{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} .
{وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} .
{قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} .
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} .
{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .
{قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} .
{خَلَقَ الإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} .
{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} .
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} .(5/267)
بهذه الآيات وما جرى مجراها، تقررت فريضة التفكير في الإسلام، وتبين منها أن العقل الذي يخاطبه الإسلام هو العقل الذي يعصم الضمير، ويدرك الحقائق، ويميز بين الأمور، ويوازن بين الأضداد، ويتبصر ويتدبر ويحسن الادكار والرواية، وأنه هو العقل الذي يقابله الجمود والعنت والضلال، وليس بالعقل الذي قصاراه من الإدراك أنه يقابل الجنون، فإن الجنون يسقط التكليف في جميع الأديان والشرائع وفي كل عرف وسنة، ولكن الجمود والعنت الضلال، غير مسقطة للتكليف في الإسلام وليس لأحد أن يعتذر بها كما يعتذر للمجنون بجنونه فإنها لا تدفع الملامة ولا تمنع المؤاخذة بالتقصير.
ويندب الإسلام من يدين به، إلى مرتبة في التفكير أعلى من هذه المرتبة التي تدفع عنه الملامة أو تمنع عنه المؤاخذة فيستوجب له أن يبلغه بحكمته ورشده، ويبدو فضل الحكمة والرشد على مجرد التعقل والفهم من آيات متعددة في الكتاب الكريم يدل عليها أن الأنبياء يطلبون الرشد ويبتغون علماً به من عباد الله الصالحين. كما جاء في قصة موسى والخضر عليهما السلام.(5/268)
الإمام أحمد ودفاعه عن السنة
بقلم الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي
محنة الإمام أحمد:
قال الإمام ابن كثير (10: 334) : فلما لم يقم لهم معه حجة عدلوا إلى استعمال جاه الخليفة فقالوا: يا أمير المؤمنين ليس من تدبير الخلافة أن تخلي سبيله ويغلب خليفتين. فعند ذلك حمي واشتد غضبه وكان ألينهم عريكة وهو يظن أنهم على شيء. قال أحمد: "فعند ذلك قال لي لعنك الله ".(5/269)
ثم قال المعتصم: طمعت فيك أن تجيبني ثم قال: خذوه واخلعوه واسحبوه. قال أحمد: فأخذت وسحبت وخلعت وجيء بالعاقبين والسياط وأنا أنظر وكان معي شعرات من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم مصرورة في ثوبي فجردوني منه وصرت بين العقابين فقلت يا أمير المؤمنين الله الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرءٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلاّ بإحدى ثلاث". وتلوت الحديث وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" فبمَ تستحل دمي ولم آت شيئاً من هذا؟. يا أمير المؤمنين أذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك. ولم تؤثر هذه النصوص الصحيحة الثابتة في المعتصم بل زادته طغياناً وعلواً وفساداً. قال الإمام أحمد: فأمر بي فقمت بين العقابين وجيء بكرسي فأقمت عليه وأمرني بعضهم أن آخذ بيدي بأي الخشبتين فلم أفهم فتخلعت يداي وجيء بالضرابين ومعهم السياط فجعل أحدهم يضربني سوطين، ويقول له المعتصم: شد قطع الله يديك ويجيء الآخر فيضربني سوطين ثم الآخر كذلك فضربوني أسواطاً فأغمي عليّ، وذهب عقلي مراراً فإذا سكن الضرب يعود عليّ عقلي، وقام المعتصم إليّ يدعوني إلى قولهم فلم أجبه، وجعلوا يقولون: ويحك الخليفة على رأسك فلم أقبل، وأعادوا الضرب ثم عاد إليّ فلم أجبه فأعادوا الضرب ثم جاء إليّ الثالثة فدعاني فلم أعقل ما قال من شدة الضرب، ثم أعادوا الضرب فذهب عقلي فلم أحس بالضرب، وأرعبه ذلك من أمري، وأمر بي فأطلقت ولم أشعر إلاّ وأنا في حجرة من بيت، وقد أطلقت الأقياد من رجلي وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من رمضان من سنة إحدى وعشرين ومائتين.(5/270)
قال الإمام ابن كثير: "ثم أمر الخليفة بإطلاقه إلى أهله وكان جملة ما ضرب نيفا وثلاثين سوطاً وقيل ثمانين سوطاً ولكن كان ضرباً مبرحاً شديداً جداً، وقد كان الإمام أحمد رجلاً طوالا رقيقاً أسمر اللون كثيراً التواضع رحمه الله تعالى ".
قلت: لولا الله عز وجل ثم الإمام أحمد ووقوفه أمام تلك القوة الباغية الطاغية بذلك الإيمان الراسخ وتضحيته وفداؤه لما كان لنا هذا القرآن وهذه السنة ولاندثرت معالم الحق وينابيع الخير وطمست عقيدة السلف، ولما كان للإمام ابن تيميه عليه الرحمة ذلك الجهاد القوي المتين الذي يضرب به المثل أمام الخلائق، ولما كان لمجدد القرن الثاني عشر شيخ الإسلام محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ذلك النصيب الأوفر من الدعوة المحمدية التي أقام بها الدولة المحمدية في شبه الجزيرة العربية ولا تزال قائمة حتى الآن، فالفضل لله عز وجل كله ثم للإمام أحمد رحمه الله تعالى.
قال الحافظ ابن حجر في (التهذيب: 1: 75) نقلاً عن ابن حبان في كتابه (الثقات) مشيراً إلى الإمام: أحمد كان حافظاً متقناً فقيهاً ملازماً للورع الخفي مواظباً على العبادة الدائمة أغاث الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم وذاك أنه ثبت في المحنة وبذل نفسه لله حتى ضرب بالسياط للقتل فعصمه الله تعالى عن الكفر وجعله علماً يقتدى به، وملجأ يلجأ إليه. وقال أبو الحسن ابن الزاغوني: كشف قبر أحمد حين دفن الشريف أبو جعفر بن أبي موسى إلى جانبه فوجد كفنه صحيحاً لم يَبْلَ وجنبه لم يتغير وذلك بعد موته بمائتين وثلاثين سنة) انتهى.
قلت: ليس هذا بغريب في الإسلام فقد وردت في الجامع الصحيح للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى قصة مماثلة وقعت لصحابي جليل استشهد في غزوة أحد ثم أخرجه ابنه بعد ستة أشهر فوجده كما كان رضي الله عنه [1] .(5/271)
قلت: ترجم للإمام أحمد السيد صديق حسن خان القنوجي البخاري المتوفي سنة 1248هـ. العالم السلفي الجليل صاحب تفسير فتح البيان في التاج المكلل ص 24 – 28 فأجاد وأفاد مع الاختصار، وكانت وفاته رضي الله تعالى عنه في مائتين وإحدى وأربعين. وسوف أتعرض لترجمته -إن شاء الله تعالى- في بحث مستقل بالتفصيل. وأما الآن فأضع أمامكم مخطوطاً مصوراً عظيماً يوجد في مكتبة الحرم المكي في علل الحديث ومعرفة الرجال، فهو كتاب لصاحب هذه الترجمة العاطرة، الذي يعتبر أول كتاب في الإسلام في علل الحديث فيما أظن، ومن العجيب أنه لم يرد له ذكر في الفهارس الموجودة لدينا ككشف الظنون وذيوله وفي الرسالة المستطرفة للكتاني. وكذا في كتب أصول الحديث التي توجد الآن في مكتبتنا الإسلامية على ما أظن والله أعلم. وهذا أمر يستغرب منه أشد الاستغراب وكيف لا؟ وقد ذكرت كتب علل الحديث للمؤلفين الذين لا وزن لهم بالنسبة لهذا الرجل العظيم الذي أنقذ الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورفع به شأن السنة المحمدية وكل ما كتب في حق الإمام أحمد رحمه الله فهو قليل جداً من كثير فكتابة الذي أنا بصدده فهو (علل الحديث ومعرفة الرجال) الذي طبع منه الجزء الأول في أنقرة بتركيا نشره الدكتوران المسلمان طلعت وإسماعيل جراح أوغلي عام (1963) م نشراه عن النسخة الفريدة الموجودة بمكتبة آياصوفيا تحت رقم (3380) عورضت على أبي علي بن الصواف (359 – 970) في سنة 343 وقوبلت بنسخة عبد الله بن الإمام أحمد بن محمد ابن حنبل مع تعليقات وحواش. وكان هذا المجهود العلمي الكبير من كلية الإلهيات بجامعة أنقرة.
قلت: إن كتاب الجرح والتعديل للإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي فرع لهذا الكتاب، إن قارنت بين عبارتيهما يظهر لك كل شيء مما يدل على أن كتاب علل الحديث للإمام أحمد أصل أصيل في علل الحديث والله أعلم.(5/272)
والجزء الأول المطبوع في تركيا قد خدم خدمة جبارة ممتازة من قبل الدكتورين المذكورين، وقد وعدا بأن يخرجا الجزء الثاني للكتاب إلاّ أن هذا الوعد الكريم قد مضى عليه أكثر من تسع سنوات ولم أدر ماذا جرى لها، والنسخ التي وردت في هذه البلاد المقدسة كانت محدودة جداً على ما أظن من تركيا الإسلامية.
يقع هذا الجزء الأول من الكتاب مع التحقيق في خمسمائة صفحة واليأس مسيطر على ذوي الحاجة من طلاب الحديث بأن حصل مانع للأخوين الكريمين من إخراج بقية الكتاب أو جاء على أحدهما أو على كليهما نداء رباني فلباه أو هناك أمور أخرى لا نعلمها والله أعلم بهما وبما فعلا.
وأما المخطوط الذي أنا بصدد تعريفه فهو مصور بصورة فوتوغرافية مأخوذة من مكتبة أياصوفيا بتركيا ورقم الكتاب هناك بتلك المكتبة هو (3380) وهو واقع في 178 ورقة والمطبوع منه إلى 97 ورقة والباقي الذي لم يطبع حسب ما بلغ علمي إحدى وثمانون ورقة. وقد ذكرت من قبل أن المطبوع هو الجزء الأول فأحب أن أوضح هذا الأمر لئلا يشكل على أهل العلم. إن الجزء الأول المطبوع مشتمل على أربعة أجزاء حقيقية حسب ترتيب المؤلف رحمه الله تعالى، وأما تسمية المطبوع بالجزء الأول فهو من اصطلاح الناشرين فالكتاب كله واقع في ستة عشر جزءاً. والأجزاء الأربعة الأول المطبوعة أكبر حجماً من الأجزاء الثمانية الباقية التي لم تطبع حسب ما بلغ علمي والتي تقع في إحدى وثمانين ورقة في مخطوطنا هذا والله تعالى أعلم.
وأما آخر عبارة المطبوع من الأجزاء الأربعة فهي كالآتي:
قلت: قال عبد الله بن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى قرأت على أبي أبو بدر قال: صليت على جنازة ابن أبجر أنا وسفيان الثوري فتقدم عليه أخ له [2] وفي رأيه شيء فصلى عليه وكان في رواية شيء فكبر عليه خمساً فلما فرغ من الرابعة سلم سفيان فأقبل عليّ ثم قال ما يريدون إلى هذا انتهى.(5/273)
وأما آخر العبارة من الأجزاء الثمانية الباقية غير المطبوعة فهي كالآتي: حدثني أبي قال سمعت سفيان يقول قال لي عمر بن وهب يعني سنداً أنه لا يحدثك به أنه لا يذكره، قال سفيان فقلت لعبد الرحمن سمعت أباك فحدث عن عائشة فسكت ساعة ثم قال: نعم.
آخر الجزء السادس عشر من أجزاء عبد الله بن أحمد وهو آخر الكتاب (والحمد لله وحده وصلى الله وملائكته على محمد النبي وآله وسلم تسليماً) .
قلت: ويقع هذا الكتاب المبارك العظيم النفع في ستة عشر جزءاً وقد كتب على غلافه الكلمات التالية: الجزء الأول من كتاب العلل ومعرفة الرجال عن أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله تعالى رواية أبي علي محمد أحمد بن الحسن الصواف عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه أبي عبد الله سماع عبيد الله بن أحمد لأبي الحسن علي ابن الحسن بن أحمد المقري. وسمعه قراءة على الشيخ أبي الفتح محمد أحمد أبي الفوارس علي بن أبي علي بن الصواف وذلك في محرم سنة ثنتي عشرة وأربعمائة وسمع جميعه -أيضاً- محمد بن ضران بن الحسين المزارع وعبد الواحد ... الخ. وقد كتبت عبارة أخرى على الغلاف أيضا
وهي كالآتي: (وقف هذه النسخة الجليلة سلطاننا الأعظم وخاقان المعظم السلطان ابن السلطان محمود خان وقفاً صحيحاً رضا لمن طالع وتبصر) .
قلت: هناك عبارة واقعة على الغلاف وهي تدل على أن هذه النسخة كانت في الحرمين في عصر من العصور ثم ذهب بها إلى تركيا ومن العجيب العجاب كيف كانت تنقل هذه النسخ الثمينة بعد وقف صاحبها على مكتبات الحرمين!(5/274)
قلت: هذه النسخة -والله تعالى أعلم- فريدة في العالم كما ذكر الدكتوران الكريمان في تحقيقهما على الكتاب المذكور، فهذه النسخة التي أمامي في مكتبة الحرم المكي مأخوذة من مكتبة أياصوفيا وهي التي أشار إليها الأخوة، وزد على ذلك ما ذكره كارل بروكلمان في تاريخ الأدب العربي -الذي نقله إلى العربية الدكتور عبد الحليم النجار (ج 3: 312) -يقول: المذكور 8 كتاب العلل والرجال لأبي عبد الله أحمد ابن حنبل الشيباني الذهلي أياصوفيا 3380 (انظر 249، 17 الفهرست) ، قلت: يوجد الجزء الثاني عشر من الكتاب في معهد المخطوطات العربية راجع الفهرست ج 2: 110 وقد صور هذا الجزء من مكتبة الظاهرية بدمشق الذي سجل هناك برقم 544 – ف46 راجع نفس المرجع وكتب هذا الجزء بخط قديم في سنة 341 في عشر ورقات.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] بل حدث أن كشفت أجسام بعض شهداء أحد بعد عشرات السنين فظهرت حديثه العهد كأنما دفنت ليومها.
[2] هكذا في أصل المقال "المجلة".(5/275)
الحج فضله وفوائده
بقلم الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
المدرس في كلية الشريعة بالجامعة
الحج عبادة من العبادات افترضها الله وجعلها إحدى الدعامات الخمس التي يرتكز عليها الدين الإسلامي والتي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام) .(5/276)
وقد حج بالناس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السنة العاشرة من الهجرة حجته التي رسم لأمته فيها عملياً كيفية أداء هذه الفريضة وحث على تلقي ما يصدر منه قول وفعل فقال صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا". فسميت حجته -صلى الله عليه وسلم- (حجة الوداع) وقد رغّب صلى الله عليه وسلم أمته في الحج وبَيَّن فضله وما أعد الله لمن حج وأحسن حجه من الثواب الجزيل فقال -صلى الله عليه وسلم-: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" رواه البخاري ومسلم، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلاّ الجنة" متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الصحيحين -أيضاً- عنه رضي الله عنه. قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل ثم ماذا؟ قال: حج مبرور". وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن العاص رضي الله عنه عند إسلامه: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله ... ". وروى البخاري في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال لا ولكن أفضل الجهاد حج مبرور". ويتضح من هذه الأحاديث وغيرها فضل الحج وعظم الأجر الذي أعده الله للحجاج ويتضح أن هذا الثواب العظيم إنما هو لمن كان حجه مبروراً. فما هو بر الحج الذي رتب الله عليه ذلك الثواب العظيم؟.(5/277)
إن برّ الحج أن يأتي المسلم بحجه على التمام والكمال خالصاً لوجه الله وعلى وفق سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأن يحافظ فيه على امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، وامتثال الأوامر واجتناب النواهي لازم للمسلم. دائماً وأبداً ولكنه يتأكد في الأزمنة والأمكنة الفاضلة؛ لأن الله خلق الخلق لعبادته؛ وهي: طاعته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً..} وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} .
فيكون المسلم ملازماً للطاعة وبعيداً عن المعصية حين حجه وقبله وبعده؛ ليوافيه الأجل المحتوم وهو على حالة حسنة؛ فتكون نهايته طيبةً وعاقبته حميدةً كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وقال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وقال -صلى الله عليه وسلم-: "وإنما الأعمال بالخواتيم".
ومن البر في الحج أن يحرص أثناءه على التأمل في أسراره وعبره، والوقوف على ما فيه من فوائد عاجلة وآجلة، وهي كثيرة أجملها الله تعالى في قوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} وفيما يلي إشارة إلى بعض هذه الفوائد والأسرار التي تضمنتها هذه الجملة من الآية:(5/278)
أولاً: إن صلة المسلم ببيت الله الحرام صلة وثيقة تنشأ هذه الصلة منذ بدء انتمائه لدين الإسلام وتستمر معه ما بقيت روحه في جسده. فالصبي الذي يولد في الإسلام أول ما يطرق سمعه من فرائض الإسلام أركانه الخمسة التي أحدها حج بيت الله الحرام. والكافر إذا شهد شهادة الحق لله بالوحدانية ولنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- بالرسالة الشهادة التي كان بها من عداد المسلمين، أول ما يوجه إليه من فرائض الإسلام بقية أركانه بعد الشهادتين وهي إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام. وأول أركان الإسلام بعد الشهادتين الصلوات الخمس التي افترضها الله على المسلمين في كل يوم وليلة وجعل استقبال بيت الله الحرام شرطاً من شروطها، فصلة المسلم ببيت الله الحرام مستمرة في كل يوم وليلة يستقبله مع القدرة في كل صلاة يصليها فريضة كانت أو نافلة. كما يستقبله في الدعاء.
وهذه الصلة الوثيقة التي حصل بها الارتباط بين قلب المسلم وبيت ربه بصفة مستمرة تدفع بالمسلم -ولا بد- إلى الرغبة الملحة في التوجه إلى ذلك البيت العتيق ليتمتع بصره بالنظر إليه ولأداء الحج الذي افترضه الله على من استطاع السبيل إليه. فالمسلم متى استطاع الحج بادر إليه؛ أداء للفريضة ورغبة في مشاهدة البيت الذي يستقبله في جميع صلواته وليشهد المنافع التي نوه الله بشأنها في قوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} . فإذا وصل المسلم إلى بيت ربه رأى بعيني رأسه أشرف بيت وأقدس بقعة على وجه الأرض الكعبة المشرفة ملتقى وجهات المسلمين في صلاتهم في مشارق الأرض ومغاربها ورأى المسلمين مستديرين حول هذا البيت في صلواتهم وأصغر دائرة هي التي تلي الكعبة ثم التي تليها وهكذا حتى تكون أكبر دائرة في أطراف الأرض فالمسلمون في صلواتهم مستقبلين بيت ربهم يشكلون نقاط محيطات لدوائر صغيرة وكبيرة مركزها جميعاً الكعبة المشرفة.(5/279)
ثانياً: إذا يسر الله للمسلم التوجه إلى بيت ربه ووصل إلى الميقات الذي وقته -رسول الله صلى الله عليه وسلم- للإحرام تجرد من ثيابه ولبس أزاراً على نصفه الأسفل ورداء على نصفه الأعلى مما دون رأسه وفي هذه الهيئة من اللباس يستوي الحجاج لا فرق بين الغني والفقير والرئيس والمرؤوس وتساويهم في ذلك يذكر بتساويهم في لباس الأكفان بعد الموت. فإن الكل يجردون من ملابسهم ويلفون بلفائف لا فرق فيها بين الغني والفقير. فإذا تجرد الحاج من لباسه ولبس الإحرام تذكر الموت الذي به تنتهي الحياة الدنيوية وتبتدئ الحياة الأخروية فاستعد لما بعده بالأعمال الصالحة والابتعاد عن المعاصي وهذا الاستعداد هو الزاد الذي لا بد منه في سفره إلى الآخرة وهو الزاد الذي نوه الله بذكره في قوله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} ؛ ولهذا لما سأل رجل النبي -صلى الله عليه وسلم- قائلاً متى الساعة؟ قال صلى الله عليه وسلم له: "وماذا أعددت لها؟ ... " منبهاً بذلك -صلوات الله وسلامه عليه- إلى أن أهم شيء للمسلم أن يكون معيناً بما بعد الموت مستعداً له في جميع أحواله بفعل المأمورات واجتناب المنهيات..(5/280)
ثالثاً: إذا دخل المسلم في النسك لَبَّى بالتوحيد قائلاً - كما قال صلى الله عليه وسلم في تلبيته -: "لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك". يقولها وهو مستشعر لما دلت عليه من إفراد الله بالعبادة وأنه وحده الذي يخص بها دون ما سواه، فكما أنه سبحانه وتعالى المتفرد بالخلق والإيجاد فهو الذي يجب أن تفرد له العبادة دون غيره كائناً من كان، وصرف شيء منها لغير الله هو أظلم الظلم وأبطل الباطل. وهذه الكلمة يقولها المسلم إجابة لدعوة الله عباده لحج بيته الحرام.. فيستشعر المسلم عظمة الداعي، وعظم أهمية المدعو إليه فيسعى في الإتيان بما دعى إليه على الوجه الذي يرضي ربه تعالى مع استيقانه بأن المدار في هذه العبادة وغيرها من العبادات على الإخلاص لله كما دلت عليه كلمة التوحيد التي تضمنتها هذه التلبية وعلى المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما أرشد إلى ذلك -صلى الله عليه وسلم- في حجته حيث قال: "خذوا عني مناسككم".
رابعاً: وإذا وصل المسلم إلى الكعبة المشرفة يشاهد عبادة الطواف حولها وهي عبادة لا تجوز في الشريعة الإسلامية إلا في المكان، وكل طواف في غير ذلك المكان إنما هو من تشريع الشيطان ويدخل فاعله في جملة من عناهم الله بقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} .
ويشاهد أيضاً تقبيل الحجر الأسود واستلامه واستلام الركن اليماني، ولم تأت الشريعة بتقبيل أو استلام شيء من الأحجار والبنيان إلاّ في هذين الموضعين، ولما قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحجر الأسود بيّن أنه فعل ذلك متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم في تقبيله إياه وقال: "ولولا أني رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبلتك".(5/281)
خامساً: ويشهد الحاج في حجه أعظم تجمع إسلامي وذلك في يوم عرفة، في عرفة إذ يقف الحجاج جميعاً فيها ملبين مبتهلين إلى الله يسألونه من خير الدنيا والآخرة.
وهذا الاجتماع الكبير يذكر المسلم بالموقف الأكبر يوم القيامة الذي يلتقي فيه الأولون والآخرون ينتظرون فصل القضاء؛ ليصيروا إلى منازلهم حسب أعمالهم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر. فيشفع لهم جميعاً إلى الله عبده ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- ليقضي بينهم فيشفعه الله. وذلك هو المقام المحمود الذي يحمده عليه الأولون والآخرون، وهي الشفاعة العظمى التي يختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل.
وفي هذا التجمع الإسلامي الكبير في عرفة -وكذا في بقية المشاعر- يلتقي المسلمون في مشارق الأرض بالمسلمين في مغاربها؛ فيتعارفون ويتناصحون، ويتعرف بعضهم على أحوال بعض؛ فيتشاركون في الأفراح والمسرات كما يشارك بعضهم بعضاً في آلامه ويرشده إلى ما ينبغي له فعله ويتعاونون جميعاً على البر والتقوى كما أمرهم الله سبحانه بذلك..
سادساً: ويشهد الحاج مظهراً عجيباً من مظاهر التعاون؛ إذ يرى أرض منى كلها مغطاة بالخيام فلا يكاد يمضي يوم النفر الأول إلا وقد عادت كما كانت تقريبا، ً وذلك لقيام كل بما يخصه فإذا أقام كل مسلم بما يقدر عليه في خدمة الإسلام وتعاونوا على ذلك فإن المجهودات الفردية وإن قلت تكون كثيرة بضم بعضها إلى بعض.
وهذه الفوائد القليلة التي أشرت إليها إشارة هي من جملة المنافع الكثيرة التي أجمل ذكرها في قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} . وإن أعظم فائدة للمسلم بعد إنهاء حجه أن يكون حجه مقبولاً وأن يكون بعده خيراً منه قبله وأن يحدث ذلك تحولاً في سلوكه وأعماله فيتحول من السيئ إلى الحسن ومن الحسن إلى الأحسن.(5/282)
والله المسؤول أن يوفق المسلمين جميعاً للفقه في دينه والثبات عليه وأن يمكن لهم في الأرض وينصرهم على عدوه وعدوهم إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(5/283)
الكيد اللئيم
بقلم الدكتور رانا إحسان الهي
عميد كلية العلوم الشرقية بجامعة البنجاب
كلمة ألقاها على طلبة الشهادة العالية في
كليتي الشريعة والدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة في الإسلام، أيها الإخوة في العقيدة!
أحيّيكم بتحية الإسلام الخالد الغالب، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قلبي يحدثني أنكم تريدون أن أحدثكم عن المعركة الضارية التي خاضها إخوانكم في الدين على أرض باكستان الشرقية والغربية ضد الهندوس وأوليائهم كما أنتم تعلمون.
أيها الإخوة! من يتولى قوماً فهو منهم فإن الله تعالى يقول:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} . المائدة: 51
إن هذه المعركة هي حلقة من سلسلة الكيد الذي جعل يكيده الكفار على اختلاف مللهم للإسلام وأهله منذ صدع النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة التوحيد والحق – "لا إله إلاّ الله محمد رسول الله "في بطن مكة المكرمة.
إن هذه المعركة هي حلقة في سلسلة أُحد والخندق والحروب الصليبية، وإنّها حلقة في سلسلة الإجهاز على مسلمي الأندلس وأُختها فلسطين.(5/284)
إن المخطط الذي يجتمع عليه أهل الكفر جميعاً هو أنه يجب ألاّ يقوم للإسلام كيان على ظهر الأرض، وألاّ يفسح المجال لأية تجربة إسلامية لكي تنجح، وألا يسمح لأية حركة إسلامية جدية بالقوة والازدهار. إن مخططهم هذا يقضي أن تُوْأد كل بادرة إسلامية يمكن أن يستفيد منها المسلمون مهما كلف الأمر وبشتى الأساليب والذرائع، لقد قضوا في العصر الحديث على حركة التوحيد التي غرسها ونماها الرجلان العظيمان محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب، وهدموا عاصمتها الدرعية، وقضوا على الخلافة العثمانية في الأستانة، وقضوا بيد الطليان على الحركة السنوسية في مهدها ... والآن جاء دور باكستان التي هي – بإرادة الله ثم بإرادة أهلها المؤمنين المجاهدين، وكما ينص دستورها- جمهورية إسلامية.
قد لاحظ أعداء الإسلام أن التجربة الإسلامية في باكستان آخذةٌ في النجاح برغم جميع العقبات والصعوبات التي تركها الاستعمار الإنجليزي أمامها والتي لا يزال أعداء الإسلام يرعونها ويزيدونها.
لقد غاب عن أعداء الإسلام - يا ويحهم! - أن باكستان لا يمكن أن تقضى عليها ولا يمكن أن تبيد. لأن وجودها لم يشتق من النظريات السياسية الأرضية، ولا من القومية، ولا من العنصرية، ولا من اللونية، ولا من الوطنية، ولم يرتبط بأيّ منها. فإنه مشتق ومرتبط منذ البداية وإلى الأبد بالقرآن والسنة، فما دام هذا القرآن باقياً فباكستان باقية ولو كره الكافرون ولو كره الظالمون ولو كره الفاسقون.
لا بأس علينا إذا حُوربنا وقُوتلنا، فهذه سنة الله. إن الصراع بين الحق والباطل قائم إلى قيام الساعة. ولكن لقد وعدنا الله النصر في النهاية أبداً. لقد جاس الصليبيون خلال ديار الإسلام وملكوا بيت المقدس ثم كانت معركة حطّين فسلوها عن أخبارهم – ولقد جاس التتار أيضاً خلال الديار وعملوا ما عملوا في بغداد وغيرها ولكن سلوا عنهم معركة عين جالوت في فلسطين.(5/285)
واليوم يتحرك حقد الهندوس الدفين على الإسلام والمسلمين مؤيداً بالاتحاد السوفيتي وغيره من أمم الكفر ... ولكن ستسمعون عمّا قريب إن شاء الله بحطين الثانية وعين جالوت الجديدة.
أيها الاخوة في الله إن الله تعالى قد خلقنا (نحن المسلمين) من مادة لا تنصهر. إننا قد ننام ولكن لا نموت، إننا قد لا ننتصر في بعض المعارك ولكنا لا نقهر بحول الله العظيم.
إن الله لا يبتلينا إلاّ رحمة بنا وحباً لنا لكي نزداد إيماناً به وتوكلاً عليه وإقبالاً على دينه لِيُنزل علينا نصره. فما خبر حُنين عنا بعيد.
إن باكستان، كما قلت، ليست قائمة على أية نظرية سياسية بشرية. إنها قائمة على "لا إله إلاّ الله محمد رسول الله". إنها لم تؤسس في سنة 1947م. إلاّ رسمياً. أما تأسيسها الحقيقي فمنذ وصلت كلمة "لا إله إلاّ الله محمد رسول الله"مع أول مسلم إلى أرض شبه القارة الباكندية.
أيها الإخوة في الله! النصر لنا بإذن الله، والعزة لنا بإذن الله. ولن تزيدنا الشدائد إلاّ قوة وصموداً وإلاّ ثقة بالله.
إن الأزمة التي نُواجهها في أرضنا الحبيبة باكستان الشرقية هي انعطاف في الطريق وليست نهاية الطريق. ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز – وما النصر إلا من عند الله.
وإلى اللقاء في يوم النصر والفتح القريب إن شاء الله.(5/286)
الملكية الفردية في الإسلام
بقلم الشيخ محمد أمان صديق
المدرس في دار الحديث بالمدينة التابعة للجامعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
لقد أقرّ الإسلام حق الملكية الفردية مسايراً بذلك البشرية، وأباح لكل إنسان أن يجمع من الثروة ما يستطيع بالطرق المشروعة، وأوجب السعيّ والعمل الجدي المنتج ومقت التواكل والكسل والقعود عن طلب الرزق فلا ندهش إذاً من رفع الخليفة الفاروق عمر رضي الله عنه درتّه على القاعد عن طلب الرزق قائلاً: "إنّ السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة". وذلك حينما رآه متواكلاً.
وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس رضي الله عنه الذي رواه الخطيب البغدادي والديلمي: "خيركم من لم يترك آخرته لدنياه ولا دنياه لآخرته ولم يكن كلاً على الناس" وترك الإسلام اختيار العمل للشخص نفسه يختار ما يلائم ميوله ويساير رغباته على أن يكون ضمن الأعمال التي أقرها الإسلام ولا تجلب ضرراً على المجتمع – كما فرض الإسلام فرض كفاية أن تقوم بكل عمل أو صناعة تحتاج إليها الأمة في بناء صرحها وحفظ كيانها وتُعتبر الأمة جميعها آثمة إذا توانت عن ذلك أو تقاعست مع ذلك كله هذّب الإسلام النفوس فمقتها عن التطلع إلى ما ليس في ملكها ممّا هو في ملك الآخرين ليحفظ بذلك ملكية كل فرد واستقلال كُلّ بماله.
جاء الإسلام بحق الملكية الفردية ليُقبل الفرد على الإنتاج بجد ونشاط ويبذل أقصى طاقته في العمل طائعاً مختاراً دون أن يشعر أنه مسخّر لحساب فرد أو جماعة.(5/287)
وكحق الملكية الفردية حق الإرث فكل ما جاز أن يتملك جاز أن يورث فقد أقرّ الإسلام الإرث لأن فيه تعادلاً بين الجهد والجزاء يحفز الفرد على العمل ما دام يعلم أن ثمرة أتعابه تعود عليه في حياته وتمتد إلى أولاده بعد وفاته بالإضافة إلى ما في نظام الإرث الإسلامي من توزيع عادل للثروة وعدم حصرها في فئة معينة كما هو مبين في مواضعه من القرآن الكريم.
إن الإسلام وإن أقرّ بحق الملكية الفردية لكنه لم يدع هذا الحق على إطلاقه بلا قيد أو حد بل دعا إلى الاعتدال كدأبه في كل الأمور فرتّب حقوقاً في المال للأفراد والجماعات لدعم صرح المحبة والتراجم بين أفراد الأمة وطبقاتها المختلفة.
فأول الحقوق التي فرضها الإسلام هو حق الزكاة – وهو حق الجماعة في عنق الفرد حق مفروض بحساب معلوم في أصناف معينة هي النقد – والمواشي – والزرع – وعروض التجارة – والمعادن – وقد فرضها الله تعالى مواساة للفقراء ومعونة لذوي الحاجات وتقوية لروابط الألفة والمحبة والتعاطف بين مختلف الطبقات ولعمر الله إنها لإحدى الوسائل الناجحة لمعالجة الفقر والفقراء التي لها خطرها على الأعداء ونتائجها في كيان الأمة. ثم بعد فرض هذا الحق العظيم في المال جعل الفرد موكولاً إلى نفسه وضميره – فله مطلق التصرف في بقية المال الذي بحوزته فإن النفقة كانت لنفقته حسنات ودرجات أي أن نفقاته مخلوفة – قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} . وقال تعالى: {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} .
وإن أمسكه بعد إخراج الزكاة منه كان إمساكه جائزاً لا حرج فيه.
وحذر الإسلام الفرد من سلوك الطرق غير المشروعة في اكتساب الرزق ووضح له المبادئ التالية من إنفاق المال والتصرف فيه:
أولا:(5/288)
أن يكون إنفاقه من المال على نفسه ومن تلزمه نفقته معتدلاً دون إسراف أو تقتير – قال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} .
ثانياً:
حرم عليه استثمار ما عنده من المال وتنميته بالطرق الآتية:
أ – الغش: قال عليه الصلاة والسلام "من غشنا فليس منا " رواه الجماعة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً في الحديث الذي رواه الشيخان "البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما".
والغش بجانب ما ذكرت مناف للخلق الكريم ضارٌ بالآخرين رافعٌ الثقة بين الناس بالإضافة إلى أن ثمرته هي الحصول على كسبٍ بلا جهد ولا عمل مشروع.
ب – الاحتكار: احتكار أقوات الناس وحاجاتهم الضرورية قال عليه الصلاة والسلام في حديث معمر بن عبد الله رضي الله عنه الذي رواه مسلم "لا يحتكر إلاّ خاطئ " وورد أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم "من احتكر طعاماً أربعين يوماً فقد برئ من الله منه والحديث وإن كان فيه مقال لكن كثرة الشواهد تؤيده. فالمحتكر يتحكم في السوق ويفرض على الناس الأسعار التي ترضيه وتشبع مطامعه.
ج – الربا والقمار والاتجار بالمخدرات التي تفتك بجسم الأمة قال تعالى {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَات} وقال تعالى {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .(5/289)
د – التطفيف في المكيال والميزان والانتقاص من أجر العامل أو حرمانه فذلك مما نهى الشارع عنه قال تعالى: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُم} وقال تعالى: {وَيْلٌ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} وفي الحديث القدسي الذي ذكره ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه وفيه "ثلاثة أنا خصمهم رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يُعطه أجره" وفي السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه".
كل ذلك لصالح الفرد والمجتمع.
وحفظ الإسلام أيضاً مال السّفيه فحجره عن المال الذي تحت يده لأنه لا يستطيع التصرف فيه فأثبت له ملكية المال ولكن لا يملك هذا المال إلاّ بعد أن يصبح رشيداً عاقلاً يستطيع التصرف قال تعالى {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاما} . والمرأة في ذلك كالرجل، وما يطلبه الشارع من الرجل في طريقة كسب المال والتصرف فيه يطلبه من المرأة وما يضعه من قيود وحدود يضعه لها.
فالإسلام هو الذي رفع كيان المرأة في المجتمع وجعل لها حقوقاً بجانب التبعات التي عليها.(5/290)
بعد هذا التقرير الموجز – علمنا أن الإسلام بمبادئه وتعاليمه خير كفيل لإيجاد مجتمع تسوده المحبة والسلام ويُخيم عليه الأمن والاستقرار، وما أجدر بالعالم اليوم وهو يقاسي وطأة النظم المستوردة والأفكار الغربية التي قد تودي الحضارة والمدنية وتقضي على المثل العليا التي تحقق خير الإنسان أن يسير على مبادئ الإسلام الرشيدة وتعاليمه السامية بروح المحبة والتسامح ففي ذلك سعادة البشرية وتقدمها وازدهارها فالإسلام له مبادئه ومقوماته واستقلاله – كما أن للمتمسكين به عقيدة وعبادة ونظام حكم لهم الحرية الكاملة في هذه الحياة لكن على النهج الذي اختاره الله وشرعه، وقد ضمن الشارع للمتمسكين بهذا الدين الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة.
فقال صلى الله عليه وسلم "تركتكم على المحجة البيضاء ليلُها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلاّ هالك أو إلاّ هلك" وفقنا الله لخدمة دينه والسهر على تحقيق مبادئه وأنظمته والحكم لله وهو العلي الكبير والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(5/291)
النادي عند العرب
لفضيلة الشيخ محمد المنتصر الكتاني
المستشار في رابطة العالم الإسلامي بمكة
تقول العرب: النادي والندوة والنديِّ والمنتدى وتريد: مجتمع القوم وأهل المجلس فيقع على المجلس وأهله ومنه الآية الكريمة: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّا} ؟ ومنه الحديث النبوي في قصة أم زرع قريب البيت من النادي. واجعلني في الندِيّ الأعلى. أي: اجعلني مع الملأ الأعلى من الملائكة.
ويجمع النادي على أندية وأنداء ومنه: حديث أبي سعيد: "كنا أنداء فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم". يريد كنا قوماً مجتمعين.
وتقول: نادى الرجل: جالسه في النادي. وتنادوا: تجالسوا في النادي. وندوت القوم: جمعتهم في النادي. وندوت وانتديت: حضرت النادي. وما يندوهم النادي أي: ما يسمعهم من كثرتهم. ومنه قول بشر بن أبي حازم:
وما يندوهم النادي ولكن
بكل محلة منهم فئآم
والعرب عرفت النادي وبنت له قصراً كانت تجتمع فيه لشؤونها الداخلية والخارجية وللمشورة في أمورها، ويحضره ذوو الرأي والفكر فيهم.
بنى النادي وأقامه للعرب قصي بن كلاب الجد الرابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتهر في التاريخ باسم دار الندوة، فكانت قريش تجتمع فيها للرأي والمشورة، فما تنكح امرأة ولا يتزوج رجل وما يتشاورن في أمر نزل بهم، ولا يعقدون لواءً لحرب قوم من غيرهم إلا في دار الندوة. وفيها كانت قريش تقضي جميع أمورها، والعرب تبع لقريش في كل شيء. ولتكون دار الندوة قريبة من الناس بنيت بلصق الكعبة وجعل بابها إلى مسجد الكعبة.
ولم تكن قريش تسمح بدخول دار الندوة إلا للرجال الناضجين عقلاً وتجربة أبناء الأربعين عاماً، إلا بنو قصي فكانوا يدخلونها كباراً وصغاراً.(5/292)
وفي حياة قصي كان أمر دار الندوة بيده حلاً وربطاً، بيده جمع قريش وتوجيهها في الندوة للتشاور والتناظر وعقد أمر وإبرام حرب أو سلام، كانت العرب تدين لقصي دينونة الناس للزعيم والحاكم ومن أجل ذلك قال عنه شاعرهم:
قصي لعمري كان يدعى مجمّعاً به جمع الله القبائل من فهر
ثم صيّر قصي دار الندوة بعده لولده عبد الدار وصيرها عبد الدار لولده عبد مناف وصيّرها عبد مناف لولده هاشم ثم صيّرها هاشم لولديه: عمير وعامر. وبقي أمرها بيد سلالة عامر إلى أن ابتاعها معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف درهم من ابن الرهين العبدري سليل عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي.
فحوَّلها معاوية بعد تجديد بنائها إلى منزل ينزل فيه إذا حج ثم بقيت منزلاً بعده للملوك بني أمية إذا حجوا.
وقد اقتطع من قصر دار الندوة بعد أن حول منزلاً للملوك بعض جهاته وضُم إلى المسجد الحرام في الزيادة التي زادها فيه عبد الملك بن مروان وولداه الوليد وسليمان الأمويون.
وفي أيام الدولة العباسية ضَم جهاتٍ أخرى من قصر دار الندوة أبو جعفر المنصور العباسي إلى المسجد الحرام كذلك.
واكتفى بنو العباس بالباقي من دار الندوة فاتخذوه منزلاً ينزلون فيه إذا حجوا كما فعل بنو أمية قبلهم، فنزله منهم أبو العباس السفاح وأبو جعفر المنصور والمهدي والهادي والرشيد.
وفي أيام الرشيد أهملت دار الندوة فلم ينزلها ملك ولا خليفة واعتيض عنها بغيرها فتصدعت وخربت.
وفي أيام المعتضد بن الناصر العباسي أمر بهدم الباقي من دار الندوة وبناها مسجداً موصولاً بالمسجد الحرام وبنى لها في جوار الحرم اثني عشر باباً فاختلطت بالحرم وأصبحت قسماً منه وفرغ من بنائها في ثلاث سنين فصلى الناس فيها واتسعوا بها وتم ذلك سنة 306هـ.
ومكان دار الندوة من الحرم الوجه الشامي من الكعبة المشرفة ويقال: أن القسم الذي كان يصلي فيه الإمام الحنفي.(5/293)
قص ذلك وحكاه الأزرقي والخزاعي وابن إسحاق وابن هشام والسهيلي والخشني والفاكهي والحنفي والفاسي وغيرهم في كتبهم في السيرة النبوية وتاريخ مكة المكرمة.
والنادي عند العرب ورثه المسجد حين جاء الله بمحمد والإسلام وأكرم الله بهما العرب والناس، فورث محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ابن عبد مناف بن قصي صلوات الله وسلامه عليه وآله: من جده قصي فضم وظائفه للمسجد وأصبح بذلك النادي جزءاً من المسجد وبعضاً منه في مهماته وأعماله.
فقام المسجد في الإسلام مقام دار الندوة واستغنى عنها به ودخلت فيه دخول الخلية في الجسم ودخول الفرع في الأصل فكان المسجد في الإسلام مسجداً للصلاة رُكعاً وسجوداً وللعبادة ذكراً وتلاوة واعتكافاً، وجامعاً لاجتماع الناس والخطابة فيهم كل جمعة، وعندما يحزبهم أمر. وجامعة للكبار لإلقاء العلوم وتلقيها، ومدرسة للصغار للقراءة والكتابة، ونادياً لتناشد الأشعار والأدب والحديث والمذاكرة، ومحكمة للقضاء والفتوى، ومعتقلاً للأسرى والخاطئين، وداراً للوفود، وملجأ للفقراء، ومطعماً للمساكين، ودار سكنى ومنامة لمن لا أهل له، ومستشفى، وداراً لعقد الزواج، ومصنعاً للسلاح، وبيت مال للمسلمين، ولقسمته بينهم ومآرب أخرى.
المسجد معبد لله وبيت من بيوته للصلاة والعبادة. ومن هذه الوظيفة الرئيسية اتخذ اسمه: مسجداً {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} .(5/294)
والمسجد جامع يجمع الناس للصلوات كل يوم وللخطابة كل جمعة وعندما يحزب الناس أمر هام؛ ومن هذه الوظيفة الرئيسية الثانية اتخذ اسمه الجامع والمسجد الجامع. وكان عليه السلام إذا أراد جمع الناس لما يهمه ويهمهم من أعمالهم أمر منادياً ينادي: الصلاة جامعة فيجتمعون في المسجد لصلاة نهارية غالباً، فإذا انتهت الصلاة صعد المنبر عليه السلام وخطبهم بما يريد آمراً أو ناهياً أو مرشداً أو موجهاً.
والمسجد جامعة للكبار لإلقاء العلوم وتلقيها، فمنها تخرج علماء الصحابة: عمر وعلي وابن عمر وابن العباس وابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأمثالهم رضي الله عنهم.
ومنها تخرج علماء التابعين: سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن البصري وعكرمة وعطاء وعمرة بنت عبد الرحمن وأمثالهم رحمهم الله.
ومن جامعة المسجد تخرج الأئمة المجتهدون: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والليث والأوزاعي وابن المبارك وابن جبير والسفيانان: الثوري وابن عيينة والحمادان: ابن زيد وابن سلمة وأمثالهم رحمهم الله.
ومن جامعة المسجد تخرج علماء العالم الإسلامي خلفاً بعد سلف في جميع العلوم شرعية ولغوية، دينية ودنيوية، مدينة وعسكرية، ومكاتب الدنيا شاهدة على إمامتهم للعالم في كل علم وفن بما فيها من عشرات الآلاف من الكتب لا يزال أكثرها لم تره آلات المطابع، ولم يستفد بعجائبه وغرائبه ونوادره ناس هذا العصر.
والمسجد مدرسة للصغار لتعلم القراءة والكتابة ومبادئ العلوم وحفظ القرآن الكريم، وكانت مساجد المسلمين في المشرق والمغرب يتخذ جانب منها مدرسة ولا يزال هذا في المغرب الأقصى إلى الآن، وفي قُراه وبَواديه يقال للمدرسة جامع وللجامع مدرسة كأن المسجد والمدرسة كلمتان مترادفتان.(5/295)
قال ابن حزم وغيره: والتعلم في المسجد للصبيان وغيرهم مباح وفي الحديث النبوي عند أحمد في المسند وابن ماجة في السنن: "من دخل مسجدنا هذا ليتعلم خيراً أو ليعلمه كان كالمجاهد في سبيل الله".
قال الشوكاني: في هذا الحديث الإرشاد إلى أن التعليم والتعلم في المسجد أفضل من سائر الأمكنة.
وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلقة في المسجد. ففي صحيح البخاري وصحيح مسلم عن أبي واقد الليثي: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان وذهب واحد: فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها وأما الآخر فجلس خلفهم فقال عليه السلام: ألا أخبركم عن الثلاثة: أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه".
ونقل ابن بطال: الإجماع على أنه يستحب عقد حلق العلم في المساجد.
والمسجد نادٍ لتناشد الأشعار والأدب ودار للندوة والمذاكرة وقد تنصب فيه المنابر لذلك.
ففي صحيح الحاكم وسنن الترمذي عن عائشة كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينصب لحسان منبراً في المسجد فيقوم عليه يهجو الكفار.
وعند البخاري ومسلم: مرّ عمر بن الخطاب في المسجد وحسان بن ثابت ينشد فلحظ إليه عمر فقال حسان: كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك – يعني رسول الله – ثم التفت إلى أبي هريرة وقال: أنشُدُك بالله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله يقول: "أجب عني، اللهم أيده بروح القدس. قال: نعم".
وقد مدح كعب بن زهير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد بقصيدته الشهيرة التي مطلعها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا
إلا أغن غضيض الطرف مكحول
نجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت
كأنه مُنهل بالراح معلول
هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة(5/296)
لا يشتكي قصر منها ولا طول
إلى أن تخلص لمدح النبي عليه الصلاة والسلام فقال:
إن الرسول لسيف يستضاء به
مهند من سيوف الله مسلول
وعند أحمد في المسند والترمذي في السنن عن جابر بن سمرة شهدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من مائة مرة في المسجد وأصحابه يتذاكرون ويتناشدون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية فربما تبسم معهم.
والمسجد محكمة للحاكم وللفصل بين الخصوم وإنهاء نزاعهم.
في صحيح البخاري: تقاضى كعب بن مالك ابن أبي حدرد ديناً كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى: يا كعب. قال: لبيك يا رسول الله فقال: ضع من دَينك هذا وأومأ إليه أي: الشطر. قال: لقد فعلت يا رسول الله. قال لابن أبي حدرد: قم فاقضه.
وفي الصحيحين: وقع الحكم بالتلاعن في المسجد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقضى عمر بن الخطاب في المسجد.
وكان شريح وابن أبي ليلى يقضيان في المسجد.
وقال مالك: جلوس القاضي في المسجد للقضاء من الأمر القديم المعمول به.
وقال ابن حزم: والحكم في المسجد والخصام جائز.
ولسنوات خلت كانت جميع مساجد المغرب الجامعة فيها غرفة تسمى: مقصورة القاضي فيها يحكم ويفصل بين الناس وفيها يترافع إليه الخصوم.
أجاز أبو حنيفة ومحمد بن مسلمة من أصحاب مالك رفع الصوت في المسجد بالعلم والخصومة وغير ذلك مما يحتاج إليه الناس لأنه مجمعهم ولابد لهم منه.(5/297)
والمسجد معتقل للأسرى والخاطئين. في الصحيح بعث -صلى الله عليه وآله وسلم- خيلاً قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له: ثمامة بن أُثال فربطوه بسارية من سواري المسجد وكان يمر به ثلاثة أيام في كل يوم يقول له: ما عندك يا ثمامة فيجيب: إن تقتل تقتل ذا دم وإن تطلق تمنن على شاكر فقال -صلى الله عليه وآله وسلم-: أطلقوا ثمامة فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله.
وأبو لبابة بن عبد المنذر الأنصاري ربط نفسه في عمود من المسجد النبوي تأديباً لنفسه حين استشارته بنو قريظة وهم محاصرون من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في أن يستسلموا فأشار بيده إلى حلقه: وأنه الذبح. وقال حين ربط نفسه: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله عليّ مما صنعت. فقال عنه عليه السلام:"لو جاءني لاستغفرت له فأما إذ فعل ما فعل فما أنا بمطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه".
وبعد ست ليال من ربط نفسه في سارية المسجد نزل قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
فبشرته أم المؤمنين أم سلمة بذلك سحراً بعد الأذن النبوي وحاول ناس أن يفكوا رباطه فقال: لا. حتى يطلقني رسول الله بيده. فلما مر عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام خارجاً إلى صلاة الصبح أطلقه.
والمسجد دار للوفود ومثابة لهم مسلمين وغير مسلمين.(5/298)
قدم على رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وآله وهو بمكة نحو من عشرين نصرانياً من الحبشة وقيل: من نجران، فوجدوه في المسجد فجلسوا إليه وكلموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فدعاهم رسول -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى الله عز وجل، وتلا عليهم القرآن ففاضت أعينهم من الدمع واستجابوا إلى الله وآمنوا به وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في الإنجيل من أمره.
وفيهم نزل قوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} .
وأنزل عليه السلام وفد ثقيف في المسجد.
وعند البخاري عن أنس بن مالك: قدم رهط من عكل على النبي صلوات الله عليه وآله فكانوا في صفة المسجد النبوي.
والمسجد دار ضيافة ففيه أضاف عليه الصلاة والسلام وفد ثقيف وعشيرة عكل كما مر آنفاً.
والمسجد ملجأ للفقراء فكانوا يسكنون الصفة من المسجد النبوي، والصفة موضع مظلل في المسجد كانت تأوي إليه المساكين.
وعند البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل عليه رداء إما إزار وإما كساء قد ربطوه في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن تُرى عورته.
والمسجد مطعم للمساكين كان يقصده المحسنون بالطعام والتمور ليأكل منها المحتاجون والمعوزون.(5/299)
ففي دلائل النبوة لثابت الأندلسي: أن النبي صلوات الله وسلامه عليه أمر من كل حائط –بستان – بقنو يعلق في المسجد. يعني للمساكين. وكان معاذ بن جبل المشرف على حفظها وقسمتها.
والعذق عرجون النخلة بما فيه من الشماريخ ويجمع على عذاق.
وفي سنن ابن ماجة عن عبد الله بن الحارث: كنا نأكل على عهد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه في المسجد الخبز واللحم.
والمسجد دار سكن ومنامة لمن لا أهل له ولا مسكن.
لقد مر آنفاً أن أهل الصفة يسكنون المسجد وينامون فيه وعند الشيخين: كانت في المسجد النبوي وليدة آمة سوداء معتقة لها خباء في المسجد تسكن فيه.
وعند البخاري والنسائي وأبي داود وأحمد عن عبد الله بن عمر كنا في زمن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ننام في المسجد ونقيل فيه ونحن شباب.
قال الحافظ: يباح المبيت في المسجد وضرب الخيمة فيه لمن لا مسكن له من المسلمين رجلاً كان أو امرأة عند أمن الفتنة.
وقال ابن حزم: والسكن والمبيت مباح في المسجد ما لم يضق على المصلين.
والمسجد مستشفى ودار للتمريض.
وعند الشيخين: أن سعد بن معاذ لما أصيب في غزوة الخندق جعله عليه الصلاة والسلام في خيمة لامرأة من أسلم يقال لها: رفيدة في المسجد النبوي كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كان ضيعة من المسلمين.
والمسجد فيه يعقد النكاح ويعلن ويحضره الناس.
وفي سنن الترمذي: أعلنوا النكاح في المسجد. واحتج أبو عمرو بن الصلاح بهذا الحديث وقال: يستحب عقد النكاح في المسجد.
وفي المغرب الأقصى لا يزال المسجد هو المكان المفضل إلى اليوم لعقد الزواج وإعلانه بدعوة الناس إليه في المسجد.
والمسجد مصنع لصنع آلات الجهاد وإصلاحها.
حكى النووي عن بعض شيوخه: أنه لا بأس بعمل الصنائع التي يشمل نفعها المسلمين في دينهم كالمثاقفة وإصلاح آلات الجهاد مما لا امتهان للمسجد في عملها.(5/300)
والمسجد بيت مال للمسلمين ولقسمته بينهم.
ففي صحيح البخاري: أتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمال من البحرين وكان مائة ألف فقال عليه السلام: "أنشروه في المسجد وكان أكثر مال أتى به عليه السلام فقسمه على الناس في المسجد".
وللمسجد مآرب أخرى في الإسلام ومنها: اللهو المباح واللعب بما يعد تدريباً ومراناً على الحرب والقتال.
فعند البخاري ومسلم عن عائشة أم المؤمنين: جاء حبش يزفنون – يرقصون – في المسجد في يوم عيد فدعاني رسول الله فوضعت رأسي على منكبه فجعلت أنظر إلى لعبهم بالحراب حتى كنت أنا التي انصرفت.
قال ابن حزم: واللعب والزفن مباحان في المسجد.
وقال الحافظ: لعب الحبشة في المسجد ليس لعباً مجرداً بل فيه تدريب للشجعان على مواقع الحروب والاستعداد للعدو.
ذكر كل ذلك أمهات كتب السنة صحاحاً وسنناً ومسانيد وبين ذلك شراحها ابن حزم والحافظ والنووي وغيرهم.
ومنذ عهد بعيد في تاريخ الإسلام، منذ عهد الخلفاء الراشدين إلى عصر المسلمين هذا، أخذ المسلمون: خلفاء وملوكاً رؤساء وأمراء شعوباً وأفراداً أخذوا يقيمون مؤسسات تخفف العبء عن المسجد وتحمل عنه ومعه الكثير من وظائفه.
فشيدوا المدارس والجامعات والمحاكم والمعتقلات ودور الضيافة والملاجئ والمستشفيات والمصحات ومصانع السلاح وبيوت المال.
ومن ذلك أقاموا النوادي للمحاضرات والمسافرات وتوجيه الناس ولتناشد الأشعار وتبادل الآراء وإحياء التراث وإشاعته والاستفادة منه، والاستجمام من عناء المكتب وصخب الشارع ودوامة المتجر وهدير المصنع، ولقاء الناس زملاء وأصدقاء، والتعرف بالناس والتعارف بينهم، ولمآرب أخرى من استراحة مجهد من دار أو مكتب أو متجر.(5/301)
النّداء الخالد
للشيخ أبي الأعلى المودودي
عن كتاب نظرية الإسلام وهديه في السياسة والدستور والقانون
وهؤلاء المؤذنون اليوم يؤذنون من مآذنهم خمس مرات في كل يوم وليلة وينادون بأعلى أصواتهم "أشهد أن لا إله إلاّ الله ".
وأنت ترى أن الناس على اختلاف أجناسهم وطبقاتهم يسمعون هذا النداء ولا يقض مضاجعهم لسماعه؛ وذلك أن الداعي لا يعرف إلامَ يدعو الناس؟ ولا الناس يتفطنون إلى ما تضمه الكلمة بين جنبيها من دعوة سامية وغاية جليلة، ولكن لو علمت الدنيا ما يشتمل عليه هذا النداء من غاية بعيدة المدى وأن المنادي ينادي بعزم وإصرار، لانقلبت الأرض غير الأرض وتنكرت الوجوه، وما يدريك كيف تستقبل الدنيا، الدنيا التي رضعت بلبان الجاهلية وترعرعت في مهدها، وهذا النداء إذا عرفت أن المنادي يقول: أن لا أمَلك لي إلاّ الله، ولا حاكم إلاّ الله، ولا أخضع لحكومة ولا أعترف بدستور، ولا أنقاد لقانون، ولا سلطان علي لمحكمة من المحاكم الدنيوية، ولا أطيع أمراً غير أمره. ولا أتقيد بشيء من العادات والتقاليد الجاهلية المتوارثة، لا أسلم شيئاً من الامتيازات الخاصة، ولا أدين لسيادة أو قداسة، ولا أستخزي لسلطة من السلطات المتكبرة في الأرض المتمردة على الحق وإنما أنا مؤمن بالله. مسلم له، كافر بالطواغيت والآلهة الكاذبة من دونه فما يدريك، هل تسمع الدنيا وأهلها هذا النداء فتسكت عليه؟ لا، لا، والله إنها تنقلب عليك عدواً وتتنكر وجوه أهلها لك ويعلنون الحرب عليك بمجرد سماع هذه الكلمة، سواء عليك أردت القتال أم لم ترد، فإنهم يحاربونك لا محالة ويترقبون لك بالمرصاد، وما أن يسمعوا المؤذن يؤذن بهذا النداء الحقيقي، إلاّ وترى الأرض تبدلت غير الأرض وتجد الناس حولك كأنهم تحولوا عقارب وثعابين تريد أن تلدغك، أو انقلبوا وحوشاً ضارية تبتغي أن تنشب مخالبها في بدنك وتفترسك افتراساً.(5/302)
العدد 14
فهرس المحتويات
1- أخبار الجامعة
2- الإسلام دين التكافل الاجتماعي: للشيخ علي بن ناصر فقيهي
3 -الإعجاز النفسي في القرآن: بقلم الشيخ إبراهيم الحنفي الناغي
4- التشريع الإسلامي تشريع للعزة والكرامة: بقلم الشيخ محمد الخضراوي
5- المسؤولية في الإسلام: بقلم الشيخ عبد الله قادري
6- النور الفائض في مخالفة أهل السنة من أهل البيت وغيرهم للروافض: بقلم الشيخ: محمد حسن الغماري
7- إن الدين عند الله الإسلام: بقلم الشيخ محمود عبد الوهاب فايد
8- بدر الكبرى: للشيخ محمد عطية سالم
9- إلى المدخنين: للشيخ محمد المجذوب
10- خيَام وجمَار: للشاعر أحمد العموري
11- دراسات في السنَّة النبوِيَّة: بقلم الشيخ محمد ضياء الرحمان الأعظمي
12- دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
13- رجل عرف الحق ببصيرته: للدكتور طه الزيني
14- رسالة المرأة في ظلال السعادة: بقلم الشيخ محمد المهدي محمود على
15- رسالة مفتوحة: رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
16- شعر أهل الحديث: بقلم الأستاذ عبد العزيز القارئ
17- عقيدة أهل السنة والأثر في الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم: بقلم الشيخ عبد المحسن العباد
18- من الصحف والمجلات: نشرت مجلة المجتمع الكويتية في عددها 91: إعداد العلاقات العامة
19- من تاريخنا في الأندلس: إعداد العلاقات العامة
20- نحن والقمر: للطالب محمد محمود جاد الله بالسنة الأولى
21- يستفتونك: فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز نائب رئيس الجامعة الإسلامية
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(5/303)
أخبار الجامعة
- قام وفد من الجامعة الإسلامية يضم الأمين العام فضيلة الشيخ محمد ابن ناصر العبودي ومساعده الأمين العام الشيخ عمر محمد وفضيلة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي وفضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم بالسلام على ضيف جلالة الملك فيصل فخامة اللواء محمد زياد رئيس جمهورية الصومال، وقد أهدت الجامعة لسيادته مجموعة طيبة من الكتب الإسلامية النادرة تقبلها شاكراً.
هذا وقد قام الطلاب الصوماليون الدارسون في كافة أقسام الجامعة بالاستعداد للمشاركة في استقبال فخامة الضيف، وفعلاً شاركوا في الاستقبال في المطار ثم اجتمع فخامته بالطلاب الصوماليين وقدموا إليه مصحفاً شريفاً هدية لفخامته.
- الأستاذ عبد القدوس الأنصاري الكاتب والأديب المعروف قام بزيارة للجامعة الإسلامية وتفقَّد منشآتها وكليّاتها، وقد تفقّد المكتبة التابعة للجامعة وأبدى إعجابه بما شاهده فيها.
- تتلقى رئاسة الجامعة يومياً فيضاً من الرسائل والبرقيات من طالبي الالتحاق في شتى الأنحاء يبلغ عددها ما يقارب الـ (500) طلب شهرياً، وعلى ذلك فإن لجنة القبول في الجامعة توالي اجتماعاتها بمعدل ثلاثة أيام في الأسبوع.
- زار الجامعة الإسلامية الأستاذ (البروفيسور) زين العابدين فكري رئيس الجامعة الحكومية في سومطرا الجنوبية بإندونيسيا، ومندوب معالي وزير الشئون الدينية هناك مزوداً بكتاب تعريف من سعادة سفير إندونيسيا في جدة وذلك للإطلاع على سير الدراسة في الجامعة الإسلامية والتعرُّف على المسئولين فيها، وقد كان في استقباله فضيلة الأمين العام الذي بحث معه في توطيد العلاقات بين الجامعتين، ثم تجوَّل الضيف برفقة مدير العلاقات العامة بالجامعة في كليَّات الجامعة ومعاهدها وفي ختام زيارته قدَّمت الجامعة له بعض الكتب هدية منها.(5/304)
- زار الجامعة السيد سردار محمد إبراهيم رئيس حكومة كشمير الحرة سابقاً التابعة لباكستان، وقد كان في استقباله فضيلة الأمين العام للجامعة الشيخ محمد بن ناصر العبودي ومساعد الأمين العام الشيخ عمر محمد، ومدير العلاقات العامة الأستاذ أحمد عبد الحميد عباس، وبعد استراحة قصيرة بمكتب الأمين العام تناول البحث في الشئون الإسلامية توجه الضيف إلى كلية الدعوة وأصول الدين حيث تفقَّد القاعات ثم ألقى كلمة موجزة في السنة الثانية من الكلية، وبعد أن زار كلية الشريعة واجتمع مع بعض المدرسين ألقى كلمة موجزة في السنة الرابعة، وقد تكلم فضيلة عميد كلية الشريعة فشكر الضيف على كلمته، وفي النهاية الوقت زار المكتبة العامة.
-كما زار الجامعة أيضاً السيد أمين مدني الكاتب المعروف، وكان لقاؤه مع الأمين العام للجامعة حيث تبادلا الأحاديث العلمية المتعلقة بتاريخ المدينة.
- عين الأستاذ أحمد عبد الحميد عباس مديراً للعلاقات العامة في الجامعة من بداية شهر شوال، هذا ومما تجدر الإشارة إليه أن الأستاذ أحمد سبق أن شغل منصب مدير شئون الطلبة بالجامعة مدَّة ثلاث سنوات وكان خلالها موضع تقدير الجميع لقيامه بعمله، وإخلاصه في أداء واجبه، وهو أحد خريجي كلية الشريعة بالجامعة في الفوج الثالث عام 68-87هـ.
- قاعة المحاضرات الكبرى بالجامعة:
أنهت المؤسسة المسئولة عن عملية التكييف والتدفئة منها، ومن المتوقع أن ترسو عملية الديكور على أحد المتعهدين، ومن المتوقع أن تكون القاعة المذكورة جاهزة لاستقبال الموسم الثاني القادم إن شاء الله، والجدير بالذكر أن القاعة المشار إليها تتسع حوالي (1050) مقعد وستكون مجهَّزة بأحدث الآلات اللازمة.(5/305)
خيَام وجمَار
للشاعر أحمد العموري
للرؤى الغُر في الصفا والبقيع00
رعشة القلب وانهمار الدموع
أين منها طلاقة للمذيع!!
أين منها بلاغة في يراع
لم نصف كل خفقة في الضلوع
لم نُبِن كل خلجة في الحنايا
رجفة الروع تلك آي الخشوع
قد عَجز وعُذْرنا أنَّ فينا
قد أتتك الجموع إثر الجموع
كعبة المسلمين في كل مصر
جئت أرجو حِماك جمّ الدموع
جئت أسعى إليك ربي جَزوعاً
وامتحى السَّوْء من جناني المزوع
واطمئنت نفوسنا وارتوينا
لاجئاً نادماً.. فهل من شفيع
جئت ألقاك تائباً من خطايا
راغب في العُلَى لشعبي الوجيع
غافر الذنب قابل التّوْبِ إنّي
ثالث القبليتين مهد اليسوع
يا فلسطين ليس لي إذ رزينا
أن تصافوا لخلق سد منيع
غير صيحات مستغيث لشعبي
كم مضى العمر في خيام وجوع
كم خرجنا من قمة في ضياع
لردى الشيخ أو لدوس الرضيع
لوثة العار لم يزلها بكاء
رمي أمثالها بذات الضلوع
قد رمينا الجمار لكن نسينا(5/306)
دراسات في السنَّة النبوِيَّة
بقلم الشيخ محمد ضياء الرحمان الأعظمي
السنة في اللغة: الطريقة حسنة كانت أمْ سيئة يقال فلان من أهل السنة قال نصيب:
من الناس إذ أحببت بينهم وحدي
كأني سننت الحب أوَّل عاشق
ومن معانيها: السيرة حسنة كانت أمْ سيئة قال خالد بن عتبة الهذلي:
فأوَّل راض سنة من يسيرها
فلا تجزعن عن سيرة أنت سرتها
ومن معانيها: الوجه أي الشيء البارز من الجسم قال ذو الرمة:
ملساء ليس بها خال ولا ندب
تريك سنة وجه غير مقرفة
وبهذا المعنى أنشد ثعلب:
في البيت تحت مواضع اللمس
بيضاء في المرآة سنتها
ومثله قول الأعشى:
معاوية الأكرمين السنن
كريماً شمائله من بني
ومن معانيها التصوير يقال أسنُّه سنّاً إذا صورته. قد أنشد عبد الرحمن ابن حسان:
تمشي في مرمر مسنون
ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء
وقال في اللسان: "كل من ابتدأ أمراً عمل به قوم بعده هو السنة" [1] ويمكن أن نحمل قول نصيب الماضي على هذا.
قال شيخ الإسلام بن تيمية في (اقتضاء الصراط المستقيم) : "السنة هي العادة وهي الطريقة التي تبتكر لنوع من الناس مما يعدُّونه عبادة أولا يعدُّونه عبادة".(5/307)
فهذه المعاني الكثيرة كلها تنطبق على السنة النبوية وهي متوفرة في الكتاب والسنة مثل قوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [2] . ومثل قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} [3] يعني العذاب كما قال الزجاج: "سنة الأولين أنهم عاينوا العذاب فطلب المشركون إذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء" [4] .
ومنه قوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [5] . ومنه قوله تعالى: {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [6] . وغيرها من الآيات البينات فإنها تدل على معنى الطريقة والعادة والأمر والعذاب وما شاكل ذلك فالآن نرجع إلى الحديث النبوي لنرى فيه معاني السنة.
أخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: "لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم". قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى قال: "فمن." [7] . وفيه عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سنَّ في الإسلام سُنَّة حسنة فعُمِل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعُمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء". [8]
ففي هذا الحديث الشريف حثٌّ على إبداع سنَّة حسنة محمودة وكذلك حثٌّ على إتباعها وهي بمعنى الطريقة والعادة والمنهاج القويم.(5/308)
وفي اللسان: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حض على الصدقة فقال رجل قبيح السُنَّة: أي قبيح الصورة" [9] . وفي صحيح البخاري قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فكان خبيب هو الذي سنَّ الركعتين لكل امرئ مسلم" [10] . وفي موطأ الإمام مالك قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر المجوس: "سَنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب" [11] يعني خذوا منهم الجزية. وفي صحيح البخاري أيضا قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبغض الناس مبتغ في الإسلام سُنَّة الجاهلية" [12] . وأخرج الترمدي عن أبي واقد الليثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى خيبر مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم فقالوا: "يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط"، فقال عليه الصلاة والسلام: "سبحان الله.. هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. والذي نفسي بيده لتركبن سَنَنَ من كان قبلكم" [13] . أي لتتبعن البدعات والخرافات. وفيه أيضا عن ابن جرير بن عبد الله عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سَنَّ سُنَّة خير فاتبع عليها فله أجره ومثل أجور من اتبعه غير منقوص من أجورهم شيئاً ومن سن سنة شر فاتُّبِع عليها كان عليه وزره ومثل أوزار من اتبعه غير منقوص من أوزارهم شيئاً" [14] . واللفظ للترمذي. إلى غيرها من الأحاديث الكثيرة المروية في الجوامع والسنن والمسانيد وكلها تشير إلى أن السنة قد استعملت بمعنى الطريقة والعادة والبدعة والخرافات والصورة والتقاليد وما شابه ذلك. فإن هذه المعاني كلها معانٍ لغوية لكلمة السنة في القرآن والحديث.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]- ج 13 ص 225.
[2]- الفتح 32
[3]- الكهف: 55
[4]- اللسان ج 13ص 225.
[5]- الأحزاب: 38.
[6]- غافر: 85.(5/309)
[7]- مسلم كتاب العلم باب اتباع اليهود والنصارى ص 57 ج 8.
[8]- مسلم كتاب العلم باب من سن سنة حسنة أو سيئة ص61 ج8.
[9]- ج 13 ص 224.
[10]- البخاري جهاد ص 170، مغازي 10، 27.
[11]- الموطأ زكاة 43.
[12]- ديات 9.
[13]- الترمذي أبواب الفتن 18.
[14]- الترمذي أبواب العلم 15، أحمد 2: 505.(5/310)
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب
لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
المدرس بالجامعة
سورة لقمان
قوله تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} . هذه الآية الكريمة تدل على الأمر ببر الوالدين الكافرين وقد جاءت آية أخرى يفهم منها خلاف ذلك وهي قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ} الآية. ثم نص على دخول الآباء في هذا بقوله: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُم} .
والذي يظهر لي والله تعالى أعلم أنه لا معارضة بين الآيتين. ووجه الجمع بينهما أن المصاحبة بالمعروف أعم من الموادة لأن الإنسان يمكنه إسداء المعروف لمن يوده ومن لا يوده والنهي عن الأخص لا يستلزم النهي عن الأعم فكأن الله حذَّر من الموادة المشعرة بالمحبة والموالاة بالباطن لجميع الكفار يدخل في ذلك الآباء وغيرهم وأمر الإنسان بأن لا يفعل لوالديه إلا المعروف وفعل المعروف لا يستلزم المودة لأن المودة من أفعال القلوب لا من أفعال الجوارح. ومما يدل لذلك إذنه صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر الصديق أن تصل أمها وهي كافرة وقال بعض العلماء أن قصتها سبب لنزول قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الآية..
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} الآية.(5/311)
هذه الآية تدل بظاهرها على أن يوم القيامة لا ينفع فيه والد ولده وقد جاءت آية أخرى تدل على رفع درجات الأولاد بسبب صلاح آبائهم حتى يكونوا في درجة الآباء مع أن عملهم أي الأولاد لم يبلغهم تلك الدرجة إقرارا لعيون الآباء بوجود الأبناء معهم في منازلهم من الجنة وذلك نفع لهم وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية..
ووجه الجمع أُشير إليه بالقيد الذي في هذه الآية وهو قوله تعالى: {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} وعين فيها النفع بأنه إلحاقهم بهم في درجاتهم بقيد الإيمان فهي أخص من الآية الأخرى والأخص لا يعارض الأعم. وعلى قول من فسر الآية بأن معنى قوله: {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} لا يقضي عنه حقا لزمه ولا يدفع عنه عذابا حق عليه، فلا إشكال في الآية. وسيأتي لهذا زيادة إيضاح في سورة النجم في الكلام على: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} الآية إن شاء الله تعالى.
سورة السجدة
قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ... } . الآية
أسند في هذه الآية الكريمة التَوَفِّي إلى ملك واحد وأسند في آيات أخر إلى جماعة من الملائكة كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَة} وقوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ ... } الآية وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو ... } وأسنده في آية أخرى إلى نفسه جل وعلا وهي قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ... }(5/312)
والجواب عن هذا ظاهر وهو أن إسناده التَّوَفِّي إلى نفسه لأن ملك الموت لا يقدر أن يقبض روح أحد إلا بإذنه ومشيئته تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} وأسنده لملك الموت لأنه هو المأمور بقبض الأرواح وأسنده للملائكة لأن ملك الموت له أعوان من الملائكة تحت رئاسته يفعلون بأمره وينزعون الروح إلى الحلقوم فيأخذها ملك الموت والعلم عند الله تعالى.
سورة الأحزاب
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} لا منافاة بينه وبين قوله في آخر الآية {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ... } بصيغة الجمع لدخول الأمة تحت الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه قدوتهم كما تقدم بيانه مستوفى في سورة الروم.
قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} . هذه الآية الكريمة تدل بفحوى خطابها أنه لم يجعل لامرأة من قلبين في جوفها وقد جاءت آية أخرى يوهم ظاهرها خلاف ذلك وهي قوله تعالى في حفصة وعائشة: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ... } الآية فقد جمع القلوب لهاتين المرأتين.(5/313)
والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن المثنى إذا أضيف إليه شيئان هما جزآه جاز في ذلك المضاف الذي هو شيئان الجمع والتثنية والإفراد وأفصحها الجمع فالإفراد فالتثنية على الأصح سواء كانت الإضافة لفظا أو معنى. فاللفظ مثاله: شويت رؤوس الكبشين أو رأسهما أو رأسهما أو رأسيهما والمعنى قطعت الكبشين رؤوسا وقطعت منهما الرؤوس فإن فرق المثنى فالمختار الإفراد نحو: {عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وإن كان الاثنان المضافان منفصلين عن المثنى المضاف إليه أي كان غير جزأيه فالقياس الجمع وفاقا للفقراء وفي الحديث: "ما أخرجكما من بيوتكما إذا أويتما إلى مضاجعكما ... ". و"هذه فلانة وفلانة يسألانك عن إنفاقهما على أزواجهما ألهما فيه أجر". و"لقي عليا وحمزة فضرباه بأسيافهما". واعلم أن الضمائر الراجعة إلى هذا المضاف يجوز فيها الجمع نظرا إلى اللفظ والتثنية نظرا إلى المعنى فمن الأول قوله:
فإن لها فيما دهيت به أسا
خليلي لا تهلك نفوسكما أساً
ومن الثاني قوله:
إذا منكما الأبطال يغشاهما الذعر
قلوبكما يغشاهما الأمن عادة
الثاني هو ما ذهب إليه مالك بن أنس رحمه الله تعالى من أن أقل الجمع اثنان. ونظيره قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَة ... } أي أخوان فصاعدا.(5/314)
قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُم} هذه الآية الكريمة تدل بدلالة الالتزام على أنه صلى الله عليه وسلم أب لهم لأن أمومة أزواجه لهم تستلزم أبوَّته صلى الله عليه وسلم لهم وهذا المدلول عليه بدلالة الالتزام مصرح به في قراءة أُبَيّ بن كعب رضي الله عنه لأنه يقرأها: (وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم) وهذه القراءة مروية أيضا عن ابن عباس وقد جاءت آية أخرى تصرح بخلاف هذا المدلول عليه بدلالة الالتزام والقراءة الشاذة وهي قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} . الآية..والجواب ظاهر وهو أن الأبوَّة المثبتة دينية والأبوة المنفية طينية وبهذا يرتفع الإشكال في قوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُم} مع قوله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} . إذ يقال كيف يلزم الإنسان أن يسأل أمه من وراء حجاب؟. والجواب ما ذكرناه الآن فهنَّ أمهات في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام لا في الخلوة بهنَّ ولا في حرمة بناتهنَّ ونحو ذلك والعلم عند الله تعالى.(5/315)
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَك} الآية. يظهر تعارضه مع قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} الآية. والجواب أن قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} منسوخ بقوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَك} وقد قدمنا في سورة البقرة أنه أحد الموضعين اللّذين في المصحف ناسخهما قبل منسوخهما لتقدمه في ترتيب المصحف مع تأخره في النزول على القول بذلك. وقيل أن الآية الناسخة لها هي قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} . الآية. وقال بعض العلماء هي محكمة وعليه فالمعنى {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} أي من بعد النساء التي أحلهن الله لك في قوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَك} الآية. فتكون آية {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} محرمة ما لم يدخل في آية {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَك} كالكتابيات والمشركات والبدويات على القول بذلك فيهن وبنات العم والعمات وبنات الخال والخالات اللاتي لم يهاجرن معه على القول بذلك فيهن أيضاً والقول بعدم النسخ قال به أُبَيّ بن كعب ومجاهد في رواية عنه وعكرمة والضحاك في رواية وأبو رزين في رواية عنه وأبو صالح والحسن وقتادة في رواية والسدي وغيرهم كما نقله عنهم ابن كثير وغيره واختار عدم النسخ ابن جرير وأبو حيان.(5/316)
والذي يظهر لنا أن القول بالنسخ أرجح وليس المرجح لذلك عندنا أنه قول جماعة من الصحابة ومن بعدهم منهم علي وابن عباس وأنس وغيرهم ولكن المرجح له عندنا أنه قول أعلم الناس بالمسألة أعني أزواجه صلى الله عليه وسلم لأن حليَّة غيرهن من الضرات وعدمها لا يوجد من هو أشد اهتماما بهما منهن فهن صواحبات القصة وقد تقرر في علم الأصول أن صاحب القصة يقدم على غيره ولعل هناك تفريق بين ما إذا كان صاحب القصة راويا وبين كونه مستنبطا كقصة فاطمة بنت قيس في إسقاط النفقة والسكنى فالحجة معها والحديث يؤيدها ومع ذلك فعمر يرد قولها. ولذلك قدم العلماء رواية ميمونة وأبي رافع أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال على رواية ابن عباس المتفق عليها أنه تزوجها محرما لأن ميمونة صاحبة القصة وأبا رافع سفير فيها فإذا علمت ذلك فاعلم أن ممن قال بالنسخ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "ما مات صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له النساء". وأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها قالت: "لم يمت صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم". أما عائشة فقد روى عنها ذلك الإمام أحمد والترمذي وصححه النسائي في سننيهما والحاكم وصححه وأبو داود في ناسخه وابن المنذر وغيرهم. وأما أم سلمة فقد رواه عنها ابن أبي حاتم كما نقله عنه ابن كثير وغيره ويشهد لذلك ما رواه جماعة عن عبد الله بن شداد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة وجويرية رضي الله عنهما بعد نزول {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء} . قال الألوسي في تفسيره أن ذلك أخرجه عنه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والعلم عند الله تعالى.
سورة سبأ(5/317)
قوله تعالى: {وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ} . هذه الآية الكريمة على كلتا القراءتين قراءة ضم الياء مع فتح الزاي مبنيا للمفعول مع رفع {الْكَفُورُ} على أنه نائب فاعل وقراءة {نُجَازِي} بضم النون وكسر الزاي مبنياًًًًً للفاعل مع نصب {الْكَفُورَ} على أنه مفعول به تدل على خصوص الجزاء بالمبالغين بالكفر. وقد جاءت آيات أخر تدل على عموم الجزاء كقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} الآية.
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:
الأول: أن المعنى ما نجازي هذا الجزاء الشديد المستأصل إلا المبالغ في الكفران.
الثاني: أن ما يفعل بغير الكافر من الجزاء ليس عقابا في الحقيقة لأنه تطهير وتمحيص.
الثالث: أنه لا يجازى جميع الأعمال مع المناقشة التامة إلا الكافر ويدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من نوقش الحساب فقد هلك". وأنه لما سألت عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} قال لها ذلك العرض. وبيَّن لها أن من نوقش الحساب لابد أن يهلك.(5/318)
قوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ} الآية. هذه الآية الكريمة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يسأل أمته أجرا على تبليغ ما جاءهم به من خير الدنيا والآخرة. ونظيرها قوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} . وقوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} في سورة الطور والقلم. وقوله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} وقوله: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} . وعدم طلب الأجرة على التبليغ هو شأن الرسل كلِّهم عليهم صلوات الله وسلامه كما قال تعالى: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً} وقال تعالى في سورة الشعراء: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} في قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام وقال في سورة هود عن نوح: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية. وقال فيها أيضا عن هود: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} الآية. وقد جاء في آية أخرى ما يوهم خلاف ذلك وهي قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} .
اعلم أولا أن في قوله تعالى: {إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أربعة أقوال.(5/319)
الأول: ورواه الشعبي وغيره عن ابن عباس وبه قال مجاهد وقتادة وعكرمة وأبو مالك والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم كما نقله عنهم ابن جرير وغيره أن معنى الآية {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي إلا أن تودوني في قرابتي التي بيني وبينكم فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذي الناس كما تمنعون كل من بينكم وبينه مثل قرابتي منكم. وكان صلى الله عليه وسلم له في كل بطن من قريش رحم فهذا الذي سألهم ليس بأجر على التبليغ لأنه مبذول لكل أحد لأن كل أحد يوده أهل قرابته وينتصرون له من أذى الناس وقد فعل له ذلك أبو طالب ولم يكن أجرا على التبليغ لأنه لم يؤمن وإذا كان لا يسأل أجرا إلا هذا الذي ليس بأجر تحقق أنه لا يسأل أجرا كقول النابغة:
بهن فلول من قراع الكتائب
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
ومثل هذا يسميه البلاغيون تأكيد المدح بما يشبه الذم وهذا القول هو الصحيح في الآية واختاره ابن جرير وعليه فلا إشكال.(5/320)
الثاني: أن معنى الآية {إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي لا تؤذوا قرابتي وعترتي واحفظوني فيهم ويروى هذا القول عن سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب وعلي بن الحسن وعليه فلا إشكال أيضا لأن المودة بين المسلمين واجبة فيما بينهم وأحرى قرابة النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وفي الحديث: "مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". والأحاديث في مثل هذا كثيرة جدا. وإذا كان نفس الدين يوجب هذا بين المسلمين تبين أنه غير عوض عن التبليغ وقال بعض العلماء: الاستثناء منقطع على كلا القولين، وعليه فلا إشكال. فمعناه على القول الأول لا أسألكم عليه أجرا لكن أذكركم قرابتي فيكم وعلى الثاني لكن أذكركم الله في قرابتي فاحفظوني فيهم.
الثالث: وبه قال الحسن: {إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي ألا تتوددوا إلى الله وتتقربوا إليه إلا بالطاعة والعمل الصالح وعليه فلا إشكال لأن التقرب إلى الله ليس أجر على التبليغ.
الرابع: {إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي ألا تتوددوا إلى قراباتكم وتصلوا أرحامكم. ذكر ابن جرير هذا القول عن عبد الله بن القاسم وعليه فلا إشكال لأن صلة الإنسان رحمه ليست أجرا على التبليغ فقد علمت الصحيح في تفسير الآية وظهر لك رفع الإشكال على جميع الأقوال. وأما القول بأن قوله تعالى: {إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} منسوخ بقوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} فهو ضعيف والعلم عند الله تعالى.
سورة فاطر(5/321)
قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ} الضمير في قوله: {عُمُرِهِ} يظهر رجوعه إلى المعمَّر فيشكل معنى الآية لأن المعمَّر والمنقوص من عمره ضدان فيظهر تنافي الضمير ومفسره.
الجواب: أن المراد بالعمَّر هنا جنس المعمَّر الذي هو مطلق الشخص فيصدق بالذي لم ينقص من عمره وبالذي نقص من عمره فصار المعنى: لا يزاد في عمر شخص ولا ينقص من عمر شخص إلا في كتاب الله وهذه المسألة هي المعروفة عند العلماء العربية بمسألة عندي درهم ونصفه أي نصف درهم آخر.
قال ابن كثير في تفسيره: "الضمير عائد على الجنس لا على العين لأن طويل العمر في الكتاب وفي علم الله لا ينقص من عمره إنما عاد الضمير على الجنس".انتهى منه.
قوله تعالى: {وَمَكْرَ السَّيِّئ} يدل على أن المكر هنا شيء غير السيئ أضيف إلى السيئ للزوم المغايرة بين المضاف والمضاف إليه. وقوله تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} يدل على أن المراد بالمكر هنا هو السيئ بعينه لا شيء آخر فالتنافي بين التركيب الإضافي والتركيب التقييدي ظاهر. والذي يظهر والله تعالى أعلم أن التحقيق جواز إضافة الشيء إلى نفسه إذا اختلفت الألفاظ لأن المغايرة بين الألفاظ ربما كفت في المغايرة بين المضاف والمضاف إليه كما جزم به ابن جرير في تفسيره في غير هذا الموضع ويشير إليه ابن مالك في الخلاصة بقوله:
حتما وإلا أتبع الذي ردف
وإن يكونا مفردين فأضف
وأما قوله:
معنى وأوِّل مُوِهماً إذا ورد
ولا يضاف اسم لما به اتحد(5/322)
فالذي يظهر فيه بعد البحث أنه لا حاجة إلى تأويله مع كثرته في القرآن واللغة العربية فالظاهر أنه أسلوب من أساليب العربية بدليل كثرة وروده كقولنا هنا: {وَمَكْرَ السَّيِّئ} والمكر هو السيئ بدليل قوله: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ} الآية. وكقوله: {وَالدَّارُ الآخِرَةُ} والدار هي الآخرة وكقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ} والشهر هو رمضان على التحقيق. وكقوله: {مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} والحبل هو الوريد ونظيره من كلام العرب قول عنترة في معلقته:
بالسيف عن حامي الحقيقة معلم
ومشك سابغة هتكت فروجها
فأصل المشك بالكسر السير الذي تشد به الدرع ولكن عنترة هنا أراد به نفس الدرع وأضافه إليها كما هو واضح من كلامه لأن الحكم بهتك الفروج واقع على الدرع لا على السير الذي تشد به كما جزم به بعض المحققين وهو ظاهر خلافا لظاهر كلام صاحب تاج العروس فإنه أورد بيت عنترة شاهدا لأن المشك السير الذي تشد به الدرع بل المشك في بيت عنترة هذا على التحقيق هو السابغة وأضيف إليها على ما ذكرنا. وقول امرئ القيس:
غذاؤها نمير الماء غير المحلل
كبكر المقاناة البياض بصفرة
فالبكر هي المقاناة على التحقيق وأما على ما ذهب إليه ابن مالك فالجواب تأويل المضاف بأن المراد به مسمى المضاف إليه.(5/323)
رجل عرف الحق ببصيرته
للدكتور طه الزيني
المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة
لقد درج في مدارج السالكين إلى الحق، حتى استقر أمره على الإسلام. كان مجوسيا، ثم مسيحيا، ثم مسلما من أكابر المسلمين، وناصرا من أعظم أنصار الإسلام ذلكم هو سلمان الفارسي رضي الله عنه، الصحابي الجليل وصاحب فكرة حفر الخندق حول المدينة يوم غزوة الأحزاب، وكان الخندق سببا في هزيمة المشركين وفشل خطتهم في غزو المدينة.
كان أبوه دهقان قريته (جي) من أعمال أصبهان ببلاد الفرس، وكان هو أحب خلق الله إلى أبيه، وكان أبوه يتمنى أن يشب حفيّاً بالنار عاكفا عليها، حتى يخلفه في وظيفته فكان يحبسه في بيت النار حتى لا يخرج، وحتى يعتادها ويألف الجلوس بجوارها ومناجاتها ولكن طبيعة الفتى أنفت من عبادة النار، وقال في نفسه: "لابد أن تكون هناك عبادة خير من هذه العبادة".
وفي يوم اضطر والده إلى إرساله إلى ضيعته لينوب عنه في بعض شأنه، فمر بكنيسة من كنائس النصارى فسمع أصواتهم وهم يصلون، فدخل عليهم ينظر ما يصنعون، فأعجبته صلاتهم وأحب عبادتهم وقال: "هذا والله خير مما نحن عليه"، فلم يتركهم حتى غربت الشمس، وأهمل ضيعة أبيه فلم يذهب إليها وقال لهم: "أين أجد أصل هذا الدين؟ قالوا: "بالشام".
فلما رجع إلى أبيه سأله أين كان وكيف أهمل ما أرسله من أجله؟ فقال له: "يا أبت مررت بالناس يصلون في كنيسة لهم فأعجبني ما رأيت من دينهم فبقيت عندهم حتى غربت الشمس". فقال له أبوه: "يا بني ليس لك في ذلك خير، دينك ودين آبائك خير منه".
فقال له سلمان: "كلا والله إنه لخير من ديننا"، فخاف عليه أبوه من النصرانية فجعل في رجليه قيدا وحبسه في البيت.(5/324)
فلما خرج والده، أرسل سلمان إلى النصارى الذين في الكنيسة يرجوهم أن يخبروه إذا قدم عليهم وفد من الشام. فقدم عليهم تجار من النصارى فأخبروه فأعد عدته للسفر وقال لهم: "إذا أردتم العودة مروا على بيت كذا". فمروا عليه وفكوا قيده ثم حملوه معهم إلى الشام.
فلما وصل إليها سأل: "من أعلم الناس بهذا الدين؟ " فقيل له: "هو الأسقف بالكنيسة"فجاءه وأخبره بأنه أحب النصرانية، وأنه يريد أن يكون خادما له في كنيسته، ويتعلم من علمه، ويصلي معه، فأذن له بذلك.(5/325)
ولكن هذا الأسقف كما يقول سلمان الفارسي رجل سوء، يأمر الناس بالصدقة ويحثهم عليها فإذا جمعوا إليه شيئا اكتنزه لنفسه ولم يعط منه المساكين، حتى جمع سبع قلال من المال، فكرهه سلمان كرها شديدا وأراد فراقه، ولكن الله عجل له بالمنية فبعد وفاته دل سلمان الناس على كنزه وأخبرهم بحاله، وجاء بعده أسقف فاضل زاهد في الدنيا وراغب في الآخرة فأحبه سلمان وأنس به، وظلت حال سلمان رحلة واغترابا بين بلاد النصرانية يأخذ عن أساقفتها ويعمل في خدمتهم ويتعلم الدين منهم فانتقل في ذلك إلى الشام ثم إلى الموصل ثم إلى نصيبين ثم إلى عمورية من أرض الروم وكان كلما أراد ترك بلد من هذه البلاد سأل عن أعلم الناس بأفضل الأديان في شتى بقاع الأرض، يريد الوصول إليها مهما قاسى من المتاعب، ومهما لاقى من الصعاب، لأن الحق رائده، والدين الأعلى غايته، وفي عمورية لقي أسقفا صالحا عاش معه مغتبطا راضيا، وعمل وكسب حتى صارت له بقرات وغنمات، فلما حضرت الوفاة هذا الأسقف سأله سلمان عن رجل مثله فأخبره بأنه لا يعلم أحدا على مثل حاله ولكنه أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجره إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفى، يأكل الهبة ولا يأكل الصدقة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل، فمكث سلمان بعمورية بعد موت صاحبه ما شاء الله أن يمكث ثم مر به نفر من التجار من قبيلة كلب فسألهم أن يحملوه معهم إلى أرض العرب على أن يعطيهم بقراته وغنماته فقبلوا وحملوه معهم، حتى إذا بلغوا وادي القرى باعوه إلى رجل يهودي فبقي عنده حتى رأى النخل فأمّل أن تكون هذه البلاد بلاد النبي المبعوث ثم قدم على هذا اليهودي ابن عم له من بني قريظة من المدينة فاشتراه منه، وحمله معه إليها، فلما رآها سلمان عرفها بالعلامات التي ذكرها له صاحبه أسقف عمورية وعلم سلمان بأن النبي سيكون في المساء مع أصحابه بقباء وكان عند سلمان بعض الطعام فجمعه، وذهب به إلى(5/326)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له سلمان: إنه قد بلغني أنك رجل صالح ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم، فقرَّب سلمان الطعام إلى النبي فقال لأصحابه: "كلوا منه". وأمسك هو فلم يأكل، فقال سلمان في نفسه: هذه واحدة من العلامات التي ذكرها أسقف عمورية، ثم عاد سلمان إلى بيته وجمع طعاما آخر وأتى به النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: رأيتك لا تأكل الصدقة وهذه هدية أكرمتك بها فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه فأكلوا معه. فقال في نفسه: وهذه علامة أخرى.
ثم قابل سلمان رضي الله عنه بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ببقيع الغرقد -مقبرة المدينة - فقص عليه قصته فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "كاتب يا سلمان"، فكاتب سيده على إحياء ثلثماية نخلة بأرض الفقير وعلى أربعين أوقية.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "أعينوا أخاكم"، فأعانوه، فكان الرجل يأتي بثلاثين والآخر بعشرين وبعضهم بخمس عشرة أو بعشرة إلى أن تم العدد المطلوب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب يا سلمان ففقر لها ثم ائتني فأضعها بيدي"فذهب سلمان ففقر لها وأعانه أصحابه، فلما فرغوا حضر سلمان وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فخرج رسول الله معه، فجعل سلمان وأصحابه يقربون النخل من الرسول، وهو يضعه بيده، حتى فرغ منها، وقد حيت جميعها ولم تمت منها واحدة وبقي المال على سلمان، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاج من ذهب فقال له: "خذ هذه فأدها مما عليك" فأوفى سلمان ما عليه لسيده وأصبح حرا مسلما. وشهد مع رسول الله غزوة الأحزاب التي أشار فيها بحفر الخندق، ولم يفته مشهد بعد ذلك من المشاهد الإسلامية.
وفي هذه القصة عبر ينبغي ألا تفوتنا ملاحظتها:
1- أن الرغبة الصادقة في الوصول إلى المطلوب مع الصبر والجلَد توصل إليه.(5/327)
2- أن الإنسان لا ينبغي أن يقعد عن البحث في دينه مستسلما لما عليه آباؤه وأجداده فقد يكونون على غير الحق.
3- أن الذي يعشق الحق يهون عليه في سبيله الأهل والمال والأنس وجميع متع الحياة، فقد ترك سلمان رضي الله عنه أهله ووطنه، واشتغل أجيرا، واغترب وسافر حتى صار عبدا يباع ويشترى ولكن الله كافأه بما قدم في سبيله.
4- الصورة الحية النابضة من تعاون المسلمين بأموالهم وأنفسهم بما فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
5- شدة تواضعه صلى الله عليه وسلم الذي كان يمتاز به حيث وضع النخل بيده الكريمة وصبر حتى أتم ثلث مائة نخلة وهو راض مغتبط.
6- وضوح سماحة الإسلام وحبه للوئام والسلام حيث طلب الرسول من سلمان أن يكاتب سيده، ولم يأمر أصحابه بخطفه، أو يأمره باللجوء إلى المسلمين ليحموه من سيده ولكن اتبع طريق الرضا والمسالمة وشارك بماله وجهده في استخلاص هذا العبد المؤمن من الشرك.
7- أن الزعيم أو الرئيس أو الحاكم ينبغي له أن يأمر القادرين من أتباعه بمعاونة غيرهم في حل مشكلاتهم فهذه سنة الإسلام.
أسأل الله أن يوفق المسلمين للبحث دائما عن الحق وللتعاون فيما بينهم.(5/328)
رسالة المرأة في ظلال السعادة
بقلم الشيخ محمد المهدي محمود على
المدرس في دار الحديث بالمدينة التابعة للجامعة
اختار الله سبحانه وتعالى أن تكون المرأة سكناً للرجل، ومكملة لسعادته، ومساعدة له على أداء عمله، وآداب الإسلام بصفة عامة يظهر منها بوضوح وجلاء. أن للمرأة رسالة هامة في ثلاثة ميادين من أخطر العوامل في حياة المجتمع، واستقراره، وسعادته، وتتجلى هذه الميادين الهامة في النواحي الآتية:
1- رسالة المرأة بالنسبة لزوجها.
2- رسالة المرأة بالنسبة لبيتها.
3- رسالة المرأة بالنسبة لطفلها.
فأما رسالة المرأة بالنسبة لزوجها فإن كتاب الله سبحانه وتعالى - الذي هو نور الله لأهل الدنيا- عبَّر عن ذلك أجمل تعبير وأكمله راسماً الحياة السعيدة الهانئة فقال تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (سورة الروم) فالله جل شأنه جعل المرأة سكناً وأمناً وطمأنينة للرجل.
وإن موقف السيدة خديجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى مثل للمحبة الزوجية المثمرة. أعلى مثل للمودة والرحمة التي هي من صنع الله الحكيم. على أن سيرة أمهات المؤمنين وكرام المؤمنات في صدر الإسلام صورة مثالية لما ينبغي أن تكون عليه الزوجة المؤمنة التقيَّة من بر لزوجها وعطف عليه ومحبة له، وإزاء ذلك أوصى الإسلام بالمرأة كثيراً في الآداب الإسلامية عامة، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي".
وأما رسالة المرأة في البيت:(5/329)
فالمنزل هو عش السعادة، والمرأة هي التي ترعاه بعطفها وحنانها. تصيِّره جنة وارفة الظلال طيبة الثمار. دانية القطاف. تجعله جنَّة من جنَّات الدنيا.
إن المنزل مهد راحة زوجها وعش أطفالها، فيه قوام الحياة من مأكل وملبس ومأوى، وإن اليد الحانية التي تمتد إلى كل تلك النواحي في رفق ومحبة، وطهر وإخلاص، وصفاء وعطف، فتعدُّ من المأكل ما لذَّ وطاب، ومن الملبس ما حسن وكمل، تجعله مهد راحة وأنس للنفس. وبذلك ترفرف السعادة على الأسرة وتصبح الأسرة نواة لمجتمع سعيد يؤدي كل فرد فيه واجبه على أتمِّ ما يكون.
وأما رسالة المرأة مع أطفالها:
فأطفال اليوم هم سباب المستقبل هم رجال الغد، وإن السيِّدة الفاضلة الحكيمة العاقلة المهذبة الرشيدة. هي التي ترعى أولادها تُنَشِئُهم على الفضيلة، ومكارم الأخلاق، وتربيهم على الصفات الحسنة الجميلة. تغرس فيهم معاني البطولة بما تقص عليهم من قصص الأنبياء والرسل، وأهل الحكمة الإسلامية، وعظماء التاريخ وأبطال الإسلام، إن السيِّدة التي تجعل من المنزل داراً للحكمة، ومدرسة للتفقه في كتاب الله، وهدي الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، وسير السلف الصالح المبارك. إنما تجعل من منزلها مركز إشعاعٍ يوجِّه الخير للمجتمع بما يخرجه من أفراد ممتازين علماً وخلقاً، ويصبح المنزل متعاوناً مع المدرسة. فتعاليم المدرسة متممِّة لبناء المنزل، وتربية المنزل مكمِّلة لرسالة المدرسة وأمام هذه الرسالة في هاتيك الميادين الهامة.
أمام رسالة المرأة المقدسة أمام رسالة المرأة الخطيرة. أمام رسالة المرأة التي تتناسب مع طبيعتها وتكوينها، مع عاطفتها وغريزتها مع ميولها ووجدانها مع أنوثتها وأمومتها مع فطرتها التي فطرها الله عليها.
أمام هذه الرسالة العظيمة التي عبر عنها الشاعر بقوله:
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعباً طيب الأعراق(5/330)
أمام هذه الرسالة يتضح جليّاً أن أيّ انحراف للمرأة عن أداء رسالتها وأيّ شاغل يعوقها عن عملها الطبيعي الذي يتفق مع فطرتها وطبيعتها وتكوينها هو جناية كبرى:
أ - جناية على الحياة الزوجية.
ب- جناية على البيت.
ج- جناية على الطفل.
د- جناية كبرى على الأسرة والمجتمع.
فتفقد الحياة الزوجية سعادتها ويحرم البيت من الهدوء والاستقرار، ويتربى الطفل في أحضان الخدم، وتتفرق الأسرة وتحل الكوارث الهدَّامة بالمجتمع المفكَّك غير المترابط.
وما نراه اليوم من تمرد المرأة عن أداء رسالتها التي فطرها الله عليها والتي تتناسب مع طبيعتها وتكوينها. إنما هو تقليد أعمى للمدنية الغربية.
إن المرأة التي تتنكر لرسالتها وتحاول أن تهرب من سياج عِزِّها ومجدها وكرامتها تحاول أن تفر إلى تقاليد الغرب التي جعلت من المرأة سلعة للجمال الرخيص المدنس.
لقد أصبحت المرأة في بعض بلاد الكفار وفي إغرائها وإغوائها التردي إلى مهاوي الردى والفساد. ما أسعد المرأة في ظلال الإسلام وما أسعد الرجل بالمرأة الصالحة التقيَّة النقيَّة الطاهرة العفيفة وما أسعد المجتمع بالنساء المؤمنات الفاضلات اللاتي يوجِّهن النشء إلى الآداب الإسلامية المباركة، ويربين الجيل على الفضيلة، ومكارم الأخلاق. لأنَّهنَّ مصدر خير، ومنبع فضل ومشرق نور وهداية، والإسلام المبارك. الإسلام العظيم غني بالمثل العليا للسيدات المسلمات اللاتي تَرَبَيْن على مأدبة القرآن ونشأن في ظلاله وفي مقدمتهن أم المؤمنين الأولى السيدة خديجة التي حباها الله عقلاً راجحاً وحكمة بالغة فسعدت برسول الله وسعد بها الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم. حفظ الله المسلمين والمسلمات من التردي في مهاوي الهلاك، وظلمات الضلال، وكتب الله لأمة الإسلام عودة كريمة إلى كتاب الله الكريم مصدر النور، والخير، والهدى والفلاح، والسعادة التامَّة في الدنيا والآخرة.(5/331)
والله الهادي إلى سواء السبيل وصلى الله وسلم وبارك على من اصطفاه الله رحمة للعالمين سيدنا محمد النبي الكريم وعلى آله وصحبه وسلم.(5/332)
رسالة مفتوحة
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد اطلعت على كلمة منسوبة إلى الشيخ أحمد خادم الحرم النبوي الشريف بعنوان: (هذه وصية من المدينة المنورة عن الشيخ أحمد خادم الحرم النبوي الشريف) . قال فيها: كنت ساهرا ليلة الجمعة أتلو القرآن الكريم، وبعد قراءة تلاوة أسماء الله الحسنى فلما فرغت من ذلك تهيأت للنوم فرأيت صاحب الطلعة البهية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أتى بالآيات القرآنية والأحكام الشريفة رحمة بالعالمين سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا شيخ، قلت: لبيك يا رسول الله يا أكرم خلق الله، فقال لي: أنا خجلان من أفعال الناس القبيحة ولم أقدر أن أقابل ربي، ولا الملائكة لأن من الجمعة إلى الجمعة مات مائة وستون ألفا على غير دين الإسلام، ثم ذكر بعض ما وقع فيه الناس من المعاصي، ثم قال: فهذه الوصية رحمة بهم من العزيز الجبار، ثم ذكر بعض أشراط الساعة إلى أن قال: فأخبرهم يا شيخ أحمد بهذه الوصية لأنها منقولة بقلم القدر المحفوظ، ومن يكتبها ويرسلها من بلد إلى بلد، ومن محل إلى محل بني له قصر في الجنة، ومن لم يكتبها ويرسلها حرمت عليه شفاعتي يوم القيامة، ومن كتبها وكان فقيرا أغناه الله أو كان مديوناًًًًً قضى الله دينه أو عليه ذنب غفر الله له ولوالديه ببركة هذه الوصية، ومن لم يكتبها من عباد الله اسود وجهه في الدنيا والآخرة، وقال: والله العظيم ثلاثا هذه حقيقة وإن كنت كاذبا أخرج من الدنيا على غير الإسلام، ومن يصدق بها ينجو من عذاب النار، ومن كذب بها كفر".(5/333)
هذه خلاصة ما في هذه الوصية المكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولقد سمعنا هذه الوصية المكذوبة مرات كثيرة منذ سنوات متعددة تنشر فيما بين الناس فيما بين وقت وآخر، وتروج بين الكثير من العامة، وفي ألفاظها اختلاف، وكاذبها يقول: إنه رأى النبي- صلى الله عليه وسلم - في النوم فحمّله هذه الوصية، وفي هذه النشرة الأخيرة التي ذكرناها لك أيها القارئ زعم المفتري فيها أنه رأى النبي- صلى الله عليه وسلم - حين تهيأ للنوم لا في النوم، فالمعنى أنه رآه يقظة، زعم هذا المفتري في هذه الوصية أشياء كثيرة هي من أوضح الكذب وأبين الباطل سأنبهك عليها قريبا في هذه الكلمة إن شاء الله، ولقد نبهت عليها في السنوات الماضية وبينت للناس أنها من أوضح الكذب وأبين الباطل، فلما اطلعت على هذه النشرة الأخيرة ترددت في الكتابة عنها لظهور بطلانها وعظم جراءة مفتريها على الكذب، وما كنت أظن أن بطلانها يروج على من له أدنى بصيرة أو فطرة سليمة، ولكن أخبرني كثير من الإخوان أنها راجت على كثير من الناس وتداولوها بينهم وصدَّقها بعضهم فمن أجل ذلك رأيت أنه يتعين على أمثالي الكتابة عنها لبيان بطلانها وأنها مفتراة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حتى لا يغتر بها أحد، ومن تأملها من ذوي العلم والإيمان أو ذوي الفطرة السليمة والعقل الصحيح عرف أنها كذب وافتراء من وجوه كثيرة، ولقد سألت بعض أقارب الشيخ أحمد المنسوبة إليه هذه الفرية عن هذه الوصية، فأجابني بأنها مكذوبة على الشيخ أحمد وأنه لم يقلها أصلا، والشيخ أحمد المذكور قد مات منذ مدة، ولو فرضنا أن الشيخ المذكور أو من هو أكبر منه زعم أنه رأى النبي- صلى الله عليه وسلم - في النوم أو اليقظة وأوصاه هذه الوصية لعلمنا يقينا أنه كاذب أو أن الذي قال له ذلك هو شيطان وليس هو الرسول- صلى الله عليه وسلم - لوجوه كثيرة، منها أن الرسول- صلى الله عليه وسلم - لا يرى في اليقظة بعد وفاته - صلى(5/334)
الله عليه وسلم -، ومن زعم من جهلة الصوفية أنه يرى النبي- صلى الله عليه وسلم - في اليقظة أو أنه يحضر المولد أو ما أشبه ذلك فإنه غلط أقبح الغلط ولبس عليه غاية التلبيس ووقع في خطأ عظيم وخالف الكتاب والسنة وإجماع أهل العلم لأن الموتى إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة لا في الدنيا، ومن قال خلاف ذلك فإنه كاذب كذبا بيِّناً أو غالط ملبَّس عليه لم يعرف الحق الذي عرفه السلف الصالح ودرج عليه أصحاب الرسول- صلى الله عليه وسلم - وأتباعهم بإحسان، كما قال الله تعالى في صفة المؤمنين: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} فأخبر سبحانه أن بعث الأموات يكون يوم القيامة لا في الدنيا.(5/335)
الوجه الثاني: أن الرسول- صلى الله عليه وسلم - لا يقول خلاف الحق لا في حياته ولا في وفاته وهذه الوصية تخالف شريعته مخالفة ظاهرة من وجوه كثيرة - كما يأتي - وهو- صلى الله عليه وسلم - قد يُرى في النوم، ومن رآه في المنام على صورته الشريفة فقد رآه لأن الشيطان لا يتمثل في صورته كما جاء بذلك الحديث الصحيح الشريف، ولكن الشأن كل الشأن في إيمان الرائي وصدقه وعدالته وضبطه وديانته وأمانته، وهل رأى النبي- صلى الله عليه وسلم - في صورته أو غيرها، ولو جاء عن النبي- صلى اله عليه وسلم - حديث قاله في حياته من غير طريق الثقاة العدول الضابطين لم يعتمد عليه أو يحتج به أو جاء من طريق الثقاة الضابطين ولكنه يخالف رواية من هو أحفظ منهم وأوثق مخالفة لا يمكن معها الجمع بين الروايتين لكان أحدهما منسوخاً لا يعمل به، والثاني ناسخ يعمل به حيث أمكن ذلك بشروطه، وإذا لم يمكن ذلك ولم يمكن الجمع وجب أن تطرح رواية من هو أقل حفظ وأدنى عدالة والحكم عليها بأنها شاذة لا يعمل بها فكيف بوصية لا يعرف صاحبها الذي نقلها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا تعرف عدالته وأمانته فهي والحالة هذه حقيقة بأن تطرح ولا يلتفت إليها وإن لم يكن فيها شيء يخالف الشرع فكيف إذا كانت الوصية مشتملة على أمور كثيرة تدل على بطلانها وأنها مكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومتضمنة لدين لم يأذن به الله، وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم -: "من قال عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار"، وقد قال مفتري هذه الوصية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقل، وكذب عليه كذبا صريحاً خطيرا فما أحراه بهذا الوعيد العظيم وما أحقه به إن لم يبادر بالتوبة وينشر للناس أنه قد كذب هذه الوصية على رسول الله- صلى اله عليه وسلم - لأن من نشر باطلا بين الناس ونسبه إلى الدين لم تصح توبته منه إلا بإعلانها وإظهارها حتى يعلم الناس رجوعه عن كذبه(5/336)
وتكذيبه لنفسه لقول الله عز وجل لقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} فأوضح الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة أن من كتم شيئا من الحق لم تصح توبته من ذلك إلا بعد الإصلاح والتبيين، والله سبحانه قد أكمل لعباده الدين وأتم عليهم النعمة ببعثه رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وما أوحى الله إليه من الشرع الكامل ولم يقبضه إليه إلا بعد الإكمال والتبيين كما قال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} الآية.(5/337)
ومفتري هذه الوصية قد جاء في القرن الرابع عشر يريد أن يلبس على الناس دينهم ويشرع لهم دينا جديدا يترتب عليه دخول الجنة، ومن لم يكتبها ويرسلها حرمت عليه شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، وهذا من أقبح الكذب ومن أوضح الدلائل على كذب هذه الوصية وقلة حياء مفتريها وعظم جرأته على الكذب لأن من كتب القرآن الكريم وأرسله من بلد إلى بلد أو من محل إلى محل لم يحصل له هذا الفضل إذا لم يعمل بالقرآن الكريم، فكيف يحصل لكاتب هذه الفرية وناقلها من بلد إلى بلد، ومن لم يكتب القرآن ولم يرسله من بلد إلى بلد لم يحرم شفاعة النبي- صلى الله عليه وسلم - إذا كان مؤمنا به تابعا لشريعته، وهذه الفرية الواحدة في هذه الوصية تكفي وحدها للدلالة على بطلانها وكذب ناشرها ووقاحته وغباوته وبعده عن معرفة ما جاء به الرسول- صلى الله عليه وسلم - من الهدى، وفي هذه الوصية سوى ما ذكر أمور أخرى كلها تدل على بطلانها وكذبها ولو أقسم مفتريها ألف قسم أو أكثر على صحتها، ولو دعا على نفسه بأعظم العذاب وأشد الأنكال على أنه صادق لم يكن صادقاً ولم تكن صحيحة بل هي والله ثم والله من أعظم الكذب وأقبح الباطل ونحن نُشهد الله سبحانه ومن حضرنا من الملائكة، ومن اطلع على هذه الكتابة من المسلمين شهادة نلقى بها ربنا عز وجل أن هذه الوصية كذب وافتراء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخزى الله من كذبها وعامله بما يستحق، ويدل على كذبها وبطلانها سوى ما تقدم أمور كثيرة، الأول منها قوله فيها: "لأن من الجمعة إلى الجمعة مات مائة وستون ألفا على غير دين الإسلام"لأن هذا من علم الغيب والرسول- صلى الله عليه وسلم - قد انقطع عنه الوحي بعد وفاته، وهو في حياته لا يعلم الغيب فكيف بعد وفاته لقول الله سبحانه: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْب} الآية، وقوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ(5/338)
وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ} ، وفي الحديث الصحيح عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يذاد رجال عن حوضي يوم القيامة فأقول يا رب أصحابي أصحابي فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا من بعدك فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ".
الثاني من أمور الدلالة على بطلان هذه الوصية وأنها كذب قوله فيها: "من كتبها وكان فقيرا أغناه الله أو مديونا قضى الله دينه أو عليه ذنب غفر الله له ولوالديه ببركة هذه الوصية" إلى آخره وهذا من أعظم الكذب وأوضح الدلائل على كذب مفتريها وقلة حيائه من الله ومن عباده لأن هذه الأمور الثلاثة لا تحصل بمجرد كتب القرآن الكريم فكيف تحصل لمن كتب هذه الوصية الباطلة وإنما يريد هذا الخبيث التلبيس على الناس وتعليقهم بهذه الوصية حتى يكتبوها ويتعلقوا بهذا الفضل المزعوم ويَدَعُوا الأسباب التي شرعها الله لعباده وجعلها موصلة إلى الغنى وقضاء الدين ومغفرة الذنوب فنعوذ بالله من أسباب الخذلان وطاعة الهوى والشيطان.(5/339)
الأمر الثالث من الأمور الدالة على بطلان هذه الوصية قوله فيها: "ومن لم يكتبها من عباد الله اسود وجهه في الدنيا والآخرة"وهذا أيضا من أقبح الكذب وأبين الأدلة على بطلان هذه الوصية وكذب مفتريها كيف يجوز في عقل عاقل أن من لم يكتب هذه الوصية التي جاء بها رجل مجهول في القرن الرابع عشر يفتريها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ويزعم أن من لم يكتبها يسود وجهه في الدنيا والآخرة، ومن كتبها كان غنيا بعد الفقر وسليما من الدَيْنِ بعد تراكمه عليه، ومغفورا له ما جناه من الذنوب سبحانك هذا بهتان عظيم، وأن الأدلة والواقع يشهدان بكذب هذا المفتري وعظم جرأته على الله، وقلة حيائه من الله ولا من الناس فهؤلاء أمم كثيرة لم يكتبوها فلم تسوَّد وجوههم، وههنا جم غفير لا يحصيهم إلا الله قد كتبوها مرات كثيرة فلم يقض دينهم ولم يَزُلْ فقرهم فنعوذ بالله من زيغ القلوب، ورين الذنوب، وهذه صفات وجزاءات لم يأت بها الشرع الشريف لمن كتب أفضل كتاب وأعظمه وهو القرآن الكريم فكيف تحصل لمن كتب وصية مكذوبة مشتملة على أنواع من الباطل وجمل كثيرة من أنواع الكفر سبحان الله ما أحلمه على من اجترأ عليه بالكذب.(5/340)
الأمر الرابع من الأمور الدالة على أن هذه الوصية من أبطل الباطل وأوضح الكذب قوله فيها: "ومن يصدق بها ينجو من عذاب النار ومن كذّب بها فقد كفر"وهذا أيضا من أعظم الجرأة على الكذب ومن أقبح الباطل يدعو هذا المفتري جميع الناس إلى أن يصدقوا بفريته، ويزعم أنهم بذلك ينجون من عذاب النار وأن من كذَّب بها يكفر، لقد أعظم والله هذا الكذاب على الله الفرية وقال والله غير الحق أن من صدَّق بها هو الذي يستحق أن يكون كافرا لا من كذَّب بها لأنها فرية وباطل وكذب لا أساس له من الصحة، ونحن نشهد الله على أنها كذب وأن مفتريها كذَّاب يريد أن يشرع للناس ما لم يأذن به الله، ويُدخل في دينهم ما ليس منه والله قد أكمل الدين وأتمه لهذه الأمة من قبل الفرية بأربعة عشر قرنا فانتبهوا أيها القراء والإخوان، وإياكم والتصديق بأمثال هذه المفتريات وأن يكون لها رواج فيما بينكم فإن الحق عليه نور لا يلتبس على طالبه فاطلبوا الحق بدليله واسألوا أهل العلم عما أشكل عليكم ولا تغتروا بحلف الكذابين فقد حلف إبليس اللعين لأبويكم على أنه لهما من الناصحين وهو أعظم الخائنين وأكذب الكذابين كما حكى الله عنه ذلك في سورة الأعراف حيث قال سبحانه: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} فاحذروه واحذروا أتباعه من المفترين فكم له ولهم من الأيمان الكاذبة والعهود الغادرة والأقوال المزخرفة للإغواء والتضليل، عصمني الله إياكم منها وسائر المسلمين من شر الشياطين وفتن المضلين وزيغ الزائغين وتلبيس أعداء الله المبطلين الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويلبسوا على الناس دينهم والله متم نوره وناصر دينه ولو كره أعداء الله من الشياطين وأتباعهم من الكفار والملحدين.(5/341)
وأما ما ذكره هذا المفتري من ظهور المنكرات فهو أمر واقع، والقرآن الكريم والسنة المطهرة قد حذرا منها غاية التحذير وفيهما الهداية والكفاية، ونسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين وأن يمن عليهم باتباع الحق والاستقامة عليه، والتوبة إلى الله سبحانه من سائر الذنوب فإنه التواب الرحيم والقادر على كل شيء.
وأما ما ذكر عن شروط الساعة فقد أوضحت الأحاديث النبوية ما يكون من أشراط الساعة، وأشار القرآن الكريم إلى بعض ذلك، فمن أراد أن يعلم ذلك وجده في محله من كتب السنة، ومؤلفات أهل العلم والإيمان، وليس بالناس حاجة إلى بيان مثل هذا المفتري وتلبيسه ومزجه الحق بالباطل وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله الصادق الأمين، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.(5/342)
شعر أهل الحديث
(تابع لما أنشد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم)
بقلم الأستاذ عبد العزيز القارئ
المدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة
روى القاضي ابن العربي بسنده عن طريق زكريا بن يحيى قال: "ثنا عمر بن زحر بن حصن عن حميد بن منهب قال: سمعت جدي خريم بن أوس بن حارثة يقول: "هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة مُنْصَرَفَهُ من تبوك فسمعت العباس قال: يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك. قال: "قل لا يفضض الله فاك". فقال العباس:
مستودع حيث يخصف الورق
من قبلها طبت في الظلال وفي
أنت ولا مضغة ولا علق
ثم هبطت البلاد لا بشر
ـجم نسراً وأهله الغرق
بل نطفة تركب السفين وقد ألـ
إذا مضى عالم بدا طبق
تنقل من صالب إلى رحم
خندف علياء تحتها النطق
حتى استوى بيتك المهيمن من
ض وضاءت بنورك الأفق
وأنت لما بعثت أشرقت الأر
ر وسبل الرشاد نخترق
فنحن في ذلك الضياء وفي النو
فقال له النبي:"لا يفضض الله فاك.." [1]
ومنه ما روى الترمذي وصححه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة يمشي بين يديه يقول:
اليوم نضربكم على تنزيله
خلوا بني الكفار عن سبيله
ويذهل الخليل عن خليله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله
وفي رواية:
قد أنزل الرحمن في تنزيله
خلوا بني الكفار عن سبيله
يا رب إني مؤمن بقيله
في صحف تتلى على رسوله
اليوم نضربكم على تأويله
إني رأيت الحق في قبوله
ويذهل الخليل عن خليله
ضرباً يزيل الهام عن مقيله
وفي رواية البزار:
بأن خير القتل في سبيله
قد أنزل الرحمن في تنزيله(5/343)
فقال عمر: "يا ابن رواحة؟ في حرم الله وبين يدي رسول الله تقول الشعر؟ "
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خلِّ عنه يا عمر فإنه أسرع فيهم من نضح النبل" [2]
ومنه ما أخرج ابن سعد [3] عن أبي سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قالا: "لما كان يوم فتح مكة كان عبد الله بن أم مكتوم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الصفا والمروة وهو يقول:
أرض بها أهلي وعوّادي
يا حبذا مكة من وادي
أرض بها ترسخ أوتادي
أرض بها أمشي بلا هادي
ومما ذكره ابن سيد الناس عن ابن إسحاق في سبب فتح مكة قال: "لما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق خرج عمرو بن سالم الخزاعي، قال ابن سعد:"في أربعين راكباً حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وكان ذلك ما هاج فتح مكة فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال:
حلف أبينا وأبيه الأتلدا
يا رب إني ناشد محمداً
ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
قد كنتم ولدا وكنا والدا
وادع عباد الله يأتوك مددا
فانصر هداك الله نصراً أعتدا
إن سيم خسفاً وجهه تربدا
فيهم رسول الله قد تجردا
إن قريشاً أخلفوك الموعدا
في فَيْلَقٍ كالبحر يجري مزبدا
وجعلوا لي في كداء رصدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وهم أذل وأقل عددا
وزعموا أن لست أدعوا أحدا
وقتلونا ركّعاً وسجّدا
هم بيّتونا بالوتير هجّدا
يقول: "قتلنا وقد أسلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم". [4] وسار بجيوشه ففتح مكة.
وذكر هذا الحديث الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: "رواه البزار ورجاله رجال الصحيح إلا محمد بن عمرو وحديثه حسن" [5] .(5/344)
ومما أخرجه ابن سيد الناس بسنده من طريق أبي عمرو بن طارق قال: "سمعت أبا جرول زهير بن صرد الجشمي يقول: "لما أسرنا رسول الله صلى الله عيه وسلم يوم حنين يوم هوازن وذهب يفرق السبي والشاء أتيته وأنشأت أقول:
فإنك المرء نرجوه وننتظر أمنن علينا رسول الله في كرم
مشتت شملها في دهرها غير أمنن على بيضة قد عاقها قدر
على قلوبهمُ الغمّاد والغمر أبقت لنا الدهر هتافاً على حزن
يا أرجح الناس حلماً حين يُختبر إن لم تداركهمُ نعماء تنشرها
إذ فوك تملؤها من مخضها الدّرر أمنن على نسوة كنت ترضعها
وإذ يزينك ما تأتي وما تذر إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها
واستبق منا فإنا معشر زهر لا تجعلنا كمن شالت نعامته
وعندنا بعد هذا اليوم مدخر إنّا لنشكر للنعماء إذ كفرت
من أمهاتك إن العفو مشتهر فألبس العفو من قد كنت ترضعه
عند الهياج إذا ما استوقد الشرر يا خير من مرجت كمت الجياد به
هذي البرية إذ تعفو وتنتصر إنا نؤمل عفواً منك تلبسه
يوم القيامة إذ يهدي لك الظفر فاعفو عفا الله عما أنت راهبه
قال فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشعر قال: "ما لي ولبني عبد المطلب فهو لكم"، وقالت قريش: "ما كان لنا فهو لله ولرسوله". وقالت الأنصار: "ما كان لنا فهو لله ولرسوله". قال الطبراني:"لا يروى عن زهير بن صرد بهذا التمام إلا بهذا الإسناد تفرد به عبيد الله بن رماحس" [6] .
قلت: وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد [7] عن عبد الله بن عمرو وقال: "رواه الطبراني وفيه ابن اسحق مدلس ولكنه ثقة وبقية رجاله ثقات..". وذكره الحافظ ابن كثير في تاريخه عن ابن اسحق قال: "حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفي رواية يونس بن بكير عنه.."
نظراته صلى الله عليه وسلم في الشعر ونقده له:(5/345)
في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أصدق كلمة
قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل [8]
وهذا شطر بيت للبيد وهو ابن ربيعة العامري صاحب المعلقة. ذكر صاحب الشعر والشعراء هذا البيت في قصيدة للبيد كما يلي:
وكل نعيم لا محالة زائل
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
قضى عمراً والمرء ما عاش آمل
إذا المرء أسرى ليلة ظن أنه
ويفنى إذا ما أخطأته الحبائل
حبائله مبثوثة بسبيله
ألما يعظك الدهر أمك هابل
فقولا له إن كان يقسم أمره
لعلك تهديك القرون الأوائل
فإن أنت لم تصدق نفسك فانتسب
ودون معد فلتزعك العواذل
فإن لم تجد من دون عدنان والداً
إذا كشفت عند الإله المحاصل [9]
وكل امرئ يوماً سيعلم سعيه
وهذا الذي سبق من النبي صلى الله عليه وسلم إشادة بهذا الشطر من البيت لاحتوائه على هذا المعنى الموجز العظيم وسكوته صلى الله عليه وسلم عن الشطر الآخر كان عدم رضا به وهو قوله: "وكل نعيم لا محالة زائل"
فإن العموم هنا ليس مقبولاً ولذلك فقد انتقد عثمان بن مظعون رضي الله عنه هذا الشطر لما أنشد لبيد القصيدة فلما قال: "وكل نعيم لامحالة زائل"قال: "كذبت إلا الجنة". ذكره ابن حجر في الإصابة وابن هشام [10] .
ومن نقده صلى الله عليه وسلم لمعاني الشعر استدراكه على النابغة الجعدي لما قال:
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهراً
فقال له: "أين المظهر يا أبا ليلى"، وفي رواية أنه غضب صلى الله عليه وسلم وذلك أن ظاهر البيت فيه مبالغة عظيمة فإنه لا يرجى اعتلاء فوق السماء لمخلوق فهو معنى مردود.. لولا ذكاء الشاعر رضي الله عنه وسرعة بديهته وتأويله لمراده بأنه الجنة.
ومن هذا الباب أيضاً إعجابه صلى الله عليه وسلم بقول الأعشى المازني:
وهن شر غالب لمن غلب
فجعل يكرر هذا الشطر..(5/346)
وذلك أنه معنى واقع محسوس يصدقه كل سامع، وأول ما يصدقه واقعة الشاعر نفسه فطابقت هذه الكلمة حاله مطابقة جيدة.
ومنه أيضاً دعاؤه للنابغة لما أنشد قوله:
بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في حلم إذا لم يكن له
حليم إذا أورد الأمر أصدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له
قال: "أحسنت لا يفضض الله فاك"، على حين أنه صلى الله عليه وسلم استنكر قبل ذلك بقليل أبياتاً من القصيدة كما سبق، فذلك منه صلى الله عليه وسلم دقة في النظر في الشعر والتفريق بين معانيه وعباراته وتحريض في نفس الوقت للشعراء أن يحرصوا على اختيار المعاني الجيِّدة السامية الصادقة في شعرهم، وأن يحترسوا من التورط في المعاني المردودة الفاسدة أو المبالغات القبيحة.. ومواقفه صلى الله عليه وسلم كلها من الشعر والشعراء تدل على تذوقه لمعانيه وفهمه العميق لمراميه، فهو يقبل بعضاً ويرد بعضاً ويؤثر فيه الشعر حتى يشفعه ويرق لصاحبه ويقبل عليه، بل ويكافئه كما فعل بكعب بن زهير..
هذا مع أنه صلى الله عليه وسلم يدرك بنظره الثاقب مدى خطورة دَوْر الشعر وأهميته في ميدان دعوته ورسالته فالعرب أمة شاعرة تعظم الشعر.
ولذلك اتخذ صلى الله عليه وسلم الشعر سلاحاً يرد به خطر الحرب الكلامية التي أعلنها عليه شعراء قريش وفطاحل البيان فيها. فكان من شعرائه الذين ينافحون عنه حسان بن ثابت رضي الله عنه الذي لا يخفى بلاؤه في هذه الحرب على أحد وكيف كانت أبياته تقض مضجع القريشيين.. وقد سبق في هذا البحث أن عبد الله بن الزبعرى لما هرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران قال فيه حسان:
نجران في عيش أجذ لئيم
لا تعدمن رجلاً أحلك بغضه
فما كاد هذا البيت يبلغ ابن الزبعرى رضي الله عنه حتى فعل فعله بنفسه فجاء يسعى إلى رسول الله ويعتذر له عما سلف ثم أسلم ...(5/347)
ومنهم كذلك كعب بن مالك وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهما..
قال عبد الله: "بينما أنا أجتاز في المسجد ورسول الله في ناس من أصحابه إذ قال القوم: "يا عبد الله بن رواحة". فظننت أن رسول الله يدعوني فجئت، فقال: "اجلس يا عبد الله بن رواحة كيف تقول الشعر إذا أردت أن تقول؟ "؛ فقلت: "أنظر ثم أقول". قال: "عليك بالمشركين". ولم أكن أعددت شيئاً لذلك فقلت:
متى كنتم مطاريق أو دانت لكم مضر
فخبروني أثمان العباء متى
فنظرت الكراهية في وجه رسول الله أن جعلت قومه أثمان العباء فنظرت ثم قلت:
على البرية فضلاً ما له غِيرُ
يا هاشم الخير إن الله فضلكم
فراسة خالفتهم في الذي نظروا
إني تفرَّست فيك الخير أعرفه
في جل أمرك ما آووا ولا نصروا
ولو سألْتَ أو استنصرت بعضَهم
تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا
فثبت الله ما آتاك من حسن
قال: "وأنت فثبتك الله يا ابن رواحة" [11] .
قلت: وهذا الذي وقع فيه ابن رواحة في البيت الأول قد احترس منه حسان وهو أذكى في الشعر وأطول باعاً، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: "والله لأسُلنّك منهم كما تسلُّ الشعرة من العجين".. وقد فعل..إلا أن ابن رواحة رضي الله عنه أحسن استدراك خطئه فأزال ما كان وقع في نفس النبي صلى الله عليه وسلم من كراهية لما قال.
ما نسب من الشعر إلى الخلفاء الراشدين:
ذكر أبو علي الحسن بن رشيق القيرواني في كتابه عن الشعر طرفاً من هذا النوع وأفرد له باباً.. وجاء بشعر للخلفاء الأربعة يحتاج إلى النظر في ثبوته فإن ابن رشيق ليس ممن يؤخذ عنه مثل ذلك.(5/348)
أما خليفة رسول أبو بكر الصديق رضي الله عنه فنسب إليه الأبيات الآتية وذكرها أيضاً ابن هشام في كلامه عن سرية عبيدة بن الحارث وهي أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان أبو بكر رضي الله عنه حسب زعم الراوي قال هذه القصيدة في هذه الغزوة.. وأشار إليها ابن عبد البر في الاستيعاب كما سيأتي قال ابن هشام: "قال ابن إسحاق: فقال أبو بكر رضي الله عنه في غزوة عبيدة بن الحارث:
أرقت أو أمر في العشيرة حادث
أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث
عن الكفر تذكير ولا بعث باعث
ترى من لؤي فرقة لا يصدها
عليه وقالوا لست فينا بماكث
رسول أتاهم صادق فتكذبوا
وهرُّوا هرير المحجرات اللواهث
إذا ما دعوناهم إلى الحق أدبروا
وترك التقى شيء لهم غير كارث
فكم قد منينا فيهم بقرابة
فما طيبات الحل مثل الخبائث
فإن يرجعوا عن كفرهم وعقوقهم
فليس عذاب الله عنهم بلابث
وإن يركبوا طغيانهم وضلالهم
لنا العز منها في الفروع والأثائث
ونحن أناس من ذؤابة غالب
حراجيج تخدى في السريح الرثائث
فأولى بربِّ الراقصات عشية
يردن حياض البئر ذات البنائث
كأدم ظباء حول مكة عكف
وليس إذا آليت قولاً بحانث
لئن لم يفيقوا عاجلاً من ضلالهم
تحرم أطهار النساء الطوامث
لتبتدرنهم غارة ذات مصدق
ولا ترأف الكفار رأف ابن حارث
تغادر قتلى تعصب الطير حولهم
وكل كفور يبتغي الشر باحث
فأبلغ بني سهم لديك رسالة
فأن من أعراضكم غير شاعث
فإن تشعثوا عرضي على سوء رأيكم
قال:"فأجابه عبد الله بن الزبعرى السهمي فقال:
بكيت بعين دمعها غير لابث
أمن رسم دار أقفرت بالعثاعث
وفيها يقول:
فما أنت عن أعراض فهر بماكث
فأبلغ أبا بكر لديك رسالة(5/349)
قال ابن هشام: "وأكثر أهل العلم ينكر هذه القصيدة لابن الزبعرى". وقال السهيلي: "ويشهد لصحة من أنكر أن تكون له - أي قصيدة أبي بكر - ما روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: "كذب من أخبركم أن أبا بكر قال بيت شعر في الإسلام". رواه محمد البخاري عن أبي المتوكل عن عبد الرزاق".
قلت: وهذا حديث صحيح وقد رواه ابن عبد البر في الاستيعاب أيضاً فقال: "روى سفيان بن حسين عن الزهري قال: "سألني عبد الملك بن مروان فقال: "أرأيت هذه الأبيات التي تروى عن أبي بكر". فقلت له: "إنه لم يقلها، حدثني عروة عن عائشة أن أبا بكر لم يقل بيت شعر في الإسلام حتى مات". [12]
قلت: رواية ابن عبد البر هذه وإن كان فيها سفيان وقد ضعفوه في الزهري إلا أنه تابعه معمر كما سبق..(5/350)
والحق يقال أنه لا ينبغي التردد في تكذيب نسبة هذه القصيدة إلى أبي بكر وأنه قال شعراً في الإسلام حتى مات تصديقاً للصديقة رضي الله عنها وهي أعلم بحال أبيها. وإن كان قال شعراً أو لم يقل. مع أنه لو قال شيئاً من الشعر فلا أشك أنه لا يخفى عليها لما علم من حفظها للشعر وروايتها له. أخرج ابن عبد البر في الاستيعاب عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: "ما رأيت أحداً أروى للشعر من عروة فقيل له ما أرواك يا أبا عبد الله؟ قال: "وما روايتي من رواية عائشة ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعراً". هذا مع أن القصيدة نفسها تكاد تنطق بالتكذيب لما هو واضح عليها من الصناعة والتكلُّف حتى إنني لأكاد أقول إن منتحلها وضع القاموس أمامه لو كان وجد في زمنه فنقب فيه عن (الأثائث) و (الرثائث) و (البنائث) وغير ذلك من الكلمات الثقيلة. والقصيدة كلها في ثقل هذه الكلمات ولو قارنت بينها وبين ما صحت نسبته من الشعر للصحابة لرأيت بوناً شاسعاً فشعر الصحابة خفيف سلس رقيق لا تعمُّق فيه ولا تصنُّع ولا تكلُّّف… في الغالب الكثير، لأنهم لا يشتغلون بالشعر صناعة وهواية إنما ينطقون به على سجيَّتهم من غير تفرُّغ له.. اللهم إلا ما يكون من حسان رضي الله عنه فإنه شاعر مشهور في الجاهلية والإسلام.
وقد عجبت للشعبي فيما نقله عنه ابن عبد البر كيف يقول: "كان أبو بكر شاعراً وكان عمر شاعراً وكان علي أشعر الثلاثة" [13] .
أكان رحمه الله يرد كلام عائشة في أبيها أم لم يسمع هذا الحديث منها ولم يبلغه عنها.. أم تراه فهم من كلام عائشة أنه كان شاعراً ولم يقل بيت شعر بعد أن أسلم؟ قال ابن عبد البر: "وذكر الأموي عن أبيه عن ابن إسحاق قال: "قال أبو بكر رضي الله عنه في مسطح:
من الكلام ولم تتبع بها طمعا
يا عوف ويحك هلا قلت عارفة
ولم تكن قاطعاً يا عوف منقطعا
وأدركتك حياء معشر أنف
ولا تقول ولو عاينته قذعا(5/351)
أما حزنت من الأقوام إذا حسدوا
أمينة الجيب لم تعلم لها خضعا
لما رميت حَصاناً غير مقرفة
في سيِّء القول من لفظ الخنا شرعا
فيمن رماها وكنتم معشراً إفكا
وبين عوف وبين الله ما صنعا
فأنزل الله وحياً في براءتها
شر الجزاء إذا ألفيته هجعا
فإن أعش أجز عوفاً من مقالته
ومن العجب أن تكون هذه الأبيات حسب زعم ابن اسحق في قصة الإفك التي تورط فيها مسطح وتكون عائشة موضع القصيدة ثم تخفى عليها..
لا أظن أن كل هذا يقوى على مقاومة ما صح عنها وقد حكمت به حكماً صارماً يدل على يقينها في هذا الأمر: "كذب من أخبركم أنّ أبا بكر قال بيت شعر في الإسلام" ...
أما عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فنسبوا إليه أبياتاً منها:
يبقى الإله ويفنى المال والولد
لاشيء مما ترى تبقى بشاشته
والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه
والجن والإنس فيما بينها ترد
ولا سليمان إذ تجري الرياح له
لا بدّ من ورده يوماً كما وردو
حوض هنالك مورود بلا كذب
ذكر ذلك ابن رشيق وإنما هي لورقة بن نوفل نسبها إليه صاحب الأغاني وذكر قبلها هذه الأبيات [14] :
أنا النذير فلا يغرركموا أحد
لقد نصحت لأقوام وقلت لهم
فإن دعوكم فقولوا بيننا جدد
لا تعبُدُنّ إلهاً غير خالقكم
وقبل قد سبّح الجودي والجمد
سبحان ذي العرش سبحاناً نعوذ به
لا ينبغي أن يناوي ملكه أحد
مسخَّر كل ما تحت السماء له
وقد ذكرها صاحب زهر الآداب فقال [15] :(5/352)
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حج فلما كان بضَجْنان قال: "لا إله إلا الله العلي العظيم المعطي من شاء ما شاء، كنت في هذا الوادي في مدرعة صوف أرعى إبل الخطاب وكان فظاً يتعبني إذا عملت ويضربني إذا قصرت وقد أمسيت الليلة ليس بيني وبين الله أحد"ثم تمثل:
لا شيء مما ترى يبقى بشاشته ... الأبيات.
وذكر الألوسي في كتابه بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب [16] هذه الأبيات لورقة ابن نوفل وأنه مر ببلال وهو يعذَّب ويقول: "أحد أحد" فوقف عليه وقال: "أحد أحد والله يا بلال"ونهاهم عنه فلم ينتهوا. فقال والله لئن قتلتموه لأتخذن قبره حناناً وقال:
أنا النذير فلا يغرركموا أحد
لقد نصحت لأقوام وقلت لهم
إلى آخر الأبيات المذكورة.. وقد ذكر ابن هشام وقوف ورقة على بلال ونهيه لهم عن تعذيبه ولم يذكر أنه قال هذه الأبيات حينئذ فلا أدري من أين أخذ ذلك الألوسي رحمه الله [17] !
ونسبوا إليه أيضاً أنه قال:
على كل دين قبل ذلك حائد
ألم ترى أن الله أظهر دينه
تداعَوْا إلى أمر من الغي فاسد
وأمكنه من أهل مكة بعدما
مسوقة بين الزبير وخالد
غداة أجال الخيل في عرصاتها
وأمسى عداه من قتيل وشارد
فأمسى رسول الله قد عز نصره
ذكر ذلك صاحب زهر الآداب وذكره ابن رشيق في العمدة ومن العجب أن يزعم في زهر الآداب أن عمر قال هذه الأبيات يوم فتح مكة..(5/353)
وهو الذي زجر عبد الله بن رواحة وأنكر عليه إنشاده الشعر عند دخول مكة في عمرة القضاء قائلاً: "أفي حرم الله وبين يدي رسول الله؟؟.."ثم سبق لك في عدد من الأحاديث تشديده رضي الله عنه على الشعراء وموقفه الحازم من الشعر، ففي حديث الأسود بن سريع وصفه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هذا الرجل لا يحب الباطل" [18] . وأراد الشعر ويكفي هذا دلالة على أن عمر كان أشدَّ من النبي صلى الله عليه وسلم في موقفه من الشعراء وليس ذلك كراهية منه لذلك وإنما هي سياسة إسلامية لتصفية معاني الشعر ومقاصده من شوائب الجاهلية ومحاولة للحدِّ من اشتغال العرب به خشية أن يلهيهم عن القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو غرض مستقى من سياسة النبي صلى الله عليه وسلم نفسه إذ سبق شرح سياسته صلى الله عليه وسلم في الشعر إلا أن عمر يتميز بالشدة والصرامة والنبي صلى الله عليه وسلم رؤوف رحيم.
هذا مع أن عمر رضي الله عنه كان من اعرف الفصحاء بمعاني الشعر وأنقدهم له وكان يحفظه ويرويه والأخبار بذلك كثيرة لو أردت أن أسوقها لطال البحث وتوسع [19] إلا أنني أذكر طرفاً من ذلك يدل على أمرين:
قال ابن حجر في الإصابة في ترجمة تميم بن مقبل: "وله خبر مع عمر بن الخطاب حين استعداه على النجاشي الشاعر لأنهما كانا يتهاجيان والقصة مشهورة رويناها في كتاب المجالس وذكرها ثعلب في فوائده من رواية أبي الحسن بن مقسم عنه قال: قال أصحابنا: استعدى تميم بن مقبل عمر بن الخطاب على النجاشي فقال:"يا أمير المؤمنين هجاني فأعدني عليه. قال: "يا نجاشي ما قلت؟ "قال: "يا أمير المؤمنين قلت ما لا أرى عليه إثماً"وأنشد:
فجازى بني العجلان رهط ابن مقبل
إذا الله جازى أهل لؤم بذمة
ولا يظلمون الناس حبة خردل
قُبَيِّلَة لا يغدرون بذمة
فقال عمر: "ليتني من هؤلاء. فقال:
إذا صدر الوارد عن كل منهل
ولا يردون الماء إلا عشيَّة(5/354)
فقال عمر: "ما على هؤلاء متى وردوا". فقال:
خذ العقب واحلب أيها العبد واعجل
وما سمي العجلان إلا لقوله
فقال عمر: "خير القوم أنفعهم لأهله". فقال تميم: "فسله عن قوله:
ـئيم ورهط العاجز المتذلل
أولئك أولاد الهجين وأسرة اللـ
فقال عمر: "أما هذا فلا أعذرك عليه فحبسه وضربه".
وذكر أيضاً في ترجمة لبيد بن ربيعة أنه أمر عامله على الكوفة أن يسأله عمَّا أحدث من الشعر بعد الإسلام فقال لبيد: "أبدلني الله خيراً من ذلك سورة البقرة وآل عمران". فزاد عمر في عطائه..
وذكر صاحب الأغاني القصة وزاد أنه أنقص من عطاء الأغلب العِجْلي لما قال جواباً على ذلك:
لقد طلبت هيناً موجوداً
أرجزاً تريد أم قصيداً
فهذان الخبران يدلان على أنه رضي الله عنه لم يكن يرضى من الشعراء الاشتغال بما كانوا يشتغلون به من مقاصد الهجاء واللهو واللغو.. وأنه كان يحرِّضهم على الاشتغال بالقرآن فهو أبلغ بيان وأعظم منهل وتلاحظ في نفس الوقت أنه رضي الله عنه تجاهل في بادئ الأمر ما هو مضمَّن من الهجاء في أبيات النجاشي ولا يقولن قال أن ذلك كان عدم معرفة بالشعر فإن قوله:
إذا الله جازى أهل لؤم بذمة
يكاد يكون صريحاً في قصد الذم والهجاء، إلا أن عمر لم يرد إذكاء النار بينهما أو بين القبيلتين وحاول أن يدرأ الحد بالشبهة وأن يلطِّف الجو. وأنت تعلم أثر الهجاء في العرب.. حتى إذا انكشف الهجاء صريحاً في البيت الأخير عاقبه وضربه وحبسه.. ومثل هذا ما يروى عن حبسه للحطيئة لما استعداه عليه الزبرقان ابن بدر فقد حاول رضي الله عنه في البداية أن يصلح بينهما ويتجاهل قصد الهجاء في قول الحطيئة:
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
ثم حكم فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه فحكم عليه حسان..(5/355)
فكل هذا وما أشبهه مما يروى عن عمر لا يدل على أنه رضي الله عنه كان قصير النظر في الشعر.. فإنه من أفصح العرب لكنه يدل على أنه رضي الله عنه كان يلتزم موقف القاضي: والقاضي لا يتسرع في الحكم..
ونسبوا إليه رضي الله عنه كذلك أنه قال:
بكفِّ الإله مقاديرها
هوِّن عليك فإن الأمور
ولا قاصر عنك مأمورها
فليس بآتيك منهيُّها
وفي منتخب كنز العمال [20] قال: "عن أبي خالد الغساني قال ثني مشيخة من أهل الشام أدركوا عمر قالوا: "لما استخلف عمر صعد المنبر فلما رأى الناس أسفل منه حمد الله ثم كان أول كلام تكلم به بعد الثناء على الله ورسوله:
بكف الإله مقاديرها
هون عليك فإن الأمور
ولا قاصر عنك مأمورها
فليس يؤاتيك منهيها
ولا يخفى أن هذا الأثر لا يعول عليه.
وقد بحثت عن قائل هذين البيتين فلم أكد أعثر عليه وقد ذكرهما ابن عبد ربه في العقد الفريد وأبو عبيد البكري في فصل المقال شرح كتاب الأمثال وابن رشيق في العمدة كل ذلك من غير نسبة إلى أحد [21] إلا أن ابن رشيق قال: "ويروى للأعور الشني.."فرجعت إلى ترجمته في الشعر والشعراء لابن قتيبة وفي المؤتلف والمختلف فلم يذكروهما فيما ذكرا من أشعاره.
ونسبوا إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال:
وإن عضها حتى يضربها الفقر
غني النفس يغني النفس حتى يكفها
بكائنة إلا سيتبعها يسر
وما عسرة - فاصبر لها إن لقيتها -
ذكر ذلك ابن رشيق في العمدة وصاحب زهر الآداب ولا يُحتجُّ بقولهم ولم أرهم نسبوا إليه غير ذلك.(5/356)
أما رابع الخلفاء الراشدين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه فقد نسب إليه شعر كثير ولا يصح منه إلا شيء يسير، وفيما نسب إليه تفصيل ويحتاج إلى تحقيق ودليل فإن الشيعة جزاهم الله بما يستحقون افتروا عليه رضي الله عنه من النثر والشعر ما لا يحصى، وتفرغ لذلك منهم الشريف الرضي لا أرضاه الله.. فتجد في كتابه (نهج البلاغة) كلاماً منسوباً إلى علي رضي الله عنه وحاشا له أن يقوله بل هو أليق بواضعه لما فيه من تكلُّف وتبذًّل وإسفاف. ولعل هذا (الشريف الرضي) انتحل كثيراً من الشعر أيضا ونسبه إلى علي فإنه شاعر مُجيد وإني لأجد كثيراً مما يُنسب إلى أمير المؤمنين هو أشبه بشعره.. وأبعد عن نكهة الصحابة ونورهم..
ويتداول الجهال ديواناً له رضي الله عنه لا يستحق أن يُلتفت إليه ويتعب في تحقيقه.. بل التشمير لما في الكتب المعتمدة من مصادر التاريخ والأدب والأثر.. وإن كنت لم أستقص ما ورد من ذلك فيها وأستقرئه إلا أنني ذكرت زبدته وأهم ما فيه.. وسوف أشرع في بيانه في الفصل القادم إن شاء الله ثم أتبع ذلك بالشروع في صميم المقصود الذي هو ما روى من شعر المحدّثين.. مقدّماً له بتفصيل موجز عن خصائص هذا الشعر..
وإنما أفردت ما سبق من الفصول وتوسعت فيها.. لمعرفة موقف صاحب الحديث (صلى الله عليه وسلم) من الشعر..
للبحث صلة
--------------------------------------------------------------------------------
[1]- أحكام القرآن: 1427، وذكر الحافظ ابن كثير في تاريخه أن البيهقي أخرجه كذلك بسند عن زكريا بن يحيى، وزكريا هو ابن يحيى بن عمر بن حصن بن حميد بن منهب الطائي قال ابن حجر: "صدوق له أوهام"، وذكر الحديث أيضاً الذهبي في سير أعلام النبلاء وقال: قال الحاكم: "رواته أعراب ومثلهم لا يضعفون". قال الذهبي: "قلت ولكنهم لا يعرفون" (75:2) .(5/357)
[2]- الترمذي في كتاب الأدب.
