبا مسندا صحيحالم أسمع به فله عليّ درهم يتصدق به وهناك حلق من الخلق أبو زرعة فمن دونه وإنما كان مرادي أن أستخرج منها ما ليس عندي، فما تهيأ لأحد منهم أن يغرب عليّ حديثا"، وقال أحمد بن سلمة النيسابوري: "ما رأيت بعد إسحاق ومحمد بن يحي أحفظ للحديث ولا أعلم بمعانيه من أبي حاتم"، وقال عثمان بن خرزاذ: "أحفظ من رأيت أربعة: إبراهيم بن عرعرة ومحمد بن المنهال الضرير وأبو زرعة وأبو حاتم".(7/132)
وقال أبو حاتم: "قدم محمد بن يحي النيسابوري الري فألقيت عليه ثلاثة عشر حديثا من حديث الزهري فلم يعرف منها إلا ثلاثة"، قال الحافظ ابن حجر: "وهذا يدل على حفظ عظيم فإن الذهلي شهد له مشايخه وأهل عصره بالتبحر في معرفة حديث الزهري ومع ذلك فأغرب عليه أبو حاتم"، وقال في تقريب التهذيب: "أحد الحفاظ"، وقال ابن كثير في البداية والنهاية: "أحد الأئمة الحفاظ الأثبات العارفين بعلل الحديث والجرح والتعديل"، وقال الذهبي في العبر: "حافظ المشرق", وقال: "وكان بارع الحفظ واسع الرحلة من أوعية العلم", وقال: "كان جاريا في مضمار البخاري وأبي زرعة الرازي"، وقال في تذكرة الحفاظ: "الإمام الحافظ الكبير أحد الأعلام"، وقال ابن ناصر الدين -كما في شذرات الذهب لابن العماد-: "كان في مضمار البخاري وأبي زرعة جاريا, وبمعاني الحديث عالما, وفي الحفظ غالبا, وأثنى عليه خلق من المحدثين"، وقال الحافظ في تهذيب التهذيب: "وقال مسلمة في الصلة: كان ثقة وكان شيعيا مفرطا وحديثه مستقيم"، قال الحافظ: "ولم أر من نسبه إلى التشيع سوى هذا الرجل، نعم ذكر السليماني ابنه عبد الرحمن من الشيعة الذين كانوا يُقدّمون عليا على عثمان كالأعمش وعبد الرزاق, فلعله تلقف ذلك من أبيه, وكان ابن خزيمة يرى ذلك أيضا مع جلالته.
آثاره:
يوجد في المكتبة الظاهرية بدمشق (من كتاب الزهد عنه) مخطوطا في المجموعة رقم 28، وفي معهد المخطوطات بالقاهرة: الضعفاء والكذابون والمتركون من أصحاب الحديث عن أبي زرعة وأبي حاتم الرازيين مما سألهم عنه وجمعه وألفه أبو عثمان سعيد بن عمرو بن عمار البرذعي المتوفى سنة 292هـ رقم 719 فهرس قسم التاريخ، وفي معجم المؤلفين 9/35 من آثاره: تفسير القرآن، الجامع في الفقه، الزينة، وطبقات التابعين.
وفاته:(7/133)
توفي أبو حاتم الرازي رحمه الله سنة سبع وسبعين ومائتين، قال الحافظ في تهذيب التهذيب "قال ابن المنادى وغير واحد: مات في شعبان سنة سبع وسبعين ومائتين، وقال ابن يونس في تاريخه مات سنة تسع وسبعين ومائتين، قال الحافظ: والأول أصح"، ثم قال: "وكان مولده سنة خمس وتسعين ومائة"، وقال الذهبي في التذكرة: "توفي أبو حاتم سنة سبع وسبعين أي ومائتين وله اثنتان وثمانون سنة" انتهى، وروى الخطيب بإسناده إلى أحمد بن محمود ابن صبيح أنه قال: "سنة سبع وسبعين ومائتين فيها مات أبو حاتم الرازي بالري".
ممن ترجم له:
1- ابن القيسراني في الجمع بين رجال الصحيحين 467.
2- والذهبي في العبر 2/58. وفي تذكرة الحفاظ 2/146.
3- وابن حجر في تهذيب التهذيب 9/31. وفي التقريب 2/143.
4- والخزرجي في خلاصة تذهيب الكمال 278.
5- وابن كثير في البداية والنهاية 11/59.
6- والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 2/73.
7- والعليمي في المنهج الأحمد 1/183.
8- وابن العماد في شذرات الذهب 2/171.
9- وابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة 1/284.
10- وابن السبكي في طبقات الشافعية 1/299.
11- وابنه عبد الرحمن في مقدمة الجرح والتعديل 349.
12- وأبو نعيم في أخبار أصبهان 2/201.
13- وعمر رضا كحالة في معجم المؤلفين 9/35.(7/134)
العدوان على بنت عدنان
لفضيلة الشيخ يوسف عبد الرحمن الضبع
المدرس في كلية الشريعة بالجامعة
يسرف بعض الناطقين بالضاد في استعمال كلمات تجافي القواعد والأصول التي أرسى أساسها السلف وأودعوها أمات المراجع وأمهات المعاجم، وما أجدر الخلف أن يترسم خطاهم في التزام ما دوّنوا حفاظا على هذا التراث الخالد المتدفق من ينابيع القرآن تسيل بها أودية بنت عدنان في العالمين والتي باها أفصح من نطق بالضاد، ولنا فيه أسوة حسنة في تقويم الألسنة، وقديما قيل: "لو استقمتم لاستقامت ألسنتكم"، حكمة بالغة فما تغني النذر.
من ذلك التعدي في ثوب مهلهل من التحدي ما تطالعنا به الصحف السيارة من أخطاء لغوية يضل فيها الساري سواء السبيل في اللغة العربية، وخليق بالصحافة وهي من وسائل الإعلام الباقية ألا يعول لها ميزان في تنقية الأساليب مما يرنق صفوها وينأى بها عن الجادة.
وإني أسوق للقراء الكرام قلاّ من كثر على سبيل الأمثلة لا على سنن الحصر والاستقراء مبينا وجه الصواب فيها رجاء الحرص على التزامه لأنه الحق والحق أحق أن يتبع.
من ذلك جمع الكلمات (مكتوب، مشروع، موضوع، مفهوم) وما أشبهها مما هو في المفرد على وزن مفعول جمعا يأباه الكتاب وتنفر منه السنة حيث نرى جمعها خطأ على (مكاتيب، مشاريع، مواضيع، مفاهيم) على وزن مفاعيل، وهذا الجمع وبالتالي هذا الوزن ليس لها ولا لأشباهها لأنه لم يسمع عن العرب الألى نحن من جلدتهم ونتكلم بألسنتهم، وإني إذ أنقل ما نصّ عليه فحول العلماء وهم قدوتنا بعد الأنبياء آمل أن نسير على دربهم ليتصل حبلنا بحبلهم.
قال العلامة الصبان في حاشيته على شرح الأشموني لألفية الإمام ابن مالك في أعقاب باب جمع التكسير عند قول الناظم [1] :
وبفعالل وشبهه انطقا
في جمع ما فوق الثلاثة ارتقى(7/135)
فائدة: "لا يجمع جمع تكسير نحو مضروب (يعني ما كان على وزن مفعول) وشذ ملاعين جمع ملعون، ذكره ابن هشام في شرح بانت سعاد".
وهاؤم اقرأوا ما كتبه مسك ختام المجتهدين من اللغويين والنحاة ابن هشام الأنصاري طيب الله ثراه في تحليته لبانت سعاد عند تحليله لقول كعب بن زهير سر أبيه حكيم العرب وصاحب الحوليات زهير بن أبي سلمى:
أمست سعاد بأرض ما يبلغها
إلا العتاق النجبيات المراسيل [2]
"وإنما تمنع الصفة المبدوءة بالميم من التكسير في مسألتين:
- إحداهما: أن تكون على وزن مفعول كمضروب وشذ نحو ملاعين ومشائيم.
- والثاني: أن تكون الميم مضمومة".
ولعله يشير إلى مثل قول الشاعر المجهول في الأولى:
إن هو مستوليا على أحد
إلاّ على أضعف المجانين
وقد تفرّقت روايات عجز هذا البيت مما جعله أكثر هلهلة من نسج العنكبوت إذ جعل بعض المنشدين العجز (إلاّ على حزبه الملاعين) ، على حين جعله بعض آخر (إلاّ على حزبه المناحيس) وأيا ما كان عجزه فما أغنانا عن الروايات الملفقة التي ندت عن المألوف ونبت عما اصطلح عليه فضلاء العلماء وما يعقلها إلا العالمون.
وقد أشار المحقق الصبّان إلى جموع الكلمات (مكتوب، مشروع، موضوع، مفهوم، ملعون) وأمثالها بأنها تجمع جمع تصحيح لا جمع تكسير، بدليل قوله: فيقال: مختارون ومنقادون في جمع مختار ومنقاد، يعني بذلك حالة الرفع، أمّا في حالتي النصب والجر فيقال: مختارين ومنقادين.
ومثل ذلك يقال في جمع مثل مضروب والكلمات مكتوب وما بعدها فتجمع هكذا مضربون رفعا ومضروبين نصبا وجرا.(7/136)
وفي القرآن الحجة البالغة والدليل والبرهان، ألم تر إلى ربك كيف قال: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاس ِ} ، {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [3] جمع مسجون، {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [4] جمع مرجوم، {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} جمع معزول، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [5] جمع مقبوح، {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ} [6] إلى قوله تعالى: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [7] جمع ملعون، {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} [8] جمع منصور، {أَئِنَّا لَمَبعُوثُون} 47 {لَمَجمُوعُون} 50 {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} 60 {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} 67 [9] .
تلك عشرة كاملة من آيات الله المحكمات تضاف إليها آية النازعات العاشرة {أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَة ِ} كلّها ناطقة بجمع موازن مفعول جمع تصحيح لمذكر، ولنا قياسا متبعا وليس مبتدعا جمع مكتوب ومشروع وموضوع ومفهوم على مكتوبات ومشروعات وموضوعات ومفهومات جمع تصحيح لمؤنث، أعني به ما دل عليه قول الناظم:
وما بتا وألف قد جمعا
يكسر في الجر وفي النصب معا
والله المسئول أن يهدينا سواء السبيل.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ص 126 ج 4 حاشية الصبان.
[2] ص 46 من شرح بانت سعاد للإمام ابن هشام.
[3] سورة الشعراء آية 29.
[4] نفس السورة الشعراء آية 116.
[5] سورة الشعراء آية 212.
[6] القصص آية 42.
[7] الأحزاب آية 60.(7/137)
[8] الصافات آية 172.
[9] الأربعة كلها في سورة الواقعة.(7/138)
المسلمون اليوم
للدكتور طه محمد الزيني
المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
لاجئون في فلسطين، ومقّتّلون في الفلبين، وأسارى وقتلى في باكستان والهند، ومعذّبون في كثير من أنحاء الأرض لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، ومحاصرون اقتصاديا لا يستطيعون الفكاك من حصارهم، هؤلاء المسلمون الذين قال الله تعالى فيهم: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} لم ينصروا الله فلم ينصرهم، لم ينفِّذوا أحكامه فيما ولاهم إياه ولا في أنفسهم، لا يستطيعون نصرة الضعفاء منهم ولا الدفاع عنهم، ولا تفريج كروبهم، فلا يستطيعون القتال لأنهم أحبوا الحياة وركنوا إليها، وهجروا سنّة الجهاد وفرضه فتأخروا في الفنون العسكرية عن الكفار، ولا يستطيعون الإمداد بالمال لبُخلهم وشحهم، وطمعهم وتعلّقهم بالدنيا، حتى الدفاع باللسان لا تجده إلا من فئة قليلة من المسلمين، وباقيهم بعضهم يدافع بقلبه وهذا أضعف الإيمان، وبعضهم لا ينكر بقلبه بل هو متآمر مع الكفار يرى في ضعف المسلمين قوة لنفسه وكثرة لماله وسعة في رزقه وزيادة في متعته ولذّته، ورفعة في جاهه وسلطانه.(7/139)
وليس الإسلام قولا باللسان فقط, إنما الإسلام قول باللسان يسبقه تصديق بالقلب ويتبعه عمل بالجوارح, يطابق ما يعتقده القلب وما ينطق به اللسان، فالمسلم يعتقد أن الله واحد لا شريك له وأنّ محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله, فيقول: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وقد أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وقد ظهر الإسلام على الأديان ودانت له الشعوب وخضعت له الرقاب على يد المسلمين الأوّلين الذين أقاموا صرحه على حبهم لله ولرسوله ولدينه، وبذلوا أرواحهم رخيصة في سبيله، وأموالهم كثيرة في إحيائه ورفع كلمته، وآثروا الآخرة على الدنيا، وفضّلوا الموت في سبيل نصرة الحق على الحياة، وحكموا اليهود والنصارى والمجوس والمشركين فعدلوا فيهم، وجعلوهم يفضّلون حكمهم وهم البعداء عنهم على أهليهم وبني أوطانهم الأدنين منهم، وكان لعدلهم وقوتهم وسامي أخلاقهم دوي في الدنيا كلها فاق دوي جميع من كان له دوي من الحكام وما كان له دوي من القوانين والشرائع، ونفذوا أحكام الإسلام كاملة فيما ولاّهم الله عليه ونصروا ربهم وأعزّوا دينه ورفعوا كلمته، فنصرهم ربهم وأعزّهم وأعلى شأنهم، وجعلهم خلفاءه في الأرض طبقاً لوعده في قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .(7/140)
ولكن ويا حسرة على المسلمين خلف من بعدهم أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وعكفوا على الدنيا، فاتخذ بعضهم حكم الرعية مغنما يستولون به على الأموال، ويهتكون به الأعراض، ويذلّون المسلمين الأعزاء، ويضعفون الأقوياء، ويسهمون في معاونة أعداء الإسلام على إذلال إخوانهم المؤمنين وسلب أموالهم وأراضيهم، ومحاربة أعمالهم الصالحة، وأقوالهم الناصحة، ويطمسون معالم الإسلام بإنشاء قوانين ليست منه في شيء وليست من صلاح المؤمنين في شيء، والمسلم الذي يعتقد أنّ محمدا رسول الله يجب عليه أن يعمل بقوله "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه ولا يقتله"وعدم خذلان المسلم نصرته على أعدائه وليس التعاون معهم، وعدم إسلامه هو الدفاع عنه وعدم تركه لأعدائه يفعلون به ما يشاءون.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
ولابد للمسلمين إذا أرادوا العزة ورغبوا في القوة وطمعوا في حياة فاضلة أن يعودوا إلى دينهم ويمتثلوا أوامر ربهم ويجتنبوا نواهيه، ويصفّوا أنفسهم من كدر الحقد والحسد والكبر والشح والحبّ المفرط للدنيا، ويصرفوا حبهم إلى خير المسلمين في جميع أنحاء الأرض، ويجاهدوا أنفسهم وينازعوها لذتها ومتعتها ويبعدوها عن كل مطلب حرام، ويرغموها على إتيان الحلال وحده حتى يرضى عنهم الله وينظر إليهم.
إنّ جهاد النفس هو الجهاد الأكبر فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المجاهد من جاهد نفسه والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
وقال لأصحابه - بعد رجوعهم من إحدى الغزوات – "قدمتم خير مقدم قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر مجاهدة العبد هواه"، وقال أيضا: "أفضل الجهاد أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله عز وجل".
أسأل الله لي وللمسلمين التوفيق إلى اتباع أمره واجتناب نهيه إنه سميع الدعاء.(7/141)
يا ربة البنطلون
للشيخ محمد المجذوب
المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
يا ربة البنطلون
لو تعلمين شجوني
ماذا دهاك فألوى
بقلبك المفتون
ومن أضلك حتى
سلكت درب المجون
فبت دمية طفل
يسومها كل هون
وعدت من بعد ذاك
الجلال حفنة طين
كشفت كل خبيء
وهجت كل دفين
وكنت حلما شهيا
فصرت داء العيون
تخبطين انسياقا
وراء كل ظنين
وتهجرين اختيارا
نهج الرسول الأمين
أين الأنوثة؟! أودى
بها خسيس الفنون
وأين سحر تلالا
من قبل فوق الجبين
قد زال كل رواء
عن وجهك المسكين
ولم يعد ثمّ إلاّ
طيف الضياع المهين
وطالما فاض بالطهر
والجمال الرصين
حتى هويت فغاضا
خلف الضلال المبين
يا عزة الأمس هانت
فما لها من معين
وسلعة السوق بارت
فما لها من زبون
وكتلة اللحم فاحت
منها رياح المنون
لم تبق منك التفاها
ت غير شكل مشين
مجموعة من مخار
وحزمة من جنون
زانت رؤوس ذويها
بمخزيات القرون
فليهنهم ماجنوه
بغرسك الميمون
ويا لفرحة إبليس
بالقرين اللعين
لولا نظائرك العمي
لم يجد من خدين
والقلب محض هواء
إن لم يحصن بدين
ولن يرى الخير ملق
زمامه لخئون(7/142)
النظام الإسلامي سيد الأنظمة
بقلم الشيخ السعيد الشرباصي
المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة
إذا كان الحماس للنظام الإسلامي شيئا واجبا فإن التفكير الهادئ الهادف في أسرار هذا النظام وما يحويه من جلال وجمال ومن حقائق وحكم شيء أوجب.
لقد ساد العالم في الأيام الأخيرة بعض التعابير الخاصة التي يتشدّق بها من يظنون أنّهم على جانب من الثقافة المعاصرة، وأنهم أوتوا حظّا من التفكير المادي المجرد.. والواقع أنّهم حفظوا شيئا وغابت عنهم أشيئا، وقصروا تفكيرهم في اتجاه ضيق ولم يحاولوا أن ينظروا إلى الوجود كله نظرة شاملة واعية؛ لأن الإنسان ليس مادة فقط وإنما هو جسم وروح ومادة وحياة.
والتعابير التي يرددونها ما هي إلا نظريات جوفاء، وأوهام مجسمة إن كان لها ظلال في عالم الفكر والخيال، فإنها لا تقوم في عالم الحقيقة والتجربة والوجود، وقد يكون في بعض هذه المصطلحات أفكار منمّقة ولكنّها في التطبيق تتحوّل إلى رذائل مجسّمة تخدع ولا تقنع، وتبلبل ولا ترضي، وتصنع جبلا عظيما من الوهم والكذب والنفاق.
وفي بدء حديثي طالبت بالتفكير الهادئ الهادف، ولهذا أذكّر شبابنا وطلابنا ألاّ يأخذوا كلامنا - نحن المجربين - قضية مسلّمة، كما لا أريد منهم ألاّ يكونوا ببغاوات تقلّد ما تسمع، وتلتقط ما يتساقط في آذانها من تعبيرات دون فحص أو تمحيص.
أريد منهم أن يفكّروا معنا بشخصية ثابتة قوية تسمع وتعي وتبصر وتفكر، لا تخدع بالبريق ولا بالغريب، وإنما تبحث عن الأصيل والعميق، وتجري وراء اللبّ والحقيقة، وأكثر الأشياء البرّاقة تكون سرابا، وأعظم الأشياء اللاّمعة تكون تافهة.(7/143)
ونحن الشيوخ نعصر أفكارنا وعقولنا وقلوبنا لنعطيكم تجاربنا صافية طيبة خالصة نقية، وما نقدّمه لكم قد يكون حصيلة لتجارب طويلة، ولألام اكتوينا بها، ثم ها نحن اليوم نريد لأبنائنا أن يبتعدوا عن الخطأ، وأن يمضوا في الطريق بلا التفات لليمين أو لليسار، وإنما على الطريق المستقيم طريق الذين أنعم الله عليهم والذين هداهم الله.
وأنا أنظر الآن إلى حفنة من أدباء مصر في مطلع القرن العشرين وقد انتفخت أوداجهم وظنوا أنفسهم على شيء، وتجمّعوا ليصفقوا لموكب ما سموه بالحضارة الجديدة والعلم الحديث، منبهرين بكل وافد، معجبين بكل جديد، بدون فحص أو تمييز، وبدون روية أو تفكير، وأنظر إليهم الآن.. وقد عصرهم الزمن، وأقنعنهم التجارب، وعادوا من حيث بدأوا مع التفكير الهادئ.. ثم تابوا واستغفروا، وتراجعوا وفكروا.. وأستطيع أن أعدهم واحدا، وما منهم إلا نقض ما قال أو ناقضه بما كتب في تمجيد الإسلام وتقديس الفكرة الإسلامية والدعوة المحمدية، وبعضهم كتب أروع ما كتب في حياته عن (الشخصيات الإسلامية) بإيمان واقتناع وتكريم وتمجيد، وبعضهم نشر بحوثا متتابعة تشرح الاتجاهات الإسلامية وتدفع ما عداها، وأحدهم ما زال على قيد الحياة ويجتمع حوله علية القوم في بيته، ويجري الحوار والنقاش فيه حول الأدب والعلم والحياة، ثم يقول أحد المتحدثين رأيا له في قضية معروضة، ولكن آخر يستشهد في القضية بآية قرآنية فيحاول المتحدث أن يناقش الآية، ولكن صاحب البيت الأديب الكبير يقول في إيمان وعمق: "إذا قال القرآن فلا رأي لأحد".
ومن هنا ندرك أن الإسلام حقيقة أصيلة ذات طبيعة نفسية تزداد بالتفكير قوة وبهاء، وتعظم بالبحث وتتجلى أسرارها، والذين يغلقون عيونهم عن الحقيقة ساعة فإنهم يعودون إليها إلى الأبد، والذين يتخبطون في متاهات الشك والحيرة يطلع عليهم بعد حين فجر الإسلام فيهديهم.(7/144)
والفرق بين هؤلاء التائهين وبين المستمسكين بحبل الله المتين كالفرق بين الابن العاقّ والابن المطيع.. الأول يتحمل المتاعب والمشاق ولكنه يعود إلى رشده مقرّا بخطئه.. أما الثاني فإنه يبادر بالطاعة مع التفكير المتزن فيسلم من كل هذه المتاعب.
أيها الأبناء الأحباب، يا شبابنا القوي انظروا إلى النظام الإسلامي نظرة شاملة في كل صوره وكل اتجاهاته، انظروا إليه في أفكاره العلمية ومبادئه الأخلاقية، ونظرياته التشريعية واتجاهاته السياسية، وأحكامه التعبدية وفكرته العقائدية، انظروا وتأملوا تجدوا الكمال في الحقيقة وفي الصورة وفي التطبيق وفي التنفيذ.
أمّا ما تسمعون عنه من مصطلحات فاسألوني عنها، لقد شاهدت نماذج مطبقة منها فإذا بها لا تخرج عن التهريج والتلبيس، والطبل والزمر والأكاذيب العريضة والادعاءات الجوفاء التي ليس لها من الحقيقة نصيب، ولا تمت إلى الواقع بأدنى سبب، وأصحاب هذه الدعاوي يخدعون الناس ويخادعون الله، سبحانه وتعالى عما يظنون علوّا كبيرا، وما يخدعون إلا أنفسهم، وفي كثير من الأحايين يعترف السارق بأنه سرق فيطيب خاطر المسروق بعض الشيء من إقراره، أمّا هؤلاء فإنهم يسرقونك ويحاولون إيهامك بأنهم يعطونك، ولا أخص بلدا دون بلد، ففي أعرق بلاد العالم حضارة ومدنية وتقدّما وعمرانا تصبح العملة المتداولة في سوق السياسة أو الاقتصاد هي الخداع والغش والتضليل، وحسبك أن تذكر ما تقوم به الأموال اليهودية من صنع نظم الحكم في أعرق البلاد لحسابها.. فهي التي تموّل المعركة، وهي التي تحدّد الأهداف، وهي التي ترسم الطريق.
وقبل بداية المعركة تكون النتيجة معروفة، ويكون العملاء الذين دفعوا مقدّما قد كسبوا العهود والمواثيق والاتفاقات السرية التي تعطيهم السماح بالعدوان وتمنحهم أسلحة للتدمير وللتخريب بلا ثمن ومن غير شروط.(7/145)
والشرق والغرب في هذا البلاء سواء، كنت أتحدث مع صديق من أحد البلاد الإسلامية في هذا المعنى فإذا بالصديق يعطيني صورة عمّا يتمّ في بلاده، ولا تختلف عن الصورة البشعة التي تتم في غيرها، تهريج وتطبيل وزمر وخداع وأصوات تشترى، وأصوات تباع، ولا طائل وراء هذا الهرج سوى الإضلال والبهتان، والطريق على الشرفاء والإمناء مسدود بحائط من الاستبداد أو الاستغلال أو الخداع فلا حرية، ولا رأي وإنما هي تمثيلية ليست محبوكة الأطراف وإنما مفضوحة الأوصاف.
وعدت بفكري إلى النظام الإسلامي البسيط الهادف، بلا تهريج ولا تلبيس، وهو نظام الشورى المركزة في أهل الحل والعقد، وفيه يتمّ إسناد الأمر إلى أهله الذين يستطيعون أن يقدروا المسئولية، ويستطيعوا أن يعطوا الكلمة وأن يحافظوا عليها، وإذا تركنا هذا المجال إلى مجال آخر كالمجال الاقتصادي فإننا نرى الإسلام يعطي لكل ذي حق حقه بلا إفراط ولا تفريط، ولا ميل لليمين أو للشمال، الغني له حريته في الكسب والعمل والتفكير والبحث عن منابع الرزق ليستفيد العالم منه كخلية حية نابضة بالحياة والجد والابتكار، وليتمتع الناس بقوة إنتاجه وبراعة فكره وجهده الذاتي، ولولا هذا الكدح الفردي ما كانت هناك مخترعات ولا حضارات.
وفي الوقت نفسه لاحظ الإسلام وجود نفر يتخلف عن المسيرة لعجز أو لضعف أو لسوء حظ – أحيانا - أو لغير ذلك، فلم يهمله ولم يترك الأغنياء وشأنهم، وإنما دعا الكل إلى التعاون، دعا المتقدمين إلى أن يأخذوا بأيدي المتمهلين في مودة وإخاء وتعاون وحب، فالفقير يطلب بإحسان والغني يعطي في إحسان، والكل يعلم أن الخلاق هو الذي يعطي وهو الذي أوجب الإحسان.(7/146)
وإذا كان هذا هو نظام الإسلام في النواحي الاجتماعية التي تربط الأفراد والجماعة، فإنه في نظامه الفردي يعتبر نموذجا عاليا فريدا في كل نواحيه حيث يأخذ الفرد بالعادات الطيبة منذ نشأته فيحتّم عليه النظافة في البدن والملبس والمسكن والمكان، وفي الطعام والشراب، ثم يأتي دور الصلاة في تعويده على الطاعة والنظام والارتباط بمواعيد محددة وأوقات معينة، وهكذا في سائر العبادات التي تكوّن في الفرد الضمير الحي، وتنميه على تحمل المسئولية وتقدير الواجب.
أمّا نظام الإسلام التشريعي فحسبك ما نرى في البلاد التي تطبّقه من أمن واستقرار ومن تلاشي الجريمة حتى لا تكاد توجد إذا قسنا ذلك بالنسبة للبلاد التي لا تنفذه.. فالإنسان خلال التشريع الإسلامي العادل آمن على نفسه وآمن على ماله وآمن على متجره ومنزله وآمن على أسرته.. وإنّ أدب الإسلام في الحفاظ على الجار تجعل المسلم يشعر بالطمأنينة إن سافر أو أقام.
ولا يوجد في العالم نظام يداني الإسلام في كماله وروعته وتناسقه حيث يراعي الإسلام حقوق الفرد وواجباته، وحقوق الأسرة وواجباتها، وحقوق المجتمع وواجباته بلا عدوان من سلطة على سلطة، وبدون إهمال لناحية أو تقديم لناحية، بل الحقوق متوازنة مع الواجبات، والالتزامات متناسبة مع الاحتياجات.
ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره أو قال: لأخيه ما يحب لنفسه.." وممّا يرويه أبو هريرة أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أوَلاَ أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم".(7/147)
وهكذا يمضي النظام الإسلامي إلى غايته ويصل إلى قمّته حيث يضع الركيزة الأساسية لمجتمع متعاون يتحوّل الكل فيه إلى أسرة كبيرة يحسّ كلّ فرد بمشاعر أخيه، يشاركه في السرّاء والضرّاء، وفي الفقر والغنى، وفي الحقوق والواجبات، هذه الركيزة هي الحب، حيث يضع كل إنسان نفسه في موضع الآخر، فيجب لهذا الآخر ما يحبه لنفسه، ويتمنىّ له ما يتمنّاه لشخصه، والحديث الأخير: يقرّر أن حبّ الجماعة والإخلاص لها والإيمان بأهدافها فريضة، وأنه شرط في الإيمان، فلا يؤمن المرء إلا إذا تحاب مع إخوانه، وإذا تحاب آمن، وإذا آمن دخل الجنة.
ألا ما أروع نظاما بدايته حق ونهايته واجب ورابطته حب وإخاء وإيمان.(7/148)
العدد 20
فهرس المحتويات
1- حكم الاحتفال بالمولد النبوي وغيره: رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز
2- الأسماء والصفات نقلاً وعقلاً: محاضرة لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
3- أضواء من التفسير: للشيخ: عبد القادر شيبة الحمد
4- من أعلام المحدثين - أبو زرعة الرازي (200-264 هـ) : بقلم الشيخ: عبد المحسن العباد
5- من أدب الإسلام: بقلم الدكتور: طه محمد الزيني
6- رَسَائِل لمْ يَحمِلهَا البَريْد: بقلم الشيخ: عبد الرؤوف اللبدي
7- ربِّ عفوًا: للشاعر السوري: مصطفى عكرمة
8- بالإسلام تَسْعَد الأمَّة وتنهَض الدَّوْلة: بقلم: الشيخ محمود عبد الوهاب فايد
9-أمضوا حيث شئتم: للشيخ: محمد المجذوب
10- حماية المرأة المسلمة من موجات التحلل الخلقي: للشيخ: محمد المهدي محمود
11- المسئولية في الإسلام: بقلم الشيخ: عبد الله قادري
12- من تاريخنا - علماء وأمراء: إعداد العلاقات العامة
13- أعراض بسيطة قد تخفي وراءها أمراضاً خطيرة: بقلم: الدكتور مصطفى إبراهيم
14- المعاهدات في الإسلام: بقلم: الأستاذ توفيق علي وهبة
15- موقع اللغة العربية بين اللغات الأخرى: بقلم: الأستاذ عيد عبد الله السيد
16- تقرير عن الجامعة السلفية في لائلفور في الباكستان: بقلم الشيخ: علي مشرف العمري
17- رأي الفيلسوف تولستوي في المرأة الغربية: من كتاب حكم النبي محمد ترجمة سليم قبعين
18- من الصحف والمجلات: من حديث الدكتور: محمد ناصر رئيس وزراء إندونيسية الأسبق
19- ندوة الطلبة - إلى أخي الذي لم أره: بقلم: الطالب محمد محمود جاد الله
20- تتمة دفع إيهام الاضطراب: لفضيلة الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي
21- الفتاوى: للشيخ عبد العزيز بن باز
22- أخبار الجامعة
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(7/149)
حكم الاحتفال بالمولد النبوي وغيره
رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فقد تكرر السؤال من كثير عن حكم الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم والقيام به في أثناء ذلك وإلقاء السلام عليه وغير ذلك مما يفعل في الموالد.
والجواب أن يقال لا يجوز الاحتفال بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا غيره لأن ذلك من البدع المحدثة في الدين لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا خلفاؤه الراشدون ولا غيرهم من الصحابة رضوان الله على الجميع ولا التابعون اله بإحسان في القرون المفضلة وهم أعلم الناس بالسنة وأكمل حباً لرسول صلى الله عليه وسلم ومتابعة لشرعه ممن بعدهم. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" أي مردود عليه وقال في حديث آخر "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم محدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة".
ففي هذين الحديثين تحذير شديد من إحداث البدع والعمل بها وقد قال الله سبحانه في كتابه المبين {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .(7/150)
وقال سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} . وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} والآيات في هذا المعنى كثير، وإحداث مثل هذه الموالد يفهم منه أن الله سبحانه لم يكمل الدين لهذه الأمة وأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به حتى جاء هؤلاء المتأخرون فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به الله زاعمين أن ذلك مما يقربهم إلى الله وهذا بلا شك فيه خطر عظيم واعتراض على الله سبحانه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، والله سبحانه قد أكمل لعباده الدين وأتم عليهم النعمة.
والرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين ولم يترك طريقاً يوصل إلى الجنة ويباعد عن النار إلا بينه للأمة كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم" رواه مسلم في صحيحه.(7/151)
ومعلوم أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء وخاتمهم وأكملهم بلاغاً ونصحاً فلو كان الاحتفال بالموالد من الدين الذي يرضاه الله سبحانه لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة أو فعله في حياته أو فعله أصحابه رضي الله عنهم فلما لم يقع شيء من ذلك علم أنه ليس من الإسلام في شيء بل هو من المحدثات التي حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منها أمته كما تقدم ذكر ذلك في الحديثين السابقين وقد جاء في معناهما أحاديث أخر مثل قوله صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة "أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة" رواه الإمام مسلم في صحيحه. والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
وقد صرح جماعة من العلماء بإنكار الموالد والتحذير منها عملاً بالأدلة المذكورة وغيرها وخالف بعض المتأخرين فأجازها إذا لم تشمل على شيء من المنكرات كالغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم وكاختلاط النساء بالرجال واستعمال آلات الملاهي وغير ذلك مما ينكره الشرع المطهر وظنوا أنها من البدع الحسنة والقاعدة الشرعية رد ما تنازع فيه الناس إلى كتاب الله سبحانه وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}(7/152)
وقد رددنا هذه المسألة وهي الاحتفال بالموالد إلى كتاب الله سبحانه فوجدناه يأمرنا باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به ويحذرنا عما نهى عنه ويخبرنا بأن الله سبحانه قد أكمل لهذه الأمة دينها وليس هذا الاحتفال مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فيكون ليس من الدين الذي أكمله الله لنا وأمرنا باتباع الرسول فيه.
وقد رددنا ذلك أيضاً إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فلم نجد فيها أنه فعله ولا أمر به ولا فعله أصحابه رضي الله عنهم فعلمنا بذلك أنه ليس من الدين بل هو من البدع المحدثة، فاتضح بذلك لكل من له أدنى بصيرة ورغبة في الحق وإنصاف في طلبه.(7/153)
إن الاحتفال بالموالد ليس من الإسلام بل هو من البدع المحدثات التي أمر الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم بتركها والحذر منها ولا ينبغي للعامل أن يغتر بكثرة من يفعله من الناس في سائر الأقطار فإن الحق لا يعرف بكثرة الفاعلين وإنما يعرف بالأدلة الشرعية كما قال تعالى عن اليهود والنصارى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآية. ثم إن غالب هذه الاحتفالات بالموالد مع كونها بدعة لا تخلوا من اشتمالها على منكرات أخرى كاختلاط النساء بالرجال واستعمال الأغاني والمعازف وشرب المسكرات والمخدرات وغير ذلك من الشرور وقد يقع فيها ما هو أعظم من ذلك وهو الشرك الأكبر وذلك بالغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأولياء ودعائه والاستغاثة به وطلب المدد واعتقاد أنه يعلم الغيب ونحو ذلك من الأمور الكفرية التي يتعاطاها الكثير من الناس حين احتفالهم بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ممن يسمونهم بالأولياء وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين" وقال عليه الصلاة والسلام: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله"متفق على صحته من حديث عمر رضي الله عنه.(7/154)
ومن العجائب والغرائب أن الكثير من الناس ينشط ويجتهد في حضور هذه الاحتفالات المبتدعة ويدافع عنها ويتخلف عما أوجب الله عليه من حضور الجمع والجماعات ولا يرفع بذلك رأساً ولا يرى أنه أتى منكراً عظيماً ولا شك أن ذلك من ضعف الإيمان وقلة البصيرة وكثرة ما ران على القلوب من صنوف الذنوب والمعاصي، نسأل الله العافية لنا ولكم ولسائر المسلمين ومن ذلك أن بعضهم يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر المولد ولهذا يقومون له محيين ومرحبين وهذا من أعظم الباطل وأقبح الجهل فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخرج من قبره قبل يوم القيامة ولا يتصل بأحد من الناس ولا يحضر اجتماعاتهم بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة وروحه بأعلى عليين عند ربه في دار الكرامة كما قال الله تعالى في سورة المؤمنين: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُون,. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من ينشق عنه القبر يوم القيامة وأنا أول شافع وأول مشفّع" عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام، فهذه الآية الكريمة والحديث الشريف وما جاء في معناهما من الآيات والأحاديث كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأموات إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة، وهذا أمر مجمع عليه بين علماء المسلمين ليس فيه نزاع بينهم فينبغي لكل مسلم التنبيه لهذه الأمور والحذر مما أحدثه الجهال وأشباههم من البدع والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلاّ به.(7/155)
أمّا الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي من أفضل القربات ومن الأعمال الصالحات كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشراً " وهي مشروعة في جميع الأوقات ومتأكدة في آخر كل صلاة بل واجبة عند جمع من أهل العلم في التشهد الأخير من كل صلاة وسنة مؤكدة في مواضع كثيرة منها ما بعد الآذان وعند ذكره عليه الصلاة والسلام وفي يوم الجمعة وليلتها كما دلت على ذلك أحاديث كثيرة، والله المسؤول أن يوفقنا وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه وأنّ على الجميع بلزوم السنة والحذر من البدع إنّه جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(7/156)
حماية المرأة المسلمة من موجات التحلل الخلقي
للشيخ: محمد المهدي محمود
المدرس بدار الحديث التابعة للجامعة
جاء الإسلام يرسم الطريق الواضح لسعادة الإنسانية في الدنيا والآخرة، وبين القرآن الكريم الطريق إلى ذلك خير بيان، وسعدت الإنسانية ببعثه هادي البشرية، ومنقذها من الشرك والضلال والظلام، وهاديها إلى النور والسعادة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين} فكانت رسالة السراج المنير صلى الله عليه وسلم رحمة عامة شاملة مباركة، رحمة في الدنيا والآخرة، رحمة في العقيدة والتشريع والأخلاق، والنظام العام في الأسرة والمجتمع والشعوب، رحمة للفرد والجماعة. إنها رسالة الأخلاق السامية العالية التي تسعد الدنيا بأجمعها، روى مالك في الموطأ بلاغاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"رواه أحمد عن أبي هريرة بسند حسن.
فسعدت البشرية التائهة في بيداء الظلم والضلال، واهتدت بنور خالق الأرض والسماء بنور التنزيل السماوي، وهدي البشير النذير صلى الله عليه وسلم، وكان من تلك الهداية الربانية هداية القرآن في آداب المرأة وسلوكها، ورسالتها في الحياة السعيدة الهانئة.
إن الله تباركت أسماؤه وجلت آلاؤه وعظمت نعمته اختار أن تكون المرأة سكناً للرجل، ومكملة لسعادته ومساعدة له على أداء عمله والقيام بواجبه في الحياة، وآداب الإسلام بصفة عامة يظهر منها بوضوح وجلاء أن للمرأة رسالة هامة في ثلاث ميادين من أخطر العوامل في حياة المجتمع واستقراره، وسعادته وتتجلى هذه الميادين الهامة في النواحي الآتية:
أولاً: رسالة المرأة بالنسبة لزوجها.
ثانياً: رسالة المرأة بالنسبة لبيتها.
ثالثاً: رسالة المرأة بالنسبة لطفلها.(7/157)
فأما رسالة المرأة بالنسبة لزوجها فإن كتاب الله سبحانه وتعالى الذي هو نور الله لأهل الدنيا -عبر عن ذلك أجمل تعبير وأكمله راسماً الحياة السعيدة الهانئة فقال تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} سورة الروم.
فالله جل شأنه جعل المرأة سكناً وأمناً وطمأنينة للرجل، وإن موقف السيدة خديجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى مثل للمحبة الزوجية المثمرة. أعلى مثل للمودة والرحمة التي هي من صنع الله الحكيم على أن سيرة أمهات المؤمنين وكرائم المؤمنات في صدر الإسلام صورة مثالية لما ينبغي أن تكون عليه الزوجة المؤمنة النقية من بر بزوجها وطاعة له وعطف عليه ومحبة له، وإزاء ذلك أوصى الإسلام بالمرأة كثيراً في الآداب الإسلامية عامة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي".
وأما رسالة المرأة في البيت فالمنزل هو عش السعادة والمرأة هي التي ترعاه بعطفها وحنانها تصيّره جنة وارفة الظلال طيبة الثمار دانية القطاف، تجعله جنّة من جنات الدنيا إن المنزل مهد راحة زوجها وعش أطفالها فيه قوام الحياة من مأكل وملبس ومأوى، وأن اليد الحانية التي تمتد إلى كل تلك النواحي في رفق ومحبة، وطهر وإخلاص، وصفاء وعطف. فتعد من المأكل ما لذ وطاب، ومن الملبس ما حسن وكمل، تجعله مهد راحة وأنس لزوجها وبذلك ترفرف السعادة على الأسرة وتصبح الأسرة نواة لمجتمع سعيد يؤدي كل فرد فيه واجبه على أتم ما يكون.(7/158)
أما رسالة المرأة مع أطفالها: فأطفال اليوم هم شباب المستقبل، هم رجال الغد، وأن السيدة الفاضلة الحكيمة العاقلة المهذبة الرشيدة. هي التي ترعى أولادها تنشئهم على الفضيلة ومكارم الأخلاق، وتربيهم على الصفات الحسنة الطيبة الجميلة تغرس فيهم معاني البطولة بما تقصه عليهم من قصص الأنبياء والرسل، وأهل الحكمة الإسلامية، وعظماء التاريخ وأبطال الإسلام.
إن السيدة التي جعلت من المنزل داراً للحكمة ومدرسة للتفقه في كتاب الله وهدي الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم وسير السلف الصالح المبارك. إنما تجعل من منزلها مركز إشعاع يوجه الخير للمجتمع بما تخرجه من أفراد ممتازين علماً وخلقاً، ويصبح المنزل متعاوناً مع المدرسة، فتعاليم المدرسة متممة لبناء المنزل وتربية المنزل مكملة لرسالة المدرسة.
لقد نشأت النساء في صدر الإسلام على حب العلم والتفقه في الدين فأورثهنّ ذلك أمهات الفضائل فأصبحن خير الزوجات وخير الأمهات بل إنهن منارات في البيوت الإسلامية حليتهم مكارم الأخلاق من الحياء والعفاف والجود والكرم والحلم والعلم يصونهن الحجاب الذي بني على تقوى الله، ورسمه القرآن الكريم في آيات بينات معجزات أظهرت الأيام عظمة أسرارها في سعادة الفرد والأسرة والمجتمع.
قال الحكيم العليم: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً، وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} الآيات من سورة الأحزاب 32- 33، وهكذا يختار الله هذا المسلك الطاهر لأمهات المؤمنين وهي قدوة لبقية المؤمنات.(7/159)
وأمام هذه الرسالة رسالة المرأة المباركة أمام رسالة المرأة الخطيرة التي تتناسب مع طبيعتها وتكوينها، مع غريزتها وعواطفها، مع ميولها ووجدانها مع أنوثتها وأمومتها، مع فطرتها التي فطرها الله عليها. أمام هذه الرسالة العظيمة التي عبر عنها الشاعر بقوله:
والأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعباً طيب الأعراق
أمام هذه الرسالة يتضح جلياً أن أي انحراف للمرأة عن أداء رسالتها وأي شاغل يعوقها عن عملها الطبيعي الذي يتفق مع فطرتها وطبيعتها وتكوينها هو جناية كبرى:
أ - جناية على الحياة الزوجية الهادئة الآمنة.
ب - جناية على البيت السعيد.
ج - جناية على الأطفال شباب لمستقبل ورجال الغد.
د - جناية كبرى على الأسرة والمجتمع والشعوب فتفقد الحياة الزوجية سعادتها!! ويحرم البيت من الهدوء والاستقرار.. ويتربى الأطفال في أحضان الخدم..
وتتفرق الأسرة وتحل الكوارث الهدامة بالمجتمع لأنه مجتمع مفكك غير مترابط بعد أن فقد مقومات السعادة الحقة..
وما نراه اليوم من تمرد المرأة على أداء رسالتها التي فطرها الله عليها. والتي تتناسب مع طبيعتها وتكوينها إنما هو تقليد أعمى للمدنية الغربية أن المرأة تتنكر لرسالتها وتحاول أن تهرب من سياج عزها ومجدها وكرامتها تحاول أن تفر إلى تقاليد الغرب التي جعلت من المرأة سلعة للجمال الرخيص المدنس.
لقد أصبحت المرأة في بعض بلاد الكفار حية رقطاء وفي إغرائها وإغوائها ولسعها التردي إلى مهاوي الردى والفساد والسم المهلك القتال.(7/160)
وفي هذه الأيام العصيبة تهب على بعض البلاد العربية والإسلامية موجات من التحلل الخلقي الجامح العنيف جرفت الشباب وجرفت المرأة فأخرجت المرأة من تاج عزها وشرفها وكرامتها إلى مهاوي السفور الجامح العنيف، لقد ذهبت المرأة جادة في المسير وراء التقليد الماجن الخليع الفاجر تقليد الأجنبيات اللاتي خلعن حجاب الشرف والحياة والفضيلة، لقد أصبحت المرأة أسيرة لأحدث الأزياء الواردة من البيوت العالمية التي تشرف عليها الصهيونية الطاغية الباغية وتجعلها مراكز لهدم التقاليد العربية الأصيلة والآداب الإسلامية المباركة التي عز بها المسلمون وسادوا.
إن المرأة ترى في تلك الأزياء عنوان الحضارة والتقدم والرقي هكذا يكون منطق المرأة فتصبح ضحية لهذا الغزو العنيف المروع، وهان على المرأة أن تخلع ثوب الشرف والحياة والفضيلة. ثوب عزها ومجدها وفخرها!!
وسارت المرأة في الشارع عارية الصدر والساقين والذراعين ولم تكتف أخيراً بهذا الحد فعرضت بعض فخذيها للعرى وبالغت في خلع حجاب الحياء والشرف والفضيلة فرفعت الثياب إلى منتصف فخذيها إرضاء لأحدث الأزياء الواردة من الدول المتحللة وشاع بما يسمى: (بمودة الميني جيب) و (الميكرو جيب) هذه الأزياء الميكروبية السامة. شاعت في الوسط النسائي وتهافتت المرأة الحمقاء الطائشة على ارتداء تلك الأزياء تهافت الذباب على الجيف المتنة فخرجت المرأة إلى الشارع وقد تجردت عن الحياء وأبرزت مفاتن جسدها ومحاسن أنوثتها فأرخصت لحمها وأضاعت كرامتها وفقدت عزها ولوثت شرفها سارت المرأة في الشارع تعرض الفتنة في أحسن صورها وتعرض شرفها للانهيار. تجملت وتزينت للشوارع المزدحمة بذئاب الإنسانية بالشباب المتسكع المتهور الخليع الفاجر فراحت تنشر الرذيلة وتغري المجتمع بالخطيئة.(7/161)
أصبحت الشوارع معرضاً لأجساد الخليعات من النساء الفاجرات وعمت مظاهر الصراع الجنسي المتعطش للخنا والفسق والإثم وأصبح هذا التيار الهدام يسري في المجتمع سريان النار في الهشيم يحطم الأفراد بانصرافهم عن معالي الأمور وتحمل المسئوليات إلى السير وراء الشهوات إرضاء للغرائز الجامحة-ويهدم الأسرة بتحللها من الروابط المقدسة والتقاليد الموروثة التي تصونها من الانهيار وهكذا تتفشى عوامل الهدم في المجتمع من جراء السير وراء التقاليد الأجنبية الإباحية بارتداء تلك الأزياء (أحدث المودات) الواردة من بيوت الأزياء العالمية من هوليود ولندن وباريس وموسكو والتي يديرها كبار الممولين من اليهود الصهاينة وهكذا تصدر الصهيونية العالمية للعالم العربي تلك السموم الفتاكة التي تحطم الشباب وتقوض كيان الأسرة وتهدم بنيان المجتمع.
ومما يزيد النار اشتعالاً ويساعد على انتشار هذا الميكروب الخبيث بعض المناظر السينمائية والتلفزيونية التي تعرض مناظر للسيدات في صور مزرية وتلك الأغاني الخليعة التي ترسلها الإذاعات ليلاً ونهاراً وهذه الصحافة الفاجرة الماجنة، وتلك الأفلام الهدامة المتخلفة من آثار المدرسة الاستعمارية التي تهدف إلى تحطيم مقدسات الإسلام بالسم التقدم والحضارة والرقي.
لقد بلغت المسألة حداً لا يستهان به وتفاقم خطرها وزاد شررها وارتفع لهيبها فأصبح واجباً على ولاة أمور المسلمين أن يبادروا إلى إطفاء تلك الفتنة ووضع حد لتلك المأساة الدامية وإنهاء هذه الفوضى الخلقية لماذا تظل المرأة العربية مستعبدة لتلك الأزياء الواردة من الدول المتحللة.
لماذا لا يكون للمرأة زي تفتخر به وتعتز به استوحت تصميمه من مبادئها وتقاليدها يصون للمرأة شرفها ويحفظ لها كرامتها؟
لماذا تظل تابعة لبيوت الأزياء الصهيونية والشيوعية ذات الهدف التحللي الهدام.. الله أكبر ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم..(7/162)
أإلى هذا الحد يا صاحبة الشرف والحياء والعفاف!!
أإلى تلك الهاوية يا ربيبة العروبة والإسلام..
أإلى هذا المصير تكون نهاية المطاف للمناداة بحرية المرأة الزائفة المنحرفة الحمقاء..
أما بعد: فلقد بحت أصوات العلماء وكلت أقلام المصلحين ولم يبق إلاّ جولة المسئولين الذين استرعاهم الله أمانة صيانة الناس عن مهاوي الردى والهلاك - أين ولاة الأمور الذين يعلمون أن رعاية الأمم أمانة هم مسئولون عنها أمام الخالق جل وعلا - وأن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
يا ولاة أمور المسلمين صونوا أعراض المسلمين صان الله وجوهكم عن حر النار يوم لقاء الله ولا مفر من لقاء الله أحكم الحاكمين فالنجاة النجاة.
أناشدكم الله أيها العلماء الأبرار أن تجهروا بكلمة الحق وترشدوا ولاة الأمور ولا تخشوا في الله لومة لائم.
أناشدكم الله أيها العلماء أيها القادة، أيها الكتاب المصلحون أن تغضبوا لله غضبة إسلامية وأن تعلنوها صيحة مدوية مجلجلة تعيد الحق إلى نصابه ولنجتهد في قوة وحزم وإيمان في محاربة هذا المرض الخطير والمنكر الفاضح والشر المستطير نحاربه من فوق المنابر وفي الصحف وفي الإذاعات وجميع أجهزة الإعلام، نحاربه في المساجد والمدارس والمجتمعات حتى نرى مظاهر الإسلام وآدابه المباركة تعود للأسرة المسلمة والمجتمع المسلم- مظاهر الشرف والحياء والحشمة والفضيلة.
مظاهر العفاف والوفاء والآداب الإسلامية عامة وبذلك يسعد الشباب ويستقر المنزل وتهنأ الأسرة ويسعد المجتمع الإسلامي العظيم ويسود لأنه رجع إلى عوامل النصر والسيادة والقوة: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} , {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} .(7/163)
المسئولية في الإسلام
بقلم الشيخ: عبد الله قادري
المشرف الاجتماعي بالجامعة
مسئولية المرأة
بعد أن حمل الرسول صلى الله عليه وسلم ذكور الأمة الإسلامية مسئوليتهم شرع في بيان مسئولية نساء تلك الأمة. ويلاحظ من الحديث أنه لم يعين مكاناً لمسئوليات الأصناف المذكورة فيه إلاّ المرأة فقد عين مكانها حيث قال: "راعية في بيت زوجها" ففي الحديث إشارة إلى ما تقرره نصوص الشريعة من أن الأصل في حق المرأة القرار في البيت والخروج منه خلاف ذلك الأصل يباح عند الحاجة بقدرها فإذا انتهت الحاجة رجعت إلى ما هو أصل في حقها وهو القرار في البيت وقد أمر الله تعالى نساء النبي صلى الله عليه وسلم بالقرار في بيوتهن وجعل ذلك وسيلة من وسائل تطهيرهن من الذنوب والمعاصي، والأصل في الأحكام المتعلقة بالنساء أن يستوي فيها كل امرأة من غير فرق بين نساء الرسول صلى الله عليه وسلم وغيرهن من نساء المؤمنين إلاّ إذا دل دليل خاص على اختصاصهن بحكم معين مثل كونهن أمهات المؤمنين وأيضاً فإن الطهر والعفة والمغفرة مطلوبة من كل النساء فقد جعل الله قرارهن في البيوت من وسائل الطهر وأيضاً فقد نهاهن الله عن التلبس بصفات نساء الجاهلية الأولى، كالتبرج وهو أمر لا يختص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم بل كان المسلمين منهيون عن اتصافهم بصفات الجاهلية، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} واتبع ذلك بما لا يختلف فيه اثنان، أنه ليس من خصائصهن، وهو الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله ولا ينافي ذلك قوله في أول الآية: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنّ} لأنه بيان لمكانهن من الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا يضاعف لهن ثواب الطاعة وعقاب المعصية فقد دلت نصوص السنة التي توضح القرآن وتبينه(7/164)
على ما ذكر من أن الأصل في حق المرأة القرار في البيت حيث حظر عليها الخروج إلاّ بإذن وبين أن صلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد مع أن الجماعة في حق الرجال تضاعف إلى سبع وعشرين درجة، والمقصود من ذلك كله، صيانتها والمحافظة على عفتها وكرامتها وقيامها بواجبها الثقيل في بيتها من حقوق زوجها وأولادها، وواجبها الذي لا يشاركها فيه الرجل غالباً، والإسلام حين ما جعل بيت المرأة مثابة لها نظر إلى واقعها وإلى النتائج التي تترتب على لزوم بيتها وحينما حظر عليها الخروج من البيت لغير حاجة نظر كذلك إلى واقعها، وإلى النتائج المترتبة على خروجها فقرر الحكم إيجاباً أو سلباً على الواقع ونتائجه لأن الله تعالى هو الذي قرر هذه الأحكام ودعا إليها وهو يعلم ما هو نافع وما هو ضار بخلاف غيره من المخلوقين فإنهم يقررون الأمور حسب ما يظهر لهم من المصالح والمضار المترتبة على ذلك إن كان قصدهم جلب المصالح ودفع المضار وقد يظهر لهم بعد فترة من الزمن أن ما رأوه قبل نافعاً هو ضار وما رأوه ضاراً هو نافع، وقد يقررون الأمور إتباعاً لشهواتهم وميولهم بصرف النظر عن كون ذلك نافعاً للمجتمع أو ضاراً كما هو الواقع في كثير من البلدان.
الأمور المقتضية بقاء المرأة في بيتها
والأمور التي تقتضي بقاء المرأة في بيتها وعدم مغادرته لغير حاجة جوهرية وكثيرة أذكر منها ما يلي:
1- المحافظة على عفتها وكرامتها فإن من أعظم وسائل حفظها عن الوقوع في الرذيلة لزوم بيتها، كما أن من أكبر أسباب تهتكها وتعرضها للفتنة - فتنتها وفتنة غيرها كثرة الخروج من البيت ولهذا جعل الله قرار نساء النبي صلى الله عليه وسلم، من أسباب تطهيرهن، والمرأة التي تكثر الخروج تتسبب في طمع الفسقة فيها لا سيما إذا علموا أن خروجها لغير حاجة.
2- القيام بواجباتها المنوطة بها بالبيت من تنظيف له وللثياب وتربية للأطفال وطبخ للطعام وغير ذلك.(7/165)
3- أخذ راحتها بعض الوقت وتهيؤها لاستقبال زوجها وتجملها له وإعداد نفسها إعداداً يدخل على زوجها الراحة والطمأنينة بما يجد من ميل لها ورغبة في اجتماعه بها في أوقات فراغه لأن الرجل يتعب خارج البيت في الأعمال المنوطة به ليحصل على المال الذي ينفقه على أهله من مأكل وملبس ومسكن وغير ذلك من الاحتياجات.
فينبغي أن تستقبله المرأة في بيتها بما يريحه ويدخل عليه السرور ولا يتأتى لها ذلك إذا لم تستقر في البيت بل تذهب للعمل خارجه لأنها سترجع إلى البيت من عملها عندما يرجع زوجها وستكون متعبة مثله في حاجة إلى الراحة وليست مستعدة للقيام بحقه كما لو كانت باقية في البيت وربما رجعت قبل رجوعه فأخذها النوم، فيأتي الرجل وهي نائمة وربما سبقها إلى البيت فتأتي وهو نائم، ويقوم من نومه في وقت عمله فيذهب قبل أن تستيقظ هي وهكذا لا يذوق كل منهما من الآخر طعم الزوجية، هذا إذا كانت وظيفتها في بلد واحد، أما إذا كانت وظيفة أحدهما في بلد ووظيفة صاحبه في بلد آخر فقلما يلتقيان في السنة، وفي ذلك - فوق كونه يعرقل العلاقة الزوجية - خطر عظيم على المرأة والزوج جميعاً، لأنها ستختلط برجال أجانب، وتختلي بهم، وسينالون منها ما لا يناله زوجها كما أن الرجل سيختلط بنساء أخريات وينلن منه ما لا تناله الزوجة وبذلك يختل كيان الأسرة، ويتخلخل المجتمع وتنفك روابطه انفكاكاً كاملاً وما بالك بعد ذلك من تربية أولاد هذين الزوجين، أنهم سيرمون في محاضن من لا يهمه شأنهم وسيحصل من ذلك ما يحصل من سوء تغذية وتربية وغيرها.
هل المرأة المسلمة في حاجة إلى الخروج للعمل؟(7/166)
مع أن المرأة المسلمة ليست في حاجة للعمل خارج البيت من أجل النفقة ونحوها، ما دام عندها من يكفيها مؤنة النفقة والكسوة والمسكن، فقد أوجب الله على وليها كل ذلك وهي في بيتها كما تقدم ولست أريد الإطالة في ذكر شبهات أعداء الإسلام ودعواتهم المخالفة لتعاليمه بالنسبة لموضوع المرأة وإنما أردت التنبيه، ومن أراد الإطلاع على شبههم فليراجع فصولاً خاصة بالموضوع في الكتب التالية:
أ- حصوننا مهددة من داخلها، للدكتور محمد محمد حسين.
ب- شبهات حول الإسلام، لمحمد قطب.
ج- الحجاب، للشيخ أبي يعلى المودودي. وقد أفاض في ذلك إفاضة كافية حيث بين فيه محاسن الإسلام في موقفه من المرأة ومساوئ الدعوات المخالفة له بياناً شافياً.
د- كتاب حقوق الإنسان، لمحمد الغزالي.
واجبات المرأة في بيت الزوج
إن على المرأة واجبات عظيمة إذا قامت بها أسهمت في بناء البيت والأسرة والمجتمع عليها واجبات تتعلق ببيتها وأخرى تتعلق بأولادها.
حقوق الزوج
1- طاعته في غير معصية، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" انظر نيل الأوطار ج6 ص522.
2- إجابته إذا طلبها إلى فراشه، ومن أوجب الأمور على الزوجة أن تجيب زوجها إذا طلبها إلى فراشه وعصيانه في ذلك من أكبر المعاصي ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح".
3- عدم إذنها في بيته لأحد لا يرضى دخوله.
4- عدم صومها تطوعاً وهو حاضر إلاّ بإذنه لما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلاّ بإذنه، ولا تأذن في بيته إلاّ بإذنه" الحديث، وهو في صحيح مسلم أيضاً.(7/167)
5- الاعتراف بنعمته وعدم جحودها، ومن حق الزوج على زوجته أن تعترف بنعمته ولا تجحدها عند الغضب فإن ذلك من أسباب دخولها النار، ففي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ورأيت النار.. ورأيت أكثر أهلها النساء"قالوا: لم يا رسول الله؟ قال: "بكفرهن"قيل: يكفرن بالله، قال: "يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئاً، قالت: ما رأيت منك خيراً قط".
6- حفظ ماله وعدم التفريط فيه ومن حقوقه على زوجته أن تحفظ ماله ولا تفرط فيه حتى يضيع سواءً كان نقوداً، أو طعاماً أو ملابس، أو أثاثاً أو غير ذلك، ولا يجوز لها أن تبذر إذا أنفقت منه لأنه قد ائتمنها على ذلك وتبذيرها خيانة، والخيانة من صفات المنافقين، والحديث قد جعلها راعية في بيت زوجها مسئولة عن رعيتها، وليس لها حق أن تتصرف في ماله بدون إذنه، إلاّ إذا قتر عليها في النفقة، فأعطاها ما لا يكفيها هي وأولادها، فعندئذ لها أن تأخذ ما يكفيها وأولادها بدون إذن لترخيص النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كما تقدم.
وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم نساء قريش بصفات منها حفظ ذات يد الزوج، وذات اليد هي المال كما روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خير نساء ركبن الإبل نساء قريش"، وقال الآخر: "صالح نساء قريش، أحناه على ولد في صغره وأرعاه على زوج في ذات يده".(7/168)
7- عدم الخروج من بيته إلاّ بإذنه، كما مضى أنها تستأذن زوجها، إذا أرادت الخروج إلى المسجد وفي بعض الروايات، كما في صحيح البخاري: "إذا استأذنت المرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها" فيفهم من الحديث أنها إذا أرادت الخروج لابد أن تستأذن كما يفهم منه أن للزوج في الأصل منع زوجته من الخروج إلاّ ما استثنى شرعاً، والإسلام حينما جعل بيت المرأة قرارا لها وحذرها من الخروج منه فإنه أباح لها - وقد يوجب عليها الخروج وذلك عند الحاجة أو الضرورة، ولنذكر بعض الحالات التي تدعو إلى خروج المرأة:
أ- الخروج لقضاء حاجاتها، ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: "خرجت سودة بنت زمعة ليلاً فرآها عمر فعرفها فقال: إنك والله يا سودة ما تخفين علينا، فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، وهو في حجرتي يتعشى وإن في يده لعرقاً، فأنزل عليه فرفع عنه وهو يقول: "قد أذن لكن أن تخرجن لحوائجكن".
ب- حضور صلاة الجماعة في المسجد كما مضى.
ج- الخروج يوم العيد إلى المصلى كما ثبت في الصحيحين من حديث أم عطية رضي الله عنها قالت: "أمرنا أن نخرج العواتق، وذوات الخدور" وفي رواية من حديث حفصة في صحيح البخاري: "ويعتزلن الحيض المصلى".(7/169)
د- الخروج للجهاد: وخروجها للجهاد قد يكون مندوباً، وقد يكون مباحاً، وقد يكون واجباً على حسب اختلاف الحاجة والضرورة، وعمل المرأة في الحرب يختلف أيضاً باختلاف حالات الحرب، فتارة تقرب الماء للمقاتلين، أو تخيط قربة أو نحوها كما في صحيح البخاري أن عمر رضي الله عنه قسم مروطاً بين نساء أهل المدينة فبقي منها مرط جيد فقال له بعض من عندها: "يا أمير المؤمنين أعط هذا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك"- يريدون أم كلثوم بنت علي، فقال عمر: "أم سليط أحق به، وأم سليط من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال عمر: "فإنها كانت تزفر لنا القرب يوم أحد"، وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه، قال: "لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم وإنهما لمشمرتان أرى خدم سوقهما، تنقزان القرب"، وقال غيره: "تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانه في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم".
وتارة تداوي الجرحى وتنقل القتلى إلى موضع آخر كما في صحيح البخاري أيضاً من حديث الربيع بنت معوذ رضي الله عنها، قالت: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نسقي ونداوي الجرحى ونرد القتلى إلى النبي". وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: "لما كسرت على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضة وأدمى وجهه وكسرت رباعيته وكان علي يختلف بالماء في المجن، وجاءت فاطمة تغسل عن وجهه الدم فلما رأت فاطمة عليها السلام الدم يزيد على الماء كثرة عمدت إلى حصير فأحرقتها وألصقتها على جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقأ الدم".(7/170)
وتارة تحمل السلاح لتدافع عن نفسها، إذا تعرض لها أحد من المشركين كما في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه: "أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجراً، فكان معها فرآها أبو طلحة فقال: يا رسول الله هذه أم سليم معها خنجر فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذا الخنجر"؟ قالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت بطنه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك". الحديث.
وإنما نقلت هذه الأحاديث في هذا المقام لأبين للجاهلين بنصوص الشريعة والناقمين على الإسلام بسبب أمره المرأة بالبقاء في البيت، إن الإسلام دين حكمة يضع الأمور في مواضعها فهو يأمر المرأة بالقرار في البيت وعدم الخروج لغير حاجة، فإذا جاء وقت الحاجة أباح لها أن تخرج، وإذا جاء وقت الضرورة أوجب عليها الخروج وجعلها تعمل في أحرج المواقف وأشدها خطراً، وهي أوقات الحروب وأعمال المرأة فيها تختلف باختلاف الأحوال كما تقدم فهي تسقي تارة، وتداوي أخرى، وتنقل الموتى ثالثة، وتحمل السلاح رابعة لتدافع عن نفسها فالإسلام في سلبه وإيجابه حكيم عادل، بخلاف ما يدعو إليه دعاة الضلال فإنهم يدعون المرأة لتخرج إلى أماكن اللهو والفجور، وإلى الأماكن الأخرى التي لا حاجة لخروج المرأة إليها إذ يكفي فيها الرجال كالمصانع والمكاتب ونحوها.(7/171)
8- مساعدة زوجها في تربية أولاده من غيرها، وينبغي أن تساعد الزوجة زوجها في تربية أولاده من غيرها وإخوانه الصغار تخفيفاً عنه وتسهيلاً لمهمته التي تقتضي منه العمل خارج البيت كما في حديث جابر، قال: "هلك أبي وترك سبع بنات أو تسع بنات فتزوجت امرأة ثيباً فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تزوجت يا جابر؟ فقلت: نعم، فقال: بكراً أم ثيباً؟ قلت: بل ثيباً، قال: فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك وتضاحكها وتضاحكك؟ قال: فقلت له: إن عبد الله هلك وترك بنات، وإني كرهت أن أجئهن بمثلهن، فتزوجت امرأة تقوم عليهن وتصلحهن، فقال: بارك الله أو خيراً ".
9- الخدمة في بيت الزوج، وينبغي للمرأة أن تقوم بالخدمة في بيت زوجها وتصبر على ما قد تعانيه من تعب ومشقة عن علي رضي الله عنه: "أن فاطمة عليها السلام أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى وبلغها أنه جاءه رقيق، فلم تصادفه فذكرت ذلك لعائشة، فلما جاء أخبرته عائشة، قال فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا نقوم فقال:"ألا أدلكما على خير مما سألتما إذا أخذتم مضاجعكما أو أويتما فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبرا أربعاً وثلاثين فهو خير لكما من خادم"، وهذا الحديث وما قبله في صحيح البخاري. قلت وفي بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي خرجت يدها مما تزاول من أعمال بيتها أسوة حسنة لزوجات المؤمنين وقد كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من نساء الصحابة يخدمن أزواجهن في بيوتهن وخارج بيوتهن إذا دعت الحاجة ولا خير في المشاحة بين الزوجة وزوجها في الخدمة في البيت والخير في تعاونهما جميعاً والله تعالى يأمر المؤمنين بالتعاون وهو بين الزوجين آكد من غيرهما.(7/172)
10- عدم تمكينها أجنبياً يخلو بها.. ولا يجوز للمرأة أن تتساهل في خلوة أي أجنبي بها - ولا سيما أقارب الزوج وأقاربها - الذين ليسوا بمحارم فقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخلوة بالمرأة بصفة عامة وحذر من الأقارب المذكورين بصفة خاصة كما في الصحيحين عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والدخول على النساء, فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله أفرأيت الحمو، قال: الحمو الموت".
11- مواساة الزوج والعمل على إدخال السرور عليه. وينبغي للزوجة أن تواسي زوجها وتعمل الأسباب التي تدخل عليه السرور، وتزيل عنه الغم، وتهدئه في حال الغضب بالأساليب المناسبة كما فعلت خديجة رضي الله عنها، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما رجع خائفاً أول ما أوحي إليه وقال: "لقد خشيت على نفسي"، فقالت له: "كلا والله،ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق" الحديث, وهو في الصحيحين وغيرهما، والرجل في حاجة إلى مواساة المرأة وتسكينها إياه، في حالات الغضب أو نزول حوادث محزنة، كموت ولد وفقد مال وأشباه ذلك.
ولقد ضربت زوجة أبي طلحة رضي الله عنهما أعلى مثل في هذا الموضوع كما في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "اشتكى ابن لأبي طلحة قال فمات وأبو طلحة خارج فلما رأت امرأته أنه قد مات هيأت شيئاً ونحته في جانب من البيت فلما جاء أبو طلحة قال: كيف الغلام؟ قالت: قد هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح، وظن أبو طلحة أنها صادقة قال: فبات فلما أصبح اغتسل فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما كان منها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما".(7/173)
12- معاشرة زوجها معاشرة حسنة.. ويجب على المرأة أن تعاشر زوجها معاشرة حسنة فتبتسم في وجهه حين ما ترى أن الابتسامة مناسبة، وتتجمل له وتظهر أمامه بالمظهر الذي يعجبه، وتكسر المرأة ورقة صوتها وإظهار محاسنها لزوجها والعمل على الأسباب والدواعي التي تجذبه إليها وترغبه في ملاعبتها ومضاحكتها وغير ذلك أمر مطلوب ولا ينبغي أن تظهر أمامه بمظهر كريه كأن تلبس ملابس سيئة المنظر أو تقترب منه، وبها روائح غير مناسبة من آثار الطبخ وغيره، فإن ذلك يحدث في نفس الزوج عقدة نفسية قد يعقبها بغض شديد للمرأة، لا سيما إذا داومت على تلك الحالة البغيضة لديه، وكثير من النساء لا تعتني بمظهرها أمام زوجها لا في ملبسها ولا في نظافتها ولا في إظهار أنوثتها، وتعكس ذلك إذا خرجت زائرة بعض صديقاتها، تراها تعتني بتنظيف نفسها ولبس أجمل ثيابها، ولا تنس أن تكتحل وربما أخذت شيئاً من الطيب ولبست الحلي وخرجت من البيت بعيدة عن عيني زوجها كأنها في ليلة عرسها، وهذا الفعل يعتبر من أقبح الأفعال وأشنع الصفات التي تصدر من الزوجة مع زوجها فإنه أحق بتجملها وتنظفها وتطيبها واكتحالها وغير ذلك وهي أحوج إلى ذلك أمامه من الخروج به إلى خارج بيته، وامرأة تفعل مثل هذا الفعل الشنيع جديرة أن تعيش حياة نكدة وتجلب على نفسها وعلى زوجها البلاء والشقاء إذا ما صبر عليها وأبقاها زوجة له والغالب أن مثلها لا تبقى مع الزوج إلاّ إذا كان مضطراً اضطراراً يلجئه إلى بقائها فإنه يبقى معها أتعس من سجين طال سجنه وإذا كانت المرأة مع ما تقدم كثيرة الثرثرة، سليطة اللسان سبابة لزوجها، ملحة عليه في طلب ما ليس عنده فقد جمعت عليه ظلمات بعضها فوق بعض وطوام بعضها أعظم من بعض تدعو جيران الزوج وأصدقائه أن يعزوه كل يوم وامرأة هذه صفاتها جديرة بنبذها مهما كانت الظروف في ما أرى. والرجل وإن كان مأموراً بالصبر عليها فإن للصبر حدوداً، وما كل الناس في وسعهم الصبر على مثل هذه(7/174)
المرأة.
13- مراعاة أحواله في الفرح والحزن، وينبغي للمرأة أن تتجاوب مع زوجها فتفرح لفرحه، وتحزن لحزنه فإن ذلك من حقه عليها، من ناحية الإسلام من جهة، ومن ناحية زوجية من جهة أخرى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، حتى يشعر الزوج بأنها تتعاون معه يسرها ما يسره من خير، ويحزنها ما يحزنه من شر.
ولا ينبغي أن تظهر أمامه بمظهر السرور والفرح إذا كان حزيناً، كما ينبغي أن تكظم حزنها إذا رأته مسروراً فإن ذلك أدعى إلى الألفة ودوامها بين الزوجين.
14- ملاحظة أوقات نومه وأكله ونحوهما، وينبغي أن ترعاه في نفسه وفي كل الأمور المتعلقة به فتلاحظ أوقات أكله التي ألف الأكل فيها ولا تؤخر طعامه عنها لأن ذلك قد يؤثر عليه، ويكون من أسباب غضبه عليها لا سيما إذا تكرر منها، كما ينبغي أن تجيد له الطبخ وأن تكون عندها خبرة بأنواع منه حتى تنوع له الطعام لئلا يسأم من نوع واحد وينبغي أن تلاحظ أوقات نومه فتحاول تهدئة الأطفال من الصخب وإبعادهم عن غرفة نومه، ليأخذ راحته الكافية فإنه قد يكون متعباً وليس عنه وقت ينام فيه غير ذلك الوقت لكثرة أعماله خارج البيت، وإذا لم تساعده بذلك فإنه لا يأخذ راحته، وذلك من أسباب البغض والغضب أيضاً، وينبغي أن تلاحظ ملابسه غسلاً وكياً وخياطة، ليظهر بمظهره اللائق به بين أترابه وينبغي أن تعتني به أيضاً، في الأوقات التي تعرف أنه يرغب مجيئها إليه فيها، فتحاول أن تنيم أطفالها قبل ذلك الموعد، أو تعطيهم ما يلهيهم من الألعاب وتمرنهم على البعد عن المكان الذي يريدها فيه، فإن ذلك من أسباب الراحة والمودة بين الزوجين.(7/175)
15- إظهار أولادها بالمظهر الجميل، وينبغي أن تظهر أولادها دائماً أمام زوجها بمظهر جميل من تنظيف لثيابهم وأجسامهم، فإن ذلك يجلب الراحة للأب، ويدعوه إلى الاقتراب بين أولاده وتقبيلهم ومداعبتهم، بخلاف إذا ظهروا بمظهر سيء مقطعة ثيابهم متسخة أجسادهم كريهة رائحتهم فإنه - وإن كانوا أبناءه وهو يحبهم - تتقزز نفسه منهم لما يرى عليهم من الآثار السيئة.
وفي هذا المقام أحب أن أنقل وصية جامعة لبعض الخصال الجميلة التي ينبغي أن تتصف بها المرأة مع زوجها لامرأة جاهلية هي أمامه بنت الحارث [1] لبنتها، وفيها تقول: "أي بنية إنك فارقت الحواء الذي منه خرجت، والوكر الذي منه درجت إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه فأصبح بملكه عليك ملكاً، فكوني له أمة يكن لك عبداً واحفظي عنى خلالاً عشراً تكن لك دركاً وذكراً.
فأما الأولى والثانية: فالمعاشرة له بالقناعة وحسن السمع له والطاعة، فإن في القناعة راحة القلب، وحسن السمع والطاعة رأفة الرب.
وأما الثالثة والرابعة: فلا تقع عيناه منك على قبيح، ولا يشم أنفه منك إلاّ طيب ريح، واعلمي أي بنية أن الماء أطيب الطيب المفقود، وأن الكحل أحسن الحسن الموجود.
وأما الخامسة والسادسة: فالتعهد لوقت طعامه، والهدوء عند منامه، فإن حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة.
وأما السابعة والثامنة: فالاحتفاظ بماله، والرعاية على حشمه وعياله، فإن الاحتفاظ بالمال من حسن التقدير والرعاية على الحشم من حسن التدبير.
وأما التاسعة والعاشرة: فلا تفشي له سراً، ولا تعصي له أمراً، فإن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره، واتقي الفرح لديه إن كان ترحاً، والاكتئاب عنده إذا كان فرحاً، فإن الأولى من التقصير، والثانية من التكدير، واعلمي أنك لن تصلي إلى ذلك منه، حتى تؤثري هواه على هواك، ورضاه على رضاك، فيما أحببت وكرهت، والله يخير لك ويصنع لك برحمته".(7/176)
العناية بالبيت
وينبغي أن تعتني الزوجة ببيتها عناية تظهره بالمنظر اللائق، الذي يبهج الناظر ويريح الزوج وكل أهل البيت وذلك أن تسلك الطرق التالية:
أ- أن تعتني بتنظيف جميع حجر البيت، حجر النوم والاستقبال والطبخ والطعام وبيت الماء وغيره، تنظيفاً يشمل قاعات الحجر، وجدرانها وما بها من موائد وصناديق وشبهها.
ب- أن ترتب الأثاث الموجود في البيت ترتيباً منظماً بحيث لا يكون مبعثراً هنا وهناك والأواني مفرقة في جميع أنحاء البيت فإن ذلك يحدث منظراً قبيحاً في البيت ويتسبب تلف الأثاث وكسر الأواني وفقدانها وعدم العثور على ما يطلب منها عند الحاجة، ويتسبب على ترتيبها حفظها وإظهار البيت بمظهر جميل وسهولة العثور على ما يطلب.
ج- أن تعتني بإبادة الذباب والحشرات والبعوض، بالمبيدات المتيسرة لأن ترك هذه الأشياء يسبب أضراراً كثيرة، منها أذى أهل البيت كلهم، ومنها وقوعها في آنية الأكل والشرب، وكثير من الناس يعاف الأكل والشراب الذي تقع فيه هذه الحشرات، ومنها نقل الأمراض من شخص إلى آخر، وإبادتها تجعل البيت هادئاً، والطعام والشراب مأموناً والنوم راحة.
د- وينبغي أن تولي حجرة نوم زوجها عناية خاصة، من النظافة والترتيب كتغيير الهواء وتنظيف البساط والغطاء وتزويدها ببعض الروائح الطيبة، كالعود والعطر، حتى إذا ما أقبل متعباً يرتاح بدخوله تلك الحجرة.
هـ- وإذا كان في البيت سعة فينبغي أن تعتني بغرس بعض الأشجار، أو زرع بعض الخضر وات وتتعهدها بالسقي والحفظ، ولا سيما الأشجار ذات الروائح الطيبة، والزهور الجميلة، كالريحان والخزامي والورد وما شابهها لينعم أهل البيت بالنظر إليها والتمتع بروائحها.(7/177)
وأنا حينما أكتب في هذا الموضوع وأشباهه لا أدّعي الخبرة به ولكني أرى أن هذه الأمور من البديهيات وما دامت المرأة مسئولة عن بيتها - وهو مملكتها - الصغيرة فينبغي أن تقوم بمسئولياتها خير قيام فيه وهذه الأمور لا شك في نفعها وكل نافع فالمسلم مأمور بالحرص على تحقيقه كما قال صلى الله عليه وسلم: "أحرص على مل ينفعك واستعن بالله" الحديث.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] زوجة عوف بن محكم الشيباني، وهذه الوصية أوصت بها ابنة لها تزوجها الحارث بن عمرو ملك كندة(7/178)
من تاريخنا
علماء وأمراء
عداد العلاقات العامة
كان الفقيه أبو إبراهيم وهو من أكابر علماء المالكية الذين عليهم المدار معظماً عند الناصر وابنه الحكم وحق لهما أن يعظماه. وقد حكى الفقيه أبو القاسم بن الفرج قال: "كنت أختلف إلى الفقيه أبي إبراهيم رحمه الله تعالى في من يختلف إليه للتفقه والرواية فأني لعنده في بعض الأيام في مجلسه بالمسجد المنسوب لأبي عثمان الذي كان يصلي به قرب داره بجوفي قصر قرطبة ومجلسه حافل بجماعة الطلبة وذلك بين الصلاتين إذ دخل عليه خصي من أصحاب الرسائل جاء من عند الخليفة الحكم ووقف وسلم وقال له: يا فقيه أجب أمير المؤمنين أبقاه الله فإن الأمر خرج فيك. وهاهو قاعد ينتظرك وقد أمرت بإعجالك فالله الله. فقال له: سمعنا وطاعة لأمير المؤمنين ولا عجلة فارجع إليه وعرفه وفقه الله عني أنك وجدتني في بيت من بيوت الله تعالى معي طلاب العلم اسمعهم حديث ابن عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم يقيدونه عني وليس يمكنني ترك ما أنا فيه حتى يتم المجلس المعهود لهم في رضا الله وطاعته فذلك أوكد من مسيري إليه الساعة فإذا انقضى أمر من اجتمع إلي من هؤلاء المحتسبين في ذات الله الساعين لمرضاته مشيت إليه إن شاء الله تعالى. ثم أقبل على شأنه ومضى الخصي يهينم متضاجراً من توقفه فلم يك إلاّ ريثما أدى جوابه وانصرف سريعاً ساكن الطيش فقال له: يا فقيه. أنهيت قولك على نصه إلى أمير المؤمنين أبقاه الله فأصغي إليه وهو يقول لك: جزاك الله خيراً عن الدين وعن أمير المؤمنين وجماعة المسلمين وأمتعهم بك. وإذا أنت ادعيت فامض إليه راشداً إن شاء الله تعالى. وقد أمرت أن أبقى معك حتى ينقضي شغلك وتمضي معي، فقال له: حسن جميل. ولكني أضعف عن المشي إلى باب السدة ويصعب علي ركوب دابة لشيخوختي وضعف أعضائي وباب الصناعة الذي يقرب إلي من أبواب القصر المكرم أحوط لي وأقرب وأرفق بي(7/179)
فإن رأى أمير المؤمنين أيده الله تعالى أن يؤمر بفتحه لأدخل إليه فيه هوّن علي المشي وودع جسمي، وأحب أن تعود وتنهي إليه ذلك عني حتى تعرف رأيه فيه. وكذلك تعود إلي فإني أراك فتى سديداً فكن على الخير معيناً. ومضى عنه الفتى، ثم رجع بعد حين وقال: يا فقيه. قد أجابك أمير المؤمنين إلى ما سألت وأمر بفتح باب الصناعة وانتظارك من قبله، ومنه خرجت إليك وأمرت بملازمتك مذكراً بالنهوض عند فراغك، وقال: افعل راشداً، وجلس الخصي جانباً حتى أكمل أبو إبراهيم مجلسه بأكمله وأفسح ما جرت به عادته غير منزعج ولا قلق فلما انفضضنا قام إلى داره فأصلح من شأنه ثم مضى إلى الخليفة الحكم. فوصل إليه من ذلك الباب. وقضى حاجته من لقائه ثم صرفه على ذلك الباب فأعيد إغلاقه على إثر خروجه ".
(كتاب نفح الطيب ج1ص353)(7/180)
أعراض بسيطة قد تخفي وراءها أمراضاً خطيرة
بقلم: الدكتور مصطفى إبراهيم
أخصائي باطني بمستوصف الجامعة الإسلامية
المقصود بالأعراض في الطب هو ما يشعر به المريض بخلاف ما يكتشفه الطبيب في جسم الإنسان عند الكشف الطبي فيسمى علامات. والأعراض قد تكون جديدة وهي غالب لأمراض حديثة طارئة أو تكون موضع شكوى لمدة طويلة وغالباً ما تكون لأمراض كمينة في الجسم.
- وإنني هنا أناقش موضوع بعض الأمراض الشائعة التي كثيراً ما يستصغر شأنها الإنسان فيهملها أو يعالجها من تلقاء نفسه دون الرجوع إلى الطبيب مما قد ينشأ عنه أضرار هو في غنى عنها أو قد يستفحل المرض المتسبب لها فيصبح الطب عاجزاً عن علاجه.
الصداع:
هو الشعور بثقل في الرأس أو ضغط به أو ألم قد يكون خفيفاً أو شديداً وأسبابه عديدة جداً منها الحميات بأنواعها والتهاب جيوب الأنف وأمراض العين مثل الرمد والجلوكوما وقصر النظر الشديد. وارتفاع ضغط الدم وقد يكون نتيجة لالتهاب الأذن الداخلية أو لأمراض داخل جمجمة الرأس نفسها مثل الالتهاب السحائي وأورام المخ.
الدوار:
هو ما يسمى في أبسط حالاته بالدوخة وفي حالات أخرى الشعور بعدم التوازن عند الوقوف أو حتى عند حركة الجسم أثناء النوم وغالباً ما يكون مصحوباً بقيء.
وهو في أبسط حالاته قد ينشأ من فقر الدم (الأنيميا) وقد ينتج من تناول أدوية مثل الكينا والسليسلات وبعد حقن الأستريتوميسين كما أنه ينشأ من أمراض الأذن الوسطى أو الأذن الداخلية ومن أمراض العينين عند الاختلاف الشديد في قوة البصر لعين عن أخرى ومن أمراض النخاع الشوكي وأورام المخ.
القيء:(7/181)
قد يكون سببه طارئاً بسبب تلبك معدي من تناول أكل فاسد أو مصاحباً لبعض الحميات أن لنزلة معوية حادة أو لالتهاب الزائدة الدودية وكيس الصفراء وانسداد الأمعاء أو لاختناق فتق سري أو أربي أو فخذي - وقد يكون لأمراض مزمنة مثل قرحة المعدة أو الإثنا عشر أو للتقلصات العصبية لفتحات المعدة العليا أو السفلى.
ثم إنه قد يكون عارضاً هاماً للتسمم البوليني أو لأورام بالمخ.
المغص:
هو الشعور بآلام بالبطن قد يكون بدون تحديد لمكانه أو الإحساس به في مكان بعيد - وإن كان هذا التحديد لا يعني مكان المرض المسبب له فقد يشعر الإنسان به حول السرة بينما المرض في الزائدة الدودية أو يشعر به في جانب البطن بينما المرض هو مغص كلوي مثلاً في الجانب الآخر- أو دائري حول البطن من تقلصات عصبية في القولون - أو أورام به أو تقرحات مزمنة بغشاء القولون بسبب الدوسنطاريا أو الدرن.
الإسهال:
أسبابه عديدة فقد يكون بسبب سوء الهضم أو تناول مواد حريفة وقد يكون بسبب الإصابة بالدوسنطاريا الأميبية أو الجرثومية أو الطفيليات وغير ذلك كثير لا يدخل تحت حصر فإني هنا لم أذكر جميع المسببات المرضية لكل من الأعراض التي ذكرتها وإنما قصدت أن أبين أن هذه الأعراض قد تكون لأمراض تافهة سهلة العلاج ونادراً ما تكون لأمراض كامنة في الجسم خطيرة تستدعي علاجاً حاسماً سريعاً قبل حدوث مضاعفات للمرض وقبل أن تستفحل لدرجة اليأس من علاجه.(7/182)
وفي الجملة فإن الوصول إلى حقيقة سبب كل عارض من هذه الأعراض يستدعي الكشف الطبي الدقيق من جميع نواحيه سواءً كان أكلينيكياً أو بالفحص المخبري للبول والبراز أو الدم وربما احتاج الأمر لعمل أشعة وفحص قاع العين وعمل رسام كهربائي وغيرها من الأبحاث الطبية العديدة هذا وأرجو أخيراً ألا أكون قد أثرت الذعر والخوف بين من يقرأ مقالي فإنني أؤكد للجميع أن 95% من هذه الأعراض هي لأمراض شائعة وعلاجها سهل وسريع وحاسم وما بقي أعني أل 5% غالباً ما يصحبه أعراض جانبية أخرى يدرك معها الطبيب في أكثر الأحيان نوع المرض ثم يثبت الكشف الطبي الدقيق التشخيص ومن ثم تؤكده الأبحاث بصفة أكيدة حاسمة: والله يحفظنا جميعاً من كل سوء.(7/183)
المعاهدات في الإسلام
بقلم: الأستاذ توفيق علي وهبة
مدير الشؤون القانونية بريد الدواوين بالقاهرة
المعاهدات هي الاتفاقات أو العهود أو المواثيق التي تعقدها الدولة الإسلامية مع غيرها من الدول في حالتي السلم والحرب، وتسمى المعاهدة في الحالة الأخيرة موادعة أو مصالحة أو مسالمة. ويقرر بمقتضاها الصلح على ترك الحرب لقوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} .
وتنظم المعاهدات العلاقة بين الدول الإسلامية والدول الأخرى، وهي إما أن تكون تقريراً لحالة السلم القائمة حتى يأمن الطرفان وقوع اعتداء من بعضهما على بعض. وإما أن تكون إنهاء لحالة الحرب والعودة إلى السلام الذي هو أساس العلاقات الدولية في نظر الشريعة الإسلامية.
ومن المعاهدات التي وقعت بين الدول الإسلامية وغيرها ما عاهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود المدينة عند قدومه إليها، وجاء في هذا العهد:(7/184)
"إن اليهود يتفقون [1] مع المؤمنين، وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم إلاّ من ظلم وإثم فإنه لا يوقع إلاّ نفسه وأهل بيته وإن ليهود بني النجار وبني حارث وبني ساعدة وبني جشم وبني الأوس وبني الشطنة مثل ما ليهود بني عوف، وإن بطانة يهود كأنفسهم وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة على البر دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤ بحليفه. وإن النصر للمظلوم وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وأن نصر الله لمن اتقى بين أهل هذه الصحيفة وأبر. وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دعوا إلى صلح فإنهم يصالحون وإذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين، إلاّ من حارب في الدين على كل أناس حصنهم من جانبهم الذي قبلهم، وإنه لا يحول دون هذا الكتاب ظلم أو إثم. وإن الله جار لمن بر واتقى".
ويتبين من هذا العهد أنه كان لتقرير حالة السلم بين اليهود والمسلمين، كما أنه أمان بينهم لضمان عدم وقوع الحروب.
ولقد عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بني ضمرة من قبائل العرب وجاء في هذه المعاهدة "هذا كتاب محمد رسول الله لبني ضمرة بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم وأن لهم النصر على من رامهم إلاّ أن يحاربوا في دين الله، ما بل بحر صوفه وأن النبي إذا دعاهم إلى النصرة أجابوه عليهم بذلك ذمة رسوله، ولهم النصر من بر منهم واتقى".
ومن المعاهدات الإسلامية أيضاً عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل إيلياء (بيت المقدس) .
الشروط التي يجب توفرها في المعاهدات:
يقول الإمام الأكبر المرحوم الشيخ محمود شلتوت: "والإسلام حينما يترك للمسلمين الحق في إنشاء المعاهدات لما يرون من أغراض يشترط في صحة المعاهدة ثلاثة شروط:(7/185)
أولاً: ألاّ تمس قانونه الأساسي، وشريعته العامة التي بها قوام الشخصية الإسلامية وقد جاء في ذلك قوله عليه السلام: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل"، ومعناه أن كتاب الله يرفضه ويأباه.
ومن هذا الشرط لا يعترف الإسلام بشرعية (معاهدة) تستباح بها الشخصية الإسلامية وتفتح الأعداء باباً يمكنهم من الإغارة على جهات إسلامية أو يضعف من شأن المسلمين بتفريق صفوفهم وتمزيق وحدتهم.
ثانياً: أن تكون مبنية على التراضي من الجانبين ومن هنا لا يرى الإسلام قيمة لمعاهدة تنشأ على أساس من القهر والغلبة وأزيز (النفاثات) وهذا شرط تمليه طبيعة العقد إذا كان عقد التبادل في سلعة ما، بيعاً وشراءً، لابد فيه من عنصر الرضا: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فكيف بالمعاهدة وهي للأمة عقد حياة أو موت.
ثالثاً: أن تكون المعاهدة بينة الأهداف واضحة المعالم تحدد الالتزامات والحقوق تحديداً ما يدع مجالاً للتأويل والتخريج واللعب بالألفاظ وما أصيبت معاهدات الدول المتحضرة التي تزعم أنها تسعى إلى السلم وحقوق الإنسان بالإخفاق والفشل، وكان سبباً في النكبات العالمية المتتابعة إلاّ عن هذا الطريق، طريق الغموض والالتواء في صوغ المعاهدات وتحديد أهدافها.
وفي التحذير من هذه المعاهدات يقول الله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} والدخل هو الغش الخفي يدخل في الشيء فيفسده ".
الوفاء بالمعاهدة:
ومن الواجب على الدول المتعاهدة ألاّ تنقض المعاهدات التي وقعتها فيما بينها إلاّ أن تكون معاهدة مؤقتة وانتهت مدتها. أما إذا كانت معاهدة دائمة أو معاهدة مؤقتة لم تنته مدتها ونقضها العدو فللدولة الإسلامية أن تنقضها أيضاً وتحارب هؤلاء الخارجين المارقين.(7/186)
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} . قال أبو بكر الجصاص في تفسير هذه الآية: "يعني والله أعلم إذا خفت غدرهم وخدعتهم بالمسلمين وفعلوا ذلك خفياً ولم يظهروا نقض العهد فانبذ إليهم على سواء، يعني ألق إليهم فسخ ما بينك وبينهم من العهد والهدنة حتى يستوي الجميع في معرفة ذلك وهو معنى قوله: {عَلَى سَوَاءٍ} لئلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب".
ويقول الجصاص أيضاً: "وقد غزا النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة بعد الهدنة من غير أن ينبذ إليهم لأنه قد كانوا نقضوا العهد بمعاونتهم بني كنانة على قتل خزاعة وكانت حلفاء للنبي صلى الله عليه وسلم ولذلك جاء أبو سفيان على المدينة يسأل النبي صلى الله عليه وسلم تجديد العهد بينه وبين قريش فلم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فمن أجل ذلك لم يحتج إلى النبذ إليهم إذ كانوا قد أظهروا نقض العهد بنصب الحرب لحلفاء النبي صلى الله عليه وسلم فعلم من هذا أن النبذ لا يكون إلاّ عند خوف الخيانة والغدر من العدو أما عند نقض العدو بالفعل العهد الذي بيننا وبينه فإننا لا نحتاج إلى النبذ قبل محاربته بل لنا أن نغزوه بدون نبذ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع قريش حين سار إليهم لفتح مكة فإنه لم ينبذ إليهم".
وقال ابن العربي في نفس الموضوع: "كيف يجوز نقض العهد مع خوف الخيانة والخوف ظن لا يقين معه، فكيف يسقط يقين العهد مع ظن الخيانة فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن الخوف قد يأتي بمعنى اليقين كما قد يأتي الرجاء بمعنى العلم قال الله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} .(7/187)
الثاني: إذا ظهرت آثار الخيانة وثبتت دلائلها وجب نبذ العهد لئلا يوقع التمادي عليه في الهلكة وجاز إسقاط اليقين هنا ضرورة، وأما إذا علم اليقين فيستغنى عنه نبذ العهد إليهم وقد سار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة لما اشتهر منهم نقض العهد من غير أن ينبذ إليهم".
ومن ذلك يتبين لنا أن المسلمين مطالبون بالوفاء بعهودهم إلاّ إذا نقض العدو عهدهم معهم، ففي هذه الحالة يكون المسلمون مطالبين بقتالهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة عندما نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم فخرج عليه السلام لقتالهم دون أن ينبذ إليهم. وقال عليه الصلاة والسلام وهو في طريقه لقتالهم: "اللهم اقطع خبرنا عنهم" ليفاجئهم.
وأما إذا خاف المسلمون خيانة الآخرين لهم أو ظهر لهم الخيانة فعلاً ولم ينقضوا العهد بعد فلا يجوز قتالهم حتى يخبرهم المسلمون بنبذ عهدهم ونقض ما بينهم من المعاهدات وذلك للابتعاد عن شبهة الخيانة والغدر بالمحاربين مع وجود عهد يقتضي بعدم محاربتهم.
هذا هو حكم الإسلام في المعاهدات التي توقعها الدولة الإسلامية مع الدول الأخرى لحفظ السلام. فنحن مطالبون بالوفاء بها والمحافظة عليها وعدم نقضها إلاّ إذا نقضها العدو، أما إذا لم ينقضها ولم يظاهر على عداء المسلمين فعلى المسلمين الوفاء لهم لقوله سبحانه وتعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ} .
فأين ذلك مما تتبعه الدول التي تدعي الحضارة والمدنية في عصرنا الحاضر؟! إنها تخالف القوانين الدولية وتنتهك الحقوق الإنسانية، ولا ترعى عهداً ولا ذمة، وتعتدي على مباديء الحق والعدل والسلام.(7/188)
وصدق الله سبحانه إذ يقول: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] هكذا أوردت في منتخب السنة بالفاء. من الوفاق وهي سيرة ابن هشام بالنون من النفقة. (المجلة)(7/189)
موقع اللغة العربية بين اللغات الأخرى
بقلم: الأستاذ عيد عبد الله السيد
خبير المكتبات بالجامعة
الحمد لله حمد الشاكر على النعمة، الصابر على النقمة والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين الذي بعثه الله رحمة للعالمين محمد النبي الأمين وبعد..
فإن الشيء المحير للعقول والألباب، المثير في النفس بواعث الدهشة والاستغراب هو انتشار اللغة العربية - لتصبح لغة الدواوين في الأقطار التي فتحها العرب المسلمون في عهد الخلافة الراشدة وما تلاها من عهود.
والعجيب أن تساير هذه اللغة حركة الفتوح الإسلامية مداً وجزراً وأن تستوعب مختلف الحضارات والثقافات. إلاّ أنها بالرغم من هذه القدرة الخارقة لم تسلم من الحاقدين عليها ومن الخصوم المهاجمين لها والداعين إلى إبادتها وإفنائها. ولكن الله سبحانه وتعالى قد فيض لهذه اللغة من يدافع عنها ويذود عن حماها في كل عصر. وفي كل مصر.
ولقد دفعتني إلى الكتابة في هذا الموضوع أسباب كثيرة من بينها أنه أمر قديم جديد تناوله السابقون كما خاض فيه المعاصرون بل لن ينحسم هذا الأمر طالما كان هناك صراع بين الشرق والغرب واختلاف بين الأديان وتباين في العقائد والمذاهب وتعارض في القوميات والعصبيات وأن العوامل التي حفظت اللغة العربية في الماضي لا زالت قائمة وستظل قائمة أبد الدهر- إن شاء الله - ومن هذه العوامل:
1- نزول القرآن الكريم على رسوله صلى الله عليه وسلم باللغة العربية.
2- سهولة اللغة العربية وثراؤها.
3- الناحية البيانية والجمالية والبلاغية في اللغة العربية.
4- المرونة الكاملة للغة العربية وقدرة المتحدثين بها على التوليد والتخريج والإشتقاق.
5- انتشار مجامع اللغة العربية والهيئات الأخرى المماثلة لها.
6- التراث الحضاري والثقافي التي خلقته اللغة العربية.(7/190)
7- نمو المعاهد الإسلامية الكبرى كالأزهر والجامعات الإسلامية.
8- ظهور الدعوة إلى التضامن الإسلامي وما يحمله نجاح هذه الدعوة من اهتمام بالدين الإسلامي ولغته العربية.
وسأحاول في هذا المقام الموجز أن أبرز شيئاً من تاريخ اللغة العربية وأثرها في السائدة زمن الفتوح العربية وعن موقعها بين هذه اللغات وتأثرها بها وعن موقع هذه اللغة ومنزلتها في العالم الإسلامي وسأتناول أيضاً آراء بعض الباحثين فيها من شرقيين وغربيين وعن مدى تأثير هذه اللغة الجميلة في اللغات الأوروبية ذاتها وسأختتم هذا المقال ببيان العوامل التي تساعد على استمرار هذه اللغة في أداء رسالتها مستقبلاً وواجب العرب والمسلمين تجاه هذه اللغة الخالدة.
اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم والدين الحنيف وهي لغة التخاطب والتفاهم بين أجزاء الوطن العربي وهي الأساس الذي بني عليه التراث العربي والأدب الرفيع ولا زالت هذه اللغة تؤدي مهمتها بحيوية وحركة وتقدم منذ أكثر من ألف وخمسمائة سنة وحتى الآن وإلى ما شاء الله بسبب طبيعتها المرنة وبيانها الأخاذ ومفرداتها الغنية وأساليبها المتفاوتة وخلودها في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وإذا كان الخليل قد قال في كتاب العين: "إن عدد أبنية كلام العرب المستعمل والمهمل (412ر 305 ر12) كلمة "فإن الحسن الزبيدي قد ذكر أن عدد ألفاظ العربية (400ر 699ر6) لفظاً لا نستعمل منها إلاّ (5630) والباقي مهمل.
فعسى أن أرى هذه الألفاظ العربية المهجورة وما أكثرها إذا قيست بالمستعملة - وقد عادت إلى الحياة العربية والعالمية لتسهم في تعريب المصطلحات العلمية الحديثة وتثري الفكر الإنساني كله بعوامل التقدم والخلود.(7/191)
اختلطت اللغة العربية - زمن الفتوح الإسلامية - بلغات أخرى في فارس والهند والشام ومصر وجنوب إفريقيا والأندلس لكنها احتفظت دائماً بفصاحتها ووحدتها وكيانها. ولم تكتف بذلك بل أزاحت جل اللغات التي كانت سائدة في تلك الأمصار وحلت محلها. أو نفخت فيها من روحها وطريقة تفكيرها.
ففي مصر حلت اللغة العربية مكان اليونانية والقبطية وفي زمن وجيز بعد الفتح العربي.
وفي الشام أزاحت لغة الضاد اللغة السريانية والكلدانية والنبطية تماماً، بل إن اللغة العربية دخلت إلى أوروبا نفسها حين فتح العرب الأندلس إذ لا يزال في اللغة الأسبانية وفي اللغة البرتغالية بقايا من الكلمات العربية ولم تعدم الإنجليزية والفرنسية والألمانية أثراً من آثار العربية من قريب أو من بعيد كما في كلمة (أدميرال) أي أمير البحر في العربية.
ومما لا جدال فيه أن اللغة العربية تحتل حتى الآن مكانة مرموقة بين اللغات الأخرى باعتبارها أضخم هذه اللغات ثروة وأكثرها أصواتاً وأغناها في المقاطع والحروف والتعبيرات.
وإذا قارنا بين اللغة العربية وبين اللغة الإنجليزية التي تسود الآن في أجزاء كثيرة من المعمورة والتي يدعونها اللغة العالمية الأولى نرى أن عدد أصوات العربية ثمان وعشرون حرفاً لا تكرار فيها بينما عدد أصوات اللغة الإنجليزية تقل بحرفين مع تكرار فيها بارز.
ولا يخفى على الكثيرين ما تتميز به اللغة العربية على غيرها من وجود حروف لأصوات قد لا توجد في غيرها مثال ذلك مخارج الحروف حاء، خاء، ضاد، طاء، ظاء، عين، غين، قاف.
لغتنا العربية، لغة كثيرة المترادفات متنوعة الأساليب والعبارات فيها الحقيقية والمجاز والتصريح والكناية وقد تم لها بحمد الله وبفضل الإسلام أن تتحول من لغة الأشعار إلى لغة الأفكار وأن تصبح لغة الشرع والعلم وأصبحت اللغة التي ترجم منها واليها المؤلفات العلمية والفلسفية والأدبية والتاريخية.(7/192)
ويمدنا التاريخ بأدلة بينة على تجاوب اللغة العربية مع كل تطور ومسايرتها لكل نهضة ومتابعتها لكل جديد، فبهذه اللغة ترجمت الكتب اليونانية والسريانية واللاتينية وغيرها إلى العربية وبهذه اللغة عربي الآلات والأفكار والآثار اليونانية والرومانية في العصر العباسي.
ولقد صمدت هذه اللغة لكل حملات القضاء عليها سواء حملة التتار على العالم الإسلامي أو حملات الصليبيين على الشرق العربي، أو الفتح العثماني للعالم العربي، وإن كانت بحكم هذه الظروف القاسية والمعارك المستمرة قد انحسرت عن أجزاء من العالم الإسلامي كالهند وفارس وتركيا واستقرت في العالم العربي ولكنها بقيت دائماً كما عرفها جرجي زيدان في كتابه تاريخ أدب اللغة العربية: "إحدى اللغات السامية وأرقاها مبنى ومعنى واشتقاقاً وتركيباً وهي أرقى لغات العالم".
انتشرت اللغة العربية - أيضاً - شرقي العراق بفارس والتركستان والهند بانتشار الإسلام. وأصبحت لغة العلم والدين عند هذه الشعوب المسلمة. فلا غرو أن كثرت الألفاظ والتراكيب العربية في لغات هذه الأمم.
ففي اللغة الفارسية المستعملة حالياً كثير من الألفاظ العربية وهي تكتب بهجاء العربية بعد أن تلاشت اللغة البهلوية والخط البهلوي.
أما اللغة التركية فقد غزتها الألفاظ العربية بوفرة حتى وصلت حوالي 50 % من مجموع ألفاظ اللغة التركية ولم تسلم اللغة الأردية من غزو العربية لها في كثير من الكلمات كما تفشت الكلمات العربية في لغة التتر والملايو والأفغان والأكراد ولغة السواحل وكلها تكتب بالخط العربي.
وإذا كان الأتراك العثمانيون قد حملوا لواء الدعوة إلى الجامعة الطورانية وعمدوا إلى القضاء على اللغات الحية في محيط الإمبراطورية العثمانية، فإن اللغة العربية قد كافحت عن وجودها وانتصرت في كفاحها وبقيت حية خالدة بعد أن دافعت بعنف عن بقائها وحياتها.(7/193)
كافحت اللغة العربية بعزيمة لا تعرف الكلل وبهمة لا تعرف الملل، بل كافحت بشراسة عن بقائها أمام حملات الاستعمار الغربي عليها منذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادي - تلك الحملات التي اتهمت اللغة العربية - زوراً وبهتاناً - بالعجز عن أداء مهمتها إزاء المخترعات الحديثة. وكان رد الفعل العملي في مواجهة هذا الهجوم العاتي والتيار الجارف لو أد اللغة العربية هو ظهور المعاجم العربية في لبنان ومصر، ثم نشأت مجامع اللغة العربية في سوريا ومصر والعراق، ولقد كان للأزهر في مصر وجامع الزيتونة في تونس والقرويين في المغرب وجمعية العلماء في الجزائر دور هام في هذه المعركة التي انتصرت فيها اللغة العربية - بحمد الله - في النهاية. وقد تعاونت معاهد العلم في النجف وسوريا والحجاز والسودان وليبيا في إحراز هذا النصر. ولقد جرت محاولات جادة لإدخال كلمات جديدة إلى اللغة العربية بالنحت أو بالاشتقاق أو بالترجمة أو بالتعريب.
وإذا كان خصوم اللغة العربية قد حملوا ذات يوم لواء الدعوة إلى (العامية) أو إلى كتابة العربية بحروف لاتينية) فإن دعواهم وهي الأخرى قد فشلت فشلاً ذريعاً.
ولقد جرت دعوة أو دعوات لحث المسلمين على استعمال لغة واحدة بينهم. وأي لغة أصلح لذلك غير اللغة العربية التي هي لغة الدين الإسلامي، الذي يوجد بين البشر جميعاً، والذي من تعاليمه تلاوة القرآن في الصلاة باللغة العربية وهذا يحتم أن تكون العربية لغة المسلمين، في كل مكان من بقاع المعمورة.
ولعل الدعوة التي يحمل لواءها جلالة الملك فيصل ملك المملكة العربية السعودية نحو تضامن المسلمين تؤتي أكلها بعد حين فنرى اللغة العربية وقد أصبحت حقيقة لغة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.(7/194)
وما أصدق قول رشيد رضا: "لما كان الإسلام دين التوحيد ديناً عاماً لكل البشر وكان من مقاصده أن يؤلف بينهم فرض عليهم توحيد اللغة فخرجت هذه اللغة عن أن تكون لغة شعب واحد منهم. ولولا ذلك لم تؤثرها جميع الشعوب الإسلامية على لغاتها حتى عم انتشارها في المشرق والمغرب مع الإسلام".
ولا تزال اللغة الفارسية في إيران تكتب بالحروف العربية ولم تجد محاولات المستشرقين أذناً صاغية في إيران لكتابة الفارسية بحروف لاتينية بدلاً من الأبجدية العربية.
ونشطت الدعوة إلى اللغة العربية في شبه القارة الهندية فأنشئت الجمعيات والمدارس وظهرت المعاجم العربية والأردية. ويوجد بالباكستان والهند عدد كبير يجيد العربية ويستخدمها في الخطابة ويعرف أشعارها ويؤلف الكتب بها في الفقه والحديث والتفسير وغير ذلك بل ويدعو كثير من المفكرين في باكستان إلى اتخاذ اللغة العربية لغة قومية لباكستان باعتبارها لغة الدين الذي يدينون له بالولاء.
وعلى النقيض من ذلك نرى تركيا منذ انقلاب أتاتورك في عام 1923 قد تخلصت من كل أثر للغة العربية في لغتها الطورانية وكتبت لغتها القومية بحروف لاتينية.
يقول أرنست رينان في كتابه تاريخ اللغات السامية: "من أغرب ما وقع في تاريخ البشر وصعب فهمه انتشار العربية. إذ أن هذه اللغة كانت مجهولة في البداية وبدأت تكتمل للغاية فجأة بسلاسة وغنى ظاهرين"، كما وصفها أيضاً بالكمال وبأنها ظهرت تامة مستحكمة.
واستطرد يقول: "إنه لم يمض على فتح العرب للأندلس أكثر من خمسين سنة حتى اضطر رجال الكنيسة لترجمة صلواتهم بالعربية ليفهمها أتباع المسيح".
ويقول مارجليوث: "اللغة العربية حياتها حقيقية، وهي إحدى لغات ثلاث سادت العالم الإنجليزية والإسبانية والعربية وتربو عليهما لأن بدايتها أقدم من كل تاريخ".(7/195)
وإني أرى أن لغتنا العربية ليست أغنى لغات العالم فقط بل إن من دونوا كتبهم بها لا يقعون تحت حصر والعربية الفصحى ليست لغة ميتة كما قد يزعم بعض المستشرقين ولكنها حية بكل ما في الحياة من قوة ومعنى وليست اللهجات العامية في الأمصار العربية بلغات خاصة فهي لا تغنى عن الفصحى التي هي لغة القرآن ولغة الصلاة ولغة الكتابة في كل علم وفن.
وإذا قدر للعربية أن تعاود امتدادها في الأقطار الإسلامية باعتبارها لغة القرآن والصلاة فمما لا جدال أنها ستنتصر على الإنجليزية والفرنسية وغيرها من اللغات الأوروبية التي ساعد الاستعمار على نشرها في أنحاء متباينة من المعمورة.
وقد سادت اللغة التركية منطقة العالم العربي قرنين ونصف من الزمن ومع ذلك لم تستطع القضاء على اللغة العربية أو إضعاف مكانتها ويرجع ذلك فيما يرجع إلى لين العربية ومرونتها وتكيفها مع كل الظروف. فاللغة العربية هي اللغة الرسمية بين جميع أصقاع شبه الجزيرة العربية وهي أداء التخاطب والكتابة في العراق والشام ومصر والسودان والمغرب العربي الكبير (ليبيا- تونس- الجزائر- المغرب) .
وسبق أن ذكرنا أنها اللغة التي يستخدمها مسلمو الهند والباكستان في صلواتهم وهي اللغة التي يستطيع بها العلماء في إيران وأفغانستان أن يدرسوا الحديث النبوي. وبالإضافة إلى ما تقدم فإن الحروف العربية لا تقل انتشاراً عن الحروف اللاتينية في العالم اليوم.
فهي تستخدم في كتابة اللغة الفارسية والهندوستانية ولغات (اليوشتو) والهوسا والأردية وغيرها من اللغات الشرقية ولا جدال في أن اللغة العربية من أعظم الينابيع التي يغترف منها العالم ثقافة وحضارة وعقيدة وتاريخاً. ويزداد عدد المتكلمين بها يوماً بعد يوم وتتسع دائرة انتشارها فهي لغة التخاطب في زنجبار وتنجانيقا وفي بلاد بعيدة كجزر الملايو، بل تدرس بكثير من المعاهد في أوربا نفسها في لندن وباريس وبرلين وليدن وغيرها.(7/196)
ويشهد بعض المستشرقين أنفسهم على أن الأثر الذي تركته اللغة العربية في عقول الأتراك والفرس ومسلمي الهند كان أعظم بكثير من الأثر الذي تركه اللاتين ولغتهم في عقول الأدباء من أهل أوربا في التاريخ الوسيط، ومنهم من وصف حروف الكتابة العربية بالسهولة والمرانة والجمال الفني وهم صادقون في ذلك ومنصفون.
إذ كيف لا يكون للغتنا العربية هذا السحر وهي لغة الوحي ولغة أهل الجنة وهي من اللغات البارزة في العالم وإحدى أهم الوسائل الأساسية للثقافة في العصر الوسيط ولم تزل هذه اللغة إلى اليوم أجمل لغة في الوجود وأغني لغات العالم في مفرداتها ووفرة أساليبها وقابليتها للنمو والزيادة، فالاشتقاق إحدى مميزاتها التي تمكنها من خلق صيغ جديدة من جذور قديمة كلما كان هناك حاجة لذلك. ولما كان هذا القياس يجري على نظام معين فإن القارئ يفهم بيسر وسهولة ما يمر عليه من صيغ جديدة بالقرينة والسليقة. ولعل الأمر ليس كذلك في الكلمات التي في اللغة العبرية بل وغيرها.
ولا عجب فإن العربية ثبتت على عادبات الزمان واحتفظت بكيانها في حين أن اليونانية واللاتينية والسكسونية وغيرها قد تشعبت بمرور الزمن فنشأت عنها لغات أخرى متباينة.
واللغة العربية تقوم على قواعد دقيقة تحدد الشكل الخارجي للكلمات والصيغة الظاهرة ولكن روح هذه اللغة متجددة باستمرار فلا غرابة أن تمتاز عن سائر اللغات وتتفوق عليها.
دخلت لغتنا العربية أوربا بعد فتح صقلية وأسبانيا فصارت لغة الأدب والعلم وعنها نقل علماء الغرب الكثير من حكمة اليونان وفلسفتهم وتأثرت اللغة اللاتينية بكلمات اللغة العربية ومفرداتها.
وفي القرن السادس عشر الميلادي العاشر الهجري ترجمت معاني القرآن الكريم إلى اللغات الأوربية كما ترجمت حكايات ألف ليلة وليلة وبعض من مقامات الحريري وقد ازداد اهتمام الأوربيون باللغة العربية مع دخول الاستعمار الإنجليزي والفرنسي للوطن العربي.(7/197)
ويقول أحد المستشرقين النمساويين أن سبب اهتمام الأوربيون باللغة العربية هو الدعاية الدينية ابتداء من الحروب الصليبية.
ولعل المتتبع للألفاظ العربية عند دراسته للغة أخرى من اللغات يجدها بارزة ظاهرة في كل لغات أوربا بشكل ما. فهي ذات أثر في الأسبانية والبرتغالية والفرنسية والإنجليزية والألمانية بل والهولندية والإسكندنافية والروسية والبولوندية والإيطالية. وقد عثر الباحثون في جهات البلطيق في أوربا على مسكوكات عربية إسلامية يبدو أنها من آثار تجار العرب المسلمين الذين وصلوا إلى تلك المناطق.
وإذا كان من المستشرقين من يهاجم العربية ويرى أنها لغة شائقة ولكنها شاقة جداً على من يريد أن يتعلمها وأن نطق هذه اللغة يمثل صعوبة كبرى للأوربي خاصة بل منهم من يبالغ فيراها لغزاً. إلا أن الحقيقة التي لا جدال عليها ولا اختلاف هي أن اللغة العربية آية للتعبير عن الأفكار وهي مرتبطة بتاريخ العرب المجيد والإسلام الباقي إلى الأبد.
وليس قصور الأداء في اللغة العربية بالنسبة للمخترعات الحديثة عيباً في اللغة العربية ذاتها وإنما العيب في أصحاب العربية الذين وقفوا بها حيث تركها الأولون. كما وأن اللغة التي لم تقتبس من لغات أخرى كلمات ومفردات لا وجود لها مطلقاً فيما هو شائع من لغات عالمية.
ولقد أتيح لي أن أطلع على مصنف الأستاذ حسن حسين فهمي الأستاذ في كلية الهندسة بجامعة القاهرة وعنوانه (المرجع في تعريب المصطلحات العلمية والفنية والهندسية) وقد أوصى بنشره مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
ويهدف هذا الكتاب إلى إثبات أن اللغة العربية تستطيع أن تستجيب للبحث العلمي وأنها تسع المصطلحات العلمية في علوم الهندسة الحديثة وفنون الصناعة الجديدة، ولكن بشرط أن يمارس هذا خبير بالعلوم المذكورة وبالفقه اللغوي ودقائق العربية في نفس الوقت.(7/198)
وقد بين المؤلف في هذا الكتاب افتقار المكتبة العربية للكتب الفنية الهندسية والصعوبات اللغوية عند كتابة الكتب الفنية والحاجة إلى دراسة العربية من جديد بطريقة علمية ويهدف المؤلف إلى عرض نتيجة دراسة منتظمة للعربية وطريقة التعريب التي نظمها ورسمها.
وهذا الكتاب في رأي بداية طيبة لمن سار على هذا الدرب.
ويطيب لي أن أعرض للقارئ الكريم نماذج بعض الألفاظ التي قدمتها العربية إلى اللغات الأوربية:
أمير البحر Algetire
جني Gain
ذيل Tail
قطة Cat
قائد Quide
مسجد Mosque
الرياضة Amiral
ولعل الكلمة الأخيرة مأخوذة من اسم جابر بن حبان.
ومن العوامل التي تساعد على استمرار اللغة العربية في أداء رسالتها:
1- جعل اللغة العربية لغة العلم في كل الجامعات العربية بما فيها الكليات العملية كالطب والهندسة والصيدلة والزراعة.
2- جعل اللغة العربية مادة أساسية في جميع مراحل التعليم.
3- نشر المعاهد العلمية التي تعلم اللغة العربية في كل البلاد الإسلامية في إفريقيا وآسيا وغيرها من قارات العالم.
4- خفض تكاليف طبع الكتب العربية والفنية وفتح مجال النشر للكتاب العربي في مختلف الأمصار الإسلامية والعربية بالذات.(7/199)
تقرير عن الجامعة السلفية في لائلفور في الباكستان
بقلم الشيخ: علي مشرف العمري
مبعوث الجامعة الإسلامية بالمدينة
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد - فلقد كان لي شرف الإبتعاث إلى الجامعة السلفية بمدينة لائلفور بباكستان الغربية للتدريس فيها بأمر من سماحة رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بالمملكة العربية السعودية بناء على أمر صاحب الجلالة الملك فيصل بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية المفدى حفظه الله وأبقاه وأطال في عمره ليبقى حامياً للإسلام والمسلمين وحامياً لمقدساتهم وفي مقدمتها الحرمان الشريفان.
وقد كان سفري من الجامعة الإسلامية بالمدينة إلى مقر عملي في لائلفور في يوم الأحد الموافق 5- 11 - 1392 ووصلت إلى كراتشي يوم الثلاثاء الموافق 7 - 11 - 92 وقد استقبلني علماء أهل الحديث في كراتشي وعلى رأسهم الشيخ عبد الخالق الرحماني والشيخ محمد يونس والشيخ محمد أحمد لوهيا والشيخ محمد إقبال لوهيا وقد أثلجوا صدري بما قاموا به من إكرام وإعزاز لأبناء المملكة السعودية وقد عاملني موظفوا المطار أحسن المعاملة وقالوا هذه هدية الفيصل إلى إخوانه في العقيدة في باكستان فكيف لا نقوم بواجب هذه الهدية خير قيام.(7/200)
ثم غادرنا كراتشي في اليوم الرابع الموافق 8 - 11 - 92 إلى مدينة لائلفور وقد استقبلنا على ظهر مطارها أعضاء الجامعة السلفية وفي مقدمتهم مدير التعليم فيها الشيخ عبيد الرحمان عبد الرحمان والأمين العام لأهل الحديث في مدينة لائلفور وقد بالغوا في الإكرام إلى حد الإطراء، ثم ذهبنا إلى الجامعة السلفية وهي جميلة كما سنذكر ذلك إن شاء الله فيما بعد، وفي اليوم الثاني التقينا برئيس مجلس الجامعة السلفية والأمين العام لجمعية أهل الحديث المركزية بباكستان الغربية الشيخ ميان فضل الحق وبأعضاء الجمعية في مدينة لائلفور وقد توجهنا جميعاً إلى أكبر جامع لأهل الحديث في مدينة لائلفور لأداء صلاة الجمعة وبعد انتهاء الخطيب للجمعة ألقى كلمة حيا فيها المملكة العربية السعودية وقائدها الملهم فيصل المحبوب وأشاد بالجامعة الإسلامية في المدينة ودورها الفعال في نشر الدعوة الإسلامية في أقطار الدنيا وأثنى على سماحة رئيسها الوالد الحبيب الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وذكر للمجتمعين أنني هدية الفيصل والجامعة الإسلامية إليهم وطلب من رئيس أهل الحديث أن يقدمني إلى الحاضرين وأن يقوم بإجراء التعارف بيننا، وأعقبه رئيس الجامعة فقدمني إلى الجميع وأشاد بالملك فيصل وما يبذله في سبيل الدين الإسلامي ثم ألقيت كلمة شكرت فيها رئيس مجلس الجامعة وخطيبهم وأعضاء الجامعة ومديرها وأبناء الشعب الباكستاني. وخصوصاً أهل الحديث على الحفاوة التي قاموا بها وقابلوا بها هدية الحكومة السعودية لهم، ثم ذكرت لهم تاريخ إنشاء الجامعة الإسلامية وكم كان عدد الطلاب فيها عند افتتاحها وعددهم في الوقت الحاضر وعدد الأقسام فيها والميزانية المخصصة لها من الحكومة السعودية سنوياً والمكافآت التي يتقاضاها المدرسون والطلاب وعدد الدول المخصص لها المنح الدراسية من العالم الإسلامي والأوروبي والإفريقي والآسيوي فيها وعن الدور الفعال الذي تقوم به المملكة العربية(7/201)
السعودية بتوجيه الفيصل العظيم من بعثات إلى الدول الإسلامية وغيرها للدعوة والتدريس والإرشاد وما يبذله سماحة الشيخ عبد العزيز من توجيه كبير لأبنائه خريجي الجامعة الإسلامية ووضع الخطط الحكيمة لهم لدعوة الناس وإرشادهم للعودة إلى دينهم القويم.
وبعد الانتهاء من إلقاء كلمتي قام من في المسجد كلهم وأخذوا يحيوني ويدعون للملك بالتوفيق والسداد - وقد قام خطباء أهل الحديث في جميع المساجد التابعة لهم بالإشادة بالمملكة العربية السعودية ملكاً وحكومة وشعباً وكذلك أشادوا بالجامعة الإسلامية وبرئيسها وأعضائها.
أما الجامعة السلفية التي انتدبت للتدريس فيها فقد تأسست في سنة 1955 وقام بتأسيسها السيد محمد داود الغزنوي والسيد محمد إسماعيل السلفي رحمهما الله وهي تقع في جانب من مدينة لائلفور وهي ذات شكل هندسي جميل تبلغ مساحتها عشرين ألف متر مربع وهي على الطريق الرئيسي الذي يصل مدينة لائلفور بمدينة لاهور عاصمة باكستان الغربية.
والجامعة تتكون مما يلي:
1- مسجد كبير يتسع لحوالي ألفي مصلي ويقع على يسار الداخل إلى مبنى الجامعة.
2- مساكن للأساتذة والطلبة وعددها 34 غرفة مزودة بالأثاث اللازم لكل فرد.
3- دار للضيافة مكونة من أربع غرف كاملة التأثيث مع منافعها ومطبخ تابع لها وذلك فيما إذا جاءهم أحد الأعضاء أم غيرهم للالتقاء بالطلاب يسكن في هذه الدار ويبقى في ضيافة الجامعة المدة التي سيقضيها في هذه الجامعة.
4- مستوصف مكون من ثلاث غرف يعالج فيه المنتسبون إلى الجامعة والمجاورون لها من السكان مجاناً على حساب الجامعة السلفية.
5- مكتب للبريد غرفة واحدة وهو على حساب الجامعة.(7/202)
6- فصول للدراسة مكون من ثمان غرف واسعة وقاعات للأساتذة ومكتب لمدير التعليم وقد أنشئت بشكل هندسي بديع وعمل على بوابة هذه الفصول رسم مجسم لكتابين مفتوحين بالأسمنت يرمز أحدهما إلى الكتاب العزيز والثاني إلى السنة المطهرة.
7- ميدان واسع في داخل أسوار الجامعة وفيه ملعب لكرة القدم واليد وفيه جانب معد لقاعة المحاضرات وصالة للمكتبة ومساكن للأساتذة بعائلاتهم وقاعة واسعة يتناول الطلاب طعامهم فيها ومطبخ يعد فيه طعام الأساتذة والطلاب وللجامعة حالياً مشاريع قائمة وأكثرها على وشك الإنتهاء وهي:
قاعة الطعام والمطبخ وخزانة لحفظ مؤن الطلبة.
أما المشاريع التي وضعت في مخطط الجامعة والتي ستقام قريباً إن شاء الله فهي - قاعة كبيرة للمحاضرات وقاعة المكتبة ومساكن للأساتذة مع عائلاتهم وهي حوالي عشرة مساكن كل مسكن يتكون من أربع غرف مع منافعها والجامعة تقوم بإعاشة المدرسين والطلاب مع مكافأة للمدرسين ابتداء من مائة وخمسين رويبة لكل مدرس ويبلغ عددهم 13 مدرساً.
أما الطلاب فيبلغ عددهم مائة وخمسين طالباً من أنحاء باكستان الغربية ومن غيرها من الدول مثل: جزر مالديب ومنها حوالي عشرين طالباً ومن كشمير الحرة وأفغانستان ومن باكستان الشرقية، وبهذه المناسبة فإن الباكستانيين الغربيين يعاملون الباكستانيين الشرقيين معاملة الأخ لأخيه.
هذا وللجامعة السلفية رئيس عام وهو فضيلة الشيخ ميان فضل الحق كما أنه أمين عام لجمعية أهل الحديث المركزية في باكستان الغربية ولها أمين عام وهو فضيلة الشيخ محمد صديق خطيب مدينة لائلفور ولها مدير تعليم وهو فضيلة الشيخ عبيد الرحمان عبد الرحمان أحد خريجي الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وقد قام بإدخال تعديلات على منهج الدراسة في الجامعة السلفية وأدخل فيها مناهج الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.(7/203)
فمن الدروس الموجودة في هذه الجامعة وهي بذاتها توجد في منهج الجامعة الإسلامية تفسير الشوكاني وبداية المجتهد في الفقه والصحيحان في الحديث وعشرون حديثاً بالأسانيد من النسائي وابن ماجه وشرح ابن عقيل في القواعد العربية والمذاهب الهدامة مذكرة الجامعة الإسلامية وكذلك حاضر العالم الإسلامي وفي التاريخ سيرة ابن هشام ومقدمة ابن خلدون وفي مصطلح الحديث مقدمة ابن الصلاح وفي التوحيد شرح العقيدة الطحاوية وغيرها من الكتب النافعة.
والدراسة في الجامعة السلفية على ثلاث أقسام: القسم الأول الإعدادية يدخل فيها الطلاب بعد أن يأخذ الشهادة الابتدائية ومدة الدراسة فيها سنتان، والقسم الثانوي ومدة الدراسة فيه أربع سنوات، والقسم الثالث القسم العالي مدة الدراسة فيه سنتان يتخرج الطلاب بعد ذلك ويصنفون إلى فئات إحداها ينتخب بعضهم للتدريس في نفس الجامعة وفئة تذهب إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة وغيرها وفئة تذهب للدعوة والإرشاد في أنحاء باكستان وهم يجيدون اللغة العربية قراءة وكتابة إجادة ممتازة ومعظم الدراسة في هذه الجامعة باللغة العربية.
وللجامعة مجلس وأعضاء يبلغ عدد الأعضاء فيها 15 عضواً من جميع مدن باكستان الغربية وهم يعقدون اجتماعات سنوية يقررون فيها مصروفات الجامعة ومشاريعها وجميع التبرعات من جمعية أهل الحديث في باكستان ويبلغ ما يصرف على هذه الجامعة سنوياً مائتي ألف رويبة باكستانية تجمع كلها عن طريق التبرع من جمعية أهل الحديث في باكستان الغربية وفي الجامعة حالياً مكتبة مكونة من ثلاث غرف تضم في أدراجها ستة آلاف كتاب أكثرها باللغة العربية وتحوي على المراجع الضخمة في الحديث والفقه وأسماء الرجال والأدب والتاريخ والتفسير وغير ذلك من نفائس الكتب الكثيرة.(7/204)
أما النشاطات الرياضية في الجامعة فهي تنحصر في كرة القدم وكرة اليد والجامعة تنهج نهج السلف الصالح في الدراسة والتدريس وتسير في طريقها سيراً حسناً وهي في حاجة ماسة إلى العون المادي والمعنوي من الحكومات الإسلامية والمؤسسات الخيرية ومن أهل الفضل والسخاء وفق الله القائمين عليها والساعين لها والباذلين في سبيلها لكل خير وسدد خطاهم ووفق الله حكومتنا الرشيدة التي لم تأل جهداً في الاستجابة إلى أبناء الأمة الإسلامية في شرق الأرض وغربها وبذل ما في وسعها من خدمات إسلامية تمثلت في إرسال الدعاة والمدرسين والتبرعات الخيرية لبناء المساجد والمدارس وغير ذلك من وجوه البر في أنحاء البلاد الإسلامية وفقها الله لكل خير إنه على كل شيء قدير.(7/205)
رأي الفيلسوف تولستوي في المرأة الغربية [1]
من كتاب حكم النبي محمد
ترجمة سليم قبعين
" إن السبب في مسألة الطلاق التي تشغل الآن الرأي العام في أوروبة هو التمدن الذي لم يقتبس الإنسان منه سوى الحمق والخلاعة. هذا هو السبب الحقيقي في ازدياد الطلاق نمواً كل يوم، فلا يمضي على زواج امرأة برجل ردح من الزمن حتى تقول له: حاذر أن أتركك وأمضي إلى حال سبيلي.
سرى ذلك من الربوع العالية في المدن إلى أكواخ الفلاحين، فالقروية لأقل شيء تقول لزوجها: خذ قمصانك وسراويلاتك لأني تارك لك وذاهبة مع حبيبي يوسف الذي يفوقك حسناً وبهاءً..
هذا لأن المرأة خلعت ثياب الحشمة واحترام الزوج وخرجت من دائرة الخضوع له، تلك الواجبات التي ينبغي عليها حتى انقضاء الأجل.
على الرجل أن يكد ويشتغل، وما على المرأة إلا أن تقيم في البيت لأنها زوجة، أو بعبارة أخرى: لأنها إناء لطيف سريع الإنثلام والإنكسار. وعلى الرجل أن يراقب سلوك امرأته ولا يطلق لها العنان، بل يحجبها في البيت. والبيت دائرة حرية واسعة للمرأة.
ولنتذكر المثل الروسي الذي يقول: "لا تركن إلى الفرس في الغيط، واركن إلى المرأة في البيت".
--------------------------------------------------------------------------------
[1] من كتاب (حكم النبي محمد صلى الله عليه وسلم) ترجمة سليم قبعين ومنشورات (المكتبة الأهلية) بمصر سنة 1342هـ.(7/206)
من الصحف والمجلات
(من حديث الدكتور: محمد ناصر رئيس وزراء إندونيسية الأسبق)
من الواجب أن نعترف أن الظروف القاسية التي عاشتها المجتمعات الإسلامية تحت نير الاستعمار آماداً طويلة فرضت على تلك المجتمعات ضروباً من التخلف في مختلف الجوانب المادية من حياتها، فيأتي المتآمرون المغرضون إلى هذا الشاب الذي يعاني من مركب النقص تجاه حضارة العصر الراهن، فيقولون له بكل وسائل الإقناع المباشر أو غير المباشر المقروءة والمسموعة والمرئية.
إن حياة التخلف هي من مستلزمات الإسلام أو يصرحون له بأن الإسلام هو سبب تخلف المسلمين.. ويعزون ذلك إلى أن الإسلام يعني فقط بأمور الآخرة.. فيتهاوى هذا الشاب الضعيف نفسياً وخلقياً أمام مثل هذه التشكيلات والتضليلات.. وبالتالي يوحون إليه أنه إذا أراد اللحاق بالركب الحضاري المزعوم فليس أمامه إلا طريقان: الأولى: الانسلاخ عن الإسلام، والثانية: تكييف الإسلام وإضعافه وتطويعه لمقتضيات الحياة المادية ومتطلباتها إذا لم يمكن التخلي عن الإسلام كلياً.
أما كيفية تفادي هذا الخطر وتلافيه، فزمام الأمر في إصلاح مناهج التربية العامة والتربية الدينية بصفة خاصة وبالأخص في مرحلة التعليم التي يعيشها الشاب في فترة المراهقة أي المرحلة الإعدادية والثانوية.
والحياة الدينية التي تتبع بها في محيط الأسرة والبيئة والتي كان إيمانه بها عظيماً لا تستطيع أن تقدم له الأجوبة الصائبة على مختلف القضايا والمشاكل التي تلوح للمراهق وهو على أعتاب رحلة التفتح الذهني والتطلع على أسرار الحياة وحقائقها.
(عن مجلة المجتمع الكويتية)(7/207)
ندوة الطلبة
إلى أخي الذي لم أره
بقلم: الطالب محمد محمود جاد الله بكلية الشريعة بالجامعة
(أي هذي الأسراب فوق الغدير)
اسكبي النور في خبايا ضميري
أسمعيني من كل بحر قصيداً
أسعفيني إن خانني تعبيري
هذه لحظة تساوي دهوراً
فانثريها نشوانة بالسرور
قد عرفت العطاء منكن سمحاً
صافي الود مفعماً بالحبور
هذه فرحتي وقد طال شوقي
أترى الدهر معتبي أو مجيري
هذه منحة عطاء حساباً جاءت اليوم من لطيف خبير
إن عبد الرحمن في القلب رمز صانه الله من طليق أسير
هو في القلب نفحة من بلادي
ذات شدو ريانة بالعبير
يا رعا الله بقعة أنت منها
حيث (اسدود) من قديم الدهور
لم يكن بيننا لقاء ولكن
ضمنا البؤس واصطلاء الهجير
غربة الروح جمعتنا فكنا
كالشريكين في اقتسام المصير
جمعتنا على الطريق ليال
قاسيات ملآنة بالشرور
واختلاج الأزهار بالنور تزهو
مائلات من بعد يوم مطير
وارفضاض الأوراق بالطل تندى
فوق تلك الربوع عند البكور
إنني منك مثلما أنت مني
فكلانا يختال بين السطور
إن شعراً نظمت في غير هذا
لا يساوي والله شروى نقير
قد رويناه فتية يوم كانت
فرحة العمر بسمة في الثغور
نحن صنوان في الضنى يا صديقي
بل غريبان بين هذي القبور
إن دمعاً ذرفته من فؤادي
لست تدريه كانبجاس الغدير
كان لله خالصاً مستطاباً
لا لدينا تغص بالتكدير
يوم أن كانت الرؤى عابسات
كالحات تغوص في الديجور
يوم أن كانت المنايا كؤوساً
سائغات كمثل ماء نمير
كان دمعاً معبراً من وداد
صبه الله في ثنايا شعوري
كم ليالي قضيت سود طوال
ترقب النجم من وراء الستور
وهي لله بالهدى عامرات
يا لطعم الهوى ويا للنور
لهف قلبي على رجال نراهم(7/208)
زينة الناس في اختلاف العصور
كلهم في الفؤاد ذكراه تبقى
ثم تحيا راضين بالمقدور(7/209)
الأسماء والصفات نقلاً وعقلاً
محاضرة لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإنا نريد أن نوضح لكم معتقد السلف والطريق الذي هو المنجي نحو آيات الصفات:
أولاً: اعلموا أن كثرة الخوض والتعمق في البحث في آيات الصفات وكثرة الأسئلة في ذلك الموضوع من البدع التي يكرهها السلف، اعلموا أن مبحث آيات الصفات دل القرآن العظيم أنه يتركز على ثلاثة أسس من جاء بها كلها فقد وافق الصواب وكان على الاعتقاد الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح، ومن أخل بواحد من تلك الأسس الثلاثة فقد ضل وكل هذه الأسس الثلاثة يدل عليها القرآن العظيم:
1- أحد هذه الأسس الثلاثة هو تنزيه الله جل وعلا عن أن يشبه شيء من صفاته شيئاً من صفات المخلوقين وهذا الأصل يدل عليه قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} .(7/210)
2- الثاني: من هذه الأسس: هو الإيمان بما وصف الله به نفسه لأنه لا يصف الله أعلم بالله من الله {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} , والإيمان بما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يوصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال في حقه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى, إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} ، فيلزم كل مكلف أن يؤمن بما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم وينزه ربه جل وعلا عن أن تشبه صفته صفة الخلق وحيث أخل بأحد هذين الأصلين وقع في هوة الضلال لأن من تنطع بين يدي رب السموات والأرض وتجرأ على الله بهذه الجرأة العظيمة ونفى عن ربه وصفاً أثبته لنفسه فهذا مجنون فالله جل وعلا يثبت لنفسه صفات كمال وجلال فكيف يليق لمسكين جاهل أن يتقدم بين يدي رب السموات والأرض ويقول هذا الذي وصفت به نفسك لا يليق بك ويلزمه من النقص كذا وكذا فأنا أأوله وألغيه وآتي ببدله من تلقاء نفسي من غير استناد إلى كتاب أو سنة، سبحانك هذا بهتان عظيم ومن ظن أن صفة خالق السموات والأرض تشبه شيئاً من صفات الخلق فهذا مجنون جاهل ملحد ضال ومن آمن بصفات ربه جل وعلا منزهاً ربه عن تشبيه صفاته بصفات الخلق فهو مؤمن منزه سالم من ورطة التشبيه والتعطيل وهذا التحقيق هو مضمون: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فهذه الآية فيها تعليم عظيم يحل جميع الإشكالات ويجيب عن جميع الأسئلة حول الموضوع. ذلك لأن الله قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} بعد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . ومعلوم أن السمع والبصر من حيث هما سمع وبصر يتصف بهما جميع الحيوانات فكأن الله يشير للخلق ألاّ ينفوا عنه صفة سمعه وبصره بادعاء أن الحوادث تسمع وتبصر وأن ذلك تشبّه بل عليهم أن يثبتوا له صفة سمعه وبصره على أساس ليس كمثله شيء. فالله جل وعلا له صفات لائقة بكماله وجلاله والمخلوقات لهم صفات مناسبة(7/211)
لحالهم وكل هذا حق ثابت لا شك فيه
إلاّ أن صفة رب السموات والأرض أعلا وأكمل من أن تشبه صفات المخلوقين، فمن نفى عن الله وصفاً أثبته لنفسه فقد جعل نفسه أعلم بالله من الله سبحانك هذا بهتان عظيم ومن ظن أن صفة ربه تشبه شيئاً من صفة الخلق فهذا مجنون ضال ملحد لا عقل له يدخل في قوله: {تالله إن كنّا لفي ضلال مبين إذ نسويكم بربّ العالمين} . ومن يسوي ربّ العالمين بغيره فهو مجنون، ثمّ اعلموا أن المتكلمين الذين خاضوا في الكلام وجاءوا بأدلة يسمونها أدلة عقلية ركبوها في أقيسة منطقية قسموا صفات الله جل وعلا إلى ستة أقسام قالوا هناك صفة نفسية وصفة معنى. وصفة معنوية وصفة فعلية وصفة سلبية وصفة جامعة. أما الصفات الإضافية فقد جعلوها أموراً اعتبارية لا وجود لها في الخارج وسببوا بذلك إشكالات عظيمة وضلالاً مبيناً، ثمّ إنا نبين لكم على تقسيم المتكلمين ما جاء في القرآن العظيم من وصف الخالق جل وعلا بتلك الصفات ووصف المخلوقين بتلك الصفات وبيان القرآن العظيم لأن صفة خالق السموات والأرض حق وأن صفة المخلوقين حق وأنه لا مناسبة بين صفة الخالق وبين صفة المخلوق فصفة الخالق لائقة بذاته وصفة المخلوق مناسبة لعجزه وافتقاره وبين الصفة والصفة من المخالفة كمثل ما بين الذات والذات أمّا هذا الكلام الذي يدرس في أقطار الدنيا اليوم في المسلمين فإن أغلب الذين يدرسونه إنما يثبتون من الصفات التي يسمونها صفات المعاني. سبع صفات فقط وتنكرون سواها من المعاني ويؤولونها، وصفة المعنى عندهم في الإصطلاح ضابطها هي أنها ما دل على معنى وجودي قائم بالذات، والذي اعترفوا به منها سبع صفات هي القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام.(7/212)
ونفوا غير هذه الصفات من صفات المعاني التي سنبينها ونبين أدلتها من كتاب الله، وأنكر هذه المعاني السبع المعتزلة وأثبتوا أحكامها فقالوا: هو قادر بذاته سميع بذاته عليم بذاته حي بذاته ولم يثبتوا قدرة ولا علماً ولا حياة ولا سمعاً ولا بصراً فراراً منهم من تعدد القديم وهو مذهب كل العقلاء يعرفون ضلاله وتناقضه وأنه إذا لم يقم بالذات علم استحال أن تقول هي عالمة بلا علم وهو تناقض واضح بأوائل العقول فإذا عرفتم هذا فسنتكلم على صفات المعاني التي أقروا بها فنقول:
1- وصفوا الله تعالى بالقدرة وأثبتوا له القدرة والله جل وعلا يقول في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ونحن نقطع أنه تعالى متصف بصفة القدرة على الوجه اللائق بكماله وجلاله. وكذلك وصف بعض المخلوقين بالقدرة قال: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} فأسند القدرة لبعض الحوادث ونسبها إليهم ونحن نعلم أن كل ما في القرآن حق وأن للمولى جل وعلا قدرة حقيقة تليق بكماله وجلاله. كما أن للمخلوقين قدرة حقيقة مناسبة لحالهم وعجزهم وفنائهم وافتقارهم. وبين قدرة الخالق والمخلوق من المنافاة والمخالفة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق وحسبك بونا بذلك.(7/213)
2، 3- ووصف نفسه بالسمع والبصر في غير ما آية من كتابه قال: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، ووصف بعض الحوادث بالسمع والبصر، قال: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} ، {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} . ونحن لا نشك أن ما في القرآن حق فلله جل وعلا سمع وبصر حقيقيان لائقتان بجلاله وكماله. كما أن للمخلوق سمعاً وبصراً حقيقيين مناسبين لحاله من فشقره وفنائه وعجزه وبين سمع وبصر الخالق وسمع وبصر المخلوق كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق.
4- ووصف نفسه بالحياة قال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} ، {هو الحي لا إله إلاّ هو} . الآية. ووصف أيضاً بعض المخلوقين بالحياة قال: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ} ، {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً} ، {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَي} . ونحن نقطع بأن لله جل وعلا صفة حياة حقيقية لائقة بكماله وجلاله. كما أن للمخلوقين حياة مناسبة لحالهم وعجزهم وفنائهم وافتقارهم وبين صفة الخالق والمخلوق من المخالفة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق. وذلك بون شاسع بين الخالق وخلقه.(7/214)
5- ووصف جل وعلا نفسه بالإرادة قال: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} , {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . وصف بعض المخلوقين بالإرادة قال: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} ، {إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً} ، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} ولا شك أن لله إرادة حقيقية لائقة بكماله وجلاله كما أن للمخلوقين إرادة مناسبة لحالهم وعجزهم وفنائهم وافتقارهم، وبين إرادة الخالق والمخلوق كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق.
6- وصف نفسه جل وعلا بالعلم قال: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِه} ، {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} ووصف بعض المخلوقين بالعلم قال: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} ، {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاه} . ولا شك أن للخالق جل وعلا علماً حقيقياً لائقاً بكماله وجلاله محيطاً بكل شيء. كما أن للمخلوقين علماً مناسباً لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم وبين علم الخالق والمخلوق من المنافاة والمخالفة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق.
7-ووص ف نفسه جل وعلا بالكلام. قال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} ، {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّه} . ووصف بعض المخلوقين بالكلام قال: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} ، {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِم} ولا شك أنّ للخالق تعالى كلاماً حقيقياً لائقاً بكماله وجلاله. كما أن للمخلوقين كلاماً مناسباً لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم وبين كلام الخالق والمخلوق من المنافاة والمخالفة كمثل ما بين ذات الخالق والمخلوق.(7/215)
هذه صفات المعاني سمعتم ما في القرآن من وصف الخالق بها ووصف المخلوق ولا يخفى على عاقل أنّ صفات الخالق حق. وأنّ صفات الخالق لائقة بجلاله وكماله، وصفات المخلوقين مناسبة لحالهم وبين الصفة والصفة كما بين الذات والذات.
وسنبين مثل ذلك في الصفات التي يسمونها سلبية
وضابط الصفة السلبية عند المتكلمين. نقول: هذا قياس عدم محض، والمراد بها أن تدل على سلب ما لا يليق بالله عن الله من غير أن تدل على معنى وجودي قائم بالذات والذين قالوا هذا جعلوا الصفات السلبية خمساً لا سادس لها وهي عندهم القدم والبقاء والمخالفة للخلق والوحدانية والغنى المطلق الذي يسمونه القيام بالنفس الذي يعنون به الإستغناء عن المخصص والمحل فإذا عرفتم هذا فاعلموا أن القدم والبقاء اللذين وصف المتكلمون بهما الله جل وعلا زاعمين أنه وصف بهما نفسه في قوله هو الأول والآخر قد وصف بهما المخلوق والقدم في الإصطلاح عندهم عبارة عن سلب العدم السابق إلا أن عندهم أخص من الأزل لأن الأزل عبارة عمّا لا افتتاح له سواءً كان وجودياً كذات الله وصفاته أو عدمياً كإعدام ما سوى الله لأن العدم السابق على العالم قبل وجوده لا أول له فهو أزلي ولا يقال فيه قديم والقدم عندهم عبارة عمّا لا أول له بشرط أن يكون وجودياً كذات الله متصفة بصفات الكمال والجلال ونحن الآن نتكلم على ما وصفوا به الله جل وعلا من القدم والبقاء وإن كان بعض العلماء كره وصفه جل وعلا بالقدم كما يأتي. فالله جل وعلا وصف بعض المخلوقين بالقدم قال: {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} ، {إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} ، {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} ووصف بعضهم بالبقاء قال: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} ، {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} ولا شك أن ما وصفوا به الله من هذه الصفات مخالف لما وصف به الخلق نحو ما تقدم.(7/216)
أما الله جل وعلا فلم يصف في كتابه نفسه بالقدم وبعض السلف كره وصفه بالقدم لأنه قد يطلق مع سبق العدم نحو {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} ، {إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} ، {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} وقد جاء فيه حديث بعض العلماء يقول هو يدل على وصفه بهذا وبعضهم يقول لم يثبت وقد ذكر الحاكم في المستدرك في بعض الروايات القديم في أسمائه تعالى وفي حديث دخول المسجد: "أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم"أمّا الأولية والآخرية التي نص الله عليهما في قوله: {هو الأول والآخر} فقد وصف بعض المخلوقين أيضاً بالأولية والآخرية قال: {أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ} ولا شك أن ما وصف الله به نفسه من ذلك لائق بجلاله {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ} (النور: من الآية32) وكماله كما أن للمخلوقين أولية وآخرية مناسبة لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم.
ووصف نفسه بأنه واحد قال: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد} ووصف بعض المخلوقين بذلك قال: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} ووصف نفسه بالغنى قال: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ، {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} ، {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} ووصف بعض المخلوقين بالغنى قال: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِف} ، {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه} .(7/217)
فهذه الصفات السلب جاء في القرآن وصف الخالق والمخلوق بها ولا شك أن ما وصف به الخالق منها لائق بكماله وجلاله وما وصف به المخلوق مناسبة لحاله وفنائه وعجزه وافتقاره ثم نذهب إلى الصفات السبع التي يسمونها المعنوية والتحقيق ان عد الصفات السبع التي هي كونه تعالى قادراً ومريداً وعالماً وحياًّ وسميعاً وبصيراً ومتكلماً لا وجه له لأنها في الحقيقة إنما هي كيفية الإتصاف بالمعاني السبع التي ذكرنا ومن عدها من المتكلمين عدوها بناءً على ثبوت ما يسمونه الحال المعنوية التي يزعمون أنها واسطة ثبوتية لا معدومة ولا موجودة والتحقيق أن هذه خرافة وخيال. وإن العقل الصحيح لا يجعل بين الشيء ونقيضه واسطة البتة فكل ما ليس بموجود فهو معدوم قطعاً وكل ما ليس بمعدوم فهو موجود قطعاً ولا واسطة البتة كما هو معروف عند العقلاء فإذا كنا قد مثلنا لكنه قادراً وحياًّ ومريداً وسميعاً وبصيراً ومتكلماً لما جاء في القرآن من وصف الخالق بذلك وما جاء في القرآن من وصف المخلوق بذلك وبينا أن صفة الخالق لائقة بكماله وجلاله وأن صفة المخلوق مناسبة لحاله وفنائه وعجزه وافتقاره فلا داعي لأن ننفي وصف رب السموات والأرض عنه لا أن نشبهها بصفات المخلوقين بل يلزم أن نقر بوصف الله ونؤمن به في حال كوننا منزهين له عن مشابهة صفة المخلوقين وهذه صفات الأفعال جاء في القرآن بكثرة وصف الخالق بها ووصف المخلوق ولا شك أن ما وصف به الخالق منها مخالف لما وصف به المخلوق كالمخالفة التي بين ذات الخالق وذات المخلوق، ومن ذلك أنه وصف نفسه جل وعلا بصفة الفعل التي هي أنه يرزق خلقه قال جل وعلا: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} . ووصف بعض المخلوقين بصفة الرزق قال: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ(7/218)
أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْه} ، {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} ، {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنّ} .ولا شك أن ما وصف الله به من هذا الفعل مخالف لما وصف به منه المخلوق كمخالفة ذات الله لذات المخلوق. ووصف نفسه جل وعلا بصفة الفعل الذي هو العمل قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} . وصف المخلوقين بصفة الفعل التي هي العمل قال: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . ولا شك أن ما وصف الله به المخلوق مخالف له كمخالفة ذات الخالق لذات المخلوق.
وصف نفسه بأنه يعلّم خلقه: {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإنْسَان عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} ، {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} ، {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} . ووصف بعض خلقه بصفة الفعل التي هي التعليم أيضاً قال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَاب} وجمع المثالين في قوله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} .
ووصف نفسه جل وعلا بأنه ينبّيء ووصف المخلوق بأنه ينبّيء. وجمع بين الفعل في الأمرين في قوله جل وعلا: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} .(7/219)
ولا شك أن ما وصف الله به نفسه من هذا الفعل مخالف لما وصف به منه العبد كمخالفة ذات الخالق لذات المخلوق ووصف نفسه بصفة الفعل الذي هو الإيتاء قال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَه} . ووصف المخلوقين بالفعل الذي هو الإيتاء قال: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارا} ، {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} .
ولا شك أن ما وصف الله به من هذا الفعل مخالف لما وصف به العبد من هذا الفعل كمخالفة ذاته لذاته ثم نتكلم على الصفات الجامعة كالعلو والعظم والكبر والملك والتكبر والجبروت والعزة والقوة وما جرى مجرى ذلك من الصفات الجامعة فنجد الله وصف نفسه بالعلو والكبر والعظم قال في وصف نفسه بالعلو والعظم: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} . وقال في وصف نفسه بالعلو والكبر: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} ، {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} .
ووصف بعض المخلوقين بالعظم قال: {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} ، {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} ، {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}
ووصف بعض المخلوقين بالعلو قال: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} ، {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} .
ولا شك أن ما وصف الله به من هذه الصفات الجامعة كالعلو والكبر والعظم مناف لما وصف به المخلوق منها كمخالفة ذات الخالق لذات المخلوق فلا مناسبة بين ذات الخالق والمخلوق كما لا مناسبة بين صفة الخالق وصفة المخلوق.
ووصف نفسه بالملك قال: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوس} ، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} ، {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}(7/220)
ووصف بعض المخلوقين بالملك قال: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَان} ، {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} ، {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} ، {تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} .
ولا شك أن لله جل وعلا ملكاً حقيقياً لائقاً بكماله وجلاله. كما أن للمخلوقين ملكاً مناسباً لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم.
ووصف نفسه بأنه جبار متكبر قال: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} إلى قوله: {الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} .
ووصف بعض المخلوقين بأنه جبار متكبر قال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} ، {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} ، {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} ، {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} .
ولا شك أن ما وصف به الخالق من هذه الصفات مناف لما وصف به المخلوق كمنافاة ذات الخالق لذات المخلوق
ووصف نفسه جل وعلا بالعزة قال: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} .
ووصف بعض المخلوقين بالعزة قال: {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} ، {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} . وجمع المثالين في قوله {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} .
ولا شك أن ما وصف به الخالق من هذا الوصف مناف لما وصف به المخلوق كمخالفة ذات الخالق لذات المخلوق.
ووصف نفسه جل وعلا بالقوة قال: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} ، {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .(7/221)
ووصف بعض المخلوقين بالقوة قال: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُم} وقال جل وعلا: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّة} . وجمع بين المثالين في قوله: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} .
ثم إننا نتكلم على الصفات التي اختلف فيها المتكلمون. هل هي صفات فعل أو صفات معنى والتحقيق أنها صفات معان قائمة بذات الله جل وعلا. كالرأفة والرحمة والحلم. فنجده جل وعلا وصف نفسه بأنه رؤوف رحيم قال: {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ووصف بعض المخلوقين بذلك قال في وصف نبينا صلوات الله وسلامه عليه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .
ووصف نفسه بالحلم قال: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} ، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} ، {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}
ووصف بعض المخلوقين بالحلم قال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} ، {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} .
ووصف نفسه بالمغفرة قال: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاء} .(7/222)
ووصف بعض المخلوقين بالمغفرة قال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} ، {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَة} الآية، {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّه} .
ولا شك أن ما وصف به خالق السموات والأرض من هذه الصفات أنه حق لائق بكماله وجلاله لا يجوز أن ينفى خوفاً من التشبيه بالخلق. وأن ما وصف به الخلق من هذه الصفات حق مناسب لحالهم وفنائهم وعجزهم وافتقارهم.
وعلى كل حال فلا يجوز للإنسان أن يتنطّع إلى وصف أثبته الله جل وعلا لنفسه فينفي هذا الوصف عن الله متهجماً على ربّ السموات والأرض مدعياً عليه أن هذا الوصف الذي تمدح به أنه لا يليق به وأنه هو ينفيه عنه ويأتيه بالكمال من كيسه الخاص فهذا جنون وهوس ولا يذهب إليه إلاّ من طمس الله بصائرهم.
وسنضرب لكم لهذا مثلاً يتبين به الكل لأن مثلاً واحداً من آيات الصفات ينسحب على الجميع إذ لا فرق بين الصفات لأن الموصوف بها واحد. وهو جل وعلا لا يشبه شيء من خلقه في شيء من صفاته البتة. فهذه صفة الاستواء التي كثر فيها الخوض ونفاها كثير من الناس بفلسفة منطقية وأدلة جدلية سنتكلم في آخر البحث على وجوه إبطالها كلاماً يخص الذين درسوا المنطق والجدل ليتبين كيف استدل أولئك بالباطل وأبطلوا به الحق وأحقوا به الباطل. فهذه صفة الاستواء تجرأ الآلاف ممن يدّعون الإسلام وتفوهاً عن رب السماوات والأرض بأدلة منطقية يركبون فيها قياساً استثنائياً مركبة من شرطية متصلة لزومية واستثنائية يستثنون فيه نقيض التالي ينتجون في زعمهم الباطل نقيض المقدم بناء على أن نفي اللازم يقتضي نفي الملزوم فيقولون مثلاً لو كان مستوياً على عرشه لكان مشابهاً للخلق فينتجون، ليس مستوياً على العرش، وعظم هذا الافتراء كما ترى.(7/223)
1- اعلموا أن هذه الصفة التي هي صفة الاستواء صفة كمال وجلال تمدح بها رب السماوات والأرض والقرينة على أنها صفة كمال وجلال أن الله ما ذكرها في موضع من كتابه إلاّ مصحوبة بما يبهر العقول من صفات جلاله وكماله التي هي منها وسنضرب مثلاً لذلك بذكر الآيات: فأول سورة ذكر الله فيها صفة الاستواء حسب ترتيب المصحف سورة الأعراف قال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} . فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال.
2- الموضع الثاني في سورة يونس قال: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} .(7/224)
فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على هذا من الكمال والجلال.
3-الموضع الثالث في سورة الرعد في قوله جل وعلا: {الله الذي اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وهو الذي مدّ الأرض وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وفي الأرض وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
وفي القراءة الأخرى {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال.
4- الموضع الرابع في سورة طه: {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} .(7/225)
فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال.
5- الموضع الخامس في سورة الفرقان في قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً ًً} . فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على هذا من الكمال والجلال.
6- الموضع السادس في سورة السجدة في قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} فهل لأحد أن ينفي شيئاً من هذه الصفات الدالة على هذا من الجلال والكمال.(7/226)
7-الموضع السابع في سورة الحديد في قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
فالشاهد أن هذه الصفة التي يظن الجاهلون أنها صفة نقص ويتهجمون على رب السماوات والأرض بأنه وصف نفسه صفة نقص ثم يسببون عن هذا أن ينفونها ويؤولوها مع أن الله جل وعلا تمدح بها وجعلها من صفات الجلال والكمال مقرونة بما يبهر العقول من صفات الجلال والكمال هذا يدل على جهل وهوس من ينفي بعض صفات الله جل وعلا بالتأويل.
ثم اعلموا أن هذا الشيء الذي يقال له التأويل الذي فتن به الخلق وضل به الآلاف من هذه الأمة اعلموا أن التأويل يطلق مشتركاً بين ثلاث معان:
1- يطلق على ما تؤول إليه حقيقة الأمر في ثاني حال وهذا هو معناه في القرآن نحو: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاًً} ، {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْل} ومعنى التأويل في الآيات المذكورة ما تؤول إليه حقيقة الأمر في ثاني حال.
2- ويطلق التأويل بمعنى التفسير وهذا قول معروف كقول ابن جرير:"القول في تأويل قوله تعالى: كذا أي تفسيره ".
3- أمّا في اصطلاح الأصوليين فالتأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى محتمل مرجوح لدليل.
وصرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه له عند علماء الأصول ثلاث حالات:(7/227)
(أ) إمّا أن يصرفه عن ظاهره المتبادر منه لدليل صحيح من كتاب أو سنة وهذا النوع من التأويل صحيح مقبول لا نزاع فيه ومثال هذا النوع ما يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الجار أحق بصقبه " فظاهر هذا الحديث ثبوت الشفعة للجار وحمل هذا الحديث على الشريك المقاسم حمل للفظ على محتمل مرجوح غير ظاهر متبادر إلاّ أن حديث جابر الصحيح"فإذا ضربت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة "دل على أن المراد بالجار الذي هو أحق بصقبه خصوص الشريك المقاسم فهذا النوع من صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لدليل واضح يجب الرجوع إليه من كتاب وسنة وهذا تأويل يسمى تأويلاً صحيحاً وتأويلاً قريباً ولا مانع منه إذا دل عليه النص.
(ب) الثاني هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لشيء يعتقده المجتهد دليلاً وهو في نفس الأمر ليس بدليل فهذا يسمى تأويلاً بعيداً ويقال له فاسد ومثل له بعض العلماء بتأويل الإمام أبي حنيفة رحمه الله لفظ امرأة في قوله صلى الله عليه وسلم:" أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل "قالوا: حمل هذا على خصوص المكاتبة تأويل بعيد لأنه صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه لأن أيّ في قوله"أيّ امرأة "صيغة عموم وأكدت صيغة العموم بما المزيدة للتوكيد فحمل هذا على صورة نادرة هي المكاتبة حمل للفظ على غير ظاهره لغير دليل جازم يجب الرجوع إليه.(7/228)
(ج) أمّا حمل اللفظ على غير ظاهره لا لدليل: فهذا لا يسمى تأويلاً في الاصطلاح بل يسمى لعباً لأنه تلاعب بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ومن هذا تفسير غلاة الرافضة قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} ، قالوا: عائشة ومن هذا النوع صرف آيات الصفات عن ظواهرها إلى محتملات ما أنزل الله بها من سلطان كقولهم استوى بمعنى استولى فهذا لا يدخل في اسم التأويل لأنه لا دليل عليه البتة وإنما سمي في اصطلاح أهل الأصول لعباً. لأنه تلاعب بكتاب الله جل وعلا من غير دليل ولا مستند فهذا النوع لا يجوز لأنه تهجم على كلام رب العالمين والقاعدة المعروفة عند علماء السلف أنه لا يجوز صرف شيء من كتاب الله ولا سنة رسوله عن ظاهره المتبادر منه إلاّ بدليل يجب الرجوع إليه.(7/229)
وكل هذا الشر فاسمعوا أيها الإخوان نصيحة مشفق إنما جاء من مسألة وهي نجس القلب وتلطخه وتدنسه بأقذار التشبيه فإذا سمع ذو القلب المتنجس بأقذار التشبيه صفة من صفات الكمال أثنى الله بها على نفسه كنزوله إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الأخير كاستوائه على عرشه وكمجيئه يوم القيامة وغير ذلك من صفات الجلال والكمال أول ما يخطر في ذهن المسكين أن هذه الصفة تشبه صفة الخلق فيكون قلبه متنجساً بأقذار التشبيه لا يقدّر الله حق قدره ولا يعظم الله حق عظمته حيث يسبق إلى ذهنه أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق فيكون فيها أولاً نجس القلب متقذّر بأقذار التشبيه فيدعو شؤم هذا التشبيه إلى أن ينفي صفة الخالق جل وعلا عنه بادعاء أنّها تشبه صفات المخلوقين فيكون فيها أولاً مشبّهاً وثانياً معطّلاً ضلاًّ ابتداءً وانتهاءً متهجماً على ربّ العالمين ينفي صفاته عنه بادعاء أن تلك الصفة لا تليق. واعلموا أنّ هنا قاعدة أصولية أطبق عليها من يعتد به من أهل العلم وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة ولا سيما لو مشينا على فرضهم الباطل أن ظاهر آيات الصفات الكفر فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤول الاستواء (بالاستيلاء) ولم يؤول شيئاً من هذه التأويلات ولو كان المراد بها هذه التأويلات لبادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيانها لأنه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة فالحاصل أنه يجب على كل مسلم أن يعتقد هذا الاعتقاد الذي يحل جميع الشبه ويجيب عن جميع الأسئلة وهو أن الإنسان إذا سمع وصفاً وصف به خالق السماوات والأرض نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم امتلأ صدره من التعظيم فيجزم بأن ذلك الوصف بالغ من غايات الكمال والشرف والعلو ما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين فيكون القلب منزهاً معظماً له جل وعلا غير متنجس بأقذار التشبيه فتكون أرض قلبه قابلة للإيمان والتصديق(7/230)
بصفات الله التي تمدح بها أو أثنى عليه بها نبيه صلى الله عليه وسلم على غرار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، والشر كل الشر في عدم تعظيم الله وأن يسبق في ذهن الإنسان أن صفة الخالق تشبه صفة المخلوق فيضطر المسكين أن ينفي صفة الخالق بهذه الدعوى الكاذبة. ولا بد في هذا المقام من نقط يتنبه إليها طالب العلم:
أولاً: أن يعلم طالب العلم أنّ جميع الصفات من باب واحد إذ لا فرق بينها البتة لأن الموصوف بها واحد وهو جل وعلا لا يشبه الخلق في شيء من صفاتهم البتة فكما أنكم أثبتم له سمعاً وبصراً لائقين بجلاله لا يشبهان شيئاً من أسماع الحوادث وأبصارهم فكذلك يلزم أن تجروا هذا بعينه في صفة الاستواء والنزول والمجيء إلى غير ذلك من صفات الجلال والكمال التي أثنى الله بها على نفسه.
واعلموا أنّ ربّ السموات والأرض يستحيل عقلاً أن يصف نفسه بما يلزمه محذور أو يلزمه كحال أو يؤدي إلى نقص. كل ذلك مستحيل عقلاً. فإنّ الله لا يصف نفسه إلاّ بوصف بالغ من الشرف والعلو والكمال ما يقطع جميع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين على حد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
الثاني: أن يعلموا أنّ الصفات والذات من باب واحد فكما أننا نثبت ذات الله جل وعلا إثبات وجود وإيمان لا إثبات كيفية مكيفة فكذلك نثبت لهذه الذات الكريمة المقدسة صفات إثبات وإيمان ووجود لا إثبات كيفية وتحديد.(7/231)
واعلموا أنّ آيات الصفات كثير من الناس يطلق عليها اسم المشابهة وهذا من جهة غلط ومن جهة قد يسوغ كما يثبته الإمام مالك بن أنس. أمّا المعاني فهي معروفة عند العرب كما قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله:"الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والسؤال عنه بدعة ". كذلك يقال في النزول: النزول غير مجهول والكيف غير معقول والسؤال عنه بدعة، واطرده في جميع الصفات لأن هذه الصفات معروفة عند العرب إلاّ أن ما وصف به خالق السماوات والأرض منها أكمل وأجل وأعظم من أن يشبه شيئاً من صفات المخلوقين كما أن ذات الخالق جل وعلا حق والمخلوقون لهم ذوات وذات الخالق جل وعلا أكمل وأنزه وأجل من أن تشبه شيئاً من ذوات المخلوقين. فعلى كل حال الشر كل الشر في تشبيه الخالق بالمخلوق وتنجيس القلب بقذر التشبيه فالإنسان المسلم إذا سمع صفة وصف بها الله أول ما يجب عليه أن يعتقد أنّ تلك الصفة بالغة من الجلال والكمال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينها وبين صفات المخلوقين فيكون أرض قلبه طيّبة طاهرة قابلة للإيمان بالصفات على أساس التنزيه على نحو: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
وهنا سؤال لا بدّ من تحقيقه لطالب العلم أولاً: اعلموا أنّ المقرر في الأصول أنّ الكلام إن دلّ على معنى لا يحتمل غيره فهو المسمى نصاً كقوله مثلاً: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَة} ، فإذا كان يحتمل معنيين أو أكثر فلا يخلو من حالتين إمّا أن يكون أظهر في أحد الاحتمالين من الآخر وإمّا أن يتساوى بينهما فإن كان الاحتمال يتساوى بينهما فهذا الذي يسمى في الاصطلاح المجمل كما لو قلت: (عدا اللصوص البارحة على عين زيد) فإنه يحتمل أن تكون عينه الباصرة عوروها أو عينه الجارية غوروها أو عين ذهبه وفضته سرقوها فهذا مجمل. وحكم المجمل أن يتوقف عنه إلاّ بدليل على التفصيل. أمّا إذا كان نصاً صريحاً فالنص يعمل به ولا يعدل عنه إلاّ بثبوت النسخ.(7/232)
فإذا كان أظهر في أحد الاحتمالين فهو المسمّى بالظاهر، ومقابله يسمّى (محتملاً مرجوحاً) والظاهر يجب الحمل عليه إلاّ لدليل صارف عنه كما لو قلت: رأيت أسداً فهذا مثلاً ظاهر في الحيوان المفترس، محتمل في الرجل الشجاع، وإذاً فنقول: فالظاهر المتبادر من آيات الصفات من نحو قوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} . وما جرى مجرى ذلك، هل نقول الظاهر المتبادر من هذه الصفة هو مشابهة الخلق حتى يجب علينا أن نقول ونصرف اللفظ عن ظاهره أو ظاهرها المتبادر منها تنزيه ربّ السماوات والأرض حتى يجب علينا أن نقره على الظاهر من التنزيه.
الجواب: أن كل وصف أسند إلى ربّ السماوات والأرض فظاهره المتبادر منه عند كل مسلم هو التنزيه الكامل عن مشابهة الخلق فإقراره عن ظاهره هو الحق وهو تنزيه ربّ السماوات والأرض عن مشابهة الخلق في شيء من صفاته فهل ينكر عاقل أن المتبادر للأذهان السليمة أنّ الخالق ينافي المخلوق في ذاته وسائر صفاته لا والله لا يعارض في هذا إلاّ مكابر ثم بعد هذا البحث الذي ذكرنا نحب أن نذكر كلمة قصيرة لجماعة قرءوا في المنطق والكلام وظنوا نفي بعض الصفات من أدلة كلامية كالذي يقول مثلاً: لو كان مستوياً على العرش لكان مشابهاً للحوادث لكنه غير مشابه للحوادث ينتج فهو غير مستوٍ على العرش هذه النتيجة الباطلة تضاد سبع آيات من المحكم المنزل ولكننا الآن نقول في مثل هذا على طريق المناظرة والجدل المعروف عند المتكلمين. نقول: هذا قياس استثنى فيه نقيض التالي فأنتج منه نقيض المقدم حسب ما يراه مقيم هذا الدليل ونحن نقول: إنه تقرر عند عامة النظار أن القياس الاستثنائي المركب من شرطية متصلة لزومية يتوجه عليه القدح من ثلاث جهات:
1- يتوجه عليه من جهة استثنائيته.
2- ويتوجه عليه من جهة شرطيته إذا كان الربط بين المقدم والتالي ليس بصحيح.
3- ويتوجه عليه القدح من جهتهما معاً.(7/233)
وهذه القضية كاذبة الشرطية فالربط بين مقدمها وتاليها كاذب كذباً بحتاً ولذا جاءت نتيجتها مخالفة لسبع آيات.
وإيضاحه أن نقول: قولكم لو كان مستوياً على العرش لكان مشابهاً للحوادث هذا الربط بين لو واللام كاذب كاذب كاذب هو مستوٍ على عرشه كما قال من غير مشابهة للحوادث كما أن سائر صفاته واقعة كما قال من غير مشابهة للخلق ولا يلزم من استوائه على عرشه كما قال أن يشبه شيئاً من المخلوقين في صفاتهم البتة بل استواؤه صفة من صفاته وجميع صفاته منّزهة عن مشابهة الخلق كما أن ذاته منزهة عن مشابهة ذوات الخلق ويطرد هذا في مثل هذا. وعلى كل حال فالجواب عن شيء واحد من هذا يطرد في الكل وآخر ما نختم به هذه المقالة أنّا نوصيكم بتقوى الله وأن تلتزموا بثلاث آيات من كتاب الله.
الأولى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فتنزهوا ربّ السماوات والأرض عن مشابهة الخلق.
الثانية: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فتؤمنوا بصفات الجلال والكمال الثابتة بالكتاب والسنة على أساس التنزيه كما جاء {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} بعد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
الثالثة: أن تقطعوا أطماعكم عن إدراك حقيقة الكيفية لأن إدراك حقيقة الكيفية مستحيل وهذا نصّ الله عليه في سورة (طه) حيث قال: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} . فقوله: {يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} فعل مضارع والفعل الصناعي الذي يسمى بالفعل المضارع وفعل الأمر والفعل الماضي ينحل عند النحويين عن مصدر وزمن كما قال ابن مالك في الخلاصة:
المصدر اسم ما سوى الزمان من
مدلولي الفعل كأمن من أمن(7/234)
وقد حرر علماء البلاغة في مبحث الاستعارة التبعية أنه ينحل عن مصدر وزمن ونسبة فالمصدر كامن في مفهومه إجماعاً فيحيطون في مفهومها (الإحاطة) فيتسلط النفي على المصدر الكامن في الفعل فيكون معه كالنكرة المبنية على الفتح فيصير المعنى لا إحاطة للعلم البشري برب السماوات والأرض فينفي جنس أنواع الإحاطة عن كيفيتها فالإحاطة المسندة للعلم منفية عن ربّ العالمين، فلا يشكل عليكم بعد هذا صفة نزول ولا مجيء ولا صفة يد ولا أصابع ولا عجب ولا ضحك. لأن هذه الصفات كلها من باب واحد فما وصف الله به نفسه منها فهو حق وهو لائق بكماله وجلاله لا يشبه شيئاً من صفات أوضحه الله في كلمتين {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} تنزيه بلا تعطيل، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} إيمان بلا تمثيل. فيجب من أول الآية وهو {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} التنزيه الكامل الذي ليس فيه تعطيل ويلزم من قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الإيمان بجميع الصفات الذي ليس فيه تمثيل) فأول الآية تنزيه وآخرها إيمان ومن عمل بالتنزيه الذي في {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} والإيمان الذي في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وقطع النظر عن إدراك الكنه والكيفية المنصوص في قوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} خرج سالماً.
وقد ذكرت لكم مراراً أني أقول: هذه الأسس الثلاثة التي ركزنا عليها البحث وهي:
1- تنزيه الله عن مشابهة الخلق.
2- والإيمان بالصفات الثابتة بالكتاب والسنة وعدم التعرض لنفيها وعدم التهجّم على الله بنفي ما أثبته لنفسه.(7/235)
3- وقطع الطمع عن إدراك الكيفية. لو (متّم يا إخوان) وأنتم على هذا المعتقد، أترون الله يوم القيامة يقول لكم لم نزهتمونني عن مشابهة الخلق ويلومكم على ذلك لا وكلا والله لا يلومكم على ذلك، أترون أنه يلومكم على أنكم آمنتم بصفاته وصدقتموه فيما أثنى به على نفسه ويقول لكم لم أثبتم لي ما أثبته لنفسي أو أثبته لي رسولي؟ لا والله لا يلومكم على ذلك ولا يأتيكم عاقبة سيئة من ذلك، كذلك لا يلومكم الله يوم القيامة ويقول لكم: لم قطعتم الطمع عن إدراك الكيفية ولم تحددونني بكيفية مدركة. ثم أنا نقول: لو تنطّع متنطّع. وقال: نحن لا ندرك كيفية (نزول) منزهة عن نزول الخلق ولا ندرك كيفية (يد) منزهة عن أيدي الخلق ولا ندرك كيفية (استواء) منزهة عن استواءات الخلق فبينوا لنا كيفية معقولة منزهة تدركها عقولنا فنقول: أولاً هذا السؤال الذي قال فيه مالك بن أنس:"والسؤال عن هذا بدعة "ولكن نجيب ونقول أعرف أيها المتنطّع السائل الضال كيفية الذات المقدسة الكريمة المتصفة بصفة النزول وصفة اليد وصفة الاستواء وصفة السمع والبصر والقدرة والإرادة والعلم فلا بد أن نقول: لا فنقول: معرفة كيفية الصفة متوقفة على معرفة كيفية الذات إذ الصفات تختلف اختلاف موصوفاتها ونضرب مثلاً ولله المثل الأعلى. فإن الأمثال لا تضرب لله ولكن الأخرويات لا مانع منها كما جاء بها القرآن فنقول مثلاً كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله لفظة (رأس) الراء والهمزة والسين راس هذه الكلمة أضفها إلى المال وأضفها إلى الوادي وأضفها إلى الجبل فانظر ما صار من الاختلاف بين هذه المعاني بحسب هذه الإضافات وهذا مخلوق ضعيف مسكين فما بالك بالبون الشاسع الذي بين صفة الخالق جل وعلا وصفة المخلوق.
وختاماً يا إخواني نوصيكم وأنفسنا بتقوى الله وأن تتمسكوا بهذه الكلمات الثلاث:
1- أن تنزهوا ربكم عن مشابهة صفات الخلق.(7/236)
2- أن تؤمنوا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم إيماناً مبنياً على أساس التنزيه على نحو: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
3- وتقطعوا الطمع في إدراك الكيفية لأن الله يقول: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} .
ونريد أن نختم هذه المقالة بنقطتين: إحداهما أنه ينبغي للمؤمنين أن ينظروا في قوله تعالى لليهود: {وَقُولُوا حِطَّة} فإنهم زادوا في هذا اللفظ المنزل نوناً فقالوا: حنطة فسمى الله هذه الزيادة تبديلاً فقال في البقرة: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} ، وقال في الأعراف: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} . وكذلك المؤولون للصفات قيل لهم استوى، فزادوا لاماً، فقالوا: استولى. فانظر ما أشبه لامهم هذه التي زادوها بنون اليهود والتي زادوها، ذكر هذا ابن القيم، الثانية: أنه ينبغي للمؤمنين أن يتأملوا آية من سورة الفرقان وهي قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} . ويتأملوا معها قوله تعالى في سورة فاطر: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} فإن قوله في الفرقان: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} بعد قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَن} يدل دلالة واضحة أن الله الذي وصف نفسه بالاستواء خبير بما يصف به نفسه لا تخفى عليه الصفة اللائقة من غيرها ويفهم منه أن الذي ينفي عنه صفة الاستواء ليس بخبير. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(7/237)
تتمة دفع إيهام الإضطراب
لفضيلة الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
سورة الناس
قوله: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} لا يخفى ما بين هذين الوصفين اللذين وصف الله بهما هذا اللعين الخبيث من التنافي لأن الوسواس كثير الوسوسة ليضل بها الناس والخناس كثير التأخر والرجوع عن إضلال الناس. والجواب: أن لكل مقام مقالاً؛ فهو وسواس عند غفلة العبد عن ذكر ربه خناس عند ذكر العبد ربه تعالى كما دل عليه قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} الآية وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا} . الآية.
وقد تم بحمد الله تعالى ما أردنا جمعه بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم ونرجو الله تعالى أن يوفقنا وإخواننا المسلمين في الأقوال والأفعال وأن يجعل سعينا خالصاً لوجهه الكريم إنه قريب مجيب آمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(7/238)
الفتاوى
للشيخ عبد العزيز بن باز
سؤال من الأخ ص. ع.هـ يقول فيه: نسأل فضيلتكم عن امرأة تزوجت ابن عمها ولم يكتب الله في قلبها له مودة وقد خرجت من بيته منذ ثلاث عشرة سنة وحاولت منه الطلاق أو المخالعة أو الحضور معه إلى المحكمة فلم يرض بذلك وهي تبغضه بغضاً كثيراً تفضل معه الموت على الرجوع إليه, وقد أسقطت نفسها من السطح لما أراد أهلها الإصلاح بينها وبينه فما الحكم؟
والجواب: مثل هذه المرأة يجب التفريق بينها وبين زوجها المشار إليه إذا دفعت إليه جهازه لقول النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس لما أبغضته زوجته وطلبت فراقه وسمحت برد حديقته إليه: "أقبل الحديقة وطلقها تطليقة" رواه البخاري في صحيحه؛ ولأن بقاءها في عصمته والحال ما ذكر يسبب عليها إضراراً كثيرة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" ولأن الشريعة جاءت بتحصيل الصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها ولا ريب أن بقاء مثل هذه المرأة في عصمة زوجها المذكور من جملة المفاسد التي يجب تعطيلها وإزالتها والقضاء عليها وإذا امتنع الزوج عن الحضور مع المرأة المذكورة إلى المحكمة وجب على الحاكم فسخها من عصمته إذا طلبت ذلك وردت عليه جهازه للحديثين السابقين وللمعنى الذي جاءت به الشريعة واستقر من قواعدها وأسأل الله أن يوفق قضاة المسلمين لما فيه صلاح العباد والبلاد ولما فيه ردع الظالم من ظلمه ورحمة المظلوم وتمكينه من حقه وقد قال الله سبحانه: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} .
وهذه عدة أسئلة من الأخ م. ع. ف
السؤال الأول: دخلت مستشفى لعلاج عيني وأجريت لعيني عملية وعصبت وتعذر حصولي على تراب للتيمم فتوضأت وتركت العين فما الحكم؟(7/239)
الجواب: الصلاة صحيحة من أجل العذر لعدم وجود التراب وعدم القدرة على غسل العين لكن إذا أمكن مسح الجرح والجبيرة التي عليه عند غسل عضوه كفى ذلك عن التيمم فإن لم يتيسر ذلك خوفاً من مضرة الماء وجب التيمم مع القدرة.
السؤال الثاني: كنت في رحلة إلى لندن ولم أجزم بالجلوس مدة معينة في باديء الأمر فصليت الصلاة قصراً وجمعاً ثم لما جزمت بالجلوس مدة معينة أتممت الصلاة فما الحكم؟
الجواب: هذا الذي فعلته هو قول أكثر أهل العلم وحكاه ابن المنذر إجماعاً وقد دلت السنة الصحيحة على أن المسافر يشرع له القصر في السفر وهكذا يشرع له الجمع بين الصلاتين عند وجود سببه إذا كان لم ينو إقامة معينة أما إذا نوى إقامة معينة تزيد على أربعة أيام وجب عليه الإتمام عند الأكثر وقال بعض أهل العلم له القصر ما دام لم ينو الاستيطان في ذلك الموضع وإنما أقام لعارض متى زال سافر وهو قول قوي تدل عليه أحاديث كثيرة وبكل حال فقد أحسنت فيما فعلت لأنك بالإتمام لما نويت الإقامة المعينة الزائدة على أربعة أيام خرجت من الخلاف وأخذت بالأحوط.
السؤال الثالث: عندما أردت التوجه إلى جدة كان في نيتي أداء نسك العمرة ثم فسخت هذه النية بعد ما ركبت الطائرة وجددت نية أخرى هي أنه إن اضطررت إلى الذهاب إلى مكة أحرمت بالعمرة من جدة وقد اضطررت للتوجه إلى مكة المكرمة ولكن فسخت نية العمرة أيضاً لأن ذلك يشق علي فما الحكم؟
الجواب: ليس عليك شيء لأن العمرة إنما تجب من الميقات فما دونه على من نواها أما من لم ينوها فليس عليه شيء ولكن إذا كنت لم تعتمر عمرة الإسلام فالواجب عليك أداؤها لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما وقت مواقيت الحج والعمرة لأهل الأمصار وقال: "هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة" الحديث متفق على صحته.
سؤال من الأخ س. ل. ق:(7/240)
يوجد في الأسواق أشخاص يتقدم إلى أحد الدكاكين ثم يشتري الدكان من صاحبه جزافاً، والدكان يوجد فيه من الأقمشة الرجالية والنسائية والغتر من جميع الأنواع فهل هذا البيع والشراء صحيح أم فيه نوع من الجهالة، نرجو التكرم بالجواب الشافي، وكذلك متع الله بحياتكم على طاعته يأتينا مندوبون من بعض المحلات ويتفقون معنا على مشتري سلعة ثم عندما يتم الاتفاق يطلبون أن نسلمهم ورقة رسمية مثل هذه الورقة التي فيها خطنا هذا بدون أن نكتب نحن فيها شيئاً وإذا رفضنا تسليم الورقة ينكل عن مشتري السلعة فهل يجوز لنا أن نسلمه ورقة بيضاء وهو يتصرف فيها يكتب ما يريد ولا تفوتنا البيعة أفتونا وفقكم الله للأعمال الصالحة اهـ.
الجواب: عن السؤال الأول أن يقال البيع المذكور صحيح إذا كان المشتري قد عرف المال الذي في الدكان وقبله وكان على بصيرة منه أما إن كان حين الشراء لا يعرف حقيقة المال وإنما اشتراه جزافاً فالبيع غير صحيح لما فيه من الغرر وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الغرر كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الملامسة والمنابذة وبيع الحصاة لما في ذلك من الغرور، والملامسة هي أن يقول البائع للمشتري أي ثوب لمسته أو لمسة فلان فهو عليك بكذا والمنابذة أن يقول للمشتري أي ثوب نبذته إليك أو نبذه إليك فلان فهو عليك بكذا، وبيع الحصاة هو أن يقول البائع أي بقعة أو أي ثوب وقعت عليها أو عليه الحصاة فهو عليك بكذا وما أشبه هذا التصرف فهو في حكمه بجامع الغرر لكون المشتري لم يدخل في المعاملة على بصيرة بحقيقة المبيع، والله سبحانه أرحم بعباده من أنفسهم ولهذا نهاهم سبحانه عما يضرهم في المعاملات وغيرها.(7/241)
أما السؤال الثاني: وهو هل يجوز إعطاء من يريد شراء سلعة ورقة بيضاء ليكتب فيها ما يريد من صفقة العقد إلى آخر هـ فجوابه أن يقال مثل هذا لا يجوز لأن الظاهر من حال هؤلاء الذين يتقدمون بطلب بعض الأوراق الرسمية ليكتبوا فيها ما شاءوا من الثمن الخيانة والغش لمن وكلهم، وبذلك يكون إعطاؤهم الأوراق الرسمية معاونة لهم على الإثم والعدوان، والله سبحانه يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ، نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين ويوفقهم لأداء الأمانة والحذر من الخيانة إنه خير مسئول.(7/242)
أخبار الجامعة
قام سماحة رئيس الجامعة للإسلامية الشيخ عبد العزيز بن باز بزيارة تفقدية للمعهد الثانوي ومعهد الدراسة المتوسطة وشعبة تعليم اللغة العربية بالجامعة. يرافقه مدير المعهد الأستاذ عبد الله الفوزان وبعض مدرسي المعهد.
غادرنا إلى الرياض الأستاذ محمد العثمان العمر مدير شئون الموظفين بالجامعة الإسلامية وذلك لتمثيل الجامعة في الاجتماع الذي سيعقد بمقر وزارة المعارف وذلك لدراسة كيفية ترحيل المدرسين وإعادتهم ضماناً لعدم تأخرهم.
باشر عمله في الجامعة في الجامعة كل من: الأستاذ عبد العزيز بن ناصر مدير مكتب رئيس الجامعة الإسلامية، والأستاذ محمد بن عبد اللطيف رئيس التحرير بالجامعة، وذلك بعد أن أتما دورتهما في معهد الإدارة العام لمدة ستة شهور بدأت من شعبان لعام 92 هـ.
قام الوفد الطلابي الماليزي بزيارة للجامعة الإسلامية بالمدينة وقد تجول الوفد في الكليات المختلفة بالجامعة الإسلامية والمعاهد والمكتبة العامة بها. ثم اجتمع الوفد بسماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز وقد ارتجل سماحته كلمة ضافية تحدث فيها عن الشباب وما يجب عليهم وحثهم على التمسك بالكتاب والسنة وقد قام رئيس الوفد الأستاذ أحمد عبد الله فارتجل كلمة شكر فيها سماحة رئيس الجامعة والجامعة لما أبدته.
وفي ختام الزيارة قدمت لهم بعض الكتب والنشرات والمجلات هدية من الجامعة.
اجتمع مجلس كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية برئاسة فضيلة الشيخ محمد بن صالح المرشد عميد كلية الشريعة وذلك لدراسة بعض المشاكل الخاصة بالطلاب تمهيداً لرفعها لمجلس الجامعة الإسلامية الموقر للبث فيها.
لجنة القبول والمعادلات تعمل هذه الأيام باستمرار وذلك لدراسة أكبر عدد ممكن من طلبات الالتحاق التي ترد للجامعة هذه الأيام بشكل ملفت للنظر بلغت الآلاف.(7/243)
عاد إلى المدينة المنورة الوفد الطلابي الذي قام بزيارة خاصة للكليات والمعاهد والجامعات والمؤسسات الدينية في كل من مكة المكرمة والطائف وجده بعد أن استغرقت الزيارة حوالي أسبوع.
قام بزيارة الجامعة الإسلامية الحاج محمود بن الحاج إسماعيل نعيم ضابط العلاقات العامة لمؤسسة التوفير والادخار لشئون الحجاج لحكومة ماليزيا والشيخ محمد جعفر من الجامعة العلمية الإسلامية في كراتشي بالباكستان وبعد أن تجول الجميع في كافة أنحاء الجامعة أهدت الجامعة إليهم بعض الكتب والمجلات.
صدر قرار مجلس الوزراء الموقر بترفيع الأستاذ عبد الله الفوزان مدير المعهد الثانوي بالجامعة إلى المرتبة التاسعة مبروك.
أصدر فضيلة الأمين العام للجامعة الشيخ محمد بن ناصر العبودي تعميماً لكافة رؤساء الأقسام الإدارية والتعليمية في الجامعة يقضي بأن على رئيس كل قسم أن يقدم اقتراحاً بلائحة تنظيمية لقسمه على ضوء التجربة مع كافة الاحتياجات اللازمة. هذا وسيعقد في مكتب الأمين العام اجتماع يضم كافة رؤساء الأقسام لمناقشة الاقتراحات وإصدار لائحة تنظيمية حديثة تضمن سرعة سير العمل على الوجه المطلوب في كافة أقسام الجامعة.
قام وفد من معهد النور بعنيزة يمثل 22 طالباً و4 من المدرسين والمشرفين ومندوب من معهد النور بالمدينة بزيارة للجامعة الإسلامية وقد استمع الجميع إلى كلمة ارتجلها فضيلة الأمين العام للجامعة بمكتبه ثم تجولوا في أقسام الجامعة.
وفي ختام الزيارة أمر فضيلة الأمين العام بتوزيع مجلة الجامعة عليهم.(7/244)
اجتمعت يوم أمس برئاسة فضيلة الأمين العام للجامعة لجنة خاصة لدراسة أوضاع الطلاب المتخرجين من الجامعة وكيفية الاتصال بهم. ليكونوا على اتصال دائم بالجامعة لتزودهم بالكتب والنشرات وهم بدورهم يقومون بتزويد الجامعة بتقاريرهم ونشاطاتهم في مختلف الجهات هذا وقد اشترك في هذه اللجنة مساعد الأمين العام للشئون الإدارية وعميد كلية الدعوة وأصول الدين، ومساعد الأمين للشئون التعليمية ومدير العلاقات العامة. وقد اتخذت محضراً بذلك، وقد أسندت هذه المهمة لإدارة العلاقات العامة بالجامعة وسيدعم هذا القسم بالموظفين الأكفاء ليقوموا بالعمل المطلوب على أحسن وجه.
صدر قرار مجلس الوزراء الموقر بترفيع فضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم المدرس بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة إلى الرتبة الثانية عشر على وظيفة مستشار. تهانينا.
أجرى ديوان الموظفين العام مسابقة عامة للوظائف الشاغرة في منطقة المدينة المنورة. ونظراً لكثرة الطلبات فقد طلب من الجامعة الإسلامية أن تتم المسابقة فيها وقد استجابت الجامعة لهذا الطلب وتمت المسابقة في اليومين الماضيين تحت إشراف مندوبين من ديوان الموظفين العام والدوائر المعنية في المدينة.
إدارة الامتحانات بالجامعة الإسلامية تعمل هذه الأيام بجد ونشاط ملموسين وذلك استعداداً للامتحانات التي ستبدأ قريباً.
غادرنا إلى الرياض الأستاذ عبد الله محمود الباحثون مدير الشئون المالية بالجامعة الإسلامية وذلك لبحث بعض مشاريع الجامعة لدى الأشغال العامة للعام المالي 93 /94 ويقوم بأعمال مدير الشؤون المالية بالنيابة رئيس المحاسبة الأستاذ محمد عمران دهيثم.(7/245)
بدأت الطلبات من سفارات جلالة الملك للجامعة بإرسال أعداد مجلة الجامعة الإسلامية نظراً للطلبات التي تنهال على السفارات بطلب المجلة. هذا وقد أمر سماحة رئيس الجامعة بتزويد وزارة الخارجية بكمية مناسبة لإرسالها للسفارات في الخارج.
بدأت اللجان الخاصة بمناقشة البحوث العائدة لطلاب السنوات النهائية في كلتي الشريعة والدعوة وأصول الدين بالعمل باستمرار وذلك لإنهاء البحوث قبل بدء الامتحانات.
لجنة توزيع الكتب على أبناء العالم الإسلامي توالى نشاطها هذه الأيام برئاسة الشيخ عمر محمد مساعد الأمين العام وذلك بدراسة الطلبات تمهيداً لإرسال كميات من الكتب إلى الجمعيات والمدارس في إفريقيا وغيرها.
قام بزيارة الجامعة الإسلامية بالمدينة الوفد الإعلامي العماني ويتكون الوفد من الأستاذ حفيظ بن سالم الغساني المستشار الصحفي لجلالة السلطان قابوس سلطان - عمان الأستاذ بدر بن سالم العبري، رئيس قسم التراث في وزارة الإعلام بعمان. الأستاذ عبد العزيز محمد رواس، مدير مكتب الإعلام في ظفار بسلطنة عمان الأستاذ عبد الله صخر العامري، مدير الإذاعة العمانية يرافقهم مدير العلاقات العامة في وزارة الإعلام. الأستاذ محمد عبد الرحمن القرعاوي.
وقد تجول الوفد في كافة أقسام الجامعة ومكاتبها وكلياتها ومكتباتها يصحبهم مدير العلاقات العامة في الجامعة وبعد أن اجتمع الوفد بفضيلة الأمين العام الشيخ محمد العبودي قدمت الجامعة للوفد كمية من الكتب والمجلات هدية رمزية بمناسبة الزيارة وقد غادر الوفد الجامعة في حوالي الساعة الخامسة ظهراً.
صدر قرار مجلس الوزراء الموقر بترفيع كل من فضيلة الشيخ حماد الأنصاري المدرس في كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية إلى الرتبة الثامنة.. تهانينا.
وفضيلة الشيخ عمار مختار الأخضري المدرس في دار الحديث التابعة للجامعة إلى الرتبة السابعة.(7/246)
غادر المدينة ضيف الجامعة الإسلامية فضيلة الدكتور حسين جعفري ومرافقه الأستاذ إبراهيم القاضي مندوب العلاقات الثقافية بجامعة الرياض متوجهين إلى جامعة الملك عبد العزيز بجدة.(7/247)
أضواء من التفسير
للشيخ: عبد القادر شيبة الحمد
المدرس بكلية الشريعة
قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ, فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ، رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} .
المناسبة: لما قص الله تعالى قصة داود عليه السلام وبين فضل الله على عباده الصالحين، ذكر قصة ولده سليمان عليه السلام لأنه من تمام نعمة الله على داود عليه السلام، ولزيادة تقرير الغرض الذي سيقت من أجله قصة داود عليه السلام وهو طمأنينة قلب النبي صلى الله عليه وسلم.
المفردات: {وَهَبْنَا} أعطينا ومنحنا {الْعَبْدُ} الخاضع لربّه يعني سليمان {إِنَّهُ} أي سليمان {أَوَّابٌ} رجّاع إلى الله {عُرِضَ} أمر {عَلَيْهِ} على سليمان {بِالْعَشِيِّ} هو ما بعد الزوال {الصَّافِنَاتُ} هي الخيل جمع صافنة وهي القائمة على ثلاث وقد أقامت الرابعة على طرف الحافر استعداداً للجري {الْجِيَادُ} جمع جواد أو جمع جود كثوب يطلق على الذكر والأنثى والمراد: السريع السابق الخفيف في الجري وهو بهذين الوصفين المحمودين فيها واقفة وجارية {الْجِيَادُ} آثرت {الْخَيْرِ} الخيل كما حكي عن قتادة والسدي وقيل المال والظاهر الأول {حَتَّى} إلى أن {تَوَارَتْ} اختفت واستترت {بِالْحِجَابِ} بما أشرف من الجبل أو الإصطبلات والظاهر الأول {رُدُّوهَا} أرجعوها والضمير المنصوب للخيل والمأمور بالرد ساستها {طَفِقَ} شرع {مَسْحاً} إمراراً بيده على ما يلطّخ بالغبار لإذهابه وإزالته {بِالسُّوقِ} جمع ساق وهو ما بين الكعب والركبة {الأَعْنَاقِ} الرقاب.(7/248)
التراكيب: قوله {وَوَهَبْنَا} الواو استئناثية. وقوله {نِعْمَ الْعَبْدُ} المخصوص بالمدح محذوف والتقدير هو أي سليمان. وقيل المخصوص بالمدح داود والظاهر الأول. وقوله {إِنَّهُ أَوَّابٌ} تعليل للمدح والضمير لسليمان وقوله {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ} العامل في إذ قيل: اذكر, والمراد من ذكر الوقت ذكر ما وقع فيه. وقيل: هو ظرف لأوّاب أو لنعم والظاهر الأول والضمير في عليه لسليمان وقوله {بِالْعَشِيِّ} الباء للظرفية. والصافنات نائب فاعل وإنّما أخر للتشويق. والصافنات الجياد وصفان يوصف بهما المذكر والمؤنث من الخيل وقوله: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} التعقيب باعتبار أواخر العرض دون أوله. وإنما أكد بأن للدلالة على أن اعترافه من صميم القلب و {حُبَّ الْخَيْرِ} مفعول به لأحببت لتضمنه معنى آثرت. وعن للتعليل كقوله: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} وذكر ربي مصدر مضاف لفاعله أي آثرت حب الخيل بسبب ذكر ربي لها، وثنائه عليها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة". ولعل سبب تسميتها بالخير لغلبة خيرها وجليل منافعها.(7/249)
وقوله: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} حتى للغاية بمعنى إلى أن, وهذه الغاية لمقدر مفهوم من السياق تقديره: واستمرت تعرض عليه حتى توارت بالحجاب, والفاعل في توارت ضمير الصافنات الجياد. وقول: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} ضمير الفاعل للساسة وضمير المفعول للخيل، والكلام على إضمار القول، والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً كأن سائلاً سأل: فماذا قال سليمان؟ فقيل: قال: ردّها، وقوله تعالى: {فَطَفِقَ مَسْحاً} الفاء للعطف على مقدر مفهوم من السياق تقديره: فردوها فطفق مسحاً.. وإنما حذفت هذه الجملة لظهورها ولبيان سرعة الامتثال كما في قوله: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} . أي فضرب فانفجرت مننه وطفق من أفعال الشروع، ويندر أن يكون خبرها غير مضارع واسم طفق ضمير سليمان عليه السلام، ومسحاً مفعول مطلق لفعل مقدر هو خبر طفق، وتقديره فطفق يمسح مسحاً. فإن قيل فيه حذف عامل المصدر المؤكد وهو ممتنع عند ابن مالك، أجيب بأنه ليس بمؤكد بل هو مفعول مطلق مبين للنوع لتعلق ما بعده به وهو بالسوق أي فطفق يمسح مسحاً كائناً بسوق الخيل وأعناقها. وأعرب أبو البقاء {مَسْحاً} على أنه مصدر في موضع الحال أي ماسحاً وهو مردود لاحتياج طفق للخبر. وإنما مسح سوقها وأعناقها لأن العرق أكثر ظهوراً فيها فتتلطخ بالغبار فصار عليه السلام لحبه لها ورفقه بها وشفقته عليها شمر عليها يده لإزالة ما تلطخ بها.(7/250)
وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى طريق شائكة فزعموا أن سليمان عليه السلام استعرض الخيل بعد الزوال حتى غابت الشمس ولها بها عن صلات العصر وكانت له، فقال للملائكة: "ردوا الشمس علي"فردوها عليه فصلى العصر ثم شرع يقطع سوق الخيل وأعناقها لأنها هي التي شغلته عن الصلاة ثم تصدق بلحمها فأعطاه الله خيراً منها وأسرع وهي الريح تجري بأمره رخاءً حيث أصاب. ويفسرون {أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} بأن معناها أحببت الخيل عن الصلاة.
وهذا باطل عاطل فما يكون لسليمان الذي قال الله فيه: {نِعْمَ الْعَبْدُ} أن يحب الدنيا وما فيها عن ذكر الله. وما يكون لسليمان أن يقطع سوق الخيل وأعناقها. وما ذنب الخيل إن كان سليمان اشتغل عن صلاة العصر كما يذهب هؤلاء؟ والله تعالى يقول: {مَسْحاً} ويأبى هؤلاء إلاّ أن يقولوا قطعاً.
المعنى الإجمالي: ومنحنا لداود سليمان ولداً له وخليفة من بعده أنه يمدح لكثرة رجوعه إلى ربّه. اذكر يا محمد وقت أن مر على سليمان في وقت العش الخيل العجيبة في وقوفها وجريها. لقد أظهر شعوره نحوها وانطلق قائلاً: "إني آثرت حب الخيل بسبب أن الله ذكرها لي وأثنى عليها"، فلما بلغت غايتها، واستترت بما أشرف من بعض الجبال أو دخلت اصطبلاتها نادى ساستها فقال: أرجعوها إلي. فأرجعوها إليه فشرع يمسح سوقها وأعناقها ليزيل ما عليها من الغبار رحمة بها وشفقة عليها وحباً لها.
ما ترشد إليه الآيات:
1- أن سليمان ابن داود.
2- أنه خليفته من بعده.
3- ثناء الله على سليمان.
4- كثرة عبادته.
5- حرصه على الجهاد.
6- استعراض الخيل.
7- استحباب اختيار الأصناف الجيدة من الخيل.
8- إعلان حب ما يحبه الله.
9- سرعة امتثال ساسة الخيل لسليمان.
10- تواضعه عليه السلام.(7/251)
قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ، قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ، فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ، وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ، هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} .
المناسبة: بعد أن مدح سليمان وأثنى عليه وبين حرصه على الخيل التي هي آلة جهاد أعداء الله، ذكر قصة فتنته عليه السلام التي كان سببها شدة حرصه على الجهاد أيضاً.
القراءة: قرأ الجمهور: {الرِّيحَ} بالإفراد وقرىء: (الرياح) بالجمع، وقرأ الجمهور: {وَحُسْنَ مَآبٍ} بالنصب وقريء بالرفع.
المفردات:(7/252)
{فَتَنَّا} اختبرنا وابتلينا, وذلك بأنه حلف ليطوفنّ على أربعين أو سبعين امرأة من نسائه تأتي كل واحدة منهنّ بفارس يحمل السلاح ويجاهد في سبيل الله عز وجل ولم يقل إن شاء الله فطاف عليهنّ فلم تحمل إلاّ امرأة جاءت بشق رجل فأخذ وألقى على كرسيه، وقد روى ذلك البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة مرفوعاً وفيه: "والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسان أجمعون"، وفي البخاري: "إن الملك قال له قل إن شاء الله فلم يقل". {أَلْقَيْنَا} طرحنا، {كُرْسِيِّهِ} سرير ملكه، {جَسَداً} جسم إنسان، {أَنَاب} رجع، {وَهَبْ لِي} أعطني وامنحني، {مُلْكاً} سلطاناً، {لا يَنْبَغِي} لا يكون، {مِنْ بَعْدِي} سواي، {فَسَخَّرْنَا} فذللنا، {بِأَمْرِهِ} بطلبه، {رُخَاءً} لينة، {أَصَابَ} قصد, وأراد بلغة هجر وحمير وعن رؤبة أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن معنى هذه الكلمة فقال لهما: "أين تصيبان؟ فقالا: هذه طلبتنا ورجعا". وعلى هذه اللغة قول الشاعر:
فأخطأ الجواب لدى المفصل
أصاب الكلام فلم يستطع
{الشَّيَاطِينَ} جمع شيطان وأصله المتمرد من الجن والإنس والدواب مأخوذ من شطن بمعنى بعد كقول الشاعر:
فبانت والفؤاد بها رهين
نأت بسعاد عنك نوى شطون
والتمرد بعدت خلاله عن الخير فسمي شيطاناً. والمراد به هنا شيطان الجن خاصة {غَوَّاصٍ} فعال من الغوص وهو: النزول تحت الماء لاستخراج اللؤلؤ {مُقَرَّنِينَ} مجموعين مشدودين إلى بعض {الأَصْفَادِ} القيود {فَامْنُنْ} أي أطلق.(7/253)
التراكيب: قوله: {ثُمَّ أَنَابَ} عطف على فتنا. وإنما عطف بثم للإشارة إلى استمرار إنابته وامتدادها أو لأنه عليه السلام لم يعلم بالفتنة عقيب وقوعها. وقوله: {قَالَ} بدل من أناب ويجوز أن يكون استأنافاً بيانياً، كأنه قيل: كيف كانت إنابته؟ فأجيب: قال رب اغفر لي. وقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} تعليل للإستيهاب، وضمير الفصل للتأكيد والفاء في قوله: {فَسَخَّرْنَا} تفريعية؛ لتفريع التسخير على طلبه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده.
وقوله: {الرِّيحَ} على قراءة الجمهور بالإفراد وهو في معنى الجمع لكونه اسم جنس وقوله {تَجْرِي بِأَمْرِهِ} يحتمل أن تكون حالاً من الريح أي جارية ويحتمل أن تكون بياناً أو تفسيراً لتسخيرها له, وقوله: {بِأَمْرِهِ} مضاف لفاعله والباء للسببية, وقوله: {رُخَاءً} حال من فاعل تجري وهي الريح وقوله: {والشَّيَاطِينَ} معطوف على الريح, وقوله: {كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} بدل من الشياطين وقوله {وَآخرَِينَ} عطف على كل داخل معه في البدل لأن كل بناء وغواص بدل كل من كل بدل التفصيل وليس معطوفاً على الشياطين لأنهم منهم وليس معطوفاً أيضاً على بناء وغواص لأنه مضاف إلى كل ولا يحسن فيه إلاّ الإضافة على مفرد منكر أو جمع معرّف وقوله: {هَذَا عَطَاؤُنَا} يجوز أن يكون مقولاً لقول مقدر معطوف على سخرنا أو حال من فاعله فتقديره على الأول: فسخرنا وقلنا, وعلى الثاني: فسخرنا قائلين, والإشارة إلى الموهوب وقوله: {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} يجوز في الفاء أن تكون جزائية وبغير حساب إمّا متعلق بامنن أو أمسك ويجوز أن يكون حالاً من فاعلها والتقدير فامنن أو أمسك حال كونك غير محاسب عليه ويجوز أن يكون بغير حساب حالاً من {عَطَاؤُنَا} والعامل ما دل عليه هذا من معنى الإشارة كقوله: {َهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} وعلى هذا فالفاء داخلة على جملة اعتراضية كقوله:
أن سوف يأتي كل ما قدر(7/254)
واعلم - فعلم المرء ينفعه -
وقوله: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى} جملة حالية من فاعل سخرنا وقوله: {وَحُسْنَ مَآبٍ} بالنصب عطف على زلفى وبالرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف تقديره له.
المعنى الإجمالي: ولقد بلونا هذا العبد الصالح واختبرناه وطرحنا على سريره شق ولد ثم رجع إلى ربه قال: سيدي ومالكي ومصلح شأني استر علي وامنحني سلطاناً لا يكون لشخص سواي إنك أنت كثير العطاء فذلّلنا له الريح تسير بسبب أمره لها سرعة لينة طيبة إلى أي جهة قصدها وهذا عند حبه للينها أما إذا أرادها شديدة عاصفة فإنها تكون كذلك كما قال: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} وسخرنا له مردة الجنّ يصرف بعضهم في الأعمال الشاقة من البناء والغوص لاستخراج اللآلئ وآخرين يقيدهم بالقيود وقلنا هذا الموهوب منحة لك منّا وإذا كان كذلك فتصرف فيه بلا حساب عليك لقد سخرنا له هذا في الدنيا والحال أن له عندنا لدرجة عالية وجميل مرجع.
ما ترشد إليه الآيات: 1- فتنة سليمان 2- أن إلقاء الجسد على كرسيه كان من الفتنة 3- رجوعه إلى ربه 4- أن طلب التسلط للغرض الشريف جائز 5- لم يكن طلب سليمان ملكاً لا ينبغي لأحد سواء من باب الأثرة الممقوتة والأنانية 6- إجابة دعوة سليمان عليه السلام 7- تسخير الريح بهذه الصفة مخصوص لسليمان 8- وأن الريح كانت منوعة رخاء وعاصفة 9- تسخير الشياطين لسليمان 10- وهذه التسخير من خصوصياته 11- إطلاق يده 12- درجته العالية في الدنيا والآخرة.(7/255)
من أعلام المحدثين
أبو زرعة الرازي (200-264 هـ)
بقلم الشيخ: عبد المحسن العباد
المدرس في كلية الشريعة بالجامعة
نسبه وكنيته ونسبته:
هو عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ.
كنيته أبو زرعة وقد اشتهر بهذه الكنية.
يقال له الرازي نسبة إلى الري بزيادة زاي وهي بلده ويقال له القرشي المخزومي نسبة إلى قبيلة نسبة ولاء وهو عياش بياء مثناه من تحت وآخره شين معجمة ابن مطرّف القرشي هكذا في المنهج الأحمد وتاريخ بغداد وتهذيب التهذيب أما كتاب الجمع بين رجال الصحيحين وطبقات الحنابلة ففيهما عباس بموحدة ومهملة.
ممن روى عنهم:
رحل أبو زرعة إلى الحرمين والعراق والشام والجزيرة وخراسان ومصر وروى عن كثيرين فروى عن أبي عاصم وأبي نعيم وقبيصة بن عقبة ومسلم بن إبراهيم وأبي الوليد الطيالسي وأحمد بن يونس وخلاد بن يحيى والقعنبي ومحمد بن سعيد بن سابق وأبي ثابت المدني وأبي سلمة التبوذكي والحكم بن موسى ويحيى بن عبد الله بن بكير وخلق كثير سواهم.
ممن رووا عنه:
روى عنه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وإسحاق بن موسى الأنصاري وحرملة بن يحيى والربيع بن سليمان ومحمد بن حميد الرازي وعمرو بن علي ويونس بن عبد الأعلى وغيرهم.
من خرج حديثه:
خرج حديثه مسلم في صحيحه والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم كل منهم روى عنه مباشرة والذي أخرجه مسلم في صحيحه عنه حديث واحد أخرجه في أول كتاب الرقاق وهو حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك".(7/256)
وقال النووي في شرحه (17-54) وهذا الحديث رواه مسلم عن أبي زرعة الرازي أحد حفاظ الإسلام وأكثرهم حفظاً ولم يروي مسلم في صحيحه عنه غير هذا الحديث وهو من أقران مسلم توفي بعد مسلم بثلاث سنين سنة أربع وستين ومائتين انتهى وقد أشار الخزرجي في الخلاصة إليه فقال: وعنه مسلم فرد حديث ونقل الحافظ بن حجر في ترجمته في تهذيب التهذيب أن مسلماً روى عنه حديثين.
ثناء الأئمة عليه:
لأبي زرعة الرازي من ثناء الأئمة حظ وافر ونصيب كبير فقد ذكروه بخير وأثنوا عليه في دينه وورعه وقوة حفظه وسعة علمه قال فيه النسائي:"ثقة "وقال أبو حاتم:"إمام "وقال الخطيب:"كان إماماً رزيناً حافظاً مكثراً صادقاً "وقال عبد الله بن أحمد:"لما قدم أبو زرعة نزل عند أبي وكان كثير المذاكرة له فسمعت أبي يقول يوماً: ما صليت غير الفرض استأثرت بمذاكرة أبي زرعة "وقال عبد الله بن أحمد:"سمعت أبي يقول ما جاوز النهر أفقه من إسحاق ولا أحفظ من أبي زرعة "وقال صالح بن محمد عن أبي زرعة:" أنا أحفظ عشرة آلاف حديث في القراءات "وقال أيضاً:"سمعت أبا زرعة يقول: كتبت عن إبراهيم بن موسى الرازي مائة ألف حديث وعن أبي بكر بن أبي شيبة مائة ألف حديث "وقال أبو يعلى الموصلي:" ما سمعت يذكر أحد في الحفظ إلاّ كان اسمه أكبر من رؤيته إلاّ أبا زرعة فإن مشاهدته كانت أعظم من اسمه "وقال أبو جعفر التستري:"سمعت أبا زرعة يقول: ما سمعت أذني شيئاً من العلم إلاّ وعا قلبي وإن كنت لأمشي في السوق بغداد فأسمع من الغرف صوت المغنيات فأضع أصبعي في أذني مخافة أن يعيه قلبي "وقال أبو حاتم:"حدثني أبو زرعة وما خلف بعده مثله علماً وفقهاً وفهماً وصيانة وصدقاً ولا أعلم في المشرق والمغرب من كان يفهم هذا الشأن مثله "قال:"وإذا رأيت الرازي ينتقص أبا زرعة فاعلم أنه مبتدع " وروى البيهقي عن ابن وارة قال:"كنا عند إسحاق بنيسابور فقال رجل: سمعت أحمد يقول صح من الحديث سبعمائة ألف(7/257)
حديث وكسر وهذا الفتى يعني أبا زرعة قد حفظ ستمائة ألف حديث "وقال محمد ابن جعفر بن حمكويه:"قال أبو زرعة: أحفظ ستمائة ألف حديث كما يحفظ الإنسان قل هو الله أحد "وقال ابن حبان في الثقات:"كان أحد أئمة الدنيا في الحديث مع الدين والورع والمواظبة على الحفظ والمذاكرة وترك الدنيا وما فيه الناس"وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ:"الإمام حافظ العصر"وقال:"كان من أفراد الدهر حفظاً وذكاء ًوديناً وإخلاصاً وعلماً وعملاً "وقال أبو بكر بن أبي شيبة:"ما رأيت أحفظ من أبي زرعة "وقال علي بن الجنيد:"ما رأيت أعلم من أبي زرعة "وقال يونس بن عبد الأعلى:"ما رأيت أكثر تواضعاً من أبي زرعة "وقال بن كثير في البداية والنهاية:"أحد الحفاظ المشهورين "قيل أنه كان يحفظ سبعمائة ألف حديث وكان فقيهاً ورعاً زاهداً عابداً متواضعاً خاشعاً أثنى عليه أهل زمانه وشهدوا له بالتقدم على أقرانه وقال ابن الجوزي في صفة الصفوة:"كان من كبار الحفاظ وسادات أهل التقوى ". وقال ابن حجر في التقريب:"إمام حافظ ثقة مشهور "، وروي عن أبي زرعة "أن رجلاً استفتاه أنه حلف بالطلاق أنك تحفظ مائة ألف حديث فقال: تمسك بزوجتك " وقال النووي في شرح مسلم:"أحد حفاظ الإسلام وأكثرهم حفظاً ".
آثاره:
لأبي زرعة الرازي مسند ذكره الكتاني في الرسالة المستطرفة ص64 ويوجد في معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية كتاب: الضعفاء والكذابون والمتروكون من أصحاب الحديث عن أبي زرعة وأبي حاتم الرازيين مما سألهم عنه وجمعه وألفه أبو عثمان سعيد بن عمرو بن عمار البرذعي الحافظ المتوفى سنة 292 وهو برقم 719 قسم التاريخ.
وفاته:(7/258)
توفي أبو زرعة رحمه الله بالري سنة أربع وستين ومائتين في يوم الإثنين آخر يوم من السنة أرخ وفاته في هذه السنة الحافظ في التقريب والذهبي في العبر وابن كثير في البداية والنهاية وابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة ولم أقف على ما يخالف هذا القول إلاّ قولاً حكاه الحافظ في تهذيب التهذيب عن أبي حاتم أنه توفي سنة ثمان وستين أي ومائتين أما سنة ولادته فقد سئل عنها فقال:"ولدت سنة مائتين"نقل ذلك ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة وذكر بن كثير في البداية والنهاية قولاً آخر في سنة ولادته وأنها في سنة تسعين ومائة ولا شك أن الأرجح في ذلك ما ذكره هو عن نفسه ومدة عمره على هذا أربع وستون سنة رحمه الله.
وروي أنه عند وفاته اجتمع عنده عدد من العلماء الرازيين فأرادوا تلقينه فاستحيوا منه فرأوا أن يتذاكروا في حديث التلقين فشرع أحدهم بإسناد حديث ثم وقف أثناءه فقال أبو زرعة رحمه الله حدثنا بندار وساق إسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلاّ الله" وتوفي رحمه الله.
ممن ترجم له:
1- ترجم له ابن أبي حاتم في مقدمة الجرح والتعديل 328.
2- والذهبي في العبر 2-28 وتذكرة الحفاظ 2-136.
3- وابن حجر في تهذيب التهذيب 7-30 وفي التقريب 1-536.
4- والخزرجي في الخلاصة 213.
5- وابن القيسراني في الجمع بين رجال الصحيحين 306.
6- والخطيب في تاريخ بغداد 10- 326.
7- وابن كثير في البداية والنهاية 11- 37.
8- والعليمي في المنهج الأحمد 1- 148.
9- وابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة 1- 199.
10- وابن عماد في شذرات الذهب 2- 148.
11- وابن الجوزي في صفة الصفوة 4- 69.
12- وكحالة في معجم المؤلفين 6- 239.(7/259)
من أدب الإسلام
بقلم الدكتور: طه محمد الزيني
المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع الرجل على بيع أخيه، وأن يخطب الرجل على خطبة أخيه، حتى يترك الخاطب قبله، أو يأذن له" رواه البخاري وغيره.
حرص الإسلام على أن سود الوئام ويعم الصفاء بين المسلمين، فدعا إلى ما يجلبهما، وحذر مما يسبب البغضاء، ويؤدي إلى التنابز والشحناء حتى تكون الأمة الإسلامية يداً واحدة على قلب رجل واحد، وجسداً واحداً يتألم كل جزء فيه لألم سواه، فأوجب التراحم والتعاطف والتساند والتعاون بين المسلمين، وذم الأنانية وحذر منها ووصف المتصف بها بانعدام إيمانه أو ينقص إيمانه فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ترى المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". وقال أيضاً: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وقال أيضاً: "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم" والحديث الذي معنا ينهى عن مظهرين كبيرين من أسباب التباغض والشحناء بين المسلمين.
أما الأول: فهو أن يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا شك أن مسألة البيع والشراء من أسباب تحصيل الرزق والسعي إلى إدراك لقمة العيش التي لا يستطيع الإنسان الحياة بدونها فالبيع على البيع، والشراء على الشراء، محاربة في الرزق ووقوف في سبيل العيش، وهذا أشد ما يؤثر في النفوس ويغيظها ويكدرها وقد يجود الإنسان ببذل حياته رخيصة في سبيل رزقه، فانقطاع الرزق يؤدي إلى الموت جوعاً، والموت في سبيل المحافظة على الرزق أكرم من الموت جوعاً. ولبيع الرجل على بيع أخيه صورتان:(7/260)
الأولى: أن يشتري رجل من أخيه شيئاً على أن له الخيار في رده إذا لم يعجبه أو ظهر فيه عيب، فيأتي رجل آخر يعرض على المشتري مثل هذا الشيء بثمن أقل، فيرد المبيع لبائعه، ويأخذ ممن عرض عليه بالسعر الأقل.
الثانية: وهي أبشع من الأولى، أن يشتري رجل من أخيه شيئاً وهما في المجلس لم يتفرقا، فيأتي رجل آخر فيعرض على المشتري مثل المبيع بثمن أقل فيرد المشتري المبيع ويأخذ ممن عرض عليه بالثمن الأقل، أو يضطر البائع الأول إلى إنقاص الثمن بقدر ما عرض الرجل الثالث فيضار البائع الأول بذلك، وقد يؤدي هذا إلى العناد بين البائعين فيظل كل منهما ينقص من ثمن مبيعه حتى يبيع أحدهما بثمن فيه خسارة محققة. ومن أمثلة ذلك ما نراه في الأسواق من البائعين المتجاورين، ينادي أحد الباعة على سلعة بثمن فينادي جاره على هذه السلعة نفسها بثمن أقل، فيغتاظ الأول فينقص من ثمن سلعته، ويتبع الأخر في النقص وهكذا إلى أن يرحل أحدهما أو يتشاجرا شجاراً قد يؤدي في بغض الأحيان إلى الموت أو الإصابة بالعاهات، وهذا حادث في كثير من بلاد الإسلام.(7/261)
ومثل البيع على البيع الشراء على الشراء.. والصورتان اللتان في البيع تأتيان أيضاً في الشراء على الشراء بأن يذهب رجل إلى بائع في مدة الخيار ويقول له: إن الثمن الذي بعت به رخيص وأنا أشتري منك بأكثر أو عندي مشتر بأكثر، أو يقف رجل يرقب بيع رجلين فيعرض على البائع أكثر مما يعرضه المشتري أو يقول له عندي مشتر بأكثر فيمتنع البائع عن البيع، وقد يؤدي هذا إلى العناد أيضاً بين المشتريين، فيظل كل منهما يزيد في الثمن حتى يتجاوز ثمنه الأصلي، إلى أن يكف أحدهما عن الزيادة أو يتشاجرا شجاراً تكون آخرته جريمة وقد عرف الشرع الحكيم ما يترتب على بيع الرجل على بيع أخيه وشرائه على شرائه فنهى عن ذلك، وحث المسلمين على حب بعضهم لبعض، وبعدهم عما يسبب الشحناء والبغضاء. وحكم البيع مع ذلك أنه صحيح، ولكن يحرم على من باع على البيع أو اشترى على الشراء ويكفيه أنه باع رضى الله بثمن بخس.
أما الثاني: فهو أن يخطب الرجل على خطبة أخيه قبل أن يكف الخاطب الأول نظره عن خطبته، أو يسمح لأخيه ويتنازل له عنها، ومسألة الخطبة والزواج تأتي في الدرجة الثانية بعد تحصيل الرزق، لأن متعة الرجل وسعادته في زوجته، فإذا اختارها كما يحب وتجمعت فيها الصفات التي تحبها نفسه ويهيئها له خياله كان سعيداً في حياته مسروراً في صباحه ومسائه، مطمئناً في غدوه ورواحه، ولما كانت مسألة الخطبة والزواج فوق أنها سبب السعادة والاطمئنان تمس ناحية حساسة من الإنسان، إذ يعتقد إذا رفض طلبه في خطبة أو زواج أنه طعن في رجولته، وأنه ليس له من القيمة ما يسمح لولي الزوجة بإجابة رغبته، ولا سيما إذا أجيبت رغبة غيره، فإن ذلك يحز في نفسه وقد يرى أنه ليس أهلاً للحياة فيقدم على الانتحار، أو يقتل من اعتدى عليه في رجولته، وكدر عليه صفوة عيشه أو يتلف زرعه أو ماشيته، أو يسلط اللصوص على ماله، إلى غير ذلك من الجرائم التي فشت هذه الأيام.(7/262)
وصور الخطبة على الخطبة كثيرة: فمن ذلك أن يذهب رجل يطلب يد فتاة، فيأتي آخر أغنى منه أو أرفع منه شأناً ومنزلة في المجتمع بسبب علم أو نسب أو قرابة لحاكم فيطلب يدها قبل أن يكف الأول، فيميل أهل الفتاة إلى الثاني ويرفضون الأول.
ومنها أن يتقدم رجل إلى أسرة فتاة وترضى به زوجاً لفتاتها وربما يدفع شيئاً من المال (شبكة) ويقدر المهر، فيأتي رجل مثل الخاطب أو أقل منه مالاً ونسباً وعلماً وغير ذلك، فيعرض (شبكة) أغلى ومهراً أكثر وقد تكون أسرة الفتاة تؤثر المادة أو واقعة في أزمة مالية، فتفضل الخطيب الأخير، وليس ذلك كل ما يحدث بل قد يكتب العقد ويختلط الرجل بالفتاة وبأسرتها فيأتي بعد ذلك خاطب جديد أفضل من الأول، فتحتال الفتاة وأسرتها في مضايقة الزوج حتى يطلقها ويظفر بها الخاطب الأفضل، وهذا مما يغرس العداوة في النفوس.
والحكم الشرعي أن النكاح ينعقد للثاني، ولكن يحرم عليه ويعاقب بفعله في الآخرة، متى كان عالماً بخطبة الأول ورضا الأسرة به، أما إذا كان لم يعلم أو علم أنه خطب ولكنه رد ولم تقبله الأسرة فلا إثم عليه حينئذ، هذا هو رأي جماعة الفقهاء وهو المعول عليه، ولكن الظاهرية قالوا: يفسخ نكاح الثاني ولا يبرم أخذاً بظاهر الحديث.
بقيت مسألة تتعلق بهذا البحث هي: هل النهي في الحديث عام أو خاص؟ بمعنى هل تحرم خطبة كل رجل على خطبة كل رجل، فتحرم خطبة المؤمن على خطبة البر والفاجر، ولا تحرم إلاّ خطبة الرجل على خطبة أخيه الصالح؟.
اختلف العلماء في ذلك فقال بعضهم: النهي عام، وقال آخرون: النهي خاص، وحجة المخصصين أن الحديث يقول: "على خطبة أخيه" والأخوة بين المؤمن الصالح والفاسق منحلة عراها أو تكاد، فلا إثم في خطبة المؤمن على خطبة الكافر والفاسق.(7/263)
وحجة المعممين أن الأخوة موجودة بين الجميع، فهما إخوان في الإنسانية. وفي الدين والفسق لا يمنع الإسلام، والذي تقتضيه سماحة الإسلام ويتمشى مع الغرض من تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم عموم النهي، لأن الخطبة على الخطبة - مهما كانت- مسببة للبغضاء والنفور بين الناس، وفيها من قلة الحياء وعدم الكرامة ما يأباه الإسلام ويحث على منعه، نسأل الله أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه.(7/264)
رَسَائِل لمْ يَحمِلهَا البَريْد
بقلم الشيخ: عبد الرؤوف اللبدي
المدرس في كلية الشريعة بالجامعة
جاري الفأر:
لقد فاجأتني رسالتك، وما كان يدور لي بخلد أن مخلوقاً ضعيفاً صغيراً مثلك يستطيع ذلك البيان، وأغلب الظن أن قد غلب على ظنك أني قط غر صغير، يصدق ما يقال، ويخدع بما يسمع، ويستهويه زخرف القول، فكتبت ما كتبت، ثم جلوته على في أبهى حلة.
حقاً، أيها الفأر المجاور، أن كادت رسالتك لترديني، وتخرجني من يقيني، قرأتها أول مرة، فظننت أنها دعوة حق، ومقالة صدق، وأخذت أردد ما قلت: "ما أطيبها دعوة، وما أمتها حياة! وهل هناك حياة أروع وأمتع من حياة السلم والسكينة، والأمن والطمأنينة، مع راحة وهناء، وطعام دون عناء؟ علام هذا الخصام بين مخلوقات الله؟ لو تراضى الخلق بالمساواة، وأخذ كل مخلوق ما كفاه، لعاشوا جميعاً عيشة هادئة وادعة، لا قلق فيها ولا اضطراب، ولا دماء ولا حراب".
ولكنني من بعد لأي أفقت من هذه الأحلام الجميلة، والرؤى الخادعة، وأخذت أغدو ببصري وأروح، أغدو به بين جسمي وجسمك، وأروح به بين طباعي وطباعك، فتلاشى ما كان على بصري من غشاوة، وتزيل ما ران على قلبي من باطل، وتبين لي أنني كنت في ضلال بعيد.
لقد نظرت إليك، فرأيت فيك خلقاً صغيرا حقيراً جباناً تكثر الفساد في البيوت، وتفسد الطعام على الناس، يسير الخراب حيث سرت، وينزل الأذى حيث تنزل، فلا عجب أن تضيق بك الصدور والدور، وأن يكيد لك الناس، فينصبوا المصايد، ويبثوا السموم، ثم تلقى على أيديهم عذاب الحريق.
لقد نظرت إلى نفسي، فإذا بي جثة ضخمة تملأ العيون، وقلب جريء لا يخشى المنون، وسلاح ماضي الشفرتين ستذوق طعمه بعد حين، هذا إلى ما أتمتع به من عطف بالغ على الأبواب، ووداد صادق في البيوت، وسلامة من خبائث الأخلاق والأمراض.(7/265)
فهل تراها منصفة بعد هذا أن يستوي خلق مثلي وخلق مثلك؟
هيهات هيهات أن يتراضى الخلق بالمساواة، وهم لم يخلقوا سواء، ولم يكونوا ذات يوم أكفّاء!!
مثل آخر أحب أن أسوقه إليك، وما أن بصاحب أمثال أضربها، لولا أمثال جاءت بها رسالتك، ونهج في البيان سبقتني إليه:
انظر إلى صاحبة هذه الدار، كم حاولت أن تعلم هذه الخادم أشياء كثيرة تكسبها حذقاً في اليدين، وحسناً في التدبير، وبصراً في الأمور، وذوقاً في التنسيق والتركيب، ولكن الخادم بقيت حيث هي، لا تزيد على أن تخم البيت، وتمسح البلاط، وتغسل آنية المطبخ.
فهل تراها منصفة بعد هذا أن تعيش هذه وتلك على حد سواء.
ومالي أذهب بعيداً هنا وهناك لم لا أضرب الأمثال فيك وفي قومك؟! هل ترضى أنت أيها الفأر أن تعيش كما يعيش سائر الفيران في هذا البيت، وأنت الزعيم ذو الحول والطول؟! أليس لك امتياز عليهم في الذكاء والرأي والقوة والقيادة وسياسة الأمور، أفلا تكون جديراً بعد هذا بحق امتياز في المبيت والمأكل والمشرب، وفضل نفوذ في الأمر والنهي.
كيف تزعم الإمتيازات قد ولت مدبرة ولم تعقب، وها أنت ذا تميس في حللها بكرة وعشياً، وتتذوق حلاوتها على دروب السلب والنهب؟!
أما حياة السلم والسكينة، والأمن والطمأنينة، تلك التي زعمتها في رسالتك، فحياة ظاهرها الرحمة والبر، وباطنها الذل والصغار، أي حياة هذه التي تقوم على لقيمات إحسان ألبس بها ثياب الضعف والخنوع، كيف انجحر في زاوية من زوايا بيت وهو ملعب الصبا ومسرح الحياة؟! أتظنني أستطيع التظاهر بالعمى وأنا أبصرك تصول وتجول في أرجاء البيت تسلب وتنهب؟! ما أعجب شأني حين أزعم العجز وأنا القادر على أن أمزق جموعكم شر ممزق،وأن أشرد بكم في كل جحر.
ماذا أصنع بهذه المخالب التي تفري اللحم، وهذه الأنياب التي تحطم العظم، وهذه العظلات المفتولة التي خلقت للضرب والوثب والقتال؟!(7/266)
لقد وهب الله لي أسباب القوة الضاربة، فكيف تريدني أن أعيش ضعيفاً؟! ووهب لي أسباب العزة والقعساء، فكيف تدعوني إلى الضعة والذل؟! ووهب لي أسباب النصر العزيز، فكيف أكتب على نفسي الهزيمة؟!
لقد خلقت أنت عطلاً من كل أولئك،ولكنك بالدهاء والمكيدة تريد أن تسلبينها جميعاً.
ما أعجبها من حياة حين أكون أنا من القاعدين، وتكون أنت الكاسب، وأعيش أنا مع العفاة المعترين، وتكون أنت السيد المطاع.
لقد أبعدت في الضلال أيها الفأر حين ظننت أن والدتي لو استقبلت من أمرها ما استدبرت لأجابت هذا الذي تدعوني إليه، لا أزال أذكر كلماتها الأخيرة، وقد أحاط بها الموت، وعصفت بها رياح المنية: "أي بني، إنه ليحزنني أن أموت تاركاً ورائي أعداء كثيرين، ذوي دهاء ومكيدة، وإني لأخشى عليك أن تصبح في هذا البيت غريباً ضعيفاً عاجزاً، تهزم وفيك أسباب القوة، وتذل وطريق العزة أمام عينيك واضح مستقيم، انهج نهج آبائك الأولين تعز وتبر، والاف"وألف نفسي! لم يمهلها الموت حتى تتم ما تريد، ولكنني فهمت الفهم كله ما الذي كانت تعني، وأي شيء كانت تود أن تقول.
كانت تود أن تقول إذا لم تحافظ على قطيتك، ولم تعمل بما تؤمن به القطط، ضعت في عالم الحيوان، وحقرتك جميع الخلائق، وخسرت ما ورثته عن أجدادك الأولين من مآثر عظيمة، ومغانم كثيرة، وحسن أحدوثة لا تزال تتناقلها الألسنة، ويرويها التاريخ.(7/267)
كانت سذاجة بلهاء من آبائي الأدنين ألاّ يتدبروا شأن آبائك وأجدادك حين لجأوا إلى هذا المكان وهم شرذمة قليلون، لا حول لهم ولا طول، لقد استهانوا بأمرهم وحقروا شأنهم، وما دروا أن القطرات المتفرقة تصبح سيلاً جارفاً، وأن الشرارة الصغيرة تسمى حريقاً مخيفاً، لقد عاشوا لأنفسهم، وشغلتهم اللذة العابرة والحياة الدنيا عن الرأي الجميع والمصير المشترك، فقضوا حياتهم يتنازعون بينهم، وأيّهم أعز مكاناً وأيّهم أوسع نفوذاً، لقد وجدوا آباؤك وأجدادك الفرصة المواتية في هذا النزاع الطويل والخصام الوبيل، فتكاثروا في ظله واتسعت لهم الأرض، فأوسعوها جحولاً وإنفاقاً، وها أنتم أولاء تتحدثون عن السلم والحرب حديث الأبطال، وأنتم تعلمون أن فيكم ضعفاً، ولا طاقة لكم على القتال، ولكنكم رأيتمونا - معاشر القطط - أشتاتاً لا يجمعنا قلب ولا طريق، فهان أمرنا عليكم وعلى غيركم، ولم نعد في هذا العالم شيئاً مذكوراً.
هبني صالحتك على ما تريد، وتظاهرت لأصحاب البيت بالأمانة والإخلاص، فتربصت بكم خداعاً تربص الحامي الأمين، وطاردتكم كذاباً مطاردة الحارس اليقظ، ثم طرحتم أنتم إلى من يموت فيكم موت شيخوخة أو مرض، فأكلته على مرأى من أصحاب البيت، ولطخت فمي بدمه على مشهد منهم، ثم ظلت خيانتي وخستي وعاري أشياء خافية لا يعلمها الناس، هبني صالحتك على هذا الذي تهوى، ومثلت لك هذا الدور الخادع الذي تريد، وتقبلت أنت وقومك في أعطاف النعيم، فأكلتم من هذا البيت ما طاب، وشربتم فيه ما عذب، ثم تطاول الأمد على ذلك حتى مسني الكبر، ووطئتني الشيخوخة، وأمسيت لا أقدر على العراك القوى والحراك الوحي، أتراك إذا صرت إلى مثل هذه الشيخوخة، أو إلى ما هو أسوأ منها من مرض مقيم، أو عمى مقعد، ولم يعد هناك مصالح مشتركة، ولا منافع متبادلة، أتراك واقفاً مني موقف الشامت الزاري، والضعيف الحاقد، وذي الوتر سنحت له فرصة الدهر فلم يتركها تفلت.(7/268)
كيف أطمئن إلى وفائك بما تعد، وأنى لي الثقة بما تدعي وتقول، وأنت الذي تريد أن تقوم العلاقات فيما بيننا على المصالح المشتركة، والمنافع المتبادلة، تلك التي لا ثبات لها ولا استقرار، ولا تكافؤ فيها ولا توازن.
لو ممن يؤمنون بالدين، ويتقون يوماً ترجعون فيه إلى الله، لكان من الممكن أن أجد في كلامك ريح الصدق, وأن أذوق في وعدك طعم الوفاء، ولكنك تجحد الأديان وتنعاها، ولا ترى في الخلق صلاحاً وصالحين، ولا ذوي فضل مختارين، وترى المروءة والوفاء والصدق والأمانة.. أشياء قد ولت مدبرة ولم يبق منها إلاّ أطلال دوارس.
إن أولئك الذين يعيشون في أنفاق خبيئة تحت الأرض، ولا يخرجون منها إلاّ في غسق الليل، لا يستطيعون أن يروا ضوء النهار، ولا أن يحسوا دفء الشمس، ولا أن يتبينوا كم لها فوق هذه الأرض من فضل على الناس، فلا عجب أن تكون أمانيك وأماني أمثالك من القنافذ والمناجذ والخفافيش أن تمضي هذه الحياة الدنيا عبثاً، وألاّ تكون هناك حياة أخرى كل نفس فيها بما كسبت رهينة.
تقول إني لك جار، فإذا كان هناك جوار حقاً، فمن حق هذا الجوار أن أقول لك في صراحة وصدق، خير لك أن ترحل عن هذه الدار إلى دار أخرى، وأن تقيم في بيت غير هذا البيت، أمّا في هذا الدار، فلن يكون لك فيها أمن ولا استقرار، ستقضي ليلك مختلس الرقاد، وستأكل خبزك مأدوماً بالخوف، وأمّا شربك فحسو العصافير المروعة.
كتبت تهددني بقدرتك على الإفساد، وكثرة القبيل والأولاد، ذاك سلاح يخشاه الضعفاء، ويفرق له الرعاديد، أولئك الذين يجعلون أصابعهم في آذانهم عن سماع الحق، ويطبقون شفاههم بأيديهم خشية قول الصدق، ويثنيهم حب السلامة عن الجهاد في سبيل ما يؤمنون به.(7/269)
وأنا لست من هؤلاء، ولن أكون منهم، وإني لمناصبك العداء جهاراً، ومتربص بك المنايا ليلاً ونهاراً، ولسوف أحلك دار البوار عما قريب والآن، وفي نهاية رسالتي هذه إليك أود أن أقول لك كلمة هادئة وادعة، ليس فيها وقد عواطف، ولا حميا شباب، لقد أفرغت على نفسي ذنوباً من ماء بارد قبل أن أخطها إليك:
عسير علي أيها الفأر أن أخرج على جبلتي، وأن أتكلف ما ليس في طبيعتي، وعسير عليك أن تكون محسناً وفي طبعك الإساءة والغدر، وأن تكون مسالماً وقد فطرت على الأذى والمكر، ولن يخدعني لسانك الرطب، ولا كلامك العذب، ولا ما تضربه من الأمثال.
دعنا أيها الفأر نعيش على الفطرة التي فطرنا الله عليها فأظل أنا قطاً، وتظل أنت فأراً، لا داعي إلى أن نتخذ المعاهدات والاتفاقيات، نوقعها ثم لا نحفظ لها وداً، ولا نقيم لها وزناً، ولا نتكلف لها وفاءً..
تلك سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تحويلاً ولا تبديلاً.
عدوك المجاور
القط(7/270)
ربِّ عفوًا
للشاعر السوري: مصطفى عكرمة
مبعث المصطفى على الدهر عيد
هرم الكون وهو غض جديد
هو أسمى من أن يقاس، فمن
آثاره الغر في الزمان الخلود
إنه الفجر قد أظل فيا أر
ـض اطمئني، واستيقظوا يا رقود
طويت صفحة الشقاء عن الخلـ
ـق، وفكت عن العقول القيود
فإذا شملنا الشتيت كيان
ليس فيه إلاّ الحليم الرشيد
ود كل لو يفتدي غيره بالر
ـوح. . فالروح في الغذاء زهيد
حارت النائبات فيهم فما تد
ـري إذا ما ما دهت من المقصود
الأولى آثروا الجميع على النفس
- مع البؤس - حقهم أن يسودوا
مسحة من يد الرسول عليهم
فإذا العرب شعلة ووقود
حملوا بعدها هموم بني الدنيا
فساد الهدي.. وعم الجود
ما لغير الهدى وجود بني قومي..
وجل الهدى، وجل الوجود
روض الله في نفوسهم الكبر،
وأوحى إليهم: أن سودوا
بلّغوا هذه الرسالة للدنيا
وعن شرع أحمد لا تحيدوا
وعلت صيحة الجهاد فيا بيد
أفيقي. . وهللي يا نجود
ولد العرب فوق ظهر المذاكي
واستقرت في كف قومي البنود
كلما شاب في المعارك كهل
شب في الساح للجهاد وليد
أعشب الرمل حين مر عليه
جحفل الفتح، وانتشت منه يد
حيثما شئت من هدانا منار
أينما سرت من ندانا شهود
فاستنارت من هدى أمتنا الدنيا
وتاهت، وأورق الجلمود
ما علمنا قبل الرسول رياضاً
بلظى البيد قلبها معمود
حبة الرمل في صحارى بلادي
أصبت الثغر، واشتهاها الجيد
كيف لا؟! والرحال عطرها الفتح
وعطر الفتوح عطر فريد
فإذا مجدهم عزاء الليلي
وإذا هم على الشفاه نشيد
ما تسامى الإنسان في الأرض إلاّ
وله من سنا الرسول المزيد
المبادى. . _ إلاّ شريعته
السمحة _ فيها الضياء والتعقيد(7/271)
قد يحيط الإنسان بالكون علماً
وهو عن نفسه جهول نعيد
كيف يقوى على اختراع الهدايات
جهول بقدره محدود:
مجد قومي إضاعة اليوم بعد
عن سنا هدى أحمد وجحود
فإذا الأهل فرقة وعداد
وإذا القوم ظالم وحسود
قد أضعنا ذواتنا حين ضاع
الشرع فينا ... فعمنا التنكيد
أمم الأرض قد تنادت علينا
وحدت بينها وشدت حقود
قد غزتنا مذاهب ودعاوات
ضلال يشيب منها الوليد
عبدوها يا رب ظلماً وجهلاً
دعونا. . فكان منا الصمود
عيّرونا بأننا لك يا رب
دعاة. . ووجهك المقصود
فعلى الجفن والعيون رقيب
وعلى النطق واللسان قيود
وإذا استعذب النعيب توارى
خجلاً خلف كبره الغريد
لهف نفسي!! أفي ترى قدس قومي
يزدهي اليوم غاصبون يهود؟!
المناكيد تحت أرصفة الدهر،
أتعلوا لهم علينا بنود؟!
رب عفواً يكاد يخنقني الدمع
ودمعي -كما علمت - عنيد
ما دموعي يا رب إلاّ دعاء
علك اليوم بالصلاح تجود
حز في النفس أن ترانا حيارى
أو يرضيك تيهنا أو تريد!
الأماني كل ما يملك العرب
وأولى بالأمنيات قعيد
يصبغ الوهم بالفتون أمانينا
ويلهوا بنا الخيال الشرود
اللذاذات همنا وهوانا
ومني النفس ربنا المعبود
ربنا ضاعت العقيدة فينا
فاحتوانا الضياع والتشريد
يلتقي الناس في الشدائد
وازدادت خلافاتنا.. وعز الرشيد
العليم العليم فينا عليم
كيف يجتاح صحبه ويصيد
وعلى أهله وكل ضعيف
القوي الشديد فينا شديد
أوجع الداء جهلك الداء حتى
لست تدري الأذى ولا ما يفيد
قد جهلنا حتى العدو من الصحب
فسيان ناصح ولدود
وبذل نرجو الدواء من الداء
فيأتي لكن! ! كما لا نريد
سبقتنا إلى الربيع السنونو
واحتمى خلف والديه الوليد
وأضعنا الربيع والأب والأم
وركناً هو الركين الوطيد(7/272)
يا لبؤس الأحفاد منا إذا ما
ذكر الأهل والجدود حفيد
شغل الناس بالحقائق والعلم
فسادوا وهمنا التقليد
كل يوم لهم جديد مفيد
وقصارى جهودنا الترديد
الوعود الكبار عدتنا الكبرى
وخزي لدى النفير الوعود
الوغى حولنا جحيم تلظى
ومناناً على الجحيم جليد
وإذا مل نصرة الحق سيف
فهو في صدر ربه مغمور
أيظل الأعراب شتى حيارى؟!
بأسهم بينهم رهيب شديد
تحصد الحرب كل يوم مئات
من بينهم ... وللعدو الحصي د
اللواء المهزوز من قبضة الظلم
على الأهل..هزه رعديد
وإذا السيف لم يجرد لرفع الظلم
يوماً أذله التجريد
رب ما زال في الأعاريب خير
رب منك الهدى، ومنك الجود
رب فيا الوجود كان سعيداً
أو يرضيك أنه منكود؟!
ربنا رددنا إليك ومر أن
تمسح الذل والنحوس سعود
ربنا أو اجعل الخلاص قريباً
فلقد طال في الكهوف الرفود(7/273)
بالإسلام تَسْعَد الأمَّة وتنهَض الدَّوْلة
بقلم: الشيخ محمود عبد الوهاب فايد
المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
الإسلام دين كامل فيه لكل مسالة حكم، ولكل مشكلة حل- وهو- كما يعلم الذين درسوه من مصادره المعتمدة- لا يعيش بمعزل عن الفرد، ولا في عزلة عن الجماعة والدولة بل يعيش معهم جميعاً في دنيا الواقع، يلقي عليهم أشعته الوهاجة فيهديهم سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويسمو بهم إلى حياة أفضل في ظلال قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [1] .
للإسلام نظام خاص في السياسة والحكم والاجتماع والاقتصاد لا يمكن أن يندرج تحت عنوان من العناوين البراقة المعاصرة التي انخدع بها كثير من الناس ثم ظهر زيفها وخبثها وقصورها عند التطبيق في معالجة شؤون الحياة.(7/274)
وكيف يندرج تحتها وهي عنوان عن فكر إنساني قاصر مشوب بالأهواء قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [2] وهو وحي سماوي، وشعاع رباني وصبغة إلهية قال تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [3] لقد أراد الله أن يكون الإسلام خاتم الأديان، وأراد أن يكون دين البشر جميعاً في كل مكان وزمان، ولهذا أنزل كتابه، وتولى بنفسه حفظه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [4] وضمنه القواعد الكلية، وترك التفاصيل الجزئية ليساير ظروف البشرية، وفي القرآن ومذكرته التفسيرية النبوية نجد كل عناصر الخير، وأسباب السعادة، ومقومات الحياة، ووسائل القوة والعزة، فلم نعد في حاجة إلى أن نمد أيدينا، ونتسول المبادئ من الشرق أو من الغرب، ولقد قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً} [5] تمت النعمة، وكمل الدين، فلسنا من ناحية المبادئ في نقص نحتاج إلى استكماله من المخالفين.
إن من اللازم على كل دولة دينها الإسلام - حينما تطرح قضية على بساط البحث - أن تسترشد فيها بنوره وتهتدي بهديه، وتسير وفق تعاليمه وعند الاختلاف يجب أن يذعن أبناؤها لقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [6] .
من اللازم على كل دولة إسلامية أن يتمسك أبناؤها بحبل الإسلام، ففيه- والحمد لله- ما يكفي ويغني، فيه ما يجلب الخير ويدفع الضر، ويحقق الهناءة والاستقرار والأمن، ولنتأمل هذه الأسس التي وضعها:(7/275)
1- الإسلام يعلي شأن الإنسان ويستخلفه في هذه الأرض، ويعمل على تحقيق الإنسانية الصحيحة الرشيدة في هذا العالم، وربطها بمصدر وجودها، فلا يسمح بأن يتعالى الإنسان حتى يصبح إلهاً طاغياً، ولا أن ينزل حتى يكون حيواناً سافلاً أو شخصاً مهيناً، ولا يقبل أن ينقطع المخلوق عن خالقه، ومصدر نعمته، بل يعمل على ربط الناس بعضهم ببعض على أساس من التعاون والتآلف والوفاء، ويعمل أيضاً على ربط الناس بخالقهم على أساس من الإخلاص والتقوى والصفاء، وفي مقابل هذا كتب الله لهم التمكين والعزة والأباء يقول تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [7] .
ويقول: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} [8] .
ويقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [9] .
ويقول: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ} [10] .
ويقول: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ} [11] .
ويقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [12] .
ويقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [13] .(7/276)
دخل أحد الفاتحين العرب المسلمين على قائد جيش الفرس في قصره وبيده رمح يدق به الأرض وما فوقها من طنافس حريرية دون أن يبالي، وجرى بينهما حديث حاول قائد جيش الفرس أن يغري الفاتح العربي المسلم باللذات والنعيم، فكان جواب العربي المسلم:
"لقد جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
إن الإسلام كما فهمه أسلافنا، لا يرضى بالذلة، ولا يقبل الاستعلاء بغير حق، ولا يبيح الخضوع لمستبد أو طامع لا هدف له إلاّ الغصب والسلب وإهدار كرامة الإنسان وحقه في الحياة الهنيئة، ولقد أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وشرع الجهاد لهداية الناس وإشاعة الخير، وإقرار الحق ورفع الجور قال تعالى:
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [14] .
وقال: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً, وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً, الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [15] وسبيل الله هو سبيل الحق والخير والسلام وسبيل الطاغوت هو سبيل الباطل والشر والفساد والضلال والعدوان.(7/277)
2- ينظر الإسلام إلى المجتمع على أنه جسم واحد يتكون من أعضاء مختلفة الوظائف متفاوتة الرتب تحس كلها بإحساس واحد، وتتعاون كلها وإن اختلفت درجاتها وقدراتها على جلب المنافع، ودفع المضار.
نلمس هذا في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" أخرجه مسلم وأحمد عن النعمان بن بشير وهكذا يؤلف الإسلام من أبناء الأمة على اختلاف أوضاعهم ورتبهم ووظائفهم وأعمالهم وحدة متناسقة متكاملة متعاونة مؤتلفة يهتم كل فرد فيها بأداء واجبه نحو نفسه ونحو غيره، ولتحقيق هذا أوجب الله على القادرين أن يساعدوا العاجزين، وعلى الأغنياء أن يساعدوا المحتاجين، وعلى الأقوياء أن يؤازروا المستضعفين، وعلى الحكّام أن يسهروا على راحة المحكومين.
(أ) ونظرة الإسلام إلى المال نظرة سامية، ومعالجته للفقر معالجة دقيقة:
فالمال ملك لله كما قال: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [16] .
ولكنه استخلفنا فيه وملكه لنا على أن نؤدي منه ما أوجبه علينا من حق خاص أو عام قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [17] وقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [18] .
وحين يكون الإنسان سفيهاً يسلبه حق التصرف فيه، وحين يمتنع عن دفع الحقوق الخاصة أو العامة يجبر عليها بقوة السلطان والسلطان لا تبرأ ذمته إلاّ إذا سدت للفقير حاجته، ويسرت له مئونته وتحقق للدولة كل أسباب القوة والعزة.(7/278)
وللسلطان أن يأخذ من مال الأغنياء ما يكفي حاجة الفقراء قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقرائهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلاّ بما يصنع أغنياؤهم ألا وإن الله يحاسبهم حساباً شديداً ويعذبهم عذاباً أليماً" رواه الطبراني في الأوسط والصغير، ولما قفل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزو ووقع بعضهم في ضرورة ملحة، وضائقة شديدة قال صلى الله عليه وسلم: "من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له ", قال أبو سعيد الخدري راوي الحديث: "فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل"أخرجه مسلم.
ولأول مرة في التاريخ أعلنت الحرب ضد الأغنياء من أجل الفقراء وذلك في عهد أبي بكر حاكم المسلمين فقد قال حين امتنع بعض الأغنياء من دفع الزكاة: "والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها" أخرجه الستة. إن الإسلام وهو يطلب من الحكام والأغنياء أن يسدوا حاجة الفقراء لم ينس أن يعبد للفقراء سبيل الرزق ويحضه على سلوكه، ويفتح له باب العمل، ويشجعه على ولوجه قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [19] وقال: {فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [20] وقال صلى الله عليه وسلم: "من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفوراً له" أخرجه الطبراني.(7/279)
بهذا وبغيره من مباديء الإسلام التي لا يمكن جمعها في مقال حارب الإسلام الفقر وعالج مشكلته علاجاً جذرياً فطرياً، فلم ينكر الملكية الفردية المشروعة بل احترمها وعاقب المعتدي عليها بغير حق، لم يجرد الناس من كسبهم وثمرة كدهم، ونتيجة عرقهم وجهدهم تجريداً يدفعهم إلى الإهمال ويحملهم على التفريط في حفظ الأموال، ويثنيهم على التجديد والابتكار، وعن المضي في سبيل الرقى والازدهار.
لم يفعل ذلك بل أباح لهم أن يمتلكوا ما هو حلال عن طريق حلال على أن يستغل في الحلال بلا ضرر ولا إضرار وبلا تقتير ولا إسراف، وبلا نسيان لحق الجماعة الذي أوجبه الله.
وبهذا تمشى الإسلام مع الغريزة البشرية غريزة التملك لكنه هذبها وخفف من شرتها، وعدل من طبيعتها وتسامى بها حتى عادت بالخير على الفرد والجماعة والدولة، ولا عجب فقد حارب الربا والاحتكار، والاكتناز ورفع الأسعار وكل ما فيه إضرار قال صلى الله عليه وسلم: "من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد بريء من الله وبريء الله منه" وقال: "من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقاً على الله تبارك وتعالى أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة" وقال: "لا ضرر ولا ضرار" أخرجه الثلاثة وأحمد.
(ب) ونظرة الإسلام إلى الحكم نظرة واقعية ومثالية..
فالدولة لابد لها من حاكم يقوم على رعاية مصالحها الداخلية والخارجية ويعمل على إشاعة الأمن والعدل في البلاد، ويوفر لأبنا الأمة كل ما يطلبونه من أمن وغذاء، ومسكن وكساء، وطب ودواء، حماية لهم من غوائل الفقر والمرض والجهل ويقف إلى جوار الضعيف والمسكين والمظلوم حتى يرفع عنهم الغبن ويدفع الظلم، ويكفيهم الحاجة ويهيء لأفراد الشعب فرصاً متكافئة، ويقدم العون لأرباب الحاجات، وييسر لهم سبل العيش وأبواب الرزق، ويعمل على تأمين الدولة من الداخل والخارج. ولكي يكون الحكم نعمة على الأمة قرر الإسلام ما يلي:(7/280)
1- الحاكم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم غير معصوم وليست له قداسة تجعله يرتفع عن مستوى النقد ولا تجب طاعته حين يضل الطريق قال صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم" أخرجه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم: "السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع عليه ولا طاعة" أخرجه الستة.
2- الحاكم عليه أن يتشاور مع المسلمين فيما لا نص فيه ليهتدي إلى ما فيه الخير، وليتجنب ما فيه مضرة أو مشقة، ولتتقبل الأمة ما يكلفها به عن تفهم ورضا قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [21] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي فمن استشار منهم لم يعدم رشداً ومن تركها لم يعدم غياً} أخرجه البيهقي عن ابن عباس.
3- الحاكم مطالب بالعدل والإحسان إلى الرعية قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} وقال صلى الله عليه وسلم: "من ولى من أمر الناس شيئاً فاحتجب عن أولي الضعف والحاجة احتجب الله عنه يوم القيامة" رواه أحمد, وقال: "ما من أمير يلي على أمور المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم كنصحه وجهده لنفسه إلاّ لم يدخل معهم الجنة" رواه الطبراني.
ومن العدل الواجب ألاّ يولي أحداً لقربه منه أو قرابته أو وساطته بل يسند العمل لمن كان أهلاً له قال صلى الله عليه وسلم: "من قلد رجلاً عملاً على عصابة وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه فقد خان الله ورسوله وخان المؤمنين" أخرجه الحاكم.
ومن اللازم على الحاكم أن يكون قدوة للأمة في تجنب الظلم واستغلال النفوذ ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.(7/281)
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وكان بيده سواك فدعا وصيفة له أولها حتى استبان الغضب في وجهه وخرجت أم سلمة إلى الحجرات فوجدت الوصيفة وهي تلعب ببهمة فقالت: ألا أراك تلعبين بهذه البهمة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك فقالت: لا والذي بعثك بالحق ما سمعتك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لولا خشية القود لأوجعتك بهذا السواك " رواه أحمد, كما في الترغيب والترهيب ج4ص266.
وعن أبي سعيد الخدري قال: "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسماً أقبل رجل فأكب عليه فطعنه صلى الله عليه وسلم بعرجون كان معه فجرح وجهه ثم قال له: "تعالى فاستقد. قال: بل عفوت يا رسول الله" أخرجه أبو داود والنسائي.
إن شعور الرهبة كان يسيطر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينادي الخادمة، وهو يطلب من الرجل أن يأخذ بحقه، إنه الخوف من الله أن يقتص منه لخادمة تغيبت عنه وظل يناديها فلم ترد عليه، لقد أبى النبي صلى الله عليه وسلم في ثورة الغضب أن يمسها بالسواك مخافة القصاص، وفي هذا تحذير بليغ لأولئك الذين يتفننون في إيذاء الناس، ويستعذبون تعذيبهم ويبغون في الأرض بغير حق، غافلين عن أن الله لا ينام وأنه عزيز ذو انتقام وأنه سريع الحساب شديد العقاب.
إن نبي الإسلام حريص كل الحرص على أن يربي في المسلمين خصوصاً حكامهم شعوراً جاداً وحاداً بالمسئولية يدفعهم إلى أن يقيموا الحق ويرفعوا الظلم ولو وقع على كاهل حيوان فضلاً عن إنسان.
عن عبد الله بن جعفر قال: "دخل النبي صلى الله عليه وسلم حائطاً لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حنّ وذرفت عيناه فأتاه رسول الله فمسح ذفراه [22] فسكت فقال: من رب هذا الجمل؟ فقال فتى من الأنصار: هو لي يا رسول الله فقال: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه".(7/282)
وعن ابن مسعود قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا فيه حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت تعرش فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من فجع هذه بولديها؟ ردوا ولديها إليها " أخرجهما أبو داود.
في هذين الحديثين تتجلى روح النبي صلى الله عليه وسلم..أنه يحارب الظلم وإن نزل بطير أو حيوان إنه يحذر أن نعذب خلق الله وأن نجيع عباده ونشق عليهم في العمل ونفرق بين الأهل والعشيرة دون ذنب وجريرة.
إن الجمل الذي لا يعي ولا يبين والحمرة التي لا تعقل ولا تنطق قوى لديهما الإحساس بأن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم شخصية فذة رحيمة عادلة يلجأ إليها الخائف فيأمن والجائع فيطعم والمكدود فيستريح والمظلوم فينصف.
ولا عجب إذا قدم كل منهما شكايته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا عجب إذا بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنظر شكايتهما والعمل على إنصافهما ليعلم الحكام من بعده أن يترفقوا بالمحكومين ويسارعوا إلى دفع الظلم عن المظلومين ورفع الغبن وضمان العيش الهنيء لجميع العالمين.
4_ الحاكم مطالب بأن يراقب الله في أموال الدولة فلا يعبث ولا يسرف ولا ينفق إلاّ فيما يجب الإنفاق فيه وبالقدر اللازم له ويتحاشى أن تمتد إليها يده أو يد أقاربه أو يد المقربين إليه بغير حق ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.
فقد روى أحمد في مسنده أن علياً وفاطمة أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقال علي: "يا رسول الله. والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري"، وقالت فاطمة:"لقد طحنت حتى مجلت يداي وقد جاءك الله بسبي وسعة فأخذ منا "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع ولكن أبيعكم وأنفق عليهم أثمانهم".
هكذا حارب الرسول صلى الله عليه وسلم المحسوبية، وأعطانا درساً في العدالة الإجتماعية.(7/283)
وعلمنا أن ندقق في صرف أموال الدولة، فلا تصرف في مهم وهنا ما هو أهم ولا تنفق على الأقرباء ويترك الغرباء بل تصرف حسب ما تقضي به حاجة الأمة وتتطلبه ومصلحتها.
5_ الحاكم مطالب بأن يحافظ على دماء أفراد الرعية وأموالهم وأعراضهم وحريتهم وأمنهم وكرامتهم، فلا تمتد إليها يده أو يد أحد آخر بغير حق، قال صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ههنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امريء من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" أخرجه مسلم.
وعن عامر بن ربيعة أن رجلاً أخذ نعل رجل فغيبها وهو يمزح فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تروّعوا المسلم فإن روعة المسلم ظلم عظيم" رواه البزار والطبراني.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من نظر إلى مسلم نظرة يخيفه فيها بغير حق أخافه الله يوم القيامة" رواه الطبراني.
وقال صلى الله عليه وسلم: "من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه أوكلّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة" رواه أبو داود.
هذه هي أهم الأسس التي بني عليها الحكم الإسلامي وبها قامت دولة المسلمين في أزهى عصورهم.
وجدير بنا أن نمتع الأنظار ببعض الروائع والبدائع التي سجلها التاريخ لحكام المسلمين لتكون شاهد صدق على ما نقول:(7/284)
طلب نفر من عمر رضي الله عنه أن يتوسع على نفسه من بيت المال فقال: "إنما مثلي ومثل هؤلاء - أي الرعية - كمثل جماعة سافروا فأعطوا نفقاتهم إلى رجل منهم فهل يحل له أن يستأثر بشيء منها". وحضر رجل مع أبي موسى الأشعري في غزو فغنموا مغنماً فأعطاه أبو موسى بعض سهمه فأبى أن يقبله إلاّ جميعاً فجلده أبو موسى وحلق شعره فجمع الرجل شعره ورحل إلى عمر ثم رمى به في وجهه وقال: "والله لولا النار". فقال عمر: "صدق الله لولا النار"ثم سأله ما قصته فأخبره فكتب إلى أبي موسى: إن كنت ضربته في الملأ فاجلس إليه ليضربك في الملأ، وإن كنت ضربته في الخلاء فاجلس إليه ليضربك في الخلاء فقدم الرجل على أبي موسى فقال له الناس: أعف عنه، فقال: لا, والله لا أدعه لأحد من الناس فلما قعد أبو موسى ليقتص منه قال له: هل أحد يمنعك مني الآن؟ قال: لا. قال: الآن عفوت عنك لوجه الله الذي مكنني منك". ومرة وجد علي كرم الله وجهه درعه في يد يهودي فقال لليهودي: "الدرع درعي لم أهب ولم أبع"فقال اليهودي: "درعي وفي يدي"فلم يمد على يديه إليها وهو أمير المؤمنين بل أعلن خضوعه للقانون الذي يسري على عامة الرعية فرفع الأمر إلى القضاء فلما وقف أمام القاضي شريح سوى شريح بينه وبين خصمه وبدأ علي يعرض شكايته فطلب منه شريح بينة فقال علي:"قنبر والحسن يشهدان بأنها لي "فقال شريح:"شهادة الإبن لأبيه لا تجوز "فقال له علي:"رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة " فقال اليهودي: "أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه وقاضيه لم يحكم له أشهد أن هذا هو الحق أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله وأن الدرع درعك".
هذه بعض روائع الحكم الإسلامي فلنعد إليه عسى أن نتنسّم نسيم الحرية ونظفر بحياة طيبة وعيش كريم ونعيم مقيم ومنزلة سامية بين العالمين.(7/285)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة المائدة آية 2.
[2] سورة القصص آية 50.
[3] سورة البقرة آية 138.
[4] سورة الحجر آية 9.
[5] سورة النساء آية59.
[6] سورة المائدة آية 3.
[7] سورة الإسراء آية70.
[8] سورة فاطر آية 39.
[9] سورة القصص آية83.
[10] سورة آل عمران آية79.
[11] سورة الأعراف آية179.
[12] سورة الحجرات آية13.
[13] سورة المنافقون آية8.
[14] سورة الحديد آية25.
[15] سورة النساء آية 74-76.
[16] سورة النور آية 33.
[17] سورة الحديد آية 7.
[18] سورة النساء آية 36.
[19] سورة الملك آية 15.
[20] سورة الجمعة آية 10.
[21] سورة آل عمران آية 159.
[22] الذفرى من البعير: مؤخر رأسه وهو الموضع الذي يعرق من قفاه.(7/286)
أمضوا حيث شئتم
للشيخ: محمد المجذوب
المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
كانوا ستين راكباً يقدمهم الثلاثة المعظمون، الذين لا يختلف على تقديمهم اثنان من أهل نجران.. أما العاقب عبد المسيح فهو أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم، الذي لا يصدرون إلاّ عن رأيه، ثم السيد الأيهم وهو قائد الركب، وإليه تنظيم أمرهم في رحيلهم ونزولهم، ولا تتأخر مرتبة ثالثهم أبي حارثة بن علقمة البكري عن كلا الإثنين، إذ كان أسقفهم الأعلى، الذي إليه ترجع نجران كلها في فقه دينها والفصل في أحكامه، ومن أجل ذلك كان موضع إجلال الجميع، حتى ملوك الروم أنفسهم الذين عرفوا له قدره العلمي، وإخلاصه لمذهب الدولة، فأحاطوا، بضروب الإكرام والإنعام، فلم يردوا عليه طلباً، ولم يرفضوا إليه رغبة.
وكانت وجهتهم يثرب ... لذلك كان معظم الحديث بين هؤلاء الثلاثة حولها، وفي شأن الدعوة التي انتقلت من مكة إليها، ثم ما زالت أخبارها تتناقل على ألسنة الوافدين إلى مكة ويثرب والصادرين عنهما إلى مختلف أنحاء الجزيرة ... ولم يكن دور العاقب والسيد على جلالة قدرهما، يتجاوز ذكر ما بلغهم عن ذلك القرشي، الذي أحدثت دعوته كل هذه الضجة، واجتذبت من سكان البوادي والحواضر كل ذلك الإهتما م.. حتى بلغت أذهان كبار الدواة الرومية، فبعثوا يستفسرون عن محمد ودعوته أحبار نجران، يريدون أن يتحققوا من أمرهما ويحيطوا بواقعهما دون زيادة أو نقصان، وكما هو شأن كل مسيحي تقي في نجران كان على العاقب والسيد أن لا يعقبا بشيء على ما يذكران من أمر هذه المشكلة الجديدة، ثقة منهما بأنها من اختصاص كبار المقدسين من أحبار الكنيسة، الذين أراحوا أتباعهم من أعباء التفكر بكل طاريء من شئون الدين، فليس عليهم إلاّ أن يسمعوا قولهم حتى يسرعوا إلى قبوله، على أنه الحق الذي لا ريب فيه..(7/287)
ومن أحق من الحبر الثقة أبي حارثة بأن يرجع إليه في مثل هذا الأمر الخطير..
على أن أبا حارثة ظل مشغول الفكر عما يديرون من ذلك الحديث، لا يكاد يشاركهم في شيء منه.. فلم يسعهم إلاّ احترام صمته، إذ قدروا أنه لابد غارق في صلاة قلبية تقطعه عما حوله.. وقد قدّر هو بدوره موقفهم منه، فكان لا يظن عليهم بالإلتفات والكلام كلما أحوجهم رأيه في أمر الإبهام الذي يستحوذ على كثرتهم في شأن السيد المسيح (ع) .. ذلك أن اجتماعهم على عقيدة الدولة في تأليهه.لم يمنعهم من الإختلاف على تحديدها، فهو في مفهوم بعضهم عين الله، ولدى غيرهم ولد الله، وعند الآخرين ثالث ثلاثة يؤلفون بمجموعهم ذات الله..
ولم يكن الموضوع أكثر وضوحاً في ذهن أسقفهم الجليل منه في أذهانهم.. فكان كل ما يملكه من رأي في هذا الشأن هو أن يردد عليهم كلام الأحبار، الذين اتخذوا قرارهم بتأليه السيد المسيح في مجمع نيقية، وفقاً للفلسفة الأفلوطينية التي تشربتها من قبل، والتي تقرر ثلاثية الأقانيم في ذات واحدة، ومعتبرين كل من يخالفهم في هذا الإتجاه، فيقبل عقيدة أريوس في بشرية المسيح، كافراً محروماً من نعمة الميسحية ... فإذا رأى أن كلامه غير واضح الدلالة في أذهان الرجلين قطع كل تردد بقوله: "إن الأمر فوق تصورات العقل البشري.. فما على المسيحي المستقيم سوى التسليم"..(7/288)
وصدر أمر السيد الأيهم إلى الركب بالنزول لقضاء الليل.. ورفعت لأبي حارثة خيمته الخاصة المنسوجة بالوبر والإبريسم، والتي أهديت إليه من قيصر الروم، وتقدم كرز أخوه آخذاً بزمام بغلته إليها، حتى إذا قاربها عثرت بأحد الأوتاد فأهوت قليلاً ثم اعتدلت، ومع عثورها انطلق لسان كرز بكلمة سوء، ترجمت كرهه الشديد لصاحب الرسالة الإسلامية الذي استغرق الكلام عنه وعن دعوته الكثير من حديثهم أثناء الطريق، ولكنه سرعان ما تلقى رد أخيه على قولته بهذه العبارة المثيرة "بل أنت تعست يا كرز بن علقمة!.."وكانت صدمة غير متوقعة لدى كرز، الذي كان على مثل اليقين بأن أخاه الأسقف هذا لن يقبل عنه بغضاً لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.. ولهذا لم يتمالك أن سأله في دهشة بالغة:"ولم يا أخي"؟
ولم يشأ أبو حارثة أن يجيب بشيء قبل أن ينحدر عن بغلته ويستقر على مرتبته، وهناك دعا بأخيه كرز وقال له بمثل الهمس: "والله إنه لنبي الذي كنا ننتظر.."
وأطرق كرز يفكر بما يسمع، ثم رفع رأسه ليقول لأخيه في صوت جاف متهدج خفيض: "النبي.. الذي كنا ننتظر"؟
"- نعم يا كرز..ألا تذكر الوضائع - المخطوطات - التي ورثناها عن كبار الأحبار..أن فيها والله لبشرى عيسى بمحمد.. ووصف مبعثه ومهجره.. وشمائله ودعوته..".
"- إذا كنت تعلم هذا.. فما يمنعك العمل به؟ .. ألست أحق الناس باتباعه وتوجيه رعيتك إلى متابعته "؟
وأمسك الأسقف لا يحير.. ثم أرسل زفرة طويلة أعقبها بقوله الهامس: "يمنعني يا كرز ما صنع بنا هؤلاء القوم. شرفونا ومولونا وأكرمونا وأخدمونا.. وقد أبوا إلاّ مخالفته.. فلو فعلت ما أشرت به نزعوا منا كل ما ترى..".(7/289)
وانتهى ركب نجران إلى مشارق يثرب.. وهناك توقفوا قليلاً ليصلحوا من شأنهم، ينفضون عنهم غبار السفر، ويرتدون أنفس ما يحملون من برود اليمن، مما يعد نادر الوجود في معظم أنحاء الجزيرة ثم واصلوا سيرهم حتى وضعوا رحالهم على مداخل المسجد، الذي علموا أنه موضع استقبال رسول الله، ثم انطلقوا إلى داخله، يجرون حبراتهم ويتقدمهم معظموهم الثلاث حتى صاروا إلى الغاية التي ينشدون. وبادر الوفد نبي الله بتحيتهم الخاصة (الله معكم) .. ثم أخذوا مجالسهم على جانبي رؤسائهم الذين انتظموا في مواجهته..
وتكلم الأسقف ثم تلاه العاقب فأثنيا على الله، وأفاضا في ذكر فضائل دينهما، وما يحض عليه من البر والتواضع وحسن الخلق.. وكأنما أرادا بذلك التوكيد على ما بين دعوته ودينهما من القرب والتلاقي، وكأن رسول الله قد أراد إحاطتهما بأن كل خير سيظل أبتر ما لم ينطلق عن الأساس الأول والأعظم، وهو إفراد الله وحده بالألوهية والربوبية والحاكمية، فلا تعنوا الوجوه لغيره، ولا يرفع دعاء إلى سواه، فقال لهما:"أسلما".. ولكنهما لم يريدا أن يكونا صريحين في الإجابة فعمدا إلى التورية باستعمال مفهوم الإسلام على الأصل اللغوي دون الشرعي فقالا: "قد أسلمنا"يريدان بذلك أنهما وقومهما إنما يبغيان في كل ما يأتيان وجه الله، فهم إذا مسلمون أزمتهم لله دون غيره. وما كان لمثل هذا الالتواء أن يرضي صاحب الرسالة البينة، فرفض ادعاءهما، وأصرا على زعمهما، فلم يكن بد من مواجهتهما بالكلمة الحاسمة فقال: "كذبتما.. يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولداً وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير"..
وكان في هذا التقرير ما أخرس الرجلين فلم يجدا مندوحة عن الإقرار بما يضمران، والدفاع عما يعتقدان.(7/290)
وأنزل الله وحيه على نبيه بالأجوبة المفحمة لكل ادعاء في المسيح يخالف حقيقته، وينسب إلى الله تبارك وتعالى ما ينافي كماله ووحدانيته، مقاطع محكمات خالدات حاسمات، تستغرق صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية.
وكان لابد لبغاة الجدل أن ينقطعوا أمام تلك الحقائق الدامغة، فلا يجدوا سبباً يتشبثون به سوى محض العناد، وبذلك وقف عمل الحجة وجاء دور التحدي فأنزل الله على رسوله حكمه الرهيب {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ} - في المسيح - {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} - بحقيقته - {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} ..
وبلغ رسول الله القوم إنذار ربه، فدعاهم - إن لم يذعنوا لأمر الحق - على اللجوء للدعاء يسألون به الله أن يظهر الصادقين، وينزل لعنته على الكاذبين.
وبهت القوم لا يعلمون ما يعملون.. واتجهت أبصارهم جميعاً إلى أسقفهم، الذي إليه أسلموا قياد عقولهم، وكان على هذا أن يبت بالأمر قبل أن تختلف الكلمة فيحدث ما لا تحمد عقباه، فقال لرسول الله: "دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل في ما دعوتنا إليه".(7/291)
وكانت ليلة ليلاء أقضت مضاجع الوفد النجراني فلم يستطع إلى النوم سبيلاً.. وأمسك الحبر أبو حارثة عن الاسترسال في الكلام ليستبين اتجاه القوم، وترك للعاقب عبد المسيح أن يعالج المشكلة بما يملك من حسن السياسة.. فعمد هذا إلى الرؤساء الأربعة عشر، فخلا بهم على حدة ثم قال لهم، في تصميم الرجل الذي يقدر عبء المسئولية الملقاة على عاتقه: "والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل في خبر صاحبكم الذي تختلفون عليه. ولقد علمتم مالا عن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلاّ ألف دينكم، والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم - السيد المسيح - فوادعوا الرجل، ثم انصرفوا إلى بلادكم"..
وتلقى الرجال موعظة أميرهم في تدبر عميق.. ولم يشكوا في أنه قد أخلص لهم النصيحة، وإن لم يكن معظمهم على كبير استعداد لفهم ما ذهب إليه من رأى غريب جديد في المسيح. وبدافع من خوف المصير المجهول آثروا جانب الموادعة، ثم لم يلبثوا إلاّ ريثما ارتفع مد الضحى حتى انطلق هؤلاء إلى الرسول يبلغونه قرارهم..
وتكلم صاحب أمرهم فقال: "يا أبا القاسم.. قد رأينا ألا نلاعنك، وأن نتركك على دينك، ونرجع على ديننا.. ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رضا"..
وكدأب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تجنب الإكراه لم يأب عليهم ما سألوا.. وأنظرهم قائلاً: "إيتوني بالعشية أبعث معكم القوي الأمين".
ولما حان الموعد نظر رسول الله عن يمينه وعن يساره، حتى رأى أبا عبيدة عامر بن الجراح، فدعاه وقال: "أخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه"..
وغادر الركب المدينة في طريقه عائداً إلى نجران..(7/292)
وغرق الثلاثة ومعهم كرز بن علقمة في غمرة من الصمت، كادت تذهلهم عن لغو القافلة من حولهم، وكان كرز أكثرهم تلفتاً إلى معالم المدينة، فكأنما يودع فيها شيئاً عزيزاً أحبه.. حتى إذا أوشكت تغيب عن بصره وقف ناقته، ثم توجه إلى أخيه الأسقف الساهم الوجه، الغائر العينين، يخاطبه وصاحبيه بقوله: "إنكم لأعزة والله علي.. ولكن الحق الذي آمنت به قلوبكم أحب ألي من صحبتكم.. فامضوا حيث شئتم، وتشبثوا بما رغبتم، أمّا أنا فلن أوثر على الحق وعلى مرضاة الحق أي شيء..".
وضرب وجه ناقته لتأخذ سبيلها باتجاه المدينة.. وفي غبطة روحية لا عهد لكرز بمثلها من قبل جعل ينشد مناجياً - من وراء الغيب - ذاك النبي العربي الذي أحبه أكثر من حبه لنفسه وأهله وماله:
معترضاً في بطنها جنينها
إليك يعدو قلقاً وضيتها
مخالفاً دين النصارى دينها(7/293)
العدد 21
فهرس المحتويات
1- حكم الصلاة في الجماعة: رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز
2- أضواء من التفسير: للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
3- من أعلام المحدثين - أبو بكر ابن أبي شيبة (159-235 هـ) : للشيخ عبد المحسن العباد
4- محاسن الشريعة ومساوئ القوانين الوضعية: للشيخ عطية محمد سالم
5- وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين: للشيخ حسن السيد متولي
6- السفور: للشيخ محمد الحداد
7- المسؤولية في الإسلام: للشيخ عبد الله قادري
8- هل في القرآن من غير لسان العرب؟ : بقلم الشيخ محمد بن محمد الأنصاري
9- دراسات في السنة النبوية: بقلم الشيخ: محمد ضياء الرحمن الأعظمي
10- من الصحف والمجلات - توثيق العلاقة بين الجامعة الإسلامية والمعاهد الدينية في جنوب شرق آسيا: نشرت جريدة الجزيرة
11- ناداك ربك: للشاعر السوري: مصطفى عكرمة
12- حكمة الصيام من الوجهة الطبية: بقلم الطبيب أحمد محمد سليمان
13- ندوة الطلبة - عتاب: بقلم: محمد محمود جاد الله
14- ماذا يجري في الوطن الإسلامي؟ : بقلم: محمد صديق برماوي
15- من أسس الشيوعية؟ : بقلم الطالب عبد الفتاح علي عبد الله
16- خالف النفس: بقلم محمد عبد الرحمن شميله الأهدل
17- الزاوية الطبية: بإشراف أطباء الجامعة الإسلامية
18- الفتاوى: يتول الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
19-أخبار الجامعة
20- السفير الأوغندي في القاهرة يزور الجامعة الإسلامية
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(7/294)
حكم الصلاة في الجماعة
رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلقد عظمت المصيبة بتهاون الكثير من المسلمين بأداء الصلاة في الجماعة والتشبه بالمنافقين في التخلف عنها واحتجاج بعضهم بتسهيل بعض العلماء في ذلك فوجب علي أن أبين عظم هذا الأمر وخطورته وأنه لا ينبغي للمسلم أن يتهاون بأمر عظم الله شأنه في كتابه العظيم وعظّم شأنه رسوله الكريم عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم.
ولقد أكثر الله سبحانه من ذكر الصلاة في كتابه الكريم وعظّم شأنها وأمر بالمحافظة عليها وأدائها في الجماعة وأخبر أن التهاون بها والتكاسل عنها من صفات المنافقين فقال تعالى في كتابه المبين {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} .
وكيف تعرف محافظة العبد عليها وتعظيمه لها وقد تخلف عن أدائها مع إخوانه وتهاون بشأنها، وقال تعالى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} , وهذه الآية الكريمة نص في وجوب الصلاة في جماعة والمشاركة للمصلين في صلاتهم، ولو كان المقصود إقامتها فقط لم تظهر مناسبة واضحة في ختم الآية بقوله سبحانه {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} , لكونه قد أمر بإقامتها في أول الآية، وقال تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} الآية.(7/295)
فأوجب سبحانه الصلاة في جماعة في حال الحرب فكيف بحال السلم؟ ولو كان أحد يسامح في ترك الصلاة في جماعة لكان المصافون للعدو المهددون بهجومه عليهم أولى بأن يسمح لهم في ترك الجماعة، فلما لم يقع ذلك علم أن أداء الصلاة في جماعة من أهم الواجبات، وأنه لا ينبغي لأحد التخلف عن ذلك، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا أن يصلي بالناس ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم" الحديث.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق علم نفاقه أو مريض ان كان المريض ليمشي بين الرجلين حتى يأتي الصلاة، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه", وفيه أيضا عنه قال: "من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادي بهن فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلاّ منافق معلوم النفاق ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف".
وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا أعمى قال يا رسول الله إنه ليس لي قائد يلائمني إلى المسجد فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هل تسمع النداء بالصلاة، قال: نعم، قال: فأجب".(7/296)
والأحاديث الدالة على وجوب الصلاة في الجماعة وعلى وجوب إقامتها في بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه كثيرةٌ جداً، فالواجب على كل مسلم العناية بهذا الأمر والمبادرة إليه والتواصي به مع أبنائه وأهل بيته وجيرانه وسائر إخوانه المسلمين امتثالاً لأمر الله ورسوله، وحذراً مما نهى الله عنه ورسوله وابتعادا عن مشابهة أهل النفاق الذي وصمهم الله بصفة ذميمة من أخبثها تكاسلهم عن الصلاة, فقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلاً. مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} .
ومتى ظهر الحق واتضحت أدلته لم يجز لأحد أن يحيد عنه لقول فلان أو فلان، لأن الله سبحانه يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} ، ويقول سبحانه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
ولا يخفى ما في الصلاة في الجماعة من الفوائد الكثيرة والمصالح الجمة ومن أوضح ذلك التعارف والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه وتشجيع المتخلف وتعليم الجاهل وإغاظة أهل النفاق والبعد عن سبيلهم وإظهار شعائر الله بين عباده، والدعوة إليه سبحانه بالقول والعمل إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة.(7/297)
وفقني الله وسائر المسلمين لما فيه رضاه وصلاح أمر الدنيا والآخرة، وأعاذنا جميعا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ومن مشابهة الكفار والمنافقين إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(7/298)
من الصحف والمجلات
نشرت جريدة الجزيرة هذا الخبر تحت عنوان:
توثيق العلاقة بين الجامعة الإسلامية
والمعاهد الدينية في جنوب شرق آسيا
تلبية لدعوة تلقتها الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة من الجامعة الوطنية في ماليزيا لزيارتها لذلك فقد تقرر أن يغادر المدينة المنورة قريبا كل من فضيلة الأمين العام للجامعة الشيخ محمد ناصر العبودي وفضيلة الشيخ عبد العزيز القويفلي عميد كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة متوجهين إلى ماليزيا في زيارة لجامعتها الوطنية كممثلين للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.. وتجدر الإشارة إلى أن فضيلتهما سيقومان بالإضافة إلى ذلك بزيارة الجامعات والمعاهد الإسلامية في كل من إندونيسيا وماليزيا وتايلاند لإجراء اتصالات مع المسئولين فيها بغية توثيق العلاقات الإسلامية بين الجامعة الإسلامية وتلك المعاهد.. هذا وتستغرق هذه الزيارة مدة شهر تقريبا..
نشرت مجلة المجتمع العدد 155 ما يلي:
من المهازل التي أرقت حياة المواطنين وعكرت صفوهم وآذتهم في أسرهم برامج ما يطلبه المستمعون سواء في الإذاعة أو في التلفزيون.
أسوأ الأغاني.. وأشدها انحلالا وتخلفا في المعنى تذاع بكثرة في الكم.. وبامتداد طويل في الزمن.
إن التلفزيون ينظم برامج على أساس افتراض أن مجتمعنا كله سقيم المزاج. صريع الانحلال.
وإلا فما معنى. ما جدوى بث الأغاني المبتذلة في أمة طال بها الظمأ إلى قيم الجد والمروءة.. أمة يتهددها الخطر.. القريب والبعيد. إذا استغرب الناس تصرف رجل طائش يقتحم بيتا فاضلا.. يري
أن يغني فيه الأغاني الخليعة فيجرح حياء أهل البيت ويعتدي على فضائلهم.
إذا استغرب الناس هذا التصرف فبنفس المنطق ولنفس السبب يستغربون تصرف الإذاعة والتلفزيون.(7/299)
إنهما يقتحمان البيوت اقتحاما.. ويبثان فيهما ما يجرح الحياء ويؤذي الفضيلة.
ديننا هو سلاحنا
"إننا نعيش الحرب الصليبية الثالثة.. وكانت الأولى هي التي دعى إليها البابا أربان الثاني في نوفمبر 1095م والثانية بدأت بنزول نابليون في الإسكندرية في يوليو 1798م.. أما الثالثة يصعب تحديد بدايتها لأنها لا تعتمد على الحملات العسكرية حتى نؤرخ لها بيوم الغزو. بل إن مدفعيتها الثقيلة هي الغزو الفكري.. وهي عملية معقدة ومستمرة، تتسلل على نحو يصعب تماما تحديد بدايته.. بل ربما تمتد جذورها إلى الحرب الصليبية الأولى. وفي مواجهتها ليس لنا من سلاح إلا ديننا … ".
كان هدف التبشير هو التمهيد للغزو المسلح، ثم تدعيم هذا الغزو.. ولكن تجارب المبشرين أثبتت استحالة تنصير المسلمين، بل اكتشفت أن الهجوم السافر يستفز عناصر المقاومة ولو من باب العصبية. كذلك كان المبشرون يعرفون أن عنصر السيطرة الاستعمارية إلى زوال، وأن القوة المسلحة التي ساندت تصرفاتهم الوقحة زائلة، ومن ثم أعدوا سلاح الغزو الفكري.. أي إعادة ترتيب عقل المسلم بحيث يفكر منطلقا من مقدمات صليبية على أنها هي الحقائق، فيخرج منها بنتائج صليبية دون أن يخلع دينه، ولا حاجة إلى تعميده بالماء المقدس فقد عُمّد بالفكر غير المقدس.
والمسلم إذا تشرب طقوس الحضارة الغربية واطمأن إليها، بل وأيقن بتفوقها عليه.. انهارت مقاومته، وأصبح كالمدينة المفتوحة مستباحة لكل ناهب ومقتحم.
إذن فالحرب سجال بيننا وبين الحضارة الغربية. وأرض المعركة الآن هي الفكر.. محولة اقتحام القلعة الإسلامية بالأفكار والمبادئ والقيم.. حتى يتم خلع القيم الإسلامية، وتدمير المثل العربية لكي يتحول المواطن العربي إلى قرد يحاكي الحضارة الغربية، ويقضي العمر في اقتفاء أثرها بلا أمل في التفوق.. لأنه قد رضي بدور الظل، وأنىّ للظل أن يسبق سيده؟!..".(7/300)
من كتاب (الماركسية والغزو الفكري) ص16 و45 و57 ط3.
رسالة من إيطاليا
إلى كل أخت من أخواتي المسلمات في كل بلد إسلامي أرسلها كلمة صدق من قلبي.. من أعماق قلبي.. أكتب إليك ما أشاهده بأم عيني في بلاد الحضارة!.. بلاد الذرة والصاروخ.. بلاد القمة والشموخ إنها بلاد جهله.. ومزارع فساد وعهر ودعارة.. لا أكتب هذا ليقال إنني كتبت شهد الله لا.. ولكني أكتب وقلبي يحترق وأنا أرى الفتاة باسم الحضارة تصبح سلعة رخيصة تتناقلها الأيدي وأرى الفتاة الغربية باسم الإنسانية تهدر إنسانيتها لا رادع ولا وازع.. الدين طقوس تُقام في الكنيسة.. العادات والتقاليد خطط لها اليهود الشباب متهورون منقادون دون وعي وراء الجنس.. وراء الفتاة.. أي فتاة.. والفتاة تتمشى في الشوارع تتصيد الزبائن والآباء قاتلهم الله ذوو دم بارد وغيرتهم- بل الأولى أن لا أتكلم عن الغيرة على الشرف لأنهم لا يعرفون هذه الكلمة- إنه يا أختاه مجتمع غريب … والله إن الجبين ليندي من مناظر الفتيات وهن يتسكعن في الشوارع والبارات بل وفي كل مكان يوجد به صيد يا إلهي ما أكرمك وأحكمك … وما أعدلك.. لقد أنصفت المرأة المسلمة وجعلتها بدينك الحنيف عضوا له قيمته المادية والمعنوية في المجتمع ولكن أنى لهذه الأقوام أن تفقه وقد تجمدت العقول؟! يا أختاه في الله أثبتي … إنك أنت صانعة الأجيال مربية الأبطال.. بيديك الطاهرتين تصقلين النفوس وبعفافك وطهارتك تبنين الأمل بالمستقبل.. إنك كريمة طيبة لا تسمعي لما يقوله أتباع الغرب في الشرق فلقد ظنوا الحضارة أن تكون المرأة عارضة أزياء وملكة جمال وراقصة تبيع جسدها لكل جائع وخليلة تشبع رغبتها فحسب … أما أنت فلا وألف لا.. أنت حفيدة خديجة، وعائشة رضي الله عنهما. أنت بانية المستقبل فأحسني نيتك. واعقدي العزم لأن تشدي أزر الرجل بالحق وتكوني كالشمعة تضيء له الطريق ليصل هو بالتالي إلى الثمرة الكريمة. اليانعة فيقطفها(7/301)
وتكوني أنت أم البطل الذي يحقق النصر ويقتحم الصعاب. ويبقى قلعة صامدة مدى الحياة. في وجه كل ما هو باطل …
أختك (…..) إيطاليا، نقلا عن مجلة المجتمع.
خطاب البابا شنوده
في الاجتماع الذي تم في الكنيسة المرقسية بالإسكندرية برئاسة البابا شنوده الثالث بتاريخ 25/3/1972م.
بعد أداء الصلاة والترتيلات طلب البابا شنوده من عامة الحاضرين الانصراف فانصرفوا ومكث رجال الدين وبعض أثرياء وأعيان المسيحيين بالإسكندرية. وفي مستهل الاجتماع بدأ البابا شنوده كلمته بأن بشرهم بأن كل شيء يسير على ما يرام، وحسب الخطة الموضوعة والتخطيط المرسوم لكل جانب من جوانب العمل على حدة في إظهار الهدف الموحد فتحدث عن عدة موضوعات تشمل عدة نشاطات وقد اتخذت الكنيسة عدة قرارات لتحقيق هذه الخطة بالنسبة لزيادة عدد المسيحيين.
1- تحريم تحديد النسل وتنظيمه بين شعب الكنيسة.
2- تشجيع تحديد النسل وتنظيمه بين المسلمين خاصة وإن أكثر من 65 من الأطباء وبعض الخدمات الصحية من شعب الكنيسة.
3- تشجيع الإكثار من النسل بين شعب الكنيسة ووضع حوافز ومساعدات معنوية ومادية للأسر الفقيرة من شعبنا.
4- التنبيه على العاملين بالخدمات الصحية على المستوى الحكومي وغير الحكومي بمضاعفة الخدمات الصحية بين شعبنا المسيحي وبذل العناية والجهد الوافرين وذلك من شأنه تقليل نسبة الوفيات بين شعبنا على أن تكون تصرفاتهم غير ذلك مع المسلمين.
5- تشجيع الزواج في السن المبكر بتخفيض تكاليفه وذلك بتخفيف رسم فتح الكنائس ورسوم الإكليل بالكنائس الكائن بالأحياء الشعبية والفقيرة.(7/302)
6- تحرم الكنيسة تحريما باتا على أصحاب العمارات والمساكن المسيحية تأجير أي مسكن أو شقة أو محل تجاري للمسلمين، ويعتبر من يفعل ذلك من الآن مطرودا من رحمة الرب ورعاية الكنيسة كما يجب العمل بشتى الطرق والوسائل على إخراج السكان المسلمين من العمارات والبيوت المملوكة لشعب الكنيسة وهذه السياسة الإسكانية إذا استطعنا تنفيذها بقدر الإمكان فإن من شأنها تشجيع وتسهيل الزواج بين شباب المسيحيين وتصعيبه وتضييقه بين شباب المسلمين مما يكون له أثره الفعال في الوصول إلى الهدف حيث لا يخفى أن الغرض من هذه القرارات هو انخفاض معدل الزيادة بين المسلمين وارتفاع هذا بين شعب الكنيسة.
عن جريدة الرائد - العدد18.(7/303)
ناداك ربك
للشاعر السوري: مصطفى عكرمة
ناداك صوت ساحرُ النبرات.
فأجب نداء الله في عرفات.
وعلى جناح الشوق طر لرحابها.