[3]- الطبقات الكبرى 141:2 وهو خبر مرسل فإن أبا سلمة ويحيى تابعيان، وأبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف، ويحيى هو ابن عبد الرحمن بن حاطب بن بلتعة وهما ثقتان.
[4]- عيون الأثر 165:2
[5]- مجمع الزوائد 161:6
[6]- عيون الأثر 196:2
[7]- مجمع الزوائد 187:6
[8]- البخاري 53:5
[9]- الشعر والشعراء لابن قتيبة ط دار الثقافة ببيروت:199.
[10]- السيرة النبوية 37:1
[11]- رواه الطبراني وابن سعد قال الهيثمي رجال الطبراني ثقات إلا أن معدل بن عمارة لم يدرك ابن رواحة كذا من مجمع الزوائد 125:4
[12]-الاستيعاب 248:2
[13]- الاستيعاب في ترجمة عوف بن أثاثة المعروف بمسطح
[14]- الأغاني ط: التقدم بمصر 15:3
[15]- زهر الآداب 41:1
[16]- بلوغ الأرب 271:2
[17]- لعله أخذها عن أصل السيرة لابن إسحاق، إذ المعروف أن ابن هشام قد حذف منها غير قليل من الشعر (المجلة) .
[18]- أخرجه البخاري في الأدب المفرد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن الأسود والنسائي عن الحسن البصري عن الأسود وكلاهما لم يسمع من الأسود وسمع عبد الرحمن من عبد الله بن عمرو الأسود فهما طريقان مرسلان وأخرجه كذلك أحمد في مسنده والحاكم وابن حبان في صحيحه.
[19]- وقد أفرد الشيخ الأديب علي الطنطاوي بابين في كتابه (أخبار عمر) ذكر شيئاً كثير من ذلك فيهما (308-331) .
- 305:6
[20]
[21]- العقد الفريد 141:3، فصل المقال: 232، العمدة 33:1(5/358)
عقيدة أهل السنة والأثر في الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم
بقلم الشيخ عبد المحسن العباد
المدرس في كلية الشريعة بالجامعة
من رحمة الله بعباده وإحسانه إليهم وفضله عليهم أن بعث فيهم رسولاً من أنفسهم ليبلغهم رسالة ربهم ويرشدهم إلى كل ما ينفعهم ويحذرهم كل ما يضرهم وقد قام صلى الله عليه وسلم بما أرسل به على التمام والكمال فدل أمته على كل خير وحذرها من كل شر ونصح غاية النصح وقد اختار الله لصحبته وتلقي الشريعة عنه قوما هم أفضل هذه الأمة التي هي خير الأمم فشرَّفهم بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وخصَّهم في الحياة الدنيوية بالنظر إليه وسماع حديثه من فمه الشريف وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.(5/359)
وقد بلَّغوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بعثه الله به من النور والهدى على أكمل الوجوه وأتمها فكان لهم الأجر العظيم لصحبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد معه في سبيل الله وأعمالهم الجليلة في نشر الإسلام ولهم مثل أجور من بعدهم لأنهم الواسطة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن دعا إلى الهدى كان له من الأجر مثل أجر من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه وقد أثنى الله عليهم في كتابه العزيز وأثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته المطهرة وحسبهم ذلك فضلا وشرفا قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} . وقال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} وقال(5/360)
تعالى في بيان مصارف الفيء: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ والَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ والَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ..هذه ثلاث آيات من سورة الحشر الأولى منها في المهاجرين والثانية في الأنصار والثالثة في الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار مستغفرين لهم سائلين الله تعالى أن لا يجعل في قلوبهم غلا لهم وليس وراء هذه الأصناف الثلاثة إلا الخذلان والوقوع في حبائل الشيطان ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها لعروة بن الزبير بشأن بعض هؤلاء المخذولين: "أمروا أن يستغفروا لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فسبُّوهم"أخرجه مسلم في أواخر صحيحه وقال النووي في شرحه بعد ذكر آية الحشر: "وبهذا احتج مالك في أنه لا حق في الفيء لمن سب الصحابة رضي الله عنهم لأن الله إنما جعله لمن جاء من بعدهم يستغفر لهم"، وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "وما أحسن ما استنبط الإمام مالك من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا(5/361)
إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} . وقال صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عمران بن حصين وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما وأخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: "خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" والله أعلم ذكر الثالث أم لا. وأخرجه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس خير؟ قال: "القرن الذي أنا فيه ثم الثاني ثم الثالث" وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يأتي على الناس زمان فيغزوا فئام من الناس فيقال هل فيكم من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال هل فيكم من صاحب من صاحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون نعم فيفتح لهم"، وروى ابن بطة بإسناد صحيح - كما في منهاج السنة لابن تيمية - عن ابن عباس أنه قال: "لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة يعني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من عمل أحدكم أربعين سنة "وفي رواية وكيع: "خير من عمل أحدكم عمره". ولما ذكر سعيد بن زيد رضي الله عنه العشرة المبشرين بالجنة قال: "والله لمشهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر فيه وجهه خير من عمل أحدكم ولو عمِّر عُمْر نوح"أخرجه أبو داود والترمذي، وعن جابر رضي الله عنه قال: "قيل لعائشة أن أناسا يتناولون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أبا بكر وعمر فقالت: وما تعجبون من هذا انقطع عنهم العمل فأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر"أخرجه رزين كما في جامع الأصول لابن الأثير ويشهد لذلك قوله(5/362)
صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فَنِيَت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار". وروى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه" وأخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا أصحابي لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه" وأخرج من حديث أبي سعيد رضي الله عنه ولفظه: "كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أحدا من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه"، فإذا كان سيف الله خالد بن الوليد وغيره ممن أسلم بعد الحديبية لا يساوي العمل الكثير منهم القليل من عبد الرحمن بن عوف وغيره ممن تقدم إسلامه مع أن الكل تشرف بصحبته صلى الله عليه وسلم فكيف بمن لم يحصل له شرف الصحبة بالنسبة إلى أولئك الأخيار، إن البون لشاسع وإن الشقة لبعيدة فما أبعد الثرى عن الثريا بل وما أبعد الأرض السابعة عن السماء السابعة ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
هذه بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الدالة على فضل أولئك الأخيار الذين ما كانوا ولا يكونون رضي الله عنهم.(5/363)
وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم عدول بتعديل الله تعالى لهم وثنائه عليهم وثناء رسوله صلى الله عليه وسلم. قال النووي في التقريب الذي شرحه السيوطي في تدريب الراوي: "الصحابة كلهم عدول من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتد به"انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة: "اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة"انتهى. ولهذا لا تضر جهالة الصحابي فإذا قال التابعي: "عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم"لم يؤثر ذلك في المروي لأن الجهالة في الصحابة لا تضر لأنهم كلهم عدول قال الخطيب البغدادي في كتاب الكفاية: "كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبي صلى الله عليه وسلم لم يلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره في نص القرآن". ثم ساق بعض الآيات والأحاديث في فضلهم ثم قال: "على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين القطع على عدالتهم والاعتقاد لنزاهتهم وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون بعدهم أبد الآبدين"وروى بإسناده عن أبي زرعة قال: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله فاعلم أنه زنديق وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حق والقرآن حق وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدوا أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة". ومذهب أهل السنة والجماعة فيهم وسط بين طرفيها الإفراط والتفريط وسط بين المفرطين الغالين الذين يرفعون من يعظمون منهم إلى ما لا(5/364)
يليق إلا بالله أو برسله وبين المفرِّطين الجافين الذين ينقصونهم ويسبونهم فهم وسط بين الغلاة والجفاة يحبونهم جميعا وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها بالعدل والإنصاف فلا يرفعونهم إلى ما لا يستحقون ولا يقصرون بهم عما يليق بهم فألسنتهم رطبة بذكرهم بالجميل اللائق بهم وقلوبهم عامرة بحبهم وما صح فيما جرى بينهم من خلاف فهم فيه مجتهدون إما مصيبون فلهم أجر الاجتهاد والإصابة وإما مخطئون ولهم أجر الاجتهاد وخطؤهم مغفور، وليسوا معصومين بل هم بشر يصيبون ويخطئون ولكن ما أكثر صوابهم بالنسبة لصواب غيرهم وما أقل خطأهم إذا نسب إلى خطأ غيرهم ولهم من الله المغفرة والرضوان، وكتب أهل السنة مملوء ببيان هذه العقيدة الصافية النقية في حق هؤلاء الصفوة المختارة من البشر لصحبة خير البشر صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين ومن ذلك قول الطحاوي في عقيدة أهل السنة: "ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نفرط في حب أحد منهم ولا نتبرأ من أحد منهم ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم ولا نذكرهم إلا بخير وحبهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان"وقال ابن أبي زيد القيرواني المالكي في مقدمة رسالته المشهورة: "وأن خير القرون الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل الصحابة الخلفاء الراشدون المهديون أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين وأن لا يذكر أحد من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بأحسن ذكر والإمساك عما شجر بينهم وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب. وقال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب السنة: "ومن السنة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعين والكف عن الذي جرى بينهم فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو واحدا منهم فهو مبتدع رافضي، حبهم سنة والدعاء لهم قربة والاقتداء بهم وسيلة والأخذ بآثارهم فضيلة".وقال: "لا يجوز لأحد أن يذكر(5/365)
شيئا من مساويهم ولا يطعن على أحد منهم فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته ليس له أن يعفو عنه بل يعاقبه ثم يستتيبه فإن تاب قبل منه وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة وخلَّده في الحبس حتى يتوب ويرجع".وقال الإمام أبو عثمان الصابوني في كتاب عقيدة السلف وأصحاب الحديث: "ويرون الكفّ عمّا شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيبا أو نقصا فيهم ويرون الترحم على جميعهم والموالاة لكافَّتهم". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العقيدة الواسطية: "ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم ألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفهم الله في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} وطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه" ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم ويفضِّلون من أنفق من قبل الفتح وهو صلح الحديبية وقاتل على من أنفق من بعد وقاتل ويقدمون المهاجرين على الأنصار ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" وبأنه لا يدخل النار رجل بايع تحت الشجرة كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بل لقد رضي الله عنهم ورضوا عنه وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة ويشهدون بالجنَّة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم كالعشرة وثابت بن قيس بن شماس وغيرهم ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم يثلثون بعثمان ويربعون بعلي رضي الله عنهم(5/366)
كما دلت عليه الآثار وكما أجمع على تقديم عثمان في البيعة مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما - بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر - أيهما أفضل فقدَّم قوم عثمان وسكتوا وربعوا بعلي وقدَّم قوم عليّاً وقوم توقفوا لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي وإن كانت هذه المسألة - مسألة عثمان وعلي - ليست من الأصول التي يضلَّلُ المخالف فيها عند جمهور أهل السنة لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله". ثم ذكر محبتهم لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوليهم لهم وحفظهم فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وتولِّيهم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين وإيمانهم بأنهنَّ أزواجه في الآخرة ثم قال: "ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، ويمسكون عما جرى بين الصحابة ويقولون أن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كاذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغيّر عن وجهه الصحيح منه هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة ولهم من السوابق ومن الفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر حتى أنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون وإن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهبا ممن بعدهم ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه أو أتى بحسنات تمحوه أو غفر له بفضل سابقته أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق(5/367)
الناس بشفاعته أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفَّر به عنه فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطئوا فلهم أجر واحد والخطأ مغفور ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغفور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما منَّ الله عليهم به من الفضائل علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء لا كان ولا يكون مثلهم وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله".
هذه خمسة نماذج من أقوال السلف الصالح فيما يجب اعتقاده في حق خيار الخلق بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم وسلامه ورضي الله عن الصحابة أجمعين. ومما ينبغي التفطن له أن القدح في هؤلاء الصفوة المختارة رضي الله عنهم قدح في الدين لأنه لم يصل إلى من بعدهم إلا بواسطتهم وتقدم في كلام أبي زرعة قوله: "وإنما أدَّى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة"يعني الذين ينتقَّصون أحدا من الصحابة، وأن القدح فيهم لا يضرهم شيئا بل يفيدهم كما في حديث المفلس ولا يضر القادح إلا نفسه فمن وجد في قلبه محبة لهم وسلامة من الغل لهم وصان لسانه عن التعرض لهم إلا بخير فليحمد الله على هذه النعمة وليسأل الله الثبات على هذا الهدى ومن كان في قلبه غلٌّ لهم وأطلق لسانه بذكرهم بما لا يليق بهم فليتق الله في نفسه وليقلع عن هذه الجرائم وليتب إلى الله ما دام باب التوبة مفتوحا أمامه قبل أن يندم حيث لا ينفعه الندم. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.(5/368)
من الصحف والمجلات
إعداد العلاقات العامة
نشرت مجلة المجتمع الكويتية في عددها 91 ما يلي:
تدل الإحصاءات التي قام بها أطباء وزارة الصحة في جمهورية ألمانيا الاتحادية أن عشرين ألفاً من المدخنين يموتون سنوياً بسبب إصابتهم بالسرطان وهذا ما حدا بالوزارة إلى تنظيم حملات ضد التدخين في السينما والتلفزيون وبالاعتماد على كافة الوسائل الإعلامية الأخرى.
وقد بادرت بعض المصانع إلى منع العمَّال من التدخين خلال ساعات الدوام وتلتها في ذلك الدوائر الحكومية والمؤسسات الأهلية مما أدى أخيراً إلى تلاشي الرغبة في التدخين لدى 81 في المائة من العمَّال والموظفين وفي بلادنا لا تكاد تقرأ صحيفة إلا وتجدها قد أفردت صفحاتها لهذه السموم التي تفتك بعشرات الآلاف كل عام.
والأدهى من هذا أنك لا تمر في شارع إلا وتقع عينك على دعاية لها فهل نقتدي بألمانيا ونقوم بحملات توعية ضد التدخين في كل وسائل إعلامنا ونمنعه على الأقل خلال ساعات الدوام.(5/369)
من تاريخنا في الأندلس
إعداد العلاقات العامة
حدَّث الحافظ أبو محمد بن حزم عن تليد صاحب خزانة الحكم المستنصر العلمية: إن عدة الفهارس التي تسمية الكتب أربع وأربعون في كل فهرسة عشرون ورقة ليس فيها إلا ذكر الدواوين فقط.
قال بعض المؤرخين: "إنه كان حسن السيرة مُكْرِماً للقادمين عليه، جمع من الكتب ما لا يُحد ولا يوصف كثرة ونفاسة، حتى قيل إنها كانت أربعمائة ألف مجلد، وأنهم أقاموا ستة أشهر في نقلها، وكان عالما نبيها صافي السريرة، وسمع من قاسم بن أصبغ، وأحمد بن دحيم، ومحمد بن عبد السلام الخشتي، وزكريا بن الخطاب وأكثر عنه. وأجاز له ثابت بن قاسم، وكتب عن خلق كثير سوى هؤلاء. وكان يستجلب المصنفات من الأقاليم والنواحي باذلاً فيها ما أمكن من الأموال حتى ضاقت عنها خزائنه. وكان ذا غرام بها، قد آثر ذلك على لذات الملوك، فاستوسع علمه، ودق نظره، وجمَّت استفادته، وكان في المعرفة بالرجال والأخبار والأنساب أحوذيّاً نسيج وحده، وكان ثقة فيما ينقله.. وقلَّما يوجد كتاب في خزائنه إلا وله فيه قراءة أو نظر في أي فن كان ويكتب فيه نسب المؤلف ومولده ووفاته، ويأتي من بعد ذلك غرائب لا تكاد توجد إلا عنده لعنايته بهذا الشأن..
وتوفي بقصر قرطبة ثاني صفر سنة ست وستين وثلاثمائة. لست عشرة من خلافته، وكان أصابه الفالج فلزم الفراش إلى أن هلك. وكان قد شدَّد في إبطال الخمر في مملكته تشديدا عظيما رحمه الله.
نفح الطيب ج 1(5/370)
الإسلام دين التكافل الاجتماعي
للشيخ علي بن ناصر فقيهي
مدير شئون الطلبة بالجامعة
الإسلام دين الإخاء والمحبة والتعاون والتكافل، لذلك حرص أن يكون مجتمعه قوياً مادياً ومعنوياً مترابطاً يشدُّ بعضه بعضا. ومن أجل الحفاظ على هذا الإخاء وتلك المحبة شرع الأمور التي تحفظ لهذا المجتمع كرامته وإنسانيته بفرض ما يمكن به سدُّ حاجة المحتاج من دون أن يحدث ذلك حزازة أو يثير مشكلة أو يزرع أحقاداً. وإذا كنَّا نشاهد في الواقع الملموس ما قد يخالف عنوان هذا البحث فسيتبن من عرض الموضوع أن العيب كامن في التطبيق لا في ما شرعه الإسلام.
وذلك التطبيق يرجع إلى جهتين:
الأولى: مَن وجب عليه ذلك الحق المفروض هل أدَّاه كاملاً كما فرضه الله عليه.
الجهة الثانية: الآخذة هل لها الحق في أخذ ما تناولته على الوجه المشروع؟
أهم المشاكل العالمية مشكلة الفقر، وهو عكاز الشيوعية العالمية الذي تتكئ عليه لتضرب به المجتمعات الإسلامية للقضاء على الإسلام والمسلمين والمشكلة قديمة، والصراع الذي يدور في العالم اليوم هو لحل هذه المشكلة، والطريقة التي يمكن أن تسلك لمعالجتها:(5/371)
فالنُّظم الاشتراكية وأعني بالاشتراكية المرحلة الأولى من برنامج - ماركس - لأن الشيوعية الدولية حتى الآن لم تتجاوز هذه المرحلة تذهب إلى وجوب مصادرة أموال الأغنياء لحساب الدولة، لتقوم هي في زعمها بحل المشكلة والقضاء عليها، ولم يشاهد العالم من أثر المساواة التي يزعمون اللهم إلا في الفقر، وما هذا الذي يريده الفقراء ويبحثون عنه، وإنما يطالبون برفع مستواهم المعيشي لترتفع معنوياتهم وكرامتهم ويشعروا بوجودهم في المجتمع كلبنة منه لا أنهم يطالبون بزيادة فقراء ينضمون إلى صفوفهم، فألئك الذين ينادون بالاشتراكية، على أنها نظام اجتماعي يمكن أن يحقق للمجتمع عزته وكرامته.. هم إما أنهم مخدوعون أرادوا أن يبينوا للشباب المثقف أن الإسلام هو دين العدالة والمساواة ولكن أصبح عملهم هذا سُلّماً للضالين المضلين فاستغلوه لصالح مذهبهم الهدام.
أو أنهم لا يؤمنون بأن الاشتراكية تحقق لأحد هدفه في الحياة، ولكنهم مأجورون باعوا ضمائرهم بثمن بخس فأوقعوا المجتمع في أساليبهم الماكرة.
أو أنهم ملحدون كائدين أسسوا هذا النظام الإلحادي الهدام يقصدون من ورائه تحطيم الإسلام والمسلمين بل والإنسانية جمعاء ما عدا الشعب المختار.. إذ أن مؤسس المذهب –ماركس - يهودي يمشي على مخططات صهيونية المعدة لتدمير العالم.
وقد حدثني شخص من إحدى البلدان التي أعلنت الاشتراكية من عهد قريب وليس لديها من الموارد ما تؤممه اللهم إلا شركة الكهرباء، ويكفي كونها شركة بمعنى أنه يملكها عدد كبير من أفراد الشعب، وليست في ملك إقطاعي واحد حسب تعبيراتهم المألوفة، ولكن الطريقة المتبعة في برنامج الشيوعية أن طغمة من الذين يتربعون على كراسي الحكم يصادرون أملاك الشعب بل وحريته وإنسانيته لحسابهم:(5/372)
قال في صبيحة إعلان الاشتراكية في الحفل الذي أقيم لتلك المناسبة: "إن بعض السذج لا يعرفون من الاشتراكية إلا أخذ أموال الناس – وذلك لجهلهم بأحكام الإسلام - يقول بعضهم أنا أريد ذاك البيت وآخر سوف آخذ الحانوت الفلاني"
وكادت أن تحدث فوضى، فطلب من المسئول أن يرجع مرة أخرى ليفسر لهم معنى الاشتراكية بما يضمن الاستقرار وعدم الفوضى.
وأشد ما كانت خيبتهم عندما فسّر لهم الاشتراكية بأنها اشتراك عدد من الناس في إقامة مزرعة مثلاً وحاصلها يكونون فيه شركاء.
من هذا يتبين لنا أن الاشتراكية ليست نظرية اقتصادية، إذ لو كانت كذلك لتُركت من زمن بعيد، وذلك لفشلها المحقَّق في مجال الاقتصاد، وإنما هي مذهب عقائدي إلحادي يراد نشره في البلدان الإسلامية لتحطيمها وربطها بجهة معيَّنة، ولو لم يكن هناك ما يدعو للتأميم، وذلك لأن اعتمادها على فكرة الصراع الطبقي والقتال الدموي بين أفراد الشعب الواحد، وقد ساعد في نشر مبادئها جهل الشعوب الإسلامية بمبادئ دينهم ونظمه الاجتماعية والاقتصادية.
ولذلك فقد اتهم مُؤلّفُ داعية إسلامي كبير ألّف كتابه قبل إعلان الاشتراكية في ذلك البلد، وتكلم فيه على الاستعمار بأنواعه الشرقي والغربي، وقد هاجم ماركس ولينين اللذين أسسا مذهبهما على إنكار الخالق.
فماذا قال أولئك المسلمون عن الكتاب هذا؟ قالوا لا تجوز قراءته لأنه يسيء إلى أصدقائهم!.
أما النظم الرأسمالية وهي تجمع الأموال بشتى الوسائل المشروعة والمحرَّمة وأن الحلال هو ما حل باليد، فتذهب لمعالجة هذه المشكلة إلى طريقة الإحسان الفردي وهو ما يدفعه الغني عن اختياره مساعدة منه للفقراء، وقليل من الناس الذين يعملون ذلك لأن طبيعة النفس جبلت على حب المال والشُّح به.
ولم تكن الدولة لتستطيع التدخل في مثل هذا لأنه قائم على اختيار الشخص وهو محسن وما على المحسنين من سبيل، ولم يكن في هذه الفكرة حل للمشكلة.(5/373)
أما الإسلام فقد جاء بحل المشكلة حلاًّ عمليّاً يقوم على العدل والمحبة والإخاء. فقد فرض الإسلام على الغنيِّ حصة في ماله يؤديها لأخيه المحتاج طيبة بها نفسه لا منة ولا تفضلا، بل ركن من أركان إسلامه يؤديه كما يؤدي الصلاة والحج (تلك هي الزكاة) الركن الثالث من أركان الإسلام.
فما الزكاة، وهل من الممكن أن تسد حاجة الفقراء؟
الزكاة جزء معلوم يؤدِّيه صاحب المال ليطهِّر نفسه من شُّح البخل، ويزكي ماله وينميه بما يُخلف الله عليه من بركة في ماله وطيب في كسبه {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} .
وفي الحديث:"ما نقص مال من صدقة".
ويختلف مقدارها باختلاف المال فقد تكون عشر المال، أو نصف العشر كما في الحبوب والثمار تبعاًً للمؤنة.
وقد تكون ربعه كما في زكاة النقد؛ النقدين وعروض التجارة، كما أنها تكون بخلاف ذلك كما في زكوات المواشي. وكل هذا مفصَّل في مظانِّه.
وإنما الغرض إيراد بعض الأحاديث الواردة في هذا الباب الدالة على تأكيده وأحاديث الوعيد الشديد لمن تحايل في أداء زكاة ماله. بل والحكم بالكفر على من أنكر وجوبها كما حدث لأصحاب الردة وإجماع الصحابة على قتالهم.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" الحديث. متفق عليه.(5/374)
فرسول الله صلى الله عليه وسلم بيَّن في هذا الحديث العظيم الذي هو أصل من أصول الإسلام أن الله قد افترض على المسلم فرضاً واجباً في عين ماله لا يتم إسلامه إلا بأدائه لا منَّة منه ولا إحساناً، وأين هذا من فكرة الإحسان التي لو امتنع الشخص عن أدائها لا يخاف شيئاً.
وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الوعيد الشديد لأصحاب الأموال الذين لم يؤدوا زكاته. فقال: "إنه ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلاّ أُحْمِيَ عليه في نار جهنم فيجعل صفائح فيكوى بها جنباه وجبهته حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ثم يرى سبيله إمَّا إلى الجنَّة وإما إلى النار". ثم عدَّد أصناف الأموال والعذاب الذي يستحقه كل مال، كما في حديث أبي هريرة الذي رواه أحمد ومسلم ج4 ص125 نيل الأوطار ولعل ذلك الوعيد فيمن يبخل بأدائها لمستحقيها كما فرضها الله عليه.
أما من أنكر وجوبها فقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على رِدَّتِه ووجوب قتاله كما حدث لأصحاب الردة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وقبل أن نذكر من له الحق في أخذ ما فرض الله له من هذا المال يحسن أن نذكر ما شرعه الإسلام في ناحية التكافل الاجتماعي- المادي فقط - إذ هو مدار البحث وإلا فالتكافل الاجتماعي في الإسلام يشمل نواحٍ عدة.(5/375)
ينظر الإسلام إلى المجتمع كوحدة متماسكة يشد بعضها بعضاً قال تعالى: {تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} . وهذا التعبير القرآني يذكر لنا خاصيَّة بشرية هي عطف الإنسان على شقيقه، وإذا وجد في المجتمع من يخالف تلك العاطفة الأخوية فيظلم أخاه فهي حالة شاذة لا حكم لها، إذا كان الأخ لا يظلم أخاه بل يعطف عليه ويرحمه فكذلك من اتصف بصفة الإيمان عليك أن تعامله بتلك المعاملة التي هي العطف والرحمة، وقد تجلى ذلك في أسمى صورة عرفها التاريخ بين المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم.
فالتشريع الإسلامي يَعُدُ التكافل الاجتماعي واجب من أهم الواجبات التي يتحتم على المسلم القيام بها، ولذا فهو يعتبر الإنفاق أصلاً من أصول البر قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ..} الآية.
فالإسلام يقدِّر حريَّة الفرد تقديراً لإنسانيته إلا أنه لا يجعل هذه الحرية مطلقة من كل القيود بحيث تؤدي إلى تعارض المصالح وضياع الحقوق، بل يقيَّدها بما يكفل سعادة المجتمع الذي هو جزء منه، فمثلاً نظام النفقات في الشريعة الإسلامية جعل كل فرد من أفراد المجتمع راعياً مسئولا عن رعيته، ابتداءاً بأعلى طبقة في المجتمع وهو الحاكم العام إلى أدنى طبقة كلٌ على حسب ما نيط به من مصالح للبلاد والعباد، فالمسئولية في هذا الحديث عامة.(5/376)
فالمجتمع يتكوَّن من الأفراد إذ إن الفرد هو الخليَّة الأولى لهذا المجتمع، ومن الأفراد تتكوَّن الأسرة وكل فرد مسئول عن أسرته، فالزوج مكلَّف شرعاً بنفقة زوجته وأولاده القُصَّر والعاجزين عن العمل. كما أن الولد بدوره يتحتم عليه الإنفاق على والديه وأقربائه، وقد قال الأئمة بوجوب النفقة للأصول والفروع مهما علوا أو نزلوا والوارثين والأقرباء لأن سبب النفقة هو القرابة التي توجب للموسر حقاً في الإرث من قريبه المعسر إذا ما ترك مالاً.
فأين هذا التشريع السماوي الذي هو من عند الحكيم الخبير مما هو معروف الآن في الدول المتقدمة - كما تزعم - ويزعم لها أولئك المخدوعون أو المأجورون من طرد الرجل ابنته اليافعة إذا بلغت الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة لأنه السن القانوني الذي يعفى الأب من الإنفاق على أولاده!.
كما أن الابن غير مكلَّف بالإنفاق على والده وقد يستعمله أجيراً ليدفع له أجراً يعيش به!..
وإذا كان الإسلام بمبادئه العادلة والشريفة قد أوجب التكافل بين الأسر فلم يبقى في المجتمع إلا أُسَر قليلة ممن ليس لها عائل يقوم بما أوجبه الله عليه نحوهم، كالأرامل والأيتام والعجزة عن الكسب، إما لكبر سن أو عاهات أقعدتهم عن العمل.
لأن الأحاديث الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في باب الصدقة نصَّت على أن الصدقة لا تحل لغني ولا لقوي مكتسب.
ولو أن المسلمون أدَّوا هذا الفرض كما أوجبه الله عليهم بحيث يدفع كل غني زكاة ماله كاملة دون أن يعتبرها مغرماً كالحال عند أكثر الناس في هذا الزمان. وكذلك الآخذون لها لو أنهم راقبوا الله فلم يمد أحد يده للأخذ من هذه الصدقات إلا من أوجب الله له ذلك بأن كان فقيراً عاجزاً عن الكسب، أقول لو طُبِّق ذلك لما وجد في المجتمع محتاج لأن الثروات في هذا العصر ليست أقل منها في زمن عمر ابن الخطاب.(5/377)
فقد روى أبو عبيد من حديث عمرو بن شعيب أن معاذ بن جبل لم يزل بالجند، إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر. ثم قدم على عمر فردَّه على ما كان عليه. فبعث إليه معاذ بثلث صدقة الناس فأنكر ذلك عمر، وقال: "لم أبعثك جابياً ولا آخذَ جزيةٍ ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فتردها على فقرائهم". فقال معاذ: "ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد أحداً يأخذه مني". فلما كان العام الثاني بعث إليه بشطر الصدقة، فتراجعا بمثل ذلك. فلما كان العام الثالث بعث إليه بها كلها، فراجعه عمر بمثل ما راجعه قبل ذلك. فقال معاذ: "ما وجدت أحداً يأخذ مني شيئا" [1] .
فهذا المقدار المعلوم في أموال الأغنياء للفقراء فرضه الحكيم الخبير العالم بمصالح عباده، فلو أنه غير كاف لفرض أكثر منه، وهذا الحديث وغيره من الأحاديث والوقائع إنما تدل على حكمة هذه الشريعة الخالدة الصالحة لكل زمان ومكان، والحمد لله رب العالمين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الأموال ص596.(5/378)
نحن والقمر
للطالب محمد محمود جاد الله بالسنة الأولى
من كلية الشريعة في الجامعة
رغم المسافة والخطر
قالوا وصلنا يا قمر
لا شيء يغري بالنظر
وتكشف المجهول عن
وقول حِبِّي كالقمر
وتبدَّد الحلم الجميل
متبرجات كالدُرر
وكذا النجوم تحوطه
الإنسان أجراماً أُخر
وبرغم هذا يطلب
* * * *
إلى سديم أو مجرّه
ماذا إذا وصل الأنام
مهوّمًا في الكون عمره
أو لو قضى هذا الضعيف
فكرةً في إثر فكره
حتى ولو فعل العجائب
إذا تأمل غير قطره
هل عِلْمه هذا الكثير
فكّ الإله اليوم أسره
لا يَبطَرِ الإنسان إن
* * * *
من خيالٍ حالمِ
يا أيها الإنسان حسبك
يفوق وهم الواهمِ
وانظر بعينيك الشقاء
من قاعد أو قائمِ
هذي البسيطة حسبنا
من معشرٍ وبهائم
تَسَعُ الجميع خلائقاً
سبحانه من دائم
فالله أسكننا هنا
* * * *
في نعيمك واعتدى
يا رب إنْ بطر ابن آدم
في الغزو تجتاح المدى
وتطاولت أحلامه
تدمير من يهوى الردى
ومضى يدمّر نفسه
ألف بابٍ أوصدا
فإذا جلا للعلم باباً
أن جهوده ضاعت سدى
عَلّمْهُ بعد (العلم)
* * * *
من غير دعمٍ أو عمد
هذي السماء أقامها
وحده ما قد قصد
جبار هذا الكون يعلم
غير بحر من زبد
ما إن أرى هذي المعارف
أنها ذهبت بدد
تعلو زماناً ثم نلفي
سبحانه الفرد الصمد(5/379)
فالله أوجدنا هنا
* * * *
شاقتك أسرار المغيّب
يا أيها الإنسان إن
من المشقة كل مركب
وركبت في هذي السبيل
إلى القلوب هو المحبب
ورأيت أن الجهد فيه
أيام هذا الدهر قُلّب
فاعلم يقينا أنما
وفي النهاية سوف تُغلَب
ستعود من حيث ابتدأت
* * * *
أنت في هذا الوجود
يا أيها الإنسان سرٌّ
وللتراب غداً تعود
ترجو الفكاك من التراب
وتوَّد تحطيم القيود
منه خلقت مكبّلاً
لشعبنا عبر الحدود
إن القيود الظالمات
وحقه أبدا شرود
يرجو الفكاك من العذاب
* * * *
في خفايا نفسهِ!
هل فكّر الإنسان يوماً
من غوامض حِسّه ِ!
أو هل درى ما قد توارى
من علائم يأسهِ
أم هذه إحدى البوادر
على تقادم أمسه
لم يستطع كشف النقاب
كهاربٍ من رمسهِ
فمضى يُصَعِّدُ في السماء
* * * *
أنت بعد اليوم بائد
يا بائدا ً منذ الخليقةِ
وعن قريب فيه عائد
منه جبلت من التراب
لدى الزمان سوى طرائد
ما الناس في هذي الحياة
على فناء القوم شاهد
والبدر كان وما يزال
يختال في أشراك صائد
ما أنت إلاّ طائر
* * * *
بطوله منذ الخليقه
هو شاهد عاش الزمان
ناظرا ً فيه حريقه
هو شاهد الأقصى كذلك
خديه نجماتٍ عريقه
ودموعه سالت على
ضلّ عن كثب ٍ طريقه
لا زال يرقبنا وكلٌ(5/380)
((تلك الحقيقة والمريض القلب تجرحه الحقيقه))(5/381)
يستفتونك
يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
س – من الأخ م. و. ما قولكم في امرأة زوِّجت قبل بلوغها وبعد بلوغها رفضت قبول هذا الزواج هل يجوز لها أن تتزوج بدون طلاق الزوج أم لابد من الطلاق وما هو الدليل في هذه المسألة إن كان معلوماً؟
الجواب: إذا كانت المرأة المذكورة قد زوِّجت بإذنها فعليها السمع والطاعة للزوج وتنفذ مقتضى النكاح وليس لها أن تتزوج سوى زوجها الذي تم له العقد عليها قبل بلوغها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تُنكح الأيم حتى تستأمر ولا تُنكح البكر حتى تستأذن" قالوا يا رسول الله: "كيف إذنها؟ "قال: "أن تسكت"متفق على صحته وهو يعم البالغة ومن دونها وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأيم أحق بنفسها من وليِّها والبكر تستأمر وإذنها السكوت" وخرجه أبو داود والنسائي بإسناد جيد بلفظ: "ليس للولي مع الثيِّب أمر واليتيمة تستأمر وصمتها إقرارها" وهذا صريح في صحة نكاح غير البالغة إذا أذنت ولو بالسكوت لأنها لا تسمى يتيمة إلا إذا كانت لم تبلغ.(5/382)
أما إذا كانت لم تستأذن والمزوِّج لها غير أبيها فالنكاح فاسد في أصح قولي العلماء لكن ليس لها أن تتزوج إلا بعد تطليقه لها أو فسخ نكاحها منه بواسطة الحاكم الشرعي خروجاً من خلاف من قال أن النكاح صحيح ولها الخيار بعد البلوغ وحسماً لتعلقه بها وليس لها أيضاً نكاح غيره حتى تستبرأ بحيضة إن كان قد وطئها، أما إذا كان المزوِّج لها بدون إذنها هو أباها فهذه المسألة فيها خلاف أيضاً بين العلماء فكثير منهم يصحِّح هذا النِّكاح إذا كانت البنت بكراً لمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: "واليتيمة تستأمر" قالوا فهذا يدل على أن غير اليتيمة لا تستأمر بل يستقل أبوها بتزويجها بدون إذنها وذهب جمع من أهل العلم إلى أن الأب ليس له إجبار ابنته البكر ولا تزويجها بدون إذنها إذا كانت قد بلغت تسع سنين. كما أنه ليس له إجبار الثيب وتزويجها بغير إذنها للحديث السابق وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن" وهو يعمُّ اليتيمة وغيرها وهو أصح من الحديث الذي احتجُّوا به على عدم استئذان غير اليتيمة وهو منطوق وحديث اليتيمة مفهوم والمنطوق مقدَّم على المفهوم ولأنه عليه الصلاة والسلام صرَّح في رواية ثابتة عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: "والبكر يستأذنها أبوها" وهذا اللفظ لا يبقي شبهة في الموضوع ولأن ذلك هو الموافق لسائر ما ورد في الباب من الأحاديث وهو الموافق للقواعد الشرعية في الاحتياط للفروج وعدم التساهل بشأنها وهذا القول هو الصواب لوضوح أدلته وعلى هذا القول يجب على الزوج الذي عقد له والد البكر عليها بدون إذنها أن يطلقها طلقة واحدة خروجاً من خلاف العلماء وحسماً لتعلقه بها بسبب الخلاف المذكور وهذه الطلقة تكون بائنة ليس فيها رجعة لأن المقصود منها قطع تعلُّق المعقود له بها والتفريق بينه وبينها ولا يتمُّ ذلك إلاّ باعتبارها طلقة مبِينة لها بَيْنُونَة صغرى الطلاق على عوض ويجب أن يكون ذلك بواسطة(5/383)
قاضي شرعي يحكم بينهما ويريح كل واحد منهما من صاحبه على مقتضى الأدلة الشرعية لأن حكم القاضي يرفع الخلاف في المسائل الخلافية ويحسم النزاع أما إذا كانت البنت دون التسع فقد حكى ابن المنذر إجماع العلماء على أن لأبيها تزويجها بالكفء بغير إذنها لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها بدون إذنها وعلمها وكانت دون التسع ونسأل الله أن يوفقنا وإياكم وسائر المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه إنه خير مسئول، والسلام عليكم..(5/384)
الإعجاز النفسي في القرآن
بقلم الشيخ إبراهيم الحنفي الناغي
من علماء الأزهر
لقد صور القرآن ألوانا من الخوالج النفسانية والعواطف البشرية كالحقد والغيرة والحسد والوسوسة. ولقد تميزت النماذج البشرية التي وصفها القرآن بأنها حية متحركة دقيقة الملامح والقسمات صادقة الدلالة قوية الإيحاء. مرتبطة أشد الارتباط بالمجتمع الإسلامي.
وأن نرى في هذه النماذج القرآنية صورا لأشخاص أو جماعات تعيش معنا على أرض الواقع كما أن هذه النماذج ترينا الإنسان نفسية مجردة واضحة عند تعرضه لتحليل المشكلات والأزمات والمعوقات التي تعترض مسيرة الإنسان. وهو يقطع شوطه الخالد على درب الحياة وهي نفسية لا تختلف كثيرا من عصر إلى عصر لأن جوهرها واحد.
إننا لو دققنا النظر فيما يتعلق بالجانب النفسي في القرآن نجد أن الإسلام قد أقر جميع العواطف الإنسانية من حب وكره ورجاء وخوف ورحمة وقسوة إلى آخرها ثم وجهها بدقة دقيقة وإحكام محكم في الوضع الصحيح لها.
فإذا ضربنا مثلا لعاطفة الإحساس بالحسن والجمال - نجد في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جميل يحب الجمال" [1] معنى جامعا وإذا نصح الإسلام الإنسان بأن يكون ذا إدراك للجمال في نفسه فمعنى ذلك أنه لا يقصد العناية بجمال الخلق وحده ويحثه على أن يحتفظ بنظافة ثوبه وبدنه وفمه عند الاجتماع واللقاء {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [2] . {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [3] .(5/385)
لا يعني الإسلام بذلك جمال الخلق وحده فحسب. وإنما يعني قبل ذلك جمال التخلق. وجمال النفس وجمال التخلق في أن يتعود الإنسان عادات لا تؤديه هو. وبالتالي لا يصل إيذاؤها إلى غيره. فإذا نهى عن المنكر. ونهى عن الفحشاء. ونهى عن شرب الخمر ولعب الميسر ونهى عن أكل الميتة والدم فإذا نهى عن ذلك كله وأمثاله. فإنما نهى عنه ليصبح الإنسان مع نفسه في وحدة وفي ترابط قلما يستشعر الندم أو يستشعر السخط على نفسه أو قلما يعود على نفسه وهو حزين لأنه فعل كذا دون كذا. أو لأنه أساء وأوصل الإيذاء إلى الغير دون أن يحس. ودون أن يصل مع هذا الغير ما يريح النفس ويطمئن البال.
القرآن الكريم قد راعى قواعد نفسية عن مظاهر الاعتقاد ومسارب الانفعال ونواحي التأثير وأثار من هذا ما أيَّد به حجته وأظهر دعوته، وهو في ذلك يساير من شئون النفس الإنسانية ويتغلغل في شعابها وجوانبها مما لم يهتد إليه العلم إلا حديثا.
انظر للإسلام ودقق البصر كرات وكرات عندما ينصح الإنسان في معاملته للغير وفي معاشرته للأسرة أن يرعى حدود الروابط الإنسانية. وأن يتبادل مع هذا الغير الشعور الإنساني الكريم، وأن يكظم الغيظ إذا ما بدرت من هذا الغير بادرة تثير نفسه وأن يعفو عن الغير. إذا ما أخطأ في حقه على نحو ما يقول القرآن الكريم: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [4] .(5/386)
وإنما يعني الإسلام بذلك أن يكون هناك تجاوب إنساني نبيل تستريح إليه النفوس وترضى عنه ومن أجل ذلك تهش في الداخل قبل أن تتبسط أسارير الوجه في الخارج عند اللقاء أو عند الحديث أو عند المشاركة في عمل ما. فليس تجاوب النفوس أو رضاها وسرورها عند اللقاء أو عند الحديث أو عند المشاركة في عمل ما إلا ظاهرة تعبر عن الإدراك النفسي الخفي لجمال الألفة وعاطفة الإنسانية والأخوة. وهذا المثل لعاطفة الإحساس بالحسن والجمال إنما هو ذرة من المحيط القرآني في مجال التفسير النفسي. وإذا قيل الجمال فهو جمال السلوك وجمال القول. وجمال الصنع وجمال الإنسانية في الإنسان الآخر وجمال العلاقات مع الغير. وجمال الطبيعة والاحتفاظ به.
وإذا ضربنا مثلا لعاطفة الحب. نجد أن الإسلام أقرها ولكن جعلها لله أولا ثم لرسوله ثم للصالحين من بعده على نحو ما جاء في القرآن الكريم: {يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [5] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [6] .
وكذلك أقر الإسلام الحب للصالحين من الناس لأن محبوب المحبوب محبوب.
لقد كان مشهدا عظيما ذلك الحب حب أمير الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة.
لقد أهدى حكيم بن حزام إلى خديجة زيد بن حارثة بعد أن وقع في الأسر وأهدته خديجة إلى السيد الجليل محمد زوجها وأمير الأنبياء جميعها.
وعلم أبو زيد وعمه أنه مملوك لمحمد وأنه جالس في الحرم المكي وجيء بزيد بين السيد الجليل محمد وبين أبيه فقال الرسول: "ما هذان"قال: "هذا أبي وهذا عمي" فقال صلوات الله عليه موجها حديثه إلى زيد: "أتختارني أم تختارهم؟ "فقال: "أنت مولاي وحبيبي ولا أختار أحدا أبدا".(5/387)
وتفتحت عينا أسامة بن زيد بن حارثة. طفلا على أكرم مثل للقدوة الحسنة ممثلة في الرسول العظيم. وتفتحت عيناه على أكرم مثل للود المتبادل من أمير الأنبياء محمد وأبيه زيد بن حارثة، وأصبح الشاب يافعا توجه إلى فلسطين بعد انتقال الرسول العظيم إلى الرفيق الأعلى وفي خلافة أبي بكر. وكانت سنه ثمانية عشر عاما.
وعندما تولى عمر الخلافة كان يعطي ابنه من مغانم الحرب ثلاثة آلاف درهم ويعطي أسامة خمسة آلاف درهم. ويقول لابنه عندما استكثر هذا على أسامة: "إن أسامة كان أحب إلى رسول الله منك وأبوه أحب إلى رسول الله من أبيك"وهكذا تكون درجات السمو في حب الأنبياء والصالحين. صورها لنا الإسلام في دقة دقيقة.
وإذا أخذنا عاطفة الرحمة والشدة وجدنا أنه شرع الرحمة أسلوبا لمعاملة المؤمنين بعضهم بعضا والقسوة أسلوبا لمعاملة المؤمنين للكفار والمنافقين، فيقول تعالى في وصفه للمؤمنين: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [7] .
يقول علماء النفس إن عقدة النقص أو مركب النقص كما يسمونه أحيانا هو الشعور بالنقص في ناحية من النواحي التي يحاول الشخص بطريقة لا شعورية أن يعوضها.
فمن منا لا يحاول من حيث لا يشعر أن يصرف الناس عن النواحي التي يشعر أنه أقل من غيره فيها ذلك أن كل شخص يشعر بتفوقه في ناحية من النواحي يحاول بطريقة لا شعورية أن يقنع العالم أن هذا هو الشيء الوحيد الذي يهم.
فإذا لم يكن أخذ نصيبه من التربية ولكنه عصامي الثروة. لم تكن للتربية فائدة في نظره وقال: "إن التعليم لم ينجح إلا في إفساد الناس".
وإذا كان العكس، وكان الرجل قد أخذ بنصيبه من التربية ولكنه لم ينجح في الحياة فإنه لا يترك فرصة تسنح دون أن يقلل من قيمة النجاح في الأعمال. والمصاب بهذه العقدة إذا كان ذا روح عدائية فقد يحاول قهر الشعور بالنقص بالظهور بالسيطرة والغطرسة والمكابرة.(5/388)
فالتظاهر بالكمال والتطور ليس إلا انعكاسا للشعور بالنقص.
وعلى ضوء هذا الجانب النفسي نفهم سرَّ قوله تعالى في وصفه المنافقين: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} فالمنافق يعيب ويستهزىء بالمؤمن ليخفي ما في نفسه من مركب النقص ويقهر الشعور بالضعف والقصور.
لذلك نرى الإسلام عانى في المدينة من مكايد النفاق وأهله أكثر مما شقي بالشرك وحزبه لأن أمر الشرك واضح أما النفاق فمن خصائصه التلوُّن بأشكال مختلفة من الدهاء والمكر والخديعة. لقد كانوا يتظاهرون بالإيمان والغيرة على الإسلام ويصلون خلف الرسول وحقيقة الأمر أنهم لا يؤمنون بمحمد ولا بتعاليمه.
وعندما نقرأ في التفاسير المختلفة نراها تُجْمِع على أن ظاهرة النفاق كانت بالمدينة وبعد الهجرة وأن المنافقين كان لهم تخطيط مدروس وتنظيم دقيق وتحالف ومعاهدات مع غيرهم من الفئات المنحرفة كاليهود وأحزابهم وكانت لهم قيادات "مركزية"للتخطيط والتنفيذ.
روى ابن كثير قال: "يقول السدي: معنى شياطينهم سادتهم وكبراؤهم ورؤساؤهم من أحبار اليهود ورؤوس المشركين وأصحاب الرأي فيهم". إنها فئات حاقدة تعمل عمل الشيطان في الإغواء. إنها قوى مضادة للإسلام تجمعها الأهداف والمصالح المشتركة. إن هذه القاعدة العريضة تخطط للتظليل تخطيطا محكما تعتمد على التكتم والحذر والسرية بدليل قوله: {خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِم} والاختلاء هو الاجتماع السري وإذا كان مع الشياطين فهو اختلاء مشبوه محموم مجرم خطير يجب الحذر منه وتعريَّته وكشفه أمام الجماهير الإسلامية.(5/389)
ثم تصفهم الآية بلون من "خداع الرأي"في أنفسهم فهؤلاء تخدعهم آراؤهم في أنفسهم وتصور لهم الباطل حقا وهذا ما يسميه علم النفس الحديث بالاستهواء وهو تأثير امرئ في معتقدات آخر وسلوكه "أو في معتقداته وسلوكه هو"وهذا ما يسمى بالإيحاء الذاتي وأساس الاستهواء هو أن الأصل في كل فكرة تخطر بالبال لا تبقى مجرد صورة قائمة في الذهن بل تتحول إلى اعتقاد أو عمل بطريقة لا شعورية لا تعرف عنها شيئا يذكر ورأي الإنسان في نفسه إذا كان خاطئا قاده إلى أسوأ مصير؛ أي أن هؤلاء مخدوعون في رأيهم مغرورون في ذكائهم يظنون بأنفسهم الذكاء وهم أغبياء، يتوهمون - وبإيحاء من قرارة نفوسهم - أنهم قادرون على خداع الرأي العام وتظليله، بينما جماعة المؤمنين تعرفهم وتكشف سوء طويتهم وتفهم كل تحركاتهم {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ} [8] .
ثم تستطرد الآيات فتصف النفسية وتأصِّل العلة فيها {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} والتعبير بكلمة مرض يوحي بتأصُّل العلة واستحكامها وأنها غدت آفات ثابتة يعز علاجها على الطب ويصعب تغييرها في المجتمع وكما توحي بتأصيل الخداع توحي كذلك بالنفور والفرار من أصحابها لأن علَّة القلب إذا كانت حسيَّة كانت منفرة فكيف إذا كانت معنوية!. كما باحتمال العدوى فإن من خالط المريض انتقلت إليه العدوى. وتوحي بالضعف لأن المريض لا يحتمل مقاومة وبخاصة إذا كان المرض قلبيا وكذلك هؤلاء ضعفاء مهازيل.
ولذا يستترون في كل الظروف ومرض القلب باطني وكذلك آفات هؤلاء مخبوءة ومرض القلب يحس صاحبه بالآلام المبرحة.. وهؤلاء كذلك يستشعرون الألم الممض إذا جلسوا إلى أنفسهم. وليس هناك أنكى من وخز الضمير فالشرير مهما سار في شره يظل دائما معذَّبا بنزعة الخير في داخله [9] .(5/390)
ولو حاولنا التذوق في تحليلنا للصور القرآنية لأعطانا التصور الدقيق كثيرا من إيحاءات اللفظ ومقدرته على العطاء. لذلك كانت حكمة الله لنا في الإسلام أن جاء مناسبا لكل زمان ومكان فجاء القرآن الكريم أحكاما عامة تتفق ومقتضيات الظروف والأحوال، مؤكدا كياسة المؤمن وفطنته وحسن تقديره لما يحيط به من ظروف وأحوال، إن ألفاظ القرآن الكريم لها القدرة على إيجاد تيار دائم ومتجدد يسترشد به المؤمن في واقع حياته، ويضرب القرآن مثلا للمنافقين في أسلوب أخَّاذ تحس فيه بالنبضات الحيَّة واللمسات الاجتماعية الرائعة التي تفيد المجتمعات البشرية في مسيرة الحياة فكان ولازال وسيظل مصدر التشريع الأول منبعاً فياضاً يمد العالم كله بالتوجيه والإرشاد والتعليم. يضرب الله مثلا للمنافقين بقوله سبحانه: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [10] .
الصيِّب: الغيث الهاطل. والظلمات والرعد والبرق: من الظواهر الطبيعية الجويَّة التي آثرها القرآن للتوضيح والكشف وهي بسيطة مألوفة ولكنها أشدُّ أُلْفَةً في البادية حيث تأخذ الظواهر الطبيعية مداها من برق وأعاصير.(5/391)
في هذا المثل يعرض لنا القرآن مشهدا حيّاً يرمز به إلى الحالة النفسية. هذا المشهد الكلي بما يرسمه من ألوان وما يشيع فيه من حركات وما يصحبه من أهوال وظلمات ليتفق تماما مع حياة المنافقين ويصور واقعهم النفسي وتقلُّبهم بين الكفر والإيمان والهدى والظلال، وارتباطهم العضوي بشياطينهم وخداعهم لجماعة المؤمنين ويصور التناقض بين ما تقول ألسنتهم وما تضمر قلوبهم والاضطراب في حركاتهم متمثلا في التجائهم إلى النور ثم رجوعهم إلى الكفر ويا ليتهم يثبتون في منطقة ضوء الإيمان إذن لسعدوا بحلاوة اليقين، ولكن هذا التقلب المؤسف بين ظلمات الكفر وأنوار الإيمان هو الذي قادهم إلى مصيرهم الفاجع الأليم.
إنه تصوير كلي رائع ينطوي - بلغة العصر الحديث - على الحياة والحس والحركة واللون وينسجم تماما مع أجواء النفاق ومظاهره المتقلبة المضطربة ويصف عالمهم الباطني والنفسي الذي يبلغ من الحيرة والتردد والروع والفزع حدا يجعلهم يضعون الأصابع في الآذان.
دقق البصر في قوله سبحانه: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} أليس هذا الوصف تعبيرا عن الأطماع التي تحركهم فهم يمشون كلما برقت لهم آمال مصالحهم، ويسيرون كلما لاحت أمامهم فرصة، فإذا انقطع المطمع وأظلمت الآفاق في وجوههم جلسوا متربصين.
أي أن هذه الفئات نفعية تقودها مصالحها وشهواتها فإذا لاحت في الأفق فرصة انتهزوها وهكذا يعيشون في جو مطامعهم المتقلبة ومن هنا وجب الحذر منهم وقطع السبيل عليهم كلما حاولوا أن يجتذبوا منافع المجتمع إلى أنفسهم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] هذا جزء من حديث طويل رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود (راجع صحيح مسلم مع شرح النواوي طبع مصر جزء2 ص 88-89) .
[2] سورة الأعراف آية (32)
[3] سورة الأعراف آية (31)
[4] سورة آل عمران آية (34)(5/392)
[5] سورة المائدة آية (54)
[6] سورة البقرة آية (165)
[7] سورة الفتح آية (29)
[8] سورة البقرة (9)
[9] ولكن اعتياد المرء الخطيئة يطفئ شعلة الخير في قلبه حتى تحيط به خطيئته فلا يحس بها وإلى هذا يشير القرآن الكريم {بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} . (المجلة)
[10] سورة البقرة آية (19)(5/393)
التشريع الإسلامي تشريع للعزة والكرامة
بقلم الشيخ محمد الخضراوي
المدرس في كلية الدين الدعوة وأصول بالجامعة الإسلامية
قضت الفطرة ألا ينهض الفرد وحده بشئون نفسه ومتطلبات حياته، فهو مدني بطبعه محتاج إلى معاونة بني جنسه، في إدراك مآربه، وتكميل أسباب حياته مما تقصر عنه يده، ولا تتسع له مداركه، ولا تحتمله قواه، وبهذا كانت الحياة الإنسانية حياة جماعة، يسد كل فرد منها ثغرة في بناء المجتمع الذي يعيش ويحيا فيه لتنتظم من مجهودات الجميع عيشة هنيئة راضية.
وقد جبلت النفوس على الأثرة وأشربت حب الذات، فكل امرئ ينبغي أن يستوفي كل حوائجه، ويحرز أكبر نصيب من طيبات الحياة ولذاتها ولو على حساب الآخرين.
والناس متباينون ميولا، ومختلفون في النزاعات بحكم عوامل البيئة والوراثة فلو ترك الناس وشأنهم في مناحي الحياة يستبد كل برأيه ويتبع شهواته، لتعارضت الميول، وتشعبت بهم سبل الحياة، وعميت عليهم وجهة الحق والخير، وساروا في جنبات مظلمة، لايلوي فرد على فرد، ولا تعطف جماعة على جماعة، فتكون الحياة والحالة هذه حياة بهيمية مضطربة ناقصة لا هناء فيها ولا استقرار، حياة شيطانية متمردة، يموت فيها الحق ويحيا الباطل، وتنعدم المساواة فيما تجب فيه المساواة، فلا عدل إلا ما كان وسيلة إلى نفع ذاتي، ولا خير إلا فيما وافق الهوى، وفي هذا انتقاض على الفطرة، التي ربطت الناس في مضمار الحياة، وقطع لوشائج الإنسانية التي أحكم الله صنعها مذ خلق الله الناس من ذكر وأنثى، وجعلهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا (49:13) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .(5/394)
وقد طبع الله الجماعة البشرية منذ القدم على الشعور بحاجتها إلى ما يلم شعثها، ويرفه عليها حياتها. وقد جرت سنة الله في خلقه منذ عمرت بهم الأرض أن يشرع لهم الشرائع عند مسيس الحاجة إليها، ويبعث فيهم رسلا من أنفسهم يقيمون معالم الحق والخير (4:165) {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}
وقد غشيت العالم قبل الإسلام سحابة كثيفة من الشرك، وانحدر الناس إلى الأعماق، وحل المنكر محل المعروف، وقبض أهل الرذيلة على ناصية الأمم حتى نفر الناس من مقامهم على هذه الفوضى، وأحسوا بالحاجة إلى رسول ينقذهم من ظلمات الجهل، وينتشلهم من مهاوي الرذيلة، ويسمو بهم إلى مراقي العز والكرامة والفضيلة، فكانت بعثة محمد صلى الله عليه وسلم هاديا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، اختاره لتبليغ الرسالة بعد أن بلغت الإنسانية من التطور ونضوج الفكر حدا لائقا، واستعدت النفوس لكامل الهداية، فبعثه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا.
وقد كان من تمام نعمة الله على عباده، ومن مظاهر حكمته في خلقه بعد أن تخطى العقل البشري دور الطفولة، وتهيأ الفكر للتدرج في مراقي الحياة، أن تكون الشريعة الإسلامية التي يختم بها شرائعه شريعة محكمة الأساس، وطيدة البنيان، كاملة النظام، سامية الأغراض، وافية بحاجات الأفراد والجماعات، عادلة من غير إفراط، وسهلة بلا تفريط أبدية، صالحة لكل زمان ومكان، محببة إلى النفوس، كاشفة عن نواحي الخير، فلا غرور إن كانت شريعة العزة والكرامة.(5/395)
ويكفينا في تعرف أسرار تلك الشريعة الغراء أن البحث في تعاليمها يرشدنا بلا شك، ومن غير جهد إلى أنها أتت بما لم تأت به الشرائع السابقة من أحكام متسعة لكل ما تتطلبه الحياة الكريمة من سماحة وكرامة وعزة دعت إلى احترام العقول، وإلى التفكير في الكون وأسراره (87:20،17) {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ
وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} ، (3:190) {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} ، (6:12) {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ} الآية، (6:98،97،96،95) {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(5/396)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} ، (6:103،102) {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} ، (45:13،12،6،5،4،3) {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} . {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
وفي النظم الاجتماعية دعا إلى المساواة بين الناس، وألا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وحفظ لكل نصيبه من الحرية راغبا في الحياة المهذبة المشبعة بروح الاعتداد بالنفس مع مراعاة حرمة الآخرين وحقوقهم.(5/397)
انظر إليه تجده يرافق الإنسان في كل أدوار حياته منظما له عامة شؤونه ليكوِّن من الأفراد الناشئين على نهجه جماعة ناضجة تمثل الإنسانية الكاملة، ثم يعرج بعد عنايته بالفرد إلى الروابط الاجتماعية وما يكون بين المرء وأخيه من صلات النسب أو التعامل أو القومية، فلا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وأثبت حكمها وحاطها بسياج من النظام المحكم.. فهاهو ذا يعلِّم الإنسان كيف يتصل بربه عن طريق العبادات المشروعة على أوجه رسمها له، ويتقيه حيثما كان، وينيب إليه في سره وجهره، وكيف يراقب نفسه في دخيلة نفسه، فلا يضطغن على أحد، ولا يعتزم شرا يأتي به، ولا يتبع ظنا يهجس به خياله ويعلمه كيف يشعر بواجبه ويحرص على حقه، ويحثه على أن يبتغي فيما أتاه الله الدار الآخرة، ولا ينسى نصيبه من الدنيا (28:77) {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْك} الآية.
ثم ينتقل بالمرء إلى الحياة المنزلية، فيرسم له كيف يستبيح المرأة بالعقد المشروع والصداق المستحق، ويبين لكل من الزوجين ماله وما عليه نحو الآخر، وما يتعلق بالصلة بينهما من الإخلاص والمحبة، والوفاء والمودة، وكيف تكون العشرة بالمعروف، وما يترتب على التضامن الزوجي نحو الأبناء من تربية وصيانة ورعاية فيشبون ويترعرعون في ظل الهناء والسعادة.(5/398)
ويحوط الأسرة بما يحفظ عليها كيانها وكرامتها، فيضع نظام الحجاب والاستئذان في دخول البيت، ويمنع اختلاط غير المحارم ومن في حكمهم ليظل رباط الزوجية وثيقا، وجوّها صافيا مما يكدره، أو يتسرب إليه من ظنون (27إلى24:31) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ
، قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ، وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .(5/399)
وكما وضح طريق الاجتماع رسم طريق الفراق بينهما حينما يستبد النزاع، ويستحكم الخلاف، وتكون حياتهما معا مثار خلاف وشقاق، ومدعاة لتعدي حدود الله (2:230،229) {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .(5/400)
ثم يخطو بعد ذلك بالزوجين إلى ما وراء حدود هذه العشرة في الحياة أو بعد الممات، فيثبت حق كل واحد منهما في مال الآخر من نفقة للزوجة أو سكنى أو ميراث لأحدهما (64:7،6،1) {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} ، {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} ، (4:12) {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} الآية.(5/401)
كما نظم العلاقة بين الأب وابنه وبين الأبناء بعضهم مع بعض (17:24،23) {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} وقوله صلى الله عليه وسلم: "حق كبير الإخوة على صغيرهم كحق الوالد على ولده" وما يتصل بهذا كله مما يعرف بالأحوال الشخصية.
ويتدرج مع المرء فيضع له طريق التعامل السليم مع الآخرين مبينا وسائل الكسب المشروع وطريق الحصول على المال بالبيع والشراء أو الإجارة أو القرض أو الإحياء "من أحيا أرضا ميتة فهي له" وما إلى ذلك مما ينتظم في باب المعاملات، أو ما يسمى في العرف بالقانون المدني، والقانون التجاري.
ويتعهد هذه التعاليم بالحراسة فيقيم سلطان القضاء لفصل الخصومات بين الناس، ويعتد بالشهادات والإقرارات، وما يكون لأحد المتداعيين أو لهما من الحجة والبرهان لتستقر الأمور في نصابها الصحيح، ويسود العدل والإنصاف، فلا تسلط ولا طغيان، ويدعم كل ذلك بإرشاداته، فيعلمهم أن من غش المسلمين ليس منهم، وأن الدين النصيحة، وأن من رأى منكرا فليغيره ما استطاع، لئلا يكونوا مثل بني إسرائيل من أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، قال صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا". وقال: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" وقال: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلِّطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم" وقال: "الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله، قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".(5/402)
ويطلب إليهم الوفاء بالعقود، وأن يحترموا ما بينهم من شروط (4:1) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} الآية، وقال: (6:152) {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} وقال صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما".
وينهاهم عن التقرب إلى الحكام بالرشا ليتمكنوا من الحصول على غير حقهم، قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الراشي والمرتشي" ويحذرهم الكذب والخيانة والخلف والخداع لئلا يكونوا من المنافقين، قال صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان".
ثم يعلمهم كيف يحسن الجار إلى جاره، ويعطف القريب على قريبه خاصة وعلى اليتامى والمساكين عامة قال تعالى (36: 4) : {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} الآية. وكيف يسير الحاكم مع المحكوم والرئيس مع المرؤوس، وكيف يكون الجميع إخوانا متآزرين متحابين، كي لا تتفرق كلمتهم، وتضعف شوكتهم، ويستهين بهم عدوهم، ويذهب سلطانهم أدراج الرياح. قال تعالى: (3:103) {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} الآية، وقال: (3:105) {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .(5/403)
ولم تغفل الشريعة الإسلامية علاقة المسلمين بغير المسلمين، بل نظمتها، ورسمت لنا على أي وجه يكون الاتصال بهم في الزواج، أو العشرة بالصحبة، أو الحكومة، وكيف نتقي صولة العدو منهم، ونعد العدة لدرء عادياتهم علينا ونحارب من يحاول العدوان على بيضة الإسلام، مع احترامنا لكل ما نعطيهم من عهد وميثاق على نحو يصون كرامة المسلمين.
ولما يعلمه الله سبحانه وتعالى من اختلاف طبائع الناس وتباين ميولهم وأهوائهم، فمنهم التقي الصالح والخيِّر الراشد الذي يقف عند حدود الشرع والأخلاق، يمتثل أوامر الله، ويجتنب نواهيه، يصدع بالحق ويأمر بالخير، وفيهم الفاجر الفاسق، والمستهتر المتمرد، الذي لا يثنيه عن الغي إلا أن يرى العذاب رأي العين، ويذوق مرارة الآلام الجسمانية، وضع زواجر وحدود مادية، يقوم بتنفيذها أولو الأمر من المسلمين، ليكف الأشرار عن طغيانهم، ويسلس قياد العصي منهم، فتمتنع أو تقل الجرائم والجنايات، وتظل حدود الله مصونة من العبث، ويتوفر للناس الأمن والطمأنينة على أنفسهم وأعراضهم، وأموالهم، ويسود النظام فيما بينهم، ويتفرغ كل بما نيط به من أعمال تساهم في عمارة الكون، ويسد فراغه في بناء المجتمع الإنساني بنفس آمنة مطمئنة، فقضى على الذين يقطعون الطرق، ويهددون الأمن ويحاربون الله ورسوله بأن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو يقتَّلوا أو يصلَّبوا أو ينفوا من الأرض على النحو المبين في الفقه، وقطع يد السارق والسارقة، وجلد القاذف ثمانين وأهدر شهادته، والزانية والزاني مائة جلدة، إن كانا غير محصنين، ورجمهما إن كانا محصنين، واقتص من القاتل العامد جزاء وفاقا.(5/404)
قال تعالى: (5:33) {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
وقال: (5:38) {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
وقال: (24:4،2) {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ورجم ماعزا والغامدية، وقد كان فيما يتلى "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم".
ولم يجعل للولاة مطلق التحكّم في الناس، بل قيّد سلطانهم، وحذّرهم أن يتعدوا حدود ما بيّن لهم الكتاب والسنة من الحق في ولاية الأمر، وتنفيذ ما عهد به إليهم، أو أذن لهم أن يقوموا به في حدود طاعة الله.(5/405)
ولم يترك الناس وشأنهم في الأخذ بتلك الأحكام، بل رتب عليها من أنواع الجزاء ما يحملهم على الانقياد وأشعرهم بوعده ووعيده، وأنه من ورائهم محيط، وأنهم جميعا في قبضته، من أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها، وأنه ليس بظلام للعبيد، قال تعالى: (41:46) {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} وقال: (18:49) {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} .
وفتح أبواب المغفرة أمام العاصين التائبين، فقال: (39:53) {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .
وقال: (25:70،69،68) {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} .
ذلك هو المنهج الواضح الذي رسمته الشريعة الإسلامية في كل ناحية من نواحي الحياة الفردية والاجتماعية فهي لم تدع في المرء عوجا إلا قومته، ولا في نظام الجماعة ثغرة إلا أحكمتها وذلك هو كل ما يتأتى للناس أن يتمنوه، أو يطمعوا فيه من إنصاف وإصلاح، وهل هناك سبيل للعمل الدنيوي خير مما رسم الله لعباده، وهو أعلم بحاجاتهم من أنفسهم، وأرحم بهم من أمهاتهم؟ وهل هناك مطمع يتعلق به الرجاء أعز مما أعده لعباده المتقين؟ ذلكم هو الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، وتلك هي العزة والكرامة، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين.(5/406)
المسؤولية في الإسلام
بقلم الشيخ عبد الله قادري
المدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة
الابتعاث إلى البلاد الأجنبية:
إن أول مضرَّة تلحق الطالب في الخارج، هي انطلاقه من كل ما كان يحجزه عن تنفيذ رغبات نفسه الحيوانية في بلاده من حياء من أسرته وأقاربه وأهل بلده فقد يذهب في إشباع غريزته كل مذهب.
ثم تيسر سبل الفساد المتعددة في أي مكان نزل وإلى أي محل انتقل، ولو لم ينله إلا إسكان مع عائلة خاصة، فيها البالغات والمراهقات اللاتي يختلط بهن في أغلب الأوقات، لكفى فساداً.
ضياع وقته في أماكن اللهو والفجور. ترك الشعائر التعبدية، من صلاة وصيام وغيرهما.
تشكُّكه في دينه لكثرة ما يعرض عليه من الشبه التي يلقيها مدرسوه والتهم التي يلصقونها بدينه الذي يجهله.
تشبعه بالأفكار الأجنبية المخالفة لصريح الإسلام واقتناعه بها أو ترجحها عنده على دينه.
تلقينه الوسائل التي تتخذ للقضاء على الدين أو إضعافه في نفوس أبنائه لينفذها عند الرجوع إلى بلاده.
وطبيعي أنه لا يقال أن كل من يُبْتَعَثُ للخارج يكون كذلك ولكنه يكون معرضاً لهذه الأمور.
مضار الابتعاث التي تعود على بلاد الطالب بعد رجوعه:
ومن يكونون فاسدين من العائدين من الدراسة في الخارج فإنهم في الغالب يعملون ما يلي:
1- إصدار قرارات رسمية تدعمه القوة بإباحة ما تشتهيه أنفسهم مما يخالف الشريعة الإسلامية.
2- العمل على إبعاد كل العناصر التي يظهر عليها أثر التمسك بالدين، عن جميع وظائف الدولة ليخلو لهم الجو، ويفعلوا ما أرادوا.
3- بثُّ أفكارهم في الشباب الناشئ بواسطة المدارس وأجهزة الإعلام وما شابهها حتى يصبح متنكرا لدينه.
4- مضايقة من يهتم بأمور المسلمين وباختلاق التهم ودس المؤامرات.(5/407)
وبالجملة فإنهم سيعملون على أن تكون بلادهم قطعة من البلاد الأجنبية في الفساد ومن البديهي أن موت هؤلاء الفاسدين خير من ابتعاثهم إلى البلاد الأجنبية لتكون هذه هي العاقبة وما هو جارٍ في بعض البلدان العربية والإسلامية أكبر شاهد على ما قلت.
وما الحل؟
قد يقول القائل إذا كنت تعرف أننا في حاجة إلى الاستفادة من هؤلاء الكفار وأن ترك تعلُّمنا العلوم النافعة منهم يؤدِّي إلى تأخرنا كما هو الواقع ثمَّ أنت تذم بعث أبنائنا إليهم فما الحل الذي تراه للحصول على ما عند الأعداء من العلوم النافعة دون أن يتأثروا بما عندهم من فساد؟ فأقول الجواب أن لحلِّ هذه المشكلة طريقين. أحسنهما أولهما:
الأول: تأمين تعليم الشباب المسلم في بلاده بإنشاء مؤسسات مختلفة لكل العلوم التي يراد أخذها من الأعداء واستقدام مدرسين وخبراء منهم مع أخذ شروط عليهم بأن لا يزاولوا غير مهمَّاتهم في البلاد، مع إعداد المراقبين عليهم حتى لا يقع منهم اتصال مريب ومراقبين على الطلاب يشرفون عليهم ويوجهونهم ويلزمونهم بالقيام بواجبات دينهم والتمسك بالأخلاق الحسنة مع مجازاة من يحصل منه خلاف ذلك، وإذا كانت بعض المؤسسات في حاجة إلى مواد خام لا توجد في البلاد عقدت اتفاقية مع الدول التي تصدرها لاسترادها. وهذا الطريق قد يكون فيه صعوبة في أول الأمر، ولكنه ممكن وهو أحسن الطريقين وأنفعهما وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم حيث جعل الكُتّاب من أسرى مشركي قريش يعلمون أولاد المسلمين في المدينة جزاء إطلاقهم من الأسر.(5/408)
الثاني: أن يُختار طلاب عقلاء ويربَّوْا تربية خاصة من قبل علماء متضلعين مخلصين ومطَّلعين على شبه الأعداء قادرين على الردِّ عليها، يتولون تعليم هؤلاء الطلاب وتفقيههم في الدين مدة كافية حتى يفهموا الإسلام فهماً جيِّداً، ويعرفوا الشبه، التي يوردها الأعداء والرد عليها، ويعين لكل عدد منهم مشرف ديني يبعث معهم يعتبر مراقباً وموجهاً ويكون له أهميته عند سفارة بلاده في تلك البلاد، حتى إذا رأى انحرافاً في طالب حاول توجيهه ولم يفد فيه، طلب تسفيره إلى بلاده فوراً ونفِّذ طلبه، وهذا الطريق دون الأول ولكنه نافع نسبياً.
بقي أن أشير إشارة موجزة إلى أمر مهمٍّ وهو استقدام المدرسين والخبراء الذين نحتاج إليهم لتعليم أبنائنا، يجب أن يكون استقدام هؤلاء مبنيّاً على دراسة واختيار سابقَيْن بالوسائل الممكنة بحيث تكون لجنة التعاقد لجنة مختارة معروفة بالإخلاص لدينها، والحميَّة على أبناء وطنها، وبالدهاء والذكاء اللذين يمكنانها من معرفة وجهة الشخص الذي يراد التعاقد معه، كما يجب أن يتصلوا بمن يوثق به لاستشارته وأخذ رأيه في المستقدَمين. ولقد أعجبني ما فعله أحد أعضاء بعض لجان التعاقد في بلد عربي عندما دلَّه بعض الناس على أستاذ مشهور بالعلم والكتابة والتأليف فأخذ ذلك العضو يبحث عن بعض الصحف التي يكتب فيها ذلك الأستاذ ليطلع على بعض مقالاته فعثر على ما طلبه ووجد ما دلَّه على عدم صلاح الأستاذ للمهمة فتركه، ذكرت هذا على سبيل المثال. والمخلص يلتمس المخلص. والله تعالى يعينه ومن يتَّق الله يجعل له مخرجا.