واغنم هناك سوانح الرحمات.
جنات عدنٍ خلف حرّ رمالها.
تهفو إليك.. فقم إلى الجنات.
لحظات عمرك عند مكة أدهر.
القلب فيها دائم الخفقات.
ناداك ربك فاستجب لندائه.
فإذا فعلت ضمنت خير حياة
.(7/304)
حكمة الصيام من الوجهة الطبية
بقلم أحمد محمد سليمان: الطبيب بمستوصف الجامعة
شرع الله الصيام عبادة وتقوى وله فوائد نفسية روحية فمع الإحساس بالجوع يشارك الفقراء في نفس الإحساس فيسارع بإطعام الجائع وإغاثة المسكين، وتقل ضراوته واعتداؤه وصخبه حيث تقل الطاقة الجسمية مع نقص مستوى الجلوكوز (سكر العنب) في الدم وبهذا يتعود الهدوء والوداعة والسكينة. ثم أنه يفطر في موعد محدد ويتناول سحوره في موعد محدد فيتعلم النظام قانون الله في الوجود وفي هذا الخير كله في النفس والبدن معا.
وعند علاج كثير من الأمراض النفسية يلجأ المداوي في الطب القديم إلى استعمال الحميه ويلجأ الطبيب الحديث إلى استعمال جرعات صغيرة من الأنسولين التي تنزل بمستوى سكر العنب في الدم فيشعر المريض بأعراض تشبه أعراض الصيام قبل الإفطار بساعتين أو ثلاثة فبذلك تهدأ نفسيته ويقبل على أكله بشهية.
والنفس في حالة مرضها تحتاج إلى نوع من الحمية فإذا صاحب ذلك قراءة للقرآن والأحاديث والمواعظ تتقبل النفس الخير الذي تحتويه والنفس (في حالة الجوع) تكون صافية ذات قابلية عالية للإيحاء النفسي فتدخل عليها تلك المواعظ والحكم الإلهية فتقابل أرضا خصبة ممهدة تقبل الخير وتزدهر منها المحبة الخالصة لله جل وعلا ومن أفنى عمره في عبادة الله وحب الله دخل جنة الآخرة وأحس نعيم الدنيا. وجميع أنواع المحبة الأخرى تنبع من حب الله فمن أحب الله بر أهله وأحب جاره وأحب أخاه المسلم وهذه الدائرة تنعكس عليه فيشعر بالنور والرضا يشيع في جنبات نفسه كيف لا وقد أصبحت نفسه مليئة بحب الله فلا محل فيها لضغائن ولا أحقاد ولا حسد ولا فساد طوية. ومن هذه المحبة للخير للناس يشعر الإنسان بسعادة حقيقية.
ومع السعاة النفسية تزول الأمراض النفسية والنفسية الجسمية أيضا كالقرحة وضغط الدم والقرحة الإثني عشرية وألم الشراسف … الخ.(7/305)
ولا شك أن الصيام يعود الإنسان أن يتحكم في شهواته فيكف عن الطعام طاعة لله فيتعلم بذلك أن يكف نفسه عما يضرها من طعام أو شراب وتكف نفسه عن الشهوة الجنسية عندما تكون تنطبق عليها الآية: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} .
والصوم جنة كما ورد في الحديث الصحيح فكما ترون فالشق الأكبر من فوائد الصيام هو شفاء النفس والشق الأصغر يتناول شفاء الجسم فمرض البول السكري في مراحله الأولى وخاصة عند السمنة يكون علاجه بالصيام والحمية عن المواد السكرية والنشوية وعفونة الأمعاء وتخمراتها يعالج بالصيام.
ومرض ضغط الدم يفيد فيه الصيام بالإقلال من الملح والدسم الذي يحوي الكولسترول الذي يسبب تصلب الشرايين.
وعسر الهضم يعالج بالحمية وبتنظيم وجبات الطعام وعدم إدخال الطعام على الطعام وهذا موجود في الصيام. وللاستفادة من الصيام ينبغي ألا يسرف الإنسان في الأكل في الفطور أو السحور وأن يبتع الحديث النبوي "ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه بحسب ابن آدم لقيمات يُقمن صلبه فإن كان ولا محالة فاعلا فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه", وحتى يكون خفيفا نشيطا فيقدر على أعمال العبادة من صلوات التراويح إلى التهجد … الخ.(7/306)
والسنة في الإفطار على التمر والماء لها حكمة طبية فالتمر يحتوي على مواد سكرية سهلة الهضم فتصل إلى الدورة الدموية مع الماء عن طريق الأمعاء خلال دقائق قليلة فيرتفع الجلوكوز (سكر العنب) في الدم إلى المستوى الطبيعي خلال دقائق ونظرا لأن تعب الصائم وإجهاده مرده في الغالب إلى نقص الماء والجلوكوز في الدم فعندما نفطر على تمر وماء فيذهب التعب والإجهاد فور الإفطار بخلاف ما إذا أفطر على فطائر أو أرز مثلا فإن هذه تستغرق في الهضم وقتا طويلا مما يؤخر التعب والإجهاد. والسنة المبادرة بالفطور فور دخول المغرب وتأخير السحور إلى آخر وقتها "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" رواه البخاري.
ثم إن للصائم فرحتين ولا شك أن انتظار الفرج بحلول وقت المغرب حتى تحل أزمة الجوع وتفطر على تمر وماء على بساطتهما تشعرك بأن الدنيا هينة وأن أشق ما في الدنيا من هم السعي لأجل الرزق تكفي فيه بضع حبات من تمر وجرعة من ماء على حل هذه الأزمة فلماذا هذا الجري وراء الدنيا وزينتها؟! مع التماس مسائل غير مشروعة لجلب الرزق ثم البكاء على ما فات والحسرة والندم على هذه الفرصة وتلك السانحة والناس من خشية الفقر في فقر. فالإنسان عليه أن يسعى لرزقه ولكن لا يتكالب على الدنيا ويجري وراء الدينار "تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميلة. تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا. ونختم بهذا الحديث الذي يفيض حكمة ويصلح في طب النفس وإصلاحنا بالقناعة بأساسيات الحياة "من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها" …(7/307)
ندوة الطلبة
عتاب
بقلم: محمد محمود جاد الله: الطالب بكلية الشريعة بالجامعة
يعاود خاطري طيف التصابي.
فأذكر من تقدم من صحابي.
وأذكر غربتي وشقاء روحي.
فأعلمُ أنها دنيا اغتراب.
وإني كلما عاودت ألقى.
رياح الموت قد خطرت ببابي.
بكيت على السعادة في ذراها.
وفي شرخ الشباب على الشباب.
وأنىّ لي الفرار من الرزايا.
وهذا الحزن لم يك في حسابي.
فإن أطعم فلا عيش بباق.
وإن أشرب فيا بؤس الشراب.
يعجل لي زماني كل سوء.
وما هو معجل يوما طلابي.
فكل مصيبة تمضي وتُنسى.
ويُطوى ذكرها إلا مُصابي.
أعاتب عيشنا ما ناب خطب.
وهل عيشي سيسمع لي عتابي.
ألفت الصبر حتى ضاق مني.
وكان مرافقي عالي الجناب.
فإن أصمت فليس لي اختيار.
وإن أصرخ فلست بمستجاب.
وأحكام الزمان إذا توالت.
فما تدري المراء ولا تحابي.
فهذي خدعة كبرى ستمضي.
وإني طالب حسن المآب.
وعند الله في الأخرى نعيم.
وفي هذي يكون له متابي.
إذا حكم الزمان فلا كلام.
ففي كلماته فصل الخطاب.
يظن الناس من جهل بأني.
أحلق بالمنى فوق السحاب.
ولو نظروا بعين العدل ألفَوا.
بقايا الروح ترزح في العذاب
.(7/308)
ماذا يجري في الوطن الإسلامي؟
بقلم: محمد صديق برماوي
حقائق حول اضطهاد المسلمين في بورما
يشكل المسلمون في بورما أكبر أقلية من السكان، إذ يبلغ عددهم ثلاثة ملايين نسمة من بين حوالي ثلاثين مليون نسمة، ويعيش معظمهم في المناطق الشمالية الغربية. وأما بقية الأديان الموجودة في بورما فهي الديانة البوذية وهي ديانة أغلبية السكان ثم ديانة عبادة الطبيعة.
ويتولى الحكم في بورما حكومة اشتراكية من البوذيين، وقد نالت استقلالها عام 1948م، والعجيب أن المسلمين البورميين يلقون أقسى المعاملة من قبل حكومتهم الحالية، فإنهم يشردون من ديارهم ويرحلون عنها وتُفرض عليهم الضرائب الباهضة. ولما كان معظمهم من المزارعين والعمال فإن الحكومة تبتز أكثر من 90 من حاصل إنتاجهم الزراعي، وهناك أمثلة كثيرة من قيام الحكومة بانتزاع ملكية الأراضي وكل شيء من المسلمين بالذات.
وقد قرأت في مجلة المجتمع الكويتي في العدد الثاني السنة الأولى 17 من محرم الموافق 24 من مارس 1970م (أنه جاء إلى الكويت شاب بورمي وقال لرئيس تحريرها: لقد انتزعوا منا كل شيء، كنت ووالدي نتاجر في الأدوات الكهربائية وكان رأس مالنا يعادل مليون روبيه، وكانت تجارتنا مزدهرة ولكن الحكومة الاشتراكية العسكرية في بورما لم يرق لها ذلك فأصدرت أمرا بتأميم جميع أموال المسلمين ولم تبق لنا إلا عقارات بسيطة لم يسمح لنا ببيعها وهي معرضة للتأميم، وفررت من بورما إلى الهند وهُمت على وجهي بحثا عن عمل، وتركت زوجتي في الهند وجئت إلى الكويت) …(7/309)
أما موقف الحكومة البورمية من الحرية الدينية: فإنها تحارب ممارسة الشعائر الإسلامية فلا يجرؤ أحد تقريبا على اعتياد المساجد، ونادرا ما تسنح الفرصة لإقامة صلاة الجمعة حتى أن المسلمين لا يسمح لهم بالخروج من مناطقهم وتُسحب بطاقاتهم الشخصية ويُزج بكثير منهم في السجون، لا لشيء اللهم لأنهم مسلمون حتى فريضة الحج لم تسمح حكومة بورما لأحد من المسلمين بأدائها، فمنذ عام 1962م لم يخرج أحد من المسلمين من بورما حاجا إلى بيت الله الحرام حتى الآن.
وتبذل رابطة العالم الإسلامي قُصارى جهدا في سبيل إقناع حكومة بورما للسماح للمسلمين الموجودين لأداء فريضة الحج لإصلاح حالهم ووضعهم.
وإننا نناشد الأقطار الإسلامية الحرة في العالم، أن تتدخل لحماية المسلمين من هذا الاضطهاد الشديد وأن تلفت أنظارها ومد يد العون والمساعدة للمهاجرين المسلمين من بورمافي العالم الإسلامي فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم".
كما نرجو من هذه الحكومات الإسلامية عامة والعربية الشقيقة خاصة أن ترفع هذه المشكلة للأمانة العامة لمؤتمر وزراء الخارجية الإسلامية. وإلى الأمين العام للأمم المتحدة عسى أن يحقق في الأمر، والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل …(7/310)
من أسس الشيوعية؟
بقلم: عبد الفتاح علي عبد الله
الطالب بدار الحديث التابعة للجامعة
منذ قيام المجتمعات الإنسانية على وجه الأرض والعالم مبتلى بدعوة هدامة ما خلت من أباع بالرغم من ثبوت بطلانها وفسادها قبل تجربتها وبعدها وإذا نظرنا إلى أتباعها لم نجد إلا أهل النفوس المريضة والأرواح الهزيلة والأمزجة الملوثة، وأما أصحاب الفطر السليمة فلم يؤثر عنهم قط أنهم استجابوا لدعوة تقوم على الشر والفساد فمن المؤسس لهذه الدعوة؟
إن مؤسس الدعوة ومنشئها وهي الدعوة الإلحادية هو كارل ماركس المولود سنة 1818م والهالك سنة 1883م كان أبوه يهوديا واسمه هرشل ولما ارتد عن دينه إلى المسيحية سمى نفسه (هتريج) وذكر محبوه عدة أسباب لترك دينه ومما زعموا أن أسباب ترك هرشل لليهودية أن اليهود كانوا مضطهدين يقاسون أسوأ المعاملات من المسيحيين وسواء كان هذا السبب صحيحا أم مجرد اعتذار وكذب من جملة الاعتذارات فإنه لا يكفي أن يتخلى المرء عن دينه بهذه السهولة وإن كل الأعذار لهرشل تدل على أن المصلحة هي الدافع الأول، هذا هو والد ماركس. وهو وحده يكفي للدلالة على عنصره ومعدنه من ناحية العقيدة والأخلاق وكان ماركس يقول في شبابه: إن خير الناس وأجدرهم بالتكريم من يعمل لخير الناس والدين أساس الحياة. وهو الذي يقول أيضا: إن المثل الأعلى الذي يجب أن يسعى إليه كل فاضل في الوجود هو أن نضحي بأنفسنا في سبيل خير الإنسانية والسعادة. هذا هو ماركس في شبابه وتلك عقيدته برغم صبوء والده وبرغم ما تحدث الناس عن دوافع هذا الصبوء. إلا أن الولد سر أبيه فكما ترك أبوه عقيدته فقد ترك الابن عقيدته. وما الأسباب؟(7/311)
الأسباب كثيرة أقربها أنه من نسل يهودي عيء من أجل المادة. كارل ماركس هو يريد مالا يعيش منه وينفق على أولاده وأسرته ومن ذا الذي يلقى عليه المال دون أن يقدم عملا يستحق عليه أجرا. فهو كافر بالسماء وبالإنسانية لأن الناس لم يعطوه شيئا وبهذا قد كتبت زوجته إلى بعض أصدقائها أنهما في شدة من الجوع وقد أتت إليهم مالكة المنزل الذي هما فيه تطلب الإيجار ولم يجدوا شيئا فأخذت الأثاث بالأجور وطردتهما من المنزل وخرجوا مع أطفالهم وكان عند خروجهم من المنزل قد هطلت عليهم الأمطار وماتت إحدى بناتهما ولم يجدوا كفنا فأقرضهم أحد الفرنسيين المهاجرين هناك جنيهين. هذه حالة كارل ماركس لأنه عاش عالة على أبيه فلما توفي أبوه كانت تنفق عليه أمه وأخته حتى نفذ ما بأيديهما من المال. هذا هو مؤسس الشيوعية الذي يهتفون باسمه ويمجدونه. إن سبب إنكاره وجود الله هو أن السماء لا تمطر ذهبا والعجب كل العجب من هؤلاء العبيد المسخرين لخدمة الشيوعية من غير الروس وعلى الأخص في بعض بلدان العالم العربي أولئك الذين يتشدّقون بالماركسية وما أعدت لأهلها من نعيم، وحسبها أنها سلبت نعم أقوام وأمم وشعوب بحجة إعطائها للآخرين المستحقين وهي لا تعطيهم إلا الجوع والاستعباد والتعذيب وما استجابت إلا شرذمة من ضعفاء النفوس على وعد من عملاء الشيوعية أنهم سيعطونهم أموال الأغنياء ويسلبون القادر قدرته ليعدموها للعاجز المحروم ولذلك لبوا دعوتهم الكاذبة وزعم آخر، إن الشيوعية تعتني بالطبقة العاملة وتؤمنها من الخوف والجوع وترفع مستواها بالسادة الحاكمين ولكن وبرغم هذه المزاعم لم يستجيبوا في روسيا عن رضا واقتناع ولكن استعان البلاشفة في روسيا بقوة الحديد والنار وثبتوا قواعد هذه الدعوة ودعائمها. ونستدل الآن على هذه الدعاية الكاذبة أنهم يرفعون مستوى الطبقة العاملة. إن العمال في أمريكا وبريطانيا أرفع مستوى من العمال في الاتحاد السوفييتي وقد قال أحد مدعمي(7/312)
حزب ماركس وأحد أقطاب الدعوة الهدامة في إيطاليا (اجنازيو مسيلوني) يقول أنه زار موسكو واتفق ببعض العمال هناك وأنهم يشكون من الأحوال المهنية التي تحيط بحياة العمال بالمصانع ولكن أنه لا يفهم لماذا يعيش العامل تحت رحمة إدارة المصنع ولما وقف السيلوني على حقائق الشيوعية وعلى ما تلقى الطبقة العاملة من الذل والهوان والتعذيب والسلب للحرية كفر بها وحذر الطبقة العاملة في جميع الأرض أن تنخدع بأكاذيب الشيوعية ومفترياتها ويقول أيضا أن العمال كانوا يعيشون في أبشع صنوف الفاقة والذلة وإنما الذين خانوا زملائهم في السجن والعمل الشاق هم أصحاب الحظوة والامتياز في المستعمرات النموذجية وغيرها وأن الشيوعية قضت على حياة الطبقة العاملة بالتعب والشقاء وسلبت كل حقوقها وكالشيوعية تعرف أن الإسلام الدين الوحيد الذي أتى بقواعد محكمة للحكم والنظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والمالي والتجاري ولم يترك أي مشكلة يمكن أن تحل بفرد أو بجماعة أو أمة إلا قال حكمه الواضح الصواب فيها ومنح الإنسان الحرية ووضع قواعد المجتمع الفاضل والذي أريد أن أقوله للقارئ الكريم إن الأحزاب غير الإسلامية شديدة التخاصم فيما بينها ولكنها تنظر نظرة الشخص الواحد لتحطيم الإسلام.(7/313)
إنّ كل حزب شاذ يعرف قدر نفسه ويعرف قدر الإسلام وأن الإسلام هو دين الله المنزل من السماء. وإنني إذ أذكر قصة حدثت في مدينة جبلة التابعة للواء إب في الجمهورية العربية اليمنية: كنت طالبا في أحد المعاهد هناك فإذا برجل ظهر أنه من الجمعية التبشيرية وهو يقوم بحركة نشيطة في دعوته الكذابة ويوزع كتبا صغيرة تابعة للجمعية التبشيرية فبلغت مدير المنطقة فاحتجز الرجل وأبلغنا التربية العلمية بصنعاء ومديرها القاضي عبد المجيد عزيز الزنداني وعلى أثرها وصل المدير بنفسه وقرر ترحيل ذلك الرجل المخرب وإعادته إلى بلاده وكان هذا الرجل يحمل بطاقة سياحية. وهكذا الأحزاب حريصة كل الحرص على التشكيك في الإسلام ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون والله نسأل أن يبقى على الأمة الإسلامية عقيدتها بقيادة رائد التضامن الإسلامي جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز وجميع المخلصين لدينهم ورفع مستوى أمتهم من رؤساء وأفراد الأمة العربية والإسلامية إنه سميع الدعوات.(7/314)
خالف النفس
بقلم محمد عبد الرحمن شميله الأهدل
الطالب بكلية الشريعة
خالف النفس لا تمل لهواها.
فلكم زلّ من جرى مجراها.
وإذا حسنت لك الأمر فاعرضـ.
ـه على الشرع ينكشف مغزاها.
واقصرنها على الشريعة قسرا.
يكن الخلد في غد مثواها.
واتق الله فالحساب عسير.
والذنوب الذنوب ما أسواها.
كيف ننسى الذنوب أو نتناسى.
والرقيب الأمين قد أحصاها.
تُب إلى الله فالحِمام قريب.
سوف يأتي عشية أو ضحاها.
راقب الله واقرع الباب تظفر.
بالمنى في الدنا وفي أخراها.
يا رجال الإسلام في كل قطر.
من أداني الغبراء أو أقصاها.
إن آباءنا الغطاريف شادوا.
دولة العز فاجتنوا علياها.
دمروا قيصرا وثنوا بكسرى.
وأناروا الدنيا بُعيد دجاها.
نصروا الله بالجهاد فحازوا.
رتبا في العلاء ما أسماها.
حكموا الشرعة المحَقِقة العـ.
ـدل فعزوا بنصرهم إياها.
حكموا هذه البسيطة دهرا.
خلدت في قلوبنا ذكراها.
أمتي أخلصوا الجهاد وهبوا.
بنفوس إلى العلا مرقاها.
واعلموا أي فتنة أو خطوب.
ضعضعتنا ففعلنا منشاها
.(7/315)
الزاوية الطبية
بإشراف أطباء الجامعة الإسلامية
س1 - من الأخ ع. ل. ق. يقول فيه:
نحن الآن في عصر السرعة. ولم يكن أمام الإنسان الآن وقت كاف للمشي. إضافة إلى ما تزخر به الحياة الآن من نعومة زائدة. فبماذا تنصحون من يريد الإبقاء على صحته في هذا الجو الناعم؟
الجواب - المشي والرياضة البدنية عموما ليس من الكماليات بل هو ضرورة لصحة البدن والنفس. فإذا كان المسجد قريبا من البيت كيلو أو أقل مثلا وعندك سيارة فلا بد من المشي للمسجد إن كنت تريد صحة بدنية وفوائد ذلك هي: 1 - تقوية عضلات الجسم. 2 - تنشيط الدورة الدموية. 3 - تقليل الشحم في الجسم. 4 - الحفاظ على القلب والشرايين من التجلطات القلبية. 5 - تجنب دوالي الساقين والقدمين وهي تمدد الأوردة الدموية في الساقين. 6 - تنشيط الرئتين على تنفس الهواء. 7 - زيادة كفاءة الجسم واللياقة البدنية. فإذا اضطررت لعمل مجهود كحمل حقيبة مثلا أو جري لتحصيل مصلحة أو تفادي ضرر لم يؤد هذا إلى الخفقان وانقطاع النفس كما يحدث كثيرا عند هواة مقعد السيارة. 8 - الحفاظ على الصحة النفسية فبتحريك قدميك وتلفتك يشعرك بأنك وسط خضم الحياة. يشعرك بكيانك ووجودك، ومشي ساعة قطعا يذيب الأفكار السوداء من الرأس ويذهب بالقلق ويشغلك عن توافه الحياة وما أحلى وألذ الراحة بعد مشوار أو مجهود بدني. وكن حذار على من لم يمارس الرياضة أن يبدأ برياضة عنيفة مجهدة ولكن عليه بالتدرج. والنعومة الزائدة تجعل المرء ينهار عند أول عقبة تصادفه وما أكثر عقبات ومشاق الحياة. والحياة كفاح {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} .
س2 - من الأخ أ. ج. س. يقول فيه:
أحس بالتحسس من بعض المأكولات كالبيض، والسمك، والموز. فهل هناك علاج لإزالة هذا المانع. من التمتع بهذه الطيبات من الرزق؟(7/316)
الجواب - الحساسية من بعض المأكولات حلها سهل ميسور وهو القناعة بما قسم الله له فما أكثر نعم الله وتنوعها فإن كان عنده حساسية للبيض والسمك فعليه بالدجاج واللحم المشوي، وإن كان عنده حساسية للموز فما أجمل التفاح والبرتقال والعنب والرطب والكمثرى والبرقوق والخوخ … الخ {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} . فحتى هذه اللحظة يعتبر الذي يعرف الغذاء الذي يسبب له حساسية، يعتبر سعيدا جدا لأن الغالبية العظمى تأتيهم الحساسية ولا يعرفون ما سببها فيأخذون المسكنات وهذه الطامة حقا. أما من يعرف سبب حساسيته من نوع خاص من الغذاء فعليه أن يجتنبه في الحال ويحمد الله.
س3 -من الأخ ج. ص. م. يقول فيه:
أشعر بألم في جهة ما جسمي. وقد وصف لي أحد الأطباء حبوب ((كورتيوزون)) لمدة طويلة. وقد أحسست بانتفاخ في وجهي وبعض أجزاء جسمي. أرجو الإفادة عن مضار الكورتيزون وشكرا.
الجواب - أقراص الكورتيزون ومشتقاته تعطى بواسطة الطبيب فقط عند دواعي استعمالها ولا توقف فجأة بل توقف تدريجيا كأن يؤخذ 6 حبات ثم ينقصها إلى 5 ثم إلى 4 ثم إلى 3 ثم إلى 2 ثم إلى حبة، وهذا لأن إعطاء الكورتيزون يوقف مؤقتا عمل الغدة الكظرية ((فوق الكلية)) فإنقاص عدد الحبات يترك المجال لعودة الغدة لعملها الطبيعي ولا شك أن الكورتيزون لا يُعطى بتاتا في حالة قرحة المعدة أو قروح العين فإنه يخرم القروح ويمنع التئامها. وأخذ الكورتيزون لمدة طويلة جدا يسبب انتفاخ الوجه حتى يصبح مستديرا كالقمر.
س3 - من الأخ س. ج: ق. يقول فيه:
حينما أستيقظ في الصباح لا أتمكن من النهوض من الفراش. وأشعر أن مفاصلي في حالة يُرثى لها من الفتور. فهل هذا من المكيف. أم هو مرض وبماذا تنصحون؟(7/317)
الجواب - لفتور الجسم أسباب عدة منها التعرض لتيارات البرد والمكيف وأحسن شيء قفل المكيف عند التهيؤ للنوم أو توجيهه بعيدا عن النائم. والسبب الآخر هو نوع من الفتور النفسي والعزوف عن العمل والرغبة في الهروب من الحياة فإن كانت الحالة بسيطة كأن يقابل الإنسان وجها باشا مبتسما أمامه مع صينية عليها الفطور والشاهي وأخذ دش قبل الفطور يساعد على هذا النشاط وأما ألم المفاصل بسبب البرد فأحسن شيء له هو الأسبرين ((حبتين بعد الفطور)) . وأما علاج الحالات التي فيها رغبة في الهروب مع كآبة، فعلاجها عند أطباء النفس سواء بالتحليل أو بالدواء.
س5 - من الأخ ز. ح. ي. يقول فيه:
ما هي المضادات الحيوية؟ وهل هي من الخطورة كما يصفها الناس؟ وهل أنها لا تستعمل إلا بإشراف الطبيب؟ وهل الاستمرار مدة طويلة عليها مضر؟ نرجو الإيضاح.
الجواب - المضادات الحيوية هي مواد كيميائية فعالة تفرزها الفطريات مثل البنسلين والتراميسين والاريثروميسين والاستربتوميسين … الخ.
ينبغي عدم وصفها إلا عن طريق الطبيب فكم من مريض مات نتيجة حساسية البنسلين أو الاستربتوميسين مثلا. والتراميسين: وهو المادة الفعالة في بودرة الشوكولاته ضد الإسهال إذا أعطيت للأطفال مدة طويلة أدت إلى تكون الأسنان بلون بني غامق لا يزول أبدا وكذلك تترسب في العظام. وعند تأثيرها على الأسنان تعرضها للتسوس فضلا عن أن المضادات الحيوية قد تساعد على نمو أنواع أخرى من الجراثيم أو الفطريات في الجسم تكون أشد شراسة من الجرثومة التي تعالجها. والمضادات الحيوية بأنواعها قد تسبب مضاعفات في أعضاء الجسم كالسمع أو الجلد أو الكبد أو الكلى … الخ. ولذلك ينبغي أن تُعطى تحت إشراف الطبيب.(7/318)
الفتاوى
يتول الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
"حكم رؤية الهلال هل يعم أو يخص"
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. أما بعد فقد سألني كثير من الإخوان عن حكم الاعتماد على الإذاعة في الصوم والإفطار وهل ذلك يوافق الحديث الصحيح "صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته" الحديث..
وهل إذا ثبتت الرؤية بشهادة العدل في دولة مسلمة يجب على الدولة المجاورة لها الأخذ بذلك وإذا قلنا بذلك فما دليله وهل يعتبر اختلاف المطالع.
والجواب عن هذه الأسئلة أن يقال قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة أنه قال صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين وفي لفظ آخر فاكملوا العدة ثلاثين وفي رواية أخرى فأكملوا عدة شعبان ثلاثين.
وثبت عنه صلى الله عليه سلم أنه قال لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وهي تدل على أن المعتبر في ذلك هو الرؤية أو إكمال العدة.(7/319)
أما الحساب فلا يعول عليه وهذا هو الحق وهو إجماع من أهل العلم المعتد بهم وليس المراد من الأحاديث أن يرى كل واحد الهلال بنفسه وإنما المراد ثبوت ذلك بشهادة البينة العادلة وقد خرج أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تراوى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بالصيام، وخرج أحمد وأهل السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعرابيا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني رأيت الهلال فقال "أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فقال نعم قال فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غدا" وعن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه خطب في اليوم الذي يشك فيه فقال إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسآءلتهم وأنهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وانسكوا لها فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين يوما فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا"رواه أحمد ورواه النسائي ولم يقل فيه مسلمان وعن أمير مكة الحرث بن حاطب قال عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما رواه أبو داود والدارقطني وقال هذا إسناد متصل صحيح.(7/320)
فهذه الأحاديث وما جاء في معناها تدل على أنه يكتفى في رؤية هلال رمضان بالشاهد الواحد العدل، أما في الخروج من الصيام وفي بقية الشهور فلا بد من شاهدين عدلين جمعا بين الأحاديث الواردة في ذلك وبهذا قال أكثر أهل العلم وهو الحق لظهور أدلته ومن هذا يتضح أن المراد بالرؤية هو ثبوتها بطريقها الشرعي وليس المراد أن يرى الهلال كل أحد، فإذا أذاعت الدولة المسلمة المحكمة للشريعة كالمملكة العربية السعودية أنه ثبت لديها رؤية هلال رمضان أو هلال شوال أو هلال ذي الحجة فإن على جميع رعيتها أن يتبعوها في ذلك. وعلى غيرها أن يأخذ بذلك عند جمع كثير من أهل العلم لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" رواه البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وأخرجه مسلم بلفظ "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن أغمى عليكم فاقدروا له ثلاثين" وأخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غبى عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين" وأخرجه مسلم بهذا اللفظ لكن قال: فإن غمى عليكم الشهر فعدوا ثلاثين. فإن ظاهر هذه الأحاديث وما جاء في معناها يعم جميع الأمة ونقل النووي رحمه الله أن هذا هو قول الليث بن سعد والأمام الشافعي والإمام أحمد رحمة الله عليهم قال يعني بن المنذر ولا أعلمه إلا قول المدني والكوفي يعني مالكا وأبا حنيفة رحمهما الله. انتهى. وقال جمع من العلماء: إنما يعم حكم الرؤية إذا تحدت المطالع أما إذا اختلفت فلكل أهل مطلع رؤيتهم وحكاه الإمام الترمذي رحمه الله عن أهل العلم، واحتجوا على ذلك بما خرجه مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنه أن كريبا قدم عليه في المدينة من الشام في آخر رمضان فأخبره أن الهلال رؤي في الشام ليلة الجمعة وأن معاوية والناس صاموا بذلك فقال ابن عباس لكنا رأيناه ليلة(7/321)
السبت فلا نزال نصوم حتى نراه أو نكمل العدة فقلت أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه فقال: لا. هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا فهذا يد ل على أن ابن عباس يرى أن الرؤية لا تعم وأن لكل أهل بلد رؤيتهم إذا اختلفت المطالع وقالوا أن المطالع في منطقة المدينة غير متحدة مع المطالع في الشام وقال آخرون لعله لم يعمل برؤية أهل الشام لأنه لم يشهد بها عنده إلا كريب وحده والشاهد الواحد لا يعمل بشهادته في الخروج وإنما يعمل بها في الدخول.
وقد عرضت هذه المسألة على هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في الدورة الثانية المنعقدة في شعبان عام 1392 هـ فاتفق رأيهم على أن الأرجح في هذه المسألة التوسعة في هذا الأمر وذلك بجواز الأخذ بأحد القولين على حسب ما يراه علماء البلاد. قلت وهذا قول وسط وفيه جمع بين الأدلة وأقوال أهل العلم إذا علم ذلك.
فإن الواجب على أهل العلم في كل بلاد أن يعنوا بهذه المسألة عند دخول الشهر وخروجه وأن يتفقوا على ما هو الأقرب إلى الحق في اجتهادهم ثم يعملوا بذلك ويبلغوه الناس وعلى ولاة الأمر لديهم وعامة المسلمين متابعتهم في ذلك ولا ينبغي أن يختلفوا في هذا الأمر لأن ذلك يسبب انقسام الناس وكثرة القيل والقال إذا كانت الدولة غير إسلامية.
أما الدولة الإسلامية فإن الواجب عليها اعتماد ما قاله أهل العلم وإلزام الناس به من صوم أو فطر عملا بالأحاديث المذكورة وأداء للواجب ومنعا للرعية مما حرم الله عليها ومعلوم أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن - وأسأل الله أن يوفقنا وجميع المسلمين للفقه في الدين والثبات عليه والحكم به والتحاكم إليه والحذر مما خالفه إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه ….
س- من الأخ أ. ح. س. يقول فيه:(7/322)
اعتاد الكثير من الناس في المدينة المنورة الدخول بالميت من باب الرحمة فقط دون الأبواب الأخرى اعتقادا منهم أن الله سبحانه سيرحمه ويغفر له فهل لهذا شيء من الصحة من شرعنا المطهر؟
الجواب - لا أعلم لهذا الاعتقاد أصلا في شريعتنا السمحة بل ذلك منكر لا يجوز اعتقاده ولا حرج في إدخال الجنازة من جميع الأبواب والأفضل إدخالها من الباب الذي يكون إدخالها منه أقل ضررا على المصلين.(7/323)
أخبار الجامعة
إعداد العلاقات العامة
السفير الأوغندي في القاهرة يزور الجامعة الإسلامية
* قام بزيارة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة سعادة السفير الأوغندي في القاهرة السيد يونس خميس رضى وقد اجتمع سعادته بادئ الأمر بفضيلة الأمين العام للجامعة الشيخ محمد بن ناصر العبودي وجرى الحديث في الشؤون الإسلامية وما ينبغي على الطلبة الأوغنديين عمله بعد تخرجهم من الجامعة. ثم اجتمع سعادته بالطلبة الأوغنديين وارتجل كلمة ضافية حثهم فيها على مواصلة الاجتهاد في طلب العلم وبذل الجهد بعد عودتهم إلى وطنهم ويساهموا في الدعوة والإرشاد هناك وفي ختام الزيارة قدمت الجامعة لسعادته كمية مناسبة من الكتب والمجلات والنشرات هدية رمزية. هذا ومما تجدر إليه الإشارة أن عدد الطلاب الدارسين حاليا في كافة المراحل التعليمية في الجامعة من أوغندا (18) طالبا وقد تخرج من كلية الشريعة والدعوة وأصول الدين مجموعة من الطلاب في كافة الأفواج السابقة وقد خصص لأوغندا في العام الدراسي القادم (5) منح دراسية.
* وصل إلى المدينة المنورة قادما من الطائف سماحة رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن باز يرافقه مدير الامتحانات بالجامعة الشيخ إبراهيم الحصين. وسكرتير مكتبة الشيخ عبد الرحمن بن دايل.
* عاد إلى المدينة قادما من القاهرة الدكتور أحمد محمد سليمان طبيب الجامعة الإسلامية بعد أن أمضى إجازته السنوية هناك.
* غادرنا إلى جدة في طريقه إلى أديس أبابا الأستاذ عبد الله الفوزان المحمد مدير المعهد الثانوي التابع للجامعة الإسلامية في مهمة رسمية تستغرق 15 يوما، هذا ويقوم بأعمال المعهد حاليا مساعده الأستاذ حامد عبد القادر الأحمدي.(7/324)
* عاد إلى المدينة فضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية الشيخ محمد بن ناصر العبودي قادما من الطائف وذلك بعد أن أنهى مهمته الرسمية المتعلقة بميزانية الجامعة الإسلامية للعام 93_94 هـ وقد اجتمع فضيلته بسماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز هناك. هذا وقد انتهز فضيلته فرصة مروره على جدة فقام بجولة تفقدية على مكتب الجامعة الإسلامية هناك واطلع عن كثب على سير العمل ومما تجدر الإشارة إليه أن مكتب الجامعة في جدة يقوم هذه الأيام بنشاطات ملموسة في إرسال الكتب إلى كافة البلدان الإفريقية وغيرها بناء على تعميد لجنة الكتب بالجامعة المشكلة برئاسة مساعد الأمين العام للشئون الإدارية.
* كما يقوم المكتب بترحيل الطلاب المتخرجين من الجامعة واستقبال الطلاب الجدد فيها.
* تقوم إحدى المؤسسات بالمدينة المنورة بحفر بئر ارتوازية للجامعة الإسلامية وذلك لتأمين مياه الشرب وسقي المزروعات بها وتعمل هذه المؤسسة بجد في هذه الأيام ويذكر أن الماء المذكور ضروري للجامعة لكي تتمكن من تشجير شوارعها ومداخلها وعمل الحدائق أمام الجامعة وذلك ليضفي على الجامعة منظرا جميلا ولتلطيف الجو من جهة ثانية. هذا وقد استعانت الجامعة بمديرية الشؤون الزراعية بالمدينة لوضع المواصفات وقد أعلنت الجامعة ذلك في الصحف المحلية وسترسوا قريبا على أحد المتعهدين وهذا الإجراء يتم لمكانة الجامعة الإسلامية على الصعيد الدولي إذ يبلغ عدد طلابها قرابة 1500 طالبا ينتمون إلى 81 دولة من دول العالم المختلفة، ويؤمها الزوار والحجاج من شتى بقاع المعمورة للاطلاع عن كثب على تبذله الجامعة في سبيل نصرة الإسلام والمسلمين.(7/325)
* قام بزيارة الجامعة الإسلامية بالمدينة الشيخ حسين الحباشنة الداعية الإسلامي المعروف في الأردن. وقد اجتمع فضيلته بالأمين العام للجامعة الإسلامية الشيخ محمد العبودي. هذا ومما تجدر إليه الإشارة أن الجامعة الإسلامية قد تبرعت بكمية كبيرة من الكتب الدينية والمصاحف والمجلات لتوزيعها على مخيمات اللاجئين بواسطته وقد وضعت هذه المصاحف والكتب ضمن صناديق خشبية كبيرة ساهمت الجامعة بإحضار بعضها وذلك لإرسالها بطريق البر إلى الأردن ومنها إلى مخيمات اللاجئين هناك وقد حصل الشيخ حسين على 30 ألف مصحف من الأوقاف بالمدينة وغيرها. هذا وسيغادرنا الشيخ حسين إلى الأردن مصطحبا معه الكتب المشار إليها.
* عاد إلى المدينة المنورة فضيلة الشيخ محمد مصطفى المجذوب المدرس في كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية قادما من لبنان وذلك للاشتراك في الدورة التدريبية للطلاب المتخرجين في هذا العام 92_93هـ وسيقوم فضيلته بالمحاضرة في شعبة التدريس.
* يقوم فضيلة الشيخ عطية محمد سالم القاضي في المحكمة الشرعية بالمدينة بالمحاضرة في الدورة التدريبية في الجامعة الإسلامية في شعبة القضاء. وقد انتهز فضيلته هذه الفرصة فصحب كافة الطلاب في هذه الشعبة إلى المحكمة وأطلعهم عن كثب على سير المعاملات وعلى السجلات وعلى بعض الجلسات.
ولا يزال فضيلته يحاضر حتى انتهاء الدورة في منتصف الشهر القادم.
* صدر قرار مجلس الوزراء الموقر بترفيع فضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد المدرس في كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية من المرتبة التاسعة إلى المرتبة العاشرة على وظيفة (باحث) تهانينا.
* تلقت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة من معالي وزير الدولة ورئيس ديوان الموظفين العام خطاب شكر على التعاون الذي تم بين مندوبين الديوان وبينها في تهيئة أماكن الامتحانات للمتقدمين للوظائف الشاغرة بمنطقة المدينة والخدمات التي قدمت لهم.(7/326)
* قام بزيارة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الأستاذ إبراهيم قوسا مفوض التعليم في شمال نيجيريا والوفد المرافق له. وقد اجتمع بفضيلة الأمين العام للجامعة الشيخ محمد بن ناصر العبودي ومساعده الشيخ عمر محمد وقد نوقشت في الجلسة كثير من الأمور الخاصة بالمنح الدراسية وسير الطلاب النيجيريين للدراسة في الجامعة والطرق المتبعة لابتعاث الطلاب النيجيرين للدراسة بالجامعة وقبل ختام الزيارة قدمت الجامعة للضيف ومرافقيه هدية من الكتب القيمة والمجلات والنشرات ثم قام الضيف بجولة تفقدية للكليات والمعاهد التابعة للجامعة كما قام بزيارة المكتبة العامة. هذا وقد اشترك في استقباله بمطار المدينة من الجامعة الإسلامية مساعد الأمين العام ومدير العلاقات العامة بالجامعة.
* لا تزال طلبات الكتب تنهال على الجامعة الإسلامية بشكل يلفت النظر وقد تلقت الجامعة أخيرا من الدكتور (بيج) الأستاذ بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة (تورنتو) في كندا خطابا بطلب فيه ترجمة معاني القرآن باللغة الإنجليزية. وصحيح البخاري باللغة الإنجليزية. وبعض الكتب الدينية وقد تم إرسال الكتب المطلوبة إليه.
* الدورة التدريبية للطلاب المتخرجين من كليات الجامعة الإسلامية المختلفة تقرر أن تبدأ في 15-5-93 هـ بمقر الجامعة الإسلامية. هذا وقد أعلنت الكليات لطلابها اختيار الأقسام التي يرغبونها مبكرا. هذا وسيشترك في التدريس كبار مدرسي الجامعة وتستمر الدورة لمدة شهرين.
* بناء على الموافقة السامية الكريمة على أن أي طالب يكمل ثلاث سنوات دراسية في أي مرحلة من مراحل التعليم بالجامعة الإسلامية يرحل إلى بلده لزيارة أهله على حساب الجامعة. تتم هذه الأيام الاجتماعات بين مندوبي الخطوط والجامعة لدراسة هذا الموضوع والاستعداد له وحصر الطلاب المستحقين لهذه المنحة.(7/327)
* تم ترسية مشروع إنارة الجامعة الإسلامية على أحد المتعهدين وقد تم اليوم تسليم المتعهد المواقع المراد إنارتها وعد شكلت لجنة لهذا الغرض مكونة من:
مدير الشئون المالية الأستاذ عبد الله الباحوث ورئيس المحاسبة الأستاذ محمد عمران دهيثم ورئيس الصيانة مساعد مهندس صالح مساوى بالإضافة إلى مهندس الأشغال العامة المختص عطية رياض.
* لا يزال العمل مستمرا في مهاجع الطلاب الحديثة. والجدير بالذكر أن المؤسسة المسؤولة عن المشروع المشار إليه تبذل الجهد في إظهار هذا المبنى بالمظهر اللائق ومكانة الجامعة الإسلامية دوليا. ويتسع هذا المبنى لسبعمائة وأربعين سريرا عدا قاعات الاجتماع والمرافق العامة التابعة له وقد خصص للمشروع كمرحلة أولى مبلغ خمسة ملايين ريال وتأتي هذه الإنشاءات لمقابلة زيادة الطلاب المستمرة إذ سيبلغ عدد الطلاب المستجدين للعام الدراسي المقبل حوالي 320 طالبا.
* أصدر سماحة رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز أمره إلى فضيلة الأمين العام للجامعة الشيخ محمد العبودي بتكليف الأمين العام المساعد للشئون التعليمية الأستاذ سليم سلمان الحازمي بالإشراف على الدورة التدريبية في أقسامها الثلاث. هذا وقد باشر عمله.
* تلقت رئاسة الجامعة الإسلامية بالمدينة برقية من فضيلة قاضي خميس مشيط يفيد فيها بأن المدعو (كنج) قادر بختى الباكستاني الجنسية المسيحي الديانة قد أعلن إسلامه في المحكمة. وقد طلب فضيلته من الجامعة إرسال كمية من الكتب الدينية التي تشرح محاسن الإسلام وكذلك ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية. وشرح صحيح البخاري. وقد أصدر سماحة الرئيس أمره لادارة العلاقات العامة بالجامعة بسرعة إرسال المطلوب للمذكور.(7/328)
* يغادرنا إلى جدة في طريقهما إلى مكة والرياض كل من: فضيلة الشيخ محمد بن صالح المرشد عميد كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية والأستاذ عبد الرحمن إبراهيم السيف أمين مكتبة الجامعة الإسلامية وذلك لتأمين الكتب الدراسية لطلاب الجامعة في كافة المراحل.
* لا تزال طلبات الالتحاق بكافة المراحل بالجامعة الإسلامية تتوالى على رئاسة الجامعة بشكل ملحوظ وإدارة شئون الطلبة في الجامعة تعمل هذه الأيام بجد ونشاط ملموسين وذلك لمقابلة هذا العدد الهائل الذي يرد يوميا من كافة أنحاء العالم.
هذا ويشارك في إلقاء المحاضرات كبار مدرسي الجامعة ومما تجدر إليه الإشارة أن الطالب في هذه الدورة يتقاضى مكافأة تشجيعية مقدارها 300 ريال في الشهر.
* عقد اجتماع بمكتب الأمين العام الشيخ محمد العبودي ومساعده الشيخ عمر محمد وعميد كلية الدعوة الشيخ عبد العزيز القويفلي وعميد كلية الشريعة الشيخ محمد المرشد ومدير المعاهد الأستاذ عبد الله الفوزان وذلك لمناقشة بعض الأمور المتعلقة باحتياجات الجامعة من المدرسين في العام الدراسي القادم وبعض المسائل الأخرى.
* غادرنا إلى جدة في طريقهما إلى القاهرة كل من فضيلة الشيخ عمر محمد فلاته مساعد الأمين العام للجامعة الإسلامية وفضيلة الشيخ عبد المحسن العباد المدرس في كلية الشريعة بالجامعة وذلك للتعاقد مع مدرسين للعمل في كليات الجامعة الإسلامية ومعاهدها ومن المتوقع أن يتوجها بعد ذلك إلى كلا من دمشق وعمان لنفس الغرض.
* تم بحمد الله تصنيف مكتبة الجامعة الإسلامية على أحدث التنظيم الفنية الكتبية وفقا لخطة ((ديوي)) العشرية. وقد قام بهذه المهمة خبير التصنيف بالجامعة الأستاذ عيد عبد الله السيد، وستقوم المكتبة العامة للجامعة بإصدار نشرة دورية بمقتنياتها من الكتب والمواد العالية اعتبرا من العام الدراسي93_1394هـ.
·(7/329)
أضواء من التفسير
للشيخ عبد القادر شيبة الحمد: المدرس بكلية الشريعة
قال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ. ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ. وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ. وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} .
المناسبة:
بعد أن ذكر الله قصتي داود وسليمان عليهما السلام المبرزتين لآلاء الله على عباده الصالحين، المبينتين لقرب أمد الفتن التي يفتن بها المرسلون، ذكر قصة أيوب عليه السلام لتضمنها المعنى السابق في القصتين السابقتين تأكيداً وتقريراً.
القراءة:
قرأ الجمهور "أني مسني": بفتح الهمزة، وقرئ "إني مسني"بكسرها, وقرئ "بنُصْب": بضم النون وسكون الصاد. وقرئ "بنُصُب"بضمتين. وقرئ أيضاً "بنَصَب ":بفتحتين.
المفردات:(7/330)
"أيوب": أحد أنبياء بني إسرائيل. "نادى": دعا. "مسني": أصابني. "بنصب": على سائر القراءات بمعنى التعب والمشقة فهي لغات فيها بمعنى واحد من قولهم: أنصبني. وقيل إنها على القراءة الأولى جمع نَصَب كَوُثْن ووَثَن. "عذاب":أي ألم. "أركض برجلك ": أي اضرب بها. "مغتسل": أي ماء تغتسل به. "وهبنا": أعطينا. "أهله": زوجته وأولاده الذين كانوا معه فسلمهم له وجمع بينهم. "مثلهم": مقدارهم. "ذكرى": عبرة. "ضغثا": قال ابن عباس:: المراد عثكال النخل. وقال الضحاك: حزمة من الحشيش مختلفة. وقال الأخفش: هو الشجرالرطب. وقيل هو القبضة من الحشيش أو القضبان ومنه قولهم: ضغث على إبالة والإبالة الحزمة من الحطب. "التحنث": الحنث هو الخلف في اليمين. "وجدناه": علمناه. "صابرا":حابسا نفسه عن الجزع راضيا كل الرضى بقضاء الله.
التراكيب:
قوله "واذكر عبدنا أيوب " الواو لعطف اذكر عبدنا أيوب على قوله:" اذكر عبدنا داود". وإنما لم يصدر قصة سليمان بهذا العنوان لكمال الإاتصال بينه وبين داود عليه السلام حتى كأن قضيتهما واحدة. "وأيوب"عطف بيان لعبدنا أو بدل منه بدل كل من كل. وقوله "إذ نادى"بدل اشتمال من عبدنا. وقوله"أني مسني الشيطان بنصب وعذاب "بفتح الهمزة أي "بأني"وعلى قراءة كسر الهمزة فهو مقول لقول مقدر واقع جواب سؤال مقدر على سبيل الاستئناف البياني. أو في محل نصب على الحال من فاعل دعا. وإسناد مس النصب والعذاب إلى الشيطان تأدباً مع الله تعالى في عدم إسناد الشر إليه، فأسند إليه الشيطان لأنه سبب كل بلاء يصيب الناس في الدنيا إذ هو الذي تسبب في إخراج أبينا آدم من الجنة. فكل ألم يلقاه الناس فبسببه، ويجوز إسناده إليه. والتنوين في "نصب": للتفخيم.(7/331)
وقوله: " اركض برجلك "مقول لقول مقدر معطوف على نادى والتقدير: فقلنا له اركض. وقوله "هذا مغتسل بارد وشراب" مقول لقول مقدر معطوف على مقدر أيضا يفهم من السياق تقديره: فركض بها فنبعت له عين فقلنا له: هذا مغتسل بارد وشراب، فاغتسل وشرب، فأزلنا ما به ووهبنا له أهله. والمغتسل اسم مفعول على الحذف والإيصال والأصل: مغتسل به أو منه. وقال مقاتل: هو اسم مكان أي هذا مكان تغتسل فيه. وظاهر السياق يشهد للأول وقوله "رحمة " مفعول لأجله. وذكرى معطوف عليه أي وهبناهم له لأجل رحمتنا إيّاه وليتذكر بحاله ألوا الألباب. أي ليصبروا على الشدائد كصبره، ويلجئوا إلى الله تعالى كلجوئه، فيحسن عاقبتهم كما أحسن عاقبته. وقوله "وخذ بيدك ضغثا" عطف على اركض. وقوله"إنا وجدناه صابرا" تعليل لتفريج كربه وتيسير أمره وتهوين الضرب المحلوف عليه. والمخصوص بالمدح في قوله "نعم العبد "محذوف تقديره: أيوب. وقوله "إنه أواب" تعليل لمدحه عليه السلام.
المعنى الإجمالي:
وتذكر يا محمد قصة عبدنا أيوب، تذكر دعاءه لربه، والتجاءه إليه، لما أصابه الضر ففرجنا كربه، وأزلنا ضره وقلنا له: اضرب برجلك، فضرب بها، فنبعت له عين ماء، فقلنا له: هذا ماء تغتسل به وشراب تشرب منه، فاغتسل وشرب، فذهب ما كان يعانيه، وسلمنا له أهله، وزدناهم إلى الضعف، لأجل رحمتنا إياه، وليتذكر بحاله أصحاب العقول فيلجئوا إلى الله كما لجأ، فيكشف ضرهم، ويفرج كربهم، وقلنا له: تناول بيدك حزمة من حشيش فاضرب به هذا الحبيب، وبر بيمينك، لأنه اختبر في باب الصبر فنجح، نعم العبد أيوب، إنه رجّاع إلى مرضاة ربه.
ما ترشد إليه الآيات:
(1) ثناء الله على أيوب.
(2) استحباب إسناد الشر إلى الشيطان.
(3) اختبر أيوب بأذى في نفسه وأهله فصبر.(7/332)
(4) كشف ضره ومعافاته في نفسه وأهله.
(5) منحه مثل أهله معهم.
(6) رحمة الله لعباده الصالحين.
(7) أن الله فعل به هذا ليقتدي به أصحاب العقول.
(8) إنه حري بأهل الصبر أن يخفف عنهم.
(9) مدح أيوب عليه السلام.
(10) إنه قدوة يقتدى بها.
قال تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ. إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ. وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ} .
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى قصص داود وسليمان وأيوب وما فيها من الأسوة أتبع ذلك بذكر إبراهيم ومن معه ليتأسى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا وليتسلى بذكرهم، وليكون حجة على العرب ,الذين قالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا لأنهم يعظمون إبراهيم وملته التوحيد.
القراءة:
قرأ الجمهور "عبادنا "على الجمع، وقرئ " عبدنا". وقرأ الجمهور "الأيدي "بالياء وقرئ "الأيد " بغير ياء. وقرئ بخالصة بالتنوين، وقرئ بغير تنونٍ أيضاً. وقرأ الجمهور "اليسع" وقرئ "اللّيْسع"بتشديد اللام وسكون الياء.
المفردات:(7/333)
"الأيدي": بثبوت الياء جمع يد, وكني بذلك عن كثرة أعمالهم الجليلة، وخص اليد لأن أكثر الأعمال بها. ولأن الذي لا يسخر جوارحه في طاعة الله كأنه لا جوارح له. وأما قراءة "الأيد" بغير ياء فقيل هي الأيدي بالياء وحذفت الياء تخفيفاً، لدلالة الكسرة عليها، وقيل الأيد القوة وهذا هو الأصل. "الأبصار"جمع بصر وهي الجارحة والمراد أنهم المنتفعون حقيقة بأبصارهم كما أنّهم هم المنتفعون حقيقة بأيديهم. "أخلصناهم"خصصناهم. "بخالصة"بخصلة عظيمة لا شوب فيها. "ذكرى"تذكر "الدار"الآخرة. "المصطفين" المختارين من بين أبناء جنسهم. "الأخيار"جمع خَيّر وهو الفاضل الكريم. "اليسع"أحد أنبياء بني إسرائيل وهو خليفة إلياس فيهم. "ذو الكفل"قيل هو إلياس وقيل هو يوشع بن نون وقيل هو نبي آخر اسمه ذو الكفل، وقيل كان رجلاً من الصالحين.
التراكيب:
قوله "واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب" معطوف على اذكر عبدنا أيوب. وإبراهيم وما عطف عليه بدل من عبادنا أو بيان له. وقيل نصب إبراهيم بإضمار أعني والباقي عطف عليه. ومن قرأ عبدنا بالإفراد فإبراهيم وحده بدل أو بيان له أو منصوب بأعني ويجوز أن يكون عبدنا للجنس فيكون كالقراءة الأولى.(7/334)
وقوله "إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار" تعليل لما وصفوا به من شرف العبودية. والباء في قوله"بخالصة "للتعدية إن كان أخلصناهم بمعنى خصصناهم وللتعليل إن كان أخلصناهم بمعنى جعلناهم خالصين. والتنوين في خالصة للتفخيم، ومن قرأ "بخالصة"بالتنوين فذكرى بدل منه أو خبر لمبتدأ محذوف أي هي ذكرى. ومن قرأ بغير تنوين فيخرج على أن خالصة مصدر بمعنى إخلاص فيكون مصدرا مضافا لمفعوله. وذكرى كذلك مصدر مضاف لمفعوله و"أل"في الدار للعهد أي الدار الآخرة للإشعار بأنها الدار الحقيقية. وقوله "وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار"معطوف على الجملة التي قبله لتأكيد مضمونها. وقوله "عندنا "من صلة الخبر الذي هو متعلق الجار والمجرور. وقوله: "واذكر إسماعيل"عطف لاذكر على "اذكر عبادنا"، وخص إسماعيل بالذكر ولم يعطفه على أبيه وأخيه وابن أخيه اعتناء بشأنه من حيث إن جميع بنيه من العرب لا يشارك العرب فيه غيرهم، وإشادة بذكره الذي حاول اليهود قبحهم الله إخفاءه إذ حذفوا من التوراة تاريخه، ولم يبقوا من ذكره سوى ولادته وإبعاده وهو صغير إلى برية فاران. كل هذا لحقدهم على العرب وعصبيتهم لبني إسرائيل. واللام في "اليسع"زائدة لازمة لمقارنتها للوضع ولا ينافي هذا كونه غير عربي فإنها قد لزمت في تعض الأعلام الأعجمية كالإسكندر وقد لحّن التبريزي من قال اسكندر بلا لام. وقيل هو اسم عربي منقول من يسع مضارع وسع و"أل "فيه للمح الأصل.
ولا أستبعد هذا لتداخل اللغات وعدم ضبط تاريخ استعمال اللفظ. وأما من قرأ "الليسع"فقيل هو كذلك علم أعجمي دخلت عليه اللام. وقيل أصله ليسع كفيعل من اللسع دخلت عليه "أل"للمح أصله. والتنوين في قوله "وكل من الأخيار"عوض عن المضاف إليه والتقدير وكل المذكورين من الأخيار.
المعنى الإجمالي:(7/335)
وتذكر يا محمد قصة عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أصحاب الأعمال الجليلة والمعارف النافعة المنتفعين حقيقة بأيديهم وأبصارهم. إنا خصصناهم بخصلة خاصة بهم هي تذكر دار الآخرة والدعوة إلى عمارتها. وإنهم لدينا من المختارين الجديرين بهذا الاختيار لشرف نفوسهم وكريم سجاياهم.
وتذكر قصة إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل المذكورين من أهل الخير والصلاح.
ما ترشد إليه الآيات:
(1) ثناء الله عز وجل على هؤلاء المرسلين.
(2) أنه لا فائدة في الجوارح إذا لم تثمر العمل الصالح.
(3) أن هؤلاء هم طلاب الدار الآخرة.
(4) أن الله اختارهم.
(5) هم أهل لأن يختاروا.
قال تعالى: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ. جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ. مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ. وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ. هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ. إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} .
المناسبة:
لما أمر الله نبيه بالصبر على سفاهة قومه وذكر له جملة من أحوال إخوانه المرسلين، ذكر هنا ما يؤول إليه حال المؤمنين والكافرين من السعادة والشقاوة ومقر كل واحد من الفريقين، مع التنبيه على أن في القصص السابقة كفاية لأصحاب العقول، والإشارة إلى تحدي العرب وإعجازهم بهذا الذكر.
القراءة:
قرأ الجمهور "جنات "بالنصب، وقرئ " جنات "بالرفع. وقرأ الجمهور "هذا ما توعدون "بالتاء، وقرئ بياء الغيبة أيضاً، وقرأ الجمهور "مفتحة "بالنصب وقرئ بالرفع.
المفردات:(7/336)
"ذكر " شرف لهم وثناء عليهم في العاجلة. "للمتقين "الذين يجعلون بينهم وبين غضب الله وقاية بعملهم ما يرضيه والمراد بهم هنا إما المذكورون خاصة أو عموم المتقين , "جنات "بساتين. "عدن"إقامة من قولهم عدن بالمكان إذا أقام فيه، على معنى أنهم يقيمون بها لا يريمون عنها. "متكئين " جمع متكئ وهو الجالس على هيئة المتمكن المتربع المستريح. "يدعون " ينادون. "قاصرات الطرف "حابسات العين يعني على أزواجهن. "أتراب "متماثلات في الأسنان والحسن والشباب أو مساويات لأزواجهن في السن. من قولهم فلان ترب لك وهو من وُلِد معك في وقت واحد كأنهما وقعا على التراب في زمن واحد. "ما توعدون "موعدكم. "ليوم الحساب "ليوم الجزاء. "لرزقنا "لعطائنا "نفاد"انقطاع.
التراكيب:
قوله تعالى "هذا ذكر" جملة مستأنفة يؤتى للفصل بين كلامين. وهو أسلوب بديع يذكر للانتقال من حال إلى حال. وفيه تنبيه إلى أن ما ذكر كان كافيا لمن كان له قلبٌ، وفيه إشارة إلى التحدي بالقرآن والإعجاز به. والإشارة إلى ما تقدم من الآيات الناطقة بالثناء على هؤلاء الصالحين. وقوله "وإن للمتقين لحسن مآب "من قبيل عطف القصة على القصة , ويجوز أن يكون معطوفا على الجملة التي قبلها أي هذا شرف لهم في الدنيا وإن لهم في الآخرة لحسن مآب. وقوله "جنات عدن "على قراءة النصب بدل اشتمال من حسن مآب ويجوز أن يكون منصوبا على المدح، أما انتصابها على أنها عطف بيان فإنه لا يجوز إلا على مذهب الكوفيين والفارسي الذين يجيزون أن يكون عطف البيان نكرة تابعا لنكرة. أما البصريون فإنهم لا يجيزون عطف البيان إلا إذا كان معرفة تابعا لمعرفة. وقولهم " مفتحة "بالنصب صفة لجناب عدن والأبواب نائب فاعل مفتحة والرابط العائد على الجنات إما ضمير محذوف تقديره الأبواب منها كما هو رأي البصريين أو الألف واللام القائمة مقام الضمير كما هو رأي الكوفيين.(7/337)
ويجوز أن تكون مفتحة حالا من محذوف يدل عليه المعنى تقديره يدخلونها مفتحة لهم الأبواب. ومن قرأ جنات بالرفع وكذلك مفتحة فهما مبتدأ وخبر أو هما خبران لمبتدأ محذوف. وقوله "متكئين "حال من ضمير "لهم " وهي حال مقدرة لأن الاتكاء ليس في حال تفتيح الأبواب بل بعده. وجوز بعض أهل العلم أن كون "متكئين "حالا من ضمير يدعون وقدم لرعايته الفاصلة. وقوله "يدعون " استئناف بياني كأنه قيل:ما حالهم بعد دخولها؟ فقيل: يدعون متكئين. وأما على الإعراب الأول لمتكئين فإنه يجوز أن تكون حالا من ضمير "لهم " أيضا وهي مقدرة كذلك. وقوله "هذا ما يوعدون"على قراءة الياء على مقتضى الظاهر لأن المقام للغيبة، إذ قبله "وعندهم " وأما على قراءة الجمهور ففيها التفات. واللام في "ليوم الحساب "للتوقيت كما يقال: كتب هذا لخمس خلوْن من رمضان أي بعد خمس. وقوله "ما له من نفاد "ما نافية وله خبر مقدم ومن جيء بها لاستغراق النفي ونفاد مبتدأ مؤخر. والجملة في محل نصب حال من رزقنا أو في محل رفع خبر ثان لان.
المعنى الإجمالي:
هذه الآيات الناطقة بمحاسن هؤلاء الصالحين شرف لهم وثناء عليهم في العاجلة، وإن لهم لتقواهم لجميل مرجع في الآخرة إن لهم بساتين إقامة لا يروحون عنها، أبوابها مفتحة لهم، معتمدين فيها على الأرائك ينادون خدمهم بإحضار فاكهة كثيرة وشراب كثير، ولديهم حور قصرن عيونهن عليهم، متماثلات في السن، والحسن والشباب. وهذا المذكور موعدكم أيها المتقون في يوم الجزاء. إن هذا المعد لكم لعطاء منا لا ينقطع.
ما ترشد إليه الآيات:
(1) العمل الصالح يورث شرف الدنيا وسعادة الآخرة.
(2) للمتقين نعيم مقيم في جنات عدن.
(3) نساء الجنة متماثلات في السن والحسن والشباب.
(4) النعيم الحق في الآخرة.(7/338)
(5) عدم فناء الجنة.(7/339)
من أعلام المحدثين
أبو بكر ابن أبي شيبة (159-235 هـ)
للشيخ عبد المحسن العباد
المدرس في كلية الشريعة بالجامعة
نسبه:
هو عبد الله بن محمد بن أبي شيبة إبراهيم بن عثمان بن خُواستي بخاء معجمة مضمومة ثم واو مخففة ثم ألف ثم سين مهملة ساكنة ثم تاء مثناة من فوق ثم ياء مثناة من تحت هكذا نسبه النووي وضبط اسم جده الأعلى في شرحه لصحيح مسلم عند أول حديث في المقدمة، ونسبه هكذا الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب وقبله الذهبي في تذكرة الحفاظ، وأبو شيبة كنية جده إبراهيم وكان قاضي واسط وهو ضعيف متفق على ضعفه كما قال النووي، وأما أبوه محمد قال فيه النووي: كان على قضاء فارس وكان ثقة قاله يحيى بن معين وغيره انتهى. وله أخوان: عثمان وهو ثقة والقاسم وهو ضعيف.
كنيته:
يكنى أبا بكر وعد اشتهر بكنيته منسوبا إلى جده مكنى فيقال فيه كثيرا غالبا: أبو بكر بن أبي شيبة.
نسبته:
هو واسطي الأصل ونزل الكوفة ومات بها واشتهرت نسبته إليها، قال الحافظ في التقريب: الواسطي الأصل أبو بكر بن أبي شيبة الكوفي.
وقال الحافظ في الفتح (11- 280) أصله من واسط وسكن الكوفة، ويقال له العبسي بموحدة مولاهم كما في الخلاصة وكذا نسبه إلى عبس نسبة ولاء الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب في تذكرة الحفاظ.
ممن روى عنهم:
روى عن كثير من الأئمة فروى عن أبي الأحوص سلام بن سليم وعبد الله بن ادريس وعبد الله بن المبارك وشريك بن عبد الله وهشيم ابن بشير وأبي بكر بن عياش وإسماعيل ابن عياش وجرير بن عبد المجيد وأبي أسامة وأبي معاوية ووكيع وابن علية وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى ابن سعيد القطان وسفيان بن عيينة وأبي خالد الأحمر وعبد الأعلى بن عبد الأعلى ومحمد بن فضيل ويزيد ابن هارون وأمم سواهم.
ممن رووا عنه:(7/340)
روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه وابنه أبو شيبة إبراهيم ابن أبي بكر وأحمد بن حنبل وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان وعبد الله ابن أحمد بن حنبل إبراهيم الحربي ويعقوب ابن شيبة وبقي بن مخلد وابن أبي عاصم وغيرهم.
من خرّج حديثه:
خرج حديثه الجماعة سوى الترمذي فالبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه رووا عنه بغير واسطة والنسائي روى عنه بواسطة وقد أكثر مسلم من إخراج حديثه في صحيحه ولم يرو عن أحد من شيوخه مثل ما روى عنه إذ روى عنه ألفا وخمسمائة وأربعين حديثا كما نقل ذلك الحافظ ابن حجر في ترجمته في تهذيب التهذيب ولهذا قلّ أن تنظر في صفحات صحيح مسلم فلا تجد ذكر أبي بكر بن أبي شيبة وقد التزم مسلم ذكره بكنيته وكنية جده، أما البخاري فقد روى عنه ثلاثين حديثا كما في تهذيب التهذيب لابن حجر ويذكره باسمه وكنية جده , وقد يكنيه , قال الحافظ في الفتح (11- 528) : وفي شيوخ البخاري عبد الله بن محمد وهو أبو بكر بن أبي شيبة لكنه لم يسم أباه في شيء من الأحاديث التي أخرجها إما يكنيه ويكني أباه أو يسميه ويكني أباه ومراده تكنية جده فقد قال في الفتح (11- 280) : هو أبو بكر وأبو شيبة جده لأبيه وهو ابن محمد ابن أبي شيبة واسمه إبراهيم أصله من واسط وسكن الكوفة وهو أحد الحفاظ الكبار وقد أكثر عنه المصنف - يعني البخاري - وكذا مسلم لكن مسلم يكنيه دائما والبخاري يسميه وقلّ أن كناه انتهى.
من ثناء الأئمة عليه:(7/341)
أثنى عليه الأئمة وذكروه بما هو أهله من الفضل والحفظ. قال الإمام أحمد: أبو بكر صدوق هو أحب إليّ ممن أخيه عثمان وقال العجلي: ثقة حافظ. وقال الفلاس: ما رأيت أحفظ من أبي بكر بن أبي شيبة وكذا قال أبو زرعة الرازي وقال أبو عبيد: انتهى الحديث إلى أربعة فأبو بكر ابن أبي شيبة أسردهم له وأحمد أفقههم فيه وابن معين أجمعهم له وابن المديني أعلمهم به، وقال صالح بن محمد: أعلم من أدركت بالحديث وعلله علي لين المديني وأحفظهم عند المذاكرة أبو بكر بن أبي شيبة.
وعن أبي عبيد: أحسنهم وضعا لكتاب أبو بكر بن أبي شيبة وقال الخطيب: كان أبو بكر متقنا حافظا صنف المسند والأحكام والتفسير. هذا ما نقله الذهبي في التذكرة عن الأئمة في الثناء على أبي بكر بن أبي شيبة وقال هو فيه: الحافظ عديم النظير الثقة النحرير، ونقل ابن أبي حاتم عن أبيه أنه قال فيه: كوفي ثقة. وقال ابن كثير في البداية والنهاية: أحد الأعلام وأئمة الإسلام وصاحب المصنف الذي لم يصنف أحد مثله قط لا قبله ولا بعده. وقال ابن خراش: ثقة، وقال ابن حبان في الثقات: كان متقنا حافظا دينا ممن كتب وجمع وصنف وذاكر وكان أحفظ أهل زمانه للمقاطيع، وقال ابن قانع: ثقة ثبت، وقال الذهبي في العبر: الإمام أحد الأعلام، وقال نفطويه: لما قدم أبو بكر بن أبي شيبة بغداد في أيام المتوكل حزروا مجلسه بثلاثين ألفا، وقال ابن ناصر الدين كما في شذرات الذهب لابن العماد: كان ثقة عديم النظير وقال الذهبي في الميزان: الحافظ الكبير الحجة وثقه الجماعة وما يكاد يسلم، قال الميموني: تذاكرنا يوما فقال رجل: ابن أبي شيبة يقول عن عفان فقال أحمد بن حنبل: دع ابن أبي شيبة في ذا وانظر ما يقول غيره يريد أبو عبد الله كثرة خطئهثم قال الخطيب:أرى أنّ أحمد لم يرد ما ذكره الميموني من أن أبا بكر كثير الخطأ وأظن حديث عفان الذي ذكر له عن أبي بكر قد كان عنده فأراد غيره ليعتبر به الخلاف والله أعلم.(7/342)
وقال جعفر الفريابي: سألت محمد بن عبد الله بن نمير عن بني أبي شيبة ثلاثتهم فقال فيهم قولا لم أحب أن أذكره ثم قال الذهبي: قلت: أبو بكر ممن قفز القنطرة وإليه المنتهى في الثقة، وقال الحافظ في الفتح (11- 280) : وهو أحد الحفاظ الكبار , وقال في تقريب التهذيب: ثقة حافظ صاحب تصانيف.
آثاره:
قال الذهبي في التذكرة: صاحب المسند والمصنف وغير ذلك. وقال في العبر: صاحب التصانيف الكبار، وقال الخزرجي في الخلاصة: صنّف التفسير وغيره وقال الحافظ في التقريب: صاحب تصانيف وقال الخطيب في تاريخه: صنّف المسند والأحكام والتفسير، وقال ابن كثير صاحب المصنّف الذي لم يصنّف أحد مثله قط لا قبله ولا بعده انتهى، وقد تم طبع أجزاء من كتابه المصنّف، ومن مؤلفاته كتاب الإيمان يوجد مخطوطا في المكتبة الظاهرية في دمشق تحت رقم 279 حديث وقد طبع في المطبعة العمومية بدمشق بتحقيق الشيخ ناصر الدين الألباني وكتاب الأدب يوجد مخطوطا في الظاهرية في المجموع 78 وهو ناقص.
وفاته:(7/343)
توفي أبو بكر بن أبي شيبة يوم الخميس لثمان خلون من المحرم سنة خمس وثلاثين ومائتين، أرخ وفاته بهذا البخاري فيما نقله ابن القيسراني في الجمع بين رجال الصحيحين ونقل تاريخ وفاته بهذه السنة عن البخاري أيضا الذهبي في التذكرة والخزرجي في الخلاصة وأرخ وفاته بهذه السنة الذهبي في الميزان والعبر والنووي في شرج صحيح مسلم وابن حجر في تقريب التهذيب وابن كثير في البداية والنهاية وابن العماد في شذرات الذهب ونقل الخطيب في تاريخه عن إبراهيم ابن محمد بن عرفة أنه توفي سنة أربع وثلاثين ومائتين ثم قال الخطيب: هذا وهم لأنه مات في سنة خمس وثلاثين ومائتين ونقل عن عبيد الله بن محمد بن خلف البزار ومحمد بن عبد الله الحضرمي أنه مات لثمان خلون من المحرم سنة خمس وثلاثين ومائتين وقد ذكر الخطيب تاريخ سنة ولادته فقال: ولد سنة تسع وخمسين ومائة، فمدة عمره ست وسبعون سنة رحمه الله.
ممن ترجم له:
1- ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل2/2/160.
2- والذهبي في التذكرة2/20.
وفي الميزان2/490
وفي العبر1/421
3- وابن حجر في التقريب1/445 وتهذيب التهذيب6/2.
4- والخزرجي في الخلاصة179.
5- وابن القيسراني في الجمع بين رجال الصحيحين 259.
6- والنووي في شرح صحيح مسلم1/64.
7- وابن كثير في البداية والنهاية10/315.
8- والخطيب في تاريخ بغداد10/66.
9- وابن العماد في شذرات الذهب2/85.
10- وكحالة في معجم المؤلفين6/107.(7/344)
محاسن الشريعة ومساوئ القوانين الوضعية
للشيخ عطية محمد سالم
القاضي بالمحكمة الشرعية بالمدينة
محاسن الشريعة:
ليس من السهل على أي إنسان أن يبين محاسن الشريعة ولا أن يعدد جوانب الإحسان فيه لأنها شريعة الإحسان كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء وكل شيء لم يخرج منه ولا شيء حتى في حالة القتل وإزهاق الروح فلا بد من الإحسان وفي ذبح الحيوان وفي المحلات التي لا يتذكر الإنسان فيها معنى للإحسان. فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" إلى آخر الحديث.
ثم لو ذهبنا نتبع مرافق الحياة كلها لوجدنا الإحسان يتوجها بل إن الغاية من خلق الإنسان وإماتته وإحيائه لم يكن لشيء إلا للإحسان: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} . {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} .
وفي الحديث بعد بيان الإسلام ثم يتدرج إلى الإيمان ثم يتوج الجميع بالإحسان إنها صبغة الله {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} .
ولو ذهبنا نعدد جوانب الإحسان ولو على سبيل الإجمال نجد ابتداء من القول باللسان نجد قوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} حتى في الجدال: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ..وفي الدعوة إلى الله: {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} ..حتى مع المسيء: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} . {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ..(7/345)
وفي العشرة الزوجية إذا لم تدم: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ..ومع الوالدين: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} .. إلى ما لا نهاية له.. وأخيرا ومن العموم: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ..
وهذا أمر من الله تعالى بعموم الإحسان مقرونا بالعدل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ} . إنها شريعة الله أنزلت في كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير على من اصطفاه الله من خلقه وخاتم رسله بالمؤمنين رؤوف رحيم. لخير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله..
إنها الشريعة التي ارتضاها الله فأتمها وأكملها: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} ..
لقد كانت شرائع من قبل وكانت أديان لمن قبلنا نزلت بها كتب وبعثت بها رسل. فجاءت هذه الشريعة أكملها وهذا الدين أتمها والكتاب الذي أنزل بها مصدق لما بين يديه ومهيمن عليه. والرسول صلى الله عليه وسلم أرسل بها خاتم الرسل وأفضلهم وارتضاها الله لمن اصطفاه من خلقه لخير أمة أخرجت للناس فهي خير ما أنزل على خير من أرسل لخير من أنزل إليهم فهي الخير أجمع.(7/346)
ومن ناحية أخرى: إنها وحي من الله بكلام الله فلها ارتباط بصفة من صفات الله. وكمال صفاته سبحانه فرع عن كمال ذاته.. {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . وهذا النور الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ..
أسس الإحسان: ومن أسس الإحسان فيها عناصر ثلاثة:
1- الكمال.
2- الشمول. 3- السماحة. 4- البقاء.
أما الكمال فلأنها من الله وبكلمات الله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} وبالحق أنزلناه وبالحق نزل {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} وفي الحديث: "ما تركت شيئا يقربكم إلى الله إلا بينته لكم وأمرتكم به ولا شيئا يباعدكم عن الله إلا بينته لكم ونهيتكم عنه"..وعليه قال مالك بن أنس رحمه الله: من سن سنة وزعم أنها حسنة فقد زعم أن محمدا خان الرسالة لأن الله أخبر بأنه أكمل لنا الدين وما كان كاملا لا يحتمل زيادة. ومن أراد الزيادة فقد زعم فيه النقص حتى يتمه هو ولن يكون.
فهذه النصوص وأمثالها صريحة في كمال الشريعة..
التطبيق الفعلي لكمال الشريعة
ومن الناحية الفعلية للشريعة نجد في مقاصدها البرهان القائم على ذلك للأن جميع حكماء العالم يقولون مقاصد العقلاء في أمرين: جلب النفع ودفع الضر..(7/347)
والشريعة جاءت بتحقيق هذين المطلبين وزادت مطلبا ثالثا: وهو الحث على مكارم الأخلاق ومحاسن العبادات.
جلب المنافع: فمن جلب المنافع إباحة جميع ما في الأرض وتسخير كل القوة لخدمة الإنسان والقاعدة في ذالك عند الفقهاء: الأصل في الأشياء الإباحة حتى يأتي الحضر.وعليه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} – {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} . {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ..
وقد شرعت العقود لتناول هذه المنافع من بيع وإيجار وشركة وغير ذلك مما يجلب النفع على الفرد وعلى الجماعة..وأقيمت على أسس قويمة ولم تترك لتراضي المتعاقدين حسب أهوائهم بل لاضرر ولا ضرار. والغرم بالغلم وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، لاكما يقول المقننون: (العقد شرعة المتعاقدين) . لأن العقد أحياناً يكون بين قوي وضعيف أو غني وفقير فيقع الحيف....
أما دفع المضار: فقد دفعت عما يسمى بالضروريات بقصد حمايتها وهي الضروريات لكل مجتمع وقد جاءت جميع الأديان بحمايتها لأنه لاحياة بدونها ولا استقرار ولا أمن ولا طمأنينة وهي:
1- الأديان 2- الأنفس 3- العقول 4- الأنساب 5- الأعراض 6- الأموال.(7/348)
أما الأديان: فضرورة اجتماعية فلا توجد أمة بدون تدين سواء كان دينها صحيحا أو فاسدا فإذا كان من عند الله وجب حفظه. لأن به نظام المجتمع وارتباطه. وعليه أمر الله المسلمين بقتال المشركين {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} وقال: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} والحديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ".. إلى آخر الحديث..
فإذا أسلم العبد وجب الحفاظ على دينه فشرع قتل المرتد وتتمة لذلك حرم الابتداع في الدين وحرمت الزندقة وفسق المبتدع وقتل الزنديق.
وأما حفظ العقل: فلأنه هو عامل التمييز ومناط التكليف فهو أعز منال وسبب التكريم فلزم الحفاظ عليه حفظا لما أنيط به وقد عقد بعض الأدباء مناظرة بين العقل والحلم ليظهر فيها فضل العقل ونعمته فقال:
فبالعقل تتمثل الأوامر وتجتنب النواهي فحرم الله كل مسكر ومفتر وجعل حد السكر بالجلد. وحرم القليل من المسكر وإن لم يسكر.. فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} وبين مفاسد المسكر بقوله تعالى {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} .
وفي النسب: الذي هو رباط الأسرة وعامل تكوينها فقد أحيط بسياج من الحفاظ عليه بتحريم الزنا ووجوب العدة عند الفرقة. وشرع حد الزنا جلدا أو رجما - وحرم على التأبيد المتزوجة في العدة. وتتمة لحفظ النسب من الزنا حرم الخلوة الأجنبيات.(7/349)
وفي العرض: الذي هو مدار المروءة والكرامة والعفة والنزاهة. حرم القذف وشرع حد القذف بالجلد وتتمة لذلك حرم الغيبة والنميمة. المسلم ليس بسباّب ولا لعاّن: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .
والمال: وهو قوام الحياة حثت الشريعة على جمعه من الحلال وحرم التكسب غير المشروع وقال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ..وحرم الغش والتدليس والسرقة وجعل حد السرقة قطع يد السارق وقد جاء في الحديث بأصولها: "ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا".. الحديث.
ومثله حديث: "المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"..
أما مكارم الأخلاق:(7/350)
فقد كان عنوانها في شخصية الرسول صلى الله عليه سلم في قوله تعالى عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وشرحت عائشة رضي الله عنها هذا بقولها: "كان خلقه القرآن ".. وقد أمر المسلمون بالإقتداء والتأسي به صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .. فجاء ببر الوالدين وحسن العشرة وحسن الجيرة وصدق القول. والوفاء بالوعد وحفظ العهد ونحو ذلك مما لا يحصى. وقد أشير إليه في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} . {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} .
وقد تسامى هذا الخلق الإسلامي بهذه الأمة حتى مستوى المثالية من الإيثار على النفس والإحسان على المسيء كما قال تعالى: في حق الأنصار {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} إلى قوله تعالى {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} . وقال: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .(7/351)
وفي وقعة ذهب أحد المقاتلين بعد المعركة يبحث عن أخ له ومعه قدح من ماء لعله يسعفه به فلما وجده وقدم إليه القدح فأهوى به إلى فمه سمع أنينا بجواره فأشار إلى أخيه أن اذهب بالماء إليه لعله أحوج إليه مني فلما وصله وأهوى بالقدح إلى فيه سمع هو أيضا أنينا بجواره فقال له اذهب به إليه لعله أحوج إليه مني. فلما وصل إليه وجده قد فارق الحياة فعاد إلى الثاني فوجد روحه قد فاضت فعاد إلى أخيه فإذا به قد استسلم وبقي القدح على يديه ومات ثلاثتهم ظمأ إيثارا للغير على النفس في أحوج المواقف وأشد الحاجة.
وفي الإحسان إلى المسيء الصور العديدة ومن أوضحها ما حكي عن زين العابدين ابن الحسن بن علي رضي الله عنهم أن جارية كانت تصب عليه الماء فسقط منها الإبريق فآذاه. فنظرت إليه في إشفاق وقالت: يا يسدي الله تعالى يقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} فقال لها كظمت غيظي، ثم قالت {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} . فقال لها عفوت عنك، فطمعت وقالت {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} قال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله …
ومما يدل في هذا المجال التوجيه إلى ما هو أفضل وأحسن والانطلاق إلى الفضائل والإحسان سواء في العبادات والقرب إلى الله أو في المعاملات وحقوق الإنسان.
فمن العبادات في الصوم {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} فالحد الأدنى للفدية عن اليوم طعام مسكين. ثم ندبه إلى الزيادة في الخير ومن تطوع خيرا فهو خير له..(7/352)
ومن المعاملات: أولا في الدين الحد الأدنى إنظار المعسر: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} ثم يندبه إلى ما هو أحسن: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} .. وفي تنصيف الصداق المسلم إذا وقعت الفرقة قبل الدخول فتنصيفه حد أدنى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ..ثم يندبه إلى الأحسن: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} .. وهذا كثير وسيأتي بيانه في الحكم والقضاء. ولعل فيما تقدم من بيان جلب المنافع ودفع المضار والحث على مكارم الأخلاق ما يكفي لإثبات كمال الشريعة بجانب ما قدمنا من النصوص الصريحة في ذلك..
وإن من أكمل الأدلة على كمالها لوجودها منذ تشريعها بكمالها. لم تحتج إلى ما يكملها ولم يطرأ عليها ما ينقصها، فقد سايرت السنين والقرون ولم يستطع معاند أو موالي أن يستدرك على ما فيها وما تجرأ إنسان على معارضتها إلا مكابر ومعاند وهو بمعارضته يعلن عن جهله وقصور نظره وهو في عمله أصدق ما يكون عليه قول الشاعر: -
كناطح صخر يوما ليوهنها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
بل إن القوانين الوضعية ما تمت ولا تطورت إلا بمقدار ما اقتربت منها واقتبست عنها. كما في أصل نشأة القانون الجرماني فقد كان منه قانون العوائد أخذ من عادات الشعب الإسباني من بقايا الفقه المالكي..
وهاهي ذي الحكومات في الدول الأوروبية تبدأ تأخذ تشريعات للأسرة من نكاح وطلاق وميراث.
أما الشمول: فقد شملت هذه الشريعة جميع الطبقات والطوائف والأفراد والجماعات. ونظمت علاقة الخلق بالخالق والحاكم بالمحكوم فيما بينهم.(7/353)
فاشتملت على التشريع الديني في العبادات والدنيوي في المعاملات والأخروي في طرق اكتساب الحسنات واجتناب السيئات.. فهي شريعة الدين والدنيا أو كما يقال: الدين والدولة. وكل شيء كما قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ..
ومن أوسع معاني الشمول فيها أنها شملت كل أمة من عرب ومن عجم وجمعت بينهم سواسية وسايرت كل زمان ومكان.. فهي شاملة لكل الناس على اختلاف أجناسهم صالحة لكل زمان قديما وحديثا ولكل مكان حاضرة وبادية..
ومن آثار هذا الشمول وذاك الكمال فهي تساير الدنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بخلاف الشريعة المتقدمة عند اليهود حينما قست قلوبهم وغلبتهم ماديتهم مالوا بها إلى المال بكل حيلة واستحلوا لكل غاية كل وسيلة حتى استحلوا ما حرم الله عليهم من الصيد يوم السبت وأكل الشحوم بالبيع وأكل الثمن..
فجاءت الديانة للمسيحيين تخفف من مادية اليهود فمالوا إلى الرهبانية. فلم تأخذها اليهود ولم يأخذ المسيحيون بما عند اليهود من تشريع للمعاملات وأخذوا يشرعون لأنفسهم تتمة لما تشمله تشريعاتهم..
أما هذه الشريعة فجاءت كما قلنا للدين والدنيا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} إلى آخر السورة..(7/354)
أما السماحة في الشريعة: فهي صفتها الخاصة كما في الحديث بعثت بالحنيفية السمحة. ومن سماحتها أن الله لم يجعل فيها من حرج في التكليف كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} .. وقوله {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} ولم يكلف نفسا إلا وسعها: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} ..
ومن قواعدها: إن كل مشقة تجلب التيسير. ومن هذا الباب جميع الرخص في الشريعة.. ومن السماحة عدم المؤاخذة في حالة النسيان أو الخطأ أو الإكراه.. وقد كان إصرا على من كانوا قبلنا فحط الله عنا وفي الحديث: "عفي لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".. ومفهوم عفي لي أنه لم يعف لغيره كما أعطى صلى الله عليه وسلم خمسا لم يعطهن أحد قبله كما في الحديث "نصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم وأعطيت الشفاعة وكان الرجل يبعث إلى قومه خاصة فبعثت إلى الناس كافة. وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا".. فقد خص بما لم يخص به غيره صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. وفي قوله {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} .. إلى قوله تعالى: {أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} .. فيقول الله تعالى عند كل دعاء قد فعلت.
وقد بيّن صلى الله عليه وسلم حال من كانوا قبلنا من المؤاخذة على النسيان والخطأ والإكراه. وقد أوخذ أبونا آدم على النسيان: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} .
ومن المؤاخذة على الإكراه الرجلان اللذان مرا بصنم لقوم وأمروهما أن يقربا ولو ذبابا فامتنع أحدهم فقتلوه، بينما في هذه الأمة: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالأِيمَانِ} .(7/355)
ومن السماحة: التيسير: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. َإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} .
ولن يغلب عسر يسرين.. أما ما يتعلق بخصوص الحكم من هذا كله- من الكمال والشمول والسماحة فكالآتي:
الكمال في القضاء الإسلامي:
والواقع أن النظر في كمال القضاء يكون في جانبين - في شكله وفي معناه.
1- والجانب الأول ما يعرف الآن بالجانب الإداري الذي يختص بإدارة المحكمة وترتيب القضايا في مواعيد محددة.
ومن هذا قبيل التخصيص بالمكان أو النوع أو المقدار.. وقد وجد النوع الثاني وهو التخصيص في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم حيث أرسل صلى الله عليه وسلم عليا وأبا موسى إلى اليمن وخصص كلا منهما بجانب منه.
أما النوع والمرتبة: فقال كل من ابن قدامة في المغني [1] والقاضي أبو الحسن الماوردي أنه يجوز للولي أن يولي القاضي ولاية عامة في عموم الحقوق فتعم من حيث الزمان والمكان والأقضية. أو عامة في خاص أي عموم الأقضية في خصوص بلدة. أو خاصة في خاص أي في نوع من الأقضية في بلدة وله أن يحدد مبلغا لا يتعداه. وفي الموطأ لمالك: أنه مرّ بقاضي السوق فقال له: لا تكثر لئلا تخطئ. فكان للسوق قاض. وقال عبد الله الزبيري لم تزل الأمراء عندنا بالبصرة برهة من الدهر يستقضون قاضيا على المسجد الجامع يسمونه قاضي المسجد يحكم في مائتي درهم وفي عشرين دينارا فما دونها وتفرض النفقات ولا يتعدى موضعه ولا ما قدره له.(7/356)
سلم المحاكم: وهو ما يعرف بالتقسيم الحالي: محكمة مستعجلة وأخرى كبرى ثم استئناف. فهو نوع من التخصيص وزيادة في موضوع الاستئناف. فقد وجدنا من ينفي وجوده في تاريخ القضاء الإسلامي. والحق أنه موجود بأصله في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في قضية عرضت على علي رضي الله عنه باليمن وهي كما ساقها وكيع وفيها عن أحمد في قضاء علي عنه قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأزي الناس زيية الأسد فأصبحوا ينظرون إليه وقد وقع فيها فتدافعوا حول الزيية فخر فيها رجل فتعلق بالذي يليه. وتعلق آخر بآخر حتى خر فيها أربعة. فجرحهم الأسد فتناوله رجل برمح فطعنه وأخرج القوم منها. فماتوا كلهم. فقالت قبائل الثلاثة لقبيلة الأول: هاتوا دية الثلاثة فإنه لولا صاحبكم لم يسقطوا فقالوا: إنما تعلق صاحبنا بواحد فنحن نؤدي دية واحد فاختلفوا حتى أرادوا القتال بينهم فسر رجل منهم إليّ وهم غير بعيد مني فأتيتهم فقلت لهم: تريدون أن تقتلوا أنفسكم ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي وأنا إلى جنبكم إني قاض بينكم بقضاء فإن رضيتموه فهو نافذ بينكم وإن لم ترضوه فهو حاجز بينكم فمن جاوزه فلا حق له حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أعلم بالقضاء مني فرضوا بذلك فأمرهم أن يجمعوا دية كاملة ممن حضروا البئر ونصف دية وثلث دية. وربع دية، فقضى أن يعطي الأسفل ربع الدية. من أجل أنه هلك فوقه ثلاثة. ويعطي الذي يليه الثلث من أجل أنه هلك فوق اثنان ويعطي الذي يليه النصف من أجل أنه هلك فوقه واحد. ويعطي الأعلى الدية كاملة لأنه لم يهلك فوقه أحد.(7/357)
فمنهم من رضي ومنهم من كره، فقال تمسكوا بقضائي حتى تأتوا رسول اله صلى الله عليه وسلم بالموسم فيقضي بينكم فوافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مقام إبراهيم فساروا إليه فحدثوه بحديثهم. وهو محتب ببرد عليه فقال: إني أقضي بينكم إن شاء الله. فقال رجل من أقصى القوم: إن علي ابن أبي طالب قد قضى بيننا قضاء باليمن، فقال: وما هو؟ فقصوا عليه القصة، فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم القضاء كما قضى علي بينهم.
ففي هذه القصة يتحقق معنى الاستئناف المعروف حاليا أو التمييز الذي هو عبارة عن رفع القضية بعد صدور الحكم الأول فيها إلى جهة أعلى منها للنظر في سيرها ومطابقة حكمها لواقعها. لأن عليا رضي الله عنه قال: فإن رضيتم فقضائي وإلا فهو حاجز بينكم حتى تأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أعلم بالقضاء مني. فرضي البعض ولم يرض البعض الآخر. وهذا هو عين ما يعرف بتقرير عدم القناعة ثم رفع القضية بتمامها، ومن جهة أخرى فقد تقرر مبدأ عدم نظر القضية إذا كانت نظرت من قاض آخر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع القائل يقول: قضى فيها علي بنا باليمن توقف عن القضاء حتى سمع الحكم الأول فأقره وهذا بعينه هو سلم المحاكم ومراتبها: مستعجلة- كبرى - استئناف. وفي النظم الأخرى: محكمة الصلح - محكمة أولية - محكمة استئناف - وتوجد محكمة النقض والإبرام. ويوجد ما يقابلها باسم مجلس القضاء الأعلى قد ينظر القضية بين محكمة التمييز وبعض المحاكم الكبرى.
ومنع عمر الأمراء أن يقيموا حكم القتل حتى يعرض عليه. وهو ما عليه العمل الآن من تصديق الملك أو الرئيس على الحكم في القتل.
أما الترتيب الأول فهو سير المحكمة والمحاكمة فهذا الشكل لم يكن معروفا من قبل لأنه لم تكن له حاجة تدعو إليه. وقد تأثرت بمؤثرات الحياة وتطورات المجتمع.(7/358)
ما كان عليه الوضع زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي كان عليه الوضع زمن الرسول صلى الله عليه وسلم هو صورة من صور المسلمين الأولين في بساطتهم وصدق كلمتهم وقصدهم إلى الحق ولم على أنفسهم. فكانوا يعتبرون القضاء إبراء للذمة وخروجا من العهدة حتى أن أحدهم كماعز والغامدية إذا ارتكب حدا يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب إقامة الحد عليه.
فلم تكن قضايا أمثالهم تتطلب أكثر من التشبث منه في إقراره كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ماعز: أبِكَ جنون؟ لعلك قبلت. لعلك فاخذت … الخ.(7/359)
وقصة العسيف الذي زنا بامرأة من يعمل عنده فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما يا رسول الله أقض بيننا بكتاب الله وقال الآخر وهو أفقههما: أجل فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي في أن أتكلم فقال: تكلم. قال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فأخبرت أن على ابني الرجم، فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن ما على ابني جلد مائة وتغريب عام. وأخبروني إنما الرجم على امرأته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله. أما غنمك وجاريتك فرد عليك وجلد ابنه مائة جلدة وغربة عام. وأمر أنيس الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت رجمها فاعترفت فرجمها. فما كانا إلا مستفتيان. وقد أخبرا من قبل مجيئهما الرسول صلى الله عليه وسلم وسألا أهل العلم لمعرفة الحق وفي الأموال كذلك. كما في حديث الرجلين اللذين اختصما في مواريث بينهما درست معالمهما ولا بينة عندهما فقال صلى الله عليه وسلم أنكم تختصمون إلي فأقضي لكم على نحو ما أسمع فلعل أحدكم ألحن بحجته من صاحبه فمن قضيت له شيئا من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار. فتراجع كل منهما وبكى وقال: حقي لصاحبي. فلم يتشاحا أو يتلاحيا وأرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم لإكمال اللازم بأنفسهما من الاقتسام والإسهام والتسامح.
وفي الزوجية: قضية جميلة زوجة ثابت بن قيس لما أرادت فراقه جاءته صلى الله عليه وسلم وقالت إني والله لا أعيب عليه دينا ولا خلقا ولكني أكره الكفر في الإسلام. صراحة ومروءة لم تتجن عليه فقال صلى الله عليه وسلم أتدرين عليه حديقته؟ قالت بلى وزيادة. فقال صلى الله عليه وسل: أما الزيادة فلا. وقال له.: خذ الحديقة وطلقها طلقة. وأمرها أن تعتد عند أهلها. فانتهى الأمر بالسؤال والجواب. ولم يلزمه معه أي إجراء. ونظير ذلك كثيرا.(7/360)
تطور الأمر: أما بعد أن تطاول الزمن وتغير الناس وتداخلت الحقوق والتبست الأمور. وغلبت الأهواء. وسنحت النفوس. وظهر الإنكار تغيرت الأوضاع في شكلية القضاء وتطلب الحال تطورا وضبطا وسجلات وكبتا وقد بدأ شيء من ذلك في زمن عمر. فقد كان يرى أن المسلمين كلهم عدولا على بعض وكتب إلى أبي موسى في ذلك حتى أتاه رجل من العراق وقال له جئتك في أمر لا رأس له ولا وذنبا شهادة الزور ظهرت في بلدنا.
فقال عمر: أو حدث ذلك والله لا يرهن مسلم إلا بشاهدي عدل فنشأت تزكية الشهود لمجهول الحال. فكان عمر ينظر إلى الناس كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما تغيروا غير الوضع بما يضمن المصلحة ويحقق العدالة.
الكاتب والضبط: وقد كان بعد الخلفاء للقاضي كاتب وضبط وقمطر. وكان يعين له مجلس وزمن أو يختار بيته أو المسجد ونص الخلفاء على ترتيب الخصوم الأول فالأول.
ثم خصصت دور للقضاء والحكم سميت بالمحاكم ونظمت مواعيد الجلسات وزمن حضور الخصوم وغير ذلك وكل ذلك من تطور شكل القضاء مع تطور أحوال الناس. وأقضياتهم. والجدير بالتنبيه عليه هو أن الإسلام لا يمانع من أي تطور يحقق المصلحة ولا يتعارض مع نص من كتاب أو سنة وقد أوجد زمن عمر ديوان الجند لحصرهم وترتيب أعطياهم وجمع القرآن في الصحف وكتب المصحف … الخ. كما اتخذ السجن ونحوه لما فيه مصلحة الأمة.
وبهذه المناسبة فإن القضاء في هذه المملكة وهو قضاء شرعي في منهجه يعتبر مثاليا في شكله وصورته ونظامه من ضبط واختصاص وما يتعلق بذلك. وما ينتج عنه من سرعة إنجاز وفسحه ومعارضته. ويلاحظ لو نظرنا إلى شكوى بعض رؤساء الدول المجاورة عن كثرة القضايا وقلة القضاء وعدم الإنجاز.(7/361)
الكمال في منهج القضاء الإسلامي: أما المنهج القضائي في الإسلام فهو المثال الأعلى منذ صدر الإسلام لأنه شمل بالعناية كل من القاضي - والمقضى عليه - والمقضى فيه - والمتقاضين- وسير القضاء، أي ما يسمى بأطراف القضاء أو أركان القضاء.
أ- أما القاضي فقد وضع له شروطا إن لم تتوفر فيه لا يتولى القضاء وسيأتي بحثها مستوفاة إن شاء الله.
ب- والمقضى به فهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسل وأقضيات سلف الأمة ممن لهم الاجتهاد وحق الاقتداء بهم. وقياس النظائر بالأشياء.
ج- والمتقاضون سواء كانوا مسلمين أو أهل ذمة على تفصيل سيأتي.
د- أما سير القضاء فقد أقيمت أسسه بقوله صلى الله عليه وسلم البينة على من ادعى واليمين على من أنكر.
وقال لعلي حين أرسله إلى اليمن إذا أدلي إليك الخصم فلا تقض له حتى تسمع من الآخر فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء.
وضمن للقاضي ارتياحه وطمأنينته أثناء القضاء فنهاه أن يقضي وهو غضبان أو في حالة شبيهة بالغضبان من المشوشات للفكر.
وفي كتاب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى قواعد أساسية لمنهج القضاء في الإسلام لم يوجد بعده ما يسايره في معانيه ولا منهجه.
المنهج القضائي في القرآن والسنة
وإذا كان الغرض من منهج القضاء هو تحقق العدل والإنصاف والمساواة، فإن ما رسمه القرآن بصريح النصوص ليغني عن البيان. منها:
1- قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} . ففيه الأمر بالحكم بالعدل بين الناس عموما.(7/362)
2- ثم يأتي أخص من هذا وهو في خصوص العدول والخصوم في قوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} . {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} .
3- ومع غير المسلمين أيضا: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} .
4- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} .
تطبيق ذلك عمليا: وقد طبق ذلك قضاة المسلمين كما فعل شريح في قضية أمير المؤمنين علي مع اليهودي في الدرع ادعى به علي وليس عنده شاهد إلاّ الحسن بن علي ومولاه قنبر فلم يقبل القاضي أن يسمع شهادة الحسن لأبيه وحكم لليهودي وكان سبب إسلام اليهودي واعترافه بالدرع لعلي ففرح علي وأهداه عليه ومائتي درهم.
وقضاء عمر بين رجل من المسلمين وآخر يهودي فقضى عمر لليهودي لما رأى الحق له فأقسم اليهودي لقضيت بالحق فلهزه عمر في صدره وقال: وما يدريك..
وقضاء زيد بن ثابت بين عمر وأبي في نخيل إلى غير ذلك من الأمثلة التي حققت العدالة ولو على الأنفس والأقربين.
وبهذا يتضح الكمال في القضاء شكلا ومنهجا.
أما الشمول في الحكم: فالاتساع نطاق التحكيم حتى شمل العبادات والزوجات وتعدى إلى القبائل والعشائر وما يمكن أن يسمى القضاء الدولي على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله مما لم يسبق إليه.(7/363)
أ- أما في العبادات ففي تقدير جزاء الصيد {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} .
ب- وفي تقدير الأمور النسبية: كتقدير نفقة الزوجة والأولاد ومصاريف القصار.
ج- في القضايا الزوجية: حينما تتأزم الأمور أمام القاضي ولا يعلم أسباب الخلاف لما بين الزوجين من الخفاء والتستر ولا طريق إلا الإصلاح: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً. وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} .
د- وقد اتسع نطاق الحكم والقضاء في الإسلام فشمل القبائل والطوائف ويمكن أن نقول القرى والمدن والأقطار وما يطلق عليه الآن محكمة العدل الدولية وذلك في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} .
وفي هذا السياق ما يستنتج منه إيجاد قضاء عالمي وبوليس دولي إذا اعتبرنا الطائفتين بمثابة الدولتين لأن دولة ما لا يحق لها أن تتدخل بالقوة بين دولتين متقاتلتين حتى ينظر في سبب القتال ويعلم ممن الخطأ وهذا يقضي قضاء دوليا. فيحكم على المعتدين بالكف والامتناع وسعي بينهما بالصلح. فإن لم تكف إحداهما كان لزاما من قتالها ولا يحق لدولة متفردة أن تقاتلها فكان البوليس الدولي ليحجز بينهما. إلى أن يتم الصلح أو القضاء وهكذا.(7/364)
ومن خصائص القضاء في الإسلام أن يدعو إلى التسامي عن مواقف العناد أو المقاصة ويسمو بنفس صاحب الحق إلى التسامح والعفو من ذلك:
1- قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ} . فهنا يعطي المدعي حق المعاقبة بالمثل. ولكنه يندبه للصبر ويفضل الصبر للصابرين.
2- وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} .ثم قال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} .
3- وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} .
فقد تقرر أن الجزاء بالمقاصة مثلا بمثل ولكن ندب إلى العفو والصبر والإصلاح.
4- وفي قصاص الجروح: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ.. إلى: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ثم يقول تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} .
5- وأعظم من هذا كله في قصاص النفس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} .
مساوئ القانون
الواقع أنه لا يتأتى تعداد مساوئ القانون الوضعي ولا تتبعها في كل مسألة كما لم يتأت تعداد محاسن الشريعة في كل مسألة أوحكم ,وكما أشرنا إلى محاسن الشريعة على سبيل الإجمال فنشير هنا أيضا إلى مساوئ القانون على سبيل الإجمال. ويتلخص هذا في الآتي:
1- نشأة القانون.
2- وجوده في البلاد الإسلامية.(7/365)
3- عوامل تدعيمه والإبقاء عليه.
4- الطعن على الشريعة والرد عليها.
5- مقارنته بين الشريعة والقانون في مسائل الطعن كالقطع والرجم.
نشأة القانون: إن المعتبر الآن من القانون الوضعي يرجع في الأصل إلى القانون الفرنسي مع ما أضيف إليه في كل بلد بحسب حاجاتها ومفاهيمها.
والقانون الفرنسي يتكون في أصله من عدة أصول جاءت محكية في كتاب المقارنة بين القانون الفرنسي والمذهب المالكي للأستاذ سيد عبد الله حسن 1366- 1937. قال:
أولا: القانون الروماني وكان في جنوب فرنسا إلى سنة 1785م.
ثانيا: القانون الجرماني وكان في شمال فرنسا.
ثالثا: قانون الكنيسة الكاثوليكية وكان حول الزواج وما يتبعه.
رابعا: قانون الملكية المطلقة بأوامر لويس 14- 15 - 16.
خامسا: قانون الثروة.
ثم وحدت في قانون واحد سنة 1804 وهو الذي كان موجودا بمصر سنة 1926م. أما القانون الروماني فقد دخل إلى فرنسا سنة 50 قبل الميلاد حين غزاها الرومان إلى سنة 476 بعد الميلاد.
أما القانون الروماني فدخلها سنة 476 إلى سنة 986. ثم جاء قانون العوائد وبالتالي مزجت تلك القوانين كلها بعد الثورة الفرنسية وجُعلت قانونا واحدا. ولد في أوروبا ونشأ فيها ثم انتقل إلى غيرها.
تواجد القانون في البلاد الإسلامية
أما تواجده في البلاد الإسلامية فإنه ليست لدينا المراجع الكافية للتفصيل في ذلك ولكن على سبيل المثال والإيجاز نذكر عن وجوده في مصر وسوريا والعراق والبلاد العربية. ولم نذكر السعودية لأنه ولله الحمد لم يدخلها قط وكانت دائما تحكم من أبنائها سواء في نجد أو الحجاز وبتحكيم الشريعة.(7/366)
أ- أما وجوده في مصر: فكان بدء ذلك سنة 1856 وقبلها كان الحكم للإسلام. ولكن بدأ في هذا التاريخ منذ أنشأت مجالس قضائية محلية. بجوار المحاكم الشرعية المحلية أيضا. ثم تشعب القضاء ووجدت الامتيازات والحماية. وفي سنة 1876 ظهرت المحاكم المختلطة على يد نوبار باشا في عهد إسماعيل باشا وكان قانونها مكونا من القانون الفرنسي والإيطالي والبلجيكي وواضعه ((مسيو مونري)) المحامي الفرنسي الذي كان موجودا بمصر آنذاك.
فكان في البلاد والمحاكم المختلطة لجميع الأجانب بزعم التخلص من المحاكم المختلطة فكانت على نظامها وأوضاعها. وأنشأت سنة 1873 في 14 يونيو بأمر عال من الخديوي توفيق باشا فألغيت مجالس الأحكام. وبقيت المحاكم الشرعية للأحوال الشخصية فقط. والمحاكم الأهلية للأحوال المدنية.
وهكذا قضي على القضاء الإسلامي بالقضاء القانوني في خطوات سريعة لم تستغرق أكثر من خمس وعشرين سنة.
أما سوريا فإنه دخلها دفعة حيث نقل إليها القانون المصري الفرنسي فقط سنة 1949 ميلادي.
عوامل تدعيم القانون وبقائه: ولما لم يكن لهذا القانون ما يسانده في هذه البلاد وكان مفروضا فرضا ولم يستند على شيء إلا لوجود المستعمر رسم الخطة لتدعيمه ومساندته فأنشأ كلية الحقوق لدراسة القانون وهيأ المراتب والوظائف في الدول لخريجيها ليتولوا زمام الحكم. وأعلى من شأنهم في الوظائف والمرتبات مما صرف النظر إليها ورغب فيها، بينما قلل من فرص العمل أمام رجال الفقه والشريعة وقلل من مرتباهم. حتى لا يتجه إلى تعليم الشريعة إلا ذو العقائد القوية والدين السليم رغبة في الدين ومرضاة لله.
الطعن على الشريعة: ومن ناحية أخرى سلط الطعن على الشريعة من حيث عدم صلاحيتها للقضاء ومن ثم عدم صلاحيتها للحكم. وقال الأستاذ سيد عبد الله أن نقاط الطعن هي:
1- اختفاء العدالة ووجود الفوضى وتفشي الرشوة وعدم تنفيذ الأحكام غالبا.(7/367)
2- تشعب القضاء الإسلامي لوجود الحكم بالمذاهب المختلفة: المالكي ثم الشافعي وأخيرا الحنفي..الخ
3- قسوة الأحكام الشرعية كالقطع والرجم ويقول الأستاذ الشهيد عبد القادر عودة إن الذين يوجهون مثل هذا الطعن على الشريعة قسمان:
قسم درس القانون ولم يدرس الشريعة.
قسم لم يدرس الشريعة ولا القانون.
ومثل هؤلاء لا يحق لهم أن يحكموا بشيء على الشريعة لعدم دراستهم إياها.
ثم يقول إن طعنهم مبني على قياسهم الشريعة على القانون من حيث مبدأ التطور والتجديد في القانون كلما تطورت الحياة المدنية والحضارة فيرون أن الشريعة بناء على ذلك يجب أن تتطور لأنها منذ عهد بعيد وفي أوضاع مدنية مختلفة.
وقد يكتفي الإنسان برد ادعائهم بأنهم يجهلون الشريعة وكفى ولكن نورد ما يفند مزاعمهم لئلا يغتر بها من كان مثلهم.
أما ادعاؤهم وجود الفوضى والرشوة وغير ذلك من الفساد فليس ذلك راجعا إلى عدم صلاحية الشريعة للحكم. ولكن مرجعه إلى تعطيل الشريعة وفساد الحكام وفرق بين فساد الحكام ونظام الحكم كالفرق تماما بين ضعف المدرس وضعف المنهج.
بل إن قوة المدرس تعطي المنهج قوة وحيوية وكذلك قوة الحاكم وكان الإصلاح السليم هو إصلاح المجتمع وإعداد الحكام والقضاة إعدادا سليما كما فعل المستعمر لقانونه ففتح كليات لتربي حماة لنظامه فهل فتحت معاهد خاصة للقضاة الإسلاميين في جميع المجالات شخصية ومدنية وجنائية.
ب - وأما تشعب القضاء الإسلامي بتعدد المذاهب فإن ذلك أوسع فرصة لوجود نصوص فقهية قضائية وكان الإصلاح هو تقوية القضاة أي مرتبطا بالأول ليكونوا على حالة تمكنهم من إيجاد حل لكل قضية مهما كانت ومن أي مذهب كان. وإن أحد هذه المذاهب التي لا تخرج في مجموعها عن الكتاب والسنة واجتهاد سلف الأمة لهو أولى وأحرى ألف مرة من أخذ قانون أوروبي وضعه محام فرنسي أو افترضه مستعمر ظالم.(7/368)
ج - أما قسوة التشريع الإسلامي: فهذه هي محط الرحل وهي التي جعلت ناشئة القانون يتمسكون به ويفرون من تشريع بلادهم ودين آبائهم وأجدادهم. بل وحق الله تعالى عليهم.
وفاتهم المساكين أن تشريع الله لخلقه أرحم وأرأف وألطف من تشريع المستعمر لهم. ولقد كان مشركوا مكة أعقل منهم وإن كانت في دعوى عصبية إذ قال صفوان: لأن يريني رجل من قريش يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من أن يريني رجل من هوازن.
وأيضا فاتهم أنه الحليم قد يقسوا رحمة بمن يرحمهم كقول الشاعر:
قسى ليزدجروا ومن يك حازما
فليقس أحيانا على من يرحم
وإنا لنورد مقارنة بين الشريعة والقانون فيما اعتبروه قسوة المقارنة:
أولا - في قطع يد السارق:
يرى دعاة القانون أن قطع يد السارق وحشية وغلظة ولا يساير الحضارة والمدنية الحديثة لأن المجرم مريض في المجتمع ويجب أن نعالجه.
والجواب على ذلك من وجوه:
أولا: ومن قريب ما أجاب به جلالة الملك فيصل حفظه الله في مؤتمر صحفي بأمريكا لما سئل هل لا زلتم تقطعون يد السارق في بلادكم ولِمَ؟ فقال: نعم لا زلنا نقطع يد السارق. ولأن الله هو الذي أمر بذلك. أي أنه حكم الله الذي خلقه وهو أعلم بما يصلحه وهو أرحم به.
ثانيا: بما وقع على جواب من سلفهم حينما قال أبو العتاهية:
يد بخمس مئين عسجد وديت
ما بالها قطعت في ربع دينار
فأجاب بعض المؤمنين مبينا الحكمة في ذلك بقوله:
عز الأمانة أغلاها وأرخصها
ذل الخيانة فافهم حكمة الباري(7/369)
ثالثا: نقول لهم أليس الشرع أو القانون لحماية الجميع فلم تعملون على حماية السارق المجرم ولا تعملون على حماية المسروق منه الوادع الآمن. ولم تتوجعون لآلام السارق وهو المعتدي الذي يفوت على العاملين نتائج أعمالهم. ولا تتوجعون على العامل الكادح طيلة عمره وقد يكون ذا عيال وأسرة ضيق على نفسه في النفقة وأرهق نفسه في شبابه ليدخر لكبره وعوزه وأطفاله فيأتي السارق في خفاء بيد أثيمة ويذهب بكل ما جمعه المسكين ويدعه عالة على المجتمع. فقيرا بعد غنى ذليلا بعد عز. ثم يذهب يبددها دون مبالاة ولا يعلم من أين اكتسبت حيث لم يعرق له فيها جبين. فأي الفريقين أحق بالأمن.
والآن: هل نفعت شفقتكم عليهم وهل أصلحت من مرضهم أم أنها جنت على المجتمع الآمن. إن حوادث السرقة في أرقى البلاد مدنية اليوم وقد وصلت إلى ما لم تصل إليه من قبل.
اعتراف بفضل الشريعة: وهاهي بعض البلاد وتضع في قوانينها الحكم بالإعدام لجرائم السرقة إذا وقعت ما بين غروب الشمس وطلوعها وكان موجودا مع السارق سلاح ولو لم يستعمل. أو بالحبس مؤبدا وبعضها يعاقب بالإعدام مطلقا إذا استعمل الهجوم المسلح ولو لم يقتل فيه أحد.
وما ألجأهم لذلك إلا عدم صلاحية اللين والتسامح مع المجرمين ولو نفذوا من قبل قطع اليد لما احتاجوا إلى قتل النفس.
والواقع أن نفسية السارق تعالج بالرفق أو التسامح لأنها ليست ذات وفق ولا يسامح. فلا يصلح معها إلا ما يردعها.
ثم أي فائدة للدولة في حبس إنسان تتولى الإنفاق عليه طيلة عمره مع ضياع أهله وأولاده إن كان له أهل وأولاد.
وهل في قتله أو حبسه على التأبيد علاج لمرضه أو القضاء عليه حسا أو معنى. فأي القضائين أرحم له وآمن للوطن.(7/370)
أما رجم الزاني أو جلده: فلو كان لدعاة القانون عقل واعٍ لما ذكروه في هذا السياق ولجعلوه ولو مكابرة موجبا للطعن بالضعف لا بالقسوة لأنه أحيط في الشريعة بشروط في الإثبات لا تكاد توجد إلا بندرة. وما يثبت في تاريخ الإسلام حد الرجم إلا بالاعتراف. وفي غاية من القلة والندرة يمكن عده على الأصابع والاعتراف محض إرادة واختيار ورغبة في التطهر من آثام الإثم فهي نزعة دينية كريمة آثر الآخرة على الدنيا.
ولو امتنع من الحضور إلى القاضي لما طلبه ولو رجع عن إقراره لما حده. بل يدرأ عنه الحد بالشبهة. ومع هذا فالمقارنة بين العالمين الإسلامي الذي يحكم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه دين وبين المجتمع القانوني وخاصة أرعى بلاد العالم المتحضر في نظر المتمدنين بل واضعوا القانون نجد الفرق المذهل.
أولا: في أمريكا أصبح معدل الجريمة كالآتي:
أ- جريمة قتل كل دقيقة.
ب- جريمة سرقة مسلحة كل دقيقة.
ج- جريمة اغتصاب كل عشرين دقيقة.
د- جريمة دون اغتصاب لم يجر إحصاؤها.
ثانيا- في ألمانيا: سجل الإحصاء جرائم القتل عام 1969م فوق ألفي جريمة. في عام 1971م وصلت إلى ثلاثة آلاف وزيادة مطردة.
ثالثا- في بريطانيا: سنة 1970م سجلت الإحصائيات 41088 قتل وجرائم السطو بلغت في عامين نصف مليون.
رابعا- في فرنسا: زادت نسبة الجريمة إلى 32هـ عن مجلة الجامعة الإسلامية رجب 92هـ.
هذا هو وضع أوروبا وأمريكا أما روسيا فلا حاجة إلى ذكرها لأنها تعيش في سجن كبير وحياتها كلها جريمة.(7/371)
أما البلاد العربية التي تحكم بالقانون فلم نقف لها على إحصاء ولكنها لم تكن بالوضع الذي تحمد عليه. بينما هذه البلاد التي أكرمها الله بالحياة في ظل الشريعة الإسلامية لم تتجاوز فيها هذه الجرائم عدد الأصابع في العام وأكبر دليل لهو الواقع المشاهد لكل قاص وداني من مسلم وكافر والفضل ما شهدت به الأعداء، وبالأمس القريب في جولة رئيس وزراء أمريكا كان يطوف بجولة في سيارته المصفحة إلا عند وصوله المملكة تخلى عن سيارته المصفحة وأخذ يجوب بالأسواق والشوارع في ظل هذا الأمن الوارف الذي لم يجده في حياته كلها ولا حتى في بلده ومحل سلطانه وأمثلة ذلك عديدة والتاريخ الإسلامي أكبر شاهد للعالم كله على ما نَعِمَ به المسلمون وغيرهم في ظل الإسلام وفي قصة الهرمزان مع عمر ليست خافية وكلمته المشهورة حكمة: فعدلت فأمنت فنمتت.
ولعل هذا يكون فيه شيء من الأخبار والإحصاء. ولكن لنأخذ نصوص القانون: تعتبر القوانين الوضعية كلها أن الزنا حق شخصي ولا علاقة له بالمجتمع فيمتنع نهائيا إثارة دعوى الزنا إلا من أحد الزوجين أو أقرب المرأة غير المتزوجة إلى الدرجة الثالثة.
وينص القانون العراقي أن الزوج إذا أسقط حق المطالبة عن زوجته سقط حق المطالبة أيضا عن الزاني وبعض القوانين لا يعطي حق إثارة دعوى الزنا إلا إذا كان ذلك على فراش الزوجية أو كان بالإكراه. أما إذا كان بعيدا عن فراشه خارج بيته وكان برضاها يسقط حقه في ذلك.
ومن هنا نعلم إلى أي مدى تفسد الأنساب وتتفكك العائلة فتتقطع أواصر الروابط. فتتخلخل قواعد المجتمع كله.
قضية عين:
ومن المؤسف والموجع في تاريخ القضاء القانوني قضية عين وقعت في بلد مسلم مجاور من القضايا الزوجية تتلخص في الآتي:
تزوج امرأة ولم يدخل بها ومكث عدة سنوات فطالبته الزوجة بالنفقة ونصف المهر. وصدر القرار بالحكم تحت رقم 332 بتاريخ 24/6/72م على الزوج يقدم المهر ونفقة شهرين.(7/372)
فطعن الزوج في هذا الحكم، وقدم المحامي وكيله هذا الطعن إلى المحكمة وبناه على عدة أسباب والمؤسف والموجع حقا هو مبنى الطعن إذ أنه قال: إن عقد زواجه باطل. ولم يقع دخول. وعليه فالاستمرار في زواجه هذا باطل مخالف للنظام العام.
وعلل بطلان زواجه بأنه قد زنا بوالدة الزوجة. وأن الحرمة تثبت بمجرد النظر إلى العضو المختص للمرأة بشهوة.
وقد حكمت الأكثرية برفض الطعن ولم تسمح له بإيراد الشهود عليه.وقد نشر ذلك في مجلة المحامات لذلك البلد ومع نشرها لذلك فإنها تتوجع لذلك الأمر. وتقول: يتضح أن الزوج هو الذي طلب إبطال العقد بادعائه وطء أم الزوجة بطريق التزاني. فلئن كان كاذبا فإنه من أوجع الحالات التي مرت على القضاء والتي لا يتورع فيها الزوج عن أية فرية دفعا لإلزامه بالمهر والنفقة. ولئن كان صادقا فالسؤال:
أيقبل قوله وقد شهد على نفسه بالفسق؟ وفي الحالة نرى أي ترى المجلة أن قرار القاضي ومحكمة النقض كان حكيما وأكثر صونا للأعراض والكرامات وانطباقا على القواعد الشرعية الكلية.
فكان تعليقنا
1- إذا كانت المجلة تتوجع لدعوى الزوج على أم زوجته ليطعن في الحكم فهلا توجعت لجرأة زميلها المحامي في رفع هذا الاعتراض إلى هيئة القضاء. وكان عليه ألا يرضى لنفسه رسولا لهذا الزوج ليكسب القضية بأي وسيلة ولو على شرف المهنة وكرامة شخصه.
2- وإذا كان حكم محكمة النقض بالأكثرية. فماذا كان رأي الأقلية إذن؟ وهل يؤثر على حكم القاضي الأول عدم الموافقة من الأقلية علما بأن المحكوم به هو نصف الصداق وهذا حق مستقر بمجرد العقد الثابت وبموجب قانون تلك البلد بالمادة رقم 148 من قانون الأحوال الشخصية التي نصها:(7/373)
إذا أقر أحد لامرأة أنها زوجته وليس تحته محرم لها ولا أربع سواها وصدقته وكانت خالية عن زوج وعدة ثبت زوجيتها له بإقراره وتلزم نفقتها ويتوارثان وزواجها ثابت قبل الدعوى باثنتي عشرة سنة. ولم ينكر زواجه منها.
وفي المادة (85) النص على أن الفرقة إذا كانت من جهة الزوج فإنها تنصف المهر قبل الدخول سواء كانت طلاقا أو فسخا أو فعله ما يوجب حرمة المصاهرة بأصولها وفروعها. اهـ. وهذا عين ما في هذه القضية. فهذه مواد قانون تلك البلد يلزم الزوج بنصف المهر فماذا كان يريد المحامي أولا من تقديم هذا الطعن ويتجاهل كل ذلك. وماذا كان يريد الأقلية من قضاة محكمة النقض.
ومرة أخرى مع الأكثرية في محكمة النقض والقاضي الأول في إصدار الحكم ما هو موقف الجميع من الزوج في إقراره بما ادعاه على والدة زوجته من تعزير إن لم يكن حدا.
ومع المجلة حين تقول إنها تتوجع إذا كان كاذبا في ادعائه وترد شهادته فقط إن كان صادقا. أليس افتراض صدقه أشد إيجاعا.
ولكن تقول حكم القاضي وهيئة النقض كان حكيما وأكثر صونا للأعراض والكرامات وانطباقا مع القواعد الشرعية الكلية.
فأي التشريعين أحكم وأكثر صونا للأعراض: التشريع الإسلامي أم هذا الذي يسمح له بهذا الادعاء أمام هيئة القضاء.
وأي انطباق في هذا الحكم مع قواعد الشرع الكلية وقواعد الشريعة تدينه بأحد أمرين إما القذف إن كان كاذبا وإما الزنا إن كان صادقا وفي كل منهما حد معلوم.
فأي التشريعين أحق بصون الأعراض وحفظ الكرامة وأصون للنسب وأشرف للقضاء وأسلم للمجتمع.
وليست مساوئ القانون قاصرة على ذلك بل أنها لأبعد من هذا كالآتي:
أولا: أن أشد مساوئ القانون أن يكون بديلا عن شرع الله تعالى المنزل.
ثانيا: أن الأديان السماوية متفقة كلها على حفظ الجواهر الست المسماة بالضروريات كما قيل في لامية الجزائري قديما.
قد اجتمع الأنبيا والرسل قاطبة(7/374)
على الديانة في التوحيد بالملل
وحفظ نفس ومال معهما نسب
وحفظ عقل وعرض غير مبتذل
وقد شاهدنا موقف التشريع الإسلامي من هذا كله بالتحريم وإقامة الحدود لصيانتها.
موقف القانون منها:
أما موقف القانون منها فكالآتي:
1- أما الأديان فإنه يبيح حرية الأديان وهذا وإن استحسنته البعض إلا أنه مما يؤدي إلى الاستخفاف بالأديان وأي قيمة لها بعد ذلك. ثم هو يؤدي إلى الفوضى لا بالعبادات فحسب بل وفي الحقوق لأن لكل دين حقوق. وارتباطات فيكون اليوم مسلما ويرتبط مع المسلمين بمصاهرة ونسب وعقود وغدا مسيحيا فيرتبط بالمسيحيين كما ارتبط بالمسلمين ثم بعد غد يهوديا وهكذا فيضيع حق المسلمين ثم حق النصارى وهكذا. فهذا أصل قد ضاع بسبب القانون أو ضاع في حماية القانون.
2- أما الدماء فالقوانين لا تعرف دية ولكن تجعل تعويضا للورثة بحسب ما فاتهم بموت مورثهم فإن كان جامعيا مثلا كطبيب أو مهندس حكمت له وعلى سبيل الواقع فعلا بخمس وثلاثين ألف ليرة. وإن كان دون ذلك كطالب في كلية الصيدلة حكمت لورثته بخمسة عشر ألفا. وإن كان عاملا عاديا حكمت له بخمسة آلاف ليرة فتضع الإنسان موضع السلع ومساوم عليه.
بينما الشريعة جعلت دية الغني والفقير والشريف والوضيع سواء ولم تفرق بل أنها تضاعف الدية في الأشهر الحرم وفي الحرم والمحارم.
3- أما العقل فلم تتعرض لحمايته فالخمر مباحة ولا عقاب على المسكر إلا إذا سكر ووجد معربدا في المجتمعات العامة.(7/375)
4- أما النسب والعرض فإنه لا يدخل في ارتكاب فاحشة الزنا ولا اللواط إلا في حالة الإكراه أو صغر السن أو عند شكوى من له الحق. أو كانت الجريمة مع ذات محرم منه (مادة 385) قانون عقوبات، واللذين لهم الحق هما الزوجان في حالة وقوع الزنا على فراش الزوجين أو بالإكراه خارج البيت. أو لولي المرأة غير المتزوجة إن كان من الطبقة الثالثة ومن عداهما أو فيما عدا ذلك تنص القوانين أن لا حق لأحد في إثارة دعوى الزنا، إن كان بالتراضي بين الطرفين.
وتنص أيضا على أن الزوج أو من له الحق إذا تنازل عن دعواه في حق الزوجة توقفت الدعوى وسقطت حق المطالبة في حق الزاني وإذا تزوج بها أوقف النظر في الدعوى وإذا كان قد صدر فيها حكم أوقف تنفيذه (مادة398) .
5- أما المال: فمن الواضح البين أنها إن لم تتسلط عليه بضريبة أو إلزام آخر فإنها لا تتعرض لنواح عديدة وتترك العقد للمتعاقدين وما تراضوا عليه وتقول القوانين: العقد شرعة المتعاقدين. وتقر وتحكم بالعقود الربوية صريحة إلا أنها تمنع الزيادة عن النسبة المحددة في نظامها كخمسة أو سبعة في المائة مثلا.
في الوقت الذي تعتبر بعض القوانين الأخذ من التمر سرقة وتعاقب عليها كسرقة المنقول بمجرد عطفها أي ولو لم يأكلها بعد. وقد يحبس مؤبدا بينما الشريعة لا تعتبر ذلك سرقة ولا تعاقب عليها بعقوبة السرقة وقد يكون جائعا وفي حاجتها ما لم يتخذ خبنة أي يحمل معه.(7/376)
فأي النظامين أرحم وأصون لمصالح الأمة أفرادا وجماعات وختاما لقد أسفر الصبح لذي عينين وتوجهت دول القوانين إلى نور التشريع الإسلامي لتأخذ نظام النكاح والطلاق عنه وليس ببعيد أن تأخذ بغيره إذا عرفت حقيقته فهل بعد هذا يظل أبناء التشريع الإسلامي بعيدين عنه. اللهم أهدِ العباد لصالح البلاد وما يرضيك وخير ما يوجه للعالم الإسلامي كله في ذلك قوله تعالى:
{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
وبالله التوفيق..
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ج9 ص105.(7/377)
وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين
للشيخ حسن السيد متولي
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة
قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .
إن الأمة الإسلامية لا يتم لها الاستقرار في الأرض ولا تتمكن من القيام بالدعوة إلى الله إلا إذا كانت قوية تخافها أعداؤها وتخشى مواجهتها لأنها قادرة على الدفاع عن نفسها وقهر أعدائها.
ولذا أمر الله سبحانه وتعالى هذه الأمة بالاستعداد الحربي دائما لتكون مرهوبة الجانب فقال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} .
وفرض الله الجهاد على المؤمنين وهو مكروه لدى النفوس بطبيعتها لما تتعرض له من الموت في محاربة أعدائها. وقد عالج الله سبحانه وتعالى هذه الطبيعة البشرية ببيان عاقبة الجهاد وكل ما يشق على النفوس من التكاليف بقوله تعالى {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .
فالمؤمن يجب أن تتغير موازين الأمور في حياته حسب ما فيها من خير ونفع أو شر وضرر فيقبل على كل خير ويبتعد عن كل شر.(7/378)
لأنه إذا ترك الإنسان وشأنه بدون التوجيه الإلهي بنى أعماله في حياته على ما يحبه ويشتهيه يسعى لطلبه ويبذل في سبيله كل ما في وسعه، وأما ما يكرهه فيبتعد عنه ويتجنبه وليس عنده من القدرة والإدراك ما يعرف عاقبة أعماله من خير وشر ولا يستطيع الوصول إلى خيرية الأعمال وضررها فليس عنده إلا مجرد الميل والمحبة أو البغض والكراهة وقد يكون الخير فيما كره والشر فيما أحب.
فالقتال في سبيل الله فريضة شاقة لأنه يكلف الإنسان بذل حياته وهو يكره كل عمل يؤدي إلى الموت. ومع هذا فالجهاد ركن من أركان الإسلام وأعظم الأسس التي ترتكز عليها الدعوة إلى الله وفيه كل الخير للبشرية وللحق والعدل والإصلاح.
والإسلام لا ينكر مشقته ولا يهون من شأنها ولكنه يعالجها ببيان ما فيه من خير للأمة ويسلط نور الكشف عن حقائق المجهول المستور وراء ما تكرهه النفس ببيان حكمة فرضه على الأمة وما يترتب عليه من ثواب عند الله تُهَوّن مشقة وتحوّل النفوس إلى أن يكون الجهاد في سبيل الله مطلبها الأسمى في هذه الحياة.(7/379)
والله العليم بالغايات المطلع على الغيب هو وحده الذي يعلم الخير العميم والطريق الموصل إليه، هكذا يوجه الإسلام الفطرة مربيا لها على الطاعة والانقياد ومُفسحا لها في الرجاء وكاشفا عمّا أعده من الخير والثواب العظيم. لأن الجهاد في سبيل الله عزة وسعادة في الدنيا ورضوان من الله تعالى ونعيم مقيم تتمتع به في الجنة أرواح الشهداء ميزة وتكريما لهم قال تعالى {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ولهذا يبذل المسلمون المجاهدون الذي هو أدنى بالذي هو خير وفاء منهم بعهد الله سبحانه وتعالى حيث قال {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
وحينما تشعر النفس المؤمنة بالفضل الإلهي تتقبل التكاليف مع ما فيها من مشقة قائلة سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
عندئذ يذهب منها كل خوف وتندفع بإيمانها إلى تنفيذ ما كلفت به وهي تعلم أن الخير كامن وراء ما تكره وأن اليسر يخلف العسر وقد تكون الحسرة عاقبة للمتعة والمكروه مختبئا وراء المحبوب، هذا طريق الله واضح في كتابه الكريم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهما دستور الحياة الصحيحة لمريدها والله يعلم النفوس وما تنطوي عليه فيعالجها بالحق والصدق. لا بالإيحاء الكاذب والتمويه الخادع كما يفعله أرباب القيادات التي لا تستند في عملها إلى منهج الله في الحياة.(7/380)
والحق أن الله يعلم والناس لا يعلمون وماذا يعلم الناس من العواقب وهو قد يخطئون في إدراك ما يبصرون.
وماذا يعلم الناس من الحقائق والهوى والجهل والقصور من لوازم ذاتهم لأنهم مخلوقون بِقُدَرٍ محدودة.
فإن لم يكن نور الوحي يضيء لهم طريق الحلية فلا علم ولا معرفة وكم ضل أقوام على مدى العصور لأنهم لم يستهدوا إلى الوحي ورسالات الله فظلوا تائهين غير مهتدين.
وإذا فلا استقرار ولا اطمئنان لحياة الأفراد والأمم إلا بالإيمان بأن الخير فيما رسمه الله لحياة الناس والسعادة في طاعته واستجابة دعوته.
قال تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} .
والجهاد في سبيل الله بذل وتضحية والموت والحياة بيد الله فلا الخوف يطيل الأجل ولا الجهاد يقطع العمر المقدر كائن ولا يغني حذر عن قدر فالحذر لا يجدي والفزع والهلع لا يزيدان الحياة ولا يردان القضاء والله واهب الحياة وسالبها وهو صاحب الفضل حين يهب وحين يسترد هبته ومصلحة الناس متحققة في هذا وذاك وفضل الله في الأخذ والعطاء سواء.
قال تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ. وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
لقد منّ الله على هذه الأمة بالقرآن الكريم ليكون رائدا لها يقود أجيالها إلى الخير جيلا بعد جيل حتى يرث الله الأرض ومن عليها.(7/381)
منّ عليها بالقرآن يربيها ويعدها لقيادة الأمم كلما اهتدت بهديه واستمسكت بعهده واعتصمت بحبله واستمدت دستور حياتها منه واستعلت به على جميع المناهج والنظم التي لا تستند إليه.
ذلك لأن القرآن ليس كلاما يتلى فحسب وإنما هو دستور عام للتربية والحياة العملية عرض الله فيه تجارب بشرية لتكون أمام المسلمين يأخذون منها العبرة وتنير لهم الطريق مع ما اكتسبوه من تجارب حياتهم فهو زاد الأمة في جميع أطوار حياتها لتقوم بالدعوة إلى الله وتستند في سلوكها إلى هذا الرصيد العظيم من تجارب الحياة للدعوة إلى الله من آدم إلى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
لقد أحب المسلمون أن ينالوا تجارة قريش وهي عائدة من الشام بقيادة أبي سفيان ولكن الله يعلم أن الخير لهم في قتال المشركين لا في حيازة أموالهم. يقول الله تعالى {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} .
فوّت عليهم العير فأصبحوا لا مناص لهم من مواجهة الكفار ونشب القتال بينهم في غزوة بدر وانتصروا انتصارا عظيما تأسست به الدولة الإسلامية لأنهم أقبلوا على الجهاد مخلصين يريدون إعلاء كلمة الله {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
قال تعالى {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} .
فالمؤمنون في معركتهم مع الكفار يستندون إلى الله لأنهم يقاتلون في سبيله فليست معركتهم لأمر آخر سوى الله سبحانه وتعالى، إنهم يقاتلون لإقرار شريعة الله في الأرض ورفع راية الحق ونشر رحمة الله على العباد.(7/382)
أما الذين كفروا فيقاتلون للشيطان وحزبه وهو وليهم والله ولي المؤمنين. فالقوة في جانب المؤمنين والضعف والخذلان للكافرين {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} .
وقد كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز والمجاهدون في سبيل الله حزب الله وأولئك حزب الله هو المفلحون.
قال تعالى {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} .
وشتان بين حياة وحياة وبين هدف وهدف مع اتحاد النتيجة بالنسبة لقياس العمر فالذين يعيشون للدنيا وحدها ويريدون ما فيها من متاع دون غيره حياتهم كحياة الدواب والأنعام ثم يموتون في موعدهم المكتوب.
والذين يريدون الآخرة إنما يحيون حياة الإنسان الذي كرمه الله وشرفه بخلافته في الأرض ثم إذا جاء أجلهم يموتون {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} .
والآن وبعد أن نام المسلمون هذا النوم العميق الذي أفقدهم كل قواهم لأنهم ركنوا إلى الراحة وأعداؤهم يعملون دائبين على الأخذ بعوامل القوة والحياة وقطعوا شوطا بعيدا في التقدم المادي ووصلوا إلى بعض ما أودعه الله في المادة من خصائص كانت أساسا لاختراعاتهم خصوصا في أدوات الحرب ومعداته حتى سيطروا على العالم يعيثون في الأرض فسادا.(7/383)
وتمكنوا من فتنة المسلمين عن دينهم حتى تركوا الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وقلدوا الكفار في كل ما يحطم حياتهم كأمة تعيش وسط هذا العالم لها كيانها. وظن المسلمون أن التقرب إلى هذه الأمم الكبيرة القوية يهيئ لهم الحياة الصحيحة فأخذوا بتعاليم الكفار في معاملاتهم واتخذوا أنظمتهم ودساتيرهم قوانين يحتكمون إليها في شئون حياتهم ونسوا الله فنسيهم وقضى الأعداء على البقية من وجودهم كأمة إلا ما شاء الله ولم ينظروا إلى نواحي القوة في هذه الدول ليأخذوا بها.
ثم هالهم ما هم فيه حين وجدوا أنفسهم وسط عالم يتنازعهم يظهر بعضه الود لهم ويعلن البعض الآخر الحرب عليهم ولم يجدوا أثر الصداقة واكتووا بنار من جهروا بعدائهم وتكشف لهم أن أمم الكفر أمة واحدة هدفها واحد بالنسبة للمسلمين ومع هذا لم يحاولوا معالجة ما انكشف لهم من أعدائهم وممن ادعوا صداقتهم ولا زالوا يخدعون أنفسهم بالشكوى إلى مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة ومع تكرر الشكوى سنوات ولا أثر لها فيما يريدون لم يكف هذا دليلا على أن علاج الأمر غير ما سلكوه. وهل ينصفك عدوك إلا إذا رضي عنك والله يقول {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} .
وقد تضاعف البلاء على المسلمين بتفرق كلمتهم وإغارة بعضهم على بعض وانطبق علينا ما وصف الله به اليهود حين قال: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} ونحن نخرب بيوتنا بأيدينا وأيدي الكفار ومنا من يواد الكفار ويعادي المسلمين {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} .(7/384)
هذا حالنا الآن تحزبت علينا أمم الكفر وعاش بيننا ملحدون ومنافقون ومن يوادون الأعداء وعصفت بنا الفرقة مع تحذير الله لنا بقوله {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} ومع كثرة الأمم الإسلامية وبها مئات الملايين من الرجال لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم.
في مشارق الأرض يُبادُ المسلمون لأنهم قلة وسط كثرة من الكفار كما في الفلبين وفي الباكستان تعصف بهم ريح الكفر فتفرق كلمتهم وتريق دماءهم وفي الدول العربية تتحداهم شرذمة من اليهود يسندها أمم الكفر يغتصبون أرضهم ويطردونهم من ديارهم ويسفكون دماءهم.
فليواجه المسلمون الحقائق في موقفهم ويسلكوا الطريق الذي رسمه الله لهم فهو العلاج لما نحن فيه الآن.
وذلك بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله وتوحيد كلمتنا ولن نتحد إلا على ما اتحد عليه أسلافنا وأمرنا الله به في قوله {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وليكن إمامنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالله لا يقبل من المسلمين أن يستمروا على ما هم عليه جاعلين لحياتهم طرقا متعددة المسالك فطريق لعبادتهم مستمد من شريعتهم وطريق في سلوكهم مزيج من خلق إسلامي وآخر غربي أو شرقي وطريق للمعاملات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية مستمد من النظم الشرقية الشيوعية أو النظم الغربية الرأسمالية. لا يقبل الله منا هذا أبدا , لا يقبل الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه وقد قال {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه} .
علينا الآن أن نختار إما طريق الله وهو واحد مستمد من كتاب الله وسنة رسوله وضعه الله دستورا لأمة الإسلامية في عبادتها وشعائر دينها وآدابها واقتصادها وأخلاقها وسياستها وهو الطريق الذي سلكه أسلافنا فسيطروا على الحياة في الأرض وامتد سلطانهم من الصين شرقا إلى الأندلس غربا.(7/385)
وإما أن نختار ما نحن عليه الآن وقد نالنا منه الضعف والذل والهوان يتركنا الله لأعدائنا ولن تقوم لنا قائمة.
ولا شك أن الطريق الأول يتعين الأخذ به بسرعة فنحتكم فيما بيننا إليه كما أمرنا الله حيث قال {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .
وننفذ أمر الله في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} .
إن أعداءنا يُرْهِبوننا بإمداد اليهود بأحدث المعدات حتى نظل على موقفنا لا نتحرك وأمامنا كتابنا يوضح لنا الطريق، طريق الذين يخافون أعداءهم وطريق المجاهدين الصابرين المتوكلين على ربهم.
فأما الذين يخشون قوة أعدائهم فهم الخاسرون الضائعون المشردون واقرأ قوله تعالى عن موسى وقومه: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ. قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ. قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} .
فكان جزاء هذا الخوف أن حكم الله عليهم بقوله {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} .(7/386)
وأما الذين يخافوا من أعدائهم بل جاهدوا مع قلتهم معتمدين على ربهم فقد أيدهم الله ونصرهم، اقرأ قول الله تعالى في قصة طالوت وجنوده مع الملك الجبار جالوت الذي أذل بني إسرائيل وقتل رجالهم وسبى نساءهم.
توجه طالوت بجنده لمحاربة جالوت ولما جاوزوا النهر في طريقهم إلى جالوت قال جنده: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين_ وارتد من جيشه ضعفاء القلوب وقاتلت القلة المؤمنين مستندة إلى الله طالبة منه أن يثبت أقدامهم وينصرهم فكانت معجزة النصر لهم يقول الله سبحانه وتعالى {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} فهذا الجبار قتله داود الذي لم يبلغ بعد مبلغ الرجال إرادة الله لنصرهم وإنما آمرُه إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون وأقرب الأمثلة لنا حالة المؤمنين في غزوة الخندق وعمل المسلمين ليلا ونهارا لمواجهة أعدائهم وقد خطط اليهود مع مشركي الجزيرة العربية تخطيطا لإبادة المسلمين وقال لهم إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فعلى المسلمين أن يخوضوا المعركة مع الكفار ولا يخشون قوتهم ويقولون مؤمنين بنصر الله لهم {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} .
وقد صور الله حال المسلمين في غزوة الأحزاب بما هو أشد من حالتنا الآن مع الكفار فقال تعالى وهو يذكرهم بنعمة النصر:(7/387)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً. إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} . هذا حال المؤمنين الذين وهبوا حياتهم للجهاد في سبيل الله وكانت نهاية أعداء الله كما قال الله {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} .
والآن وقد تحزبت علينا أحزاب الكفر فلا طريق لنا إلا الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم.
فأين المؤمنون؟
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} .(7/388)
السفور
للشيخ محمد الحداد
المتخرج من كلية الشريعة بالجامعة
صبرت إلى أن ضاق صدري من الصبر ولا أحد يرثي لحالي ولا يدري
أرى الفتنة الكبرى تعم بلادنا كأنا بباريسٍ على شاطئ النهر
وباء من الغرب استباح ديارنا شبيه على الأفكار بالسم والسحر
وقومي حيارى أو سكارى كما ترى فهل بعد هذا الليل يا قوم من فجر
صبرنا ولكن كم يدوم اصطبرنا أصبر على شيء أحر من الجمر!
فماذا ترى يبقى لنا من هدى وقد غدونا وأهل السبت في شركة الوزر!
فكم ثم من راض بذلك معجب وآخر حب المال ألقاه في السكر!
إذا كان ذا يا قوم في خير أمة إذن فَلَبطن الأرض خير من الظهر
فكيف يلام المرء إذ ما تكشفت لديه فتاة كالغزال أو البدر
فكم ذا يلاقي من عناء وشدة ونار الغضا ما بين أضلاعه تسري
أيحجب عينيه بإلقاء برقع على وجهه بين العشاءين والعصر
وهل غيرة يا قوم تشفي غليله لئلا يرى أهل المفاتن والعهر
أرى الوقت معكوسا على أم رأسه فثوب الفتى ينجر في الدرب إذ يجري
ولكن ربات الخدور تقدمت فتستورد الأثواب من بلد الكفر
وعار عليها تلبس الثوب سابغا كذلك الفتى بالعكس يا قصمة الظهر
فيا علماء الدين بالله ربكم فما عذركم يوم القيامة في الحشر
ويا قومنا مالي أرى الدين ضائعا كشخص أسير كبلته يد الكفر
فوالله إن الموت خير وراحة إذ البوم والغربان تعدو على الصقر
نذير لكم يا أيها القوم فاسمعوا ولا تكن الآذان منه على وقر
ألم تروا أن الله أقسم بالعصر(7/389)
ولكنه استثنى من الكل أربعا.
عليكم بها عضوا عليها مدى العمر.
فأولها الإيمان والعمل الذي.
يلازمه واستتبع الحق بالصبر.
لقد حدث القرآن عن أهل قرية.
أتوا باحتيال كي يصيدوا من البحر.
فلما نسوا ما ذكروا أصبحوا لقىً.
ولم ينج إلا من أبى خطة الغدر.
وكانوا بخير ثم لما عصوا هووا.
وقد مسخوا حتى غدوا عبرة الدهر.
على الدين فلتنهل عيناك أدمعا.
ولا عذر حتى تصحب النهي بالأمر.
فلو شاهدت عيناك ما نصطلي به.
علمت بأنا قابضون على الجمر.
ولو أنني خيرت في العيش والردى.
لقلت لهم هيا اعجلوا واحفوا قبري.
ولو أن فاروق الحنيفة شاهد.
لأنهكهم ضربا، ولم يعي بالأمر
.(7/390)
المسؤولية في الإسلام
للشيخ عبد الله قادري: المشرف الاجتماعي
تربية الأولاد
إن مهمة الأم المتعلقة بتربية أولادها الجسمية والعقلية، والروحية من أعظم مهامها، فيجب أن تكرس جهودها في القيام بتربيتهم غذاء، وتنظيفا، وتأديبا، ولقد أجاد العلامة ابن القيم رحمه القول في كتابه (تحفة الودود بأحكام المولود) فيما يتعلق بتربية الأولاد، ولهذا فإني سأنقل منه الفقرات المناسبة لهذا الموضوع لعظيم فائدتها، قال رحمه الله، الباب السادس عشر في فصول نافعة في تربية الأطفال تحمد عواقبها عند الكبر:
ينبغي أن يكون رضاع المولود من غير أمه بعد وضعه بيومين أو ثلاثة _ وهو الأجود _ لما في لبنها ذلك الوقت من الغلظ والأخلاط، بخلاف لبن من قد استقلت على الرضاع وكل العرب تعتني بذلك حتى تسترضع أولادها عند نساء البوادي كما استرضع النبي صلى الله عليه وسلم في بني سعد.
وينبغي أن يُمنع من حملهم والتطواف بهم، حتى يأتي عليهم ثلاثة أشهر فصاعدا، لقرب عهدهم ببطون الأمهات، وضعف أبدانهم.
ينبغي أن يقتصر بهم على اللبن وحده إلى نبات أسنانهم، لضعف معدتهم وقوتهم الهاضمة عن الطعام، فإذا أنبتت أسنانه قويت معدته وتغذى بالطعام فإن الله سبحانه، أخر إنباتها إلى وقت حاجته إلى الطعام، لحكمته ولطفه، ورحمة منه بالأم وحلمة ثديها فلا يعضه الولد بأسنانه.
وينبغي تدريجهم في الغذاء فأول ما يطعمونهم الغذاء اللين فيطعمونهم الخبز المنقوع في الماء الحار واللبن الحليب، ثم بعد ذلك الطبيخ والأمراق الخالية من اللحم ثم بعد ذلك ما لطف جدا من اللحم بعد
إحكام مضغه، أو رضه رضا ناعما.(7/391)
فإذا قرب من وقت التكلم، وأريد تسهيل الكلام عليه، فليدلك ألسنتهم بالعسل والملح الأندراني لما فيهما من الجلاء للرطوبات الثقيلة المانعة من الكلام، فإذا كان وقت نطقهم فليلقن لا إله إلا الله، محمدا رسول الله، وليكن أول ما يقرع مسامعهم، معرفة الله سبحانه وتوحيده، وأنه سبحانه فوق عرشه، ينظر إليهم ويسمع كلامهم وهو معهم أين ما كانوا … ولهذا كان أحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن، بحيث إذا وعى الطفل وعقل علم أنه عبد الله وأن الله هو سيده ومولاه.
وإذا حضر وقت نبات الأسنان فينبغي أن يدلك لثاهم كل يوم بالزبد والسمن ويمرخ جدر العنق تمريخا كثيرا ويحذر عليهم كل الحذر، وقت نباتها إلى حين تكاملها، وقوتها من الأشياء الصلبة ويمنعون منها كل المنع لما في التمكن منها من تعريض الأسنان لفسادها وتعويجها، وخللها.
ولا ينبغي أن يشق على الأبوين بكاء الطفل وصراخه _ ولا سيما لشربه اللبن إذا جاع _ فإنه ينتفع بذلك البكاء، انتفاعا عظيما، فإنه يروض أعضاءه ويوسع أمعاءه، ويفسح صدره ويسخن دماغه ويحمي مزاجه ويثير حرارته الغريزية، ويحرك الطبيعة لدفع ما فيها من الفضول ويدفع فضلات الدماغ من المخاط وغيره.
وينبغي أن لا يهمل أمر قماطه ورباطه ولو شق عليه، إلى أن يصلب بدنه وتقوى أعضاؤه ويجلس على الأرض فحينئذ يمرن ويدرب على الحركة والقيام قليلا إلى أن يصير له ملكة وقوة ويفعل ذلك بنفسه.(7/392)
وينبغي أن يوقى الطفل كل أمر يفزعه من الأصوات الشديدة الشنيعة، والمناظر الفظيعة والحركات المزعجة، فإن ذلك ربما أدى إلى فساد قوته، العاقلة لضعفها فلا ينتفع بها بعد كبره، فإذا عرض له عارض من ذلك فينبغي المبادرة إلى تلافيه بضده وإيناسه بما ينسيه إياه وأن يلقم ثديه في الحال ويسارع إلى رضاعه ليزول عنه حفظ ذلك المزعج، ولا يرتسم في قوة الحافظة فيعسر زواله، ويستعمل تمهيده بالحركة اللطيفة، إلى أن ينام فينسى ذلك ولا يهمل هذا الأمر فإن في إهماله، إسكان الفزع والروع في قلبه فينشأ على ذلك ويعسر زواله ويتعذر.
وينبغي للمرضع إذا أرادت فطامع أن تفطمه على التدريج ولا تفاجئه بالفطام وهلة واحدة، بل تعوده إياه، وتمرنه عليه لمضرة الانتقال عن الألف والعادة مرة واحدة.
ومن سوء التدبير للأطفال أن يمكنوا من الامتلاء من الطعام وكثرة الأكل والشراب، ومن أنفع التدبير لهم أن يعطوا دون شبعهم، ليجود هضمهم وتعتدل أخلاطهم، وتقل الفضول في أبدانهم وتصح أجسادهم، وتقل أمراضهم لقلة الفضلات في (ـكذا) الغذائية.
ومما ينبغي أن يحذر أن يحمل الطفل على المشي قبل وقته لما يعرض في أرجلهم بسبب ذلك من الانتقال والاعوجاج، بسبب ضعفها وقبولها لذلك، واحذر كل الحذر أن تحبس عنه ما يحتاج إليه من قيء أو نوم أو طعام أو شراب أو عطاس أو بول أو إخراج دم، فإن لحبس ذلك عواقب رديئة في حق الطفل والكبير.(7/393)
ومما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج الاعتناء بأمر خلقه فإنه ينشأ عما عوده المربي في صغره، من حرد وغضب، ولجاج وعجلة، وخفة مع هواه وطيش وحدة وجشع، فيصعب عليه في كبره تلافي ذلك وتصير هذه الأخلاق، صفات وهيئات راسخة له، فلو تحرز منها غاية التحرز فضحته ولا بد يوما ما، ولهذا تجد أكثر الناس منحرفة أخلاقهم وذلك من قبل التربية التي نشأ عليها، وكذلك يجب أن يجتنب الصبي إذا عقل مجالس اللهو والباطل والغناء، وسماع الفحش والبدع ومنطق السوء، فإنه إذا علق بسمعه عسر عليه مفارقته في الكبر، وعز على وليه استنقاذه منه، فتغيير العوائد من أصعب الأمور، يحتاج صاحبه إلى استجداد طبيعة ثانية والخروج عن حكم الطبيعة عسر جدا، وينبغي لوليه أن يجنبه الأخذ من غيره غاية التجنب فإنه متى اعتاد الأخذ صار له طبيعة، ونشأ بأن يأخذ لا بأن يعطي ويعوده البذل والإعطاء، وإذا أراد الولي أن يعطي شيئا أعطاه على يده ليذوق حلاوة الإعطاء، ويجنبه الكذب والخيانة أعظم مما يجنبه السم الناقع فإنه متى سهل له سبيل الكذب والخيانة أفسد عليه سعادة الدنيا والآخرة وحرمه كل خير، ويجنبه الكسل والبطالة، والدعة والراحة بل يأخذه بأضدادها ولا يريحه إلا بما يجمم نفسه وبدنه للشغل فإن الكسل والبطالة عواقب سوء ومغبة وندم، وللجهد والتعب عواقب حميدة، إما في الدنيا وإما في العقبى وإما فيهما، فأروح الناس أتعب الناس، وأتعب الناس أروح الناس، فالسيادة في الدنيا والسعادة في العقبى لا يوصل إليها إلا على جسر من التعب، قال يحيى بن أبي كثير: لا ينال العلم براحة الجسم، ويعوده الانتباه آخر الليل فإنه وقت قسم الغنائم وتفريق الجوائز فمستقل، ومستكثر، ومحروم، فمتى اعتاد ذلك صغيرا، سهل عليه كبيرا.(7/394)
ويجنبه فضول الطعام والكلام والمنام ومخالطة الأنام، فإن الخسارة في هذه الفضلات وهي تفوت على العبد خير دنياه وآخرته، ويجنبه مضار الشهوات المتعلقة بالبطن والفرج غاية التجنب، فإن تمكينه من أسبابها والفسح له فيها يفسده فسادا، يعز عليه بعده صلاحه، وكم من أشقى ولده وفلذة كبده، في الدنيا والآخرة بإهماله وترك تأديبه وإعانته له على شهوته، ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه وأنه يرحمه وقد ظلمه وحرمه، ففاته انتفاعه بولده وفوت عليه حظه في الدنيا والآخرة، فإذا اعتبرت الفساد في الأولاد، رأيت عامته من قبل الأباء _ قلت والأمهات _.
والحذر كل الحذر من تمكينه من تناول ما يزيل عقله، من مسكر وغيره أو عشرة من يخشى فساده، أو كلامه له أو الأخذ من يده فإن ذلك الهلاك كله، ومتى سهل عليه ذلك فقد سَهُل الدياثة ولا يدخل الجنة ديوث، فما أفسد الأبناء مثل تفريط الآباء وإهمالهم واستسهالهم شرر النار بين الثياب، فأكثر الآباء يعتمدون مع أولادهم أعظم ما يعتمده العدو الشديد العداوة مع عدوه وهم لا يشعرون فكم من والد حرم ولده خير الدنيا والآخرة وعرضه لهلاك الدنيا والآخرة، وكل هذا عواقب تفريط الآباء في حقوق الله وإضاعتهم لها وإعراضهم عما يوجب الله عليهم من العلم النافع والعمل الصالح حرمهم الانتفاع بأولادهم، وحرم الأولاد خيرهم، وهو من عقوبة الآباء.
ومما ينبغي أن يعتمد حال الصبي وما هو مستعد له من الأعمال ومهيأ له منها، فيعلم أنه مخلوق له فلا يحمله على غيره ما كان مأذونا فيه شرعا، فإنه إن حمل على غير ما هو مستعد له لم يفلح فيه، وفاته ما هو مهيأ له فإذا رعاه حسن الفهم صحيح الإدراك جيد الحفظ واعيا فهذه من علامات قبوله وتهيئته للعلم، لينقشه في لوح قلبه ما دام خاليا فإنه يتمكن فيه ويستقر ويزكو معه.(7/395)
وإن رآه بخلاف ذلك من كل وجه وهو مستعد للفروسية، وأسبابها من الركوب والرمي واللعب بالرمح وأنه لا نفاذ له في العلم ولم يخلق له مكنه من أسباب الفروسية والتمرن عليها، فإنه أنفع له وللمسلمين وإن رآه بخلاف ذلك وأنه لم يخلق لذلك ورأى عينة مفتوحة إلى صنعة من الصنائع مستعدا لها قابلا لها وهي صناعة مباحة، نافعة للناس، فليمكنه منها، هذا كله بعد تعليمه له ما يحتاج إليه في دينه فإن ذلك ميسر على كل أحد، لتقوم حجة الله على العبد فإن له على عباده الحجة البالغة كما له عليهم النعمة السابغة ثم قال بعد بحث طويل: فإذا صار له سبع سنين دخل في سن التمييز وأُمر بالصلاة كما في المسند والسنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر سنين وفرقوا بينهم بالمضاجع"، ثم قال: إذا صار ابن عشر ازداد قوة وعقلا واحتمالا للعابدات فيضرب على ترك الصلاة كما أمر به النبي عليه السلام وهذا ضرب تأديب وتمرين. ثم قال: فإذا تيقن بلوغه جرى عليه قلم التكليف، وثبت له جميع أحكام الرجل. اهـ ما أردت نقله مع اختصار لبعض الجمل.
أيها الأخ المسلم والأخت المسلمة _ وأنت المعنية في هذا السياق _ ليقم كل منكما بما يخصه وما يقدر عليه من متربية طفله فإن طفلكما قد يصبح خليفة أو أميرا، أو وزيرا أو قائدا، أو قاضيا، أو غير ذلك من المناصب، فإن أحسن فلكما حظ عظيم من إحسانه، وإن أساء فعليكما وزر كبير من إساءته، وفي هذه الفصول التي اختصرتها من كتاب (تحفة الودود في أحكام المولود) للعلامة ابن القيم رحمه الله فوائد عظيمة في تربية الأطفال، الجسمية والروحية والعقلية الاجتماعية، فليعض عليها بالنواجذ من يريد أن تحمد عقباه وعقبى أولاده في الدنيا والآخرة.(7/396)
بقي أن أقول لك أيتها الأخت المسلمة: ينبغي أن تعتني بنظافة طفلك في جسمه وثيابه وأن تظهريه بالمظهر الجميل، فإن الله جميل يحب الجمال، وإظهاره بذلك يزيد من محبة والده له، ويشجعه على مخالطته وتدريبه، كما يجعله يحترمك ويحبك على صنيعك والعكس بالعكس.
ونظافة طفلتك تدل على نظافتك، واسمحي لي أن أقول إن وساخته ومظهره البشع قد يدل على ما عندك من الوساخة والمظهر البشع.
وأما ابنتك فاعتني بها زيادة على ما مضى بتدريبها على الخبرة بشؤون المنزل ومعاشرة الزوج، وتربية الأولاد، وإجادة الطبخ، ومهنة الخياطة وغير ذلك مما تشعرين بأنه من مهامك، فإنها عما قريب تصبح مكلفة مثلك ببيت وزوج وولد وغير ذلك.
الباب الرابع
مسئولية الخادم
"والخادم راعٍ في مال سيده ومسئول عن رعيته"(7/397)
الخادم قد يكون عبدا مملوكا، وقد يكون أجيرا كما مضى، وسبق أن على السيد أن يعتني بعبده ومخدومه فيعلمه ما يهمه من أمور دينه، حتى يعرف ما يجب عليه لربه ولسيده وغير ذلك ليقوم بما كلف به، بصدق وإخلاص وأمانة، سواء كان الخدم عبدا أم أجيرا، فقد حمله الرسول صلى الله عليه وسلم مسئوليته التي يجب أن ينهض بها، دون تقصير ولا خيانة وينبغي للسيد إذا استأجر أجيرا، أو أراد شراء عبد أن يختار من يترجح عنده أنه أمين لا يخون في عمله، قوي لا يقصر فيه، خبير به لا يدخله الخلل بسبب جهله. وقد نوه القرآن الكريم بذلك في المسئوليات الكبيرة والصغيرة فيوسف عليه السلام حينما رأى أموال مصر تبعثر في غير فائدة بسبب عدم أهلية المسئولين، للقيام عليها طلب من عزيز مصر أن يوليه شئونها وعلل ذلك بقوله {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} والحفظ شامل للأمانة والقدرة على التنفيذ، وابنة صاحب مدين الذي لجأ إليه موسى عليه السلام فارا بنفسه من فرعون طلبت من أبيها أن يستأجر موسى لرعاية أغنامهم وعللت ذلك بقولها {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} .
فالمسئولية الأولى_ مسئولية يوسف _ مسئولية كبيرة لأنها ولاية على حفظ أموال الدولة كلها، وهي التي يُطلق عليها الآن وزرة المالية والاقتصاد.
والمسئولية الثانية _ رعاية موسى للغنم _ من المسئوليات الصغار لأنها قيام على حفظ مال فرد واحد، وليست منصبا كبيرا في الدولة ومع ذلك فقد اشترط في المسئول عن الثانية ما اشترط في المسئول عن الأولى وإذا كان خادم الرجل أمينا، اطمأن على أمواله وغيرها في البيت وخارجه، وبخلاف ما إذا كان خائنا فإنه يخشاه دائما على أمواله وأهله وعلى العمل الذي يُسند إليه بأن لا يتقنه.(7/398)
هذا ما يجب من جانب السيد وهو الاختيار الحسن، وأحب أن أشير إلى أمر مهم جدا يجب أن السيد أن يراعيه وهو الحذر من تمكين الخادم من الدخول على أهله، والاختلاء بهم فإن في ذلك من الفساد ما لا تُحمد عقباه وهو ما يفعله كثير من الناس اليوم حيث يستأجر أجيرا، في عنفوان شبابه أو مراهقا ويمكنه من الدخول على زوجته أو غيرها من نساء بيته في حضوره وغيبته دون أن تحتجب منه بل تظهر له جسدها ومحاسنها كما تظهرها لزوجها ويدخل عليها ويخرج في كل وقت بحجة الخدمة وهل تظن أيها الأخ المسلم أن أجيرا هذه صفاته يخلو له الجو في البيت مع امرأة ذاب شهوة مثله هل تظن أنهما سيسلمان من إغواء الشيطان لهما؟ أرجو أن تذكر معي قصة يوسف عليه السلام التي دبرتها له امرأة العزيز وما حصل له من البلاء الذي لم يخلصه منه إلا ربه حيث ناداه قائلا {وَإِلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} .(7/399)
أيها الأخ المسلم، أليس قد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من دخول أقاربك وأقارب زوجتك الذين لا يحرمون عليها من الدخول عليها وقال في مثل ذلك: "الحمو الموت"، فما بالك بالخادم أيها الرجل، اتق الله في نفسك وفي أهلك، وفي خادمك، امتثل أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فالله يقول {وتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "اتق الله حيثما كنت" ويقول: "احرص على ما ينفعك"، إن كان رجل يسمح لخادمه بالدخول على أهله في غيبته وحضوره والخلوة بها لمغرق في الدياثة والخسة المتناهية فاقد الكرامة والرجولة، خارج على تعاليم دينه، وولي المرأة _ أبوها أو غيره _ يعتبر كذلك ديوثا إذا علم بذلك وسكت عنه، وهذه الصفة الذميمة، ليست من أخلاق المسلمين بل هي مستوردة من أعداء الإسلام، وأعداء الشرف والكرامة الذين ماتت قلوبهم، وفقدوا شعورهم بمسئولياتهم وقد كان بعض المخنثين يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم _ وكان المخنث يعد من غير أولي الإربة _ فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوما وأحدهم عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاحتجاب منه، ونهر عن دخوله عن النساء، أنظر نيل الأوطار: ج6 ص123، هذه نصيحة أحببت أن أسديها للإخوان والأخوات أسأل الله أن يوفقني وإياهم للعمل بها وبغيرها من تعاليم الإسلام.
ولقد نصحتك إن قبلت نصيحتي
والنصح أغلى ما يباع ويوهب.
أنواع المال الذي يسأل عنه الخادم وما يجب عليه من الرعاية لكل نوع:(7/400)
والمال الذي يسترعى فيه الخادم قد يكون المقصود مجرد حفظه كالنقود والبضائع المختلفة من حبوب أو قماش وغيرها مما يؤمر الخادم بالحراسة عليه والواجب عليه في هذه الحالة الانتباه، وعدم الغفلة لئلا يتسلل السراق لأخذ المال، وقد يكون المقصود التجارة في المال من بيع وشراء، وهنا يجب عليه أن يصرف الأموال بيعا أو شراء بأمانة ولا يقصر في حق سيده كما أنه لا يجوز له في نفس الوقت أن يغش من يعامله، ولو كان في ذلك مصلحة عائدة على سيده، وسواء علم السيد أم لا. وقد يُراد من الخادم أن يراعى بعض الدواب كالإبل والبقر والغنم والخيل، والبغال والحمير وغيرها، فيجب عليه أن يقوم برعيها والحفاظ عليها ويحرم عليه أن يدعها تجوع أو تظمأ مع قدرته على عدم ذلك، ولا يجوز له أن يضرب الدابة أو يوجعها ضربا أو رجما مضرا، فإن قام الخادم بذلك دون تقصير فهو خادم أمين يستحق جزاءين، جزاء الأجر من سيده، والثواب من ربه، وكان من المحسنين الذين يتقون عملهم طمعا في ثواب الله، وخوفا من عقابه كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
ما يترتب على أمانة الخادم أو غشه في الدنيا والآخرة:
والخادم إذا قام بواجبه بأمانة وإخلاص، صدق وحزم استفاد من ذلك فائدتين عظيمتين:
الأولى: إقبال الناس إلى معاملته، وائتمانهم له على أموالهم وكثير من أمورهم فيسلم بذلك من البطالة ويستمر في العمل الذي يحصل له من ورائه سد خلته، وعدم احتياجه إلى سؤال الناس.
الثانية: رضي الله عنه وإثابته إياه، على أمانته وإخلاصه وصدقه وبذلك يبقى محبوبا عند الخالق والمخلوق، وإذا لم يقم بواجبه فخان مستأجره وكذب عليه خسر خسارتين عظيمتين:(7/401)
الأولى: نبذ الناس إياه، وعدم ائتمانهم له في معاملته وبذلك يصبح عاطلا عن العمل لا يستخدمه أحد كاذبا لا يصدقه الناس ولو صدق، فيضطر إلى تكفف الناس وإراقة ماء وجهه مع قدرته على الابتعاد عن ذلك.
الثانية: غضب الله عليه ومجازاته على خيانته وكذبه وعدم إتقان عمله فيكون بغيضا عند الله وعند خلقه والكذب والخيانة من صفات المنافقين، عن أبي هريرة رضي الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان ". متفق عليه. وفي رواية "وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم" ولقد جعل الله للعبد الذي يقوم بحق الله وحق سيده أجرين، ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين" وفيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للعبد المملوك المصلح أجران"، والذي نفس أبي هريرة بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك.
مسئولية الإنسان عن الحيوان:
هذا ومن المستحسن أن أختم هذه المسئوليات بمناسبة العموم الذي في آخر الحديث: "وكلكم راع ومسئول عن رعيته" بمسئولية الإنسان عن الحيوان، ليعلم الجاهلون بالإسلام الذي يتبجحون بالرفق بالحيوان وهم يتصرفون تصرف الوحوش الضواري نحو الإنسان أن الإسلام اعتنى بالحيوان قبل أربعة عشر قرنا، ويكفي أن أسوق حديثين يتعلقان بهذا الموضوع أحدهما يثبت الأجر لمن قام بحق الحيوان، وأشفق عليه فسقاه أو أطعمه، والآخر يوجب العقاب الشديد لمن قصر في حق الحيوان أو عذبه.(7/402)
الحديث الأول عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا، فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقي فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له، قالوا يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرا، فقال في كل كبد رطبة أجر".
الحديث الثاني: عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى اله عليه وسلم قال: "عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض".
والحديثان في الصحيحين وغيرهما.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(7/403)
هل في القرآن من غير لسان العرب؟
بقلم الشيخ محمد بن محمد الأنصاري
دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع أمر لاحظته عندما أقرأ بعض المؤلفة أو الموضوعة في "تاريخ الأدب العربي"في هذا العصر.
وظهر لي أثناء بحثي فيها أن كتاب "تاريخ الأدب" لا يبالون في كثير من المسائل بالتحقيق العلمي المعتمد على دراسة علمائنا الأوائل الذين حملوا الأمانة العلمية ناصعة مهذبة كما شهد لهم التاريخ العالمي لا الإسلامي فحسب.
وهذه طريقة ومنهج في البحث يؤدي كل هؤلاء الكتاب إلى تغليب "المنهج الغربي"في البحث الذي كان متزمتا في الرأي الشخصي المتطرف والبت فيه ظاهر لمن لم تأسره الظواهر الغريبة البراقة …
ومن ذلك ما يتواطأ عليه أولئك الكتاب الذين ملأت كتاباتهم في تاريخ الأدب العربي البر والبحر بدون تفصيل وتحقيق في الموضوع من المواضع المحققة قبلهم وهو: وجود ألفاظ من غير العربية في القرآن بتناولهم ذلك مسلما دون إشارة إلى الرأي المضاد لهذا الرأي وهذا يخالف الأمانة العلمية.
وكان هذا التصرف عجبا للباحث لما يعلم من اختلاف العلماء الأوائل وتحقيقاتهم في هذا "الموضوع"الذي يعرضه مؤرخو الأدب في عصر التقدم والتحقيق والمعرفة عرض المسلمات …!! مع أن هذا المذهب في لغة التنزيل لم يذهب إليه إلا بعض الفقهاء المتأخرين ولم يكن دليلهم فيه ظاهرا فضلا عن أن يكون هو الحق الذي يتناول كما تناول المسلمات في دنيا البحث بلا نقاش وعدم ذكر ما يخالفه كالمذهب الذي يقول: "ليس في القرآن من غير لسان العرب"وهو للمتقدمين واللغويين الذين كان الميدان ميدانهم وهذا المذهب بالأدلة الواضحة مهذبا وبالتوجيه النقدي مدججا..(7/404)
وسنتناول في السرعة العاجلة الآتية موقف العلماء في الموضوع عن طريق تحليل نقاشهم وآرائهم.. أما تلك الألفاظ التي يدور البحث حولها فلا أذكر منها شيئا ومن أراد بيانها وحصرها فعليه بكتب "علوم القرآن " كالإتقان لجلال الدين السيوطي.
والكتب التي تعتني بجمع "المعرب في العربية" ومكان هذه الألفاظ في التفاسير. فأقول والله المستعان: لا خلاف بين العلماء في أنه ليس في القرآن كلام مركب من ألفاظ أعجمية تعطي معنى مستفادا حسب هذا التركيب.
كما أنه لا خلاف بينهم أن في القرآن "أعلام أعجمية "كنوح وإسرائيل ولوط من غير لسان العرب.
والخلاف إنما هو في ألفاظ مفردة ليست من هذا ولا ذاك فهل من لسان العرب أم من لسان غير العرب؟ كما قال القرطبي في مقدمة جامعه المشهور.
وخلاف العلماء هذا في اتجاهين بارزين: نفي وإثبات ولكل ناصر ومؤيد وقائل.
الأول:
مذهب الجمهور وهو عدم وجود ألفاظ أعجمية في القرآن. وممن يمثله الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه "الرسالة"وابن جرير الطبري إمام المفسرين في "مقدمة تفسيره"والقاضي أبو بكر بن الطيب في كتابه "التقريب". وجل أهل اللغة كالإمام أبي عبيدة وأبي الحسن بن فارس، وهذا هو الذي نصره الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي في كتابه "البرهان في علوم القرآن "فإنه قال بعد قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} قال: وهذا يدل على أنه ليس فيه غير العربية لأن الله جعله معجزة شاهدة لنبيه عليه الصلاة والسلام، ودلالة قاطعة لصدقه وليتحدى العرب العرباء ويحاضر البلغاء والفصحاء والشعراء بآياته فلو اشتمل على غير لغة العرب لم يكن له فائدة، وقال أبو عبيدة فيما حكاه ابن فارس:
إنما أُنزل القرآن بلسان عربي مبين فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول - ذكره البرهان ونقله الجوالقي في المعرب الجزء الرابع.
الثاني:(7/405)
رأى يقول: إن في القرآن بعض ألفاظ من غير لسان العرب. وهو لبعض الفقهاء ومنهم ابن عطية وحكي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقد حكى ابن فارس عن أبي عبيد القسم بن سلام: أنه حكى الخلاف ونسب القول بالوقوع إلى الفقهاء وعدمه إلى أهل العربية.
وممن يرى الوقوع جلال الدين السيوطي في "الإتقان "وله كتاب خاص في ذلك سماه "المهذب في ما في القرآن من المعرب" وما ذكره في الإتقان تلخيصا منه.
وهناك كثير من الباحثين المتقدمين أرادوا التوفيق بين هذين المذهبين فقالوا: لا تناقض لأن من قال: إن هذه الألفاظ في الأصل أعجمية ثم عربت فصارت عربية، فمن قال: إنها أعجمية إنما نظر باعتبار الأصل ومن قال: إنها عربية قال باعتبار المثال. أدلة المذهب الأول قوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} إبراهيم - 4.
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً} الشورى- 7.
وقوله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} الشعراء- 195.
وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} الزخرف- 3.
وقوله تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فصلت-3
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} الرعد- 37.
وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} يوسف-2.(7/406)
إلى غير ذلك من الآيات الناطقة بأن هذا القرآن عربي لا يشارك العربية فيه كلام أمة أخرى. قال الشافعي بعد ذكره بعض هذه الآيات: فأقام حجته بأن كتابه عربي في كل آية ذكرناها ثم أكد ذلك بأن نفى عنه جل ثناءه كل لسان غير لسان العرب في آيتين من كتابه: فقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} النحل -103.
وقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} فصلت-44.
قلت: ولو وجد العرب حرفا واحدا من غير لسانهم في القرآن لراموا التطاول على هاتين الآيتين اللتين احتجتا عليهم بعدم العذر لفهم هذا القرآن بأسلوب توكيدي كما يرى الإمام الشافعي. والقوم كما يعلم كل ذي بصيرة في التاريخ في سيرة النبي في حواره معهم وفي أساليب القرآن وتحديه لهم: جادلوا النبي عليه الصلاة والسلام في كل جليلة وحقيرة لا يفوتون فرصة قامت لهم في هذا الميدان.
وكيف تُتلى عليهم ألفاظ رومية وفارسية ونبطية وحبشية ولا يتحركون ويستسلمون؟!.
وهل نقل أنهم عارضوا هذه الألفاظ على أنها عجمية؟!.
أما أدلة المذهب الثاني فهي كما يلي: -
أولا - ذهب من قال بالوقوع بأن في القرآن خاصا يجهله بعض العرب.
ثانيا - وجود من كان ينطق من العجم بالشيء من لسان العرب.
ثالثا - أن جميع الرسل كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة أما محمد صل الله عليه وسلم بُعث إلى الناس كافة فليكن في القرآن عموم في اللغات كعموم المنزل عليه إلى العالم.
هذه الأدلة ذكرها الشافعي "في الرسالة" لأولئك وناقشها مناقشة دقيقة وسنحلل ذلك في اختصار.(7/407)
وقد صدر الإمام الشافعي رأيه بتقسيم العلم إلى قسمين: الاجتماع والاختلاف. فقال بعد ذلك: ومن جماع سلم كتاب الله: العلم بأن جميع كتاب الله إنما أنزل بلسان العرب … فالواجب على العالمين أن لا يقولوا إلا حيث علموا.
ثم ذكر رأي من قال: إن في القرآن من غير لسان العرب وأنه وجد من يقلده في رأيه دون حجة وعدم مبالاة لمن خالف ذلك وسبب هذا التقليد أغفل من أغفل والله يفغر لنا ولهم.. وبين الأدلة المذكورة للمجوزين ونقدها وهذا تلخيص نقده:
أولا - الجواب على الدليل الأول:
لسان العرب أوسع الألسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي ولكنه لا يذهب شيء على عامة العرب حتى لا يكون موجودا فيها من يعرفه. وهو يرى أن لسان العرب كالألسنة التي لا يحيط بها أحد من أئمة الإسلام ومحدثيها ولا يفوت منها شيء على جميع الأمة..!
ونظرة الإمام الشافعي هذه دقيقة وعميقة ولها شواهد منها توقف ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فلم يعرف معنى فاطر حتى وجد من بينه له من العرب فقال كما جاء في التفاسير: كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما لصاحبه أنا فطرته أي بدأته. ومن هنا عرف ابن عباس معنى مبدي السموات والأرض.
وكذلك جرى لأبي بكر الصديق وأحد الصحابة رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} فلم يعرفا {وَأَبّاً} فقال الصحابي: قد عرفنا الفاكهة فما الأب؟ ! وفي نفس الوقت لو سئل عنه طفل في اليمن لعرفه لأنه لغتهم وهو من النبات ومرعى الأنعام ودلالة الآية وسياقها يدلان على ذلك.
ثانيا - أما الجواب على الدليل الثاني:(7/408)
يقول الشافعي: فذلك يحتمل ما وصفت من تعلمه منهم فإن لم يكن ممن تعلمه منهم فلا يوجد ينطق إلا بالقليل منه ومن نطق بقليل منه فهو تبع للعرب فيه. ويزيد نقده وضوحا بذكر رأيه في الموضوع بألا يستنكر: أن يوافق لسان العجم أو بعضها قليلا من لسان العرب كما يتفق القليل من ألسنة العجم المتباينة في أكثر كلامها مع تنائي ديارها واختلاف لسانها وبعد الأواصر بينها وبين من وافقت بعض لسانه منها.
ومثل هذا قال الإمام الطبري فقال: ولم نستنكر أن يكون من الكلام ما يتفق فيه ألفاظ جميع أجناس الأمم المختلفة الألسن بمعنى واحد فكيف بجنسين منها كما قد وجدنا اتفاق كثير منهم في ما قد علمناه من الألسن المختلفة وذلك كالدرهم والدينار والدواة والقلم والقرطاس.
ونظرة الإمام الشافعي والطبري بعده في توافق اللغات يشهد لها بالواقع من اتفاق اللغات في كثير من ألفاظها شرقية وغربية وإفريقية وآسيوية. ويذهب الطبري في تحليل الموضوع فهو يرى أنه ليس هناك جنس أولى بهذه الأحرف في القرآن دون الجنس الآخر ومن يدعي تخصيصه يقول له الطبري: مدع أمرا لا يوصل إلى حقيقة صحته إلا بخبر يوجب العلم ويزيل الشك ويقطع العذر صحته.
والصواب عنده: أنه عربي وعجمي لأن الأمتين استعملتاه. ويقول: وإنما يكون الإثبات دليلا على النفي فيما لا يجوز اجتماعه من المعاني … فأما ما جاز اجتماعه فهو خارج من هذا المعنى ويرى أن هذا هو مراد السلف - كما بين الشافعي - فيقول:(7/409)
وهذا المعنى الذي قلناه في ذلك هو معنى قول من قال: في القرآن من كل لسان عندنا. بمعنى والله أعلم: أن فيه من كل لسان اتفق فيه لفظ العرب ولفظ غيرها من الأمم التي تنطق به وبهذا تبين عنده: خطأ من زعم أن القائل من السلف: في القرآن من كل لسان إنما عني بقيله ذل أن فيه من البيان ما ليس بعربي ولا جائز نسبته إلى لسان العرب. ويقول الطبري مستدلا بالآيات التي مرت علينا الناطقة بعربية القرآن ونفي ما سوى العربية عنه:
وذلك أنه غير جائز أن يتوهم على ذي فطرة صحيحة مقر بكتاب الله ممن قرأ القرآن وعرف حدود الله أن يعتقد: أن بعض القرآن فارسي لا عربي وبعضه نبطي لا عربي وبعضه رومي لا عربي وبعضه حبشي لا عربي بعدما أخيرا الله تعالى ذكره عنه: أنه جعله قرآنا عربيا.
ولو أن هذه الأدلة غير موجودة لمن نفى عنه سوى العربية له أن يقول ما قاله الطبري في نقاشه هذا وهو:
لأن ذلك إن كان كذلك فليس بأولى بالتطويل من قول القائل هو عربي.
ثالثا- أما الجواب على الدليل الثالث:
قال الشافعي فيه: فإذا كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض: فلا بد أن يكون بعضهم تبعا لبعض، وأن يكون الفضل في اللسان المتبع على التابع وأولى الناس بالفضل في اللسان من لسانه لسان النبي ولا يجوز والله أعلم - أن يكون أهل لسانه أتباعا لأهل لسان غير لسانه في حرف واحد بل كل لسان تبع للسانه، وكل أهل دين قبله فعليهم اتباع دينه.
أما الرأي الذي يوفق بين المذهبين بأن يرد هذه الألفاظ إلى اللغات الأعجمية في الأصل، وللعربية معربة في الحال. كفى في مناقشة ما سبق وما سيجده القارئ من أن الراجح المستند على الأدلة: هو أن هذا من باب توافق اللغات كما ذهب إليه الإمام الشافعي، والطبري وكثيرون وفسروا به مراد من تقدمهم..(7/410)
وبعد هذه السرعة في تحليل الموضوع يعلم مدى انحراف منهج كتّاب - تاريخ الأدب - في القرنين الأخيرين في صحته واستقرائه وتحريه في الأمانة العلمية والبحث الموضوعي المجرد عن الهوى والعاطفة التي تكدر منهج النقد المتزن القائم على أسس وقواعد.
وبهذا ابتعدوا عن طريقة السلف الذين دونوا اللغة العربية، ودرسوها دراسة، لا تقتصر على الناحية الأدبية واللغوية فحسب، بل تجاوزوها إلى مرعات مسالك العقيدة، والأصول.. وأن مساس ذلك كله لتفسير القرآن ولاستنباط الفنون منه قضية أولية، ومقصودة بذاتها، في دراستهم هذه اللغة وأدبها، حتى تكونتا لديهم ملكة هي سفينتهم في بُعد الآفاق ودقة النظر! …
وإذا كان ذلك كذلك، لا يمكن لأي باحث في آثارهم أن يحقق مذهبا، ويطرق أبواب النقد في المجال الفكري والبحث العلمي، اللذين ذللوا صعابهما، وقيدوا لنا أوابدهما، ووسموا الدخيل في كل ذلك، ووصفوا الأصيل منة، بأدلة ودراسة مهذبة ساطعة تجلو لكل شاكر وحسود.. لا يمكن بحث في آثارهم وهو مقطوع الصلة بأولئك النجوم الذين احتلوا عروش البراعة، وحملوا الأمانة العلمية إلى الأجيال المتتالية.
وأخص الخصوصيات في دنيا البحث "اللغة العربية" وكل ما يتعلق بها، مادة وأدبا، ذوقا وأسلوبا. وهي اللغة التي تحول يد التحريف والتمزيق أن تنال منها وتكدر من صفائها وتسهر عين الحسد لطمس آثارها وهجر مراجعها الأولى، ومصادرها المؤمنة "القرآن والحديث والنحو والصرف والشعر والنثر القديمان".(7/411)
لولا أن جبلا من المناعة وستارا من الحصانة وسدا أصلب من زبد الحديد وقف أمام هذه الزوابع ورد سطوتها، وركز رايته في حناجر علماء الإسلام للذود عنها وهو: هذا القرآن المعلن فوق رؤوس العالمين وعلى رغم أنوف شياطين الإنس والجن ببلاغته الساحرة وجودته الساطعة وإعجازه المعجز.. قرآن كفاه من القوة والإعجاز اليوم ما سبق له ويعيش فيه من عداء الأعداء، ولم يثنه ذلك من صوته الراعد وهيمنته الفخمة، وإحاطته بكل شيء.. لقد أثبتت التجارب إعجازه، ومن حاول التطاول عليه وصارعه ينهزم وتقوم الدنيا ضده، ويهتز الكون لشذوذه، ويشهد عليه بالضلال وعدم العقل.. وهذه هي الآية الواقفة أمام كل تيار: إنا نحن نزلنا الذكرى وإنا له لحافظون.. ومما ذكرت يعلم الراجح في الموضوع، وانحراف منهج من يقتصر على ذكر رأي واحد في الموضوع متناسيا الآخر منه كفعل مؤرخي الأدب.(7/412)
دراسات في السنة النبوية
بقلم الشيخ: محمد ضياء الرحمن الأعظمي
الأمور التي ألغاها الإسلام وأنكرها فهي كثيرة جدا يطول بنا القول لو ذكرناها في العقيدة والعبادة والمعاملات والأخلاق والزواج والطلاق والحرب والقتال وغيرها من العادات والتقاليد.
وأما الأمور التي عدلها الإسلام من شريعة الجاهلية فهي كذلك باب واسع مبثوث في كتب الحديث والتفسير والفقه والعقيدة فمن شاء فليرجع إليها.
هذا هو موقف الإسلام الصحيح من الجاهلية لا كما يزعم بعض المخدوعين والدجاجلة الكفرة من أن السنة ليست لها قيمة شرعية ولا منزلة ذاتية بل هي من العادات الجاهلية التي أبقى عليها الإسلام تطييبا لخواطرهم وتعظيما لتقاليدهم فشرع الإسلام بعقائده وعباداته وأحكامه ونواهيه تام أكمله الله من فوق سبع سماوات من غير احتياج إلى العادات والتقاليد. وقد عز الله القائل:
{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [1] .
أما شبهات شاخت فهي نتيجة لعدم اطلاعه على تاريخ التشريع الإسلامي فجعل الإمام الشافعي مثلا أول قائل بحجية السنة واستشهد على ذلك ببعض النصوص التي أوردها الإمام في كتابه الأم [2] حيث يذكر أن الإمام مالكا وأبا حنيفة ومحمد بن الحسن الشيباني أخذوا بالقياس والرأي في مقابلة السنة في بعض المواضع. ولكن الأمر الذي فات شاخت هو هل هذا الترك كان لعدم وقوفهم على السنة؟ أو لعدم احتجاجهم بالسنة؟ فإذا عجز شاخت عن فهم هذه الأصول فلماذا أقدم على أمر هو بعيد عن إدراكه؟. نحن نجيب عن هذه الأسئلة إن شاء الله ولو بقليل من التفصيل: ونسلك في هذا طريقة المنطقية:(7/413)
لم يعرف أحد من أئمة أهل السنة الذي قال بعدم حجية السنة ونحن نقيم على هذا أدلة قاطعة من كتب الحديث والفقه وتاريخ المسلمين إن شاء الله تعالى.
فهذا إمام من أئمة أهل السنة إمام دار الهجرة أبو عبد الله مالك بن أنس الذي شدت إليه الرحال وضربت له أكباد الإبل وازدحم الناس حوله، لقد عرف رحمه الله تعالى فقيها ومحدثا وهذا الوصف المطابق لم يزل ملازما الإمام مالك حتى انتقل إلى رحمة الله ورضوانه.
لقد توهم بعض الباحثين فقالوا إن مالكا كان يقدم القياس والرأي في مقابلة السنة، وهذا اتهام وبهتان فقد نقل عبد الوهاب الشعراني على لسان مالك قوله "إياكم رأي الرجال إلا إن أجمعوا عليه واتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وما جاء عن نبيكم وإن لم تفهموا المعنى وسلموا لعلمائكم، ولا تجادلوا، فإن الجدال في الدين من بقايا النفاق" [3] .
وفيه أيضا نقلا عن ابن حزم قوله: "أنه لما حضرته الوفاة قال وددت الآن أني أضرب على كل مسألة قلتها برأي سوطا ولا ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء زدته، في شريعته وخالفت فيه ظاهرها" [4] ومن هنا أخذ بعض الناس منع رواية الحديث بالمعنى للعارف خوفا أن يزيد الراوي في الحديث أو ينقص.
وقال الإمام مالك في رسالته الخالدة إلى الليث بن سعد [5] "وفقنا الله وإياك لطاعته وطاعة رسوله في كل أمر وعلى كل حال" [6] ومن منا لا يعرف قول الإمام مالك المشهور: كل يؤخذ بقوله ويرد إلا صاحب هذا القبر (مشيرا إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم) فهذه بعض النصوص حجة صريحة على من يتهم الإمام مالكا. نعم لقد تحير بعض الناس لما وقفوا على موطأ مالك ووجدوا أنه كتاب فقه وحديث، كتاب رواية ودراية، كتاب رأي وفتوى وهو مشهور بين أهل العلم بكتاب السنة، فكيف يجمع هذا في كتاب واحد وفي رجل واحد.(7/414)
فنقول هذا الانتقاد صحيح في حد ذاته ولكن المدقق البصير لتاريخ التشريع الإسلامي يعثر على شيء جمعه مالك دون غيره وهو اجتماع الرواية والفقه عنده، والسبب في ذلك أن الناس ما كانوا يفرقون بين الرواية والدراية في عصره، فالمحدث هو الفقيه والفقيه هو المحدث لقرب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فإن الأمر المعروف في أصول الفقه أن قول الصحابي ينزل منزلة الرفع إذا لم يكن موضع اجتهاد، ولهذا كان من عادة الأئمة في استنباط الأحكام الشرعية أن يرجعوا إلى كتاب الله أولا ثم إلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم إلى قول أصحابه المتفق عليه ثم إلى أقضية الخلفاء الراشدين، هكذا روي عن الإمام أبي حنيفة فإذا وصل إلى رأي التابعين قال هم رجال ونحن رجال.(7/415)
وقد جاء عن بعض السلف قولهم "إن مالكا جمع بين الحديث والفقه ما لم يجمع غيره قط". قال ابن جرير الطبري أن أحمد بن حنبل لم يكن فقيها بل إنه كان محدثا ومالك وحده هو المحدث الذي يعد في الرعيل الأول بالإجماع والفقيه البصير بمواضع الفتوى ومصادرها بالإجماع. فهذا كتاب الموطأ الذي يحتوي على ألف وسبعمائة وعشرين حديثا برواية أبي بكر الأبهري قال السيوطي عنه "إن الأحاديث الموصلة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم صحاح كلها بل هي في الصحة كأحاديث الصحيحين" [7] . وقال الإمام الشافعي "لا أعلم كتابا في أكثر صوابا من كتاب مالك" [8] حتى أن الإمام البخاري الذي يُعد كتابه أصح كتب الحديث وأقواها يعتبر سند مالك في بعض مروياته التي رواها أصح الأسانيد وهو مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة. وأصح الأسانيد عن أبي داود مالك عن نافع عن ابن عمر ولهذا استغرب الشافعي من مالك مسألة خيار المجلس، والحديث مروي عن مالك عن نافع عن ابن عمر فقال:"لا أدري هل أتهم مالك نفسه أو نافعا" [9] . فكأنه اعتبر هذا السند من سلسلة الذهب. فهذه شهادات تدل على أنه كان عدلا ضابطا لا مجال للطعن فيه فكيف لأحد أن يعده من منكري السنة وغير المحتجين بها!.
هذه هي منزلة السنة عند مالك من حيث الأصول، وبحثنا مقتصر على الأصول وأما في الفروع فقد تلحقه شبهة وأعذار نذكر منها البعض في باب عمل أهل المدينة إن شاء الله تعالى.
أما من ناحية تقديم القياس على بعض السنة فنقول بعون الله تعالى:
لقد تضافرت الأدلة القاطعة على أن القياس أصل من أصول الفقه الإسلامي ولم يعارضه أحد إلا طائفة من الظاهرية وجماعة من الشيعة وشبهاتهم مذكورة في كتبهم ولا حاجة بنا إلى إعادة ذكرها.(7/416)
القياس على قسمين: قياس يخالف الكتاب والسنة وهو مردود ومذموم لم يأخذ به أحد، وقياس لا يخالف الكتاب والسنة، وهو إلحاق أمر غير منصوص على حكمه بأمر منصوص على حكمه لعلة جامعة بينهما. وهو أمر ضروري لا بد منه لوقوع كثرة الحوادث وعدم انتهاء المساءل وإلى هذا أشار معاذ بن جبل وأقره عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم [10] والعلماء والفقهاء من القرون المشهود لها بالخير إلى يومنا هذا لم يستغنوا عن استعمال المقاييس في أمور دينهم إذا لم يجدوا أمرا صريحا من الشارع لأن نظير الحق حق ونظير الباطل باطل، وعلى هذا الأساس فإن مالكا استعمل القياس وقال بما دل عليه قياسه متمسكا بشروطه وآدابه. وكيف لا يقول به مالك وقد قال به رسول الله صلى الله عليه سلم في مواضع كثيرة منها ما يروى عن عمر بن الخضاب قال: "صنعت يا رسول الله أمرا عظيما قبّلت وأنا صائم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم؟ فقلت لا بأس فقال: فصم" [11] فقاس رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة على المضمضة لأن كلا منهما مقدمة للإفطار فلا ذنب على مالك إن قاس الأمور الحادثة على أصولها.(7/417)
نعم وقد يظن قياسه مخالفا للسنة الثابتة فما السبب في ذلك؟ فنقول: هناك عدة أعذار عد بينها شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) وقال: جميع الأعذار ثلاثة أصناف. أحدها عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، والثاني عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول، والثالث اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ. ثم فرع الأسباب على تلك الأصناف فجعل السبب الأول هو أن لا يكون الحديث قد بلغه ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف إن يكون عالما بموجبه كما حصل لعمر وابنه فإنهما كانا ينهيان المحرم عن التطيب قبل الإحرام قبل الإفاضة إلى مكة بعد رمي جمرة العقبة ولم يبلغهما حديث عائشة رضي الله عنها أنها طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف، وغيره من الأمثلة الكثيرة ذكرها ابن تيمية [12] رحمه الله تعالى وإلى هذا أشار الإمام الشافعي في قوله "لو صح حديث لحوم الإبل قلت به"ذكره الحافظ في التلخيص [13] فلماذا لا نحمل مالكا على أحد هذا الأعذار؟ فالأئمة المجتهدون والمحدثون الحاذقون والفقهاء المبصرون كلهم معذورون إذا قالوا شيئا يخالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هم مأجورون على ذلك. فقد ثبت في الصحيحين عن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" [14] فتبين أن المجتهد له مع خطئه أجر وذلك لأجل اجتهاده، فإن إحاطة واحد لجميع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر لا يمكن ادعاؤه حتى أن الخلفاء الراشدين الذين هم أعلم الأمة وأفقه الفقهاء وباشروا رسول الله سفرا وحضرا لم يكونوا قد بلغوا الكمال في العلم، فهذا أبو بكر رضي الله عنه لما سئل عن ميراث الجدة قال مالك في كتاب الله من شيء وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من شيء، ولكن أسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة وشهد له محمد بن مسلمة(7/418)
بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس.
وروي عن عمران بن حصين مثل ذلك. فإذا كان هذا من حال أبي بكر وعمر وابنه الذين شاهدوا التنزيل فأين أبو حنيفة ومالك وابن أبي ليلى وغيرهم من الأئمة رضوان الله عليهم أجمعين!
لقد تخبط بعض الباحثين من المستشرقين من أمثال جولد زهير في معنى السنة فظنوا أنها من باب العادات والتقاليد الموروثة من الجاهلية، واستشهدوا على ما ذهبوا إليه ببعض العادات التي أبقاها الإسلام من العادات القديمة. وقالوا أن السنة ليست من مصادر التشريع في الإسلام، فإن الأوائل لم يكونوا يرجعون إليها في المسائل الدينية والفتاوى الشرعية حتى ظهر بعض المسلمين في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث، ونادوا بحجية السنة، وملأوا كتبهم بالأدلة والبراهين، وممن اشتهر في هذا العصر الإمام الشافعي فإنه قام بالرد على الإمامين السابقين أبي حنيفة ومالك رحمهما الله [15] .
وأخذ هؤلاء الباحثون ببعض الآثار المروية في هذا الباب، منها قول عمر ابن الخطاب "حسبنا كتاب الله "وحديث حدث به المهلب بن أبي صفرة ثنا ابن مناس ثنا محمد بن مسرور القيرواني ثنا يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب أخبرني شمر بن نمير عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سيأتي ناس يحدثون عني حديثا فمن حدثكم حديثا يضارع القرآن فأنا قلته ومن حدثكم بحديث لا يضارع القرآن فلم أقله. إنما هو حسوة من النار" [16] .(7/419)
وهذا أثر ضعيف بل أوهن من بيت العنكبوت أخذوا به دليلا إلى ما ذهبوا إليه _ وقد قال عبد الرحمن بن مهدي "الزنادقة والخوارج وضعوا هذا الحديث". وقال محمد بن حزم: "الحسين بن عبد الله ساقط متهم بالزندقة" [17] ورد الشافعي والبيهقي هذا الحديث كليا. وبمثل هذه الأحاديث المكذوبة أوردها ابن حزم ورد عليها واحدة بعد واحدة. أما قول عمر بن الخطاب وهو ما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: لما حُضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي صلى الله عليه وسلم هلمّ أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده. فقال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن. حسبنا كتاب الله [18] وفيه قال ابن عباس: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم [19] هذا القول لا يدل على الاستغناء بالسنة لأن عمر ابن الخطاب أراد أن يخفف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه ولهذا سكت عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقد عاش بعده بأيام ولم يرد على عمر قوله، فلما وجد التخفيف والراحة أملى عليهم كما أخرج مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أوائل مرضه وهو عند عائشة: "ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابا فإني أخاف يتمنى متمن ويقول قائل ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر" [20] . وهذا المعنى يؤيد سلوك عمر بن الخطاب في زمن خلافته فإنه كان يحرص على الأخذ بالسنة، وهذا باب واسع لا أرى الحاجة إلى إيراده.
بمثل هذه الأدلة أخذ منكرو السنة، فمن المستشرقين الذين اشتهروا بهذا الطعن جولد سهير قد قال في دائرة المعارف الإسلامية تحت كلمة (الحديث) وفي كتابه:(7/420)
(MUHAMMAD STUDY) ج1 ص41 واللفظ من الدائرة "كان السير على سنة الآباء الأولين (السنة هي المنهج القديم المأثور الذي يعتاده المرء في المبادلة والأخذ والعطاء) حتى يعد عند الكفار من العرب فضيلة من الفضائل ولما جاء الإسلام لم تستطع السنة أن تبقى على قديمها وهو اتباع عادات الآباء الكفار وأقوالهم، وكان لا بد للمسلمين من أن ينشئوا لهم سنة جديدة. فأصبح واجبا على المؤمن أن يتخذ من خلق الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته مثلا يحتذيه في جميع أحوال معاشه، ولهذا بذل كل جهد ممكن في سبيل جمع أخبار النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته [21] .
فالفكرة التي يريد جولد سهير أن يعطيها لنا هي أن السنة ليس لها قيمة ذاتية نفسية بل جاءت من قبل العادات والتقاليد الجامعية. ولكن الأمر ليس كما يظن المستشرق فسوف نبين خطأ فكره في باب العادات الجاهلية بعون الله تعالى. ثم جاء بعده جوزيف شاخت فجعل السنة وليدة البيئة والمجتمع الإسلامي وعمل الخلفاء، وأنها ليست أمرا ثبتا في القرنين الأول والثاني حتى جاء الإمام الشافعي ونادى بحجية السنة وشن الغارات على منكريها [22] .
ثم رأيت المرحوم الدكتور السباعي يُورد فصلا كاملا في كتابه (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) بعنوان ((السنة مع من ينكر حجيتها حديثا)) فأحببت أن ألخص كلامه هنا في أسطر لما فيه من الفوائد لطالب السنة.
يقول المرحوم: "وقد نشرت مجلة المنار للمرحوم السيد رشيد رضا في العددين 7_12 من السنة التاسعة مقالين للدكتور توفيق صدقي تحت عنوان (الإسلام هو القرآن وحده) وشبهته:
أولا _ قوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} .
{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} .
ثانيا _ قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فالله تعالى تكفل بحفظ القرآن دون السنة.(7/421)
ثالثا _ لو كان الحديث حجة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته.
رابعا _ بعض الآثار المروية التي تدل على بعدم حجية السنة.
تلك هي خلاصة ما أورده الدكتور صدقي من الشبهات حول حجية السنة.وقد قام المرحوم الدكتور السباعي بالرد على هذه الشبهات واحدة فواحدة، ولا أريد أن أطيل البحث فمن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى كتابه [23] فإنه جاء بجواب مسكت مقحم فجزاه الله خيرا وتقبل سعيه.
فالآن نعود إلى موضوعنا وهو: (مقدار العادات الجاهلية في الإسلام) .
معنى الجاهلية وموقف الإسلام منها:
الجهل لغة: نقيض العلم، يقال جهل فلان جهلا وجهالة، والجهالة: أن تفعل فعلا بغير العلم ومنه المجاهل جمع مجهل.
قال مضرس بن ربعي:
أنا لنصفح عن مجاهل قومنا ونقيم سالفة العدو الأصيد [24]
قال الراغب: الجهل على ثلاثة أقسام:
1 _ خلو النفس من العلم ومثاله قول خولة بنت حكيم امرأة عثمان رضي الله عنهما قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو محتضن أحد ابني ابنته وهو يقول: "والله إنكم لتجبنون وتبخلون وتجهلون وإنكم لمن ريحان الله" أي يُشغل بهم الآباء عن طلب العلم.
2 _ اعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه مثاله: "إن من العلم جهلا. قيل هو أن يعلم ما لا يحتاج إليه من دينه".
3 _ فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أم فاسدا كقوله تعالى: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [25] فجعل فعل الهزو جهلا [26] .
وقد يأتي الجهل بمعنى ضد الخبر كقوله تعالى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ} أي الذي ليس عنده خبرة.(7/422)
هذه هي معاني كلمة الجاهلية فهل يستطيع جولد سهير ومن معه أن يطبق هذه المعاني على السنة النبوية. فالمنتصح الدقيق يجد الفرق بينهما بينا باعتبار التضاد والتناقض. وقد حذر الشارع من اتباع سنن الجاهلية في مواطن كثيرة.
قال تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّة} [27] !
وفي صحيح البخاري عن نافع عن جبير بن مطعم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبغض الناس إلى الله ثلاث: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلّب دم امرئ بغير حق بهريق دمه". وفي سند الإمام أحمد عن أبي بن كعب عال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تعزى بعزاء الجاهلية فاعضوه بهن أبيه ولا تكنوا" [28] وفي مسلم أيضا عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركهن: الفخر بالأنساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة" [29] ، ومن هذا الباب ما أخرجه الشيخان عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعاّب فكسع أنصاريا فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا، وقال الأنصاري: يا للأنصار. وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "ما بال دعوى الجاهلية … دعوها فإنها مُنتنة" [30] . ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم "إنك امرأ فيك جاهلية" [31] ، وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أذهب عنكم غبية الجاهلية وفخرها بالآباء: مؤمن تقي أو فاجر شقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونُنّ أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن" [32] ، وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(7/423)
"من خرج من الطاعة وارق الجماعة فمات ميتة جاهلية" [33] وغيرها من الأحاديث المروية في كتب السنة التي لا تُعد ولا تُحصى فتدل هذه الأحاديث على تقبيح أمور الجاهلية وذمها، وبالتالي تقتضي المنع من اتباعها. ولهذا قسم العلماء الزمان قسمين: قسم زمن الفترة قبل الإسلام يُسمى فترة الجاهلية، وهي الحال التي كانت عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله ورسوله وشرائع الدين والمفاخرة بالأنساب والتكبر والتجبر. وقسم فترة الإسلام وهو زمن بزغت فيه شمس الإسلام وأشرقت الأرض بنور ربها وخرج الناس من الجاهلية الجهلاء إلى هدى الله وشرعه.
فهل يُعقل بعد هذه النصوص البينة أن يكون اتباع السنة النبوية من باب التقاليد الجاهلية؟ تعالى الله عمّا يقولون.
نعم هناك أمر ضروري لا بد أن عليه ولو بعبارة موجزة وهو أن الإسلام لم يأت بشرع جديد مطلق يخالف شرائع الأنبياء والمرسلين، بل جاء بالملة الحنيفة السمحة التي حرفها أهل الزيغ والضلال. بل أعلن الله تعالى على لسان خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} [34] وقال تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [35] وقال تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [36] وغيرها من الآيات والآثار.
إذا فما هو موقف الإسلام من أمور الجاهلية وعاداتها؟ فنقول بعون الله تعالى: إن العرب كانوا في الجاهلية بدو أو شبه بدو لم يكن عندهم قانون مدون ولا قواعد معروفة يرجعون إليها إلا ما حصل عندهم من العرف والتقاليد والتجارب والمعتقدات المحرفة من اليهودية والنصرانية، فجاء الإسلام وأقر بعضا وأنكر على بعض وعدل بعضا إذا وافق اللوح المحفوظ.(7/424)
مثال ما أقره الإسلام القسامة فقد أخرج مسلم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله أمر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية وقضى بها بين أناس من الأنصار [37] ، وصوم يوم عاشوراء، فقد أخرج الشيخان عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون صوم عاشوراء فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فيه فرعون وقومه فصامه موسى شكرا لله فنحن نصومه تعظيما له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن أحق بموسى منكم. فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه" [38] . وقد أمر الإسلام بقرى الضيف وابن السبيل وحمل الكل وصلة الأرحام والإعانة في نوائب الحق، وهذه الأوصاف كانت تعتبر مزية من مزايا الجاهلية، وغيرها من أمور العبادة والطهارة من الجنابة وخصال الفطرة مثل الختان. ويروى أن أبا ذر كان يصوم ويصلي قبل أن يقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث سنين، وكذلك قس بن ساعدة الإيادي. وكان أهل الجاهلية يحجون بيت الله الحرام ويعظمون شعائره وكان فيهم من يوحد الله مثل ورقة بن نوفل الأسدي من أسد بن عبد العزى وزيد بن عمر وابن نفيل العدوي من عدي بن كعب وعثمان بن الحويرث الأسدي من أسد بن عبد العزى. هؤلاء من قريش وعبيد الله بن الجحش الأسدي من أسد بن خزيمة من حُلفاء قريش. يروى أنهم اجتمعوا مرة يوم عيد لأحد أصنامهم فقالوا: نعلن والله ما قومكم على شيء. لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم. هذا حجر لا يبصر ولا يضر ولا ينفع. يا قوم التمسوا لأنفسكم فإنكم والله ما أنتم على شيء [39] . ولقد سار عمرو بن لحي الخزاعي إلى بلاد الشام ورأى ما يفعله أهلها من تعظيم التماثيل والتقرب بها فمالت نفسه إلى الاقتداء بهم فأخذ بعض هذه التماثيل وأقامها على الكعبة التي كان هو سادنها ودعى العرب إلى تعظيمها فأجابوه،(7/425)
وقد رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر قصبته (الأمعاء) في النار وقال: "إنه كان أول من غير دين إسماعيل فنصب الأوثان وبحر البحيرة وسيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي" [40]
ومن هنا تتضح لنا بعض الأمور التي أقرها الإسلام بدون تحريف وتبديل، وإلى هذا يشير قوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالملة السمحة الحنيفية البيضاء".
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الفتح: 26.
[2] راجع اختلاف مالك والشافعي ج/7 ص177، كتاب جماع العلم ص250 كتاب الرد على محمد بن الحسن ص277، كتاب إبطال الإحسان ص267.
[3] الميزان ج1 ص64.
[4] المصدر السابق ص65.
[5] توفي سنة 175هـ.
[6] ترتيب المدارك ج1 ص65.
[7] على هامش الباعث الحثيث ص32.
[8] المصدر السابق ص31.
[9] المغني ج3 ص504.
[10] أخرجه الترمذي وقال: حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده عندي بمتصل. وقال البخاري في التاريخ الكبير: الحرث بن عود بن أخي المغيرة عن أصحاب معاذ عن معاذ روي عنه أبو عون ولا يصح ولا يعرف إلا بهذا. جمع الفوائد 4923.
[11] أبو داود صوم 33، الدارمي صوم 21 سند أحمد 1/ 21.
[12] رفع الملام ص1.
[13] نقلا من تحفة الأحوذي ج1 ص263.
[14] خ اعتصام باب 21.
م، اقضية15، واقضية2، حم ج2/187.
[15] هكذا يريد المستشرق ((شاخت)) أن يرد حجية السنة وسيأتي التفصيل عن هذا إن شاء الله تعالى.
[16] الإحكام لابن حزم ج2 ص76.
[17] الإحكام لابن حزم ج2 ص76.
[18] خ ج 7 ص 104.
[19] المصدر السابق.
[20] نقلا من فتح الباري ج1 ص186.
[21] دائرة المعارف الإسلامية ج7 ص330.(7/426)
[22] هذه هي الفكرة الرئيسية في تأليفه. (MUHAMMADAN JURISPRUDENU)
وخاصة في الباب السابع SUNNA PRACTIEEND LIVING TRADITION) P58.
[23] السنة ص165.
[24] لسان العرب ج11 ص129.
[25] البقرة: 67.
[26] البقرة: 273.
[27] آل عمران: 154.
[28] خ تفسير سورة المنافقون.
[29] مسلم جنائز 29، حم5/342.
[30] خ تفسير سورة المنافقون.
[31] خ أدب 44، إيمان22، م إيمان38.
[32] أبو داود: أدب 111.
[33] مسلم أمارة: 53.
[34] الأحقاف: 9.
[35] الأنعام: 90.
[36] المائدة: 44.
[37] مسلم قسامة: 7، النسائي قسامة2، حم 5/ 432.
[38] البخاري صوم: 69.
[39] البداية والنهاية، ج2 ص238.
[40] ابن هشام ج1 ص79.(7/427)
السفور
للشيخ محمد الحداد
المتخرج من كلية الشريعة بالجامعة
صبرت إلى أن ضاق صدري من الصبر.
ولا أحد يرثي لحالي ولا يدري.
أرى الفتنة الكبرى تعم بلادنا.
كأنا بباريسٍ على شاطئ النهر.
وباء من الغرب استباح ديارنا.
شبيه على الأفكار بالسم والسحر.
وقومي حيارى أو سكارى كما ترى.
فهل بعد هذا الليل يا قوم من فجر.
صبرنا ولكن كم يدوم اصطبرنا.
أصبر على شيء أحر من الجمر!.
فماذا ترى يبقى لنا من هدى وقد.
غدونا وأهل السبت في شركة الوزر!.
فكم ثم من راض بذلك معجب.
وآخر حب المال ألقاه في السكر!.
إذا كان ذا يا قوم في خير أمة.
إذن فَلَبطن الأرض خير من الظهر.
فكيف يلام المرء إذ ما تكشفت.
لديه فتاة كالغزال أو البدر.
فكم ذا يلاقي من عناء وشدة.
ونار الغضا ما بين أضلاعه تسري.
أيحجب عينيه بإلقاء برقع.
على وجهه بين العشاءين والعصر.
وهل غيرة يا قوم تشفي غليله.
لئلا يرى أهل المفاتن والعهر.
أرى الوقت معكوسا على أم رأسه.
فثوب الفتى ينجر في الدرب إذ يجري.
ولكن ربات الخدور تقدمت.
فتستورد الأثواب من بلد الكفر.
وعار عليها تلبس الثوب سابغا.
كذلك الفتى بالعكس يا قصمة الظهر.
فيا علماء الدين بالله ربكم.
فما عذركم يوم القيامة في الحشر.
ويا قومنا مالي أرى الدين ضائعا.
كشخص أسير كبلته يد الكفر.
فوالله إن الموت خير وراحة.
إذ البوم والغربان تعدو على الصقر.
نذير لكم يا أيها القوم فاسمعوا.
ولا تكن الآذان منه على وقر.
ألم تروا أن الله أقسم بالعصر
.(7/428)
بأن جميع الخلق في وهدة الخسر.
ولكنه استثنى من الكل أربعا.
عليكم بها عضوا عليها مدى العمر.
فأولها الإيمان والعمل الذي.
يلازمه واستتبع الحق بالصبر.
لقد حدث القرآن عن أهل قرية.
أتوا باحتيال كي يصيدوا من البحر.
فلما نسوا ما ذكروا أصبحوا لقىً.
ولم ينج إلا من أبى خطة الغدر.
وكانوا بخير ثم لما عصوا هووا.
وقد مسخوا حتى غدوا عبرة الدهر.
على الدين فلتنهل عيناك أدمعا.
ولا عذر حتى تصحب النهي بالأمر.
فلو شاهدت عيناك ما نصطلي به.
علمت بأنا قابضون على الجمر.
ولو أنني خيرت في العيش والردى.
لقلت لهم هيا اعجلوا واحفوا قبري.
ولو أن فاروق الحنيفة شاهد.
لأنهكهم ضربا، ولم يعي بالأمر
.(7/429)
العدد 22
فهرس المحتويات
1- يجب تحكيم الشرع الإسلامي في الخاطفين: رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز
2- من أعلام المحدثين - عمرو بن علي الفلاس 160 بعيدها - 249هـ: للشيخ عبد المحسن العباد نائب رئيس الجامعة الإسلامية
3- أضواء من التفسير: للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
4- رسائل لم يحملها البريد: بقلم الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
5- الجهاد.. الجهاد..: بقلم الشيخ محمود عبد الوهاب فايد
6- رسالة إلى الأستاذ الدكتور أحمد زكي رئيس تحرير مجلة العربي المحترم: بقلم الدكتور محمد معروف الدواليبي
7- وجوب الحكم بما أنزل الله: للشيخ عطية محمد سالم
8- شعر المتنبي في ميزان الصاحب بن عبَّاد: بقلم الشيخ محمد المجذوب
9- ليكن شعارنا الدائم- الله وحده: بقلم الشيخ السعيد الشربيني الشرباصي
10-سبع مسائل في علم الخلاف: بقلم الأستاذ عبد العزيز القارئ
11-علم القرآن هو الأعلى: للشيخ محمد يوسف
12- الإسلام في سيراليون: بقلم الشيخ أحمد صالح محايرى
13- برقية: رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز
14- من الصحف والمجلات: إعداد العلاقات العامة
15- الحضارة الغربية كما يراها أحد أساطينها: عن كتاب (الإنسان ذلك المجهول) للدكتور الكسيس كاريل
16- ندوة الطلبة: الإيمان.. يوجب العمل: للطالب خالد محمد عبد الله الدخيل
17- المسلم: بقلم الطالب عارف عبد الله آل حسن
18- الفتاوى "أين يضع المصلي يديه بعد الرفع من الركوع": يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
19- أخبار الجامعة: إعداد العلاقات العامة
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(7/430)
يجب تحكيم الشرع الإسلامي في الخاطفين
رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فمن المعلوم لدى كل من له أدنى بصيرة أن اختطاف الطائرات وبني الإنسان من السفارات وغيرها من الجرائم العظيمة العالمية التي يترتب عليها من المفاسد الكبيرة والأضرار العظيمة وإخافة الأبرياء وإيذائهم ما لا يحصيه إلا الله كما أن من المعلوم أن هذه الجرائم لا يخص ضررها وشرها دولة دون دولة ولا طائفة دون طائفة بل يعم العالم كله ولا ريب أن ما كان من الجرائم بهذه المثابة فإن الواجب على الحكومات والمسؤولين من العلماء وغيرهم أن يعنوا به غاية العناية وأن يبذلوا الجهود الممكنة لحسم شرِّه والقضاء عليه، وقد أنزل الله كتابه الكريم تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين وبعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وحجة على العباد أجمعين وأوجب على جميع الثقلين الحكم بشريعته والتحاكم إليها ورد ما تنازع فيه الناس إلى كتابه وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما قال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماًً} . وقال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .(7/431)
وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه الكريم وأن الرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته وإلى سنته الصحيحة بعد وفاته عليه الصلاة والسلام وقال سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} فهذه الآيات الكريمات وما جاء في معناها كلها تدل على وجوب رد ما تنازع فيه الناس إلى الله سبحانه وإلى الرسول عليه الصلاة والسلام وذلك هو الرد إلى حكم الإسلام والحذر مما خالفه في جميع الأمور ومن أهم ذلك الأمور التي يعم ضررها وشرها كمسائل الاختطاف.
فإن الواجب على الدولة التي يقع في يدها الخاطفون أن تحكم فيهم شرع الله لأنه يترتب على جريمتهم الشنيعة حقوق لله وحقوق لعباده وأضرار كثيرة ومفاسد عظيمة منتشرة وليس لها حل يقطع دابرها ويحسم شرها إلا الحل الذي وضعه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين في كتابه الكريم وبعث بها أنصح الخلق وأفضلهم وأرحمهم سيد الأولين والآخرين ورسول رب العالمين محمداً عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم وهو الحل الذي يجب أن يرضى به الجميع الخاطفون والمخطوفون ومن له صلة بهم وغيرهم وأن تنشرح له صدورهم إن كانوا مؤمنين فإن لم يكونوا مؤمنين فقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بتحكيم الشرع فيهم في قوله سبحانه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} وقوله عز وجل: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} الآية.
وبناء على ما ذكرنا فإن الواجب على حكومة السودان في حادث السفارة السعودية في الخرطوم تكوين لجنة من علماء الشرع الإسلامي للنظر في القضية ودراستها من جميع جوانبها والحكم فيها بشرع الله.(7/432)
وعلى حكومة الكويت في حادث السفارة السعودية في باريس مثل ذلك ولا مانع من إيجاد محكمة كبرى تتفق عليها الحكومتان المذكورتان يندب إليها جماعة من علماء الشرع الإسلامي من علماء المذاهب الأربعة في الكويت أو السودان أو غيرهما لدراسة القضية وبيان حكم الشرع الإسلامي فيها وعلى هؤلاء العلماء أن يحكموا في القضية على ضوء الأدلة الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يستضيئوا في ذلك بما ذكره علماء التفسير عند آية المحاربين من سورة المائدة وما ذكره العلماء في كل مذهب في (باب حكم المحاربين) ثم يصدروا حكمهم معززاً بالأدلة الشرعية وعلى الحكومتين اللتين وقع الخاطفون في سلطانهما تنفيذ الحكم طاعة لله سبحانه وتعظيماً لأمره وتنفيذاً لشرعه وحسماً لمادة هذه الجرائم العظيمة ورغبة في القضاء عليها ورحمة للمخطوفين وإنصافاً لهم أما القوانين فكلها من وضع البشر ولا يجوز لأهل الإسلام التحاكم إليها وليس بعضها أولى بالتحاكم إليه من بعض لأنها كلها من حكم الجاهلية ومن حكم الطاغوت الذي حذر الله منه ونسب إلى المنافقين الرغبة في التحاكم إليه كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداًً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} .
فلا يجوز لأهل الإسلام أن يتشبهوا بأعداء الله المنافقين بالتحاكم إلى غير حكم الله والصدود عن حكم الله ورسوله.(7/433)
ولا يجوز أن يحتج بما وقع فيه أغلب المسلمين اليوم من التحاكم إلى القوانين الوضعية فإن ذلك لا يبرره ولا يجعله جائزاً بل هو من أنكر المنكرات وإن وقع فيه الأكثرون وليس وقوع الأكثر في أمر من الأمور دليلاً على جوازه كما قال الله سبحانه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأََرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} . وكل حكم يخالف شرع الله فهو من حكم الجاهلية قال الله سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . وأخبر سبحانه أن الحكم بغير ما أنزل كفر وظلم وفسق فقال سبحانه في سورة المائدة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُون. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} . وهذه الآيات وما جاء في معناها توجب على المسلمين الحذر من الحكم بغير ما أنزل الله والبراءة منه والمبادرة إلى حكم الله ورسوله وانشراح الصدر به والتسليم له وإذا كانت الحادثة يعم ضررها كالخطف كان وجوب رد الحكم فيها إلى الله ورسوله آكد من غيرها وأعظم في الوجوب لأن الله سبحانه هو الحكيم الخبير وهو أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وهو العالم بما يصلح عباده ويدفع عنهم الضرر، ويحسم عنهم الفساد في حاضرهم ومستقبلهم.
فوجب أن يردوا الحكم فيما تنازعوا فيه إلى كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لأن فيهما الكفاية والمَقْنَع والحل لكل مشكل والقضاء على كل شر لمن تمسك بهما واستقام عليهما وحكم بهما وتحاكم إليهما كما سبق بيان ذلك في الآيات المحكمات.(7/434)
ولعظم هذا الحادث وخطورته رأيت أن من الواجب نشر هذه الكلمة نصحاً للأمة وبراءة للذمة وتذكيراً للعموم بهذا الواجب العظيم.
والله المسؤول أن يصلح أحوال المسلمين جميعاً ويهديهم صراطه المستقيم ويوفق حكوماتهم للحكم بالشريعة والتحاكم إليها والتمسك بها في جميع الأمور إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه…
رئيس الجامعة الإسلامية
بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(7/435)
سبع مسائل في علم الخلاف
بقلم الأستاذ عبد العزيز القارئ
المدرس بمعهد الجامعة الإسلامية الثانوي
الاختلاف بين علماء المسلمين موضوع جسيم وفن مستقل عظيم لا تكفي عجالة قصيرة لتفصيله واستيفاء حقه، لكنني سأشير إلى مسائل أساسية تتعلق به لا يجوز لأي متعلم أن ينظر في قضايا الشرع وعلومه إذا كانت خافية عليه، بل يجب حينئذ أن ينحى عن هذا المقام ويحشر مع الجهلة والعوام.
المسألة الأولى:
هناك قضايا شرعية وقواعد دينية انقطع فيها الخلاف ووجب التسليم وهي ـ القطعيات ـ أي الأمور التي ثبتت ثبوتاً قطعياً وأجمع عليها علماء المسلمين: كأركان الإسلام الخمسة وأركان الإيمان الستة ووجوب الإيمان بها، وكعدد الصلوات الخمسة، وعدد ركعاتها، وكتحريم الزنا، والربا، والخمر، وقتل النفس التي حرم الله، وكذلك ما أجمع عليه العلماء من قواعد الشرع المعتبرة في أحكامه مثل: لا ضرر ولا ضرار، والحدود تدرأ بالشبهات، ورفع الحرج، وجلب التيسير ونحو ذلك، فتبين بهذا أن ـ القطعيات ـ تكون من الأنواع الثلاثة: العقائد، والفروع، والقواعد الأصولية.
فهذه كلها لا اجتهاد فيها ولا مجال للرأي والخلاف، بل هي أسس وقواعد لهذا الشرع العظيم لا تتغير بتغير الزمان ولا بتغير المكان ومن تردد في التسليم بها أو شك في أمرها فقد شذ عن الملة وشق عصا المسلمين فقوله مردود وخلافه باطل..(7/436)
أما ما سوى القطعيات من مسائل الشرع وقد يسميها بعضهم ـ الظنيات ـ فهي محل للاختلاف ومجال للاجتهاد، تتنوع فيها الأفهام وتختلف الآراء، وقد دعا الشرع إلى إعمال الفكر واستعمال العقل في إدراك معانيها واستخراج أحكامها وعللها وأوجهها ومراميها، وفتح الباب لأهل النظر وفي الفكر وذوي العقول والألباب ليجتهد كل حسب ما أوتي فإن شرعنا العظيم جاء لتحرير العقل من الأغلال التي كان يرزح تحتها ومنحبساً في سردابها، وأول قيد حطمه ـ الجمود والتقليد ـ فشنع على كل من عطل عقله وأسلم قياده لهما قال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ} الأعراف ـ 179.
وهل أنزل القرآن وفُصلت الآيات وضُربت الأمثال إلا ليتفكر الناس ويستعملوا عقولهم، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} النحل ـ 44.
وقال: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} البقرة ـ 219.
وقال: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} الحشر ـ 21.
وقد حث القرآن على التفكير وذم الجمود وتعطيل العقل ووصفه بالعمى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} الأنعام ـ 50.
وشنع على التقليد الذي يمنع الإنسان من قبول الحق ويعطل فهمه وفكره وقد كان ذلك من أعظم أسباب ضلال الكفار وعنادهم {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} الزخرف ـ 23.
المسألة الثانية:(7/437)
من لوازم فتح الباب للفكر والنظر والاجتهاد أن يقع الاختلاف بين ذوي العقول وأصحاب التفكير وأهل الاجتهاد لأن من سنن الله عز وجل في خلقه أنه لم يسوِّ بين الأفهام والمدارك والعقول حتى تتفق على عقل واحد أو فهم واحد، بل تختلف الأفهام وتتنوع الآراء تبعاً لاختلاف درجات العقول والمدارك قوة وضعفاً وانغلاقاً وانفتاحاً قال تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} يوسف ـ 76.
ولذلك نجد الشرع لم يشنع على الاختلاف الذي هو من هذا الباب بل أتاح المجال كما سبق بيانه، إلا أنه أدرك الأمة رحمة بها فبين لهم ماذا يصنعون إذا اختلفوا وأي سبيل يسلكون حتى لا ينحرفوا ويخرج بهم الاختلاف عن الجادة..
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأََمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} .
ففي هذه الآية إشارة إلى أن التنازع بين المؤمنين المتصفين بالطاعة لله وللرسول ولأولي الأمر لا مفر من وقوعه ولا ضرر إذا اتفق المتنازعون على الحَكَم الذي يحتكمون إليه ولا يخرجون عن سلطانه..
ومثل الآية في مدلولها قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" [1] .
إذ ليس معنى وجود مجتهدين ووجود مصيب ومخطئ إلا إقرار وقوع الاختلاف في فهم مسائل الشرع.(7/438)
هذا مع أن المتتبع لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من الآثار الصحيحة يجد أن ذلك وقع بين يديه صلى الله عليه وسلم وأقره فالصحابة اختلفوا في فهم أوامره وأقواله أفهاماً متغايرة فلم يعنف عليهم ولم يوبخهم بل كان يسكت أحياناً ويعينهم على فهم المراد أحياناً وأوضح دليل على ذلك حديث الصلاة في بني قريظة [2] وحديث عدي بن حاتم فقد فَهِم من قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأََبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ظاهر اللفظ فاتخذ خيطين في وسادته أبيض وأسود فلم يزد صلى الله عليه وسلم على أن قال له: "إن وسادتك إذاً لعريض إنما هو سواد الليل وبياض النهار" [3] .
وإنما ورد عنه صلى الله عليه وسلم التعنيف على من تعرض للاجتهاد بغير علم وأفتى بغير بصيرة ولم يتثبت كما قال صلى الله عليه وسلم في الذين أفتوا المشجوج في رأسه بوجوب الغسل فمات فقال صلى الله عليه وسلم لما بلغه ذلك: "قتلوه قتلهم الله هلا سألوا إذا لم يعلموا إنما شفاء العيّ السؤال" [4] .(7/439)
وكل ما ورد من النصوص في ذم الاختلاف فالمراد به الذي يخرج عن حدود الشرع وآدابه، ولا يكون المقصود به الحق بل الهوى والعصبية، وكذلك كل خلاف يتمرد على الحَكَم الذي أوجب الشرع الرجوع إليه، أو المراد به الاختلاف في أصل العقيدة، وما أخبر به صلى الله عليه وسلم من وقوع الاختلاف في أمته فهو التفرق والانقسام، ولذلك حذَّر منه، وكذلك الفرق الثلاثة والسبعون التي ذكر أنها كلها في النار إلا واحدة، فإن المراد بها الاختلاف في العقائد وفيما أجمع عليه المسلمون ولذلك عبر بقوله (ستفترق) ولم يقل (ستختلف) لأن مطلق الاختلاف وقع حتى بين أصحابه، ولعل بعض الجهال طبق هذا الحديث على مذاهب أئمة الإسلام وعلى رأسهم الأئمة الأربعة مع أن أحداً ممن له أدنى فهم يعلم أن اختلاف هؤلاء كاختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه تفرق بل فيه سعة ورخصة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم..
وأما ما وقع من تفرق المقلدين في العصور المتأخرة التي هي عصور الانحطاط فإنه لا يعيب أصل ما ذهب إليه أولئك الأئمة المرضيون من الاختلاف إنما يقع العيب فيه على هؤلاء الأتباع الجهلة المتعصبين..
فإن اختلاف الصحابة والتابعين والأئمة المرضيين ومنهم الأئمة الأربعة واقع كله ضمن حمى الشرع وداخل أسواره، وإنما خرج عن ذلك الحد إلى خارج أسوار الإسلام أمثال الخوارج والروافض والجهمية وأشباههم ممن تكلموا بالشبه في ـ قطعيات ـ الدين.
المسألة الثالثة:
علماء الإسلام المرضيون عليهم رحمة الله ورضوانه من الصحابة والتابعين وتابعيهم في كل عصر لا يختلفون إلا بدليل أو تأويل، ولا يتصور أن أحداً منهم يخالف النص معتمداً أو بغير دليل.
وأخص بالذكر الأئمة الأربعة: أبا حنيفة ومالكاً والشافعي وأحمد لشهرتهم في هذا المجال وانتشار مذاهبهم في الدنيا.
فكل من له علم وتتبع أقوالهم وفتاويهم وتأمل استدلالهم وأصولهم العلمية يجد مصداق ذلك.(7/440)
وما طعن في واحد منهم طاعن إلا عن عصبية أو جهل بقدرهم، إذ قد يتبادر إلى ذهن القاصر عندما يرى كثرة اختلافهم ويعظم عليه ذلك ولا يتحمله ذكاؤه، إذ ينظر إلى ظاهر هذا الاختلاف دون أن يكلف نفسه الغوص بنظره وفكره في الوجوه التي بنوا عليها أقوالهم فيتبادر إلى ذهنه أنهم يصادمون النص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رفع الملام [5] : "الأئمة المقبولون المجمع على إمامتهم من الأمة لا يقولون في مسألة إلا عن دليل ظهر لهم وإن تبادر إلى ذهن المبتدئ أنهم في اختلافهم جانبوا الدليل". اهـ.
قلت: وإليك مثالاً على ذلك ما روي عن عبد الوارث بن سعيد قال: "قدمت مكة وفي رواية ـ الكوفة ـ فوجدت أبا حنيفة وابن أبي ليلى وشبرمة فسألت أبا حنيفة قلت: ما تقول في رجل باع بيعاً وشرط شرطاً؟(7/441)
قال: البيع باطل والشرط باطل، ثم أتيت ابن أبي ليلى فسألته فقال: البيع جائز والشرط باطل، ثم أتيت ابن شبرمة فسألته فقال: البيع جائز والشرط جائز، فقلت: سبحان الله ثلاثة من فقهاء العراق اختلفوا عليّ في مسألة واحدة! فأتيت أبا حنيفة فأخبرته فقال: لا أدري ما قالا حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط"، البيع باطل والشرط باطل. ثم أتيت ابن أبي ليلى فأخبرته فقال: لا أدري ما قالا حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أشتري بريرة وأشترط فأعتقها"، البيع جائز والشرط باطل. ثم أتيت ابن شبرمة فأخبرته فقال: لا أدري ما قالا حدثني مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله قال: "بعت النبي صلى الله عليه وسلم ناقة وشرطت حملانها إلى المدينة"، البيع جائز والشرط جائز" [6] . وسبب الاختلاف بين الأئمة معروف مشروح في أكثر من كتاب ومن أحسن من ألّف في ذلك وبسط القول فيه شيخ الإسلام ابن تيمية في رفع الملام عن الأئمة الأعلام، ومحمد بن عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي الأندلسي المتوفي سنة 521هـ في كتابه الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين..
وملخص هذه الأسباب:
1 ـ عدم بلوغ النص للإمام.
2 ـ الاختلاف في قبول الحديث من ناحية الإسناد واختلاف أصولهم في ذلك.
3 ـ اختلافهم في كونه منسوخاً أو لا.
4 ـ اختلافهم في فهم المراد من النص.(7/442)
هذا مع أنه ينبغي أن نعلم أن الألفاظ العربية تختلف معانيها ومدلولاتها فيكون لها في بعض الأحيان معانٍ مشتركة وأوجه مختلفة واستعمالات متعددة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بجوامع الكلم، يفصل أحياناً ويجمل أحياناً، وكذلك القرآن، وربما سكتا عن مسائل كثيرة وتركا تفصيلها لاجتهاد المجتهدين فيُعلم أن فيها سعة من جهة النظر، وفيها مجال للاجتهاد..
المسألة الرابعة:
ينبغي أن نعلم أنه كانت هناك مدرستان للسلف واتجاهان في طريقة تحمل العلم وتبليغه: الأولى مدرسة المحدّثين، والأخرى مدرسة الفقهاء، قال ابن القيم في التعريف بهاتين المدرستين [7] : العلماء منقسمون إلى قسمين: حفاظ الحديث وجهابذته القادة الذين هم أئمة الأنام وزوامل الإسلام الذين حفظوا على الأمة معاقد الدين ومعاقله وحموا من التكدير والتغيير موارده ومناهله حتى ورد من سبقت له من الله الحسنى تلك المناهل صافية من الأدناس لم تشبها الآراء تغييراً، ووردوا فيها عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً..
وفقهاء الإسلام: من دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام الذين خُصّوا باستنباط الأحكام وعنُوا بضبط قواعد الحلال والحرام فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء بهم يهتدي الحيران في الظلماء وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأََمْرِ مِنْكُمْ} قال ابن عباس: "أولو الأمر هم العلماء". اهـ.(7/443)
قلت: فالمحدّثون اشتغلوا برواية السنة ونقد الأسانيد ومعرفة الرجال فحفظوا بذلك هذا الأصل العظيم مما داخله من دسائس الوضاعين وغفلات الصالحين، وتخصصهم بهذا الشأن وتفرغهم له شغلهم عن الاستنباط والفقه ولذلك تجد مشاهير المحدثين كابن معين وابن أبي حاتم والبخاري ومسلم وغيرهم مقلين في مجال الفقه..
والفقهاء اشتغلوا بدراسة النصوص وفحص معانيها واستخراج عللها ومراميها، والجمع بينها أو الترجيح، ومعرفة ناسخها ومنسوخها ووضعوا الأصول والقواعد التي بها تُفهم النصوص وتُستخرج الأحكام ويعرف الحلال والحرام، وانتصبوا للفتوى فأكثروا منها، وتعرضوا للقياس والتفريع فتوسعوا فيهما، فصارت لهم بذلك مذاهب متكاملة، ومناهج متمايزة، واشتهرت منها المذاهب الأربعة التي تعتبر كل واحدة منها مدرسة مكتملة المنهج بأصولها وقواعدها وفروعها..
وتخصص الفقهاء بهذا الشأن وتفرغهم له شغلهم عن الرواية والإسناد فكانوا في الغالب مقلين فيها، وقلما تجد إماماً جمع بيت التوسع والتبحر في مجالي الرواية والفقه كما يقال في الإمام أحمد رحمه الله.
أما أبو حنيفة فقد كان مقلاً في الراوية، إلا أن ذلك لا يعني عدم حفظه للحديث إذ ما جاء بالفقه إلا من النظر في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما شُغل بالاستنباط عن رواية ما بلغه من الحديث، ومن تتبع عناية هذا الإمام بالأدلة عرف ذلك..(7/444)
هذا إذا عرفنا أنه كان بالكوفة والبصرة زمن أبي حنيفة أكثر من مائة وعشرين صحابياً، وإذا عرفنا انه أخذ وسمع من أكثر من أربعة وسبعين من المحدثين والفقهاء عدّ منهم الحافظ المزي عدداً ومن أشهرهم: طاوس بن كيسان، والشعبي، وعبد الله بن دينار، وعبد الرحمن بن هرمز، وعطاء، وقتادة بن دعامة السدوسي، والزهري، وهشام بن عروة وغيرهم، وإذا عرفنا أيضاً أنه كان من تلاميذه كبار المحدثين والحفاظ كعبد الله بن المبارك، وأبي يوسف، وزفر بن الهذيل وغيرهم: تيقنا أن مذهبه كان نابعاً من الأثر، ومستقياً من السنة بواسطة هذه الروافد..
روى ابن أبي رزمة أنه كان إذا قدم الكوفة أحد من المحدثين يقول أبو حنيفة لأصحابه: "انظروا هل عنده من الحديث شيء ليس عندنا؟ " [8] .
فمن يتصور مع هذا أن أبا حنيفة فقيه لا يحفظ الحديث [9] وكيف يصير الرجل إماماً في الفقه وهو ليس بحافظ للحديث.. لذلك ترى المحدثين مثل أبي داود وابن حجر لما ترجما لأبي حنيفة ـ وفيه دارت الأقاويل ـ اكتفيا بالإشارة إلى إمامته فقال أبو داود: "أبو حنيفة إمام"، وقال ابن حجر: "أبو حنيفة الإمام المشهور".
المسألة الخامسة:(7/445)
على كل متعلم أن يعلم أن رواية الحديث يجب أن ينضم إليها الفقه ومعرفة اختلاف الصحابة والتابعين والأئمة المرضيين وإلا ما استطاع أن يدرك شيئاً من الأحكام، لأن المعنى الظاهر وحده ليس هو الفقه، بل الفقه في الاستنباط ومعرفة المقاصد والعلل، والناسخ والمنسوخ بجميع أنواعهما، ولذلك كما سبق في المسألة الرابعة كان كثير من كبار المحدثين وعظماء الحفاظ غير مشهورين بالفقه مع شهرتهم في علم الحديث وروايته، وشأن العلماء المنصفين الاعتراف لأهل كل اختصاص باختصاصهم فهذا الشافعي رحمه الله يبين هذه الاختصاصات فيقول [10] : "من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة كان أبو حنيفة ممن وفق له الفقه، ومن أراد أن يتبحر في الشعر فهو عيال على زهير بن أبي سلمى، ومن أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق، ومن أرد أن يتبحر في النحو فهو عيال على الكسائي، ومن أراد أن يتبحر في التفسير فهو عيال على مقاتل بن سليمان". اهـ.
وقال ابن الماجشون: "كانوا يقولون لا يكون إماماً في الفقه من لم يكن إماماً في القرآن والآثار ولا يكون إماماً في الآثار من لم يكن إماماً في الفقه. فانظر كيف توهم قوم بعد ذلك أن الاشتغال بالرواية يكفي لمعرفة الأحكام وكيف فصلوا بين الفقه والأثر".
يجب على المتعلم مع الاشتغال بالحديث والرواية أن يعرف مذاهب الفقهاء واختلافهم حتى يكسب ملكة الاستنباط..
قال صلى الله عليه وسلم: "رب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه". فبين بذلك أن الحديث فقه وأن مجرد حمله لا يعني كون حامله فقيهاً..(7/446)
والناس يتفاوتون في الفقه نتيجة لاختلافهم في الأفهام، والفقه هو الفهم فبعض الأئمة في الجملة أفقه من بعض وبعضهم في مسألة أفقه من بعض ومن أفقه الأئمة أبو حنيفة إن لم يكن أفقههم، روي عن ابن المبارك قوله: "إن كان الأثر قد عرف واحتيج إلى الرأي فرأي مالك وسفيان الثوري وأبي حنيفة. وأبو حنيفة أحسنهم وأدقهم فطنة وأغوصهم على الفقه وهو أفقه الثلاثة" [11] . وإليك مثالاً يبين لك كيفية تفاوت الفقهاء في فهم المسألة الواحدة:
روي عن إسماعيل بن حماد قال: شككت في طلاق امرأتي فسألت شريكاً فقال: "طلقها وأشهد على رجعتها"، ثم سألت سفيان الثوري فقال: "اذهب فراجعها فإن كنت قد طلقتها فقد راجعتها"، ثم سألت زفر بن الهذيل فقال لي: "هي امرأتك حتى تتيقن طلاقها"، فأتيت أبا حنيفة فقال: "أما سفيان فأفتاك بالورع وأما زفر فأفتاك بعين الفقه وأما شريك فهو كرجل قلت له: لا أدري أصاب ثوبي بول أم لا؟ فقال لك: بُلْ على ثوبك ثم اغسله".اهـ
فينبغي على كل متعلم أن يعتني بمعرفة الوجوه المختلفة والاستدلالات ويطلع على اختلاف المذاهب ولا يكتفي بوجه واحد أو يعتمد على عالم واحد فإن مثل من يعتمد على عالم واحد مثل الذي له امرأة واحدة إن حاضت بقي [12] وهذا هو المقصود من قول الأئمة بأن من لم يعرف الخلاف لم يشم رائحة الفقه.
المسألة السادسة:
طبقات الناس بالنسبة للعلم وعدمه ثلاثة كما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق".(7/447)
أما العلماء الربانيون فهؤلاء هم المجتهدون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في كل زمان ومكان، بهم يقوم الدين، وهم وسيلة المسلمين إلى معرفة الأحكام وفهم الحلال والحرام وليس لنا مطمع في معرفة الشرع بدونهم ولا في إدراك الكتاب والسنة بغير واسطتهم فتلك مزية كانت للصحابة وليست لغيرهم [13] . فلا بُد لكل من أراد أن يفهم الشرع ويدرك علم الكتاب والسنة أن يتوصل إلى ذلك بهم، وكلما كان هؤلاء المجتهدون إلى زمن الصحابة أقرب كان الصواب لديهم أغلب.
فالمجتهدون من التابعين لا بدّ أن يعرفوا مذاهب الصحابة ولا يتجاوزونها والمجتهدون من تابعي التابعين لا بد أن يعرفوا مذاهب الصحابة والتابعين وهكذا دواليك حتى إذا وصلنا إلى مجتهدي زماننا قلنا: لا بد أن يعرفوا مذاهب جميع السلف الذين يعتد بمذاهبهم..
ألا ترى أبا حنيفة رحمه الله يقول: "إذا لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بقول أصحابه آخذ بقول من شئت وأدع قول من شئت ولا أخرج من قولهم" [14] .
وكل من خالف السلف فيما ذهبوا إليه وأجمعوا عليه أو جاء بما لم يذكروه أو يشيروا إليه اعتبروه شاذاً لا يؤخذ قوله ولا يعتد برأيه..
وما من مسألة إلا وفي الشريعة حكمها إما على وجه العموم أو على وجه التفصيل وما علينا فيما يجدُّ علينا من أمور إلا أن نقيس النظائر والأشباه ونَرُدَّ الفروع إلى الأصول ونستعين باجتهاد السلف وآرائهم..
قال محمد بن الحسن: "العلم على أربعة أوجه: ما كان من كتاب الله الناطق وما أشبهه، وما كان في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أشبهها، وما كان فيما أجمع عليه الصحابة رحمهم الله وما أشبهه، وكذلك ما اختلفوا فيه لا يخرج عن جميعه فإن أوقع الاختيار فيه على قول فهو علم تقيس عليه ما أشبه وما استحسنه عامة فقهاء المسلمين وما أشبهه وكان نظيراً له" [15] .(7/448)
قلت: والعلماء الربانيون هم أهل الذكر الذين ذكرهم الله عز وجل في كتابه فقال: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .
وهم أهل الاستنباط الذين ذكرهم فقال: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} النساء ـ 83.
وليس كل متعلم يقدر على الاستنباط حتى يملك أدواته ويحصل ملكته قال ابن القيم رحمه الله:
"الاستنباط استخراج الأمر الذي من شأنه أن يخفى على غير مستنبطه ومنه استنباط الماء من البئر والعين ومن هذا قول علي بن أبي طالب وقد سئل: "هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ ". قال: "لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه". ومعلوم أن هذا الفهم قدر زائد على معرفة موضوع اللفظ وعمومه أو خصوصه فإن هذا قدر مشترك بين سائر من يعرف كلام العرب" [16] .
قلت: أما المتعلم على سبيل النجاة الذي لم يبلغ درجة الاستنباط فيتبع العلماء ويتأمل أقوالهم وفتاويهم، ويشتغل بالترجيح بين أدلتهم إن كان من أهل الترجيح وإلا اتبعهم فيما ذهبوا إليه ولا ينتظر حتى يبلغ درجة ما، إذ لا مفر من أن يلتزم المتعلم أحد المذاهب المشهورة المعتد بها التي اعترفت بها الأمة تكون كمنطلق له في دراسته للشرع الحنيف، فيعتني بمعرفة أصول هذا المذهب وفروعه، ويعتني بالأدلة ويحترس من التقليد لأنه شأن العوام، ويحذر من التعصب فإنه من طبائع أهل البدع والأهواء.
ولا ينبغي للمتعلم أن يبقى طليقاً يتتبع الرخص والشواذ ويخبط في الأحكام على غير بصيرة وعلم، فإن ذلك خطر جسيم عليه وعلى الناس إن كان يُفتي لهم..(7/449)
ولكل متعلم أن يقلد في المسائل التي قصرت همته عن بحثها أو خفيت عليه يقلد من قبله من علماء السلف المرضيين أو الإمام الذي التزم مذهبه وذلك حتى يتضح له الدليل، ولا مفر من ذلك لأنه لا يمكنه أن يكف عن العمل في كل مسألة حتى يتضح أو يترجح في ذهنه القاصر فيها علم.. وما رأيت أحداً من أهل العلم إلا وهو مقلد في بعض المسائل شعر بذلك أم لم يشعر لأنه ليس بمقدور أحد أن يجتهد في كل مسألة.. لو تتبعت أخبار السلف لوجدتهم يعتمدون ويلجأون في المسائل التي تخفى عليهم إلى من هو أفقه منهم ممن سبقهم أو عاصرهم والشيء المحذور هو التعصب الذي يعمي قلب صاحبه عن النظر ويمنعه من اتباع الحق [17] . أما العوام فيقلدون أهل العلم الموجودين بينهم وليس لواحد منهم أن يلتزم مذهباً أو يدعي الانتماء إلى أحد..
لكن بتأمل معنى ـ العامية ـ نجد أنها على نوعين: فهناك العامي المطلق وهم الدهماء الذين لا يملكون من أدوات العلم شيئاً أو هم الجهال فهؤلاء يقلدون المفتين..
وقد ذكر العلماء أنه عند عدم المفتي المجتهد الذي يطمئن الإنسان إلى علمه وورعه له أن يقلد لنفسه ولا يفتي بما قلد.
وهذا هو الحق إن شاء الله وإلا لوقع الناس في أحد أمرين:
1 ـ في الحرج والشدة إذا كلفنا كل مسلم أن ينظر في الأدلة ويجتهد فيتخبط الناس في الأحكام ما بين محل ومحرم ويجترئون على الفتوى والاجتهاد بغير علم ولا بصيرة، ويغلبهم علم الاختلاف فيضلون لعدم معرفتهم لطريقه وإدراكهم لأسراره أو قدرتهم على الغوص في بحاره..
2 ـ أو يترك الناس العمل بكثير من الأحكام ويهملونها، تحت وطأة وهم الانتظار حتى يترجح الدليل وتتضح الآثار.. ونتيجة لعدم المبالاة بما ذهب إليه السلف وقاله العلماء..
المسألة السابعة:(7/450)
وذكر العلماء أن الفتوى والاجتهاد درجة من العلم ينبغي أن تكون موجودة في كل زمان ومكان في أمة محمد صلى الله عليه وسلم حتى تقوم الحجة بالدين، ويستقيم أمر المسلمين، والله عز وجل يقيض في كل عصر من يفصل الأحكام الشرعية ويستنبط للحوادث من الكتاب والسنة ويرد الفروع إلى الأصول.
ولو تتبعت عصور الإسلام لوجدت في كل عصر مصداق ذلك، ولوجدت أنه في الأزمان التي كان الاجتهاد فيها مزدهراً كانت تعتبر عصور العلم الذهبية التي يبلغ المسلمون فيها أوج قوتهم ونهضتهم، وفي العصور التي غلب عليها الكسل وتعطل فيها الاجتهاد كانت تعتبر عصور الانحطاط المظلمة، والتخلف العلمي، ولك أن تلحظ ذلك بعين المشاهدة فيما صنف في هذه العصور من متون وشروح وحواش..
لكن ما هي الأدوات التي تؤهل المتعلم لهذه الدرجة العظيمة، ومتى يجوز له الانتصاب لها وادعاؤها، فلننظر إلى السلف ماذا قالوا:
1 ـ الأثر: قالوا لا بُد أن يتضلع منه بأكبر قدر ممكن، ومن حدده بخمسمائة حديث أو بأكثر أو بأقل فإنه لم يدقق في المسألة وإنما أراد أن يضرب مثلاً يقرب الأمر إلى الأذهان، وقد سئل الإمام أحمد: "إذا حفظ الرجل مائة ألف حديث يكون فقيهاً؟ ". قال: "لا". قيل: "فمائتي ألف؟ ". قال: "لا". قيل: "فثلاثمائة ألف؟ ". قال: "لا".. ولعل الإمام أحمد رحمه الله أراد الإشارة إلى أمرين: أحدهما أن حفظ الحديث وحده لا يعني الفقه والقدرة على الفتوى، والآخر أنه يجب على الفقيه المفتي أن يحتاط لنفسه ولا يستهين بهذا الشأن العظيم.
2 ـ الرأي: لا بُد أن يتفقه بمذاهب أهل الفقه ويطلع على آرائهم قال علي ابن شقيق: "سمعت ابن المبارك يُسأل: "متى يسع الرجل أن يفتي؟ "قال: "إذا كان عالماً بالأثر بصيراً بالرأي" [18] .
3 ـ وعليه أن يلم بعلوم الشريعة وقواعدها التي تنبني عليها ولا تفهم الأحكام بدونها فمثلاً:(7/451)
قال الشافعي: "لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفاً بكتاب الله، بناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، ويعرف من الحديث ما عرف من القرآن، ويكون بصيراً بالشعر بصيراً باللغة وما يحتاج إليه من السنة والقرآن ويستعمل مع هذا الإنصاف ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار وتكون له قريحة بعد هذا، فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي" [19] .
وقال أحمد بن حنبل: "ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالماً بوجوه القرآن عالماً بالأسانيد" [20] .
وقال يحيى بن أكثم: "ليس من العلوم كلها علم أوجب على العلماء والمتعلمين وعلى كافة المسلمين من علم ناسخ القرآن ومنسوخه".
وروى ابن سيرين عن حذيفة أنه قال: "إنما يفتي الناس أحد ثلاثة: من يعلم ما نسخ من القرآن، أو أمير لا يجد بداً، أو أحمق متكلف". قال ابن سيرين: "فلست بواحد من هذين ولا أحب أن أكون الثالث" [21] .
قال ابن القيم رحمه الله: "مراده ومراد السلف بالناسخ والمنسوخ رفع الحكم بجملته تارة وهو اصطلاح المتأخيرن، ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة إما بتخصيص أو تقييد أو حمل مطلق على مقيد وتفسيره وتبيينه حتى إنهم ليسمون الاستثاء والشرط والصفة نسخاً". اهـ.
قلت: وينبغي على كل متعلم أن يعلم أن مرتبة الفتوى لم تكن لجميع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم مع أن جميعهم في اللغة أفصح من فصحاء عصرنا، هذا مع كونهم امتازوا بالصحبة وبمشاهدة التنزيل إنما كان المشهور بالفتوى منهم سبعة، وكان هناك متوسطون ومقلون في الفتوى ومجموع أهل الفتوى منهم مائة ونيف وثلاثون نفساً.. كما فصل ذلك الحافظ ابن القيم رحمه الله في كتابه العظيم إعلام الموقعين.(7/452)
فعلى كل من رشح نفسه ووطد عزمه على النظر في الأحكام ومعرفة الحلال والحرام، وعلى الانتصاب للفتوى والاجتهاد، أن يُعِدَ هذه الأدوات ويحصل هذه المؤهلات، ويشمر عن ساعد الجد، ويشحذ العزيمة ويسهر الليالي.. ويسأل ربه عز وجل على الدوام أن يجعل له نوراً، فإن العلم نور يقذفه الله في القلب كما قال الإمام مالك رحمه الله:
"إن العلم ليس بكثرة الرواية ولكنه نور يجعله الله تعالى في القلوب". وإنما سطرت هذه الأسطر في هذا الشأن الخطير والأمر العظيم بقصد استنفار الهمم لعلم الشريعة والفقه، ولفت الأنظار إلى المصدرين الأساسيين لذلك الكتاب والسنة، وتنبيه الأفكار لطريقة الورود والاستقاء، والأخذ والإعطاء.
وبعد ذلك كله الشفقة على نفسي وعلى المتعلمين من أن ينطبق على حالنا قول إمامنا الأعظم صلى الله عليه وسلم:
"إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلماء حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" [22] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] متفق عليه.
[2] متفق عليه.
[3] رواه البخاري.
[4] ابن ماجه وأبو داود وأحمد والدارمي والدارقطني.
[5] الفتاوى 20 ـ 250.
[6] رواه الطبراني وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4ـ84 وقال: طريق عبد الله بن عمرو فيها مقال وذكره السيوطي في تبييض الصحيفة في مناقب أبي حنيفة ط حيدر آباد 1380: 40 قال: رواه الطبراني في الأوسط قال حدثنا عبد الله بن أيوب القزي ثنا محمد بن سليمان الذهلي ثنا عبد الوارث بن سعيد.
[7] إعلام الموقعين 1ـ9.
[8] تبييض الصحيفة في مناقب أبي حنيفة للسيوطي.
[9] وقد عده بعض المحدثين كالذهبي من كبار الحفاظ كما أن بعض المحدثين طعن في حفظه.(7/453)
[10] الانتقاء لابن عبد البر: 31.
[11] تاريخ بغداد 3 ـ 343.
[12] جامع بيان العلم 1 ـ 130.
[13] إعلام الموقعين.
[14] الانتقاء لابن عبد البر: 142.
[15] إعلام الموقعين 2 ـ 26.
[16] إعلام الموقعين 1 ـ 228.
[17] راجع كلام ابن القيم في طبقات المفتين في إعلام الموقعين 4 ـ 270.
[18] جامع بيان العلم لابن عبد البر 1 ـ 31.
[19] الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي.
[20] إعلام الموقعين 1 ـ 36.
[21] نفس المصدر.
[22] رواه البخاري.(7/454)
علم القرآن هو الأعلى
للشيخ محمد يوسف
أمير الجماعة الإسلامية في الهند
لقد صدق النبي الأمي معلم الأخلاق صلوات الله وسلامه عليه حيث قال: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" وإن العلم المراد بهذا الحديث الشريف هو العلم الأعلى الذي أعطاه الله عز وجل نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين ليخرجوا البشرية من الظلمات المتراكمة بعضها فوق بعض إلى النور المبين. وهذا العلم الأشرف لا يوجد إلاّ في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو وحيد في عصره فريد في نوعه ليس له مثيل. وكيف لا يكون كذلك وهو من لدن حكيم خبير، وقول الله يشهد لذلك: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُون} .
إنه علم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. علم أوفى منزلة وأتم شأناً من جميع العلوم البشرية. وإنما نقول لبعض أتباع الغرب وتلامذتهم إن العلم الذي يتلقاه الإنسان بعد المشاهدة والتجربة لهو أجدر بالاتباع والأخذ من العلم الذي تقوم أسسه على الغيبيات وما وراء الطبيعيات الذي أنزله الله من فوق سبع سماوات. ولا يعرفون أن الله يعلم ما توسوس به أنفسهم وهو بكل شيء محيط.
{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .
كتاب الله أفضل الكتب:
إن كتاب الله العظيم: القرآن الكريم أفضل الكتب وأصح الكتب، وإنه شفاء لما في الصدور والحل الوحيد للمشاكل البشرية والمعضلات الإنسانية: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} وإنه لهدى للمتقين. ولولا هذا العلم الأعلى لكان الناس كلهم منغمسين في الضلال الذي يؤدي بهم إلى الهلاك والدمار.(7/455)
ومما يبعث على الأسف أن الإنسان يجهل منزلة العلم وقدره، ومما يزيدني أسفاً وحزناً أن بعض المسلمين يهتمون بأقوال المستشرقين أكثر مما يهتمون بمبادئ القرآن والحديث النبوي الشريف. ولقد قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} .
والعجب كل العجب أن كثيراً من المسلمين لا يعرفون الحقيقة الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار أن الأمة الإسلامية هي فريدة في وراثة هذا العلم الأشرف الأفضل. وكل مؤمن يؤمن بأن كتاب الله أفضل الكتب وأصح الكتب لكن مع الأسف الشديد أن كثيراً منهم لا يعرفون ولا يدركون قدر هذا العلم ولا يحثون أولادهم على تلقي هذا العلم الذي لهم فيه خير الدنيا والآخرة.
وقد صدق الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام حيث قال: " {إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} " [1] وقد صدق عليه السلام حينما قال: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه". ولم يقل بأن خيركم من تعلم علوم الدنيا وعلّمها.
وإن تحصيل علم الدين من وظائف الأنبياء فطوبى لمن يتعلمه ويُعلّمه. وطوبى لمن يتدبر القرآن ويتذكره مصداقا لقوله تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} .
والحق أن الذين لا يؤمون بما أنزل الله أولئك هم السفهاء ولو زعموا أنهم من أولي الألباب بما عندهم من علم النفس والكيمياء والفيزياء والبيولوجيا والجيولوجيا والتكنولوجيا وغيرها من العلوم الحديثة المعاصرة.
وجدير بالذكر أن الكفار يعترفون بجهلهم وسفاهتهم يوم القيامة. وقول الله تعالى يشهد لذلك إذ يقولون: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} .(7/456)
إن تعلم العلوم الحديثة ليس ممنوعاً في الإسلام لكن الخضوع لهذه العلوم وترجيحها على العلوم الدينية ممنوع بتاتاً في الإسلام، بل المطلوب من رجال الدعوة أن يتعلموا لغات شتى كتابة ونطقاً لأنها من كبرى الوسائل لنشر الدعوة الإسلامية إلى الناس كافة.
كم أتمنى أن يزور وفد من الجامعة الإسلامية تلك المدرسة النموذجية التي أسستها الجماعة الإسلامية في الهند في مقرها الأول عام سبع وستين وثلاثمائة وألف والتي زارها في العام الماضي سعادة السفير السعودي في الهند الأستاذ أنس يوسف ياسين، ولقد أنشئت على نمطها عدة مدارس في الهند تحت إشراف الجماعة الإسلامية منها جامعة الفلاح ببلرياكنج والكلية الإسلامية في شانتا بورم في كيرالا ودار الهدى في كريم نكر حيدر أباد، وإني أتشرف بدعوة أهل الجامعة ليلاحظوا كيف تدرس في هذه المدارس العلوم الدينية والعلوم الحديثة وفقاً لوجهة النظر الإسلامي.
البون الشاسع بين الحضارة الإسلامية والجاهلية الغربية:
هذه حقيقة واضحة.. إن التي تسمى حضارة غربية ليست حضارة بل هي جاهلية غربية، وهي تتنافى بكل خطوة مع ديننا وعقيدتنا وأخلاقنا ومنهج حياتنا، فإنها غير صالحة، وأساسها قائم على الإلحاد واللادينية والمادية والإباحية، وإنها تحل ما حرّم الله وتحرم ما أحل الله.
إن الحضارة الغربية تزعم أن أصل الإنسان من القرد ولذا لا تنظر إلى الإنسان كإنسان ولا تحترمه حق احترامه ولا تمنحه الحقوق الإنسانية الأساسية المقدسة، فهذا برلمان بريطانيا أباح عمل قوم لوط فهل بعد هذا يريد الراغبون في هذه الحضارة أن يمشوا على منوالها، ويبنوا مجتمعهم وشعبهم وحكوماتهم على أسسها الدنسة.
أريد أن أنبه الشباب الإسلامي والطلبة الأعزاء إلى خطر هذه الحضارة ودسائسها على الأمة الإسلامية.(7/457)
لقد نشأت في زماننا طائفة ترجح الحضارة الغربية على الإسلامية وتعتقد أن كل شيء في الدين عسر معارضةً قول الله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدين يُسر".
ويقول هؤلاء المنحرفون أن العبادات كلها غير نافعة فإن الصوم مضر للصحة والحج مضر بكيان الدولة الاقتصادي.. معنى هذا أن القرآن لا يهدي إلى الفلاح.. نعوذ بالله من ذلك. وينسى هؤلاء أن العرب لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من الرقي والازدهار في جميع ميادين الحياة إلاّ بعد اعتناقهم الإسلام، والغرب تعلّم واستفاد كثيراً من الإسلام وأهله.
لسنا عبّاد الشرق ولا الغرب بل نحن عبّاد المليك المقتدر الذي لا شريك له في الملك فلسنا بحاجة إلى أن نتبع الذين غرتهم الحياة الدنيا ونترك الحضارة والثقافة الإسلامية التي عَلَّمَنَاها الله عز وجل برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
وإن هناك بعض الأشياء التي شاهدتها أثناء وجودي في المملكة أن بعض الناس حين يلتقي بعضهم ببعض يقولون صباح الخير أو مساء الخير كما يقول الإنجليز
Good morning" " أو" Good evening "مع أن طريق السلام المسنون هو (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) وإذا سأل بعضهم بعضاً كيف حالك يقول:" o.k "ولا بأس أن يقولوا: " o.k. "بعد الحمد لله ولكن هؤلاء نسوا الله في كلامهم، فيجب علينا أن لا نكون كما قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الحشر ـ 19.
الموسيقى والغناء والمزامير:
إذا كان الإنسان غافلاً عن ذكر الله استولى عليه الشيطان، ومما يبعث على الأسف الشديد أن شبابنا المسلمين أصبحوا يميلون إلى الغناء والموسيقى والرقص، وإن هذا يلهيهم عن ذكر الله.(7/458)
ورأيت في المملكة أن بعض سائقي السيارات مولعون بسماع الغناء والموسيقى وبعضهم يمتنعون عن سماع الأغاني عند ما يصلون إلى الحرم ويقولون هذا حرام هنا ولا يدرون أنه حرام في كل زمان وفي كل مكان، ومن الناس من يسمع القرآن والحديث على موجات الراديو ويسمع الغناء والموسيقى في وقت آخر، مثلهم كمثل الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر شيئاً.
إن مشاكل أمتنا الإسلامية كثيرة فإننا فقدنا عزنا ومجدنا وابتلينا بالذل والهوان في كل مكان ففي مثل هذه الظروف إذا ابتلينا بسماع الأغاني والموسيقى يكون مثلنا كمثل نيرون الذي أصبح مثلاً في هذا الشان، إذ يقال عنه:
Neron was Fiddling While Rome Was Burning.
يعني: (نيرون كان يستمتع بالموسيقى حينما كانت روما تحترق) ، وها هي ذي إسرائيل أحرقت القدس وشبابنا لاهون بالغناء والموسيقى والرقص، إن هذه الأشياء لا تليق بأمة مجاهدة لخير أمة أخرجت للناس، وظيفتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لباس التقوى ذلك خير:
إن المولعين بالحضارة الغربية تركوا لباس التقوى واختاروا لباس الفسق والفجور وكثير من الرجال والنساء يلبسون لباس المسلمين لكنهم لا يمنعون أولادهم وبناتهم عن لبس لا تجيزه الشريعة الإسلامية بأي حال من الأحوال، لأن ستر العورة في كل حين ضروري ولا تجوز الصلاة في لباس يجعل صاحبه شبه عار، ولباس الفسق والفجور يسوق إلى فتوق كثيرة في المجتمع وهي لا تخفى على صاحب بصيرة.(7/459)
ولا يجوز للمرأة اتخاذ الألبسة مثل الميني جوب والشورت وغيرها، التي تكشف عن العورات، ولا يجوز للنساء أن يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى أن يلبسن لباس الفحشاء الذي اخترعته الجاهلية الحديثة، ولقد نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن تشبه الرجال بالنساء وبالعكس وأوعد من يفعل ذلك. لكن المولعين بالحضارة الغربية لا يبالون بهذا كله، وليتهم كانوا يعلمون أنهم سيذهبون إلى قبورهم بلباس غير فاخر ولا طِبْقاً للزي الحديث، فاعتبروا يا أولي الأبصار..
التدخين:
والتدخين أيضاً مما جاءت به الحضارة الغربية والعجب كل العجب أن كثيراً من العرب والمسلمين رجالاً ونساءً أخذوا بالتدخين. والتدخين أصبح شائعاً في المجتمع بشكل غريب، رغم أن مضارها كثيرة والدليل على ذلك ما اكتشفه فريق من الأطباء الألمان في شهر ديسمبر عام سبعين أن حوالي أربعين بالمائة من المدخنين يموتون بسبب أمراض ناتجة عن التدخين، ومن المعلوم أن التدخين يؤذي الملائكة والمصلين وقد نهى عليه الصلاة والسلام آكل البصل أن يقرب المسجد ـ فقس على ذلك ـ والتدخين فيه إسراف وتبذير والله عز وجل نهى عن الإسراف بقوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} .
وقال تعالى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً. إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} .
وقبل أن أختتم هذه الكلمات أود أن أستشهد بما قاله نلسون روك فيلر حاكم ولاية نيويورك في خطابه الذي ألقاه في شهر يناير عام 71م: "إن الولايات المتحدة تمر الآن بأزمة روحية لا يمكن تجاهلها أو إنكارها".(7/460)
ومما يتضح من هذا الكلام أن المادية مسيطرة على الحضارة الحديثة سواء في أمريكا الرأسمالية أو روسيا الشيوعية. فإن جميع الأديان المنحرفة والأفكار الهدامة من مولدات الحضارة الحديثة، ويتضح من كلام روك فيلر أن الحضارة المعاصرة ليس بإمكانها أن تنقذنا من الورطة التي نحن فيها الآن.
فإننا نواجه اليوم قوة أشد مكراً وخدعة، هذا في جانب وفي جانب آخر فهي مسلحة بأحدث وأجود أنواع الأسلحة الذرية والنووية وبجانبها شعب لا مثيل له في تدبير المؤامرات والدسائس فإذا تمسكنا بالحضارة الغربية الحديثة فلن تكون هناك فوارق بيننا وبين إسرائيل من ناحية الانحراف الحضاري والخلقي وعندئذ لن نكون جديرين بنصر الله في وجه إسرائيل.
أما إذا طبقنا الشريعة الإسلامية الغراء وأحكامها في جميع مجالات حياتنا وبجانب هذا تعلمنا العلوم الحديثة وتقدمنا فيها ودربنا أنفسنا على الأسلحة الجديدة وفوق هذا كله توكلنا على الله حق التوكل فقد استوفينا جميع الشروط ليتحقق لنا النصر من الله القوي العزيز.
وأخيراً أدعو الله سبحانه وتعالى أن يؤيدنا بنصر من عنده ويكون العز والنصر حليفنا وحليف أمتنا الإسلامية، وتكون كلمة الله هي العليا وينسحب العدو من جميع الأراضي المقدسة ويعود إلى حياته الأولى حياة التيه..
أسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين..
--------------------------------------------------------------------------------
[1] هذا من كلام الله يرويه سبحانه عن لسان رسوله.(7/461)
الإسلام في سيراليون
بقلم الشيخ أحمد صالح محايرى
خريج كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية
ومبعوث دار الإفتاء السعودية إلى سيراليون
جغرافية سيراليون:
قام الرحالة البرتغالي المشهور داسنترا برحلة بحرية عام 1640م. فوصل إلى ساحل بحري ارتفعت فيه بعض الجبال وكثرت فيه الغيوم المطيرة وومضات البرق وأصوات الرعد الشبيهة بزئير الأسد فأطلق على هذه المنطقة سيراليون التي تعني بلغته جبال الأسد. وحددت فيما بعد ما بين خطوط العرض 10، 6، 55 شمالاً، وخطوط الطول13، 10، 50 غرباً. ويحدها غرباً وجنوباً المحيط الأطلسي، وشرقاً ليبريا وجزء من غينيا وشمالاً غينيا.
مساحة سيراليون نحو (27925) ميلاً مربعاً، وعدد سكانه ثلاثة ملايين نسمة ينتمون إلى عدة قبائل أهمها وأكبرها عدداً قبيلة التمني فاللمبا فالمندي فاللوكو الخ … وأما مناخه فاستوائي ذو فصلين متساويين فصل الأمطار وفصل الجفاف. معدل الرطوبة فيه 80 % استقلت سيراليون من الاستعمار البريطاني عام 1961م وأعلنت عن جمهوريتها عام 1971م.
نسبة المسلمين في سيراليون:(7/462)
تزداد نسبة المسلمين في سيراليون بشكل مستمر وسريع ففي عام 1920 ميلادية لم تكن نسبة المنتمين إلى الإسلام تتجاوز 40./. من سكانه أما اليوم فقد بلغت نسبتهم أكثر من 75 % وقد صرح بهذه النسبة السيد وزير الشئون الإجتماعية السيراليوني في احتفالات إسلامية أقيمت في مدن فريتاون وكينما، وبو، ومكيني بسيراليون عام 1972م. كما كشف الوزير عن وجود نسبة قليلة من المتنصرة لتلقيها العلوم في المدارس التبشيرية النصرانية. ويشهد الإحصاء الرسمي الذي أجري قبل عدة سنوات في سيراليون بثبوت نسبة المسلمين التي صرح بها السيد الوزير إذ تبين من خلاله رسمياً أن نسبة المسلمين تترواح ما بين 70ـ75 % من مجموع سكان سيراليون. والحقيقة أن المسلمين يشكلون أكثر من 80./. من مجموع السكان فيه.
تاريخ دخول الإسلام إلى سيراليون:
تكاد تجمع الروايات المنقولة في كتب التاريخ الحديث لأفريقيا الغربية وفي الصحف التي عنيت بسيراليون أن الإسلام كفكرة سامية مقدسة عُرفت وسمعت من أشياخ قبائل سيراليون في القرن السادس عشر الميلادي وإن لم تكن وقتئذ مطبقة كدين عقيدة وعمل والمعروف قديماً في سيراليون أن من أراد دفع تهمة عن نفسه يقول: "أنا مسلم"أي أنا لا أفعل شراً كالمسلم الذي لا يفعل شراً. ولا تزال هذه العادة منتشرة إلى اليوم في جميع الأوساط الإسلامية وغيرها.(7/463)
إن معرفة أشياخ سيراليون للإسلام بهذه القدسية وقتئذ كان بسبب وصول التجار المسلمين الصالحين من غينيا والسنغال ونيجيريا وموريتانيا إلى مدن سيراليون الساحلية واتصالهم بهم. وقد ظل الإسلام ـ كنظرية ـ مقدسة ـ باللسان ـ إلى أن قامت معارك فوتاجالو الشهيرة التي نقلت الإسلام إلى حيز التنفيذ في القرن الثامن عشر الميلادي. وسبب هذه المعارك أن اثنين وعشرين من كبار مسلمي قبيلتي الفُلاّ والمادينكا القاطنين في غينيا قاموا مع اتباعهم بقيادة (ألمامي صوري) بتعطيل طبل جماعة وثنية سيراليونية أشعلت فتنة بين المسلمين في منطقتهم الغينية. مما أسفر عن قتال نشب بين الوثنيين والمسلمين المذكورين الذين اعتبروه جهاداً مقدساً انتصروا في نهايته نصراً مؤزراً إذ طاردوا الوثنيين عبر الحدود السيراليونية الغينية التي اجتازوها إلى المدن السيراليونية الشمالية مثل: كارينا ـ فالابا ـ بورت لوكو. واستوطن كثير من المسلمين في هذه المدن وأخذوا يتصلون في المدن والقرى المجاورة للتجارة وهم يؤدون شعائرهم الدينية من صلاة وصيام وتلاوة قرآن، مما جعل بعضاً من وثَنيي سيراليون يعتقد مع الأيام دين الرجل الأسود وذلك لأن أتباعه من السود الوافدين من غينيا فلهذا السبب الجزئي، وللسبب الأول وهو أن الإسلام دين الفطرة بدأ بعض الوثنيين يقلدون المسلمين في صلاتهم وشعائرهم الدينية إلى أن توثقت الروابط بين الفئتين وأخذ الوثنيون السيراليونيون يثقون إلى حد كبير بالمسلمين وخاصة بعدما ساعد المسلمون السيراليونيون بالوقوف إلى جانبهم ضد البرتغاليين والإنكليز المستعمرين. إن هذه الثقة وهذا التلاحم وَلَّدَا انفتاحاً جديداً بين المسلمين الغينين وشعب سيراليون أسفر عن توافد مزيد من آلاف المسلمين الغينيين وخاصة من قبيلة السوسو للاستيطان في سيراليون. وبذلك صار الإسلام ينتشر في القرى والغابات السيراليونية انتشار الرائحة الزكية عن طريق هؤلاء المسلمين. كما(7/464)
صار أشياخ قبائل سيراليون كقبيلة المندي والتنمي واللمبا يعلنون عن إسلامهم ويدعون إليه رغم المغريات الهائلة التي كانت ولا زالت تقدمها المؤسسات التبشيرية النصرانية لجلب هؤلاء الأشياخ إليها.
إن التجمعات الإسلامية السريعة التي حصلت بدخول السيراليونيين إلى الإسلام أحدثت مشكلة جديدة لا تزال قائمة حتى اليوم هي مشكلة الجهل بتطبيق شعائر الإسلام. ومع أن الوافدين المسلمين إلى سيراليون من العامة الذين هم أنفسهم بحاجة إلى تعليم فقد هذبوا هذه المشكلة إلى حد ما وخاصة بعد أن اشتغل كثير منهم بتعليم الأطفال في الكتاتيب على طريقة الألواح.
إن للمسلمين دور ذهبي وهام في تاريخ سيراليون حيث عملوا جاهدين على استقلاله لأنهم يؤمنون بوجوب الجهاد في سبيل الله للذود عن العقيدة والنفس والعرض والوطن ابتغاء مرضاة الله. وكانوا في الواقع شوكة في عين الاستعمار تقض مضجعه إلى أن نالت سيراليون استقلالها 1961م ولله الحمد.
مستوى مسلمي سيراليون الثقافي:(7/465)
الثقافة الإنكليزية بلغتها وعقائدها النصرانية والمتمثلة في مئات المدارس والمؤسسات التبشيرية، والثقافة الإسلامية العربية في الكتاتيب التي فتحت في أغلب المدن والقرى السيراليونية لتعليم الأحداث قصار السور على طريقة الألواح المشهورة التي تكاد تكون الطريقة الوحيدة للتعليم الإسلامي في جميع أنحاء أفريقيا، حيث يتحلق الطلاب في أوقات معينة من النهار وفي الليل حول شعلة من نار توقد في باحة دار المعلم لحفظ ما كتبه على ألواحهم وذلك لقاء عمل يقوم به الطلاب في حقل المعلم وفي قشر الأرز والاحتطاب، وجلب الماء. يبقى طالب العلم كذلك إلى أن يتم مرحلة تلاوة القرآن بالنظر وحفظ بعض من قصار السور يمنح بعدها لقب ـ ألفا ـ فإن أراد التفرغ للعلم يبدأ مرحلة تعليمية ثانية وهي مرحلة تفسير معاني القرآن وترجمتها إلى لغته مع دراسة بعض الكتب الفقهية المالكية وعند تمام هذه المرحلة الدراسية التي تستغرق أحيانا عشر سنوات يمنح لقب ـ فودي ـ باحتفال كبير يحضره أعيان القبيلة وعلماؤها حيث تلف على رأسه عمامة ـ فودي ـ ثم يرفع كرسيه على الأعناق وهو جالس عليه لِيُطاف به في البلدة. يؤهل من منح لقب فودي لأن يكون إماماً في جماعة.
لقد استطاعت طريقة الألواح أن تلعب دوراً هاماً في تاريخ الثقافة الإسلامية بسيراليون إذ أنها على أقل تقدير نشرت في الغابات سوراً من القرآن الكريم مع بعض أحكام فقهية رغم تجردها من كل المغريات المادية التي تملكها الثقافة الثانية. وللوقوف على المستوى الثقافي بين المسلمين في سيراليون يجدر بنا أن نقف على أهم العقائد المنتشرة في سيراليون.(7/466)
إن كثافة الأدغال واتساع الغابات المجهولة في سيراليون سببا لرجل الغابة بصورة عامة إيماناً بقوة شيطانية خفية كامنة وراء الأشجار مما جعله يتصور أن لهذه الغابة ملكاً لا يخرج إلا في الليل اسمه (ديفل) أي شيطان لابدّ من محالفته خوفاً منه. فالمحالف له صاحب سلطان تدين له الجماعة بالسمع والطاعة، يتميز عنهم إذا خرج مع جماعته في المناسبات بلباسه وقناعه الغريبين. وهو الذي يقتني أصناماً وأوثاناً تؤمن جماعته بنفعها وضررها. وقد أسفر عن هذا انتشار جمعيات وثنية في المنطق النائية، وصار لكل جمعية صنم يختلف في شكله ومادته عن غيره فتارة يكون مصنوعاً من خشب فيسمى: جوجو، وتارة أخرى يكون قرن ثور مجوف فيعرف عندئذ بكارافيلو. وأحيناً يكون ودعات وضعت في زجاجة مع حبات من الأرز وقطع نقود معدنية قديمة. ومثل هذه الأصنام صارت توضع في الحقول طلباً للبركة ولحفظ الحرث، بقي الأمر كذلك إلى أن قامت حروب فوتاجالو الآنفة الذكر التي نشرت بعض معاني التوحيد فتقلصت بذلك العقيدة الوثنية وإن كانت رواسبها لا تزال عالقة إلى اليوم في صدور كثير من العامة.
إن الإسلام أدخل إلى سيراليون عقيدة جديدة هي عقيدة التوحيد والتبرك بتلاوة القرآن المجيد عوضاً عن التبرك بصنم أو وثن. لكن لحداثة السيراليونيين بالإسلام ولقرب عهدهم بالوثنية، ولانعدام التوعية الإسلامية ظهرت طائفة تحمل عقيدة مزدوجة، تؤمن بالله ورسوله، وتقوم ببعض شعائر الإسلام وتحضر الجماعات إلى جانب إيمانها بصنم توارثته عن أسلافها تؤمن بنفعه وضره وتلتجئ إليه وقت الشدة والنوازل الكبرى.(7/467)
إلا أن هذه الإزدواجية في العقيدة وتوحيد الربوبية دون الألوهية لم يعمرا طويلاً بسبب انتشار التوعية والمدارس الإسلامية. ولكن بقيت فئة إلى اليوم منتشرة في أغلب مناطق سيراليون تدعي الإسلام وتلبس لباسه تستقبل العامة وتبشرهم بخرافات مدعية على الغيب، كما تقوم لهم بأعمال سحرية مستعينة بما نقل عن كتب المخرفين أصحاب الطرق التيجانية وغيرها من جداول لجلب رزق أو دفع ضرر، كل ذلك ابتغاء رزق تناله. ولو اشتغلت هذه الفئة بإخلاص بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية الشريفة لأكلت حلالاً عوضاً عن أكل الحرام ولنالت رضا الله تعالى في توحيده عوضاً عن الإشراك به ولأنقذت نفسها من عذاب جهنم ومس سقر. ولعل هذه الفئة نسيت قول الله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} .
لله در القائل:
وكل خير في اتباع من سلف
وكل شر في ابتداع من خلف
اللغات التي يتكلم بها المسلمون في سيراليون:
لكل قبيلة لغة سميت باسمها، فأفراد قبيلة التمني ـ مثلاً ـ يتكلمون لغتهم المنسوبة إليهم وكذا قبيلة المندي واللمبا، واللكو، والشبرو، والسوسو، والمادينكا، والكرانكو، والكيسي.
والمثقفون إسلامياً من هذه القبائل تجمعهم اللغة العربية التي يتناسب انتشارها طرداً مع انتشار الإسلام.
واللغة الرسمية في سيراليون هي اللغة الإنكليزية، وإن اعتنى بها المسلمون مؤخراً إلا أن النصارى سبقوهم إليها، وذلك لأن المسلم السيراليوني يخاف أن يبعث بولده أو ابنته إلى المدارس النصرانية لتلقي العلوم الإنكليزية فيغير دينه أو اسمه الإسلامي أو يدرس في كتاب ينال من المسلمين.
وأما اللغة العامة التي يتفاهم بها جميع الناس فتسمى (لغة الكريول) وهي لغة المتحريرين من الأرقاء الوافدين من بريطانيا. فهي لغة إنكليزية محرفة دخلت إليها مفردات من لغات أخرى.
المؤسسات الإسلامية في سيراليون:(7/468)
1 ـ مجلس الكونغرس الإسلامي
لعدم وجود مجلس إسلامي يجمع المسلمين ويمثلهم لدى السلطات أيام الاستعمار كانت كل جماعة إسلامية وإن قلت تلتف حول إمامها. حتى في صلاة العيد لم يكن المسلمون يجتمعون على إمام واحد حتى ولا يبدأون الصوم في يوم واحد. بقي الأمر كذلك إلى أن قام بعض المثقفين من المسلمين ينادون بتشكيل مجلس إسلامي يمثل المسلمين ويعتني بشؤونهم ويجمعهم على إمام واحد في صلاة العيد على تناوب الإمامة بين القبائل المشتركة فيه. وسرعان ما أعلن عن تشكيل مجلس لهذا الغرض عرف باسم (سيراليون مسلم كونغرس) بدأ هذا المجلس أعماله عام 1928 ميلادية برئاسة السيد ألمامي سنوسي وأمانة سر السيد حاضر الدين رحمهما الله تعالى، وعضوية أئمة الجماعات وكبار المثقفين من المسلمين.
واقتصر عمل هذا المجلس في سنواته الأولى على جمع التبرعات وإلى الإشارة إلى أيام الصوم والأعياد وكذا على تسمية الإمام لصلاة العيد ولكن سرعان ما تدخل في شؤون هذا المجلس الأحمديون القاديانيون الوافدون من الباكستان. وقويت شوكتهم فيه بعد أن استقبلهم المجلس كأعضاء.
وبدأ الأخطبوط الأحمدي يعيث فساداً في هذا المجلس ويصرفه عن الغاية التي أنشئ من أجلها ويبث الفتنة بين أعضائه ويجمع القوى ضد من يتنكر للولاء الأحمدي القاديانية أو ينتقد تعاليم البعثة القاديانية في سيراليون كل ذلك كان بمساعده السلطات الإنكليزية المستعمرة.
بقي الأمر كذلك إلى أن ساءت حالة المجلس المذكور وشلت حركته وتوقف نشاطه إلا من شكليات فارغة وإجراءات لا تمت إلى الدعوة بصلة دامت نحو أربعين سنة. ومن أغرب ما رأيت في هذا المجلس أن أعضاءه المنفذين يجتمعون في النصف الأول من شعبان لتقرير أول رمضان دون اعتبار لرؤية الهلال في سيراليون أو رؤيته في البلد المجاور.(7/469)
ولعلنا ندرك مدى ارتباط هذا المجلس بالأحمدية إن علمنا أنه تلقى مساعدة مالية لبناء ثانوية إسلامية، ولما تم البناء سلم المجلس إدارة المدرسة إلى أحمديين باكستانيين تعاقبوا على إدارتها لقاء رواتب باهضة يدفعها المجلس.
رغم كل ذلك فأملنا بالله كبير أن يعود المجلس إلى جادة الصواب ويمثل بحق عقيدة المسلمين وليس ذلك على الله بعزيز.
2 ـ جمعية الأخوة الإسلامية
S.L. MOSLEM BROTHERHOOD
بقي المسلمون في سيراليون يعانون ازدواجية عقيدة مجلس الكونغرس الإسلامي وغموض أمنائه حتى سطع مشعل الثقافة الإسلامية المتحررة من كل ارتباط أحمدي أو استعماري وأشرق الأمل في نفوس المسلمين على إثر تأسيس جمعية عرفت بجمعية الأخوة الإسلامية التي نادى من أجلها كبار المسلمين المخلصين في عام 1961م. وقد أعلن أنها جمعية تهدف إلى العمل على تثقيف أكبر عدد من الناشئة ثقافة إسلامية. إذ لم يكن وقتئذ أية مدرسة بالشكل المطلوب بينما كانت مئات من المدارس التبشيرية النصرانية تعلم أبناء المسلمين الثقافة والديانة الصليبية، فالنفوس كانت متعطشة إلى أهداف هذه الجمعية والقلوب مهيأة لمثل هذه النداء. ولهذا توافد إلى مدينة (ماكبوركا) بسيراليون جماعات إسلامية من كل القبائل برئاسة الحاكم السيراليوني العام قدرت بنحو عشرة آلاف مسلم ومسلمة لحضور الاحتفال بتأسيس هذه الجمعية وبعد الاحتفال عادت هذه الوفود إلى مناطقها لتباشر نشاطها الإسلامي باسم الجمعية المذكورة.
وخلال عشر سنوات فقط استطاعت جمعية الأخوة الإسلامية بناء وافتتاح أكثر من سعين مدرسة إسلامية ابتدائية في أهم مدن سيراليون. يدرس الطلاب فيها مناهج وزارة المعارف السيراليونية بالإضافة إلى مادتي اللغة العربة والتربية الدينية. وخلال السنوات الأخيرة افتتحت الجمعية بنفس الأسلوب ثانويين إسلاميتين إلى جانب معهد لتخريج معلمي اللغة العربية.(7/470)
إن إنجاز هذه المدارس الإسلامية بسرعة عن طريق هذه الجمعية شكَّل عجزاً في المعلمين الإسلاميين مما جعل الجمعية تستعين بنسبة هائلة من النصارى لإدارة مدارسها الإسلامية والتعليم فيها.
إن وضوح أهداف جمعية الأخوة الإسلامية، وتمسكها بتعاليم الإسلام الحنيف قولاً وعملاً وبعدها عن أي نوع من أنواع المداهنة، جعل أعداء الإسلام يتربصون بها ويحاولون تصفيتها بأية طريقة. وهناك حوادث تصور لنا ذلك منها: أن وزير المعارف السيراليوني قام بزيارة لثانوية الأخوة الإسلامية في فريتاون عام 1970م. فقام الطلاب والطالبات احتراماً لمعاليه وبادروه بتحيتهم: السلام عليكم: ـ باللغة العربية ـ فغضب الوزير لمثل هذه التحية وأصدر في اليوم التالي قراراً بإغلاق المدرسة.
فهب المسلمون يدافعون عن ثانويتهم التي بنوها بأموالهم وغذوها بأرواحهم إلى أن أعيد افتتاحها ثانية. حادثة كهذه تصور لنا مدى الصعوبات التي تعانيها هذه الجمعية. إنها تمر اليوم بأصعب الظروف وأحلكها لعجزها المالي الذي سبب في السنتين الأخيرتين تقلصاً في نشاطها وانكماشها في معركتها.
إنني أهيب برجال الدعوة الأماجد أن يقدموا لهذه الجمعية يد العون والمساعدة إذ إنها أول جمعية إسلامية في أفريقيا الغربية استطاعت أن تحقق مثل هذه الانجازات في مدى قصيرة وتبقى صامدة على عقيدتها رغم المصاعب التي تعانيها.
3 ـ الجمعية الإيمانية بفريتاون:(7/471)
أسس هذه الجمعية بفريتاون فضيلة الشيخ جبريل سيسي مع جماعة من قبيلة التمني عام 1938م. وكان من أعمال هذه الجمعية بناء (جامع الجليل) وهو من أكبر جوامع فريتاون وإلى جانبه بنيت (المدرسة الإيمانية المشهورة) وكانت للجامع والمدرسة هذين أثر هام في تاريخ الثقافة الإسلامية بسيراليون. وذلك لأنه عندما كان المسلمون يغطون في سبات عميق كان رئيس هذه الجمعية النشيط فضيلة الشيخ جبريل سيسي حفظه الله يتصل بكل داعية إسلامي يحضر إلى سيراليون ويدعوه لزيارة الجامع والمدرسة للوعظ فيهما مما جعل هاتين المؤسستين بحق مركز التقاء المسلمين الوافدين من خارج سيراليون ومنار ثقافة إسلامية صحيحة فلا غرو أن نرى اليوم جماعة (جامع الجليل) وطلاب المدرسة الإيمانية قد سبقوا غيرهم أشواطاً بعيدة في ميدان العلوم الإسلامية والعربية.
هذه أهم الجمعيات الإسلامية في سيراليون ويوجد أيضاً عشرات من الجمعيات الإسلامية غيرها منتشرة في جميع أنحاء سيراليون ويكاد أثرها لا يذكر في ميدان الدعوة لأنه ضئيل جداً بل ومنعدم أحياناً.
صلاة التراويح وليلة الفطر في سيراليون:
تتوقف حركة السير في ليالي رمضان من الساعة السابعة وحتى الثامنة مساء في كل شارع فيه جامع بأمر شرطة المرور في المدن السيراليونية. وذلك لأن آلاف المصلين يحتلون الشوارع وقارعات الطرق لإقامة صلاة التراويح بعد أن يضيق بهم الجامع. وهذا مما يصور لنا اهتمام المسلمين السيراليونيين بصلاة التراويح. وبصورة عامة يظهر اهتمامهم بهذه الصلاة أكثر من اهتمامهم بالصوم نفسه. إذ الرجال والنساء والأطفال يحمل كل منهم حصيرته على رأسه ليفرشها في الشارع للصلاة. والمشتغلون في الدعوة يرون أن مثل هذه التجمعات الإسلامية الهائلة ميادين رحبة للدعوة والإرشاد.(7/472)
وبعد صلاة التراويح يذهب أغلب المسلمين للعمل استعداداً لليلة الفطر وذلك بصنع تماثيل خشبية مزركشة بورق ملون ترمز إلى حوادث إسلامية معينة. يشرف على هذا العمل جمعية تدعى ـ جمعية الشباب المسلم ـ وفي ليلة الفطر يُخْرِج مسلمو كل حي تمثالهم الذي صنعوه خلال شهر رمضان مركباً على أربع دواليب متحركة ومضاء بمصابيح تعمل بمدخرات كهربائية جافة (بطاريات) . ثم يصطف الرجال والنساء خلف التمثال ليطوفوا به شوارع المدينة مارين بلجنة التحكيم التي تجلس في سرادق مع كبار المسؤولين والمتفرجين. وتعد لجنة التحكيم هذه للنظر في أجمل التماثيل وأدقها لنيل الجوائز الأولى التي تقدمها البلدية لصانعيها.
تبقى مدن سيراليون طيلة ليلة الفطر صاخبة من ضجيج الناس رجالاً ونساءً وأطفالاً الذين يجوبون الشوارع في هرج ومرج. وعند الفجر تهدأ المدن ويذهب المسلمون ليستعدوا لصلاة العيد التي لا يقل اهتمامهم بها عن صلاة التراويح.
إن إنكار هذه البدعة المستأصلة في النفوس وهذا الاحتفال الذي لا يمت إلى تعاليم القرآن والسنة بصلة، كان شغل الدعاة والمصلحين منذ أربعين عاماً، ولم يستطع المصلحون حتى الآن صرف الناس عنها والقضاء عليها نهائياً، إلا أنهم في طريق لإبطالها إن شاء الله تعالى. وقد كانت هذه البدعة تقام احتفالاً بليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك. ولما أفلح المصلحون في صرف الناس عنها في هذه الليلة جعلها المتسابقون ليلة الفطر.