الجند وطرق العناية بهم:(5/409)
إن محور أمن الأمة واستقرارها أو خوفها واضطرابها هم الجند الذين بأيديهم السلاح على اختلاف أنواعه أن حملوه لحراسة البلاد وأهلها، مع حكمة وحزم وتصرف شريف كان الناس في غاية السعادة والرخاء، حيث ينصرف كل منهم إلى قضاء حوائجه والانشغال بمهامه من تجارة وصناعة وتعمير، وتعلم وتعليم، وغير ذلك من مرافق البلاد، لاطمئنان كل منهم وأمنه على نفسه وأهله وعرضه وماله، فتزدهر بذلك البلاد وتنال مرادها، من الرقي والقوَّة في كل مجالاتها وإن حملوه لإراقة الدماء ووثوب طائفة منهم على أخرى للسيطرة على أجهزة الحكم حصل بذلك ضرر عظيم من قتل للنفوس المقاتِلة والمسالِمة وسفك للدماء ونهب للأموال وتخريب البيوت، وعم الروع جميع المواطنين وتوقفت عجلة القوة المادية من زراعة وتجارة وصناعة وغيرها، والمعنوية من تعليم وتأليف وكتابة، وتفكير في المصالح العامة وبذلك تتحول البلاد إلى حمَّام من الدم ويحيق بأهلها كل أنواع البلاء من فقر ومرض وخوف وظلم، حتى يصبح من أحب الأمور إلى أغلب سكان البلاد مفارقتها إلى غيرها، ليطمئنوا على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم. إذا عرفنا هذا علمنا أهمية العناية بجند المسلمين لنصل بهم إلى الغاية المنشودة للبلاد الإسلامية وأهلها من أمن واستقرار، وقوة مادية ومعنوية، حتى تزدهر البلاد ويقف أهلها في وجه العدو المتربص بها.(5/410)
لا أريد أن أتحدث عن العناية بالجند من حيث التدريب على اختلاف أنواعه مدنيا كان أو عسكرياً لأن وظيفتهم تحتم عليهم ذلك، ولأن ذلك ليس من اختصاصي، وقد سبق أن الإسلام يوجب على أهله أن يكون جنده من القوة في المستوى الذي يُرهب عدوهم كما قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ولكل زمان قوته المناسبة له، أقول لا أريد أن أتحدث عن ذلك وإنما أريد أن أتحدث عن العناية بهم في أمور دينهم الذي يجب أن يكونوا أنصاراً له بأن يربَّوْا تربية إسلامية شاملة، وذلك بالأمور التالية:
1- تثبيت العقيدة الإسلامية في نفوسهم لكي لا يتزحزحوا عنها عندما يحاول أعداء الإسلام تشكيكهم في دينهم لأن العقيدة هي منطلق صاحبها. أي عقيدة اقتنع بها كان عمله صادراً عنها، سواء كان حقاً أم باطلاً، وحامل السلاح من أولى الناس بتثبيت العقيدة الإسلامية في نفسه لأنه سيحمل سلاحه من أجل عقيدته، وإذا لم يزوَّد بالاعتقاد الصحيح فسيزوِّده أعداء الدين بالاعتقاد الفاسد، وسيكون حرباً على الإسلام والمسلمين.(5/411)
2- تمرينهم على السلوك الحسن بحيث يجعل جزءاً من تدريبهم العسكري حتى يكونوا متحلِّين بكل خلق فاضل من عفة ونزاهة، وشجاعة وإقدام، وحزم وحكمة، وحلم وصبر، ورحمة وشفقة، ويبتعدوا عن كل الخصال السيئة من خسة ودناءة، وجبن وإحجام، وفسق وظلم، وطيش وعجلة، وقسوة وعنف، وغير ذلك من الرذائل والمعاصي، لأن المرء كلَّما كان أكثر تحليّاً بالسلوك الحسن، كان أكثر صلاحاً للقيام بواجبه بأمانة وتنفيذ، وكلما كان أكثر ابتعاداً عن الأخلاق الحسنة، واقتراباً إلى الأخلاق السيئة، كان أكثر صلاحاً للفساد والإفساد، وأطوع استجابة للشر وأهله. واستجابة الجند لأهل الفساد تعتبر أعظم فساداً من استجابة الآخرين لأن في ذلك إسنادا للفساد بالقوة التي لا يقف أمامها إلا ما يماثلها، والجندي إذا لم يُعتن به بالتربية الإسلامية وتعويده على الأخلاق الحسنة بدا وحشاً مفترساً لا يبالي من يكون صيده، وأنا لا أريد الحطّ من قدر الجندي أبداً، وإنما أريد أن أذكر الواقع الذي لا يستطيع إنكاره أحد، لاسيما في هذا العصر، الذي قدم لنا شواهد كثيرة على ما ذكر.
فكم مسجد هدمته الجيوش الشيوعية في روسيا والصين وغيرهما، وكم مصل قتل في تلك المساجد، وكذلك فعلت الصليبية في كل أنحاء العالم الإسلامي بل في بعض الدول العربية التي أغلب سكانها مسلمون، والسبب في ذلك أن الجندي الذي حمل السلاح فيها تشبع بعقيدة معادية للإسلام والمسلمين، فعمل بمقتضى عقيدته دفاعاً عنها، ولم يجد من يقف في وجهه حاملاً سلاحاً مثل سلاحه ذا عقيدة إسلامية ليدافع عنها.
3- ملاحظتهم في أداء الشعائر الدينية كالصلاة والحج والصوم وغيرها لأن هذه تعتبر من العقيدة بمنزلة الوقود للآلات.(5/412)
4- حثهم على طاعة الرئيس في غير معصية الله حتى يحصل بذلك الفرق بين جند الله المسلمين وبين جند الشيطان الكافرين. فإذا أمرهم قائدهم صغيراً كان أو كبيراً بفعل فيه معصية لله تعالى رفضوا الامتثال في ذلك الفعل كما فعل بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، عندما أمرهم قائدهم بالدخول في النار فرفضوا وشكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك بل هددهم بأنهم لا يخرجون منها لو دخلوها، وهذا الرفض لا يجوز إلا إذا كان الجند عالمين بأن ذلك الفعل معصية ظاهرة، كأن يأمرهم بأن يزنوا بنساء البلاد، أو يقتلوهن أو يقتلوا الأطفال والشيوخ بدون سبب يبرر ذلك أو يشربوا الخمر، أو غير ذلك من المعاصي الظاهرة، أما الأمور التي لا علم للجند بها من مسائل الاجتهاد العلمي أو العسكري فلا حق لهم في عصيان قائدهم فيها.
5- تذكيرهم باليوم الآخر وما أعد الله فيه للمحسنين - ولا سيما المجاهدين - والمسيئين ليكونوا راجين ثواب الله خائفين عقابه، فإن الذي لا يؤمن باليوم الآخر، لا يهمه إلا العاجل، الذي تشتهيه نفسه، في هذه الدنيا حلالا كان أو حراماً، ومثل هذا لا يرجى منه أن يقدِّم نفسه وماله في سبيل الله كما لا يتوقع منه أن يترك أي فرصة تسنح له بارتكاب أي جريمة تهواها نفسه لأنه لا يطمع في ثواب الله ولا يخاف عقابه.
6- أن يختار لكل جماعة منهم رئيس تتوفر فيه الصفات التي تحقق للجند الأمور المتقدمة وذلك بأن تتوفر فيه الأمور التالية:
أ - الخبرة التامة بما يسند إليه من مهام عسكرية، حتى يؤدي عمله متقناً.
ب - الأمانة التي يوثق من اتصف بها حيث لا يُخشى منه الخيانة لأتباعه أو رئيسه أو أميره أو أمته.(5/413)
ج- القوة التي تمكِّنه من تنفيذ ما يريد تنفيذه حتى لا يوقع نفسه وأتباعه في مشاكل لا يستطاع حلها في الأوقات الحرجة، بسبب التردُّد وعدم التنفيذ، فإن الأمور المهمَّة تحتاج إلى اغتنام الفرص التي تمكن من القيام بأدائها سلباً أو إيجاباً، والمهام العسكرية أحوج إلى الحزم والبت في الأمور من غيرها.
د- أن يكون متمسكاً بدينه متخلقاً بالأخلاق الحسنة لأنه قدوة لأتباعه، إن أحسن أحسنوا وإن أساء أساءوا ولأنه لا يمكن أن يلاحظهم إن لم يكن ملاحظاً لنفسه، وفاقد الشيء لا يعطيه.
هـ- أن يكون حكيماً يضع الأمور في مواضعها بحيث يعطي لكل وقت ما يناسبه، من إقدام أو إحجام وتقدم وتأخُّر، فلا يكون متهوراً، يوقع جنده في مآزق لا يطيقون الخروج منها بسبب العجلة، ولا جباناً يفوِّت عليهم فرصة تسنح لهم بالتغلب على عدوهم.
7- بثُّ روح الجهاد فيهم حتى يكون أحب إليهم من كل ملذَّات الدنيا وشهواتها، وتوجيههم إلى الإخلاص حتى يكون قتالهم في سبيل الله ينالون به النصر في الدنيا، والشهادة في الآخرة.
8- أن يصحب كل طائفة منهم مشرفون دينيون يقومون بالأمور التالية:
أ - الإمامة في الصلاة: لابد لهم من إمام يصلي بهم الصلوات في أوقاتها الخمسة جماعة يتفقدهم وينصح من يتخلف منهم بغير عذر، وإذا تكرر ذلك من أحدهم بلَّغ به المسئول العسكري الذي يجب أن يكون مزوَّداً بتعليمات وجزاءات رادعة في مثل هذه الأمور، فإن الأمر بالمعروف واجب على كل أحد بحسبه باليد ثم باللسان ثم بالقلب كما هو معروف، ولا شك أن القائد الجندي أعظم استطاعة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ممن سواه.(5/414)
ب - الوعظ والإرشاد: ويجب أن يصحبهم عالم يزوِّدهم بالنصائح المناسبة في أوقات مختلفة ويكون مُلِمّاً بالثقافة الإسلامية العامَّة، فاهماً للأفكار الهدَّامة المنتشرة في العصر، والشُّبه المخالفة للإسلام، حتى يتمكن من بيان تلك الأفكار والشبه وإظهار مساوئها ومخالفتها للدين حتى لا تتسرب إلى الجند فتزعزع عقيدتهم، فيصبحوا حرباً على الإسلام وأهله، كما يقوم بالإجابة على أسئلتهم المتعلقة بالحلال والحرام، وما يتصل بهما.
ج- التدريس: وينبغي أن يصحبهم كذلك مدرس خاص يعلمهم القراءة والكتابة، والحساب وما أشبه ذلك لئلا يكونوا أُميين، فإن الأميَّ أسرع تأثراً بالدعوات الهدَّامة لعدم تمكُّنه من فهمها، وفهم ما تنطوي عليه من شرٍّ، وفي ذلك أيضاً مساعدة لهم، على قراءة ما يرد عليهم من رسائل أهلهم وكتابة ما يريدون من الرد على تلك الرسائل وأشباهها، كما أن في ذلك توفيراً للوقت بالنسبة لقراءة النشرات والإعلانات التي يراد تعميمها بحيث يتمكن كل واحد منهم من قراءتها لنفسه، وغير ذلك من الفوائد المعروفة.
9- مع ذلك كلِّه يجب أن توفر لهم وسائل عيشهم ومن يهمهم أمره حتى لا تعترضهم الشواغل بسبب نقص شيء من ذلك وهم جديرون بتأمين تلك الوسائل لأنهم متفرغون لحماية الأمة وخدمتها في الداخل والدفاع عنها من أن يهجم عليها عدو من الخارج.
هذه بعض الأمور المهمة التي أحببت التنبيه عليها وهي إذا توفرت لجند المسلمين كان نجاحهم تامّاً، وإذا عدمت كانت خسارتهم كاملة، وإذا نقصت فبمقدار نقصها تكون الخسارة.
وعلى وزراء الدفاع والداخلية تقع المسؤولية لأنهم رعاة الأمنيْن الداخلي والخارجي، وفقنا الله وإيَّاهم وكل المسلمين لكل خير.(5/415)
وبعد فيا أخي المسلم كنت أريد أن أستقصي ما استطعت من الكلام على المسئوليات التي لموظفيها علاقة بالإمام ولكن رأيت أن ذلك يقتضي الإطالة فذكرت ثلاث مسئوليات هامة هي مسئولية الإعلام، ومسئولية التعليم، ومسئولية الدفاع والداخلي ة، على سبيل المثال، للمسئوليات الأخرى - ولعل الله ييسر الكتابة فيها في المستقبل - السياسية منها والاقتصادية والقضائية والتجارية والصناعية والطبية وغيرها، فيجب على كل مسئول تتعلق به أي مسئولية أن يخاف الله ويقوم بواجبه الذي أنيط به قدر استطاعته، لأن كل منهم يعتبر راعياً في مسئوليته مسئولاً عنها، ومن غش رعيته فقد حرم الله عليه الجنة كما مضى في الحديث الصحيح، وليعلم كل مسئول أنه قدوة لمن تحته فإن أحسن أحسنوا، وله مثل أجورهم وإن أساء أساءوا، وعليه مثل أوزارهم.
فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
فإن كان رب البيت بالدف ضارباً
ويا أيها المسلمون إنني أهيب بكم أن لا تلقوا بفلذات أكبادكم الذين يتسلمون قيادة الدنيا منكم بعد سنين إلى أحضان أعدائكم يمسخونهم فيجعلونهم لعنة وعاراً عليكم يربون أولادهم مثل تربيتهم أبناءهم يربون أحفادهم كذلك، فتكون سلسلة شر متصلة بعدكم وعليكم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لأنكم السبب فيها، واتقوا الله فيهم فإن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} وأبناؤكم أمانات عندكم وأقبح الخائنين من خان أبناءه. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .(5/416)
النور الفائض في مخالفة أهل السنة من أهل البيت وغيرهم للروافض
بقلم الشيخ: محمد حسن الغماري
المدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة
جناية أهل الرفض على بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كل من طالع كتب الحديث ومصطلح الحديث يجد واضحا تلك الجناية التي جناها الروافض على أهل البيت ماثلة أمامه فقد تسبَّب الرفض في ردِّ كثير من روايات أهل البيت وطعن في عدالة كثير من أهل العلم ولسببهم ذهب جلُّ علم علي رضي الله عنه وأولاده حتى أن الرجل كان لا يستطيع أن يروي عن بعض أهل العلم لئلا يقول الناس إنه تشيَّع فيقدح في عدالته لأن الشيعة الروافض صار الكذب علماً عليهم ووضع الحديث رأس مالهم والزور والبهتان سلعتهم التي يتاجرون بها.(5/417)
وأهل البيت يتولاهم جميع المؤمنين ويحبُّونهم لا كما يزعم الروافض أنهم المخصصون بحب أهل البيت دون المؤمنين ويزعم الروافض أن جميع المسلمين ظلموا أهل البيت والحقيقة أن الروافض هم الذين ظلموا أهل البيت ظلماً لا نظير له فقتلوهم وخذلوهم أحوج ما كانوا إلى النصر وغرُّوهم حتى أَوْدَوْا بهم في متاهات القتل والحرمان فهم الذين تجرَّءوا على الحسن بن علي رضي الله عنهما وأسالوا دمه من جسمه الشريف بغياً عليه ونذالة منهم وكفراً وهم الذين أَغْرَوْا أخاه الحسين بن علي ودعوه من بلده الحرام إلى بلدهم العراق ثم تَوَلَوْا بأيديهم سفك دمه الطاهر ثم خرجوا بعد مقتله يستقبلون النساء والذرية بعيون باكية وهم الذين قال لهم علي بن الحسين آنذاك: "يا أهل الكوفة إنكم تبكون علينا فمن قتلنا غيركم"وهم الذين قالت لهم زينب بنت أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: "يا أهل الختر والخذل فلا رقأت العبرة، ولا هدأت الرنة إنما مَثَلُكُمْ كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخدون أيمانكم دخلاً بينكم ألا وهل فيكم إلا الصلف وملق الإماء وغمز الأعداء؟ وهل أنتم إلا كمرعى على دمنة أو كغضه على ملحود، ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون أتبكون؟ إي والله فابكوا وإنكم والله أحرياء بالبكاء فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً فلقد فزتم بعارها وشنارها ولن ترفضوها بغسل بعدها أبداً". وقد أنكر أهل البيت ولايتهم ومن ذلك ما روي عن أبي جعفر محمد الباقر رضي الله عنه أنه كان يقول:"أف أف ما أتى لهؤلاء بإمام يضرب بكتبهم الأرض". وكان يقول الحسن المثنى ابن الحسن البسط:"والله لئن أمكننا الله منكم لنقطِّعنَّ أيديكم وأرجلكم ثم لا نقبل منكم توبة أبداً". وهذا يدل أنه كان يعتق أنهم زنادقة لأن الذي لا تقبل توبته هو الزنديق فقط وكذلك قال فيهم جعفر الصادق بن محمد الباقر: "القدرية مجوس هذه الأمة أرادوا أن يصفوا الله بعدله(5/418)
فأخرجوه عن سلطانه"والمراد بالقدرية هنا الشيعة الروافض الذين يعتقدون الجبر كالمغيِّرية المجسِّمة وغيرهم من الشيعة وهم الذين يحصرون المحبَّة في نفر قليل من أهل البيت مع أن الصالحين من أهل البيت الذين تبغضهم الروافض وتذمهم أكثر عدداً من الذين يتظاهرون بحبِّهم. ومن الذين تبغضهم الروافض زيد بن علي والحسن المثنى وزيد بن الحسن وأولادهم بل هم يحصرون الحبَّ والإمامة في اثني عشر إماماً وأهل البيت رضوان الله عليهم آلف وقد ذكر صاحب مقاتل الطالبيين في كتابه الذين قتلوا إلى آخر دولة بني العباس أكثر من خمسة آلاف رجل فكم يكون عدد من لم يقتل وكم يكون عددهم إلى اليوم ونحن نقصد الصالح منهم فقط، هؤلاء الشيعة المنتشرون في مشارق الأرض ومغاربها في صورتهم القاتمة الذين امتلأت قلوبهم حقداً على أهل الإسلام والإيمان من أهل البيت وغيرهم وقد كان مركز الرفض في أول الأمر العراق ثم انتشر فلم يبق بلد إلا وغرز ذنبه فيه. وعُرف العراق في ذلك الوقت بالموطن الخصب لوضع الحديث حتى فسد جلُّ علم علي رضي الله عنه ورواية أهل البيت. قال مالك بن أنس إمام دار الهجرة رضي الله عنه: "إذا خرج الحديث من الحجاز انقطع نخاعه". وفي رواية أخرى لمالك: "إذا جاوز الحديث الحرتين انقطع نخاعه". وقال الشافعي رضي الله عنه فيما رواه عنه ابن أبي حاتم في مناقبه: "إذا لم يوجد للحديث من الحجاز أصل ذهب نخاعه".
وقال العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين الجزء الأول (ص 21) : "وأما علي بن أبي طالب عليه السلام فانتشرت أحكامه وفتاويه. ولكن قاتل الله الشيعة فأنهم أفسدوا أكثر علمه بالكذب عليه ولهذا تجد أصحاب الحديث من أهل الصحيح لا يعتمدون من حديثه وفتواه إلا ما كان من طريق أهل بيته وأصحاب عبد الله ابن مسعود كعَبِيدَة السلماني وشريح وأبي وائل ونحوهم. وكان رضي الله عنه وكرم وجهه يشكو عدم حملة العلم الذي أودعه.(5/419)
كما قال:"إن ها هنا علماً لو أصبت له حملة"اهـ بلفظه.
وقال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد ابن عبد الوهاب رحمهما الله (ص143) الدرر السنية: "وأما قولكم إننا ننكر علم أهل البيت وأقوالهم ومذاهبهم ومذهب زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم على علم جدِّه رضي الله عنه فهذا كذب وبهتان علينا بل زيد بن علي عندنا من علماء هذه الأمة فما وافق من أقواله الكتاب والسنة قبلناه وما خالف ذلك رددناه كما نفعل ذلك مع غيره من الأئمة الخ ... "وسئل عن المذهب الزيدي فأجاب رحمه الله:
"الصحيح منه ما وافق الكتاب والسنة وما خالفه فهو باطل".(5/420)
إن الدين عند الله الإسلام
بقلم الشيخ محمود عبد الوهاب فايد
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
الإسلام هو دين الله الذي نزل من السماء ليصلح الأرض، ويربط العالم بعضه ببعض، ويوثق العلاقة بين الخالق والمخلوق على أساس العقيدة الصافية، والعبادة الهادية، ويوثق العلاقة بين المخلوق والمخلوق على أساس العدالة الكاملة، والرحمة الشاملة، والمعاملة الكريمة والسياسة الرحيمة. هذا هو الإسلام في إجمال، وتوضيحا لذلك نقول والله المستعان:
دعانا الإسلام إلى أن نؤمن بالله إيمانا صادقا، ونوحده توحيدا خالصا، وذكَّرنا بأن الله وحده هو الذي خلقنا وسوانا، ومنحنا حواسنا وقوانا، وأنعم علينا بنعمه التي لا تحصى، وغمرنا بفضله، وعمَّنا بكرمه، وشملنا بلطفه، ووسعنا بعلمه فهو يعلم ما نخفيه كما يعلم ما نبديه. قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [1] .
ودعانا إلى الإيمان برسل الله الذين اختارهم المولى ليكونوا دعاة له، وهداة لخلقه، وقدوة لهم، وحجة عليهم، قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [2] وقال: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [3] .(5/421)
ودعانا إلى الإيمان بالبعث والحساب والجزاء لتوفَّى كل نفس ما كسبت، ويتلقَّى المحسن أجر إحسانه، ويأخذ المعتدي عقاب عدوانه فلا يتساوى بار كريم، ومجرم أثيم. قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [4] . وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [5] .
هذه العقائد الثلاث التي دعا إليها الإسلام عقائد متماسكة متلازمة لها أثرها العميق في تهذيب الإنسان وإعلاء شأنه.
فعقيدة التوحيد تحمل في طواياها الاعتراف بالكمال المفرد المطلق لباري الكون وترفع شأن الإنسان إلى المستوى الذي يليق به فلا تهبط بعقله إلى قبول عقائد خرافية ووثنية ولا تدفعه إلى المذلة أمام مخلوق من المخلوقات صغر أم كبر، عظم أم هان وهذا هو السر في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [6] .
وعقيدة التوحيد أيضا تولد لدى المسلمين شعورا واحدا بأنهم جميعا عبيد لرب واحد لا يتفاضلون عنده إلا بالتقوى والعمل الصالح. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [7] .
وفي ظلال هذه العقيدة لا يتعالى أحد على أحد ويتنافس الناس جميعا في أعمال البر، وطرق أبواب الخير والإيمان برسل الله، يحمل في طواياه الإيمان بحكمة الله، فحكمته سبحانه تأبى أن يوجد الإنسان ويتركه سدى ويدعه هملا، ويحاسبه ويعاقبه دون أن يقيم عليه الحجة.(5/422)
الإيمان برسل الله يقتضي الإيمان بما جاءوا به وما جاءوا إلا بالخير العميم، والصراط المستقيم والنظام السليم الذي يضمن سعادة الفرد والمجتمع.
الإيمان برسل الله يعمِّق الإيمان بالله، ويدعوا إلى تنزيه المولى عن العبث والظلم والسفه، ويضع أمام الناس مثلا بشريا، عالية يحتدون ويقتدون بها، ويسيرون على منهاجها في مراقبة الله، والإحسان إلى الناس دون انتظار أجر منهم.
والإيمان باليوم الآخر وما فيه من بعث وحساب وجزاء من شأنه أن يزكي نفس الإنسان ويدفعه إلى عمل الخيرات وترك المنكرات والبعد عن النقائص والشبهات.
هذه العقائد الثلاث من شأنها أن تعين في إيجاد الإنسان الفاضل، والمجتمع الفاضل، والدولة الفاضلة.
وفروع الإسلام وشرائعه تهدف إلى ما تهدف إليه أصوله، وتعمل على تحقيق الغاية التي ترمي إليها عقائده فالصلاة والصيام والزكاة والحج وبقية ما أمر به الشارع تجمع بين حق الله وحق الإنسان، وفيها منافع للناس يشهدونها ويلمسون أثارها في حياتهم، إلى جانب كونها عبادة لربهم وطاعة لخالقهم.(5/423)
ومن ينظر في شريعة الإسلام يجدها كافية وافية شافية، جاءت بما فيه كمال الروح والبدن وصلاح الفرد والأمة وهناء العالم بأسره فأقامت البرهان على أن الإسلام دين إنساني عالمي واقعي نزل من السماء ليحكم الأرض وليملأها عدلا وسلاما، ومحبة ووئاما، ورخاء ورفاهية ولأن الإسلام دين واقعي التزم في كل ما شرعه أن يلائم طاقة الإنسان، ويناسب مقدرته فلا يكلفه شططا، ولا يرهقه عسرا، ولا يطلب منه ما يحرجه أو يشق عليه قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [8] وقال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} [9] وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [10] وقال: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [11]
وتمشيا مع واقع الإنسان، وتقديرا لظروفه، ومسايرة لطبيعته وخصائصه اهتم الإسلام بشئون دنياه كما اهتم بشؤون أخراه، فلم يفرض عليه أن يعتزل الناس، وينقطع لعبادة الله ويهمل أمر نفسه، ويغفل مطالبه الجسمية، وغرائزه النفسية. كلا، فقد سمح له بأن ينال حظه من العاجلة، ويستجيب لغرائزه، ويسَّر له الطريق في غير إفراط ولا تفريط، وهيأ له السبيل في حدود الاعتدال والكمال، وفي كتاب الله تقدير وتكريم لمن يقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [12] لم ينكر الله عليهم أن يطلبوا الدنيا، وكذلك لم ينكر عليهم أن يقدموها في الطلب على الآخرة.(5/424)
وفي السنة النبوية إرشاد لنا بأن نتوجه إلى الله بهذا الدعاء: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر" أخرجه مسلم عن أبي هريرة 8-81.
وتطبيقا لنظرة الإسلام الدنيوية عني الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يزيل ما وقع في ذهن حنظلة من التباس، وما سرى إليه من وهم حين زعم أنه نافق لأنه تشاغل بشؤون أهله وماله.
روى مسلم 8-94 بسنده إلى حنظلة الأسدي قال - وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: "لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قلت نافق حنظلة. قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا. قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا. فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عاسفنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات"
كذلك صحح الرسول صلى الله عليه وسلم نظرة أصحابه الذين حسبوا أن الغلو في العبادة مما يتقرب به إلى الله، وأن إهمال النفس والأهل مما ينالون به رضاه.(5/425)
روى البخاري بسنده عن عبد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل"فقلت: بلى يا رسول الله، قال: "فلا تفعل. صم وأفطر وقم ونم فإن لجسدك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا وإن لزوارك عليك حقا"-رواه مسلم بنحوه3-163.
وروى البخاري أيضا بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها. فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم. فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني".
هكذا رتب الإسلام حياة الإنسان، ووضع لها أكمل نظام راعى مطالب جسمه "إن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا" وراعى مطالب غريزته الجنسية "وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" وفي رواية لمسلم "وإن لولدك عليك حقا" وراعى حقوق الناس "وإن لزورك عليك حقا".
لم ينس الإسلام أي حق بل جاء ليعطي لكل ذي حق حقه، في حدود الاعتدال والكمال، حافظ على صحة الإنسان وحث على توقي الأخطار والأضرار قال تعالى: {خُذُوا حِذْرَكُم} [13] وقال: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [14] وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يوردن ممرض على مصح" رواه الشيخان. ودعا إلى العلاج والتداوي قال صلى الله عليه وسلم: "يا عباد الله تداووا" أخرجه الترمذي.(5/426)
ورغبّه في أن يتزوّد بالعلم ويرتوي منه ويستقِّل ما لديه قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلاً} [15] وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [16] بدأ برسوله وهو الذي قال له: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [17] ليكون قدوة لأمته كما قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة} [18] فتقتدي به وتسير على نهجه، فتستزيد من العلم باستمرار، وتسعى في طلبه على الدوام.
وحارب الفقر فوضعه بجانب الكفر واستعاذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم كما استعاذ من الكفر فقال: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر" أخرجه الحاكم.
ورسم الخطة الموافقة في مكافحته فحث على العمل لأنه مفتاح الرزق، وباب كسب المال قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [19] .
وفي يوم الجمعة حيث يتعين على الناس الاجتماع لذكر الله والصلاة ينقلنا من مواطن العمل إلى المسجد ثم يعود بنا إلى مواطن العمل بعد الصلاة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} .
وينوه بفضل العمل ويشيد به فيقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب المؤمن المحترف" رواه الطبراني، وينهانا عن البطالة، ويحذرنا من التسول فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعه لحم" رواه البخاري ومسلم.(5/427)
واستجابة لحق البطون، ونزولا على مطالبها، واعترافا بحق الفقراء والمحتاجين في أن يعيشوا مع الأغنياء عيشة كريمة يشاركونهم في خيرات الأرض التي يعيشون عليها، وينعمون معهم بما جاد به غنيهم، من أجل هذا كله أوجب الإسلام الزكاة وجعلها حقا لهم لا منة يمتن بها عليهم، وأوجب على الدولة أن تأخذها طوعا أو كرها.
نعم. من أجل الفقراء شهر الحاكم الإسلامي أبو بكر رضي الله عنه سيفه في وجوه الذين منعوا الزكاة وقال كلمته المشهورة: "والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها"رواه الستة.
ولم يكتفي الإسلام بهذا بل وضع الأساس لإقامة مجتمع تعاوني تسوده المحبة وتسري فيه روح الأخوة شعاره قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [20] وقوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"رواه الشيخان. وقوله عليه الصلاة والسلام: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له الجسد بالسهر والحمى" رواه مسلم.
وقوله في حديث آخر: "من كان عنده فضل ظهر فليَعُد به على من لا ظهر له، ومن كان عنده فضل زاد فليَعُد به على من لا زاد له". قال أبو سعيد راوي الحديث: "فذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لاحق لأحد منا في الفضل"رواه مسلم.
ويضرب الرسول صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في الاهتمام بالفقراء والعمل على راحتهم، وتقديم كل عون لهم ليكون قدوة وأسوة للحكَّام في إعانة المحتاجين، ورعاية البائسين.(5/428)
روى الإمام أحمد أن عليا وفاطمة رضي الله عنهما ذهبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علي: "والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري"، وقالت فاطمة: "لقد طحنت حتى مجلت يداي وقد جاءك الله بسبي وسعة فأخدمنا"فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع ولكن أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم".
هكذا حارب الإسلام الفقر بالعمل، وقضى على البطالة والكسل، وقدم المعونة للضعفاء والفقراء، ووفر لهم حياة طيبة وعيشة كريمة في ظل نظام محكم متين تتوثق فيه الروابط وتقوى فيه أواصر المودة بين الأفراد على اختلاف حالاتهم ودرجاتهم.
وكما حارب الإسلام الجهل والفقر والمرض نظريا وعمليا حارب الرذيلة وأغلق منافذها، ونفر من الشرور ووقف في طريقها، وحذّر من الظلم وبيَّن سوء مغبته ووخامة عاقبته قال تعالى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [21] .
وقال سبحانه في حديث قدسي رواه مسلم: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا".
ويشتد الرسول صلى الله عليه وسلم في التحذير من الظلم فيبين أن الظلم يلتهم كل ما يصنع العبد من عبادات وحسنات ويعرض صاحبه للإفلاس ويرمي به في النار وبئس القرار قال صلى الله عليه وسلم: "أتدرون من المفلس؟ "قالوا: "المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع". فقال: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن تقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم يطرح في النار" أخرجه مسلم.(5/429)
ويتعقب الإسلام الظلم في كل مكان، فلا يرضى أن يظلم أي إنسان وإن يكن كافرا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [22] .
ويروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم: "من ظلم معاهدا أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة" أخرجه أبو داود.
هذا هو الإسلام، إنه دين يعمل لمصلحة الفرد والمجتمع، دين يحارب الفقر والجهل والمرض والرذيلة والظلم، دين يعمل على إيجاد جيل غني قوي يتسلح بالعلم، ويتحصن بالفضيلة، وينأى عن الرذيلة، دين يقيم دولة فاضلة، وأمة عادلة لها حاكم يؤمِّن الخائف ويطعم الجائع وينصف المظلوم وينشر العدل والسلام والمحبة والوئام ويسهر على ما فيه عزة الأمة ورفاهيتها وهناءتها وسعادتها، وصون حريتها وكرامتها، واستقلالها وسيادتها. نعم هذا هو الإسلام أيها الحائرون {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} .
--------------------------------------------------------------------------------
[1]- النحل (17-19)
[2]- الحج (75)
[3]- المائدة (165)
[4]_ المؤمنون (115)
[5]_ ص (27_28)
[6]_ المنافقون (8)
[7]_ الحجرات (13)
[8]- البقرة (185)
[9]- البقرة (286)
[10]- النساء (28)
[11]- المائدة (6)
[12]-البقرة (201)
[13]- النساء (71)
[14]-البقرة (195)
[15]-الإسراء (85)
[16]- طه (114)
[17]-النساء (113)
[18]-الأحزاب (21)(5/430)
[19]- الملك (15)
[20]- المائدة (2)
[21]- الأعراف (157)
[22]- المائدة (8)(5/431)
بدر الكبرى
للشيخ محمد عطية سالم
القاضي بالمحكمة الشرعية بالمدينة
تعتبر السيرة النبوية بيانا ومنهجا لسيرة الدعوة وأسلوب الداعي وسجلا لأحداث الكيان الإسلامي من أول بدء الوحي إلى خاتمته وهي جديرة بالدرس والتحليل للتأسي والاقتداء {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ ... }
ولكل موقف في السيرة ظروف وملابسات تخصه، وإن غزوة بدر تميزت عن جميع الغزوات والمواقف بتوجيه مباشر بوحي يتلى، وفق خطة مسبقة وكان دور المسلمين فيها التطبيق العملي.
ولا نُبعد إذا قلنا أن تلك الخطة منوه عنها قبل الهجرة في قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} . وكان عمر رضي الله عنه يقول: "لم أعلم أي جمع حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر يثب في الدرع ويقرأ {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} "
ولكن أحداث مكة وطريق الهجرة غطت على هذا التنويه. ثم جاء الوعد الصريح في العهد القريب. {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} تحقيقا للخطة السابقة. وهاهو التوجيه الإلهي لتحقيق ذلك وتنفيذه على أيدي المسلمين بتوجيه رب العالمين.
وجوانب الغزوة عديدة ولا يمكن الإلمام بجميع جوانبها في عرض سريع ولا تستوعبها محاضرة عاجلة.
ولكن على سبيل الإجمال فإن جميع الغزوات تشترك في جوانب أساسية هي
1- الأسباب الدافعة عليها.
2- الإعداد لها مسبقا من:
أ- جند، ب- عتاد، جـ -تموين، د- اختيار المكان والزمان إن أمكن، هـ - وضع الخطة الملائمة للزمان والمكان والظروف مع اعتبار قوى العدو وظروفه ونوع سلاحه وطريقة قتاله، وغير ذلك.(5/432)
3- سير المعركة ونوع القتال:
دفاع أو هجوم. ولكل تنظيمه وعتاده.
كر وفر، أو الزحف في صفوف، الحصار، الإمدادات والتموين.
4- النتائج: تحقيق الغرض الذي قامت لأجله. تحقيق غرض آخر، أو فشلها والهزيمة.
5- المخلفات: تصفية أعمال المعركة وبقايا آثارها في الأمة من الجهتين المتقاتلتين.
تلك هي الجوانب الأساسية التي تواكب كل غزوة وتلازمها ولا بد لها من إعداد وتقدير قبل خوض المعركة والتورط مع العدو. كما كان في غزوات الأحزاب وأحد وتبوك وخيبر وفتح مكة. فكانت خطة الأحزاب حفر الخندق ومفاجأة العدو بها. وخطة أحد: الرماة والمقاتلة. وخيبر حصار العدو. وكلها واضحة المعالم للمسلمين.
الدوافع على الغزوة:
كان الدافع على غزوة بدر هو أخذ العير كما جاء في خبر أبي أيوب النصاري رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة: "إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قِبَلَها لعل الله يُغْنِمناها؟ "فقلنا: نعم فخرج وخرجنا".
فالدافع إلى الخروج هو الرغبة في العير لعل الله يغنمهموها وهذا أمر عادي فيما بين المسلمين والمشركين. فالمسلمون خرجوا من ديارهم فرارا بدينهم وتركوا أموالهم بمكة. وهذا صهيب عند الهجرة قالوا له بمكة: "جئتنا صعلوكا لا مال لك حتى أثريت والآن تريد أن تخرج بأهلك ومالك" فنزل لهم عن ماله وخرج.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "وهل ترك لنا عقيل من بيت أو ربع". والصدِّيق يقول لولده يوم بدر وهو في صفوف المشركين أين مالي يا خبيث؟ فيقول له:
لم يبق إلا شكة ويعبوب
وصارم يقتل ضلال الشيب
فخروج المسلمين لأخذ العير أمر عادي وطبيعي في مثل هذه الحالة. لأن الطرفين في حالة حرب منذ أن تآمروا على قتله صلى الله عليه وسلم وخرج ليلا إلى الغار وهاجر إلى المدينة.(5/433)
وحالة الحرب تجيز أخذ مال العدو وليس ذلك غدرا ولا اعتداءا ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يخرج من مكة إلا بعد أن رد الودائع لأهلها وخلف عليا رضي الله عنه لأدائها. وتركه في فراشه وتحت ظلال السيوف لأنها أمانات وودائع.
أما هذه فقافلة تجارية في حراسة أربعين رجل أو ثلاثين. ولكن العير لم تكن إلا إغراء على الخروج العاجل الخفيف لئلا لا يتهيأ جيش، وليكون اللقاء بين فئتين مختلفتين ليكون آية، وفي أثناء الطريق يتبدل السبب ويقع الشك في إدراك العير ويتسامع بالنفير.
وهناك يثقل الأمر عليهم ويقع الجدال بينهم. {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ. يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} .
وهناك أيضا يأتي وعد بإغراء {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} . وإطلاق إحداهما لم يقطع الأمل في العير. ولم يؤكد لقاء النفير، إلا أن ميولهم إلى السبب الذي أخرجهم وتوددهم إلى غير ذات الشوكة تكون لهم.
وإلى هنا أمر عادي وسير للخطة على وجهتها الطبيعية.
ولكن التوجيه الإلهي يوجه الخطة إلى غير ما يريدون وإن كرهوا. {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} .
وهذا أول تغيير في الخطة وأول مجابهة المسلمين بالموقف الجديد. وقد أدرك ذلك سعد إذ يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولعلك أن تكون خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره فانظر الذي أحدث الله إليك فامض له فصل حبل من شئت. واقطع حبل من شئت. وعاد من شئت وسالم من شئت. وخذ من أموالنا ما شئت".(5/434)
وفي ذلك الموقف ينشأ أول مجلس عسكري أعلى يُجري فيه النبي صلى الله عليه وسلم مشاورات مع أصحابه "أشيروا علي أيها الناس" أي في خصوص مقابلة النفير حيث خرجت مكة لحماية العير.
وتكلم كلا الفريقين من المهاجرين والأنصار كما تقدم. وخرج المؤتمر وانفض المجلس على قرار موحد حاسم: القتال.
بقي تحديد المكان:
لم يكن للمسلمين ولا المشركين اختيار في المكان ولا في تحديد الزمان، لقد سار المسلمون إلى ماء بدر لأنه منزل عام على الطريق. ولا يعلمون متى يلتقون بالنفير ولا مصير العير. ومضى المشركون أيضا إلى بدر لتسمع بهم العرب ولا يعلمون متى يلتقون بالمسلمين.
ولكن الخطة والتوجيه الإلهي يحدد مكان المعركة وزمانها: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} وبيَّن تعالى أن ذلك جُزءا من الخطة العامة ليقضي الله أمرا كان مفعولا. {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
وجها لوجه:
لقد أصبح المسلمون مع المشركين وجها لوجه في الميدان. وهناك مرة أخرى يأتي التوجيه الإلهي لتنفيذ الخطة بمغايرة جديدة حول العدد الذي هو ميزان القوة والقتال. فيقلل كلا الطائفتين في نظر الأخرى، {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} أي لا إلى تقديراتكم وخطئكم.(5/435)
وقد بين الله تعالى الغرض المقصود من هذا التقليل {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فلم يترك لكم الأمر ووجهكم إلى ما يغري على القتال. فأصبحوا أمام أمر واقع لم يكن لهم اختيار فلا يستطيعون التقدم ولا التأخر ولكن أرض معسكرهم رمله دهسة تعوق سرعة الحركة وليس ذلك من صالحهم. وأرض العدو سبخة جلدة وما زال المسلمون ببطن الوادي ولا ماء عندهم ولم يشرع التيمم بعد، فوقعوا في وساوس الشيطان وكيف يلقون العدو بغير طهارة!..فجاءتهم عناية الله وغيرت الموقف وعكسته تماما: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} . وهكذا بين عشية وضحاها تغير الموقف تماما إذ نزل عليهم المطر ليلا فتطهروا وشربوا وتماسك الرمل تحت أقدامهم وثبتت عليه.
بينما سبخة المشركين تنزلق تحت أقدامهم وأصبح الموقف لصالح المسلمين فمعسكرهم متماسك لطيف ومعسكر المشركين زلق رحض.
وفي تلك الليلة وبوحي من إفساح المجال للمشورة وامتدادا لذلك المجلس العسكري الذي أشعر كل شخص بمسئولية القتال يتقدم الحباب بن المنذر بمشورته في المنزل، ويقبل صلى الله عليه وسلم مشورته كما تقدم. ويأتي ملك فيقول: "يا رسول الله: إن الله يقرئك السلام ويقول الرأي ما قاله الحباب". فيقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله هو السلام ومنه السلام". وينزل على المشورة تلك والتي نالت ما نسميه في عرفنا موافقة من المرجع الأعلى. وإلى الله ترجع الأمور.(5/436)
إنه تحقيق لما قلنا من التوجيه الإلهي لمعركة بدر. وبهذا كله يتم تهيئة أرض المعركة. وبتثبيتها تحت أقدام المسلمين وتوفير الماء لهم. وانزلاق الأرض تحت أقدام المشركين ولا ماء عندهم. وذلك لصالح المسلمين وما كان ليتم ذلك إلا بتوجيه إلهي للخطة وعناية بالمسلمين وفي الصباح يلتقي الجمعان على تلك الحال ولم يبق إلا القتال.
قبل بدء المعركة:
كل ما تقدم من خروج وإغراء وتوجيه. ومشورة وأمنة النعاس وإنزال الماء من السماء وتثبيت الأقدام وغير ذلك. إنما هو مقدمة وتهيئة لهذه اللحظة. لحظة بدء القتال. فهي أخطر لحظة في المعركة. وهي أهم نقطة في الخطة. وأدق جزء في التوجيه وعليها يتوقف مصير المعركة. وبالتالي مصير الدعوة والأمّة بل والإنسانية كلها.
فهي اللحظة الحاسمة وهي الفرقان بين الحق والباطل. وبين البطر والتواضع ومن ثم نجد التوجيه أشد ما يكون. والتعليمات في منتهى الحزم والشدة والقسوة. ونستطيع تسميتها تعليمات الميدان {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .
وتفصيل تلك التعليمات:
أ - فلا تولوهم الأدبار. وبهذا لا يملكون انهزاما ووجب عليهم الصبر والثبات أمام العدو مهما كانت النتائج.
ب - عقوبة من تسول له نفسه بالتولي غضب الله في الدنيا. ومآله جهنم وبئس المصير.
وهذا خاص ببدر دون غيرها من الغزوات لقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ} ولكأن المسلمين ذلك اليوم لا يملكون أنفسهم. ولا لهم حق التصرف في شيء. حتى في تحركاتهم.(5/437)
وقد جاء ما يؤيِّد هذا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. فقال عمر: "يا أيها الناس لا تغرنكم هذه الآية فإنما كانت يوم بدر وأنا فئة لكل مسلم". وقال نافع: "سألت بن عمر قلت إنا قوم لا نثبت عند قتال عدونا ولا ندري من الفئة. إمامنا أو عسكرنا؟ "فقال: "إن الفئة رسول الله صلى الله عليه وسلم". فقلت: "إن الله يقول: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً..} الآية "فقال: "إنما أنزلت في يوم بدر لا قبلها ولا بعدها".
وهذا بخلاف غيرها من الغزوات فقد جاء في حق أُُحد بعدها بسنة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} . ويؤكد أنها في أُحد عدم تولي أَحَدٌ يوم بدر حيث ثبتوا جميعا. بينما في أُحد تولى البعض منهم حتى وصل العريض ووصل المدينة.
وجاء في حنين وهي بعد بدر بست سنوات قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .(5/438)
ففي أحد وحنين تأتي التوبة بعد التولي وتختص بدر بالعقوبة على من تولى وهنا نجد إحكام الخطة ودقة التوجيه فالمؤمنون خرجوا للعير وقد فاتتهم وتغيَّرت عليهم الخطة. ولم يبق لهم اختيار في إحدى الطائفتين. وأُلزموا بلقاء ذات الشوكة. وكأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون. والآن هم في ساحة القتال لا حق لهم في التولي. ولا يملكون من أنفسهم شيئا. وعليهم أن ينفِّذوا ما يؤمرون به ويوجهون إليه بقيادة السماء.
عندئذ اشتد الموقف وعظم الخطر فجاء النصر من الجانبين:
الأول: تكثير المسلمين في أعين المشركين. {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ} .
الثاني: إنزال الملائكة. {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
وكان لإنزال الملائكة في غزوة بدر حالة خاصة وتوجيه مستقل مغاير لنزولهم في غيرها. ولقد أنزل الله جنودا من الملائكة في ثلاثة مواضع سوى بدر:
أولا: عند الغار حراسا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .(5/439)
ثانيا: يوم الأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} . وكان موقفا جد عصيب {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} .
ثالثا: يوم حنين: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا..} .
ففي هذه المواطن الثلاثة مع شدة تأزمها. إذ هما في الغار لا مفر لهما منه والسيوف مستلة بأيدي المشركين بقلوب حانقة وصدور حاقدة تغلي دماؤهم ويشتد عداؤهم.
ويوم الأحزاب جاء الأحلاف ليثأروا لقتلاهم واشتد الأمر على المسلمين وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا.
وفي يوم حنين على كثرة المسلمين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت. في كل ذلك جاءت جنود الله نصرة للمؤمنين ولكنها مع شدة الحال لم تظهر تلك الجنود وكانت من وراء الرؤية.
أما في بدر فقد كان إنزال الملائكة وفق خطة وتوجيه ضمن منهج عملي مفصل:
1- بيان العدد لأول وهلة {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ(5/440)
1- وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} . وفي المواطن الأخرى الثلاثة: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ} {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً} . {وَأَنْزَلَ جُنُوداً} . وهنا قال: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ} والمدد يكون من القيادة العليا. وبين تعالى الغرض من هذا الإمداد {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ..} إلخ. بشرى وطمأنينة على أرض المعركة.
بعد مجيء المدد رسمت له خطة العمل بما يمكن أن تسميه تعليمات الميدان:
أ- {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} .
ب- {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ}
جـ- {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} .
ففيه تثبيت للملائكة أولا بقوله: {أَنِّي مَعَكُمْ} . وتثبيت للمؤمنين ثانيا. وقد جاء في الآثار أن المَلَك كان يأتي في صورة رجل معروف ويقول للمؤمنين إن عدوَّكم لا يقوى على لقائكم وإذا شددتم عليهم يفرون أمامكم. وفي الأثر: "أقدم حيزوم". وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه جبريل فقال: "ما كل ملائكة السماء أعرف يا رسول الله".(5/441)
وقد تضافرت النصوص أنهم رأوا الملائكة على خيل بلق وكان شعارهم العمائم. وقال ابن عباس: "لم تقاتل الملائكة في يوم سوى يوم بدر من الأيام. وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا لا يضربون". وعن بردة قال: "جئت يوم بدر بثلاثة أرؤس فوضعتهن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أمّا رأسان فقتلتهما وأما الثالث فلم أقتله. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم حين ذاك: "قتلته الملائكة". وكان السائب بن أبي حسين يحدِّث في زمن عمر ويقول: "بينما أنا ببدر إذ أوثقني رجل بحبل ومضى عني فإذا ابن الزبير فأخذني وقال من أسر هذا وأنا أستحي أن أذكر ما وقع لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك أسره ملك. خذ أسيرك يا ابن الزبير".
وقوله: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْب} تقوية معنوية بما يسمى حرب الأعصاب مع أن هذا حقيقة بذاته كما قالوا: كنا نسمع كصوت الحصاة على طشت نحاس يدوي في القلوب من شدة الخوف. وكان مقابل ذلك السكينة في قلوب المؤمنين.
وقوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} تعليم بكيفية الضرب وجاء أنهم كانوا يفرقون بين قتلى المؤمنين وقتلى الملائكة مثل سمة النار.
2- مشاركته صلى الله عليه وسلم في المعركة برمي الحصباء في وجوه القوم وقال: "شاهت الوجوه" فلم يبق رجل مشرك إلا أصابه منها ما شغله في عينه وفمه.
وجاءت النتيجة وفق تلك الخطة هزيمة للمشركين تحقيقا للوعد الأول والثاني.
أما الأول فقوله: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} . وكان عمر رضي الله عنه يقول: "لا أعلم ما الجمع الذي سيهزم حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في درعه يوم بدر ويقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} ".(5/442)
ومعلوم أن نتائج المعارك بحسب أسبابها ومقوماتها. وقد شاهدنا أن مسببات بدر ومقوماتها كلها كانت بتوجيه إلهي وخطة مسبقة ولذا كانت نتيجتها تبعا لذلك. {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} .
فالله الذي ألقى في قلوب المشركين الرعب وهو الذي أوصل الحصباء عيونهم وهو الذي أنزل الملائكة بشرى وطمأنينة تقاتل وتأسر معهم وهو الذي كثرهم في أعين المشركين وأنزل السكينة عليهم.
وهنا نواجه سؤالا وهو في جملته يتلخص في أن المعركة في سيرها وتوجيهها من الله وملائكته وأن المسلمين ما كانوا ليملكوا شيئا من سيرها. وما يقدرون على شيء من نتائجها. وما كانوا إلا سائرين وفق خطة مرسومة وكان يكفي لهزيمة المشركين ملك واحد. فلم كثر عدد الملائكة. وكان الأسر بيد المسلمين؟ والجواب كما نص عليه تعالى من جهتين:
1- ابتلاء للمؤمنين هل يمتثلون ويثبتون أم لا قال تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
2- كان المسلمون مستضعفين وكانوا ذوي حقوق عند المشركين وقد عانوا منهم شدة وقسوة فأراد الله أن يشفي صدورهم. ويخزي عدوهم الذي قال: "لا نرجع حتى نرد ماء بدر وتسمع بنا العرب وتعزف علينا القيان"وكان خزيهم على أيدي المسلمين أشد منه على أيدي الملائكة {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} .
تصفية المعركة:(5/443)
كانت تصفية المعركة تبعا لنتائجها في المغانم والأسرى أما المغانم فقد أخذت من أيديهم بعد تنازعهم فيها وجعلت لله ولرسوله يضعها حيث شاء فقسمها بينهم. وسميت أنفالا والأنفال ما ينفله الإمام للغزاة. وكأنه تشبيه بالغبي الذي قال فيه تعالى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} .
وهنا قال: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فكانت أنفال بدر بمقتضى ذلك لله ولرسوله.
وقال ابن كثير: "قال الإمام أحمد: وساقه بسنده إلى أبي أمامة قال: سألت عبادة عن الأنفال قال: "فينا نزلت أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بواء (عن سواء) ". وعنه: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدرا فالتقى الناس فهزم الله العدو فانطلقت طائفة في إثره يرجمون ويقتلون وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه. وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منهم غرة حين إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض. قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها فليس لأحد فيها نصيب. وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق به منا، نحن منعنا عنه العدو وهزمناهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله: خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به فنزلت {يَسْأَلونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَال ... وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُم} . فقسمها صلى الله عليه وسلم بين المسلمين".(5/444)
أما الأسارى فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لسعد وهو عند العريش وقد رأى في وجهه عدم الرضا: "كأني بك لم ترض بفعل القوم؟ "قال: "بلى يا رسول الله إن هذه أول وقعة بين المسلمين والمشركين فما كان ينبغي أن يؤسر الرجال وكان أحب إلي أن يقتلوا".
وقد عاتبهم الله فيها عتابا شديدا لما قبلوا الفداء {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . ثم أبيح لهم أكل الفدا {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} .
وهكذا جاءت غزوة بدر فرقانا بين الحق والباطل. آية من الله على صدق الرسول وبينة ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.
ثم اختص الله أهل بدر من المسلمين والملائكة على سواهم بفضل عظيم بعظم الموقف.
"لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" وقال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تعدون أهل بدر فيكم؟ "قال:"أفضلنا". قال: "وكذلك من حضرها من الملائكة". أو كما قال صلى الله عليه وسلم.(5/445)
بدون تعليق
أذاعت محطة لندن في برنامج الصناعة والتجارة الخبر التالي:
لقد شحنت إحدى شركات السجائر في لندن ألفاً وخمسمائة مليون سيجارة إلى جدة والخرطوم ومقديشيو.
إلى المدخنين
للشيخ محمد المجذوب
ـوى الموتَ منتحراً بلا سكينِ
يا من يريد دمار صحته ويَهـ
كلّ الذي يرجوه في التدخين
لا تيأسنّ فإنّ مثلك واجد
تلك السمومِ السودِ خيرَ مُعين
وبفضل جهلك قد غدوتَ لصانعي
يجدوا السبيل لكيدِ هذا الدين
تحبوهمُ المالَ الذي لولاه لم
لا يستبيح أذاه غير خئون
وتخونُ حقّ الله في الجسدِ الذي
نصر والشيطان من تمكين
فاهنأ بما حققتَ للأعداء من
لولا غباوةُُ حزبِهِ المأفون!
ما كان إبليس لِيدركَ غايةً
عوناً بكلّ مضلّل مفتون!
وبمن ينال مناه إن هو لم يجد(5/446)
الإحسان
بقلم الشيخ ربيع بن هادي
المدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة
يستهدف الإسلام أن يطبع حياة المسلمين بالطابع الجميل أن يسود الحياة الإسلامية وأن يجللها جو من الإحسان الشامل بكل أبعاده وآفاقه.
أن يعم الإحسان كل عمل وكل تصرف وكل قول على كل المستويات الفردية والجماعية وعلى مستوى الدولة والأمة في علاقة الفرد بخالقه وأسرته والمجتمع الذي يعيش فيه وعلاقة الأمة بالفرد وعلاقة الدولة بالأفراد والجماعات في العلاقة بالله.
فالمسلم حينما يؤدي حقا من حقوق الله في أي مجال من المجالات لا سيما مجالات العبادة فليؤدها وهو يتمثل فيها رؤية الله كأنما يرى الله ويشاهده، وإذا لم يصل إلى هذا المستوى فليستشعر أن الله يراه، وهذا الشعور أو ذاك سيدفعانه إلى إجادة العمل الذي يؤديه وإحسانه وإتقانه، والأمة الإسلامية بكاملها عليها أن تستشعر هذا الشعور "أعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
وفي علاقة المرء بأسرته ومجتمعه عليه أن تقوم معاملته إياهم وترتكز على أساس الإحسان {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} .
فلو أن الأمة الإسلامية أبقت هذه التعاليم في حياتها، وكل فرد في الأمة الإسلامية عمل على تنفيذ هذا المبدأ مبدأ الإحسان وجعل أسرته نقطة انطلاق لهذا الإحسان –بعد إحسانه في عبادة الله- الإحسان بمعناه الشامل في القول والعمل وبالمال والجهد لكانت مضرب الأمثال في السعادة والرقى والسيادة.(5/447)
وفي علاقة الأفراد والمجتمعات بعضهم ببعض وعلاقة الحاكمين بالمحكومين يأمر الله بالعدل والإحسان بكل أبعادهما، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ} .
إن الإحسان في نظر الإسلام بالمكانة العالية التي يأخذ الله على الأمة الإسلامية المواثيق الأكيدة في القيام به في جملة التكاليف التي يقوم عليها الإسلام وسعادة الأمة {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} إلزام بالإحسان في إطار الأسرة ومحيط المجتمع إحسان في الفعال والمقال.
والإسلام يريد أن يجعل من أخلاق الأمة الإسلامية صورة من أخلاق أهل الجنة {لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً} ورب فعلة قبيحة أدت إلى عواقب وخيمة مرة النتائج، والخروج بالأقوال والأفعال عن مجال الإحسان إلى مجال الفحش والتفحش يوقع المرء تحت طائلة سخط الله وغضبه الذي لا يطاق "إن الله يبغض الفاحش المتفحش" أخرجه أحمد.
فالفاحش كما يقول القرطبي الذي يتكلم بما يكره سماعه مما يتعلق بالدين أو الذي يرسل لسانه بما لا ينبغي وهو الجفاء في الأقوال والأفعال، والمتفحش المتعاطي لذلك المستعمل له.
ليست الأماني الكاذبة والمزاعم الباطلة والانتساب إلى دين أو نحلة سبيلا إلى الجنة إنما السبيل الأوحد إلى الجنة هو الإخلاص في الإسلام والإحسان بمتابعة رسول الله وشريعته الغراء.(5/448)
{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} .
وإن أردت أن يحبك الله فاتخذ من الإحسان وسيلة تنل تلك الغاية {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وإن كنت متطلعا إلى الخلود في جنات النعيم والنظر إلى الرب العظيم فعليك بالإحسان، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} فالحسنى هي الجنة والزيادة هي النظر إلى وجه الرب الكريم.
ثم الإسلام يريد أن يشمل الإحسان كل ذي كبد رطبة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل بطريق فاشتد به العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه فسقى الكلب فشكر الله فغفر له" قالوا يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجرا؟ فقال: "في كل ذات كبد رطبة أجر" ترى كيف يعلم الإسلام المؤمنين وكيف يربيهم ويدفع نوازع الخير وعواطف الرحمة إلى الإحسان والبر فتشمل كل ذي كبد رطبة ولو كان خسيسا في أحط وأدنى مراتب الحيوانات.(5/449)
بينما نرى في الجانب الآخر يحرم الظلم "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا"، "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله" حتى ولو كان كافرا في ذمة المسلمين فيحرم الإسلام دمه وماله، "من قتل معاهدا لم يرح رائحته الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما" (أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم) عن ابن عمر "من قتل عصفورا بغير حق سأله الله عنه يوم القيامة"، "عذبت امرأة هرة حبستها حتى ماتت جوعا فدخلت فيها النار فلا هي أطعمتها ولا سقتها حين حبستها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض" فلا يجيز الإسلام الظلم بداية من الإنسان ونهاية بالطيور والحيوانات التي لا يؤبه لها، فهذه هي الحضارة الراقية التي يحتمى في ظلها آمنا في كنفها حتى من يعاديها، والعصفور يقتل بغير حق يعتبر صاحبه مسئولا عنه يوم القيامة، وسجن هرة حتى تموت يعذب من سجنها بالنار والإحسان يمتد من الإنسان إلى كل ذي كبد رطبة وكل ذي عرق ينبض بالحياة فأين الحضارة المادية التي قامت على أساس الكفر والإلحاد وعلى الجشع والطمع فتسحق شعوبا وأمما لتستأثر بثرواتها وتبتز خيراتها بعد أن تسلخها من مقومات حياتها الدينية والخلقية والاجتماعية ثم تتجاهل كل ما ترتكبه من جرائم فظيعة ووحشية شنيعة وترمي الإسلام بالتأخر والرجعية وبالظلم والوحشية (رمتني بدائها وانسلت) .(5/450)
العدد 15
فهرس المحتويات
1- الإحسان: بقلم الشيخ ربيع بن هادي
2- الإسلام والحياة منهج القرآن في تحرير العقل والفكر:بقلم أحمد عبد الرحيم السايح من علماء الأزهر
3- الدعوة الإسلامية في أفريقية بحاجة إلى مزيد من الدعم: محمد بن ناصر العبودي
4- الدين والسنن الكونية: بقلم الدكتور محمد تقي الدين الهلالي
5- الصلح خير: بقلم الشيخ عبد الله بن صالح المحسن
6- المسئولية بين الفرد والمجتمع: بقلم الشيخ محمد أبو فرحة
7- قصص لا تنسى - الهارب بدينه: بقلم: الشيخ محمد المجذوب
8- تنبيه للقراء: عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
9- جوانب من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم: للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
10- حجية السنة ودحض الشبهات التي تثار حولها: بقلم الدكتور: محمود أحمد طحان
11- دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
12- رسالة المدرّس المثالي: بقلم الشيخ: محمد المهدي محمود علي
13- لمحات في منهج البحث الموضوعي: بقلم الأستاذ: عبد الله عبد الرحيم عسيلان
14- مرض الأميبا: للدكتور أحمد سليمان
15- أخبار الجامعة
16- من تاريخ الحروب الصليبية يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين: إعداد العلاقات العامة
17- من تاريخ الدعوة السلفية: الشيخ عبد الحميد بن باديس - بقلم الشيخ محمد شريف الزيبق
18- نداء ومناشدة: مدير المركز: عصام العطار
19- نور السوط والعصا: للدكتور طه الزيني
20-وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين: للشيخ حسن السيد متولي
21- يا فتية الإسلام: للشيخ عبد الله قادري
22- يستفتونك: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(5/451)
حجية السنة ودحض الشبهات التي تثار حولها
بقلم الدكتور: محمود أحمد طحان
المدرس في كلية الشريعة بالجامعة
الحمد لله منزل الكتاب هداية للناس، ومرسل الرسل بلسان أقوامهم ليوضحوا لهم ما يريده الله منهم، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وأنزل عليه القرآن الكريم ليبينه للناس، ويوضح المراد من هذا الكتاب المنزل عليه ببديع بيانه وحسن فعاله.
أما بعد: فقد يقال إنه من فضول القول أن يبحث اليوم في حجية السنة وقد مضى على الاحتجاج بها من عامة المسلمين أربعة عشر قرنا، فما فائدة هذا البحث؟ وهل يوجد في الدنيا مسلم واحد ينازع في حجية السنة فيقول: إن السنة ليست حجة، أو بمعنى أوضح، هل يوجد من يقول: إن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لا يلزمنا العمل بها، وإنما يلزمنا العمل بالقرآن فقط.
الحقيقة أن جماهير المسلمين وعلمائهم أجمعوا من الصدر الأول إلى يومنا هذا على وجوب العمل بالسنة، ومضى العمل على الاحتجاج بها من غير نكير، وأنها حجة ملزمة من حجج الشرع يجب العمل بها -إذا صحت- كما يجب العمل بالقرآن الكريم، إلا ما وجد من بعض الزائفين الذين قاموا بفتنة التشكيك بحجية السنة لأسباب واهية سنعرض لها فيما بعد إن شاء الله تعالى، وقد رد عليهم جهابذة علماء المسلمين وعلى رأسهم الإمام الشافعي رضي الله عنه في كتابيه ((الرسالة)) و ((الأم)) وباقي كتبه الأخرى، حتى ألقمهم الحجر، وانقرضت تلك الفئة الخبيثة الضالة، وانقرضت فتنتها معها والحمد لله حتى ما يكاد بها إلا المتخصصون والباحثون في تاريخ السنة والتشريع الإسلامي.(5/452)
لكن في هذه الفترة، فترة زوال الخلافة الإسلامية، وتضعضع المسلمين وتشتتهم وانقسامهم بشكل أزال قوتهم وخضد شوكتهم، وجعلهم كقصعة ثريد تتداعى الأمم لأكلها في هذه الحالة التي لم يعد للإسلام من يمثله ولا من يحميه، ظهر ناعقون ممن ينتسبون إلى الإسلام وممن لا ينتسبون، ينعقون من هنا وهناك وبشكل مركز يظهر فيه أثر التواطؤ في الظلام على تنظيم هذه الحملات الأثيمة ضد الإسلام، وذلك بهدم الركن الثاني من أركان تشريعه الخالد ألا وهو ركن السنة المطهرة، وكانوا ماكرين في ذلك أشد المكر، لأنهم علموا أن هدم الإسلام لا يمكن أن يكون بنقد تشريعاته لأنها تشريعات حكيمة معقولة، يفاخر بها المسلمون غيرهم من أهل الديانات السماوية وأهل القوانين الوضعية في إحكامها وحسن ترتيبها وشمولها لجميع ما يحتاجه بنو البشر.
لذلك عمدوا إلى هذا الطريق الماكر الخبيث في عداء الإسلام وهدم أكثر تشريعاته، وذلك بتشكيك المسلمين في حجية السنة ووجوب العمل بها، ومعلوم أن أكثر تشريعات الإسلام لاسيما التشريعات التفصيلية مبنية على السنة النبوية الشريفة.
وقاموا بهذا التشكيك الخبيث في صورة أبحاث علمية مبنية على أشياء علمية على حسب زعمهم، وتظاهروا بالحرص على عقول المسلمين من أن تنجر إلى التقليد، وتقول بشيء ما أنزل الله به من سلطان.
ولقد انخدع بزخرف قولهم بعض الشباب المثقفين في هذا العصر لأسباب أهمها:
1_ ضعف الثقافة الإسلامية لديهم.
2_ طغيان الثقافة الأجنبية على المجتمع الإسلامي.
3- ضعف الوازع الديني والميل إلى التفلت من أحكامه وتكاليفه.(5/453)
4_ عدم وجود الدولة الإسلامية التي تمثل الإسلام وتحميه من أعدائه أينما كانوا من الأرض، وصار بعض هؤلاء الشباب المخدوعين إذا ناقشته في قضية إسلامية واستشهدت على ما تقول بحديث من أحاديث الرسول الصحيحة، ضحك مستهزئا وقال: ليس الحديث حجة في إثبات الأحكام، فهل عندك نص من القرآن على ما تقول؟! …
وهذا في الحقيقة -ولو لم ينتشر- خطير جدا إن لم يتدارك، لأنه لو انتشر- لا سمح الله- فإن معناه هدم كثير من أحكام الإسلام التي مستندها السنة والأحاديث الصحيحة.
والأدهى من ذلك كله أن يكون هذا الهدم الرهيب باسم النقاش العلمي، وباسم الدين وباسم الفهم الصحيح له عن دليل يقيني كما يزعمون، ولو كان هذا الهدم باسم التفلت العلني الصريح من أحكام الإسلام لكان الأمر أهون.
لأجل هذا سنعرض بعض الأدلة من القرآن والسنة وإجماع المسلمين والمعقول على وجوب العمل بالسنة، وأن ترك العمل بها ضلال مبين، كما سنعرض الشبهات التي أثارها المغرضون قديما وحديثا، من المستشرقين والمتأثرين بهم من تلامذتهم وصنائعهم الذين يرددون ما يقول أسيادهم، ثم ندحض هذه الشبهات واحدة واحدة بالإجمال لعدم اتساع المقام.
أما الأدلة على حجية السنة من القرآن الكريم فكثيرة، وقد ساقها علماء أصول الفقه في أول بحثهم في الأصل الثاني من أصول التشريع ألا وهو السنة، فمن هذه الآيات ما يلي:
1_ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .
2_ {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} .
3_ {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .(5/454)
4_ {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} .
5_ {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} .
6_ {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} .
7_ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} .
وأما الأدلة من السنة فكثيرة جدا، وقد عقد الخطيب البغدادي في كتابه المشهور ((الكفاية في علم الرواية)) بابا استهل به كتابه فقال: ((باب ما جاء في التسوية بين حكم كتاب الله تعالى وحكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوب العمل ولزوم التكليف)) ثم ساق نصوصا كثيرة من السنة لدعم هذا العنوان نجتزئ منها ما يلي:(5/455)
ساق الخطيب بأسانيد متعددة عن المقدام بن معديكرب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حرّم أشياء يوم خيبر ثم قال: "يوشك رجل متكئ على أريكته يحدّث بحديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه وإن ما حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرّم الله عز وجل"، وأخرج هذا الحديث بألفاظ متقاربة أبو داود والترمذي والدارمي والإمام أحمد، وزاد أبو داود "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه"، وساق بسنده إلى أبي رافع أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" وفي رواية عن أبي رافع أيضا بلفظ: "عندنا كتاب الله ليس هذا فيه"، وبسنده إلى جابر بن عبد الله أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ""لعل أحدكم أن يأتيه حديث من حديثي وهو متكئ على أريكته فيقول: دعونا من هذا، ما وجدنا في كتاب الله اتبعنا"، وبسنده إلى ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بال أصحاب الحشايا يكذبونني عسى أحدكم يتكئ على فراشه يأكل مما أفاء الله عليه، فيؤتى يحدّث عني الأحاديث يقول: لا أرب لي فيها، عندنا كتاب الله، ما نهاكم عنه فانتهوا، وما أمركم به فاتبعوه".
وكأني برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أطلعه الله على ما سيكون في المستقبل يوجه قوله هذا إلى ما يدّعون أنهم أهل القرآن أو ((القرآنيون)) الذين لا يأخذون إلا بالقرآن الكريم، ولا يحتجون بالسنة ولا يعملون بالأحاديث، وقد ظهر منهم الآن ناس في بعض أصقاع من الهند، وردد أفكارهم بعض الزائفين في مصر، لكن كانوا جميعا موضع سخرية واستخفاف من جمهور المسلمين وعلمائهم ولله الحمد والمنة.(5/456)
وأما الإجماع فقد أجمع العلماء من عصر الصحابة إلى يومنا هذا بأن السنة هي الأصل الثاني من أصول التشريع، وأنها حجة في إثبات الأحكام تبعا للقرآن، واستقلالا في بعض الأحكام.
وأما المعقول فمن المعلوم لدينا أن الله سبحانه وتعالى قال مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .
إذن فالرسول صلى الله عليه وسلم مكلف ببيان المراد من الآيات المنزلة، وبيان كيفية تطبيقها على الحوادث، ولأجل هذا كان الصحابة يرجعون إليه في فهم كل ما أشكل عليهم فهمه، ويستفتونه فيما يقع لهم من الحوادث، فيبين لهم النبي عليه السلام ما أشكل عليهم.
فعلى سبيل المثال نزلت آية الصيام ولم يذكر فيها حكم الأكل والشرب بطريق النسيان، فاستشكل بعض الصحابة الذين وقعوا في هذا، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كلفه ربه بالبيان، فقال يا رسول الله أكلت ناسيا وأنا صائم، فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم بأن صومه صحيح، وقال له: "تمّ على صومك فإنما أطعمك ربك وأسقاك".
وذلك لأن الخطأ والنسيان معفو عنهما، واستنبط الرسول ذلك من قوله {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وقوله {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} ، فهل يقال إن هذا الحديث مخالف للقرآن لأن ليس فيه أن الصوم لا يفسده الأكل بالنسيان صراحة، أو هل يقال إنه لم يكن للنبي عليه السلام أن يستنبط هذا الحكم من الآية الأخرى التي لا تتعلق بالصوم؟
فلو قال قائل: نعم ليس للرسول أن يستنبط ويفتي الناس بما ليس في القرآن صراحة.(5/457)
نقول له: عجبا لك، إذا كان من المقرر أنه يجوز للعلماء حتى في هذا العصر أن يستنبطوا من القرآن الأحكام مع بُعْدِهم عن العصر والمحيط اللذين نزل فيهما، أفمن يجوز هذا لمن نزل عليه القرآن، وأمر بتبيينه مع أنه أفصح أهل اللسان.
ولا يخفى على أحد أن كل الناس ليسوا سواء في الاستعداد والفهم وصفاء الذهن، ولذلك نرى أن القرآن الكريم يقرأه كل أحد، ولكنهم يختلفون في فهم معانيه، فالعالم يفهم منه ما لا يفهمه الجاهل، والعلماء أيضا متفاوتون في الفهم والعلم، وقد أمرنا الله تعالى بالرجوع إلى العلماء بقوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} وبيّن اختلاف الناس في درجات الفهم بقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} .
إذا سلمنا هذين الأمرين، وهو أن الرسول مكلف ببيان القرآن، وأن الناس متفاوتون في الفهم، إذًا فمن أحق ببيان وإيضاح معاني القرآن، والتطبيق العملي لآياته؟ الحق أنه لا يوجد أحق من الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا البيان، هذا البيان الذي سلمنا أن الرسول هو أحق الناس به، هو ما يسمى بالسنة أو الحديث النبوي الشريف، وهذا البيان من الرسول صلى الله عليه وسلم يوحى من الله تعالى كما مرّ في الحديث "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه" فالرسول أوتي القرآن وبيانه وهو السنة.(5/458)
على أن الأحكام المستمدة من السنة مأخوذة في الحقيقة من القرآن الكريم وتوجيهه العام، ومستقاة من أصوله، ومستوحاة من أهدافه، إذ إنها إما تخصيص لعمومه، أو مفسرة لمجمله، أو مقيدة لمطلقه، أو شارحة لكيفية تطبيق بعض أحكامه، وهذا ما فهمه الصحابة وعلموه وهو أن السنة وأحكامها تعتبر مأخوذة من القرآن الكريم، لأن الله تعالى قد أحال المسلمين في بعض نصوصه إلى السنة، وقصة المرأة الأسدية مع عبد الله بن مسعود في لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة حينما قالت: لقد قرأت ما بين دفتي المصحف فلم أجد اللعن فيه، قال: أما إنك لو قرأت لوجدتيه، ألم تقرأي قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، فالأخذ بالسنة في الواقع أخذ بالقرآن، لأن القرآن أحالنا عليها في بعض الأحكام، كما أن السنة هي التاريخ التطبيقي للقرآن، فالجهل بها جهل لكيفية تطبيق القرآن، كما أنها المصدر الوحيد لمعرفة سبب النزول، ومعرفة ناسخ القرآن ومنسوخه، وهذه أمور ضرورية جدا لتحديد معنى النص القرآني في كثير من الآيات.
ولنضرب أمثلة حية من أحكام السنة المخصصة لعموم محمكم القرآن أو المفسرة لمجمله:
1_ قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} .(5/459)
فإن ظاهر هذه الآية يدل على أن كل والد يرث ولده وكل مولود يرث والده، لكن جاءت السنة فبينت أن المراد بذلك مع اتفاق الدين بين الوالدين والمولودين، وأما إذا اختلف الدينان فإنه مانع من التوارث، واستقر العمل على ما وردت به السنة في ذلك فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أسامة بن زيد أنه قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ".
2_ قال تعالى في المرأة التي يطلقها زوجها ثلاثا: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فاحتمل أن يكون المراد به عقد النكاح وحده واحتمل أن يكون المراد به العقد والإصابة معا، فجاءت السنة فبينت أن المراد به الإصابة بعد العقد، فعن عائشة رضي الله عنها أن رفاعة القرظي طلق امرأته فبتّ طلاقها فنكحت بعده عبد الرحمن بن الزَّبِير فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إنها كانت تحت رفاعة فطلقها آخر ثلاث تطليقات فتزوجت بعبد الرحمن بن الزّبير وإنه والله ما معه إلا مثل هذه الهدبة وأخذت بهدبة من جلبابها قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا وقال: "لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته"، قالت وأبو بكر جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالد بن سعيد بن العاص جالس باب الحجرة لم يؤذن له، فطفق خالد ينادي أبا بكر ألا تزجر هذه عما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.(5/460)
3_ قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، لكن ليس في الآية الكريمة بيان قيمة المسروق ولا الحرز الذي هو شرط القطع ولم تبين الآية الكريمة من أين تقطع يد السارق أمن الكف، أم من المرفق، أم من المنكب؟ فجاءت السنة فبينت مقدار المسروق وهو ربع دينار كما بينت الحرز وهو يختلف لأنه يكون في كل شيء بما يناسبه، كما بينت السنة أن القطع يكون من مفصل الكف.
4_ والأمثلة على ذلك كثيرة جدا، فمنها الصلوات الخمس فإن الله تعالى قال في القرآن الكريم {وَأَقِيمُوا الصَّلاة} وليس في القرآن بيان عدد الصلوات ولا تحديد أوقاتها، ولا عدد الركعات في كل صلاة، ولا كيفياتها، فجاءت السنة فبينت كل ذلك تفصيلا، وهكذا الزكاة والحج وكثير من العبادات والمعاملات والأحكام الأخرى.
وإني لأتوجه إلى منكري حجية السنة فأقول لهم: إذا كنتم لا تعتبرون السنة حجة عليكم، ولا تعملون بها فكيف تقيمون الصلاة أخذا من القرآن، وكيف تؤدون الزكاة وكيف تقطعون يد السارق وتقيمون الحدود، وتوزعون المواريث والتركات؟ فماذا يكون جوابهم يا ترى؟ سبحانك ربنا هذا ضلال مبين.(5/461)
وهذه الفتنة ليست بحديثة العهد، فقد قذفها الشيطان في نفوس بعض الناس في القرن الأول، فهذا الخطيب البغدادي يسوق بسنده في كتابه ((الكفاية)) إلى الصحابي الجليل عمران بن حصين رضي الله عنه أنه كان جالسا ومعه أصحابه يحدثهم، فقال رجل من القوم لا تحدثونا إلا بالقرآن، فقال له عمران بن حصين: ادنه، فدنا، فقال: أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعا، وصلاة العصر أربعا، والمغرب ثلاثا، تقرأ في اثنتين، أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد الطواف بالبيت سبعا، والطواف بالصفا والمروة ثم قال: أي قوم، خذوا عنا فإنكم والله إن لا تفعلوا لتضلن، وفي رواية أخرى: أن رجلا قال لعمران بن حصين ما هذه الأحاديث التي تحدثوناها وتركتم القرآن؟ قال: أرأيت لو أبيت أنت وأصحابك إلا القرآن، من أين كنت تعلم أن صلاة الظهر عدتها كذا وكذا، وصلاة العصر عدتها كذا، وحين وقتها كذا، وصلاة المغرب كذا، والموقف بعرفة، ورمي الجمار كذا، واليد من أين تقطع، أمن هنا أم هاهنا أم من هاهنا، ووضع يده على مفصل الكف، ووضع يده عند المرفق، ووضع يده عند المنكب اتبعوا حديثنا ما حدثناكم وإلا والله ضللتم.
وساق بسنده إلى أبي أيوب السختياني أنه قال: إذا حدثت الرجل بالسنة فقال دعنا من هذا وحدثنا بالقرآن فاعلم أنه ضال مضل.
وبعد هذا العرض الموجز لأدلة حجية السنة من القرآن والسنة والإجماع والمعقول يفرض للشبهات التي أثارها منكرو حجية السنة ومنتقدو طريقة المحدثين في جمع الحديث وتمييز صحيحه من سقيمه في القديم والحديث.
لقد تعرضت السنة لمن ينكر حجيتها قديما وحديثا، أما في القديم فلم يأت القرن الثاني حتى ظهر من ينكر أنها مصدر من مصادر التشريع، ومنهم من أنكر حجية غير المتواتر منها، كما ظهر من ينكر منها ما لا يكون بيانا للقرآن أو مؤكدا له.(5/462)
وأول من تعرض لدحض تلك الآراء الخبيثة الإمام الشافعي رحمه الله -فيما أعلم-، فقد ذكر في آخر كتاب ((الأم)) مناظرة جرت بينه وبين من ينسب إلى العلم بمذهب أصحابه ممن يردون الأخبار كلها، كما عقد في ((الرسالة)) بحثا مستفيضا أثبت فيه وجوب اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن طاعته مقرونة بطاعة الله، وبيّن كيف أجمع الصحابة وأهل العلم على العمل بخبر الواحد في مسائل كثيرة من أحكام الشريعة سردها رحمه الله سردا قويا مقنعا، ولم يبين الشافعي رحمه الله تعالى من هذه الطائفة التي ردت الأخبار كلها، ولا من هو الشخص الذي ناظره في ذلك، ورأي الشيخ الخضري رحمه الله أن الشافعي يعني بذلك المعتزلة، لأن الشافعي قد صرح بأن صاحب هذا المذهب منسوب إلى البصرة، وكانت البصرة آنذاك مركزا لحركة فلسفية كلامية، ومنها نبغت مذاهب المعتزلة، فقد نشأ بها كبارهم وكتابهم، وكانوا معروفين بمخاصمتهم لأهل الحديث، ودعم الخضري قوله بما تعرض له ابن قتيبة في كتابه ((تأويل مختلف الحديث)) من الرد على شيوخ المعتزلة فيما كانوا يطعنون به الصحابة وكبار التابعين.(5/463)
وفي الحقيقة أن غارة شعواء شُنت في العصر الذي كتب فيه الشافعي رسالته أو قبل ذلك بقليل من المتكلمين على أهل السنة وأهل الحديث، وبالتالي على السنة التي يشتغلون بها ويدعون الناس إلى الاحتجاج بها، فقد كان غلاة المعتزلة يريدون تحكيم العقل وطرح نصوص السنة، ولكن الشافعي ناقشهم وأطال النقاش معهم حتى ألقمهم الحجر، ويتضح مما ذكره الشافعي من رأي منكري حجية السنة، ومما ذكره العلماء من آراء بعض شيوخ المعتزلة أنهم ينكرون حجيتها من حيث الشك في طريق ثبوتها وما يلحق رواتها من خطأ أو وهم، أو ما يندس بينهم من وضاعين وكذابين، لا أنهم ينكرونها من حيث هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعال وتقريرات ثابتة عنه، فإن أي مسلم مهما كان لا يقول بذلك، وهذا في الحقيقة تستّر ماكر وراء تلك الشبهات التي يثيرونها حول صحة نسبة السنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظنية ثبوتها على فرض صحتها، وأن الظني لا يمكن أن تبنى عليه أحكام شرعية.
وتتلخص شبهات من يرد غير المتواتر من السنة أو يرد السنة كلها كما حكاها الإمام الشافعي عنهم بما يلي:
أما من يرد غير المتواتر منها فيقول: إن خبر الواحد (أو خبر الآحاد) يفيد الظن بالنسبة لثبوته نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والظني الثبوت لا يجوز أن نبني عليه أحكام شرعية.(5/464)
وقد رد عليهم الشافعي ببحث طويل مستفيض في ((الرسالة)) بما يقارب المائة صفحة، وفي بعض طبعات هذا الكتاب، وأتى بأدلة على حجية خبر الواحد، أقواها عمل الصحابة وإجماعهم على الأخذ بخبر الواحد والاحتجاج به حتى في الأمور العظيمة الخطيرة، وأتى بأمثلة كثيرة أسوق مثالا واحدا منها طلبا للاختصار، هذا المثال هو تحول أهل قباء وهم في صلاة الفجر من التوجه إلى بيت المقدس واستقبالهم بيت الله الحرام بخبر الواحد، وهذا ما قاله الشافعي في الرسالة، قال الشافعي: ((وأهل قباء أهل سابقة من الأنصار وفقه، وقد كانوا على قبلة فرض الله عليهم استقبالها، ولم يكن لهم أن يدعوا فرض الله في القبلة إلا بما تقوم عليهم الحجة، ولم يلقوا رسول الله ولم يسمعوا ما أنزل الله عليه في تحويل القبلة، فيكونون مستقبلين بكتاب الله وسنة نبيه سماعا من رسول الله ولا بخبر عامة، وانتقلوا بخبر الواحد إذ كان عندهم من أهل الصدق عن فرض كان عليهم فتركوه إلى ما أخبرهم عن النبي أنه أحدث عليهم من تحويل القبلة، ولم يكونوا ليفعلوه إن شاء الله بخبر الواحد إلا عن علم بأن الحجة تثبت بمثله، إذا كان من أهل الصدق … إلى آخر ما قال …)) [1] .(5/465)
وقد عقد الخطيب البغدادي في ((الكفاية)) بابا سماه ((باب ذكر بعض الدلائل على صحة العمل بخبر الواحد ووجوبه)) استهله بقوله ((قد أفردنا لوجوب العمل بخبر الواحد كتابا، ونحن نشير إلى شيء منه في هذا الموضع، إذ كان مقتضيا له)) ثم قال: ((فمن أقوى الأدلة على ذلك ما ظهر وانتشر عن الصحابة من العمل بخبر الواحد)) [2] ، ثم ساق الأمثلة والشواهد على احتجاج الصحابة بخبر الواحد، إلى أن ختم الباب بقوله ((وعلى العمل بخبر الواحد كان كافة التابعين ومن بعدهم من الفقهاء الخالفين في سائر أمصار المسلمين إلى وقتنا هذا، ولم يبلغنا عن أحد منهم إنكار ذلك ولا اعتراض عليه، فثبت أن من بينهم دين جميعهم وجوبه، إذ لو كان فيهم من كان لا يرى العمل به لنقل إلينا الخبر عنه بمذهبه والله أعلم [3] .
وأما من يرد الأخبار كلها فيمكن حصر شبهتهم بأن القرآن جاء تبيانا لكل شيء، فإن جاءت الأحاديث بأحكام جديدة لم ترد في القرآن، كان ذلك معارضة من ظني الثبوت وهو الحديث القطعي الثبوت وهو القرآن، والظني لا يقوى على معارضة القطعي، وإن جاءت مؤكدة لحكم القرآن كان الاتباع للقرآن لا للسنة، وإن جاءت لبيان ما أجمله القرآن كان ذلك تبيانا للقطعي الذي يكفر من أنكر ثبوته بالظني الذي لا يكفر من أنكر ثبوته.
وهذه التقسيمات في الحقيقة فلسفة فارغة تعارض ما كان عليه الصحابة والتابعون ومن تبعهم بإحسان من العمل بالحديث بمجرد ثبوته ولو من طريق شخص واحد إذا توفرت فيه شروط الراوي المعروفة من العدالة والضبط وغير ذلك.
ويتخلص جواب الشافعي عن شبه هؤلاء بما يلي:
1_ إن الله تعالى أوجب علينا اتباع رسوله، وهذا عام بمن كان في زمنه وكل من يأتي بعده، ولا سبيل إلى ذلك لمن لم يشاهد الرسول إلا عن طريق رواية الأحاديث، فيكون الله قد أمرنا باتباعها وقبولها، لأن ما لا يتم الواجب إلا به كان واجبا.(5/466)
وحتى أن الصحابة رضي الله عنهم لم يتيسر لمجموعهم -مع أنهم في زمنه- أن يسمعوا جميع ما قاله الرسول منه مباشرة، فكثيرا ما كان يسمعها البعض ويبلغونها غيرهم فيعملون بها جميعا، السامع والمبلّغ.
2_ إنه لابد من قبول الأحاديث لمعرفة أحكام القرآن نفسه، فإن الناسخ والمنسوخ لا يعرفان إلا بالرجوع إلى السنة.
3_ إن هنالك أحكاما متفقا عليها بين جميع أهل العلم وطوائف المسلمين قاطبة حتى الذين ينكرون حجية السنة، كعدد الصلوات المفروضة، وعدد الركعات، وأنصبة الزكاة وغيرها، ولم يكن من سبيل لمعرفتها وثبوتها إلا السنة.
4_ إن الشرع قد جاء بتخصيص القطعي بظني، كما جاء في الشهادة على القتل والمال، فإن حرمة النفس والمال مقطوع بهما، وقد قبلت فيهما شهادة الاثنين، وهي ظنية بلا جدال.
5_ إن الأخبار وإن كانت تحتمل الخطأ والوهم والكذب، ولكن الاحتمال بعد التأكد والتثبت من عدالة الراوي ومقابلة الرواية بروايات أقرانه من المحدّثين يصبح أقلّ من الاحتمال الوارد في الشهادات، خصوصا إذا عضد الرواية نص من كتاب أو سنة فإن الاحتمال يكاد يكون معدوما.
ولعمري هذه إجابات موفقة مخرسة ألهمها الله تعالى للإمام الشافعي حفظا لدينه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فالحمد لله على توفيقه.(5/467)
وأما قولهم إن الله أنزل الكتاب تبيانا لكل شيء فإن من المعلوم أن الله لم ينص على كل جزئية من جزئيات الشريعة وإنما بين أصول الشريعة ومصادرها وقواعدها ومبادئها العامة.. ومن الأصول التي بينها وجوب العمل بسنة الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام كما في قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} … هذه هي الشبهات والهجمات التي تعرضت لها السنة من قبَل مفكريها في القديم، ولكنها لم تثبت أمام الحق ولم يكتب لها البقاء أمام جهود العلماء من أئمة السنة وأئمة الاجتهاد وطوائف المسلمين المتعددة فرسخت دعائم السنة وقام عليها كيان التشريع الإسلامي العظيم، وكانت تلك الشبهات التي ألقاها أصحابها كزوبعة هوجاء ما لبث أن زالت وصحا الجو ولم يبق لها من أثر … وبقيت الحال كذلك إلى أوائل هذا القرن إذ سمعنا من جديد إثارة الفتنة حول حجية السنة وبعثها من جديد وتناسى مثيروها أن سلفهم من شياطين الإنس قد أثاروها من القديم ثم خنسوا لما تلقوا الردود المفحمة التي أخرستهم.. وفي الحقيقة فإن الدافع الذي يكمن وراء هذه الحملات في القديم والحديث واحد، وهو الكيد للإسلام وهدمه وذلك بهدم الركن الثاني من أركانه، فإن الذي كان وراء المعتزلة الذين تولوا أكبر معارضة السنة وأهل الحديث هو الفلسفة اليونانية الحاقدة على الإسلام، وكذلك فإن حركة الاستشراق اليهودية والنصرانية معا هي التي تكمن وراء إثارة هذه الشبهات حول حجية السنة في هذا العصر… فهذا كبير المستشرقين المستشرق اليهودي المجري جولد تسيهر الذي يعد أشد المستشرقين خطرا وأكثرهم خبثا وإفسادا في هذا الميدان وذلك لسعة اطلاعه على المراجع الإسلامية حتى اعتبر زعيم المستشرقين ولا تزال كتبه وبحوثه مرجعا خصبا وأساسيا للمستشرقين في هذا العصر.. وكان له أكبر الأثر في التشكيك بالسنة وترى أراءه منثورة في كتبه المتعددة.. وأهم شبهة له ما زعمه من أن(5/468)
القسم الأكبر من الحديث ليس وثيقة للإسلام في عهده الأول ((عهد الطفولة)) ولكنه أثر من آثار جهود المسلمين في عصر النضج، يقول جولد تسيهر: ((إن القسم الأكبر من الحديث ليس إلا نتيجة للتطور الديني والسياسي والاجتماعي في القرنين الأول والثاني)) ومعلوم أن هذا زعم باطل تكذبه النصوص الثابتة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلا وقد وضع الأسس الكاملة لبنيان الإسلام الشامخ بما أنزل الله عليه في كتابه وبما سنه عليه الصلاة والسلام من سنن وشرائع وقوانين شاملة وافية، حتى قال صلى الله عليه وسلم قبيل وفاته "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي".(5/469)
ومن المعلوم أم من أواخر ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ..} وذلك صريح في كمال الإسلام وتمامه، فما توفي الرسول عليه إلا والإسلام ناضج كامل لا طفل يافع كما يدعي جولد تسيهر.. وتبع هذا المستشرق عدد من المستشرقين كشاخت وغيره، فأثاروا شبهات حول السنة تتعلق بالتشكيك في نسبة السنة للرسول صلى الله عليه وسلم وأنها من وضع الناس، وإن المحدثين وإن اعتنوا بالنقد الخارجي أي نقد السنة إلا أنهم لم يعتنوا بالنقد الداخلي أي نقد المتن، وإن كنا لا نعبأ بشبهات هؤلاء الكفرة وأضاليلهم المتهافتة لولا أن ناسا ممن يسمون أنفسهم علماء أو كتّابا إسلاميين تلقفوا كلام أولئك المستشرقين وصاروا يلوكونه ويلوحون به على شكل مقالات في الصحف أو أبحاث في طيات الكتب متظاهرين بالبحث العلمي والتجديد في البحث، وهم في الحقيقة إما جهلة أو مأجورون أخباث وإن كنت شخصيا أرجح الثانية… فمن هؤلاء ((أبو رية)) فقد نشر كتابا اسمه ((أضواء على السنة المحمدية)) وكل ما في هذا الكتاب تشكيك بالسنة وصحة نسبتها للرسول عليه السلام، وكله سباب وشتم وطعن في الصحابي الجليل راوية الإسلام ((أبي هريرة)) وذلك باستشهادات مبتورة محرّفة وتأويلات باطلة تروق له ولمن دفعه من المستشرقين، ولا أحب عرض أي شيء من كتابه هذا لتفاهة الكتاب وتفاهة مؤلفه وإن كان ردّ عليه كثير من العلماء في مصر وغيرها.. ومنهم أيضا أحمد أمين في كتابه ((ضحى الإسلام)) يقول في الجزء الثاني منه ص 130 ما يلي: ((وفي الحق أن المحدثين عنوا عناية كبيرة بالنقد الخارجي ولم يعنوا هذه العناية بالنقد الداخلي، فقد بلغوا الغاية في نقد الحديث من ناحية رواته جرحا وتعديلا، فنقدوا رواة الحديث في أنهم ثقات أو غير ثقات، وبينوا مقدار درجتهم في الثقة وبحثوا هل تلاقى الراوي والمروي عنه أو لم يتلاقيا، وقسموا الحديث باعتبار ذلك ونحوه(5/470)
إلى حديث صحيح وحسن وضعيف، وإلى مرسل ومنقطع، وإلى شاذ وغريب وغير ذلك، ثم قال: ولكنهم لم يتوسعوا كثيرا في النقد الداخلي فلم يتعرضوا لمتن الحديث هل ينطبق على الواقع أو لا؟ وقال أيضا: ((كذلك لم يتعرضوا كثيرا لبحث الأسباب السياسية التي قد تحمل على الوضع فلم أرهم شكوا كثيرا في أحاديث لأنها تدعم الدولة الأموية أو العباسية أو العلوية الخ ما قال… وتبعه على هذا الدكتور أحمد عبد المنعم البهي في مجلة العربي الصادرة بالكويت في نيسان 1966 العدد 89 ص 13 إذ يقول: إن رجال الحديث كان كل همهم منصرفا إلى تصحيح السند والرواية دون الاهتمام بتمحيص متن الحديث نفسه الذي هو النص.(5/471)
والحقيقة أن كلام هذين الشخصين كلام من لم يمارس فن المصطلح وعلومه أوفى ممارسة، فإن علماء المصطلح اعتنوا بنقد المتن كما اعتنوا بنقد السند تماما، فهذه الشروط التي وضعها علماء المصطلح للتصحيح فإن منها أن لا يكون الحديث شاذا ولا معللا، ثم يذكرون أن الشذوذ قسمان: شذوذ في المتن وشذوذ في السند، وكذلك يقولون أن العلة قد تكون في المتن كما تكون في السند… فلو كان أحمد أمين وأحمد عبد المنعم يحترمان نفسيهما لما قالا هذا القول الذي يدل على جهلهما بمبادئ علم المصطلح التي يتلقاها المبتدئون من طلبة العلم، لكن الكسب المادي الحرام وحب التظاهر والتقليد للمستشرقين والتظاهر أمام الناس بمعرفة شيء خفي بزعمهم على الأئمة هو الذي أوقعهما وأوقع غيرهما في مثل هذه الورطة… والشي الذي يلفت النظر أن مجلة العربي نشرت مرارا للدكتور أحمد عبد المنعم المذكور وغيره مقالات في الطعن بالسنة والحديث النبوي الشريف والتشكيك في نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أن الطعن نال الأحاديث التي جاءت في صحيح البخاري وذلك بأسلوب حقير واضح الحقارة ليس فيه أثر من علم ولا دين، وبشكل لا تحسد عليه مجلة العربي ولا تُشكر.. فيجب التنبه إلى تلك الأقلام الأثيمة في تلك المجلة والتنقيب عمن يكمن وراء تلك الحملات المغرضة على السنة وكتب الحديث الصحيحة … هذا جهد متواضع عرضته بإيجاز لضيق المقام وذلك تنبيها لشبابنا الصاعد من أن تقع في أيديهم تلك المقالات الأثيمة فيخدعوا بزخرفها وربما يداخلهم الشك في صحة نسبة السنة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالتالي إلى أنها لا تصلح لأن يحتج بها، وما أظن أني وفيت الموضوع حقه في هذه العجالة ولكن عسى الله أن ينفع بهذا التذكير البسيط شبابنا المؤمن والحمد لله رب العالمين.
--------------------------------------------------------------------------------(5/472)
[1] الرسالة للشافعي ص 406-407 طبعة مصطفى البابي الحلبي بتحقيق وشرح أحمد محمد شاكر.
[2] الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص 26.
[3] المصدر السابق ص 31.(5/473)
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب
لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
المدرس بالجامعة
سورة يس
قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن} الآية.
ظاهرها خصوص الإنذار بالمنتفعين به ونظيرها قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} وقد جاءت آيات أخر تدل على عموم الإنذار كقوله: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً} .
وقوله {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} ، وقوله: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} وقد قدمنا وجه الجمع بأن الإنذار في الحقيقة عام وإنما خص في بعض الآيات بالمؤمنين لبيان أنهم هم المنتفعون به دون غيرهم كما قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} .
وبين أن الإنذار وعدمه سواء بالنسبة إلى إيمان الأشقياء بقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} .
سورة الصافات
قوله تعالى: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} ، هذه الآية الكريمة فيها التصريح بنبذ يونس بالعراء عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد جاءت آية أخرى يتوهم منها خلاف ذلك وهي قوله: {لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ} الآية.
والجواب: أن الامتناع المدلول عليه بحرف الامتناع الذي هو لولا منصب على الجملة الحالية لا على جواب لولا.(5/474)
وتقرير المعنى: لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء في حال كونه مذموما لكنه تداركته نعمة ربه فنبذ بالعراء غير مذموم فهذه الحال عمدة لا فضلة، أو أن المراد بالفضلة ما ليس ركنا في الإسناد وإن توقفت صحة المعنى عليه ونظيرها قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} الآية لأن النفي فيهما منصب على الحال لا على ما قبلها.
سورة ص
قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْم} الآية، هذه الآية تدل بظاهرها على أن الخصم مفرد ولكن الضمائر بعده تدل على خلاف ذلك، والجواب أن الخصم في الأصل مصدر خصمه والعرب إذا نعتت بالمصدر أفردته وذكّرته، وعليه فالخصم يراد به الجماعة والواحد والاثنان ويجوز جمعه وتثنيته لتناسي أصله الذي هو المصدر وتنزيله منزلة الوصف.
قال ابن مالك:
ونعتوا بمصدر كثيرا
فالتزموا الإفراد والتذكيرا
سورة الزمر
قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} ظاهر في الإفراد، وقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} يدل على خلاف ذلك.
وقد قدمنا وجه الجمع محررا بشواهده في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} الآية.
قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية: هذه الآية الكريمة تدل على أمرين.
الأول: أن المسرفين ليس لهم أن يقنطوا من رحمة الله مع أنه جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} .(5/475)
والجواب أن الإسراف يكون بالكفر ويكون بارتكاب المعاصي دون الكفر فآية {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} في الإسراف الذي هو كفر وآية {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} في الإسراف بالمعاصي دون الكفر، ويجاب أيضا بأن آية {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} فيما إذا لم يتوبوا وأن قوله {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} فيما إذا تابوا.
والأمر الثاني: أنها دلت على غفران جميع الذنوب، مع أنه دلت آيات أخر على أن من الذنوب ما لا يغفر وهو الشرك بالله تعالى.
والجواب-أن الآية {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} مخصصة لهذه، وقال بعض العلماء هذه مقيدة بالتوبة بدليل قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} فإنه عطف على قوله {لا تقنطوا} ، وعليه فلا إشكال وهو اختيار ابن كثير.
سورة غافر
قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} هذه الآية الكريمة تدل على أن استغفار الملائكة لأهل الأرض خاص بالمؤمنين منهم، وقد جاءت آية أخرى يدل ظاهرها على خلاف ذلك وهي قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} الآية.
والجواب أن آية غافر مخصصة لآية الشورى، والمعنى ويستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين لوجوب تخصيص العام بالخاص.(5/476)
قوله تعالى: {وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} لا يخفى ما سبق إلى الذهن في هذه الآية من توهم المنافاة بين الشرط والجزاء في البعض لأن المناسب لاشتراط الصدق هو أن يصيبهم جميع الذين يعدهم لا بعضه مع أنه تعالى لم يقل وإن يك صادقا يصبكم كل الذي يعدكم، وأجيب عن هذا بأجوبة من أقربها عندي أن المراد بالبعض الذي يصيبهم هو البعض العاجل الذي هو عذاب الدنيا لأنهم أشد خوفا من العذاب العاجل، ولأنهم أقرب إلى التصديق بعذاب الدنيا منهم بعذاب الآخرة، ومنها أن المعنى: إن يك صادقا فلا أقل من أن يصيبكم بعض الذي يعدكم، وعلى هذا فالنكتة المبالغة في التحذير لأنه إذا حذرهم من إصابة البعض أفاد أنه مهلك مخوف فما بال الكل، وفيه إظهار لكمال الإنصاف وعدم التعصب ولذا قدم احتمال كونه كاذبا.
ومنها -أن لفظة- البعض يراد بها الكل وعليه فمعنى بعض الذي يعدكم كل الذي يعدكم ومن شواهد هذا في اللغة العربية قول الشاعر:
إن الأمور إذا الأحداث دبرها
دون الشيوخ ترى في بعضها خللا
يعني ترى فيها خللا.
وقول القطامي:
قد يدرك المتأني بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل
يعني قد يدرك المتأني حاجته.
وأما استدلال أبي عبيدة لهذا بقول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها
أو يعتلق بعض النفوس حمامها
فغلط منه لأن مراد لبيد ببعض النفوس نفسه كما بينته في رحلتي في الكلام على قوله {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} الآية.
سورة فصلت(5/477)
قوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْض} إلى قوله {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء} تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} في الكلام على قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} الآية.
قوله تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} .
لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من منافاة هذه الحال وصاحبها لأنها جمع مذكور عاقل وصاحبها ضمير تثنية لغير عاقل ولو طابقت صاحبها في التثنية حسب ما يسبق إلى الذهن لقال: أتينا طائعتين.
والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما - وهو الأظهر عندي - أن جمعه للسموات والأرض لأن السموات سبع والأرضين كذلك بدليل قوله {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} فالتثنية لفظية تحتها أربعة عشر فردا، وأما إتيان الجمع على صيغة جمع العقلاء فلأن العادة في اللغة العربية أنه إذا وصف غير العاقل بصفة تختص بالعاقل أجرى عليه حكمه ومنه قوله تعالى: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} لما كان السجود في الظاهر من خواص العقلاء أجرى حكمهم على الشمس والقمر والكواكب لوصفها به، ونظيره، قوله تعالى: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ، قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} .
فأجرى على الأصنام حكم العقلاء لتنزيل الكفار لها منزلتهم، ومن هذا المعنى قول قيس بن الملوح:
أسرب القطا هل من يعير جناحه
… البيت.
فإنه لما طلب الإعارة من القطا وهي من خواص العقلاء أجرى على القطا اللفظ المختص بالعقلاء لذلك، ووجه تذكير الجمع أن السموات والأرض تأنيثها غير حقيقي.(5/478)
الوجه الثاني: أن المعنى قالتا أتينا بمن فينا طائعين فيكون فيه تغليب العاقل على غيره والأول أظهر عندي والعلم عند الله تعالى.
سورة الشورى
قوله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيّ} الآية، هذه الآية الكريمة تدل على أن الكفار يوم القيامة ينظرون بعيون خفية ضعيفة النظر وقد جاءت آية أخرى يتوهم منها خلاف ذلك وهي قوله تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} .
والجواب هو ما ذكره صاحب الإتقان من أن المراد بحدة البصر العلم وقوة المعرفة، قال قطرب: فبصرك أي علمك ومعرفتك بها قوية من قولهم بصر بكذا أي علم وليس المراد رؤية العين، قال الفارسي ويدل على ذلك قوله {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} .
وقال بعض العلماء: فبصرك اليوم حديد أي تدرك به ما عميت عنه في دار الدنيا ويدل لهذا قوله تعالى: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا} الآية، وقوله: {وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} الآية، وقوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} .
ودلالة القرآن على هذا الوجه الأخير ظاهرة فلعله هو الأرجح وإن اقتصر صاحب الإتقان على الأول.
سورة الزخرف
قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} كلامهم هذا حق لأن كفرهم بمشيئة الله الكونية وقد صرح الله بأنهم كاذبون حيث قال: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} .
وقد قدمنا الجواب واضحا في سورة الأنعام في الكلام على قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْء} الآية.(5/479)
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} هذا العطف مع التنكير في هذه الآية يتوهم الجاهل منه تعدد الآلهة مع أن الآيات القرآنية مصرحة بأنه واحد كقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ} الآية.
والجواب- أن معنى الآية أنه تعالى هو معبود أهل السموات والأرض فقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ} أي معبود وحده في السماء كما أنه المعبود بالحق في الأرض سبحانه وتعالى.
سورة الدخان
قوله تعالى: {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} ، هذه الآية الكريمة يتوهم من ظاهرها ثبوت العزة والكرم لأهل النار مع أن الآيات القرآنية مصرحة بخلاف ذلك كقوله: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي صاغرين أذلاء.
وكقوله {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} ، وقوله هنا: {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} .
والجواب- أنها نزلت في أبي جهل لما قال: أيوعدني محمد صلى الله عليه وسلم وليس بين جبليها أعز ولا أكرم مني فلما عذبه الله بكفره قال له ذق إنك أنت العزيز الكريم في زعمك الكاذب بل أنت المهان الخسيس الحقير فهذا التقريع نوع من أنواع العذاب.
سورة الجاثية
قوله تعالى: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} لا يعارض قوله تعالى: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} ولا قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} وقد قدمنا الجواب واضحا في سورة الأعراف.
سورة الأحقاف(5/480)
قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} الآية، هذه الآية الكريمة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم مصير أمره وقد جاءت آية أخرى تدل أنه عالم بأن مصيره إلى الخير وهي قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} فإن قوله وما تأخر تنصيص على حسن العاقبة والخاتمة والجواب ظاهر وهو أن الله تعالى علمه ذلك بعد أن كان لا يعلمه.
ويستأنس له بقوله تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} الآية وقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً} الآية، وقوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} ، وقوله: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} الآية.
وهذا الجواب هو معنى قول ابن عباس وهو مراد عكرمة والحسن وقتادة بأنها منسوخة بقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ} الآية.
ويدل له أن الأحقاف مكية وسورة الفتح نزلت عام ست في رجوعه صلى الله عليه وسلم من الحديبية، وأجاب بعض العلماء بأن المراد ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا من الحوادث والوقائع وعليه فلا إشكال والعلم عند الله تعالى.(5/481)
قوله تعالى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} هذه الآية يفهم من ظاهرها أن جزاء المطيع من الجن غفران ذنوبه وإجارته من عذاب أليم لا دخوله الجنة، وقد تمسك جماعة من العلماء منهم الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى بظاهر هذه الآية فقالوا إن المؤمنين المطيعين من الجن لا يدخلون الجنة مع أنه جاء في آية أخرى ما يدل على أن مؤمنيهم في الجنة وهي قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} لأنه تعالى بين شموله للجن والإنس بقوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ويستأنس لهذا بقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} لأنه يشير إلى أن في الجنة جنا يطمثون النساء كالإنس والجواب عن هذا أن آية الأحقاف نص فيها على الغفران والإجارة من العذاب ولم يتعرض فيها لدخول الجنة بنفي ولا إثبات، وآية الرحمن نص فيها على دخولهم الجنة لأنه تعالى قال فيها: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} وقد تقرر في الأصول أن الموصولات من صيغ العموم فقوله لمن خاف يعم كل خائف مقام ربه ثم صرح بشمول ذلك للجن والإنس معا بقوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} فبين أن الوعد بالجنتين لمن خاف مقام ربه من آلائه أي نعمه على الإنس والجن فلا تعارض بين الآيتين لأن إحداهما بينت ما لم تتعرض له الأخرى ولو سلمنا أن قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} يفهم منه عدم دخولهم الجنة فإنه إنما يدل عليه بالمفهوم وقوله {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ، فبأي آلاء ربكما تكذبان} يدل على دخولهم الجنة بعموم المنطوق والمنطوق مقدم على المفهوم كما تقرر في الأصول ولا يخفى أنا إذا أردنا تحقيق هذا المفهوم المدعى وجدناه معدوما من أصله للإجماع على أن قسمة المفهوم ثنائية، إما(5/482)
أن يكون مفهوم موافقة أو مخالفة ولا ثالث، ولا يدخل هذا المفهوم المدعى في شيء من أقسام المفهومين أما عدم دخوله في مفهوم الموافقة بقسميه فواضح وأما عدم دخوله في شيء من أنواع مفهوم المخالفة فلأن عدم دخوله في مفهوم الحصر أو العلة أو الغاية أو العدد أو الصفة أو الظرف واضح فلم يبق من أنواع مفهوم المخالفة يتوهم دخوله فيه إلا مفهوم الشرط أو اللقب وليس داخلا في واحد منهما فظهر عدم دخوله فيه أصلا، أما وجه توهم دخوله في مفهوم الشرط فلأن قوله {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} فعل مضارع مجزوم بكونه جزاء الطلب وجمهور علماء العربية على أن الفعل إذا كان كذلك فهو مجزوم بشرط مقدر لا بالجملة قبله كما قيل به وعلى الصحيح الذي هو مذهب الجمهور فتقرير المعنى أجيبوا داعي الله وآمنوا به أن تفعلوا ذلك يغفر لكم فيتوهم في الآية مفهوم هذا الشرط المقدر، والجواب عن هذا أن مفهوم الشرط عند القائل به إنما هو في فعل الشرط لا في جزائه وهو معتبر هنا في فعل الشرط على عادته فمفهوم أن تجيبوا داعي الله وتؤمنوا به يغفر لكم أنهم إن لم يجيبوا داعي الله ولم يؤمنوا به لم يغفر لهم وهو كذلك، أما جزاء الشرط فلا مفهوم له لاحتمال أن تترتب على الشرط الواحد مشروطات كثيرة فيذكر بعضها جزاء له فلا يدل على نفي غيره كما لو قلت لشخص مثلا إن تسرق يجب عليك غرم ما سرقت فهذا الكلام حق ولا يدل على نفي غير الغرم كالقطع، لأن قطع اليد مرتب أيضا على السرقة كالغرم فكذلك الغفران والإجارة من العذاب ودخول الجنة كلها مرتبة على إجابة داعي الله والإيمان به فذكر في الآية بعضها وسكت فيها عن بعض ثم بين في موضع آخر وهذا لا إشكال فيه، وأما وجه توهم دخوله في مفهوم اللقب فلأن اللقب في اصطلاح الأصوليين هو ما لم يكن انتظام الكلام العربي دونه أعني المسند إليه سواء كان لقبا أو كنية أو اسما أو اسم جنس أو غير ذلك وقد أوضحنا اللقب غاية في المائدة.(5/483)
والجواب عن عدم دخوله في مفهوم اللقب أن الغفران والإجارة من العذاب المدعى بالفرض أنهما لقبان لجنس مصدريهما وأن تخصيصهما في الآية مسندان لا مسند إليهما بدليل أن المصدر فيهما كامن في الفعل ولا يسند إلى الفعل إجماعا ما لم يرد مجرد لفظه على سبيل الحكاية، ومفهوم اللقب عند القائل به إنما هو فيما إذا كان اللقب مسندا إليه لأن تخصيصه بالذكر عند القائل به يدل على اختصاص الحكم به دون غيره وإلا لما كان للتخصيص بالذكر فائدة كما عللوا به مفهوم الصفة، وأجيب من جهة الجمهور بأن اللقب ذكر ليمكن الحكم لا لتخصيصه بالحكم إذ لا يمكن الإسناد بدون مسند إليه ومما يوضح ذلك أن مفهوم الصفة الذي حمل عليه اللقب عند القائل به إنما هو في المسند إليه لا في المسند لأن المسند إليه هو الذي تراعى أفراده وصفاتها فيقصد بعضها بالذكر دون بعض فيختص الحكم بالمذكور.
أما المسند فإنه لا يراعى فيه شيء من الأفراد ولا الأوصاف أصلا وإنما يراعى فيه مجرد الماهية التي هي الحقيقة الذهنية فلو حكمت مثلا على الإنسان بأنه حيوان فإن المسند إليه الذي هو الإنسان في هذا المثال يقصد به جميع أفراده لأن كل فرد منها حيوان بخلاف المسند الذي هو الحيوان في هذا المثال فلا يقصد به إلا مطلق ماهيته وحقيقته الذهنية من غير مراعاة الأفراد، لأنه لو روعيت أفراده لاستلزم الحكم على الإنسان بأنه فرد آخر من أفراد الحيوان كالفرس مثلا والحكم بالمباين على المباين باطل إذا كان إيجابيا باتفاق العقلاء وعامة النظار على أن موضوع القضية إذا كانت غير طبيعية يراعى فيه ما يصدق عليه عنوانها من الأفراد باعتبار الوجود الخارجي إن كانت خارجية أو الذهني إن كانت حقيقية.(5/484)
وأما المحمول من حيث هو فلا تراعى فيه الأفراد البتة وإنما يراعى فيه مطلق الماهية ولو سلمنا تسليما جدليا أن مثل هذه الآية يدخل في مفهوم اللقب فجماهير العلماء على أن مفهوم اللقب لا عبرة به وربما كان اعتباره كفرا كما لو اعتبر معتبر مفهوم اللقب في قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} فقال يفهم من مفهوم لقبه أن غير محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن رسول الله فهذا كفر بإجماع المسلمين فالتحقيق أن اعتبار مفهوم اللقب لا دليل عليه شرعا ولا لغة ولا عقلا سواء كان اسم جنس أو اسم عين أو اسم جمع أو غير ذلك، فقولك جاء زيد لا يفهم منه عدم مجيء عمرو، وقولك رأيت أسدا لا يفهم منه عدم رؤيتك غير الأسد والقول بالفرق بين اسم الجنس فيعتبر واسم العين فلا يعتبر لا يظهر فلا عبرة بقول الصيرفي وأبي بكر الدقاق وغيرهما من الشافعية، ولا بقول ابن خويز منداد وابن القصار من المالكية ولا بقول بعض الحنابلة باعتبار مفهوم اللقب لأنه لا دليل على اعتباره عند القائل به إلا أنه يقول لو لم يكن اللقب مختصا بالحكم لما كان لتخصيصه بالذكر فائدة كما علل به مفهوم الصفة لأن الجمهور يقولون ذكر اللقب ليسند إليه وهو واضح لا إشكال فيه، وأشار صاحب مراقي السعود إلى تعريف اللقب بالاصطلاح الأصولي وأنه أضعف المفاهيم بقوله:
أضعفها اللقب وهو ما أبي
من دونه نظم الكلام العربي(5/485)
وحاصل فقه هذه المسألة أن الجن مكلفون على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بدلالة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين وأن كافرهم في النار بإجماع المسلمين وهو صريح، قوله تعالى: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} ، وقوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} ، وقوله تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ فِي النَّارِ} إلى غير ذلك من الآيات، وأن مؤمنيهم اختلف في دخولهم الجنة ومنشأ الخلاف الاختلاف في فهم الآيتين المذكورتين والظاهر دخولهم الجنة كم بينا والعلم عند الله تعالى.
سورة القتال
قوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} هذه الآية الكريمة تدل على تعدد الأنهار مع تعدد أنواعها، وقد جاءت آية أخرى يوهم ظاهرها أنه نهر واحد وهي قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} وقد تقدم الجمع واضحا في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنّ} الآية، وبينا أن قوله: {وَنَهَرٍ} يعني أنهار.
سورة الفتح(5/486)
أما دلالة الكتاب على هذا ففي قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} فصرح في هذه السورة الكريمة بأن تسبيحه بحمد ربه واستغفاره لربه شكرا على نعمة الفتح سبب لغفران ذنوبه لأنه رتب تسبيحه بحمده واستغفاره بالفاء على مجيء الفتح والنصر ترتيب المعلول على علته ثم بين أن ذلك الشكر سبب الغفران بقوله: {إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} .
وأما دلالة السنة ففي قوله صلى الله عليه وسلم لما قال له بعض أصحابه لا تجهد نفسك بالعمل فإن الله غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر " أفلا أكون عبدا شكورا؟ "فبين صلى الله عليه وسلم أن اجتهاده في العمل لشكر تلك النعمة وترتب الغفران على الاجتهاد في العمل لا خفاء به.
الوجه الثاني: إن قوله {إِنَّا فَتَحْنَا} يفهم منه بدلالة الالتزام الجهاد في سبيل الله لأنه السبب الأعظم في الفتح، والجهاد سبب لغفران الذنوب فيكون المعنى ليغفر لك الله بسبب جهادك المفهوم من ذكر الفتح، والعلم عند الله تعالى.(5/487)
رسالة المدرّس المثالي
بقلم الشيخ: محمد المهدي محمود علي
المدرس في دار الحديث بالمدينة التابعة للجامعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من اصطفاه الله رحمة للعالمين سيدنا محمد النبي الكريم وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
فإن الحديث عن رسالة المعلم المثالي جميل يقدر ما في رسالته من جمال وسمو، وجمال رسالة المعلم مستمد من شرف رسالته، إنها رسالة العلم والنور والسعادة، رسالة الهدي والخير والفلاح ولقد شرف الله سبحانه وتعالى تلك الرسالة العظيمة بقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} .
وقال جل شأنه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} ، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} ، وأمر الله عز وجل المصطفى صلى الله عليه وسلم بدعاء عظيم فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} .
وعلى ضوء هذا التوجيه الرباني دعا الهادي الأمين رسول الرحمة، ومعلم البشرية، ونبي الإنسانية المصطفى صلى الله عليه وسلم، دعا الناس إلى الحرص على التعليم وعلى العلم فقال صلوات الله وسلامه عليه: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"، وقال أيضا: "ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة "، وقال: " من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع " وقال صلوات الله وسلامه عليه: "لن يشبع مؤمن من خير يكون منتهاه الجنة ".
هذه الآيات الكريمة وهذه الأحاديث الشريفة قرأها المدرس المثالي وفهمها ووعاها، إن الله سبحانه وتعالى كرّم العلم والعلماء، وإن المصطفى صلى الله عليه وسلم توج هاتيك الرسالة بما يخلد شرفها، فقال صلوات الله وسلامه عليه: "إنما بعثت معلما".(5/488)
ومن ثنايا هذه المعاني السامية عرف المعلم والمدرس المثالي أنه صاحب رسالة عظيمة بناء عن الدور العظيم الذي يقوم به ويؤديه، إنه يشعر بأنه يؤدي رسالة كريمة، وهذا الشعور منبعث من شرف الرسالة نفسها: إنها رسالة أداء الأمانة أمانة العلم، ثم هي بعد ذلك أمانة تكوين الشباب، وتثقيفهم وتهذيبهم وتربيتهم تربية تعتمد عليها أمة تريد أن تحيا عزيزة كريمة، وهل تحيا الأمة وتنهض إلا بشبابها العامل الناهض المتوثب الطموح إلى المعاني، والعز، والسؤدد.
هذه الرسالة العظيمة بطلها المدرس المثالي، هذه الأمنية المنشودة بطلها المعلم الفاضل، إذًا فنحن الآن نريد أن نلقي بعض الضوء على هذا البطل العظيم وعن هذا المكافح من أجل نهضة الشباب عماد الأمة وثروتها ومجدها، إننا نراه يرسم صورة كريمة ومثلا أعلى يقتدى به، نراه مثاليا في اتجاهه نحو تحقيق رسالة على خير الوجوه وأكملها، تتجلى هذه الصورة الكريمة فيما يلي:
أولا: نظرته إلى المدرسة.
ثانيا: معاملته مع إدارة المدرسة.
ثالثا: سلوكه مع الزملاء.
ثم بعد ذلك الناحية العلمية وتشمل على:
أ- قوة المادة.
ب- طريقة التدريس:
1- ما أجمل نظرته إلى المدرسة إنه ينظر إلى مدرسته على أنها محراب مقدس محراب العلم والمعرفة، إنها بستان وارف الظلال طيب الثمار، إنها جنة مباركة ثمارها العلم والعرفان، والنور والإيمان، والروح والريحان، فسعد بمدرسته وسعدت به مدرسته.(5/489)
2- وما أسمى معاملته مع إدارة المدرسة ومع المربي الجليل مدير المدرسة إنه يتعاون مع الهيئة المشرفة على الإدارة والتوجيه تعاونا بناء في محبة، وعن فن وخبرة، يقدم المعونة في تواضع، والمشورة في احترام، والرأي قي أدب جم، ينم عن خلق أصيل، وأصل عريق، وبيئة كريمة، وصفات عالية نبيلة، ونفسية مهذبة، وعقلية راجحة، وثقافة ممتازة، ولذا كان محل تقدير وإجلال واحترام من الهيئة المشرفة على الإدارة، ومحل ثقة وإعجاب، وزمالة نبيلة من المربي الجليل مدير المدرسة.
3- ما أسعد الزملاء بهذا الأخ الكريم الذي تتجلى فيه صفات الأخوة الحقة إنه يعامل الزملاء في عطف ومحبة إنه يعرف معنى الزمالة النبيلة، يحترم الكبير، ويعطف على الصغير، إنها زمالة في روضة العلم، في محرابه المقدس.
إن الجميع ينظر إليه نظرة محبة وتقدير، لما يتصف به من مكارم الأخلاق العالية، إنه يدخل المدرسة فيصافح الجميع هاشا باشا في أدب مستفسرا عن إخوانه وزملائه، يريد أن يطمئن على جميع أسرة المدرسة ثم هو على درجة كبيرة من العلم والحكمة، لذا كان مرجعا وافيا لزملائه، يستشيرونه في حل المسائل العلمية، فيجدونه البحر الزاخر الوافي فيتلفظ بالدر والجواهر يتحدث في أدب وحكمة، بأسلوب سهل جميل ممتع، يبحث، ويحقق، ويتجاذب أطراف الحديث حتى يظهر الحقيقة في جمالها ورونقها، وبهجتها وصفائها، ثم هو يشعر السائل والمستفتي بالاحترام والتقدير، والإجلال والإعجاب، فأنس به الجميع واطمأنوا إلى علمه الذي يقدمه في حلاوة وطلاوة فيثمر الثمرة المرجوة من الإجابة والإفادة والاستفادة، تلك هي نفحة من رسالة المدرس المثالي أو هي شقة من رحيق رسالته السامية تفرعت من ثلاثة أغصان اقتطفناها من:
أولا: نظرة المدرس للمدرسة.
ثانيا: سلوكه وتعاونه القلبي مع إدارة المدرسة ومع المربي الجليل مدير المدرسة.(5/490)
ثالثا: أدبه وخلقه مع إخوانه وزملائه أعضاء هيئة التدريس والسادة المربين.
ونتحدث الآن عن الناحية العلمية في شخصية المدرس المثالي، لقد شب وترعرع منذ نشأته محبا للعلم، والاستفادة، والتزود من ثمار إنتاج العلماء المفكرين، يحرص على الاطلاع، ويدأب على القراءة، ويواظب على ارتشاف رحيق العلم والمعرفة متحليا بالأخلاق العالية، الأخلاق الإسلامية التي تجعل من الإنسان إنسانا حقا بمعنى الكلمة، ترى فيه الصفاء والخير فنال الشهادات النهائية بتفوق وجدارة واستحقاق، وحينما نال شرف الانتماء إلى الأسرة العلمية أسرة التوجيه والإرشاد أسرة المدرسين والمربين ضاعف من جده واجتهاده في الارتشاف من رحيق العلم واقتطاف ثماره الطيبة المباركة إنه يحرص كل الحرص على أن يكون قويا في علومه ممتازا في مادته، موضع تقدير رؤسائه وثقة مفتشيه، وإجلالهم ومحبتهم، إنه يريد أن يعطي العلم حقه رغبة في رضاء الله وعشما في أن يؤدي رسالته على خير ما يحبه الله ويرضاه كي يفوز بالسعادة في دنياه وأخراه.
إن المدرس المثالي يحرص كل الحرص على أن تكون له مكتبة يعتز بها ويحرص على تنميتها، ويتفنن في تنسيقها وترتيبها وتبويبها وفهرستها على أحدث النظم وأجملها وأبدعها، تشتمل هذه المكتبة على العلوم عامة وعلى كتب المادة التي يسعد بتدريسها خاصة، وتضم هذه المكتبة في مقدمتها مصحفا كريما وبعض كتب التفسير وكتب السنة النبوية المطهرة والسيرة النبوية وتاريخ أصحاب رسل الله صلى الله عليه وسلم وتاريخ رجال الإسلام في عصوره المختلفة وكتب اللغة العربية بفنونها المتعددة ومن الكتب التي أنصح كل مسلم بقراءتها والحرص عليها:(5/491)
أولا- كتاب تفسير ابن كثير وهو تفسير سلفي سهل جميل، وكتب السنة أيضا كلها مباركة وفي مقدمتها موطأ الإمام مالك رضي الله عنه وجزاه الله خير الجزاء وصحيح البخاري رضي الله عنه وشرح صحيح مسلم للإمام النووي رضي الله عنه وعن الجميع وهناك كتاب سهل جميل ومبارك أنصح كل مسلم بقراءته وهو كتاب رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو كتاب عظيم الفائدة جمعه الشيخ النووي رضي الله عنه، هذا الإمام الذي ضرب مثلا عاليا في الورع والجد، والاجتهاد في العلم، ونصيحة الملوك، لا يخشى في الله لومة لائم وقد كان رحمه الله حجة في الحديث والفقه واللغة، وودع الدنيا عن خمس وأربعين سنة وترك مؤلفات ضخمة انتفع بها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها وفي ومقدمتها شرح صحيح مسلم وكتب الفقه في مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، ومن الكتب العظيمة النفع أيضا كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد المصطفى صلى الله عليه وسلم وكتاب الشمائل للترمذي تحدث فيه عن شمائل النبي صلوات الله وسلامه عليه، وأما كتب اللغة العربية فلا بد للمدرس أن يطلع على الكتب القديمة والكتب الحديثة وبذلك يجمع بين قوة المادة الموجودة في الكتب المؤلفة قديما، وبين سهولة عرض المادة الموجودة في الكتب الحديثة، ولا تغني إحداهما عن الأخرى.
إن الحديث عن الناحية العلمية في شخصية المدرس المثالي حديث مثمر جميل وحسبنا أننا اقتطفنا زهرة من تلك الروضة الباسمة اليانعة، وننتقل إلى الحديث عن طريقة التدريس وعرض آثاره العلمية للطلاب –هناك طرق كثيرة للتدريس وعرض المادة وقد تكلم العلماء قديما وحديثا في مجالات كثيرة في علوم التربية وطرق التدريس وعلم النفس ونحن الآن لا نتعرض لمسائل فنية تحتاج إلى كثير من الوقت ولكننا سننظر إلى الثمرة فحسب.(5/492)
إن إخلاص المدرس وحرصه على تفهيم الطلاب وتثقيفهم يدفعه لاختيار أحب الطرق في إلقاء دروسه فمن ذلك ما نراه من حرص المدرس على أن يضع المادة دائما في صورة جميلة جذابة إنه تارة يسلك الطريقة الاستنباطية بأن يسير مع التلاميذ خطوة خطوة حتى يستنبط القواعد، وتارة أخرى يحاول أن يستنتج من نفس الأمثلة والشواهد، ولا بد للمدرس أن يستعمل السبورة في تفهيم التلاميذ وأن يضع المعلومات في جداول، وأن يكتب الأمثلة وأمامها القاعدة ويوجه أنظار التلاميذ للاستنباط والاستنتاج، والمدرس بحسب تجاربه وإخلاصه للعمل يعرف كيف يوصل المعلومات لأذهان التلاميذ ولنا كلمة مع أساتذة اللغة العربية ذلك أننا يجب أن نحرص على ضرب الأمثلة الحديثة وفي نفس الوقت تربي وتغرس الأخلاق الجميلة وفي مادتي الإملاء والإنشاء نستطيع أن نعطي الطلاب موضوعات مناسبة تساعدنا على أهدافنا في تربية الشباب وصقل نفوسهم وتهذيبهم، فمثلا يضع المدرس في مادة الإملاء موضوعات بالعناوين الآتية:
القرآن الكريم نور من الله- عطف الرسول صلى الله عليه وسلم وبره بالفقراء – عدالة عمر بن الخطاب – زهد عمر بن عبد العزيز – ورع الإمام أحمد بن حنبل.
ومن الموضوعات الخلقية أيضا الموضوعات الآتية:
مضار التدخين ويقول في هذا الموضوع مثلا: انتشرت في بعض الأوساط عادة مرذولة وبدعة قبيحة مذمومة هي عادة شرب الدخان، هي عادة نقلها بعض الناس عن الأجانب والكفار، وقد ثبت طبيا أن شرب الدخان يؤثر على الجسم عامة، ويسبب له الضعف وقد قامت المعامل الحديثة العلمية بإجراء تجارب هامة على شاربي الدخان فوجد أنه يسبب سرطان الرئة، وتصلب الشرايين وهبوط القلب.
فاحذر أيها الشاب الناشئ أن تقترب من هذه العادة القذرة التي ينبو عنها أولوا العقول السليمة والأفئدة المستنيرة وحافظ على صحتك ومستقبلك وابتعد عن هذا العمل الذي يجلب لك الضعف، والفقر، والذل، والهوان.(5/493)
وفي مادة الإنشاء مثلا يلقي عليهم هذا الموضوع:
((طالب ناجح يتحدث عما قام به من أعمال))
كنت أقوم من نومي مبكرا، وأحرص على صلاة الفجر أداء لفرض الله، وشكرا للمنعم جل وعلا ثم أستذكر الدروس بعض الوقت ثم أتناول طعام إفطاري ثم أذهب إلى المدرسة وأحرص كل الحرص على الإصغاء التام لشرح المدرس وأطيع أوامر أستاذي وأعامل زملائي في المدرسة معاملة كريمة إنني أحرص على مصادقة الزملاء الممتازين علما وخلقا وإذا عدت إلى المنزل أطيع أوامر والديّ وأحرص على استذكار الدروس.
وهكذا نرى المدرس المخلص يؤدي رسالته في إخلاص وجد وكفاح وإنتاج، والمدرسون عامة وأساتذة التربية الدينية خاصة لهم دور خطير في هذه الأيام بالنسبة لسريان موجات عنيفة من التحلل الخلقي والمبادئ الهدامة البعيدة عن الدين وعن مكارم الأخلاق _التي تنتشر عن طريق بعض أجهزة الإعلام عن طريق بعض الروايات التمثيلية الأجنبية الفاجرة والإذاعات المنحلة والصحف الخليعة والثقافات التافهة_ والمدرس المثالي والمربي الجليل يضرب لأبنائه مثلا أعلى في الأخلاق بسلوكه وحسن أدبه فهو قدوة حسنة أمام أبنائه، يجيب الطلاب في استذكار القرآن الكريم ويغرس فيهم العقيدة السليمة والمبادئ الحسنة والأخلاق الإسلامية يبصرهم بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ويشوقهم لدراسة حياة عظماء الإسلام.
إن المعلم الفاضل يلقن أبناءه هذه الحكمة الغالية الثمينة:(5/494)
إذا أردت أن تكون عظيما فاقرأ سير عظماء الرجال وابدأ بسير عظماء الإسلام وسترى عظمة الأخلاق في نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم وأصحابه الغر الميامين، إن المثل العليا في حياة الشباب لها دور عظيم في تربية الشباب وتقويمهم وسلوكهم الطريق المستقيم، والنشاط الثقافي مجال عظيم للمدرسين أصحاب الهمم العالية والقيم الخلقية، فينبغي أن تنتفع بميول الطلاب ونشاطهم وتفسح لهم المجال في الانضمام إلى لجان النشاط كل بحسب رغبته وميوله فمثلا تكون هناك لجان كثيرة منها:
لجنة الخطابة والمحاضرات _ الصحافة _ التاريخ وأبطال الإسلام _ الرحلات _النشاط المكتبي – تأليف الرسائل عن أبطال الإسلام.
وأما النشاط الرياضي فنحرص كل الحرص على ما يوافق طبيعة البلاد وما هي في حاجة إليه فمثلا نظام الكشافة وركوب الدرجات والسيارات، وذلك بالنسبة للرحلات إلى الأماكن التاريخية وخدمة ضيوف الرحمن حجاج بيت الله الحرام _ ثم المشروعات التي يقوم بها الطلاب كمشروع تشجير المدرسة وبعض الصناعات الزراعية مثل تقطير الزهور المأخوذة من المدرسة وبذلك يتكون الطالب العصامي الذي ينجح في الحياة ولا يكون عبئا ثقيلا على أسرته وعندما يرتفع صوت المؤذن، منادي السماء الله أكبر، الله أكبر… يسارع الجميع للصلاة يتقدمهم الأساتذة الفضلاء وبذلك تكون المدرسة مركز إشعاع للعلم والخير والبناء، وتسير كما تسير السفينة إلى شاطئ النجاة وفي مقدمتها القائد والمساعدون والجند ففي مقدمتها المدير والمدرسون والطلاب، بسم الله مجريها ومرساها إلى الروضة الوارفة الظلال، الطيبة الثمار، هذه الروضة التي نصل إليها الآن إنما هي إيجاد مجتمع سعيد بأفراده الذين تخرجوا على يد المدرس المثالي المدرس صاحب الرسالة السامية.(5/495)
أما بعد: فمن هذا الإنسان الذي يسعى ليلا ونهارا ليغرس الفضائل في شباب الجيل، يسعى كما يسعى النحل إلى الزهور الجميلة، يقتطف منها ليحولها إلى الشهد المصفى، كي يكون شفاء للأجسام والأرواح والنفوس.
إنه عظيم في رسالته، نبيل في أدبه، عظيم في علمه وخلقه، إنه المدرس المثالي الذي ننشده ليعمل في بلاد مباركة لكي ينشر العلم والنور في بلاد شع منها العلم والنور في البلاد المقدسة المباركة منبع الهدى والفرقان ومطلع البدر المشرق والسراج المنير المصطفى صلى الله عليه وسلم…(5/496)
مرض الأميبا
للدكتور أحمد سليمان
يصيب طفيلي الأميبا الأمعاء الغليظة في أجزائه المختلفة محدثا قروحا حادة أو مزمنة وقد يتسرب الطفيلي إلى الكبد مسببا خراجا أميبيا.
ويوجد طفيلي الأميبا في أحد طورين:
الطور المتحرك:
وهو ذو خلية واحدة ذات نواة واحدة وهو يغزو الأحشاء الداخلية عند وجود عدوى ميكروبية ثانوية بالأمعاء لتساعده على اختراق الغشاء المخاطي المبطن لجدران الأمعاء الغليظة.
وهذا الطور يؤذي صاحبه ولا يعدي مريضا آخر وذلك لسرعة تأثره بحامض المعدة.
الطور المتكيس:
خلية ذات نوايا متعددة لا تزيد عن أربع نوايات وليست لدى الطور المتكيس قابلية غزو الأحشاء الداخلية، ولكنه يعدي لعدم تأثره بالعصارة المعدية الحامضية حتى تصل إلى الأمعاء الغليظة حيث تخرج الأميبا المتحركة من أكياسها وتهاجم الأغشية المخاطية للأمعاء في وجود البكتيريا محدثة فيها قروحا ويزيد المرض شدة في حالات نقص التغذية.
حوامل الأكياس: قد يحمل حوالي 50% من بعض مناطق سكان إفريقيا وآسيا (حسب المستوى الصحي لكل منطقة) أكياس الأميبا بدون ظهور أعراض مرضية عليهم، وقد تظهر بعض الأعراض البسيطة الغامضة في بعض الحالات مثل الانتفاخ أو الإمساك أو عدم انتظام التبرز مع هبوط وزن المريض وبعض الآلام الروماتزمية والاضطرابات النفسية ويزيد ذلك أثناء التعرض للنزلات البردية أو أثناء الحمل أو الطمث أو عقب المأكولات الدسمة والنشوية مما قد ينسب خطأ لمثل هذه الظروف الطارئة ولذلك يجب علاج هذه الحالات علاجا حاسما ليس لوقاية المحيطين بهم فحسب وإنما لوقايتهم من مضاعفات ذلك المرض الخبيث.
(الدوسنطاريا)
الزحار الأميبي الحاد:(5/497)
يتميز بوجود زحار (تعينة) مع إسهال ووجود دم وصديد بالبراز وهذا يكون خطرا عند وجود أعراض سوء تغذية أو حالات الإصابة بالبول السكري أو في حالات الشيخوخة.
الدوسنطاريا الأميبية المزمنة:
تكثر في المناطق الشديدة العدوى نتيجة لعدم علاج الحالات الحادة علاجا حاسما سريعا، وأعراضه فترات إسهال يعقبها فترات إمساك مع اضطرابات معدية وانتفاخ بالبطن وعدم انتظام عملية التبرز ويسهل تشخيص هذه الحالات بتحليل البراز وكثيرا ما تجد الأميبا في الزائدة الدودية مكانا هادئا لتكاثرها فتسبب التهابا في الزائدة وعلاج هذه الحالة طبيا وليس جراحيا.
خراج الكبد والرئة:
وقد يصل أيضا إلى المخ والطحال والمبايض وغيرها مسببة خراجات في هذه الأعضاء..
الوقاية والعلاج:
1_ وقاية مياه الشرب من التلوث بفضلات الإنسان.
2_ وقاية المأكولات من الذباب وعدم السماح للأشخاص حوامل الأكياس بالعمل في المطاعم.
3_ تطهير الخضروات قبل أكلها بوضعها في الخل أو عصير الليمون ربع ساعة أو وضعها في ماء مغلي لدقائق قليلة.
4_ تحاشي المثلجات المحضرة خارج المنزل.
5_ غلي الماء قبل شربه في المناطق الموبوءة.
6_ العمل على وقاية المطابخ وغرف الطعام من الذباب وسائر الحشرات.
7_ علاج الحالات الحادة علاجا حاسما.
8_ الدعاية والثقافة الصحية اللازمة ضد هذا المرض وتعريف الجمهور بمواطن العدوى وطرق المقاومة.
9_ استعمال مركبات الأمتين والكينولين (أنتروفيوفورم) والفلاجيل بإشراف الطبيب.(5/498)
أخبار الجامعة
قام وفد من طلاب الجامعة الإسلامية بالمدينة برئاسة المشرف الاجتماعي الشيخ عبد الله قادري بزيارة لمعهد إعداد المعلمين بالمدينة، وكان في استقبالهم رئيس الكشافة الذي قدمهم بدوره لمدير المعهد، وقد جرى البحث في عدة مواضيع، وقد زار الوفد المعامل والنوادي وشاهد أنواع النشاطات المختلفة، وبعد صلاة العشاء من ذلك اليوم عقدت ندوة حضرها مدير المعهد والمشرف الاجتماعي بالمعهد بحضور المشرف الاجتماعي للجامعة، وقد استمرت إلى ما بعد الساعة الرابعة ليلا.
بعد موافقة رئاسة الجامعة الإسلامية على القيام برحلة تضم مجموعة من الطلاب من شتى البلدان لأداء مناسك الحج للمشاركة في الدعوة والإرشاد وتوجيه الحجاج يرافقهم بعض مشايخ الجامعة، كلفت الجامعة المشرف الاجتماعي الشيخ عبد الله أحمد قادري على أن يقوم بالإعداد لهذه الرحلة واختيار الطلاب الذين سيشاركون فيها وقد شكلت لجنة لهذا الغرض مكونة من:
1_ الأمين العام المساعد
رئيسا
2_ عميد كلية الشريعة
عضوا
3_ عميد كلية الدعوة وأصول الدين
عضوا
4_ المشرف الاجتماعي
عضوا
وقد انهال عدد كبير من الطلاب للمشاركة في هذه الرحلة، واختير منهم 45 طالبا، وبعد الوقوف بعرفات أقيم المخيام بمنى وشارك كبار الأساتذة بالجامعة لإلقاء المحاضرات والفتاوى والإرشادات وعلى رأسهم سماحة رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن باز.
أدرك سماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز أنه من الضروري الاجتماع بطلاب الجامعة اجتماعا عاديا لا تكلف فيه، وقد أوعز إلى المشرف الاجتماعي الشيخ عبد الله القادري بترتيب ذلك.(5/499)
وقد تم اللقاء الأول بين سماحته وطلاب بعثة جمهورية اليمن، ألقى سماحته فيهم كلمة مناسبة، ثم تناقش معهم في كافة المواضيع المتعلقة بهم في جو تسوده المحبة والإخاء لا تكلف فيه، وهكذا تمت اللقاءات الخيرة بجميع طلاب الجامعة على فترات.
المشرف الاجتماعي الأستاذ عبد الله القادري يقوم بإحياء الندوات الثقافية واللقاءات المثمرة بين طلاب الساكنين في الجامعة البالغ عددهم حوالي 600 طالب، وتتلخص الندوات فيما يلي:
1_ كلمة من المشرف مناسبة للموضوع.
2_ كلمة من الطلاب يلقيها طالب مختار.
3_ مناقشات ومحاورات أدبية.
4_ نوادر وفكاهات.
5_ ألعاب رياضية.
6_ حل مشاكل الطلاب وما يلاقونه.
وقد لوحظ بعد هذه اللقاءات تواد الطلبة وتراحمهم، وتعاطفهم فيما بينهم كأنهم جسد واحد.(5/500)
من تاريخ الحروب الصليبية
يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين
إعداد العلاقات العامة
كتب متولي عكا من جهة السلطان صلاح الدين وهو الأمير بهاء الدين قراقوش في العشر الأول من شعبان إلى السلطان أنه لم يبق عندهم في المدينة من الأقوات إلا ما يبلغهم إلى ليلة النصف من شعبان فلما وصل الكتاب إلى السلطان أسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم خوفا من إشاعة ذلك فيبلغ العدو فيقدموا على المسلمين وتضعف القلوب.(6/1)
وكان قد كتب إلى أمير الأسطول بالديار المصرية أن يقوم بالميرة إلى عكا فتأخر سيره، ثم وصلت ثلاث بطش ليلة النصف فيها من الميرة ما يكفي أهل البلد طول الشتاء وهي صحبة الحاجب لؤلؤ فلما أشرفت على البلد نهض إليها أسطول الفرنج ليحول بينها وبين البلد ويتلف ما فيها فاقتتلوا في البحر قتالا شديدا، والمسلمون في البر يبتهلون إلى الله عز وجل في سلامتها والفرنج أيضا برا وبحرا وقد ارتفع الضجيج فنصر الله المسلمين وسلم مراكبهم وطابت الريح للبطش فسارت فأحرقت المراكب الفرنجية المحيطة بالميناء ودخلت البلد سالمة ففرح بها أهل البلد والجيش فرحا شديدا، وكان السلطان قد جهز قبل هذه البطش الثلاث بطشة كبيرة من بيروت فيها أربعمائة غرارة وفيها من الجبن والشحم والقديد والنشاب والنفط شيء كثير وكانت هذه البطشة من بطش الفرنج المغنومة، رأى من فيها من التجار أن يلبسوا زي الفرنج حتى أنهم حلقوا لحاهم وشدوا الزنانير واستصحبوا في البطشة معهم شيئا من الخنازير وقدموا بها على مراكب الفرنج فاعتقدوا أنهم منهم وهي سائرة كأنها السهم إذا خرج من كبد القوس فحذرهم الفرنج غائلة الميناء من ناحية البلد فاعتذروا بأنهم مغلوبون عنها، ولا يمكنهم حبسها من قوة الريح وما زالوا كذلك حتى ولجوا الميناء فأفرغوا ما كان معهم من الميرة، والحرب خدعة فعبرت الميناء فامتلأ الثغر بها خيرا فكفتهم إلى أن قدمت عليهم تلك البطش الثلاث المصرية وكانت البلد يكتنفها برجان يقال لأحدهما برج الديان فاتخذت الفرنج بطشة عظيمة لها خرطوم وفيه محركات إذا أرادوا أن يضعوه على شيء من الأسوار والأبرجة قلبوه فوصل إلى ما أرادوا فعظم أمر هذه البطشة على المسلمين ولم يزالوا في أمرها محتالين، حتى أرسل الله عليها شواظا من نار فأحرقها وأغرقها وذلك أن الفرنج أعدوا فيها نفطا كثيرا وحطبا جزلا، وأخرى خلفها فيها حطب محض فلما أراد المسلمون المحافظة على الميناء أرسلوا النفط على(6/2)
بطشة الحطب فاحترقت وهي سائرة بين بطش المسلمين واحترقت الأخرى وكان في بطشة أخرى لهم مقاتلة تحت قبو قد أحكموه فيها فلما أرسلوا النفط على برج الديان انعكس الأمر عليهم بقدرة الله تعالى وذلك لشدة الهواء تلك الليلة فما تعدت النار بطشتهم فاحترقت وتعدى الحريق إلى الأخرى فغرقت، ووصل إلى بطشة المقاتلة فتلفت، وهلك من فيها فأشبهوا من سلف من أهل الكتاب من الكافرين في قوله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} .
البداية ج11 ص 337(6/3)
من تاريخ الدعوة السلفية
الشيخ عبد الحميد بن باديس
قائد الحركة الإصلاحية في الجزائر
بقلم الشيخ محمد شريف الزيبق
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
أدرك ابن باديس رحمه الله ما آلت إليه بلاده تحت وطأة القوانين الفرنسية المخصوصة الاستثنائية التي تحرم المواطنين الجزائريين من كافة الحريات، من الكتابة والاجتماع والسفر والانتقال من بلد إلى بلد داخل الجزائر نفسها، فلا يسافر أحد منهم إلا بإذن من الشرطة الفرنسية، يبين فيه الجهة التي يقصدها والمدة التي يمكنه التغيب فيها عن قريته أو مدينته، وعليه أن يتوجه لمركز الشرطة بمجرد وصوله، وكانت السلطات الاستعمارية الفرنسية تحرم على الجزائريين مطالعة الكتب وافتتاح المدارس، محاولة بذلك القضاء على الكيان الجزائري بالعمل على إفقار الأهالي وتركهم فريسة الجهل.
وقامت في الوقت ذاته بفتح بعض المدارس الفرنسية، وشجعت المبشرين على بذل كل ما يستطيعون لتنصير الجزائريين، ولم تترك لهم من الحرية إلا أن يموتوا جوعا كما يقول المستشرق المنصف جوستاف لوبون [1] .
وكان الجنرال بيجو أحد القواد الفرنسيين المستعمرين يجمع اليتامى من أطفال الجزائر ويأتي بهم إلى الكردينال (لافيجري) ويقول له: حاول أن تجعل هؤلاء الأطفال مسيحيين، وإذا فعلت ذلك فلن يعودوا إلى دينهم ليطلقوا علينا النار، وكان لافيجري يقول: علينا ان نجعل من الأرض الجزائرية مهدا لدولة مسيحية تضاء أرجاؤها بنور الإنجيل.. تلك هي رسالتنا.
وقد حرصت فرنسا على تشييد الكنائس الضخمة في كثير من المدن الجزائرية، وحولت بعض المساجد إلى كنائس أو دمرتها.(6/4)
ولكن آمال المستعمرين خابت، فقد قام الكردينال لافيجري بتربية نحو أربعة آلاف طفل من أيتام الجزائريين على المسيحية، ووضعهم في محيط قطع فيه جميع علاقاتهم مع المسلمين، ولكنهم عندما بلغوا سن الرشد عادوا إلى الإسلام دين آبائهم إلا النادر منهم [2] .
في هذه الظروف القاسية وفي أشد أدوار محنة الجزائر بالاستعمار، ظهر عبد الحميد بن باديس فقاد أعظم نهضة إسلامية إصلاحية، وسدد الله عز وجل خطاه فكان قائد الشعب الجزائري المسلم إلى التحرر من الجهل والخرافة والاستعمار.
نشأة ابن باديس:
ولد عبد الحميد بن محمد المصطفى بن مكي بن باديس في غرة ربيع الثاني سنة 1308 بمدينة قسنطينة كبرى المدائن في شرق الجزائر، من أسرة معروفة بالعلم والفضل وسعة الجاه، ويتصل نسبه بالمعز بن باديس الصنهاجي مؤسس دولة صنهاجة التي خلفت دولة الأغالبة في القيروان، وكان عبد الحميد الابن البكر لوالديه، فعنيا بتربيته وتثقيفه على يد أفاضل المربين، وحفظ القرآن الكريم وهو في الثالثة عشرة من عمره، ولفت أنظار مؤدبيه، وخاصة الشيخ محمد المداسي الذي طلب إليه أن يؤم المصلين في صلاة التراويح خلال شهر رمضان في الجامع الكبير بقسنطينة.