الجوامع في سيراليون:
إن تعدد القبائل ساعد على بناء الجوامع والمساجد في سيراليون. وإن كل جامع ينسب إلى اسم الجماعة أو القبيلة التي بنته. والظاهر في مسلمي سيراليون اهتمامهم البالغ في بناء المساجد والجوامع إذ لا تكاد تخلو قرية وإن صغرت من جامع. ولعل هذا الاهتمام يعود إلى الأغراض المتعددة التي يبنى الجامع من أجلها.(7/473)
وبما أنه لا يوجد في سيراليون مؤسسة رسمية تهتم بقضايا المسلمين وتعتني بشؤونهم فالجامع هو المكان الأول الذي يعتني بشؤون المسلمين الدينية. ففي كل حي من أحياء فريتاون مثلاً جماعة إسلامية بنت جامعاً عرف باسمها، عينت له إماماً يُطاع في حكمه إذ أنه قاضٍ للجماعة يعقد النكاح ويشهد على الطلاق وينفذه كما يعقد الصلح بين المتخاصمين، ويشرف على تجهيز الموتى ويصلي عليهم. وعقب صلاة الجمعة تذاع بأمر الإمام داخل الجامع البلاغات المتعلقة بشؤون الجماعة كدعوة إلى عقيقة أو إلى عودة مريض أو دعوة إلى استقبال شخصية إسلامية قادمة أو حضور صلح أو نحو ذلك. كما أن الجامع مكان لتقديم الزكاة والصدقات يستلمها الإمام ويدعو لصاحبها بالقبول ثم يوزعها على المستحقين من أفراد الجماعة.
تمويل الجوامع:
كل جماعة مكلفة بتغطية نفقت جامعها المتمثلة بمصروفات المياه والكهرباء والترميمات الخ … فلهذا يجب على كل منتسب دفع رسم اشتراك شهري لصندوق الجماعة. كما يجب عليه دفع ما تيسر لجابي الجماعة الذي يطوف بوعاء على المصلين في صلاة الجمعة لجمع التبرعات. ويدخل إلى صندوق الجماعة الرسوم التي تفرض على كل زواج يعقده الإمام أو طلاق يصدق عليه أو جنازة يجهزها. ولكن اعتماد الجماعة على ما يجمع في العيدين من تبرعات أظهر بكثير في اعتمادها على الرسوم المذكورة. لأنه ما يتم جمعه في العيدين يبلغ أضعاف ما يجمع في غيرها.
والجماعة لا تدفع للإمام إلا القليل الذي لا يكاد يغطي حاجته كإمام.. فلهذا نرى أن كثيراً من الأئمة يتعاطون بعض الأعمال التجارية ومنهم من يتعاطى كتابة التمائم والجداول وغيرها من الخرافات ابتغاء عرض الحياة الدنيا.
أشهر جوامع العاصمة فريتاون:(7/474)
اشتدت في العشر السنوات الأخيرة ظاهرة بناء الجوامع الشاهقة ذات المنارات العالية والقباب الواسعة في كل مدن سيراليون مما ألفت انتباه المشتغلين بالأديان والعقائد في سيراليون. فلنتناول العاصمة فريتاون التي بلغ عدد جوامعها نحو خمس وعشرين جامعاً بينما لم يكن فيها قبل مائة عام تقريباً إلا جامعاً واحداً يعرف اليوم بـ:
الجامع العتيق:
وقد بنته جماعة فوره بي الإسلامية المنتسبة إلى قبيلة اليوربا التي قدمت من نيجيريا والتي تتمتع بثقافة إنكليزية لا بأس بها. جدد هذا الجامع في العام الماضي وبلغت تكاليف تجديده نحو خمسة عشر ألف جنيه استرليني. ثم بدأت نفس الجماعة ببناء جامع ثانٍ لها تبلغ تكاليفه نحو خمسين ألف جنيه استرليني. وقد تشرفت بمشاركة وضع الأحجار الأساسية لهذا المشروع.
جامع فولاتاون:
كانت كنيسة، اشترتها جماعة فولاتاون الإسلامية التابعة لقبيلة الأوكو من النصارى وجعلتها جامعاً لها. احتفل في السنة الماضية على مرور مائة عام على شرائه وقد علمت الجماعة مؤخراً على توسيعه وتجديده.
جامع الجليل:
انتهت جماعة التمني الإسلامية بناء هذا الجامع عام 1940م في شارع أولدفيلد ستريت. وهو من أهم جوامع فريتاون حيث انطلقت منه الدعوة الإسلامية بجد. ولا يزال هذا الجامع ملتقى الدعاة ومركز الثقافة الإسلامية وذلك لأن جماعة هذا الجامع بقيادة الإمام الشيخ جبريل سيسي حفظه الله تتصف بحب الخير وبمنتهى التواضع وبصدق العقيدة مما جعل الدعاة يجدون فيه ميداناً خصباً للعمل، فلا يكاد داعية يعرف سيراليون إلا ويعرف هذا الجامع. ولأهميته أخذ المسؤولون السيراليونيون يتقربون إلى إمامه وجماعته ويجعلون منه جامع الزائرين والوافدين الرسميين.(7/475)
وقد استطاع الشيخ جبريل سيسي بحكمته البالغة وتعاونه الوثيق المثمر مع جماعته استقطاب دعاة للوعظ في هذا الجامع لمدة طويلة. وكان لبعثة دار الإفتاء السعودية النصيب الكبير في العمل فيه.
جامع التوحيد:
لما ضاق جامع الجليل بجماعته. قامت جماعة التمني ببناء جامع ثانٍ في شارع ساكفل ستريت سمته جامع التوحيد. وقبل عشر سنوات بنت نفس الجماعة جامعاً ثالثاً عرف بـ (جامع كوتورود) افتتحت إلى جانبه مدرسة إسلامية سمتها (مدرسة مقامات الإسلام) . وقبل خمس سنوات باشرت ببناء جامع ضخم رابع عُرف بجامع (أوب كون) عند مدخل مدينة فريتاون، وقد تشرفت بإمامة أول صلاة جمعة فيه.
جامع القدوس:
بناه تجار قبيلة المادينكا الوافدون من غينيا وانتهى بناؤه الضخم عام 1953م وارتفعت مئذناته الأربع وزينت شارع مكازين وكلف بناؤه نحو أربعين ألف جنيه استرليني. إلى جانبه بنيت مدرسة إسلامية ابتدائية.
جامع قبيلة الفُلا:
جامع ضخم ذو قبة واسعة ومئذنات أربع بنته جماعة الفُلا الإسلامية قرب جامع القدوس عام 1955م وعلى سعته صار يضيق بالمصلين مما جعل الجماعة نفسها تباشر ببناء جامع آخر في منطقة هامة بفريتاون.
جامع الأمين:
قبيلة اللمبا ثالث قبيلة أهمية وعدداً وأصالة في سيراليون انتشر فيها الإسلام متأخراً، اجتمع مسلمو هذه القبيلة في فريتاون عام 1950م وقرروا بناء جامع لهم وبعد خمسة عشر عاماً ولله الحمد انتهوا من بناء الجامع الضخم في أهم شارع من شوارع فريتاون الرئيسية ـ شارع كوتورود ـ وسموه (جامع الأمين) وكان لهذا الجامع أثر كبير في سرعة انتشار الإسلام في قبيلة اللمبا إذ أن رؤساءها وكبراءها دخلوا في الإسلام للمشاركة في تنظيم الجامع وسير العمل فيه. كما بنت نفس جماعة قبيلة اللمبا مسجدين آخرين من خشب وتوتياء. وفقنا الله لافتتاح أربع مدارس إسلامية ابتدائبة في هذه القبيلة بفريتاون.
جامع قبيلة السوسو:(7/476)
بنى مسلمو قبيلة السوسو قبل ثلاثين سنة مسجداً جامعاً في شارع وترلو، كما بنوا جامعاً آخر في شارع ساكفل ستريت وثالثاً في شارع باتن ستريت وإلى جانب هذه الجوامع تشرفنا بتأسيس ثلاث مدارس إسلامية ابتدائية سلفية ولله الحمد.
جامع قبيلة الهوسا:
يتوسط هذا الجامع الواسع الأرجاء مدينة فريتاون بناه المحسن الحاج أحمد ترولي أحد تجار قبيلة الهوسا بسيراليون الذي أبى أن يشاركه أحد في نفقات بنائه وقد تم البناء عام 1955م. يضيق على سعته بالمصلين في كل الأوقات وحتى في صلاة الفجر. ولهذا اتخذناه ميداناً للدعوة السلفية ولتثقيف العامة خلال خمس سنوات ولله الحمد يتميز هذا الجامع بأنه يجمع حفاظ القرآن الكريم ـ الأماجد ـ حيث يتواجدون فيه دائماً ويختمون فيه القرآن الكريم كل أسبوع مرة.
جامع منطقة كونغوكرس:
جامع صغير وجميل تحيط به حديقة زينتها الورود وله قصة مؤثرة وهي أن الذي بناه على نفقته كان قسيس كنيسة يُدعى مستر كول. رأى مرة في المنام أنه أدخل إلى حديقة مزدانة بأنواع الورود وقيل له إن دخلت في الإسلام فلك هذه الحديقة، فقام الرجل في الصباح ودخل في الإسلام وبنى الجامع المذكور في أجمل وأهم منطقة من مناطق فريتاون ـ منطقة الكونغوكرس ـ حيث بيوت السفراء والقناصل. هذه القصة التي شافهني بها المذكور مشهورة في فريتاون كما يوجد في الجامع مكبر صوت للأذان يسمع أرجاء المنطقة. وقد انزعج الكفار المحيطون بالجامع من أذان الفجر فأقاموا دعوى ضد الأذان فرافع المذكور القضية بمهارة في المحكمة حتى أقرت المحكمة بقاء الأذان كشعيرة دينية.
حج مستر كول إلى بيت الله الحرام ثلاث مرات وصار يعرف بـ (الحاج كول) .
الإسلام على المستوى الرسمي في سيراليون:(7/477)
لم يكن الإسلام أيام الاستعمار ديناً معترفاً به على الصعيد الرسمي. ويعتبر المسلمون وقتئذ أقلية لا يصلون إلى حقوق الأقليات فمن الحقوق التي كان يتمتع بها المسلمون والتي لا تزال سارية إلى اليوم:
1 ـ لا يجب على المسلم نزع طربوشه أو قلنسوته إذا دخل إلى المحكمة كما يجب على غيره.
2 ـ تعيين إمام لإمامة الصلاة في المسجونين المسلمين الراغبين فيها.
3 ـ إعفاء رجال الشرطة المسلمين من التمارين الصباحية إذا ثبت صومهم في رمضان.
4 ـ اعتبار الزواج والطلاق نافذين إذا صدق عليها إمام الجماعة الإسلامية.
ولما كانت مثل هذه الحقوق شكلية لا تخدم القضية الإسلامية في سيراليون قام المصلحون المسلمون بعد انتفاضتهم بإقناع المسؤولين بعد الاستقلال باعتبار الإسلام ديناً سماوياً دين الغالبية في سيراليون. ثم توصلوا إلى حقوق كثيرة منها الحقوق التالية:
1 ـ تفتتح الاحتفالات الرسمية بتلاوة دعاء من قسيس وآخر من شيخ مسلم.
2 ـ السماح بافتتاح مدارس إسلامية تابعة لوزارة المعارف وإقامة جمعيات إسلامية ذات نشاطات دينية فقط.
3 ـ اعتبار أيام الفطر، والأضحى والحادي عشر من ربيع الأول عطلاً رسمية في سيراليون.
4 ـ السماح للموظفين المسلمين مغادرتهم أعمالهم يوم الجمعة لأداء الصلاة.
5 ـ تخصيص برنامج تلفزيوني مساء كل يوم جمعة للإسلام والمسلمين.
6 ـ تنقل إذاعة فريتاون وقائع صلاة الجمعة من مساجد فريتاون دوريّاً.
علماً بأنه لا يوجد حتى الآن مقبرة خاصة بالمسلمين في سيراليون ولا محكمة شرعية تعتني بالأحوال الشخصية وتنظم أحكامها وإن كان المسلمون جادون في إقامتها بالتعاون مع المسؤولين في بلادهم.
حركة التضليل القادياني الأحمدي في سيراليون:(7/478)
بتتبع تاريخ الحركة القاديانية والتي عرفت مؤخراً بالحركة الأحمدية، وبدراسة حياة مؤسسها (غلام أحمد) يظهر جلياً أنها حركة سياسية أوجدها الإنكليز في العالم الإسلامي لتفريق كلمة المسلمين وشل وحدتهم. ولهذا أخذت هذه الحركة أماكنها الأولى في المستعمرات البريطانية في آسيا وأفريقيا وأقامت بدعتها الضالة على التبشير برجل ولد في ربوة بالباكستان اسمه غلام أحمد، ادعت أن وحياً نزل عليه من الله تعالى، وترى هذه الحركة وجوب الإيمان بهذا الوحي وتكفير منكره، وبهذا وحده يتضح مخالفة هذه الحركة لصريح كلام الله تعالى في ختم النبوة وإجماع الأمة في انقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم وليس غرضي هنا تفنيداً لهذه الحركة وإنما إظهاراً لخطورتها على إخوة لنا، سذج في الدين، يعيشون بعيداً عنا. فلا غرو إذاً أن تحتضن هذه الفكرة أعداء الإسلام والمسلمين أينما وجدو. فمركز الأحمدية اليوم بالشرق الأوسط في جبل الكرمل في حيفا بالأرض المحتلة حيث فيها موفد دائم من ربوة يتغير كل خمس سنوات. كما فيها مطبعة ودار نشر للأحمدية. وكانت تصدر في جبل الكرمل بحيفا مجلة أحمدية اسمها (البشرى) باللغة العربية توزع في أفريقيا وغيرها.
دخلت الأحمدية إلى سيراليون إبّان الحرب العالمية الأولى ونشطت حركتها إبّان الحرب الثانية. وشجع الاستعمار البريطاني هذه الحركة في الوقت الذي منع فيه وصول أي داعية إسلامي يخالف تعاليمها، مما ساعد الأحمديين على احتكار الفكر الإسلامي في سيراليون فاستطاعت بذلك أن تفتح لعقيدتها عشر مدارس ابتدائية وخمس ثانويات في أنحاء سيرليون بالإضافة إلى مكتبة ومطبعة في فريتاون العاصمة.(7/479)
استغلت الأحمدية خلو جو سيراليون من معارض لها فضللت كثيراً من وجهاء المسلمين وجعلتهم يدورون في فلكها، ولكن الاستقلال الذي سبب دخول الثقافات الدينية والعقائدية بشكل واسع إلى سيراليون قلص التوسع الأحمدي إلى حد كبير وجمّد حركته إذ أن دخول بعثة دار الإفتاء السعودية الزاهرة إلى سيراليون بتوجيه جلالة الملك فيصل المعظم حرسه الله كان وبالاً على المبشرين الأحمديين وعلى حركتهم. وذلك لأن المسلم السيراليوني وجد أمامه دعوتين مختلفتين تحملان اسماً واحداً وهو الإسلام مما جعله يعيد النظر ويقارن بينهما، وقد نتج عن هذا عودة الكثيرين من المسلمين المغرر بهم إلى العقيدة الصحيحة، وبدأ السير الأحمدي يشكل منعطفاً وتغير سلوكه من تهجم وتحد إلى دفاع وملاينة، كما غير دعاة الأحمدية أسلوبهم في التبشير فافتتحوا مؤخراً ثلاثة مستوصفات لحسابهم في بعض القرى لإرضاء المسلمين السيراليونيين الذين أخذوا ينفضون عنهم بأعداد هائلة وسريعة.
{… وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} .
{… فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} صدق الله العظيم.
الإرساليات الصليبية العاملة في سيراليون:
دخلت الإرساليات الصليبية بدخول البرتغاليين في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي ونشطت بدخول الإنكليز الذين شجعوها على اختلاف مذاهبها إلا أن مذهب الروم الكاثوليك هو المذهب الغالب على المؤسسات العاملة ويليه مذهب البروتستانت ثم الأرثوذكس وأخيراً دخل إلى سيراليون عن طريق البعثات الأمريكية المذهب النصراني الجديد (شهود يهوا) الذي لا يُحظى باعتراف الفاتيكان به والذي يكفر الكنائس التي لا توافق مذهبه.(7/480)
لقد وجدت جميع هذه المؤسسات الصليبية ميادين رحبة للعمل في سيراليون وتأييداً من الاستعمار وانهمرت عليها مساعدات مختلفة من كل جانب مكنتها من بناء مدارس وكنائس في جميع أنحاء سيراليون. وتكاد لا تخلو بلدة صغيرة من وجود مكتب للدعوة الصليبية، كما لا يكاد يخلو شارع من وجود كنيسة بنيت إلى جانبها مدرسة تابعة لها. وأشهر الإرساليات الصليبية العاملة في سيراليون كما يلي:
الإرساليات الأمريكية وتعرف بـ (A.M.E.) والإرساليات الكاثوليكية الإيطالية (R.C.) والإرسالية البريطانية العالمية (S.D.A.) والبعثة الليبيرية وتُعرف بـ (A.D.) وذلك إلى جانب عشرات البعثات النصرانية الأخرى.
وما جامعة سيرايون المشهورة بـ فوره بي إلا إحدى هذه المؤسسات التي بنيت في عهد البرتغاليين. وأول رئيس لهذه الجامعة عين قسيساً برتغالياً تعاقب على الرئاسة بعده قساوسة بريطانيون. وفي عام 1951م ضمت هذه الجامعة إلى ملاك سيراليون. وسمح بعد الاستقلال للطلاب المسلمين بالدراسة فيها بعد أن كان محظوراً عليهم ذلك.
وقد ظهرت في الآونة الأخيرة موجة عودة المتنصرين إلى الإسلام بأعداد هائلة ولله الحمد.
الدعوة السلفية في سيراليون وآثارها:(7/481)
إن بعض آثار الوثنية التي لا تزال عالقة إلى اليوم في أذهان ومعتقدات أكثر السيراليونيين تعود إلى حداثة الإسلام في سيراليون وإن كانت عقيدة التوحيد قد وصلت إلى سيراليون عن طريق التجار المخلصين الموحدين إلا أن دعوتهم لم تنتشر في الغابات ولم تغط حاجة المسلمين في المدن الكبيرة لعدم تفرغهم للدعوة إليها. ولانشغال أكثر الأئمة بالطرق الصوفية كالتيجانية وغيرها الذين كانوا حجر عثرة في طريقها، ولما نالت سيراليون استقلالها عام 1961م تزاحمت المؤسسات العقائدية ووجدت حرية للعمل في سيراليون لم تكن موجودة سابقاً، وبدأت تتنافس في اكتساب مؤيدين وأنصار، وبلغ هذا التنافس أوجه بعد عدة سنوات من الاستقلال وفي خضم هذا التزاحم العقائدي دخلت الدعوة السلفية الإسلامية الطاهرة بصورة مركزة إلى سيراليون عام 1967م عن طريق بعثة دار الإفتاء السعودية (رئاسة البحوث العلمية) وبعد سنوات استطاعت هذه البعثة ولله الحمد اكتساب أفئدة العامة وتأييد رؤساء القبائل والجماعات الإسلامية. كما استطاعت دعوتنا المقدسة أن تصل إلى كل محافظات سيراليون وتجد لها أنصاراً ينافحون عنها. فهي اليوم العقيدة التي يتكلم بها أكثر أئمة الجوامع ويحتكمون إليها بعد أن انصرف كثير منهم عن التيجانية وغيرها.
لقد استطاعت دعوتنا المباركة افتتاح تسع مدارس إسلامية ابتدائية في العاصمة فريتاون لقبائل اللمبا والسوسو التمني، وبناء ثانوية إسلامية في مدينة كينما لقبيلة المندي تضم اليوم حوالي أربعمائة طالب ثانوي وطالبة، وثانوية إسلامية ثانية في مدينة صفدو على وشك الانتهاء. مما جعل المسؤولين السيرالييين يقدرون المملكة العربية السعودية وبعثة رئاسة بحوثها العلمية والدعوة السلفية نفسها وسلوك التبشير بها مما حذا برئيس الجمهورية الدكتور سيكا ستيفن تقليد دعوتنا ميدالية الأخوة الإسلامية الذهبية رسمياً في 26 شعبان 1392هـ.(7/482)
ولا شك أن الفضل في هذه الإنجازات يعود إلى الله تعالى ثم إلى جلالة الملك فيصل المعظم حرسه الله ولأصحاب السماحة المسؤولين عن الدعوة في المملكة أبقاهم الله وأيدهم ولرئاسة البحوث الإسلامية رئيساً وأعضاء وكذا للجامعة الإسلامية رئيساً وأعضاء ولجميع السادة المسؤولين في المملكة. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
البرازيل في 10 شعبان 1393هـ.(7/483)
برقية
رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز
القاهرة
سيادة الدكتور محمد عبد القادر حاتم نائب رئيس الوزراء للثقافة والإعلام.
سلام عليكم، بعدما اطلعت على ما نشرته بعض الصحف من أن معاليكم أصدر قراراً يقضي بعدم السماح بتقديم أية مساعدات من مصر لإنتاج أو إخراج فيلم (رسول الله) الذي رشح الممثل الأمريكي شارلتون هستون ليمثل فيه دور النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لن يسمح بعرض هذا الفيلم في مصر وقد سرني ذلك كثيراً لأن إخراج فيلم عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم سيعرض الحضرة النبوية الجليلة والصحابة الكرام للسخرية والتنقص وفي ذلك فساد عظيم وأضرار كثيرة على الدين وأهله وجرح لمشاعر المسلمين جميعاً فأشكركم والحكومة المصرية على هذا الموقف المشرف وأسأل الله عز وجل أن يجزل مثوبتكم وأن ينصر دينه ويعلي كلمته وأن يوفق المسلمين وحكامهم للتمسك بالشريعة والحكم بها لأن فيها سعادتهم جميعاً في الدنيا والآخرة.
رئيس الجامعة الإسلامية
بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(7/484)
من الصحف والمجلات
إعداد العلاقات العامة
بينما تشكو الأمة العربية من ضعف في النواحي العلمية والتكنولوجية لا نجد العلوم المتعلقة بهاتين الناحيتين تحتل أكثر من خمس بعثات من بين أكثر من مائتي بعثة هذا بينما تحتل دائرة التربية وطرق التدريس والعلوم الإنسانية وهي تلك العلوم التي يجب أن تتصل بالبيئة والتراث والوضعيات المحلية المختلفة تحتل هذه الدائرة أكثر من مائة وعشرين بعثة من بين البعثات المذكور عددها سابقاً. أي أنها تزيد على النصف من البعثات حتى ليخيل للمرء أن مخططي البعثات يعمدون إلى مزيد من التمييع والتضليل بالنسبة للعملية التربوية في العالم العربي لأن هؤلاء الأساتذة غالباً ما يوفدون إلى جامعات عربية ويتركون بصماتهم فيها ونجد مثلاً فروع الطب والتمريض والصيدلة على أهميتها لا تحتل أكثر من عشرين بعثة من بين البعثات الموفدة لعام 73 ـ 74 م. أما فرع القانون والحقوق حده فإنه يفوز بعدد مواز للعدد الذي نالته جميع فروع الطب والصيدلة والتمريض أي قريب من عشرين بعثة وبقية البعثات أي حوالي خمسة وثلاثين بعثة توزع بين كليات التجارة بأقسامها المختلفة وبين بعض المعاهد المتخصصة كمعهد البريد ومعهد القطن ومعهد الفنادق وغير ذلك [1] ومن النظرة المحايدة يتضح عدم حياد القائمين على البعثات كما يتضح سيرهم في التخطيط المدمر لما تبقى من عناصر الصمود في هذه الأمة ولعل من أبز ما توحي به هذه الإحصائية أو هذا التقرير المنشور بتفصيلاته كلها في جريدة الأهرام المصرية الصادرة بتاريخ 8ـ6ـ73م لعل أبرز موحياته أن هذا التخطيط يسير في واد واحتياجات مصر والعالم العربي تسير بواد آخر، إن مصر والعالم العربي لم يصبهما ما أصابهما إلا لأنهما دائماً يسيران في واد وحقائق التقدم وأبجديات الرقي والتعلق تسير في واد آخر وصدق القائل: "أرني مناهج أمة أخبرك أين هي ومن هيه وكيف هيه".(7/485)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] (وهناك مؤسسات أخرى لتدمير الأمة من داخلها مثل كلية السكرتيرات والرقص) .(7/486)
الحضارة الغربية كما يراها أحد أساطينها
عن كتاب (الإنسان ذلك المجهول) للدكتور الكسيس كاريل
".. إننا نواجه مشاكل تحتاج إلى حل سريع. إذ بالرغم من أننا بسبيل القضاء على إسهال الأطفال والسل والدفتريا والحمى التيفودية..الخ، فقد حلت محلها أمراض الفساد والانحلال وأمراض الجهاز العصبي والقوى العقلية. ففي الولايات المتحدة يزيد عدد المجانين على عدد المرضى. إن الاضطرابات العصبية وضعف القوى العقلية آخذة في الازدياد، وهي أكثر العناصر نشاطاً في جلب التعاسة للأفراد وتحطيم الأسر. إن الفساد العقلي أكثر خطورة على الحضارة من الأمراض المعدية..
إن المدنية العصرية تتكون من مبانٍ هائلة، في حين تمتلئ شوارعها الضيقة برائحة البترول وذرات الفحم والغازات السامة، كما تمزق أعصاب الناس ضوضاء السيارات واحتشاد الجماهير … وهكذا يتضح أن الذين خططوا هذه المدن لم يقيموا وزناً لخير سكانها.
إن نظم الحكومات أنشأتها عقول عديمة القيمة.. فمبادئ الثورة الفرنسية وخيالات ماركس ولينين تنطبق فقط على الرجال الجامدين.. لأن قوانين العلاقات البشرية ما زالت غير معروفة. وعلوم الاجتماع والاقتصاديات علوم تخمينية افتراضية … وإذاً فالبيئة التي نجح العلم والتكنولوجيا في إيجادها للإنسان لا تلائمه، لأنها أنشئت اعتباطاً ودون أي اعتبار لذاته الحقيقة.(7/487)
يجب أن يكون الإنسان مقياساً لكل شيء، ولكن الواقع هو عكس ذلك، فهو غريب في العالم الذي يعيش فيه. إنه لم يستطع أن ينظم دنياه بنفسه لأنه لا يملك معرفة علمية بطبيعته. ومن ثم فإن التقدم الهائل الذي أحرزته علوم الجماد هو إحدى الكوارث التي تعاني منها الإنسانية. فالبيئة التي ولدتها عقولنا واختراعاتنا غير صالحة لنا … إننا قوم تعساء، لأننا ننحط خُلقياً وعقلياً. إن الجماعات والأمم التي بلغت فيها الحضارة الصناعية أعظم نمو وتقدم، هي على وجه الدقة الجماعات والأمم الآخذة في الضعف، والتي ستكون عودتها إلى الهمجية أسرع من عودة غيرها إليها..".
عن كتاب (الإنسان ذلك المجهول)
للدكتور الكسيس كاريل(7/488)
ندوة الطلبة:
الإيمان.. يوجب العمل
للطالب: خالد محمد عبد الله الدخيل
إلى الذين فتح باب القول وأغلق عليهم باب العمل، إلى الذين يظنون أنهم مظلومون وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون إلى الذين يكاد لهم نهاراً، ويدب لهم علانية، ويتآمر على إذلالهم وسحقهم جهرة، وهم في غفلة لاهون. إلى الذين يطلبون العزة من غير سبب، والنصر من غير جهد والغنى من غير سعي، والنهوض من غير طاقة.
إلى الذين يقولون: أين العزة التي كتبها الله لنا على نفسه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} والوعد الذي أنزله الله في كتابه: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} والتمليك الذي سجله الله في آياته {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} إلى الوارثين الذين ملك آباؤهم أقطار الأرض وملأوها علماً وحضارة بإيمانهم وجهادهم وعقلهم وعملهم ثم جاءوا من بعدهم فبددوا ما ورثوا، وجهلوا ما عملوا، وكان أمرهم فرطاً. إلى الذين يأكلون ويلبسون ويركبون مما صنع غيرهم ولا يدرون كيف كان إعداد ما أكلوا، ولا نسج ما لبسوا، ولا تصميم ما ركبوا، يستهلكون ولا ينتجون. إلى الذين يحلمون ولا يستيقظون، ويتمنون ولا يعملون، ويرددون: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس} ولا يذكرون: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} .(7/489)
إلى الذين يؤمنون ولكنهم لا يعرفون تكاليف الإيمان، أو يعرفونها ولكنهم لا يعملون. إلى هؤلاء وهؤلاء، إلى سبعمائة مليون مسلم، ومن بينهم مائة مليون عربي حلت بهم فتنة لم تصب الذين ظلموا منهم خاصة … إليهم جميعاً هذا الحديث:
روى جماعة من أهل العلم بتفسير القرآن أن مجلساً ضم طائفة من اليهود والنصارى والمسلمين، فزعم كل فريق منهم أنه أولى الناس بعون الله وتأييده في الدنيا ونعيمه وثوابه في الآخرة: اليهود قالوا: "نحن أتباع موسى الذي اصطفاه الله برسالاته وبكلامه"، والنصارى قالوا: "نحن أتباع عيسى روح الله وكلمته"، والمسلمون قالوا: "نحن أتباع محمد خاتم النبيين، وخير أمة أخرجت للناس"… وشاء الحق تبارك وتعالى أن يفضل بينهم في هذا النزاع وأن يبين لهم أن قاعدة التأييد والجزاء ترتكز على الإيمان والعمل، لا على مجرد التبعية والانتساب فأنزل سبحانه يخاطب المسلمين: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً،وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} .
إن الإيمان بغير عمل شجر بلا ثمر، ودمية لا حياة فيها ولا حركة … إبليس كان يعلم أن ربه الله وأنه واحد لا شريك له، وكان يعلم أن مصيره إليه يوم يبعثون، ولكن لما صدر إليه الأمر الإلهي بالعمل "اسجد " استكبر وتمرد، قال: "لا"، فلم تشفع له معرفته بوحدانية الله لأن المعرفة المجردة عن معنى الخضوع المطلق لرب العالمين لا وزن لها، ولأن العلم الذي لا يصاحبه العمل لا قيمة له، ولذا كان جزاؤه {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} .(7/490)
وكما أن الإيمان من غير عمل لا يغني فكذلك العمل من غير إيمان كبناء على غير أساس. على شفا جرف هار. كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء. كهشيم تذروه الرياح: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} .
إن الإيمان الحق بالله، والإيمان الصادق برسول الله وبكل ما جاء به عن الله قوة إيجابية محركة. طاقة بناءة هائلة، تملأ قلب المؤمن، وتسري في دمه، وتنفذ إلى عقله وفكره، وتسيطر على شعوره ووجدانه وتتحكم في عزيمته وإرادته، وتوجه وتحرك جوارحه، وتلازمه في الليل والنهار وتصاحبه في السر والعلانية. فلا يعصي لله أمراً ولا يرى إلا حيث أحب الله، ولا يفتقد إلا حيث يبغض الله: إن الإيمان بالله قوة منتجة مستكنة في أعماق النفس المؤمنة تظهر آثارها وثمارها في السلوك والتصرف في العمل الجاد لله، والطاعة المطلقة لحكم الله والتضحية بالهوى مرضاة لوجه الله وقد قرن الله الإيمان بالعمل في سبعين آية من آيات القرآن الكريم، فما من آية ذكرت الإيمان مجرداً، بل عطفت عليه عمل الصالحات، والصالحات جماع كل خير ومحبة للفرد والجماعة، وبهذا أصبحت صلة العمل والسلوك والخلق بالإيمان صلة وثيقة لا يعروها وهن، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} … وقال عز من قائل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} .(7/491)
ولقد حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الحرص على لفت أنظار المؤمنين وتوجيه انتباههم إلى أن يكون سلوكهم مع الله ومع الناس، وتصرفهم في كل شئون الحياة مصدقاً لإيمانهم ومظهراً لعقيدتهم، فقال لمن سأله قولاً في الإسلام لا يسأل عنه أحداً غيره: "قل آمنت بالله ثم استقم"..
والظن بأن مجرد دعوى الإيمان والانتساب للإسلام والنطق بالشهادتين والتسمي بأسماء المسلمين يكفل للمدعين نصر الله في الدنيا، ويفتح لهم باب الجنة في الآخرة يدخلونها بسلام آمنين، وإن كانوا غارقين في المعاصي لأذقانهم مفسدين في الأرض. كسالى خامدين: هذا الظن وهم وخطأ وضلال بعيد.. هذا إيمان صوري لا ينجي صاحبه من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، فالسعادة ليست للغارقين الهازلين، والجنة ليست للعاصين المتمردين: "ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، وإن قوماً خرجوا من الدنيا ولا عمل لهم، وقالوا نحن نحسن الظن بالله وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل".
إن الناظر في ماضي المسلمين وحاضرهم ليعجب أشد العجب مما كانوا فيه، وما صاروا إليه. المسلمون في أول أمرهم أتوا بالعجائب غزوا وفتحوا وسادوا … والمسلمون في آخر أمرهم أتوا بالعجائب أيضاً ذلوا واستكانوا وضعفوا. والقرآن هو القرآن وتعاليم الإسلام هي تعاليم الإسلام.. فلماذا ساد الأولون وذل الآخرون!! …
لا سبب إلا أن الأولين عملوا والآخرين تركوا، ولن يستقيم حالنا إلا بما استقام به ماضينا إيمان وعمل، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها … اعتصام بالله ووقوف عند أمره ونهيه، واقتداء برسول الله وعمل بسنته: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} .(7/492)
المسلم
بقلم: عارف عبد الله آل حسن
الطالب بالسنة الثالثة بالمعهد الثانوي بالجامعة
أنا جسم ناحل في أثوبي
أنا سمٌ قاتل في المَحلَب
أنا كالضرغام في وجه العدا
علقم طعمي أنا الحرّ الأبي
وعل الباطل سيف صارم
وبغير الحقّ مرّ مشربي
أنا كاصاروخ لو تطلقني
أحرق الشرّ إذا ما مرّ بِي
طلقة المدفع لا ترهبني
أنا ليلٌ دامسٌ للمُرهب
إن أصَب فالموت لا يخطئني
أينما أدركني لم أهرب
مسلم أغشى الوغى ألقى الردى
بدم فوق مقام الذهب
أنا كالدّيباج في ملمسه
ولمن يطعنني كالعقرب
أنا للملحد ريح عاصف
أصرع الباغي وسيفي مِذربي
بكتاب الله أمشي قُدما
وبهدي الهاشمي العربي
هو شمس مشرق من مشرق
قد سرى إشراقه في المغرب
هو في الديجور نجم ثاقب
جاء بالقرآن خير الكتب
منهل الصادين مهما منحوا
واستقوا من مائه لم ينضب
باسمك اللهم أرجو مددا
فاقض حاجاتي وجُد بالأرب
وعلى الهادي صلاتي أبدا
عدّ حبّات النّدى في السحب(7/493)
الفتاوى
يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
"أين يضع المصلي يديه بعد الرفع من الركوع"
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه. أما بعد: فقد كثر السؤال من الداخل والخارج عن موضع اليدين إذا رفع المصلي رأسه من الركوع.. فرأيت أن أجيب عن ذلك جواباً مبسوطاً بعض البسط نصحاً للمسلمين وإيضاحاً للحق وكشفاً للشبهة ونشراً للسنة فأقول: قد دلت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه يقبض بيمينه على شماله إذا كان قائماً في الصلاة كما دلت على أنه كان عليه الصلاة والسلام يأمر بذلك.
قال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه (باب وضع اليمنى على اليسرى) حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة".. انتهى المقصود.(7/494)
ووجه الدلالة من هذا الحديث الصحيح على شرعية وضع اليمين على الشمال حال قيام المصلي في الصلاة قبل الركوع وبعده أن سهلاً أخبر أن الناس كانوا يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة، ومعلوم أن السنة للمصلي في حال الركوع أن يضع كفيه على ركبتيه وفي حال السجود أن يضعهما على الأرض حيال منكبيه أو حيال أذنيه، وفي حال الجلوس بين السجدتين وفي التشهد أن يضعهما على فخذيه وركبتيه على التفصيل الذي أوضحته السنة في ذلك فلم يبق إلا حال القيام فعلم أنه المراد في حديث سهل وبذلك يتضح أن المشروع للمصلي في حال قيامه في الصلاة أن يضع يده اليمنى على ذراعه اليسرى سواء كان ذلك في القيام قبل الركوع أو بعده لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما نعلم التفريق بينهما ومن فرق فعليه الدليل. وقد ثبت في حديث وائل بن حجر عند النسائي بإسناد صحيح "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان قائماً في الصلاة قبض بيمينه على شماله" وفي رواية له أيضاً ولأبي داود بإسناد صحيح عن وائل "أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما كبّر للإحرام وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد"، وهذا صريح صحيح في وضع المصلي حال قيامه في الصلاة كفه اليمنى على كفه اليسرى والرسغ والساعد وليس فيه تفريق بين القيام الذي قبل الركوع والذي بعده فاتضح بذلك شمول هذا الحديث للحالين جميعاً وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح على ترجمة البخاري المذكورة آنفاً ما نصه: "باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة"أي في حال القيام، وقوله: "كان الناس يؤمرون"هذا حكمه الرفع لأنه محمول على أن الآمر لهم بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي قوله: "على ذراعه" أبهم موضعه من الذراع، وفي حديث وائل عند أبي داود والنسائي "ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد" وصححه ابن خزيمة وغيره وأصله في صحيح مسلم بدون الزيادة،(7/495)
والرسغ بضم الراء وسكون السين المهملة بعدها معجمة هو المفصل بين الساعد والكف وسيأتي أثر علي نحوه في أواخر الصلاة ولم يذكرا أيضاً محلها من الجسد، وقد روى ابن خزيمة من حديث وائل أنه وضعهما على صدره، والبزار عند صدره وعند أحمد في حديث هلب الطائي نحوه، وهلب بضم الهاء، وسكون اللام بعدها موحدة وفي زيادات المسند من حديث علي أنه وضعهما تحت السرة وإسناده ضعيف، واعترض الداني في أطراف الموطأ فقال: "هذا معلوم لأنه ظن من أبي حازم، ورد بأن أبا حازم لو لم يقل لا أعلمه الخ لكان في حكم المرفوع لأن قول الصحابي "كنا نؤمر بكذا" يصرف بظاهره إلى من له الأمر وهو النبي صلى الله عليه وسلم لأن الصحابي في مقام تعريف الشرع فيحمل على من صدر عنه الشرع ومثله قول عائشة: "كنا نؤمر بقضاء الصوم"فإنه محمول على أن الآمر بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم. وأطلق البيهقي أنه لا خلاف في ذلك بين أهل النقل والله أعلم، وقد ورد في سنن أبي داود والنسائي وصحيح ابن السكن شيء يستأنس به على تعيين الأمر والمأمور فروى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "رآني النبي صلى الله عليه وسلم واضعاً يدي اليسرى على يدي اليمنى فنزعها ووضع اليمنى على اليسرى" إسناده حسن. قيل لو كان مرفوعاً ما احتاج أبو حازم إلى قوله لا أعلمه الخ والجواب أنه أراد الانتقال إلى التصريح فالأول لا يقال له مرفوع وإنما يقال له حكم الرفع، قال العلماء: "الحكمة في هذه الهيئة أنه صفة السائل الذليل وهو أمنع من العبث وأقرب إلى الخشوع"، وكأن البخاري رحمه الله لحظ ذلك فعقبه بباب الخشوع ومن اللطائف قول بعضهم: "القلب موضع النية والعادة أن من احترز على حفظ شيء جعل يديه عليه". قال ابن عبد البر:"لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه خلاف. وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وهو الذي ذكره مالك في الموطأ ولم يحك ابن المنذر وغيره عن مالك غيره، وروى ابن القاسم عن مالك الإرسال وصار(7/496)
إليه أكثر أصحابه، وعنه التفرقة بين الفريضة والنافلة ومنهم من كره الإمساك ونقل ابن الحاجب أن ذلك حيث يمسك متعمداً لقصد الراحة". انتهى.
المقصود من كلام الحافظ وهو كاف شاف في بيان ما ورد في هذه المسألة وفيما نقله الإمام ابن عبد البر الدلالة على أن قبض الشمال باليمن حال القيام في الصلاة هو قول أكثر العلماء ولم يفرق ابن عبد البر رحمه الله بين الحالين وأما ما ذكره الإمام الموفق في المغني وصاحب الفروع وغيرهما عن الإمام أحمد رحمه الله أنه رأى تخيير المصلي بعد الرفع من الركوع بين الإرسال والقبض فلا أعلم له وجهاً شرعياً بل ظاهر الأحاديث الصحيحة المتقدم ذكرها يدل على أن السنة القبض في الحالين وهكذا ما ذكره بعض الحنفية من تفضيل الإرسال في القيام بعد الركوع ولا وجه له لكونه مخالفاً للأحاديث السابقة والاستحسان إذا خالف الأحاديث لا يعول عليه كما نص عليه أهل العلم.(7/497)
أما ما نقله ابن عبد البر عن أكثر المالكية من تفضيل الإرسال فمراده في الحالين أعني قبل الركوع وبعده ولا شك أنه قول مرجوح مخالف للأحاديث الصحيحة ولما عليه جمهور أهل العلم كما سلف وقد دلّ حديث وائل بن حجر وحديث هلب الطائي على أن الأفضل وضع اليدين على الصدر حال القيام في الصلاة وقد ذكرهما الحافظ كما تقدم وهما حديثان جيدان لا بأس بإسنادهما أخرج الأول أعني حديث وائل ابنُ خزيمة رحمه الله وصححه كما ذكره العلامة الشوكاني في النيل، وأخرج الثاني أعني حديث هلب الإمام أحمد رحمه الله بإسناد حسن وأخرج أبو داود رحمه الله عن طاوس عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يوافق حديث وائل وهلب وهو مرسل جيد، فإن قلت قد روى أبو داود عن علي رضي الله عنه أن السنة وضع اليدين تحت السرة فالجواب أنه حديث ضعيف كما صرح بذلك الحافظ ابن حجر كما تقدم في كلامه رحمه الله وسبب ضعفه أنه من رواية عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي ويقال الواسطي وهو ضعيف عند أهل العلم لا يحتج بروايته ضعفه الإمام أحمد وأبو حاتم وابن معين وغيرهم وهكذا حديث أبي هريرة عند أبي داود مرفوعاً "أخذ الأكف على الأكف تحت السرة" لأن في إسناده عبد الرحمن ابن إسحاق المذكور وقد عرفت حاله وقال الشيخ أبو الطيب محمد شمس الحق في عون المعبود شرح سنن أبي داود بعد كلام سبق ما نصه: "فمرسل طاوس وحديث هلب وحديث وائل بن حجر تدل على استحباب وضع اليدين على الصدر وهو الحق، وأما الوضع تحت السرة أو فوق السرة فلم يثبت فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث". انتهى.(7/498)
والأمر كما قال رحمه الله للأحاديث المذكورة. فإن قيل: قد ذكر الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني في حاشية كتابه "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم"ص 145 من الطبعة السادسة ما نصه: "ولست أشك في أن وضع اليدين على الصدر في هذا القيام (يعني بذلك القيام بعد الركوع) بدعة ضلالة لأنه لم يرد مطلقاً في شيء من أحاديث الصلاة وما أكثرها ولو كان له أصل لنقل إلينا ولو عن طريق واحد ويؤيده أن أحداً من السلف لم يفعله ولا ذكره أحد من أئمة الحديث فيما أعلم". انتهى.
والجواب عن ذلك أن يقال: نعم قد ذكر أخونا العلامة الشيخ ناصر الدين في حاشية كتابه المذكور ما ذكر والجواب عنه من وجوه: (الأول) أن جزمه بأن وضع اليمنى على اليسرى في القيام بعد الركوع بدعة ضلالة خطأ ظاهر لم يسبقه إليه أحد فيما نعلم من أهل العلم وهو مخالف للأحاديث الصحيحة المتقدم ذكرها ولست أشك في علمه وفضله وسعة اطلاعه وعنايته بالسنة زاده الله علماً وتوفيقاً ولكنه غلط في هذه المسألة غلطاً بيناً وكل عالم يؤخذ من قوله ويترك كما قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله: "ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر"يعني النبي صلى الله عليه وسلم هكذا قال أهل العلم قبله وبعده وليس ذلك يغض من أقدارهم ولا يحط من منازلهم بل هم في ذلك بين أجر وأجرين كما صحت بذلك السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حكم المجتهد إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر. (والوجه الثاني) إن من تأمل الأحاديث السالفة حديث سهل وحديث وائل بن حجر وغيرهما اتضح له دلالتهما على شرعية وضع اليمنى على اليسرى في حال القيام في الصلاة قبل الركوع وبعده لأنه لم يذكر فيها تفصيل والأصل عدمه.(7/499)
ولأن في حديث سهل الأمر بوضع اليمنى على ذراع اليسرى في الصلاة ولم يبين محله من الصلاة فإذا تأملنا ما ورد في ذلك اتضح لنا أن السنة في الصلاة وضع اليدين في حال الركوع على الركبتين وفي حال السجود على الأرض وفي حال الجلوس على الفخذين والركبتين فلم يبق إلا حال القيام فعلم أنها المرادة في حديث سهل وهذا واضح جداً.
أما حديث وائل ففيه التصريح من وائل رضي الله عنه بأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقبض بيمينه على شماله إذا كان قائماً في الصلاة خرجه النسائي بإسناد صحيح وهذا اللفظ من وائل يشمل القيامين بلا شك ومن فرق بينهما فعليه الدليل وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في أول هذا المقال (الوجه الثالث) أن العلماء ذكروا أن من الحكمة في وضع اليمين على الشمال أنه أقرب إلى الخشوع والتذلل وأبعد عن العبث كما سبق في كلام الحافظ ابن حجر وهذا المعنى مطلوب للمصلي قبل الركوع وبعده فلا يجوز أن يفرق بين الحالين إلا بنص ثابت يجب المصير إليه.(7/500)
أما قول أخينا العلامة "أنه لم يرد مطلقاً في شيء من أحاديث الصلاة وما أكثرها ولو كان له أصل لنقل إلينا ولو عن طريق واحد" فجوابه أن يقال: ليس الأمر كذلك بل قد ورد ما يدل عليه من حديث سهل ووائل وغيرهما كما تقدم وعلى من أخرج القيام بعد الركوع من مدلولها الدليل الصحيح المبين لذلك، وأما قوله وفقه الله: "ويؤيده أن أحداً من السلف لم يفعله ولا ذكره أحد من الأئمة الحديث فيما أعلمه"فجوابه أن يقال: هذا غريب جداً وما الذي يدلنا على أن أحداً من السلف لم يفعله بل الصواب أن ذلك دليل على أنهم كانوا يقبضون في حال القيام بعد الركوع ولو فعلوا خلاف ذلك لنقل لأن الأحاديث السالفة تدل على شرعية القبض حال القيام في الصلاة سواء كان قبل الركوع أو بعده وهو مقتضى ترجمة الإمام البخاري رحمه الله التي ذكرناها في أول هذا المقال كما أن ذلك هو مقتضى كلام الحافظ ابن حجر عليها ولو أن أحداً من السلف فعل خلاف ذلك لنقل إلينا وأكبر من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه أرسل يديه حال قيامه من الركوع ولو فعل ذلك لنقل إلينا كما نقل الصحابة رضي الله عنهم ما هو دون ذلك من أقواله وأفعاله عليه الصلاة والسلام وسبق في كلام ابن عبد البر رحمه الله أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف القبض وأقره الحافظ ولا نعلم عن غيره خلافة فاتضح بما ذكرنا أن ما قاله أخونا فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين في هذه المسألة حجة عليه لا له عند التأمل والنظر ومراعاة القواعد المتبعة عند أهل العلم فالله يغفر لنا وله ويعاملنا جميعاً بعفوه ولعله بعد اطلاعه على ما ذكرنا في هذه الكلمة يتضح له الحق فيرجع إليه فإن الحق ضالة المؤمن متى وجدها أخذها وهو بحمد الله ممن ينشد الحق ويسعى إليه ويبذل جهوده الكثيرة في إيضاحه والدعوة إليه.
تنبيه هام(8/1)
ينبغي أن يعلم أن ما تقدم من البحث في قبض الشمال باليمين ووضعهما على الصدر أو غيره قبل الركوع وبعده كل ذلك من قبيل السنن وليس من قبيل الواجبات عند أهل العلم فلو أن أحداً صلى مرسلاً ولم يقبض قبل الركوع أو بعده فصلاته صحيحة.
وإنما ترك الأفضل في الصلاة فلا ينبغي لأحد من المسلمين أن يتخذ من الخلاف في هذه المسألة وأشباهها وسيلة إلى النزاع والتهاجر والفرقة فإن ذلك لا يجوز للمسلمين حتى لو قيل إن القبض واجب كما اختاره الشوكاني في النيل بل الواجب على الجميع بذل الجهود في التعاون على البر والتقوى وإيضاح الحق بدليله والحرص على صفاء القلوب وسلامتها من الغل والحقد من بعضهم على بعض كما أن الواجب الحذر من أسباب الفرقة والتهاجر لأن الله سبحانه أوجب على المسلمين أن يعتصموا بحبله جميعاً وأن لا يتفرقوا كما قال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم.." وقد بلغني عن كثير من إخواني المسلمين في إفريقيا وغيرها أنه يقع بينهم شحناء كثيرة وتهاجر بسبب مسألة القبض والإرسال ولا شك أن ذلك منكر لا يجوز وقوعه منهم، بل الواجب على الجميع التناصح والتفاهم في معرفة الحق بدليله مع بقاء المحبة والصفاء والأخوة الإيمانية فقد كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم والعلماء بعدهم رحمهم الله يختلفون في المسائل الفرعية ولا يوجب ذلك بينهم فرقة ولا تهاجرا لأن هدف كل واحد منهم هو معرفة الحق بدليله فمتى ظهر لهم اجتمعوا عليه ومتى خفي على بعضهم لم يضلل أخاه ولم يوجب له ذلك هجره ومقاطعته وعدم الصلاة خلفه فعلينا جميعاً معشر المسلمين أن نتقي الله سبحانه وأن نسير على طريقة السلف الصالح قبلنا في التمسك بالحق والدعوة إليه(8/2)
والتناصح فيما بيننا والحرص على معرفة الحق بدليله مع بقاء المحبة والأخوة الإيمانية وعدم التقاطع والتهاجر من أجل مسالة فرعية قد يخفى فيها الدليل على بعضنا فيحمله اجتهاده على مخالفة أخيه في الحكم.
فنسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يزيدنا وسائر المسلمين هداية وتوفيقاً وأن يمنحنا جميعاً الفقه في دينه والثبات عليه ونصرته والدعوة إليه إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه وعظم سنته إلى يوم الدين…(8/3)
أخبار الجامعة
إعداد العلاقات العامة
صدر قرار مجلس الوزراء رقم 951 في 20/7/93هـ بالموافقة على تعيين فضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد على وظيفة (نائب) رئيس الجامعة الإسلامية بالمرتبة الخامسة عشرة اعتباراً من صدور هذا القرار والجامعة إذ تهنئ فضيلته على هذه الثقة. تسأل الله له مزيداً من التوفيق والسداد.
وفضيلة الشيخ عبد المحسن العباد من خريجي كلية الشريعة بالرياض عام 1371هـ وقد عمل بعد تخرجه في معهد بريدة العلمي ثم في معهد الرياض العلمي ثم انتقل إلى الجامعة الإسلامية عند تأسيسها عام 1381هـ مدرساً في كلية الشريعة بالجامعة هذا وقد حصل فضيلته على درجة (الماجستير) في قسم الحديث من جامعة الأزهر وهو الآن يحضر للدكتوراه ومن المتوقع أن يناقش رسالته في الصيف القادم.
يوالي المسؤولون في الجامعة الإسلامية اهتمامهم وعنايتهم بالمكتبة العامة بالمكتبة العامة وتزويدها بمجموعات كثيرة من الكتب الحديثة والمراجع المهمة في مختلف العلوم والفنون حتى تستطيع المكتبة أن تلبي حاجات القراء والباحثين وطالبي المعرفة السليمة في كافة العلوم الإسلامية والعربية المختلفة حيث إن الكتاب هو المائدة العلمية لطلاب المعرفة الإنسانية إذا ما أحسن اختياره ووجدت العزيمة الصادقة في الاستفادة منه والنيل من مورده ولم يقتصر المسؤولون على شراء وتأمين الكتب والرسائل المطبوعة فقط بل أخذوا منذ مدة يعملون على تصوير بعض المخطوطات والرسائل المهمة من المكتبات العلمية في داخل المملكة وخارجها من أجل توفير المادة العلمية النادرة للباحثين وعشاق العلم والمعرفة وسوف يواصل المسؤولون جهودهم في هذا السبيل حتى تنموا هذه المجموعات ويزداد عطاؤها ونفعها على وجه أكمل وأنفع إن شاء الله.(8/4)
ولما كان تصنيف الكتب وفهرستها أصبح من العلوم الضرورية في هذا العصر وقررت بعض الجامعات قسماً خاصاً لتعليم هذه المادة والتخصص فيها لتيسير البحث العلمي وجعله في متناول القارئ بسرعة حتى لا يضيع وقت القارئ في البحث عن الكتاب فقد أدرك المسؤولون فائدة هذا النوع من التخصص واستقدموا خبيراً في تصنيف الكتب من كلية الشريعة بالأزهر ليقوم بتصنيف وفهرسة مكتبات الجامعة الإسلامية بالتعاون مع موظفي هذه المكتبات من أجل تحقيق هذه المهمة وعمّا قريب إن شاء الله سيتم العمل في هذا المجال الهام في عالم المكتبات ومن ناحية أخرى فلا يزال العمل يجري بهمة ونشاط في وضع اللمسات الأخيرة على المكتبة العامة الجديدة التي أوشكت على الانتهاء ويجري الآن تأثيثها وتجهيزها بكافة الأدوات والأجهزة المتطورة الحديثة حيث تنتقل المكتبة بقسميها المنفصلين إلى المبنى الجديد لتكون مكتبة كبيرة واحدة وقد صمم مبنى المكتبة الجديد وفق أحدث التصاميم المتقدمة الجديدة وخصصت بها صالة كبيرة واسعة لمطالعة الكتب تتسع لأكثر من مائة ألف كتاب كما هيئت في المبنى الجديد الأقسام الإدارية والفنية التي يتشكل منها الجهاز الوظيفي للمكتبة كما خصصت بعض الغرف للباحثين في مختلف المجالات العلمية وخصصت كذلك صالة للمراجع الأجنبية وغرفة بها جهاز مكروفلم لقراءة الأشرطة المسجلة وقسم لتجليد الكتب ومعرض للكتب الجديدة وغير ذلك من الأقسام الأخرى.
قام يوم الأحد الموافق 12/8/93هـ الشيخ يوسف الرفاعي وزير الدولة وعضو مجلس الأمة الكويتي بزيارة للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة اجتمع خلالها بسماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز ثم بفضيلة الأمين العام للجامعة الشيخ محمد بن ناصر العبودي قام بعدها بزيارة لأقسام الجامعة وفي ختام زيارته قدمت له بعض الكتب والمجلات هدية تذكارية بمناسبة الزيارة.(8/5)
صدر قرار سماحة رئيس الجامعة الإسلامية بترفيع الأستاذ سالم بريك الردادي إلى المرتبة السابعة.
تلقت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة من وزارة الخارجية أن وزارة الخارجية المغربية أبلغت سفارة جلالته في الرباط بأن لجنة المعادلات التابعة لوزارة التربية الوطنية قد وافقت على معادلة شهادة الإجازة العالمية (الليسانس) التي تمنحها كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة مع شهادة إجازة التعليم الممنوحة من جامعة محمد الخامس وذلك اعتباراً من أول أكتوبر 72م.
عاد إلى المدينة قادماً من الحبشة الأستاذ عبد الله الفوزان مدير المعهد الثانوي التابع لإدارة الجامعة الإسلامية بعد أن أنهى المهمة الرسمية التي انتدب من أجلها.
قام يوم الثلاثاء 28/8/93هـ بزيارة الجامعة الإسلامية الأستاذ أحمد المهدي العلوي مندوب الخزانة الملكية في المغرب. والأستاذ المهدي عبد الغني بن البشير المستشار في محكمة النقض في المغرب، وقد اجتمعا بسماحة رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن بار ومساعد الأمين العام الشيخ عمر محمد ثم قام الضيفان بزيارة لكلية الشريعة، وكلية أصول الدين والمكتبات العامة في الجامعة وقبيل مغادرتهم مبنى الجامعة أهدت لهم الجامعة كمية من الكتب القيمة والنشرات العلمية والثقافية، هذا وقد أقام سماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز حفل غداء في منزله تكريماً للضيفين الكريمين وبهذه المناسبة فقد أهدت الجامعة إلى الخزانة الملكية مجموعة جديدة من الكتب والمجلات وسيتم التبادل فيما بين الجامعة والخزانة.
قام بزيارة الجامعة الإسلامية الحاج محي الدين كتي المليباري رئيس المجلس التشريعي في ولاية كيرالا في الهند وقد اجتمع مع فضيلة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز بمكتبه ورمزاً لزيارته فقد أهدت الجامعة له بعض الكتب والنشرات.(8/6)
غادرنا قبل أيام إلى جدة في طريقه إلى المغرب الأستاذ سليم سلمان الحازمي مساعد الأمين العام لشئون التعليم بالجامعة الإسلامية وذلك في مهمة رسمية تستغرق بضعة أيام.
بمناسبة بدء العام الدراسي الجديد فقد بدأ قسم الإشراف الاجتماعي والرياضي بالجامعة الإسلامية بنشاطه ومما تجدر إليه الإشارة أنه يوجد حالياً في الجامعة ثلاثة من المشرفين وسيصل قريباً للجامعة أحد المشرفين أيضاً لينضم للمجموعة بحيث يعمل الإشراف 24 ساعة متوالية دون انقطاع.
قام الأستاذ رفاعي محمود السكرتير الثاني لسفارة جمهورية نيجريا الفدرالية بزيارة للجامعة الإسلامية اجتمع خلالها بالطلاب النيجيريين الدارسين في كافة المراحل التعليمية في الجامعة وذلك بمناسبة العام الدراسي الجديد 93/94هـ ومما تجدر إليه الإشارة أن قرابة 45 طالباً من نيجيريا يتلقون تعليمهم في الجامعة الإسلامية بالمدينة.
وصل إلى المدينة قادماً من القاهرة الأستاذ محمد أحمد بخيت لينضم إلى أسرة الإشراف الاجتماعي بالجامعة الإسلامية بالمدينة ليعمل خبيراً للإشراف الاجتماعي وسعادة الأستاذ محمد من الحائزين على العالمية مع إجازة التربية وخبرة 25 عاماً في العمل الاجتماعي في مختلف المجالات والمستويات وكان آخر عمل قام به مديراً عاماً للشئون الاجتماعية في محافظة سوهاج بجمهورية مصر العربية وقد باشر عمله. تمنياتنا له بالتوفيق والسداد.
غادرنا إلى جدة في طريقه إلى الكونغو كنشاسا على رأس وفد من رابطة العالم الإسلامي فضيلة الشيخ محمد ناصر العبودي الأمين العام للجامعة الإسلامية في مهمة تستغرق بضعة أيام. هذا ويقوم فضيلة الأمين العام المساعد الشيخ عمر محمد بأعباء الأمانة العامة للجامعة مدة غياب فضيلته.(8/7)
بدأت الدراسة في دار الحديث بالمدينة ودار الحديث المكية يوم السبت الماضي الموافق 18/8/93هـ ومما تجدر إليه الإشارة أن الدارين المشار إليهما تابعتين للجامعة الإسلامية بالمدينة إدارياً.
لا تزال طلبات الكتب تنهال على الجامعة الإسلامية بشكل يلفت النظر من كافة أنحاء العالم ولجنة توزيع الكتب بالجامعة تحرص دائماً على تزويد المحتاجين بما توزعه الجامعة وإدارة العلاقات العامة تتولى الإجابات والاستفسارات وإرسال الكتب إلى الجهات المعنية.
تعاقدت الجامعة الإسلامية بالمدينة مع مجموعة من حملة (الماجستير) للعمل في الكليات والمعاهد التابعة للجامعة. وقد وصل منهم إلى الجامعة حتى الآن:
الأستاذ محمد أبو طالب شاهين
الأستاذ عبد الرحيم جمعه أحمد الشريف
الأستاذ محمد عبد العزيز البهنسي
الأستاذ عبد العزيز علي إبراهيم عباس
الأستاذ أنور السيد حسين عزام
الأستاذ شعبان علي خليل
الأستاذ عبد المعطي مصطفى دندوح
الأستاذ محمد عبد السميع شبانه
الأستاذ عبد العزيز عبد الرحمن الجاس
الأستاذ منصور رمضان مصطفى حبيب
الأستاذ عبد الفتاح عشماوي
الأستاذ زهير إبراهيم الخالد.
قام يوم أمس السيد أونكو محسن عبد القادر وزير الثقافة والشباب في ماليزيا بزيارة خاصة للجامعة الإسلامية بالمدينة وقد اجتمع معاليه بسماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز ثم قام بجولة تفقدية لأقسام الجامعة يرافقه مدير العلاقات العامة بالجامعة الإسلامية. وقد اجتمع معاليه بالطلاب الماليزيين الذين يتلقون تعليمهم في كافة المراحل التعليمية في الجامعة وقد أهديت لمعاليه بعض المجلات رمزاً للزيارة.
عقد مجلس الجامعة الإسلامية بالمدينة جلسة خاصة في دار الحديث التابعة للجامعة الإسلامية برئاسة سماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز لمناقشة بعض الأمور الهامة المتعلقة بالجامعة.(8/8)
بناء على موافقة ديوان الموظفين العام أصدر سماحة رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن باز قراراً بتعيين الأساتذة التالية أسماؤهم مدرسين بالمعهد الثانوي والمتوسط بالجامعة وهم:
أحمد عطية الغامدي، عبد العزيز راجي الصاعدي، مرزوق هياس الزهراني، سليمان شتوي سعيد، سليم مسعد الأحمدي، محمد علي زيد مدخلي، عبد الله محمد غضوان.
ومما تجدر الإشارة إليه أن هؤلاء الأساتذة من خريجي كليات الجامعة الإسلامية للعام الدراسي الماضي 92/93هـ.(8/9)
من أعلام المحدثين
عمرو بن علي الفلاس 160 بعيدها - 249هـ-
للشيخ عبد المحسن العباد
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
نسبه ونسبته وكنيته:
هو عمرو بن علي بن بحر بن كنيز بضم الكاف وفتح النون آخره زاي.
كنيته: أبو حفص.
يقال له: الباهلي نسبة إلى قبيلته ويقال له البصري نسبة إلى وطنه ويقال له: الصيرفي الفلاس نسبة إلى مهنته فيما يتبادر إلى الذهن.
ممن روى عنهم:
روى عن كثير من الأئمة فروى عن عبد الوهاب الثقفي ويزيد بن زريع وخالد بن الحارث وأبي داود الطيالسي وأبي عاصم النبيل وعبد الله ابن داود الخريب-ي وعبد الأعلى بن عبد الأعلى وعبد الرحمن بن مهدي وغندر وعبد الله بن إدريس ومعاذ بن معاذ ويحيى بن سعيد القطان ووهب بن جرير بن حازم ويزيد بن هارون وسفيان بن عيينة ومحمد بن فضيل ووكيع بن الجراح وأمم سواهم.
ممن رووا عنه:
روى عنه أصحاب الكتب الستة بدون واسطة وروى عنه النسائي أيضاً بواسطة وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان وعبد الله بن أحمد وابن أبي الدنيا ومحمد بن يحيى بن منده وجعفر الفريابي والحسن بن سفيان ومحمد بن جرير الطبري وغيرهم.
من خرّج حديثه:
خرّج حديثه البخاري ومسلم في صحيحيهما وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم كل منهم روى عنه مباشرة فهو شيخ لأصحاب الكتب الستة ونقل الحافظ ابن حجر في ترجمته في تهذيب التهذيب أن البخاري روى عنه سبعة وأربعين حديثاً ومسلم حديثين.
ثناء العلماء عليه:(8/10)
روى ابن أبي حاتم عن أبيه قال: "كان عمرو بن علي أرشق من علي بن المديني وهو بصري صدوق، وروى عن أبيه عن ابن عباس العنبري. قال: "ما تعلمت الحديث إلا من عمرو بن علي". وقال حجاج بن الشاعر: "عمرو بن علي لا يبالي أحدَّث من حفظه أو من كتابه". وقال النسائي: "ثقة صاحب حديث حافظ". وقال أبو زرعة: "ذاك من فرسان الحديث لم يُرَ بالبصرة أحفظ منه ومن ابن المديني والشاذكوني". وقال الدارقطني: "كان من الحفاظ وبعض أصحاب الحديث يفضلونه على ابن المديني ويتعصبون له وقد صنف المسند والعلل والتاريخ وهو إمام متقن". وذكره ابن حبان في الثقات وقال الحسين بن إسماعيل المحاملي: "ثنا أبو حفص الفلاس وكان من نبلاء المحدثين". وقال ابن أشكاب: "كان عمرو بن علي يحسن كل شيء". وقال مسلمة ابن قاسم: "ثقة حافظ وقد تكلم فيه علي بن المديني وطعن في روايته عن يزيد بن زريع"انتهى. قال الحافظ: "وإنما طعن في روايته عن يزيد لأنه استصغره فيه". وذكر هذا الحافظ في مقدمة الفتح وذكر أن البخاري لم يخرِّج له من روايته عن يزيد بن زريع شيئاً. وأقول: يزيد بن زريع توفي سنة اثنتين وثمانين ومائة وأبو حفص الفلاس وُلد بعيد الستين ومائة كما في تذكرة الحفاظ للذهبي، فلو قلنا على أكثر تقدير أن ولادته سنة خمس وستين ومائة يكون عمره حين وفاة ابن زريع سبع عشرة سنة وتعبير الذهبي بقوله: "بعيد الستين ومائة"، يشعر بأنه قبل خمس وستين ومائة فما وجه هذا الاستصغار؟
إلا أن ما رواه الخطيب بإسناده إلى عمرو بن علي قال: "حضرت مجلس حماد بن يزيد وأنا صبي وضيئ فأخذ رجل بخدي ففررت ولم أعد". قد يؤيِّد ما قاله ابن المديني وكانت وفاة حماد بن زيد تسع وسبعين ومائة إلاّ أن يكون حضوره ذلك قبل زمن وفاة حماد بمدة طويلة ثم إنه لو تحمل في حال صغره بعد تمييزه وأداه بعد بلوغه فإن سماعه معتبر عند جمهور المحدثين والله أعلم.(8/11)
وقال عباس العنبري: "لو روى عمرو بن علي عن عبد الرحمن بن مهدي ألفاً لكان مصدقاً"وقال يحيى بن معين: "أبو حفص الصيرفي صدوق"وقال الذهبي في العبر: "أحد الأعلام"وقال في تذكرة الحفاظ: "الحافظ الإمام الثبت أحد الأعلام"وقال: "أكثر وأتقن وجوَّد وأحسن". وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في مقدمة فتح الباري: "أحد الأعلام الحفاظ". وقال في تقريب التهذيب: "ثقة حافظ".
آثاره:
قال الذهبي في العبر: "سمع معتمر بن سليمان وطبقته وصنَّف وعني بهذا الشأن"ونقل الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب عن الدارقطني أنه قال: "وقد صنَّف المسند والعلل والتاريخ"وقال الخطيب في تاريخه (2 - 232) في ترجمة محمد بن الحسين القطان: "وروى عن عمرو بن علي الفلاس كتاب التاريخ".
وفاته:
توفي أبو حفص الفلاس سنة تسع وأربعين ومائتين أرَّخ وفاته في هذه السنة البخاري في التاريخ الكبير والذهبي في العبر وكذا في تذكرة الحفاظ وزاد بسامرا في ذي القعدة. وقال ابن القيسراني في الجمع بين رجال الصحيحين: "قال السراج مات بالعسكر سنة تسع وأربعين ومائتين في آخر ذي القعدة". وكذا الخزرجي في الخلاصة إلا أنه لم يذكر شهر وفاته، وذكر الخطيب في تاريخه عن ابن أبي خيثمة أنه مات بالعسكر ونقل عن محمد بن عبد الله الحضرمي وأبي عمر بكر بن محمد بن عبد الوهاب القزاز ومحمد بن إسحاق الذهبي أنهم قالوا: "مات عمرو بن علي سنة تسع وأربعين ومائتين". قال أبو عمر: "ب- (سر من رأى) " وقال الثقفي: "بالعسكر في آخر ذي القعدة". ونقل الخطيب في تاريخه أيضاً عن أبي الحسن سهل بن نوح بن يحيى البزاز قال: "مات يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي القعدة سنة تسع وأربعين ومائتين". وأرَّخ وفاته في هذه السنة أيضاً ابن كثير في البداية والنهاية وابن حجر في تقريب التهذيب وابن العماد في شذرات الذهب.(8/12)
أما سنة ولادته ومدة عمره فلم أرَ من تعرض لذكرهما سوى ما أسلفته عن الذهبي في التذكرة أنه ولد بعيد الستين ومائة رحمه الله.
ممن ترجم له:
1- ترجم له البخاري في التاريخ الكبير (2/3/355) .
2- وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (1/3/249) .
3- والذهبي في العبر (1/454) ، وتذكرة الحفاظ (2/71) .
4- وابن حجر في تهذيب التهذيب (8/80) .
وتقريب التهذيب (2/75) .
ومقدمة الفتح (2/199) .
5- والخزرجي في الخلاصة (247) .
6- والخطيب في تاريخه (12/207) .
7- وابن القيسراني في الجمع بين رجال الصحيحين (367) .
8- وأبو نعيم في أخبار أصبهان (2/29) .
9- وابن العماد في شذرات الذهب (2/120) .
10- وكحالة في معجم المؤلفين (8/11) .(8/13)
أضواء من التفسير
للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
المدرس بكلية الشريعة
قال تعالى: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ، هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ، وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ، هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ، قَالُوا إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ، قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ، وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ، أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبصَارُ، إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} .
المناسبة:
لمَّا بيَّن الله حال السعداء للترغيب، أتبعه ببيان حال الأشقياء للترهيب.
القراءة:
قرأ الجمهور {وَغَسَّاقٌ} بتشديد السين، وقرئ بتخفيفها. وقرأ الجمهور {وَآخَرُ} على الإفراد، وقرئ {وأُخر} بالجمع. وقرئ {مِنْ شَكْلِهِ} بفتح الشين وبكسرها. وقرئ {أَتَّخَذْنَاهُمْ} بهمزة القطع للاستفهام. وقرئ بهمزة الوصل. وقرئ {سِخْرِيّاً} بضم السين وقرئ بكسر السين. وقرئ {تَخَاصُمُ} بالرفع، وقرئ بالنصب أيضاً.
المفردات:(8/14)
{اِلطَّاغِينَ} أي الكفار المتجاوزين حدود التوحيد إلى الشرك. {لَشَرَّ مَآبٍ} لقبيح مرجع. {جَهَنَّمَ} النار المحرقة البعيد القاع من الجهنام وهي البئر العميقة. {يَصْلَوْنَهَا} يدخلونها ويعذبون بها. {بِئْسَ} قبح وذم. {الْمِهَادُ} الفراش. {فَلْيَذُوقُوه} فليختبروا طعمه ويحسوا به، وهذا على سبيل التبكيت. {حَمِيمٌ} الماء الشديد الحرارة. {وَغَسَّاقٌ} بالتشديد والتخفيف هو اسم ما يجري من صديد أهل النار أو عين في جهنم يغمس فيها الكافر فيتساقط جلده ولحمه، وقيل: هو الزمهرير. وقيل: هو وصف من غسق بمعنى سال يقال غسقت العين إذا سال دمعها. وقد حذف هنا موصوفه والتقدير ومذوق غساق أي سائل من جلود أهل النار. والوصف في المشدد أظهر لأن فعّالا بالتشديد قليل في الأسماء كالغَيّاد لذكر البوم، والخطَّار لدهن يتخذ من الزيت، والعقَّار لما يتدواى به من النبات. {وَآخَرُ} أي مذوق آخر أو عذاب آخر. وبالجمع ومذوقات أخر أو أنواع عذاب أخر. {أَزْوَاجٌ} أصناف وأجناس. {فَوْجٌ} جمع كثير يعني من أتباعهم في الضلال. {مُقْتَحِمٌ} أي داخل وسط شدة مخيفة. {مَرْحَباً} من الرُحب بضم الراء وهو السعة. {قَدَّمْتُمُوهُ} سببتموه. {الْقَرَارُ} المقر. {ضِعْفاً} أي زائداً مضاعفاً. {نَعُدُّهُمْ} نعتبرهم. {الأشْرَارِ} الأراذل الذين لا خير فيهم، يعنون فقراء المسلمين. {سِخْرِيّاً} بضم السين من السخرة والاستخدام. وبكسرها من السخر وهو الهزء. {زَاغَتْ} مالت {الأَبصَارُ} العيون. {لَحَقٌّ} صدق ولا بد أن يجري بينهم. {تَخَاصُمُ} تدافع. {أَهْلِ النَّارِ} يعني الكفار المستحقين لها.
التراكيب:(8/15)
قوله {هَذَا} خبر مبتدأ محذوف كما قال الزجاج أي الأمر هذا. وقيل هو مبتدأ خبره محذوف أي هذا للمؤمنين. والإشارة إلى ما ذكر مما أعد للمؤمنين. وقوله: {وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} معطوف على ما قبله، وقوله: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ} جهنم بدل اشتمال مما قبله، ويصلونها حال من جهنم وقوله فبئس المهاد المخصوص بالذم تقديره محذوف هي يعني جهنم والفاء للترتيب الذكري قوله: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} هذا مبتدأ وحميم خبره وغساق معطوف عليه. وجملة {فَلْيَذُوقُوهُ} اعتراضية كقولك زيد فافهم رجل صالح. ويجوز على مذهب الأخفش أن يكون هذا مبتدأ وجملة فليذوقوه الخبر كقولك زيد فاخر به وقول الشاعر:
وقائلةُ خولانُ فانكح فتاتهم(8/16)
وعلى هذا فحميم خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو، وغساق معطوف عليه. وقوله: {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} آخر خبر مبتدأ محذوف أي هذا مذوق آخر أو هذه مذوقات أخر والجملة معطوفة على التي قبلها. وقوله: {مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} صفتان لآخر أو أخر. وتوحيد الضمير في شكله دون تثنيته أو جمعه مع أنه راجع للحميم والغساق على معنى من شكل المذكور. وإنما ساغ جعل أزواج صفة لآخر على قراءة الإفراد وإن كان مفرداً فإنه جمع في المعنى لصدقه على متعدد. ويحتمل أن يكون آخر أو أخر مبتدأ ومن شكله صفته وأزواج خبره، وهذا على قراءة الجمع ظاهر أما على قراءة آخر بالإفراد فلما ذكرنا من أنه وإن كان مفرداً فهو جمع في المعنى. وقوله: {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} يجوز أن يكون حكاية لما تقوله ملائكة العذاب لرؤساء الضلال عند دخول النار تقريعاً لهم، ويجوز أن يكون حكاية كلام المتبوعين بعضهم مع بعض. وعلى كل فالجملة مقول لقول مقدر أي يقال لهم. وقوله: {لا مَرْحَباً بِهِمْ} من كلام المتبوعين في أتباعهم. ومرحباً منصوب بفعل مقدر أي لا أتيتم مرحباً أو لا سمعتم مرحباً. ويجوز أن يكون منصوبا على المصدرية بفعل محذوف تقديره: لا رحبت بهم الدار مرحباً. والجملة مستأنفة سيقت للدعاء عليهم وقوله {بِهِمْ} بيان للمدعو عليهم. وقوله: {إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ} تعليل للدعاء عليهم وهو من حكاية قول القادة. قوله: {إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ} من حكاية قول الأتباع لمتبوعيهم رداً عليهم. وقوله: {أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} تعليل لأحقيتهم بذلك. وضمير الغيبة في {قَدَّمْتُمُوهُ} للعذاب المفهوم من المقام. أو للصلي الذي تضمنه {صَالُو النَّارِ} والفاء في قوله: {فَبِئْسَ الْقَرَارُ} للترتيب في الذكر. وقوله: {قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ} الضمير في قالوا للأتباع. و {مَنْ} يحتمل أن تكون شرطية(8/17)
ويحتمل أن تكون موصولة ودخلت الفاء في خبرها على هذا لما في الموصول من شبه الشرط. و {فِي النَّارِ} يجوز أن يكون ظرفاً لـ {زِدْهُ} أو نعتاً لـ {عَذَاباً} . وقوله: {مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً} {مَا} مبتدأ و {لَنَا} خبره وجملة {لا نَرَى رِجَالاً} حال. والاستفهام المفاد بـ {مَا} تعجبي. وقوله تعالى: {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً} على قراءة الاستفهام هو استئناف لا محل له من الإعراب، وعلى قراءة إسقاط الهمزة يجوز أن تكون مقدرة لدلالة أن عليها. ويجوز أن يكون الكلام إخباراً والجملة صفة ثانية لـ {رِجَالاً} . والياء في {سِخْرِيّاً} للنسب. وإنما جيء بياء النسب للدلالة على قوة الفعل فالسخري أقوى من السخر كما قيل في الخصوص خصوصية للدلالة على قوة ذلك. وقوله: {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ} {أَمْ} منقطعة كأنهم أضربوا عن إنكار الاستسخار وأنكروا على أنفسهم ما هو أشد منه وهو أنهم جعلوهم محقرين لا ينظر إليهم بوجه. والتعبير بـ {زَاغَتْ} دون أزغنا للمبالغة كأن العين بنفسها تمجهم لقبح النظر إليهم. وقوله: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} الإشارة فيه إلى التفاوض والتقاول والتدافع الذي حكى عنهم، و {تَخَاصُمُ} بالرفع على قراءة الجمهور خبر لمبتدأ محذوف أي هو تخاصم والجملة في محل نصب بيان لاسم الإشارة. والإبهام ثم التبيين لزيادة التقرير. وأما على قراءة النصب فهو بدل من اسم الإشارة أيضاً.
المعنى الإجمالي:(8/18)
الأمر هذا الذي وصفنا، وإن للمتجاوزين حق التوحيد إلى الكفر لقبيح مرجع. النار المحرقة البعيدة القاع يدخلونها ويعذبون بها، ويفترشونها، فقبح وذم وساء الفراش جهنم. هذا العذاب فليحسوا به ـ ماء شديد الحرارة، وقيح وصديد يجري من أجساد أهل النار، أو عين في جهنم ينغمسون فيها. يصهر به ما في بطونهم والجلود. وعذاب آخر من مثل المذكور في الشدة والفظاعة أنواع، ويقال للرؤساء عند دخول النار: هذا جمع كثير داخل وسط شدة مخيفة في صحبتكم! فيقول الرؤساء: لا سعة عليهم، إنهم داخلوا النار، قال الأتباع للرؤساء: بل أنتم سببتم لنا هذا العذاب. فبئس المقر جهنم قالوا: سيدنا ومالكنا من سبب لنا هذا العذاب فزده عقاباً مضاعفاً في جهنم. قالوا: أي شيء حدث لنا حال كوننا لا نبصر رجالاً في جهنم كنا نعتبرهم في الدنيا من الأراذل؟ ننكر على أنفسنا الآن الاستهزاء بهم في الدنيا أو جعلهم مسخرين، بل ننكر على أنفسنا ما هو أفظع وأشد وهو جعلهم محقرين حتى كأنَّ العين بنفسها تمجهم لقبح النظر إليهم. إن هذا التدافع والتفاوض والتقاول لا بُد من وقوعه البتة، وهو تقاول أهل النار.
ما ترشد إليه الآيات:
1ـ بيان حال أهل النار.
2ـ تنوع عقابهم.
3 ـ تبرؤ الذين اتُبِعوا من الذين اتّبَعُوا.
4ـ الدعاء عليهم.
5ـ دعاء الأتباع على المتبوعين.
6ـ وصمهم بأنهم سبب بلائهم.
7ـ تبكيتهم لأنفسهم على ما قدموا من الإساءة للفقراء.
8ـ الواقعة خافضة رافعة.
9ـ تخاصم أهل النار حق لا بُد من وقوعه(8/19)
قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار، رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ، قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ، أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ، مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلأِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ، إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلاًَ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} .
المناسبة:
لما كان من الغرض الذي سيقت له هذه السورة هو إثبات الرسالة وتقرير التوحيد، وقد حكى الله عن الكفار في أول السورة أنهم أنكروا الرسالة والتوحيد فقالوا ساحر كذاب. أجعل الآلهة إلهاً واحداً.. وقص الله من أحوال بعض المرسلين ما قص، من التجائهم إلى الله وحده لتفريج كربهم لما فتنوا، وفي هذا تقرير الرسالة والتوحيد، رد هنا على منكري الرسالة والتوحيد بتقريرهما وإثباتهما بقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} وذكر أدلة قاطعة على ذلك.
القراءة:
قرأ الجمهور {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} بفتح همزة {أَنَّمَا} وقرئ بكسرها.
المفردات:(8/20)
{مُنْذِرٌ} مخوِّف. {إِلَهٍ} مألوه محبوب مستحق للعبودية. {الْوَاحِدُ} الأحد الذي لا شريك له، ولا يشبهه شيء. {الْقَهَّارُ} الغلاَّب العالي على جميع الخلائق. {الْعَزِيزُ} القوي الذي يَغلب ولا يُغلب وهو يجير ولا يُجار عليه. {الْغَفَّارُ} الستَّار لما يشاء من هفوات عباده وسيئاتهم. {نَبَأٌ} خبر خطير. {عَظِيمٌ} جليل. {أَنْتُمْ} أيها الكفار من قريش وغيرهم. {مُعْرِضُونَ} صادُّون. {مِنْ عِلْمٍ} من سابق معرفة. {بِالْمَلأِ} بالجماعة الأشراف الذين يملئون العيون رواء والنفوس جلالة وبهاء. والمراد بالملإ هنا جماعة الملائكة وآدم وكان معهم إبليس. {الأَعْلَى} العلو هنا حس لأنهم كانوا في السماء. {يَخْتَصِمُونَ} يتقاولون. {يُوحَى إِلَيَّ} يلقى إليَّ الوحي وينزل عليَّ الملك، وأبعث إليكم. {مُبِينٌ} بيِّن الإنذار. {خَالِقٌ} مُوْجِد. {بَشَراً} جسماً كثيفاً يلاقي ويباشر، أو خلقاً بادي البشرة بلا صوف ولا شعر ولا وبر، والمراد به آدم. {سَوَّيْتُهُ} صورته وعدلته. {وَنَفَخْتُ فِيهِ} دفعت فيه. {مِنْ رُوحِي} من الحياة التي أملكها وأحيي بها الخلق. {فَقَعُوا} فخروا. {سَاجِدِينَ} ساقطين على وجوهكم. إبليس هو أبو الجن وكان من سكَّان السموات بين صفوف الملائكة وهو إفعيل من الإبلاس وهو الإياس من الخير وفيه معنى الندم والحسرة كما قال رؤبة:
وحضرت يوم الخميس الأخماس
وفي الوجوه صفرة وإبلاس
يعني به اكتئاباً وكسوفاً. {اسْتَكْبَرَ} اعتبر نفسه كبيراً.
التراكيب:(8/21)
القصر في قوله: {إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ} إضافي. والعطف في قوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ} لإفادة أن له صلى الله عليه وسلم صفة الدعوة إلى توحيده أيضاً مع صفة النذارة فالأمران مستقلان بالإفادة. ومن فيها لاستغراق النفي أي ما إله مستحق للعبودية أصلاً إلاّ الله. والحصر في قوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ} حقيقي. ولما كان المقام لتقرير الرسلة والتوحيد وكانت الرسالة هي السبيل الذي يعرف منه التوحيد ذكرها أوَّلاً ثم ثنى بالتوحيد ولما كان التوحيد هو الغاية التي بعث لأجلها المرسلون عقب قوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ} بخمس صفات لله كلها لتقرير التوحيد. أما الوصف بالواحد فظاهر، وأما القهَّار فلأنه لو وجد إله غيره لم يكن قهَّاراً له لأنه لو قهره لم يكن المقهور إلهاً بالضرورة. ولو قهره الآخر لا يكون إلهاً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وأما الوصف بالربوبية فلأن الرب هو سيد كل شيء ومليكه ومربيه وهذا ينافي أن يكون هناك إله آخر. وأما العزيز فلأنه يقتضي أن يَغلب غيره ولا يَغلبه غيره ومع الشركة لا يتم ذلك. وأما الوصف بالغفار فلأنه يقتضي أن يغفر ما يشاء لمن يشاء فلو وجد إلهاً آخر ربما شاء مغفرة لأحد وشاء الآخر عقابه ولا بُد أن يفوت مراد أحدهما ومن فات مراده ليس بإله تعالى الله عن الشركاء والأنداد علواً كبيراً.(8/22)
وقوله: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} الضمير فيه راجع إلى القرآن المشتمل على الإنذار والتوحيد. وجملة {أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} صفة ثانية لنبأ. وقوله: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلأِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} استئناف مسوق لتحقيق النذارة حيث أنبأ عن الملأ الأعلى نبأ مفصلاً دون سابق معرفة ولا مباشرة سبب من أسباب المعرفة المعتادة. فكان ذلك حجة بيِّنة دالة على أن ذلك بطريق الوحي من عند الله تعالى. وقوله: {بِالْمَلأِ} متعلق بعلم لتضمنه معنى الإحاطة. والملأ اسم جمع ولذلك وصف بالمفرد وأعيد عليه ضمير الجمع. وقوله: {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} متعلق بمحذوف يقتضيه المقام إذ المراد نفي علمه عليه الصلاة والسلام بحالهم، والتقدير ما كان لي من علم بحال الملأ الأعلى وقت اختصامهم. والتعبير بالمضارع بدل الماضي لاستحضار حكاية الحال لأنه أمر غريب. وقوله: {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} اعتراض بين قوله: {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} المفيد لاختصامهم إجمالاً، وبين قوله: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} المفيد لاختصامهم تفصيلاً وإنما جيء بهذه الجملة المعترضة لزيادة تقرير النذارة أيضاً وتعيين سبب علمه عليه الصلاة والسلام، ونائب الفاعل إما ضمير عائد على الحال المقدر والتقدير: ما يوحى إليّ حالهم إلاّ لأني نذير مبين من جهته تعالى. ومن قرأ {أَنَّمَا} بالفتح فعلى تقدير اللام. أما على قراءة الكسر فالتقدير: لم أومر إلا بأن أقول لكم إنما أنا نذير مبين. أي دون أن أقول لكم أنا أعلم الغيب بدون وحي. فالحصر هنا إضافي وقوله: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} شروع في تفصيل ما أجمل من الاختصام. و {إِذْ} فيه بدل من {إِذْ} الأولى، وليس من ضرورة البدلية دخولها على نفس الاختصام بل يكفي اشتمال ما في حيزها عليه. وقيل {إذ} منصوب بمقدر هو اذكر. وقوله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ(8/23)
أَجْمَعُونَ} توكيدان. أما الأولى فلإفادة أنه لم يبق منهم أحد إلا سجد، وأما الثاني فلإفادة أن سجودهم كان بطريق المعية وأنه لم يتأخر أحد عن أحد، وهو في هذا يفيد ما يفيده الحال ويزيد عليه معنى التوكيد. والفاء أفصحت عن مقدر أي فخلقه فسواه فنفخ فيه الروح فسجد الملائكة. هذا وإذا أمر الله تعالى بالسجود لآدم لا يكون السجود عبادة لآدم بل عبادة الله الآمر بالسجود طاعة له. وإنما فيه تكريم لآدم كالسجود لجهة الكعبة. وقوله {إِلاًَ إِبْلِيسَ} الاستثناء منقطع لأنه كان من الجن فهو من باب قام القوم إلا حماراً. فإن قيل: إذا كان إبليس من الإبلاس كما مرّ فهلا صرف؟ أجيب بأنه إنما لم يصرف إذ كان اسماً لا نظير له من أسماء العرب فشبهته العرب بأسماء العجم فمنعته من الصرف.
المعنى الإجمالي:
قل يا محمد ما أنا إلا رسول يعلمكم عن ربه، ويخوفكم، ولا معبود بحق إلا الله الذي لا شريك له العالي على جميع خلقه سيد كل شيء ومليكه ومربيه، الغالب الذي يستر سيئات عباده وهو قادر على أن يؤاخذهم بها. قل يا محمد: هذا القرآن خبر خطير جليل أنتم عنه صادون غافلون. من أين أعلم حال الملائكة وقت تراجعهم في شأن آدم وامتناع إبليس عن السجود فأنا أميٌّ لم أقرأ كتاباً ولم أتخلف إلى من يعلمني، ما علمته إلا من طريق الوحي، وما أوحي إليّ إلاّ لأني نذير بيِّن الإنذار واضحه.
من أين أعلم حال الملأ الأعلى إذ قال ربك للملائكة إني موجد إنساناً بادي البشرة من طين، فإذا عدلته وأتممت خلقه، وبعثت فيه الحياة فخروا له على وجوهكم ساقطين، فلما خلقه وعدله، ونفخ فيه الحياة، سجد الملائكة لم يتخلف منهم أحد، ولم يتأخر أحد في السجود عن أحد، إلا إبليس تعاظم وصار من الجاحدين العاصين.
ما ترشد إليه الآيات:
1_ تقرير النذارة.
2ـ تقرير التوحيد.
3ـ إعلام الله الملائكة بآدم قبل خلقه.
4ـ تكريم آدم.(8/24)
5ـ طاعة الملائكة لله وسرعة امتثالهم لأمره.
6ـ امتناع إبليس عليه اللعنة عن السجود.
7ـ علة امتناعه الكبر.(8/25)
رسائل لم يحملها البريد
بقلم الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
شقيقي الراحل:
لقد باعد الموت ما بيننا، أمَّا أنا فلا أزال في الأحياء، أدِبُّ فوق الثرى إلى أجل مسمى يعلمه الله، وأمَّا أنت فقد اعتبطت الموت، وارتحل بك إلى الدار الآخرة، تواريت تحت التراب تنتظر يوم الحساب.
كان ذلك في ليلة مكفهرة عابسة في أعجاز الخريف، قد امتلأت آفاقها بالسحب، فلم يطلع لها نجم، ولا أضاء فيها قمر، وكانت الأرض قد صوح نبتها، ومات عودها، وأصبح ما على وجهها هشيماً تذروه الرياح.
كانت السماء تبكي في تلك الليلة، كانت تبكي على الأرض، لتطفئ ظمأها، وتحيي هشيمها، وتكسوها حلة قشيبة موشاة تميس فيها لآذار ونيسان.
وكانت السماء تبكي عليك في تلك الليلة، وأنت من فوق ألواح الخشب على ظهر الشاحنة الكبيرة الصاعد في سفوح وادي الموجب، ذلك الوادي السحيق العميق الذي تزوغ في أحشائه الأبصار.
لقد كان مقعدك إلى جوار السائق دافئاً أميناً، بعيداً عن الخطر والمطر والبرد والعواصف، فلِمَ غادرته لتمطي الأمواج وتكافح الرياح، وتتلقى الماء المنهمر؟! ما الذي كان يدعوك إلى أن تركب هذا المركب الخشن؟! ولِمَ حمَّلت نفسك تلك الصعاب، وأذقتها ذلك العذاب؟!
نعم، لقد كنت أميناً عند الناس وعند الوزارة، فخشيت أن تسّاقط ألواح الخشب في سواد الليل البهيم وأنت لا تدري، فتساقط معها أمانتك التي كنت حريصاً عليها كل الحرص، وفيّاً لها كل الوفاء.
والتَوَت الطريق على الشاحنة الكبيرة، وخرج بها عن الجادة ظلمات الليل، وتتابع الودق، وسوء خلق السائق، فألقت بنفسها وبمن فيها وما عليها على الأرض، كما يلقي المتعب الواهن بنفسه إذا ناء كاهله بما يحمل، ولم تقوَ ساقاه على طول الطريق.(8/26)
وقفزت من على الشاحنة تريد النجاة من الموت، ولكن الموت كان يترصدك على أسنة الصخور الحادة التي كسرت أعظمك، وأسالت دمك، وتركتك لقي على الأرض، لا ترى من حولك أُمّاً ترسل الدمع، ولا إلى جانبك أخاً يتوجع، ولا على مقربة منك عابر سبيل يحمل الوصية.
كنت أنا في مدينة الرياض بعيداً عنك مئات الأميال، وجاءني ورقة صغيرة فيها كلمات تسمى (برقية) ، تسلمتها في صباح يوم من أيام التدريس، تسلمتها على قلق، وقرأتها عجلان في لهفة، فإذا هي تنعاك إليّ، قرأتها مرة بعد مرة بعد مرة، وفي كل مرة كأني لم أقرأها من قبل، يا لله للمصائب المفاجئة! كأنما اتخذت عند الرحمن عهداً ألا تسبقني إلى الموت.
قرع الجرس، وجاء موعد الدرس، فطويت الورقة الحزينة، وأسكنتها جيبي في غير سكينة، ودخلت غرفة التدريس … لقد مضى على ذلك سبعة عشر خريفاً، وإني لأذكر اليوم كأنما كان الساعة. كان درساً في تاريخ الأدب عن ابن تيمية رحمه الله، وألمت بي في أثناء الإلقاء فترات صمت وذهول وشرود، ولكن الطلاب كانوا يحسنون الظن بي، فظنوا أني أتذكر معلومات نسيت، وأتصيد أفكاراً ندّت! وانتهت الحصة، وعدت إلى البيت، فقال أهله: ماذا هناك؟! فقلت لهم ما كان هنالك، فكان صمت، وكان تجهم ووجوم.
ومضت الساعات والأيام والليالي والأشهر، مضت بطيئة الخطو، ثقيلة العبء، مرَّة المذاق، أعاني فيها فقدك، وأعاني فيها مرض السكر الذي كنت لا أدريه.
ثم … ثم بعد طول عذاب وطول غياب يجيء يوم العودة، ويعود المدرسون إلى أهليهم وذويهم بعد فراق تسعة أشهر.
وكان العائدون في مطار الرياض يتحركون بخفة ورشاقة، وكانوا يتكلمون ببشر وطلاقة، كأنما هم عصافير الصباح.
أما أخوك فكان يتكلم، ولكنه لم يكن بليل الريق، وكان يتحرك، ولكن بغير جناح.(8/27)
كان العائدون في مطار الرياض يمدون بأبصارهم وخيالهم بعيداً بعيداً، إلى أرض الوطن، فيرون على أرض مطاره، وعلى أبواب دياره، وفي أفنية المنازل، يرون وجوهاً ضاحكة مستبشرة، تفتح الأذرع، وتمد الأعناق.
أما أخوك فكان يمدّ ببصره كما يمدون، ويحلق بخياله كما يحلقون، ولكنه لم يكن يرى إلا عيوناً أطفأها الدمع، ووجوهاً أذواها الأسى.
وآب الغيّاب إلى أهليهم، وآب أخوك إلى أهله … وفي أول الطريق المؤدي إلى بيتك لقيني طفلك الأكبر، بوجهه المشرق الأزهر، يلعب ويثب مع أطفال الشارع، قال ـ وقد فوجئ بلقيانا ـ: جيتم؟! حتى إذا زالت عنه دهشة الفجاءة عاد يقول: عمي، أبي قد مات، قالها ببراءة وطلاقة ودون مبالاة، وهو لا يدري أي سهم رمى، ولا أي قلب أصمى، وابتدر الدمع إلى عينيّ، ولكنني حبسته بعد غلاب، ومشينا في الطريق إلى البيت، أحمل حقيبة كبيرة في يدي، وطفلك هذا يقفز ويثب من حولي فرحاً مسروراً، يحاول بين الفينة والفينة حمل الحقيبة التي كانت أثقل منه، ووصلنا إلى باب الدار، وعلى عتبة بابها الخارجي كانت أروى ذات العامين تجلس، لقد تركناها حين سفرنا دون فطام، فلم تعرفنا حين العودة، ولم تبد لاستقبالنا أي حراك، لم أقف عندها غير قليل، ثم تجاوزت العتبة إلى من هم وراء العتبات والأبواب ينتظرون، وجدت الوالدة في إحدى زوايا الغرفة تبكي، ومن خلفها زوجك تباكيها، وابنك الأصغر الرضيع مستلقياً على ظهره يحرك يديه ورجليه في خفة ونشاط، دون أن يدري شيئاً مما حوله، كان سلامنا عبرات مهراقة، وقصصاً كثيرة تروي عن مصرعك وجنازتك ودفنك.(8/28)
وذهبت مع شقيقنا الأكبر، حتى إذا انتهينا إلى المقبرة سلمنا على أصحابها، وأخذنا نجوس خلالها إلى أن قال لي: ههنا … فوقفت وسلمت، ونظرت فإذا حفرة كاد يعيفها الريح والمطر لولا حجارة صغيرة طوقتها من كل جانب. يا للموت!! لقد اتسعت هذه الحفرة الصغيرة لقامتك الفارغة، ولآمالك المضيعة، ولهمومك الكثيرة، ولِمَ لا تتسع؟! فالأموات في بطن الأرض ليسوا في حاجة إلى غرف استقبال يتباهون بما فيها من سجاد وكنب وزينة وتحف، وليسوا في حاجة إلى غرف نوم يستريحون فيها وينعمون ويحملون ويكسلون، وما بهم من حاجة إلى غرف للطعام يأكلون فيها أكثر مما ينبغي لهم، ليسوا في حاجة إلى هذا كله، ولا إلى ما يتصل به، ولا إلى ما هو أدنى من ذلك ولا أكثر، لقد ضل عنهم ما كانوا على ظهر الأرض يفعلون.
أما أمك فقد ظلت بقية عمرها مكلومة الفؤاد، لا تكاد ترقأ لها دمعة، أو تخمد لها لوعة، حتى لحقت بك.
يا للأمهات ويا لقلوب الأمهات!! يظللن وفيَّات طول العمر، وعلى نوائب الدهر.
أما زوجك فقد حزنت ما حزنت، حتى إذا عرض لها الزوج الذي ترتضيه تركت بقايا حزن كانت لا تزال عالقة بأذيال ثوبها، وألقت بأولادك الثلاثة إليّ، كما يلقي المسافر بمتاع أثقل عاتقيه، وحنى قائم صلبه، وأقبلت على حياتها الجديدة كما يقبل عباد الله الذين تصيبهم الجراحات حيناً من الدهر، ثم تندمل على كر الغدايا ومرّ العشايا.
لست أدري أكنت في حياتك الدنيا تذهب مذهب القائل:
أهيم بدعدٍ ما حييت فإن أمت
فلا صلحت دعد لذي خلة بعدي
أم كنت ترى هذا القائل أنانيّاً غيوراً ظلوماً؟(8/29)
وأياً ما كان رأيك وهواك، فقد سلكت زوجك الطريق الذي كنت أنت سالكه، لو ماتت هي وبقيت أنت حياً في شرخ الشباب ونضارة الصبا، فلا تثريب عليها فيما فعلت ولا عتاب، والنساء اللائي يصبرن على مكاره العيش ولأواء الحياة، وينشرن أجنحة الرحمة على أطفالهن مؤثرات نعيمهم وراحتهم على راحتهن ونعيمهن، أولئك نسوة قلائل، وقلائل جداً.
وقد تسالني في لهفة وحسرة، وخوف وإشفاق، وماذا صنعت أنت بأطفالي؟! أطفالي الذين كانوا همي وتفكيري وأنا أودِّع هذا العالم، وأكابد غصص الموت، أطفالي الذين طالما وضعت الخطط لمستقبلهم، وبنيت الآمال الكبار على شبابهم، أطفالي الذين تركتهم كزغب القطا ثم لا ماء ولا شجر، أطفالي …؟!
ما صنعت بهم إلاّ خيراً، وسوف أقص عليك نبأهم بعد حين.
دعني الآن أصلي وأسلم على رسول الله وأقول له: صلاة الله وسلامه عليك يا رسول الله، ما أكثر ما سمعت قولك: " أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين في الجنة " وتشير بإصبعك السبابة والوسطى.
ما أكثر ما سمعت هذا القول، ولكن أذني وحدها التي تسمع، ثم لا يلبث تسمعه أن يطويه النسيان.
أما اليوم فإني لأسمعه بحواسي الخمس، وأذكره ليل نهار، صباح مساء، وأدركه عن بلاء وعناء وتجربة.
عانيت يا رسول الله تلك الكفالة التي ذكرت، وتذوقت طعامها الحلو المر، وسمعت نداءها الصاخّ والهامس، ولمست ما خشن منها وما لان، وملأ أنفي منها عطر ودخان، ورأت عيناي لها كثيراً من الصور، فعرفت لماذا أجزلت لها في العطاء، وأعليت شأنها ذلك الإعلاء، وأدركت أن ما قلته لم يكن من بابة الترغيب المحض والإغراء، ولا إسرافاً في الثواب والجزاء، وإنما كان منطق الحق والصدق والهدى والتجربة.
أما الآن فأعود إليك أيها الأخ الكريم الراحل، أعود إليك لأحدثك حديث أبنائك الذين تركتهم صغاراً، وأصبحوا اليوم كباراً، …(8/30)
وإني لأخالك لهفان عجلان إلى أخبار ابنك الكبير … فقد تركته وعلى محياه مخايل الذكاء، وفي عينيه بريق الألمعية.
قصته قصة لم تنته بعد، ولقد بدأ بداية طيبة مرتجاة، حتى إذا هبت عليه عواصف المراهقة، واستبدت به عواطف الشباب، وفقد القدوة الصالحة في المدرسة وفي الشارع، وبعدت عنه أعين الرقباء ـ أخذت ساقاه تضطربان من تحته، وعيناه يغشاهما الضباب؛ وإنه ليخيل إليّ أنك من هول الصدمة تتميز من غيظ، وتصرخ من حسرة، وتسأل من عجب: وأين غاب النصح والإرشاد وإصلاح الفساد؟!
لم يعد للبيت سلطان على شباب هذا الجيل، وما يصلحه البيت ـ إن كان هناك إصلاح ـ تفسده المدرسة حيناً، ويفسده الشارع حيناً آخر، وفي كثير من الأحيان تفسده صحف ومجلات وقصص ووسائل إعلام أخرى.
لقد أصبح عطاء كثير من المدرسة والجامعات عطاء معلومات وحشو معارف، وأصبح همُّ الطلاب نجاحاً في امتحانات وحمل شهادات، لقد فقد الطلاب في مدارسهم هذه وفي جامعاتهم تلك، فقدوا القدوة الصالحة والمثال العالي، فقدوا ما يثبت الإيمان في القلب، وما يغرس الفضيلة في النفس، وإذا ما قلت لك لقد وجدوا فيها ما يزعزع الإيمان في الأفئدة، وما يقتل الفضائل في الأنفس، فما جانبت حقاً ولا قلت زوراً.
إن كثيراً من المدرسين ذووا مؤهلات علمية جيدة، ولكنهم ـ وا أسفاه ـ ليس لهم نور يسعى بين أيديهم وعن أيمانهم وشمائلهم يراه الطلاب فيسيرون على هديه.
لقد أصبحت العلاقة بين المدرسة وتلاميذها علاقة بائع ومشتر، أما ما كان بينهما منذ أزمان من أسباب المودة والعطف والحنان، والإخلاص والنصح، فما أظنه إلاّ راقداً في رمس من هذه الرموس التي من حولك.
لا أريد أن أشرح لك الأسباب، وأبيِّن لك العلل، فذلك شأن من شؤون هذه الدنيا، وأولئك الذين هم يعيشون في الدار الآخرة لا يعنيهم هذا، ولا ينبغي لهم.(8/31)
لن أطيل عليك، فابنك هذا قد أخذ شهادته الجامعية بجدارة، وشرع يزاول عملاً يطعمه الخبز المأدوم، ويسقيه الماء القراح، وهو إلى جانب ذلك يقول الشعر، ويكتب الأدب، ويحب القراءة، على أني لا أدري أيظل في ضلاله القديم، أم يتخذ له طريقاً في الحياة رشداً.
وأما ابنتك الصغيرة التي تركتها ذات عامين، فلم تأخذ من التعليم إلاّ حظاً قليلاً، ولا أدري أكان في ذلك الخير لها أم الشر، ومهما يكن من أمر فأولو البنات هذه الأيام يصطفون لبناتهم من الأزواج من كان ذا مال وعقار، أو كان من الموظفين الكبار، ثم من كان ذا حسب ونسب، وقد يعبئون بذي الدين، وكثيراً ما يكون عيب الخاطب أنه ذو دين، وقد تعجب وتسأل، فيقول قائلهم أريد أن أؤمن حياتها، وأن أطمئن إلى راحتها، وليس أفضل في هذا المجال من ذي مال.
أما أنا فقد ذقت طرفاً من الفقر، وشيئاً من الغنى، فما وجدت الراحة هناك، وما وجدتها هنا، وجدتها طمأنينة نفس وعلاقة بالله صامتة، ليست بذات نفاق وضجيج وتجارة، فآثرت أن تنتقل ابنتك إلى بيت فيه صلاة وصيام، فيه خشية من الله وابتغاء مرضاته، ففي مثل هذه البيوت تكون الراحة، وفي مثل هذه البيوت يكون الأمان والاطمئنان.
أما ولدك الثالث الذي تركته رضيعاً لم يبلغ الفطام، فورقة صفراء من أوراق الخريف، ما هو بالعليل الذي تغشاه صفرة الموت، ولا بالهزيل الذي عضه الجوع وأذواه، لا، فجسمه يفيض نشاطاً وحياة وصبا، ولكنه في روحه ونفسه كسائر أبناء جيله وجنسه، خواء وخلاء، ضياع وقلق، وهيام في كل واد، يسيرون على كل طريق، ولكنهم لا يعرفون بيوت الله إلا قليلاً، ويتعلمون الدين، ولكنهم يسقون كما يسقى المريض دواءه المر، ويصغون إلى نداء الناصح الشفيق كأنما هم في حلم.
لا أريد أن أظلمه حقاً، أو أنقصه قدراً، فلقلبه الغافل بعض الأحايين صحو أرجو الله أن يطول، ولسمائه الغائمة بعض الأماسيّ وميض رغبة أسال الله أن يضطرم.(8/32)
على أنه مما يعزيك ويعزيني أنه ليس من أؤلئك الشبان الذين اتخذوا لهم في اللباس والمظهر صبغاً جديداً، وزيّاً شروداً، فربّوا أظافيرهم كحوافر الخيل، وأطلقوا شعورهم منفوشة كأصواف الخراف، وزينوا معاصمهم بالأساور، وعلقوا القلائد في الأعناق، ولبسوا البناطيل ضيقة الأعالي واسعة الأسافل، وهبطوا بالأحزمة العريضة على الأعجاز، ثم لا شيء وراء ذلك يثقل في الميزان من عمل صالح، أو علم نافع، أو اعتناق لدين، أو احترام لعرف، أو اعتراف بفضيلة.
لا تحزن أيها الأخ الراحل أن تموت شاباً، وأن يجيئك الموت مرة واحدة، فالذين عاشوا من بعدك، على الرغم من طول أعمارهم، يموتون في كل يوم مرة أو مرتين.(8/33)
الجهاد.. الجهاد..
بقلم الشيخ محمود عبد الوهاب فايد
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
العدو الصهيوني خسيس خبيث، استطاع بمكره ودهائه أن يحتل جزءاً من أراضينا، ويسيء إلى سمعتنا، وينال من كرامتنا، والصراع بيننا وبينه يزداد عمقاً وعنفاً، واليوم وقد اشتعلت الحرب بيننا وبينه يجب علينا أن نثبت في المعركة ونستبسل في الكفاح، ونأخذ بأسباب القوة، وعوامل الظفر والنجاح، {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً} .
1ـ علينا أن ندرك أن الجهاد فريضة محكمة أوجبه الله علينا بالعبارة التي أو جب بها الصوم فكما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} قال في السورة نفسها، وبعد الآية بقليل {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .
القتال قد تنفر منه النفوس، ولكنه أحياناً لا تجد الأمة بديلاً عنه ويكون بالنسبة لها أطيب ثماراً، وأعظم آثاراً وأجدى في تحقيق عزتها، وصون كرامتها.
وفي القرآن يتوعد الله الذين يتخلفون عن الجهاد فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلاَّ قَلِيلٌ إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .(8/34)
فواجب أن يجاهد كل فرد منا خصومنا الصهيونيين أعداء الوطن والدين قال صلى الله عليه وسلم: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" أخرجه أبو داود والنسائي. وقال: "من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا أو من خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا" رواه الشيخان.
2ـ وعلينا وقد عزمنا على حرب عدونا أن نصل أنفسنا بالله، ونتوب إليه، ونتوكل عليه ونخلص في طاعته ونصدق في محبته، ونوالي من والاه، ونعادي من عاداه، ونكف عن المآثم والمظالم، ونتجنب حياة المجون والخلاعة والدعة، لتصفو نفوسنا، وتأتلف قلوبنا وتقوى عزائمنا، ويرضى عنا ربنا، ونظفر بتأييد ونصره {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} .
3ـ وعلينا أن نذكر أن الموت لا مهرب منه ولا منأى عنه قال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} ـ {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} .
ولأن نموت مقبلين خير من أن نموت مدبرين، والطعن في الصدور خير منه في الأعجاز والظهور. وما أكثر من قتلوا وهم في بيوتهم آمنون، وما أكثر من نجوا وكانوا في ميادين الحرب يقاتلون، ويرحم الله خالد بن الوليد إذ يقول: "والله لقد شهدت مائة حرب أو زهاءها وما بقي بجسدي موضع شبر إلاّ وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح، وهأنذا أموت على فراشي كما يموت العير فلا نامت أعين الجبناء وما من عمل أرجى من لا إله إلاّ الله وأنا متترس بها".(8/35)
4ـ وعلينا أن نستيقن أن مآلنا في الجهاد إحدى الحسنين: النصر أو الشهادة قال تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} . وقال: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّخَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} .
وعلينا أولاً وأخيراً أن نقوي إيماننا بالله وثقتنا في نصره فنقتلع جذور اليأس من نفوسنا فلا نهيب كثرة العدو ولا عدته، فعند الله جنود لا تحصى {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ والأَّض} . {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} . {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} . {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} .(8/36)
ومن واجبنا هنا أن نذكر غزوة الأحزاب لنطرد اليأس ونصحب الأمل فقد ألَّب يهود بني النضير كفار مكة ومن حولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجوا في جيش جرار وعقدوا العزم على إبادة الدعوة والداعية واستمالوا يهود بني قريظة فخانوا المسلمين وانضموا إليهم، واشتد الخطب على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الحين وقال المنافقون يومئذ: "إن محمداً كان يعدنا كنوز كسرى وقيصر وأحدنا اليوم لا يأمن أن يذهب إلى الخلاء وحده".
ولكن إيمان المؤمنين فتح في وجوههم أبواب الأمل، وبدد ظلمات اليأس، وأنار أمامهم الدنيا بأجمعها فنصرهم الله بريح من لدنه ساقها إلى الكفار فأعمت عيونهم وردتهم على أعقابهم خاسرين، وبعدئذ تفرَّغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليهود بني قريظة أولئك الذين خانوا عهده، ونقضوا مواثيقه، وأصبحوا حرباً على المسلمين فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإسراع إليهم، والإجهاز عليهم، واستجاب المؤمنون لرسولهم، وانطلقوا سراعاً نحوهم وحاصروهم حتى نزلوا على حكمهم، وعاد المسلمون بالنصر والغنيمة، وباء الخونة بالخذلان والهزيمة.(8/37)
ونزل في هذه الغزوة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا َّغُرُوراً وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} .
ونزل في وصف حال المؤمنين قوله تعالى: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} .
ونزل في شأن اليهود قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراًً} .
أيها المسلمون:(8/38)
هذا تاريخكم الأغر فاعتبروا به وصلوا حاضرهم بماضيكم، وحسِّنوا نياتكم، وأخلصوا لربكم، وتصافوا فيما بينكم، وأعدوا العدة لأعدائكم، وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} .(8/39)
رسالة
إلى الأستاذ الدكتور أحمد زكي رئيس تحرير مجلة العربي المحترم
بقلم الدكتور محمد معروف الدواليبي
وبعد فقد أخبرني منذ أيام بعض الأصدقاء من كبار هيئة العلماء في الرياض أن الدكتور أحمد عبيد الكبيسي مدرس الشريعة الإسلامية بجامعة بغداد قد نشر في مجلتكم الغراء في العدد 166 الصادر في شهر رجب 1392 ـ سبتمبر (أيلول) 1972م كلمة تحت عنوان (الحكم بقطع يد السارق في الشريعة الإسلامية) ، وأنه قد جاء فيها "أن بعض الباحثين، ومن هؤلاء معروف الدواليبي في كتابه (المدخل إلى علم أصول الفقه) الصفحة 321، قد ذهبوا إلى جواز إلغاء عقوبة السرقة أو تبديلها بعقوبة [1] أخرى تبعاً لتغير الأزمان والأحوال، وأن لولي الأمر الحق في تكييف عقوبة السرقة حسب الظروف والمقتضيات، وأن هؤلاء ومن وافقهم على أصل جواز تغيير الأحكام المنصوص عليها إذا دعت إلى تغييرها مصلحة حتى ولو تعارض ذلك مع نصوص الكتاب والسنة، وأنهم أخذوا بوقوع النسخ كدليل على جواز تغيير الأحكام المنصوص عليها وأنهم اعتبروا عدم قطع عمر لغلمان حاطب لما سرقوا تصرفاً في النص وتعطيلاً للحد"، ثم أنهى هذا الكاتب كلمته بقوله: "أما وقد تم التشريع الإسلامي وأكمل الله دينه، وعقوبة السرقة على حالها، فليس لأحد أن يدعي أنه يعلم من وجوه المصلحة ما غاب من علم الله تنزه ذكره، ومن شقي بادعاء ذلك فليسمع قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .(8/40)
وإن الذي نقل إليّ هذه الكلمة كان استغرابه عظيماً لما نشر في هذا العدد منسوباً إليّ خاصة، وكنا في حديث عن ندوة كبار علماء الحقوق الأوروبيين الذين حضروا إلى المملكة السعودية في شهر مارس من هذا العام للاجتماع مع علماء المملكة والتعمق في حقيقة حقوق الإنسان في الإسلام، وقد أثاروا أحكام الحدود في الإسلام مستنكرين ومعلنين تنافيها مع حقوق الإنسان، وكان رَدّي عليهم كلمة الفصل وبحضور نخبة من كبار علماء المملكة برئاسة سماحة وزير العدل الشيخ محمد الحركان الذين شكروا لي موقفي وقوة حجتي في الدفاع عن شريعة الله وخاصة في الحدود وفي مقدمتها القطع والرجم، وكل ذلك لا يتفق في شيء مع ما نسبه إليّ الكاتب الدكتور أحمد عبيد الكبيسي، مع العلم بأن كتابي الذي نسب إليه هذا الباطل قد طبع خمس طبعات منذ سنة 1949، ودرَّسته في كلية الشريعة في دمشق بضع سنوات، وكذلك في كلية الحقوق في دمشق، وكذلك في معهد القضاء العالي في الرياض بتكليف خطي لي من قبل المرحوم سماحة مفتي المملكة العربية السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، ولم يفهم أحد مني أو من كتابي ما فهمه الكاتب الدكتور الكبيسي، وها أنا أستعرض ما سجله الكاتب المذكور من مفاهيم لا أصل لها في كتابي، مع الرد عليها واحدة فواحدة من نفس كتابي، وخلافاً لما نسبه إليّ.
وإنني أبدأ في الرد على ما نسبه إلى كتابي من نقاط أساسية مرتبة كما جاءت في كتابي من أصول ثم من فروع، مع لفت نظر الكاتب أولاً إلى أنني لست باحثاً في هذه الأمور ومبتدعاً، وإنما ناقلاً ومتمسكاً بما قرره العلماء، وعاملاً بفهمهم لا بما نسبه إليّ الكاتب الكبيسي من فهم ظالم.(8/41)
ومن أولى هذه النقاط الأساسية زعم الكاتب بأنني "من هؤلاء الباحثين ومن وافقهم على أصل جواز تغيير الأحكام المنصوص عليها إذا دعت إلى تغييرها مصلحة، حتى ولو تعارض ذلك مع نصوص الكتاب والسنة". وهذا بهتان عظيم أبرأ منه إلى الله وأستنكر نسبته إليّ فيما يخصني وذلك بدليل ما جاء في كتابي من نصوص واضحة صريحة ضد هذه المفاهيم الباطلة التي كان على الكاتب تصحيحها وتصحيح ما أبهم عليه من ألفاظ أحياناً وذلك بتحكيم تلك النصوص التي لا غموض فيها.
ومن هذه النصوص:
أولاً ـ أنني كلما ذكرت المصلحة للعمل بها فذلك "في كل مسالة لم يرد في الشريعة نص عليها ولم يكن لها في الشريعة أمثال تقاس عليها "ـ الصفحة 301، الفقرة 1، وكذلك في الصفحة 309، الفقرة 3.
ثانياً ـ أن العبرة في المصلحة إنما هو لمقصود الشرع لا للأهواء، وأن كل مصلحة علم أنها ليست من مقاصد الشرع كان الاعتماد عليها في الاجتهاد والحكم باطلاً لا يلحق الحكم بالشرع ـ الصفحة 309، الفقرة 3.
ثالثاً ـ "أن النسخ لا يصح إلا من قبل الشارع نفسه … وقد اعتبرت الشريعة الإسلامية النسخ للأحكام الشرعية حقاً خاصاً بمن له سلطة الاشتراع"ـ الصفحة 316، 317، الفقرات 1، 3.
رابعاً ـ "وأما تغيير الحكم الذي لم ينسخ نصه فهو عبارة عن العمل بنفس النص الثابت، ولكن بدليل مستوحى من ظروف النص تبعاً لمصلحة زمنية.."الصفحات 317، 318، الفقرة 4.
خامساً ـ "أن العمل بمبدأ تغير الأحكام بتغير الأزمان هو عمل اجتهادي جليل ودقيق، يتطلب حساً مرهفاً في تلمس المصلحة للأمة ودفع المفسدة عنها، وإلا فإن إطلاق العمل به للمجتهدين يكون مدعاة لفوضى في التشريع والقضاء"الصفحة 319، الفقرة 6.(8/42)
سادساً ـ "أن الفقهاء اختلفوا في المصلحة تجاه النصوص على أربع طوائف الشافعية، والحنابة، والمالكية، والغلاة في المصالح المرسلة كالطوفي"الصفحات 237، 238، الفقرة 38 ـ ثم قلت: "ونرى لزاماً علينا أن نشير إلى ما في مذهب الطوفي وأمثاله من خطر الغلو في الأخذ بالمصالح المرسلة، وإن في ذلك تعطيلاً للنصوص بما يبدو للمجتهد من المصلحة، ولو جاز لتعطلت نصوص الشرائع وسادت الفوضى في العمل بالشريعة.. ولذلك وجدنا الأئمة الأربعة مجتمعين على رفض هذا الغلو"الصفحات 244، 245، الفقرة 52.
سابعاً ـ "إن الإسلام لما اشتد ساعده وتوطد سلطانه رأى عمر رضي الله عنه حرمان المؤلفة قلوبهم من العطاء المفروض لهم بنصوص القرآن، وليس معنى ذلك أن عمر قد أبطل أو عطل نصاً قرآنياً، ولكنه نظر إلى علة النص لا إلى ظاهره، واعتبر إعطاء المؤلفة قلوبهم معللاً بظروف زمنية تقتضي ذلك العطاء، وتلك هي تألفهم عندما كان الإسلام ضعيفاً، فلما قويت شوكة الإسلام وتغيرت الظروف الداعية للعطاء، كان من موجبات النص ومن العمل بعلته أن يمنعوا من هذا العطاء"الصفحة 321، الفقرة 2 ومن هذا القبيل أيضاً اجتهاد عمر رضي الله عنه عام المجاعة في وقف تنفيذ حد السرقة وهو قطع اليد، معتبراً أن السرقة ربما كان يندفع إليها السارقون بدافع الضرورة لا بدافع الإجرام، وفي ذلك شبهة في الجرم على الأقل، والحدود تدرأ بالشبهات"الصفحات 321، 322، الفقرة 3 "ومن المعلوم أن عمر رضي الله عنه كان قد أمر أولاً بقطع أيدي غلمان حاطب لما سرقوا، ثم أمر بوقف القطع".(8/43)
ويتضح من هذه النصوص الواردة في كتابي "المدخل إلى علم أصول الفقه"أنني لم أقل بجواز إلغاء عقوبة السرقة تبعاً لتغير الأزمان، ولا قلت بالتصرف بالنص وتعطيل الحد، وإنما نقلت الحكم بوقف تنفيذ القطع عام المجاعة بعد الأمر بالقطع، وذلك لأن الحدود تدرأ بالشبهات، ولم أقل قط "بجواز تغيير النصوص أو تعطيلها إذا دعت إلى ذلك مصلحة "، كما عرف ذلك عن الطوفي، والفرق كبير خطير بين تغير الأحكام الزمنية، وبين الزعم بجواز تغيير النصوص الثابتة وتعطيلها، وهذا ما رددته رداً صريحاً وحذرت منه ودعوت إلى العمل بما أجمع عليه الأئمة الأربعة من رفض ذلك وعدم جواز الأخذ بالمصلحة "إذا تعارضت مع نصوص الكتاب والسنة"ولذلك لا يجوز للكاتب الأستاذ الكبيسي أن يأخذ بمفاهيمه المغلوطة وأن يهمل نصوصي الصريحة وأن ينسب إليّ ظلماً ما قد صارحت بالتحذير منه، وخاصة ما نسبه إليّ من سوء فهم لما استشهدت به من كلام ابن القيم رحمه الله ظناً منه أنني استشهدت به لإسقاط النص أو للتصرف به وتعطيله مما أبرأ إلى الله منه ومن سوء فهمه.(8/44)
وأعجب من كل ذلك ما ظنه الأستاذ الكبيسي أنه اكتشاف لانخداعي بالعنوان الذي أدرج ابن القيم كلامه فيه تحت قوله: "فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد"، وقوله: إنني فهمت من عبارة "تغير الفتوى"تغير الحكم، وأنه ليس الأمر كذلك لأن الفتوى غير الحكم، وإنما هي بيانه، وهنا ألفت نظر الأستاذ الكبيسي إلى أنني لست صاحب القول الذي قال: "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان" وإنما هو قول الأئمة المعتمدين، غير أن من قال بذلك لم يقل إن المراد من "تغير الأحكام"هو تغير النصوص وتعطيلها والتصرف بها، وإنما مراده "تغير الفتوى"، كما قال ابن القيم رحمه الله، وليست "الفتوى"عندما تطلب من المفتي إلا التعبير عن "الحكم" الشرعي في القضية المسؤول عنها، فلا خلاف إذن في المراد من اللفظين هنا، ولا انخداع ما دام المراد منهما هنا بعيداً عن الزعم "بتغير النصوص مع تغير الأزمان"فلا يجوز للأستاذ الكبيسي إلزام الآخرين بما يفهمه هو من فهم لم يجزه الآخرون، وإنما رفضوه وحذروا منه.
وملاحظة أخيرة على فهم الأستاذ الكبيسي فيما يتعلق بالنسخ، وزعمه بأنني أخذت بوقوع النسخ كدليل على جواز تغيير الأحكام المنصوص عليها، فهذا شيء لا أصل له إلا سوء الفهم الذي وقع فيه ورماني به، وذهب يطيل الكلام فيه إطالة لا حاجة إليها، فإنني فرقت ما بين النسخ الذي هو من عمل الشارع نفسه ويتعلق بالنصوص، وما بين تغيير فتوى المفتين والمجتهدين في بيان الأحكام عند تغير الظروف والأزمان، وذلك من عمل المجتهدين ومن دون مساس بالنصوص، بل قلت فيه: "إنه عبارة عن العمل بنفس النص الثابت، ولكن بدليل مستوحى من ظروف النص تبعاً لمصلحة زمنية"الصفحات 316، 317، 318.(8/45)
وأما ما نقلته في هذا المقام عن العلماء في فلسفة الشرائع وقولهم فيها: "إن التشريع الذي تلائم أحكامه أمة ويتفق ومصالحها قد لا تلائم أحكامه أمة أخرى ويعارض مصالحها"ثم تعليق الأستاذ الكبيسي عليه بقوله: "فهذا ما نستعيذ بالله من شر خطراته على الذهن" فأنا أيضاً أستعيذ بالله من شر خطراته على الذهن إذا فهم منه فاهم أننا نريد منه تعطيل نصوص الشريعة الإسلامية الثابتة. ولكن هذا الفهم حذرنا منه النص كما أشرنا إليه أعلاه ولم يورده علينا أحد قبله، ولذلك كان من الغفلة غير المتسامح بها أن يفهم منه ما فهمه الأستاذ الكبيسي على الرغم من رفضنا له نصاً وتأكيداً، وإنما يجب أن يبقى ذلك المعنى من فلسفة الشرائع مقروناً بما ذكرناه عقبه حول النسخ من قبل الشارع نفسه حيث قلنا نقلاً: "وهذه أصول تكاد تكون بديهية غير مفتقرة إلى برهان، وأصدق شاهد لها نسخ بعض الأحكام الشرعية ببعض في التشريع"الصفحة 318، الفقرة 5 ـ وهذا صحيح وواقع.
وأختم بقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا.. وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا} وارحم معنا الأستاذ الدكتور الكبيسي سامحه الله.
بيروت في 9/10/1392 الموافق 15/11/1972.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الصحيح: تبديل عقوبة أخرى بها بإدخال الباء على المتروك كقوله تعالى: {أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير} .(8/46)
وجوب الحكم بما أنزل الله
للشيخ عطية محمد سالم
القاضي بالمحكمة الشرعية بالمدينة
هذا المبحث من أهم مباحث القضاء الإسلامي، وألزم ما يعنى به في قسم الدراسة الخاص به في جميع مراحل التعليم والمعاهد العالية الإسلامية وأخص ما يكون بشعبة القضاء بالجامعة الإسلامية وهو الأصل وما عداه فرع عنه.
ولذا لزم البسط فيه قدر الطاقة واحتمال الجهد. وإيراد أقوال السلف واختيارات الخلف، والنظر في حال العالم اليوم مما يسير عليه من قضاء وضعي وتحاكم لغير ما أنزل الله.
وإن العناية بمثل هذه الدراسة ليست من ضروريات هذه الشعبة فحسب بل من ألزم ما تكون للعالم الإسلامي بل وغير العالم الإسلامي ليروا حقيقة الأمر ولتمد إليهم أيدي المساعدة. وتضاء لهم الطريقة ويوضح لهم المنهج ويوجهون إلى الجهة الصحيحة بهداية كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ونور الوحي المنزل من رب العالمين على سيد المرسلين وخاتم النبييين المبعوث رحمة للعالمين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وهذا الموضوع وإن كان بالأهمية بمكانته فإني أورد ما بلغه الوسع ومما يقرب دراسة هذا الموضوع تقسيمه إلى ثلاث نقاط:
الأولى: بيان من له حق الحكم والتشريع للخلق وتلزم طاعته وامتثال أوامره والخضوع له والانقياد لما شرع ومن ثم يملك الإلزام به والعقوبة على مخالفته والثواب على طاعته.
الثانية: من الذي شرع لجميع الأمم الماضية ولمن كان تحاكمهم وبيان مصدر التشريع لها والحكم فيها.
الثالثة: ما جاء في حق هذه الأمة من النصوص وما يترتب عليه من نتاج عاجلة وآجلة.(8/47)
أما من له حق الحكم والتشريع فإنه حق لله تعالى لأنه خالق الخلق وأعلم بمصالحهم مربيهم وأعلم بشؤونهم، وهو الحكيم العليم الرؤوف الرحيم سبحانه له مقاليد السموات والأرض وبيده ملكوت كل شيء وهو على كل شيء قدير، شرع لجميع الخلائق في جميع الأمم كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه} .
وجاء في النصوص متضافرة متوافرة على أن الحكم كله لله لا حكم لأحد سواه كما في قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا َّلِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} . وذكر القرطبي أنه قرئ {يقض الْحَقَّ} وكقوله: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} ومنها قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} قال القرطبي: "أي ليس يتعقب أحد حكمه بنقض ولا تغيير".
ومن ناحية أخرى فإن امتثال الحكم طاعة والطاعة هي عين العبادة والعبادة لا تكون إلا لله وحده وقد جمع الحكم والعبادة معاً لله وحده في قوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاه} فكما لا تجوز عبادة غير الله لا يجوز الحكم إلا لله.
وهذا الحق واجب لله تعالى على خلقه بموجب ولايته عليهم، وأيضاً قد جمعا معاً في قوله تعالى: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} .(8/48)
وفي هذا كله دليل على أن الحق في الحكم وفي تشريع الأحكام لله تعالى وحده وأن من عداه يكون شركاً مع الله كما في قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} . وبالتالي يكون من أطاعهم فيما شرعوا مما لم يأذن الله به مشركاً مع الله، وهو المسمى شرك الطاعة المنوه عنه في قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} .
فجعل تعالى طاعتهم فيما يوحون به شركاً، وذلك بعد قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} ، فقالوا ما قتلتموه يكون حلالاً وما قتله الله يكون حراماً، فأنزل الله الآية {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} .
وعن عكرمة قال: "الشياطين هنا مردة الأنس من مجوس فارس". وعن عبد الله بن الزبير أنه قيل له: "إن المختار يقول يوحى إليّ" فقال: "صدق إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم". ويشهد لهذا قوله تعالى: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} .
ومن هنا كانت طاعة غير الله فيما لم يأذن به الله ربوبية لهم. قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه} وسئل حذيفة عن هذه الآية هل عبدوهم فقال: "لا. أحلوا لهم الحرام فاستحلوه. وحرموا عليهم الحلال فحرموه".(8/49)
وعليه حديث عدي بن حاتم عند الترمذي قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: ما هذا يا عدي اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ في سورة براءة {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه} ". ثم قال: "أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه". وفي رواية "أن عدياً قال: "يا رسول الله ما كنا نعبدهم". فقال: "ألم يكونوا يحرمون عليكم ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون لكم ما حرم الله فتحلونه"، قال: "بلى". قال: "تلك عبادتكم إياهم".
وبهذا يظهر أن الحكم أصالة لله وحده وتشريع الأحكام له سبحانه وحده وليس لأحد سواه في ذلك حق.
وقد ظفرت في هذا المقام بما كتبه فضيلة والدنا الشيخ محمد الأمين حفظه الله لأضواء البيان فيما يعده للجزء السابع الذي لم يقدم للطبع وهو مبحث لم يسبق إليه في بيان موجبات التشريع وصفات من له الحق في ذلك لكمال ذاته وصفاته.
ذكر ذلك عند قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} نوجزه من ما يحتمله المقام إلى أن يتم الله هذا الجزء وينعم علينا بظهوره. فيرجع إليه كل طلب، ويتزود منه كل راغب وقد ذكر فضيلته عن هذا الموضوع في مواضع مختلفة من الأضواء خاصة في الجزء الثاني وفي سورة النساء، والكهف، والمائدة، وبني إسرائيل، وكلها ولله الحمد وافية، ولكن ما أعده حفظه الله في هذا المقام أتم وأوفى ما كتب.(8/50)
قال حفظه الله: " (مسألة) : اعلم أن الله جل وعلا بيّن في آيات كثيرة صفات من يستحق أن يكون الحكم له. فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة التي سنوضحها إن شاء الله، ثم يقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية فينظر هل تنطبق عليه صفات من له التشريع سبحان الله عن ذلك فإن كانت تنطبق عليهم ولن تنطبق، فليتبع تشريعهم، وإن ظهر يقيناً أنهم أصغر من ذلك فليقف بهم عند حدهم ولا يتجاوز بهم إلى مقام الربوبية سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته أو حكمه أو ملكه.
الآية الأولى: قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} . ثم قال مبيناً صفات من له الحكم بقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ، فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . فهل في الكفرة المشرعين للنظم الشيطانية من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي له هذه الصفات من الخلق وبسط الرزق.(8/51)
الآية الثانية: قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} . فقوله تعالى فيها: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} كقوله في تلك {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} . وقد عجب نبيه عليه السلام بعد قوله {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} من الذين يدعون الإيمان مع أنهم يريدون المحاكمة إلى من لم يتصف بصفات من له الحكم المعبر عنه بالطاغوت، وكل تحاكم إلى غير شرع الله تحاكم إلى الطاغوت وذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} .
فالكفر بالطاغوت المصرح به هنا شرط في الإيمان كما بينه تعالى بقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} ومن لم يتمسك بها فهو في مهواة مترد مع الهالكين.
الآية الثالثة: قوله تعالى: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} ، فهل في الكفرة من يستحق أن يوصف بشيء من هذه الصفات.
الآية الرابعة: قوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} . فهل في الكفرة المشركين من له هذه الصفة.
الآية الخامسة: قوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} .(8/52)
الآية السادسة: قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
فهل في مشرعي القانون من يستحق أن يوصف بشيء من ذلك أو يستطيع ولو ادعاء أن يأتي بشيء من ذلك.
الآية السابعة: قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ ألاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} .
الآية الثامنة: قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} .
الآية التاسعة: قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} فهل لأحد ممن يضع القوانين يدعي لنفسه شيئاً من ذلك.
الآية العاشرة: قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} . فهل في أولئك من له شيء من هذه الصفات.(8/53)
ويمكن أن يقال أيضاً: هل منهم من تمت كلمته لا تبديل ولا تغيير أم أنهم في كل وقت يغيرون ويبدلون ويعدلون بحسب ما يطرأ عليهم مما لا يعلمون عند وضعهم للقوانين أو كلما جاءت أمة غيرت ما وضعته الأمة قبلها فلم يثبت لهم وضع ولم يسلم لهم قانون.
الحادية عشرة: قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} . فهل من أولئك من ينزل الرزق للخلائق ويتصرف فيه فيملك التحريم والتحليل.
الثانية عشرة: قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
وهنا تصريح بأن ما قننوه إنما هو ما تصف ألسنتهم الكذب افتراء على الله، وأنهم بذلك لا يفلحون ثم يثبت أنهم يمتعون قليلاً ثم يعذبون العذاب الأليم. وهذا واضح في تباعد صفاتهم من صفات من له حق التحليل والتحريم وفرض الحكم والزام الطاعة.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} . وهذا على قصد التعجيز عن بيان مستند التحريم.
فهذه الآيات كلها التي ساقها فضيلته حفظه الله في بيان من له حق الحكم والتشريع، وأن أخص ما فيها أنه تعالى له مقاليد السموات والأرض والخالق الرزاق الدائم الباقي العلي الكبير. يقلب الليل والنهار وتمت كلمته صدقاً وعدلاً، وما يكون من غيره كذب وافتراء، ولا يقيمون عليه شهادة ولا يفلحون ولهم عذاب أليم.(8/54)
ومن أهم ما يلفت النظر في هذه النصوص أنه تمت كلمته تعالى صدقاً وعدلاً؛ لأنها من عالم السر وأخفى يعلم غيب السموات والأرض لا تخفى عليه خافية.. وكلمات غيره افتراء وكذب مضطربة متغيرة ومبدلة من وقت لآخر. كما أن أولئك لا يفلحون بتشريعاتهم وغايتهم يمتعون قليلاً ولهم عذاب أليم. حتى لو ادعوا استقامة أمرهم وسلامة أوضاعهم في نظرهم فإن ذلك كله مؤقت ومتاع فإذا جاؤوا إلى الله كان لهم العذاب الأليم. وأي قيمة في متاع قليل يعقبه عذاب أليم..
بينما تشريع الله تعالى فيه سعادة الدنيا وفلاح الآخرة كما في قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} .
حتى قيل: إن الله ضمن لمن اتبع هداه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ونحوها قوله: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاًً لِنَفْتِنَهُمْ فِيه} أي بالعمل. {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} . كما حكم على من أعرض عن ذكره بالعكس {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} . لأن الأول يسير على هدى من الله ونور، والثاني يتخبط في دياجير الجهل على ما سيأتي بيانه إن شاء الله عند المقارنة بين الجانبين في بيان محاسن الشريعة الآتي:
تحكيم الشريعة في الأمم الماضية:
وقد تولى سبحانه الحكم والتشريع لجميع الأمم على ألسنة الرسل بواسطة الكتب وبما يوحيه سبحانه لمن شاء من عباده..
ابتداء من آدم عليه السلام إلى مجيء نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.. فكان حكم الله فيهم وكانوا يتحاكمون إليه بالقرابين كما تقدم [1] ..(8/55)
ثم جميع الأنبياء من بعد نوح عليه السلام في قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} فكان الناس أمة واحدة على التوحيد فاختلفوا فبعث الله النبيين من نوح وما بعده.
قيل كانوا على التوحيد حتى وقع الشرك في قوم نوح فبعث الله النبيين وأنزل مع كل نبي كتاباً بالحق ليحكم الله بكتابه أو يحكم النبي في قومه بكتاب الله، فيما اختلفوا فيه، فلم يترك الحكم لأحد من الخلق حتى الأنبياء، ولكن كان الحكم لله بمقتضى كتابه الذي ينزله على أنبيائه وهذا عام في الأنبياء.
ثم جاء في خصوص داود في تنصيبه خليفة للحكم بين الناس بالحق: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} فجعل استخلافه في الأرض للحكم بين الناس، وجعل حكمه بالحق ونهاه عن اتباع الهوى وحذره من عقاب الذين يضلون عن سبيل الله الذي هو الحق …
وبعد داود أمة موسى. أنزل الله عليهم التوراة للحكم بما أنزل الله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأََحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} .(8/56)
فالتوراة أنزلت على نبي الله موسى يحكم بمقتضاها في قومه.. ثم يحكم بها من بعده النبيون من بني إسرائيل والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله أي التوراة، وكانوا عليه شهداء على أنها من عند الله.. ثم جاء من بعده عيسى عليه السلام، وأنزل عليه الإنجيل وأمر بالحكم بما فيه وأمر قومه أن لا يخرجوا عن حكمه..
قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} أي من الهدى والنور..
وجعل من لم يحكم به منهم: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ثم جاء عقب ذلك مباشرة في سلك النظم في حق الأمة قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجا} ..
وبهذا تكتمل حلقة الحكم بما انزل الله في جمع الأمم منذ أن كانوا أمة واحدة فاختلفوا، إلى داود إلى أنبياء بني إسرائيل إلى موسى وعيسى ثم إلى هذه الأمة..
الجديد في خصوص هذه الأمة
وبتأمل النصوص المختصة بهذه الأمة خاتمة الأمم نجده يتميز عما قبله بما يتناسب ورسالتها الدائمة إلى أن يرث الله الأرض من عليها، وهذه النصوص كالآتي:(8/57)
أولاً ـ قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} ..
ثم أعيد الأمر مرة أخرى في الآية التالية لها بنفس النص:
{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ..
ففي هذا النص عدة نقاط جديدة عما تقدم من الأمم:
أـ أن ما أُنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة مع أنه مصدقاً لما بين يديه من الكتاب فهو مهيمن عليه.
ب ـ التحذير مرتين عن اتباع أهوائهم عما جاء من الحق.
ج ـ انفراد كل أمة بمنهاج تشريعي يخصها.
د ـ التحذير من أن يفتنوه صلى الله عليه وسلم عن بعض ما أنزل الله.
وفي النقطة الأولى بيان منزلة ما أنزل الله على هذه الأمة مما أنزله تعالى على الأمم الماضية من أنه مهيمن على كل ما سبقه من الكتب لاشتماله على كل ما فيها وزيادة عليه بما يلائم هذه الأمة فهو مهيمن على غيره ولا يهيمن غيره عليه.
وهذه الهيمنة هي التي جعلت هذه الأمة خير أخرجت للناس وكانت أمة وسطاً لتكون شهداء على الناس. وهي التي من أجلها غضب الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى الصحيفة في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتلوه من التوراة ويستحسنها. قال له: "ألم آت بها بيضاء نقية يا ابن الخطاب، والله لو أن موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا اتباعي.." فلم يدع هذا الكتاب مجالاً لشيء من غيره..(8/58)
وفي النقطة الثانية: التحذير مرتين عن اتباع عما جاء من الحق، وأن أعداء الإسلام سيحاولون استمالة المسلمين والحكام خاصة عما جاءهم من الحق وأن ما يحاولون إليه هو الباطل والضلال لأنه ليس بعد الحق إلا الضلال ولا واسطة بينهما، ويشهد لهذا قوله تعالى:
{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَق} ..
والنقطة الثالثة: تدل على أن مناهج تلك الأمم في التشريعات الفعلية والفرعية لا تتلاءم مع هذه الأمة، ويشهد لهذا أيضاً أن جميع العبادات مشروعة لمن قبلنا ولكنها ليست مثل ما هي مشروعة لنا كالصلوات والزكاة والصيام والحج وهذا معروف ومفصل في محلاته، فكذلك تشرع الأحكام في العقود والعقوبات والمعاملات … الخ. فلا يصلح أخذ شيء مما كان مشروعاً لهم ولو أنه منزل من عند الله إليهم إلا يجيء لنا كما هو معروف في قاعد شرع ما قبلنا شرع لنا ما لم يأت في شرعنا ما يدل على أنه ليس بشرع لنا، ومعلوم أنه ما كان شرعاً لهم وجاء في شرعنا أنه ليس شرعاً لنا لا يحق لنا أن نأخذ به فكيف بتشريعات البشر ووضع القوانين الوضعية.(8/59)
والنقطة الرابعة: تدل على أنهم سيحاولون بكل وسع أن يفتنوا المسلمين ولو عن بعض ما أنزل الله، والتحذير من هذا البعض لأنهم إن تمكنوا من هذا البعض سيحاولون إلى بعض آخر وهكذا، ولا يكتمل التشريع إلا بتمامه ومن ناحية أخرى فلسنا بحاجة إلى أخذ بعض منهم لأن فيما أنزل إلينا تبياناً لكل شيء. ولا يحق للأمة أن تترك مما أنزل الله إليها ولا البعض منه وإن كان هذا مما اختص به مما أنزل الله على هذه الأمة فإن الله تعالى قد اختص رسوله صلى الله عليه وسلم عمن قبله من الرسل في مجال الحكم في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} . فقد أعطى حق الحكم وأن حكمه بما أراه الله ولذا ألزموا لحكمه والتسليم لأمره في قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} .
إرساء قواعد الحكم السليم: وفي جملة ما تقدم إرساء لقواعد الحكم السليم الذي يقوم على أساس العلم والمعرفة لأنه بما أنزل الله وبما أراه الله وجاء في الحديث أن من ولي القضاء بدون طلب له وكل به ملك يسدده.
ومحاطاً بالنزاهة التامة لأنه مجانب لاتباع الهوى، وجاء في حديث القضاء ثلاثة: وقاض عرف الحق ولم يحكم به أي حكم بهواه فهو في النار. مستقلاً عن أي مؤثر، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك.
وفي نهاية السياق بيان عاقبة من تولى عنه وأعرض في قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} ..(8/60)
فقد اكتملت في هذا العرض أسمى عناصر القضاء والحكم المثالي مما ينادي به العالم اليوم لإصلاح القضاء من وحدة، واستقلال، وحرية، كما اكتمل للحاكم في منهج الإسلام عوامل الحكم السليم من العلم المعرفة والنزاهة.
وعلى هذا الاكتمال عقدت مقارنة بين منهجين في الحكم مختلفين:
أـ حكم الجاهلية.
ب ـ وحكم الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} .
أما المنهج الأول: فيكفي لبطلانه ورده إسناده للجاهلية، وهو وصف يتنافى مع أبسط قواعد العدالة وزاده نكارة أنه عرض في صورة إنكاره أفحكم الجاهلية يبغون.
وأما المنهج الثاني: فيكفي للحرص على قبوله ووجوب العمل به أنه من عند الله ومن أحسن من الله حكماً لقوم يؤمنون والتذييل بقوم يؤمنون هنا تتبين للأذهان وإيقاظاً للضمائر واليقين في النفس لعظمة هذا الأمر، تحذير الأمة مما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد حذر المؤمنين من أعدائهم كما حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
فهذا نداء تحذير لجميع المؤمنين أن يتخذوا اليهود والنصارى أولياء، وهذه الولاية المنهي عنها وإن كانت عامة فهي تتناول الولاية في الحكم الذي هو موضع السياق وهو عين التحذير الوارد في أول السياق الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم. وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك.(8/61)
وما استقر القانون الوضعي في البلاد الإسلامية بهذه المولاة المنهي عنها لأنه إن كان إيجاده ابتداء فرضاً من المستعمر بالقوة فقد ذهب المستعمر وبقي من يواليه وقد أخذت البلاد استقلالها سياسياً، ولم تستطع تحقيق استقلالها قضائياً، لا لشيء إلا للموالاة، وكأنها لا تريد أن تقطع صلتها بمن كان مستعمرها.
النص الثاني: والنص الثاني الخاص بهذه الأمة في وجوب الحكم بما أنزل الله أعم من الأول لاشتماله جميع الأمة بتكليفها بأداء الأمانة ونصب الحكام والحكم بين الناس والطاعة لأولي الأمر منهم.
في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأََمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأََمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .(8/62)
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً. فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً. وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماًً. فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً. وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً. وَإِذاً لآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً. وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً. ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى(8/63)
بِاللَّهِ} .
وهذا السياق كله في قضية الحكم وبيان موقف المنافقين من التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله. وبجانب ذلك منهج مزدوج يبين موقف الحكام من المحكومين وموقف المحكومين من الحكام. فأمر الجميع أولاً بأمر عام وهو أداء الأمانة إلى أهلها وأخصها أمانة الحكم عند الحكام وأمانة الحقوق عند المحكومين ثم خص كل منهما بما يلزمه وكلف به فخص الحكام بقوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} . وليس هذا قاصراً على الحكام في مجلس القضاء بل هو عام في كل حكم بين اثنين من شؤون المسلمين كما يشمل حكمي الزوجية وغيرهما.