وكان أبرز أساتذته في هذا الدور الشيخ حمدان الونيسي الذي تلقى عليه العربية وعلوم الشريعة بجامع سيدي محمد النجار، وقد أخذ عليه شيخه الونيسي عهدا ألا يعمل موظفا في الحكومة.
وفي عام 1323 ارتحل ابن باديس إلى تونس والتحق بجامع الزيتونة، وكان من أبرز شيوخه في الزيتونة الشيخ محمد النخلي والشيخ محمد الطاهر عاشور، وبعد عامين من الدراسة كلف التدريس في الزيتونة فكان مع طلبه العلم يقوم بالتدريس على حسب العادة فيها، حتى نال شهادة التطويع (العالمية) من جامع الزيتونة.
رحلته إلى المشرق:(6/5)
وفي عام 1330 عزم على الرحلة إلى بلاد الحجاز لأدار فريضة الحج، وفي المدينة المنورة لقي شيخه حمدان الونيسي الذي كان قد هاجر إليها، وقد ألقى بعض الدروس في المسجد النبوي، والتقى بأحد علماء الهند الشيخ حسين أحمد وتلقى عليه بعض العلوم، وكان الشيخ الونيسي قد طلب من ابن باديس الإقامة معه بالمدينة، ولكن الشيخ حسين أحمد أشار عليه بالعودة إلى الجزائر والقيام بنشر العلم في ربوعها، وممن التقى بهم في المدينة الشيخ البشير الإبراهيمي الجزائري الذي تبادل معه البحث في أحوال الجزائر وحاجتها إلى الإصلاح، وقد أصبح فيما بعد زميلا له في عمله في جمعية العلماء الجزائريين.
وبعد أن أمضى ابن باديس نحو عامين في الحجاز توجه نحو بلاد الشام، فزار بيت المقدس ودمشق وغيرهما من المدن الشامية، وقفل راجعا إلى الجزائر مارا بالقاهرة حيث التقى فيها بالشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية وهو من العلماء المصلحين وتلقى عليه وأجازه.
عودته إلى الجزائر:
وحين عاد إلى الجزائر عام 1332 أقام في مسقط رأسه قسنطينة، وكان قد بلغ الخامسة والعشرين من عمره، فشرع في وضع خطة العمل في ذلك الجو المظلم من الاستعمار الغاشم الذي كان يفرض أسطورة الجزائر الفرنسية، وفي الوقت الذي نجح فيه الفرنسيون في اصطياد بعض الناس من محترفي السياسة الجزائريين قام ابن باديس بالعمل الهادئ لمحاصرة فرنسا في عزم ولين، من غير أن يلفت الأنظار أو يثير العقبات، فبدأ بإعداد جيل صالح ينهض بالجزائر نهضة إسلامية عربية، وشرع بالتدريس في الجامع الكبير بقسنطينة، ولكن الحكومة الفرنسية منعته من التعليم فيه بسعي المفتي في ذلك العهد الشيخ المولود ابن الموهوب، فسعى أبوه لدى الحكومة الفرنسية وكان ذا جاه عندها فسمحت لولده عبد الحميد بن باديس بالتدريس في الجامع الأخضر بقسنطينة.
بدؤه بالتعليم:(6/6)
يقول ابن باديس: لما قفلنا من الحجاز وحللنا بقسنطينة عام 1332 وعزمنا على القيام بالتدريس، أدخلنا في برنامجنا دروسا لتعليم اللغة العربية وآدابها، والتفسير والحديث والأصول ومبادئ التاريخ والجغرافية والحساب وغيرها، ورأينا لزوم تقسيم المتعلمين إلى طبقات، واخترنا للطبقة الصغرى منهم بعض الكتب الابتدائية التي وضعتها وزارة المعارف المصرية، وأحدثنا تغييرا في أسلوب التعليم، وأخذنا نحث على تعلم جميع العلوم باللسان العربي والفرنسي، وتحبيب الناس في فهم القرآن، وندعو الطلبة إلى الفكر والنظر في الفروع الفقهية، والعمل على ربطها بأدلتها الشرعية، ونرغبهم في مطالعة كتب الأقدمين، ومؤلفات المعاصرين [3] .
وكانت دروس ابن باديس تبدأ بعد صلاة الفجر، وتستمر طيلة النهار، لا يقطعها إلا فترة ساعة بعد صلاة الظهر يتناول فيها غداءه ويعود إلى عمله في تعليم الصغار حتى صلاة العصر، وبعد العصر يقوم بتعليم الشباب إلى المغرب، وبين العشاءين يقوم بالتدريس للكهول والشيوخ حيث تستمر دروسه إلى نحو منتصف الليل.
وفي دروسه للعامة كان يحرص على العبارات الفصيحة السهلة، وعن طريق التدريس والوعظ استطاع ابن باديس أن ينشر الفصحى بين العوام، وأن يرتفع بهم إلى إجادة اللغة العربية رغم أمية أكثرهم، وعن هذا الطريق استطاع المحافظة على اللغة العربية عند كثير من أبناء الجزائر، وكانت فرنسا تحارب اللغة العربية بكل وسيلة وتحل محلها لغتها الفرنسية.
وقد امتد نشاط ابن باديس إلى المدن الجزائرية الأخرى فكانت له دروس في مدينة الجزائر العاصمة، وفي مدينتي وهران وتلمسان إذ كان يسافر إلى هذه المدن كل أسبوع على بعد الشقة وطول المسافة فيلقي فيها دروسه في التفسير.(6/7)
وقد أثمرت جهود ابن باديس فلم يأت عام 1340 حتى كان تلاميذه يتجاوزون الألف، وقد كفاه الله شر الاستعمار، وكان له من وجود والده درع وقاية من بطش فرنسا التي لا تصبر على أقل من هذه الحركات، وكان لوالده مقام محترم عند حكومة الجزائر، فسكتت عن الابن احتراما لشخصية والده كما يقول الشيخ البشير الإبراهيمي.
طريقته في التربية:
يمكن أن نتعرف على أسلوبه في التربية والتعليم من قوله: لن يصلح المسلمون إلا إذا صلح علماؤهم، لأنهم بمثابة القلب للأمة، ولن يصلح العلماء إلا إذا صلح تعليمهم، ولن يصلح التعليم إلا إذا رجعنا به إلى التعليم النبوي في شكله وموضوعه، في مادته وصورته، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما بعثت معلما " رواه مسلم.
فهو لا يسير على طريقة معاصريه من العلماء الذين كانوا يعكفون على كتب المتأخرين من المتون والمختصرات وخاصة في الفروع الفقهية مبتوتة عن أدلتها الشرعية، وكان يرى أن المسلمين لم يضعفوا إلا عندما فرقوا بين العلم والعمل، فكثرت البدع والضلالات، وجاءت الفرق الباطنية فعملت على أن تدخل في العقائد الإسلامية كثيرا من الضلالات عن طريق المتصوفة الذين فصلوا بين علوم الظاهر والباطن، مع أن الخلق القويم لابدّ أن يكون نتيجة تطابق الباطن مع الظاهر، ويقول ابن باديس: العلم قبل العمل، ومن دخل العمل بغير علم لا يأمن على نفسه من الضلال، كما يقول: إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله ورسوله إذا كانت لهم قوة، وإنما تكون لهم قوة إذا كانت لهم جماعة تفكر وتدير.. إننا نربي والحمد لله تلامذتنا على القرآن، ونوجه نفوسهم إلى القرآن من أول يوم وفي كل يوم، وغايتنا التي ستتحقق أن يكوّن القرآن منهم رجالا كرجال سلفهم، وعلى هؤلاء الرجال القرآنيين تعلق هذه الأمة آمالها وفي سبيل تكوينهم تلتقي جهودنا وجهودها.(6/8)
ويوصي ابن باديس طلاب العلم بالاطلاع على مدارك المذاهب حتى ينشئوا فقهاء إسلاميين ينظرون إلى الدنيا من مرآة الإسلام الواسعة لا من عين المذاهب الضيقة.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] حاضر العالم الإسلامي ج 2 ص 181.
[2] المرجع السابق ص 187.
[3] آثار ابن باديس ج 2 ص 27 نقلا عن مجلة المنقد التي كان يصدرها ابن باديس.(6/9)
نداء ومناشدة
مدير المركز: عصام العطار
تلقت مجلة الجامعة الإسلامية من فضيلة الأستاذ عصام العطار الداعية الإسلامي، ومدير المركز الإسلامي في آخن نداء وجهه إلى المسلمين في كل مكان أفرادا ومنظمات وحكومات، ليناشدوا حكومة البنغال في باكستان الشرقية أن تفوت على أعداء الإسلام ما يريدونه من تحطيم الأخوة الإسلامية بين شطري باكستان، وذلك باعتزام حكومة البنغال تقديم أسرى الحرب الباكستانيين إلى المحاكمة كمجرمي حرب.
ونظرا لأهمية هذا النداء، وحرصا منا أن يصل إلى كل مسلم ليقوم بواجبه في هذا الموضوع الخطير، رأت مجلة الجامعة نشره على صفحاتها، وفيما يلي نص هذا النداء:
إن ما يحدث الآن في البنغال ((باكستان الشرقية)) من قتل وتنكيل بالمسلمين غير البنغاليين، وبالبنغاليين الذين وقفوا مع وحدة باكستان، وما تعتزمه حكومة البنغال من محاكمة (1500) من الجيش الباكستاني الواقع في أسر الهند كمجرمي حرب … يشكل خطرا بعيد المدى على الإسلام والمسلمين في شبه القارة الهندية، ويزيد الشقة اتساعا والهوة عمقا بين المسلمين هناك، ويضرب بعضهم ببعض، ويمكّن أعداءهم من إضعافهم وإخضاعهم والتحكم في أمورهم مما لا يرضاه الله عز وجل، ولا يقبله من كان في قلبه ذرة من الإيمان، ومن الشعور الصادق بأخوة الإسلام، ومن الحرص على الإسلام والمسلمين… إننا ندعوكم كما ندعو المسلمين في العالم كله حكومات وشعوبا، ومؤسسات واتحادات وجماعات وأفرادا مؤثرين، إلى أن تناشدوا السيد مجيب الرحمن وحكومة البنغال:
1_ إنهاء عمليات الانتقام والقتل والتنكيل، وإيقاف كل الإجراءات التي تعمق الهوة بينهم وبين باكستان، وتساعد على باكستان أعداءها الطامعين، وتصيب المسلمين في كل مكان، وتسيء إلى سمعتهم وسمعة الإسلام، وتحقق بأيدي المسلمين أهداف الأعداء الذين لا يريدون لهم إلا الدمار.(6/10)
2_ طي صفحة الماضي، وفتح صفحة جديدة للمستقبل بعد هذه الأيام الشديدة القاسية، والتجاوب مع باكستان في اتخاذ الإجراءات التي تنتقل بهما من الوضع السلبي إلى الوضع الإيجابي.
إن هذا الأمر واجب تمليه مصلحة الإسلام والمسلمين في شبه القارة الهندية وفي كل مكان.
وإن هذا الأمر فريضة يفرضها الإسلام على المؤهلين للنهوض بها.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .
وليكن جهد الإصلاح فورا وقبل فوات الأوان.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(6/11)
نور السوط والعصا
للدكتور طه الزيني
المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة
قدم الطفيل بن عمرو الدوسي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشده من شعره وكان كافرا أراد أن يختبر حال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما سمع من قريش، فتلا عليه الرسول الإخلاص والمعوذتين فأسلم في الحال، وعاد إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، ولكن قومه عصوه وامتنعوا عليه، ولم يجبه إلى الإسلام إلا أبو هريرة رضي الله عنه.
فعاد إلى النبي وقال له: يا رسول الله إن دوسا عصت فادع الله عليهم، فقال الرسول: اللهم اهد دوسا، فقال الطفيل: ما كنت أحب هذا، فقال الرسول: إن فيهم ملكا كبيرا، وكان ملكهم عمرو بن حممه الدوسي يقول في الجاهلية: إن للخلق خالقا لكني لا أدري من هو..؟ فلما سمع بخبر النبي صلى الله عليه وسلم ذهب ومعه خمسة وسبعون رجلا من قومه فأسلم وأسلموا، فلما دعا النبي صلى الله عليه وسلم لدوس بالهداية، ورأى الطفيل أن لا مفر من دعوتهم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ابعثني إليهم واجعل لي آية (علامة) على أني مبعوث من قبلك، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم "اللهم نور له نورا بين عينيه "فقال الطفيل: يا رب أخشى أن يقول الناس ((مثلة)) أي عيبا وداء في وجهي، فحول الله النور إلى طرف سوطه فكان يضيء له في الليلة المظلمة..(6/12)
هذا نور السوط.. أما نور العصا فقد كرم الله به رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هما أسيد بن حضير، وعباد بن بشر رضي الله عنهما، وكانا من السابقين الأولين للإسلام وإلى المكرمات، أولهما ثبت يوم أحد حتى جُرح سبع جراحات، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم "نعم الرجل أسيد بن حضير "، وثانيهما كان ممن قتل كعب بن الأشرف اليهودي الذي خان الله ورسوله وأضمر الشر والعمل على هزيمة المسلمين، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم حينما سمع صوت عباد بن بشر يوما "اللهم ارحم عباد بن بشر" روى أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأضاءت عصا أحدهما، فلما افترقا أضاءت عصا كل واحد منهما.
(الإصابة ترجمة عباد بن بشر وأسيد ابن حضير) .
سيقول أناس: هل يعقل؟ وما الذي يجعل السوط يضيء والعصوين تضيئان؟ أقول لهم: الذي جعل الكهرباء في الجو فكان منها الرعد والبرق، وجعل صور الناس والأشياء فدخل في صندوق صغير هو جهاز التلفزيون، وجعل جلد الهر يسبب المغناطيسية إذا دُلك به عمود من الآبنوس، وجعل الأصوات تذهب من أقصى الأرض إلى أقصاها بقدرة الإنسان الذي جعل كل ذلك قادر على أن يجعل السوط والعصا مضيئتين.(6/13)
وأكبر من ذلك خلقه الله تعالى وسخره للإنسان، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} ، {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} ، {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ، لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} ، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
أقول للشاكين والمستكثرين والمستعظمين: إن الله على كل شيء قدير.(6/14)
الإسلام والحياة منهج القرآن في تحرير العقل والفكر
بقلم أحمد عبد الرحيم السايح من علماء الأزهر
نزل القرآن بين العرب وباللغة العربية الفصحى، وكان العرب عند نزول القرآن مختلفين في عقائدهم وبمعتقداتهم اختلافا كبيرا، فمنهم المشركون عبدة الأصنام، ومنهم من كان يعتنق النصرانية أو اليهودية، ومنهم الأحناف الذين ترجع عقيدتهم إلى ملة سيدنا إبراهيم عليه السلام، ومن هؤلاء وأولئك من كان يتطلع إلى دين جديد، ونبي جديد، ولكنهم لا يدرون من أي قبيلة سيكون ذلك النبي، وبأي دين سيأتي، غير أن رأيا عاما كان منتشرا بينهم بقرب مقدم النبي الذي تحدثت عنه الكتب السماوية وملأ خبره أرض الجزيرة العربية.
ولقد حدثنا القرآن عن هذه الأنماط المختلفة من العرب ذوي العقائد المتباينة وخاطبهم جميعا، وعلى الرغم من وجود هذه المعتقدات والآراء إلا أن التاريخ لم يثبت أن هذه المعتقدات والآراء كانت تقوم على منهج عقلي أو فلسفي واضح، ولم يتح للعرب أن يبلوروا هذه المعتقدات في فلسفة فكرية ذات قواعد واضحة محددة، بل كانت قاعدتهم الفكرية هي {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُون} وهذه القاعدة من شأنها أن تحجر على الفكر النظر والبحث والتأمل، وبالتالي توقف النمو العقلي الذي يعين على الوصول إلى الحقائق المتصلة بالكون والحياة.
ولهذا كانت مهمة القرآن هي العمل على إبطال هذه القاعدة وغرس ما من شأنه أن يدعو إلى استعمال العقل والتدبر والتأمل، حتى تزول تلك الحجب الكثيفة التي تحول بين العقل والرؤيا الصحيحة للأشياء، وليخلق أمة جديدة تعلي من شأن العقل، وتستخدمه في مختلف شئونها، وتفتح أمامه آفاقا غير محدودة لاستكناة حقائق الوجود، وأقام الإسلام منهجه في تحرير العقل والفكر على ثلاث دعائم هامة:
الدعامة الأولى:(6/15)
تحرير الإنسان من أغلال الحجر العقلي، وسيطرة التبعية العمياء، وتربيته على حرية الفكر واستغلال الإرادة، ليكمل بذلك عقله ويستقيم تفكيره، وتكتمل له شخصيته وإنسانيته، فإن كمال العقل واستقامة التفكير واستقلال الإرادة، هي أساس صحة العقائد واستقامة التدين ومعرفة الحق الذي يجب أن يتبع، ومعرفة الباطل الذي يجب أن يتجنب، كما يشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "ما اكتسب رجل مثل فضل عقل يهدي صاحبه إلى هدى ويرده عن ردىء وما تم إيمان عبد ولا استقام دينه حتى يكمل عقله".
وقد عني الإسلام ببناء هذه الدعامة عناية كبرى فجعل البرهان أساس الإيمان الصادق والعقيدة الصحيحة، وبين أن كل اعتقاد أو عمل لا يقوم على دلائل الحق فهو مردود على صاحبه، وأنذر الذين يجادلون في الله وآياته بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} .(6/16)
وكشف عن خلال القادة الدينيين الذين انحرفوا عن العهود والمواثيق المأخوذة عليهم، وافتروا على الله الكذب، وانتحلوا لأنفسهم حق التشريع والتحليل والتحريم، إرضاء لأهوائهم وإشباعا لشهواتهم، وتلبيسا على الناس في دينهم كما في قوله تعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} ، {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} ، {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
ودعاهم إلى كلمة الحق التي يستجيب لها كل ذي قلب سليم وعقل رشيد، والتي لم يختلف فيها نبي مرسل ولا كتاب منزل كما قال تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} .(6/17)
وطالب كل ذي عقل بالنظر في عوالم السموات والأرض وما فيها من الدلائل الواضحة على وحدانية الله تعالى في ألوهيته وربوبيته كما في قوله تعالى {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} ، {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ، {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} ، {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} ، {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} .
واستنهض العقول ووجه الأفهام وأيقظ الحواس ونبّه المشاعر بالتعقيب على بيان الآيات الكونية والتشريعية بمثل قوله تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لأُولِي النُّهَى} ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} ، {وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ، {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} .
وبشر الذين يستمعون القول فينظرون فيه نظر الناقد البصير ويتبعون منه ما يدل على الحق ويهدي إلى الرشد كما قال تعالى {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ} .(6/18)
وذم الغافلين ونعى عليهم غفلتهم وإعراضهم عن دلائل الآيات الكونية التي يشاهدونها في كل لحظة وهم عنها غافلون، وتطالعهم بدلائلها في كل آونة وهم عنها معرضون كما في قوله تعالى {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} ، {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} ، {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} .
وعاب على أسرى التقليد إعراضهم عن الحق الذي جاءت به أنبياء الله ورسله، وجمودهم على اتباع ما وجدوا عليه آباءهم، وارتكابهم الفواحش باسم الدين، تعصبا للجمود والتبعية العمياء كما قال عز وجل {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} ، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} .(6/19)
ويبين لهم عاقبة التبعية العمياء ومدى جنايتها عليهم كما قال تعالى {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} .
فالتقليد الأعمى من شر ما تبتلى به الأفراد والجماعات لأنه يميت مواهب الفكر والنظر ويوجب جمودها وركودها، ولا يميز بين الحق والباطل ولا بين الصواب والخطأ، ولا يفرق بين التقليد في الخير والتقليد في الشر، ويحمل أهله على الإعراض عن الحق ومعاداة أهله، والوقوف في طريق الإصلاح والمصلحين، والجمود على العقائد والمذاهب الموروثة والتعصب الجماعي لحمايتها، لأن قيام العقائد والمذاهب على أساس الوراثة وتقليد الآباء والأجداد يضفي عليها قداسة تستحوذ على عواطف الوارثين لها، وتصرفهم عن التفكير في صحتها أو بطلانها، ومعارضة كل إصلاح جديد يخالفها، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقائق في آيات كثيرة في شأن معاداة الأمم الماضية لدعوة رسلهم {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} ، وقال في شأن معاداة قريش للدعوة الإسلامية {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أجعل أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} .(6/20)
وهكذا يفعل التقليد الأعمى وتقديس المعتقدات القائمة على الوراثة، فهؤلاء كانوا يعرفون الرسول حق المعرفة، ويعلمون صدقه وأمانته حق العلم، ولكن التعصب الجماعي القائم على التقليد الأعمى وتقديس ما وجدوا عليه آباءهم حملهم على أن يعجبوا من دعوته ويتنكروا لها، ويقولوا فيه وفي دعوته ما حكاه القرآن عنهم، ولو أنهم حرروا أنفسهم من سيطرة التقليد الأعمى والتعصب الجماعي، ورجعوا إلى تحكيم عقولهم وضمائرهم وسلكوا الطريق التي أرشدهم إليها القرآن في قوله {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} ولو خلا كل واحد منهم بمن يعرف فيه سداد الرأي واستقامة التفكير واستطلع رأيه واستكشف ما في قرارة نفسه، أو خلا بنفسه واستوحى عقله واستفتى قلبه لزالت عنهم تلك الغشاوة التي عقدها التعصب الأعمى على القلوب والأبصار ولعرفوا أن صاحبهم صلوات الله وسلامه عليه ليس به ما يفترون، وإنما هو رسول من الله صادق أمين، ونذير لهم بين يدي عذاب شديد.
وهذه الحقيقة التي قررناها وهي أن قيام المذاهب والعقائد على أساس الوراثة والتقليد الأعمى يضفي عليها قداسة تستحوذ على عواطف الوارثين لها وتصرفهم عن التفكير في فسادها وبطلانها، وتحملهم على التعصب الجماعي لحمايتها من كل دعوة تخالفها أو تنتقص من قداستها، هي السر في تمسك الأمم والطوائف بالمذاهب الموروثة وجمودهم عليها وإن كانت لا تستند إلى نظر صحيح، ولا تقوم على أساس من الحق، وقصارى ما تعتمد عليه هو التقليد الأعمى القائم على التبعية العمياء وتقديس مواريث الآباء والأجداد.(6/21)
ولهذا قرر الإسلام حق الإنسان في حرية الفكر واستقلال الإرادة، وفتح له طريق التحرر الفكري والاستقلال الإرادي، وبوأه المنزلة اللائقة بإنسانيته وكرامته، وعرفه أن الله تعالى لم يخلقه عبدا يقاد كما تقاد الأنعام، ولا جعل لمخلوق حق السيطرة على عقله وفكره، وإنما خلقه حرا مالكا لقيادة نفسه، وعبدا خالصا لربه، يفكر بعقله ويسترشد بمواهبه ويعمل باختياره وإرادته، ويهتدي بنور العلم في اختياره وعمله، لا يظهر العبودية إلا لخالقه ولا يدين في عقائده وسلوكه إلا بدين الحجة والبرهان.
وهناك حقيقتان قد يقع الخلط في فهمهما:
أما الحقيقة الأولى: فهي أن التقليد الذي ذمه الإسلام وشدد النكير على أهله، والذي سبق بيان مفاسده وآثاره السيئة في الأفراد والجماعات إنما هو التقليد الذي يقوم على التبعية العمياء، والجمود على القديم الموروث، وومحاربة كل جديد يخالفه، ولو كان ذلك الجديد أقوم طريقة وأهدى سبيلا.
وأما الحقيقة الثانية: فهي أن حرية الفكر التي جعلها الإسلام رائدا للتفكير الديني ونبراسا للعقول والأفهام في الاهتداء إلى معالم الحق هي الحرية التي تطلق العقول والأفهام من أغلال الحجر العقلي، والكبت الفكري، وتحررها من سيطرة التقليد والتبعية العمياء، وتجلي لها معالم الحقائق التي كانت محجوبة عنها، وتجعل قيادة التوجيه قيادة بناء وإصلاح وإرشاد، لا قيادة هدم وإفساد وتضليل، وتستمد مقوماتها العلمية من هدى الإسلام وتعالميه، ونضوج العقل واستقامة التفكير والاعتماد على قضايا الحق والمنطق، وتحكيم الحجة والبرهان، وتجري في فهم نصوص الكتاب والسنة والاستنباط منها، والاستدلال بها على قوانين النظر والاستدلال، وأوضاع اللغة العربية وخصائص دلالتها، إذ لو وكل الأمر في ذلك إلى الناس يفهمونها ويستنبطون منها كما يريدون ويشتهون لاختلت موازين الصواب والخطأ في الفهم والاستنباط وغابت الحقائق عن الأفهام في غمرة الأهواء.(6/22)
الدعامة الثانية: تحرير الإنسان من أصفاد الجهل وظلمته، فإن الجهل يقتل مواهب الفكر والنظر ويطفئ نور القلوب ويعمي البصائر ويميت عناصر الحياة والقوة في الأمم، ويفسد على جماهير الناس مناهج الدين والتدين، وهو الذي يجعل النفوس مستعدة لقبول ما يحدث في الدين من خرافات وبدع، لأن أهل الأهواء والبدع الذين يظهرون بين الناس بمظهر القادة والزعماء الدينيين يجدون في الجهل بتعاليم الدين مجالا واسعا لنشر الخرافات والبدع باسم الدين، ويسارع أكثر الناس وبدافع الجهل والثقة العمياء إلى اعتناقها ويعملون بها على أنها من الدين وهم لا يعلمون أن الدين منها براء.
ولقد عني الإسلام ببناء هذه الدعامة دعامة تحرير الإنسان من الجهل عناية كبرى، فذم الجهل والجاهلين في مواطن كثيرة كما في قوله تعالى {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُون} {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} .
وأنحى باللائمة على اللذين يتبعون الظنون والأوهام في عقائدهم وتدينهم كما في قوله تعالى {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} .(6/23)
وعظّم شان العلم وحث على طلبه كما في قوله {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} ن وقوله صلى الله عليه وسلم "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ويلهمه رشده" [1] "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة" [2] .
ونوه بفضل الحكمة وما فيها من الخير الكثير كما في قوله تعالى {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} وقوله صلى الله عليه وآله وسلم "لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس" [3] ، ورفع منزلة العلماء وجعلهم أهل خشيته وقرن شهادتهم بشهادته تعالى وشهادة ملائكته كما في قوله تعالى {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} ، {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} .
وجعلهم ينابيع العلم وموارد العرفان ورواد الحق ودلائل الهدى كما في قوله تعالى {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} وخصهم بالتعقل والفهم في مقام ضرب الأمثال وبيان آيات الله الكونية كما في قوله تعالى {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} ، {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} .(6/24)
وهكذا عرف المسلمون الأولون منزلة العلم وفضله وأدركوا مبلغ الحاجة إليه في دنياهم وبناء مجتمعاتهم ودعم سلطانهم، وأنه هو الذي يوضح لهم معالم السير على النهج القويم، ويفتح لهم آفاق الحياة العزيزة الكريمة ويكشف لهم عن أسرار العوالم الكونية ونواميسها، ويقيم لهم وسائل الحياة والقوة، ويبني لهم قواعد السيادة والمجد.
عرفوا كل هذا فوجهوا عزائمهم إلى طلب العلوم على اختلاف أنواعها ولم يشغلهم عن طلبها ترف الحضارة ونعماؤها، ولا ثنت عزائمهم عنها بأساء الحياة وضراؤها، وبحثوا عنها في آيات الله التشريعية وآياته الكونية، وأقاموا لها في كل قطر إسلامي منارا عاليا، وحملوا مشاعلها إلى مشارق الأرض ومغاربها، ولم يقفوا بجهودهم عند نتاج عقولهم وأفهامهم بل اتجهوا بها أيضا إلى علوم السابقين يدرسونها ويمحصونها ويأخذون عنها ويزيدون عليها، وما هداهم إليه البحث والنظر والاستدلال فاستخرجوها من زوايا الإهمال والنسيان، وأخذوا إبريزها بعد أن زادوه نقاء وصفاء، وردوا زائفها بعد أن بينوا زيفه وفساده، لأنهم كانوا يطلبون هذه العلوم طلب الناقد البصير، لا طلب التابع المقلد، واكتمل لهم من ملكات العلوم والفنون في جيل واحد، ما لم يكتمل لأمه من الأمم الناهضة في عدة أجيال.
وإن تعجب لهذه النهضة العلمية التي تخطت مراحل النهوض في الأمم فعجب أنهم قاموا بها على رغم الأحداث العاتية التي حملوا أعباءها، والحروب الطاحنة التي خاضوا غمارها لأن الأحداث والخطوب وإن بلغت من العنف ما بلغت لا تستطيع أن تقف في طريق العقائد التي انطوت عليها القلوب، ولا أن تمنع العزائم القوية من الوصول إلى أغراضها وأهدافها.(6/25)
وبهذه النهضة العلمية استطاعوا أن يعملوا عمل الأقوياء لدينهم ومجتمعهم، لأن العمل لبناء المجتمعات القوية في دينها ودنياها لا يصدر إلا عن إرادة قوية دافعة، والإرادة القوية الدافعة لا تنبثق إلا من العلم، فالأمة التي أفقدها الجهل قوة الإرادة وصدق العزيمة لا يمكن أن تعمل لدينها ولا لكيانها.
الدعامة الثالثة: تحرير الإنسان من طاعة الأهواء والانقياد الأعمى لوحيها، لأن طاعة الأهواء من أقوى عوامل انحراف الإنسان في سلوكه والتوائه في نظره وتفكيره، وضلاله في عقائده وتدينه، فإن الهوى ما دخل في شأن من شئون الدين والدنيا إلا أفسده.
فعبّاد الأهواء لا تسلم لهم طوية ولا يستقيم لهم رأي، ولا تعتدل لديهم موازين الحكم ولا يخضعون لحق ليس في جانبهم.
ولهذا عُني الإسلام بالتحذير البالغ من اتباع الهوى والانقياد الأعمى للأشياء، فذم العاكفين على عبادة الأهواء والأغراض، ونعي عليهم ضلالهم وانحرافهم عن الحق إرضاء لأهوائهم كما في قوله تعالى {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} ، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} ، {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
وهكذا طالبنا الإسلام بأن نطهر نفوسنا وسلوكنا من الأغراض الخفية، والأهواء الدفينة، ونحرر عقولنا وأفهامنا من الخضوع للجهل والانقياد الأعمى، وأن نجعل أهواءنا تبعا لحكم الله وشرعه.(6/26)
وبهذا قام الإسلام بثورة تحريرية كبرى أطلق بها العقول من إسارها، ودفعها للتأمل في ملكوت السموات والأرض، ليكون الإيمان مبنيا على الفهم والاقتناع لا على القسر والإرهاب.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أما الجزء الأول من الحديث فرواه الشيخان وغيرهما وتمامه عندهما ((وإنما أنا قاسم والله يعطي)) هكذا لفظ البخاري في كتاب العلم، وأما قوله ((ويلهمه رشده)) فرواه الطبراني وأبو نعيم في الحلية وحسنه ابن حجر، أما الذهبي فقال هو حديث منكر.
[2] متفق عليه واللفظ المذكور رواه الترمذي.
[3] متفق عليه ولفظ مسلم قريب مما ذكره إلا أنه قال ((ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها)) أخرجه في كتاب صلاة المسافرين.(6/27)
وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين
للشيخ حسن السيد متولي
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة
قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .(6/28)
وجه مناسبة الآية الأولى لما قبلها أنه سبحانه وتعالى لما بين للمؤمنين ما تقوم به الجماعة المؤمنة من إيمان بالله يصاحب المؤمن إلى آخر حياته، ومن اعتصام بحبل الله وهو كتابه الكريم، ومن أخوة بين المؤمنين تربطهم برباط الإيمان، بيّن بهذه الآية الهدف الذي تسعى إليه الجماعة الإسلامية وتعمل على تحقيقه، ويكون وظيفة لها تصون به المجتمع الإسلامي من عوامل التحلل والانحراف وتقوده إلى ما فيه الخير والفلاح فقال سبحانه وتعالى {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} أمر سبحانه أن تكون هناك جماعة من المسلمين تقوم بالدعوة إلى الخير إلى دين الله والأخذ بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم و (مِن) في الآية للتبعيض، لأن الجماعة المأمورة هي المستطيعة لأداء ما كلفت به ولا تكون إلا من العلماء الدارسين لكتاب الله وسنة رسوله وهم بعض الأمة {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وهذا من عطف الخاص على العام، لأن قوام الدعوة إلى الله وحفظها إنما يكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بين سبحانه أن الأمة الإسلامية إذا قامت بهذا التكليف كان جزاؤها الفلاح في الدنيا والآخرة {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ثم حذر الله سبحانه وتعالى من التفرق والاختلاف بعد وضوح آيات الله ونصوص شريعته لأن هذا يجرهم إلى ضياع ما أعد لهم من الفلاح وانخراطهم في سلك من عذبوا بسبب تفرقهم وتركهم ما كلفوا به فقال {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} في دنياهم وأخراهم.(6/29)
فحكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنه فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الأمة جميعها وإذا لم يقم به أحد أثمت الأمة بتمامها، وكل فرد مكلف بأن يأمر نفسه بالمعروف وينهاها عن المنكر كما يأمر غيره وينهاه، وإهماله نفسه لا يرفع عنه التكليف بالنسبة لغيره.
وهناك أمور من الشريعة معلومة لجميع الناس مثل وجوب الصلاة والزكاة والصيام وحرمة القتل والزنا والسرقة وشرب الخمر فمثل هذه الأمور التكليف فيها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شامل لجميع الناس، وما عداها مختص بأولي العلم والمعرفة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له ناحيتان: ناحية عامة وناحية خاصة.
أما الناحية العامة فالمطلوب فيها العمل على قدر الاستطاعة في حدود قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه " فتغيير المنكر واجب على كل فرد بما يراه ميسورا له إما بالأسهل كالكلام، أو بالأشد كالمنع باليد إذا لم يترتب على استعمال القوة إثارة عصبية ينتج عنها فتنة ومقاتلة، وعليه في هذه الحال الانتقال إلى الإنكار باللسان وطلب الكف عن المنكر وإلا فلينكر بقلبه وإلا كان شريكا له في الإثم.
وهذا التكليف لا يتعدى مرتبة الوعظ والإرشاد وتحاشي الضرر والفتنة وليس قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ليس معارضا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه لا تتحقق الهداية إلا بالقيام بالواجبات، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فعلوا فقد بلّغوا ولا يضرهم بعد هذا من لم يهتد، لأن الهداية من شئون الله سبحانه وتعالى كما قال لرسوله {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} .(6/30)
أما الناحية الخاصة وهي ما تشير إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فالمقصود هنا أن الله يأمر بقيام جماعة من العلماء مؤيدة بسلطان بحيث تأمر فتطاع، وتنكر فتنفذ حدود الله على من ارتكب منكران وتتولى إعداد الدعاة بالتعليم لتكون سلسلة هذه الجماعة متصلة الحلقات إلى قيام الساعة تحقيقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ".
والقيام بأمر الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس هينا ولا يسيرا لما يصطدم به من شهوات الناس ومصالحهم، وغرورهم وكبريائهم، وفيهم الظالم المفتري والحاكم المتسلطن والمنحل، والمنحرف، لهذا كان تكليف الله به عظيما يحتاج من الأمة المسلمة أن تهيئ له جماعة تتمكن بسلطانها من أن تدفع عن الجماعة المسلمة كل ما تتعرض له في دينها وأخلاقها ومعاملاتها مما يتنافى مع الشريعة وتقاوم كل ظالم ومتسلط ومنحرف.
أما إن كانت مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منحصرة في حدود وعظ وإرشاد فقد تعرضت الأمة للانهيار، وقد شاهدنا في أغلب دول المسلمين أنها اكتفت في أمر هذا التكليف بالوعظ والإرشاد، وكان من نتيجة إهمال الحدود انحراف البسطاء وتسلط الأقوياء الظالمين حتى أصبح الدين الإسلامي مجرد طقوس يقوم بها بعض الضعفاء.(6/31)
ولهذا ولما نراه في عصرنا ونشاهده مما أحاط بالمجتمعات الإسلامية من كيد أعدائها حتى سلب منها مقوماتها الإسلامية وأصبحت أشباحا لا روح فيها ولا قوة لها يحركها أعداؤها كما يشاؤون، كان لابد من أن يستجاب أمر الله في هذه الآية بإقامة جماعة ذات سلطان قوي في كل دولة مسلمة ولها مندبون في كل مدينة وقرية تأمر فتطاع، وتنهى عن المنكر، وتنفذ حدود الله على من ارتكبوا المنكرات، وبدون تنفيذ حدود الله القتل للقاتل، والرجم للزاني المحصن، وقطع يد السارق، والجلد والسجن والتعزير لكل من ارتكب موجب ذلك، لأن قيام هذه الجماعة هو لحماية المسلمين من أن تغتالهم شياطين الإنس والجن، ولتصون التقاليد الإسلامية والتعاليم الشرعية عند المسلمين فيستقر الخير والعدل في حياة الأمة، وينعدم الشر والظلم فيها وتسد الطريق على كل صاحب هوى أو شهوة أو مصلحة يدعي أنه يعرف الخير والصواب.
إن قيام هذه الجماعة ضروري لفلاح الأمة وصلاحها، ألم يكن المعروف فيه الخير والفضيلة والحق والعدل، والمنكر فيه الشر والرذيلة والباطل والظلم، فأي المجتمعين أفضل وأنفع في الحياة الدنيا والآخرة، مجتمع الخير والفضيلة والحق والعدل أم مجتمع الشر والرذيلة والباطل والظلم، وهل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور.
لقد كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبا في الأمم المتقدمة، ولما أهملوا أمر الله ذلوا ولعنوا على لسان أنبياء الله ورسله كما قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} .(6/32)
وقد أهملت هذه القاعدة التي وضعها الله تعالى للمسلمين وهي قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى حكمت أغلب الدول بغير ما أنزل الله، وتسلط عليها سفهاؤها وجدّوا في إضلالها فعاقبهم الله بالضعف والذل وتسلط عدوهم عليهم، إن المجتمع الإسلامي لا ينهض إلا بإقامة شرع الله في أرضه وتحقيق الخير وسط هذا المجتمع وإزالة الشر منه، وبهذا ينمو فيه الخير ويسود وينتفي فيه الشر ويزول لأن عمل الخير يجد من المساعدة ما ينميه، فهو في بيئة خيرة، وأما الشر فلا يستطيع الظهور وسط هذا المجتمع لأن كل ما حوله يعارضه ويمقته، ولو فرض وكان للشر أعوان فإن جماعة المسلمين الآمرة الناهية تعارض الشر وأهله فيبوء بالفشل لأنه لم يجد البيئة الصالحة لنموه.
فأخص صفات المؤمنين هي صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي ميزتهم قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، وبهذه الصفة كانت الأمة الإسلامية خليفة الله في أرضه، وقد قلدها الله سبحانه وتعالى وسام الخير وفضلها على العالمين فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} ، وهي المعنية بقوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} ، وإذًا فهي الأمة التي أخرجها الله لقيادة العالم للخير، أمة عاملة تتقدم العالم في مناحي الحياة في منهاج إسلامي كله خير وبركة على العالمين تقود البشرية لصالح حياتها فتشعر الإنسانية برحمة الرسالة المحمدية لأن هذه الأمة:
1_ تقوم على حراسة الحياة من الشر والفساد.(6/33)
2_ تكون لها القوة التي تمكنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة حدود الشريعة المحمدية في الأرض.
3- تحرص على الخير وتعارض الشر وتصون المجتمع من عوامل الفساد.
4_ تؤمن بالله ورسله، وتفهم كتاب الله وسنة رسوله، فتعرف الموازين الصحيحة للقيم وتدرك المعروف والمنكر إدراكا صحيحا كما أتى به الوحي.
5- يقوى عندها الباعث على الخير من سلطان الله في الضمائر، ومن سلطان الشريعة في المجتمع.
7_ يكون زاد هذه الأمة التي تحملت تبعة الدعوة إلى الله في المجتمع زادها الإيمان، وكل زاد سواه ينفذ، وعدّتها الإيمان وكل عدّة سواه تُفَل، وسندها الله وكل سند غير سند الله ينهار.
وبهذا يصان المجتمع الإسلامي من كل عوامل الهدم والفساد، ويصبح مجتمعا مشرفا بنور الإيمان، فيكون في نظامه وسلوكه أعظم دعوة لدين الله في هذا العالم، لأنه قد تحصن من داخله بما وضعه الله من قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن لابدّ من تأمين هذا المجتمع من أعدائه خارج حدوده أمم الكفر وفي مقدمتهم اليهود، وقد كلف الله المسلمين بإقامة القاعدة التي تحمي الجماعة الإسلامية وتصون حدود وطنها وتفتح الطريق للدعوة فيما وراء الحدود فقال جل شأنه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} .(6/34)
فمن ضرورات الحياة للمسلمين الإعداد للجهاد بقدر الاستطاعة لجميع أدوات الحرب، وخصوصا أقوى الأسلحة في حماية الحدود ورد العدوان والهجوم إن احتاج الأمر إليه، ولهذا خص الله في الإعداد رباط الخيل، لأنه كان أقوى الأسلحة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، أقواها على الدفاع والهجوم، وأمر الله للمسلمين دائم في جميع الأزمنة بإعداد ما يناسب كل زمان من عدة الحرب، فلابد للإسلام من قوة ينتشر بها في الأرض لتحرير الإنسان في عقيدته ونشر رحمة الله بين العالمين، وأهداف هذه القوة ما يأتي:
1_ تأمين من يختار هذا الدين على عقيدته وضمان حرية الاختيار والعمل، فلا يصد عن العقيدة ولا يفتن بعد إسلامه.
2_ إرهاب أعداء الدين من عرفناهم ومن لم نعرفهم، فلا يفكرون في الاعتداء على دار الإسلام.
3_ أن يبلغ الخوف من قوة المسلمين الحد الذي يجعل أعداء الدعوة لا يفكرون في معارضتها، ولما كان هذا الإعداد يحتاج إلى المال الكثير أمر الله المسلمين بالإنفاق في سبيله، ووعدهم خير الجزاء على ما ينفقون.
والهدف العام من هذا الإعداد أن تكون كلمة الله هي العليا ويكون للدين كله لله، فليس إعدادا من أجل استغلال الشعوب وفتح الأسواق التجارية كما يظهر في أسلوب الدول الرأسمالية، ولا لفرض مذهب بشري من صنع لئيم كالشيوعية، ولا لتقرير سلطان أمة على أخرى، أو جنس على جنس، إنما هو إعداد لله وفي سبيل الله وللخير وفي سبيل الخير للعالمين، لتسود ألوهية الله وتعلو كلمته وينال الناس رحمة الرسالة العامة كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} .
ولا خلاص للمسلمين إلا بتنفيذ أوامر الله تعالى في إقامة هاتين القاعدتين العظيمتين لحماية المسلمين داخل بلادهم وخارج حدودهم، هما قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تقيم حدود الله وتنفذ شريعته، وقاعدة إعداد العدة للجهاد في سبيل الله.(6/35)
ولا يقعد بالمسلمين عن المسارعة إلى إجابة ربهم ما عليه عدوهم من قوة لا يمكن الآن الإعداد مثلها فيعيشون بجانب أعدائهم أذلاء يستجدونهم الكف عنهم، فهيهات هيهات أن يكف عدوك عنك بعد أن بلغ أمنيته من التمكن منك، ونحن نلمس واقعنا الأليم الذي سببه الإهمال في الاستجابة لرب العالمين، فسارعوا أيها المؤمنون إلى استجابة النداء، واذكروا أن الله لم يكلفكم في الإعداد لعدوكم إلا بقدر ما تستطيعون وهو ناصركم وما النصر إلا من عند الله.
ولا يقف في طريقه القوى المادية مهما بلغت، ولهذا نبه الله المؤمنين بقوله: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ} ، وقال: {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ} ، لقد بيّن الله للمؤمنين طريقهم في الحياة، بيّن لهم القواعد التي تحميهم من شر أعدائهم، ووعدهم النصر إن سلكوا طريقه، والشر محيط بهم من كل جانب، ولا نجاة إلا بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله، عقيدة وعملا ودعوة وجهادا في سبيله حسب ما شرعه الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} .(6/36)
يا فتية الإسلام
للشيخ عبد الله قادري: المشرف الاجتماعي
يا إخوتي يا فتية الأمجاد
هيا بنا نسعى لساح الجهاد
قودوا الشباب بقوة وشجاعة
وبنور دين ساطع وقّاد
وتحرروا من كل قيد عائق
يثني عن الإعزاز والإسعاد
واغدوا أساتذة الأنام وجددوا
ما كان للآباء والأجداد
وعلى مآذن كل أرض فارفعوا
((الله أكبر)) رغم كل معادي
واحموا البرية من شقاء محدق
يهوي بها سفلا لشر مهاد
زعموا الصعود على الكواكب رفعة
والأرض ملأى منهمو بفساد
قتل وتشريد وظلم فادح
وعبادة للمال والأجساد
وتآمر متعدد، ثمراته
ظهرت مدمرة بكل بلاد
ومناهج هدامة مرت على ال
آباء والأبناء والأحفاد
ومحاضن شيدت لخطف شبابنا
وغذتهمو بالكفر والإلحاد
حتى غدا أبناؤنا في أرضنا
أعداء ماضينا المجيد البادي
ومن المكاسب للعدا قد حققوا
ما لم يكن قد دار بالأخلاد
يا فتية الإسلام كيف منامكم
وعدوكم كلب عقور عادي!
إن العدو عليكمو متكالب
ولدينكم لا زال بالمرصاد
والمسلمون شيوخهم وصغارهم
يصلون بالتعذيب والإبعاد
إخواننا في القدس في أثيوبيا
في الصين في موسكو وأرض تشاد
ومذابح الفئران لا تخفى على
متتبعي أحداث كل بلاد؟
يسنتصرون ويصرخون جميعهم
وكأنما صرخاتهم في وادي
أين الأخوة والتناصر بيننا
أين الذمام ووثبة الآساد
فابنوا لنا صرحا منيعا ينثني
عنه العدو بخيبة وكساد
بل فادفعوا في نحره بجحافل
تتلو جحافل للجهاد تنادي
وسلاحها في قلبها إيمانها
بالله ثم الفوز باستشهاد
وعلى كواهلها عتاد رادع(6/37)
ومدمر لمعاقل الأوغاد
ودعوا المثبط والمهرج جانبا
وذوي التواكل عاشقي الإخلاد
وامضوا بدرب مستقيم لاحب
لا يلتوي بالسالك المرتاد
وعلى الأذى من أي صنف فاصبروا
فالصبر وصف لازم للهادي
ولتقتدوا بأئمة قد جاهدوا
من قبلكم في الله خير جهاد
ولترفعوا علم الجهاد مرفرفا
فوق الدنى في نجدها ووهاد
والمسلمون سينضوون جميعهم
تحت اللواء إذا يناد منادي
وستفتحون قلوب أهل الأرض بالـ
إيمان، والبلدان بالأعتاد
فخذوا الكتاب بقوة وتمسكوا
بحديث شافعنا بيوم معاد
وامشوا على نهج الصحاب فنهجهم
ملَكَ العباد وساد كل بلاد
وبدون ذلك فالشقاء رفيقنا
والذل والإيغال في الأحقاد
والمعتدون من اليهود وغيرهم
سيواصلون سياسة الأسياد
فتناصحوا وتوحدوا وتقربوا
لله في الإصدار والإيراد
وادعوا العباد لدينكم بفعالكم
فالقول لا يكفي بغير جهاد
وأخص جامعة لنا قد أسست
بمدينة الداعي البشير الهادي
جمعت شباب المسلمين ليقتفوا
هديَ الرسول وصحبه الأمجاد
ويجددوا من طيبة بجهادهم
في الأرض كل مآثر الأجداد
وعلى مشايخنا الكرام مهمة الـ
تعليم والتثقيف والإعداد
فإلى الأمام شيوخنا وشبابنا
فالأمر جد والجهاد ينادي
ثم الصلاة على النبي محمد
هادي الهداة وقائد القواد(6/38)
يستفتونك
يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
حكم البيع إلى أجل وبيع التورق
س- ما حكم بيع كيس السكر ونحوه بمبلغ مائة وخمسين ريالا إلى أجل وهو يساوي مبلغ مائة ريال نقدا؟
الجواب: إن هذه المعاملة لا بأس بها لأن بيع النقد غير بيع التأجيل ولم يزل المسلمون يستعملون مثل هذه المعاملة وهو كالإجماع منهم على جوازها وقد شذ بعض أهل العلم فمنع الزيادة لأجل الأجل وظن ذلك من الربا وهو قول لا وجه له وليس من الربا في شيء لأن التاجر حين باع السلعة إلى لأجل إنما وافق على التأجيل من أجل انتفاعه بالزيادة والمشتري إنما رضي بالزيادة من أجل المهلة وعجزه عن تسليم الثمن نقدا، فكلاهما منتفع بهذه المعاملة وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على جواز ذلك وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أمر عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن يجهز جيشا فكان يشتري البعير بالبعيرين إلى أجل، ثم هذه المعاملة تدخل في عموم قول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} الآية، وهذه المعاملة من المداينات الجائزة الداخلة في الآية المذكورة وهي من جنس معاملة بيع السلم، فإن البائع في السلم يبيع من ذمته حبوبا أو غيرها ما يصح السلم فيه بثمن حاضر أقل من الثمن الذي يباع به المسلم فيه في وقت السلم لكون المسلم فيه مؤجلا والثمن معجلا، فهو عكس المسألة التي سألتم عنها، وهو جائز بالإجماع وهو مثل البيع إلى أجل في المعنى، والحاجة إليه ماسة كالحاجة إلى السلم والزيادة في السلم مثل الزيادة في البيع إلى أجل سببها فيهما تأخير تسليم المبيع في مسألة السلم وتأخير تسليم الثمن في مسألة البيع إلى أجل، لكن إذا كان مقصود المشتري لكيس السكر ونحوه بيعه والانتفاع بثمنه وليس(6/39)
مقصوده الانتفاع بالسلعة نفسها فهذه المعاملة تسمى مسألة (التورق) ويسميها بعض العامة (الوعده) وقد اختلف العلماء في جوازها على قولين:
أحدهما: أنها ممنوعة أو مكروهة لأن المقصود منها شراء دراهم وإنما السلعة المبيعة واسطة غير مقصودة.
والقول الثاني للعلماء: جواز هذه المعاملة لمسيس الحاجة إليها لأنه ليس كل أحد اشتدت حاجته إلى النقد يجد من يقرضه بدون ربا ولدخولها في عموم قوله سبحانه {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} ، ولأن الأصل في الشرع حل جميع المعاملات إلا ما قام الدليل على منعه ولا نعلم حجة شرعية تمنع هذه المعاملة.
وأما تعليل من منعها أو كرهها بكون المقصود منها هو النقد فليس ذلك موجبا لتحريمها ولا لكراهتها لأن مقصود التجار غالبا في المعاملات هو تحصيل نقود أكثر بنقود أقل والسلع المبيعة هي الواسطة في ذلك وإنما يمنع مثل هذا العقد إذا كان البيع والشراء من شخص واحد كمسألة العينة فإن ذلك يتخذ حيلة على الربا، وصورة ذلك أن يشتري شخص سلعة من آخر بثمن في الذمة ثم يبيعها عليه بثمن أقل ينقده إياه فهذا ممنوع شرعا لما فيه من الحيلة على الربا وتسمى هذه المسألة مسألة العينة وقد ورد فيها من حديث عائشة وابن عمر رضي الله عنهما ما يدل على منعها.(6/40)
أما مسألة التورق التي يسميها بعض الناس الوعده فهي معاملة أخرى ليست من جنس مسألة العينة لأن المشتري فيها اشترى السلعة من شخص إلى أجل وباعها من آخر نقدا من أجل حاجته للنقد ليس في ذلك حيلة على الربا، لأن المشتري غير البائع ولكن كثيرا من الناس في هذه المعاملة لا يعلمون بما يقتضيه الشرع في هذه المعاملة فبعضهم يبيع ما لا يملك ثم يشتري السلعة بعد ذلك ويسلمها للمشتري وبعضهم إذا اشتراها يبيعها وهي في محل البائع قبل أن يقبضها القبض الشرعي وكلا الأمرين غير جائز لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لحكيم بن حزام "لا تبع ما ليس عندك " وقال عليه الصلاة والسلام: "لا يحل سلف وبيع ولا بيع ما ليس عندك " وقال عليه الصلاة والسلام: "من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه "، قال ابن عمر رضي الله عنهما: "كنا نشتري الطعام جزافا فيبعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ينهانا أن نبيعه حتى ننقله إلى رحالنا "وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أيضا أنه نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم.
ومن هذه الأحاديث وما جاء في معناها يتضح لطالب الحق أنه لا يجوز للمسلم أن يبيع سلعة ليست في ملكه ثم يذهب فيشتريها بل الواجب تأخير بيعها حتى يشتريها ويحوزها إلى ملكه، ويتضح أيضا ما يفعله كثير من الناس من بيع السلع وهي في محل البائع قبل نقلها إلى ملك المشتري أو إلى السوق أمر لا يجوز لما فيه من مخالفة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولما فيه من التلاعب بالمعاملات وعدم التقيد فيها بالشرع المطهر، وفي ذلك من الفساد والشرور والعواقب الوخيمة ما لا يحصيه إلا الله عز وجل نسأل الله لنا ولجميع المسلمين التوفيق للتمسك بشرعه والحذر مما يخالفه.(6/41)
أما الزيادة التي تكون بها المعاملة من المعاملات الربوية فهي التي تبذل للدائن بعد حلول الأجل ليمهل المدين وينظره فهذه الزيادة هي التي كان يفعلها أهل الجاهلية ويقولون للمدين قولهم المشهور إما أن تقضي وإما أن تربي، فمنع الإسلام ذلك وأنزل الله فيه قوله سبحانه {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} وأجمع العلماء على تحريم هذه الزيادة وعلى تحريم كل معاملة يتوسل بها إلى تحليل هذه الزيادة مثل أن يقول الدائن للمدين اشتر مني سلعة من سكر أو غيره إلى أجل ثم بعها بالنقد وأوفني حقي الأول، فإن هذه المعاملة حيلة ظاهرة على استحلال الزيادة الربوية التي يتعاطاها أهل الجاهلية لكن بطريق آخر غير طريقهم، فالواجب تركها والحذر منها، وإنظار المدين المعسر حتى يسهل الله له القضاء، كما أن الواجب على المدين المعسر أن يتقي الله ويعمل الأسباب الممكنة المباحة لتحصيل ما يقضي به الدين ويبرئ به ذمته من حق الدائنين، وإذا تساهل في ذلك ولم يجتهد في أسباب قضاء ما عليه من الحقوق فهو ظالم لأهل الحق غير مؤد للأمانة فهو حكم الغني المماطل وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مطل الغني ظلم " وقال عليه الصلاة والسلام: "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته " والله المستعان.
ومن المعاملات الربوية أيضا ما يفعله بعض البنوك وبعض التجار من الزيادة في القرض إما مطلقا وإما في كل سنة شيئا معلوما، فالأول مثل أن يقرضه ألفا على أن يرد إليه ألفا ومائة أو يسكنه داره أو دكانه أو يعيره سيارته أو دابته مدة معلومة أو ما أشبه ذلك من الزيادات.(6/42)
وأما الثاني فهو أن يجعل له كل سنة أو كل شهر ربحا معلوما في مقابل استعماله المال الذي دفعه إليه المقرض سواء دفعه باسم القرض أم باسم الأمانة فإنه متى قبضه باسم الأمانة للتصرف فيه كان قرضا مضمونا ولا يجوز أن يدفع إلى صاحبه شيئا من الربح إلا أن يتفق هو والبنك أو التاجر على استعمال ذلك المال على وجه المضاربة بجزء مشاع معلوم من الربح لأحدهما والباقي للآخر وهذا القسط يسمى أيضا القراض وهو جائز بالإجماع لأنهما قد اشتركا في الربح والخسران والمال الأساسي في هذا العقد في حكم الأمانة في يد العامل إذا أتلف من غير تعد ولا تفريط لم يضمنه وليس له عن عمله إلا الجزء المشاع المعلوم من الربح المتفق عليه في العقد.
وبهذا تتضح لك المعاملة الشرعية والمعاملة الربوية.
هذا سؤال من الأخ س. ع. هـ يقول فيه:
أرجو التفضل بإفادتي عن تسلسل جرح البينة مثل أن يقيم المدعي بينة على دعواه ثم يقيم المدعى عليه بينة على جرحها فهل تسمع البينة لجرح بينة الجرح ولو طال التسلسل أم لا ولماذا في كلا الحالتين؟
الجواب: قد دلّ الكتاب والسنة على اعتبار العدالة في البيّنات كما في قوله سبحانه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وقوله عز وجل: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} ومعلوم أن الأصل براءة الذمة من الحقوق فلا تثبت إلا بأمر يعتمد عليه ولا ريب أن شهادة الفسّاق والمجهولين لا يجوز الاعتماد عليها.(6/43)
فاتضح بذلك أنه لابد من العدالة في البينة والمزكين لها والجارحين لها أو للمزكين ولهذا صرح أهل العلم بأن الشهادة والتزكية والجرح إنما تقبل من ذوي العدالة والمعرفة بحال البينة المزكاة والمجروحة فعلم بهذا كله أنه لابد من التحقق من حال البينة التي يعتمد الحاكم عليها في الحكم ولو أفضى إلى التسلسل حتى يصل إلى العدالة المطلوبة حسب الإمكان فإذا لم يتيسر ذلك ساغ له الحكم بما يغلب على الظن ثبوت الحق ولو أفضى ذلك إلى تحليف المدعي مع بينته، أما تفريق الشهود عند أداء الشهادة فينبغي أن يعمل به عند الحاجة خوفا من تواطئهم على الكذب.
والله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه..(6/44)
الدعوة الإسلامية في أفريقية بحاجة إلى مزيد من الدعم
محمد بن ناصر العبودي
الأمين العام للجامعة الإسلامية بالمدينة
الإسلام دين دعوة وعمل، بل إن كل مسلم سبيله في الحياة أن يدعو إلى الله على بصيرة كما قال تعالى مخاطبا لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} ، وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} .
فكل مسلم مخاطب بالدعوة إلى الله ومأمور بها بقدر استطاعته العقلية، وقدرته المالية والبدنية.
وبعبارة تتلاءم مع تعبير الكتاب العصريين فإن كل مسلم يجب أن يكون مبشرا بالإسلام _ أي داعيا إلى الله _ باذلا نفسه وماله في سبيله.
ومن هذا المفهوم للإسلام انطلق أناس من إخواننا المسلمين في أفريقية يدعون إلى الله، ويشرحون لغير المسلمين ما يعرفونه عن الإسلام.
وأكثرهم لا يملك إلا قليلا من العلم، ولكنه يبذل كثيرا من العمل ويعطي أكثر من التضحية بالوقت والمال، فأثمرت أعمالهم دخول أعداد كبيرة في الإسلام بل لا تكاد تغرب الشمس كل يوم إلا وقد شهدت من كان عند طلوعها كافرا فأصبح داخلا في حظيرة الإسلام قبل غروبها.
والسؤال الذي قد يتبادر للذهن عند سماع هذه الأخبار هو: ما نوع إسلام أولئك المسلمين؟
وما هي المعلومات والتفصيلات التي نقلها إليهم أولئك الدعاة الذين لا يملكون كثيرا من العلم، ولكنهم ينفقون كثيرا من العمل؟.(6/45)
والجواب: بحسب ما شهدته وعرفته أن أول ما يبدأون بتعليمه الشخص الذي يدخل في الإسلام هو النطق بالشهادتين، ثم يلبسونه لباس المسلمين حتى يمكنه أن يغشى المساجد، ويحضر دروس الدين، ثم يخبرونه بأركان الإسلام، وفرائضه مجملة إجمالا يكاد يكون مخلا لأنهم هم أنفسهم لا يعرفون من أحكام الإسلام وفقهه التفصيلات الدقيقة.
إذًا فهم يعطون للمسلم الجديد كل ما عندهم ولو كان غير مفصل، ولا شك أنهم معذورون في ذلك لأنهم قد بذلوا جهد طاقتهم، وما بخل من بذل كل ما يستطيع بذله.
وعلى هذا فإنه يصح القول بأن عدد المسلمين في أفريقية يزداد باستمرار ولكن نوعية إسلام أولئك المسلمين ثابتة أو هي لا تزيد زيادة تساير الزيادة العددية مما حمل بعض المفكرين على القول بأننا يجب أن نركز على تحسين فهم المسلمين الحاليين للإسلام حتى يصبحوا مسلمين حقيقيين، ذوي أثر فعال في المجتمع في بلادهم وبالتالي ذوي أثر فعال في محيط البلاد الإسلامية ككل.
بل وصل الأمر ببعض أولئك المفكرين إلى حد المناداة بعدم العمل على مجرد الحصول على الزيادة العددية، وصرف الجهد إلى تحسين نوعية المسلم هناك.
والقول الفصل في هذا الموضوع أن يكون العمل الإسلامي في أفريقية ذا شعبتين رئيسيتين لا غنى لإحداهما عن الأخرى.
إحداهما: الدعوة إلى الإسلام وإدخال أكبر عدد من المستجبين للدعوة الإسلامية إلى الإسلام.
والثانية: تبصير المسلمين ومن يدخلون حديثا في الإسلام بأمور دينهم، وتحسين فهمهم للإسلام بإرشادهم إلى ما هم بحاجة إليه.
ولا شك أن هذا العمل يحتاج إلى جهود عظيمة، من أهمها توفير العدد الكافي من الدعاة المؤهلين علميا وتربويا لهذا العمل، وممن أعطاهم الله تعالى الصدق في القول والإخلاص في العمل، على أن يبدأوا بتثقيف الدعاة المحليين ثقافة إسلامية خالصة من الشوائب.
كما يحتاج الأمر إلى رصد المبالغ المالية اللازمة.(6/46)
ولكن ذلك- على صعوبته- ليس بمستحيل التحقيق إذا صحت العزائم، وصدقت النيات.
ففي البلاد الإسلامية من الأشخاص الذين تنطبق عليهم الشروط المطلوبة العدد الوفير والشأن كل الشأن في التفتيش عنهم، وإتاحة الفرصة أمامهم للعمل.
وإن في العمل الذي تقوم به المملكة العربية السعودية في الوقت الحاضر تحت قيادة الملك المسلم فيصل بن عبد العزيز –حفظه الله- هو مثال حي للسير في هذه السبيل.
فهناك في أفريقية مبعوثون من المملكة عشرات العشرات، وهناك أعداد تتزايد كل عام من خريجي الجامعة الإسلامية وغيرها ممن عادوا إلى بلادهم تدفع لهم المملكة مكافآت مالية طيبة تعينهم على التفرغ للدعوة الإسلامية، وأداء واجبهم في إبلاغ قومهم ما تعلموه في مهبط الوحي، ومنطلق الدعوة الإسلامية، عملا بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} .
وهناك المساعدات المالية التي تبذل للهيئات والمؤسسات الإسلامية لتحقيق مشروعاتها الإسلامية أو للإسهام في تحقيق تلك المشروعات.
وذلك ليس بكثير على بلاد اختارها الله تعالى لأن تكون مصدر الإشعاع الإسلامي الأول، وشرّف أهلها بأن كانوا في صدر الدعوة المحمدية السمحة هم حملتها إلى كافة الأمم.
بل إن المسلمين في أفريقية يتطلعون إلى هذه البلاد وينتظرون منها المزيد من الخير، ونسأل الله تعالى أن يحقق آمالهم الطيبة، ويوفق كل عامل فيها للمزيد من العمل النافع للإسلام والمسلمين.
كما أن على كل بلد من البلدان الإسلامية الشقيقة من واجب الدعوة إلى الله بقدر ما منحها الله تعالى من الاستطاعة، إما ببذل المال، وإما بتجنيد الرجال، وإما بالقيام بالأمرين معا.(6/47)
ونحن نرى – مع الأسف الشديد - بعض المسلمين يكون لديهم فضل من المال، فينفقونه في ملذات عاجلة، أو في أمتعة فانية، ولو أنفقوه في سبيل الله وعلى المحتاجين إليه من إخوانهم المسلمين، لنالوا الثوابين ثواب الأجر من الله والذكر الحسن في الدنيا، ولحصلوا على السعادتين: سعادة الثواب الآجل في الآخرة، وسعادة اللذة المعجلة التي يشعر بها من أغاث ملهوفا، أو فرّج عن مكروب.
هذا بالإضافة إلى كونهم حققوا معنى الاتباع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى الله تعالى.
وحبذا لو وجد في كل قطر من الأقطار الإسلامية التي لا تتبنى حكوماتها الدعوة الإسلامية ولا تنادي بها صندوق لجباية الصدقات والتبرعات لصالح الدعوة الإسلامية في أفريقية.
نسأل الله تعالى أن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويوفق المسلمين إلى الرجوع لكتاب ربهم، وسنّة نبيهم إنه سبحانه الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(6/48)
الدين والسنن الكونية
بقلم: الدكتور محمد تقي الدين الهلالي
المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
دين الحق لا يتنافى ولا يتعارض أبدا مع السنن الكونية لأن مصدرهما واحد، وهو مشيئة الله وحكمه الذي لا معقب، فمن أراد أن يحارب السنن الكونية باسم الدين كانت عاقبته الهزيمة، ومن الأمثلة على ذلك سنة التزاوج والتناسل التي سنها الله للحيوان والنبات، فمن أراد أن يعطلها زاعما أن تعطيلها من الدين ومما يتقرب به إلى الله يعجز ويقهر، ولا يتم له ما أراد أبدا، ويجني على نفسه وعلى من اتبعه شقاء عظيما في جسمه وعقله دون أن يحصل على طائل، ولا تنحصر الجناية في من انتحل ذلك ولا في أتباعه، بل تعم شعبه.(6/49)
فقد زعم النساك من قدماء أهل الهند أن ترك الدنيا والزهد فيها هو الطريق الوحيد الذي يهذب النفس ويزكيها ويرفعها إلى الملأ الأعلى، فتركوا العمل والتزموا الجوع والعري، واعتزلوا الناس واستوحشوا منهم وسكنوا القفار مع الوحش وهجروا الأمصار وأطالوا الفكرة، وكانت أفكارهم عقيمة، نتائجها سلبية، فمنها القول بتناسخ الأرواح، وحاصله أن الأرواح محدودة لا تزيد ولا تنقص، سواء في ذلك أرواح الحيوان الناطق وأرواح الحيوان الأعجم، فمتى مات موجود حي انقلبت روحه من ذلك الجسم الفاني إلى جسم ناشئ يولد ساعة خروجها من الجسم الفاني، فكأنهما كانا على ميعاد، ولما رأوا أن العدالة الربانية التي عليها تقوم السموات والأرض والتي هي مقتضى حكمة الله وعلمه وقدرته، فكروا كيف يكون هذا الجزاء، فلم يجدوا حلا للمعضلة إلا أن يدّعو دعوى خيالية أخرى، وهي أن جزاء كل حياة من الحيوات التي يحياها الإنسان ويعبر عنها بالتجسدات تترقى فيها الروح في الدرجات العليا، أو تهبط إلى الدركات السفلى، على حسب عملها، فإن عملت في الحياة الأولى أي التجسد الأول عملا صالحا بحسن معاملتها للإنسان والحيوان، وتجنبت السيئات والآثام تنتقل بعد فناء جسمها إلى طبقة من طبقات البشر هي أجل وأعلى من الطبقة التي كانت فيها جزاء حسنا ومثوبة على عملها الصالح في الحياة المتقدمة وتفوز برضوان الآلهة، وإن اقترفت السيئات وخرجت عن شريعة الآلهة تعاقب في حياتها التالية بأن ترجع إلى الدنيا في جسم من طبقة منحطة حقيرة، وإن استمرت في ارتكاب الموبقات يستمر عقابها حتى تصل إلى دركة المنبوذين، وإن زادت في غيها تنحط حتى ترجع إلى الدنيا في جسم حيوان شريف كالفرس مثلا، فإن لم تنته عن جرائمها ترجع إلى الدنيا في جسم حيوان حقير، وهكذا دواليك حتى تصل إلى دركة الفيران، وربما انحطت إلى دركة الخنافس.(6/50)
والطبقات عند الهنادك كثيرة، أعلاها طبقة البراهمة، فهؤلاء يولدون مقدسين من بطون أمهاتهم، وكل ما عملوه فهو حق، لا تكتب عليهم سيئة واحدة طول أعمارهم، وإذا ماتوا تلتحق أرواحهم بالملأ الأعلى، وليت شعري إذا كان عدد الأرواح محدودا فمن أين يجيء المدد الذي يخلف الطبقة العليا التي لا ترجع إلى الدنيا، وأسفل الطبقات طبقة المنبوذين، ولا يجوز أن تخالط طبقة عالية طبقة أخرى أسفل منها، فلا تؤاكلها ولا تشاربها ولا تجالسها ولا يجمعهما معبد واحد، فكل طبقة لها معابدها، ولا يجوز للطبقة السفلى أن تتزوج بأفراد الطبقة العليا، ولا أن تأكل أو تشرب في آنيتها، ولا أن تمس طعامها، والمسلم عندهم يعتبر نجسا إذا مس طعاما تنجس ذلك الطعام، وأذكر أني كنت متجولا في أسواق دلهي عاصمة الهند في أول سفرة سافرتها إلى الهند، فرأيت في حانوت كوما من الزبيب الذي ليس له نوى ويسمى عندهم (كشمش) ، فأهويت بيدي لألمس ذلك الزبيب، وقبل أن تصل يدي إليه جذبت من خلفي جذبة قوية حتى سقطت على ظهري، فقمت وسألت الطالب الذي كان يرافقني من جذبني؟ فقال لي: أنا جذبتك خوفا عليك من أن تقع في مشكلة عويصة يعسر عليك حلها، انظر إلى صاحب الحانوت فهو غضبان يصيح ويشتم، ولو وقعت يدك عليه لألزمك بثمنه كله، وكنت مرة في مدينة بمبي وهي مدينة مشهورة بناحية كجرات، وكان الوقت ليلا فرأيت قلة منتصبة فلمستها بيدي فغضب صاحبها وصاح صياحا كثيرا ورأيته أخذ القلة وصب الماء الذي كان فيها مع أني لم ألمس إلا جانبها، ولا أدري هل كسرها أو انتفع بها بعد غسلها، ومما يدل على الأول أن المتصدقين بالماء البارد من الهنادك في محطات السكة الحديدية يعدون آنية صغيرة بقدر ما يشرب الشخص الواحد من الخزف ويصبون الماء فيها لكل من يحتاج إليه من غير أهل طبقتهم، ومن شرب في إناء منها إن شاء أخذه، وإن لم يرده ألقاه لأن ذلك الهندكي لا يمسه بعد ذلك، فإن انقضت تلك الأواني وجاءه شخص من غير أهل(6/51)
طبقته يصب له الماء في يديه، هذا كله مع الطبقات المتنجسات تنجسا خفيفا من إخوانهم الهنادك أو من المسلمين والنصارى، وأما الطبقة المنبوذة فأمرها أدهى وأمر، فلا يجوز لأهلها أن يسكنوا في مدينة ولا قرية، وإنما يتخذون أكواخا بعيدة من المدن ويسكنون فيها ويحفرون آبارا يشربون منها وإن كان بقربهم نهر عظيم تسير فيه السفن، لأنهم لا يسمح لهم بأخذ الماء منه لئلا يتنجس، وبحكم هذه العزلة والاستقذار الذي حكمت به الآلهة بزعمهم لا يجد المنبوذون عملا، مع أن عددهم ثمانون مليونا، فإن قلت وبما يعيشون؟ فالجواب أنهم يعيشون بنقل النجاسات من بيوت الخلاء في جوف الليل، ويخرجونها إلى مكان بعيد من المدينة فيحرقونها ويأخذون أجورا على ذلك يأتيهم بها شخص في كل شهر فيعطيهم إياها، ولعل القراء الكرام لا يعلمون أن أهل الهند حتى في المدن الكبيرة ليس عندهم مراحيض إلا في النادر، فترى الديار الكبيرة الجميلة من بيوت الأغنياء المترفين فإذا سألت عن بيت الخلاء يدلونك على مكان قد بني فيه شبه الكوانين التي توقد فيها النار، وفي كل واحد منها إناء عليه غطاء يكشفه ويتخلى فيه ثم يغطيه، ولهذا المكان بابان، باب إلى داخل الدار وباب إلى الشارع، وهذا الباب الذي إلى الشارع له قفل ومفتاح يكون دائما عند المنبوذ ليأتي في جوف الليل ويفتح ذلك المكان ويخرج كل ما فيه ويجعله في عربة النجاسات ثم يغسل الأواني ويردها إلى مواضعها، وهذا شيء عام في جميع بلاد الهند، وسبب منع المنبوذين من دخول المدن نهارا هو نجاسة أجسامهم التي بلغت إلى حد أن ظل المنبوذ لو وقع على طعام لنجسه، وهذا الأمر ليس مفروضا على المنبوذين من قبل الطبقات العليا فقط، بل المنبوذون أنفسهم يعتقدون أنه أمر مبرم حكمت به الآلهة عليهم، للذنوب التي ارتكبوها في التجسدات السالفة ولا مرد لحكمها، وقد حاول غاندي أن يغير هذه العقيدة ويطهر المنبوذين وزعم أنه نزل عليه الوحي يأمره بذلك، وقرر(6/52)
القول في مقالات نشرها في الصحيفة التي كان يصدرها واسمها (هرجان) وقال فيها: فإن طلبتم مني دليلا على أن الله أوحى إلي بذلك، أجيبكم ليس عندي دليل ولكني لا أشك في ذلك أبدا، ومع أن غاندي كان من الطبقة المقدسة وهي البراهمة، وكان وطنيا مخلصا متعبدا زاهدا في الدنيا، قضى جل حياته في سجون الاستعمار لم يقبل منه الهنادك هذه الدعوى، لأنها تفسد عليهم دينهم وتأتي بنيانه من القواعد وتجعل عاليه سافله، وحاول الدكتور امبدكار وأصله من المنبوذين وقد كفر بعقيدتهم وتعلم حتى حصل على شهادة الدكتوراه، حاول أن يقنعهم ببطلان عقيدة التنجس ويفهمهم أنهم بشر كسائر البشر فلم يفلح، ولا يزال الدعاة من المسلمين والنصارى يدعونهم إلى تغيير عقيدتهم فيستجيب لهم من قدر له منهم أن يخرج من ذلك الشقاء، إلا أن دعوة المسلمين أكثر نجاحا، لأن المنبوذ إذا أسلم يمتزج مع المسلمين في الحين ويستطيع أن يخالط جميع المسلمين في مساجدهم ومدارسهم ومجالسهم لا يترفع عليه أحد منهم وإن كان ملكا أو أميرا، أما النصارى فقد يستقذر بعض الأروبيين مجالسة المنبوذين والصلاة معهم في كنيسة واحدة فيأمرونهم ببناء كنائس خاصة بهم.
ومما حدث من قبيل دعوة المسلمين المنبوذين إلى الإسلام أن أحد علماء المسلمين عكف على دعوة جماعة من المنبوذين وأقام عندهم زمانا طويلا يشرح لهم فضل الإسلام وبطلان ما هم عليه حتى هداهم الله جميعا فأسلموا واحتفلوا بيوم إسلامهم فخرجوا من أكواخهم رجالا ونساء وصبيانا، وقد حمل كل واحد منهم قلة وانطلقوا إلى النهر وهم يكبرون الله أكبر الله أكبر، حتى ملئوا القلل وحملوها على أكتافهم ورجعوا إلى بيوتهم فرحين مستبشرين، يحمدون الله الذي أزال عنهم تلك اللعنة وطهرهم وهداهم إلى الإسلام.(6/53)
وقد جرتهم عقيدة التناسخ إلى عقيدة أخرى تضاهيها في الفساد والشر وهي تحريم ذبح الحيوان وأكل لحمه مخافة أن يكون ذلك الحيوان قد حلت فيه أحد أجدادهم، فلا يجوز عندهم قتل أي حيوان وإن كان مؤذيا كالقردة مثلا، ولذلك ترى القردة تسير في مدن الهند أسرابا وتتسلق جدران البيوت وتنزل إلى السطوح وتخيف النساء والصبيان، وتفسد كل ما وصلت إليها أيديها من طعام وثياب وغير ذلك، وقد اتفق أني كنت في الهند ساكنا في مدينة لكناو طبعت خمسمائة غلاف بعنواني، وكانت موضوعة في غرفة فجاءت القردة وفتحت نافذة الغرفة فدخلت وأخذ كل واحد منها قبضة يده من الأغلفة وخرجوا بها وألقوها في الهواء، فتشتت في كل مكان من المحلة التي كنت أسكنها، فجمع أهل المحلة ما أمكن جمعه منها وجاءوني به، ومن أذاها للناس أنها تجتمع بالمآت عند قبة صنم لتنال من صدقات الزائرين من عباده، ولما كان القراء الكرام لا يعرفون الأصنام لأنهم لم يشاهدوها أرى من المستحسن أن أصف لهم هذا الصنم، فهو تمثال رجل واقف على قدميه عليه ثيابه وعمامته وله لحية وافرة سوداء ووجهه أبيض مشرب بحمرة يظن الرائي أنه حي، وقد جلس عنده ناسك وهو عريان أسود الجسم نحيله جدا، حتى كأنه هيكل عظمي، فيجيء الزائر ويسجد لذلك الصنم سجدة واحدة ثم يقوم ويقدم النذر أو الصدقة لذلك الناسك وينصرف فيتصدق على القردة بما تيسر له من الطعام، وهذه القردة تقطع الطريق على المارة فمتى رأت شخصا يحمل طعاما، والعادة جارية بأن الموظفين يبعث إليهم الطعام من بيوتهم وقت الظهر، متى رأت القردة شخصا يحمل طعاما وليس عنده ما يدافع به عن نفسه هجمت عليه وخمشته بأظفارها وانتزعت منه ذلك الطعام، ولا يستطيع المسلمون أن يمسوا القردة بسوء خوفا من نقمة الوثنيين الذين يدافعون عن كل حيوان ويمنحونه حمايتهم ورعايتهم مخافة أن يكون أحد أجدادهم قد تقمص جسمه، ولذلك لا يستطيع أحد أن يظهر لحم الحيوان، لأن الهنادك لا يستطيعون(6/54)
رؤيته، ومن أجل ذلك صارت المجزرة في بلدانهم يحيط بها سور، ولكل باب من أبوابها دهليز طويل حتى لا تقع عين هندكي على لحم يقطع أو يباع.
ومما يتصل بهذا ويحسن ذكره هنا عبادتهم للبقرة وتقديسهم لها فمتى بلغهم ولو كذبا أن المسلمين أو النصارى ذبحوا بقرة أعلنوا عليهم الحرب، وأزهقت بسبب ذلك نفوس كثيرة، والبقرة تشعر بذلك فتراها لا تسير إلا في الرصيف، ولا تسير في قارعة الطريق كسائر الحيوان، ومتى مرت بصاحب دكان وقفت ونظرت إليه، فإن كان وثنيا خرج إليها وقدم الحلوى وقبّلها وتمسح بها، ومن عادة المتمسكين بالدين عندهم أنهم يخلطون خثي البقرة بتراب مقدس عندهم ويضعونه خطا على جباههم للتبرك والحفظ، أخبرني بذلك المسلمون حين سألتهم عن تلك الخطوط التي كنت أراها على جباه المشركين، وهذه العقيدة ليست قديمة جدا عند الوثنيين من أهل الهند، فقد ثبت في التاريخ أن راما وهو أعظم آلهتهم كان ملكا وكان يصيد الحيوان، وقد بلغ من تعظيمهم لرام أنهم جعلوا اسمه تحية، فمتى التقى اثنان منهم يرمرم كل واحد منهما للآخر بقوله (رام) فيحييه الآخر بمثل ذلك.(6/55)
وكان أبو العلاء المعري على هذه العقيدة، فإنه لم يأكل اللحم أربعين سنة، وزعم أن ذبح الحيوان وأكل لحمه وبيضه وشرب لبنه كل ذلك عدوان وظلم، وهذا يدل على جهله بالسنن الكونية، وذلك أن الله جلت قدرته وبلغت حكمته جعل استمداد الحياة من الحياة، فجعل غذاء الحيوان من الحيوان ومن النبات في البر والبحر ولن تجد لسنة الله تبديلا، وكل ما يأكله ويشربه الإنسان والحيوان مملوء بأنواع الحيوان من الجراثيم التي لا ترى بالبصر، فكل حيوان آكل ومأكول، والإنسان الذي هو أشرف الحيوان يأكله الدود، وهو من أحقر الحيوان، وليس في قدرة الإنسان أن يمتنع من استهلاك الحيوان، فتورع أبي العلاء عن أكل لحم الحيوان تورع باطل وفلسفة فاسدة، فالأنبياء هم أعلم الناس وأرحمهم وأورعهم كانوا يأكلون اللحم، بل الله وهو أرحم الراحمين أباح لجميع الناس أكل اللحوم والانتفاع بلبن الحيوان وبيضه وصوفه ووبره وشعره وجلده، فمن أراد تعطيل تلك المنافع فقد سفه نفسه وأراد تغيير سنة الله ولن يجد إلى ذلك سبيلا، وقد أخبرني المسلمون في الهند أن كثيرا من الهنادك يأكلون اللحم سرا، فيكلفون أصدقاءهم من المسلمين أن يشتروا لهم اللحم ويأتوهم به خفية، وهكذا كل من أراد أن يبدل سنة الله أهلك نفسه ولم يحصل على طائل..
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
كناطح صخرة يوما ليوهنها
نبذة من التصوف الهندي الوثني(6/56)
جاء في كتاب مقارنة الأديان للدكتور أحمد شلبي صفحة 70 ما نصه مع تغيير الألفاظ الركيكة: ((إن أعلى ما يرغب فيه البرهمي هو الفناء في برهما (وهو إله الآلهة عندهم) والفناء فيه، والطريق الموصل إلى هذا الغرض هو الزهد والتقشف المفرط بالصوم وأرق الليل وتعذيب النفس وحرمانها من كل ما تشتهيه وتحميل المرء نفسه أنواع البلاء، ويبدو دائما كثير الهموم والخوف والتشاؤم وهو لا يتمنى الموت لأن الموت ينقله إلى دورة جديدة من دورات حياته كما تقدم في ذكر تناسخ الأرواح بل يرجو لنفسه الفناء في برهما، ومن ذلك حفلت حياة نساك الهند الوثنيون بالبؤس ومحاربة الملاذ بترك الاكتساب والاكتفاء بسؤال الناس عند الضرورة القصوى، وفي كتبهم المقدسة عندهم ما معناه أن الذي تغلب على نفسه فقد تغلب على حواسه التي تقوده إلى الشر، والنفس لا تشبع أبدا بل يزداد جشعها بعد أن تنال مشتهاها، فالذي أوتي كل ما يشتهي وأعطى نفسه هواها فقد أهلكها وأشقاها، أما الذي ترك كل ما تشتهيه نفسه، وتخلى عن الدنيا فقد أنقذ نفسه وقادها إلى السعادة، على طالب العلم أن يهذب نفسه بأن يتجنب الحلوى واللحوم والروائح الطيبة والنساء، وكذلك يجب عليه ألا يدلك جسده بما له رائحة طيبة، ولا يكتحل ولا يلبس حذاء ولا يتظلل من الشمس، وعليه أن لا يهتم برزقه بل يحصل رزقه بسؤال الناس، وعندما تدخل في الشيخوخة عليك بالعزلة وعدم قرب النساء والأهل والإقامة في الغابة، وإذا أقمت في الغابة فليس لك أن تقص شعرك ولحيتك وشاربك ولا أن تقلم أظفارك، وليكن طعامك مما تنبته الأرض وتثمره الأشجار، ولا تقطف الثمر بيدك بل كل منه ما سقط من الشجرة، وعليك بالصوم تصوم يوما وتفطر يوما، وإياك واللحم والخمر عوّد نفسك على تقلبات الفصول فاجلس تحت الشمس المحرقة، وابق أيام المطر تحت السماء، وارتد الرداء المبلل في الشتاء، لا تفكر في الراحة البدنية، اجتنب سائر الملذات، نم على الأرض ولا تأنس بالمكان(6/57)
الذي أنت فيه، إذا مشيت فامش حذرا حتى لا تتخطى عظما أو شعرا، وحتى لا تطأ حشرة، وإذا شربت الماء فاحذر أن تبتلع بعوضة أو نحوها، لا تفرح باللذيذ ولا تحزن للرديء.
يقول كاتب هذا الحديث محمد تقي الدين الهلالي: عجبا للبراهمة يتورعون عن بلع البعوضة مع الماء الذي يشربون، وعن الوطء على النمل بأقدامهم حين يمشون، أما سفك دماء المسلمين رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا فإنه عندهم من أقرب القربات التي ترضي آلهتهم، وتصعد أرواحهم إلى الملأ الأعلى.(6/58)
كنت في لكنو عام 1343 ضيفا عند الدكتور محمد نعيم الأنصاري فوقعت معركة بين المسلمين والمشركين واستمرت ثمانية أيام، وتعطلت الأسواق وعجزت الشرطة التي يدير شؤونها الإنجليز عن إخماد نار تلك الفتنة، فإنهم كانوا يركبون بأعداد كبيرة في السيارات ولا يضعون شيئا، لأن الشرطة أيضا وإن كانوا تحت القيادة الإنجليزية فأكثرهم وثنيون والقليل منهم مسلمون، وجعل أغنياء الوثنيين عشر ربيات لكل من يأتيهم برأس مسلم أو مسلمة سواء أكان شيخا أو شابا، رجلا أو امرأة أو صبيا، صحيحا أو مريضا، فبقينا تلك المدة ليس لنا طعام إلا العدس، مع أن الدكتور الأنصاري كان يعيش معيشة المترفين، وكان غاندي موجودا، وكان له أتباع وأنصار وتلامذة في تلك المدينة فلم يهتم هو ولا غيره من البراهمة بإزهاق أرواح المسلمين، والمسلمون في مدينة لكنو لا يزيد عددهم على ربع سكانها، فقتلوا تقتيلا وكان الذين بدأوا بالعدوان وأوقدوا نار الحرب هم الوثنيين، وهذا يذكرنا بقول ابن عباس رضي الله عنهما لأهل العراق حين سألوه عن المحرم يقتل بعوضة ماذا عليه، فقال لهم: عجبا لكم يا أهل العراق سفكتم دم الحسين ومن معه من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ولم تتورعوا عنه ثم جئتم تسألونني عن قتل البعوض، ولا حاجة لنا إلى ذكر الماضي، فحوادث هذه الأيام فيها كفاية، فكلنا يعلم أن الدولة الوثنية الهندية التي تدين بدين البراهمة هجمت على خمسة وسبعين مليونا في باكستان الشرقية وأعملت فيهم السيف والقنابل والإحراق والتعذيب تحت سمع الدنيا وبصرها، فلم يغثهم أحد لا من المسلمين ولا من غيرهم، وهاهم يسرحون ويمرحون ويملون شروط الصلح على من بقي من المسلمين في باكستان الغربية، فقبح الله من زعم أن هذا عصر النور والحرية والمساواة وفي مثله ينبغي أن ينشد:
فأقد منها حافرا للأدهم
يا ليت لي من جلد وجهك رقعة
اقتفاء جهلة المتصوفة آثار الهنادكة في تعذيب أنفسهم(6/59)
من المعلوم أن الوثنيين في الهند لا يؤمنون بالأنبياء فعقائدهم ناشئة عن الجهل والرعونة فلا يستغرب منهم ذلك، والعجب كل العجب من قوم نشئوا في بلاد الإسلام في زمان كانت البلاد الإسلامية مشرقة بأنوار الكتاب والسنة ورايات الإسلام منصورة وأيامه في أيامهم مشهورة، ومع ذلك تركوا الكتاب والسنة وسيرة السلف الأمة واقتدوا بالبراهمة في تنسكهم السخيف، وسأورد هنا ما يتسع له المقام من حكاياتهم المضحكة المبكية.
الحكاية الأولى(6/60)
ابن الكريتي ومرقعته، قال الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس على الطوائف المختلفة بسنده إلى نصر عبد الله السراج ذكر عن ابن الكريتي وكان أستاذ الجنيد أنه أصابته جنابة وكان عليه مرقعة ثخينة فجاء إلى شاطئ دجلة والبرد الشديد فحزنت نفسه عن الدخول في الماء لشدة البرد فطرح نفسه في الماء مع المرقعة ولم يزل يغوص ثم خرج، وقال عقدت ألا أنزعها عن بدني حتى تجف عليّ فلم تجف عليه شهرا، ثم روى الحكاية بسند آخر إلى الجنيد قال سمعت أبا جعفر ابن الكريتي يقول: أصبت ليلة جنابة فاحتجت أن أغتسل وكانت ليلة باردة فوجدت في نفسي تأخرا وحدثتني نفسي لو تركت حتى تصبح يسخن لك الماء أو تدخل حماما وإلا اعبأ على نفسك، فقلت واعجبا أنا أعامل الله في طول عمري يجب على حق لا أجد المسارعة إليه، وأجد الوقوف والتباطؤ والتأخر، آليت لا أغتسل إلا في نهر وآليت لا أغتسل إلا في مرقعتي هذه، وآليت لا أعصرها وآليت لا أجففها في شمس أو كما قال، ثم قال ابن الجوزي: وكان وزن كُم هذه المرقعة وحده أحد عشر رطلا، قال محمد تقي الدين الهلالي الرطل اثنتا عشرة أوقية، والأوقية أربعون درهما، فإذا كان كُم المرقعة يزن أحد عشر رطلا، والكم الثاني مثله يصير الكمان فقط اثنين وعشرين رطلا، ونسبة الكمين إلى الجبة كلها نجعلها ربعا فيكون وزن الجبة ثمانية وثمانون رطلا، فإذا غمست في الماء يعلق بها من الماء مثل ذلك.(6/61)
ونترك التعليق للحافظ ابن الجوزي، قال الحافظ ابن الجوزي بعد ذكر هذه الحكاية التي رواها بإسنادين اثنين ما نصه: وإنما ذكر للناس أني فعلت الحسن الجميل وحكوه عنه ليبين فضله، وذلك جهم محض لأن هذا الرجل عصى الله سبحانه وتعالى بما فعل، وإنما يعجب هذا الفعل العوام الحمقى لا العلماء، ولا يجوز لأحد أن يعاقب نفسه، فقد جمع هذا المسكين لنفسه فنونا من التعذيب.. إلقاؤها في الماء البارد، وكونه في مرقعة لا يمكنه الحركة فيها كما يريد، ولعله قد بقي من مغابنه ما لم يصل إليه الماء لكثافة هذه المرقعة، وبقاؤها عليه مبتلة شهرا وذلك يمنعه لذة النوم، وكل هذا الفعل خطأ وإثم وربما كان ذلك سببا لمرضه.
الحكاية الثانية
وحكى أبو حامد الغزالي عن ابن الكريتي أنه قال: نزلت في محلة فعرفت فيها بالصلاح فنشب في قلبي أي شعرت بأنني من الصالحين الذين يستحقون التعظيم، فدخلت الحمام فرأيت ثيابا فاخرة فسرقتها ولبستها ثم لبست مرقعتي وخرجت فجعلت أمشي قليلا قليلا، فنزعوا مرقعتي وأخذوا الثياب وصفعوني، فصرت بعد ذلك أعرف بلص الحمّام فسكنت نفسي، قال أبو حامد: فهكذا كانوا يرضون أنفسهم حتى يخلصهم الله من النظر إلى الخلق ثم من النظر إلى النفس وأرباب الأحوال، وربما عالجوا أنفسهم بما لا يفتي به الفقيه مهما رأوا إصلاح قلوبهم، ثم يتداركون ما فرط منهم من صورة التقصير كما فعل هذا في الحمّام.(6/62)
قال الحافظ ابن الجوزي بعد ذكر هذه الحكاية: سبحان من أخرج أبا حامد من دائرة الفقه بتصنيفه كتاب الإحياء فليته لم يحك فيه مثل هذا الذي لا يحل، والعجب منه أنه يحكيه ويستحسنه ويسمي أصحابه أرباب أحوال، وأي حالة أقبح وأشد من حال من يخالف الشرع ويرى المصلحة في مخالفته، وكيف يجوز أن يطلب صلاح القلوب بفعل المعاصي وقد عدم في الشريعة ما يصلح به قلبه حتى يستعمل ما لا يحل فيها، وهذا من جنس ما تفعله الأمراء الجهلة من قطع من لا يجب قطعه وقتل من لا يجوز قتله ويسمونه سياسة، ومضمون ذلك أن الشريعة ما تفي بالسياسة، وكيف يحل للمسلم أن يعرض نفسه لأن يقال له سارق، وهل يجوز أن يقصد وهن دينه ونحو ذلك عند شهداء الله في الأرض، ولو أن رجلا وقف مع امراته في طريق يكلمها ويلمسها ليقول فيه من لا يعلم هذا فاسق لكان عاصيا بذلك، ثم في مذهب أحمد والشافعي أن من سرق من الحمّام ثيابا عليها حافظ وجب قطع يده، كلا والله إن لنا شريعة لو رام أبو بكر الصديق أن يخرج عنها إلى العمل برأيه لم يقبل منه، فعجبي من هذا الفقيه المستلب عن الفقه بالتصوف أكثر من تعجبي من هذا المستلب الثياب.
الحكاية الثالثة(6/63)
قال ابن الجوزي بسنده إلى أبي الحسن المديني أنه سمعه يقول: خرجت مرة من بغداد إلى نهر الناشرية، وكان في إحدى قرى ذلك النهر رجل يميل إلى أصحابنا، فبينا أنا أمشي على شاطئ النهر، رأيت مرقعة مطروحة ونعلا وخريقة فجمعتها وقلت هذه لفقير، ومشيت قليلا فسمعت همهمة وتخبطا في الماء فنظرت فإذا بأبي الحسن الثوري قد ألقى نفسه في الماء والطين وهو يتخبط ويعمل بنفسه كل بلاء، فلما رأيته علمت أن الثياب له، فنزلت إليه فنظر إليّ وقال: يا أبا الحسن أما ترى ما يعمل بي قد أماتني موتات وقال لي ما لك إلا الذكر الذي لسائر الناس، وأخذ يبكي ويقول: ترى ما يفعل بي، فما زلت أرفق به حتى غسلته من الطين وألبسته المرقعة وحملته إلى دار ذلك الرجل، فأقمنا عنده إلى العصر، ثم خرجنا إلى المسجد فلما كان وقت المغرب رأيت الناس يهربون ويقفلون الأبواب ويصعدون السطوح، فسألناهم فقالوا السباع بالليل تدخل القرية، وكان حوالي القرية أجمة أي غابة عظيمة، وقد قطع منها القصب وبقيت أصوله كالسكاكين، فلما الثوري هذا الحديث قام فرمى بنفسه في الأجمة على أصول القصب المقطوع، ويصيح ويقول: أين أنت يا سباع، فما شككنا أن الأسد قد افترسه، أو قد هلك في أصول القصب، فلما كان قريب الصبح جاء فطرح نفسه وقد هلكت رجلاه فأخذنا بالمنقاش ما قدرنا عليه فبقي أربعين يوما لا يمشي على رجليه، فسألته أي شيء كان ذلك الحال فقال: لما ذكروا السبع وجدت في نفسي فزعا، فقلت لأطرحنك إلى ما تفزعين منه.(6/64)
قال الحافظ ابن الجوزي بعد ذكر هذه الحكاية: قلت لا يخفى على عاقل تخبيط هذا الرجل قبل أن يقع في الماء والطين (يعني أن الشيطان تخبطه) وكيف يجوز للإنسان أن يلقي نفسه في ماء وطين، وهل هذا إلا فعل المجانين، وأين الهيبة والتعظيم من قوله ترى ما يفعل بي (يعني أن الله فعل به ذلك فكأنه يشكو الله تعالى إلى من كان يخاطبه) وما وجه هذا الانبساط، وينبغي أن تجف الألسن في أفواهها هيبة، ثم ما الذي يريده غير الذكر وقد خرج عن الشريعة بخروجه إلى السبع ومشيه على القصب المقطوع، وهل يجوز في الشرع أن يلقي الإنسان نفسه، أترى أراد منها أن يغير ما طبعت عليه من خوف السباع، ليس هذا في طوقها ولا طلبه الشرع منها.
تعذيب أنفسهم بالجوع
ذكر الحافظ ابن الجوزي في الكتاب المذكور حكايات كثيرة في تعذيب المتصوفة أنفسهم بالجوع زادوا فيها على نساك الهند الوثنيين أضعافا كثيرة، أذكر منها شيئا يسيرا فمن ذلك ما ذكره الحافظ ابن الجوزي في الكتاب المذكور صفحة 200 حكى أبو حامد الطوسي عن سهم يعني ابن عبد الله التستري قال: كان سهل يقتات ورق النبق مدة، وأكل دقائق التبن مدة ثلاث سنين، واقتات بثلاثة دراهم في ثلاث سنين.(6/65)
ومن ذلك الترهب بترك التزوج وتعاطي أسباب المعيشة للتفرغ إلى عبادة الله بزعم المنتحلين لذلك، وهذا من الجهل بسنة الله وفطرته ومحاولة تغييرها، وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عبادة الله ليست منحصرة في الصيام والصلاة، بل كل قول أو عمل يراد به وجه الله هو عبادة، وقد أوجب الله على عباده واجبات كثيرة فمن ضيع بعضها كمن ضيع كلها، عن أنس بن مالك قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالها، وقالوا أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم أما أنا فأصلي الليل أبدا ولا أنام، وقال الآخر وأنا أصوم الدهر أبدا ولا أفطر، وقال الآخر وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني" رواه البخاري.
وإنما غضب النبي صلى الله عليه وسلم على أولئك الرجال لأمور: منها أنهم جهلوا الأصل العظيم وهو أن كل قول وعمل يراد به وجه الله فهو عبادة، وذلك خطأ عظيم يجر صاحبه إلى الضلال، ومنها أنهم ظنوا أنهم أقوى على العبادة وأقدر عليها من النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الخطأ أعظم مما قبله، ومنها أنهم إذا شغلوا أنفسهم بنوع واحد من العبادة ضيعوا واجبات وحقوقا أخرى فكانوا كمن قضى الدين بالدين، وما أحسن قول الشاعر:
إذا ما قضيت الدين بالدين لم يكن
قضاء ولكن ذاك غرم على غرم(6/66)
يوضح هذا المعنى حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو ذر أن أناسا قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم قال: "أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر " رواه مسلم، وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق"رواه مسلم، وعنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يصبح على كل سلامى من أحدكم فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة" رواه مسلم.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، تعدل بين الاثنين صدقة وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة" متفق عليه.
وفي حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في امرأتك" والآثار في هذا المعنى كثيرة اقتصرنا منها على ما يتسع له المقام.(6/67)
وإذا تأملنا أنواع البر الواردة في هذه الأحاديث وحدها نجدها كثيرة، أولها ذكر الله بالقلب واللسان، وثانيها الأمر بالمعروف وهو كل أمر مستحسن شرعا، وثالثها النهي عن المنكر وهو كل أمر محرم كالظلم والعدوان وتعدي حدود الله، ورابعها التزوج ومباشرة الأهل لأن فيها طلبا للولد، ومنعا للزوجين من الوقوع في الموبقات والاستغناء عن الحرام بالحلال، وخامسها حق الضيف والزائرين كما في حديث سلمان وأبي الدرداء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إن لربك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، وإن لضيفك عليك حقا فاعط كل ذي حق حقه".(6/68)
وهناك حقوق كثيرة كحق الأولاد والوالدين وسائر ذي القربى واليتامى والمساكين والأصحاب وابن السبيل إلى غير ذلك، والترهب يضيع كل هذه الحقوق، وقوله عليه الصلاة والسلام: يصبح على كل سلامى من الناس صدقة السلامى العضو من أعضاء الجسم، ففي كل صباح تكون على الإنسان واجبات اجتماعية بقدر عدد أعضاء جسمه، فإذا وجد اثنين متخاصمين فأصلح بينهما بالعدل فقد أدى واجب عضو من أعضاء جسمه، وإذا وجد إنسانا يريد أن يركب دابته أو سيارته أو سفينته أو يحمل عليها متاعه وأعانه على ذلك فقد أدى واجب عضو آخر، وإذا وجد في طريق الناس ما يؤذيهم فأزاله فقد أدى واجب عضو آخر، والأنواع التي تؤذي الناس في طريقهم كثيرة، منها الشوكة والحجر والنجاسات وقطع الطريق والسباع وكل ذوات السموم، ويدخل في هذا بناء القناطر والسدود وتعبيد الطرق أي تسويته وتبليطه وإزالة الأوحال والثلوج وغير ذلك، ومن القربات جمع المال من طريق الحلال حتى يغني الإنسان نفسه وأهله ويترك لورثته ما يغنيهم، ومنها ملاطفة الزوجة باختيار لقمة شهية أو ثمرة ووضعها في فمها كما مضى في الحديث، والمتبتل المنقطع للصلاة والصيام المعتزل عن الناس يفوته ذلك كله، وغيره من التعلم والتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله وتشييع الجنازة وغير ذلك من القربات الاجتماعية.
وهذا الموضوع واسع لا يستوعبه مجلد، فنمسك عنان القلم ونكتفي بهذا القدر.(6/69)
الصلح خير
بقلم الشيخ عبد الله بن صالح المحسن
المدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة
إن الناس في هذه الحياة على اختلاف ألوانهم وتباين لغاتهم وتباعد أقطارهم بعضها عن بعض لم يعلم عن أحد منهم في وسط المعمورة ولا في أرجائها أنه لم يحدث بينهم خصومات ومنازعات، بل إن الطبيعة الغريزية لتحمل كل إنسان على محبة التغلب والانتصار على منازعه أو خصمه فإن كانت صالحة فالمرء يريد استيفاء حقه وإن كانت طالحة فيريد المرء التغلب والانتصار على الخصم بأي طريق، لذا فكثيرا ما تقع الخصومات والمنازعات بين فرد وآخر وقرية وأخرى، فلذا عُني الإسلام بهذا الشأن فأمر بالصلح ورغب فيه وجعل المصلح حاكما نافذا حكمه قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وقال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} وقال تعالى في حق الزوجين {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} وقال الرسول صلى الله عليه وسلم "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى، قال: إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقه" رواه أبو داود والترمذي وقال حديث صحيح، وللترمذي "لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق(6/70)
الدين" وقال صلى الله عليه وسلم: "كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين (تصلح بينهما بالعدل) صدقة" رواه البخاري ومسلم.
وقد أجاز صلى الله عليه وسلم الكذب في الصلح بين الناس حيث قال صلى الله عليه وسلم: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا" رواه البخاري ومسلم، ولمسلم "لم يرخص في شيء مما يقول الناس إنه كذب إلا في ثلاث" وذكر منها الإصلاح بين الناس، كل ذلك دافع إلى الصلح في حل المشاكل المتأزمة فعلى كل مسلم أن يكون رجلا مجاهدا في أمته وبني وطنه ومن يتصل به من غيرهم بأن يسعى بالصلح إذا وجد نار الغضب والفتنة تتأجج بالخصومات والمنازعات بين أي من الناس فليحاول التدخل فيما بينهما بالصلح ليكون حكما عدلا مصلحا بينهم بأقواله وباذلا في ذلك ما يستطيعه من أفعال ومال إذا تطلب الأمر ذلك حتى يطفئ تلك الفتنة الملتهبة أو المشاكل المعقدة ويحل بدلها السلام والوئام ولا يقول هذا ما يعنيني فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبر بأن أهل قباء اقتتلوا حتى ترامو بالحجارة فقال "اذهبوا بنا نصلح بينهم" رواه البخاري.
فعلى كل مسلم أن يكون دائما مشاركا في هذه الحياة بنفع إخوانه مسابقا في ميادين الإصلاح والعمل المثمر مسارعا إلى ما يؤلف القلوب ويرفع مستوى أمته ليسمو بين الورى بحسن الثناء ويسعد في آخرته عند الله إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا ويقول الشاعر:
لا تزهد الدهر في عرف بدأت به
كل امرئ سوف يجزى بالذي فعلا
إن الثناء ليحيي ذكر صاحبه
كالغيث يحيي نداه السهل والجبلا(6/71)
وعلى المصلح أن يكون الإخلاص هو الدافع له على الصلح، وأن يكون صلحه سائرا تحت لواء الشريعة فلا ينفذ صلحا مخالفا للسنة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" رواه مسلم، مردود عليه لعدم صحته وقد رد صلى الله عليه وسلم الصلح الباطل في قصة العسيف حيث قال صلى الله عليه وسلم: "أما الوليدة والغنم (التي اصطلحتم عليه) فرد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام" رواه البخاري ومسلم، فيا أيها المسلم الذي وقع في مشكلة مع غيره عليك بقبول الصلح لما فيه من الخير الكثير والابتعاد من الشر المستطير ومن أعظم الأدلة على ذلك قصة صلح الحديبية الذي ظاهره النقص والضرر على المسلمين وفي باطنه ما تجلى من المنافع العظيمة التي ظهرت لكل واحد، ولما في قصة الزبير مع خصمه قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زبير ثم أرسل (الماء) إلى جارك" مريدا بذلك الصلح فلم يوافق الخصم على ذلك فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "اسق (يعني الزبير) ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر" رواه البخاري، مستوعبا في ذلك حق الزبير في صريح الحكم، فلو قبل الخصم الصلح لكان له فيه خير، وقد تكرر الأمر بالصلح والترغيب فيه كما سبق لما يحصل في الخصومات والمشاهدات من الأضرار العظيمة من سفك الدماء وذهاب الحقوق وتجسم العداوات والإساءة والإيذاء من آثارها مع ما يبذل في سبيل ذلك من الأقوال بحق وبدون حق مع أنها محرقة للقلوب داعية للهموم ومضيعة للوقت من دون جدوى ولا فائدة غالبا، بل ضرر ظاهر وعذاب وابتلاء قد يكون مستمرا فما على المسلم إلا أن يقبل الصلح متسامحا عن بعض حقه في اعتقاده ليرتاح من عناء تحقيق حقه وقد يضيع حقه كليا بسبب عدم خوف خصمه من الله وخصوصا في هذا الزمان وما فيه من زخرف القول الذي يجعل الباطل حقا والحق باطلا مما يخالف قول الله سبحانه {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى(6/72)
الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
من الصحف والمجلات
نشرت مجلة التضامن الإسلامي في عددها رقم 9 تحت عنوان موقف الإسلام من الفنون ما يلي:
وإنما يحذر الإسلام من كل لهو تشوبه المعصية لأمر الله والخروج عن قيم الإسلام وتعاليمه من كل ترويح يؤسس في القلوب الاستهانة بأمر الله والاستخفاف بحدود الشريعة وانتهاك حرماتها، وإذا نظرنا في المجتمعات المعاصرة وجدنا فيها ألوانا من اللهو يطلق عليها اسم الفن وهي ذات صلة وثيقة بإثارة الغرائز وهي على هذا تحقق الكسب وتكسب الشهرة ولكن آثارها في الأخلاق والتوجيه والسلوك آثارا مدمرة إذ توحي إلى الإنسان بالانسلاخ من كل قيد، والتجرد من كل خلق وتثبت فيه أن الحياة لذة ولا شيء وراءها فكيف تجد هذه الفنون الكاذبة من يدافع عنها في بعض المجتمعات الإسلامية ومن يتحمل لها الجوائز باسم التجديد والتطور مع أن قوانين الاجتماع الإنساني تقف نذيرا، وسنة الحضارة شاهد صدق على أن فناء الأمم وبقاءها رهن بما تؤخذ به نفسها من جد واستقامة وما تحظره في حياتها من مفاسد ونقائص، والإسلام يفرق بين اللهو المباح وبين أمراض الغرائز التي تحاول أن تتسلل إلى كل مظاهر الحياة وأن تطبع نشاط المجتمع كله بطابعه السقيم.(6/73)
المسئولية بين الفرد والمجتمع
بقلم الشيخ: محمد أبو فرحة المدرس في الجامعة
المجتمع الإسلامي في نظر الإسلام: وحدة واحدة لا تتجزأ، ولا يجوز أن تترك ليصيبها العطب أو الفساد، ولا أن يهمل جزء منها ليصاب بالعطب أو الفساد، ولا سبيل إلى صيانتها إلا بأن يقوم كل فرد بعمله، حاكما أو محكوما، وأن يكون مخلصا في عمله مضحيا للجماعة التي ينتمي إليها، بشيء من راحته ووقته، وبجزء من ماله وجهده، برضا نفس، وسماحة قلب، حتى يظل الترابط والتماسك قائما، ويبقى التراحم والتواد بين الأفراد موجودا، فإن الأفراد هم اللبنات التي يتكون منها المجتمع، والخلايا التي ينتج عن تماسكها هذا الكائن الحي المسمى بالأمة.
وطالما كانت الخلايا سليمة تؤدي وظائفها ظل المجتمع سليما معافى، يفيض على خلاياه الصحة والقوة، ويدفع عنها كل خطر خارجي، ويعوضها عن كل نقص داخلي.
نعم لا بد وأن يشعر الفرد بأنه ابن بار لمجتمعه، وعضو نشيط في أمته يسعد بسعادتها، وينفعل بأحاسيسها، وينغصه تأخرها عن غيرها، والمجتمع يحرسه ويحافظ عليه، محافظة الأب الرحيم والأم الرءوم على وليدها.
فإذا ما استيقظ ضمير الفرد نحو أمته بالحب والإخلاص والتضحية، واستيقظت الأمة تحمي أفرادها، كان ذلك المجتمع في كنف الله، مستظلا برعايته "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى ".
وأمة هذا شأنها يتنزل عليها نصر الله، من سماء الله، على يد ملائكة الله وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم.(6/74)
لقد جعل الله الفرد مسئولا شخصيا عن حراسة نفسه، عن الإضرار بأمته، ومسئولا عن حراسة الأمة في بيئته مسئولا عن عمله وإتقانه، والأمانة فيه، مسئولا عن محاربة الجرائم الظاهرة والخفية وعن محاربة الاتجاهات الخبيثة التي تضر الأمة في حاضرها أو تؤذيها في مستقبلها، مسئولا عن كل ذلك مهما يلاقي في سبيله من مشقة ومتعبة، لأن الله جعله جنديا، ميّزه بالعقل وطالبه بالمحافظة على منطقته.
فإذا قام الفرد بواجبه على هذا النحو، ولم يجد تقديرا أو جزاءا من مجتمعه فلا يخشى بأسا ولا فواتا، فإنه إذا لم ينصفه أهل الأرض، فسوف لا يضيعه رب السماء، وإن عدالة الله أكرم من أن تضيع جزاء المعروف بين الله والناس، بل كلما تحمل الفرد شدة في جهاده ومشقة في إصلاح أمته، أعظم الله له الأجر، وكلما قل عدد المجاهدين ارتفعت درجاتهم، وزاد ثوابهم.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم يبشر هؤلاء الذين يضيئون لغيرهم وسط الظلام السابغ، ويؤدون واجبهم في دوامة التحلل وشمول الفساد، ويتمسكون بالفضيلة ويعملون بها، وقد انصرف الناس عنها ويدعون إليها، وسهام السخرية تصوب إليهم من كل جانب، يبشرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بمقدار ثوابهم فيقول "المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر شهيد ". رواه الطبراني عن أبي هريرة.
وإذا كان الفرد مسئولا عن مجتمعه الذي يعيش فيه، وعن أمته التي ينتسب إليها بمقدار ما أعطاه الله من ميزات وما منحه من عطايا وبمقدار ماله من تأثير مادي أو أدبي، فإنه كذلك مسئول عن نفسه ووقايتها من الآثام الخاصة والعامة ومسئول عن مملكته الصغيرة التي استرعاه الله إياها "إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " ... الخ متفق عليه.(6/75)
بل كذلك كل فرد مسئول عن جاره إذا أحاطت به ضائقة أو حدثت له كارثة حتى لا يكون جرثومة شر على المجتمع إذا لم يجد العون منه يقول الرسول صلى الله عليه وسلم "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم" رواه الطبراني.
أما إذا أهمل الفرد في واجباته هذه كلها أو بعضها في نظير أمل تافه قد يصل إليه وقد لا يصل أو في نظير ثمن بخس، ألا فليعلم أن ما حصل عليه مهما اعتبرته ظواهر القانون حقا وملكا، إلا أنه في موازين العدل الإلهي سحت اغتصبه، وظلم انتهبه، لا يبارك الله له في ذرية أنفق عليها، وهو مردود عليه إن تصدق به وسيحمله على عاتقه يقابل به مولاه يوم القيامة ليحاكم أمام محكمة العدل الإلهية أمام علام الغيوب {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم "… ولا يكسب عبد مالا حراما فيتصدق به فيقبل منه، ولا ينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيء، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث" رواه أحمد.
لا ينفع المقصر في حق أمته، الممالئ للأعداء في حق شعبه، ومستقبل بلاده، المتغاضي عن الفساد يستشري ضرره بين أفراد مجتمعه ولن ينجيه من عذاب الله شفاعة شفيع ولا قرابة قريب فإن الإسلام قد كلف الجميع بالعمل وسد الطريق أمام من يعيشون على عمل الأجداد أو على الآمال الكاذبة من غير عمل جاد "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه" رواه مسلم.(6/76)
كما أنه لا حجة لفرد مهما صغرت قيمته في إهمال أو خيانة، بحجة أن الدعاة للحق وأن العاملين به قلة قليلة، تذهب أصواتهم بددا، وسط هذا الضجيج الموحش، كما تذهب الصرخات المنبعثة من جب عميق، وسط صحراء شاسعة تلفها الأعاصير الهوجاء.
فليصور كل إنسان نفسه مسمارًا صغيرا أو (صامولة) صغيرة في وابور كبير أو في باخرة ضخمة، وقد خرج عن مكانه، أو توقف عن أداء واجبه.
ألا ترى أن القطار قد يحترق وأن الباخرة قد تغرق، ثم ألست معي في أن خيانة فرد أو إهماله قد يكون رأس عود الثقاب، صغير الحجم لكنه فاحش الضرر؟
إن حساب الإنسان بين يدي مولاه، لن يكون قاصرا على ما ظهر من قوله ولا على ما بدا من فعله فقط، لا بل لابد من مراعاة الباعث على القول والعمل، ولا بد من اعتبار الدوافع المستترة في طيات النفس وكوامن الفؤاد {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" فلا تسع إلى نعمة تعقبها نقمة ولا تتهافت على لذة تعقبها حسرة.
قد يؤثر الفرد أن يعتزل الناس، وأن يتركهم على ما هم عليه، وأن ينكر الصلة بينه وبينهم، ظانا بذلك أنه أخلى مسئوليته، وأن عليه نفسه لا يضره من ضل!!! كلا، إن الدين يكره هؤلاء، حتى ولو كان اعتزالهم للعبادة، لأنهم يضعون أنفسهم في نقط استراتيجية لوساوس الشيطان يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم".
ويقول: " ... يد الله على الجماعة ومن شذ شذ في النار" ويقول: " ... وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية".(6/77)
هذا من ناحية الفرد، أما من ناحية المجتمع فهو الذي يحمي الفرد، ويحنو عليه ويدافع عنه، ويعز الفرد بإعزازه، ويقوى بقوته، ويعالجه إن مرض، ويساعده إن افتقر، ويرعاه طفلا، ويرحمه شيخا، ويتضامن معه شابا، وما أكرم هذه التوجيهات النبوية الكريمة، وهي تستل الضغينة من نفوس المحتاجين، وتضيء جوانب الكون لتسلط أضواءها على مناطق الضرر، التي تتوالد فيها أفكار السوء ومذاهب الهدم، وينبعث منها ما يهز المجتمعات ويشيع فيها روح التمرد على خير القيم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع إلا برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى" رواه أحمد.
وما أجمل تعاليم الإسلام، وعمر بن الخطاب يطبقها وهو أعدى الأعداء لليهود إذ يفرض ليهودي مسن من بيت مال المسلمين ما يكفيه، لأنه وجده فقيرا مسنا يتوكأ على عصا، وهكذا الإسلام يفرض للأفراد الفقراء والمحتاجين حقا في مال الأغنياء {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} حق تحارب من أجله الأمة، وتوجه قواتها الضاربة، إلى من منع هذا الحق أو وقف في سبيله، فهو ركن من أركان الإسلام وإذا لم يكف هذا المفروض حاجة المحتاجين، زاده الإمام بما يكفيهم "إن الله فرض على أغنياء المسلمين بقدر الذي يسع فقراءهم". رواه الطبراني في الأوسط، وإذا لم تتسع أموال الزكاة للوفاء بالمطلوب، فعلى الدولة من خزانة بيت المال إعالة المحتاجين والعاجزين يقول الرسول صلوات الله عليه " ... من مات فترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا أو ضياعا فإليّ وعليّ" أخرجه ابن سعد من حديث جابر.(6/78)
والمجتمع والأفراد متضامنون في محاربة المنكرات، والضرب على أيدي العابثين بمقدسات الأمة، ومحاربة المفسدين فيها، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" رواه أحمد، ويقول " ... كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض، ثم ليلعننكم كما لعنهم" يشير الرسول إلى بني إسرائيل رواه أبو داود عن ابن مسعود.
وإذا كانت الأمم كالأفراد، تمر في أطوار مختلفة حتى تصل إلى المستوى المقدر لها، فتتعثر أحيانا، وتسير قدما إلى الأمام أحيانا، ولا شيء يضيع استقلالها، ويمحو لذة النصر فيها أكثر من تشتيت أفكارها، وتنازع أفرادها، فيعيشون كالبهم السائمة، في فدافد الأرض، وسط الوحوش الضارية، لا راعي يجمع شملهم، ولا مرعى يطيب لهم، إذا علمنا هذه السنة الكونية فهمنا بعض أسرار قول الرسول "وليضربنّ الله قلوب بعضكم ببعض".
وإذا كان الإسلام يطلب من كل جماعة إسلامية أن تقوم بواجبها، حفظا عليها وحرصا على استقلالها، فإنه يتشدد في الطلب، ويبالغ في الإنذار إلى كل أمة بدأت تهب من غفلتها، لأن أي عطب يصيبها سيكون مصوبا إلى نحرها، ويصيب المجتمع الإسلامي كله، فما الدولة إلا عضو من أعضائه.(6/79)
إن الرسول صلى الله عليه وسلم يشبه الأمة بركاب سفينة، تمخر عباب البحر فوق لججه العاتية، فلا يجوز للركاب أن يتركوا عابثا يخرقها، ولو في ملكه الخاص مهما كان حرا فيه، فإن أي حرية لابد أن تكون محدودة بإطار المصلحة العامة وإلا انقلبت فوضى، ثم يأمر الرسول بمنع العابث من عبثه لينجو هو وينجو جميعا منه وإلا هلك الجميع، {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} وهكذا عقوبة الله لمن سبقنا من الأمم، لم تكن لمن كان ظلمه إيجابيا فقط، بل شملت الظالمين فعلا، ومن رضي بالظلم أو سكت عن مقاومته يقول تبارك وتعالى {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} .
وإذا كانت الأمة تعنى بالماضي وتوليه عنايتها، لأنه الأساس الذي لا غنى عنه في البناء للحاضر والمستقبل، وعندنا والحمد لله جامعات تعنى بقديمنا كما أن هنا صفوة ممتازة يعملون جاهدين على تصحيح عقائد المسلمين لئلا ترتكس الأمة، في ضلالات البدع الدخيلة على الإسلام عن قصد أو جهل، وحتى لا تنحرف البقية الباقية، فتسير في الطريق الذي سارت فيه الأمم قبلنا، ولئلا تهوي في مهاوي المخطط المهيأ لجذب شباب المسلمين لمعاداة دينهم، والمساعدة في هدمه.
كما أن عندنا والحمد لله نخبة صالحة تحيي التراث القديم، وتبعث الماضي المشرق بحفظها ودراستها لكتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما يتصل بهما من علوم القرآن وعلوم السنة لتنحية الدخيل الخبيث، والإبقاء على الأصل الصحيح.(6/80)
هذه الفئة قد أدت واجبها وقامت بمسئوليتها، وعلى من بيدهم شئون المسلمين وشئون التعليم خاصة، أن يؤهلوا الشباب للنزول إلى معترك الحياة الجادة، يزاحمون الأحياء وهو مسلحون بسلاح الإيمان الصحيح، ليسيروا على هدي السلف الصالح، الذين انطلقوا من الجزيرة العربية، ولا علم لهم بفنون الرومان والفرس وعلومهم وصناعتهم، فلما وطئت أقدامهم دولا أنارها الإسلام بفتحه، وأنقذها من ظلم الحكام بعدله أخضعوا الحياة الجديدة لأحكام دينهم، ووجهوها توجيها يرضي ربهم، وأرجو أن يُعلّم شبابنا كيف لا يغترون بمظاهر الغرب البراقة وكيف يأخذون بأحدث النظريات العلمية الصحيحة في إطار الإسلام، ويطبقونها في بلادهم ولبلادهم بما يتفق وأحكام الشريعة السمحة التي تنحي الضار المحرم وتبقي الحلال النافع.
ولأمر ما أقسم رب الكون، العليم بشؤون عباده أنه لا فلاح للإنسانية إلا إذا آمنت بربها وعملت خيرا وتواصت بالحق وتواصت بالصبر في قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ
إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} .(6/81)
قصص لا تنسى: الهارب بدينه
بقلم: الشيخ محمد المجذوب
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة
كان تاجر حبوب متوسطة الحجم في مدينة (غوستوار) جنوب يوغوسلافية، وقد عرف بالاستقامة بين عملائه وزبائنه، وبلغ نشاطه في عمله هذا حدا يتجاوز رأس ماله، إذ لم يكتف بتصريف ما يرده من نتاج الزراعة المحلي، بل مد عمله إلى خارج يوغوسلافية، وبخاصة أستورية النمسوية، إذ كثيرا ما كان يستورد من هناك أنواع الحبوب التي تعوز فلاحي منطقته ولا سيما بعض أصناف الذرة الناجحة..
وقد أعانته في ذلك مواهبه النفاذة، فهو شاب حاد الذكاء كثير الفطنة، لم يكد يخفق في عمل أو صفقة قط..
يضاف إلى ذلك التزامه الحدود الشرعية في معاملته، بحيث يحاسب نفسه على الصغيرة والكبيرة، فلا يسمح لقرش بالتسلل إلى ماله إلا إذا استوثق من طهارته وبعده عن الشبهة، وقد ورث هذا المسلك من بيته الذي كان شديد الحرص على الأخلاق الإسلامية، وتحقيق شعائر الإسلام اليومية في حياة أفراده جميعا نساء ورجالا وأطفالا، ومن هنا بات موضع الثقة لدى الكثيرين من جيرانه ومعارفه، مما دفع بعضهم إلى إيداعه ما يزيد عن حاجته من مال للمتاجرة به على أساس النفع المشترك…(6/82)
وعلى الرغم من كثرة هذه المشاغل التي تستهلك معظم أوقات عبد الله هذا لم يكن خالي الذهن من أحداث عصره، وبخاصة ما يتصل منها بأحوال المسلمين، ليس في يوغوسلافية وحدها بل في سائر بلاد البلقان ومنطق الخلافة، التي أصبحت محاطة بالخطر من كل جانب منذ كتبت الهزيمة على الجبهة الألمانية وحلفائها في أولى الحربين العالميتين التي أوشكت أن تلتهم الأخضر واليابس من حياة الناس، وكان من حظ مسلمي يوغوسلافية وجيرانهم أن يكونوا أكثر أعضاء الجسم الإسلامي إحساسا بتلك المخاطر، إذ بدأت العصبيات الصليبية تتحرك في مواجهتهم، مزودة بكل أحقاد الماضي التي تصور لأصحابها أن هؤلاء المسلمين ليسوا سوى بقية غزاة احتلوا أرضهم واستولوا على أهلهم بتحويلهم عن النصرانية إلى الإسلام! … ولا ريب أنها مقدمات رهيبة لمحن لا طاقة للمسلمين بالرد عليها أو الخلاص من شرها، إذا استمرت الأحداث في طريقها المشهود… وكل الدلائل قائمة
على أنها مستمرة دون عائق! …وكثيرا ما تتداعى في خيال عبد الله صور المآسي التي طالعته أثناء قراءته تاريخ المسلمين، فيتذكر الديار التي أخرجوا منها، والمذابح التي سيقوا إليها، والاكتساح الهائل الذي تعرض له دينهم تحت مطارق الصليبية، التي اقتلعت آثار سبعة قرون من حضور الإسلام في الأندلس وصقلية ومالطة و… فلا يزيده ذلك إلا خوفا من المستقبل، واستيقانا من قرب الجائحة التي تهدد وجود الإسلام في كل هذه الأقطار الواقعة بين ذراعي الوحش الصليبي…
ومما يضاعف هواجسه وآلامه ما يلمسه من طلائع الضعف النفسي الذي بدأ يجتاح معنويات المسلمين في أعقاب الهزيمة التي ألمت بدولة الخلافة، إذ جرف تيار الفوضى الكثير من شبابهم، فشاركوا غيرهم من الطوائف في التحلل من الالتزامات الخلقية، وانصرفوا عن مسلك آبائهم في تحقيق شعائر الإسلام من صلاة وصيام وآداب، كان لها فيما مضى الأثر الأكبر في صيانة الشخصية الإسلامية من الانهيار والذوبان…(6/83)
ولم يكن ذلك شعوره وحده، بل كان هو القدر المشترك بين أفراد الطبقة المحافظة والواعية من قومه، لا يكاد أحدهم يجتمع بالآخرين حتى يطارحه الحديث حول هذا الواقع الذي يشغل بالهم جميعا، دون أن يعرفوا مخرجا منه..
وهبط عبد الله…من القطار إلى أرض المحطة التي انتهى إليها من أستورية، وأخذ سبيله إلى سوق الحبوب، التي ألفت قدماه دخولها كلما وفد إلى هذا البلد، ولم يصرفه عن الحانوت الذي يقصد إليه ما في رأسه من تلك الأفكار التي لا تكاد تفارقه لحظة..
واستقبله عميله الأستوري بما عوده من حفاوة وإكرام، وأراد الزيادة في تكرمته فهمس في أذن العامل الذي لم يغب إلا قليل حتى أتاه بما أراد له صاحبه من شراب رائق الصفرة، شهي البرودة، بارز الرغوة..
وقال الخواجه الأستوري وهو يشير إلى الكأس الأنيقة: هذا خير ما تلطف به حرارة الجو يا صديقي… ورد عبد الله: حقا إن الجو حار.. ولكن لا أستطيع أن أتناول من الشراب ما لم أعتده.. فما هذا؟ .. قال الخواجه: إنه كأس من الجعة.. الجعة الصحية المستخرجة من الشعير..
الجعة!.. ولكن هذه خمر.. وهي علينا نحن المسلمين حرام..
وتدفقت هذه العبارة من لسان عبد الله في لهجة الاعتزاز والتصميم دون أن يتعمد ذلك، وكأنها محاولة لإثبات التمييز الذي يحتفظ به كمسلم.. ولا يستطيع مفارقته مهما تختلف الظروف..
وضحك الخواجه الاستوري ثم أجاب: قد كنت أحسب الأمور قد تغيرت عندكم.. ولكن..لا بأس.. كل شيء سيتغير شئنا أو أبينا.. والتفت إلى العامل يأمره أن يأتيه بكأس من عصير الفاكهة المبرّد..
وانسربت من عبد الله نظرة إلى ما فوق رأس التاجر النمساوي.. فإذا عيناه مشدودتان إلى قِمَطرٍ من الحرير قد عُلق بأناقة في صدر المكتب، وبدا كأن فيه كتابا عزيزا على صاحبه، وتفاعلت في صدره الإشكالات فلم يتمالك أن سأله في أدب كثير: وما هذا الذي أراه فوق رأسك؟..(6/84)
ومع ابتسامة معبرة أجاب: إنه المصحف.. المصحف الشريف..
-المصحف!.. أطلق هذه الكلمة يرمق صاحبه بعينيه السوداوين المهيبتين المشحونتين عجَباً.. وقد تشنجت أعصاب جبهته العريضة حاملة أشتات التعابير..
-أجل.. المصحف الشريف.. وهل يُستغرب ذلك؟
-طبعا.. لأنه كتاب المسلمين، وما أظنك تعرف منه شيئا.. أو تستفيد منه بشيء!.
فخفض التاجر النمسوي بصره قليلا ثم قال: هو كما قلت يا صديقي.. لكني مع ذلك حريص عليه..
ولم يجد عبد الله في الجواب ما يقنعه فقال: ألا ترى أني أحق منك به؟..
فلو بعتنيه لكنت لك من الشاكرين..
وفي غير تردد أجاب: ليس هو كيسا من الذرة فأبيعكه يا صديقي.. إن له في نفسي لذكريات لا أريد نسيانها، وهي سبب حرصي عليه.
وكأن عبد الله قد وجد في هذا الكلام ما أثار فضوله لمعرفة ما وراءه، فألح على صاحبه أن يوضح ما أبهم..
فقال: لو لم تسألني ذلك لذكرته لك، إن هذا المصحف هو الشيء الوحيد الذي بقي لنا من آثار جدي الذي كان أستوريا مسلما، وقد ورثه عنه والدي الذي نسي دين أبيه واعتنق النصرانية، وعليها أنشأنا..فأنا أحتفظ به إذن أثرا تاريخيا يربط بين ماضي أسرتنا وحاضرها.. أليست هذه بذكريات عزيزة تستحق الاحترام أيها الصديق!؟.. وهل مثل هذا الأثر مما يصح أن يباع أو يهدى!!..
وأحس عبد الله باحتباس لسانه، فلم يستطع أن يجيب بنعم أو لا.. لأنه شغل عن ذلك كله بما أثارت كلمات الرجل من خوالج في أعماقه لا يستطيع لها تحديدا.. وفي غمرة من الأسى الممتزج بالخوف وجد نفسه يتمتم في نفسه: إذن فأنا مرشح تماما لمثل هذا المصير!..(6/85)
وأخذ حانوت عبد الله يتعرّى من محتوياته يوما فيوما، حتى أوشك أن يفقر من كل السلع التي اعتاد أن يحتويها.. وقد بدأ هذا الانقلاب فيه منذ عودته من أستورية إذ جعل يبيع الشيء ثم لا يأتي له ببديل.. وشرع في تصفية حسابه مع شركائه وزبائنه دون أن يخبر أحد بما يريد.. إلا أنه لم يستطع كتمان نواياه عن أخيه، وعن بعض الشيوخ الذين تلقى عليهم بعض ما يعلمه من أمور دينه، إذ دعاهم إلى بيته ذات يوم بُعَيد صلاة العشاء، ثم أطلعهم على السر الذي أقلق باله وزلزل أعصابه وشحن صدره بالخوف على بنيه.. وأعلن لهم تصميمه على الهجرة إلى استامبول حيث ينقطع لطلب العلم على علمائها حتى يقضي الله أمره فيه.. ولم يجد من مستشاريه أية معارضة، فهم لا يقلون عنه قلقا، وقد زادتهم قصة مصحف الأستوري تشاؤما من المستقبل، وتمنوا لو أنهم يستطيعون مرافقته في هذه الهجرة!..(6/86)
وما هي إلا أيام حتى غادر عبد الله مسقط رأسه متجها بالقطار إلى دولة الخلافة المهزوزة، ثم لم يستقر له مقام حتى انتهى إلى البلد الذي أراده.. وفي استامبول استأجر غرفة متواضعة في حي قديم، ومضى يتفقد حلقات العلماء في مختلف جوامعها، حتى اطمأن قلبه إلى عدد من هؤلاء، فلزم حلقاتهم، يقضي بعض يومه على مدرّس الفقه، وبعضه على مدرس الحديث، وبعد العصر على أحد المقرئين المجوّدين للقرآن.. ولم يغفل أمر معيشته فالتحق بأحد مصانع التسوية يستأنف فيه ما سبق أن تعلمه في بلده قبل أن يمارس عمل التجارة، ولكنه لا يهب له وقته إلا ما يكفي لسد حاجته، كيلا يضطر إلى إنفاق ما في يده، فيصبح كلا على الناس، وذلك ما لا يتفق مع أخلاقه التي شب عليها.. وبدافع من نشاطه الذهني المتوقد أبدا كان كثير التتبع لأحداث البلاد، وملاحظة التطورات التي تمر بها دولة الخلافة في أعقاب الهزيمة.. ولعل أشد ما كان يؤلمه منها ذلك الاتجاه المعادي للإسلام، الذي تمثله عناصر المتفرنجين من الشباب العثماني مدفوعة –كما يقول شيوخه- بالأيدي الخفية التي تختبئ في أوساط الدولة –اليهود المتظاهرين بالإسلام-!.. وكانت الأحداث تتابع على عجل وبصورة لا تدع مجالا لأية معارضة، كأنما وراءها تخطيط شيطاني قصد به شل كل حركة إسلامية قبل بروزها إلى ميدان المواجهة.. حتى الاعتداءات الوحشية، التي قام بها متعصبة اليونان على العزل الآمنين في سالونيك وأخواتها، لم تكن في نظر هؤلاء الشيوخ إلا حلقة من سلسلة المؤامرة الكبرى على الإسلام نفسه، دفعتهم إليها الأيدي الخفية نفسها، ثم دفعت مصطفى كمال للرد عليهم –بعد تربص- لتوهم المسلمين أن هؤلاء وحدهم هم المنقذون الحقيقيون للشعب العثماني، وبذلك يؤمِّنون لأنفسهم الممر المنشود لتحطيم الخلافة وما تقوم عليه من بقايا الصرح الإسلامي!..(6/87)
وسرعان ما تحققت مخاوف هؤلاء العلماء.. فإذا الكماليون يهاجمون أعضاء المجلس الوطني، الذي أبوا عقده إلا في أنقرة بعيدا عن سلطة الخلافة، فينشرون عليه سحابة رهيبة من الهول والرعب، ويكرهون كل معارض لهم على السكوت أو الاختفاء ثم لم تلبث الخلافة أن تصدعت أركانها وانتهى أمرها إلى الغاية التي أرادها أعداء الإسلام من الإنجليز واليهود والملاحدة.. ثم جاء دور القتلة لتصفية أعدائهم بكل الوسائل الممكنة، حتى خلا لهم الجو، وراحوا يقوضون كل ما تركه السلف المجاهد من آثار العظمة، ليستبدلوا به كل ما من شأنه تقطيع أوصال المسلمين، وإخراج الشعب التركي من حظيرة الدين.
وكانت قمة الكارثة تلك المذبحة الوحشية التي أنزلتها قوى الإلحاد في علماء الإسلام، يوم فرضت عليهم ارتداء القبعة وحلق اللحى، وألزمت المرأة المسلمة أن تنخلع من كيانها الإسلامي بقوة الحديد والنار… فاعتبرت تلكؤهم في تنفيذ أوامرهم الشيطانية تمردا على سلطانها، فشنقت العديد منهم على أبواب بيوتهم، لتقضي على كل تفكير في الاعتراض أو الإنكار!..
وهناك أدرك الفتى المقدوني [1] أن استامبول لم تعد مقرا صالحا لمثله، وألا بد له من استئناف الهجرة إلى سواها من أرض الله.. وهكذا قُدِّر عليه أن يغادرها بعد خمس سنوات ذاق فيها المفارقات الكثيرة من الخوف والأمن، وشهد خلالها نهاية الدولة التي حمت الإسلام وقاومت مئات الملايين من أعدائه، وطوال خمسة قرون، فلم تزل ثابتة صامدة، حتى سلطت عليها هذه العصائب من أبنائها فنسفت قواعدها خلال هذه السنوات القليلة!..
لم يتردد عبد الله طويلا في اختيار مهجره الجديد، إذ لم ير أقرب إلى أفكاره من مصر بلد الأزهر الشريف، والملاذ الأخير الذي يتطلع إليه المسلمون ويستمدون من أشعته، فيتقدم إليهم بذلك تعويضا ولو رمزيا عن فقدانهم للخلافة التي استمرت تمثل وحدة العالم الإسلامي طوال ثلاثة عشر قرنا ونيفا…(6/88)
وكما فعل استامبول من قبل اتخذ لنفسه مسكنا متواضعا على مقربة من الجامع الأزهر، ولبث ما يقارب العام يتردد على حلقات الدروس يغذي معلوماته في التفسير والحديث، ويروض سمعه ولسانه على النطق العربي.. ولكنه سرعان ما ضاق صدرا بمهجره الثاني إذ لاحظ أنه لم يكد يتنقل من جو الحياة الشاذة في ظل الكماليين، لأن المعركة نفسها قد امتدت إلى الأزهر وما حوله، وإلى الصحف المصرية المختلفة المتضاربة، حتى أن العدوان الكمالي على الخلافة قد وجد في هذه الأوساط أنصارا من أصحاب العمائم، يؤيدونه ويباركونه ويدافعون عنه، ويؤلفون في تسفيه الخلافة الشهيدة الكتب والمقالات.. محاولين إقناع قراءهم بأنها لم تكن قط مصدر خير للمسلمين، بل لم تكن إلا مبعث الشقاق وملتقى الفتن والمحن عليهم أجمعين.
وعلى الرغم من أن الحق لم يعدم أنصاره بإزاء أولئك المضلين، إذ كان على أرس الفريق المؤمن أبطال ذوو علم ومنطق وإخلاص، يردون الكذب بالصدق، ويقذفون بالحق على الباطل، على الرغم من كل ذلك فقد آذى قلب هذا الهارب بدينه أن يرى في بلد الأزهر من تدفعه القحة إلى حد الوقوف بجانب قتلة الإسلام، الذين لا تزال مخالبهم تقطر من دمائه!.. ولم يلبث إلا ريثما تيسر له السفر إلى البيت الحرام لأداء فريضة الحج.. ومن ثم إلى طيبة المباركة لزيارة مسجدها الحبيب.. وما أسرع أن أنس بالمقام إذ احتواه شعور غريب بروح من حياة جديدة لا يعرف كيف يعبر عنه ولا يستطيع تحديد مصادره.. فقد كان يخيل إليه أن لكل ذرة من هذا التراب الذي يطؤه في ذلك البلد إيحاء خاصا، ولكل هبة من نسيمه، حتى المحمّل بالغبار في الكثير من الأحيان، لذة بهيجة.(6/89)
وكان للمسجد النبوي سلطانه العميق على مشاعره، فلا يكاد يفارقه إلا لضرورة قاهرة.. وقلما يستطيع التغلب على دموعه كلما وجد نفسه في تلك الروضة المباركة، وعلى مقربة من الضريح الذي نزله أحب البشر إلى قلبه.. ولم يلبث أن صار واحدا من طلاب العلم الوافدين مثله من أنحاء العالم على تلك الحلقات التي أحس بملء جوارحه أنها لا تقدم إليه المعرفة وحدها بل المعاني الروحية التي لم يحس بمثلها قط قبل اندماجه في هذه الحلقات..
وذات يوم بينما هو خارج من صلاة الجمعة يخوض غمار البشر الصادرين مثله من ذلك المورد العزيز، لاحظ توقف الكثيرين منهم في رحبة باب السلام، وقد اتجهوا إلى نقطة معينة من وسطها، وأطل الناس من بيوتهم المجاورة يحدقون إليها.. فلم يتمالك أن يتقدم ليتطلع الخبر.. وإذا هناك كوكبة من الجند يتوسطهم رجل مربوط العينين، وقد وقف إلى جانبه قاضي المدينة يتلو القرار الذي أصدرته المحكمة الشرعية على السارق بقطع كفه، تنفيذا لحدود الله! ولم ير الحاج عبد الله هناك ضرورة للبقاء من أجل مشاهدة التنفيذ، فمضى في طريقه يكاد يطير من نشوة السعادة، وهو يردد: إذن فالإسلام هو الذي يحكم الناس هنا!.. وإذن فهنا المقام.. وهنا المستقر إن شاء الله!..(6/90)
وخلا الحاج في حجرته المغفية تحت مستوى سطح الأرض، يفكر في واقعه وأهله ويتركز ذهنه بوجه أخص على والدته العجوز التي بات أشد ما يكون لهفة إليها، على الرغم من يقينه التام بأن أخاه لن يغفل برها أبدا، فيطغى حنينه إليها على حنينه إلى زوجه وأطفاله الذين أودعهم رعاية الله وحده، وإن يكن قد زودهم بما يؤمن لهم حاجتهم إلى سنوات أخرى، ويستقر عزمه على استقدامهم إلى المدينة مهما كلفه ذلك من جهد ومال، ويكتب إلى والدته يصف لها حياته وآماله، ويستحثها لحزم أمرها على الحضور إلى بلد الرسول، وقد فوض إليها أن تتصرف ببيته وأثاثه فتبيع كل شيء، وتحضر مع أحفادها وأمهم إليه.. وينتظر الجواب في أرق وقلق، ولكن الجواب لم يحمل إليه ما يريد، بل ما تريده أمه وآله من حضوره هو إليهم!..
وتتردد الرسائل بينه وبينهم دون جدوى، إذ لم يتزحزح أحدهم عن موقفه قط.. ولم ير أن يسترسل مع عواطفه فذهب إلى أحد شيوخه يستشيره في أمره، فكان الجواب أنه لا بد له من طاعة والدته والشخوص إليها بأسرع ما يمكنه، وإلا فهو أسير ذنب ورهين معصية.. وبإزاء ذلك لم يسعه إلا أن يقتلع نفسه من تربة المدينة الحبيبة، ليعود إلى البلد الذي ما كان يتوقع أن يعود إليه يوما ما..
واتخذ سبيله عن طريق العراق فالشام فتركية.. ولاحظ أثناء عبوره ما أكد له أن محنة الإسلام هي هي في كل مكان "الانحراف إلى الحياة الغربية، والانصراف عن جادة الوحي الذي –في اعتقاده- لا عاصم سواه من الانهيار، ولما وصل مسقط رأسه من الجنوب اليوغسلافي، كان مشحون الصدر بالنفرة من كل بلد إلا مدينة الرسول.. ولذلك وقف جهده –منذ حلوله بين أهله- على مفاوضة والدته في أمر الهجرة، وجعل يزين لها النقلة إليها، والحياة فيها، والموت بين ذراعيها، حيث يتاح للمؤمن قبر كريم بجوار الصفوة الذين رباهم رسول الله على تعاليم السماء، فكانوا خير أمة أخرجت للناس..(6/91)
وتتردد العجوز بين روابط الوطن ونوازع الإيمان.. حتى استحوذت عليها صورة البلد المفضّل، فأعلنت موافقتها، وبذلك انفسح الطريق للهجرة المنشودة.. وكان مشهدا مؤثرا عندما تزاحم ذوو قرابته يلحون عليه بمشاركتهم في هذه الرحلة، لأنهم –كما يعلنون- مثله متلهفون لجوار رسول الله، وخائفون على دينهم من السموم التي تجتاح من حولهم.. وكان أشد هذا المشهد تأثيرا منظر ذلك الشاب الذي غرق في دموعه وهو يستحلف القوم بالله ألا يدعوه وراءهم كالقمامة المنبوذة.. وراح يقسم بأغلظ الأيمان أنه تارك للخمر والمقامرة منذ الآن، وأنه لن يسيء إلى موطن الرسول بأي شذوذ عهدوه منه!..
ورق قلب الحاج عبد الله لذوي أرحامه فصمم على مشاطرتهم حظه، ورحم دموع ذلك الفتى الذي يغسل بها بواقي آثامه.. وما هي سوى أشهر معدودة حتى شرعوا يتسللون زرافات ووحدانا إلى موضع اتفقوا على التجمع فيه خارج يوغوسلافية، فلما استكملوا عدتهم خمس عشرة نفسا أخذوا سبيلهم بقيادة الرجل إلى مدينة جدة.. التي حطوا فيها رحالهم في الأول من ذي القعدة عام خمسة وخمسين بعد القرن الثالث عشر من الهجرة.. على أن الرجل الذي وضع لكل شيء حسابه في هذه المسيرة الطويلة، وجد نفسه فجأة تلقاء عقبات لم تعرض لتفكيره قط.. تلك هي الحدود الجديدة التي نصبتها التطورات التي أعقبت سقوط الخلافة بين ديار المسلمين، فمزقت الأمة أمما، وحالت بين أجزاء الأسرة الواحدة، التي توزعتها الأقطار، فلا سبيل إلى تلافيها إلا بعد اجتياز الأكداس من المصاعب، والأكثر من المتاعب، فبعد أن كان من حق المسلم التجول حيث شاء من عالم الإسلام دون ما حاجة إلى وثيقة سوى هويته الدينية، إذا هو اليوم تلقاء حواجز يحرم على المسلم تعديها إلا بجواز مرور!.. وجاءت أولى العقبات في صورة رسوم مالية تقتضيهم أن يدفعوا عشرة جنيهات عن كل فرد.. ثم مشكلة الإقامة التي لا سبيل إليها إلا بمعجزة من وراء المنظور!..(6/92)
وطالت حيرة القافلة، وطال انتظارها للفرج الذي لا تدري من أين سيطل وجهه.. وكاد ينقطع كل أمل من جهة الدوائر المختصة التي لا تستطيع تجاوز الأنظمة.. ووجد القوم بعض الاهتمام من مهاجرين على شاكلتهم، جربوا هذه العقبات من قبل وعرفوا الطريق إلى تذليلها وذات يوم جاء أحد هؤلاء البخاريين يشد على يد الحاج عبد الله قائلا "أبشر بالفرج"، وكاد قلب الحاج يطير فرحا بتأثير هذه الكلمة، وبلهفة سأله عما يعني، فقال الرجل: إن الملك عبد العزيز سيهبط جدة ظهر غد.. فما عليك إلا أن تحشد جماعتك على مدخل قصره، وتعد العريضة التي تشرح وضعكم وفراركم بدينكم.. وثق بأن كل عقبة ستزول بمجرد وصول العريضة إلى يديه، وتعرضكم لعينيه، ولم يجد الحاج عبد الله مسوغا للتردد بإزاء هذا الرأي الحكيم.. وفي الوقت المناسب زحف بقافلته إلى مدخل القصر الملكي، ثم ما هي إلا سويعات حتى وصل الركب، وتتقدمه سيارة الملك.. ولاحظ الحاج عبد الله نظر الملك وهو يجيله في القوم فاستبشر خيرا، وصح توقعه فإذا أحد المرافقين يعود إلى الباب ليستوضحهم عما يريدون، فلم ير ضرورة للكلام، وقدم إلى السائل العريضة التي أودعها كل ما يريد.. وما أسرع ما وافاهم الخبر، إذ لم يغب المرافق إلا مدى الطريق حتى عاد إليهم بالأمر الملكي الذي يمنحهم حق الإقامة ويعفيهم من كل كلفة مالية!..
وبدأت القافلة السعيدة حياتها الجديدة بالعمرة، ومن ثم اتجهت إلى مدينة الحبيب فاستأجرت سكنها المتواضع.. ولبثت بانتظار موسم الحج، حتى إذا أدوا مناسكهم عادوا إلى موطنهم الروحي يتدبرون أمرهم على أساس الإقامة الدائمة.(6/93)
وكان عليهم أن يصبروا بعض الوقت على شظف العيش، فيجتزئوا باليسير الرخيص مما يقيم الأود وقد يسر الله لكل قادر منهم العمل الذي يكفه عن الحاجة.. وقيض لهم من يساعدهم في تلك المرحلة، من أمثالهم الذين سبقوهم إلى هذا المهجر، الذي إليه تهفو الأفئدة من أقاصي العالم الإسلامي وما هي إلا بضع سنوات حتى انفرج ضيقهم، ورد رزقهم، وجاءتهم رحمة الله بالهوية السعودية من حيث لم يكونوا يحتسبون!..
ويلج الحاج عبد الله بالأمس عتبة الثمانين.. وينتشر من حوله أقرباؤه وأبناؤه وأحفاده الذين طالما تطلع إليهم من وراء الغيب، فكانت أخيلتهم وخشيته على دينهم السبب الأكبر في هجراته، التي استقرت في هذا البلد المبارك منذ ما يقارب الأربعين من السنين..