ثم خص المحكومين بالأمر: بالسمع والطاعة لأولي الأمر وهم العلماء والأمراء وبالتالي الحكام.
وبالنظر في تكليف الأمة بالسمع والطاعة نجد أصلاً أصيلاً في حدود تلك الطاعة المأمور بها فيقول تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول} بتكرار لفظ الطاعة. أما أولوا الأمر فتأتي طاعتهم معطوفة على طاعة من قبلهم.
وبحكم تبعية المعطوف للمعطوف عليه تكون طاعة أولي الأمر تابعة لطاعة الله ورسوله. أي أنه لأولي الأمر حق الطاعة ما داموا طائعين لله ورسوله أو ما دامت طاعتهم موافقة لطاعة الله ورسوله. فإذا كانت مخالفة لطاعة الله ورسوله فلا طاعة لهم فيما يأمرون به لمخالفته لأوامر الله ورسوله.
وعليه الحديث "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ". وهذا خاص فيما يأمر به وينهى عنه لا فيما يأتي هو ويذر. وعليه الحديث "عليكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي "."والسمع والطاعة ما لم تروا كفراً بواحاً ". إلى غير ذلك من النصوص التي تضع حداً للسمع والطاعة وتفرق بين الحكم والحاكم.(8/64)
وفي هذا المقام يقيم المرجع بين الأمة فيما بينه وبينها وبين حكامها فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول أي لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم ربط هذا بالإيمان بالله واليوم الآخر وبيان النتيجة خير وأحسن تأويلا. مآلا في العاقبة عاجلاً وآجلاً.
وأيضاً مقارنته بين متحاكمين إلى منهجين مختلفين متحاكمين إلى الطاغوت وقد أمروا انظر: يكفروا به ومتحاكمين إلى كتاب اله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أـ فالمتحاكمون إلى الطاغوت بدعوة من الشيطان ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً.
ب ـ والتحاكمون إلى ما أنزل الله. بدعوة من الله. ولكن المنافقون يصدون عنه صدوداً.
وبمفهوم هذا فإن المؤمنين على خلاف ذلك، وقد بينه تعالى في قوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
بيان الدوافع التي سببت الإعراض ونتيجته
ومع هذه المقارنة الكاشفة بين الله تعالى نتيجة هذا الإعراض وأسبابه.
أما النتيجة ففي قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي الإعراض والصدود والتحاكم إلى غير ما أنزل الله فيجر عليهم كل المصائب بعدم الردع أو الزجر أي بضياع الأموال وانتهاك الأعراض وغير ذلك.
التمويه والتضليل: ثم يبين تعالى ما يتلبسون من مظاهر التمويه والتضليل بقوله تعالى: {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} .(8/65)
وفي هذا المقام بيان لعين الدعوة القديمة المتجددة وهي عين الإحسان والإصلاح وهي عين ما يدعيه أولئك دعاة التغيير من قولهم نريد ما فيه المصلحة وما يتناسب والوضع الحاضر وما يساير التطور إلى غير ذلك مما لا يخرج من ادعاء السابقين من سلفهم حتى أدى ببعضهم أن تجرأ وقال حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله ز وهذا القول زاد في ضلاله عن قول المتقدمين لأنه ينزل بمستوى الشرع إلى هؤلاء الناس ويجعل الشرع تابعاً لما يسمونه مصلحة. إنا لنتساءل ما حدود هذه المصلحة المزعومة أهي في ربويات البنوك أم عقود الغرر أم في حرية الأفراد ومساواة المرأة وإشباع الرغبات. أم في أي مجال يريدون. وهل المصلحة هي ضابط التشريع أم العكس. وهل المصلحة إلا أمور نسبية فما يكون مصلحة لهذا يكون مضرة لذاك. ولو كانت المصلحة هي المتحكمة لما كانت للشرائع حاجة. ولكن الشرائع هي التي تحدد المصالح المعتبرة. وتحد من أنانيات البشر وطغيان المادة وشره النفوس ولذا يقول تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} . ولم يقل تتحقق مصلحة.
ولعل من قائل أن المصالح المرسلة أصل من أصول التشريع فيقال له: لا تنسى ما قيدت به من كونها مرسلة ولم تتعارض مع نص ينهى عنها ولها باب واسع.
ولبيان كون تلك دعاوى كاذبة ونابعة عن هوى ومرض في قلوبهم جاء قوله تعالى: جواباً على ادعائهم {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} من واقع التولي والإعراض. ولكأن هذا الجواب الموجه إلى ما في قلوبهم ونفوسهم إغفال واطراح وإلغاء لدعواهم إرادة الإحسان والتوفيق. فكان يقول لهم ليس لهذا الادعاء وجود فيما تدعونه وليس لدعواكم قيمة ولا اعتبار أو حقيقة.(8/66)
وإنما الحقيقة هي ما وقر في قلوبكم وصدقه العمل. ومع هذا كله فقد اتجه القرآن الكريم إلى تلك النفوس الضعيفة والقلوب المريضة بالموعظة {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} . لعل الله ينفعهم بذلك.
ثم قضية عامة في حق عموم الرسل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} . أي فما كان من حقهم أن يخالفوه أو يعرضوا أو يتولوا عنه.
ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم بهذا الإعراض وبهذا التولي وسمعوا الموعظة وأثر فيهم القول البليغ جاؤوك فاستغفروا الله جاءوا تائبين مقلعين عما كانوا عليه راجعين إلى الله وإلى ما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم واستغفر لهم الرسول. ولعل في استغفار الرسول لهم إشعار بصدق توبتهم وقوة عزيمتهم وإخلاصهم في رجوعهم إلى الله. لوجدوا الله تواباً رحيماً.
وفي نهاية المطاف معهم يأتي الجواب والحكم بفصل الخطاب:
مؤكداً بالإقسام بالله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} ولا يثبت لهم إيمان ولا يكونون ضمن عداد المؤمنين حتى يأتوك مذعنين و {يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً} ولا ضيقاً ولا تأففاً ولا غضاضة مما قضيت. ويروا فيه الإحسان المطلوب والتوفيق المنشود ويسلموا تسليماً. بدون تردد ولا ارتياب. وقد بيّن تعالى موجبات هذا التسليم والرضا بحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم أولاً: في واقع الحال لأن حكم الله يحكم ما يشاء ويختار. وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم حكم بما أراه الله.(8/67)
ثانياً: في النص قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} ما كان لهم الخيرة سبحانه وتعالى عما يشركون. {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي ما تكن من دوافع يخفونها وما يعلنون من ادعاءات يلفقونها. وهو الله لا إله إلا هو له صفات الحمد والكمال في الآخرة والأولى وله الحكم وإليه ترجعون.
وكذلك الحال في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لأحد فيها اختيار أو بالأصح ليس لمؤمن فيها اختيار كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} . ومن يعص الله ورسوله: أي بمخالفة قضائه وأوامره: فقد ضل ضلالاً مبيناً، ثم تأتي قضية افتراضية تبيّن رحمة الله ولطفه بجانب حقه وقدرته: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} .
فلو حكم الله عليهم أن يقتلوا أنفسهم أو يخرجوا من ديارهم وهذا من أشق التكاليف وله الحق في إلزامهم به. ما فعلوه إلا قليل منهم..(8/68)
مع أنه سبحانه قد فرض على من قبلهم لذنب ارتكبوه. في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي ففعلوا وقتلوا أنفسهم طاعة لله.. وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده إسماعيل عليه السلام: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} ..
فلو كان عندهم استعداد لتنفيذ هذا الحكم لو صدر عليهم لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً في إيمانهم كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} . {وَإِذاً لآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} .
ثم تأتي الخاتمة بمثابة مقارنة بين من يطيع الرسول ومن تولى عنه فبعد أن عالج موقف المعرضين عن كتاب الله وعن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مبيناً من يطيع بقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} أي بحقائق النفوس وخفايا الصدور ودوافع الإعراض ودعاوي الإحسان، وهو يعلم المفسد من المصلح.
وقد كشف القرآن في موقف آخر نفسياتهم على حقيقتها بأن دوافع الإعراض هي الأنانية والمادية القاتلة لا دعوى الإحسان والتوفيق كما زعموا..(8/69)
وذلك في مقارنة بين المؤمنين والمنافقين، بين المعرض عن التحاكم إلى كتاب الله وبين المطيعين لأوامر اله في قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَات} وهي آيات الكتاب ليحكم بينهم بما أنزل الله {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
ثم يعرض الفريقين ومواقفهم إزاء هذه الآيات المبينات:
أـ فالفريق الأول: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} . نفى عنهم الإيمان لتوليهم عما أنزل الله.
ثم بين واقعهم العملي: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ. وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} موقف غير ثابت وعمل ليس مطرداً..
فهل هي أنانية منهم أو مادية فيهم أو كما قال تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} : إنه عين الظلم أن يأتوا لحكم الله مذعنين إذا كان الحق لهم ويتولوا عنه معرضين إذا كان الحق عليهم..
ب ـ أما الفريق الثاني: وهم المؤمنون فبينه تعالى بقوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، فالسمع والطاعة في كلتا الحالتين فيما لهم وما عليهم فكانوا مفلحين..(8/70)
وفي هذه المقارنة بيان للمبررات المتوارثة في كل جيل وفي كل أمة لأنها عين المبررات التي تذرع بها المعرضون من الأمم السابقة. وإن اختلف شكلها: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ذلك أنهم قالوا لن تمسنا لنار إلا أياماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} .
فكلا التعليلين افتراء لا حقيقة له. ولكن الله تعالى كشفها وبيّن حقيقة حالهم..
فهل يحق بعد ذلك الإعراض عما أنزل الله والتحاكم لغير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم اللهم لا.
أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يؤمنون.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] تقدم في مبحث ضرورة نصب القضاء.(8/71)
شعر المتنبي في ميزان الصاحب بن عبَّاد
بقلم الشيخ محمد المجذوب
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة
السُّخْر لون من الأدب قديم، رافق الشعر العربي منذ قام على قدميه، ومرده إلى نوع من الاستخفاف لا يجد صاحبه سبيلاً للتعبير عنه إلا بالصور المضحكة، وهو بذلك أشد وقعاً في النفس من الهجاء الصريح القائم على التحقير المباشر. فقد يقذف الشاعر أو الكاتب مهجوه بلاذع الكلام، فينال من نفسه أكثر مما ينال من خصمه، إذ يسجل عليها الانسياق لسلطان من الغضب تضعف إرادته عن تصريفه، ولكنه حين يعمد إلى السخر فإنما يدلل على هدوء في أعصابه، يمكن له من تتبع نقائص الخصم في أناة، توهمك بأنه لا يريد تشفياً ولا انتقاماً، وإنما يريد عرض واقع من حق الناس كلهم أن يشركوه في تعرفه.. ولهذا كان السخر فناً جميلاً يحقق من المتعة للقارئ والأديب ما لا تحققه فنون التعبير الأخرى.
ومع ذلك فللسخر ضروب تتفاوت في ميزان الجمال، تفاوت النفوس الساخرة، وكثير من الأدباء لا يجد القدرة على إحسانه، لأن نفسه من النوع الذي لا يأتلف غير الجد، فإذا راح يؤلف الصورة أضحكك من نفسه أكثر مما يضحكك من خصمه. وإلى جانب هؤلاء آخرون فطروا على هذه الموهبة، فهم لا يجدون نصَباً ولا التواءً في حوك ما يقصدون إليه، فإذا هم يتحفونك بما يهزأ طرباً، وربما لا يعجزون أن يهزوا خصومهم بمثل هذا الطرب.(8/72)
وللسخر الجميل صور ماتعة في القرآن الكريم، وفي كثير من النصوص العربية، قديماً وحديثاً، تأتي حيناً هادئة رخية، وتأتي حيناً آخر عنيفة قوية، وفي كلتا الحالتين تعمل عملها في تحريك المشاعر وتحقيق الغرض. ومن الذين أحسنوا هذا الفن "الحطيئة"و"الأخطل"و"بشار"و"ابن الرومي"و"المعري"، ثم "الجاحظ"و"ولي الدين يكن". وهناك واحد من أدباء العصر العباسي لم يشتهر أمره بين الساخرين وقد ضرب فيه بسهم وافر، يجعله واحداً من هؤلاء الذين يُرْضُون هواة هذا الفن. ذلك هو الصاحب إسماعيل بن عباد من نابعي القرن الرابع.
وقد رأيت أن أقف حديثي هذا على عرض نماذج من سخره البارع الذي ينم عن ثقافة أدبية عميقة، وتصرف حاذق في فن القول.
ولد إسماعيل بن عباد عام 326هـ وتوفي عام 385هـ ونشأ في جو من العلم والأدب أحاطه به والده، ثم اتصل بأكابر علماء عصره وأدبائه، فأفاد ثروة وافرة من الثقافة إلى جانب ذخيرة من الخلق والعقل والصفات الكريمة، مما رفعه إلى مرتبة الوزراء، فكان يمين (ركن الدين بن بويه) ثم (فخر الدولة) أخيه مدى ثماني عشرة سنة وكان شديد الإخلاص لهما، نافذ الأمر عندهما، ومؤيد الدولة هو الذي أطلق عليه لقب (الصاحب) .(8/73)
أما ثقافته فحسبنا شاهداً على قيمتها قول عدوه (أبي حيان) في كتابه (الإمتاع) الذي حشاه بالطعن على الصاحب، يقول أبو حيان: "كان الصاحب كثير المحفوظ حاضر الجواب، فصيح اللسان قد نتف من كل أدب شيئاً، ومن كل فَن طرفاً، حسن القيام بالعروض والقوافي، يقول الشعر وليس بزالٍّ وبديهته غزار".. ولا شك أن مثل هذه الثقافة تؤهل صاحبها للكلام في الشعر، ونقد معانيه وأساليبه، وتُسعفه بما يعوز الناقد من فنون الكلام، عندما يتناول أحد الشعراء بتعديل أو تجريح. وبهذا السلاح من الذكاء المثقف اقتحم الصاحب ابن عباد حرم المتنبي، فراح ينقب بين ثناياه لاستقصاء سقطاته، في ألوان من السخر الناجح، لا يتمالك قارئه إلا أن يقابله بالإعجاب الكثير، والضحك الوفير.
أبت عنجهية المتنبي وكبرياؤه إلا أن تترفعا عن مديح الصاحب، وهو الذي كان بابه ملاذ المئات من شعراء التكسب، فأثار بذلك حفيظة ابن عباد، وهاج نقمته، فكان لا مندوحة له عن تتبع عيوبه، ليسهم مع خصومه في الغض من قيمته، فراح يستقصي مواطن ضعفه، في إنصاف حيناً وفي جور حيناً آخر، وكان لمالئ الدنيا وشاغل الناس أنصاره المعجبون، الذين لا يعدمون القدرة على الذياد عن حياضه، لذلك وجب على الصاحب الواثق من نفسه ألاّ يكتفي بالقول يرسله في مجالسه الخاصة، فعمد إلى القلم، وإذا هو يخرج لنا رسالته التي يسميها: "الكشف عن مساؤئ شعر المتنبي"والرسالة هذه صغيرة لا يتجاوز ما يخص المتنبي فيها الخمس عشرة من الصفحات، ولكنها ذخيرة من بلاغة الصاحب ومقدرته في النقد الساخر … تقرؤها اليوم فتستعيد جو الحياة الأدبية الماتعة التي كانت تظل عهد كاتبها، وتتبين من خلالها دفقات من جيّد الكلام تكاد تكون نسيج وحدها في كل ما عرفه الأدب العربي من هذا الفن.
ولنأخذ الآن في استعراض [1] طائفة من هذا السخر الطريف.
يقول المتنبي في مدح سيف الدولة:
نحن من ضايق الزمان له فيك(8/74)
وخانته قربك الأيام
فيمسك الصاحب بتلابيبه ثم يقول: "إنه بيت، رقية العقرب أقرب إلى الأفهام منه، فإن قوله: (فيك) لو وقع في عبارات الجنيد والشبلي لتناءت عنه المتصوفة دهراً …
ورقية العقرب هذه تذكرنا قول ابن الرومي في شعر البحتري:
رقى العقارب أو هذر البناة إذا
أضحوا على شعف الجدران في صخب
ويقلِّب الصاحب نظره في رثاء المتنبي لأم سيف الدولة، وفيه من الفخامة ما يليق بجلال الملوك، فإذا هو يقذف بالقهقهات المثيرة هنا وهناك، ثم يسجل ملاحظته في مثل هذه الكلمات: يقول الصاحب: ولما أبدع (المتنبي) في هذه المرثية واخترع قال:
صلاة الله خالقنا حنوط
على الوجه المكفن بالجمال
وقد زعم بعض من يغلو في المتنبي أن هناك استعارة، فقلت: صدقت. ولكنها استعارة حداد في عرس. ولا يفوتنا غرابة (الحداد في عرس) فهي من ابتداع الصاحب، فيما أظن، وقد بقيت ملكه حتى أخذها شاعر حديث فقال:
ضحك الأمس، فرنّت في الدجى
ضحكة الثاكل في ليلة عرس
ويقرأ الصاحب قول أبي الطيب:
إن كان مثلك كان أو هو كائن
فبرئت حينئذ من الإسلام
فلا يهمه ما في البيت من سخف المعنى والمبنى، بمقدار ما تسوؤه لفظة (حينئذ) لذلك يكشف عورتها وهو ينادي (إنها ههنا أنفر من عيَر منفلت!) .
وهكذا هو يصنع في ذلك البيت الآخر الذي يتساءل به المتنبي عن الطلول:
أسائلها عن المتديريها
فما تدري، ولا تُذْري دموعا
فإذا هو يقبض على هذه (المتديريها) بكلتا يديه، ويقول: "لو وقعت هذه اللفظة في بحر صاف لكدرته ولو ألقي ثقلها على جبل سام لهدته! …"
ولَكَم ثار فضول الناس حول قول المتنبي الآخر:
أُحاد أم سداس في أُحاد
ليَُيْلَتُنا المنوطة بالتنادي!(8/75)
فلم ينتهوا إلى الكلمة الأخيرة فيه حتى اليوم، ولكن الصاحب لا يرى فيه إلا نوعاً من الهذر يجمع من الحساب ما لا يدرك بالارتماطيقي، وبالأعداد الموضوعة للموسيقى، ثم يجهز عليه بهذه الطعنة النجلاء إذ يقول: "هذا كلام الحكل ورطانة الزط.. وما ظنك بممدوح قد تهيأ للسماع من مادحه فصك سمعه بهذه الألفاظ الملفوظة، والمعاني المنبوذة! …"
وقد يقع الصاحب على كلمة بارعة قالها أحد النقاد في شعر المتنبي، فيكتفي بها معبراً عن رضاه، كما صنع في هذا البيت:
فما للنوى، جُد النوى، قطع النوى
كذاك النوى قطاعة لوصال
فيورد عنه كلمة أحد شيوخ الأدب إذ يقول: "لو سلط الله على هذا البيت شاة لأكلت هذا النوى كله! …"
ثم استمع إلى قول المتنبي هذا:
إذا كان بعض الناس سيفاً لدولة
ففي الناس بوقات لها وطبول
وقديماً شغل الشراح عن معنى هذا البيت بالجدل على (بوقات) .. بعضهم يصححها وبعضهم يخطئها، أما الصاحب فينصرف عن كل ذلك ليقول: "إن هذا التحاذق كغزل العجائز، ودلال الشيوخ! …".
ويحلق الصاحب في فن التعبير، حين يقع على قول المتنبي:
جواب مُسائلي: أله نظير؟
ولا لك في سؤالك لا.. ألا لا
فإذا هو يعقب عليه بهذا السهم الذي شَفَى به واشتفى. يقول: "لقد سمعت بالتمتام ولم أسمع باللألاء، حتى رأيت هذا المتكلف المتعسِّف، الذي يقف حيث يعرف".
ويتابع الصاحب الساخر سقطات أبي الطيب، أو ما يراه هو سقطات، بهذا المبضع الذي لا يرحم، فما إن يصل إلى قوله:
عظمت فلما لم تكلم مهابة
تواضعت وهو العظم عظماً عن العظم
حتى يصرخ "ما أكثر عظام هذا البيت!..".
وما أروع عبارته حين يعرض لقول أبي الطيب، في وصف أسير أخذ منه الخوف حتى هبط إلى مرتبة الأطفال في اللفائف:
فغدا أسيراً قد بللت ثيابه
بدم، وبل ببوله الأفخاذا
فكأنه حسب الأسنة حلوة(8/76)
أو ظنها البرنيّ والآذاذا
وإذا علمت أن (البرني والآذاذ) من التمر أدركت جودة التعليق الذي أتحفنا به الصاحب عندما قال: "لا أدري أكان في الحرب أم في سوق التمارين في البصرة …".
ولا ينكر ناقد منصف أم الصاحب لم يكن عادلاً في جميع نقده للمتنبي، فشذ ما جار عليه، وكثيراً ما أبرز لآلئه في صورة الخرز.. ولكنه لم يعدم التوفيق في كثير من تجريحه. ولعل أفضل ما يقع عليه قارئ هذه الرسالة، تلك النفحة التي بلغ بها قمة السخر الفني، حين يعرض قول أبي الطيب:
لو استطعت ركبت الناس كلهم
إلى سعيد بن عبد الله بعُرانا
ثم يعقب عليه بهذه الوخزة البارعة: "ومن الناس أمه … فهل ينشط لركوبها؟! والممدوح أيضاً لعل له عصبة لا يحب أن يُركبوا إليه! …".
وبعد فهذه طائفة من طرائف تلك الرسالة التي تنفس عنها صدر ذلك الأديب الناقم من كبرياء أبي الطيب.
وليس الصاحب بن عباد هو الناقم الوحيد الذي دفعه المتنبي إلى صفوف أعدائه بتعاليه وتعاظمه وعنجهيته، ولكنه واحد من الذين يحسنون الرمي عن خبرة.. فليس بوسعه أن يحشره بين عضاريط الفسطاط وشُوَيْعري بغداد …
ونحن إذ نستعرض غمزاته هذه لا يسعنا أن نؤيده في كل ما ذهب إليه من رأي في النماذج التي تناولها من شعر أبي الطيب، ففي كثير من مآخذه تحامل بيّن، لا يمكن الزعم بأن الناقد على جهل منه، ولذلك اكتفينا من تلك الغمزات بما هو أقرب إلى الإنصاف، وقليل من التروي في تقييم [2] هذه الأبيات المجروحة يؤكد صدق ما أطلقة الصاحب عليها من الأحكام …(8/77)
ومن الحق أن نقول: "إن الصاحب لم يستسلم لهواه بإزاء أبي الطيب، إلى الحد الذي يخرجه عن كل تقدير له، فإلى جانب هذه الطعنات القليلة، إنصاف غير قليل، عالج به مجموعة من أمثال المتنبي، في كتاب خاص، لم يبخس فيه الشاعر الحكيم حقه، وهو نفسه لا يهجم على المتنبي في رسالته الساخرة هذه الهجوم المنكر لعبقريته، وإنما دفعه إلى تأليفها حديث دار بينه وبين بعض المتعصبين لأبي الطيب، فقد سأله هذا عن رأيه في شعره فأجابه بما يلي: "إنه بعيد المرمى كثير الإصابة، إلا أنه ربما يأتي بالفقرة الغراء مشفوعة بالكلمة العوراء.. فلم يرق ذلك للسائل، بل تحداه أن يثبت زعمه كتابة، فاضطر الصاحب إلى تأليف هذه الرسالة تسويغاً لما ذهب إليه …"
على أن من طرائف القدر أن يُبْتلى الصاحب نفسه بمثل ما ابتُلِيَ به المتنبي من خصومته… فلقد رماه الدهر بباقعة من فطاحل كتاب العربية، لا يعجزه أن يجعل من الحق باطلاً، ومن الباطل حقاً.. ذلك هو أبو حيان، صاحب كتاب (الإمتاع والمؤانسة) الذي خص الصاحب بصفحات من النقمة المبدعة، توشك أن تجعل منه ضحكة الأبد.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] لم يستعمل الأقدمون هذا الفعل بما نريده الآن، ولكنه عند المولدين كثير، ونرى قبوله بدلالة حروف الزيادة على الطلب. الكاتب
[2] بعض اللغويين ينكر هذه الصيغة ويأبى إلا رد الياء إلى أصلها (الواو) ونرى أن الصيغة صحيحة على أساس أن اشتقاقها من (القيمة) مباشرة كاشتقاق (التعييد) من العيد الذي هو في الأصل بالواو. الكاتب.(8/78)
ليكن شعارنا الدائم:
الله وحده
بقلم الشيخ السعيد الشربيني الشرباصي
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
وبعد: فهذه كلمة أريد بها تسجيل حقيقة مركوزة في نفوس المسلمين ولكنهم ينسونها، ومستقرة في عقول الموحدين ولكنها قد تغيب عنهم، رغبة مني في رد الأمور إلى نصابها، ومذكراً بتطهير عقائدنا من سلطان لغير الله. وهي تأتي لا عن دراسة مني ولكن عن تجربة مريرة عشت فيها سنوات، ظننت خلالها أنني أستطيع بوسائلي ووسائل الناس أن أصنع شيئاً لنفسي ينقذني مما أنا فيه، ولكن ضاعت كل هذه الوسائل وخرجت بالنتيجة التي استقرت في قلبي ومشاعري وضميري وما أذكره هنا من حقائق ليس تعبيراً عن هذه التجربة ولكن استدلالاً عليها وتبياناً لها..
لقد خاطب القرآن الكريم محمداً عليه الصلاة والسلام بقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} .
فالله سبحانه وتعالى هو الذي فتح على محمد عليه الصلاة والسلام، وهو الذي جعله فتحاً مبيناً شاملاً كاملاً، ومع هذا الفتح العظيم الذي أقر به عيون المؤمنين وثبت به قلوب الموحدين وأرسى به قواعد الدين، غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر ـ فضلاً وكرماًـ ثم هداه صراطاً مستقيماً.
هذه النعم المتلاحقة على خير المجاهدين وأعظم الموحدين هل كانت إلا منحاً ربانية بدأت من الله وانتهت إلى الله الغفور الرحيم.(8/79)
والقرآن يذكر الغافلين من البشر الساهين اللاهين، منادياً ألا هبوا ولا تركنوا إلى موت الحياة وحياة الموتى {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} . ثم يوضح لهم قيمة ما يعتزون به فيقول لهم: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} . {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاء} .
وعلى سبيل المثال أنا الآن أتناول هذه الصفحات لأكتب والله ما استقر في ذهني ما أريد أن أخطه ولكني أكتفي بورق ومداد وقلم … والله وحده هو الذي يدفع، وهو الذي يوفق، وهو الذي يلهم …
ونحن مع كل صباح نتناول الصحف اليومية وتقع عيوننا على الصفحات الأولى متلهفين على أخبار العالم وأحداثه التي لا تستقر ولا تسكن، ولا تهدأ ولا تثبت، وكان الأجدر بنا أن نطالع الصفحة الأخيرة لنعرف مصيرنا المحتوم، ونرى ما طواه من أجزاء الإنسانية، وما غيبه الموت من أحباب لنا وصحاب … وعندما نطالع هذه الصفحة فنجد أحباباً لنا قضوا، وأعزاء علينا تولوا … ونشهد مصارع جبابرة تسلطوا باسم المال فجمعوه، وباسم الطغيان فاقترفوه، وباسم الحكم فأفسدوه، نشهق شهقة الناجي من الغرق، ضارعين صارخين مرددين: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم نفيق من خداع أبصارنا وأفكارنا حينما كنا نظن أن هؤلاء الطغاة كانوا شيئاً ما فنقول في ثقة وإيمان:
البقاء "لله وحده ".
وهذا يذكرنا بحقائق ثلاث:
أولاها: أن الحياة الدنيا التي تسيطر علينا وعلى وجودنا وعقولنا سيطرة طاغية أحياناً، وسيطرة معقولة آناً، هذه الحياة بصورها ومغرياتها لعب ولهو، ويتحتم علينا أن نستبدل هذا اللعب بالعمل، وهذا اللهو بالجد: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} . سورة محمد (36) .(8/80)
والحقيقة الثاني: أننا لا نصنع نفوسنا بل الله وحده هو الصانع. واسأل معي نفسك لماذا أنت في هذا المكان؟ بينما زميلك فلان في مكان مختلف إلى حد كبير.. ما هي الدعائم التي صنعتها أنت لتكون ما أنت عليه الآن، وقد ننخدع نحن الذين وصلنا إلى جانب من النجاح أننا بذلنا واعتصمنا وجاهدنا وجالدنا.. ولو فرض أن هذا حقيقي. لكن من الذي منحنا التوفيق والسداد.. إن كان الأمر مرجعه إلى الجهاد والجلاد فقد جاهد آخرون وجالدوا ولم يصلوا إلى النجاح. لماذا؟ إن التوفيق لم يصادفهم. انظر بإمعان إلى بعض الأسباب الواهية التي يتسبب عنها تغيير مجرى حياتك: تأخر درجة واحدة بل نصف درجة، بل أحياناً أقل من ذلك تجعلك في كلية أخرى غير الكلية التي وصل إليها زميلك الذي ربما كان أضعف منك فهل من المعقول أن يكون هذا التحول هو معيار التفوق أو ميزان الامتياز بين الناس لا.. ثم لا.. ولكن:
{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} .
والحقيقة الثالثة: أننا نركن إلى أشياء نعتبرها العون، ونعدها للخلاص وأحياناً تكون هذه الأشياء مدخرات مالية، أو عصابات بشرية، أو فلسفات ذهنية، أو تمذهب سياسي، أو تجمع ديني.. ثم نركن إلى هذا منتظرين منها النصر، طالبين العون، ولكن عندما تحين ساعة الاستغاثة نمد أيدينا إلى ما أعددنا فلا نجد ما أعددنا بنافع ولا مغن عنا من قضاء الله شيئاً، إلا أن يشاء الله وحده.
وساعة القضاء يتخلى عنا الأحباب والأصدقاء ويضيع المال، ويندحر الأنصار وتنقلب الأمور ولا نجد شيئاً مما أعددنا.. ثم تظلم الدنيا في وجوهنا ونضيق بكل آفاقها، وتعجز كل إمكانياتنا عن الحل، بل حتى على مجرد الصبر أو الأمل، ولا يبقى أمامنا أي شيء … إلا شيئاً واحداً هو:
"الله وحده ".(8/81)
وعندما نولي وجهنا إلى الله سبحانه وتعالى نجد الرضا والسكينة، والأمل والطمأنينة، ونبصر النور ونحس بالقوة، وتأتينا العزيمة على تحمل ما نحن فيه من صعاب، وما نزل من شدائد، ويقوى فهمنا وعزيمتنا لما يحيط بنا، ثم يأتي نصر الله:
{وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} .
ولكن الحقائق الثلاث التي ذكرتها ليست جديدة ولا وليدة بل ولا مجحودة أو معارضة عند الكثير من الناس. وبذلك لا تضيف إلى فكر البشرية ما لم يكن، ولا تزيد في ضمير الإنسانية ما لم يستقر.
وعلى الرغم من هذا كله فإني أجد لذة في أن أتحث فيها، وأجد قلبي مفعماً بالغبطة وأنا أحاول تسجيلها، لأنها قصة التجربة التي عشتها، والنتيجة الحلوة التي وصلت إليها بعد ظلام طويل.. والذين يصلون إلى نتائج مرضية يحاولون أن يحكوا ما وصلوا إليه وأن يرددوه كلما أتيحت الفرصة ويجد كل منهم اللذة في أن يتكلم، كما يجد رغبة في أن يسمع غيره ما ذاق وما عرف.
هذا بالإضافة إلى أن بعض الغافلين لا يلتفتون إليها إلا عرضاً.
والذين يلتفتون إليها لا يتأملونها.
والذين يتأملونها لا يعيشون فيها.
وأنا أدعو إلى أن نعيش فيها صباح مساء بحيث تملأ علينا الوجود، وتملأ علينا الحياة، وتصبح هي مصدر الدفع والجذب، ومبعث النشاط والإحجام ومثار الرضا والسخط، والدافع إلى الكف أو إلى العمل، فتكون للإنسان نوره الذي يسير في هداه، ويشعر أنه لا يعمل لغير الله تعالى، ولا يتوقف لأحد سواه.
وإنه لحتم على المؤمن المتيقظ أن يتأمل آيات الله التي ترشد إلى أنه الحكيم الخبير ويراقب الصانع العظيم في كل صورة ومع كل رؤية، وعند كل حركة، ومع كل سكون..(8/82)
ثم يكون صدوره ووروده لله تعالى وتكون بدايته ونهايته له وحده ويكون حبه في الله، وبغضه لله، وتكون صلاته من أجل الله وحده لا شريك له.
فالبشر عدم، والعظماء حقراء، والسادة عبيد، والرؤساء في نظره أذناب، والخوف مع الله أمان، والنار برعايته برد وسلام، واليأس من الناس رجاء {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاما} على جنود الرحمن وعباد اللطيف المنان.
ولست بهذه الكلمة راغباً في وضع تخطيط لنهج علمي، وتسجيل بحث لدراسة خاصة ولكني أرغب في الدعوة إلى تخليص الأفراد مما يقيد فكرهم وعقلهم عن الانطلاق إلى لب الوجود، وحقيقة الحقائق منادياً:
بإلغاء كل الشعارات الزائلة، والاتجاهات الباطلة لنرفع شعاراً واحداً لا يتغير ولا يتبدل هو الشعار الأصيل:
"الله وحده ".
لقد آثرت في حياتي الصمت تاركاً الكلام لغيري، واكتفيت من وجودي بالنظر العميق إلى ما وراء هذا الوجود متأملاً فيما صنع الرحمن، وفيما أعطى وفيما وهب. واعتقادي أن ما نراه قليلاً هو كثير، وأن البسيط عظيم، وأن ما نلقاه من متاعب راحة، وما يصادفنا من مشقات سعادات.
وإني لأعجب من بعض الصالحين الذين يدعون ربهم فيقولون: الله بارك لنا في القليل الذي بين أيدينا. ولكني أقول: يا رب بارك لي في الكثير الذي أعطيتني.. فله الحمد حتى يرضى، وما أستطيع أن أرفع نظري إليه شاكراً لأنه حتى في التوفيق إلى الشكر هو صاحب الفضل. فالعجب كل العجب لمتفضل بالنعمة يضاعفها ثم يسبغها، ثم يحفظها، ثم يعطيك الهداية لشكرها فهو صاحب الفضل في كل حال، وهو الموفق للطاعة ثم يثيب عليها.. سبحانه يعين على الشكر والذكر وحسن العبادة ثم يمنح الأجر …
اللهم لك الحمد على الدوام. ولا إله إلا أنت ولا عون إلا بك ومنك {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} .(8/83)
وحسبنا الإقرار بالعجز، والتعبير عن النقص، وإظهار العذر، والإقرار بالذنب، والاعتراف بالقصور، ثم الاعتصام بحوله وقوته.. لا شريك له..
داعياً إخواني الغافلين ليهبوا من غفلتهم، ويفيقوا من نسيانهم موحدين حنفاء لله غير مشركين به، محطمين كل شعار، ملتفين حول الواحد الأحد، فمنه النصر، وبه العون، وإليه المصير.
للحديث بقية.(8/84)
العدد 23
فهرس المحتويات
1- استنكار لإخراج فيلم محمَّد رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز
2- مِن أعْلامِ المُحَدِّثِين - محمد بن إسحاق بن خزيمة 223- 311هــ: للشيخ عبد المحسن العباد
3- القاديَانيَّة: بقلم الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
4- مع صاحب الفضيلة والدنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: بقلم الشيخ عطيه محمد سالم
5- أبُو الحسن الأشعري: بقلم الشيخ حماد بن محمد الأنصاري
6- رَسَائِل لمْ يَحْمِلهَا البَريْد: بقلم الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
7- مِنَ المنهَل الصَّافي قل الله أعبد مخلصا له ديني: للشيخ عبد الله المحمد الغنيمان
8- قصَصٌ لا تُنسى وعاد في صمت إلى مزرعة: بقلم الشيخ محمد المجذوب
9- دراسات في السُّنَّة النبوِيَّة: بقلم الشيخ محمد ضياء الرحمن الأعظمي
10- بَيْنَ توحيد الأهِلَّة وَالمرصَد الفلكيّ: للشيخ عبد الله بن إبراهيم رجب
11- دِرَاسات في أُصوُل اللُّغة العَرَبيَّة: بقلم الأستاذ عبد العزيز القارئ
12- الهَوَس الفكرِيّ: بقلم الأستاذ مرزوق بن محمد الدوسري
13- قضَايا أسَاسيَّة في تطوير المكتَبة العَرَبيَّة والإسلاميَّة: بقلم عيد عبد الله عيد السيد
14- مُشارَكَة الجَامعَة الإسلاميَّة فِي مَعرضِ الكتابِ السُعُودي: بقلم صالح بن أحمد الغامدي
15- العقيدة بين الفلسفة والوحي: للشيخ عبد الوهاب لطف الديلمي
16- من الصحف والمجلات: إعداد العلاقات العامة
17- مقتطفَاتٌ من كتَاب الكنز المَرصُود في قَواعِدِ التَّلمُود: تَرجَمهُ مِنَ اللغَةِ الفَرَنسَاويَّة الدكتور يوسف حنا نصر الله
18- نَدوة الطَلَبَة - أنا مسلم: بقلم الطالب أحمد بن حسن المعلم
19- العَام الحَادي عَشر عَامٌ لهُ أهميّة في تاريخ الإسلام: بقلم الطالب عز يزو محمد مغربي
20- وَعِندَ الله للنّاجِين شهد: بقلم الطالب محمد محمود جاد الله
21- الفَتَاوَى:(8/85)
استنكار لإخراج فيلم محمَّد رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم
رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد: فقد اطّلعت على ما نشرته مجلة المجتمع الكويتية في عددها 162 الصادر بتاريخ 9/7/1393 تحت عنون (فيلم محمد رسول الله) وقد تضمن الخبر المذكور أنه خلال الأيام الماضية تم التوقيع على عقد تأسيس الشركة العربية للإنتاج السينمائي العالمي وتولى التوقيع ممثلوا حكومات ليبيا والكويت والمغرب والبحرين وأن الشركة المذكورة تعاقدت مع المخرج مصطفى عقاد لإنتاج فيلم عن النبي صلى الله عليه وسلم حياته وتعاليمه بالسينما سكوب والألوان يستمر عرضه ثلاث ساعات ويخرج بعشرين لغة عالمية بما فيها العربية.
وذلك بالاستناد إلى قصة أقرها الأزهر والمجلس الشيعي الأعلى واشترك في صياغتها توفيق الحكيم وعبد الحميد جوده السحّار وعبد الرحمن الشرقاوي، انتهى الخبر المذكور.. ولكون ذلك فيما نعتقد أمراً منكراً وحدثاً خطيراً يترتب عليه مفاسد كبرى وأضرار عظيمة واستهانة بالمصطفى صلى الله عليه وسلم وتعريض لذاته الشريفة إلى التلاعب بها والاستهزاء والتنقص، رأيت المساهمة في إنكار هذا المنكر والإهابة بالدول الأربع الموافقة على إخراجه بالرجوع عن ذلك تعظيماً للنبي صلى الله عليه وسلم واحتراماً له واحترازاً عن تعريض ذاته الشريفة للتنقص والاستهانة والسخرية.(8/86)
ومعلوم أن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل وقد عرض هذا الموضوع على المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة فقرر تحريم إخراج فيلم عن النبي صلى الله عليه وسلم وتحريم تمثيل الصحابة رضي الله عنهم وذلك في المادة السادسة من قراره المتخذ في دورته الثالثة عشرة المنعقدة خلال المدة من 1شعبان 1391 إلى 13 شعبان 1391 وهذا نص المادة المذكورة:
1- يقرر المجلس التأسيسي بالإجماع تحريم إخراج فيلم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فيه من تمثيله صلى الله عليه وسلم بآلة التصوير الكاميرا مشيرة إليه وإلى موضعه وحركاته وسائر شؤونه بالتحديد وتمثيل بعض الصحابة رضي الله عنهم في مواقف عديدة ومشاهد مختلفة وهو محرم بالإجماع.
2- يوصي المجلس الأمانة العامة للرابطة بإبلاغ هذا القرار لجميع الدول الإسلامية والمنظمات الإسلامية والجمعيات الدينية في البلاد العربية والإسلامية ووزارات الإعلام ومشيخة الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية بالأزهر والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة والصحف والإذاعات في البلاد الإسلامية كافة.
3- يوصي المجلس الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي، بإخطار مخرج هذا الفيلم بهذا القرار جواباً على طلبه الأخير بإخراج الفيلم وإنذاره بأن الأمانة العامة للرابطة ستتخذ الإجراءات القانونية ضد كل من يحاول الاعتداء على قدسية وحرمة صاحب الرسالة العظمى صلى الله عليه وسلم وحرمة أصحابه الأكرمين في أية جهة من العالم.(8/87)
4- يوصي المجلس الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي بوضع رسالة في حرمة إخراج فيلم عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين تضم ما أجرته الأمانة العامة للرابطة بشأنه في جميع مراحله وما صدر فيه من قرارات في المجلس التأسيسي لرباطة العالم الإسلامي والمنظمات الإسلامية الأخرى وما صدر بشأنه من القرارات والفتاوى في البلاد الإسلامية عامة ونشر ذلك في البلاد الإسلامية تبصرة وتنويراً وإرشاداً وتحذيراً.
5- يشكر المجلس الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي على ما قامت به من جهود موفقة في هذا الموضوع الخطير، انتهى.. كما قررت هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية منع تمثيل الصحابة رضي الله عنهم، والنبي صلى الله عليه وسلم من باب أولى، وذلك بقرارها رقم 13 وتاريخ 16/4/93 هـ الآتي نصه: (الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد فإن هيئة كبار العلماء في دورتها الثالثة المنعقدة فيما بين 1/4/1393 و17/4/1393 قد اطلعت على خطاب المقام السامي رقم 44/93 وتاريخ 1/1/1393 الموجه إلى رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد والذي جاء فيه ما نصه: نبعث إليكم مع هذه الرسالة الواردة إلينا من طلال بن الشيخ محمود البنى المكي مدير عام شركة لونا فيلم من بيروت بشأن اعتزام الشركة عمل فيلم سينمائي يصور حياة (بلال) مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونرغب إليكم بعد الإطلاع عليها عرض الموضوع على كبار العلماء لإبداء رأيهم فيه وإخبارنا بالنتيجة، وبعد إطلاع الهيئة على خطاب المقام السامي وما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ذلك وتداول الرأي قررت ما يلي:(8/88)
1- إن الله سبحانه أثنى على الصحابة وبيّن منزلتهم العالية ومكانتهم الرفيعة، وفي إخراج حياة أي واحد منهم على شكل مسرحية أو فيلم سينمائي منافاة لهذا الثناء الذي أثنى الله عليهم به، وتنزيل لهم من المكانة العالية التي جعلها الله لهم وأكرمهم بها.
2- إن تمثيل أي واحد منهم سيكون موضعاً للسخرية والاستهزاء ويتولاه أناس غالباً ليس للصلاح والتقوى مكان في حياتهم العامة والأخلاق الإسلامية مع ما يقصده أرباب المسارح من جعل ذلك وسيلة إلى الكسب المادي وأنه مهما حصل من التحفظ فسيشتمل على الكذب والغيبة كما يضع تمثيل الصحابة رضوان الله عليهم في أنفس الناس وضعاً مزرياً فتزعزع الثقة بأصحاب الرسول الله صلى الله عليه وسلم وتخف الهيبة التي في نفوس المسلمين من المشاهدين وينفتح باب التشكيك على المسلمين في دينهم والجدل والمناقشة في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ويتضمن ضرورة أن يقف أحد الممثلين موقف أبي جهل وأمثاله ويجري على لسانه سب بلال وسب الرسول صلى الله عليه وسلم.
وما جاء به الإسلام ولا شك أن هذا منكر، كما يتخذ هدفاً لبلبلة أفكار المسلمين نحو عقيدتهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.
3- ما يُقال من وجود مصلحة وهي إظهار مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب مع التحري للحقيقة وضبط السيرة وعدم الإخلال بشيء من ذلك بوجه من الوجوه رغبة في العبرة والاتعاظ فهذا مجرد فرض وتقدير، فإن من عرف حال الممثلين وما يهدفون إليه عرف أن هذا النوع من التمثيل يأباه واقع الممثلين ورواد التمثيل وما هو شأنهم في حياتهم وأعمالهم.(8/89)
4- من القواعد المقررة في الشريعة أن ما كان مفسدة محضة أو راجحة فإنه محرم، وتمثيل الصحابة على تقدير وجود مصلحة فيه فمفسدته راجحة، فرعاية للمصلحة وسداً للذريعة وحفاظاً على كرامة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يجب منع ذلك: وقد لفت نظر الهيئة ما قاله طلال من أن محمداً صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدين هم أرفع من أن يظهروا صورة أو صوتاً في هذا الفيلم، لفت نظرهم إلى أن جرأة أرباب المسارح على تصوير بلال وأمثاله من الصحابة إنما كان لضعف مكانتهم ونزول درجتهم في الأفضلية عن الخلفاء الأربعة، فليس لهم من الحصانة والوجاهة ما يمنع من تمثيلهم وتعريضهم للسخرية والاستهزاء في نظرهم فهذا غير صحيح لأن لكل صحابي فضلاً يخصه وهم مشتركون جميعاً في فضل الصحبة وإن كانوا متفاوتين في منازلهم عند الله جل وعلا وهذا القدر المشترك بينهم وهو فضل الصحبة يمنع من الاستهانة بهم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، انتهى..
ولكل ما تقدم وما سوف يفضي إليه الإقدام على هذا الأمر من الاستهانة بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأصحابه رضي الله عنهم وتعريض سيرته وأعماله وسيرة أصحابه وأعمالهم للتلاعب والامتهان من قبل الممثلين وتجار السينما يتصرفون فيها كيف شاءوا ويبرزونها على الصفة التي تلائمهم بغية التكسب والإتجار من وراء ذلك ولما في هذا العمل الخطير من تعريض النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم للإستهانة والسخرية وجرح مشاعر المسلمين فإني أكرر استنكاري بشدة لإخراج الفيلم المذكور.
وأطلب من جميع المسلمين في كافة الأقطار استنكارهم لذلك كما أرجو من جميع الحكومات والمسؤولين بذل جهودهم لوقف إخراجه وفي إبراز سيرته صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه رضي الله عنهم بالطرق التي درج عليها المسلمون من عهده صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ما يكفي ويشفي ويغني عن إخراج هذا الفيلم.(8/90)
وأسأل الله عز وجل أن يوفق المسلمين جميعاً وحكوماتهم لكل ما فيه صلاح المسلمين في العاجل والآجل ولكل ما فيه تعظيم نبيهم صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام والحذر من كل ما يفضي إلى التنقص لهم أو السخرية بهم أو يعرضهم لذلك إنه جواد كريم وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه …
رئيس الجامعة الإسلامية
بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(8/91)
بَيْنَ توحيد الأهِلَّة وَالمرصَد الفلكيّ
للشيخ عبد الله بن إبراهيم رجب: مكة المكرمة
تابعت الجهود التي بذلتها الرابطة الإسلامية بالنسبة لتوحيد الأهلة في العالم الإسلامي منذ سنوات مضت - حتى الآن - ولكني فوجئت بأن الرابطة صرفت جهودها إلى إنشاء مرصد فلكي (في مكة المكرمة) أطلق عليه اسم المرصد الإسلامي؟! حيث سيزود بالكفاءات الإسلامية.. والمعدات الإسلامية الحديثة للأرصاد الفلكية - من رؤية وحسابات وقياسات ضوئية وكهربية الخ.. كما نشر في جريدة الرابطة مؤخراً.
وكتبت أستوضح المسئولين في الرابطة عن السبب في اختيار مكة بالذات مقراً للمرصد.. فمكة كما هو معروف تقع في وادي إبراهيم.. وليس في مرتفع، وعادة لا يكون إنشاء المراصد إلا في أماكن مرتفعة - وما هو موجود في العالم من حولنا دليل على أن المنخفضات لا تصلح لهذا - ثم إن إثبات الأهلة لا يكون إلا في المرتفعات (يستوي في هذا الرؤية بالعين أو بالمرصد الفلكي) وكان الجواب عملياً على سؤالي.. فقد تقرر اختيار الموقع المناسب للمرصد، وذلك في اجتماعات المرصد التي جرت في شهر رمضان الماضي [1] .
ومحاولة الرابطة توحيد الأهلة، وكذلك هيئة كبار العلماء.. تأتي ضمن سلسلة من المحاولات قام بها الأقدمون ويواصل المحدثون بما بدئ من قبل.
ففي السنين الأخيرة درس هذا الموضوع، وطرح على بساط البحث في ضوء الكتاب والسنة والإجماع.. ومن البلدان التي اهتمت به أذكر: مصر، في مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، الذي انعقد في أكتوبر 1966م. وكوالالمبور، في المؤتمر الإسلامي، الذي انعقد في أبريل 1969م. والكويت: في مؤتمر وزراء الأوقاف والشؤون الإسلامية العرب، الذي انعقد في فبراير 1973م.(8/92)
وتبني المملكة العربية السعودية أعلى الأمل في استخلاص رأي موحد فيه. بعد أن بدا شمل العالم الإسلامي ملتئماً تحت راية التضامن الإسلامي التي رفعها الفيصل - أيده الله بنصره وتوفيقه - عالية فوق كل شعارات الدنيا، فأصبحت هي الشعار الأوحد الذي عادت الأمة به إلى دينها الحق.
غير أن المحاولة الجديدة من الرابطة لإنشاء مرصد فلكي (في رأيي الخاص) تقضي على تلك الجهود التي استهدفت توحيد الأهلة. وربما انصرف كثير من الدول عن الاعتماد علينا في الرؤية. في بدء الصوم والخروج منه، والسبب أن معظم الدول لديها مراصد فلكية، تصوم وتفطر بما يصدر عن مراصدها. وإذا كان شبه إجماع على الأخذ برؤية المملكة فيما مضى.. فإنه بمجرد أن يبدأ المرصد (هنا) عمله سوف لايكون شيء من هذا الإجماع.
ف (الثابت واقعياً وعملياً والمشاهد حسيا أن الهلال يرى في بعض البلاد بعد غروب الشمس، ولا يرى في بعضها إلا في الليلة الثانية، معنى هذا أن رؤية الهلال أول الشهر قد تكون متيسرة لبعض الأقطار دون بعض فاختلاف مطالع القمر أمر واقعي مشاهد وظاهرة كونية لا جدال فيه) هذا ما يؤكده كثير من المختصين في شؤون الفلك. ولا أخال الدراسات التي تجمعت لدى الرابطة قد أهملت الإشارة لمثل هذه الخلافات العلمية.
ثم لا ننسَ حكمة الشارع - سبحانه وتعالى - عندما (جعل صيام رمضان والحج في أشهر قمرية رأفة بعباده كما يقول العلماء حتى لا يحتاج العامي في قريته والبدوي في قفاره إلى الراصدين وحتى لو سها في تعداد أيام الشهر القمري فإن رؤية الهلال تذكره نسيانه وتصحح خطأه فرؤية الهلال لا يختص بمعرفتها العالمون والراصدون ولا يكون لهم كبير امتياز عن العامة) .(8/93)
وفي حكم رؤية هلال رمضان.. هل يعم أو يخص؟ وهو موضوع قيم يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز: "أما الحساب فلا يعول عليه وهذا هو الحق وهو إجماع أهل العلم المعتد بهم"إذن لماذا نلجأ إلى الحساب والرصد في أمور تعبدية، لم يطلب الشارع لها ذلك.. ولنذكر أن هذا لم يكن موجوداً زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته ولا زمن التابعين لهم.. ومع هذا كانوا يصومون ويفطرون ويحجون دون الحاجة إلى شيء من هذا. وما دام أن الدين يُسْر، فلماذا نعسر نحن على أنفسنا؟
والله من وراء القصد. . .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] لم يتقرر اختيار مكان المرصد، ويتجه البحث إلى إنشائه في منطقة الطائف.(8/94)
دِرَاسات في أُصوُل اللُّغة العَرَبيَّة
بقلم الأستاذ عبد العزيز القارئ
المدرس بمعهد الجامعة الإسلامية الثانوي
في عدد سابق من مجلة الجامعة الإسلامية [1] أتحفنا فضيلة شيخنا الجليل الدكتور محمد تقي الدين الهلالي ببحث قيم عن ما وقع في القرآن بغير لغة العربية، وكانت آراؤه التي أودعها بحثه وتعليقاته على كلام من سبقه من علماء الإسلام مهمة، ولقد استفدت منها كثيراً، وكنت أتتبع هذا الموضوع منذ زمن في غمرة تتبعي ودراستي لحديث "أنزل القرآن على سبعة أحرف "..
ومما أعطى البحث المذكور أهمية خاصة إلمام فضيلة كتابه بعدد من اللغات منها (العبرانية) وهذا مما يسهل مهمة المقارنة بين اللغات المعنية في هذا البحث.
فأحببت أن أسهم فيه بحلقة أخرى تضم إلى حلقاته يتأمل فيها شيخنا الدكتور ويزودنا بمزيد من آرائه، ويستفيد منها القارئ، وخاصة من أشكل عليه هذا الأمر ولم يفهم سره [2] .
ولقد رأيت من الضروري لاستكمال الصورة الواضحة أن تشمل دراستي موضوعين حيث ينبني أحدهما على الآخر:
1- أصل العرب ومنشؤهم.
2- اللغة العربية: نشأتها، والمراحل التي مرت بها.
ولا أدعي أنني آت فيهما بآراء حاسمة ونتائج نهائية، أو أنني مستوفٍ للبحث ومعطٍ له حقه، إنما هي محاولة للدخول في دراسة واسعة متكاملة دقيقة تحتاج إلى جهد عظيم، وعناء شديد ووقت طويل..
1- العرب:(8/95)
من المجمع عليه أن القرآن أنزل بلغة العرب، وأن الله عز وجل اختار هذه اللغة العظيمة لتكون الوعاء الذي يحمل كلامه المنزل على رسوله، كما اختار أمة العرب ليكونوا الرسل الذين يبلغون دعوته للأمم و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} : فاختياره عز وجل لهذه اللغة يدل بلا ريب على أنها أفضل اللغات وأفصحها , كما أن اختياره لأمة العرب ليكونوا حملة الرسالة ويكون الرسول منهم يدل بلا ريب على أنهم كانوا أفضل الأمم، وأقربها للحق، وأكثرها صلاحية وتهيؤاً لحمل رسالة الإسلام إلى العالم..
فمن هؤلاء العرب؟
أما تعريف العرب، وتحديد أصل بدايتهم، ونشأتهم ومساكنهم وديارهم التي يتضمنها اسمهم، فهذا مما كثر فيه الاختلاف، وندر فيه القطع واليقين وكل ما قيل فيه يحتمل مزيداً من النقد والتمحيص، ويحتاج إلى دراسة علمية دقيقة تستخدم فيها الوسائل المعاصرة التي هي أكثر فعالية في تحديد مثل هذه القضايا التاريخية..
ومن هذه الوسائل: إجراء مسح دقيق شامل لديارهم واستخراج بعض الآثار ودراستها، مع أن ما أخرجته الحفريات من آثار قديمة هي في حد ذاتها أيضاً لا تعطينا معلومات قطعية في غالب الأحوال، ولذلك فإن الدارسين في هذا المجال والمهتمين بهذه الحفائر سرعان ما تتغير آراؤهم كلما أنتجت الحفائر شيئاً جديداً، وقد بذل الغربيون جهداً كبيراً في هذا الشأن وحاولوا الاستفادة منه.
ومما ساعد على تشعب الخلاف حول مسألة - أصل العرب - أن تاريخهم قبل الإسلام يلفه غموض شديد حيث لم يدون ولم ينقل إلينا بالقدر الكافي لإيضاح معالمه، لأن العرب في الغالب كانوا أمة أمية لا تدون ولا تقرأ، وقلما تؤرخ، فإن أرخت فبالحوادث المشهورة كقولهم: عام الفيل، وعام الغدر، وعام الماء، وزمن القتاد [3] .(8/96)
إلا أن هناك نواحي في هذا التاريخ يكاد ينعقد عليها إجماع علماء الأنساب والتاريخ، وأشارت نصوص القرآن والسنة إلى بعضها، فنحن نلم من هذين المصدرين بما يكفي لإعطاء صورة واضحة، وإلقاء ضوء ساطع على موضوعنا، ولعل استنتاجاتنا إذ حصرناها في ذلك تكون أقرب إلى القطع واليقين منها إلى الحدس والتخمين..
أصل العرب:
اتفق علماء الأجناس وعلماء الأنساب على أنهم من - الفصيلة السامية - وكذلك المؤرخون المسلمون أرجعوا أصلهم إلى - سام بن نوح - عليه السلام وهو أحد الأصول الثلاثة التي تتفرع منها الأمم وهي (سام، وحام، ويافث) ، روى ابن عبد البر في كتابه عن أنساب العرب والعجم حديثاً عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم" ورواه أيضاً الترمذي وأحمد والحاكم عن سمرة، وذكره الحافظ العراقي في كتابه - القرب في محبة العرب -[4] وحسنه..
ومن المعلوم أن تمايز الأجناس والأمم إنما حدث بالتدريج ابتداءً بهؤلاء الأصول الذين يمثلون
ذرية نوح الباقين في الأرض [5] . ولكننا لا نستطيع أن نجزم ببداية تميز العرب كأمة مستقلة في أي تاريخ كان فضلاً عن أن نحدد لهم أباً بعد - سام - تناسلوا منه: سواء كان هذا الأب هو يعرب، أو قحطان، أو عابر بن شالخ بن أرفخشذ، أو نابت بن إسماعيل، أو حتى إسماعيل عليه السلام نفسه..
فالخلاف محتدم في أي من هؤلاء هو الأب الأول الذي يرجع إليه العرب كما سيأتي بيانه عند الكلام على قحطان وعدنان..
لكن يبدو أن المنطقة التي عرفت لدى علماء التاريخ اليوم (بالمثلث) هي منشأ الحضارات ومنطلق الأجناس، وهي موطن الحضارة الأولى، وتمتد من أراضي الرافدين بالعراق في أحد ساقي المثلث وواد النيل في الساق الأخرى وبينهما بلاد الشام في قاعدة المثلث وعلى رأسه اليمن وحضرموت (انظر الشكل رقم - 1-) .(8/97)
فمن هذه المنطقة نزحت البشرية إلى سائر أرجاء المعمورة وانتشرت الحضارة وفيها أنزلت الرسالات التي ذكرها القرآن، ولكن في أي جزء من المثلث كان المنطلق في جنوبه - أي اليمن - أم في شماله أي (العراق) أو (سيناء) . . .
مما يؤيد عندي الرأي القائل بأن (العراق) كان هو المنطلق أن أحداً من المفسرين لم يذكر أن الجودي الذي استوت عليه سفينة نوح هو في اليمن أو جنوب الجزيرة أو أي مكان آخر، وهذا ابن جرير وهو يستقصي أقوال السلف في تفسيره ينقل بأسانيده عن مجاهد، وسفيان، وقتادة، والضحاك وهم رواد التفسير أنه جبل بالعراق - بل بناحية الموصل منه - ويسند إلى ابن عباس أنه جبل دون تحديد موقعه، وإلى التابعي الجليل زر بن حبيش أنه ناحية بالعراق [6] ولكن ابن كثير يذكر في تفسيره أن بعضهم يرى أنه الطور دون أن يسمي القائل البشر - سواء كان من العراق بالتحديد أو من الطور أو مما بينهما - فإننا نستطيع أن نقول: إنه حدثت عمليات نزوح كبيرة، وحركات هجرة واسعة لأبناء نوح ومنهم - الساميون - إلى سائر الأرجاء شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً ومن هذه - الهجرات - التحرك صوب الجنوب حيث أرض صحراوية تحيط بها البحار من الجهات الثلاث، وكانت هذه الهجرات بسبب الحروب والغارات أو بحثاً عن الكلأ والماء والأراضي الخصبة..
ويقول بعض الباحثين إن الإشارة إلى - بدو الآراميين - في التوراة يعني قسماً من الآراميين الذين كانوا يسكنون الشام تحركوا صوب الصحراء الجنوبية حيث عرفوا فيما بعد بالعرب، ويرى أن كلمة (عرب) ترجع إلى أصل - آرام -[7] .
القبائل العربية القديمة:(8/98)
وفي زمن متقدم جداً عرفت بعض القبائل من هؤلاء التي استوطنت أنحاء من - الجزيرة العربية - كان معظمها في ثلاث مناطق منها حسبما علمنا.. (اليمامة) و (الشِحْر) من أرض اليمن و (الحِجْر) من أرض الحجاز.. ويسمي المؤرخون والنسابة المسلمون هذه القبائل بـ: طُسَم، وجَدِيس والعمالقة، وعاد، وثمود..
ويزيد ابن جرير الطبري وابن إسحاق: أمَيْم، وعبِيْل، وعبد ضَخْم، وجُرْهُم الأولى، أما طسم وجديس فسكنوا اليمامة في شرق الجزيرة العربية، وأما عاد فذكر القرآن مساكنهم وأنها (الأحقاف) وهي في جنوب الجزيرة العربية والأحقاف جمع حِقْف - بكسر الحاد - وهو الكثيب العظيم المستدير من الرمل، قال تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ} [8] .
وأما ثمود فذكر القرآن منازلهم وأنها الحِجْر وهي في الشمال الغربي من الجزيرة العربية قال تعالى: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} [9] .
أما العمالقة فنزل بعضهم بمكة وبعضهم بيثرب من أرض الحجاز وقد وجدت بعض آثارهم في المنطقة..
ويذهب بعض علماء الأنساب أن ثمود كانت تسكن اليمن ثم انتقلت منها إلى الحجر [10] .
ويمكن القول أن جميع هذه القبائل ينحدرون من أولئك الذين تسميهم - التوراة - بدو الآراميين الذين نزحوا من الشام والعراق صوب الجزيرة العربية.. وهذا يفسر التشابه الواضح في اللغات ومفرداتها بين الكتابات التي وجدت في العراق وسوريا والتي تعود إلى العصور البابلية والآشورية والآرامية والكنعانية وبين الكتابات التي عثر عليها في منطقة اليمن أو حضر موت والتي تعود إلى العهود الحميرية والسبئية، حيث يدل ذلك على أن هناك أصلاً واحداً مشتركاً..
هذا هو ما أمكن أن أجزم به من تاريخ العرب القديم مما يمكن أن يكون ذا علاقة بموضوعنا..
القبائل القحطانية:(8/99)
وهذه فترة أخرى من تاريخ نشأة أمة العرب تلي تلك الفترة الموغلة في القدم وهي الفترة التي وجد فيها ما نسميه - بالعرب العاربة - وفيها ظهرت قبائل عربية أخرى ودول وحضارات وبدأت فيها ما يُسمى - بالقبائل القحطانية -.
ويتركز الضوء في هذه الفترة على الجزء الجنوبي للجزيرة العربية حيث اليمن وحضرموت وحيث استوطنت تلك القبائل..
وكان لهم تاريخ وملك وحضارة ذكر القرآن شيئاً منها، وكان من أشهر ممالكهم وحضاراتهم: مملكة سبأ، وربما كانت هي أشهرها وأهمها حيث كانت هي المفترق بين مرحلتين والفاصل بين عهدين كما سيتبين..
قال تعالى في وصف حضارة سبأ:
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [11] .(8/100)
وفي هذه الآيات ما يدل بوضوح على أن مناطق كثيرة من جزيرة العرب كانت عامرة خصبة وهي التي تمتد من اليمن حيث مسكن سبأ إلى الشام التي بها القرى المباركة وذلك في قوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِين} [12] .
فإن معنى وجود قرى ظاهرة آمنة بين اليمن والشام امتداد منطقة خصبة كثرة الزروع والثمار جيدة المناخ كثيرة العمران طيلة المسافة بينهما.. إذ أن خصوبة الأرض دائماً تابعة لجودة الهواء والمناخ وتوفر الأمطار وينتج منهما انتشار العمران..
ثم أخبرت الآية عن حدوث التحول في هذه الحضارة، بعد انهيار سد مأرب وقضاء السيل على مظاهر حضارتهم، فتبدل حال الأرض من خصوبة إلى جدب تصوره الأنواع المذكورة في الآية: {ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} فهذه أنواع من النباتات التي لا فائدة منها وتوجد غالباً في الأراضي القاحلة، ومعنى هذا أن المناخ تبدل أيضاً وشح المطر، وينتج من هذين العاملين تضاؤل مظاهر العمران ووعورة المنطقة التي تعبر عنها الآية ببعد المسافة: {بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} وكان هذا بداية تفرق هذه القبائل القحطانية ونزوحها من اليمن إلى سائر أنحاء الجزيرة، ولكن ما هذه القبائل؟
أصول القبائل القحطانية:(8/101)
روى بعدة طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبأ ما هو؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "رجل ولد عشر قبائل، فسكن اليمن منها ستة والشام أربعة". رواه الترمذي وأحمد وابن جرير وابن أبي حاتم ورواه ابن عبد البر في كتابه - القصد والأمَم - من عدة طرق، واستقصى الحافظ ابن كثير طرق هذا الحديث في تفسيره لسورة سبأ وبيّن أنه حديث حسن وفي بعض ألفاظه سمّى بعض هذه القبائل فقال صلى الله عليه وسلم: "تيامن الأزد والأشعريون وحمير ومَذْحج وأنمار الذين يُقال لهم بَجِيلَة وخَثْعَم وتشاءم لَخْم وجُذاَم وعامُلَة وغَسّان".
ويفصّل علماء الأنساب ذلك فيقولون إن سبأ وَلدَ القبائل القحطانية الكبرى وهي: حِمْير، وكَهْلان، وعمرو، وأشْعَر، وعامُلَة.
ومن هذه القبائل تفرعت العمائر والبطون: فمن (حمير) قضاعة ومن قضاعة جُهينة وبَلِي وكَلْب وبَهْراء وتنوخ ونَهْد ومَهْره وجَرْم، ومن (كهلان) جُذام ولَخْم وكِنْده وطيّء ومَذْحَج والأزْد وهَمْدان وبنو صُداء وخَوْلان وأنمار أما الأشعريون وعمرو وعامله فلم تتفرع إلى كثير من الفروع والمشهور لدى علماء التاريخ والأنساب أن الأشعريين بقوا في اليمن.. [13] .
أما بقية القبائل فنزحت منها إلى الجزء الشرقي والشمالي من الجزيرة، فالأزد هاجر قسم منهم إلى عُمان وقسم إلى الحجاز، وطيّء نزلت عند جبلي أجأ وسلمى، وجهينة سكنت منطقة تمتد من ينبع إلى عقبة أيلة [14] ، ومن الأزد قسم نزل بيثرب وهم الأوس والخزرج ومنهم قسم نزح إلى الشام وهم غسان، ونزحت إلى الشام أيضاً عاملة، أما لخم فسكنت العراق، وأما جذام فتفرقوا في الديار وكان قسم كبير منهم بالشام.
القبائل العدنانية:(8/102)
في الوقت الذي كانت تتحرك فيه القبائل القحطانية في هجرتها الكبرى كان منتشراً في القسم الشمالي من الجزيرة العربية ما يُسمى - بالقبائل العدنانية - وهي التي تنحدر من عدنان، وعدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام فأبو العدنانيين بالإجماع هو إسماعيل عليه السلام الذي نشأ في كنف جرهم إحدى القبائل العاربة القديمة، وصاهرهم، وإبراهيم صلى الله عليه وسلم من البابليين، من العراق، وأم إسماعيل (هاجر) من مصر، فكأنما أراد الله عز وجل لحكمة عظيمة أن يغذي أصول العدنانيين بكل ذلك، ثم يشاء أن يكمل صهرهم وتهذيبهم باختلاطهم بالقحطانيين بعد الهجرة الكبرى..
ولكن من هو أبو القحطانيين؟ هل هو إسماعيل نفسه؟
هذا هو رأي بعض علماء الأنساب والمحدثين: أن عدنان وقحطان كلاهما من ولد إسماعيل، ومن هؤلاء الزبير بن بكار، وابن إسحاق، وابن حجر العسقلاني [15] ، وعلى هذا القول يتخرج قول النبي صلى الله عليه وسلم لناس من أسلم: "ارموا بني إسماعيل" [16] والمعروف أن أسلم من قبائل الأنصار، والأنصار قحطانيون، وكذلك قول أبي هريرة للأنصار بعد أن روى قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وزوجه سارة: "فتلكم أمكم يا بني ماء السماء" [17] .(8/103)
لكني لا أرى في قوله صلى الله عليه وسلم المذكور ولا في قول أبي هريرة ما يدل على أن القبائل القحطانية من نسل إسماعيل لاحتمال أن يكون داخل قبيلة أسلم المخاطبين في الحديث من الخلاف في أصلهم مثل ما داخل غيرها من القبائل التي اختلف في نسبتها إلى القحطانيين أو العدنانيين، هذا مع أنه روى ابن عبد البر من طريق القعقاع بن أبي حدرد أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بناس من أسلم وخزاعة وهم يتناضلون فقال: "ارموا بني إسماعيل" فيكون في الخطاب تغليب لخزاعة وفيها خلاف هل هي عدنانية أم قحطانية، وروى أحمد والبزار والطبراني عن عائشة أنه كان عليها رقبة من ولد إسماعيل فجاء سبي من خولان فأرادت أن تعتق منهم فنهانا النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء سبي من مضر من بني العنبر فأمرها أن تعتق منهم، وفي لفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من كان عليه محرر من ولد إسماعيل فلا يعتق من حمير أحداً". وفي هذا دلالة واضحة أن القحطانيين لا ينحدرون من إسماعيل عليه السلام.
أصول القبائل العدنانية:
تنحدر القبائل العدنانية من نزار بن معد بن عدنان ولذلك يقال: كل عدناني فهو نزاري ومن نزار تفرعت القبائل العدنانية وهي:
(مضر) ومنها قيس عيلان التي تتفرع إلى بطون هي: بنو غطفان، وهوازن، وسَليم، وعُدْوان، (ربيعة) ومنها أسد ووائل، ومن أسد: عنَزَه، وجَدِيْلَة، وعُمَيْره، ومن وائل: بكر وائل، وتغلب، (خِنْدَف) : ومن أشهر عمائرها هُذَيْل (كنانة) : ومن عمائرها بنو مُدْلِج، وقريش، (قريش) وهي أشهر القبائل العدنانية وترجع كما ذكرت إلى كنانة:
روى مسلم في صحيحه والترمذي وأحمد من حديث واثلة بن الأسقع أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم".(8/104)
قال ابن عبد البر: فقريش عمارة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنانة قبيلته وعبد مناف بطنه.
2- لغة العرب:
اللغة هي القدرة على تسمية الأشياء، وقد أخبر عز وجل أنها مما فضل به آدم عليه السلام فقال عز وجل: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [18] فهذه الآيات تشير إلى أن اللغة تعلمها آدم من ربه عز وجل فيحتمل أن يكون ذلك تم بطريق الوحي فتكون اللغة حينئذ توفيقية ولكنني لا أرى في الآية ما يدل بوضوح على ذلك، إذ أن لفظة (علّم) ليست صريحة في الوحي ويمكن أن يكون ذلك قد تم بطريق آخر، وهو أنه عز وجل خلق في آدم القدرة على تسمية الأشياء ومعرفتها والإشارة إلى أشخاصها بأسمائها وألهمه ذلك إلهاماً لا عن طريق الوحي المباشر، ولا شك أن {الأَسْمَاء} في الآية يُراد بها أسماء الأشياء حيث أردفها بقوله: {كُلَّهَا} فلا معنى لحصرها في أشياء مخصوصة، إذ لا مزية حينئذ لآدم يستحق بها التفضيل على الملائكة أن يعلمه الله أسماء عدد مخصوص من الأشياء فالملائكة كذلك جبلهم الله على تسبحه وذكره ففعلوا، لكن المزية التي تستحق هذا الذكر والثناء هي تلك القدرة على تسمية الأشياء والتعرف عليها بتلك الأسماء فلما طلب من الملائكة أن تسمى لكل ما تراه من الموجودات اسماً لم تكن قادرة على ذلك فعلمت أن الله اختص هذا المخلوق الجديد الكريم دونها بما جعله أهلاً للخلافة في الأرض، وهذا التفسير مروي عن ابن عباس رضي(8/105)
الله عنهما قال: "علمه اسم كل شيء حتى القصعة والقصيعة" [19] .
هذه اللغة التي تعلمها آدم ونطق بها هي اللغة (الأم) ، ولا جدوى من أن نقول إنها كانت العربية أو العبرانية أو السوريانية لأن هذه اللغات وغيرها عبارة عن فروع امتدت وتكونت على مرّ العصور وتعاقب الأجيال من ذرية آدم، فكلها تعود إلى تلك اللغة الأم ولا تعود هي إلى واحدة منها ولذلك فإن الجهد الذي صرفه بعض العلماء لإثبات أن أول من تكلم بالعربية آدم، أو نوح، أو سام، أو جبريل كما يُروى عن كعب الأحبار، هو جهد عقيم مبني على التخمين، أو على أخبار الإسرائيلية التي لم تثبت، فلا يثبت بها حكم ولا خبر..
وقد سبق أن بينا في أول البحث أن الناس تناسلوا من أولاد نوح الثلاثة، الذين ترجع إليهم أصول الأمم بنص الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدهم (سام ونوح) ، إليه تنسب (اللغة السامية) التي نطق بها ثم انتقلت إلى نسله من بعده..
ومع تكاثر (السامين) وتفرقهم في أنحاء مختلفة متباعدة من الأرض بدأت هذه اللغة تختلف لهجاتها وتتحول إلى عدد من اللغات، وهكذا كانت نشأة اللغات السامية.. وغيرها:
وعلماء اللغات يقسمون اللغات ثلاث فصائل [20] :
1- الفصيلة الحامية السامية.
2- الفصيلة الهندية الأوربية.
3- الفصيلة الطورانية.
أما (الحامية السامية) - وهي الفصيلة التي تعنينا في هذا البحث - فتحتوي على مجموعتين من اللغات:
أ- اللغات السامية: وهي الآشورية، والبابلية، والآرامية، والكنعانية - ويراد بها العبرية - والفنيقية - ثم العربية، والحبشية.(8/106)
ب- اللغات الحامية: وهي المصرية، والبربرية، واللغات الكوشيتية. والذي يظهر - والله أعلم بالحقيقة - أن اللغات السامية في بداية نشأتها كانت متقاربة جداً كما أسلفنا، حتى إنه ليمكن القول إنها كانت عبارة عن لهجات للغة واحدة. والدارس لهذه اللغات يستطيع أن يلحظ التشابه الشديد بينها، إذ أن أصحاب تلك اللغات كانوا عبارة عن أبناء أمة واحدة تفرقوا في منطقة المثلث (العراق، والشام، ووادي النيل، واليمن وحضرموت) واستوطنوا أنحاء بين هذه المنطقة على مدى حقب التاريخ وأنشأوا ممالك وحضارات واختلط كل قسم منهم بمن جاوره فتأثر به واستفاد منه، وهذا من أهم العوامل لاختلاف اللهجات واللغات وأحياناً لتلاشيها وضعفها، ولذلك فإن كثيراً من الباحثين يعتبر (العربية، والسوريانية، والآشورية، والآرامية، والكنعانية) لهجات للغة واحدة، ثم تمايزت بشكل كبير جعلها تتحول على مدى الأزمنة إلى لغات، والذي حمل هؤلاء على هذا الرأي وجود مفردات متشابهة بمقدار كبير في هذه اللغات (انظر الجدول الملحق بآخر البحث) . بل إن بعض الدارسين يقول: إن السوريانية: أو الآسورية أو الآشورية المراد منها اللغة العربية التي كان ينطق بها أهل سورية وأن (آسورية) لهجة محرفة من (سورية) [21] .
ووجدوا أن وجود التشابه بين (الحميرية) واللغة السوريانية أكثر من وجوه التشابه بينها وبين لغة قريش..
أما اللغة الآرامية: فقد سبقت الإشارة في أول البحث أن بعضهم يرى أن كلمة - آرام - تعني - عرب - وأن العين والباء قلبتا همزة وميماً، وأنهم ينقسمون إلى حضر وهم سكان (الهلال الخصيب) وبدو وهم سكان الأطراف الجنوبية الصحراوية من منطقة الهلال الخصيب ويسمون بدو الآراميين..(8/107)
وأياً ما كان الأمر فإن الذي لا شك فيه أن كل هؤلاء أمة واحدة تسمى - السامية - أما أيهما يرجع إلى الآخر - الآراميين - أو العرب فمسألة ترجع إلى ما سبق أن أشرت إليه - من تحديث أصل بداية العرب كأمة مستقلة معروفة بهذا الاسم -
ولكنني أستطيع أن أجزم بأن أحد تلك الفروع من - السامية الأم - استطاع على مدى التاريخ أن يحافظ على أهم خصائص اللغة السامية على حين فقدت الفروع الأخرى كثيراً استطاع ذلك الفرع أن يطور لغته السامية بشكل ضمن لها النماء والتحسن مع الإبقاء على معظم الخصائص دون أن يفسدها التطوير..
ذلك الفرع هو القسم من الساميين الذي اتجه إلى الجزيرة العربية وعرف فيما بعد باسم العرب، أما لماذا كان ذلك؟
فإن السبب الرئيسي يرجع إلى طبيعة المنطقة التي استوطنها وهي منطقة صحراوية وعرة بعيدة عن المناطق العامرة بالأمم الأخرى فأعطى ذلك العرب فرصة الابتعاد عن المؤثرات المباشرة على لغتهم وفرصة أخرى لصقل ما يصلهم من الأمم الأخرى من مفردات أو لهجات حتى إنه لا يصل إليهم إلا وقد عبر مناطق صحراوية تحتم عليه التغير بشكل يلائم تلك البيئة، ويناسب أذواق تلك الأمة الفطرية البعيدة عن تعقيدات المدنيات الفاسدة المختلفة..
المراحل التي مرّت بها اللغة العربية:
مرت اللغة العربية بأدوار ومراحل، وارتقت في مختلف الفترات درجات التصاعد والتطور، حتى وصلت إلى درجة ومرحلة نهائية وضعتها في القمة بحيث أصبحت أهلاً لأن ينزل بها آخر كتب الله المنزلة، ولأن تكون وعاءً لكلام الله عز وجل..
1- مرحلة النشأة: حيث اللغة الأم (السامية) وحيث كانت العربية في مرحلة مخاض كما سبق تفصيله..(8/108)
2- لغة العرب البائدة: وقد سبق في أول البحث أنهم: عاد، وثمود، وطُسَم، وجَدِيْس، وأمَيْم، وعَبِيْل، والعمالقة، وجُرْهُم.. وذكرنا أن مساكن عاد كانت بجنوب الجزيرة في طرف من صحراء الربع الخالي وثمود بمالها الغربي، وطسم وجديس بشرقها، والعمالقة وجرهم بالحجاز، وبمكة ويثرب..
هؤلاء هم الذين كانوا يتكلمون العربية التي استقلت عن السامية الأم وتطورت إلى أن اتخذت لنفسها شكلاً مستقلاً ونستطيع أن تعتبر عربيتهم فترة متطورة من العربية الأولى التي وجدت في فترة النشأة..
3- لغة القبائل القحطانية: ويسميها الباحثون (الحميرية) وهذه القبائل كانت تسكن الجزء الجنوبي من الجزيرة العربية - حضرموت واليمن - حيث جاوروا أقرب الأمم إليهم وهم (الأحباش) وكثر اختلاطهم بهم فتأثرت لغتهم باللغة (الحبشية) مما جعل بعض المستشرقين يعتبر (الحميرية) و (الحبشية) لغتين شقيقتين لما وجد من كثرة التشابه بينهما في المفردات والخصائص، ولا ننسى أنه لم يكن هناك مفراً أمام (الحميرية) من التأثر بشكل واسع بالحبشية بسبب هجرات اليمنيين والغزوات المتبادلة، وقد أقام (الأحباش) زمناً طويلاً باليمن وحكموها فاللغة الحميرية إذن أضافت إلى ما ورثته من لغة العرب البائدة خصائص ومفردات جديدة تأثرت كثيراً بعوامل خارجية..فبذلك هي تمثل فترة مهمة من فترات تطور العربية.. ولم تكن صالحة وحدها وهي في هذه المرحلة لأن ترشح لتلك المهمة العظيمة التي تجعلها - اللغة العربية المتكاملة الواحدة -، ألا وهي مهمة نزول القرآن بها، بل كل ما يمكن أن نقوله أنها كانت مرحلة تهيئ للمرحلة الأخيرة، وإرهاصاً من إرهاصات اللغة المختارة الكريمة المبينة التي كانت - العدنانية -
يقول المستشرق - رينان -: إن الحميرية والحبشية لم يكن لهما مكان رئيسي سوى أنهما كانتا أداتين هيئتا لظهور العربية الحجازية [22] .(8/109)
4- لغة القبائل العدنانية: وهي لغة القبائل التي تنتسب إلى عدنان بن إسماعيل عليه السلام، وكانت تسكن القسم الشمالي من الجزيرة العربية الذي يشمل: هجر، ونجد، والحجاز..
وقد سبقت الإشارة إلى أن إسماعيل عليه السلام نشأ في كَنَف إحدى القبائل البائدة - جرهم - أو هي فرع من فروعها، ويشير الحديث الصحيح [23] إلى أنه عليه السلام - أعجبهم وأنفسهم - أي أنه كما يبدو فاقهم فصاحة في لغته، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أول من فتق الله لسانه بالعربية المبينة إسماعيل"رواه الحاكم في مستدركه والزبير بن بكار في كتاب النسب وقال الحافظ ابن حجر في حديث الزبير: إنه حسن [24] .
وتأمل قوله (العربية المبينة) تتوصل إلى كل ما نريد قوله عن اللغة العدنانية وأنها تمثل المرحلة النهائية في مراحل تطور العربية المرحلة التي بلغت فيها قمة الفصاحة - والفصاحة هي الإبانة - بعد أن كانت أقل إبانة وفصاحة، مرحلة تفتقت فيها اللغة العربية كأنها هي زهرة كانت منكمشة في كمها ثم انفتحت..
حُكي عن الشرقي بن قطامي أنه قال [25] : "إن عربية إسماعيل كانت أفصح من عربية يعرب بن قحطان وبقايا جرهم وحمير".
وانظر إلى آثار حكمة الله عز وجل العظيمة لما اصطفى لغة هذه الأمة لتكون وعاءً (لكلامه المقدس) سخر لها من عوامل النماء والنقاء ما لم يتوفر لأي لغة أخرى:
أولاً: بيئة جغرافية نقية - صحراوية - بعيدة لوعورتها عن مختلف البيئات الأخرى وهذه البيئة هي أواسط جزيرة العرب التي اختارها الله مركزاً للّغة المصطفاة المتكاملة في خصائصها وثروتها اللغوية.. والتي تشمل نجداً والحجاز.(8/110)
ثانياً: أوحى عز وجل إلى نبيه - إبراهيم الخليل - وهو بابلي من العراق أن يرحل بزوجه - هاجر - وهي مصرية ليتركها مع وليدها - إسماعيل - في هذه الأرض القاحلة الصحراوية من أرض الحجاز، ثم يتم اتصال - هاجر - بقبيلة جرهم فكأنما صبت الأصول: البابلية، المصرية، العربية البائدة في بوتقة واحدة لتفتق عربية إسماعيل..
ثالثاً: ثم يسخر الله عز وجل لذرية إسماعيل - العدنانيين - عاملاً آخر مهماً من العوامل التي ساعدت على نماء لغتهم وهي هجرة - القحطانيين - بعد انهيار سد مأرب واختلاطهم بهم..
فبقيت هذه اللغة - العدنانية - تأخذ طريقها إلى النمو والتصاعد لتشكل في نهاية الأمر اللغة العربية الرئيسية المتكاملة التي بقيت إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، بينما أخذت اللغات الأخرى ومنها (الحميرية) طريقها إلى الانقراض.. حتى لم يبق اليوم إلا بقايا أثرية في الأطلال والنقوش وكتب اللغة..
نتائج البحث:
1- اللغة العربية: أفصح اللغات البشرية، وأوسعها، وأغزرها مادة وأقواها تكويناً، والدليل على ذلك: اختيارها لتكون وعاء لكتاب إلهي عظيم بعد بين الكتب الإلهية المنزلة: المنهاج الإلهي الشامل الكامل العالمي الذي وسع جميع البشر وسائر الأزمنة المتعاقبة، فلغة اتسعت لتعبير عن هذا المنهاج العظيم - القرآن- تعد بحق أعظم لغات الأرض ولولا أنها تملك من خصائص البيان ما لا تملكه اللغات الأخرى لما أمكنها ذلك:
قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [26] .
وقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [27] .(8/111)
ومثل هذه النصوص تدل على أن غير العربية من اللغات - الأعجمية - لا تملك من خصائص الإبانة والاستقامة ما تملكه اللغة العربية..
ولعلي أستطيع في وقت قريب - إذا شاء الله - أن أقدم نموذجاً من خصائص هذه اللغة التي تنفرد بها..
2- معروف لدى جميع الباحثين من علماء اللغات أن اللغة متطورة متغيرة لأنه يستحيل أن تسلم لغة ما من عوامل التطوير والتغيير، واللغات الحية يستفيد بعضها من بعض، ولا يمكن للغة تنكمش على نفسها وتنقطع صلاتها الأخرى، والمدنيات الأخرى، أن تدوم على قيد الحياة طويلاً فلكي تستمر اللغة في الوجود يجب أن تتقبل التطوير، ولكي تزداد نمواً وازدهاراً يجب أن تتصل بلغات الأمم الأخرى وتستفيد منها..
لكن هذا الأمر دقيق عجيب، فإن بعض اللغات يقضي عليها التطوير وتتلاشى عند الاتصال بالأمم الأخرى، فهناك إذاً عوامل أخرى تصحب هذا العامل المهم ويمكن تلخيص أهمها فيما يلي:
أولاً: استعداد اللغة في أصل تركيبها وتكوينها وخصائصها الذاتية للتطور والنمو، والقدرة على احتواء التغيرات الحضارية البشرية مهما اتسعت والقدرة على الصمود أمام مختلف العوامل المؤثرة..
ثانياً: قوة الأمة التي تتكلم بها: حضارياً، وفكرياً، وسياسياً، فإن الأمم الضعيفة التي لا تمتلك من الخصائص الحضارية والفكرية ولا يكون لها كيان سياسي قوي لا تستطيع أن تحافظ على لغتها فضلاً عن أن تنشرها وتفرضها على الناس.
ثالثاً: انتشار هذه الأمة التي تتكلم بتلك اللغة: واتصالها بالأمم الأخرى بشتى وسائل الاتصال: إما بالغزو والفتوحات، أو بالمبادلات والعلاقات التجارية والثقافية، أو بحركات الهجرة والنزوح..(8/112)
وإذا طبقنا هذه العوامل الثلاث على اللغة العربية وأمة العرب نجدها متوفرة جميعها، فقوة تكوينها الذاتي يمكن أن تستنتجه مما سبق بيانه والحديث عنه عند الكلام عن نشأتها والمراحل التي مرت بها، ويكفي دليلاً عليه صمودها طوال هذه القرون والحقب، على الرغم من تعرضها لشتى العوامل الرهيبة التي تفكي للقضاء على أي لغة أخرى كاللغة - العبرية - مثلاً..
فاللغة - العبرية - كانت لغة محلية، ولم تكن تملك من الخصائص ما يؤهلها للانتشار، ولا من المميزات الذاتية ما يسمح بالاستمرار، ثم تعرضت لهزات عنيفة نتيجة تشرد أهلها وتفرقهم بدداً في أرجاء العالم فانقرضت وهي منقرضة وإن استمات اليهود اليوم (عليهم لعائن الله) في محاولتهم لإحيائها..
أما اللغة العربية فنتيجة لقوة تكوينها الذاتي وامتلاكها لخصائص النمو والبقاء لم تؤثر فيها الهزات العنيفة، ولا انتشار أهلها واسع في عدة مراحل من التاريخ كما سأبينه في النقطة التالية..
وقد سبق أن أشرت إلى حركات النزوح والانتشار التي تعرضت لها أمة العرب وكان أشهرها وأعظمها:
الهجرة الأولى: من منطقة الهلال الخصيب والرافدين باتجاه الجزيرة العربية ووادي النيل وربما شمالاً وشرقاً إلى جهات أخرى..
الهجرة الثانية: من اليمن إلى سائر أنحاء الجزيرة والرافدين والشام ووادي النيل.
الفتوحات الكبرى: وهي أعظم حركات الانتشار العربية، وقد أوصلت العرب إلى منطقة تمتد من مشارف الصين شرقاً وبلاد الهند والسودان جنوباً إلى المحيط الأطلسي غرباً، ثم مشارف أوروبا شمالاً امتداداً من فرنسا وصقلية وقبرص وبيزنطة ثم القفقاس وبلاد الخزر وأواسط آسيا وفرغانة التي هي بلاد الترك، وهي منطقة كما نلاحظ تحتوي على أمم كبرى رئيسية: أمة الهند، والترك، والبربر، والروم، والفرس.(8/113)
فلو أن أي أمة غير أمة العرب انتشرت هذا الانتشار لم أشك لحظة أنه كان يُقضى على سائر خصائصها ومنها - اللغة -، أو على الأقل تضعف وتنضب مقوماتها وخصائصها، لكن الذي حدث بالنسبة للعرب والعربية أن صمدت مقوماتهم وازدادت العربية قوة وازدهاراً وتماسكاً فبدل أن تحتويها كل تلك الأمم والحضارات واللغات وتطغى عليها، احتوت هي كل تلك الأمم والحضارات، وطغت على سائر تلك اللغات، ولا شك أن العاملين الآخرين كان لهما دون رئيسي في ذلك وهما: نزول القرآن دستور الإسلام باللغة العربية وتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بالعبرية فهذان جعلا - دين الإسلام - كله عربياً، وهو دين عالمي، فكان دخول الأمم في حظيرة الإسلام دخولاً في حظيرة العربية.. وهذا أعطى اللغة العربية عامل: الفكر والثقافة والخصائص الحضارية بأوسع نطاق، فسعدت العربية بظهير حضاري لم تسعد به أي لغة أخرى حتى ولا العبرانية أو الرومانية أو غيرها..
والعامل الآخر: قوة الكيان السياسي الذي تمثل في أوج الفتوحات بشكل لم يسبق له نظير في العالم، بحيث أصبحت الدولة العربية التي حملت لواء الإسلام أقوى دولة بلا منازع، وذلك أعطى اللغة العربية الفرصة لكي تكون اللغة العالمية بلا منازع أيضاً.. فكانت لغة الفكر والثقافة والعلم والأدب، والطب والحكمة وسائر ما يحتاج إليه البشر..
3- النتيجة الثالثة والأخيرة وهي أهم نتائج هذا البحث بل هي مقصودة ومرامه، أن - اللغة العربية المتكاملة الرئيسية - التي نزل بها القرآن كانت هي - العدنانية - بسائر لهجاتها وفروعها.. وكان الفرع الرئيسي الذي حظي بأكبر حظ من الآيات والحروف لسان قريش - أعظم القبائل العدنانية -.(8/114)
ولما كانت اللغة العدنانية: البوتقة الأخيرة التي صبت فيها سائر اللغات العربية الأخرى خصائصها ومفرداتها وانصهرت فيها وجدنا أنها احتوت على أحسن ما في تلك اللغات من مفردات وخصائص واطّرحت ما لم يستحسنه لسان العدنانيين.. فاستحقت بذلك أن تكون هي اللغة الرئيسية التي انتشرت واكتسحت اللغات الأخرى: القحطانية، فإذا وجدنا من العلماء من يقول إن في القرآن لهجة أو مفردات (حميرية) فإنه يكون قد غفل عن هذه الحقيقة التي شرحناها في بحثنا هذا، أو وجدنا آخرين يقولون إن في القرآن ألفاظاً حبشية أو نبطية أو سوريانية أو عبرانية هكذا على إطلاقه فهو كذلك لم يعرف ما هي اللغة العربية ولا اطّلع على حقيقتها الرائعة، أو وجدنا آخرين يقولون إنه لا يوجد في القرآن (مُعرّب) ولا من لسان غير العرب، وأن تلك الألفاظ التي حُكي أنها أعجمية هي مما وافقت فيه لغة العرب لغة العجم تصادفاً لا عن نقل أو اقتباس فإننا نلحقه بصاحبيه ونقول له: هذا كلام من لم يفهم طبيعة اللغات جميعاً، فضلاً عن أن يدرك سر العربية، هذا هو ما حاولنا الرد عليه في بحثنا هذا، وقد استعرض فضيلة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي طرفاً من أدلتهم وناقشها..
ملحق:
استقصى بعض الباحثين الألفاظ المتشابهة بين اللغات: الآرامية، والبابلية، والعبرية، والحميرية، والعربية العدنانية (الفصحى) ، راجع في ذلك بحثاً نشر في مجلة (المجمع العربي) بدمشق المجلد 44 الجزء 1 عدد شوال سنة 1388هـ وراجع بحثاً آخرا نُشر في مجلة (عالم الفكر) بالكويت المجلد 2 العدد 4 يناير 1972م الصفحة 1111-1114، ونحن نذكر مقتطفات من ذلك في الجدول التالي:
عربي عدناني
بابلي أشوري
عبري
أرامي سورياني
حميري
أبٌ
أبو
أب
أب
أب
ابنٌ
بنو
بنْ
برا
بن
أخٌ
أخو
أح
أحا
أحو
اثنتان
شنا
شنايم
ترين
سنيت(8/115)
أخذ -يأخذ
أخوز
أحز - ياحز
أحد – نحود
أخز – ياخز
أرض
أرصتُو
أرص
أرعا، أرقا
أرضٌ
اسم
شومو
شم
شما
سم
أمٌ
أمُو
أم
أما
أم
أمّةٌ
أمْتُو
أمْهَ
أمْتا
أمةٌ
أنا
أنْكُو
أنا
أنا
أنا
إنسان
نشو
إنوش
ناشا
إنش
أنثى
اششتو
اشته
أتاتا
أُنْسَتْ
بئرٌ
بورو
بور
بر
بئر
بيتُ
بتُو
بيت
بيتا – بُوت
بيت
سلّم - سلام
شلمو
شَلَم - شَلُوم
شلما - شُلم
سلم -سلام
ومن الألفاظ المتشابهة بيت العربية (العدنانية) والآرامية:
(أبْ) بمعنى الثمرة، وفي الآرامية (آبو)
(إفك) بمعنى الكذب، " " (هِفِخ)
(بعير) اسم للجمل، " " (بعيرو)
(بقعة) ، " " (فُقْقَتُو)
(بِيَعُ) المكان الذي يتعبد فيه النصارى، وفي الآرامية (بِيعَتْوُ)
(التّبَار) بمعنى التفتيت والتكسير، وفي الآرامية تبّر بمعنى كسر
(تَنُور) بيت النار أو مكان النار، وفي الآرامية (بيْتْ نُورو)
(تجارة) ، وفي الآرامية (تَجَارُو)
(بين) ، " " (تينو)
(مثقال) ، " " (متجولو)
(ثَمّ) أي هناك، وفي الآرامية (تمُون)
(جبار) أي متسلط متكبر، وفي الآرامية (جَبُورُو)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] العدد الثالث من السنة الثالثة المؤرخ بمحرم 1391هـ.(8/116)
[2] أعني به بحثاً نشر حول نفس الموضوع في العدد الأول من السنة السادسة المؤرخ برجب 1393هـ فقد أثار كاتبه (ص80) الإشكال حول المعرَّب في القرآن بطريقة تدل على أنه لم يطلع على البحث المشار إليه وتدل على عدم اطلاع كاف في الموضوع.
[3] المحبر لأبي جعفر محمد بن حبيب الهاشمي ص5 (ط المكتب التجاري بيروت) .
[4] توجد منه نسخة مخطوطة بالمكتبة المحمودية بالمدينة المنورة.
[5] راجع تفسير الآية رقم 77 من سورة الصافات.
[6] تفسير ابن كثير (ط الحلبي بمصر) 2 - 447.
[7] عباس محمود العقاد في كتابه (إبراهيم أبو الأنبياء) .
[8] الأحقاف - 21.
[9] الحجر - 80.
[10] عقود الجمان للقلقشندي ص19 (ط بتحقيق إبراهيم الأبياري 1383هـ بمصر) .
[11] سبأ - 15 -19.
[12] راجع تفسير ابن كثير لهذه الآية..
[13] عقود الجمان للقلقشاندي.
[14] صفة جزيرة العرب للهمداني.
[15] فتح الباري 6 -537 (ط السلفية بمصر) .
[16] صحيح البخاري - كتاب الجهاد.
[17] صحيح البخاري - مناقب الأنبياء.
[18] البقرة 31-33.
[19] تفسير ابن جرير (ط دار المعارف بمصر) 1- 482.
[20] علم اللغة للدكتور عبد الواحد وافي (ط السلفية بمصر) ص128 - 168.
[21] عباس محمود العقاد في كتابه - إبراهيم -
[22] مولد اللغة للشيخ أحمد رضا العامل (من منشورات مكتبة الحياة بيروت) ص52.
[23] صحيح البخاري - كتاب الأنبياء.
[24] فتح الباري (ط السلفية بمصر) الجزء 6- ص403.
[25] رواه ابن هشام وذكره ابن حجر في فتح الباري 6-403.
[26] الزمر - الآية 28.
[27] النحل - الآية 103.(8/117)
الهَوَس الفكرِيّ
بقلم الأستاذ مرزوق بن محمد الدوسري
مراقبة المطبوعات بالمدينة
يحكى أن مدخولاً قد زال عقله، وذهب بصره، وفقد سمعه، خرج ذات يوم من داره هائماً على وجهه في متاهات شاسعة لا حدّ لها نهاية، وبقي سائراً على قدميه، شاخصاً بصره، رافعاً عقيرته إلى أن أعياه السير، وأنهكه الضنى فخر صريعاً على وجهه. ولما أفاق من غيبوبته، واستعاد شيئاً من نشاطه وقف على صخرة، وراح يخطب بأعلى صوته آمراً مرة وناهياً أخرى وموجهاً ثالثة. ولما لم يسمع صوتاً يرد عليه، ولم يقم أحد يضع الوثاق في يديه، اعتقد أن الأمر قد صار له، وأن الكل طوع بنانه، وأنه هو الآمر الناهي، الموجه المرشد الذي يستطيع أن يبني ويهدم، ويخطط ويشرع معتمداً على ما بقي في ذهنه من خليط بين أفكار مجنون وأحلام نائم.
ذكرني بهذه القصة أولئك الذين أصموا آذانهم، وأغمضوا أعينهم، وراحوا يصرخون إما في إذاعة أو يقذفون في كتاب بأفكارهم المريضة وآرائهم السخيفة، غير مبالين بما يكون لذلك من نتيجة. ذلك أنهم لا يهتمون بالنتائج بقدر ما يهتمون بقول ما قيل لهم أن يقولوه. أي أنه لا يهمهم إلا أن يضعوا ما حملوا به سفاحاً من أفكار ليست حاجة هذا الشرق هي التي والدتها في أذهانهم، وإنما ولدتها حاجة أنفسهم التي فقدت أصالتها وثقتها بعد أن نفث في روعها أنها لا تستطيع البقاء في الحياة إلا إذا تفاعلت مع العدو، وانصهرت في بوتقته فكرياً، وعقائدياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وسياسياً، هذا الاعتقاد الراسخ لدى هؤلاء بعدم القدرة على البقاء في الحياة، والاعتماد على النفس هو الذي حملهم على أن يجعلوا من أنفسهم أبواقاً لأعداء هذه الأمة وعوامل هدم وتخريب لكنها والحمد لله أبواق مبحوحة وعوامل مغلولة ليس نصيبها من الفشل والعجز عن التأثير بأقل من نصيب كل محاولة سبقتها للنيل من هذه الأمة.(8/118)
ولئن كانت العوامل الكثيرة والظروف الحاضرة قادرة على أن تساعد هؤلاء على رفع أصواتهم، وأن تمكنهم من الوقوف وقفة الجريء فإنها غير قادرة على أن تجعل منهم أبطلاً حقيقيين ذوي نفوذ قوي، وأفكار فعالة تستطيع التأثير في كيان هذه الأمة، ذلك أن هذه الأمة قد اعتادت رفض العناصر الغريبة التي تطرأ على كيانها، وهؤلاء بحكم ثقافتهم الملوثة، وعقائدهم المشبوهة غرباء. غرباء عن مشاكل هذه الأمة التي تعيشها. غرباء عن آمالها التي تطمح إليها. غرباء عن أهدافها التي تسعى لتحقيقها. غرباء في أطوارهم وتأملاتهم، وهذا ما قادهم إلى المفاهيم الجديدة التي يريدون الخروج بها على العالم الإسلامي مع مخالفتها لكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن هذا ليس دليل رشد في العقل، ولا حكمة في القول، وإنما دليل جهل وغطرسة وقلة دراية بالشريعة الإسلامية، وبطبيعة هذه الأمة، ولا أعني بالطبيعة ما انطبع عليه القوم من تقاليد وعادات قومية وعنصرية وإقليمية، وإنما أعني ما انطبع في قلب المسلم من حب لعقيدته وتشبت بها، وتفان في سبيلها وكراهية شديدة للذين يحاولون تشويشها وتحريفها.
ولو أن هؤلاء يدركون الحقيقة لعلموا أن ما يقومون به من محاولات لجرف هذه الأمة من قلعة عزها وحريتها إلى حظيرة الذل والاستعباد إنما هو عبث لا فائدة منه ولا طائل لهم، وبالتالي لرفقوا بأنفسهم من هذا الضجيج الأهوج والادعاء الكاذب.(8/119)
لقد رفع هؤلاء شعارات محببة لكل مسلم ألا وهي العمل من أجل الإسلام. العمل من أجل الأمة. العمل من أجل الإنسانية. ولكنها شعارات غير قادرة على أن تخفي ما وراءها من نوايا سيئة لأن الأمة أصبحت من نوايا سيئة لأن الأمة أصبحت لا تؤمن بالشعارات بعد أن روعت في أكثر من مناسبة بما وراءها من مقاصد سيئة وأغراض دنيئة الأمر الذي جعلها تشك في كل داعية مجهول الهوية فتمحص سلوكه مع ربه، وسلوكه مع نفسه، وسلوكه مع غيره قبل أن تفتح له قلبها، وتصغي إلى ما يقول. وأمة وصلت إلى هذا الحد من الحذر والحيطة عسير على الأدعياء أن ينالوا منها شيئاً، أو يجدوا لهم مكاناً في أرضها وبين صفوفها.
إن هؤلاء قادرون بحكم الظروف الراهنة أن يتكلموا من الإذاعات، وأن يحتلوا الصفحات الأولى من الجرائد والمجلات، وأن يتحكموا في دور النشر والطباعة، ولكنهم غير قادرين على أن يصلوا إلى القلوب المؤمنة والعقول السليمة لعظم البون بين ما تحمل الأقلام المأجورة من أفكار رديئة، وما يعتقد المسلم من دين قويم.
ماذا عسى أن يكون نصيب الكاتب الذي يزعم أن من حقه أن يلغي نصاً من النصوص القرآنية أو الأحاديث النبوية متى كان ذلك النص معارضاً لنظريات اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية فرضتها المبادئ الإلحادية، أو متى كان ذلك النص محذراً المسلم من موالاة أعداء دينه، وموادتهم والاتكال عليهم..
أو ماذا يكون نصيب الكاتب الذي يزعم أن من حقه أن يجتهد في القرآن برأيه، ويعتقد أنه يفوق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفهم له، وأنه جدير بأن يوجد نظاماً إسلامياً يجتمع فيه كل إنسان حتى ولو كان شيوعياً لا يؤمن بالله ولا يعترف بالأديان، أو وثنياً يعبد الأشجار والأحجار، ويلوذ بالطواغيت من دون الله.(8/120)
إن نصيب مثل هذا الكاتب عند عامة المسلمين كنصيبه عند خاصتهم ليس إلا المقت والازدراء والسخرية، وبالتالي ليس لما يكتب من مكانة في القلوب ولا أثر في النفوس اللهم إلا ازدياد النفور من ضلالاتهم، والحذر من أحابيلهم.
إن أكبر مصيبة هؤلاء على أنفسهم أنهم يكتبون ناقدين، ويكتبون موحين على حد زعمهم، ثم يصرحون بأنهم لا يأبهون بمن يكتبون عنهم أو لهم أي أنها لا تهمهم النتائج المترتبة على ما يكتبون، وسبب ذلك شيئان: أحدهما أنهم يكتبون طبقاً لما يوحى إليهم أي أنهم يكتبون بغير إرادة متحررة من الضغوط الهائلة المفروضة عليهم فرضاً قسرياً. وثانيهما أنهم يعلمون للهدم والتخريب لا للبناء والتعمير. وفرق بين من يريد البناء ومن يريد الهدم فالذي يريد البناء يضع كل شيء في مكانه ثم يتفقده بعد ذلك فما كان صالحاً أبقاه وما كان فاسداً أبدله، أو ناقصاً أكمله. أما الذي يريد الهدم فإنه لا يهمه إلا تقويض البنيان وإزالة معالمه.
وأصحاب الفهم الجديد للقرآن الذين يريدون تحريف نصوصه وتعطيل أحكامه مجاراة للقوى المادية، والعقائد الإلحادية، لا يريدون بناءً للمجتمع العربي ولا بقاء للدين الإسلامي ولا حياة للأمة الإسلامية وإنما يريدون تقويض هذا المجتمع، وطمس معالم هذا الدين، والقضاء على الأمة التي تلاحمت تحت رايته، لأن من المستحيل أن تجتمع العرب على غير شريعة الله وأن يبقى دين محرف كتابه، ومعطلة أحكامه، وأن تحيي أمة ذات عقيدة سماوية تحاد الله ورسوله، وتواد أعداءه وتواليهم، وتعتبر الكفرة الفجرة أعواناً والملاحدة أنصاراً. فالذين يريدون الالتحام مع الملاحدة والتعاطف معهم، والانقياد لهم إنما يريدون تذويب الشخصية العربية والإسلامية على حد سواء.
أجار الله الأمة العربية والإسلامية من المهوسين فكرياً، والمنحرفين عقائدياً، والمنحلين أخلاقياً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(8/121)
قضَايا أسَاسيَّة في تطوير المكتَبة العَرَبيَّة والإسلاميَّة
بقلم عيد عبد الله عيد السيد: خبير مكتبة الجامعة الإسلامية
يعالج هذا المقال في إيجاز شديد اهتمام الإسلام بالعلم وتدوينه، وتاريخ المكتبات الإسلامية وعصور ازدهارها ثم اضمحلالها ويعرض للحديث عن خزانة الحكمة في بغداد وكتبة قرطبة في الأندلس والمكتبات في مصر الفاطمية.
ثم يعالج المقال قضية إحياء التراث والاهتمام بالمخطوطات ونعود فنسأل عن ماهية المكتبة في العصر الحديث؟ وعن موقع أمين المكتبة من الثقافة ودوره فيها؟ ثم نعرض في صراحة نواحي النقص في المكتبات العربية وكيفية علاج هذا النقص ونتساءل هل تؤدي المكتبة العربية حالياً رسالتها؟ فيجرنا ذلك للحديث عن النظم الفنية فنعرض للفهرسة وأنواعها ومشكلاتها وكيفية معالجة هذه المشكلات ونتحدث عن التصنيف وخططه وفلسفته ومشكلاته وكيف نسد الثغرات عند تطبيقه؟ وننتهي بالحديث عن الحاجة الشديدة إلى إعداد قوائم برؤوس الموضوعات لمختلف أنواع المكتبات العربية..
اهتمام الإسلام بالعلم:
الحمد لله الذي أنعم على الإنسانية برسالة الإسلام وصلى الله عليه وسلم على المثل الأعلى والأسوة الحسنة للبشرية محمد بن عبد الله صفوة خلقه أجمعين وبعد:
يقول الحق تبارك وتعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [1] .
كانت هذه الآية أول سورة نزلت من القرآن الكريم تنبئ رسولنا صلى الله عليه وسلم بالرسالة وتنطق أول كلماتها بالدعوة إلى القراءة التي هي مفتاح التعلم، وتذكر القلم وهو وسيلة الكتابة ونقل العلم والمعرفة وحسب المسلم هذا ليعلم مكانة العلم والعلماء في الإسلام.(8/122)
على أن الدعوة إلى العلم - في القرآن الكريم - بارزة في كثير من آي الذكر الحكيم قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُون} [2] وقال جل من قائل: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات} [3] وقال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [4] إلى غير ذلك من آيات بينات.
ويمكن القول بلا تحفظ بأن الإسلام خاطب عقل الإنسان وحواسه ومشاعره وجوارحه، ووجهه إلى النظر والمشاهدة والتأمل والاعتبار وغير ذلك من أمور تدفع إلى المعرفة وتنشد الوصول إلى الحقيقة وإن اهتمام الإسلام بالعلم ليس له مثيل أو نظير في غيره من نظم أو أديان حديثة كانت أم قديمة وإذا أردنا أن نعرف مقام العلم في الإسلام فلنرجع بعد القرآن الكريم إلى ما ورد في شأن ذلك على لسان سيد المرسلين إذ يقول: "طلب العلم فريضة على كل مسلم".
ولم يقتصر الأمر النبوي على طلب العلم الشرعي بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى تعلم كل ما يعود على المسلمين بالخير أو يدفع عنهم الشر، من هذا أنه صلى الله عليه وسلم أول ما قدم إلى المدينة أمر زيد بن ثابت الأنصاري أن يتعلم لغة اليهود لأنه لا يأمنهم على دينه [5] .
أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القائل: "العلماء ورثة الأنبياء" وهذا يدل على أن منزلة العلماء من أرفع المنازل في الإسلام بعلمهم وعملهم وتعليمهم وإرشادهم للمسلمين.
ولقد بلغ التشجيع العلمي أوجه عند المسلمين وفتح باب العلم للجميع لا يدفعه دافع ولا يمنعه مانع والتزمت الدولة الإسلامية دائماً بأداء واجبها تجاه العلم والعلماء وتولد عند المسلمين نشاط علمي واسع في ميادين المعرفة المختلفة لم يعهده التاريخ. ولقد حقق هذا النشاط ازدهاراً حضارياً رائعاً لقرون تسعة من تاريخ الإسلام.
نشأة المكتبة الإسلامية:(8/123)
وربما كنا على حق إذا قررنا أن المكتبات في الإسلام قد نشأت بنزول القرآن الكريم وإن الكتب لازمة من لوازم المسجد لأننا نعلم أن المسجد لم يكن مكاناً خاصاً للعبادة فقط بل كان معقد حلقات العلم ومركز إدارة الخلافة ومنطلق الحياة الاجتماعية والسياسية للمسلمين.
وماذا يمنع أن تكون أولى المكتبات الإسلامية في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان يجمع في بيته ما يدون من الوحي ثم نقلت الصحف من بيت المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر بعد أن جمعت في مصحف على يد زيد بن ثابت ثم حفظت هذه الصحف عند عمر بن الخطاب أيام خلافته وبقيت عند حفصة حتى نسخ منها مصحف عثمان بن عفان ووزع على الأقطار والأمصار الإسلامية.
ويمكن القول بأن المكتبات الإسلامية قد ظهرت بصورة واضحة في نهاية القرن الثاني للهجرة إذ زودها الخلفاء والأمراء وغيرهم من العلماء والأفاضل والأثرياء بما تحتاج إليه من الموظفين ومواد الكتابة (الورق - الرق - البردي.. الخ) ولقد زودت مثل هذه المكتبات بكتب هامة في مختلف العلوم وتبارى الخلفاء والأمراء في اقتناء أنفس الكتب وأكثرها ندرة مهما كلفهم ذلك من أموا ل طائلة [6] .
ولقد ورد في مقالنا (مناهج البحث وطرائقه عنه المسلمين) المنشور في العدد الثالث من السنة الخامسة في المحرم سنة 1393هـ بمجلة الجامعة الإسلامية أن العلم منهج وطريقة وأسلوب وإن تحصيل العلم يتم بطرائق متعددة أشهرها التلقين والتعليم الذاتي وكلتا الطريقتين تعتمدان اعتماداً أساسياً على الكتاب. فالكتاب هو الأستاذ الدائم للباحث بعد أن تنقطع علاقته بكل أساتذته من البشر. وقد عرف الإسلام الحنيف قيمة الكتاب فأطلق اللفظ على القرآن الكريم باعتباره مجمل المعرفة الإنسانية ومفتاحها والدافع إليها {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} .(8/124)
روى ابن النديم: قال أبو معشر في كتابه (اختلاف الزيجات) : "إن ملوك الفرس بلغ من عنايتهم بصيانة العلوم وحرصهم على بقائها على وجه الدهر أن اختاروا لها من المكاتب أصبرها على الأحداث وأبقاها على الدهر"ولقد كنت هذه الكتب التي تحدث عنها ابن النديم وبركلمان المستشرق الألماني أساساً لكتب تنقل إلى العربية منذ العصر الأموي.
ولعل فيما سبق بيانه من اهتمام الإسلام عقيدة وشريعة بالكتابة والتعلم واهتمام المسلمين منذ مطلع الوحي بالعلم والعلماء ما يدحض الفرية الشهيرة التي لا زال يرددها بعض المستشرقين والحانقين على الإسلام من أن الخليفة العادل عمر بن الخطاب قد أمر بحرق مكتبة الإسكندرية عند الفتح العربي لمصر. على أن الثقاة من كتّاب التاريخ كالمقريزي والطبري وابن الأثير قد دحضوا هذه الفرية بما فيه الكفاية كما شاركهم في ذلك لفيف من كتّاب التاريخ الأجانب منهم بارسون في كتابه (تاريخ مكتبة الإسكندرية) .
Parson: History of Alexandrian Library.
ازدهار المكتبات الإسلامية:
ولقد اتسعت المكتبات في العصر العباسي حتى إن هذا العصر يعد بحق عصر الموسوعات العلمية والمكتبات الإسلامية ولقد ساعد على ذلك اتساع حركة التأليف والترجمة وتقدم صناعة الورق التي هي أساس صناعة الكتاب ومن أشهر مكتبات ذلك العصر.
خزانة الحكمة أو بيت الحكمة في بغداد:
ولكن هل كانت مكتبة فقط أم مكتبة ومعهداً ومرصداً؟ وأين مكانها؟ وهل أنشأها الرشيد أو المأمون؟ ومنها نظامها؟ وماذا كان بها من أعمال؟
الغالب أن الرشيد هو الذي أنشأ هذه المكتبة وجمع إليها ما كان قد نقل إلى العربية من كتب علمية وطبية وغيرها بالإضافة إلى ما ألف وصنف في العلوم الإسلامية مع ما سعى إليه يحيي بن خالد في جمعه من كتب الهند وما وقع للرشيد من كتب الروم في أنقره وغيرها من الأمصار.(8/125)
ولما تولى المأمون أنشأ مجالس الترجمة وجمع في بيت الحكمة كتب العلم بلغاتها اليونانية والسريانية والفارسية والهندية والقبطية فضلاً عن العربية.
ونرجح أن يكون بيت الحكمة هذا مجلساً للترجمة أو للنسخ أو للدرس أو للتأليف وربما كان يجلس النساخ في أماكن خاصة ينسخون فيها الكتب لهم ولغيرهم بأجر أو بلا أجر ولعل الأمر كان كذلك بالنسبة للمترجمين والمؤلفين والمطالعين.
ومن نساخ بيت الحكمة الذين ورد ذكر شيء عنهم في كتاب الفهرست علان الشعوبي [7] وأصله فارسي يُقال أنه راوية عارف بالأنساب والمناظرات وأنه عمل نساخاً في بيت الحكمة للرشيد والمأمون والبرامكة. وينسب إليه كتاب (في مثالب العرب) .
وذكر أن محمد بن موسى الخوارزمي ويحيى بن منصور الموصلي صاحب الأرصاد في عصر المأمون والفضل بن نوبخت المنجم وأولاد شاكر وغيرهم كانوا من بين المترددين على بيت الحكمة للمطالعة أو التأليف.
ولا بد أن يكون لبيت الحكمة هذا قيم يديره يُسمى صاحب بيت الحكمة وممن يُقال أنه شغل هذا المنصب سهل بن هارون.
وكان في بيت الحكمة مجلدون إذ يقول ابن النديم: "إن ابن أبي الجريش كان يجلد في خزانة الحكمة للمأمون" ولقد بقيت هذه المكتبة إلى عهد ابن النديم ونقل عنها.
وجاء في دائرة المعارف الإسلامية أن أول مكتبة عامة هي مكتبة دار الحكمة التي أنشأها المأمون في بغداد وجمع لها الكتب اليونانية من الإمبراطورية البيزنطية وترجمت إلى العربية وكانت المكتبة تحوي كل العلوم التي اشتغل بها العرب وقد ظلت إلى مجيء التتار سنة 656هـ.
مكتبة قرطبة:(8/126)
ولقد أنشأ المستنصر بن الناصر في الأندلس في قرطبة مكتبة جمع إليها الكتب من جميع أرجاء العالم بل كان يبعث في شرائها رجالاً من التجار ومعهم الطائل من الأموال منافسة لبني العباس في اقتناء الكتب، ويُقال إنه اشترى كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني بألف دينار من ذهب ويقدر ابن خلدون والمقري مجموع ما حوته هذه المكتبة بما يصل إلى أربعين ألف مجلد (000ر40) [8] .
وكانت هذه المكتبة تشغل قاعات بقصر قرطبة وأقيم عليها مدير أو مشرف كما وضعت لها الفهارس لكل موضوع من موضوعاتها وذكر أن فهارس الدواوين وحدها بلغت 44 أربعة وأربعين
فهرساً في كل فهرس عشرون ورقة [9] .
وقد انتشرت المكتبات في سائر بلاد الأندلس حتى قيل بأن غرناطة وما حولها كان فيها سبعون مكتبة ولعل حب الكتب كان سجية في سكان تلك الديار أو لعل اقتناء الكتب كان من شارات الوجاهة والرئاسة عندهم. وقد ظلت مكتبة قرطبة حتى بيع أكثرها في حصار البربر ثم أجهز الفرنج على الباقي منها.
المكتبات في مصر الفاطمية:(8/127)
واقتدى بخلفاء بني العباس في بغداد وبني أمية في الأندلس الخلفاء الفاطميون في مصر فحينما تولى الخلافة العزيز بالله سنة 365هـ استوزر يعقوب بن كلس [10] وكان الخليفة محباً للكتب فكلفه بترتيب الدواوين وتقريب العلماء. ولقد جمع من الكتب جانب كبير في قصر الخليفة في قاعات سميت (خزانة الكتب) وقد بذلت أموال طائلة في الحصول على المؤلفات المهمة في التاريخ والأدب والفقه وغير ذلك وذكر أنه كان بهذه المكتبة أكثر من ثلاثين نسخة من كتاب العين للخليل بن أحمد بخط يده وعشرون نسخة من كتاب الطبري ومائة نسخة من كتاب الجمهرة لابن دريد وكان عدد النسخ يزداد بمرور الأعوام حتى بلغ عدد النسخ من كتاب تاريخ الطبري عند استيلاء صلاح الدين الأيوبي على مصر 1200 نسخة وكان فيها 3400 ختمة قرآن بخطوط منسوبة محلاة بالذهب فلا عجب أن يقول المقريزي أنها كانت تحتوي على مليون ألف 000ر006ر1 مجلد [11] في الفقه والنحو واللغة والحديث والتاريخ والنجامة والروحانيات والكيمياء ومنها 000ر18 كتاب في العلوم القديمة فيها 6500 جزء من كتب النجوم والهندسة والفلسفة والفلك على أنه مهما كان من مبالغة في عدد هذه الكتب إلا أنها تدل دلالة واضحة على اهتمام بالغ بشأن الكتب والمكتبات.
وكان للعزيز عناية كبيرة بخزانة يتعهدها بنفسه حيناً بعد حين وقد رتب لها قيماً يتولى شؤونها ويجالسه ويقرأ له الكتب وينادمه وممن تولى ذلك أبو الحسن الشابشتي [12] .(8/128)
أما دار العلم أو دار الحكمة فهي غير خزانة العزيز أنشأها ابنه الحاكم بأمر الله سنة 395هـ وقد اعتبرها البعض مدرسة اعتماداً على أن الحاكم أقام بها القراء والمنجمين وأصحاب النحو واللغة والأطباء وأجرى لهم الأرزاق. وأباح الدخول إليها لسائر الناس وجعل فيها ما يحتاجون إليه من الحبر والأقلام والورق وكانت تجري بها المناظرات العلمية إلى أن أبطلها الفضل بن أمير الجيوش بدر الدين الجمالي ولكن ابن البطائحي أعادها سنة 517هـ وقد وصل عدد الكتب بها إلى ما يقرب من 000ر100 كتاب.
وخلاصة القول أن المسلمين جمعوا في مكتباتهم العامة والخاصة من الكتب على اختلاف موضوعاتها ما يعد بالملايين وللأسف لم يبق منها إلا جزء صغير جداً أما معظمها فقد ضاع بتدهور الحضارة الإسلامية وتخلف المسلمين.
المخطوطات العربية:(8/129)
ويوجد من كتب التراث الإسلامي الكثير محفوظاً حتى اليوم في مكتبات اكسفورد وكمبردج ولندن والمكتبة الأهلية في باريس ومكتبة الاسكوريال في مدريد وفي مكتبات برلين وليبزج وهامبورج وميونخ وليننجراد وطشقند وليدن وأمستردام وفينا وابسالا وكوبنهاجن ومكتبة الكنجرس الأمريكية وتعتبر مكتبة جامعة برنستون في الولايات المتحدة الأمريكية أجمع مكتبة للمخطوطات العربية في الأمريكيتين..وقد وفق الأستاذ فلوجل ناشر كتاب الفهرست وكتاب كشف الظنون إلى إحراز قوائم المكتبات العربية على ما بلغت إليه قبل النهضة الأخيرة وشيوع الطباعة في الشرق في لبنان ومصر بالذات وذيل كتاب كشف الظنون بأسماء تلك الكتب بحسب موضوعاتها وقد بلغ مجموع الكتب بالقسطنطينية وحدها 27445 كتاباً أما ما بقي ففي مصر ودمشق وحلب ورودس ومجموع كتبها 2400 والباقي في المكتبات العامة ربما يصل إلى نحو 000ر30 كتاب، وهذه الكتب مخطوطة وتمثل بلا شك ثروة علمية عظيمة تحتاج إلى العناية والرعاية والحفظ من جميع ما قد تتعرض له من عوامل التلف بفعل الأرضة والسوس والحشرات والرطوبة والتعفن ومن العوامل العابثة الأخرى كالحريق والسرقة والغرق وانتقام الجهلاء عند وقوع الحروب وغير ذلك.
ومن خير الوسائل لحفظ هذا التراث أخذ صور فوتوغرافية كبيرة عن أصولها وتجليد تلك الصور كالكتب تماماً ووضعها للتداول بين أيدي الباحثين من أهل العلم وعشاقه على أن تبقى أصول هذه المخطوطات في المكتبة محفوظة بكل رعاية وبكل وسيلة من وسائل الحفظ.
ويمكن تصوير هذه المخطوطات على أفلام دقيقة (ميكروفيلم) توضع في قطع معدنية صغيرة في علب على كل منها اسم الكتاب المصور ويكن تكبير هذه الأفلام عند الحاجة إليها أو لمن يطلبها من الباحثين.(8/130)
ولا تزال أكثر المكتبات في البلاد العربية والإسلامية في أشد الحاجة إلى العناية بما لديها من مخطوطات إذا استثنينا منها دار الكتب المصرية والمكتبة الظاهرية في دمشق.
ولعل في إنشاء معهد إحياء المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية ما يمكن في المدى القريب - إن شاء الله - من حفظ التراث العربي من الضياع وعسى أن يتمكن هذا المعهد من نقل صور لكل المخطوطات التي خرجت من أيدينا ورحلت إلى المكتبات الأوروبية، ونحن نعلم أن في هذا المعهد الآن خبراء متخصصين في أيديهم الوسائل والأدوات الحديثة التي تساعدهم في أداء مهمتهم ولكني أطالب بالمزيد من الخبراء والعاملين والمزيد من الدعم المالي ليتمكن المعهد من أداء دوره الخطير في حفظ التراث الإسلامي.
ومع بداية النصف الثاني من القرن العشرين بدأ العرب يحاربون التخلف ويستعيدون ما كان لهم من حضارة أو هكذا هم يحاولون وقد أصبح عندنا في جميع البلاد العربية مكتبات كثيرة من حيث العدد فعندنا مكتبات عامة ومكتبات للوزارات والجامعات والمجامع العلمية والمدرسية. . . الخ. ولكن علينا أن نحدد بالضبط ماهية المكتبة في العصر الحديث.
معنى كلمة مكتبة:
كلمة مكتبة لا تحمل في الواقع معنىً محدداً فهي قد تطلق على أي مجموعة من الكتب كما تستخدم عند الناشرين وبائعي الكتب وإنما مفهوم المكتبة كما نرجوه ونبتغيه هو أن المكتبة "مجموعة من الكتب هيئت لها كل الظروف لكي تحدث ما يمكن أن تحدثه من أثر"ويفهم من هذا أن الكتب التي لا تستعمل استعمالاً كاملاً والتي لم ترتب ترتيباً مدروساً والتي لم تفهرس فهرسة شاملة والتي لا تلقى مجهوداً إيجابياً لتنشيط استعمالها ليست في الحقيقة سوى مكتبات ميتة.(8/131)
ولعلنا لا نختلف في أن قيمة الكتاب هي في استعماله والانتفاع به وعليه فأي كتاب لا يستعمل ولا ينتفع به يعتبر هملاً وسقطاً، فإذا قلنا إنه كتاب نادر فمن الطبيعي في تلك الحالة أن يكون مكانه المتحف لا المكتبة.
موقع أمين المكتبة من الخدمة المكتبية:
على أن معرفة أمين المكتبة أو مديرها المسئول بالكتب والمطبوعات ومصادر البحث وأدواته وطرقه معرفة شاملة في أكثر من ناحية من نواحي المعرفة الإنسانية أمر مرغوب ومطلوب هذا بالإضافة إلى تمرسه بأساليب الإعداد والتنظيم في النطاق العلمي التطبيقي لسلسلة من الإجراءات الفنية مثل اختيار الكتب وفهرسها وتصنيفها وإعارتها واستردادها وخدمة المراجع والإرشاد والبحث. . . الخ.
فنحن نريد لأمين المكتبة في عالمنا العربي أن يكون رجل إدارة يحسن توزيع المسئوليات وتقسيم الاختصاصات واختيار المساعدين وتولي عمليات الشراء بالنسبة للكتب والمواد العلمية ووضع اللوائح للمكتبات وتدبير وسائل التعاون مع المكتبات الأخرى.
ونريده في نفس الوقت رجل دعوة وإرشاد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، نريده رجل تعليم وتوجيه يدعو المترددين على المكتبة فيستجيبون له يجمعهم في مكتبه فيناقشون ويبحثون ويدفعهم إلى أن يقرؤون ويتعلموا مع حرص منه على رفع مستوياتهم ودفع حصيلة الفكر والثقافة في محيطه نحو آفاق أوسع وأصلح.
نواحي النقص الرئيسية في المكتبات العربية:
على أن المكتبات في عالمنا العربي لا تزال تقوم بدور ثانوي بالنسبة لغيرها من المؤسسات رغم أنه يمكن لها أن تكون السند الواقي لكل نهضة مرتقبة أو تقدم منشود. وتعاني هذه المكتبات من نواحي نقص رئيسية تمثل عقبة كئودا أمام مستقبلها وتقدمها من ذلك:
1- انعدام الإشراف على جميع المكتبات مع وجود وحدات لمكتبات صغيرة وقليلة وغير مترابطة.(8/132)
2- ضآلة المخصصات المالية للمكتبات وعدم كفايتها وقلة اهتمام الحكومات العربية بزيادتها أو تدعيمها حتى الآن.
3- نقص التشريعات واللوائح والقوانين والقرارات الخاصة بالمكتبات إن لم نقل انعدامها.
4- قلة الأيدي العاملة الفنية المتخصصة أو المدربة في حقل المكتبات القادرة على تحقيق الإدارة السليمة والتطوير المرتقب.
وبالنسبة للمكتبات الجامعية دون غيرها من أنواع المكتبات الأخرى نجد أن الحاجة قائمة وملحة إلى ضرورة توافر هيئة من الأخصائيين في فن المكتبات يكفي عددهم لتغطية خمس مجالات في نطاق العلم بالمكتبات وهي الإدارة والمراجع والإرشاد والخدمة المكتبية والإعداد الفني للمواد المكتبية من كتب ومواد علمية أخرى كالمجلات والمخطوطات والمصورات وغير ذلك من أدوات المعرفة ويلزم تدبير عدد يتناسب مع عدد الأخصائيين من الكتابيين وعمال الخدمة والمناولين.
والسؤال الآن هل يمكن أن نقوم أداء المكتبة ونبين مدى ما تحققه من خدمة حالية وما يمكن أن تقدمه من خدمات مستقبلاً؟
الجواب على هذا التساؤل هو الذي نؤخره إلى المقال القادم إن شاء الله..
--------------------------------------------------------------------------------
[1] العلق: 1-5.
[2] الزمر:9.
[3] المجادلة:11.
[4] يوسف:76.
[5] محمد عجاج الخطيب (السنة قبل التدوين) ص38 - 39.
[6] أحمد شلبي - تاريخ التربية الإسلامية جـ4 - ص146.
[7] ابن النديم: الفهرست: ص105.
[8] نفح الطيب جـ1-ص361 وما بعدها ط المكتبة التجارية.
[9] ابن خلدون، جـ4، ص146.
[10] يعقوب بن كلس يهودي أسلم واستوزره العزيز بالله.
[11] المقريزي، السلوك، جـ1،ص408- 409.
[12] ابن خلدون جـ 1،ص338.(8/133)
مُشارَكَة الجَامعَة الإسلاميَّة فِي مَعرضِ الكتابِ السُعُودي
بقلم صالح بن أحمد الغامدي: مدير شؤون الطلبة بالجامعة
تعيش بلادنا العزيزة نهضة علمية كبرى سريعة الخطا تتمثل فيما تبذله حكومة جلالة الملك فيصل المعظم على العلم والمكتبات والمؤسسات العلمية وقد أخذت على عاتقها تشجيع كل الحركات الثقافية الهادفة إلى إحياء التراث الإسلامي والعربي وفي الأيام القريبة الماضية أقيم في الرياض مؤتمر الإعداد الببليوغرافي للكتاب العربي تحت رعاية وزارة المعارف الجليلة وصدرت عنه عدة قرارات وتوصيات حول الاهتمام بالكتاب العربي والتراث الإسلامي وكيفية تنسيقه وتقريب الاستفادة منه.
وبهذه المناسبة أقيم معرض الكتاب السعودي في درا الكتب الوطنية بالرياض شاركت فيه كثير من المؤسسات العلمية والوزارات والمصالح الحكومية بما أنتجته من مطبوعات في مجال العلم والثقافة وكانت الجامعة الإسلامية قد اشتركت في هذا المعرض بمجموعة كبيرة من منشورات ومؤلفات هيئة التدريس فيها وقد اغتنمتها فرصة طيبة فقامت بتوزيع كمية كبيرة من الكتب الإسلامية على وفود المؤتمر والسادة الزوار.(8/134)
والحقيقة أن إقامة مثل هذا المعرض يعتبر من الأعمال الجليلة التي تستحق التقدير وذلك لما يترتب عليه من إبراز النشاط العلمي والثقافي في بلادنا وإتاحة الفرصة للمواطن للإطلاع على ما ينتجه أبناء وطنه وما يقدمونه من خدمة لدينهم وبلادهم ولا يفوتني أن أذكر هنا الجهود الكبيرة التي بذلت في سبيل إنجاح المعرض حتى ظهر عملاً مشرفاً اتضح فيه التنسيق الجميل والعرض الرائع، الأمر الذي يجعلنا نتطلع دائماً إلى المزيد من الأعمال الخيرة والجهود المخلصة وقد تفضل سماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز بالموافقة على إهداء ما عُرض من مطبوعات الجامعة الإسلامية والكتب التي قامت بعرضها لدار الكتب الوطنية كعادة سماحته في دعم وتشجيع كل ما له علاقة بخدمة العلم وطلابه فجزاه الله خيراً.. وشكراً للمسؤولين في وزارة المعارف ودار الكتب على ما قدموه من خدمات ورعاية لهذا العمل وأسأل الله أن يمن على هذه البلاد بدوام التقدم ونعمة الأمن والاستقرار إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين..(8/135)
العقيدة بين الفلسفة والوحي [1]
للشيخ عبد الوهاب لطف الديلمي
أما الجملة الأولى من كلام (لوبون) فهي مسلم بها لأن الإيمان فطري وهو الذي أطلق عليه كلمة (لا شعوري) وهذا الإيمان قد يُدّعم بالأدلة والبراهين فيصبح قوياً ثابتاً لا يتزعزع، وقد يكتفي صاحبه بمجرد الاستسلام والتصديق. والذين لا تظهر ثمرات الإيمان في أعمالهم كالمخرّفين والمتنكبين عن الجادة هؤلاء تبرز علامات الإيمان الكامن في نفوسهم عند الشدائد والأزمات، حين يفقدون كل حيلة يمكن الخلاص بها مما هم فيه من المآزق، فيرجعون حينئذ إلى مصدر القوة العليا المهيمنة والمسيطرة على الكون كله، والتي بيدها الضرر والنفع، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاه} - {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} .
غير أن (لوبون) لم يصب في سائر عبارته وذلك في نقطتين:
الأولى: قوله: إن العقيدة تكره الإنسان على التصديق بقضية من القضايا من غير دليل..
وهذا كلام باطل لا أصل له من الصحة.. ذلك أن العقيدة كثيراً ما تقوم بالبرهان والحجة، ولم يكن هناك في العقيدة السليمة ما هو إيمان أعمى لا يعرف الإنسان ماهيته ولا حقيقته، كما أن العقيدة الصحيحة لا تتعارض مع العلم والدليل. ولذلك يجمع علماء الإسلام على النظر والاستدلال في إثبات العقيدة بطريقة التفكر والتأمل في الكون ودقته، ليُوصل بذلك إلى الإيمان بخالق الكون.. وإن كان الخلاف بين العلماء قائماً على الاستدلال بالطريقة المنطقية والفلسفية ذات المقدمات والنتائج، فيمنعها بعضهم مخالفة الوقوع في الريب والشك، وعدم القدرة على الوصول إلى الحق بطرق سليمة. . .(8/136)
ومما يرد على (لوبون) أيضاً أن الله تبارك وتعالى يأمرنا بالتوصل إلى معرفته بطريق العلم فيقول: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} وقد مدح العلماء في مواضع عديدة كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} . . . {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} . . . {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} - على أحد التأويلين في الآية. {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْم} . كما ذم ونعى على الذين يكتفون بأخذ عقيدتهم عن طريق التقليد {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} .
وأما النقطة الثانية فهي قوله: "إذا استعان صاحب العقيدة على إثبات صحتها بالعقل استحالت علماً ومعرفة".(8/137)
فهو يفصم بين العقيدة والعقل، ولا يريد أن يجعل للعقل مجالاً في إثبات العقيدة وهذا خطأ فادح. فإن الله تبارك وتعالى خاطب العقول كثيراً في ما لا أحصي من الآيات، وذلك في مجال العقيدة والدعوة إليها كقوله عز وجل: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} والمراد بالنظر إعمال العقل في آياته فالكونية. وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} … {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ... } . {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} . . . إلى غير ذلك. كما نعى على الذين لا يُعملون عقولهم وحواسهم في نشدان الحق {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} - {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ} - {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} - {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} .
و (لوبون) يحول العقيدة التي أثتبها البرهان إلى علم ومعرفة. وأمّا عند المسلمين فلا فرق بين هؤلاء الثلاثة الأشياء: العقيدة، والعلم، والمعرفة.
ولعلّ مرد هذا الرأي الذي يقرره لوبون في تحديد العقيدة إلى العقيدة التي شب في أحضانها وترعرع على لبانها، وهي العقيدة النصرانية التي تحرم النظر والسؤال والنقاش، وتفرض التصديق الأعمى دون نزاع ولا جدال.. أمّا العقيدة الإسلامية فهي بعيدة كل البعد عن هذا المفهوم الخاطئ والتعريف السقيم الذي لا يمت إلى حقيقتها بصلة.
--------------------------------------------------------------------------------(8/138)
[1] فقرة من إجابة الطالب (عبد الوهاب لطف زيد الديلمي) على بعض أسئلة الاختبار في الدورة الصيفية لعام 92- 93.(8/139)
من الصحف والمجلات
فضيلة وكيل الجامعة الإسلامية يدلي بتصريح
لوكالة الأنباء السعودية إثر عودته من أوربا
إعداد العلاقات العامة
أدلى فضيلة الشيخ محمد ناصر العبودي وكيل الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بتصريح لمندوب وكالة الأنباء السعودية عقب عودته من جولة إسلامية في بعض الأقطار الأوروبية في مهمة إسلامية تتعلق بتخصيص منح دراسية في الجامعة الإسلامية لأبناء المسلمين في تلك الأقطار ومدهم بالمساعدات جاء فيه أنه وجد أن حالة المسلمين في تلك البلاد تدعو إلى الاستبشار بالخير وأنهم ينظرون إلى المستقبل بأمل غامر في أن يكون مستقبل المسلمين في تلك البلاد خيراً مما كان في الماضي القريب.
وقال إنه لاحظ أن المسلمين في كل مكان وصلت إليه البعثة يتطلعون إلى هذه البلاد وعلى رأسها جلالة الملك فيصل حفظه الله لالتماس المزيد من الدعم والتعضيد الإسلامي وذلك لما عرفوه وأصبحوا يعرفونه عن جلالة الملك فيصل ودعوته الكريمة إلى التضامن الإسلامي الذي من بين أهدافه الرئيسية مساعدة المسلمين ومعاونتهم في كل ما من شأنه رفع شأن الإسلام والمسلمين.(8/140)
وأضاف فضيلته قائلاً إن كثيراً من زعماء المسلمين في تلك البلاد صرحوا له بأنهم كانوا إلى زمن غير بعيد إنما يولون وجوههم إلى الكعبة المشرفة لأداء الصلاة والتطلع إلى الحج إلى بيت الله الحرام وتهوي قلوبهم إلى المدينة المنورة لزيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أي كان ذلك فقط لأداء الشعائر الدينية ولكنهم الآن ومنذ أن قام جلالة الملك فيصل حفظه الله بدعوة التضامن الإسلامي وتطبيق هذه الدعوة عملياً وذلك بمد يد المساعدة إلى المسلمين في كل بلاد العالم فإنهم أخذوا يتطلعون إلى هذه البلاد لكونها هي الأمل المنتظر بعد الله لمساعدتهم ومعاضدتهم وإنهم يتطلعون أيضاً إلى إرسال أبنائهم إلى المملكة العربية السعودية لتربيتهم وتثقيفهم ثقافة إسلامية خاصة في مدارس المملكة وجامعاتها وبخاصة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
لقد تبينت الدراسات أن تراجع المواد الموجودة في القسم الأعلى من الأمعاء الدقيقة إلى المعدة عامل مهم في ظهور القرحة في المعدة ولا يحصل هذا التراجع عادة بفعل الصمام الذي يفصل المعدة عن الأمعاء الدقيقة، بحيث يصد تلقائياً تراجع محتويات الأمعاء إلى المعدة ولكن إذا تحقق الصمام في عمله لسبب من الأسباب سالت الصفراء في الأمعاء الدقيقة إلى المعدة فيهيجها ويؤدي هذا إلى حدوث القرح في المعدة..
خطر ببال طبيبين يعملان في أحد المستشفيات الكبرى في مدينة (شيفلد) في شمال إنكلترا أنه قد يكون التدخين أثره على عمل هذا الصمام، فيحل عمله فيفتح المجال لعودة محتويات الأمعاء الدقيقة إلى المعدة وإحداث القرح فيها فقررا دراسة الموضوع من هذه الناحية.(8/141)
تثبت الطبيبان باثنين وعشرين متطوعاً لاختباراتهم وكان ثلاثة عشر منهم في حالة صحية اعتيادية، والبقية يشكون من سوء الهضم، وكانت الخطوة الأولى في هذه التجارب أن يبلع كل من المتطوعين أنبوباً رقيقاً لا يلبث أن يتصل بالأمعاء الدقيقة ثم أن تحقن هذه الأنابيب بمقدار ضئيل من الباريوم لملاحظة عمل الصمام عن كثب، ذلك أن في وسع الأشعة السينية أن تتعرف على الباريوم إذا عاد من الأمعاء الدقيقة إلى المعدة بسبب الاختلال الحاصل في عمل الصمام.
كانت النتائج كما يلي: حصل (التراجع) في عشرة من مجموع 13 شخصاً هم في حالة صحية اعتيادية وفي سبعة من مجموع تسعة الذين يشكون من عسر الهضم وأبانت هذه المرحلة الثانية من هذه التجارب أمراً آخر يبعث على الدهشة والتأمل.
بدأت عملية التراجع هذه في ظرف 30 ثانية فقط بعد التدخين كما أن بعض المتطوعة قد شعروا في الوقت ذاته ببعض المغص في معدهم.
من الواضح إذن وجود علاقة وثيقة بين التدخين و (تراجع) محتويات الأمعاء الدقيقة إلى المعدة.
إن أهمية هذا التقرير هي أنه يقدم الدليل العلمي القاطع على أثر التدخين في علمية الهضم. (عن مجلة لندن) .
القرآن العظيم
قال ابن خلدون - رحمه الله تعالى في كتباه (المقدمة) :
"أما القرآن وإن كان من باب المنشور إلا أنه خارج عن الوصفين فلا يُسمى مطلقاً ولا مسجعاً بل تفصيل آيات تنتهي إلى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها ثم يعاد الكلام في الآية الأخرى بعد، ويثنى من غير التزام حرف يكون سجعاً ولا قافية، ويسمى آخر الآيات منها فواصل إذ ليست أسجاعاً ولا قواف".(8/142)
إن القرآن معجزة بيانية لم يستطع - ولن يستطع - محاكاتها بشر على وجه الأرض. وبلاغة ربانية لها من رنة الجرس، وحسن الإيقاع، وروعة التنسيق، وما تتميز به عن سائر الكلام شعره ونثره {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} - {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} . عن مجلة (البريد الإسلامي) .
طه حسين على حقيقته:
كان لوفاة الدكتور طه حسين - قبل أيام - ردود فعل بارزة، إذ كثر الكاتبون والمذيعون حوله، ومعظم هؤلاء من المضللين - بالفتح والكسر - الذين خدعوا ببهرج الفكر الإستشراقي المستهدف تشويه الإسلام، وتأثروا بما نقله هذا (الفقيد) خلال خمسين سنة من سموم أساتذته أعداء الإسلام، نقلاً أميناً أحياناً، ونقلاً مضاعفاً للسيئات أحياناً أخرى. والمؤسف أن بين هؤلاء (دكتور) بكاه بالدموع الغزار على صفحات جريدة (الدعوة) التي لم تغفل خدعته، فنشرت في العدد نفسه والصفحة نفسها كلمة منصفة ومعتدلة عن حقيقة طه حسين.
وها نحن ننقل عن مجلة (المجتمع) الكويتية فقرات من مقال تحليلي بارع، دبجته براعة الكاتب الإسلامي الكبير الأستاذ أنور الجندي، معقباً على تهويشات أولئك المساكين الذين احترقت قلوبهم أسىً على (عميدهم) الكبير.
قال الأستاذ الجندي حفظه الله:
"إن طه حسين حين سقط في نظر الناس بعد كتابه (الشعر الجاهلي) أراد أن يعود إليهم كاسباً ثقتهم بالكتابة (على هامش السيرة) وكانت خدعة أخرى كشفها الدكتور هيكل حين قال: إن إحياء الأساطير في هامش السيرة خطر على السيرة نفسها، لأنه بعيد إليها ما حررها منه علماء المسلمين وحرصوا على حمايتها منه".(8/143)
"يكذب أو ينخدع أولئك الذين يقولون إن طه حسين استوعب ثقافة التراث - الإسلامي - أو أن وجهته كانت خالصة لوجه الله أو العلم أو الحق، ذلك أنه قد أراد أن يتخذ من التراث منطلقاً إلى إثارة الشبهات والروايات الباطلة، والتقليل من جلال أبطال الإسلام.. فقد عاش حياته كلها يسخر بعظمة أمة الإسلام وبما في صفحاتها من بطولات، ويفسرها طبقاً للمذهب الاجتماعي الفرنسي المفصل بالتفسير المادي للتاريخ القائم على الجبرية.. وهو مذهب ينكر عظمة النفس الإنسانية، وجلال الروح ومكانة المعنويات.."
"وكلامه عن الإسلام كله - حسب المفهوم المسيحي - أنه علاقة بين الله والإنسان، عبادة.. لاهوت، وليس أكثر، وهو يعتنق ما كان يعتنقه فولتير ورينان وغيرهما من التفرقة بين الإيمان بالقلب والكفر عن طريق العقل.."
"وإن طه حسين بالعمل في مجال الإسلاميات منذ أصدر كتابه (على هامش السيرة) عام 1933.. كان يفتح صفحة جديدة وخطيرة في تاريخه وتاريخ الفكر الإسلامي، وهي صفحة تقديم البديل من أجل القضاء على الأصيل.."
"ولقد استطاع من خلال كتاباته (الإسلامية) أن يصور الروابط بين الصحابة على نحو مؤسف رديء، وكان قد أعلن من قبل في رده على العلامة رفيق العظم احتقاره للتاريخ، كما اتخذ من بعض الشعراء الماجنين دلالة على فساد القرن الثاني الهجري الحافل بأعلام المسلمين في الفقه والعلم والتصوف والأدب والفكر كله … ".
"وقد استخدم طه حسين هذا المنهج ببراعة ونجح فيه. فلم يكن يؤمن بالدين ولا بالتراث ولا بعظمة هذه الأمة ولا بأمجادها القديمة ولا بحركة اليقظة فيها … ".(8/144)
"ويردد الراثون لطه حسين أن له حياة حافلة بالنضال.. ولكن أي نضال. . . لقد بدأ طه حسين حياته في محيط حزب الأمة الذي أنشأه كرومر، وفي أحضان لطفي السيد داعية الولاء للاستعمار البريطاني وعدو الجامعة الإسلامية والعروبة والشريعة الإسلامية واللغة العربية وتعليم أبناء الفقراء.. ولم يدخل الوفد إلا بعد أن فقد أمانته للأمة، وانصهرت فيه العناصر القومية والشيوعية..".
"أمّا مفاهيمه العامة، فقد أثار الدنيا حين أعلن أن العرب استعمروا مصر كالرومان.. وردت دمشق على هذا الفسوق بأن أحرقت مؤلفاته في ميدان عام..".
وبهذه الدوافع الخبيثة كان طه حسين يزعم "أن مصر جزء من حضارة البحر المتوسط. . .وكانت له مواقفه في معارضة العروبة والرابطة الإسلامية في دعوته إلى تمصير اللغة وإلى تمصير الأدب.."
ومن أجل ذلك (كان داعية الفناء في غرب تحت خدعة زائفة ظل يروجها، وهي قوله أننا لن نستطيع أن نساوي الغرب إلا إذا سرنا مسيرته..)
وقد أعلن أن مراده من ذلك هو أن نأخذ من تلك الحضارة أخذ حاطب الليل "ما يُحمد منها وما يُعاب، وما يُحب منها وما يُكره.."
فجزى الله الأستاذ أنور الجندي كل خير على صدعه بالحق، ونسأله الهداية لأولئك الذين غلبهم الهوى فصرف أعينهم عن الأبصار، وأصم آذانهم عن الإصغاء.. فراحوا يكيلون له المدائح، ويقولون فيه ما لم يقله مالك في الخمر. . .(8/145)
مقتطفَاتٌ من كتَاب الكنز المَرصُود في قَواعِدِ التَّلمُود
تَرجَمهُ مِنَ اللغَةِ الفَرَنسَاويَّة الدكتور: يوسف حنا نصر الله
ننشر تباعاً نُبذاً مقتطفة من كتاب (الكنز المرصود في قواعد التلمود) وهو كتاب فريد في بابه وفي حكم المفقود رغم طبعتيه الأولى والثانية. ويتبين القارئ فيه كيد اليهود وحقدهم على الجنس البشري بما قاموا ويقومون به من الجرائم البشعة والفساد في الأرض ونشر الإلحاد والرذيلة والمبادئ الهدامة في شتى المجالات.. وإن ذلك كله إنما هو تطبيق لأحكام كتابهم المقدس (التلمود) الذي يضعونه بمنزلة مساوية للتوراة بل أسمى من التوراة.
من مقدمة الطبعة الثانية
بقلم: فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا
لما كنّا أطفالاً في مدينة حلب موطني الأول من بلاد الشام (سورية) كنّا نسمع الأمهات يمنعن أولادهن الصغار من الخروج خارج البيوت وحدهم، ويحذرنهم بأن اليهود يخطفون الأطفال خفية ويأخذونهم إلى حيث يستنزفون دماءهم.
وفي يفوعتنا كنا نتلقى التوصيات بأن لا يمر أحدنا في حارة اليهود منفرداً (وهي حارة طويلة متعرجة) وأنه إذا مرّ فيها أحد منا فدعاه يهودي لدخول بيته لإيقاد النار لهم بحجة أنهم لا يمسون النار يوم السبت فيجب أن لا يدخل حذراً من أن يغدروا به فيقتلوه باستنزاف دمه.
فلما كبرنا ووعينا وتثقفنا كنت أتذكر هذه التخويفات، التي كنّا نتلقاها في طفولتنا الأولى في يفوعتنا، وأنتقدها وأعدها من الجهالات في أساليب التربية التي درسنا قواعدها الحديثة وأصولها، ومن قبيل إساءة الظن بمواطنين من الأقلية الصغار المساكين!!!(8/146)
ثم لما برزت المشكلة الفلسطينية، وذر قرن الصهيونية اليهودية، بدأنا نسمع عن اليهود وعقائدهم الخطيرة وأفاعيلهم المذهلة، ومكرهم العالمي، ومؤامراتهم الخبيثة وخطرهم على البشرية جمعاء ما جعلنا نعيد النظر في الصورة المنطبعة في أذهاننا عن مسكنتهم المصطنعة ولكن بقيت قضية خطف الأشخاص واستنزاف دمائهم في نظرنا خرافة لا تصدق، حتى وقع إليّ منذ سنوات مجموعة الأستاذ أسد رستم (أستاذ التاريخ الشرقي في الجامعة الأمريكية ببيروت، الذي توفي منذ بضع سنوات) التي جمع فيها بعض وثائق تاريخية تتعلق بتاريخ سورية في زمن إبراهيم باشا المصري من سنة 1247-1255هـ ونقلها عن سجلات المحكمة الشرعية بحلب وأنطاكية وحماة ودمشق في سنة 1927م فإذا به يفتتح الجزء الخاص منها بقصة خطف اليهود في دمشق للقسيس الفرنسي الجنسية المسمى: الأب (الباردي) توما وخادمه إبراهيم عمّار، وذبحهم إياها، وإرسال دمهما إلى كبير الحاخامين ليدخلوه في خبز الفطير الذي يوزعه الحاخامات على الأسر اليهودية في عيد الفصح السنوي، وينقل الأستاذ أسد رستم من سجلات المحكمة التي حاكمت الفاعلين من الحاخامين وسواهم محاضر جلساتها ووقائعها وينشرها في كتابه المذكور حرفياً، وتصويرها بصورة زنكوغرافية لأول مرة هذه المحاضر بالخط المدون به في سجل المحكمة، وذلك في عهد احتلال جيش إبراهيم باشا المصري وحكمه في سوريا. فقرأت القصة مذهولاً من التفاصيل التي فيها..
وكان عندي أغرب من هذه الحادثة - التي تدمى لسماعها القلوب ولو كانت متحجرة تلك القواعد الدينية التلمودية التي تم تنفيذ تلك الجريمة الفظيعة النكراء تطبيقاً لها فقد نبشت محكمة أولئك المجرمين، من الحاخامين الآمرين ومن بقية اليهود الذين قاموا بالتنفيذ، أنابيش من نصوص التلمود مذهلة يقف القارئ أمامها مشدوها لا مدهوشاً فقط.(8/147)
يكاد الإنسان لا يصدق - لولا الوثائق والنصوص والوقائع التابعة - أن تكون ديانة القوم (بعدما تلاعبت بأصولها وحرفتها أيدي أحبارهم تأمرهم أن يتعبدوا بشرب دماء البشر من غير اليهود، ولا سيما المسيحيين والمسلمين) وباستباحة أرواحهم، وأعراضهم، ووجوب خيانتهم، والغدر بهم، وغشهم واجتناب إغاثة أحد منهم، أو إنقاذه، أو مداواته إلاّ للتجربة أو للإضطرار أو ستراً للمقاصد والعقائد اليهودية السرية، إلى غير ذلك من العقائد المنكرة الخطيرة القائمة على الحقد العام والامتهان لبني البشر أجمعين، وتبرير ذلك نظرياً بأن كل الناس سوى اليهود ليسوا في الحقيقة سوى بهائم من الحيوان في صورة بشر، فليس لهم حرمة ولا ذمة، ولا يلتزم اليهود تجاههم بأي التزام إنساني أكثر مما يلتزم تجاه بهيمة خلقت لمصلحته، يفعل بها ما يشاء ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ولا يخرج عن هذا السلوك المنكر إلا للتقية والتستر والخداع! ومن هذه التقية التظاهر بالضعف والمسكنة أمام الأكثريات الأخرى من الناس.
نعم لقد كانت في نظري هذه العقائد اليهودية التي نبشتها المحاكمة في حادثة مقتل القسيس الأب توما - وهو كما سيرى القارئ ممن قضوا حياتهم في الأعمال الإنسانية وإغاثة الملهوفين - أشد غرابة وفظاعة من حادثة القتل نفسها، لأن القتل والتفاصيل المثيرة التي حصلت فيه إنما تستمد فظاعتها من الغاية التي دفعت إلى هذه الجريمة والتي ألبسوها ثوب الدين!!!
ومنذ أن وقعت عليّ وقائع هذه الجريمة وملابساتها ومحاضر محاكمتها في مجموعة الأستاذ أسد رستم المذكورة بدأت أتتبع وأستقصي المعلومات عنها وعن أمثالها وعن نصوص التلمود اليهودي..(8/148)
حتى رأيت مرة بطريق المصادفة كتاباً لدى صديقي الأستاذ الشيخ ناصر الدين الألباني المحدث المعروف في دمشق، عنوانه (الكنز المرصود في قواعد التلمود) فاسترعى انتباهي هذا العنوان، واستأذنت الأستاذ الألباني في أخذه أياماً لقراءته فأعارني إياه وذهبت به وعكفت من فوري على قراءته فإذا فيه أمنيتي المنشودة!!
تعريف بكتاب الكنز المرصود:
كان هذا الكتاب ترجمة لكتابين فرنسيين ترجمهم الدكتور يوسف نصر الله من كبار مسيحي مصر: أحدهما كتاب للدكتور روهلنج بعنوان (اليهودي على حساب التلمود) وتكلم في عن مضامين التلمود ومنشئه وتكوينه ومخطوطاته وطبعاته المتعددة منذ القرن الخامس عشر الميلادي، وما فيه من عقائد خطيرة مذهلة تحير العقول، وخرافات عجيبة لا يكاد يصدق الإنسان أن تكون عقائد تعبدية لولا نصوصها المنقولة من التلمود، وفي كتاب الدكتور روهلنج هذا من المعلومات الهامة عن التلمود ما يصعب جداً على الباحث أن يستقصيه من مصادر أخرى.
وثانيهما كتاب للدكتور أشيل لوران بعنوان (تاريخ سورية لسنة 1840م) تكلم فيه عن حادثة ذبح اليهود للقسيس الأب توما وخادمه إبراهيم الآنفة الذكر في دمشق، ويبين مصير الحكم بالإعدام على المتآمرين المجرمين القتلة ذلك المصير المؤسف الذي خلاصته أن أناساً من كبار أغنياء اليهود المتنفذين في أوروبا تداعوا لإنقاذ المحكوم عليهم وأرسلوا مندوبين اثنين من فرنسا إلى مصر وهما (كراميو، وموبيز مونتيفيوري) فاتصلا بالخديوي محمد علي باشا الذي كان جيشه يحتل سورية في ذلك العهد فأصدر فرماناً بالعفو عن القتلة المحكوم عليهم.(8/149)
وتبقى غامضة تلك الوسيلة التي استخدمها زعماء اليهود في أوروبة للتأثير على محمد علي باشا حتى استجاب للعفو عن هؤلاء القتلة المجرمين في أبشع صور الجريمة وهي (التآمر على خطف البشر الأبرياء الغافلين وذبحهم كالنعاج لشرب دمائهم) فهل كانت تلك الوسيلة التي استخلص بها يهود فرنسا من محمد علي باشا فرمان العفو بهذه السهولة ضغطاً سياسياً من بعض دول أوروبة ولا سيما فرنسا التي كان معروفاً أن محمد علي باشا يتلقى منها العون والتأييد في المجال الدولي، أو كانت تلك الوسيلة مبالغ مغرية من المال قدمها اليهود إلى محمد علي باشا وهو في حاجة إليها (كما هو شأن اليهود المعروف في الاعتماد على الرشوات المذهلة في شراء ذوي النفوذ أو السلطان لتسوية أمورهم وتمشية مقاصدهم وتغطية جرائمهم مهما عظمت) أو كانت تلك الوسيلة مركبة من الضغط السياسي الدولي والمال معاً؟ كل هذا محتمل ولا يعدوه الواقع.
والأغرب الأغرب أن محمد علي باشا لما جاءه هذان اليهوديان من فرنسا وطلبا منه إعادة المحاكمة أجابهما بأنه سيفعل خيراً من ذلك فاصدر فرماناً تضمن الأمر بالعفو عن المحكوم عليهم العشرة، الذين ثبت اشتراكهم بهذه الجريمة النكراء بالبيانات القاطعة الدامغة وباعترافاتهم الصادرة منهم بحضور بعض قناصل الدول الأجنبية (كقنصل بريطانيا، وقنصل فرنسا) في جلسات المحاكمة، وبدلالتهم على أشلاء وأشياء الضحايا التي، بعد ذبحهم إياها واستنزافهم دماءها، قطعوها وكسروا عظامها وقاموا بتصريفها!! ولكن اليهوديين المتشفعين (كراميو ومونتيفيوري) اعترضا على التعبير بالفرمان بلفظ (العفو) لأنه يشعر بأن العفو عنهم مذنبون فغير لهم محمد علي باشا صيغة الفرمان إلى تعابير أخرى لا تدل على ثبوت ارتكاب الجرم.(8/150)
هذان الكتابان الفرنسيان الأصليان (كتاب الدكتور روهلنج عن أصول وفصول التلمود وكتاب الدكتور شارل لوران عن تفاصيل حادثة ذبح القسيس الأب توما الكبوشي وخادمه إبراهيم عمار) أصبحا مفقودين لنفاد نسخهما المطبوعة في فرنسا منذ أكثر من ثمانين عاماً، كما أشار إليه المترجم وسبب فقدانهما فيما يظهر هو سعي اليهود دائما فيما يدينهم ويفضحهم وإتلافه باستمرار.
وجدير بالذكر أنه منذ نحو أربعين عاماً قام القسيس الأب سمعان القرادلي في مدينة حلب بإصدار كتب عن حادثة ذبح اليهود للأب توما الكبوشي وخادمه إبراهيم، وكان يطبعه ويوزع منه هدايا، ويضع بقية نسخه المطبوعة في المكتبات للبيع فلا تمضي فترة من الزمن حتى ينفذ الكتيب ولا يبقى له أثر فيجدد طبعه فلا يلبث أن ينفد كذلك لأن اليهود (فيما يظهر) يجمعونه حتى كرر طبعه عدة مرات في عدة سنوات وفي كل طبعة كان يرسل منها مائة نسخة لسماحة مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني، فيقوم سماحته بتوزيعها، وهو الذي حدثني عن نشاط الأب سمعان من حلب في نشر خبر هذه الحادثة الإجرامية الشنعاء.
وقد لحظ المترجم المصري الدكتور يوسف نصر الله، بدلالة والده، أهمية ذينك الكتابين الفرنسيين، وأن نسخهما أصبحت نادرة في طريق النفاد فأراد تعريف أبناء العربية بهما، فقام بترجمتهما إلى العربية، وجمعهما معاً في هذا الكتاب الذي أسماه: (الكنز المرصود في قواعد التلمود) ، وطبعه بمصر سنة 1899م، ولو يجدد طبعه للآن حتى أصبحت نسخه في حكم المخطوط النادر.(8/151)
وقد صدر المترجم المشكور الدكتور نصر الله هذه المجموعة بمقدمة طويلة تكلم فيها عن حوادث مماثلة لحادثة ذبح الأب توما وخادمه، منها حادثة أخرى خطف اليهود فيها طفلاً من دمشق أيضاً اسمه هنري عبد النور، واستنزفوا دمه بثقب في عرض النبض عند الرسغ، ثم اكتشفت الجريمة واستخرجت الجثة من بئر رموها فيه، وثبتت الجريمة بأدلة كالشمس في وضح النهار على الفاعلين، فاستخدم اليهود وسيلتهم المعهودة في شراء الحكام الذين طمسوا الجريمة عنوة بحجة الحفاظ على الأمن ودرء الفتنة.. وتركوا والد الطفل يتأوه ويذوب كمداً وحزناً، فصاغ آلامه في رسالة وقصيدة أسماها (صراخ بريء) ولم يكن لصراخه سامع، ولا لهؤلاء المجرمين قامع..
بعد قراءتي لهذا الكتاب الهام (الكنز المرصود) الذي وجدت فيه ما أنشد من المعلومات المتكاملة عن التلمود، وعن حادثة ذبح الأب توما وخادمه، وما أضافه المترجم المصري الدكتور يوسف نصر الله وأشار إليه من حوادث مماثلة بحثت بنفسي وبالواسطة عن نسخة منه اشتريتها في مكتبات مصر ودمشق قديمها وحديثها فأعياني البحث حتى غطاني اليأس، وتيقنت أن اليهود قد جمعوه كعادتهم ولا سيما أنه قد مضى على طبعته الوحيدة في مصر نحو سبعين عاماً.
فلما أصدر الصديق القائد المجاهل السيد عبد الله التل كتابه العظيم الشأن الموسوم باسم (خطر اليهودية العالمية على الإسلام والمسيحية) وجدت في ثبت مصادره التي ذكرها في ختام هذا الكتاب (الكنز المرصود) ثم في أول لقاء اجتمعت فيه بالسيد عبد الله التل هذا العام في الكويت سألته عن هذا الكتاب الذي عده من جملة مصادر مؤلفه القيم، فقال لي: إنه موجود عنده في مكتبه.(8/152)
وها أنذا أقدم الكتاب إلى الجهة التي ستعيد طبعه بعدما صححت أغلاطه المطبعية الكثيرة حتى هيأته لإخراج أجود من الطبعة السابقة السقيمة [1] آملاً أن أكون بذلك قد أسهمت بقليل من الجهد فيما ينفع القضية الفلسطينية ليرى العالم، من كل مذهب ودين، ما آلت إليه اليهودية التي كانت في أصلها ديناً إلهياً إصلاحياً فأصيبت بتغيير المضللين المستغلين الكاذبين على الله بالتخريف والتضليل واستباحة دماء البشر من غير اليهود.
وإني أهيب بكل ذوي الغيرة، من مسلمين ومسيحيين، تجاه الخطر اليهودي المشترك، أن يحرص المستطيع منهم على تحصيل بعض النسخ من الكتابين الفرنسيين كتاب الدكتور ورهلنج، وكتاب الدكتور شارل لوران اللذين هما أصل هذا الكتاب، ويقوموا بتجديد طبعهما ونشرهما على العالم، كما أهيب بهم أن ينشطوا لترجمة هذا الكتاب (الكنز المرصود) الجامع لهما إلى أهم اللغات الحية، ولا سيما الإنكليزية والفرنسية والألمانية والأسبانية، وإلى بعض اللغات الأخرى الشرقية والإفريقية، لتعرف البلاد التي تغزوها الصهيونية بالتضليل الإعلامي والسياسي وتسخرها لمآربها: ما هي حقيقة الأساس الديني الرهيب الذين تقوم عليه الحركة الصهيونية، إذ لا سبيل إلى تعريف شعوب العالم بحقيقة جزاريه وسكاكينهم إلا باللغات التي يفهمونها.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أما عباراته ولغته التي فيها كثير من الركاكة وسقم التعبير واللحن ولاسيما في الإفادات والتحقيقات القضائية فقد تركتها كما هي.(8/153)
نَدوة الطَلَبَة
أنا مسلم
بقلم: أحمد بن حسن المعلم
الطالب بدار الحديث التابعة للجامعة
أنا مسلم قوميتي إسلامي.
الله ربي والرسول إمامي.
وأخوتي في الله لست مفرقاً.
ما بين صيني وأي تهامي.
وعداوتي للكافرين جميعهم.
حتى وإن كانوا بني الأعمام.
والله لا نسب بجمع بيننا.
إن لم يكن جمع على الإسلام.
لا أرتضي أني أخ لمضلل.
لو كان من أهلي ومن أرحامي.
ليست شعاراتي دماً ومواطناً.
كلا ولا علم من الأعلام.
ما غير أعلام الشريعة إنها.
هي رايتي لمعاركي وسلامي.
وكذلك لا لغة تجمع بيننا.
ليس الذمام لممنطق وكلام.
إن الذمام لمن أطاع محمداً.
في الشرق أو في الغرب أو في الشام.
لا رابط إلاّ العقيدة إنّها.
بمثابة الأرواح للأجسام
.(8/154)
العَام الحَادي عَشر عَامٌ لهُ أهميّة في تاريخ الإسلام
بقلم الطالب عز يزو محمد مغربي
السنة الثانية من المعهد الثانوي بالجامعة
لا شك أن الرجل البطل الذي واجه المرتدين وهو الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه، رفيق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، وأنيسُهُ في غار ثور، ونائبه في إمامة الناس بالصلاة في مرضه الأخير صلى الله عليه وسلم، وأمير الحجاج في السنة التسعة للهجرة ومُنفق كل ماله في سبيل الله ومن أجل نصرة دعوة الله تاركاً الله ورسوله لأهل، فعل ذلك على قاعدة من يرى أن الجود لا يكفي أن يكون من الموجود، بل أن يكون بكل الموجود ومُصْلِحُ ذات البين في الجاهلية قبل الإسلام، وشاهد الغزوات كلها بجانب الحضرة النبوية، فرضي الله تعالى عنه وأرضاه.
وأكتفي بذكر بعض مزاياه ومناقبه لأن صلب الموضوع يتناول أهم الحوادث الواقعة في عهده ونتائجها والعبر المستنبطة منها بعد أن هاجر الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم ومن آمن به من مكة مسقط رأسه، حيث قضى بها ثلاث عشرة سنة يدعو إلى توحيد الله في ربوبيته وألوهيته أي عبادته وفي أسمائه وصفاته، والإيمان بمضمون رسالته، متحمّلاً أنواع العذاب وألوان الصعاب، هو وحواريُّوه، عاش بعد الهجرة عشر سنين يُربّي أصحابه بكتاب الله ويُغذّي أرواحهم بأوامر الله وأحكامه فَصَفَتْ عقيدتهم، وعاش صلى الله عليه وسلم يربط نفوسهم بالسماء، فهم عُشّاقُ الجنة وطلابها، ويُقدّمون أنفسهم وأموالهم قرباناً لله وطمعاً في مغفرته ونعيمه لأنهم من عذاب ربهم مشفقون ويؤسّسُ دولة الإسلام ويوطّد دعائمها، ويؤمّن البلاد والعباد من غارات الأعداء، سعياً وراء تحقيق مصلحة دعوة الله التي يمثلها بخلقه العظيم إذ كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن.(8/155)
وجرت سنة الله على عبده ورسوله ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولا تحويلاً فالتحق بالرفيق الأعلى طيب النفس، قرير العين وشاع خبر موته في المجتمع المسلم فانقسم الناس إلى قسمين مصدق ومكذب. وكان من بين القسم الأخير عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي خطب في الناس قائلاً: "زعم قوم من المنافقين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، وهو لم يمت ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران".وكان أبو بكر حينئذ غائباً. فلما حضر وتأكّد من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، نزل إلى مكان اجتماع الناس فخطب فيهم خطبة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقال:"من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات"وبكى بكاء شديداً (قلت وآيم الله لقد بكى بكاء رحمة على فراق الحبيب صلى الله عليه وسلم وأبكى من حوله) واستأنف كلماته الذهبية: "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد لله فإن الله حي لا يموت "ثم تلا قوله تعالى من سورة آل عمران: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} .
وتيقن الناس من صحة الخبر الذي أقضّ مضجعهم لشدة حبهم له صلى الله عليه وسلم مع الإتباع الكامل.(8/156)
وتنشأ حادثة ثانية وتتمثل في اجتماع الأنصار أوسهم وخزرجهم في سقيفة بني ساعدة لمبايعة سعد بن عبادة بالخلافة التي هي خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا بالإسلام وليس بالقوانين الوضعية القاصرة عن تحقيق السعادة في الدنيا فضلاً عن الأخرى. فأسرع أبو بكر رضي الله عنه الخُطا يُرافقه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم أجمعين، ودار حوار ونقاش بين عمر والحباب بن المنذر، ولكن بشير بن سعد الأنصاري يُنهي ذلك الموقف الحرج ويقطع قول كل خطيب بما ملخصه: "وايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبداً. فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا تنازعوهم". وهو وعد قطعه الأنصار على أنفسهم حين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية في السنة الثالثة عشرة للبعثة. ثم تكلم أبو بكر رضي الله عنه وذكر فضل لأنصار فقال:"ولكن العرب لا تدين بهذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش وأنا أرشح لكم هذين الرجلين: عمر بن الخطاب أو أبا عبيدة بن الجراح"هذه صورة ناطقة وشاهدة على صفاء هذه القلوب وطهارتها من حب الدنيا والرياسة والجاه، وكاشفة عن الزهد المحمود والورع وحسن النية. كيف لا وهم الذين تلقّوا من فم النبي صلى الله عليه وسلم حكمة غالية "ازهد في الدنيا يحبّك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس".
وتؤول الخلافة وإمامة المسلمين راضية مرضية إلى أبي بكر رضي الله عنه الذي قدّر مسئوليتها فابتعد عنها. ثم يصرح عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعفته وخلو صدره من انتهاز الفرص:"امدُدْ يديك يا أبا بكر نبايعك أيرتضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ديننا ولا نرتضيك لأمر دنيانا"فبايعوه وكانت البيعة الصغرى، وفي اليوم الثاني بايعه الناس البيعة الكبرى في المسجد.(8/157)
وتحمل أبو بكر رضي الله عنه مسئولية الخلافة والمسلمين وكان أحَقّ بنا وأهلها، فنفذ على الفور جيش أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما، الذي جهزه رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبيل وفاته لتأديب قبائل قضاعة ومن والاها من الغساسنة الذين تصدوا للمسلمين في غزوة (مؤتة) فأشار عمر على الخليفة بإبقاء جيش أسامة بن زيد للدفاع عن المدينة ومقومة غارات المرتدين فأبى أبو بكر رضي الله عنه وقال قولته المشهورة:"ما كنت لأحُل رايةً عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وسكت عمر رضي الله عنه سكوت مُعترفٍ بالحق راضٍ به لأنه كان وقّافاً عند كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله علنه وسلم، ويعلمنا أبو بكر رضي الله عنه أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة في حياته وبعد مماته، في المنشط والمكره، وفي العسر واليسر ويحذرنا من تعظيم المقاييس المادية {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} .
وفتنة الردة حادثة جدّ خطيرة لها أسبابها الجوهرية ومظاهرها الثانوية وأذكر المظاهر في الأسباب باعتبارها تبعاً للأسباب:
1- فداحة الخطب وعظم المصيبة أذهلاهم وأوقعاهم في نفي الوفاة عن رسوله صلى الله عليه وسلم لظنهم أنه ما أتمّ الرسالة أي تبليغها نظراً لأنها لم تعم الجزيرة العربية.
2- التعصب القبلي الذي لازالت آثاره في نفوس بعضهم نتج عنه اتّباع مدعي النبوة كطليحة الأسدي ومسيلمة الكذاب. . . وهذا المرض النفسي الذي هو هوًى شيطاني يتحكم في نفس المصاب به فيخضعه لتنفيذ ما يُمليه عليه من شرٍ وفاحشة وخلق يأباه الذوق السليم، والهوى يُعتبر معبوداً من دون الله بدليل قوله تعالى من سورة الجاثية: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} .
3- جهل البعض بحقيقة الإسلام الذي هو كُلٌ لا يتجزأ نشأ عنه منع الزكاة، وذلك لقرب عهدهم من الكفر والفوضى.(8/158)
وتعتبر فتنة الردة تمردٌ على حكومة الصديق رضي الله عنه. ولم تسلم من حمأة الردة إلا ثلاث مناطق: المدينة، معقل الإسلام، ومكة والطائف. وتصدى الخليفة الأول رضي الله عنه لقتال المرتدين بعد أن أرسل إلى القبائل المرتدة كتاباً ينصحهم فيه بالتوبة ويحذرهم عاقبة الردة.
فأعد أحد عشر لواءً: أولها بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه مع خيرة الصحابة. ودامت الحروب شهوراً، استشهد فيها سبعون من القراء الذين حفظوا القرآن الكريم في صدورهم ويُعتمد عليهم، وستشهد غيرهم من المؤمنين.
وتم بفضل الله تعالى القضاء على أكثر المرتدين وعلى مدعي النبوة، رؤوس الفتنة. وتاب الكثير من المرتدين فانضموا إلى صفوف الحق وأبلوا في الإسلام بلاء حسناً. وعمّ الأمن البلاد والعباد واستمرت عجلة الإسلام تدور وتتقدم إلى الأمام.
ولا يفوتني أن أذكر حادثة أخرى لا تقل أهمية عن سابقتها وأخواتها وهي تسرّعُ القائد شرحبيل بن حسنة إلى قتال القبيلة التي أُرسل إليها قبل انضمام جيش خالد إلى صفوفه مدداً له وانهزامه شر هزيمة بسبب عدم طاعته للقائد المخطط أبي بكر رضي الله عنه، ولا غرابة في ذلك فإنه ينظر بنور الله عز وجل ولا يقدم على أمر من جهاد وسفر وغيره حتى يستخير ربه ويتذلل بين يديه. فنعمت الوسيلة هذه. فقد صدق من قال:"إن التاريخ يعيد نفسه".
هذه صورة تشبه تماماً ما وقع في غزوة أحد حين برح الرماة مكانهم من الجبل طمعاً في جمع الغنائم واغتراراً بمظهر النصر، فنقض عليهم خالد بن الوليد من خلف. وهاهو اليوم يكفر عن خطيئته ويُنقذ جيش شرحبيل بن حسنة، فتنقلب الهزيمة انتصاراً.(8/159)
وتحدث واقعة أخرى وهي أنّ وحشي الذي قتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه يوم أحد، قتل أو شارك في قتل مسيلمة الكذاب. وبمناسبة مخالفة أمر خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم نذكر الحديث الذي ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام: "من أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني".
فعلى الشعوب والأمم المسلمة أن تطيع وُلاة أمورها ما أطاعوا الله ورسوله وأقاموا فيهم الصلاة "وإنما الطاعة في المعروف".
وأذكر باقي الحوادث بدون أن أتعرض إلى التفصيل خشية أن أكون قد أطلت وإلا فهذا العام الحادي عشر الهجري كل وقائعه مهمة وموجهة إلى طريق الرشاد لمن تدبره واستنبط عِبَرَهُ ونتائجه.
منها جمع القرآن الكريم على عهد أبي بكر رضي الله عنه ثم الفتوحات الإسلامية. ثم استخلاف عمر رضي الله عنه، وأخيراً نستخلص من كلام أبي بكر رضي الله عنه الموجه إلى مانعي الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام أنه لا ينبغي التهاون والتساهل في دين الله تعالى إذ يقول:"والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه على عهد رسول الله صلى الله عنه وسلم لقاتلتهم عليه". وقال أيضا:ً" لأقاتلن مَن فرّق بين الزكاة والصلاة".
وفق الله جميع لما فيه الخير وبارك الله لنا في القرآن الكريم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه.(8/160)
مِن أعْلامِ المُحَدِّثِين
محمد بن إسحاق بن خزيمة 223- 311هـ ـ
للشيخ عبد المحسن العباد: نائب رئيس الجامعة الإسلامية
نسبه:
هو محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر وقد اشتهر بالنسبة إلى جده خزيمة ولهذا يعرف بابن خزيمة.
كنيته ونسبته ولقبه:
كنيته أبو بكر ولقبه إمام الأئمة ووطنه نيسابور فيقال له النيسابوري، ويقال له السلمي نسبة إلى قبيلة ونسبته إليهم ولاء كما في البداية والنهاية لابن كثير وطبقات الفقهاء لأبي إسحاق الشيرازي.
رحلته في طلب الحديث:
سمع الحديث ببلده وهو صغير ثم رحل إلى العراق والشام والحجاز ومصر فسمع الحديث وأسمعه.
ممن روى عنهم:
روى عن أئمة كثيرين فروى عن أحمد بن منيع ومحمد بن رافع وعلي بن حجر ومحمد بن بشار ومحمد بن المثنى ومحمد بن إسماعيل البخاري ومحمد بن يحيى الذهلي وأحمد بن سيار المروزي ومحمود ابن غيلان ومحمد بن أبان المستملي وإسحاق بن موسى الخطمي وعتبة بن عبد الله اليحمدي وبشر بن معاذ وأبي كريب ويونس بن عبد الأعلى ونصر بن علي الجهضمي وعلي بن خشرم وغيرهم.
ممن رووا عنه:
روى عنه البخاري ومسلم في غير الصحيحين ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم وأبو عمرو أحمد بن المبارك المستملي وإبراهيم بن أبي طالب وهؤلاء أكبر منه وروى عنه يحي بن محمد بن صاعد وأبو علي النيسابوري وإسحاق بن سعد النسوي وأبو عمرو بن حمدان وأبو حامد أحمد بن محمد بن بالويه وأبو بكر أحمد بن مهران المقري ومحمد بن أحمد بن علي بن نصر المعدل وحفيده محمد بن الفضل ابن محمد بن إسحاق وأبو حاتم بن حبان البستي وأبو القاسم الطبراني وأبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني وغيرهم.
من خرج حديثه:(8/161)
خرج حديثه البخاري ومسلم في غير الصحيحين وتأخرت وفاته عن مسلم بخمسين سنة وروايتهما عنه من رواية الأكابر عن الأصاغر وقد روى عنه حفيده محمد بن الفضل، وتوفي سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وبين وفاته ووفاة الإمام البخاري مائة وسبع وعشرون سنة فهو مثال للسابق واللاحق.
ثناء الأئمة عليه:
أثنى عليه أهل زمانه ومن بعدهم وذكروه بالجميل عقيدة وعلماً وعملاً قال أبو عثمان الزاهد: "إن الله ليدفع البلاء عن أهل نيسابور بابن خزيمة"وقال حفيده محمد بن الفضل: "كان جدي لا يدخر شيئاً بل ينفقه على أهل العلم ولا يعرف الشح ولا يميز بين العشرة والعشرين". وقال أبو علي النيسابوري: "لم أرَ مثل ابن خزيمة". وقال أبو أحمد حسنك عن ابن خزيمة قال: "ما كتبت سواداً في بياض إلا وأنا أعرفه". وقال أبو علي النيسابوري: "كان ابن خزيمة يحفظ الفقهيات من حديثه كما يحفظ القارئ السورة". وقال أبو حاتم ابن حبان: "ما رأيت على وجه الأرض من يحسن صناعة السنن ويحفظ ألفاظها الصحاح وزياداتها حتى كأن السنن بين عينيه إلا محمد بن إسحاق بن خزيمة فقط". وقال الدارقطني: "كان ابن خزيمة إماماً ثبتاً معدوم النظير". وقال أبو العباس ابن سريج وذكر له ابن خزيمة فقال: "يستخرج النكت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنقاش". وقال ابن أبي حاتم - وقد سئل عن ابن خزيمة- ويحكم "هو يسأل عنا ولا يُسأل عنه هو إمام يُقتدى به" وقال: "هو ثقة صدوق". وقال الذهبي في التذكرة: "الحافظ الكبير إمام الأئمة شيخ الإسلام"وقال: "روى وجود وصنف واشتهر اسمه وانتهت إليه الإمامة والحفظ في عصره بخراسان"وقال: "هذا الإمام كان فريد عصره"، وقال ابن حبان: "لم نرَ مثله في حفظ الإسناد والمتن"وقال أبو إسحاق الشيرازي: "وكان يقال له إمام الأئمة وجمع بين الفقه والحديث"، وحكى عنه أبو بكر النقاش أنه قال: "ما قلدت أحداً في مسألة منذ بلغت ست عشرة سنة". وقال أبو زكريا العنبري(8/162)
سمعت ابن خزيمة يقول: "ليس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قول إذا صح الخبر"وقال شيخه الربيع: "استفدنا من ابن خزيمة أكثر مما استفاد منا". وقال ابن كثير في البداية والنهاية: "كان بحراً من بحور العلم طاف البلاد ورحل إلى الآفاق في الحديث وطلب العلم".
آثاره:
قال الحافظ الذهبي في العبر: "الحافظ صاحب التصانيف" وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية: "كتب الكثير وصنف وجمع وكتابه الصحيح من أنفع الكتب وأجلها"، وقال أبو عبد الله الحاكم في كتابه معرفة علوم الحديث ص104: "فضائل هذا الإمام ومصنفاته تزيد على مائة وأربعين كتاباً سوى المسائل والمسائل المصنفة أكثر من مائة جزء فإن فقه حديث بريرة ثلاثة أجزاء ومسألة الحج خمسة أجزاء"انتهى.. وإن مما يؤسف له أن هذه المؤلفات الكثيرة لا وجود لها في الوقت الحاضر بل ولا للقليل منها والذي حظيت به المكتبة الإسلامية منها كتاب التوحيد الذي طبع من قبل وجزء من الصحيح عثر عليه الدكتور محمد مصطفى الأعظمي في مكتبة أحد الثالث باستانبول مسجل تحت رقم 348 عدد أوراقه 301 ورقة وقد شرع المكتب الإسلامي ببيروت بطباعته وصدر منه جزءان وكتابه الصحيح يلي في الدرجة صحيح مسلم فهو أجل الكتب المصنفة في الصحيح بعد الصحيحين ولهذا يعتبر العثور عليه كسباً كبيراً للمكتبة الإسلامية.
وفاته:
توفي أبو بكر ابن خزيمة في اليوم الثاني من شهر ذي القعدة سنة إحدى عشرة وثلاثمائة أرخ وفاته بهذا الذهبي في التذكرة والعراقي في مقدمة طرح التثريب. قال الذهبي: "وهو في تسع وثمانين سنة"وقال: "ولد سنة ثلاث وعشرين ومائتين"وقال أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء: "مات سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة"وقد أرخ وفاته في سنة إحدى عشرة وثلاثمائة أيضاً: الذهبي في العبر، وابن كثير في البداية والنهاية وابن العماد في شذرات الذهب وابن السبكي في طبقات الشافعية.
ممن ترجم له:
1(8/163)
الذهبي في العبر 2/149 وفي تذكرة الحفاظ 2/287.
2
وابن كثير في البداية والنهاية 11/149.
3
- وأبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء 105.
4
وابن السبكي في طبقات الشافعية 2/130.
5
وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 2/3/196.
6
وابن العماد في شذرات الذهب 2/262.
7
والعراقي في طرح التثريب 1/96.
8
وعمر رضا كحالة في معجم المؤلفين 9/39.
9
وصديق حسن خان في التاج المكلل 297.(8/164)
وَعِندَ الله للنّاجِين شهد
بقلم: محمد محمود جاد الله
الطالب بكلية الشريعة بالجامعة
حياة كلها تعب وكد.
وسهم للمصائب لا يُرد.
وإني لن أهاب أذى الليالي.
وغارات الليالي لا تُعد.
وإني لن ألين لها إذا ما.
رأيت نزالها ما منه بُد.
وإن جاءت بأحمالٍ ثقالٍ.
ففي قوسي لها (وتر عُرُدُّ) .
سألقي الصبر في وجه الرزايا.
لقاء الند إذ يلقاه ند.
كذلك مذهبي فيها وإني.
إذا شدت بكلكلها أشد.
وأعلم طبعها أن لا تحابي.
إذا ما غاب زيد جاء سعد.
وإن همومنا بنت الليالي
. .
إذا قست الليالي فهي جند.
ويا دنيا عرفنا فيك خُلقاً.
فهل يُرجى لمن صافاك وُدُ.
نحارب فيك أعداء غلاظاً.
وأعدانا لدى الهيجاء لُدُ.
فمن مرض يهد الجسم هداً.
وخوف الناس منه لا يُحد.
إلى فقر يلوح بكل درب.
وقد تشقى رباب به وهند.
وهذا (هادم اللذات) خصم.
يروح مجلياً فيها ويغدو.
فلا الإنسان منتصر عليها.
ولا يجدي لمجتهدين جُهد.
نزور قبورنا ونعود جذلى.
كأنا لن نزور فلا نُرد.
ونُرزأ كل يوم في عزيز.
وليس بواعظ الإنسان فَقْد.
ولم يجد القريب هناك قرب.
ولم يجد البعيد هناك بُعد.
هناك تلاقيا فكريم قوم.
يُرى متوسداً فيها ووغد.
وإن الخير أن نخشى سعيراً.
ففي زفراتها حر ووقد.
وكل الجهد في الدنيا سيمضي.
وعند الله للناجين شهد.
وإن الناس في سفر طويل.
إلى رب البرية وهو قصد
.(8/165)
الفَتَاوَى
يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
سؤال من الأخ: ع. م.ح. من اليمن يقول فيه:
يوجد في بلادنا أناس متمسكون بأوراد ما أنزل الله بها من سلطان منها ما هو بدعي ومنها ما هو شركي وينسبون ذلك إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، ويقرءون تلك الأوراد في مجالس الذكر أو في المساجد بعد صلاة المغرب زاعمين أنها قربة إلى الله، كقولهم بحق الله رجال الله أعيوننا بعون الله وكونوا عوننا بالله وكقولهم يا أقطاب ويا أوتاد ويا أسياد أجيبوا يا ذوي الإمداد فينا واشفعوا الله هذا عبدكم واقف وعلى بابكم عاكف، ومن تقصيره خائف، أغثنا يا رسول الله ومالي غيركم مذهب ومنكم يحصل المطلب وأنتم خير أهل الله بحمزة سيد الشهداء ومن منكم لنا مدداً أغثنا يا رسول الله، وكقوله: اللهم صلي على من جعلته سبباً لانشقاق أسرارك الجبروتية وانفلاقاً لأنوارك الرحمانية فصار نائباً عن الحضرة الربانية وخليفة أسرارك الذاتية، نرجو بيان ما هو بدعة وما هو شرك وهل تصح الصلاة خلف الإمام الذي يدعو بهذا الدعاء.
والجواب:(8/166)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين، أما بعد فاعلم وفقك الله أن الله سبحانه إنما خلق الخلق وأرسل الرسل عليهم الصلاة والسلام ليعبد وحده لا شريك له دون ما سواه كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} والعبادة هي طاعته سبحانه وطاعة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بفعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهى الله عنه ورسوله. عن إيمان بالله ورسوله وإخلاص لله في العمل كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} أي أمر وأوصى بأن يعبد وحده وقال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أبان سبحانه بهذه الآيات أنه هو المستحق لأن يُعبد وحده ويُستعان به وحده، وقال عز وجل: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِص} وقال سبحانه: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} والآيات في هذا المعنى كثيرة وكلها تدل على وجوب إفراد الله بالعبادة ومعلوم أن الدعاء بأنواعه من العبادة فلا يجوز لأحد من الناس أن يدعو إلا ربه ولا يستعين ولا يستغيث إلا به عملاً بهذه الآيات الكريمات وما جاء في معناها. وهذا فيما عدا الأمور العادية والأسباب الحسية التي يقدر عليها المخلوق الحي الحاضر فإن تلك ليست من العبادة بل يجوز بالنص والإجماع أن يستعين الإنسان بالإنسان الحي القادر في الأمور العادية التي يقدر عليها. كأن يستعين به أو يستغيث به. في دفع شر ولده أو خادمه أو كلبه وما أشبه ذلك، وكأن يستعين الإنسان بالإنسان الحي الحاضر القادر، أو الغائب بواسطة الأسباب الحسية كالمكاتبة(8/167)
ونحوها في بناء بيته وإصلاح سيارته أو ما أشبه ذلك، ومن هذا الباب قول الله عز وجل في قصة موسى عليه الصلاة والسلام: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} ومن ذلك استغاثة الإنسان بأصحابه في الجهاد والحرب ونحو ذلك فأما الاستغاثة بالأموات والجن والملائكة والأشجار والأحجار فذلك من الشرك الأكبر وهو من جنس عمل المشركين الأولين مع آلهتهم كالعزى واللات وغيرهما وهكذا الاستغاثة والاستعانة بمن يعتقد فيهم الولاية من الأحباء فيما لا يقدر عليه إلا الله كشفاء المرضى وهداية القلوب ودخول الجنة والنجاة من النار وأشباه ذلك، والآيات السابقات وما جاء في معناها من الآيات من الأحاديث كلها تدل على وجوب توجيه القلوب إلى الله في جميع الأمور وإخلاص العبادة لله وحده، لأن العباد خلقوا لذلك وبه أمروا كما سبق في الآيات وكما في قوله سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} وقوله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ رضي الله عنه: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" متفق على صحته، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث بن مسعود رضي الله عنه: "من مات يدعو من دون لله نداً دخل النار"رواه البخاري وفي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: "إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله" وفي لفظ "فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله" وفي رواية للبخاري "فادعهم إلى أن يوحدوا الله" وفي صحيح مسلم عن طارق بن أشيم الأشجعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل" والأحاديث في هذا(8/168)
المعنى كثيرة، وهذا التوحيد هو أصل دين الإسلام وهو أساس الملة وهو رأس الأمر وهو أهم الفرائض وهو الحكمة في خلق الثقلين والحكمة في إرسال الرسل جميعاً عليهم الصلاة والسلام كما تقدمت الآيات الدالة على ذلك، ومنها قوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} من الأدلة على ذلك أيضاً قوله عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت} وقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقال عز وجل عن نوح وهود وصالح وشعيب عليهم الصلاة والسلام أنهم قالوا لقومهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وهذه دعوة الرسل جميعاً كما دلت على ذلك الآيتان السابقتان.(8/169)
وقد اعترف أعداء الرسل بأن الرسل أمروهم بإفراد الله بالعبادة وخلع الآلهة المعبودة من دونه كما قال عز وجل في قصة عاداتهم قالوا لهود عليه الصلاة والسلام: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} وقال سبحانه وتعالى عن قريش لما دعاهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى إفراد الله بالعبادة وترك ما يعبدون من دونه من الملائكة والأولياء والأصنام والأشجار وغير ذلك: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} وقال عنهم سبحانه في سورة الصافات: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة ومما ذكرناه من الآيات والأحاديث يتضح لك وفقني الله وإياكم للفقه في الدين والبصيرة بحق رب العالمين. أن هذه الأدعية وأنواع الاستغاثة التي بينتها في سؤالك كلها من أنواع الشرك الأكبر لأنها عبادة لغير الله وطلب لأمور لا يقدر عليها سواه من الأموات والغائبين وذلك أقبح من شرك الأولين لأن الأولين إنما يشركون في حال الرخاء وأما في حال الشدائد فيخلصون لله العبادة لأنهم يعلمون أنه سبحانه هو القادر على تخليصهم من الشدة دون غيره كما قال تعالى في كتابه المبين عن أولئك المشركين: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} وقال سبحانه وتعالى يخاطبهم في آية أخرى في سورة سبحان: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الأِنْسَانُ كَفُوراً} فإن قال قائل من هؤلاء المشركين المتأخرين إنا لا نقصد أن أولئك ينفعون بأنفسهم ويشفون مرضانا(8/170)
بأنفسهم أو يعينونا بأنفسهم أو يضرون عدواً بأنفسهم وإنما نقصد شفاعتهم إلى الله في ذلك.
فالجواب أن يقال لهم:
إن هذا هو مقصد الكفار الأولين ومرادهم وليس مرادهم أن آلهتهم تخلق أو ترزق أو تنفع أو تضع بنفسها فإذ ذلك يبطله ما ذكره الله عنهم في القرآن. وإنما أرادوا شفاعتهم وجاههم وتقريبهم إلى الله زلفى كما قال سبحانه وتعالى في سورة يونس عليه الصلاة والسلام: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا} فرد الله عليهم ذلك بقوله سبحانه: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} فأبان سبحانه أنه لا يعلم في السموات ولا في الأرض شفيعاً عنده على الوجه الذي يقصده المشركون وما لا يعلم الله وجوده ولا وجود له لأنه سبحانه لا يخفى عليه شيء. وقال تعالى في سورة الزمر: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} فأبان سبحانه أن العبادة له وحده وأنه يجب على العباد إخلاصها له جل وعلا لأن أمره للنبي صلى الله عليه وسلم بإخلاص العبادة له أمر للجميع. ومعنى الدين هنا هو العبادة والعبادة هي طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم كما سلف ويدخل فيها الدعاء والاستغاثة والخوف والرجاء والذبح والنذر كما يدخل فيها الصلاة والصوم وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله. ثم قال عز وجل بعد ذلك: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} أي يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى فرد الله عليهم بقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ(8/171)
فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} فأوضح سبحانه في هذه الآية الكريمة أن الكفار ما عبدوا الأولياء من دونه إلا ليقربوهم إلى الله زلفى. وهذا هو مقصد الكفار قديماً وحديثاً وقد أبطل الله ذلك بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} فأوضح سبحانه كذبهم في زعمهم أن آلهتهم تقربهم إلى الله زلفى وكفرهم بما صرفوا لها من العبادة وبذلك يعلم كل من له أدنى تمييز أن الكفار الأولين إنما كان كفرهم باتخاذهم الأنبياء والأولياء والأشجار والأحجار وغير ذلك من المخلوقات شفعاء بينهم وبين الله واعتقدوا أنهم يقضون حوائجهم من دون إذنه سبحانه ولا رضاه كما تشفع الوزراء عند الملوك فقاسوه عز وجل على الملوك والزعماء وقالوا كما أنه من له حاجة إلى الملك والزعيم يتشفع إليه بخواصه ووزرائه فهكذا نحن نتقرب إلى الله بعبادة أنبيائه وأوليائه وهذا من أبطل الباطل لأنه سبحانه لا شبيه له ولا يقاس بخلقه. ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ولا يأذن في الشفاعة إلا لأهل التوحيد وهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير وبكر شيء عليم وهو أرحم الراحمين لا يخشى أحداً ولا يخافه لأنه سبحانه هو القاهر فوق عباده والمتصرف فيهم كيف يشاء بخلاف الملوك والزعماء فإنهم ما يقدرون على كل شيء ولا يعلمون كل شيء فلذلك يحتاجون إلى من يعينهم على ما قد يعجزون عنه من وزرائهم وخواصهم وجنودهم، كما يحتاجون إلى تبليغهم حاجات من لا يعلمون حاجته، ولأن الملوك والزعماء قد يظلمون ويغضبون بغير حق فيحتاجون إلى من يستعطفهم ويسترضيهم من وزرائهم وخواصهم، أما الرب عز وجل فهو سبحانه غني عن جميع خلقه وهو أرحم بهم من أمهاتهم وهو الحاكم العدل يضع الأشياء في مواضعها على مقتضى حكمته وعلمه وقدرته فلا يجوز أن يقاس بخلقه بوجه من الوجوه. ولهذا أوضح سبحانه في(8/172)
كتابه أن المشركين قد أقروا بأنه الخالق الرازق المدبر وأنه هو الذي يجيب المضطر ويكشف السوء ويحيي ويميت إلى غير ذلك من أفعاله سبحانه وإنما الخصومة بين المشركين وبين الرسل في إخلاص العبادة لله وحده كما قال عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} والآيات في هذا المعنى كثيرة وسبق ذكر الآيات الدالة على أن النزاع بين الرسل وبين الأمم إنما هو في إخلاص العبادة لله وحده كقوله سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} الآية. وما جاء في معناها من الآيات وبين سبحانه في مواضع كثيرة من كتابه الكريم شأن الشفاعة فقال تعالى في سورة البقرة: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} وقال في سورة النجم: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} وقال في سورة الأنبياء في وصف الملائكة: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وأخبر عز وجل أنه لا يرضى من عباده الكفر وإنما يرضى منهم الشكر والشكر هو توحيده والعمل بطاعته فقال تعالى في سورة الزمر: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} الآية.. روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: "من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه"أو قال:(8/173)
"من نفسه"وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً" والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وجميع ما ذكرنا من الآيات والأحاديث كله يدل على أن العبادة حق الله وحده وأنه لا يجوز صرف شيء منها لغير الله لا للأنبياء ولا لغيرهم، وأن الشفاعة ملك الله عز وجل كما قال سبحانه: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} الآية.. ولا يستحقها أحد إلا بعد إذنه للشافع ورضاه عن المشفوع فيه وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد كما سبق. أما المشركون فلا حظ لهم في الشفاعة كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} وقال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} الآية. . . والظلم عند الإطلاق هو الشرك كما قال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وقال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} .
أما ما ذكرته في السؤال من قول بعض الصوفية في المساجد وغيرها اللهم صل على من جعلته سبباً لانشقاق أسرارك الجبروتية وانفلاقاً لأنوارك الرحمانية فصار نائباً عن الحضرة الربانية وخليفة أسرارك الذاتية.. الخ، فالجواب:
أن يُقال أن هذا الكلام وأشباهه من جملة التكلف والتنطع الذي حذر منه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون قالها ثلاثاً"قال الإمام الخطابي رحمه الله: "المتنطع المتعمق في الشيء المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم".(8/174)
وقال أبو السعادات ابن الأثير: "هم المتعمقون المغالون في الكلام المتكلمون بأقصى حلوقهم مأخوذ من النطع وهو الغار الأعلى من الفم ثم استعمل في كل تعمق قولاً وفعلاً".
وبما ذكره هذان الإمامان وغيرهما من أئمة اللغة يتضح لك ولكل من له أدنى بصيرة أن هذه الكيفية في الصلاة والسلام على نبينا وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من جملة التكلف والتنطع المنهي عنه والمشروع للمسلم في هذا الباب أن يتحرى الكيفية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الصلاة والسلام عليه وفي ذلك غنية عن غيره ومن ذلك ما روى البخاري ومسلم في الصحيحين واللفظ للبخاري عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أن الصحابة رضي الله عنهم قالوا يا رسول الله أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك فقال: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد".
وفي الصحيحين عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك قال: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد". وفي صحيح مسلم عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال:قال بشير بن سعد: يا رسول الله أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك فسكت ثم قال: "قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسلام كما علمتم".(8/175)
فهذه الألفاظ وأشباهها وغيرها مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم هي التي ينبغي للمسلم أن يتعلمها في صلاته وسلامه على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أعلم الناس بما يليق أن يستعمل في حقه كما أنه هو أعلم الناس بما ينبغي أن يستعمل في حق ربه من الألفاظ، أما الألفاظ المتكلفة والمحدثة والألفاظ المحملة لمعنى غير صحيح كالألفاظ التي ذكرت في السؤال فإنه لا ينبغي استعمالها لما فيها من التكلف ولكونها قد تفسر بمعانٍ باطلة مع كونها مخالفة للألفاظ التي اختارها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرشد إليها أمته وهو أعلم الخلق وأنصحهم وأبعدهم عن التكلف عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم وأرجو أن يكون فيما ذكرناه من الأدلة في بيان حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك والفرق بين ما كان عليه المشركون الأولون والمشركون المتأخرون في هذا الباب.(8/176)
وفي بيان كيفية الصلاة المشروعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم كفاية ومقنع لطالب الحق. أما من لا رغبة له في معرفة الحق فهذا تابع لهواه وقد قال الله عز وجل: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} فبين سبحانه في هذه الآية الكريمة أن الناس بالنسبة إلى ما بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق قسمان أحدهما مستجيب لله ولرسوله والثاني تابع لهواه وأخبر سبحانه أنه لا أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله فنسأل الله عز وجل العافية من اتباع الهوى كما نسأله سبحانه أن يجعلنا وإياكم وسائر إخواننا من المستجيبين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم والمعظمين لشرعه والمحذرين من كل ما يخالف شرعه من البدع والأهواء إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على عبد ورسوله نبينا محمد وآله وأصحابه وأتباعه بإحسان.(8/177)
أخبار الجامعة
إعداد العلاقات العامة
(تعيين فضيلة الشيخ محمد العبودي وكيلاً للجامعة الإسلامية)
* صدر قرار مجلس الوزراء الموقر رقم 21753/3 م في 13/9/93هـ بترقية فضيلة الشيخ محمد بن ناصر العبودي الأمين العام للجامعة الإسلامية بالمدينة حالياً إلى وكيل للجامعة المحدثة في ميزانية الجامعة لهذا العام في المرتبة الثالثة عشرة، تهانينا وتمنياتنا لفضيلته بالتوفيق والسداد.
* ومما تجدر إليه الإشارة أن فضيلة الشيخ محمد العبودي قام بأعباء الأمانة العامة للجامعة الإسلامية طيلة 12 عاماً من حين افتتاح الجامعة في عام 81 وحتى الآن كان قبلها قد شغل عدة مناصب آخرها كان مديراً للمعهد العلمي في بريدة. ويقوم حالياً فضيلة الشيخ عمر محمد بأعمال الأمانة العامة بالنيابة..
كتب من الجامعة الإسلامية إلى أكثر من (25) مدرسة في إفريقيا(8/178)
* اجتمعت بمقر الجامعة الإسلامية بالمدينة اللجنة المشكلة برئاسة فضيلة الشيخ عمر محمد الأمين العام المساعد وسكرتيرية مدير العلاقات العامة بالجامعة الأستاذ أحمد عبد الحميد عباس. وعضوية مدير عام التعليم الشيخ سليم سليمان الحازمي والأستاذ محمد بن عبد اللطيف رئيس التحريرات لدراسة الطلبات الواردة من إفريقيا بطلب تزيدها من الكتب والمقررات الدراسية في المراحل الثلاث الثانوية والمتوسطة والابتدائية وقد استعرضت اللجنة العديد من الطلبات التي وردت من مدراء المدارس والمعاهد والجمعيات الإسلامية في إفريقيا وغيرها وقررت في عدة محاضر لها إرسال المقررات الدراسية إلى 25 مدرسة ومعهداً في شتى أنحاء إفريقيا وقد بلغت الكتب المرسلة آلاف النسخ.. هذا وتقوم إدارة العلاقات العامة بالكتابة لمندوب الجامعة الإسلامية في جدة لتعبئة الكتب في صناديد خاصة وإرسالها بطريق الجو البحر إلى الجهات التي طلبتها هذا ويولي سماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز اهتمامه الشديد وحرصه على سرعة تزويد الجهات المعنية بالكتب.
* يتوافد على مقر الجامعة الإسلامية بالمدينة العديد من الزوار من كبار حجاج بيت الله الحرام للزيارة والإطلاع على هذا المرفق الحيوي الكبير وإدارة العلاقات العامة بالجامعة تسعى جاهدة لاطلاع الزوار على كليات الجامعة ومعاهدها ومعالمها.
وفي ختام الزيارة توزع عليهم كميات من الكتب والنشرات هدية رمزية بمناسبة زيارتهم للجامعة.
* بعث فضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد إلى سكرتير لجنة التبرعات للمجهود الحربي بخطاب يحتوي على المبالغ التي تبرع بها منسوبوا الجامعة الإسلامية بالمدينة والبالغ قدرها 87 - 79049 ريال.
* صدرت الموافقة السامية على تعيين فضيلة الدكتور السيد محمد الحكيم عضواً في مجلس الجامعة الإسلامية وفضيلته من المحاضرين في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة.(8/179)
* كما صدرت الموافقة السامية على إرسال ستة من المدرسين إلى المدرسة السلفية في بلجرشي للتدريس هناك من خريجي الجامعة الإسلامية بالمدينة اعتباراً من العام الدراسي 93 -1394هـ.
* قام بزيارة الجامعة الإسلامية فضيلة الشيخ سعيد بن عبد الله بن طالب المدرس في كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية الحكومية في جاكرتا في جاوا الوسطى بإندونيسيا وقد اجتمع مع نائب رئيس الجامعة الشيخ عبد المحسن العباد. وفضيلة الأمين العام المساعد الشيخ عمر محمد. وقد زود ببعض الكتب والنشارات رمزاً لزيارته.
* عاد إلى المدينة قادماً من المغرب الأستاذ سليم سلمان الحازمي مدير عام التعليم بالجامعة الإسلامية بعد أن مثل الجامعة في المهمة الرسمية التي انتدب من أجلها وقد باشر عمله.
صَدَرَ حَديثاً
1
التجويد الميسر
للأستاذ عبد العزيز القارئ المدرس في المعهد الثانوي بالجامعة
2
أفكار إسلامية
للشيخ محمد مصطفى المجذوب المدرس بكلية الدعوة بالجامعة
3
نظرات تحليلية في القصة القرآنية طبعة 2
" " "
4
الآيات الثلاث
" " "
5
صور من حياتنا طبعة 2
" " "
6
دروس من الوحي طبعة2
" " "
7
دماء وأشلاء طبعة3
" " "(8/180)
القاديَانيَّة
بقلم الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
المدرس في كلية الشريعة في الجامعة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد: فإن القاديانية (ويقال لها كذلك الأحمدية) فرقة حديثة العهد نشأت في بلاد الهند في فترة اندفع فيها المسلمون في شبه هذه القارة ليطردوا عن بلادهم (كابوس) الاحتلال الإنجليزي الجاثم آنذاك على صدورهم، وعندئذ رأى المحتلون أن أنجع الوسائل لتفريق كلمة المسلمين وإطفاء جذوة صدورهم، الإيحاء إلى رجل يقال له: غلام أحمد القادياني المنتمي في الأصل إلى أسرة تنتمي إلى الإسلام، ليعلن ديناً جديداً، يفارق به إجماع المسلمين، وينقض به أصول الإسلام، وينكر ما علم بالضرورة أنه من هذا الدين، فزعم أن الوحي لم ينقطع، وأنّه مرسل من الله لإلغاء الجهاد ووجوب مسالمة المحتلين الإنجليز، وأنهم رحمة الله التي بعثها إلى أرض الهند.
من هو غلام أحمد؟
يعرف هذا الغلام نفسه في ص72 من كتابه (الاستفتاء) المطبوع بمطبعة النصرة بربوة بباكستان سنة 1378هـ فيقول: "إني أنا المسمى بغلام أحمد بن ميرزا مرتضى"، ثم يقول في نفس الصفحة: "وسمعت من أبي أن آبائي كانوا من الجرثومة المغولية، ولكن الله أوحى إليّ أنهم كانوا من بني فارس لا من الأقوام التركية". ثم يتناقض الغلام مع نفسه فيعلن دون حياء أو خجل من تناقض وحيه الشيطاني في ركاكة اللفظ ويقول في نفس الصفحة: "ومع ذلك أخبرني ربي بأن بعض أمهاتي كنّ من بني الفاطمة".(8/181)
وقد ولد غلام أحمد هذا في قرية قاديان إحدى قرى البنجاب الهندية عام 1835م أو عام 1839م أو عام 1840م وقد بدأ شبابه بقراءة قليل من الفارسية ونبذ في النحو والصرف غير أن الأمراض التي لازمته منذ طفولته - ومنها الماليخوليا (نوع من الجنون) كما تقول دائرة المعارف القاديانية - لم تمكنه هذه الأمراض من متابعة دراسته.
وقد انتقل في صدر شبابه إلى سيالكوت واضطر إلى العمل فجلس أمام إحدى المحاكم ليكتب للعوام صور الادعاءات في نظير أجر زهيد يساوي خمس عشرة روبية في الشهر وذلك في عام 1864م وفي أثناء إقامته بسيالكوت اتصل به رجل من كبار المنحرفين يقال له: نور الدين البهيروي المولود في بهيرة من مديرية شاه بور المعروفة الآن باسم (سركودها) ، في غرب باكستان بالبنجاب. وقد درس الطب القديم في لكنهؤ على يد الحكيم علي حسن وعين طبيباً خاصاً في ولاية (جمون) بمنطقة كشمير الجنوبية ثم عزل عن الوظيفة عام 1892م، وقد توثقت عرى الصداقة بينه وبين غلام أحمد وأغراه بدعوى أنه مجدد وأنه المهدي المنتظر والمسيح الموعود فبدأ الغلام يؤلف كتاباً سمّاه (براهين أحمدية) وبدأ نور الدين هذا يؤلف كتاباً سمّاه (تصديق براهين أحمدية) ثم أخذ يغريه بدعوى النبوة فذكر في كتاب (سيرة المهدي) ص99 أنه قال آنذاك: "لو ادّعى هذا الرجل يعني الغلام أنه نبي صاحب شريعة ونسخ شريعة القرآن لما أنكرت عليه".(8/182)
ولما انتقل الغلام إلى قاديان لحق به هذا الرجل وصار فيما يبدو للناس أكبر أتباع الغلام. وكان الغلام قد بدأ دعواه بأنه مجدد ثم زعم للناس أنه المهدي المنتظر ثم أوعز إليه الطبيب نور الدين أن يدعي أنه المسيح الموعود فأعلن الغلام عام 1891م أنه المسيح الموعود "لقد أرسلت كما أرسل الرجل (المسيح) بعد كليم الله موسى فلما جاء الكليم الثاني محمد كان لابدّ أن يكون بعد هذا النبي الذي هو في تصرفاته مثل الكليم من يرث قوة مثيل المسيح وطبعه وخاصيته، ويكون نزوله في مدة تقارب المدة التي كانت بين الكليم الأول والمسيح ابن مريم" يعني القرن الرابع عشر الهجري.
وقد دس له نور الدين - كما صرح بذلك غلام أحمد في (إزالة أوهام) بصفحة 100 - أن دمشق التي ينزل فيها المسيح ليست هي دمشق المعروفة ولكن المراد بدمشق قرية يسكنها رجال طبيعتهم يزيدية وأن كلمة دمشق استعارة.
ثم يقول إن قرية قاديان شبيهة بدمشق فأنزلني لأمر عظيم في دمشق هذه (يعني قاديان) بطرف شرقي عند المنارة البيضاء من المسجد الذي من دخله كان آمناً. يعني الذي بناه بقاديان ليحج إليه أتباعه المرتدون عن الإسلام مضاهاة للمسجد الحرام وقد جعل عنده منارة بيضاء ليضلل الناس أنها التي سينزل عليها المسيح يعني نفسه. وقد عين الغلام رجلاً يقال له عبد الكريم ليكون إماماً لمسجده هذا وكان هذا الرجل أحد جناحيه كما كان عبد الحكيم نور الدين الجناح الآخر.
وفي سنة 1900 ألقى عبد الكريم خطبة الجمعة وذكر فيها - والغلام حاضر - أن الميرزا غلام أحمد مرسل من الله والإيمان به واجب.(8/183)
وقد أثارت هذه الخطبة جدالاً ونقاشاً بين أتباع الغلام الذين كانوا يعتقدون أنه مجدد ومهدي معهود ومسيح موعود. فلما أنكروا عليه ألقى خطبة أخرى في الجمعة الثانية والتفت إلى الغلام وقال: "أنا أعتقد أنك نبي ورسول فإن كنت مخطئاً فنبهني على ذلك"، ولما انتهوا من الصلاة وهمّ الغلام بالانصراف أمسك به عبد الكريم فقال الغلام:"هذا الذي أدين به وأدعيه"، ثم انصرف إلى بيته فوقع هياج بين عبد الكريم وبين بعض الرجال وارتفعت أصواتهم فخرج الغلام من بيته وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيّ} .
ومن ذلك التاريخ أخذ الغلام يدعي أن باب النبوة لا يزال مفتوحاً ويقول الغلام نفسه في صفحة 14 من (رسالة التعليم) طبع الربوة سنة 1386 هـ "ولا تحسبن أن الوحي كان فيما مضى ولم يعد له وجود في هذه الأيام، وأن روح القدس كان ينزل فيما مضى، وليس له أن ينزل الآن، الحق والحق أقول: إن كل باب يمكن أن ينسد، لكن باب روح القدس سيضل مفتوحاً إلى الأبد".
ويقول في صفحة 9 من (رسالة التعليم) : "إنه لا إله إلا هو الذي أوحى إلي، وأرى لأجلي آيات عظيمة، والذي جعلني المسيح الموعود لهذا العصر، لا إله إلا هو لا في السماء ولا في الأرض، وإن الذي لا يؤمن به سيلقى الشقاء والحرمان، إننا تلقينا منه وحياً هو أجلى من الشمس وأظهر".
ثم يزداد في ضلالته وتبجحه وجهله وإفكه فيقول في ص 12 من كتابه (الاستفتاء) طبع الربوة سنة 1378 هـ "إني مرسل من الله"ويقول في ص 17:"سماني الله نبيا"ويقول في ص 20: "بعثني الله على رأس المائة لأجدد الدين وأنور وجه الملة"ثم يقول "وأنا المسيح الموعود والمهدي المعهود".(8/184)
ثم ازداد غروراً وضلالاً فادعى أنه أفضل من بعض الرسل ويدس دسيسة نصرانية فيدعي أن لله ولداً وأنه هو نفسه أفضل من هذا الولد فيقول في ص 82 من (الاستفتاء) "أنت مني بمنزلة توحيدي وتفريدي فحان أن تعان وتعرف بين الناس، أنت مني بمنزلة عرشي، أنت مني بمنزلة ولدي، أنت مني بمنزلة لا يعلمها الخلق. ."
وقد نسي هذا الأفاك أو تناسى قوله عز وجل: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} . وقوله عز وجل: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً. تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً. وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً. إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} .
ويقول ابنه بشير أحمد الخليفة الثاني للقاديانيين في كتاب حقيقة النبوة ص 257: "إن غلام أحمد أفضل من بعض أولى العزم من الرسل"وفي صحيفة (الفضل) لسان حال القاديانين في المجلد الرابع عشر المؤرخ في 29 من ابريل سنة 1927 م "أنه كان أفضل من كثير من الأنبياء ويمكن أن يكون أفضل من جميع الأنبياء".(8/185)
ولم يبال هذا الغلام المفتون، ولا تلاميذه المغرورون بالقرآن ولا بالسنة ولا بإجماع الأمة القاطعة بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين ولا نبي بعده فإن الله تبارك وتعالى يقول: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كانت بنوا إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وأنه لا نبي بعدي" كما روى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ " قال: "فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين" وفي رواية مسلم من حديث جابر رضي الله عنه "فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء" وقد انعقد إجماع المسلمين على ذلك وأصبح من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة وأن من ادعى هذا المقام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر كذاب أفاك دجال وضال مضل.(8/186)
وبالرغم من أن دائرة المعارف القاديانية نصت على أن هذا الغلام كان مصاباً بالماليخوليا (نوع من الجنون) فإن شواهد الحال من تناقضه تنبئ بذلك فهو ينكر نزول المسيح عليه السلام أحياناً ويثبته أحياناً ويؤوله أحياناً وينكر رفع المسيح أحياناً ويثبته أحياناً ويؤوله أحياناً فهو يقول في ص 47 (مكتوب أحمد) "وقد سمعتم أنا قائلون بنزول المسيح والمقرون به بالبيان الصريح وأنه حق واجب" ويقول في ص 11 من كتاب (حمامة البشرى) : "وكنت أظن بعد هذه التسمية أن المسيح الموعود خارج وما كنت أظن أنه أنا حتى ظهر السر الخفي. ."ويقول في ص 41 من هذا الكتاب: "وقالوا: إن المسيح ينزل من السماء ويقتل الدجال ويحارب النصارى فهذه الآراء كلها قد نشأت من سوء الفهم وقلة التدبر في كلمات خاتم النبيين".
وقد خلط كذلك فزعم أن الملائكة جوارح الله تعالى الله عما يقول هذا الأفاك علواً كبيراً. فهو يقول في ص 98 من حمامة البشرى: "وانظر إلى الملائكة كيف جعلهم الله كجوارحه"ويقول هذا الأفاك في ص 34 من تحفة بغداد: "وإنا نؤمن بملائكة الله ومقاماتهم وصفوفهم ونؤمن أن نزولهم كنزول الأنوار لا كترحيل الإنسان من الديار إلى الديار ولا يبرحون مقاماتهم".
هذا ومما يكشف طبيعة هذا الضال ويبين أسباب ادعاءاته وافتراءاته أن الإنجليز كانوا وراء دعوته للعمل على تفريق كلمة المسلمين وإلغاء الجهاد الذي يراه أعداء الإسلام حجر عثرة في سبيل أطماعهم وأهدافهم. فهو يقول في ص 15 من كتاب (ترياق القلوب) : "لقد قضيت معظم عمري في تأييد الحكومة الإنجليزية ونصرتها، وقد ألفت في منع الجهاد، ووجوب طاعة أولي الأمر الإنجليز من الكتب والنشرات ما لو جمع بعضها إلى بعض لملأ خمسين خزانة".(8/187)
ويقول في ملحق كتاب (شهادة القرآن) ص 10 الطبقة السادسة: "لقد ظللت منذ حداثة سني - وقد ناهزت اليوم الستين - أجاهد بلساني وقلمي لأصرف قلوب المسلمين إلى الإخلاص للحكومة الإنجليزية، والنصح لها والعطف عليها، وأنفي فكرة الجهاد التي يدين بها بعض جهالهم، والتي تمنعهم من الإخلاص لهذه الحكومة".
ويقول في ص123 ج1 من نصيحته المندرجة في تبليغ الرسالة: "ففكروا قليلاً أي أرض في الدنيا تؤويكم إن فارقتم ظل هذه الحكومة، اذكروا لي حكومة واحدة تقبلكم في كنفها، إن كل حكومة من الحكومات الإسلامية تعض عليكم الأنامل من الغيظ، وتتربص بكم الدوائر، وتتحين الفرص لقتلكم، لأنكم قد أصبحتم في نظرها كفاراً ومرتدين، فاعرفوا لهذه النعمة الإلهية (نعمة وجود الحكومة البريطانية) قدرها، واعلموا علم اليقين أن الله تعالى لم يقم الحكومة الإنجليزية في هذه البلاد إلا لخيركم وصالحكم، فإن حلت بهذه الحكومة آفة من الآفات، فستبيدكم هذه الآفة أنتم أيضاً، وإذا أردتم برهاناً على ما أقول فاستظلوا بحكم غيرها وعندئذ ستعلمون ما ينزل بكم، ألا إن الحكومة البريطانية رحمة لكم وبركة، وهي الحصن الذي أقامه الله لوقايتكم فاعرفوا قدرها من أعماق قلوبكم ومهجكم، والإنجليز خير لكم ألف مرة من هؤلاء المسلمين، الذين يخالفونكم لأنهم لا يريدون إذلالكم ولا يرون وجوب قتلكم".
وقد تجاهل هذا الغلام آيات الجهاد في كتاب الله عز وجل كما تجاهل ما تواتر من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجهاد وفضله وما ثبت أنه ماض إلى يوم القيامة.(8/188)
وقد قام علماء الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها بإعلان كفر القاديانيين وقال الدكتور إقبال في رسالة وجهها إلى كبرى صحف الهند الإنجليزية: "إن القاديانية محاولة منظمة لتأسيس طائفة جديدة على أساس نبوة منافسة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم"وقد ذكرت جريدة الفضل الناطقة بلسان القاديانيين في عددها الصادر في 30 يوليه سنة 1931م بأن غلام أحمد قال: "إننا نخالف المسلمين في كل شيء: في الله، وفي الرسول، وفي القرآن، وفي الصلاة، وفي الصوم، وفي الحج، والزكاة، وبيننا وبينهم خلاف جوهري في كل ذلك".
وبهذا يتقرر بما لا مجال للشك فيه أن القاديانية مرتدون خارجون عن دين الإسلام..(8/189)
مع صاحب الفضيلة
والدنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله
بقلم الشيخ عطيه محمد سالم
القاضي بالمحكمة الشرعية بالمدينة
الحمد لله المستحق لصفات الجلال وكمال الأسماء، المتفرد بالدوام وبالبقاء. خلق الخلق من عدم وقضى عليهم بالموت والفناء. وجعل الدنيا مزرعة الآخرة، حصادها الثواب والجزاء. واختار من عباده رسلاً يبلغون عنه فهم بينه وبين خلقه وسطاء. واصطفى خاتمهم محمداً صلى الله عليه وسلم فهو صفوة الأصفياء، بعثه رحمة للعالمين فجاء بالحنيفية السمحاء. أطل فجرها بمكة من قمة حراء.
وأشرقت شمس نهارها بطيبة الفيحاء. ظلت مهاجر صحبه في ألفة ووفاء فتحمل الصحب الكرام تراثه. ما ورثوه منه هداية وضياء. وورثوه من بعدهم توريث الآباء للأبناء. وغدت المدينة مشرقة أنوارها يشع منها للعالم نور وسناء. وتوالت الأجيال تلو أجيال إنتاجها للعالم صفوة العلماء، ممن قاموا لله حقاً وأخلصوا لله صدقاً ونشروا العلم في عفة وإباء. نهلوا من المنهل الصافي من منبعه قبل أن يخالطه الترب أو تكدره الدلاء. في مهبط الوحي محط رحالهم. وفي الروضة غدوهم ورواحهم في غبطة وهناء.
درسوا كتاب الله حكماً وحكمة حتى غدت آياته لمرضى الصدور شفاء، وتكشفت حجب المعاني فانجلت من تحتها أشمس وضياء.
وترسموا سنن النبي محمد، وكذاك سنة الخلفاء، وكذا الصحابة والتابعون فإنهم لهم بهم أسوة واقتداء. فهم النجوم في ليل السرى، وهم الهداة لطالب الهدى وأدلاء، وهم الأئمة قدوة الأمة وعلى الدين أمناء.
ونحن بالمدينة وفي هذا الجوار الكريم أشد إحساساً بمكانة العلم ومنزلة العلماء، وأسرع فرحاً بهم وأشد حزناً على موتهم وألماً لفراقهم، إن في موت العلماء لغربة للغرباء.
ولا شك أن هذه الآلام تزداد وهذا الحزن يشتد أكثر وأكثر حينما نكون قد عرفنا هذا العالم أو عاصرناه ولمسنا فضله واستفدنا علمه.(8/190)
وهذا القدر كلنا فيه سواء نحو علماء المسلمين عامة وشيخنا الأمين خاصة.
وإني كأحد أبنائه ومن جملة تلاميذه أقف اليوم معزياً متعزياً. ومترجماً مترحماً وقد عظم المصاب وعز فيه العزاء.
ولو استحق أحد التعزية لشخصه لاستحقها ثلاثة أشخاص: الشيخ عبد العزيز بن باز لزمالته 21 سنة وماله عنده من منزلة، والشيخ عبد العزيز بن صالح أول من عرفه وتسبب في جلوسه، وصاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد الرحمن لمحبته وتقديره.
نعم أقف معزياً متعزياً مترجماً مترحماً كما قال القاضي عياض عن بعض مشايخه "ما لكم تأخذون العلم عنا وتستفيدون منا، ثم تذكروننا فلا تترحمون علينا", إنه ربط أصيل بين العلم والعالم وتنبيه أكيد على أن الاعتراف بفضل العالم شكر وتقدير لنفس العلم. رحم الله شيخنا رحمة واسعة ورحم الله علماء المسلمين في كل زمان ومكان.
وقد قام الخلف بحق السلف في حفظ تاريخهم بالترجمة لهم خدمة لتراثهم وإحياء لذكرهم وما أثر عن السخاوي أنه قال:"من ورخ مؤمناً فكأنما أحياه". أي من ترجم له وأرخه وها هم علماء الأمة يعايشون كل جيل بسيرتهم وتاريخهم في أمهات الكتب.
وإني لاعتقد حقاً أن تراجم الرجال مدارس الأجيال أي في علومهم ومعالم حياتهم.
وإن مثل شيخنا الأمين رحمة الله لحقيق بتخليده بترجمته والاستفادة من منهج حياته في تعلمه وتعليمه.
وإني لأستعين الله فيما أقدم وأستلهمه فيما أقول:
إلى رحمة الله وحسن جواره
فقيد العلم يا علم الرجال، نعاك العلم في حلق السؤال. نعم فقيد الدرس يا علم الرجال، نعاك الدرس في فصل المقال.(8/191)
انتقل إلى رحمة الله وحسن جواره صاحب الفضيلة وعلم الأعلام الشيخ الجليل والإمام الهمام زكي النفس رفيع المقام كريم السجايا ذو الخلق الرزين، عف المقال حميد الخصال، التقي الأمين والدنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي. توفي ضحى يوم الخميس 17-12-93هـ وكانت وفاته بمكة المكرمة مرجعه من الحج ودفن بمقبرة المعلاة وصلى الله عليه سماحة رئيس الجامعة الإسلامية فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في الحرم المكي مع من حضر من المسلمين بعد صلاة الظهر من ذلك اليوم.
وفي ليلة الأحد 20-12 أقيمت عليه صلاة الغائب بالمسجد النبوي وصلى عليه صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح آل صالح إمام وخطيب المسجد النبوي ورئيس الدوائر الشرعية بالمدينة ومحاكم منطقة المدينة بعد صلاة العشاء مباشرة وصلى عليه من حضر من الحجاج ما لا يُحصى عدداً. ومن غريب الصدف وحسن التفاؤل أن يقرأ الإمام في صلاة العشاء قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} إلى آخر السورة، وفي الركعة الثانية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} .
وقد سألت فضيلته عن هذه القراءة أهو قاصد لهذه الآيات ومختار لها أم جاءت عفواً، فقال حفظه الله بل عفواً فما الملاحظة عليها؟ قلت إنها من أغرب الصدف لأنك صليت على الشيخ الأمين رحمه الله بعدها فظننت أنك قصدت إليها، ولكنه من المناسبات الحسنة تغمد الله الفقيد برحمته وأسكنه فسيح جنته إنه جواد كريم رؤوف رحيم، كما صلي عليه بالجامعة الإسلامية وفي مساجد الدوادمي.
مات رحمه الله تعالى بعد أن أحيا علوماً درست، وخلف تراثاً باقياً, وربى أفواجاً متلاحقة تعد بالآلاف من خريجي كليات ومعاهد الإدارة العامة بالرياض والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.(8/192)
ما مات إلا بعد أن أصبح له في كل دائرة من دوائر الحكومة في أنحاء البلاد ابناً من أبنائه، وفي كل قطر إسلامي بعثة من البعثات الإسلامية لمنح الجامعة الإسلامية التعليمية بالمدينة المنورة.
ما مات إلا بعد أن ترك في كل مكتبة وفي كل منزل (أضواء البيان) تبدد الظلام وتهدي السبيل.
فلا يبعد ولا يغالي من يقول ما مات من خلف هذا التراث وأدى تلك الرسالة في حياته يبقى أثراً خالداً له على مر الأجيال والقرون.
لقد أدى رسالة عظمى وانتقل إلى الرفيق الأعلى، ليحصد ما زرع ويجني ثمار ما غرس وينعم بما قدم رحمه الله رحمة واسعة.
لقد عاش رحمه الله في هذه البلاد منذ سنين حين قدم لأداء فريضة الحج ثم اعتزم المقام وعمل في كبريات معاهد العلم وجامعاته وألف وحاضر ولم تُكتب عنه كلمة ولم يكن يرضى بالكتابة عنه. لقد كانت أعماله تترجم عنه ومؤلفاته تعرف به حتى عرفه الصغير والكبير والقاصي والداني والعالم والعامي، فلم تكن وفاته رزءاً على فرد أو أسرة أو جماعة أو قطر ولكن على العالم الإسلامي كله.
وما كتبت عنه سوى كلمة موجزة استقيتها منه رحمه الله عند طبع أول محاضرة له بالجامعة الإسلامية في آيات الصفات وطبعت في مقدمتها.
ومات رحمه الله ولم تكتب عنه أيضاً إلا تعريف موجز بالنشأة والمولد وما إلى ذلك.
والآن وقد تحتمت الكتابة عنه لا تعريفاً به فهو أعرف من أن يُعرف فهو العلم الخفاق والطود الأشم والشمس المشرقة فليست الكتابة للتعريف ولكن لرسم خطاه وبيان منهجه مما سمعت منه رحمه الله ولمسته من حياتي معه المدة الطويلة، وإني لأسجل هذا عنه رحمه الله للقريب والبعيد لكل من عرفه عالماً ولم يعرفه طالباً، أو عرفه هنا ولم يعرفه هناك في بلاده فأقول أولاً: إني لا أستطيع إيفاء المقام حقه لعظم مقامه رحمه الله وكبير منزلته وإن كل كتابة عن أي شخص تعتبر ذات جانبين:(8/193)
جانب ترجمة له وبيان لحقيقته وتعريف بشخصه ومنزلته، وجانب سيرته ومنهجه بما يمكن أن يكون نهجاً يُسار عليه ومنهجاً يُقتدى به ومؤثر يؤثر على غيره ممن أراد السير في سبيله والنسج على منواله والاستفادة من أقواله وأفعاله.
والكتابة عن أي شخص من هذين الجانبين تعتبر بمثابة شخصيته في إبراز صورته وبيان مكانته وفيها تقييمه في عظمته أو توسطه أو غير ذلك، وأي عالم أو طالب علم فإن له شخصية مزدوجة في حياته العامة وسلوكه العام، وحياته الخاصة في طلب العلم ومنهجه في تحصيله ونشره والكتابة بهذا الاعتبار تكون عن الترجمة الشخصية، والسيرة العلمية.
وقد ملئت المكتبات الإسلامية بتراجم وسير الأعلام من الرجال من عصر الصحابة رضي الله عنهم إلى عصور التدوين وامتدت إلى اليوم حفظاً للتراث الإسلامي وتسجيل للرعيل الأول، ولم تكن الكتابة عن أي شخص وافية كاملة إلا بتعدد الكتاب عنه، وتستخلص الحقيقة من مجموع ما كُتب عنه لأن كل كاتب عن أي شخص لن يخلو من أحد أمور ثلاثة:
1- إما موال متأثر: فقد يقع تحت تأثير العاطفة فينظر من زاوية واحدة، فيقال فيه "وعين الرضا عن كل عيب كليلة".
2- وإما معاد منفعل: فيقع تحت طائلة الانفعال فيصدق عليه تتمة البيت السابق "كما أن عين السخط تبدي المساويا".
3- وإما بعيد معتدل: يرغب التقييم بميزان الاعتدال، ومثل هذا قد يفوته ما لم يكن حريصاً عليه بدون تقصير.
ومن هنا لم تكن كتابة كاتب عن إنسان ما مطابقة كل التطابق ومكتملة غاية الاكتمال.
وقد يتحرج الأصدقاء مخافة التهمة والتأثر بالألفة أو يتوقف الأعداء مكتفين بالإغضاء، أو يتردد الآخرون خشية التقصير، ولهذا فقد تذهب الشخصية الفذة دون كتابة عنها فيفتقده الحاضرون ويفقد سيرته القادمون، علماً بأن سيرة الرجال مدرسة الأجيال.(8/194)
وفضيلة الوالد الشيخ محمد الأمين رحمه الله له شخصية متميزة وسيرة واضحة يعرفها كل من لقيه أو حضر مجلسه أو استمع درسه أو قرأ كتبه أو حتى سمع عنه، وقد طبقت شهرته الآفاق.
وإن الكتابة عن مثله رحمه الله لمن أشق ما يكون لتعدد جوانب الشخصية وانفساح مجالاته العلمية، والحال أنه لا مرجع لمن يكتب عنه إلا الخلطة وطول العشرة وتصيد الأخبار من ذويه الأخيار.
وحيث أن أحق الناس بالكتابة عنه هم تلاميذه وأبناؤه، وإني وإن كنت قد أكرمني الله بصحبته وطول ملازمته ليل نهار وكثرة مرافقته في الظعن والأسفار، داخل وخارج المملكة، وسمعت منه رحمه الله الشيء الكثير والكثير جداً فإني لأجدني تتجاذبني عوامل الإقدام والإحجام، فإذا استحضرت كل ما سمعته منه وتصورت كل ما لمسته فيه أجدني أحق الناس بالكتابة عنه.
وإذا تذكرت مكانته وتراءت لي منزلته وأحسست تأثيره على نفسي تلاشت من ذهني كل معاني الكتابة أمام تلك الشخصية المثالية تراجعت بعيداً عن ميادين الكتابة عنه.
ولكن إذا كان كل كاتب لا يستطيع تقييم كل شخصية تقييماً حقيقياً يدل على الشخص دلالة مطابقية وفي أسلوب المساواة، لا موجزاً ولا مطنباً، إذا كان هذا حال كل كاتب مع كل شخص.
وإذا كان تلميذ الشيخ أحق بالكتابة عنه فمالي لا أدلي بدلوي بالدلاء وأعمل قلمي مع الأقلام، وأبدي ما عندي سواء ما سمعته منه مباشرة أو عنه بواسطة، أو لمسته من جوانب حياته وسيرته.
دون انطلاق مع العاطفة إلى حد الإطناب، ودون إحجام مع الوجل والتهيب والوجل إلى حد الإيجاز. إنه لشيخي وأعز علي من والدي.
إنه حقاً والدي حساً ومعنى لقد عشت في كنفه سنوات معه في بيته وقد يظلنا سقف واحد في غرفة واحدة أمداً طويلاً.
وقد وجدت منه رحمة الله العناية والرعاية كأحد أبنائه كأشد ما يرعى الوالد ولده، وقد أجد منه الإيثار على نفسه في كثير من أحيانه مما يطول ذكره ولا يُنسى فضله.(8/195)
وأعز من الإيثار ما منحني من العلوم والآثار، والتوجيه الأدبي والفضل الخلقي والسمو النفسي في مجالسه وأحاديثه ودروسه من غير ما حد وبدون تقيد بوقت إذ كان رحمه الله كل مجالسه مجالس علم وكل أحاديثه أحاديث أدب وتوجيه، ولم يكن يحتاج إلى تحضير لدرس ولا مراجعة لجواب على سؤال.
ولم يكن لي معه رحمه الله من وقت معين مع كثرة الإخوان الدارسين عليه المقيمين معه في بيته إلا وقت واحد هو ما بين المغرب والعشاء لمدة سنتين دراسيتين ونحن بالرياض، قرأت في خلالها تفسير سورة البقرة.
كانت تلك الدراسة عليه رحمه الله هي رأس مالي في جل تحصيلي وعليها أساس دراستي الحقيقية سواء في المقررات أو غيرها، لأن فيها جميع أبواب الفقه، وعلى مباحثها تنطبق جل قواعد الأصول، ولا يبعد من يقول إن ما بعدها من السور يُعتبر تفسيراً لها أو أن من أتقن تفسيرها سهل عليه تفسير ما بعدها، وقد كانت دراستها سبباً في تأليف كتابي دفع إيهام الاضطراب، وأضواء البيان، وكل منهما إثر سؤال وجواب.
مع ما درست من الأصول ومبادئ في المنطق ودقائق في البلاغة وغير ذلك.
لقد وجدت منه رحمه الله ما لم أجده من غيره على الإطلاق كما وأظن أن أحداً لم يجد منه ما وجدته أنا منه، فلئن شرفت بخدمته فلقد حظيت بصحبته فجزاه الله عني أحسن الجزاء.
وإن صاحب مثل هذه العلاقة مع مثل هذه الشخصية ليحس بثقل ديونه على كاهله ويلمس عظم المنة تطوق عنقه، فهل أستطيع توفية هذا الجانب فحسب فضلاً عن الجوانب العامة التي هي موضوع الترجمة والسيرة، وهل يتأتى مني الإحجام عن الكتابة وأنا مدين بمثل تلك الديون مكبل بتلك المنن مما يجعلني أحق بقول القائل:
كليني لهم يا أميمة ناصب
وليل أقاسيه بطيئ الكواكب
تطاول حتى قلت ليس بمنقض
وليس الذي يرعى النجوم بآيب
وصدر أراح الليل عازب همه
تضاعف فيه الحزن من كل جانب(8/196)
علي لعمر نعمة بعد نعمة
لوالده ليست بذات عقارب
ولئن قيل:
وتجلدي للشامتين أريهمو
أني لرب الدهر لا أتضعضع
فإني لأقول
وتجلدي للسامعين أريهمو
شمس الحقيقة من سناه تطلع
وإني ملزم بالكتابة ولو تأثرت بالعاطفة فإني معذور:
وإن قصرت عن حقه فلا عذر لي في التقصير.
وإني لأعتبر ما أقدمه بداية لا نهاية وتذكرة للآخرين من حاضرين وغائبين لعلهم يتمون ما بقي، ويكملون ما نقص.
وإذا كانت التراجم والسير تنقسم إلى ذاتية وغير ذاتية، والذاتية هي ما يكتبها الشخص عن نفسه من طفولته إلى رجولته، ويسجل ما جرى له وعليه، وهي أصدق ما تكون إن كان صاحبها معتدلاً أميناً.
وقد ترجم بعض العلماء والفلاسفة لأنفسهم منهم:
1- ابن سينا المتوفى سنة 428 كانت ترجمته لنفسه مرجعاً لكل من كتب عنه من تلاميذه.
2- والعماد الأصفهاني المتوفى سنة 597 في مقدمة كتابه (البرق الشامي) .
3- وابن الخطيب المتوفى سنة 776.
4- وابن خلدون، المتوفى 805، والسيوطي وغيرهم.
والترجمة غير الذاتية ما يكتب غيره عنه.
وإن ما أقدمه في هذا المجال ليجمع بين القسمين الذاتي وغير الذاتي لأنه يشتمل على ما قاله هو عن نفسه وسمعته منه مباشرة، كما تشتمل على ما عرفته ولمسته من حياته مدة صحبتي له.
والله أسأل أن يجعل من سيرته خير قدوة لتلامذته، وأن يجعل في ولديه خير خلف لخير سلف، وأن يأجرنا في مصيبتنا ويخلفنا خيراً منها، ونسأله تعالى أن يتغمده بوافر رحمته ويسكنه فسيح جنته وأن يجزل له العطاء ويجزيه أحسن الجزاء عما بذله من جهد، وخلفه من علم. إنه جواد كريم (إن أول ما يبدأ به في مثل هذا المقام لهو الاسم واللقب والنسب والنشأة والموطن) … الخ.
وهذه ترجمته رحمه الله كما سمعتها منه مباشرة:
الاسم: هو محمد الأمين، وهو علم مركب من اسمين وذكر محمد تبرك.(8/197)
واللقب: آبا. بمد الهمزة وتشديد الب اء من الإباء.
واسم أبيه: محمد المختار بن عبد القادر بن محمد بن أحمد نوح بن محمد بن سيدي أحمد ابن المختار من أولاد أولاد الطالب أوبك وهذا من أولاد أولاد كرير بن الموافي بن يعقوب بن جاكن الابر جد القبيلة الكبيرة المشهورة المعروفة بالجكنيين. ويُعرفون بتجكانت.
نسب القبيلة: ويرجع نسب هذه القبيلة إلى حمير، كما قال الشاعر الموريتاني محمد فال ولد العينين مستدلا بفصاحتهم على عروبتهم:
إنا بنو حسن دلت فصاحتنا
أنا إلى العرب الأقحاح ننتسب
إن لم تقم بينات أننا عرب
ففي (اللسان) بيان أننا عرب
أنظر إلى ما لنا من كل قافية
لها تذم شذور الزبرج القشب
وبيّن شاعر آخر مرجع تلك القبيلة إلى حمير بقوله:
يا قائلا طاعناً في أننا عرب
قد كذبتك لنا لسن وألوان
وسم العروبة بادٍ في شمائلنا
وفي أوائلنا عز وإيمان
أساد حمير والأبطال من مضر
حمر السيوف فما ذلوا ولا هانوا
لقد كانت خصائص العروبة ومميزاتها موفورة لدى الشيخ رحمه الله ولدى أهله وذويه في النظم وفي النثر، كما توفرت العلوم والفنون في بيته وقبيلته: وقد بيّن أحد شعرائهم أصالة العروبة فيهم وارتضاعهم إياها من أمهاتهم في قوله يخاطب من ينكرها عليهم:
لنا العروبة الفصحى وإنا
أحق العالمين بها اضطلاعا
عن الكتب اقتبستموها انتفاعا.
بما فيها ونرضعها ارتضاعا
المولد: ولد رحمه الله في عام 1325هـ.
الموطن: كان مسقط رأسه رحمه الله عند ماء يسمى (تَنْبه) من أعمال مديرية (كيفا) من القطر المسمى بشنقيط وهو دولة موريتانيا الإسلامية الآن. علماً بأن كلمة شنقيط كانت ولا تزال اسماً لقرية من أعمال مديرية أطار في أقصى موريتانيا في الشمال الغربي.(8/198)
نشأته رحمه الله: وقبل الحديث عن نشأته يحسن إيجاز نبذة عن البيئة في تلك البلاد:
تعتبر الحياة الاجتماعية في تلك البلاد بحسب المواطنين قسمين عرب وعجم والعربية لغة الجميع، أما العمل فالعجم أكثر أعمالهم الزراعة والصناعة وسلالتهم من الزنوج.
وأما العرب فقسمان: طلبة وغير الطلبة، والطلبة من يغلب عليهم طلب العلم والتجارة وغيرهم من يغلب عليهم التجارة والإغارة. وهم قبائل عدة ومن القبائل من يغلب عليها الطلب ومنها من يغلب عليها الإغارة والقتال.
وقبيلة الجكنيين خاصة قد جمعت بين طلب العلم وفروسية القتال مع عفة عن أموال الناس، وفي هذا الجو كان طلب العلم على قدم وساق سواء في حلهم أو ترحالهم كما قال بعض مشايخهم العلامة المختار بن بونا:
ونحن ركب من الأشراف منتظم.
أجل ذا العصر قدراً دون أدنانا
قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة
بها نبين دين الله تبيانا
أما كرم الطبع فهذا سجية في جميعهم وأمر يشب فيه الصغير ويشيب عليه الكبير، وقد ألفوا الضيف لنجعة منازلهم ومن عاداتهم إذا نزل وفد على بيت فإن أهل هذا المنزل يرسلون لأهل بيت المضيف مما عندهم قل أو كثر مشاركة في قرى الضيف وتعاوناً مع المضيف حتى لو كان معدماً غدا واجداً ويرحل الوفد وهو في غاية الرضا. وهكذا دواليك.
وفي هذا الجو وتلك البيئة نشأ رحمه الله كما سمعته يقول: "توفي والدي وأنا صغير أقرأ في جزء عمّ وترك لي ثروة من الحيوان والمال، وكانت سكناي في بيت أخوالي وأمي ابنة عم أبي وحفظت القرآن على خالي عبد الله بن محمد المختار بن إبراهيم بن أحمد نوح جد الأب المتقدم".
طلبه للعلم: حفظ القرآن في بيت أخواله على خاله عبد الله كما تقدم وعمره عشر سنوات.(8/199)
قال رحمه الله: "ثم تعلمت رسم المصحف العثماني (المصحف الأم) على ابن خالي سيدي محمد بن أحمد بن محمد المختار، وقرأت عليه التجويد في مقرأ نافع برواية ورش من طريق أبي يعقوب الأزرق وقالون من رواية أبي نشيط وأخذت عنه سنداً بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذلك وعمري ستة عشر سنة".
أنواع الدراسة في القرآن: تعتبر الدراسة في علوم القرآن منهجاً متكاملاً لا تقتصر على الحفظ والأداء بل تتناول معرفة رسم المصحف أي نوع كتابته ما كان موصولاً أو مفصولاً وما رسم فيه المد أو كان يمد بدون وجود حرف المد وقد يكون حرفاً صغيراً أو نحو ذلك.
ثم ضبط ما فيه من منشأيه في الرسم أو التلاوة ومن المشهور عندهم في هذا الرجز (محمد ابن بوجه) المشهور المعروف بالبحر تعرض فيه لكل كلمة جاءت في القرآن مرة واحدة أو مرتين أو ثلاث مرات إلى سبع وعشرين مرة أي من الكلمات المشتبهة وأفرد كل عدد بفصل فمثلاً: كلمة (أعينهم) بالرفع جاءت ثلاث مرات قال فيها:
أعينهم بالرفع من غير حضور
من بعد كانت وتولت وتدور
ومن الثنائي: كلمة (الأشياع) بالعين قال فيه:
أشياع بالعين فهل من مدكر
في سبأ من قبل بأنهم ذكر
وقد درس هذا كله في طفولته وكانت له زيادة نظم على ذلك تذييلا لزيادة الفائدة كما قال: على البيت الأخير مبيناً حركاته وإعرابه:
في سورة القمر خاطب وانصبا
وجره وغيبنه في سبا
أي في سورة القمر تكون تلاوتها الخطاب والنصب {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
وفي سورة سبأ تكون تلاوتها بالغيبة والجر {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ} وهذه دراسة لا تكاد توجد إلا ما شاء الله وهي من المهام العلمية لحفظها رسم القرآن من التغيير والتبديل وهي من أثار تعهد الله بحفظ هذا القرآن المنزل من عنده سبحانه.(8/200)
ثم قال رحمه الله: وفي أثناء هذه القراءة درست بعض المختصرات في فقه مالك كرجز الشيخ ابن عاشر وفي أثنائها أيضاً درست دراسة واسعة في الأدب على زوجة خالي أم ولد الخال أي أن ولد خاله يعلمه العلوم الخاصة بالقرآن وأمه تعلمه الأدب قال أخذت عنها مبادئ النحو كالأجرومية وتمرينات ودروس واسعة في أنساب العرب وأيامهم والسيرة النبوية ونظم الغزوات لأحمد البدوي الشنقيطي وهو يزيد على 500 بيتاً وشروحه لابن أخت المؤلف المعروف بحماد ونظم عمود النسب للمؤلف وهو يعد بالآلاف وشرحه لابن أخته المذكور على خصوص العدنانيين لأنه مات قبل شرح ما يتعلق بالقحطانيين.
هذه دراسته في علوم القرآن والأدب والسير والتاريخ كانت في بيت أخواله على أخواله وأبناء أخواله وزوجات أخواله أي كان بيت أخواله المدرسة الأولى إليه، أما بقية الفنون فقال:
1- أولاً الفقه المالكي وهو المذهب السائد في البلاد درست مختصر خليل بدأ دراسته فيه على الشيخ محمد بن صالح إلى قسم العبادات ثم درس عليه النصف من ألفية ابن مالك، ثم أخذت بقية الفنون على مشايخ متعددة، في فنون مختلفة وكلهم من الجكنيين ومنهم مشاهير العلماء في البلاد منهم:
1
الشيخ محمد بن صالح المشهور بابن أحمد الأفرم
2
والشيخ أحمد الأفرم بن محمد المختار
3
والشيخ العلامة أحمد بن عمر
4
والفقيه الكبير محمد النعمة بن زيدان
5
والفقيه الكبير أحمد بن مُودْ
6
والعلامة المتبحر في الفنون أحمد فال بن آدُه
وغيرهم من المشايخ الجكنيين.
قال رحمه الله: "وقد أخذنا عن هؤلاء المشايخ كل الفنون: النحو والصرف والأصول والبلاغة، وبعض التفسير والحديث.
أما المنطق وآداب البحث والمناظرة فقد حصلناه بالمطالعة".
هذا ما أملاه علي رحمه الله وسجلته عنه.(8/201)
علماً بأن الفن الذي درسه على المشايخ أو مطالعة من الكتب لم يقتصر في تحصيله على دراسته بل كان دائماً يديم النظر ويواصل التحصيل حتى غدا في كل منه كأنه متخصص فيه بل وله في كل منه اجتهادات ومباحث مبتكرة سنلم بها إن شاء الله عند إيراد المنهج العلمي لدراسته وآثاره العلمية.
منهجه العلمي في الدراسة:
وقبل إيراد المنهج العلمي له رحمه الله في دراسته نلم بالمنهج العام السائد في بلاده لكافة طلبة العلم وطريقة تحصيله.
تعتبر طريقة الدراسة في تلك البلاد جزءاً من حياة البوادي حلاً وارتحالاً. وإذا أقام أحد المشايخ في مكان توافد عليه الطلاب للدراسة عليه ومكث حتى يأخذوا عنه وقد يقيم بصفة دائمة لدوام الدراسة عليه ويُقال له (المرابط) نظراً لإقامته الدائمة لنشر العلم.
ولا يأخذ المرابط من طلابه شيئاً وإن كان ذا يسار ساعد المحتاجين من طلابه وقد يساعد أهل ذاك المكان الغرباء من الطلاب.
فينزلون حول بيته ويبنون لهم خياماً أو مساكن مؤقتة، ويكون لهم مجلس علم للدرس والمناقشة والاستذكار.
وقد يكون المرابط مختصاً بفن واحد وقد يدرس عدة فنون، فإذا كان مختصاً بفن واحد فإن دروسه تكون في هذا الفن موزعة في عدة أماكن منه بحسب مجموعات الطلاب فقد تكون مجموعة في البداية منه ومجموعة في النهاية وأخرى في أثنائه وهكذا.. فتتقدم كل مجموعة على حدة فتدرس على الشيخ ثم تأتي المجموعة الأخرى وهكذا.
وإذا كان يدرس عدة فنون فإنه يقسم طلاب كل فن على النحو المتقدم.
إفراد الفنون: ولا يحق لطالب أن يجمع بين فنين في وقت واحد بل يدرس فناً حتى يكمله كالنحو مثلاً ثم يبدأ في البلاغة حتى يكملها وهكذا يبدأ مثلاً في الفقه حتى يفرغ منه ثم يبدأ في الأصول حتى يكمله، سواء درسها على عدة مشايخ أو على شيخ واحد.(8/202)
طريقة الدراسة اليومية: يبدأ الطالب بكتابة المتن في اللوح الخشبي فيكتب قدر ما يستطيع حفظه ثم يمحوه ثم يكتب قدراً أخر حتى يحفظ مقرأ من الفن حسب التقسيم المعهود فمثلاً النحو تعتبر الألفية أربعة مقارئ ويعتبر متن خليل في الفقه نحواً من ذلك.
فإذا حفظ الطالب مقرأ من الفن تقدم للدراسة فيشرحه له الشيخ شرحاً وافياً بقدر ما عنده من تحصيل دون أن يفتح كتاباً أو يحضر في مرجع ثم يقوم هؤلاء للاستذكار فيما بينهم ومناقشة ما قاله الشيخ وقد يأخذون بعض الشرّاح لمقابلته على ما سمعوه أو يرجعون إلى بعض الحواشي ولا يجتازون ذاك المكان من الدرس حتى يروا أنهم قد حصلوا كل ما فيه، وليس عليهم من سرعة أو إنهاء كتاب بقدر ما عليهم من فهم وتحصيل ما في الباب وقد ذكروا عن بعض الطلاب ممن عرفوا بالذكاء والقدرة على التحصيل أنه كان لا يزيد في متن خليل على سطرين فقط فقيل له: "لمَ لا تزيد وأنت قادر على التحصيل"فقال: "لأنني عجلان لأعود إلى أهلي". فقالوا له إن العجلان يزيد في حصته. فقال: "أريد أن أتقن ما أقرأ حتى لا أحتاج إلى إعادة دراسته فأتأخر".
الحياة الدراسية:
دراسة الشيخ رحمه الله: على هذا المنهج كانت دراسة الشيخ رحمه الله إلا أنه تميز ببعض الأمور قل أن كانت لغيره. نوجز منها الآتي:
1- في مبدأ دراسته: تقدم أنه أتيح له في بادئ دراسته ما لم يتح لغيره حيث كان بيت أخواله مدرسته الأولى، فلم يرحل في بادئ أمره للطلب، وكان وحيد والديه فكان في مكان التدلل والعناية.(8/203)
2- قال رحمه الله كنت أميل إلى اللعب أكثر من الدراسة حتى حفظت الحروف الهجائية وبدأوا يقرئونني إياها بالحركات: با فتحة با بي كسرة بي بُ ضمة بو وهكذا ث د ث. فقلت لهم أو كل الحروف هكذا قالوا نعم فقلت كفى إني أستطيع قراءتها كلها على هذه الطريقة كي يتركونني. فقالوا اقرأها فقرأت بثلاثة حروف أو أربعة وتنقلت إلى آخرها بهذه الطريقة فعرفوا أني فهمت قاعدتها واكتفوا مني بذلك وتركوني، ومن ثم حُببت إلي القراءة.
3- وقال رحمه الله: ولما حفظت القرآن وأخذت الرسم العثماني وتفوقت فيه على الأقران عُنيت بي والدتي وأخوالي أشد عناية وعزموا على توجهي للدراسة في بقية الفنون، فجهزتني والدتي بجملين أحدهما عليه مركبي وكتبي، والآخر عليه نفقتي وزادي، وصحبني خادم ومعه عدة بقرات وقد هيئت لي مركبي كأحسن ما يكون من مركب وملابس كأحسن ما تكون فرحاً بي وترغيباً لي في طلب العلم، وهكذا سلكت سبيل الطلب والتحصيل.
تقوم الحياة الدراسية على أساس منع الكلفة وتمام الألفة سواء بين الطلاب أنفسهم أو بينهم وبين شيخهم مع كمال الأدب ووقار الحشمة، وقد تتخللها الطرف الأدبية والمحاورات الشعرية ومن ذلك ما حدثنيه رحمه الله قال: قدمت على بعض المشايخ لأدرس عليه ولم يكن يعرفني من قبل فسأل عني من أكون وكان في ملإ من تلامذته فقلت مرتجلا:
هذا فتى من بني جاكان قد نزلا
به الصبا عن لسان العرب قد عدلا
رمت به همة علياء نحوكم
إذ شام برق علوم نوره اشتعلا
فجاء يرجو ركاماً من سحائبه
تكسو لسان الفتى أزهاره حللا
إذ ضاق ذرعاً بجهل النحو ثم أبا
ألا يميز شكل العين من فعلا
قد أتى اليوم صبا مولعاً كلفا
بالحمد لله لا أبغي له بدلا
يريد دراسة لامية الأفعال:(8/204)
وقد مضى رحمه الله في طلب العلم قُدماً وقد ألزمه بعض مشايخه بالقرآن، أي أن يقرن بين كل فنين حرصاً على سرعة تحصيله وتفرساً له في القدرة على ذلك، فانصرف بهمة عالية في درس وتحصيل.
وقد خاطبه بعض أقرانه في أمر الزواج فقال في ذلك وفي الحث على طلب العلم:
دعاني الناصحون إلى النكاح
غداة تزوجَتْ بيض الملاح
فقالوا لي تزوج ذات دل
خلوب اللحظ جائلة الوشاح
تبسم عن نوشرة رقاق
يمج الراح بالماء القراح
كأن لحاظها رشقات نبل
تذيق القلب آلام الجراح
ولا عجب إذا كانت لحاظ
لبيضاء المحاجر كالرماح
فكم قتلا كميّا ذا ولاحى
ضعيفات الجفون بلا سلا
فقلت لهم دعوني إن قلبي
من العي الصراح اليوم صاحي
ولي شغل بأبكار عذارى
كأن وجوهها ضوء الصباح
أراها في المهارق لابسات
براقع من معانيها الصحاح.
أبيت مفكراً فيها فتضحى
لفهم الفدم خافضة الجناح
أبحت حريمها جبراً عليها
وما كان الحريم بمستباح.
نعم إنه كان يبيت في طلب العلم مفكراً وباحثاً حتى يذلل الصعاب وقد طابق القول العمل.(8/205)
حدثني رحمه الله قال: جئت للشيخ في قراءتي عليه فشرح لي كما كان يشرح ولكنه لم يشف ما في نفسي على ما تعودت ولم يرو لي ظمئي، وقمت من عنده وأنا أجدني في حاجة إلى إزالة بعض اللبس وإيضاح بعض المشكل وكان الوقت ظهراً فأخذت الكتب والمراجع فطالعت حتى العصر فلم أفرغ من حاجتي فعاودت حتى المغرب فلم أنته أيضاً فأوقد لي خادمي أعواداً من الحطب أقرأ على ضوئها كعادة الطلاب وواصلت المطالعة وأتناول الشاهي الأخضر كلما مللت أو كسلت والخادم بجواري يوقد الضوء حتى انبثق الفجر وأنا في مجلسي لم أقم إلا لصلاة فرض أو تناول طعام وإلى أن ارتفع النهار وقد فرغت من درسي وزال عني لبسي ووجدت هذا المحل من الدرس كغيره في الوضوح والفهم فتركت المطالعة ونمت وأوصيت خادمي أن لا يوقظني لدرسي في ذلك اليوم اكتفاء بما حصلت عليه واستراحة من عناء سهر البارحة.
فقد بات مفكراً فيها فأضحت
لفهم الفدم خافضة الجناح
وإن هذا لدرس لأبنائه ومنهج لطلاب العلم في الصبر والدأب والمثابرة وقد نفعني الله بهذه الحادثة في دراستي وتدريسي وخاصة في صورة مشابهة في الفرائض لم أكن درستها على أحد وكان الاختيار في المقروء لا في المقرر.
وتلك هي آفة الدراسة النظامية اليوم وكنت كلما ضجرت في تحقيقها تذكرت قصته رحمه الله فصبرت حتى حصلتها ولله الحمد والمنة وكان من بعد الظهر إلى هزيع من الليل، ولكن كم كانت لذتي وارتياحي.
ومع هذه الشاعرية الرقراقة والمعاني العذاب الفياضة والأسلوب السهل الجزل فقد كان يتباعد رحمه الله عن قول الشعر مع وفرة حفظه إياه وله في ذلك أبيات يقول فيها:
أنقذت من داء الهوى بعلاج
شيب يزين مفارقي كالتاج
قد صدني حلم الأكابر عن لمي
شفة الفتاة الطفلة المغناج
ماءُ الشبيبة زارع في صدرها
رمانتي روض كحق العاج
وكأنها قد أدرجت في برقع
يا ويلتاه بها شعاع سراج(8/206)
وكأنما شمس الأصيل مذابة
تنساب فوق جبينها الوهاج.
يعلى لموقع جنبها في خدرها
فوق الحشية ناعم الديباج.
لم يبك عيني بينُ حي جيرة
شدوا المطي بأنسع الأحداج
نادت بأنغام اللحون حداتهم
فتزيلوا والليل أليل داجي
لا تصطبيني [1] عاتق في دلّها
رقت فراقت في رقاق زجاج
مخضوبة منها بنان مديرها
إذ لم تكن مقتولة بمزاج
طابت نفوس الشرب حيث أدارها
رشأ رمى بلحاظ طرف ساجي
أو ذات عود أنطقت أوتارها
بلحون قول للقلوب شواجي
فتخال رنات المثاني أحرفاً
قد رددت في الحلق من مهتاج
وقد سألت رحمه الله عن تركه الشعر مع قدرته عليه وإجادته فيه فقال: "لم أره من صفات الأفاضل. وخشيت أن أشتهر به وتذكرت قول الشافعي فيما ينسب إليه:
ولولا الشعر بالعلماء يزري
لكنت اليوم أشعر من لبيد
ولأن الشاعر يقول في كل مجال، والشعر أكذبه أعذبه، فلم أكثر منه لذلك".
ومع هذا فقد كانت له رحمه الله عدة مؤلفات نظماً في عدة فنون سيأتي بيانها إن شاء الله.
أعماله في البلاد: كانت أعماله رحمه الله كعمل أمثاله من العلماء: الدرس والفتيا ولكنه كان قد اشتهر بالقضاء وبالفراسة فيه ورغم وجود الحاكم الفرنسي إلا أن المواطنين كانوا عظيمي الثقة فيه فيأتونه للقضاء بينهم ويفدون إليه من أماكن بعيدة أو حيث يكون نازلاً.(8/207)
طريقته في القضاء: كان إذا أتى إليه الطرفان استكتبهما رغبتهما في التقاضي إليه وقبولهما ما يقضي به ثم يستكتب المدعي دعواه جواب المدعي عليه أسفل كتابة الدعوى ويكتب الحكم مع الدعوى والإجابة ويقول لهما اذهبا بها إلى من شئتما من المشايخ أو الحكام، أما المشايخ فلا يأتي أحدهم قضية قضاها إلا صدقوا عليها، وأما الحكام فلا تصلهم قضية حكم فيها إلا نفذوا حكمه حالاً، وكان يقضي في كل شيء إلا في الدماء والحدود، وكان للدماء قضاء خاص.
قضاء الدماء: كان الحاكم الفرنسي في البلاد يقضي بالقصاص في القتل بعد محاكمة ومرافعة واسعة النطاق وبعد تمحيص القضية وإنهاء المرافعة وصدور الحكم يعرض على عالمين جليلين من علماء البلاد ليصادقوا عليه ويسمي العلمين لجنة الدماء ولا ينفذ حكم الإعدام في القصاص إلا بعد مصادقتهما عليه. وقد كان رحمه الله أحد أعضاء هذه اللجنة ولم يخرج من بلاده حتى علا قدره وعظم تقديره وكان علماً من أعلامها وموضع ثقة أهلها وحكامها ومحكومها.
خروجه من بلاده رحمه الله: كان خروجه من بلاده لأداء فريضة الحج وعلى نية العودة وكان سفره براً كتب فيه رحلة ضمنها مباحث جليلة كان آخرها مبحث القضايا الموجهة في المنطق مع علماء أم درمان بالمعهد العلمي بالسودان.(8/208)
وبعد وصوله إلى هذه البلاد تجددت نية بقائه، ولعل من الخير وبيان الواقع ذكر سبب بقائه: لقد كان في بلاده كغيره يسمع الدعاية ضد هذه البلاد باسم الوهابية إلا أن بعض الصدف قد تغير من وجهات النظر (وإذا أراد الله أمرا هيأ له الأسباب) ومن عجيب الصدف أن ينزل رحمه الله في بعض منازل الحج بجوار خيمة الأمير خالد السديري دون أن يعرف أحدهما الآخر وكان الأمير خالد يبحث مع جلسائه بيتاً في الأدب وهو ذواقة أديب، وامتد الحديث إلى أن سألوا الشيخ لعله يشاركهم فوجدوا بحراً لا ساحل له ومن تلك الجلسة وذاك المنزل تعدلت الفكرة بل كانت تلك الخيمة بداية منطلق لفكرة جديدة وأوصاه الأمير إن هو قدم المدينة أن يلتقي بالشيخين الشيخ عبد الله الزاحم رحمه الله والشيخ عبد العزيز بن صالح حفظه الله.
وفي المدينة التقى بهما رحمه الله، وكان صريحاً معهما فيما يسمع عن البلاد وكانا حكيمين فيما يعرضان عليه ما عليه أهل هذه البلاد من مذهب في الفقه ومنهج في العقيدة. وكان أكثرهما مباحثة معه فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح، وأخيراً قدّم للشيخ كتاب المغني كأصل للمذهب وبعض كتب شيخ الإسلام كمنهج للعقيدة فقرأها الشيخ وتعددت اللقاءات وطالت الجلسات فوجد الشيخ مذهباً معلوماً لإمام جليل من أئمة أهل السنة وسلف الأمة أحمد بن حنبل رحمه الله، كما وجد منهجاً سليماً لعقيدة السلف تعتمد الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة فذهب زيف الدعايات الباطلة وظهر معدن الحقيقة الصحيحة وتوطدت العلاقة بين الطرفين، وتجددت رغبة متبادلة في بقائه لإفادة المسلمين، ورغب رحمه الله في هذا الجوار الكريم وكان يقول: "ليس من عمل أعظم من تفسير كتاب الله في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتم ذلك بأمر من جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله وكان الشيخان أقرب الناس إليه ودرس الشيخ عبد العزيز بن صالح الصرف والبيان عليه. رحم الله الموتى وحفظ الله الأحياء.(8/209)
وهنا كلمة يجب أن تقال للحقيقة ولطلبة العلم خاصة، نضعها في ميزان العدالة وقانون الإنصاف: لقد كان لجلوس الشيخ رحمه الله فائدة مزدوجة استفاد وأفاد.
أما استفادته فأمر حتمي ومنطقه علمي للآتي:
وهو أن منهج الدراسة في بلاده كان منصباً أكثر ما يكون على الفقه وفي مذهب مالك فقط، وعلى العربية متناً وأسلوباً، والأصول والسيرة والتفسير وتقدم أنه رحمه الله درس المنطق بالمطالعة ولم تكن دراسة الحديث تحظى بما يحظى به غيرها للاقتصار على مذهب مالك. وكان الشيخ رحمه الله إماماً في كل ما تقدم مما هو شائع في البلاد.
ولما عزم على البقاء وبدأ التدريس في المسجد النبوي وخالط العامة والخاصة وجد من يمثل المذاهب الأربعة ومن يناقش فيها ووجد في المسجد النبوي دراسة لا تقتصر على مذهب مالك، بل ولا على غيره فكان لا بد من دراسة بقية المذاهب بجانب مذهب مالك وبما أن الخلاف المذهبي لا ينهيه إلا الحديث أو القرآن فكان لزاماً من التوسع في دراسة الحديث وقد ساعد الشيخ على هذا التوسع والاستيعاب وقوة الاستدلال ودقة الترجيح ما هو متمكن فيه من فن الأصول والعربية مع توسعه في دراسة الحديث وبالأخص المجاميع كنيل الأوطار وفتح الباري وغيرها.
وقد ظهر ذلك في منهجه في أضواء البيان حينما يعرض لمبحث فقهي مختلف فيه فيستوفي أقوال العلماء ويرجح ما يظهر له بمقتضى الدليل عقلاً كان أو نقلاً.
وهذا المنهج هو سبيل أهل التحصيل الدأب على الدراسة ومواصلة المطالعة والتنقيح.(8/210)
أما في العقيدة فقد بلورها منطقاً ودليلاً، ثم لخصها في محاضرة آيات الأسماء والصفات في أول محاضرات الجامعة ثم بسطها ووضحها إيضاحاً شافياً في أخريات حياته في كتابي آداب البحث والمناظرة دليلاً واستدلالاً وعرضاً وإقناعاً. ومن آثار بيانه لها وأسلوبه فيها ما قاله فضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله لما سمع بيان الشيخ لعقيدة السلف في مسجد الشيخ محمد رحمه الله قال: "جزى الله عنا الشيخ محمد الأمين خيراً على بيانه هذا فالجاهل عرف العقيدة والعالم عرف الطريقة والأسلوب".
وهذه الحقيقة تضع بين يدي طالب العلم منهج الاستزادة في التحصيل وطموحه فيه كما قال صلى الله عليه وسلم: "منهومان لا يشبعان أبداً طالب العلم وطالب المال". هذا جانب استفادته أما جانب إفادته فهو ما سنتحدث عنه إن شاء الله.
أولاً في المسجد النبوي: يعتبر التدريس في المسجد النبوي من أهم التدريس في كبريات جامعات العالم في نشر العلم، وهو الجامعة الأولى للتشريع الإسلامي منذ عهد النبوة وحين كان جبريل عليه السلام يأتي لتعليم الإسلام في مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنذ كانت مجالس الخلفاء الراشدين وعلماء الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، إذ كانت المدينة العاصمة العلمية، وظلت محافظة على مركزها العلمي ولم تخل في زمن من الأزمان من عالم يقوم بحق الله فيها.
وقبل مجيء الشيخ رحمه الله كان قبله الشيخ الطيب رحمه الله نفع الله به كثيراً وتوفي سنة 1363هـ فكان جلوس الشيخ رحمه الله للتدريس في المسجد النبوي امتداداً لما كان قبله مع من كان من العلماء بالمسجد النبوي آنذاك من تلاميذ الشيخ الطيب وغيرهم، وكان درس الشيخ في التفسير ختم القرآن مرتين.(8/211)
منهجه في درسه: من المعلوم أن التفسير لا ينحصر في موضوع فهو شامل عام بشمول القرآن وعمومه، فكان المنهج أولاً بيان المفردات ثم الإعراب والتصريف ثم البلاغة مع إيراد الشواهد على ما يورد.
ثم يأتي إلى الأحكام إن كان موضوع الآية فقهاً فيستقصي باستنتاج الحكم وبيان الأقوال والترجيح لما يظهر له، ويدعم ذلك بالأصول وبيان القرآن وعلوم القرآن من عام وخاص ومطلق ومقيد وناسخ ومنسوخ وأسباب نزول وغير ذلك.
وإذا كانت الآية في قصص أظهر العبر من القصة وبين تاريخها وقد يربط الحاضر بالماضي كربط تكشف النساء اليوم بفتنة إبليس لحواء في الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما، وفتنته للجاهلية حين طافوا بالبيت عرايا رجالاً ونساء وهاهو يستدرجهن في التكشف شيئاً فشيئاً، بدأ بكشف الوجه ثم الرأس ثم الذراعين … الخ. فكان أسلوباً علمياً وتربوياً في آن واحد، كما كان أحكاماً وحكماً.
وكان درسه أشبه بحديثة غناء احتوت أشهى الثمار وأجمل الأزهار في تنسيق الغرس وجمال الجداول تشرح الصدر وتشفي القلب وتروق للعين، فيستفيد منه جميع الناس ويأخذ كل واحد ما طاب له وما وسعه.
وقد يستطرد للقاعدة بمبحث كامل كما استطرد في الرد على ابن حزم في رده القياس بإتيانه بأنواعه عند قوله: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} وقد طبع في نهاية مذكرة الأصول تعميماً للفائدة وبهذا الشمول والاستقصاء لم يكن يترك مجالاً لسؤال ولم يبق لذي حاجة تساؤل.
وأذكر كلمة لقاضي قرية (قرو) في موريتاني بعد أن سئل رحمه الله عن مهام من المسائل العلمية وأجاب إجابة مستفيضة مفصلة كافية قال قاضي قرو لم يبق لأحد هنا كلام فقد ظهر الحق. ولا سؤال فقد زال اللبس وإن الحضور بين أحد رجلين عالم فقد عرف الحق فلم يبق له سؤال وجاهل فلا يحق له أن يسأل.
فكان نفعه رحمه الله في المسجد النبوي للمقيم والقادم للقاصي والداني نفعاً عظيماً.(8/212)
ثانياً: في سنة 1371هـ افتتحت الإدارة العامة بالرياض على معهد علمي تلاه عدة معاهد وكليتا الشريعة واللغة.
واختير للتدريس في المعهد والكليتين نخبة من العلماء من داخل وخارج المملكة. وكان رحمه الله ممن اختير لذلك فتولى تدريس التفسير والأصول إلى سنة 1381هـ حين افتتحت الجامعة الإسلامية بالمدينة.
آثاره في الرياض: كانت مدة اختياره للتدريس بالرياض عشر سنوات دراسية يعود لقضاء العطلة بالمدينة وما كان عمله في التدريس بالمعهد والكلية كغيره من المدرسين. ولكن لبيان أثره حقيقة نورد نبذه عن الحالة العلمية آنذاك بالرياض.
كانت الرياض عاصمة نجد علمياً وسياسياً وكان يفد إليها طلاب العلم من أنحاء نجد لأخذ العلم عن آل الشيخ. وكان مركز الدراسة والتدريس في المساجد إلا خواص الطلاب لدى سماحة المفتي فيدرسون عليه بعض الدروس في بيته ضحى، وكانت الدراسة عمادها التوحيد والفقه والتفسير وكذلك الحديث والسيرة والنحو وكانت دراسة مباركة تخرج عليها جميع علماء نجد حتى جاءت تلك الحركة العلمية الجديدة أو تنظيم الدراسة الجديد في عام 1371هـ.(8/213)
نشأة هذه الحركة: كانت نشأتها كما سمعت منه رحمه الله استجابة لرغبة المرحوم جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله. قال لجماعة العلماء وهم في مجلسه الخاص: لقد كانت الرياض ملية بالعلماء عامرة بالدروس. وانتقل الكثير منهم إلى رحمة الله ولم يخلفهم من يماثلهم وأردت تعاونكم مع سماحة المفتي في تربية جيل من طلبة العلم على العلوم الصحيحة والعقيدة السليمة فنحن وأنتم مشتركون في المسئولية فكانت هذه النهضة ترعاها عناية ملكية وتقوم عليها كفاءة علمية تولي إدارة المعهد الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم ورئاسته لسماحة المفتي وافتتحت الدراسة على طلاب حلق المساجد الأكفاء وفيهم خواص طلاب فضيلة الشيخ محمد رحمه الله وأبناؤه. صنفت الدراسة على ثلاث سنوات ثانوية ومنها إلى الكلية يغذي هذا القسم تمهيدي يأخذ من رابعة ابتدائي ويدرس خامسة وسادسة ومن ثم للمعهد الثانوي فالكليتين.(8/214)
المنهج العلمي: وضع المنهج العلمي لتلك الدراسة على أساس في العلوم الدينية والعربية وتكميل من المواد الاجتماعية وعلوم الآلة من مصطلح وأصول حتى الحساب والتقويم والخط والإملاء والتجويد. فكان قوياً في موضوعه شاملاً في منهجه. وكان الطلاب من الصفوة الذين درسوا في المساجد المتعطشين للعلوم متطلعين للتوسع وكان القائمون على التدريس نخبة ممتازة من الأجلة الفضلاء من وطنيين وأزهريين. فكان الجو حقاً جداً علمياً التقت فيه همة عالية من طلاب جيدين مع عزيمة ماضية من مشايخ مجتهدين. كان يسودهم الشعور بأن هذه طليعة نهضة علمية واسعة، كان رحمه الله كوالد للجميع وكان درسه التفسير والأصول. فكان في التفسير المجال الواسع لجميع المواد والعلوم. وكان مع التزامه بالمنهج والحصص إذا تناول بحثاً في أي مادة يخاله السامع مختصاً فيها فعرف له الجميع قدره وتطلع الجميع إلى ما عنده حتى المدرسون: وقد رغب المدرسون آنذاك في قراءة بعض كتب شيخ الإسلام ابن تيمية واستيعاب دقائقه فلم يكن أولى بذلك من فضيلته رحمه الله. خصص لذلك مجلس خاص في صحن المعهد بدخنه بين المغرب والعشاء.
في مسجد الشيخ: وفي مسجد الشيخ محمد رحمه الله بدأ درس الأصول لكبار الطلبة في قواعد الأصول حضره العامة والخاصة وكان يتوافد إليه من أطراف الرياض، وكان الشيخ عبد الرحمن الإفريقي رحمه الله يدرس الحديث وكان درس الأصول بمثابة فتح جديد في هذا الفن.
في بيته رحمه الله: ولما كان الدرس في الأصول في المسجد عاماً وفي الطلبة من خواصهم رغبوا في درس خاص في بيته رحمه الله فكان لهم درس خاص بعد العصر. وكان بيته رحمه الله كمدرسة سواء لأبنائه الذين رافقوه للدراسة عليه وقد أملى شرحاً على مراقي السعود في بيته على أخينا أحمد الأحمد الشنقيطي.(8/215)
لقد كان لتدريسه هذا سواء رسمياً في المعهد والكليتين أو في المسجد أو في المنزل كان له أثر طيب ونتائج حسنة لا يسع متحدث التحدث عنها بقدر ما تحدثت هي عن نفسها في أعمال كافة المتخرجين من تلك المعاهد والكليتين المنتشرين في أنحاء المملكة المبرزين في أعمالهم وفي أعلى مناصب في كافة الوزارات.
ولا يُغالي من يقول إن كل من تخرج أو يتخرج فهو إما تلميذ له أو لتلاميذه فهم بمثابة أبنائه وأحفاده كفى.
تقدير المسؤولين له: لقد كان بعلمه ونصحه وجهده وعفته موضع تقدير من جميع المسئولين وبالأخص أصحاب الفضيلة آل الشيخ وصاحب الجلالة الملك عبد العزيز وصاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن بعد الرحمن وكان من أشد الناس تقديراً له. وقد منحه جلالة الملك رحمه الله أمراً بالجنسية لجميع من ينتمي إليه وفي كفالته ثقة به وإكراماً له.
ولما زار الملك محمد الخامس ملك المغرب الرياض استأذن في صحبة الشيخ إلى المدينة فرافقه تقديراً وإكراماً وألقى محاضرته بالمسجد النبوي بحضور الملك محمد الخامس بعنوان: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} وقد طبعت مرتين.
وهكذا قدم الرياض رحمه الله في ترحيب وإكرام وانتقل منها في إعزاز وإكبار بعد أن ترك فيها أطيب الآثار. وساهم في أكبر نهضة علمية في البلاد.
دوره رحمه الله في الجامعة الإسلامية: إن من يعرف نشأة الجامعة الإسلامية وقد عرف الحركة العلمية الحديثة بالرياض ليقول أن افتتاح الجامعة الإسلامية امتداداً للحركة العلمية الحديثة بالرياض.
والمتتبع للحركات العلمية في العالم الإسلامي ليقول إن افتتاح الجامعة الإسلامية في ذلك التاريخ عناية من الله وتداركاً للتعليم الإسلامي حينما أصيبت بعض دور العلم الكبرى بهزات في برامجها.(8/216)
فكان إيجادها امتداداً للحركة العلمية الحديثة بالرياض ومجيئها آنذاك تداركاً لبعض ما فات ولعلها جزء من تحقيق الحديث: "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها". ومعلوم أن الإيمان عقيدة وعمل والعلم قبله.
ومن هنا نجدد أو نتذكر أهمية الجامعة الإسلامية ومدى وجودها بالمدينة المنورة وبالتالي مجيء أبناء العالم الإسلامية إليها للدراسة وللتربية في هذا الجو الروحي لتبرز لنا قيمة العمل في الجامعة وأن رسالتها تربوية بجانب أنها علمية وأنها منعت الانتساب دون الحضور لهذا الغرض نفسه.
وقد كان لوالدنا رحمه الله في هذه المجالات اليد الطولى والمجهود الأكبر فلم يدخر وسعاً في تعليم ولم يتوانى في توجيه سواء في دروسه أو أحاديثه أو محاضراته وسواء مع الطلاب أو المدرسين فكان كالأب الرحيم والداعية الناصح الأمين. تحمل عنه تلاميذه إلى أنحاء العالم الإسلامي حينما وصلت منح الدراسة بالجامعة الإسلامية لبلدان العالم الإسلامي فهل يمكن أن نقول ولو ادعاء أو تجوزاً إنه كان بحق في منزلة شيخ الإسلام في هذا الوقت. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وقد كان بجانب التعليم عضو مجلس الجامعة ساهم في سيرها ومناهجها كما ساهم في إنتاجها وتعليمها.
وفي سنة 86هـ افتتح معهد القضاء العالي بالرياض برآسة فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي وكانت الدراسة فيه ابتداء على نظام استقدام الأساتذة الزائرين فكان رحمه الله ممن يذهب لإلقاء المحاضرات المطلوبة في التفسير والأصول.(8/217)
امتداد نشاطه خارج المملكة: إذا كانت الجامعة الإسلامية قد فتحت للبلاد نوافذ تطل منها على العالم الإسلامي كله وجعلت لها أبناء في شتى أقطارها فإن من حق أولئك الأبناء ما يجب من رعايتهم وحق تلك الأقطار ما يلزم من تقوية أواصر الروابط. فكانت فكرة إرسال بعثات إلى الأقطار الإسلامية وخاصة إفريقيا فكان رحمه الله على رأس بعثة الجامعة إلى عشر دول إفريقية بدأت بالسودان وانتهت بموريتانيا موطن الشيخ رحمه الله. كان لهذه البعثة في تلك البلاد أعظم الأثر وأذكر في مجلس من أفاضل البلاد بموريتانيا وفي حفل تكريم للبعثة وكل إلى فضيلته رحمه الله كلمة الجواب فكان منها إن الذكريات لتتحدث وإنها لساعة عجيبة أدارت عجلة الزمان حيث نشأ الشيخ في بلادكم ثم هاجر إلى الحجاز ثم ها هو يعود إليكم على رأس وفد ورئاسة بعثة فقد نبتت غرسة علمه هنا عندكم فذهب إلى الحجاز فنمت وترعرعت فامتدت أغصانها حتى شملت بوارف ظلها بلاد الإسلام شرقاً وغرباً وها نحن في موطنه نجني ثمار غرسها ونستظل بوارف ظلها. فكانت تلك الرحلة حقاً حلقة اتصال وتجديد عهد وإحياء معالم للإسلام.
وكان له رحمه الله العديد من المحاضرات والمحادثات سجلت كلها في أشرطة لا تزال محفوظة آمل أن أوفق لنقلها وطبعها إتماماً للفائدة إن شاء الله. ونضم إليها منهجه وسلوكه مع الحكام وصغار الطلاب والعوام مما يرسم الطريق الصحيح للدعوة إلى الله على بصيرة وبالحكمة والموعظة الحسنة.
في هيئة كبار العلماء: وكما شكلت هيئت كبار العلماء بعد سماحة المفتي رحمه الله وهي أكبر هيئة علمية في البلاد كان رحمه الله أحد أعضائها. وقد ترأس إحدى دوراتها فكانت له السياسة الرشيدة والنتائج الحميدة. سمعت فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح حفظه الله وهو عضو فيها يقول: ما رأيت قبله أحسن إدارة منه مع بُعد نظر في الأمور وحسن تدبر للعواقب.(8/218)
في الرابطة: وفي رابطة العالم الإسلامي كان عضو المجلس التأسيسي لم تقل خدماته فيه عن خدماته في غيرها. أذكر له موقفاً حدثني به جنب الرابطة مأزقاً كاد أن يدخل عليها شقاقاً أو انثلاما.
حينما قدم مندوب إيران وقدم طلباً باعتراف الرابطة بالمذهب الجعفري ومعه وثيقة من بعض الجهات العلمية الإسلامية ذات الوزن الكبير تؤيده على دعواه وتجيبه إلى طلبه. فإن قبلوا طلبه دخلوا مأزقاً وإن رفضوه واجهوا حرجاً. فاقترحوا أن يولى الأمر فضيلته رحمه الله في جلسة خاصة. فأجاب في المجلس قائلاً: لقد اجتمعنا للعمل على جمع شمل المسلمين والتأليف بينهم وترابطهم أمام خطر عدوهم ونحن الآن مجتمعون مع الشيعة في أصول هي:
الإسلام دين الجميع والرسول صلى الله عليه وسلم رسول الجميع. والقرآن كتاب الله والكعبة قبلة الجميع والصلوات الخمس وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام ومجتمعون على تحريم المحرمات من قتل وشرب وزنا وسرقة ونحو ذلك. وهذا القدر كاف للاجتماع والترابط. وهناك أمور نعلم جميعاً أننا نختلف فيها وليس هذا مثار بحثها فإن رغب العضو الإيراني بحثها واتباع الحق فيها فليختر من علمائهم جماعة ونختار لهم جماعة ويبحثون ما اختلفنا فيه ويعلن الحق ويُلتزم به. أو يسحب طلبه الآن. فأقر الجميع قوله وسحب العضو طلبه.
وهكذا كان رحمه الله حكيماً في تعليمه حكيماً في دعوته حكيماً في بحثه وإقناعه. وقد ظهر ذلك كل الوضوح في مؤلفاته.
مؤلفاته رحمه الله: لا شك أن كل مؤلف يحكي شخصية مؤلفه في علمه وفي عقله بل وفي اتجاهه كما قالوا: من ألف فقد استهدف أي لأنه يعرض ما عنده على أنظار الناس. وللشيخ تآليف عديدة منها في بلاده ومنها هنا. فما كان في بلاده هو:
1
في أنساب العرب نظما ألفه قبل البلوغ يقول في أوله:
سميته بخالص الجمان
في ذكر أنساب بني عدنان(8/219)
وبعد البلوغ دفنه قال لأنه كان على نية التفوق على الأقران وقد لامه مشايخه على دفنه وقالوا كان من الممكن تحويل النية وتحسينها.
2
رجز في فروع مذهب مالك يختص بالعقود من البيوع والرهون وهو آلاف متعددة قال في أوله:
الحمد الله الذي قد ندبا
لأن نميز البيع عن لبس الربا
ومن بالمؤلفين كتباً
تترك أطواد الجهالة هبا
تكشف عن عين الفؤاد الحجبا
إذا حجاب دون علم ضربا
3
ألفية في المنطق - أولها:
حمداً لمن أظهر للعقول
حقائق المنقول والمعقول
وكشف الرين عن الأذهان
بواضح الدليل والبرهان
وفتح الأبواب للألباب
حتى استبانت ما وراء الباب
4
نظم في الفرائض أولها:
تركة الميت بعد الخامس
من خمسة محصورة عن سادس
وحصرها في الخمسة استقراء
وانبذ لحصر العقل بالعراء
أولها الحقوق بالأعيان
تعلقت كالرهن أو كالجاني
وكزكاة التمر والحبوب.
إن مات بعد زمن الوجوب
وكل هذه المؤلفات مخطوطة.
أما مؤلفاته هنا فهي:
1- منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز. وموضوعها إبطال إجراء المجاز في آيات الأسماء والصفات وإيفائها على الحقيقة. وقد زاد هذا المعنى فيما بعد في آداب البحث والمناظرة.
2- دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب أبان فيه مواضع ما يشبه التعارض في القرآن كله كما في قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} مع قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} وأن السؤال متنوع والمواقف متعددة. وقد طبع وما قبله ونفدا.
3- مذكرة الأصول: على روضة الناظر جمع في شرحها أصول الحنابلة والمالكية وبالتالي الشافعية. مقررة على كليتي الشريعة والدعوة.(8/220)
4- آداب البحث والمناظرة: أوضح فيه آداب البحث من إيراد المسائل وبيان الدليل ونحو ذلك. وهو أيضاً مقرر في الجامعة ومن جزأين.
5- أضواء البيان: لتفسير القرآن بالقرآن وهو مدرسة كاملة يتحدث عن نفسه. طبع منه ستة أجزاء كبار والسابع تحت الطبع وصل فيه رحمه الله إلى نهاية قد سمع. ولعل الله ييسر ويوفق من يعمل على إكماله ولو بقدر المستطاع. ومن عجيب الصدف أن يكون موقفه رحمه الله في التفسير على قوله تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
وهنا العديد من المحاضرات ذات المواضيع المستقلة طبعت كلها ونفذت وهي:
1-آيات الصفات: أوضح فيها تحقيق إثبات صفات الله.
2- حكمة التشريع: عالج فيها العديد من حكمة التشريع في كثير من أحكامه.
3- المثل العليا: بين فيها المثالية في العقيدة والتشريع والأخلاق.
4- المصالح المرسلة: بين فيها ضابط استعمالها بين الإفراط والتفريط.
5- حول شبهة الرقيق: رفع اللبس عن ادعاء استرقاق الإسلام للأحرار.
6- على {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} ألقاها بحضرة الملك محمد الخامس عند زيارته للمدينة. وكلها عامة نافعة جديدة.
وبالتالي فقد كان لمنهجه العلمي في أبحاثه وتدريسه وفي مؤلفاته. إحياء لعلوم درست وتصحيحاً لمفاهيم اختلفت.
فمما أحيا من العلوم علم الأصول الذي هو أصل الاستدلال والاستنباط والاجتهاد والترجيح وعمدة المجتهد وعماده وبجهله لا يحق الاجتهاد ويجب التقليد المحض كما يقولون جهلة الأصول عوام العلماء. ففتح أبوابه وسهّل صعابه وأوضح قواعده، وقرب تناوله تسهيلاً لأخذ الأحكام من مصادرها ورد الفروع إلى أصولها.
كما أحيا آداب البحث والمناظرة فوضع منهجه وألف مقرره فكان خدمة للعقيدة في أسلوب بيانها وكيفية إثباتها والدفاع عنها وطرق الإقناع بما فيه الخلاف.(8/221)
كما فتّح أبواباً جديدة وأحدث فنوناً طريفة في علوم القرآن من منع المجاز عن المنزل للتعبد والإعجاز إثباتاً لمعاني آيات الصفات على حقيقتها وسد باب تعطليها عن دلالتها إجراء للنص على حقيقته وإبقاء عليه في دلالته.
ومن دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب وبيان تصديق آي الكتاب بعضه بعضاً بدون تعارض ولا إشكال.
ومن تسليط أضواء البيان على تفسير القرآن بالقرآن رسم فيه المنهج السليم لتفسير القرآن الكريم. تفسير كلام الله بعضه ببعض وأبان أحكامه وحكمه وفتح كنوزه وأطلع نفائسه ونشر درره على طلبة العلم.
وكل ذلك فتح جديد في علوم القرآن لم تكن موجودة على هذا النسق من قبل ولم تكن تدرس بهذا المثل.
كما أنه في غضونها صحح مفاهيم مختلفة منها أن المنطق لم يكن يُعرف عنه إلا أنه تقديم العقل على النقل ومصادمة النص بالرأي وكان فعلاً وسيلة التشكيك في العقيدة باستخدام قضايا عقيمة. فهذب الشيخ رحمه الله من أبحاثه وأحسن باستخدامه فنظم قضاياه المنتجة ورتب أشكاله السليمة واستخدم قياسه في الإلزام. سواء في العقيدة أو أصول الأحكام وبعد أن كان يستخدم ضدها أصبح يعمل في خدمتها. كما وضح ذلك في آداب البحث والمناظرة.
مواقفه مع الحق: كان رحمه الله قوياً صلباً ليناً سهلاً.
كان قوياً صلباً في بيانه، ليناً سهلاً في الرجوع إلى ما ظهر إليه منه.(8/222)
في بعض الأعوام التي حججتها معه رحمه الله قدمنا مكة يوم سبع من الشهر وكان مفرداً الحج وفي يوم العيد صحبته للسلام على سماحة المفتي رحمه الله بمنى فسأله رحمه الله عن نسكه فقال جئت مفرداً الحج وقصداً فعلت فأدرك المفتي رحمه الله أن وراء ذلك شيئاً ولكن تلطف مع الشيخ وقال أهو أفضل عندك حفظك الله فأجاب أيضاً حفظكم الله لا للأفضلية فعلت ولكن سمعت وتأكد عندي أن أشخاصاً ينتمون لطلب العلم يقولون لا يصح الإفراد بالحج ويلزمون المفردين بالتحلل بعمرة. وهذا العمل لا يتناسب مع العديد من وفود بيت الله الحرام كل بما اختار من نسك وكل يعمل بمذهب صحيح وجرت محادثة من أنفس ما سمعت في تقرير هذا البحث من مناقشة الأدلة وبيان الراجح وأخيراً قال رحمه الله أنه لا يعنيني بيان الأفضل فهذا أمر مختلف فيه وكل يختار ما يترجح عنده ولكن يعنيني إبطال القول بالمنع من صحة إفراد الحج لأنه قول لم يسبق إليه والأمة مجمعة على صحته. فما كان من سماحة المفتي رحمه الله إلا أن استحسن قوله ودعا له.
ولكأني بهذا العمل من الشيخ رحمه الله الذي أراد به البيان عملياً صورة مما وقع من علي رضي الله عنه حينما بلغه عن عثمان رضي الله عنه أنه ينهى عن التمتع فدخل عليه وقال كيف تنهى عن شيء فعلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج من عنده وهو يقول: لبيك اللهم حجاً وعمرة.
أما لينه مع الحق ورجوعه إلى ما ظهر له منه ففي آخر دروسه في الحرم النبوي في رمضان الماضي في سورة براءة أعلن عن رجوعه عن القول في الأشهر الحُرم بأنها منسوخة وقال الذي يظهر أنها محكمة وليست منسوخة وكنا نقول بنسخها في دفع إيهام الاضطراب ولكن ظهر لنا بالتأمل أنها محكمة. وهو الحق الذي ينبغي اعتماده والتعويل عليه.(8/223)
ومما وقع لي معه رحمه وأكبرته فيه تواضعه وإنصافه سمعت منه في مبحث زكاة الحلي في أضواء البيان عند سرد الأدلة ومناقشتها أن من أدلة الموجبين حديث المرأة اليمنية ومعها ابنتها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب فسألها صلى الله عليه وسلم: "أتؤدين زكاة هذا" فقالت: لا. فقال: "هما حسبك من النار". فخلعتهما وألقت بهما.
وأجاب المانعون بأن ذلك كان قبل إباحة الذهب للنساء فتساءلت مستوضحاً منه رحمه الله: وماذا يسمى هذا منه صلى الله عليه وسلم سكوته عن لبسه وهو محرم وسؤاله عن زكاته فقال عجباً إن هذا يتضمن وجود اللبس عند السؤال ويدل على إباحته آنذاك لأنه صلى الله عليه وسلم لا يقر أحداً على محرم ولا يتأتى أن يسكت على لبسها إياه وهو ممنوع ويهتم لزكاته ولو أعيد طبع الكتاب لنبهت عليه رغم أن جميع المراجع لم تلتفت إليه فهو بهذا يلقن طلبة العلم درساً في موقفه من الحق ولكأني بكلام عمر رضي الله عنه في كتابه لأبي موسى رحمه الله ولا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت فيه نفسك وظهر لك الحق أن تأخذ به فالحق أحق أن يتبع. وقد رأينا من قبل للشافعي القديم والجديد. وهذا ما يقتضيه إنصاف العلماء وأمانة العلم.
هذا ما وسعني ذكره عن حياته العلمية في نشأته وتعلمه وتعليمه وعن تراثه العلمي في مؤلفاته وآثاره التربوية في أبنائه وأبناء العالم الإسلامي كله رحمه الله رحمة واسعة.
ولعل من أبنائه الحضور أو غيرهم من لديه المزيد على ذلك.
أما الناحية الشخصية: في تقويمه الشخصي لسلوكه، وأخلاقه، وآدابه، وكرمه، وعفته، وزهده وترفع نفسه وما إلى ذلك. فهذا ما يستحق أن يفرد بحديث، وإني لا أستطيع الآن تصويره ولا يسعني في هذا الوقت تفصيله. وما كان رحمه الله يحب أن يذكر عنه شيء في ذلك. ولكن على سبيل الإجمال لو أن للفضائل والمكرمات والشيم وصفات الكمال في الرجال عنوان يجمعها لكان هو أحق به.(8/224)
وإذا كان علماء الأخلاق يعنونون لأصول الأخلاق والفضائل بالمروءة فإن المروءة كانت شعاره ودثاره. وكانت هي التي تحكمه في جميع تصرفاته سواء في نفسه أو مع إخوانه وطلابه أو مع غيرهم من عرفهم أو لم يعرفهم. وقد قال فيه بعض الناس في حياته إنه لا عيب فيه سوى عيب واحد هو أننا نفقده بعد موته.
وإن تفصيل ذلك لمتروك لمن خالطه عن قرب. ولقد استعصى علي المقال في ذلك ولكأني بقول القائل:
أهابك إجلالاً وما بك سلطة
علي ولكن ملء عين حبيبها
ولكن قد تكفي الإشارة إذا لم تسعف العبارة. وأقرب شيء زهده في الدنيا وعفته عما في أيدي الناس وكرمه بما في يده: لأن هذا لا يعلم إلا لمن خالطه وليس كل من خالطه يعرف ذلك منه بل من داخله ولازمه.
والواقع أن الدنيا لم تكن تساوي عنده شيئاً فلم يكن يهتم لها. ومنذ وجوده في المملكة وصلته بالحكومة حتى فارق الدنيا لم يطلب عطاء ولا مرتباً ولا ترفيعاً لمرتبه ولا حصولاً على مكافأة أو علاوة. ولكن ما جاءه من غير سؤال أخذه وما حصل عليه لم يكن ليستبقيه بل يوزعه في حينه على المعوزين من أرامل ومنقطعين وكنت أتولى توزيعه وإرساله من الرياض إلى كل من مكة والمدينة. ومات ولم يخلف درهماً ولا ديناراً وكان مستغنياً بعفته وقناعته. بل إن حقه الخاص ليتركه تعففاً عنه كما فعل في مؤلفاته وهي فريدة فينوعها. لم يقبل التكسب بها وتركها لطلبة العلم.
وسمعته يقول: لقد جئت معي من البلاد بكنز عظيم يكفيني مدى الحياة وأخشى عليه الضياع. فقلت له وما هو قال القناعة. وكان شعاره في ذلك قول الشاعر:
الجوع يطرد بالرغيف اليابس
فعلام تكثر حسرتي ووساوسي
وكان اهتمامه بالعلم وبالعلم وحده وكل العلوم عنده آلة ووسيلة وعلم الكتاب وحده غاية وكان كثيراً ما يتمثل بأبيات الأديب محمد بن حنبل الحسن الشنقيطي رحمه الله في قوله:
لا تسوء بالعلم ظناً يا فتى(8/225)
إن سوء الظن بالعلم عطب
لا يزهدك أحد في العلم أن
غمر الجهال أرباب الأدب
إن تر العالم نضوا مرملا
صفر كف لم يساعده سبب
وترى الجاهل فد حاز الغنى
محرز المأمول من كل أرب
قد تجوع الأسد في أجامها
والذئاب الغبش تعتام القتب
جرع النفس على تحصيله
مضض المرين ذل وسغب
لا يهاب الشوك قطاف الجنى
وإبار النحل مشتار الضرب
حقاً إنه لم يسئ بالعلم ظناً ولم يهب في تحصيله شوك النخل ولا إبار النحل. فنال منه ما أراد واقتحم الحمى على عذارى المعاني وأباح حريمها جبراً عليها وما كان الحريم بمستباح.
أما مكارم أخلاقه ومراعاة شعور جلسائه فهذا فوق حد الاستطاعة فمذ صحبته لم أسمع منه مقالا لأي إنسان ولو مخطئ عليه يكون فيه جرح لشعوره وما كان يعاتب إنساناً في شيء يمكن تداركه وكان كثير التغاضي عن كثير من الأمور في حق نفسه وحينما كنت أسائله في ذلك يقول:
ليس الغبي بسيد في قومه
ولكن سيد القوم المتغابي
ولم يكن يغتاب أحداً أو يسمح بغيبة أحد في مجلسه وكثيراً ما يقول لإخوانه (اتكايسوا) أي من الكياسة والتحفظ من خطر الغيبة. ويقول إذا كان الإنسان يعلم أن كل ما يتكلم به يأتي في صحيفته فلا يأتي فيها إلا الشيء الطيب.
ومما لوحظ عليه في سنواته الأخيرة تباعده عن الفتيا وإذا اضطر يقول: لا أتحمل في ذمتي شيئاً العلماء يقولون كذا وكذا.
وسألته مرة عن ذلك: فقال إن الإنسان في عافية ما لم يُبتلى والسؤال ابتلاء لأنك تقول عن الله ولا تدري أتصيب حكم الله أم لا. فما لم يكن عليه نص قاطع من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب التحفظ فيه.
ويتمثل بقول الشاعر:
إذا ما قتلت الشيء علماً فقل به
ولا تقل الشيء الذي أنت جاهله
فمن كان يهوي أن يرى متصدراً
ويكره لا أدري أصيبت مقاتله(8/226)
وفي الجملة فقد كان رحمه الله خير قدوة وأحسنها في جميع مجالات الحياة فكان العالم العامل ولا أزكي على الله أحداً وقد خلف ولدين فاضلين أديبين يدرسان بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية جعلهما الله خير خلف لخير سلف والله أسأل أن يسكنه فسيح جنته ويوسع له في رضوان رحمته وأن يعلي منزلته ويرفع درجته مع العلماء والصديقين والشهداء وحَسُنَ أولئك رفيقا.
ونفعنا الله بعلمه وسلك بنا طريقة عمله بما يرضيه تبارك وتعالى عنا وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله علي وسلم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته …
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أي لا تستميلني.(8/227)
أبُو الحسن الأشعري
بقلم: الشيخ حماد بن محمد الأنصاري
المدرس في كلية الشريعة بالجامعة
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: لما كان أكثر الناس في الأقطار الإسلامية ينتسب عقيدة إلى أبي الحسن الأشعري، ومع ذلك لا يعرف شيئاً عن أبي الحسن الأشعري، ولا عن عقيدته التي استقر عليها أمره أخيراً واستحق بها أن يكون من الأئمة المقتدى بهم، أحببنا أن نفيد أولئك عن حقائق هذا الإمام المجهول عند كثير ممن ينتسب إليه وينتحل عقيدته، حسب ما تتبعنا من المراجع المعتبرة.
وقبل كل شيء نتحف القارئ بنبذة قليلة من ترجمة الأشعري فأقول وبالله أستعين:
التعريف بالإمام:
هو علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، ولد سنة ستين ومائتين من الهجرة النبوية، ترجمه أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي في كتابه (تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي موسى الأشعري) والخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) وابن خلكان في وفيات الأعيان والذهبي في (تاريخ الإسلام) وابن كثير في (البداية والنهاية) و (طبقات الشافعية) والتاج السبكي في (طبقات الشافعية الكبرى) وابن فرحون المالكي في (الديباج المذهب في أعيان أهل المذهب) ومرتضى الزبيدي في (إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين) وابن العماد الحنبلي في (شذرات الذهب في أعيان من ذهب) وغيرهم.(8/228)
دخل هذا الإمام بغداد وأخذ الحديث عن الحافظ زكريا بن يحيى الساجي أحد أئمة الحديث والفقه [1] وعن أبي خليفة الجمحي وسهل بن سرح ومحمد بن يعقوب المقري وعبد الرحمن بن خلف البصريين، وروى عنهم كثيراً في تفسيره (المختزن) وأخذ علم الكلام عن شيخه زوج أمه أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة.
ولما تبحر في كلام الاعتزال وبلغ فيه الغاية كان يورد الأسئلة على أستاذه في الدرس ولا يجد فيها جواباً شافياً فتحير في ذلك.
فحكي عنه أنه قال: وقع في صدري في بعض الليالي شيء مما كنت فيه من العقائد فقمت وصليت ركعتين وسألت الله تعالى أن يهديني الطريق المستقيم ونمت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فشكوت إليه بعض ما بي من الأمر، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "عليك بسنتي "فانتبهت!! وعارضت مسائل الكلام بما وجدت في القرآن والأخبار، فأثبته ونبذت ما سواه ورائي ظهرياً.
قال أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت المعروف بالخطيب البغدادي المتوفى سنة 463هـ في الجزء الحادي عشر من تاريخه المشهور صفحة 346: "أبو الحسن الأشعري المتكلم صاحب الكتب والتصانيف في الرد على الملحدة وغيرهم من المعتزلة والرافضة، والجهمية، والخوارج وسائر أصناف المبتدعة.
إلى أن قال: وكانت المعتزلة قد رفعوا رؤوسهم حتى أظهر الله تعالى الأشعري فحجزهم في أقماع السمسم".
قال ابن فرحون في الديباج: "أثنى على أبي الحسن الأشعري أبو محمد بن أبي زيد القيرواني وغيره من أئمة المسلمين"اه.
وقال ابن العماد الحنبلي في الشذرات الجزء الثاني صفحة 303:(8/229)
ومما بيض به أبو الحسن الأشعري وجوه أهل السنة النبوية وسود به رايات أهل الاعتزال والجهمية، فأبان به وجه الحق الأبلج، ولصدور أهل الإيمان والعرفان أثلج، مناظرته مع شيخه الجبائي التي بها قصم ظهر كل مبتدع مراء وهي أعني المناظرة كما قال ابن خلكان: "سأل أبو الحسن الأشعري أستاذه أبا علي الجبائي عن ثلاثة إخوة، كان أحدهم مؤمناً براً تقياً والثاني كان كافراً فاسقاً شقياً، والثالث كان صغيراً، فماتوا فكيف حالهم؟ فقال الجبائي: أما الزاهد ففي الدرجات، وأما الكافر ففي الدركات، وأما الصغير فمن أهل السلامة، فقال الأشعري: إن أراد الصغير أن يذهب إلى درجات الزاهد هل يؤذن له؟
فقال الجبائي: لا !! لأنه يقال له: أخوك إنما وصل إلى هذه الدرجات بطاعته الكثيرة وليس لك تلك الطاعات، فقال الأشعري فإن قال: ذلك التقصير ليس مني، فإنك ما أبقيتني ولا أقدرتني على الطاعة، فقال الجبائي: يقول البارئ جل وعلا: كنت أعلم لو بقيت لعصيت وصرت مستحقاً للعذاب الأليم فراعيت مصلحتك، فقال الأشعري: فلو قال الأخ الأكبر يا إله العالمين كما علمت حاله فقد علمت حالي، فلمَ راعيت مصلحته دوني فانقطع الجبائي"!!
وقال ابن العماد "وفي هذه المناظرة دلالة على أن الله تعالى خص من شاء برحمته واختص آخر بعذابه"اه.
وقال تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: "أبو الحسن الأشعري كبير أهل السنة بعد الإمام أحمد بن حنبل وعقيدته وعقيدة الإمام أحمد رحمه الله واحدة لا شك في ذلك ولا ارتياب وبه صرح الأشعري في تصانيفه وذكره غير ما مرة من أن عقيدتي هي عقيدة الإمام المبجل أحمد بن حنبل، هذه عبارة الشيخ أبي الحسن في غير موضع من كلامه"اه.
وفضائل أبي الحسن الأشعري ومناقبه أكثر من أن يمكن حصرها في هذه العجالة، ومن وقف على تواليفه بعد توبته من الاعتزال رأى أن الله تعالى قد أمده بمواد توفيقه، وأقامه لنصرة الحق والذب عن طريقه.(8/230)
وقد تنازع فيه أهل المذاهب، فالمالكي يدعي أنه مالكي، والشافعي يزعم أنه شافعي، والحنفي كذلك. قال ابن عساكر: لقيت الشيخ الفاضل رافعاً الحمال الفقيه، فذكر لي عن شيوخه أن أبا الحسن الأشعري كان مالكياً فنسب من تعلق اليوم بمذهب أهل السنة وتفقه في معرفة أصول الدين من سائر المذاهب إلى الأشعري لكثرة تواليفه وكثرة قراءة الناس لها.
قال ابن فورك: توفي أبو الحسن الأشعري سنة 324هـ. اه.
وبعد ذكر هذه النتفة من ترجمة هذا الإمام نذكر فيما يلي إثبات رجوعه عن الاعتزال وإثبات نسبة (الإبانة) إليه ننقل ذلك من المراجع الموثوق بها، فنقول وبالله التوفيق.
رجوع أبي الحسن الأشعري عن الاعتزال إلى عقيدة السلف:
قال الحافظ مؤرخ الشام أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي المتوفى سنة 571هـ في كتابه (التبيين) :
قال أبو بكر إسماعيل بن أبي محمد بن إسحاق الأزدي القيرواني المعروف بابن عزرة: إن أبا الحسن الأشعري كان معتزلياً وأنه أقام على مذهب الاعتزال أربعين سنة، وكان لهم إماماً ثم غاب عن الناس في بيته خمسة عشر يوماً، فبعد ذلك خرج إلى الجامع بالبصرة فصعد المنبر بعد صلاة الجمعة، وقال: معاشر الناس إني إنما تغيبت عنكم في هذه المدة لأني نظرت فتكافأت عندي الأدلة ولم يترجح عندي حق على باطل ولا باطل على حق، فاستهديت الله تبارك وتعالى فهداني إلى ما أودعته في كتبي هذه، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقده، كما انخلعت من ثوبي هذا، وانخلع من ثوب كان عليه ورمى به ودفع الكتب إلى الناس، فمنها كتاب اللمع وغيره من تواليفه الآتي ذكر بعضها قريباً إن شاء الله: فلما قرأ تلك الكتب أهل الحديث والفقه من أهل السنة والجماعة أخذوا بما فيها وانتحلوه واعتقدوا تقدمه واتخذوه إماما حتى نسب مذهبهم إليه فصار عند المعتزلة ككتابيٍ أسلم وأظهر عوار ما تركه فهو أعدى الخلق إلى أهل الذمة.(8/231)
وكذلك أبو الحسن الأشعري أعدى الخلق إلى المعتزلة، فهم يشنعون عليه وينسبون إليه الأباطيل وليس طول مقام أبي الحسن الأشعري على مذهب المعتزلة، مما يفضي به إلى انحطاط المنزلة، بل يقضي له في معرفة الأصول بعلو المرتبة ويدل عند ذوي البصائر له على سمو المنقبة، لأن من رجع عن مذهب كان بعواره أخبر وعلى رد شبه أهله وكشف تمويهاتهم أقدر، وبتبيين ما يلبسون به لمن يهتدي باستبصاره أبصر، فاستراحة من يعيره بذلك كاستراحة مناظر هارون بن موسى الأعور.
وقصته أن هارون الأعور كان يهودياً فأسلم وحسن إسلامه وحفظ القرآن وضبطه وحفظ النحو، وناظره إنسان يوماً في مسألة فغلبه هارون فلم يدر المغلوب ما يصنع فقال له: أنت كنت يهودياً فأسلمت فقال له هارون فبئس ما صنعت فغلبه هارون في هذا. واتفق أصحاب الحديث أن أبا الحسن الأشعري كان إماماً من أئمة أصحاب الحديث، ومذهبه مذهب أصحاب الحديث، تكلم في أصول الديانات على طريقة أهل السنة ورد على المخالفين من أهل الزيغ والبدعة، وكان على المعتزلة والروافض والمبتدعين من أهل القبلة والخارجين عن الملة - سيفاً مسلولاً ومن طعن فيه أو سبه فقد بسط لسان السوء في جميع أهل السنة، ولم يكن أبو الحسن الأشعري أول متكلم بلسان أهل السنة وإنما جرى على سنن غيره وعلى نصرة مذهب معروف، فزاده حجة وبياناً، ولم يبتدع مقالة اخترعها ولا مذهباً انفرد به وليس له في المذهب أكثر من بسطه وشرحه كغيره من الأئمة.
وقال أبو بكر بن فورك: رجع أبو الحسن الأشعري عن الاعتزال إلى مذهب أهل السنة سنة 300هـ.
وممن قال من العلماء برجوع الأشعري عن الاعتزال أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان الشافعي المتوفى سنة 681هـ قال في (وفيات الأعيان) الجزء الثاني صفحة 446: كان أبو الحسن الأشعري معتزلياً ثم تاب.(8/232)
ومنهم عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الشافعي المتوفى سنة 774هـ.
قال في البداية والنهاية الجزء الحادي عشر صفحة 187:"إن الأشعري كان معتزلياً فتاب منه بالبصرة فوق المنبر ثم أظهر فضائح المعتزلة وقبائحهم ".
ومنهم شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الدمشقي الشافعي الشهير بالذهبي المتوفى سنة 748 قال في كتابه (العلو للعلي الغفار) :
"كان أبو الحسن أولاً معتزلياً أخذ عن أبي علي الجبائي ثم نابذه ورد عليه وصار متكلماً للسنة، ووافق أئمة الحديث، فلو انتهى أصحابنا المتكلمون إلى مقالة أبي الحسن ولزموها - لأحسنوا ولكنهم خاضوا كخوض حكماء الأوائل في الأشياء ومشوا خلف المنطق فلا قوة إلا بالله".
وممن قال برجوعه تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي الشافعي المتوفى سنة 771هـ قال في طبقات الشافعية الكبرى، الجزء الثاني صفحة 246: أقام أبو الحسن على الاعتزال أربعين سنة حتى صار للمعتزلة إماماً فلما أراده الله لنصرة دينه وشرح صدره لاتباع الحق غاب عن الناس في بيته، وذكر كلام ابن عساكر المتقدم بحروفه.
ومنهم برهان الدين إبراهيم بن علي بن محمد بن فرحون اليعمري المدني المالكي المتوفى سنة 799هـ قال في كتابه (الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب) صفحة 193: كان أبو الحسن الأشعري في ابتداء أمره معتزلياً، ثم رجع إلى هذا المذهب الحق، ومذهب أهل السنة فكثر التعجب منه وسئل عن ذلك فأخبر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان فأمره بالرجوع إلى الحق ونصره، فكان ذلك والحمد لله تعالى.(8/233)
ومنهم السيد محمد بن محمد الحسيني الزبيدي الشهير بمرتضى الحنفي المتوفى سنة 1145هـ قال في كتابه (إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين) الجزء الثاني صفحة 3. قال: أبو الحسن الأشعري أخذ علم الكلام عن الشيخ أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة. ثن فارقه لمنام رآه، ورجع عن الاعتزال، وأظهر ذلك إظهاراً. فصعد منبر البصرة يوم الجمعة ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني، أنا فلان بن فلان كنت أقول بخلق القرآن، وإن الله لا يرى بالدار الآخرة بالأبصار وإن العباد يخلقون أفعالهم.
وها أنا تائب من الاعتزال معتقداً الرد على المعتزلة، ثم شرع في الرد عليهم والتصنيف على خلافهم.
ثم قال: قال ابن كثير: ذكروا للشيخ أبي الحسن الأشعري ثلاثة أحوال:
أولها حال الانعزال التي رجع عنها لا محالة.
والحال الثاني إثبات الصفات العقلية السبعة، وهي الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام. وتأويل الخبرية كالوجه واليدين والقدم والساق ونحو ذلك [2] .
والحال الثالث إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جرياً على منوال السلف وهي طريقته في الإبانة التي صنفها آخراً.
وبهذه النقول عن هؤلاء الأعلام ثبت ثبوتاً لا شك فيه ولا مرية أن أبا الحسن الأشعري استقر أمره أخيراً بعد أن كان معتزلياً على عقيدة السلف التي جاء بها القرآن الكريم وسنة النبي عليه أزكى الصلاة وأتم التسليم.
كتاب الإبانة:
وبعد إتمام هذا الحديث حول رجوعه عن الاعتزال نقرأ بحثا ثانيا في صحة نسبة (الإبانة في أصول الديانة) إليه رداً على بعض الأغمار الذين زعموا أنها مدسوسة عليه - وهذا هو بيت القصيد فنقول: وبالله نستعين.(8/234)
قال الحافظ بن عساكر في كتابه (تبيين كذب المفتري) ذكر ابن حزم الظاهري أن لأبي الحسن الأشعري خمسة وخمسين تصنيفاً، ثم قال: ترك ابن حزم من عدد مصنفاته أكثر من مقدار النصف، وبعد ذلك سردها فقال:
منها كتاب اللمع، وكتاب أظهر فيه عوار المعتزلة سمّاه بكتاب (كشف الأسرار وهتك الأسرار) .
ومنها تفسيره المختزن، وهو خمسمائة مجلد [3]- على ما يزعم - لم يترك فيه آية تعلق بها بدعي إلا أبطل تعلقه بها، وجعلها حجة لأهل الحق، وبيّن المجمل وشرح المشكل ونقض فيه ما حرفه الجبائي والبلخي في تفسيريهما.
ومنها الفصول في الرد على الملحدين والخارجين على الملة كالفلاسفة والطبائعيين والدهريين وأهل التشبيه.
ومنها مقالات المسلمين [4] استوعب فيه جميع اختلافهم ومقالاتهم وذكرها الحافظ بن عساكر بأسمائها وموضوعاتها في كتابه التبيين من صفحة 128 إلى صفحة 136، وقد اطلعت أنا الجامع لهذه الرسالة على ثلاثة من الكتب المذكورة وهي مطبوعة: اللمع، والإبانة، والمقالات الإسلامية.
وقال ابن عساكر في صفحة 28 من التبيين، وتصانيف أبي الحسن الأشعري بين أهل العلم مشهورة معروفة، وبالإجادة والإصابة للتحقيق عند المحققين موصوفة، ومن وقف على كتابه المسمى بالإبانة، عرف موضعه من العلم والديانة.
ثم قال في صفحة 152: فإذا كان أبو الحسن كما ذكر عنه من حسن الاعتقاد، مستصوب المذهب عند أهل المعرفة بالعلم والانتقاد يوافقه في أكثر ما يذهب إليه أكابر العباد، ولا يقدح في معتقده غير أهل الجهل والعناد، فلا بدّ أن نحكي عنه معتقده على وجهه بالأمانة، ونتجنب أن نزيد فيه أو ننقص منه تركاً للخيانة، لتعلم حقيقة حاله في صحة عقيدته في أصول الديانة، فاسمع ما ذكره في أول كتابه الذي سمّاه بالإبانة وذكر ما يأتي في آخر الرسالة إن شاء الله تعالى:
ثم قال في صفحة 171 في جملة أبيات نسبها لبعض المعاصرين له:
غير الإبانة واللمع(8/235)
لو لم يصنف عمره
تفنن في العلوم بما جمع
لكفى فكيف وقد
ين مما قد صنع
مجموعة تربى على المئتـ
أخذاً بأحسن ما استمع
لم يأل في تصنيفها
ين ومن تصفحها انتفع
فهدى بها المسترشد
فوق المنابر في الجمع
تتلى معاني كتبه
أهل الكنائس والبيع
ويخاف من إفحامه
ترك المحجة وابتدع
فهو الشجا في حلق من
وممن عزا الإبانة إلى أبي الحسن الأشعري، الحافظ الكبير أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي الشافعي المتوفي سنة 458 قال في كتابه (الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد) في باب القول في القرآن صفحة 31، ذكر الشافعي رحمه الله ما دل على أن ما نتلوه من القرآن بألسنتنا ونسمعه بآذاننا، ونكتبه في مصالحنا يسمى كلام الله عز وجل، وأن الله عز وجل كلم به عباده بأن أرسل به رسوله صلى الله عليه وسلم، وبمعناه ذكره أيضاً علي بن إسماعيل في كتاب الإبانة.
وقال في صفحة 32 من الكتاب المذكور آنفاً: قال أبو الحسن علي بن إسماعيل في كتابه، يعني الإبانة:
"فإن قال قائل: تقولون أن كلام الله عز وجل في اللوح المحفوظ، قيل له نقول ذلك، لأن الله قال {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} فالقرآن في اللوح المحفوظ وهو في صدور الذين أوتوا العلم، وهو متلو بالألسنة قال تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} والقرآن مكتوب في مصاحفنا في الحقيقة محفوظ في صدورنا في الحقيقة متلو بألسنتنا في الحقيقة مسموع لنا في الحقيقة كما قال تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} ثم قال في صفحة 26 بعد سرد الأدلة على أن القرآن كلام الله غير مخلوق:
وقد احتج علي بن إسماعيل الأشعري رحمه الله بهذه الفصول", اه من نسخة مخطوطة يرجع تاريخ خطها إلى سنة 1086هـ [5] .(8/236)
وممن ذكر الإبانة وعزاها لأبي الحسن الأشعري الحافظ المعروف بالذهبي، قال في كتابه (العلو للعلي الغفار) صفحة 278: قال الأشعري في كتاب (الإبانة في أصول الديانة) له في باب الاستواء.
فإن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟
قيل نقول إن الله مستوٍ على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} إلى آخر ما في الإبانة.
ثم قال: وكتاب الإبانة من أشهر تصانيف أبي الحسن الأشعري شهره الحافظ ابن عساكر واعتمد عليه ونسخه بخطه الإمام محيي الدين النووي.
وذكر الذهبي عن الحافظ أبي العباس أحمد بن ثابت الطرقي أنه قال: قرأت في كتاب أبي الحسن الأشعري الموسوم بالإبانة أدلة على إثبات الاستواء. ونقل عن أبي علي الدقاق أنه سمع زاهر بن أحمد الفقيه يقول: مات الأشعري رحمه الله ورأسه في حجري فكان يقول شيئاً في حال نزعه. لعن الله المعتزلة موهوا ومخرقوا. اه كلام الذهبي.
وممن نسبها إلى أبي الحسن الأشعري ابن فرحون المالكي قال في كتابه الديباج صفحة 193: إلى ص194 ولأبي الحسن الأشعري كتب منها كتاب اللمع الكبير، وكتاب اللمع الصغير، وكتاب الإبانة في أصول الديانة. اه.
وممن عزاها لأبي الحسن الأشعري أبو الفلاح عبد الحي ابن العماد الحنبلي المتوفى سنة 1089هـ.
قال في الجزء الثاني من كتابه، (شذرات الذهب في أعيان من ذهب) صفحة 303، قال أبو الحسن الأشعري في كتابه (الإبانة في أصول الديانة) وهو آخر كتاب صنفه. وعليه يعتمد أصحابه في الذب عنه عند من يطعن عليه، ثم ذكر فصلاً كاملاً من الإبانة.
وممن عزاها لأبي الحسن الأشعري السيد مرتضى الزبيدي.(8/237)
قال في (إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين) في الجزء الثاني صفحة 2، قال: صنف أبو الحسن الأشعري بعد رجوعه من الاعتزال (الموجز) وهو في ثلاث مجلدات، كتاب مفيد في الرد على الجهمية والمعتزلة، ومقالات الإسلاميين، وكتاب الإبانة.
وقد تقدمت الحكاية عن ابن كثير أن الإبانة هي آخر كتاب صنفه أبو الحسن الأشعري.
وممن ذكر أن الإبانة تأليف أبي الحسن الأشعري أبو القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس الشافعي [6] قال في رسالته (الذب عن أبي الحسن الأشعري) : اعلموا معشر الإخوان أن كتاب الإبانة عن أصول الديانة، الذي ألفه الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري هو الذي استقر عليه أمره فيما كان يعتقده وبه كان يدين الله سبحانه وتعالى بعد رجوعه من الاعتزال بمن الله ولطفه، وكل مقالة تنسب إليه الآن مما يخالف ما فيه فقد رجع عنها وتبرأ إلى الله سبحانه منها وكيف وقد نص فيه على أنه ديانته التي يدين الله سبحانه بها.
وروى وأثبت أنه ديانة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث الماضين وقول أحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين.(8/238)
وأن ما فيه هو الذي يدل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهل يسوغ أن يقال: إنه رجع عن هذا إلى غيره فإلى ماذا يرجع أتراه يرجع عن كتاب الله وسنة نبي الله خلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون وأئمة الحديث المرضيون وقد علم أنه مذهبهم، ورواه عنهم؟؟ !! هذا لعمري ما لا يليق نسبته إلى عوام المسلمين وكيف بأئمة الدين، أو هل يقال: إنه جهل الأمر فيما نقله عن السلف الماضين مع إفنائه جل عمره في استقراء المذاهب وتعرف الديانات، هذا مما لا يتوهمه منصف، ولا يزعمه إلا مكابر مسرف، وقد ذكر الإبانة واعتمد عليها وأثبتها عن الإمام أبي الحسن الأشعري وأثنى عليه بما ذكره فيها وبرأه من كل بدعة نسبة إليه، ونقل منها إلى تصنيفه جماعة من الأئمة الأعلام من فقهاء الإسلام وأئمة القراء وحفاظ الحديث وغيرهم.
وذكر ابن درباس طائفة من الذين قدمنا ذكرهم وزاد الحافظ أبا العباس أحمد بن ثابت العراقي، وذكر عنه أنه قال في بيان مسألة الاستواء من تأليفه: رأيت هؤلاء الجهمية ينتمون في نفي علو الله على العرش وتأويل الاستواء إلى أبي الحسن الأشعري، وما هذا بأول باطل ادعوه وكذب تعاطوه، فقد قرأت في كتابه الموسوم بالإبانة عن أصول الديانة أدلة من جملة ما ذكرته على إثبات الاستواء، ومنهم الإمام الأستاذ الحافظ أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد الصابوني ذكر عنه أنه ما كان يخرج إلى مجلس درسه إلا بيده كتاب الإبانة لأبي الحسن الأشعري ويظهر الإعجاب به، ويقول ما الذي ينكر علي من هذا الكتاب شرح مذهبه (هذا قول الإمام أبي عثمان وهو من أعيان أهل الأثر بخراسان) .(8/239)
ومنهم إمام القراء أبو الحسن بن علي بن إبراهيم الفارسي ذكر الإمام أبا الحسن الأشعري رحمة الله عليه، فقال: وله كتاب في السنة سمّاه كتاب الإبانة صنفه ببغداد لما دخلها، وذكر ابن درباس أنه وجد كتاب الإبانة في كتب أبي الفتح نصر المقدسي رحمه الله ببيت المقدس وقال: رأيت في بعض تآليفه في الأصول فصولاً منها بخطه.
ومنهم الفقيه أبو المعالي مجلي صاحب كتاب الذخائر في الفقه، قال ابن درباس أنبأني غير واحد عن الحافظ أبي محمد المبارك ابن علي البغدادي ونقلته أنا من خطه في آخر كتاب الإبانة قال نقلت هذا الكتاب جميعه من نسخة كانت مع الشيخ الفقيه المجلي الشافعي أخرجها في مجلدة فنقلتها وعارضت بها وكان رحمه الله يعتمد عليها وعلى ما ذكره فيها ويقول لله من صنفه ويناظر على ذلك من ينكره وذكر ذلك لي وشافهني به قال: هذا مذهبي وإليه أذهب نقلت هذا في سنة 540هـ بمكة وهذا آخر ما نقلت من خط ابن الطباخ. وذكر فيمن عزاها إلى أبي الحسن أبا محمد بن علي البغدادي نزيل مكة قال ابن درباس شاهدت نسخة من كتاب الإبانة بخطه من أوله إلى آخره، وهي بيد شيخنا الإمام رئيس العلماء الفقيه الحافظ العلامة أبي الحسن بن المفضل المقدسي ونسخت منها نسخة، وقابلتها عليها بعد أن كنت كتبت نسخة أخرى مما وجدته في كتاب الإمام نصر المقدسي ببيت المقدس ولقد عرضها بعض أصحابنا على عظيم من عظماء الجهمية المنتمين افتراء إلى أبي الحسن الأشعري ببيت المقدس فأنكرها وجحدها وقال ما سمعنا بها قط ولا هي من تصنيفه واجتهد آخراً في أعمال رويته ليزيل الشبهة بفطنته فقال بعد تحريك لحيته لعله ألفها لما كان حشوياً، قال ابن درباس فما دريت من أين أمريه أعجب أمن جهله بالكتاب مع شهرته وكثرة من ذكره في تصانيفه من العلماء أو من جهله بحال شيخه الذي يفتري عليه بانتمائه إليه، واشتهاره قبل توبته من الاعتزال بين الأمة عالمها وجاهلها، فإذا كانوا بحال من ينتمون إليه بهذه(8/240)
المثابة فكيف يكونون بحال السلف الماضين وأئمة الدين من الصحابة والتابعين وأعلام الفقهاء والمحدثين وهم لا يلون على كتبهم ولا ينظرون في آثارهم وهم والله بذلك أجهل وأجهل كيف لا وقد قنع بعض من ينتمي منهم إلى أبي الحسن الأشعري بمجرد دعواه وهو في الحقيقة مخالف لمقالة أبي الحسن التي رجع إليها واعتمد في تدينه عليها قد ذهب صاحب التأليف إلى المقالة الأولى، وكان خلاف ذلك أحرى به وأولى لتستمر القاعدة وتصير الكلمة واحدة اه كلام ابن درباس رحمه الله.
وممن ذكر الإبانة ونسبها إلى أبي الحسن الأشعري تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الشهير بابن تيمية المتوفى سنة 728هـ قال في الفتوى الحموية الكبرى صفحة 70: قال أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه الإبانة قي أصول الديانة وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتاب صنفه وعليه يعتمدون في الذب عنه عند من يطعن عليه فقال: فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة وذكر ما في كتاب الإبانة بحروفه وسيأتي ذكره إن شاء الله قريباً.
وممن عزاها إلى أبي الحسن الأشعري شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي المعروف بابن قيم الجوزية الحنبلي الدمشقي المتوفي سنة 751هـ قال في كتابه اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية الطبعة الهندية صفحة 111 قال شيخ الإسلام ابن تيمية ولما رجع الأشعري عن مذهب المعتزلة سلك طريق أهل السنة والحديث وانتسب إلى الإمام أحمد بن حنبل كما قد ذكر ذلك في كتبه كلها كالإبانة والموجز والمقالات وغيرها. ثم قال ابن القيم: وأبو الحسن الأشعري وأئمة أصحابه كالحسن الطبري وأبي عبد الله بن المجاهد والقاضي أبي بكر الباقلاني متفقون على إثبات الصفات الخبرية التي ذكرت في القرآن كالاستواء والوجه واليدين وعلى إبطال تأويلها وليس للأشعري في ذلك قولان أصلاً، ولم يذكر أحد عن الأشعري في ذلك قولين ولكن لاتباعه قولان في ذلك.(8/241)
ولأبي المعالي الجويني في تأويلها قولان: أولها في الإرشاد ورجع عن تأويلها في رسالته النظامية [7] وحرمه، ونقل إجماع السلف على تحريمه وأنه ليس بواجب ولا جائز، ثم ذكر ابن القيم قول أبي الحسن الأشعري إمام الطائفة الأشعرية، ثم قال: نذكر كلامه فيما وقفنا عليه من كتبه كالموجز والإبانة والمقالات.
وقال ابن القيم في قصيدته النونية التي سماها الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية الطبعة المصرية صفحة 68:
بحقيقة استولى من البهتان
والأشعري قال: تفسير استوى
اع لجهم وهو ذو بطلان
هو قول أهل الاعتزال وقول اتب
وإبانة ومقالة ببيان
في كتبه قد قال ذا من موجز
وقال في صفحة 69 من الكتاب المذكور آنفاً:
وكتاب الاستذكار غير جبان
وحكى ابن عبد البر في تمهيده
ق العرش بالإيضاح والبرهان
إجماع أهل العلم أن الله فو
لكنه مرض على العميان
وأتى هناك بما شفى أهل الهدى
في كتبه قد جاء بالتبيان
وكذا علي الأشعري فإنه
ورسائل للثغر ذات بيان
من موجز وإبانة ومقالة
ق العرش بالإيضاح والبرهان
وأتى بتقرير استواء الرب فو
ير فانظر كتبه بعيان
وأتى بتقرير العلو بأحسن التقر
قلت: هذه نقول الأئمة الأعلام التي تضمنت بالصراحة التي لا يتناطح عليها عنزان ولا يمتري فيها اثنان: إن كتاب الإبانة ليس مدسوساً على أبي الحسن الأشعري كما زعمه بعض الأغمار من المقلدة بل هو من تواليفه التي ألفها أخيراً واستقر أمره على ما فيها من عقيدة السلف التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية.(8/242)
وبعد هذا رغبت أن أتحف القارئ بقطعة من عقيدة هذا الإمام التي رجع إليها وذكرها في إبانته، أذكرها بفصها ونصها ليظهر كل منصف قرأها بفهم أن أبا الحسن الأشعري تاب من التعطيل والتأويل كما أنه ليس بممثل بل هو مثبت ومعتقد كل ما أخبر الله به عن نفسه في كتابه أو أخبر به عنه نبيه عليه الصلاة والسلام من غير تعطيل ولا تأويل ولا تمثيل.
فأقول قال أبو الحسن الأشعري في إبانته (باب في إبانة قول أهل الحق والسنة) :
فإن قال لنا قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون.
قيل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب ربنا عز وجل وسنة نبينا عليه السلام، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون، ولما خالف قوله مخالفون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق ورفع به الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وجليل معظم مفخم.
وجملة قولنا أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما جاءوا به من عند الله وما رواه الثقاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرد من ذلك شيئاً.
وأن الله عز وجل إله واحد لا إله إلا هو فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا.
وأن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها.
وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله مستو على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} .
وأن له وجهاً كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} .(8/243)
وأن له يدين بلا كيف كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} .
وأن له عينين بلا كيف كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} .
وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالاً.
وأن لله علماً كما قال: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} وكما قال: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} .
ونثبت لله السمع والبصر ولا ننفي ذلك كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج.
ونثبت أن لله قوة كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} ونقول أن كلام الله غير مخلوق وأنه لم يخلق شيئاً إلا وقد قال له كن كما قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
وأنه لا يكون في الأرض شيء من خير وشر إلا ما شاء الله.
وأن الأشياء تكون بمشيئة الله عز وجل وأن أحداً لا يستطيع أن يفعل شيئاً قبل أن يفعله ولا يستغني عن الله ولا يقدر على الخروج عن علم الله عز وجل، وأنه لا خالق إلا الله، وأن أعمال العبد مخلوقة لله مقدرة كما قال: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وهم يُخلقون كما قال: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّه} وكما قال: {لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وكما قال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُق} وكما قال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} وهذا في كتاب الله كثير، وأن الله وفق المؤمنين لطاعته ولطف بهم ونظر لهم وأصلحهم وهداهم وأضل الكافرين ولم يهدهم ولم يلطف بهم بالآيات، كزعم أهل الزيغ والطغيان ولو لطف بهم وأصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين.
وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وخذلهم وطبع على قلوبهم.(8/244)
وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره، وإنا نؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشره، حلوه ومره ونعلم أن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا.
وأن العباد لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً إلا بالله كما قال عز وجل.
ونلجأ في أمورنا إلى الله ونثبت الحاجة والفقر في كل وقت إليه.
ونقول إن كلام الله غير مخلوق، وأن من قال بخلق القرآن فهو كافر.
وندين بأن الله تعالى يرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونقول: إن الكافرين محجوبون عنه إذا رآه المؤمنون في الجنة كما قال عز وجل: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} .
وأن موسى عليه السلام سأل الله عز وجل الرؤية في الدنيا، وأن الله سبحانه تجلى للجبل فجعله دكا فأعلم بذلك موسى أنه لا يراه في الدنيا.
وندين بأن لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنا والسرقة وشرب الخمور كما دانت بذلك الخوارج وزعمت أنهم كافرون.
ونقول إن كل من عمل كبيرة من هذه الكبائر مثل الزنا والسرقة وما أشبههما مستحلاً لها غير معتقد لتحريمهما كان كافراً.
ونقول إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلام إيماناً.
وندين الله عز وجل بأنه يقلب القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل.
وأنه عز وجل يضع السموات على إصبع والأرضين على إصبع كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة.
وندين بأن لا ننزل أحداً من أهل التوحيد والممسكين بالإيمان جنة ولا ناراً إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة.
ونرجو الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين.(8/245)
ونقول إن الله عز وجل يخرج قوماً من النار بعد أن امتحشوا بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تصديقاً لما جاءت به الروايات عن الرسول صلوات الله عليه وسلم.
ونؤمن بعذاب القبر، وبالحوض.
وأن الميزان حق، والصراط حق، والبعث بعد الموت حق، وأن الله عز وجل يوقف العباد في الموقف ويحاسب المؤمنين.
وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقاة عدل عن عدل حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وندين بحب السلف الذين اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه عليه السلام ونثني عليهم بما أثنى الله به عليهم ونتولاهم أجمعين.
ونقول إن الإمام الفضل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضوان الله عليه.
وإن الله أعز به الدين وأظهره على المرتدين وقدمه المسلمون بالإمامة كما قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسموه جميعهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ثم عثمان بن عفان رضي الله عنه وإن الذين قاتلوه، قاتلوه ظلماً وعدواناً.
ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافتهم خلافة النبوة.
ونشهد بالجنة للعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، ونتولى سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ونكف عمّا شجر بينهم.
وندين الله بأن الأئمة الأربعة خلفاء راشدون مهديون فضلاء لا يوازيهم في الفضل غيرهم.(8/246)
ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا، وأن الرب عز وجل يقول هل من سائل، هل من مستغفر، وبسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافا لما قال أهل الزيغ والتضليل، ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب ربنا وسنة نبينا وإجماع المسلمين وما كان في معناه، ولا نبتدع في دين الله ما لم يأذن لنا به، ولا نقول على الله ما لا نعلم.
ونقول إن الله عز وجل يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} .
وإن الله عز وجل يقرب من عباده كيف شاء كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وكما قال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} .
ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد وسائر الصلوات والجماعات خلف كل بر وغيره. كما روي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يصلي خلف الحجاج.
وإن المسح على الخفين سنة في الحضر والسفر خلافاً لمن أنكر ذلك. ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة.
وندين بإنكار الخروج بالسيف وترك القتال في الفتنة ونقر بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونؤمن بعذاب القبر ونكير ومنكر ومسائلتهما المدفونين بقبورهم. ونصدق بحديث المعراج.
ونصحح كثيراً من الرؤيا في المنام ونقر أن لذلك تفسيراً.
ونرى الصدقة عن موتى المسلمين والدعاء لهم: ونؤمن أن الله ينفعهم بذلك، ونصدق بأن في الدنيا سحرة وسحراً، وأن السحر كائن موجود في الدنيا.
وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة برهم وفاجرهم وتوارثهم.(8/247)
ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن من مات وقتل فبأجله مات وقتل، وأن الأرزاق من قبل الله يرزقها عباده حلالاً وحراماً وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويسلكه ويتخبطه خلافاً لقول المعتزلة والجهمية كما قال الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} وكما قال: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} .
ونقول: "إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله عز وجل بآيات يظهرها عليهم. وقولنا في أطفال المشركين أن الله يؤجج لهم في الآخرة ناراً ثم يقول لهم اقتحموها كما جاءت بذلك الرواية. وندين الله عز وجل بأنه يعلم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون وما كان وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون، وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين، ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعته ومجانبة أهل الهوى"انتهى بحروفه.
هذا مجمل عقيدة الإمام أبي الحسن الأشعري التي استقر أمره عليها بعد أن أقام على مذهب الاعتزال أربعين عاماً. ذكره في أول كتابه الإبانة وفصله باباً باباً فراجعها إن شئت تجد ما يشفي ويكفي.
فتأمل أيها الأخ المنصف هذه العقيدة ما أوضحها وأبينها واعترف بفضل هذا الإمام العالم الذي شرحها وبينها وانظر سهولة لفظها فما أفصحه وأحسنه. وكن ممن قال الله فيهم: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} وتبين فضل أبي الحسن الأشعري واعرف إنصافه واسمع وصفه للإمام أحمد بن حنبل بالفضل والعلم لتعلم أنهما كانا في الاعتقاد متفقين وفي أصول الدين ومذهب السنة غير مفترقين.
ولعمري أن هذه العقيدة ينبغي لكل مسلم أن يعتقدها ولا يخرج عن شيء منها إلا من في قلبه غش ونكد.(8/248)
نسأل الله تعالى الثبات عليها ونستودعها عند من لا تضيع عنده وديعة. والحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلى الله على نبينا محمد معلم الخيرات وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم تجزى فيه الحسنات.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] وأحد تلامذة أحمد بن حنبل وعنه أخذ تحرير مقالة أهل الحديث والسلف كما في التذكرة للذهبي ج2 ص709.
[2] وفي هذا الطور سلك طريقة ابن كلاب أبي محمد عبد الله بن سعيد بن محمد بن كلاب البصري المتوفى سنة 240هـ راجع كتاب العقل والنقل لابن تيمية ج2 ص5 طبعة حامد فقي رحمه الله.
[3] المجلد عندهم يطلق على الجزء المستقل وعلى كراس كبر أو صغر.
[4] وقد عقد في المقالات فصلا بعنوان: (حكاية جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة) قال في آخره: "وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب". فراجعه إن شئت ج1 ص320.
[5] وهي محفوظة لدى الأخ إسماعيل الأنصاري طبعت في مصر قريباً.
[6] المتوفى سنة 605هـ.
[7] راجع ص23 من النظامية مطبعة سنة 1948 المعروفة بمطبعة الأنوار بالقاهرة تجد ما ذكره ابن القيم من رجوع الجويني إلى عقيدة السلف.(8/249)
رَسَائِل لمْ يَحْمِلهَا البَريْد
بقلم الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
المدرس في كلية الشريعة في الجامعة
إنني أنا جارتك (القهوة) ، هذه التي لا يفصلها عنك سوى هذا الشارع الصاخب الواسع، وغير هذه العمارات القليلة الأنيقة الذاهبة في السماء، فأنت على مرأى مني ومسمع، أرى المصلين على أبوابك غدواً ورواحاً، وذهاباً وإياباً، وأسمع نداءاتك الخمسة في كل يوم تجوب الأرض والسماء، داعية عباد الله إلى عبادة الله.
ولكن ما هذا النحيب الذي أسمعه منك في جوف الليل والناس نيام؟! أرجو ألا يسبق إلى ظنك أني أسترق السمع إليك تحت جنح الظلام، أو أني أتلمس أخبارك من خلف الأبواب المغلقة، معاذ الله أن أكون قد فعلت ذلك أو حاولت أن أفعله، فنحييك هذا لم يعد سراً يخفيه الليل، أو خبيئاً تواريه الحجب، لقد تعالى كنداء الصريخ، وتوالى كأنين الثكلى، وأمسى حديث سمر تتجاذب أطرافه هذه العمارات المتجاورة من حولك، حين تخلو شوارعها من السيارات والسائرين، وحين يرقد ساكنوها في فراشهم آمنين حالمين.
ولقد سمعتهم ليلة أمس يتحدثن عنك وعمّا أصابك، وما أكثر ما يتحدثن هذه الليالي! وما أكثر ما تكون أنت موضوع الحديث!
قالت أقرب العمارات إليك، تلك العمارة الضخمة البيضاء: ألا ترين إلى هذا المسجد، كيف أقفر من المصلين، ولم يعد له في القلوب ذلك الحب المكين؟!
فأجابتها العمارة المصاقبة الخضراء: إني لأشعر ما تشعرين، ولقد آلمني والله - بكاؤه، وعز عليّ ما يلقاه من إعراض وصد.(8/250)
فقالت عمارة ثالثة حمراء، حديثة البناء، جميلة الهندسة، قالت في شيء من الصلف والعجب: ومن هذا الذي تتحدثان عنه في حسرة، وترثيان لحاله في ألم؟! أو لا يكون في هذا النسيم الرخيّ البليل، وفي جمال هذا القمر الوضيء الجميل، وفي سماء هذه الليلة الصافية الإضحيانة، وفي مواكب هذه النجوم الباسمة الفتانة، أولا يكون في هذا كله ما يشغل عن البكاء والألم، ويدعو إلى الفرح والمرح والابتسام؟!
فأخذت العمارتان القديمتان تتبادلان نظرات الدهش، وتنظران إلى العمارة الجديدة الحمراء في استغراب، إلى أن قالت عمارة رابعة أقيم أنا في طابقها الأول: مه مه، أيتها العمارة الجميلة الحمراء! إنهما تتحدثان عن مسجد قائم في هذا الحي من قبل أن تكوني أنت فيه قائمة، ومن قبل أن يقيم فيه أهلوك وسكانك.
قالت العمارة الحمراء: أو تعنين ذلك البناء القديم ذا القباب العظيمة، والمئذنة العالية؟
قالت العمارة التي أقيم فيها: نعم! إنه هو المسجد الحي الذي يدعو الناس إلى الصلاة كلما حان وقت الصلاة، لينيبوا إلى ربهم ويذكروه بعد ساعات انغماس في شؤون هذه الدنيا، وربما كنت أنت عنه في شغل، فليلك موسيقى وطرب، ونهارك كسب وتجارة، أما جارتاك هاتان فلهما مع هذا المسجد صلات وثيقة، ومودات قديمة عميقة، فلا عجب أن تحزنا لحاله، وأن ترثيا لمآله.(8/251)
قالت العمارة الحمراء: الحق - يا جارتا - أني لا أعرف عن هذا المسجد الذي تقولين إلا هذه الصورة التي تراها عيناي، وهذا النداء الذي تسمعه أذناي، ولا أرى أحداً من سكاني ينقل الخطا إليه، أو يثني عليه. بل سمعت إحدى الساكنات تقول لجارات لها إننا سنرحل عمّا قريب إلى عمارة أخرى، فهذا المسجد يفسد علينا نومنا في الأسحار، ومن بعد الظهيرة، ويشعرنا دائماً أننا في هذا الحي غرباء، فقالت الجارات الساكنات: إننا لنقاسي ما تقاسين، ولقد عزمنا على الرحيل من قبل مرات عديدة، ولكن جوار هذه (القهوة) وما توفره من لهو ومتع لأزواجنا وأبنائنا كان عزاء وسلوى.
وإني لأخشى أيتها الجارة أن يرحل عني سكاني، وتخلو شققي من الناس وفي ذلك قضاء على مستقبلي، وبلاء عظيم..
آه أيتها الجارة! إني لأغبطك على هذه (القهوة) الجميلة التي تقيم في طابقك الأول، فهي ضمان لمستقبلك، وعون لك على النوائب. قالت عمارتي: يا لكِ من جارة صغيرة غريرة! أنتِ لا تفكرين إلا في المستقبل وضمانات المستقبل، وما المستقبل - فيما يخيل إليّ - إلا كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً. قالت الحمراء: وأي شيء غير المستقبل جدير بالاهتمام والتفكير، أيتها الجارة العزيزة؟!
قالت عمارتي: كان ينبغي أن يكون لكِ في جوار هذا المسجد عظة بالغة، وأن يكون لك في جارتيْ هذا المسجد قدوة صالحة.
قالت العمارة الحمراء: ما أرى المسجد إلا شيئاً قد أتى إلى هذه الدنيا، فكان له شباب وسلطان، وكان عليه إقبال وفيه رغبة، ثم أصباه شيخوخة، ضعف، وها هو ذا يسير على طريق الفناء، شأنه شأن غيره من الأشياء أو هذه هي العظة التي تريدينها؟!
أما هاتان العمارتان فقد عاشتا حياة غير هذه الحياة، وليس لديهما إلا ذكريات قديمة تجترانها بكرة وعشيا، فكيف تكونان لي قدوة صالحة، وكيف أجد على آثارهما الهدى؟!(8/252)
قالت عمارتي: يا جويرتي الصغيرة؟! في هذه الحياة أفكار وحقائق لا يصيبها هرم وإن تقدم بها العمر، وفي هذه الدنيا أعمال وشعائر لا يلحق بها شيخوخة وإن طال عليها الدهر، وما كان القدم ليزري بكل شيء ويدسه في التراب، وما كانت الجدة لتزين كل شيء وتعلى له المنازل.
قالت العمارة الحمراء: معذرة أيتها الجارة العزيزة، أنا عمارة فتاة، لا أزال في دنيا الأطفال، لا أفهم إلا الواقع، ولا أدرك إلا الحس، فقولي قولاً سهلاً هيناً، لعلي أجد فيما تقولين هدى.
قالت عمارتي: هذا هو المسجد على مقربة منا، عليك أن تزوريه، وهناك يتفتح لكِ ما استغلق، ويتضح لكِ ما استبهم، وهناك تعرفين أموراً كثيرة ما ينبغي لك أن تجهليها، وأحر بذات اللب أن تشم الأزهار في حدائقها فذاك أروح للنفس وأصفى، وأن تشرب الماء من منابعه، فذلك أروى للغليل وأشفى.
ثم هاتان جارتان ذواتا تقوى وصلاح، خير لك أن تصحبيهما، وأن تستمعي إلى أحاديثهما، وسوف تجدين في هذه الصحبة وذاك الاستماع راحة نفس، واطمئنان قلب، وشفاء من هذا القلق الذي تكابدين.
قالت الحمراء: أختي العزيزة! إنني عمارة حديثة النشأة، قد خططني مهندسون أجانب، وأشرف على بنائي (مقاولون) غرباء، وها أنت ذي ترين ما أتمتع به من نوافذ واسعات تستقبل الهواء والشمس، وشرفات شامخات تطل على كل طريق، وذؤابات تتلفع بالسحب وتسمع همس النجوم، وقواعد في الأرض مسلحة صلبة كأنما قد أعدت لتقوم عليها الجبال، ولا تسألي عن حالي في الداخل، فلن أستطيع أن أصف، ولن تستطيعي أن تتصوري، لقد أفرغ فن العمارة الحديث فيّ كل ما يستطيعه من جمال وإتقان وزخرفة ألوان وأسباب متعة وراحة. أفبعد هذا كله، ومع هذا كله، تنصحين لي أن أزور مسجداً قد هجره أهله، وضيّعه ذووه، وتشيرين عليّ أن أصحب عمارتين قديمتين قد شاختا، تعيشان في عصر العلم والحضارة عيش الغرباء؟!(8/253)
قالت عمارتي: يا حسرتا عليكِ - يا صغيرتي - فيما فرطت!! إنكِ لتقولين ما تلقنين، وتهرفين بما لا تعرفين، ها هو ذا المؤذن يدعو لصلاة الصبح، فهلمّ إلى المسجد …
جاري الكريم:
هذا ما كان في تلك الليلة من حوار، أتراك قد سمعته فأنت منه في هذا النحيب، أم تراك تنتحب لأمر آخر ذي بال لم يخطر لي على بال.
ومهما يكن من أمر، فأنا أود أن أتعجل شيئاً قبل أن أنساه أو أشغل عنه أود أن أدفع عن نفسي تهمة طالما رماني بها الناس، وأنزع ظنا ما إخالك إلا قد ظننته.
يقولون إنني قد أفسدت عليك أصحابك، وأفسدت على البيوت أربابها، ومزقت ما بين الأسر من روابط.
ويل لهم مما قالوا!! وويل لهم مما يدعون!! ما كنت يوماً مفسدة ولا داعية إفساد، أنّى لي هذا، والناس يأتون إليّ خيرة، ويلجون عليّ الأبواب من غير ما دعوة.(8/254)
ما طلبت إليهم يوماً أن يصموا آذانهم والمؤذن يدعوهم إلى الصلاة، ولا سألتهم ذات ليلة أن يفروا من بيوتهم تاركين زوجاتهم وذريتهم للوحشة والقلق والضياع والعبث … بل كثيراً ما مرّت بي ساعات غضب هممت فيها أن أقذف بالمقاعد ومن هم عليها قعود إلى عرض الشارع، ولا أزال أذكر حتى اليوم ساعة جلس أربعة على شرفة من شرفاتي يطاردون بأبصارهم كل عابر للشارع وعابرة، وفجأة سمعتهم يهتفون بزميل لهم جاء من بعيد، قال له قائل منهم: ما شرّفت (القهوة) هذا الصباح كما اعتدت في أيام العطل! فرد عليه زميل ثانٍ: أنسيت أن صاحبنا قد (تمشيخ) وأن هذا اليوم هو يوم الجمعة؟!، وإذا بثالثهم يواصل التهكم ويقول: وطبعاً أمضى هذا الصباح يغتسل، ويتطيب، ويرتدي (بدلته) النظيفة المكوية، ويبكر إلى المسجد، ليقرأ القرآن، ويسمع الخطبة، ويشهد الصلاة، و. . . .، ولكن زميلهم هذا (المتمشيخ) لم ينتظر أكثر من هذا، فألقى عليهم نظرات زارية، وتولى عنهم دون أن ينبس ببنت شفة، وانتبذ منهم مكاناً قصياً، وأخذ يمتع نظره بما في الشارع من حياة وحركة، أو يردد بصره في صفحات كتاب كان يحمله، ولما أن سمع المؤذن يدعو لصلاة المغرب أجاب حثيث الخطا.
أما زملاؤه الذين كانوا منه يسخرون، فقد هاجت فيهم ذكريات قديمة:
قال الأول: أما أنا فقد عرفت الصلاة في البيت، وعرفتها في المسجد، وعرفتها في المدرسة إلى أن صرت طالباً في المرحلة الثانوية، وحينئذ بدأت ألاحظ أن مدرسينا لا يصلون إلا قليلاً، وأن مدرسي الدين يدرسون الدين بسبب من الوظيفة والتخصص، لا بسبب من الإخلاص للعقيدة، فأخذ الحرص عليها يتلاشى شيئاً فشيئاً حتى لم يبق منه شيء.(8/255)
فقال الثاني: أما أنا فقد عرفتها صغيراً، وبقيت أحافظ عليها كبيراً، فقد كان أبي وأمي حريصين عليها، وكانا يؤنبانني كلما رأيا مني غفلة، وكان أن توظفت وانتقلت إلى بلد آخر بعيداً عنهما، ولم يكن في ذلك البلد إلا المسجد واحد وإمام واحد، وكان الإمام أيام الجمعة يلتزم خطباً معينة لا يحيد عنها ولا ينحرف، يكررها عاماً بعد عام، ويسمعها المصلون صابرين سنة بعد سنة، وإني حتى هذا اليوم لا أزال أذكر كثيراً من موضوعات تلك الخطب، وأحفظ كثيراً من الأحاديث النبوية التي كانت تختتم بها. وقد تبدلت الدنيا غير الدنيا، وتبدل الناس غير الناس، وأصبحت المفاسد يموج بعضها في بعض، ومع هذا كله يخيل إليك أن جماعة من خطباء المساجد لا يعيشون فوق هذه الأرض، ولا يسمعون أخبار هذه الدنيا.
فقال زميله الأول: الحق - يا أخي - أن خطبة الجمعة قد أصبحت عند بعض الخطباء عملاً (وظيفياً) كأعمالنا - معاشر الموظفين - ونحن - كما ترى - نقوم بما تيسر من أعمال، ثم نقبض المرتب على كل حال.
فاندفع ثالثهم يقول: الثقافة السطحية المحدودة، والضعف الأدبي في التعبير هما سبب ما نراه عند بعضهم من التزام خطب معينة يأخذونها من الكتب يكررونها حيناً بعد حين، وعاماً بعد عام، هم يرون ما في حياتنا من مفاسد، ويسمعون ما فيها من خداع وغش، ولكنهم لا يملكون أكثر من الحوقلة والترجيع، فعاد الثاني يواصل كلامه ويقول: ومهما تكن الأسباب، فقد كرهت خطبة الجمعة من ذاك الإمام، وكرهت الصلاة خلفه، ثم اشتد بي الكسل، فقعد بي عن سائر الصلوات، على أنني لا أزال أشعر بالخزي والعار، كلما رأيت المصلين يقبلون على المسجد وأنا أوليه الأدبار.
أما ثالثهم فقد تشاغل عن زملائه، وأخذ يمد عينيه إلى الشارع، وتلهى بما فيه، حين أحس أن دوره في الكلام قد جاء، ولكن زملاءه جاذبوه أطراف ملابسه وقالوا إلى أين؟ تعال هنا، وهات ما عندك.(8/256)
قال: ولكن علاتي تافهة صغيرة، تضحكون بها مني وتسخرون.
قالوا: دعنا نضحك اليوم منك ونسخر.
قال: ولكني أعتذر إليكم هذا اليوم.
قالوا: لا عذر لك.
فأنشأ يقول - وقد رأى أن لا مفر - أما أنا فشاب أحب الملابس وأهيم بها، وأبذل في سبيلها كل جهد ومال، أختار (بدلاتي) من أجود الأصواف الإنكليزية وأجملها، ثم أحرص على نظافتها كل الحرص، وأحافظ على أن تظل مكوية قائمة مصقولة كل الحفاظ. وكان من سوء حظي أن يقع المسجد الذي أصلي فيه في وسط السوق، فكان يأتيه كثير من المصلين في ثياب العمل، وهي ثياب فيها كثير من أنواع الأذى، وزاد سوء حظي أن نام خدام المسجد عن نظافته والعناية به، فتركوا الغبار والتراب وغير ذلك يتراكم، ويعلو بعضه فوق بعض، وفي هذا أذى أيّ أذى للمصلين والمسجد. فكان من ذلك أن صرت أصلي في البيت، والصلاة في البيوت تدعو إلى الكسل في الأداء، وإلى ضم الصلوات بعضها إلى بعض في قضاء، ثم إلى النسيان والترك في النهاية.
أما رابعهم فجعل يقول من قبل أن يسأل: أما أنا فقد كان والدي حريصاً على أن (يضمن) لي بعد التخرج عملاً مريحاً مربحاً، وكان حريصاً على أن تكون أبواب العمل أمامي واسعة مفتحة، فزين له بعضهم أن أتعلم في مدرسة أجنبية ففيها يتقن الطالب مختلف اللغات، وينال شهادة مفضلة لدى كثير من الشركات والوكالات والمؤسسات، فكان أن تخرجت فيها لا أحسن قراءة القرآن في المصحف، ولا أعرف كيف تؤدى الصلاة. . .
جاري الكريم:
كان المصلون ينتشرون في الشوارع بعد صلاة المغرب حين انتهى هؤلاء الأربعة من ذاك الحديث، وكان أن ضاق بهم صدري، وأصبحت في حيرة من أمري، وإذا أنا. . . بأحد الدعاة إلى الله يدخل الباب، ويمد عينيه إلى كل ناحية، فتقعان على أولئك الأربعة، وعلى ما هم فيه، فتدركان أي رجال كانوا وسرعان ما يمم شطرهم لا يعوج على شيء، ثم سلم وجلس.(8/257)
كان ذا وجه مشرف، وابتسامة مضيئة، وهندام حسن، لا تملك العين حين تراه إلا أن تهابه وتحبه، فما كان من هؤلاء الأربعة إلا أن فسحوا له في المجلس، وردوا تحيته بأدب.
لم أدر ما دار بينهم من حديث، ولكني كنت أرى على بُعد وجوهاً مشرقة، وابتسامات متبادلة، ووددت لو أني سمعت ما قال وما قالوا لأكتبه إليك، ولكني - وَأسفا - شغلت باستقبال الوافدين هناك وهناك.
كان هذا الداعية من حين إلى حين يختلس النظر إلى من حوله من الناس، ولما أن رأى فيهم كثرة وقف بقامته الفارعة وسمته الحسن، وشرع يخطب الحاضرين بلسان مبين ولهجة فصيحة.
لا أستطيع - أيها الجار الكريم - أن أكتب إليك كل ما قال، ولكنني سأكتب إليك ما تزال الذاكرة تذكره.
كان مما قال، بعد أن حمد الله وأثنى عليه، وصلى الله على رسوله:
أيها الإخوة الحاضرون:
أنا لا أنكر أن للمقاهي مصالح اجتماعية كثيرة تقتضيها، ودواعي مدنية حديثة تطلبها، فهي قد تصلح لغريب لا يعرف أحداً ولا يعرفه أحد، وقد تصلح لسائر في الشارع، أصابه ظماً ولحق به جهد، وقد تصلح للرجلين أو الرجال يعرض لهم الأمر، أو للأصدقاء قد تباعدت دورهم أو تعذرت وهم يريدون أن يتدارسوا مسألة، أو لجماعة من العمال أو ذوي الأعمال أو التجار أو الموظفين يريدون أن يتحدثوا في شؤون أعمالهم، قد تصلح لهؤلاء وأمثال هؤلاء، ولكنها على كل حال ليست مواطن كسل وخمول وعبث ومجون، ليست مجالس همز ولمز للداخلين والخارجين وعابري الطريق، ليست مجالس لنهش الأعراض وكشف العورات وإذاعة السيئات، ليست لشيء من هذا كله، ولا ينبغي أن تكون له.(8/258)
ومن المحزن حقاً - أيها الإخوان - أن يجلس فيها بعض الأزواج إلى منتصف الليل هرباً من زوجاتهم، ومن مطالب بيوتهم، ومن مشكلات أولادهم، فالزواج قيادة ومسئولية، قبل أن يكون إمتاعاً وتسلية وألهية، والزوجة التي لا ترى زوجها في البيت يؤانس ويستمع ويسهم في حل المشكلات، سوف تضيق به في آخر الأمر، وتلبس له ثوب العداوة، وتحمل بيديها المعول تهدم به بيتها وبيته.
والأولاد الذين لا يرون أباهم إلا على طعام الغذاء، أو على فراش المرض، أو ساعات استقبال الزائرين والأضياف هم أولاد مضيعون تائهون، لا يدرون أين يذهبون، ولا كيف يذهبون.
أولادكم أيها الأخوة في حاجة ماسة إلى هذه الساعات الطويلة الثقيلة التي تضيعونها في المقاهي، في حاجة إلى أن يعرضوا لكم أمورهم، وأن يشكوا إليكم أحوالهم، وأن يجدوا أنفسهم مسئولين أمامكم..
هم في حاجة إلى عطف روحي، وحنان أبوي، في حاجة إلى دفء جناحي طائر يجثم على بيضه، إن حاجات النفس والروح والقلب أشد وأعظم من لقمة طعام دسمة توضع في الفم، أو حلة جميلة تلقى على الجسم، فالإنسان بخلقه وقلبه لا بمعدته ثوبه.
إن أولاد الأغنياء منكم لا يربون بملء جيوبهم بالمال، وإن أولاد الفقراء منكم لا يربون بالوعود الكاذبة والتسويف والمطال.
عليكم بالشجاعة والصبر وسعة الصدر، اجلسوا مع أولادكم طويلاً، واملئوا قلوبهم بحنانكم وعطفكم ووجودكم بينهم، وأشعروهم دائماً أنكم جميعاً أصابع في يد واحدة.
إن أولئك الأزواج الذين يظنون الحياة الزوجية قطعة من الحلوى يأكلونها وهم متكئون على الأرائك - هم سكارى أو حالمون، فالحياة الزوجية جهاد وكبد، وعليكم أيها الأزواج أن تجاهدوا في هذه الحياة، وأن تكابدوا لخيري الدنيا والآخرة، واستعينوا بالله دائماً واشكروا على ما رزقكم قلّ أم كَثُر، وإياكم، إياكم أن تتركوا سفنكم يقودها الموج الأرعن فيقذفها حطاماً على الشاطئ.(8/259)
جاري المسجد الكريم:
هذا ما أزال أذكره من تلك الخطبة، ولقد جلس قليلاً بعد أن انتهى منها، لعل سائلاً يريد أن يسأل عن حكم شرعي أو مشكلة شخصية، فجاء إليه بعض الحاضرين يستفتونه أو يستشيرونه، وكانوا يصدرون عنه وعلامات الرضا بادية على وجوههم، حتى إذا انتهى من الناس وانتهوا منه عطف إلى أولئك الأربعة، فودعهم باسماً وودعوه بلطف، وخرج من أبوابي وعيون الحاضرين كلها عالقة به، على أنه مما يسرني ويسرك أن أخبرك أنني لم أرَ أحداً من أولئك الأربعة بعد تلك الليلة قد سمع النداء ولم يجب.
جارتك
(القهوة)
حلم سيتبدد
قالوا: نجوت، وكانت تلك معجزةً
فاهنأ بما نلت من برء وتجديدِ
وكيف يعزب عنهم أنّه حُلُمٌ.
- مهما يطل - صائرٌ يوماً لتبديدِ
لئن تأخر بي يومي فإن غداً.
أدنى لناظره من لفتة الجيد
وما سلمتُ لأبقى، بل لتسلمني
يد المنون ليومٍ غير مرودِ
وما السعادة ساعات تطول ولـ
كن السعادة تقوى الله ذي الجود
وديعةُ الله هذي النفس في يدنا
وليس إلاّ مزكّيها بمحسودِ
فليحفظ الله ما أبقاه من أجلي
في واسع من رضاه غير محدودِ
ويا شقائي إن جافيت شرعته
ورحت أخبط في ليل الأخاديدِ
عن ديوان (همسات القلب)(8/260)
مِنَ المنهَل الصَّافي
قل الله أعبد مخلصا له ديني
للشيخ عبد الله المحمد الغنيمان
المدرس في كلية الشريعة في الجامعة
أحمد الله ربي وأساله العون والتوفيق وصلى الله وسلم على عبده ورسوله إمام الحنفاء وخاتم المرسلين وبعد: سأحاول أن أضع بين يدي القارئ كلمات يسيرة في أهم الواجبات وأصل الأصول توحيد الله ومعرفة مستمداً ذلك من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
من المعلم المسلم به عند علماء الدين والاجتماع أن العبادة في الإنسان ركيزة فطرية. فلا بدله من معبود فإن لم يعبد الله المستحق للعبادة عبد عدوه الشيطان ولا بد، على اختلاف مظاهره أما في مظهر إنسان محبوب أو شيخ معظم أو رئيس أو قبر أو حجر وربما معدته وشهوته قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} حتى أولئك الملاحدة الذين يقولون أن الدين أفيون الشعوب هم في الحقيقة لا ينفكون عن العبادة إما عبادة بطونهم وفروجهم وشهواتهم أو عبادة رؤسائهم وسادتهم.
الخلق كلهم عباد الله تعالى:
العبد في اللغة يأتي بمعنى المبعد الذي عبده الله وذلله وصرفه ودبره كيف شاء وبهذا المعنى فالخلق كلهم عباد لله برهم وفاجرهم مؤمنهم وكافرهم إذ هو ربهم ومليكهم وقاهرهم لا يخرجون عن مشيئته وقدرته فما شاء كان وإن لم يشاؤوا وما شاؤوا لم يكن إن لم يرده فهو تعالى خالقهم ومدبرهم، محييهم ومميتهم لا رب لهم سواه ولا مالك لهم غيره سواء أقروا بهذا أم جحدوه علموه أو جهلوه.
العبادة النافعة المأمور بها شرعاً:(8/261)
ويأتي العبد بمعنى العابد أي الذي يعبد الله لا يعبد غيره فيطيع أمره وأمر رسوله ويوالي أوليائه المؤمنين ويعادي أعداءه الكافرين والفاسقين والعبد بهذا المعنى هو الذي جاء به القرآن أما المعنى الأول فلم يأتِ إلا قليلاً، فالثاني كقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً} {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ} {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوب} {لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} ونحو ذلك كثير ولهذا قال كثير من المفسرين في الاستثناء في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} إنه منقطع كما قاله ابن كثير وغيره ومما ورد في القرآن في المعنى الأول قوله تعالى: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا} والمعنى والله أعلم أن هؤلاء لما كان عندهم من القوة وشدة البأس والكبر والعظمة وصفهم تعالى بأنهم عباد له مذللون تحت قهره وتصريفه ليكون ذلك داعياً إلى الرجوع والإنابة إليه وأن الأشياء كلها بمشيئته وإرادته.(8/262)
وعبادة الله هي طاعته وامتثال ما أمر الخلق به واجتناب ما نهاهم عنه على ألسنة رسله وهي حق الله على عباده يرضاها لهم ويحب وقوعها منهم ولأجلها خلق الخلق كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} وبها أرسل الرسل وأنزل الكتب وهي أول واجب على العبد وأفضل الحسنات وأعظم الصلاح والعدل وهي حق لله على الخلق واجب متعين قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} .وعبادة الله هي توحيد بأمره ونهيه أي أفعال العباد التي تصدر منهم موافقة لشرع الله كالسجود والخوف والرجاء والذبح والنذر وطلب النفع الغيبي وطلب دفع الضر الغيبي أو الذي لا يدفعه إلا الله. كما أن التوحيد يشمل الإقرار بأن الله رب كل شيء ومليكه والمسيطر عليه المتصرف فيه كيف يشاء الخالق الرازق المحي المميت ما شاء كان ولو لم يشأ الخلق وما شاءوا لم يكن إن لم يشأ. لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، والإقرار أيضاً بأن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير، وأنه الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، له المشيئة النافذة والحكمة البالغة، يحب ويرضى ويسخط ويغضب، ويفعل ما يريد، السميع البصير الرؤوف الرحيم على العرش استوى، والملك بيده له الأسماء الحسنى، والصفات العليا، وهذا قد كان غلب الناس مقرين به لظهوره ووضوحه، والشرك فيه قليل وإنما الذي وقعت فيه الخصومات والمجادلات بين الرسل وأممهم توحيد المعاملة مع الله تعالى وهو أن يجعل العمل الذي أمر به العبد لله وحده لا يشرك فيه معه أحد من الخلع فمبناه على إخلاص التأله لله من المحبة والخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والإنابة(8/263)
والاستعانة والاستغاثة والدعاء والذبح والتوبة والرغبة في دفع المكروهات وغير ذلك ممن أنواع العبادة، فإخلاص هذا وما أشبهه من العبادات لله وحده هو معنى لا إله إلا الله فإن الإله هو الذي يألهه القلب بالحب والخوف والإجلال والتعظيم والخشية وهذا لا يصلح إلا لله، فيجب أن يكون خالصاً له وهذا هو الذي أرسلت له الرسل وبه نزلت الكتب من الله بل من أجله خلق الله الخلق والجنة والنار وبه صار الناس فريقين: أشقياء أعداء لله بعداء من رحمته وكرمه وهم الذين لم يقبلوه ولم يعملوا به، وسعداء أحباء لله مقربين لديه لهم النعيم الذي لا ينقطع قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وقال هود عليه السلام لقومه: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وهكذا كل رسول يأمر قومه بأن يجعلوا العبادة لله وحده وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} أخبر تعالى أنه أرسل في كل طائفة من الناس رسولاً يدعوهم إلى توحيده بالعبادة ومجانبة الطاغوت والطاغوت هو كل معبود دون الله حاشا رسل الله وأولياءه الساخطين لذلك وكذا من نازع الله في أمره وتشريعه للعباد فجعل قانوناً يعمل به عوضاً عن قانون الله وشرعه فالفاعل لذلك من أكبر الطواغيت التي يجب الكفر بها والابتعاد عنها وذكر جل وعلا أن الناس بعد إرسال الرسول انقسموا إلى فريقين فريق منّ الله عليه بالهداية إلى التوحيد فقبله وعمل به وآخر أبى ذلك ورد دعوة الرسول فحقت عليه الضلالة {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا(8/264)
فَاعْبُدُونِ} ومثل هذه الآيات في القرآن كثير بل جل القرآن في ذلك، إما أمر به أو نهي عن ضده أو ما ينقصه ويذهب كماله أو في جزاء أهله عاجلاً وآجلاً أو في ذكر ما فعل الله بمن أباه وامتنع من قبوله من العذاب المؤلم وما سيلقاه عند مرده إلى خالقه.
حاجة الخلق إلى تحقيق التوحيد:
ومع ذلك فحاجة الخلق إلى تحقيق هذا التوحيد فوق كل حاجة لأنهم لا يدركون الصلاح واللذة والفلاح والنعيم بدونه فمن أعرض عنه فله في الدنيا معيشة ضنكا ويحشره الله يوم القيامة أعمى وحقيقة العبد قلبه وروحه ولا يطمئن القلب وتسكن الروح إلا بالله بأن يكون وحده إلهه ومحبوبه دون ما سواه ولو حصل للعبد راحة وفرح وسكون ولذة بغير الله فإن ذلك لا يدوم بل سرعان ما ينقلب بؤساً وشقاء وحسرة. ولا بد من مرد الخلق إلى الله فهم فقراء إليه وفقرهم ملازم لهم لا ينفك عنهم وهو الغني بذاته عن كل ما سواه ومع ذلك فالإيمان بالله وعبادته ومحبته والإنابة إليه غذاء الإنسان وقوته الحقيقي وليست عبادة الله تكليفاً ومشقة لمجرد الامتحان والاختبار والتعويض بالأجرة كما يقوله من لم يذق طعم الإيمان من المعتزلة وغيرهم وإذا وقع في أوامر الله وشرعه ما هو على خلاف هوى النفوس مما يشق عليها فإن ذلك ليس هو المقصود بالأصالة وإنما وقع ضمناً وتبعاً وغلب أوامر الشرع قرة العيون وسرور القلب ولذات الأرواح وكمال النعيم مع إرادة وجه الله الإنابة إليه لأنه الإله الحق الذي تطمئن القلوب بذكره.(8/265)
والناس ليس عندهم للعبد نفع ولا ضر ولا هدى ولا ضلال ولا عز ولا ذل ولا خفض ولا رفع إلا بإذن الله بل الرب تعالى هو الذي خلق العبد ورزقه وبصره وهداه ووالى عليه نعمه تترى فإذا مسه الله بضر فلا يكشفه غيره وإذا تفضل عليه بنعمة لم يرفعها عنه أحد سواه وضر الخلق ونفعهم لا يكون إلا بإرادته وبعد إذنه وهذا لا ينافي فعل الأسباب فهو تعالى الذي جعل لكل شيء سبباً وشرع فعلها للعبد غير أنه لا يجوز له أن يغلق قلبه بغير فاطره وإلهه الحق ولا يعتمد ويتكل على السبب بل يفعل السبب ويتوكل على الله تعالى ويعتمد عليه فإن السبب من جملة المخلوقات التي الاعتماد عليها والتوكل عليها يوجب الضرر والخذلان قال تعلى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وما علق العبد رجاءه ورغبته على غير الله إلا خاب وخذل وقد قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} .(8/266)
قصَصٌ لا تُنسى
وعاد في صمت إلى مزرعة
بقلم الشيخ محمد المجذوب
المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة
لم يذق طعم النوم قط. إنه يتقلب على فراشه الضيق الخشن منذ أوى إليه عند منصف الليل.. وقد حاول بكل طاقته إخلاص فكره من ذلك التشويش القلق الذي يراوده، ولكن عبثاً.. لقد كانت محولاته وسيلة أخرى لإطلاق مقادير غير متوقعة من ذلك التشويش، فهو لا يتغلب على بعضها حتى يحتويه بعضها الآخر.. وراح يحدق عبر الظلام لعله يلمح شيئاً يصرفه عن أوهامه التي لم يستطع لها تحديداً ولا توضيحاً.. فيرتد بصره حسيراً، إذْ لا يرى سوى تلك الخيام المنتشرة في بطن هذه الصحراء الممتدة حول (معان) .. وقد سكن كل شيء فيها إلا أقدام الحراس تتحرك هنا وهناك، فتطلق ما يشبه الحديث المهموس..
وفجأة هب من فراشه، وكأنما هز قلبه خاطر.. ومدّ يديه يتلمس قربة الماء على عمود الخيمة، ثم أخذ يصب منها على يديه ووجهه، حتى إذا أسبغ وضوءه، عمد إلى غطائه فبسطه ثم أقبل يصلي فوقه.. وما إن أتم ركعتيه حتى أتبعهما بأُخْرَيَيْنِ.. ولم يشأ أن يزعج الراقدين من زملائه في الخيام المجاورة، فلم يجهر بقراءته، على الرغم مما وجده من شوق إلى ذلك، إذ أحس في تلك الركعات نشوة لا يذكر أنّه تذوّق مثلها من قبل.. ولعل ذلك عائد إلى بُعد عهده بصلاة الليل، بل بالصلاة كلها، التي كاد يقطع بها صلته، منذ ساقته الأقدار إلى الاندماج في تلك الجمعية، التي استولت عليه وعلى الكثرة من مواطنين الدمشقيين، الذين كانوا يتلقون علومهم العسكرية في عاصمة الخلافة..(8/267)
لقد نشأ فخري.. في وسط إسلامي محافظ، وبدأ دروسه الأولى على أيدي الفضلاء من مشايخ دمشق، الذين عليهم قرأ القرآن، وباشر مطالعة الحديث، وتلقى مبادئ الفقه، فلما التحق بالمدارس الرسمية لم يبتعد عن هذا الجو النقي، إذ كانت مناهجها ذات صلة وثيقة بتلك المعاني، واستمر في هذه السبيل حتى انتقل إلى استانبول.. وهناك فقط بدأ يتحلل من تلك الروابط الروحية، إذ وجه نفسه مأخوذاً بصحبة شباب ذوي ثقافة أخرى، يتلقونها في اجتماعاتهم الخاصة، على أيدي رجال عادوا من أوروبة حديثاً، مزودين بمفهومات عن الدولة والقومية والتطور لم يستطع مقاومة إغرائها، فإذا هو ينساق في تيارهم شيئاً فشيئاً، حتى لم يعد يحس بأي قلق إذا هو أخرّ وقت صلاته، أو أغفلها كلياً..
وساقته الذكريات المتفاعلة إلى أمسه البعيد.. إلى أيام استانبول تلك.. وما سبقها.. فإذا هو يستعيد، على غير توقع، بعض ما فقده من ذلك الروح الذي أشرق على قلبه لأول مرة في دمشق، التي يذوب حنيناً إلى لقائها.. والتي كان إلى وقت قريب على مثل اليقين أنه يكدح من أجلها.. من أجل استرداد جلالها، الذي تألقت به تاجاً على مفرق الدنيا أيام معاوية وخلفائه، ثم جاءت الكوارث تضرب في أكنافها، حتى جردتها من عزة السلطان، وجعلتها ذيلاً لغيرها من العواصم..ثم لم تكتفِ حتى أتت على سيادة الجنس العربي كله، إذ انتزعت منه زمام القيادة، لتضعه في أكف الغرباء من هؤلاء الأتراك الذين خرج عليهم مع هؤلاء الخارجين من إخوانه وأبناء جلدته..
وأطرق فخري يتأمل خلال هذه الأحداث، فلا يتمالك أن يتمتم في حيرة لا يستطيع كتمانها: أحقاً نحن في الطريق إلى عزة العرب! …
وتتفجر التساؤلات الحائرة متتابعة وراء ذلك:
- أليس من سبيل لهذه العزة إلا بالخروج على دولة الخلافة؟..
- والخروج على الخلافة.. أليس خروجاً على الإسلام؟..
- وهل صحيح أن العروبة حقيقة مجردة عن الإسلام؟..(8/268)
- ولماذا نقاتل دولة الخلافة مع الإنجليز؟.. مع ألد أعداء الإسلام؟..
واستحال عليه أن يجد جواباً حاسماً لأي من هذه الأسئلة، ومن هنا تفاقمت حيرته، وانطلق خياله يحوك له أشباح الأحداث في صورة مثيرة لا يقع فيها على ما يَسُر..
إنه ليتذكر الآن المشهد الذي واجهه ذات يوم في تصرفات (لورنس) .. ذاك الذي يصر على أن يلقب بصديق العرب.. إذ كان يشرف على نسف الخطوط الحديدية بأيدي جنوده من العرب المسلمين، فما إن يقتلعون منها قطعة حتى تضج كفاه بالتصفيق لهم، وما إن ينسفون جسراً حتى يقبل على مفجري ألغامه يعانقهم، ويمطر بالقبلات الحارة رؤوسهم.. ولا يكتفي بهذا حتى يطرح نفسه فوق أطلال تلك الخرائب، كأنه يهب لها أيضاً نصيبها من قبلاته!.. ولمَ كل هذا الفرح؟!..
ولأول مرة يحرك فخري شفتيه بهذا الجواب: لأن لورنس كان يعلم أنه يسجل بكل ضربة لهذا المشروع انتصاراً للصليبية المطاردة للإسلام!..
أليست سكة حديد الحجاز هذه هي الرباط العصري الذي يشد أجزاء الوطن الإسلامي إلى مركز الخلافة؟.. أليست هي الخطوة الكبرى والأولى في سبيل تعميق وحدة المسلمين، للصمود في وجه القوة الباغية، التي يحركها الحقد الصليبي المزمن لتدمير الإسلام!..
ومع ذلك.. يتبرع العرب المسلمون بتحقيق هذه الجريمة تحت قيادة صديقهم (لورنس) .. الذي فتنوا به، وبأسلوبه الشيطاني، حتى ليسمون بعض أبنائهم باسمه!..
وكانت أشعة الفجر قد بدأت تتمطى وراء الكثبان البعيدة، فتغتسل الصحراء بأضوائه الرمادية الحزينة.. وكأن يداً خفية تجتذب ذراع فخري فينهض من مصلاه ليحرك خطاه خارج خيمته في أناة، ودون أن يحدد لقدميه اتجاهاً.
ومرّ ببصره على مئات الخيام القائمة هنا وهناك.. وتذكر أن ألوفا يرقدون الآن تحتها، دون أن يفكروا بالمصير الذي يقادون إليه.. إلا حلماً رقيقاً هو أن يقوم للعرب كيان جديد، يؤمن لكل عربي حياة أفضل..(8/269)
وانتهت الخطى بفخري إلى خارج حدود المعسكر.. وتفتقت ذاكرته عن مشاهد جديدة طرية.. لم يحن أوان جفافها بعد..
إنه ليتذكر رحلته إلى الهند، يوم أن انتدبه لورانس لتحريك المسلمين من أجل التطوع في صفوف الإنجليز.. فمضى وهو يحسب أنه يقوم بخدمة للثورة العربية، إذ يقدم لحلفائها رافداً من القوة يساعد على التعجيل بنهاية الحرب.. ولكنه ما إن بدأ محاولته مع علماء الإسلام وزعماء المسلمين حتى شرع يواجه الحقيقة التي قد نسيها تماماً..
لقد اصطدم بعقبات من الوعي الإسلامي لم تدع له أي أمل بنجاح رحلته..
إن المسلمين في الهند - حتى العامة منهم - يعتبرونها معركة بين الإسلام والصليبية، وينظرون إلى الخليفة كرمز لوحة العالم الإسلامي، فالخروج عليه إنما هو خروج من الإسلام إلى الكفر.. إنهم لا ينكرون أن ثمة أخطاء في مسيرة دولة الخلافة، ولكنهم موقنون بأن تصحيحها ليس في تأييد أعدائها.
وقد بلغ تشدد مسلمي الهند في هذا الموقف إلى حد أن إرهاب الإنجليز، على قسوته وهوله، لم يحل بينهم وبين الجهر بمبادئهم هذه، وهؤلاء علماؤهم، وفي مقدمتهم مولانا محمد علي، ينهضون بعبء الدعوة للتمرد على الإنجليز، ويعلنون بكل الوسائل وجوب النصرة لإمام المسلمين في هذه الحرب.. ويرفعون الشعار القائل: إن كل متطوع في جيش الإنجليز لحرب الخليفة خارجٌ عن ربقة الإسلام، مرتد عن سبيل المؤمنين.. وقد صدع مولانا محمد علي بذلك حتى أمام المحكمة التي شكلها الإنجليز لمحاكمته وإخوانه من علماء الإسلام، فاتخذ من قفص المحكمة منبراً لإعلان حكم الشريعة الذي لا يقبل رداً ولا نقضاً..(8/270)
لقد عاد فخري من رحلته تلك صفر اليدين لم يصب أي غرض.. بل عاد وفي قلبه تلك التساؤلات التي ما تفتأ تقلقه وتثير أرقه.. وكثيراً ما ردد على نفسه، كلما أتيح له أن يخلو إليها، مثل هذا القول: لماذا كناّ نحن العرب أسرع استجابة لإغواء الإنجليز من مسلمي الهند؟.. لماذا نكون أقل منهم غيرة على حرم الإسلام؟!..
وانتزعه من تأملاته خفق نعل متحفظ خلفه.. ثم سمع صوتاً يخاطبه في عربية أجنبية: هالو فَكْري.. إلى أين؟..
وعرف فخري مخاطبه من لهجته. إنه مدير الاستخبارات الإنجليز جون.. الذي يمتاز على كل من عرفه من أبناء جنسه بصراحته الغريبة..
وتوقف فخري ريثما انتهى إليه صاحبه، ورد تحيته، وصافح يده الممدودة، واستأنفا السير معا..
ولم يشأ الفتى الشامي أن يخرج عن صمته الذي كان عليه، فلم يسع الكهل السكسوني إلا أن يبدأ هو بالكلام فقال، وهو يلوح بغليونه ليساعده على الاشتعال: أراك مشغول الفكر.. فهل ثمة ما يُزإجك؟!..
وصمت فخري قليلاً كأنه يستفتي عقله في الجواب..ثم قال: لا بد..
- تَبْأً.. أنت في شوكٍ إلى دمشق.. إتْمئِن.. سوف تدخلها كريباً..
- هذا ما أتوقعه بعد انتصاركم على الجيش العثماني في معركة القناة..
- تَبْأً.. تَبْأً.. فما الذي يشغلك إذن؟!..
- اسمع يا مستر جون.. إني أسأل نفسي عن مصير هذه الشركة بيننا وبينكم..
وكأن الكهل السكسوني لم يسمع غير ما توقع.. فلم يبدُ عليه انفعال، وبكل هدوء عقب على كلام الفتى بقوله: على كل حال.. سنظل أسدكاء..
وانصرف فخري بوجهه إلى الرجل ليقول له: القضية أكبر من الصداقة يا.. مستر جون.. إني أتساءل عن مصير العهود التي بيننا وبينكم..
- كن سريهاً.. يا فكري بك..
- سأكون في منتهى الصراحة.. فهل تعدني بمثلها؟..
- نَأمْ.. نَأمْ.. كُلْ ما تريد..(8/271)
- لقد عاهدناكم على القتال بجانبكم، وعلى بذل كل ما نملك لنصرتكم، فوفّينا، وسنفي حتى النهاية، فهل أنتم وافون لنا بما عاهدتمونا؟..
وكان في وسع جون أن يستغني بابتسامته عن كلامه، ولكنه آثر أن يحقق ما وعد به من الصراحة فقال، وهو ينظر إلى صاحبه من خلال دخانه: ألْكَدِيّةُ ليست أرَبِيّة فَكَتْ يا.. مستر فَكْرِي.. إنها دولية.. آلمية..إنها تَخُسُّ هُلفاء بريتانيا أيْداً..
وفي حرقة لم يطق فخري إخفاءها قال: فمن أجل عيون حلفائكم إذن خرجنا على ديننا، وسفكنا دماءنا، وخربنا ديارنا، وحاربنا إخواننا!!..
ولم يستطع أن يملك أعصابه فإذا هو يضرب جبهته بباطن راحته.. وكانت ضربة محكمة كما يبدو، لم تلبث أن انتزعته من حُلمه الثقيل الطويل.. ليجد نفسه على سريره في مزرعته التي لجأ إليها، فراراً من التدهور السياسي الذي لم يعد يطيق معايشته..
وتناول فخري من خادمه الوفي قدح القهوة وهو لا يزال على فراشه.. وشيئاً فشيئاً استرد كامل وعيه، ولكنه لم يستطع أن ينفض رأسه من آثار تلك الوقائع التي انطوت فوقها صفحات ثلاثة عقود من السنين.. وراح يستعيدها في يقظته، فلا تكاد تزيد عمّا شهده قبل قليل في غفوته.. وسرعان ما اتصلت أحداث ذلك الماضي، النائم في زوايا عقله الباطن، بما تلاها من أحداث لا تزال تلاحقه منذ ذلك اليوم، دون أن يستطيع منها فكاكاً..(8/272)
وترك لخياله أن يعرض من أطيافه ما شاء.. فإذا هو تلقاء شريط لا يكاد يحيط بمضمونه.. إنه ليتابع ذاته المتحركة خلال هاتيك المشاهدات، فيراها مسيّرةً بقوة الاستعمار مع تلك المجموعات الزاحفة باتجاه دمشق.. ثم يرى إلى هذا الفتى وقد غاص إلى أذنيه في مشكلات بلاده، فهو عضو في (كتلة) ألفت بينها وحدة الاتجاه لتحرير الوطن من طغيان هذا الاستعمار، الذي أعقب انتصار الحلفاء ونقضَ الإنجليز لعهودهم التي يجف مدادها بعد.. ثم يراه وقد اندفع يثير حمية الشباب ليلهب طاقاتهم في هذه المعركة. وبأسلوبه المرح وسلوكه الشعبي استطاع أن يحقق الكثير، حتى لقد أصبح بحق (زعيم الشباب) كما كانوا يلقبونه..
وخاض فخري مع رفاقه قادة تلك الكتلة معارك طويلة ضد الفرنسيين، الذين أعلنوا منذ اليوم الأول لاحتلالهم دمشق، وبلسان طاغيتهم الجنرال غورو، إنهم طليعة حملة صليبية جديدة، جاءت لتغيير الواقع الذي فرضه انتصار صلاح الدين على أسلافهم في حطين.. وكانت أصداء هذا التصميم تتجاوب في كل مكان وطئته أقدام الحلفاء من ديار الإسلام، ففي استانبول يدمرون قواعد الخلافة على يد عميلهم الدونمي [1] مصطفى كمال، وفي فلسطين يطلق قائد الجيش الإنجليزي (ألَنبي) نذيره الدامي بإعلانه الوقح: أن الحروب الصليبية التي بدأها أجداده قبل ثمانية قرون قد انتهت بسحق القوى الإسلامية نهائياً.
ولتوكيد هذا التصميم يبدؤون إقامة قواعد الدولة اليهودية في قلب فلسطين الإسلامية، لتكون منطلق الصليبية لتحطيم كل تحرك إسلامي..(8/273)
وهكذا قُدّر لفخري ورفاقه أن يتولوا كُبر هذا النضال، الذي رفع طاقة الشعب السوري إلى القمة.. وقُدّر له تبعاً لذلك أن ينال نصيبه من الاعتقال والتشريد، ثم يعود مع إخوانه لاستئناف الزحف دون هوادة ولا مهادنة، حتى شاء الله أن يحقق الرجاء، فيسلط على المستعمر الفرنسي زميله الإنجليزي بنهاية الحرب العالمية الثانية، فلا يزال هذا يحرض عليه، ويتيح السوريين أن يسوقوا الضربات إليه، حتى غادر الشام خاسئاً مدحورا.. وبذلك تسنى لكتلة أن تفرغ من مرحلة الكفاح إلى مرحلة الحكم، فتقيم الجمهورية - بعد الملكية العابرة - وتمكّن للشعب أن يترجم عن إرادته باختيار نوابه لأول مرة.. فيكوّن ثمة دولة حديثة، تتوفر لها كل وسائل التقدم..
ولكن.. هل وجد فخري في ذلك كله ما يخفف القلق الذي ما زال يشحن صدره منذ أيام معان؟؟ وهل استطاعت الزعامة التي تبوأها بعد الاستقلال أن تسكت ذلك القرع الذي ما انفك يدق في جنبات قلبه حتى الآن؟..
لقد أدرك فخري ببداهته أن المسيرة قد بدأت من نقطة الخطأ، وكان ذلك منذ آثر العاملون لها استبدال العصبية بالإسلام، فأعانوا أعداءهم على أنفسهم، وركنوا إلى الذين ظلموا فمستهم نار الدنيا قبل نار الآخرة.. إنهم - جميعاً - ليحسون بالأخطار تحدق بهم من كل مكان، وتنذرهم بألوان الحدثان..ولكنكم مع ذلك لا يعرفون سبيل إلى تداركها وصدها.. إنهم مسوقون إلى حيث لا يعلمون.. وإن أقدامهم لتنزلق كل يوم إلى حيث لا يتوقعون ولا يريدون. ومع استيقانهم ذلك كله لا يستطيع التوقف، فهم كالمنحدر في السفح، يرى هول ما هو صائر إليه، ولكنه لا يملك القدرة على اجتنابه …
وذات يوم بلغ التوتر أقصاه في أعصاب فخري وفي توقعاته.. فأقبل على رفيقه المسئول الأول يصرخ به: أيها الرجل.. إن الماء يجري من تحتك..(8/274)
ألم تحس به بعد!.. لقد طالما نصحناك وإخوانك بالتخلص من (القلاع) التي استبقاها الفرنسيون لتدمير البلد.. فأبيتم أن تسمعوا.. حتى أوشك هي أن تتخلص منكم..
إن أخطاءنا اليومية قد فتحت الثغرات أمام الأفكار الهدامة، لتغزو قلب الجيل الناشئ، وتسلحه بكل أدوات التخريب.. فبأي علاج تواجهون هذه السموم؟ .. وبأي سلاح ستصدون هذا الهجوم؟!..
إن جهاز الحكم الذي يتكئ على المرتزقة لا يملك صلاحية الصمود طويلاً أمام الأحقاد التي يؤججها التنظيم الحزبي المضلل.. فمتى تفطنون إلى هذا الواقع؟ .. إذا لم ترحموا بلدكم.. فارحموا أنفسكم على الأقل.
وكان فخري يهدر بهذه النُذرُ في حماسة طاغية أنسته واجبات المجاملة، وصرفت ذهنه على ملاحظة الأبهة التي تحيط بمقام الرئاسة.. وبدا في موقفه، وقد صبغت الحمرة عينيه الواسعتين، وتقلصت عضلات وجهه الوردي، وباعد التهيج ما بين يديه، كأنه ملاكم يتحدى خصمه..
على أن حماسة فخري لم تغير شيئاً من تفكير الرئيس ولا مَن حوله من خواص رجال الحكم.. وللمرة العشرين - على الأقل - يسمع مثل هذا الجواب الذي لا يزيده إلاّ حَنَقاً ويأساً: هَوِّنْ عليك يا فخري بك.. إن كل شيء على ما يرام..
ومنذئذ آلى فخري على نفسه ألاّ يعود إلى مثل ذلك الموقف، وأن يهجر العمل السياسي.. ومن ثم أخذ طريقه في صمت إلى مزرعته، لينفض عن مكتبته غبار الزمن، وليستعيد معها بعض عهده الذي كاد ينساه..
وكان فخري غارقاً في مقدمة ابن خلدون عندما انتزعه من غمرته تلك قرع الهاتف الذي أبى أن يسكت، فمدّ يده إليه دون أن يصرف نظره عمّا بين يديه من الكتاب..
- آلو.. فخري بك؟..
- من حضرتك؟.. وما تريد منه؟..
- هنا حسني …
- حسني!.. نعم.. عرفتك.. ماذا تريد؟..
- أريد أن أراك.. إنني بانتظارك.. هنا في قصر المهاجرين..
- في قصر المهاجرين!(8/275)
- نعم يا فخري بك.. في قصر المهاجرين!.. في قصر الرئاسة.
- إذن.. هناك انقلاب عسكري!..
- نعم انقلاب عسكري.. لقد أنهينا عهد الفوضى.. وقبضنا على أزمة السلطة لإنقاذ البلاد.. إن السيارة في الطريق إليك.. نريد أن ننتفع بآرائك يا.. فخري بك..
وانقطع الحوار.. وأعاد فخري السماعة.. ثم أسند رأسه إلى راحته في هدوء غير طبيعي.. وكأنه كان على موعد مع الحدث، فلم يبد عليه أي أثر للاستغراب، وجعل يتمتم:
محضتهمو نصحي يمنعرج اللوى.
فلم يستبينوا النصح إلاّ ضحى الغد!.
وما هي إلا لحظات حتى كانت سيارة عليها شارة الحرس الجمهوري تجتاز مدخل المزرعة لتستقر عند باب المنزل. ويهبط منها بعض الضباط لإبلاغه دعوة (الزعيم) .. وفي صمت كئيب يمضي معهم إلى السيارة، التي أخذت تنهب بهم الطرق، ثم تجتاز الشوارع، التي انتثر خلالها الجند بخوذهم الفولاذية وأسلحتهم الرشاشة.. حتى احتواهم القصر، الذي كان آخر عهده به يوم تلقى سمعه من سيده تلك الكلمة التي دفعته إلى عزلته (.. كل شيء على ما يُرام..) .
وعلى الكرسي نفسه الذي غادر صديقه عليه ذلك اليوم.. استقبله صاحب الانقلاب في بشاشة صارمة وهو يقول: أهلاً بزعيم الشباب ...
وأجاب فخري بلهجته المطمئنة المرحة: ولكن عهد الشباب قد انتهى يا.. سيادة الزعيم.
وعقب الزعيم وهو يهز يده: أجل.. لقد بدأ عهد جديد.. وعلى كل سوري أن ينصره بكل مواهبه. وطبيعي أن يكون فخري بك في مقدمة مؤيديه..
وبعد لحظة صمت قال فخري: كل ما يملكه ابن سبعين مثلي أن يسأل الله لبلده الهداية والوعي الصحيح..
وأردف الزعيم: أوليست حركتنا هذه طليعة الاستجابة لدعائك!.
- ذلك ما أتمناه.. ولكن..
- ولكن.. ماذا؟!..
وبصراحته التي لم يستطع التخلي عنها يوماً قال: لقد فقدنا القدرة على الرؤية منذ اليوم الذين خرجنا على الخلافة..(8/276)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] نسبة إلى الدونمة، وهم فرقة من اليهود تظاهروا بالإسلام.(8/277)
دراسات في السُّنَّة النبوِيَّة
بقلم الشيخ محمد ضياء الرحمن الأعظمي
ولد مالك بالمدينة في قرب نهاية القرن الأول [1] وتلقى العلم على جماعة من التابعين وأهل الفتوى وصرف همه إليه في جد ونشاط وصبر على شدة الحر والجوع، وقد وهبه الله ذاكرة قوية يميز بها الضعفاء من الثقاة على حين كَثُر الكذابون والدجالون الذين يضعون الأحاديث على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد أثر عنه أنه قال: "إن هذا العلم دين فانظروا عمّن تأخذونه. لقد أدركت سبعين ممن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذه الأساطين فما أخذت عنهم شيئا، وإن أحدهم لو أؤتمن على بيت مال لكان أميناً إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن [2] ".
وفي رواية ابن وهب وحبيب وابن عبد الحكم عند مطرف عنه قال: "أدركت جماعة من أهل المدينة ما أخذت عنهم شيئا من العلم " [3] . هكذا كان مالك يتحرى في أخذ الحديث فما كان يتصدى لأخذه إلا إذا تيقن من صحته، واجتمع عليه أهل المدينة ثقة بدينه وتحرزه من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال زيد بن ثابت: "إذا رأيت أهل المدينة على شيء فاعلم أنه السنّة " [4] .(8/278)
وقد جاءت الآثار الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في اختصاص المدينة بفضل العلم، فمنها ما روى كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدين ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها" [5] ومعنى هذا الحديث أن الإسلام يقوم بأهل المدينة كما قال القاضي عياض:"والله ما يأرز إلا إلى أهله الذين يقومون به ويشرعون شرائعه ويعرفون تأويله ويقومون بأحكامه، وفي ذلك من مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم لا للأرض والدور ولكن لأهلها" [6] . وقال ابن أبي أويس سمعت مالكاً يقول في معنى هذا الحديث: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ" أي يعود إلى المدينة كما بدأ منها" [7] فمن هنا أخذ مالك قوله بعمل أهل المدينة. والباب واسع ما أردت الإحاطة ولكن ليس معنى ذلك أن السنة الثابتة إذا جاءت من ثقاة ضابطين وخالفها عمل المدينة فكان مالك يقدم العمل حاشا وكلا أن يكون هذا مراد مالك، بل معناه أن مخالفة عمل أهل المدينة للسنة الثابتة المتواترة أمر مستحيل لما كان لهم من فضل وتقدم ومشاهدة التنزيل وكيف تجتمع الأمة على ضلاله بعد خبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قلنا إن المراد بالأمة هنا الأمة الإسلامية عامة يجاب عنه بأن أهل المدينة أولى بهذا لقرب عهد الصحابة ووجودهم بالمدينة بكثرة هائلة كبيرة لم يرَ مثلها في أي بلد من البلاد، فقد عاش السائب بن يزيد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم 84 عاماً ومرثد بن عبد الله 79 عاماً وسهل بن سعد 81 عاماً وعبد الله بن جعفر 80، وسلمة بن الأكوع 64، ورافع بن خديج64، وسعيد بن خالد الجهني 63، وأسماء بنت أبي بكر 63، وعبد الله بن عمر 63، وعوف بن مالك الأشجعي 63، والبراء بن عازب 62، وجابر بن عبد الله الأنصاري 68 وغيرهم من الصحابة. ثم وجود الفقهاء السبعة: عروة بن الزبير والقاسم بن محمد وخارجة بن زيد، وأبو بكر بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعبيد الله بن(8/279)
عبد الله بن عتبة، ثم من أهل الفتوى: أبان بن عثمان وسالم ونافع وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وعلي بن الحسين وأبو بكر بن حزم ومحمد بن المنكدر ومحمد بن شهاب الزهري وغيرهم من التابعين رضوان الله عليهم أجمعين فقد عاش هؤلاء في القرن الأول في المدينة المنورة، فهذا الفضل العظيم لم تجمعه أرض تحت السماء إلى يومنا هذا وإلى هذا أشار الإمام مالك في رسالته إلى الليث بن سعد فقال: "إن الله تعالى يقول في كتابه: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ..} فإنما الناس تبع لأهل المدينة إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن وأحل الحلال وحرم الحرام إذ رسول الله بين أظهرهم يحضرون الوحي والتنزيل ويأمرهم فيطيعونه ويسن لهم فيتبعونه" [8] .
هذه بعض وجهة نظر مالك ولست الآن في صدد ذكر أدلته وإقامة الحجة لأصولهن فإن هذا بحث مستقل ولكن أردت أن أنبه شاخت وأمثاله بأن مالكاً لم يكن منكراً لحجية السنة كيف وقد روي عن الإمام يقول:"إنما أنا بشر أُخطئ وأصيبُ فانظروا في رأيي فما وافق الكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه" [9] ونكتفي بهذا القدر من الدفاع عن مالك.(8/280)
ونبدأ بالرد على شاخت في الطعن على الحنفية فنقول: قد أثر عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: "إياكم وآراء الرجال. ودخل عليه رجل والحديث يُقرأ عنده فقال الرجل دعونا من هذه الأحاديث. فزجره الإمام أشد الزجر وقال له لولا السنة ما فهم أحد منا القرآن، ثم قال للرجل ما تقول في لحم القرد وأين دليله في القرآن فأفحم الرجل. وكان من عادة الإمام أن يقول:"حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي" [10] وقد روى أبو جعفر الشيزاماري بسنده المتصل إلى الإمام أبي حنيفة أنه كان يقول: "كذب والله وافترى علينا من يقول عنا إننا نقدم القياس على النص وهل يحتاج بعد النص إلى القياس وكان يقول نحن لا نقيس إلا عند الضرورة الشديدة وذلك أننا ننظر أولاً في دليل تلك المسألة من الكتاب والسنة ثم أقضية الصحابة فإن لم نجد دليلاً قسنا حينئذ.. سكوتاً عنه على منطوق به بجامع اتحاد العلة بينهما"وقال أبو مطيع:"كنت يوما عند أبي حنيفة في جامع الكوفة فدخل عليه الثوري ومقاتل بن حيان وحماد بن سلمة وجعفر الصادق وغيرهم من الفقهاء فكلموا الإمام وقالوا قد بلغنا أنك تكثر من القياس في الدين وإنا نخاف عليك منه فإن أول من قاس إبليس. فناظرهم الإمام من بكرة نهار الجمعة إلى الزوال وعرض عليهم مذهبه وقال إني أقدم العمل بالكتاب ثم بالسنة ثم بأقضية الصحابة مقدماً ما اتفقوا عليه على ما اختلفوا فيه، وحينئذ أقيس فقاموا كلهم وقبلوا يده وركبته وقالوا له أنت سيد العلماء فاعف عنا فيما مضى منا من وقيعتنا فيك بغير علم. فقال غفر الله لنا ولكم" [11] .ومثل هذا الكلام نقل عنه في رسالته التي أرسلها إلى الخليفة أبي جعفر المنصور حين لامه بتقديم القياس على الحديث.(8/281)
وهذه الخصوصية ليست لأبي حنيفة فجميع الأئمة قاسوا الأمور عند عدم وجود النص كما قال الإمام الشافعي:"إذا لم نجد في المسألة دليلاً قسناها على غيرها". فمن اعترض على أبي حنيفة فكأنما اعترض على جميع الأمة. نعم هناك أمر لا بد من الانتباه إليه هو أن الأقيسة قد كثرت عن أبي حنيفة بالنسبة لغيره من الأئمة. والسبب في ذلك هو عدم رحلته إلى الأمصار والمدن والقرى لجمع الأحاديث كما فعل الصحابة والمحدثون والفقهاء. والسبب الثاني هو ما ذكره السرخسي قال:"قلّت الرواية عن أبي حنيفة حتى قال بعض الطاعنين إنه لا يعرف الحديث، وليس الأمر كما ظنوا بل كان أعلم عصره في الحديث وكلن لمراعاة شرط كمال الضبط قلّت روايته" [12] .
فهذا التشديد جاء لسبب انتشار الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصة في بلاد العجم ومقر الشيعة والخوارج وعدم تمييز الصحيح من غير الصحيح، ولم يتم في عصره وضع الموازين لنقد الأحاديث، ولم تدون الصحاح من غيرها، ولهذا لم يقبل العلماء خبر الآحاد في الأمور الاعتقادية، لأن العقيدة لا تؤخذ إلاّ بالأدلة القطعية كما هو معروف في أصول الشريعة.
وقد طعن بعض الناس في أبي حنيفة بعدم أخذه بخبر الآحاد ولكن الصحيح هو أخذه به وهذا مبسوط في آثار محمد بن الحسن الشيباني وفي كتاب أصول فخر الإسلام وفي الميزان للشعراني وغيرها من كتب الفقه.
فلماذا لا نقول بعد هذه الشبهات الواردة والأعذار الصريحة بأن الإمام أبا حنيفة لم يقصد بكثرة قياسه توهين حجية السنة بل فعل هذا معذوراً، فلو دونت الأحاديث الصحيحة وعثر عليها الإمام لأخذ بها وترك كل قياس قاسه إذا كانت السنة تخالفه. هكذا ينبغي للباحث أن يضع الأمور في موضعها ولا يفرط ولا يقصر ولا يتعصب ولا يتحزب، فكل بني آدم خطاؤون وخير الخطائين التوابون.(8/282)
وهذا الذي ننتظر من إخواننا المسلمين الذين ينتسبون إلى مذهب من المذاهب إذا بان لهم الحق ليكونوا معه. نسأل الله التوفيق والسداد.
المراجع والمصادر على حروف الهجاء
1
الإحكام في أصول الأحكام: ابن حزم
الطبعة الأولى سنة 1345
2
أصول الحديث النبوي: للدكتور الحسيني
المكتبة الأزهرية
3
أضواء على السنة المحمدية: محمود أبو ريه
الطبعة الأولى سنة 1377
4
الباعث الحثيث: ابن كثير تحقيق أحمد شاكر
الطبعة الثانية سنة 1370
5
البداية والنهاية: ابن كثير
الطبعة الأولى سنة 1348
6
ترتيب المدارك: القاضي عياض
الطبعة الأولى سنة 1387
7
تحفة الأحوذي: المباركفوري
الطبعة الثانية سنة 1383
8
تفسير ابن كثير: ابن كثير
دار إحياء الكتب
9
جامع بيان العلم: ابن عبد البر
الطبعة الأولى
10
جامع الترمذي
11
حياة أبي حنيفة: أبو زهرة
الطبعة الثانية سنة 1366
12
دائرة المعارف الإسلامية
لجنة الترجمة سنة 1353
13
الرسالة:الإمام الشافعي
تحقيق أحمد شاكر سنة 1358
14
رفع الملام عن الأئمة الأعلام
شيخ الإسلام ابن تيمية
15
سنن أبي داود: مطبعة السعادة
الطبعة الثانية سنة 1369
16
سنن الدارمي
الطبعة الأولى سنة 1349
17
سنن النسائي: مكتبة التجارة
الطبعة الأولى سنة 1348
18
سيرة ابن هشام
مطبعة الحلبي سنة 1355
19
السنّة: الدكتور السباعي
الطبعة الأولى سنة 1380
20
صحيح البخاري: مكتبة النهضة الحديثة
الطبعة الأولى سنة 1376
21
صحيح مسلم: دار الطباعة العامرة
الطبعة الأولى سنة 1329
22
فتح الباري: ابن حجر
الطبعة الأولى سنة 1300
23
كتاب الأم: للإمام الشافعي
الطبعة الأميرية سنة 1321
24(8/283)
لسان العرب
الطبعة الأولى سنة 1374
25
المستدرك: أبو عبد الله
الطبعة الأولى
26
المغني: محمد بن قدامة
مطبعة العاصمة
27
الميزان: عبد الوهاب الشعراني
الطبعة الأولى سنة 1279
28
النهاية: ابن الأثير
الطبعة الأولى سنة 1383
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ترتيب المدارك ج1 ص123.
[2] المصدر نفسه.
[3] المصدر السابق.
[4] المصدر السابق.
[5] ترتيب المدارك ج1 ص61.
[6] حم ج1 ص184، خ مدينة 6.
[7] المصدر السابق ج1 ص61.
[8] ترتيب المدارك ج1 ص64.
[9] الميزان للشعراني ج1 ص63.
[10] المصدر السابق ج1 ص147.
[11] الميزان للشعراني ج1 ص71.
[12] كشف الأسرار ج2 ص718 نقلا عن حياة أبي حنيفة لأبي زمعرة.(8/284)
العدد 24
فهرس المحتويات
1- وجوب الصدق والنصح في المعاملات: رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز
2- من أعلام المحدثين - أبو الحسن الدارقطني 306 - 385 هـ: للشيخ عبد المحسن العباد
3- أضواء من التفسير: للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
4- حديث مع زائر كريم:لفضيلة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي
5- حكم من لم يحكم بكتاب الله: بقلم الشيخ عطية محمد سالم
6- تمثيل رسول الله وتمثيل آل بيته وأصحابه رضوان الله عليهم: لفضيلة الشيخ محمد المنتصر الكتاني
7- العدوان على بنت عدنان: بقلم الدكتور يوسف عبد الرحمن الضبع
8- زائرة الليث: بقلم الشيخ محمد المجذوب
9- لا محاباة في الإسلام: لفضيلة الشيخ محمود عبد الوهاب فايد
10- من أعلام الهدى: بقلم الشيخ عبد الله الغنيمان
11- حول إعجاز القرآن الكريم - الابتداء بأسلوب: بقلم الدكتور علي حسن العماري
12- قضايا أساسية في تطوير المكتبة العربية والإسلامية: بقلم عيد عبد الله السيد
13- ليكن شعارنا الدائم الله وحده (2) : للشيخ السعيد الشربيني الشرباصي
14- ليبلوكم أيكم أحسن عملا: لفضيلة الشيخ ربيع بن هادي
15- المسلمون في الولايات المتحدة - حقيقة أليجا محمد وجمعيته المسماة بـ (المسلمين السود) : بقلم المسلم الأمريكي عمر فاروق عبد الله
16- هكذا دَربُنا: بقلم الشيخ عبد الله قادري
17- برقية: رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز
18- مذكرة جمعية الإصلاح الاجتماعي في الكويت
19- بين الكتب: إعداد العلاقات العامة
20- من الصحف والمجلات: إعداد العلاقات العامة
21- مقتطفات من كتاب الكنز المَرصود في قواعد التلمود (2) : ترجمه من اللغة الفرنساوية الدكتور يوسف حنا نصْر الله
22- ندوة الطلبة - أضغاث أحلام: بقلم الطالب محمد محمود جاد الله
23- أهمية صلاة الاستسقاء في الإسلام والاستغاثة المشروعة: للطالب محمد عزيزو المغربي
24- وداعاً. . يا أماه! : بقلم الطالب سفر بن عبد الرحمن الحوالي
25- الفتاوى: يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
26- أخبار الجامعة: إعداد العلاقات العامة
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(8/285)
وجوب الصدق والنصح في المعاملات
رئيس الجامعة الإسلامية عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى أوجب على المسلمين الصدق والنصح في جميع المعاملات وحرّم عليهم الكذب والغش والخيانة وما ذاك إلاّ لما في الصدق والنصح وأداء الأمانة من صلاح أمر المجتمع والتعاون السليم بين أفراده والسلامة من ظلم بعضهم لبعض وعدوان بعضهم على بعض ولما في الغش والخيانة والكذب من فساد أمر المجتمع وظلم بعضه لبعض وأخذ الأموال بغير حقها وإيجاد الشحناء والتباغض بين الجميع ولهذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الدين النصيحة قيل لمن يا رسول الله قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم". خرجه مسلم في صحيحه. وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: "بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم."وفي الصحيحين أيضا عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو قال حتى يتفرقا فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما". وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من غشنا فليس منا". وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على صبرة من طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا فقال ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال أصابته السماء يا رسول الله, قال أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس من غش فليس منا.." فهذه الأحاديث الصحيحة وما جاء في معناها كلها تدل على وجوب النصح والبيان والصدق في المعاملات وعلى تحريم الكذب والغش والخيانة في ذلك, كما تدل على أن الصدق والنصح من أسباب البركة في المعاملة, وأن الكذب والغش من أسباب(8/286)
محقها. ومن النصح والأمانة بيان العيوب الخفية للمشتري والمستأجر, وبيان حقيقة الثمن والسوم عند الإخبار عنهما, ومن الغش والخيانة الزيادة في السوم أو الثمن ليبذل المشتري أو المستأجر مثل ذلك أو قريبا منه, وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل, ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لأعطى بها كذا وكذا فصدقه وهو على غير ذلك, ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه منها وفا وإن لم يعطه منها لم يف". فالواجب على جميع المسلمين تقوى الله في المعاملة والحذر من أسباب غضب الله وأليم عقابه الذي توعد به أصحاب الغش والخيانة والكذب كما يجب على الجميع التواصي بالصدق والنصح وتقوى الله في جميع الأمور؛ لأن في ذلك سعادة الدنيا والآخرة وصفاء القلوب وصلاح المجتمع, وفي ذلك أيضا حصول البركة في المعاملة, والسلامة من أكل الحرام ومن ظلم المسلم لأخيه.
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه" وقال عليه الصلاة والسلام: "مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد, إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
وأسأل الله سبحانه أن يصلح أحوال المسلمين, ويجمع قلوبهم على التقوى, ويصلح قادتهم ويمنحهم جميعا الصدق والنصح في جميع الأمور, والتعاون على البر والتقوى. إنه جواد كريم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وأله وصحبه …(8/287)
من أعلام الهدى
بقلم الشيخ عبد الله الغنيمان: المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
ابن أبي زيد القيرواني أبو محمد عبد الله بن أبي زيد عبد الرحمن النغزي القيرواني شيخ المالكية بالمغرب، كان إماماً بارعاً في العلوم، واسع الثقافة والاطلاع، متبعاً طريق السلف الصالح، داعياً إليه بالقلم واللسان والعمل، كثير الحفظ, واسع العلم والرواية، فصيح اللسان والقلم, يقول الشعر ويجيده مع صلاح وورع وعفة, قال عنه القاضي عياض: "حاز رياسة الدنيا والدين وكان يُسمى مالكا الصغير، انتفع به خلق كثير في العلم والأخلاق ورحل إليه من أقطار الأرض وكثر الآخذون عنه وعظم شأنهم، عُني بمذهب مالك فلخصه ونشره وملأ البلاد بتآليفه العظمية الفائدة.."
له مع أهل البدع والأهواء مواقف مشكورة ومواقع معروفة, وكان مع سعة علمه وكثرة حفظه ذا بيان ومعرفة بما يقول، بصيراً بالرد على أهل الزيغ والانحراف. وكان سريع الانقياد إلى الحق وحيث أنه كان شديد الحب للسنة والتعظيم لها اشتد نكيره على المخالفين لها، ولا سيما في الاعتقاد فرد عليهم وبيّن قبح فعالهم ولهذا نالوا منه بألسنتهم التي لم يسلم منها صاحب سنة، وشنعوا عليه كما هو شأن كل مصلح في أي وقت كان.
ثناء العلماء عليه:
تقدم قول القاضي عياض أنه جمع رياسة الدين والدنيا، وقال ابن فرحون فيه: "اجتمع فيه الورع والعلم والفضل والعقل"، وقال القابسي: "هو إمام موثوق به في ديانته ورايته"، وقال أبو الحسن بن عبد الله القطان: "ما قلدت أبا محمد حتى رأيت النسائي يقلده". وقال الذهبي:"كان ابن أبي زيد من العلماء العاملين وكان غاية في علم الأصول".
مؤلفاته:
ابن أبي زيد مؤلف مجيد واسع الفكر دقيق التحقيق وقد كثرت مؤلفاته في حياته وملأت البلاد، ذكر القاضي عياض له ما يقارب من ثلاثين مؤلف ثم قال:"وكل تواليفه مفيدة بديعة غزيرة العلم".(8/288)
ومن شعره قوله:
تأبى قلوبٌ قلوب قوم.
وما لها عندها ذهوب.
وتصطفي أنفس نفوسا.
وما لها عندها نصيب.
ما ذاك إلا لمضمرات.
أضمرها الشاهد الرقيب.
عقيدته:
كان ابن أبي زيد رحمه الله سلفيا في عقيدته وسلوكه، بعيدا عن البدع والتحريف معتمدا على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم غير آبه بمن خالفهما كائنا من كان نصر السنة المحضة والطريقة السلفية لا يداهن في ذلك ولا يماري بل يقول الحق ويجهر به لا يخشى في الله لومة لائم، وشناعة مبتدع سليط اللسان فالله يجزيه خيرا.
أنموذج من كتابته في العقيدة:
قال في مقدمة رسالته المشهورة:
"باب ما تنطق به الألسنة وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات":
من ذلك الإيمان بالقلب والنطق باللسان أن الله إله واحد لا إله غيره ولا شبيه له ولا نظير له ولا ولد له ولا والد له ولا صاحبة له ولا شريك له. ليس لأوليته ابتداء ولا لآخريته انقضاء لا يبلغ كنه صفته الواصفون ولا يحيط بأمره المتفكرون. يعتبر المفكرون بآياته ولا يتفكرون في ماهية ذاته ولا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} .(8/289)
العالم الخبير المدبر القدير السميع البصير العلي الكبير، وأنه فوق عرشه المجيد بذاته [1] , وهو بكل مكان بعلمه, خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل الوريد، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلاّ في كتاب مبين, على العرش استوى وعلى الملك احتوى وله الأسماء الحسنى والصفات العلى, لم يزل بجميع صفاته وأسمائه, تعالى أن تكون صفاته مخلوقة, وأسماؤه محدثة, كلم موسى بكلامه الذي هو صفة ذاته لا خلق من خلقه, وتجلى للجبل فصار دكا من جلاله، وأن القرآن كلام الله ليس بمخلوق فيبيد ولا صفة لمخلوق فينفد، والإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره وكل ذلك قد قدره الله ربنا ومقادير الأمور بيده ومصدرها عن قضائه، علم كل شيء قبل كونه فجرى على قدره لا يكون من عباده قول ولا عمل إلاّ وقد قضاه وسبق علمه به, {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} , يضل من يشاء فيخذله بعدله ويهدي من يشاء فيوفقه بفضله, فكل ميسر بتيسيره إلى ما سبق من علمه وقدره من شقي أو سعيد، تعالى أن يكون في ملكه ما لا يريد, أو يكون لأحد عنه غنى, أو يكون خالقا لشيء, ألا هو رب العباد, ورب أعمالهم, والمقدر لحركاتهم وآجالهم, الباعث الرسل إليهم لإقامة الحجة عليهم ثم ختم الرسالة والنذارة والنبوة بحمد نبيه صلى الله عليه وسلم فجعله آخر المرسلين بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً, وأنزل عليه كتابه الحكيم, وشرح به دينه القوي, م وهدى به الصراط المستقيم, وأن الساعة آتية لا ريب فيها, وأن الله يبعث من يموت, كما بدأهم يعودون، وأن الله سبحانه ضاعف لعباده المؤمنين الحسنات, وصفح لهم بالتوبة عن كبائر السيئات, وغفر لهم الصغائر باجتناب الكبائر, وجعل من لم يتب من الكبائر صائرا إلى مشيئته، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}(8/290)
، ومن عاقبه الله بناره أخرجه منها بإيمانه فأدخله به جنته، ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، يخرج منها بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم من شفع له من أهل الكبائر من أمته، وأن الله سبحانه قد خلق الجنة فأعدها دار خلود لأوليائه وأكرمهم فيها بالنظر إلى وجهه الكريم وهي التي هبط منها آدم نبيه وخليفته إلى أرضه بما سبق في سابق علمه، وخلق النار فأعدها دار خلود لمن كفر به وألحد في آياته وكتبه ورسله وجعلهم محجوبين عن رؤيته، وأن الله تبارك وتعالى يجئ يوم القيامة والملك صفا صفا لعرض الأمم وحسابهم.
وتوضع الموازين لوزن أعمال العباد {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} , ويؤتون صحائفهم بأعمالهم فمن أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا ومن أوتي كتابه وراء ظهره فأولئك يصلون سعيرا.
وأن الصراط حق يجوزه العباد بقدر أعمالهم فناجون متفاوتون في سرعة النجاة عليه من نار جهنم وقوم أوبقتهم فيها أعمالهم. والإيمان بحوض رسول الله صلى الله عليه وسلم ترده أمته لا يظمأ من شرب منه ويذاد عنه من بدل وغير. وأن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقصها فيكون بها النقص وبها الزيادة ولا يكمل قول الإيمان إلا بعمل، ولا قول ولا عمل إلا بنية، ولا قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة. وأنه لا يكفر أحد بذنب من أهل القبلة. وأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون وأرواح أهل السعادة باقية ناعمة إلى يوم يبعثون وأرواح أهل الشقاوة معذبة إلى يوم الدين. وأن المؤمنين يفتتنون في قبورهم ويسألون، ويثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن على العباد حفظة يكتبون أعمالهم ولا يسقط شيء من ذلك عن علم ربهم. وإن ملك الموت يقبض الأرواح بإذن ربه. وأن خير القرون الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ثم الذين يلونهم.(8/291)
وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين. وأن لا يذكر أحد من صحابة الرسول إلا بأحسن ذكر والإمساك عمّا شجر بينهم وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب.
والطاعة لأئمة المسلمين من ولاة أمورهم وعلمائهم واتباع السلف الصالح واقتفاء آثارهم والاستغفار لهم وترك المراء والجدال في الدين وترك كل ما أحدثه المحدثون وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وعلى آله وأزواجه وذريته وسلم تسليما كثيرا انتهى.
توفي ابن أبي زيد رحمه الله في النصف من شعبان سنة 386 هـ سنة وثمانين وثلاثمائة، ودفن في داره بالقيروان رحمه الله وعفا عنه.
((الصدق))
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة. وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا. وإياكم والكذب. فإن الكذب يهدي إلى الفجور. وإن الفجور يهدي إلى النار. وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ... " متفق عليه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ذكر الحافظ الذهبي جماعة من السلف أطلق هذه العبارة, انظر كتاب العلو صفحة 171ط السلفية.(8/292)
حول إعجاز القرآن الكريم
الابتداء بأسلوب
بقلم الدكتور علي حسن العماري: المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
من الحقائق الثابتة المقررة التي لا سبيل إلى الشك فيها أن القرآن الكريم كتاب عربي مبين، وأن ألفاظه هي الألفاظ التي كان يستعملها العرب في نثرهم وشعرهم، _ وإن كان يمتاز بالدقة البالغة في اختيار اللفظ لموقعه الذي أريد له _ وأن تراكيب القرآن هي تراكيبهم، وأن الطرق التي سلكها في أداء أغراضه ومعانيه هي طرقهم، ولكنه يمتاز _ أيضا _ ويتفرد بسمو التراكيب، وعلو الطريقة، والروعة المعجزة في اختيار هذه وتلك.
غير أن القرآن الكريم خالف نهج العرب وطريقتهم في شيء واحد، هو ذلك البناء الكلي للآية، وللآيات، وللسور، فهو متميز ببناء فريد لم يكن قبله، ولم يأت بعده ما يماثله.
وقد أدرك فصحاء العرب ذلك منذ اللحظة الأولى لنزول القرآن الكريم، فمما روي من ذلك ما جاء على لسان الوليد بن المغيرة حين سمع من النبي _ صلى الله عليه وسلم _ آيات من القرآن فكأنه رقّ لها، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عم, إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوكه لئلا تأتي محمدا لتعرض لما قاله. قال الوليد: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك كاره له. قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكم أحد أعلم بالشعر مني، ولا برجزه، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من ذلك [1] .
وفي رواية أخرى أن الوليد جاء يوماً إلى قريش، فقال: إن الناس يجتمعون غداً في الموسم، وقد فشا أمر هذا الرجل في الناس، فهم سائلوكم عنه فمادا تردون عليهم؟ فقالوا: مجنون يخنق. فقال: يأتونه فيكلمونه، فيجدونه صحيحا فصيحا عادلا فيكذبونكم. لقد ولد بين أظهركم لم يغب عنكم ليلة واحدة ولا يوما فهل رأيتموه يخنق قط؟(8/293)
قالوا: نقول: هو شاعر, قال: هم العرب، وقد رووا الشعر، وفيهم الشعراء. وقوله ليس يشبه الشعر فيكذبونكم. قالوا: نقول: هو كاهن. قال: إنهم لقول الكهان فإذا سمعوا قوله لم يجدوه يشبه الكهنة فيكذبونكم [2] .
ومن ذلك ما روي عن عتبة بن ربيعة حين سمع النبي صلى الله عليه وسلم يتلو سورة (فصلت) ، وأنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما، فلما رجع إلى قريش، وسألوه ما وراءك؟ قال: ورائي أني سمعت قولاً، والله ما سمعت بمثله قط، وما هو بالشعر، ولا السحر، ولا الكهانة [3] .
ويؤيد هذين ما جاء في إسلام (أبي ذر) _ رضي الله عنه _: روي أنه قال: "قال لي أخي أنيس: إن لي حاجة إلى (مكة) ، فانطلق، فراث، فقلت: ما حبسك؟ قال: لقيت رجلا يقول: إن الله تعالى أرسله. فقلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر، ساحر، كاهن، قال أبو ذر: وكان أنيس أحد الشعراء. قال: تالله، لقد وضعت قوله على أقراء الشعر [4] ، فلم يلتئم على لسان أحد، ولقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، والله إنه لصادق، وإنهم لكاذبون.
فهذه شهادات ذوات بال من هؤلاء الفصحاء تؤكد أن القرآن الكريم لون مختلف عن ألوان القول التي كان العرب يعرفونها.
هو شاعر، هو كاهن. هاتان التهمتان هما أول ما بدأ العرب يتهمون بهما الرسول _ صلى الله عليه وسلم _، وقد أبطل القرآن الكريم هاتين التهمتين بصورة قاطعة: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ. إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ. وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [5] .(8/294)
فمشركو العرب ادعوا أن القرآن شعر، وادعوا أنه كهانة، ومعنى هذا أن شبه القرآن عندهم بالشعر، وبكلام الكهان هو الذي يمكن أن يذيعوه، وهم حريصون على أن يقولوا ما يمكن أن يُصدّقوا فيه، فهم _ بذلك _ يقرون أنه ليس كسائر الكلام، وإنما هو نوع خاص منه، وقد نفى بعض فصحائهم أن يكون القرآن شعراً، أو أن يكون قول كاهن، كما نفى القرآن الكريم ذلك، فثبت أن القرآن في أسلوبه وطريقة أدائه ومبناه الكلي مخالف لكلام العرب، ومتميز عنه، وإن كانت ألفاظه ألفاظهم، وتراكيبه تراكيبهم.
ومرت حقب، وظهر البحث في إعجاز القرآن الكريم، وفي بيان أسرار هذا الإعجاز، وفي الحديث عنه بعامة، وكادت تتفق كلمة العلماء على أن القرآن الكريم جاء بأسلوب جديد، غير الأساليب التي يعرفها العرب، فليس هو بشعر، وليس هو بخطابة، ولم يجئ على طريق الحكم والوصايا والأمثال التي أثرت عنهم، ولا الرسائل، ولكل من هذه الأنواع (قالب) خاص معروف لدى العرب، والقالب الذي جاء عليه القرآن الكريم غير كل هذه القولب.
ذكر عيسى بن علي الرماني (م 386 هـ) في رسالته (النكت في إعجاز القرآن) أن القرآن جاء بأسلوب جديد حيث قال: "وأما نقض العادة فإن العادة كانت جارية بضروب من أنواع الكلام معروفة: منها الشعر، ومنها السجع، ومنها الخطب، ومنها الرسائل، ومنها المنثور الذي يدور بين الناس في الحديث، فأتى القرآن بطريقة مفردة خارجة عن العادة لها منزلة في الحسن، تفوق كل طريقة" [6] .(8/295)
وسار على هذا المنهج أبو بكر الباقلاني فأطال القول في هذا المعنى، ومن ذلك قوله: "إنه نظم خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلامهم، ومباين لأساليب خطابهم، ومن ادعى ذلك لم يكن له بد من أن يصحح أنه ليس من قبيل الشعر، ولا من قبيل السجع، ولا الكلام الموزون غير المقفى، لأن قوما من كفار قريش ادعوا أنه شعر، ومن الملحدة من يزعم أن فيه شعراً، ومن أهل الملة من يقول: إنه كلام مسجع، إلا أنه أفصح مما قد اعتادوه من أسجاعهم، ومنهم من يدعي أنه كلام موزون. فلا يخرج بذلك عما يتعارفونه من الخطاب" [7] .
ثم أخذ الباقلاني يبرهن على أن القرآن مخالف لكل واحدمن هذه الأنواع، بل نراه يقول في بعض كلامه: "ولو كان القرآن سجعاً لكان غير خارج عن أساليب كلامهم، ولو كان داخلاً فيها لم يقع بذلك إعجاز". وفي موضوع ثالث يقول: "فاستدللنا بتحريهم في أمر القرآن على خروجه عن عادة كلامهم، ووقوعه موقعا يخرق العادة، وهذه سبيل المعجزات".
وظل يردد هذا كثير من العلماء حتى في عصرنا الحديث، فقد قال الدكتور طه حسين، وهو يتحدث عن النثر الفني: "ولكنكم تعلمون أن القرآن ليس نثرا، كما أنه ليس شعرا، إنما هو قرآن، ولا يمكن أن يُسمى بغير هذا الاسم، ليس شعرا، وهذا واضح، فهو لم يتقيد بقيود الشعر، وليس نثرا لأنه مقيد بقيود خاصة به لا توجد في غيره، وهي هذه القيود التي يتصل بعضها بأواخر الآيات، وبعضها بتلك النغمة الموسيقية الخاصة، فهو ليس شعرا ولا نثرا، ولكنه: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} . فلسنا نستطيع أن نقول: إنه نثر، كما نص على أنه ليس شعرا.
كان وحيدا في بابه، لم يكن قبله، ولم يكن بعده مثله، ولم يحاول أحد أن يأتي بمثله، وتحدى الناس أن يحاكوه، وأنذرهم أن لن يجدوا إلى ذلك سبيلا". [8](8/296)
وهذا تأييد لرأي المتقدمين من علمائنا، ولكن فيه بعض الأوجه التي يباين بها القرآن الكريم النثر العربي، فهو مقيد بما يتصل بأواخر الآيات، وهو ذو نغمة موسيقية خاصة _ وإن كنت لا أستريح لوصف ما نحسه في كلمات القرآن بأنه نغمة موسيقية.
ونستطيع أن نزيد على ما قاله الدكتور طه: (الجو الخاص) الذي تتسم به كل سورة على حدة، حتى إن المتذوق للقرآن يدرك بحسه أن لكل سورة روحا خاصة، وطابعا خاصا، وطعما خاصا _ إن صح هذا التعبير _ وهو يستطيع أن يدرك حتى ولو كان نسي ما حفظ من القرآن أن هذه الآية من هذه السورة أو ليست منها.
وهذا شيء وجدته في نفسي، فقد كانت تمر بي الآية لا أعرف مكانها من سور القرآن فإذا خطر لي أنها من سورة كذا اطمأنت النفس إلى ذلك، أو نفرت منه، لأن فيها جواً خاصاً لكل سورة تستطيع باستحضاره أن تحس بأن هذه الآية من هذا الجو أو ليست منه.
وهذا المعنى يجول في نفسي منذ زمن بعيد، وأحس به إحساسا قويا، وقد هممت أكثر من مرة أن أعبر عنه، وأكشف بأسلوب واضح عن جو كل سورة، ولكني لم أستطع، أو قل ولكن وضوح هذا في ذهني لم يكن بالدرجة التي تستطيع قدرتي في اللغة أن تكشف عنه، فهو واضح في حسي كل الوضوح، ولكنه غامض عندما يريد العقل أن يعبر عنه بألفاظ اللغة.
وكم تمنيت أن يستطيع أحد من المتذوقين للقرآن الكريم أن يعبر عن هذا الإحساس ولو بأسلوب مقارب، إن لم تسعفه قدرته اللغوية على أن يكشف بوضوح تام.
ولأضرب لذلك بعض الأمثلة, أنظر _ مثلاً _ في سورة (النبأ) , وفي سورة (النازعات) وهما سورتان متجاورتان في المصحف، وفواصلهما أكثرها على الألف، ولكنك تجد إحساسك بإحداهما غير إحساسك بالأخرى، وأدل الدليل على ذلك أنك لو أخذت آية من إحداهما وأدخلتها بين آيات الأخرى لنبا بها مكانها، ليس فقط من جهة أن معناها ربما لا يتفق مع سياق الآيات التي أدمجت فيه، ولكن لأن نظمها وطابعها وطعمها، كل ذلك مختلف.(8/297)
بل إن القصة القرآنية لها في كل سورة طابع غير طابعها في السورة الأخرى، مع اتحاد المضمون، وهي في ذلك متفقة مع الطابع العام للسورة، حتى إنك _ لو كنت متذوقا للقرآن _ تستطيع أن تقول إن هذه القصة بهذا الأسلوب تشبه أن تكون في سورة كذا.
ومما يقرب ذلك بعصر التقريب أنك لو فعلت ذلك في نثر أي كاتب من الكتاب المعرفين بأساليب خاصة. ففي كتاب العربية عدد قليل في القديم والحديث عُرف كل واحد منهم بأسلوب خاص، فلو أنك أخذت فقرة بل فقرات من رسالة كاتب من هؤلاء ووضعتها في رسالة أخرى له لم تشعر بأي تغيير في الأسلوب ما دامت المعاني متلائمة.
ومما امتاز به البيان القرآني التلاؤم التام بين مفرداته وتراكيبه ومعانيه، فلو أنك رفعت كلمة من موضعها ووضعت مكانها كلمة مرادفة لها لأدركت بذوقك وإحساسك _ لأول وهلة _ ما اعترى الكلام من الخلل والضعف.
نقل الزركشي في (البرهان) عن (ابن عطية) في مقدمة التفسير قوله: "وكتاب الله سبحانه لو نزعت منه لفظة، ثم أدير لسان العرب على لفظه أحسن منها لم توجد".
وكذلك لو عبر عن المعنى الذي تضمنته الآية بأي أسلوب آخر لكان الأداء ناقصا، لا سيما عندما ينعم الإنسان النظر فيما تحتويه الآية من معنى.
وعند (ابن حزم) الظاهري أن القرآن ليس من نوع بلاغة الناس [9] ، وأنه ليس من نوع كلام المخلوقين لامن أعلاه ولا من أدناه ولا من أوسطه [10] وأن آية ذلك الأقسام التي في أوائل السور، والحروف المقطعة التي لا يعرف أحد معناها، قال: "وبرهان هذا أن إنسانا لو أدخل في رسالة له أو خطبة أو تأليف أو موعظة حروف الهجاء المقطعة لكان خارجاً عن البلاغة المعهودة بلا شك، فصح أنه ليس من نوع بلاغة الناس أصلاً".(8/298)
وذكر أن مما تميّز به القرآن عن بلاغة الناس (إدخال معنى بين معنيين ليس بينهما، كقوله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِك} . وليس هذا من بلاغة الناس في ورد ولا صدر، ومثل هذا في القرآن كثير.
وابن حزم يوافق بذلك ما قاله الباقلاني، ولكنه أكد هذا المعنى لغرض آخر لم يتورع عن إظهاره، فعنده أن القرآن معجز، ولكن إعجازه جاء من منع الله العرب أن يعارضوه، ويسرف في ذلك إسارفاً غير مقبول ولا معقول حيث يقول: "وليس هو في أعلى درج البلاغة لأنه؛ لو كان كذلك _ وقد أبى الله عز وجل أن يكون _ ما كان حينئذ معجزا، لأن هذه صفة كل باسق في صفته، والشيء الذي هو كذلك، وإن كان قد سبق في وقت ما فلا يُؤمن أن يأتي في غد ما يقاربه، بل ما يفوقه، ولكن الإعجاز في ذلك إنما هو أن الله عز وجل حال بين العباد وبين أن يأتوا بمثله، ورفع عنهم القوة في ذلك" [11] .
ومن غريب ما ذكره هذا العالم الكبير في هذا الفصل أن كل كلمة قائمة المعنى إذا تليت على أنها من القرآن معجزة، لا يقدر أحد على المجئ بمثلها أبداً، وأن الكلمة المذكورة متى ذكرت في خبر على أنها ليست قرآنا فهي غير معجزة ". قال: "وهذا هو الذي جاء به النص، والذي عجز عنه أهل الأرض مذ أربعمائة عام وأربعمائة عام وأربعين عاما".
فابن حزم من القائلين (بالصرفة) وهو مذهب باطل، وقد أثبتُّ بطلانه في غير هذا الموضع [12] .
ثم إن من العلماء من اعتبر هذا التمايز هو سر الإعجاز، أو هو أحد وجوه الإعجاز، كما مرّ بنا في رأي الباقلاني، ومنهم من سلّم بالتمايز ولكنه أنكر أن يكون هذا هو سر الإعجاز، أو أحد الأسرار فيه.(8/299)