لقد نجاه الله بفضله من جحيم الضلالات الهدامة، التي جرفت الكثرة من أجيال بلاده في ظل الشيوعية الدموية.. ولكن … هل استطاع مع ذلك أن يصون أبناءه أو بعضهم من سمومها حتى في مهبط الوحي!.. وهل استطاع أن يحفظ عليهم الدين الذي تحمل في سبيله كل ذلك البلاء المبين!..
ويتخيل أحيانا واقعه وماضيه فيتلو على نفسه في خشوع عميق قول الله عن لسان يوسف الصديق: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] غوستوار من مقدونية.(6/94)
تنبيه للقراء
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد فإن الشيخ محمد عبد المحسن الكتبي صاحب المكتبة السلفية بالمدينة لما أراد عام 1391هـ أن يطبع كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد للإمام العلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن الطبعة التي ذكر أنها الخامسة على النسخة التي وضع عليها الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله بعض الحواشي ذكر لي ذلك، وطلب مني مقابلة الكتاب وتصحيحه ووضع بعض الحواشي المفيدة عليه فاعتذرت بكثرة الشغل وضيق الوقت عن تحقيق المطلوب وأخبرته أنه سبق أن قرأت حواشي الشيخ محمد حامد واتضح لي أن فيها بعض الأخطاء ووعدته التعليق عليها خاصة لإيضاح ما اتضح لي خطؤه، وقد وفيت له الوعد وسلمته بيانا بإيضاح الأخطاء التي أشرت إليها وقد وقعت في ثلاثة عشر موضعا من الحاشية فقط فلما تم طبع الكتاب واطلعت عليه ألفيته قد نسب إليّ أنه صدر عن مراجعتي وتصحيحي وتعليقاتي، وليس الأمر كذلك وإنما الواقع هو ما ذكرته آنفا من مراجعة الحاشية التي للشيخ محمد حامد وبيان ما اتضح لي فيها من أخطاء.
كما ألفيته قد وضع العلامة الخاصة بتعليقي في أربعة عشر موضعا من الحاشية ليست لي وإنما هي للشيخ محمد حامد وترك بعض الحواشي التي وضعتها فلم يُعلم عليها بالعلامة الخاصة بتعليقي، وبسؤاله عن ذلك أجاب بأن ذلك وقع من الطابع وليس له به علم وقد طلبت منه اليمين على ذلك فحلف عليه ما عدا ما وقع في أول الكتاب من نسبته إليّ مراجعة الكتاب وتصحيحه والتعليق عليه فقد اعترف أنه وقع ذلك تساهلا منه هو، فلأجل ما ذكر رأيت أن من المتعين عليّ إيضاح هذا الأمر لمن يطلع على الطبعة المشار إليها من القراء حتى يعلموا حقيقة الواقع، وهذا بيان مواضع الأخطاء:
1- حاشية في صفحة (40)(6/95)
2 - حاشية في صفحة (80)
3- " " " (98)
4 - " " " (99)
5 - " " " (102)
6- " " " (108)
7- " " " (127)
8- " " " (148)
9- " " " (151)
10 - " " " (159)
11 - " " " (433) س2
12 - " " " (433) س11 أما التي في سطر 3 فهي صحيحة.
13- حاشية في صفحة (455)
14 - حاشية في صفحة (518)
15 - لم يُعلم على الحاشية التي في آخر صفحة 151 وأول صفحة 152 التي أولها (وكذلك ما يسمى من الطعام أو الشراب..الخ بعلامتي وهي من الحواشي التي وضعتها، لا من حواشي الشيخ محمد حامد مع ملاحظة وقوع أخطاء مطبعية خفيفة في الحاشية المذكورة وهذا نص الخطأ والصواب فيها ليتمكن من لديه نسخة من الطبعة المذكورة من إصلاح ذلك:
ص س خطأ صواب
152 2 من ذلك من أن هذا من ذلك أن هذا
152 17 ما لم يخالطْه مما لم يخالطه
هذا بيان ما أردنا إيضاحه للقراء والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(6/96)
جوانب من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم
للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
المدرس بالجامعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على رسول الله وعلى آله وصحابته الطيبين الطاهرين.
أما بعد: فلهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة جوانب مضيئة، تنير السبيل، وتهدي الطريق كسائر ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روى البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما –واللفظ للبخاري- قال البراء:(6/97)
اشترى أبو بكر رضي الله عنه من عازب رضي الله عنه رحلا بثلاثة عشر درهما فقال أبو بكر رضي الله عنه لعازب: مر البراء فليحمل إليّ رحلي، فقال عازب: لا، حتى تحدثنا كيف صنعت أنت ورسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجتما من مكة، والمشركون يطلبونكم، قال: ارتحلنا من مكة فأحيينا أو سرينا ليلتنا ويومنا حتى أظهرنا، وقام قائم الظهيرة، فرميت ببصري هل أرى من ظل؟ فآوي إليه: فإذا صخرة أتيتها، فنظرت بقية ظل لها فسويته ثم فرشت للنبي صلى الله عليه وسلم فيه، ثم قلت له: اضطجع يا نبي الله: فاضطجع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم انطلقت أنظر ما حولي، هل أرى من الطلب أحدا؟ فإذا أنا براعي غنم يسوق غنمه إلى الصخرة، يريد منها الذي أردنا، فسألته فقلت له: لمن أنت يا غلام: قال: لرجل من قريش، سماه، فعرفته، فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم. قلت فهل أنت حالب؟ قال: نعم، فأمرته فاعتقل شاة من غنمه، ثم أمرته أن ينفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته أن ينفض كفيه، فقال هكذا: ضرب إحدى كفيه بالأخرى، فحلب لي كثبة من لبن، وقد جعلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إداوة على فمها خرقة، فصببت على اللبن حتى برد أسفله، فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوافقته قد استيقظ، فقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت، ثم قلت: قد آن الرحيل يا رسول الله؟ قال: بلى.(6/98)
فارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له، فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله! فقال: "لا تحزن إن الله معنا"، وفي رواية مسلم: "فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتطمت فرسه إلى بطنه -أرى- فقال: قد علمت أنكما قد دعوتما عليّ فادعوا لي، فالله لكما أن أراد عنكما الطلب، فدعا الله فنجا، فرجع لا يلقى أحدا إلا قال: قد كفيتكم ما ههنا، فلا يلقى أحدا إلا رده، قال: ووفى لنا"وفي لفظ مسلم:"فلما دنا دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فساخ فرسه في الأرض إلى بطنه ووثب عنه، وقال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن يخلصني مما أنا فيه، ولك عليّ: لأعمين على من ورائي، وهذه كنانتي فخذ سهما منها فإنك ستمر على إبلي وغلماني بمكان كذا وكذا فخذ منها حاجتك قال: لا حاجة لي في إبلك".
وقد روى البخاري في صحيحه من حديث أنس رضي الله عنه أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فأتاه يسأله عن أشياء فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني به جبريل آنفا قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة.(6/99)
قال: "أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد" قال أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال: يا رسول الله إن اليهود قوم بُهت فاسألهم عني قبل أن يعلموا بإسلامي، فجاءت اليهود فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أرأيتم إن أسلم عبد الله ابن سلام؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك، فأعاد عليهم فقالوا مثل ذلك فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، قالوا: شرنا وابن شرنا، وتنقصوه، قال: هذا كنت أخاف يا رسول الله".
وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى أسباب وآثار هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم إلى المدينة المنورة فوصفهم بأنهم: {أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} وكما قال فيهم: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا} .
وقد وصف كعب بن زهير بن أبي سلمى المزني رضي الله عنه استجابة المهاجرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخروجهم من ديارهم وأموالهم ينصرون الله ورسوله حيث يقول:
في فتية من قريش قال قائلهم
ببطن مكة لما أسلموا زولوا [1]
زالوا فما زال أنكاس ولا كشف
عند اللقاء ولا ميل معازيل
يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم
ضرب إذا عرّد السود التنابيل
شم العرانين أبطال لبوسهموا
من نسج داود في الهيجا سرابيل
بيض سوابغ قد شكت لها حلق
كأنها حلق القفعاء مجدول(6/100)
ليسوا مفاريح إن نالت رماحهموا
قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا
لا يقع الطعن إلا في نحورهموا
وما هم عن حياض الموت تهليل
وقد روى البخاري ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم".
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أي هاجروا(6/101)
العدد 16
فهرس المحتويات
1-من الصحف والمجلات - إعلام الشوكة البحرية للإسلام: للفقيد محمد الفاضل بن عاشور
2-أخبار الجامعة: المجلس التنفيذي للجامعة الإسلامية يعقد في الجامعة الإسلامية
3- آراء العلماء في المناسبة: للشيخ أحمد حسن
4- أضواء إسلامية على بعض الأفكار الخاطئة: بقلم الشيخ ربيع بن هادي
5- إفك مفترى حول عيسى عليه السلام: للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
6- الأسوة الحسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم: بقلم الشيخ: محمد المهدي محمود علي
7- المركز الثقافي الإسلامي باسكندنافية
8- أولياء الله: للدكتور طه الزيني
9- أين التقدم؟ ! : للشيخ عبد الله قادري
10- بين الكتب: للأستاذ محمود محمد شاكر
11- الإسلام والحياة - خطوات المنهج العقلي في الإسلام: بقلم أحمد عبد الرحيم السايح من علماء الأزهر
12- خنافس: بقلم الشيخ محمد المجذوب
13- دراسات في السنة النبوية: بقلم الشيخ محمد ضياء الرحمن الأعظمي
14-دور المستشرقين في تشويه الحقائق الإسلامية: بقلم الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي
15- رسالة المركز الثقافي الإسلامي باسكندنافية: مدير المركز يحيى زكريا سين
16- دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
17- ملاحظات متجول: بقلم الشيخ عبد المهيمن أبو السمح
18- ندوة الطلبة - النجاح والرسوب ونقاش بينهما: بقلم عبد الرحمن محمد الأنصاري
19- يستفتونك: يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(6/102)
من الصحف والمجلات
إعلام الشوكة البحرية للإسلام
للفقيد محمد الفاضل بن عاشور
ظهر الإسلام في أرض هي جزيرة بين البحار، وسطع نوره بين أمة عرفت البحر ومارسته، واتخذته طريقا للتجارة، وسبيلا للغزو، ووسيلة للمعاش. فمن الواضح الضروري أن يكون لغزاة البحر في الإسلام، وللأساطيل وآثارها في تكوين الدولة وشد أزرها، ما لم تزل معالمه قائمة، وشواهده ماثلة، بحيث يغني فيه العيان عن البيان.
ولكن المهم وراء ذلك هو البحث عن أولية الحياة البحرية في الإسلام وكيف نشأت متسلسلة على الحياة البحرية للعرب في الجاهلية ومتولدة منها، في الأطوار الأولى لدولة الإسلام العربية قبل أن تتعاون أمم العرب والعجم على النهضة بعبء الحضارة الإسلامية وتتكاتف على احتمال أمانة الرسالة.
فقد احتفظ تاريخ ظهور الإسلام بذكريات عزيزة راسخة في قرارته، من حديث البحر ورجاله وأساطيله. وشرف البحر بما شرفت به أولية الرسالة الطاهرة، وكتب في صحيفة ما ابتلي به السابقون من المؤمنين، من ابتلاء بالهجرة.(6/103)
فأول ما عرفت الهجرة في الإسلام كان البحر طريقها، والسفينة مطيتها، يوم كانت بلاد الحبشة أرض الهجرة الأولى للمسلمين، وقد اشتد بهم الأذى في مكة، فسافرت منهم طائفة إلى الحبشة، في سفينة اخترقت بهم البحر الأحمر، وكانوا خمسة عشر بين رجال ونساء ثم رجعوا إلى البلد الحرام فلم يلبثوا أن عادوا مخترقين البحر مرة ثانية، في عدد وافر، يناهز المائة، فأقاموا عشر سنين. وصادف أن خرج أثناء ذلك جماعة من الأشعريين، من اليمن في سفينة يريدون الحجاز، فاضطرب البحر بسفينتهم، وألقتهم الرياح إلى العدوة الحبشية، فالتقوا بإخوانهم المهاجرين من قريش، وأقاموا بالحبشة، ولم يرجعوا إلا في العام السابع من هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وهؤلاء السادة هم الذين عرفوا في لسان علماء السنة بأهل السفينة، ولهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لكم أنتم يا أهل السفينة هجرتان"وإن دينا يكون البحر أول طريقي هجرته، زمن الدعوة والابتلاء لحقيق بأن يهرع إلى البحر، موجدا منه لنفسه طريقا زمن التوسع والفتح، لاسيما وباب الغزو البحري مفتوح في الإسلام من عهد البعثة على لسان الوحي فقد ورد في حديث البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى الهاجرة يوما في بيت عبادة بن الصامت الأنصاري رضي الله عنه فنام فلما استيقظ استيقظ ضاحكا، فقالت زوجة عبادة أم حرام بنت ملحان: "ما يضحكك يا رسول الله؟ "قال: "عجبت من قوم من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة". قالت: "أدع الله أن يجعلني منهم"، قال: "أنت مع الأولين"، وأعاد ذلك مرتين أو ثلاثا.(6/104)
وقد بقي من يومئذ هذا الأمل مكنونا في نفوس المسلمين. ومضت الغزوات النبوية برية لم تخرج إلى البحر، ولم تعتد بلاد العرب. واستمر الأمل العزيز مكنونا كذلك، في خلافة الصديق رضي الله عنه إذ لم تزايل غزواته إلى الشام الطريق البري الذي ابتدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلكه بنفسه من تبوك.
حتى إذا أفضت الخلافة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه واتسعت الفتوح وتعددت مسالكها، بدأ الأمل المكنون يتطلع إلى البروز، فبدأ التردد، ثم ظهر الجدال، ثم آل الأمر إلى المحاولات.
وكذلك المعارضة الشديدة في ذلك، تبدو من أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لشدة حذره على المسلمين، ولما كان يعلم من ضعف استعدادهم يومئذ بالنسبة إلى أعدائهم الذين كانت بيدهم أهم القواعد البحرية، فكان يرى من الجرأة المذمومة أن يغرر بالمسلمين تغريرا قد يحتمل سوء مغبته، وهو الراعي المسؤول، كما علل بذلك ابن خلدون.
أما الساعي لتحقيق فكرة الغزوات البحرية، فقد كان يضطلع بزعامته صحابيان جليلان من عمال سيدنا عمر، هما العلا بن الحضرمي، عامل البحرين، على المحيط الهندي، ومعاوية بن أبي سفيان، عامل الشام على البحر الأبيض المتوسط.
أما العلاء فقد جمع جنده من البحرين بدون إذن الخليفة، وعبر بهم البحر إلى شواطئ البلاد الفارسية، وقصد عاصمة الفرس، يومئذ وهي مدينة إصطخر، فكانت لهم مواقع عظيمة، أحرقت فيها سفن المسلمين، وحوصروا، وسدت عليهم مسالك الرجوع. وبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فاشتد غضبه، وعزل العلاء، وأنجد الجيش المحصور بمدد من البصرة فك عنهم حصارهم، وخاض معارك جديدة حمدت آثارها.(6/105)
وبهذا يتبين أن العلاء بن الحضرمي هو أول من ركب البحر غازيا في الإسلام وبذلك جزم المقريزي، إلا أن جمهور الأدباء والمؤرخين لا يعدونها في الأوليات فيقولون: أول من ركب البحر معاوية بن أبي سفيان، ولعل ضعف أثر هذه الغزوة، وخلوها عن إذن الخليفة هو الذي دعاهم إلى ذلك.
وأما معاوية فقد كان محل عمله بالشام منتهيا إلى حدود الروم، وكانت مملكة الروم الشرقية هي التي بقيت تناهض سطوة الإسلام، بعد القضاء على مملكة الفرس، في موقعة القادسية الحاسمة، وكانت عاصمة المملكة مدينة قسطنطينية قبلة أنظار العالم، بعد سقوط روما، فكان معاوية يلح على عمر رضي الله عنهما في غزوة بلاد الروم بحرا، ويذكر له قرب مواقع المسلمين من مواقع الروم. وإزاء هذا الإلحاح رأى أمير المؤمنين أن يوجد لديه شيئا يعتمد عليه للخروج من تردده، فكتب إلى عامله على مصر: عمرو بن العاص، يستوصفه البحر، فأجابه عمرو بكتابه المشهور، مؤكدا ما في نفس أمير المؤمنين من مخاوف. وعلى ذلك اعتمد عمرن ورفض إلحاح معاوية رفضا باتا، جاعلا له من قصة العلاء بن الحضرمي عبرة.
وسكت معاوية رضي الله عنه من إلحاحه بقية الخلافة العمرية، حتى إذا صارت الخلافة إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، أعاد استئذانه فأعرض كما أعرض الخليفة من قبله. حتى إذا تكرر إلحاح معاوية أجابه: على شرط أن لا ينتخب الناس لذلك، ولا يقرع بينهم، ولكن يخيرهم فمن تطوع بالغزو في البحر وجهه.(6/106)
وبهذه الصورة تكونت أول غزوة بحرية رسمية في الإسلام سنة 28، وكانت وجهتهم الأولى جزيرة قبرص فتوجه إليها أسطول الشام، الذي جهزه معاوية بقيادة عامله على البحر عبد الله بن قيس الجاسي، وأسطول مصر بقيادة عبد الله بن أبي السرح، فاتح إفريقية. والتقى الأسطولان على قبرص فنصبا حصارا لم يرفع إلا بمعاهدة صلحية تضمنت إلزام أهل جزيرة قبرص بدفع جزية سنوية وإباحة طريقهم لقوات الإسلام إلى سواحل الروم، وإنذار المسلمين بكل خطر يتهددهم من الروم.
وكان ممن ركب البحر في هذه الغزوة عبادة بن الصامت، وزوجه أم حرام بنت ملحان رضي الله عنهما، وهي التي تلقت من النبي صلى الله عليه وسلم البشارة بغزو البحر وأنها من أول من ركبه، وفي هذه الغزوة استشهدت ودفنت بجزيرة قبرص، وضريحها معروف فيها إلى اليوم.
وبهذه الغزوة فتح للأسطولين الإسلاميين: أسطول مصر وأسطول الشام، طريق صولتهما بالبحر فكانت لهما مواقع مهمة كموقعة ذات الصواري التي انتصروا فيها على ملك الروم قسطنطين سنة 31 وفتح قبرص بعد انتقاض الهدنة سنة 33 وحصار القسطنطينية سنة 50 حتى أن عبد الله بن قيس الجاسي غزا بعد حصار قبرص، خمسين غزاة بحرية، صيفا وشتاء لم ينكب أسطوله ولم يغرق من جيشه أحد في البحر، حتى قتل شهيدا مغدورا في بعض استطلاعاته بشواطئ بلاد الروم.(6/107)
بين الكتب
للأستاذ محمود محمد شاكر
((إن لغة العرب كانت لها السيادة في إفريقية وآسية، فزاحمتها لغات الغزاة حتى زحزحتها عن مكانها، أو أزالتها من الأسنة، ووضعت في ألسنة الإفريقيين والآسيويين ألسنة إنجليزية، أو هولندية، أو برتغالية وقد شهدنا بالأمس القريب اجتماع الإفريقيين وغيرهم في مصر فكان خطيب كل أمة يخطب بالإنجليزية أو الفرنسية، وآباء هذا الخطيب نفسه كانوا إلى عهد قريب يكتبون بالعربية، ويؤلفون بها ويقولون فيها شعرا، هذا على قلة التواصل كان بينهم وبين بلاد العرب لبعد المسافات، وغلبة الاستعمار، والذي حدث هو أن الاستعمار قد جعل حرب اللغة العربية أحد أسلحته، كما جعل التبشير سلاحا لمحو الإسلام من إفريقية، وهو يصرح بهذا اليوم غير موارب فيما يكتب عن إفريقيا)) .
تقول المبشرة ((أنا مليجان)) إن المدارس أقوى قوة لجعل الناشئين تحت تأثير التعليم المسيحي، وهذا التأثير يستمر حتى يشمل أولئك الذين سيصبحون يوما ما قادة أوطانهم!!
وتقول أيضا: ((في صفوف كلية البنات بالقاهرة بنات آباؤهن باشوات وبكوات وليس ثمة مكان آخر يمكن أن يجتمع فيه مثل هذا العدد من البنات المسلمات تحت النفوذ المسيحي وليس ثمة طريق إلى حصن الإسلام أقصر مسافة من هذه المدرسة)) .
ويقول زويمر في وصاياه للمبشرين:
((ينبغي للمبشرين أن لا يقنطوا إذا رأوا نتيجة تبشيرهم للمسلمين ضعيفة إذ من المحقق أن المسلمين قد نما في قلوبهم الميل الشديد إلى علوم الأوروبيين، وتحرير النساء)) .
وفي الصحافة يقول المبشر ((ولسن كاش)) :
إن الصحافة لا توجه الرأي العام فقط، أو تهيئه لقبول ما ينشر عليه بل هي تخلق الرأي العام ((تأمل هذه العبارة جيدا)) وقد استغل المبشرون الصحافة المصرية على الأخص للتعبير عن أراء المسيحية أكثر مما استطاعوا في أي بلد إسلامي آخر ((تأمل هذه أيضا)) .(6/108)
لقد ظهرت مقالات كثيرة في عداد من الصحف المصرية، إما مأجورة في أكثر الأحيان أو بلا أجرة في أحوال نادرة.
ويعقب مؤلف ((أباطيل وأسمار)) على هذه التقارير بقوله:
((فمن الغفلة التي تطمس القلب والعين والعقل، أن يعرف ذلك إنسان له بقية من نخوة أو كرامة، أو عقل، ثم لا يعيد النظر في كل من أمور الأمة العربية والإسلامية، ليرىأثر إصبع التبشير العامل على تحطيم النفس العربية المسلمة، في كل ناحية من نواحي الحياة الأدبية والسياسية والاجتماعية، وليبصر عيانا صدوع التحطيم والهدم ظاهرة في حياتنا، وليدرك أن العدو الذي يريدنا أن نعتنق مبادئ الحضارة الغربية، وأن يفشي طريقة العيش الغربية، إنما يريد أن يقوض بناء كاملا تمّ كماله في قرون متطاولة، وبقي يقارع الخطوب والأحداث والنكبات دهورا، محتفظا بقوته وكيانه ولم يجترئ عليه العالم الأوروبي المسيحي، إلا بعد طول تردد في القرن التاسع عشر كما قال ((توينبي)) .
من كتاب أباطيل وأسمار
للأستاذ محمود محمد شاكر(6/109)
الإسلام والحياة
خطوات المنهج العقلي في الإسلام
بقلم أحمد عبد الرحيم السايح
من علماء الأزهر
اتخذ الإسلام في منهجه العقلي أربع خطوات متتالية:
أولا - محاربة الجمود والتقليد:
لأن البناء على أساس عقلي متين يقتضي تنقية الرواسب والأكداس التي خلفتها القرون الماضية وأكسبتها طابع القداسة فهيمنت على العقول وحجبتها عن البحث والتأمل التفكير وقد أنب القرآن المشركين على تمسكهم بآراء السابقين من الآباء والأجداد ولو كانوا على ضلال مبين قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} وقال تعالى: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} .
ثانيا - مكافحة المكابرة والعناد:(6/110)
والمعاندون هم الذين يرون الحقائق ماثلة أمام أعينهم ولكنهم يكابرون ويجادلون ويختلقون الأكاذيب، لطمس الحقائق وصرف العقول، وهم الذين يقول الله تعالى فيهم: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} ، وإذا وضح الحق ماثلا أمامهم لا سبيل إلى نكرانه كابروا، {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} فإذا أحرجتهم الحقائق الملموسة تعنتوا في جدالهم وطالبوا بالمستحيلات، {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} .
ومن هؤلاء من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وفيهم يقول الله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ} ويقول فيهم: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} وأمثال هؤلاء لا سبيل إلى جدالهم، وإنما السبيل فضحهم وكشف عبثهم حتى لا يفتنوا غيرهم بما يلفقونه من سفسطة ومهاترات.
ثالثا - التأمل والاستنباط:(6/111)
بعد أن تحرر العقول من أغلال التقاليد البالية والمعتقدات الفاسدة وبعد أن تُكشف أباطيل المكابرين المتعنتين، تستطيع أن تنطلق حرة طليقة باحثة عن الحق متطلعة إلى الهداية منقبة عن الصواب، وقد ناشدها الإسلام أن تتأمل في ملكوت السموات والأرض وأن تتدبر ما أبدع الله من كائنات {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} ، {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} ، ولا يكتفي الإسلام بهذا بل إنه يحفزنا أيضا إلى التأمل الذاتي في تكويننا الجسمي والعقلي {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} ، {وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} ، {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} وكلما لفت القرآن نظر المسلمين إلى آية من آيات الله أهاب بالعقل أن يتدبرها {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى ِلأُولِي الألْبَابِ} {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ} {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
رابعا- النتائج العقلية مؤيدة بالبراهين:(6/112)
وبعد أن تنشط العقول من عقالها. وتتدبر ملكوت السماوات والأرض يعينها الإسلام على الوصول إلى النتائج العلمية مؤيدة بالدليل المنطقي الملموس {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} ، {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} .
وهكذا نجد الحقيقة الكبرى مقررة مدعمة بالبرهان العقلي النافع الذي لا يعتريه شك أو إيهام، ولا يكتفي القرآن بتقرير المبادئ العليا بدليل واحد أو برهان مفرد، بل يسوق البرهان معززا بالبرهان حتى لا يدع للمكابرين حجة أو دليلا، استمع إلى قوله تعالى في تقرير الوحدانية المطلقة.
{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .(6/113)
وفي التدليل على البعث والنشور يسوق القرآن الأدلة القاطعة والبراهين الدامغة يتلو بعضها بعضا، استمع إلى قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} .(6/114)
ويقول جل شأنه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} وهكذا يظل القرآن يوالي الحقائق مشفوعة بالدليل القاطع والبرهان المبين {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} .(6/115)
خنافس
بقلم الشيخ محمد المجذوب
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة
وذي جمة جلّلت منكبيه.
وأخصب في عارضيه الشعَرْ.
يميس بعطفيه مستهترا.
كأنّ بهِ سورة من خَدَر.
دلفت إليه فحييتُه.
وقلت: تبارك من قد فَطَر.
دلالُ الإناث وصوت الرجال.
أأُنثى وراءهما. .أم ذكر؟.
فأمسك في قِحَةٍ شيئَه.
ليعلنَ من خُلقه ما استتر.
فقلت: بذا يتساوى الجميعُ.
ولا يَفْضُلُ الآدمون البقر.
وأما الرجولةُ فهي التي.
أُسائِلُ عنها ولا من أثر!.
ونعرفها بالإباء الحميّ.
على نزوات الخنا والدّعَر.
وأين الخنافسُ من مجدِها.
وليسوا سوى حفنةٍ من قذر!.
فراح يقهقه من منطقي.
ورحت أُسجل تلك العِبَر.
وأُسأل نفسيَ في حرقةٍ:.
أيُحْسبُ هذا القذي في البشر!.
وكيف نُرجّي بذاك الغثاءِ.
جلاءَ العِدى ونوالَ الظفر!.
ويا ذلّ شَعبٍ بفتيانهِ.
إذا بلغوا ذلك المنحدَر!
.(6/116)
دراسات في السنة النبوية
بقلم الشيخ محمد ضياء الرحمن الأعظمي
السنة اصطلاحا:
يختلف معنى السنة اصطلاحا حسب اختلاف الأعراض والمقاصد التي لأجلها توجه العلماء في البحث عنها. فالسنة بالنسبة إلى القرآن هي ما كانت منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم مما لم ينص عليها في الكتاب العزيز. وهي إما أن تكون بيانا لكتاب الله عز وجل أو تخصيصا له ولهذا السبب أطلق عليها الحديث بمقابلة القديم وهو كلام الله [-1] والعلم عند علام الغيوب.
وعند المحدثين: ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلقية أو خُلقية سواء قبل البعثة أو بعدها.
وعند الأصوليين: السنة هي ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير. والأمثلة على ذلك:
من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ما أخرجه الترمذي عن عثمان بن عفان قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من بنى لله مسجدا بنى الله مثله في الجنة" [1] قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. ومن فعله صلى الله عليه وسلم: ما أخرجه الترمذي أيضا عن البراء بن عازب قال: "كانت صلاة رسول الله صلى عليه وسلم إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع وإذا سجد وإذا رفع رأسه من السجود قريبا من السواء" [2] .
ومن تقريره صلى الله عليه وسلم ما أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: "خرج رجلان في سفر. فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا فصليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء ولم يُعد الآخر، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد: "أصبت السنة وأجزأتك صلاتك"وقال للذي توضأ وأعاد: "لك الأجر مرتين" [3] .(6/117)
ومن صفة النبي صلى الله عليه وسلم: ما أخرجه الترمذي عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال: "ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال الترمذي هذا حديث غريب [4] .
ومن خلق النبي صلى الله عليه وسلم ما أخرجه الترمذي أيضا عن علي بن أبي طالب قال: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بالطويل ولا بالقصير، شثن [5] القدمين والكفين. ضخم الرأس. ضخم الكراديس، طويل المشرُبَة، إذا مشى تكفّى تكفيا كأنما ينحط من صبب. لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم" قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح [6] .
وجه التفريق في معنى السنة عند الأصوليين والمحدثين هو راجع إلى الأغراض والمقاصد. فمثلا الأصولي جل همه أن يدور حول الأحكام الشرعية ليستنبطها من الأمر والنهي. فأوصاف النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وسيرته خارجة عن دائرة بحثه.
والسنة بهذا المعنى المذكور مطلوبة شرعا والأمة مأمورة باتباعها. فمن القرآن نذكر بعض الآيات المحرضة على اتباع السنة:
قال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [7] روى عن عبد الرزاق قال أخبرني الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال عبد الله ابن مسعود: "لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله" قال بلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب. فقالت يا أبا عبد الله بلغني أنك لعنت كيت وكيت. فقال: ومالي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله. قالت: إني لأقرأ ما بين اللوحتين فما أجده. قال: إن كنت قارئة لقد وجدتيه. أما قرأت قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} قالت: بلى. قال: فإنه قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم [8] .(6/118)
قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [9] .
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [10] .
قال ابن كثير: "أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم"، ثم قال: "فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة ومن لا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر" [11] .
قد يخيل إلى أحد أن الرد كما وجب إلى الله والرسول كذلك وجب إلى أولي الأمر. فهل أولو الأمر في مرتبة الله والرسول في التشريع! فأجاب العلماء على هذا السؤال بأقوال منها:
إن لفظ الطاعة ذكر مع الله والرسول فقط ولم يُعَد مع أولي الأمر. إذا فالطاعة المطلقة مختصة بالله والرسول، أما أولوا الأمر فهم تبع لهما وإلى هذا أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" [12] .(6/119)
ومنها: أن الرد لم يكرر مع أولي الأمر ويفيد هذا كذلك أن الرد لم يصح إلى أولي الأمر بل هو مختص بالله والرسول. ويؤيد هذا المعنى ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن الأعمش والإمام أحمد في مسنده عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال: بعث رسول الله صلى عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار. فلما خرجوا وجد عليهم في شيء، قال فقال لهم: "أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ " قالوا: "بلى"، قال: "فاجمعوا إليّ حطبا"ثم دعا بنار فأضرمها فيه ثم قال: "عزمت عليكم لتدخلنها"قال: فقال لهم شاب منهم: "إنما فررتم إلى رسول الله من النار، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها"قال: فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك فقال لهم: "لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا إنما الطاعة في المعروف" [13] .
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [14] فأعلمهم بأن مبايعتهم لرسول الله هي مبايعتهم له عز وجل.
قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [15] قال الحافظ ابن كثير: "يخبر تعالى عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأن من أطاعه فقد أطاع الله ومن عصاه فقد عصى الله، وما ذاك إلا لأنه ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى" [16] .
أخرج الشيخان عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني" [17] .(6/120)
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على الأخذ بالسنة النبوية الناطقة بالحق المبينة للكتاب ولهذا أجمع المسلمون جيلا بعد جيل وعصرا بعد عصر على أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي، وهي مبينة لكتاب الله عز وجل ومخصصة له، لأن الكتاب جاء مجملا ومعجزا فاقتضت حكمة الله العليا أن يرسل رسولا يفسر للناس كتابه ويوضح مراده بقوله وفعله وتقريره لقيم الحجة على عباده.
فقد قال الإمام الشافعي: "لا حجة في أحد خالف قولُه السنة" [18] فلنذكر هنا بعض الأحاديث الدالة على حجية السنة.
أخرج أبو داود عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إني أُوتيت الكتاب ومثله معه. لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه. ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السبع ولا لقطة معاهد إلاّ أن يستغني عنها صاحبها. ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعاقبهم (يعقبهم) بمثل قراه" [19] .
وأخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دعوني ما تركتكم. إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم" [20] .
وأخرج الدارمي عن عرباض بن سارية قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر ثم وعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله كأنها موعظة مودع، فأوصنا. فقال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والمحدثات فإن كل محدثة بدعة. وقال أبو عاصم مرة وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" [21] .(6/121)
وفي سنن النسائي قال النضر بن شيبان قال قلت لأبي سلمة بن عبد الرحمن حدثني بشيء سمعته من أبيك سمعه أبوك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بين أبيك وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدقال: نعم. حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تبارك وتعالى فرض صيام رمضان عليكم وسننت لكم قيامه، فمن صامه وقامه إيمانا واحتسابا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" [22] . وفي سنده أيضا عن عبد الله المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال صلوا قبل المغرب ركعتين، ثم قال عن الثالثة: لمن شاء" قال الراوي: كراهية أن يتخذها الناس سنة [23] وإلي غير ذلك من السنن المذكورة في كتب الأحاديث فلو لم يكن للسنة قيمة ذاتية رفيعة في نظر الشارع لما وردت هذه الآثار إلى هذا الحد الكبير.
--------------------------------------------------------------------------------
[-1] إلى هذا أشار الدكتور الحسيني نقلا من الفتح أصول الحديث النبوي ص23.
[1] تحفة الأحوذي ج2 ص262.
[2] المصدر السابق ص153.
[3] أبو داود ج1 ص143.
[4] تحفة الأحوذي ج10 ص124.
[5] قال في النهاية إنهما يمييلان إلى الغلط والقصر وقيل هو الذي في أنامله غلظ بلا قصر يحمد ذلك في الرجال لأنه أشد لقبضتهم ويذم في النساء ج2 ص204.
[6] تحفة _ ج10 _ ص116.
[7] الحشر: 7.
[8] جامع بيان العلم وفضله ج2 ص188_ فتح الباري ج1 ص317.
[9] الأحزاب 36.
[10] النساء 59.
[11] ابن كثير ج1 ص551.
[12] بالمعنى تفسير ابن كثير ج1 ص549.
[13] نقلا من تفسير ابن كثير ج1 ص549.
[14] النساء 80.
[15] الفتح 10.
[16] تفسير ابن كثير ج1 ص562.
[17] خ كتاب الجهاد 109 م كتاب الإمارة 32.(6/122)
[18] الرسالة ص576.
[19] دج4 ص279.
[20] خ ج9 ص77.
[21] الدارمي ج1 ص44 اللفظ له، واعتصام 5، ت كتاب العلم 16.
[22] ن ج 4 ص158.
[23] حم ج5 ص55.(6/123)
دور المستشرقين في تشويه الحقائق الإسلامية
بقلم الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
لتدمع العين، ويحزن القلب، وتفجر الشعور، ويضطرب الفكر، عندما يلقي المسلم نظرته العابرة على ما كتبه المستشرقون من كتابات وهمية لا مستند لها إلا خشيتهم قيام هذه الأمة مرة أخرى بما أوجب الله عليها من نشر رسالة نبيها - صلى الله عليه وسلم، وبثها إلى العالم، واستماتتها في سبيل نشرها، وتقديم أقصى ما يمكن لها أن تقدم لعدم ما بنته الجاهلية الحديثة الغربية أو الشرقية على حد سواء من عمارة الفساد. والفتن، والشرور، والإلحاد، والزيغ، والزندقة، والعلمانية اللادينية، وغير ذلك من الأمور الشنيعة التي لا حصر لها.
اطلعت أثناء تحضير رسالة الماجستير على كتاب لمستشرق ألماني ترجمه الدكتور حسين نصار من اللغة الإنجليزية إلى العربية، والمترجم مع غفلته وبلادته يعجب من الكتاب لحسن صياغته، وطرافة مادته، إذ يقول: "كنت أجمع المراجع التي أعتمد عليها في رسالتي التي قدمتها إلى كلية الآداب، بجامعة فؤاد الأول لأحصل على درجة الماجستير في نشأة الكتابة في الأدب العربي، فوجدت الكتب التي تتعرض لنشأة التاريخ عند العرب. تستعير كثيرا من كتاب يسمى ((المغازي الأولى ومؤلفوها)) من تأليف الأستاذ الألماني جوزيف هوروفتس. JOSEF HOROVITS
فبحثت عنه فوجدته مقالات في مجلة الثقافة الإسلامية CUZTERE ISLAMIC التي تصدر في حيدر آباد بالهند باللغة الإنجليزية في أعداد عامي 1927- 1928 فعثرت فيه على تحفة رائعة، في نشأة كتب المغازي والسير عند المسلمين، وأطوارها الأولى، اسم الكتاب:
EARLY EIOGRAPHIES. OF THE PROPHET AND THEIRAUTHEORS(6/124)
وقد ترجمته باسم المغازي، ومؤلفها" [1] .
ثم يقول أخيرا: "مهما يكن من شيء فإن الكتاب تحفة رائعة أقدمها لإخواني القراء في العالم العربي، شاكرا مؤلفها جزيل الشكر، راجيا أن تفتح أمامنا آفاقا جديدة للبحث في مواطن الدراسة العربية".الخ. . .
قلت: لم يكن الكتاب تحفة رائعة كما زعم المترجم أكثر من أن يكون دسا خبيثا، وزعما باطلا، وحكايات واهية خيالية في كثير من مواضعه.
والكتاب عبارة عن تراجم مؤلفي المغازي والسير الأولى، كما عبّر عنه المترجم، ولم يكن المؤلف جوزيف هوروفتس قاصدا من وضع هذه الفصول تزويد القراء بمعلومات قيمة، ومعارف أصيلة في الثقافة العربية، بل أراد منها أشياء أخرى غفل عنها الدكتور حسين نصار، وأنا لا أعتقد أن المسلم إذا عرف حقيقة الأمر- التي سأضعها أمام القراء إن شاء الله تعالى - في صنيع هؤلاء الأعداء من زيغ، وتحريف ثم يتجاهل عنها، أو يتغافل، بل لا بد له من أن يكشف ويظهر للمسلمين ما هناك من حقيقة الأمر.(6/125)
وإليكم بعض العمل الذي قام به المستشرق المذكور في كتابه آنف الذكر. ترجم في الصفحة الثالثة من كتابه لأبان بن عثمان بن عفان الأموي رحمه الله تعالى لكونه أول مؤلف في المغازي والسير، وهو إمام كبير وتابعي ثقة [2] وعندما لم يجد المستشرق شيئا في ترجمته يمس به عدالته وإمامته، أتى في ترجمته هذه العبارة "ولم تقصر عناية أهل المدينة على العلوم الدينية وحدها، بل عنوا أعظم عناية بالموسيقى والشعر، ومن الخطأ أن يظن أنه لا توجد صلات بين العلماء والشعراء، وإن علماء الدين كانوا جميعا معادين للشعر، بل وجد في المدينة نفسها أعلام من العلماء الدينيين قد برزوا في قول الشعر، وأشهر مثل لذلك تتحقق فيه هذه الصلة عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهو ممن حارب مع النبي في أُحد، وقد خصص أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني [3] فصلا لعبيد الله هذا، وأورد طائفة من شعره، وفعل مثل ذلك ابن سعد في طبقاته [4] وهو معدود من فقهاء المدينة السبعة.
وحينما تيمه حب هذلية حسناء دعا الفقهاء الستة الآخرين في أشعاره التي يخاطبها بها، ليشهدوا على قوة حبه الذي برح به قال:
أحبك حبا لو علمت ببعضه.
لجدت ولم يصعب عليك شديد.
فحبك - يا أم الصبي - مدلهي.
شهيدي أبو بكر وأي شهيد [5] .
ويعلم وجدي القاسم بن محمد.
وعروة ما ألقى بكم وسعيد.
ويعلم ما أخفى سليمان علمه.
وخارجة يبدي لنا ويعيد.
متى تسألي عما أقول فتخبري.
فللحب عندي طارف وتليد.
قلت: عجيب أمر هذه الآبيات المنسوبة إلى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود رحمه الله تعالى، أُنظروا براعة المستشرق في إيرادها في ترجمة أبان بن عثمان الأموي رحمه الله تعالى، ثم عندي بعض الأسئلة أرغب في توجيهها إلى المستشرق:(6/126)
أ- هل عرفت تلك الشخصية التي نسبت إليها هذه الآبيات بناء على إخراجها من قبل أبي الفرج الأصبهاني في كتابه الأغاني؟
ب- هل تتفق هذه المعاني القبيحة التي تحملها هذه الأبيات مع ترجمة عبيد الله المذكور؟
ح- هل درست إسناد هذه الأبيات؟
إن كنت لا تدري فتلك مصبية.
أو كنت تدري فالمصيبة أعظم.
وأما ترجمته:
فهو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي رحمه الله، أبو عبد الله المدني.
قال العجلي: "كان أعمى، وكان أحد فقهاء المدينة، تابعي ثقة، رجل صالح، جامع للعمل، وهو معلم عمر بن عبد العزيزن قال أبو زرعة الرازي: ثقة، إمام".
قال الطبري: "كان مقدما في العلم، والمعرفة بالأحكام، والحلال والحرام. وكان مع ذلك شاعرا مجيدا"، وقال بن عبد البر: "كان أحد الفقهاء العشرة، ثم السبعة الذين تدور عليهم الفتوى، وكان عالما فاضلا، مقدما في الفقه، تقيا، شاعرا محسنا، لم يكن بعد الصحابة إلى يومنا هذا - فيما علمت - فقيه أشعر منه، ولا شاعر أفقه منه".
وقال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز: "لو كان عبيد الله حيا ما صدرت إلا عن رأيه" [6] .
قلت: لم يلزم من كونه شاعرا، أن يكون شعره كهذا الشعر الساقط السافل.
ب- لم تتفق هذه المعاني القبيحة المنكرة مع ترجمة المذكور، وقد اتفق علماء الحديث على أنه إمام، تقي، زاهد، كما تراه في المصادر المذكورة.
ح- وأما إسناد هذه الأبيات فهو إسناد موضوع مكذوب كما ستراه إن شاء الله تعالى.
قال أبو الفرج الأصبهاني: حدثنا محمد بن جرير الطبري، والحرمي بن العلاء، ووكيع، قالوا: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني إسماعيل بن يعقوب، عن أبي الزناد، عن أبيه، قال: قدمت المدينة امرأة من ناحية مكة من هذيل، وكانت جميلة، فخطبها الناس، وكادت تذهب بعقول أكثرهم، فقال فيها عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، ثم ساق الأبيات المذكورة [7] .(6/127)
رجال الإسناد:
أما أبو الفرج الأصبهاني، فهو علي بن حسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مهران، قال الخطيب بإسناده الجيد عن محمد بن الحسين بن الحسين النوبختي يقول: "كان أبو الفرج الأصبهاني أكذب الناس، كان يدخل سوق الوراقين، وهي عامرة، والدكاكين مملوءة بالكتب، فيشتري شيئا كثيرا من الصحف، ويحملها إلى بيته ثم تكون رواياته كلها منها" [8] .
وقال الذهبي: "كان وسخا زريا خلّط قبل موته، وكانوا يتقون هجاءه" [9] .
قلت: يوجد في هذا الإسناد رجل آخر لم أجد له ترجمة في المراجع التي بين يدي، وهو ذكوان القرشي والد أبي الزناد الذي ينتهي إليه إسناد هذه الأبيات.
قال فيه الحافظ بن حجر: "قيل كان أخا أبي لؤلؤة قاتل عمر" [10] .
وأما قول الشيخ حماد محمد الأنصاري -وهو أستاذنا الفاضل بالجامعة الإسلامية - هو ذكوان السمان وهو من رجال مالك في الموطأ الخ …
فقلت: هذا وهم ظاهر لا يخفى على أمثال الشيخ حماد وفقه الله تعالى لأن أبا صالح الذكوان السمان لم يعرف لأبي الزناد الذي هو عبد الله بن ذكوان عنه سماع، ولعل الشيخ حماد الأنصاري التبس عليه في هذين الراويين لكونهما اتفقا في اسميهما، وأسماء آبائهما، وهذا مما لا شك فيه من أخطر المواضع وإليه أشار الحاكم في علوم الحديث [11] .
ومما قال الشيخ حماد وفقه الله تعالى: "إن رواية أبي الزناد عن أبيه اعتمد عليها مالك في موطئه".
قلت: وقد بحثت عن هذه الرواية في كلا الروايتين الموجودتين عندنا في مكتبتنا أعني رواية يحيى بن يحيى الليثي الأندلسي، ورواية محمد بن الحسن الشيباني لموطأ الإمام مالك فلم أجد فيهما هذه الرواية فلم أدر على أي رواية اعتمد فضيلة الشيخ حماد الأنصاري حفظه الله تعالى؟(6/128)
فإن وجد ترجمة الرجل على فرض التقدير وكان ثقة لم تسلم رواية الأغاني التي نحن بصدد نقد إسنادها، فإذا عرفت هذا فاعلم، أن هذه الأبيات القبيحة لم تصح نسبتها إلى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود رحمه الله تعالى.
وأما قولك يا جوزيف: "وفعل مثل ذلك ابن سعد في طبقاته 185-5"فإني لم أجد الأبيات عند ابن سعد في طبقاته مع أنه ترجم له فيها [12] ، ومن جملة ما قال عنه ابن سعد بإسناده عن شيخه الواقدي: إذ قال رحمه الله: "أخبرنا محمد بن عمر، قال حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: كان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة يقول الشعر، فيقال له في ذلك فيقول: أرأيتم المصدور إذا لم ينفث أليس يموت؟ "
قلت: إسناد هذا الخبر متروك لكونه روي عن طريق الواقدي.
قال الذهبي: "محمد بن عمر واقد الأسلمي مولاهم الواقدي، القاضي المدني، صاحب التصانيف، وأحد أدعية العلم على ضعفه".
قال الإمام أحمد بن حنبل: "هو كذاب يقلب الأحاديث، يلقي حديث ابن أخي الزهري على معمر ونحو ذا".
قال ابن معين: "ليس بثقة"، وقال مرة: "لا يكتب حديثه"، وقال البخاري وأبو حاتم: "متروك"، وقال أبو حاتم أيضا والنسائي: "يضع الحديث"، قال الدارقطني: "فيه ضعف". قال ابن عدي:"أحاديثه غير محفوظة والبلاء منه". وقال أبو غالب بن بنت معاوية بن عمرو: سمعت ابن المديني يقول: "الواقدي يضع الحديث"، قال المغيرة بن محمد المهلبي سمعت ابن المديني يقول: "الهيثم بن عدي أوثق عندي من الواقدي لا أرضاه في الحديث، ولا في الأنساب، ولا في شيء"، قال إسحاق بن الطباع: "رأيت الوقدي في طريق مكة يسيء الصلاة"، وقال البخاري: "سكتوا عنه ما عندي له حرف"قال ابن راهويه: "هو عندي ممن يضع الحديث"، قال الذهبي: "ومات وهو على القضاء سنة سبع ومائتين في ذي الحجة، واستقر الإجماع على وهن الواقدي" [13] .(6/129)
قلت: لا تثبت نسبة الشعر إلى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود رحمه الله تعالى عن طريق الواقدي، فإذا كان هناك إسناد آخر صحيح فلا مانع من قبوله إياه ثم تأويله إلى أنه شعر كشعر حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه، كما قال عنه ابن عبد البر: "وكان شاعرا مجيدا محسنا"، ولا يمنعني شيء من عدم قبول روايات الواقدي كلها، فإذا كان عند المستشرق إسناد آخر فليأت به حتى اسبره، وانقده، ولعل هذا محال إن شاء الله تعالى، فإذا عرفت هذا فاعلم علم اليقين أن كتاب المستشرق الألماني المذكور كله مملوء بهذه الحكايات المكذوبة، والروايات المصطنعة والتي لا يثبت سندها أبدا، ولم يقصد من كتابة هذا إلا الطعن والرمي بالانحراف والزيغ لشخصية مباركة إسلامية عظيمة، عرفت بالتقوى والزهد، والعدالة والورع، ولا يخفى عليك أيها المسلم، أنه أراد بهذه الكتابة أن يسقط عدالة هذا التابعي الإمام الذي اعتمد عليه الأئمة الستة وغيرهم ف كتبهم فأخرجوا له جملة كبيرة من الأحاديث في الأحكام والعقائد ونحو ذلك، ولم يكن عمل هؤلاء منحصرا في كتاباتهم التي اطلعت على بعض أجزائها، إنما أسسوا جامعات كبيرة، ومتاحف أثرية لهذا الغرض، واهتموا أشد الاهتمام بدراسات إسلامية أكثر مما اهتموا بالدراسات الأخرى، وخططوا مناهج موبوءة وجبلوا إليها من جبلوا من ضعاف العقول، وبسطاء الضمير من أولاد هذه الأمة المرحومة لكي يخدموهم فيما أرادوه من الباطل والوقيعة، وهذا والله من أشنع الأسلحة الفتاكة التي يستعملها الأعداء في تشويه حقائق هذه الشريعة الصافية النقية.
قال محمد بن سيرين أحد أئمة التابعين الكبار فيما روى عنه مسلم في مقدمة صحيحه بإسناد قال: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم" [14] .(6/130)
وروى أيضا بإسناد عن أبي عقيل صاحب بهية، قال: "كنت جالسا عند القاسم بن عبيد الله، ويحيى بن سعيد، فقال يحيى للقاسم: "يا أبا محمد إنه قبيح على مثلك عظيم أن تسأل عن شيء من أمر هذا الدين، فلا يوجد عندك منه علم، ولا فرج، أو علم، ولا مخرج"، فقال القاسم: "عم ذاك؟ "
قال: "لأنك ابن إمامي هدى ابن أبي بكر، وعمر"، قال: يقول له القاسم: "أقبح من ذلك عني من عقل عن الله، أن أقول بغير علم، أو آخذ عن غير ثقة"قال: فسكت فما أجابه" [15] .
قلت: لنأسف جدا على هذه الكارثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي حلت بالعالم الإسلامي وهي عدم الاعتداد بشخصيته الإسلامية التي عُرف بها في الماضي المجيد بالعلم والنباهة، وتيسير أمور العالم بأكمله بما عنده من النور الإلهي، والوحي السماوي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. فتلجأ هذه الأمة في هذا العصر إلى الغرب حتى في العلوم الدينية، وتتذلل أمامه على مائدة الخنزير، إنها جريمة خلقية في حق الإسلام لا تغتفر لها أبدا، مع العلم أن مناهجه قد وضعت على أساس أن لا تبقى هذه الأمة على صلابتها وإيمانها، وقوتها، وروحها، ونقاوتها بل تنجرف مع الروح العلمانية التي يعيش فيها الغرب أو الشرق، ومن لف لفهم.
فإلى متى تبقى هذه الأمة عالة على الغرب مع وجود منهج سامق عالمي لديها تستطيع أن تقف به موقفا عظيما شامخا أمام تحديات الإلحاد؟
وإلى متى تعيش هذه الأمة في نظريات منحرفة، وفلسفات مادية لا تتفق مع فطرتها السليمة، وطبيعتها الأصيلة، وعقيدتها الراسخة؟
اللهم يا ولي الإسلام والمسلمين ألهمنا مراشد أمورنا، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، أنت ولي ذلك والقادر عليهن وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(6/131)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] مقدمة الكتاب ص3 طبع بمطبعة الحلبي بمصر -الطبعة الأولى -.
[2] انظر الطبقات الكبرى لابن سعد 151- 153/5 وتهذيب الكمال للمزي 49-50 /1خ وتهذيب التهذيب للحافظ ابن حجر 97/01 والجرح والتعديل لابن أبي حاتم 295/1/1 وتقريب النهذيب للحافظ بن حجر 31/1/01 وخلاصة لأحمد بن عبد الله الخزرجي ص15.
[3] 92-101/8 طبع بولاق.
[4] 185/5 حسب عزو المستشرق.
[5] البيت مكسور وملحون. وقد اصلحنا عدة أغلاط في الأبيات. (المجلة) .
[6] أنظر تهذيب التهذيب 22-24/7. ووفيات الأعيان لابن خلكان 271/1. وسير أعلام النبلاء للذهبي المجلد الرابع خ. وصفة الصفوة لابن الجوزي 57/2. وحلية الأولياء للحافظ بان نعيم 188/2. ونكت الهميان ص197.
[7] الأغاني 95-97/88 طبع بولاق.
[8] تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 399/11.
[9] نقلا عن الاعلام لخير الدين الزركلي 88/5 وهو بدوره ينقل عن سير اعلام النبلاء انظر: ارشاد الاريب 94-136/13. وفيات الاعيان 421-422/1.والوافي بالوفيات للصفدي 44-46/12 والنجوم الزاهرة 15-16/4. ميزان الاعتدال 223/2. المنتظم لابن الجوزي 71/7. لسان الميزان 221-222/4/1 وشذرات الذهب 19=-20/3 ومرآة الجنان 359/360/2. انظر:مؤلفاته في فهرست ابن النديم 115/1.
والمؤسف أن أديبا سوريا ذا شهرة قد وضع كتابا في توثيق روايات هذا الكذاب الزرى الهجاء غير عابئ بشهادة أئمة الحديث الفاضحة له. وقد تنبه إلى حقيقة الاصفهاني الدكتور زكي مبارك الذي أعطاه ما يستحق في كتابه (النثر الفني) فليفم ذلك قراء كتابه (الاغاني) الذي يوهم بطريقته الاسنادية غير حقيقية. (المجلة)
[10] تهذيب التهذيب 203/5.
[11] 221/224.
[12] 250/5 الطبقات الكبرى دار صادر بيروت.(6/132)
[13] ميزان الاعتدال 662=666/3 انظر تاريخ بغداد للخطيب 21/196. 197/3 الانساب للسمعاني 577/2 ووفيات الاعيان لابن خلكان 640. 741 وارشاد الاريب 277-282/18. وتاريخ جرجان ص165. ومختصر دول الإسلام 99/1. والوافي بالوفيات 238-240/4. ومرآة الجنان 36-38/2 وشذرات الذهب 18/2. والديباج المذهب لان فرحون ص230. وانظر تهذيب التهذيب 363-368/9 وتهذيب الكمال للإمام المزي 1249-1251/6 خ وانظر عبر في خبر من غبر للذهبي 353/1.
[14] مقدمة صحيح مسلم ص11.
[15] مقدمة صحيح مسلم ص12.(6/133)
رسالة المركز الثقافي الإسلامي باسكندنافيا
مدير المركز يحيى زكريا سين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد. .
فنظرا لما تتمتع به صحيفتكم من ثقة وسعة وانتشار وهي وسيلة من وسائل الإعلام بين المسلمين وأداة لمخاطبة ذوي الغيرة والشهامة منهم، وبناء على ما عُهِد فيكم من تجاوب وإخلاص لنصرة كل القضايا الإسلامية ومساعدة المسلمين نتوجه إليكم بهذا الخطاب راجين منكم التعاون والمساندة. . والله لا يضيع أجر من أحسن عملا. .
فقبل كل شيء نود أن نعلمكم عن تأسيس المركز الثقافي الإسلامي بكوبنهاجن بالدانمرك والذي تأسس لخدمة المسلمين الموجودين هنا ومساعدتهم وتقوية الروابط الأخوية بينهم بالإضافة إلى تعميق المفاهيم الإسلامية لديهم حيث أنهم يعيشون في ظروف روحية سيئة جدا ولا يخفى عليكم ما يحتاجه هذا العمل من إمكانيات وجهود وما يعترضه من صعاب وعقبات، ولكن إيماننا بالله سبحانه وتعالى وثقتنا في تجاوبكم مع هذه الغايات دفعنا لمكاتبتكم آملين منكم مشاركتنا في حمل هذه المهام الجسام التي تعتبر أيضا من واجبات كل مسلم أينما كان. لقد رأينا أن نتصل بكم لنكون أولا على ارتباط وثيق بكم ولتكونوا وسيلة اتصالنا بإخواننا المسلمين في البلاد الإسلامية الذين نأمل منهم العون والمساندة. . فالمسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا.(6/134)
إن عدد المسلمين في الدانمرك حوالي (12) ألف مسلم وهم يحتاجون إلى مكان تقام في الصلاة ويلتقون فيه في المناسبات التي تمر دون أن يشعروا بها، وقد يضطر بعضهم إلى مطالبة الجهات المسؤولة لإعارتهم صلات الألعاب الرياضية لإقامة الصلوات بها، وطبعا لا توافق هذه الجهات إلا على إعطاء الأماكن البعيدة وغير المناسبة أو على الأقل في الأوقات غير المناسبة، وعلى سبيل المثال في عيد الأضحى المبارك الفائت لم تقم صلاة العيد المشروعة لعدم حصولنا على مكان يسهل الوصول إليه بحجة انشغال كل الأماكن وإصرارنا على إقامة الصلاة والتي أقيمت على البلاط دون أي فراش. . وما هذه إلا صورة لإحدى المآسي التي يعيشها المسلمون هناك. . وهي بسيطة إذا قورنت بمشكلة الأطفال الدراسية الذين يفقدون لغتهم نظرا لدراستهم باللغة الدانمركية ولا يجدون أي جهة تدرس لهم اللغة العربية ويتلقون منها شيئا عن الإسلام. . الأمر الذي يفقدهم كل ارتباط بإسلامهم وعروبتهم.
لقد تأسس المركز الثقافي الإسلامي كما تجدون في النظام الأساسي المرفق تحت رعاية سفراء الدول الإسلامية وليقوم بالواجبات المحددة به، ولكن في الواقع لم يتمكن المركز حتى الآن من إيجاد مقر له يجتمع فيه أعضاؤه حيث يجتمعون حاليا في غرفة صغيرة لا تزيد مساحتها عن عشرين مترا مربعا بالدور الثالث تستعمل للصلاة والاجتماعات رغم مضايقة الجيران والحانة التي فتحت مؤخرا في الدور الأرضي من نفس البناية.
ولا بد لنا أن نشكر هنا كل من الإدارة العامة للأوقاف بالجمهورية العربية الليبية التي تبرعت بمبلغ (5600) خمسة آلاف وستمائة جنيها إسترلينيا وجمهورية موريتانيا التي تبرعت بمبلغ (700) سبعمائة جنيها إسترلينيا رغم ضيق ذات يدها سائلين الله العلي القدير أن يسدد خطى الجميع.(6/135)
إن واقع المسلمين هنا سيئ جدا وهم في حاجة لمن يساعدهم ويشد من أزرهم فغالبيتهم عمالا تتقاسم أجورهم الضرائب الباهظة والأسعار العالية بالإضافة إلى التزاماتهم المادية نحو أهلهم وذويهم ببلدانهم الأصلية، فنرجو أن تكونوا خير معين لهم، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.
وفي الختام نرجو أن تقوموا بدوركم في التعريف بنا وطلب المساعدة لنا وأن تكونوا وسيلة للاتصال بيننا وبين ذوي الفضل والسعة في العالم الإسلامي، كما أننا في حاجة ماسة إلى مساندتكم المادية والمعنوية، ولا يفوتنا أن نؤكد لكم استعدادنا للإجابة على استفساراتكم والتجاوب مع مقترحاتكم وتوجيهاتكم والتي ولا شك ستعيننا إن شاء الله على مواصلة العمل والسعي حثيثا لما فيه خير الإسلام والمسلمين. وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون. .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . .
مدير المركز
يحيى زكريا سين(6/136)
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب
لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
المدرس بالجامعة
سورة الحجرات
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} . هذه الآية الكريمة تدل على أن خلق الناس ابتداؤه من ذكر وأنثى. وقد دلت آيات أُخر على خلقهم من غير ذلك كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} .
والجواب واضح وهو أن التراب هو الطور الأول وقد قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} وقد بين الله أطوار خلق الإنسان من مبدئه إلى منتهاه بقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} إلى آخره.
سورة ق
قوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} هذه الآية تدل على خصوص التذكير بالقرآن بمن يخاف وعيد الله وقد جاءت آيات أخر تدل على عمومه كقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} والجواب أن التذكير بالقرآن عام إلا أنه لما كان المنتفع به من يخاف وعيد الله صار كأنه مختص به كما أشار إليه قوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} كما تقدم نظيره مرارا.
سورة الذاريات(6/137)
قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} . لا يخفى ما بين هذا النعت ومنعوته من التنافي في الظاهر لأن النعت صيغة جمع والمنعوت لفظ مفرد. والجواب أن لفظة الضيف تطلق على الواحد والجمع لأن أصلها مصدر ضاف فنقلت من المصدرية إلى الاسمية كما تقدم في سورة البقرة.
سورة الطور
قوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} هذه الآية تقتضي عموم رهن كل إنسان بعمله ولو كان من أصحاب اليمين نظرا لشمول المدلول عليه بلفظه كل وقد جاءت آية أخرى تدل على عدم شمولها لأصحاب اليمين وهي قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ} .
والجواب ظاهر وهو أن آية الطور هذه تخصصها آية المدثر.
سورة النجم
قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} . هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجتهد في شيء وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه صلى الله عليه وسلم ربما اجتهد في بعض الأمور كما دل عليه قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} . وقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} الآية.
والجواب عن هذا من وجهين: الأول - وهو الذي اقتصر عليه ابن جرير وصدر به ابن الحاجب في مختصره الأصولي إن معنى قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} أي في كل ما يبلغه عن الله أن هو أي كل ما يبلغه عن الله إلا وحي من الله لأنه لا يقول على الله شيئا إلا بوحي منه فالآية رد على الكفار حيث قالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم افترى هذا القرآن كما قال ابن الحاجب.(6/138)
الوجه الثاني: أنه إن اجتهد فإنه إنما يجتهد بوحي من الله يأذن له به في ذلك الاجتهاد وعليه فاجتهاده بوحي فلا منافاة. ويدل لهذا الوجه أن اجتهاده في الإذن للمتخلفين عن غزوة تبوك أذن الله له فيه حيث قال له فأذن لمن شئت منهم. فلما أذن للمنافقين عاتبه بقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} . فالاجتهاد في الحقيقة إنما هو في الإذن قبل التبين لا في مطلق الإذن للنص عليه. ومسألة اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم وعدمه من مسائل الخلاف المشهورة عند علماء الأصول وسبب اختلافهم هو تعارض هذه الآيات في ظاهر الأمر.
قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر أن التحقيق في هذه المسألة أنه صلى الله عليه وسلم ربما فعل بعض المسائل من غير وحي في خصوص كإذنه للمتخلفين عن غزوة تبوك قبل أن يتبين صادقهم من كاذبهم وكأسرة لأسارى بدر وكأمره بترك تأبير النخل وكقوله: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت" الحديث. .إلى غير ذلك. وإن معنى قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} لا إشكال فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق بشيء من أجل الهوى ولا يتكلم بالهوى وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} يعني أن كل ما يبلغه عن الله فهو وحي من الله لا بهوى ولا بكذب ولا افتراء. والعلم عند الله تعالى.(6/139)
قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} هذه الآية الكريمة تدل على أنه لا ينتفع أحد بعمل غير. وقد جاءت آية أخرى تدل على أن بعض الناس ربما انتفع بعمل غيره وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} الآية. فرفع درجات الأولاد سواء قلنا انهم الكبار أو الصغار نفع حاصل لهم وإنما حصل لهم بعمل آبائهم لا بعمل أنفسهم. اعلم أولا أن ما روي عن ابن عباس من أن هذا كان شرعا لمن قبلنا فنسخ في شرعنا غير صحيح بل آية وأن ليس للإنسان محكمة كما أن القول بأن المراد بالإنسان خصوص الكافر غير الصحيح أيضا والجواب من ثلاثة أوجه:
الأول - إن الآية إنما دلت على نفي ملك الإنسان لغير سعيه ولم تدل على نفي انتفاعه بسعي غيره لأنه لم يقل وأن لن ينتفع الإنسان إلا بما سعى. وإنما قال وأن ليس للإنسان. وبين الأمرين فرق ظاهر لأن سعي الغير ملك لساعيه إن شاء بذله لغيره فانتفع به ذلك الغير وإن شاء أبقاه لنفسه وقد أجمع العلماء على انتفاع الميت بالصلاة عليه والدعاء له والحج عنه ونحو ذلك مما ثبت الانتفاع بعمل الغير فيه.
الثاني - أن إيمان الذرية هو السبب الأكبر في رفع درجاتهم إذ لو كانوا كفارا لما حصل لهم ذلك فإيمان العبد وطاعته سعي منه في انتفاعه بعمل غيره من المسلمين كما وقع في الصلاة في الجماعة فإن صلاة بعضهم مع بعض يتضاعف بها الأجر زيادة على صلاته منفردا وتلك المضاعفة انتفاع بعمل الغير سعى فيه المصلي بإيمانه وصلاته في الجماعة. وهذا الوجه يشير بعضهم مع بعض يتضاعف بها الأجر زيادة على صلاته منفردا وتلك المضاعفة انتفاع بعمل الغير سعى فيه المصلي بإيمانه وصلاته في الجماعة. وهذا الوجه يشير ليه قوله تعالى: {وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} .(6/140)
الثالث – إن السعي الذي حصل به رفع درجات الأولاد ليس للأولاد كما هو نص قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} . ولكنه من سعي الآباء فهو سعي الآباء أقر الله عيونه بسببه بأن رفع إليهم أولادهم ليتمتعوا في الجنة برؤيتهم فالآية تصدق الأخرى ولا تنافيها لأن المقصود بالرفع إكرام الآباء لا الأولاد فانتفاع الأولاد تبع فهو بالنسبة إليهم تفضل من الله عليهم بما ليس لهم كما تفضل بذلك على الولدان والحور العين والخلق الذين ينشؤهم للجنة والعلم عند الله تعالى.
سورة القمر
قوله تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} يدل على أن عاقر الناقة واحد وقد جاءت آيات أُخر تتدل على كونه غير واحد كقوله فعقروا الناقة الآية.
وقوله: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} .
والجواب من وجهين: الأول - أنهم تمالئوا كلهم على عقرها فانبعث أشقاهم لمباشرة الفعل فأسند العقر إليهم لأنه رضاهم وممالأتهم.
الوجه الثاني - هو ما قدمنا في سورة الأنفال من إسناد الفعل إلى المجموع مرادا به بعضه وذكرنا في الأنفال نظائره في القرآن العظيم والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} . تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} الآية.
سورة الرحمن
قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ} .
لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من أن إرسال شواظ النار الذي هو لهبها والنحاس الذي هو دخانها أو النحاس المذاب وعدم الانتصار ليس في شيء منه إنعام على الثقلين. وقوله لهم فبأي آلاء الله أي نعمه على الجن والإنس.(6/141)
والجواب من وجهين: الأول - أن تكرير {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} للتوكيد ولم يكرر متواليا لأن تكريره بعد كل آية أحسن من تكريره متواليا وإذا كان للتوكيد فلا إشكال لأن المذكور منه بعد ما ليس من الآلاء مؤكد للمذكور بعد ما هو من الآلاء.
الوجه الثاني - أن {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} لم تذكر إلا بعد ذكر نعمة أو موعظة أو إنذار وتخويف وكلها من آلاء الله التي لا يكذب بها إلا كافر جاحد. أما في ذكر النعمة فواضح. وأما في الموعظة فلأن الوعظ تلين له القلوب فتخشع وتنيب فالسبب الموصل إلى ذلك من أعظم النعم فظهر أن الوعظ من أكبر الآلاء.. وأما في الإنذار والتخويف كهذه الآية ففيه أيضا أعظم نعمة على العبد لأن إنذاره في دار الدنيا من أهوال يوم القيامة من أعظم نعم الله عليه ألا ترى أنه لو كان أمام إنسان مسافر مهلكة كبرى وهو مشرف على الوقوع فيها من غير أن يعلم بها فجاءه إنسان فأخبره بها وحذره عن الوقوع فيها أن هذا يكون يدا له عنده وإحسانا يجازيه عليه جزاء أكبر الأنعام وهذا الوجه الأخير هو مقتضى الأصول لأنه قد تقرر في علم الأصول أن النص إذا احتمل التوكيد والتأسيس فالأصل حمله على التأسيس لا على التوكيد لأن في التأسيس زيادة معنى ليست في التوكيد وعلى هذا القول فتكرير {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إنما هو باعتبار أنواع النعم المذكورة قبلها من إنعام أو موعظة أو إنذار وقد عرفت أن كلها من آلاء الله فالمذكورة بعد نعمة كالمذكورة بعد قوله: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ} الآية وبعد قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} الآية لأن السفن واللؤلؤ والمرجان من آلاء الله كما هو ضروري والمذكورة بعد موعظة كالمذكورة بعد قوله: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ} الآية. والمذكورة بعد إنذار أو تخويف كالمذكورة بعد قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ} . الآية. .(6/142)
والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
. وقوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ إليهم} الآية. في سورة الأعراف.
سورة الواقعة
قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} يقتضي أنه لم يقسم بهذا القسم.
وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} يدل على خلاف ذلك.
والجواب من وجهين:
الأول - أن ((لا)) النافية يتعلق نفيها بكلام الكفار فمعناها إذا ليس الأمر كما يزعمه الكفار المكذبون للرسول وعليه أقسم إثبات مؤتنف.
الثاني - أن لفظة (لا) صلة وقد وعدنا ببيان ذلك بشواهده في الجمع بين قوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} مع قوله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} .
سورة الحديد
قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش} يدل على أنه تعالى مستو على عرشه عال على كل جميع خلقه. وقوله تعالى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} يوهم خلاف ذلك.(6/143)
والجواب: أنه تعالى مستو على عرشه كما قال بلا كيف ولا تشبيه استواء لائقا بكماله وجلاله وجميع الخلائق في يده أصفر من حبة خردل فهو مع جميعهم بالإحاطة الكاملة والعلم التام ونفوذ القدرة سبحانه وتعالى علوا كبيرا فلا منافاة بين علوه على عرشه ومعيته لجميع الخلائق ألا ترى ولله المثل الأعلى أن أحدنا لو جعل في يده حبة من خردل أنه ليس داخلا في شيء من أجزاء تلك الحبة مع أنه محيط بجميع أجزائها ومع جميع أجزائها والسموات والأرض ومن فيهما في يده تعالى أصغر من حبة خردل في يد أحدنا وله المثل الأعلى سبحانه وتعالى علوا كبيرا فهو أقرب إلى الواحد منا من عنق راحلته بل من حبل وريده مع أنه مستو على عرشه لا يخفى عليه شيء من عمل خلقه جل وعلا.
سورة المجادلة(6/144)
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} لا يخفى أن ترتيبه بالعتق على الظهار والعود معا يفهم منه أن الكفارة لا تلزم إلا بالظهار والعود معا وقوله من قبل أن يتماسا صريح في أن التكفير يلزم كونه قبل العود إلى المسيس. اعلم أولا أن ما رجحه ابن حزم من قول داود وحكاه ابن عبد البر عن بكير بن الأشج والقراء وفرقة من أهل الكلام وقال به شعبة من أن معنى ثم يعودون لما قالوا هو عودهم إلى لفظ الظهار فيكررونه مرة أخرى قول باطل بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل المرأة التي نزلت فيها آية الظهار هل كرر زوجها صيغة الظهار أم لا وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال كما تقدم مرارا والتحقيق أن الكفارة ومنع الجماع قبلها لا يشترط فيهما تكرير صيغة الظهار وما زعمه البعض أيضا من أن الكلام فيه تقديم وتأخيرو تقديره والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ثم يعودون لما قالوا سالمين من الإثم بسبب الكفارة غير صحيح أيضا لما تقرر في الأصول من وجوب الحمل على بقاء الترتيب إلا لدليل وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود:
كذاك ترتيب لا يجاب العمل.
بما له الرجحان مما يحتمل
.(6/145)
وسنذكر إن شاء الله الجواب عن هذا الإشكال على مذاهب الأئمة الأربعة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين فنقول وبالله نستعين معنى العود عند مالك فيه قولان تؤولت المدونة على كل واحد منهما وكلاهما مرجح. الأول - أنه العزم على الجماع فقط - الثاني - أنه العزم على الجماع وإمساك الزوجة معا وعلى كلا القولين فلا أشكال في الآية لأن المعنى حينئذ والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعزمون على الجماع أو عليه مع الإمساك فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا فلا منافاة بين العزم على الجماع أو عليه مع الإمساك وبين الإعتاق قبل المسيس وغاية ما يلزم على هذا القول حذف الإرادة وهو واقع في القرآن كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} أي أردتم القيام إليها. وقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} أي أردت قراءته فاستعذ بالله الآية. ومعنى العود عند الشافعي أن يمسكها بعد المظاهرة زمانا يمكنه أن يطلقه فيه فلا يطلق وعليه فلا إشكال في الآية أيضا لأن إمساكه إياها الزمن المذكور لا ينافي التكفير قبل المسيس كما هو واضح ومعنى العود عند أحمد هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه أما العزم فقد بينا أنه لا إشكال في الآية على القول به وأما على القول بأنه الجماع فالجواب أنه إن ظاهر وجامع قبل التكفير يلزمه الكف عن المسيس مرة أخرى حتى يكفر ولا يلزم من هذا جواز الجماع الأول قبل التكفير لأن الآية على هذا القول إنما بينت حكم ما إذا وقع الجماع قبل التكفير وأنه وجوب التكفير قبل مسيس آخر وأما الإقدام على المسيس الأول فحرمته معلومة من عموم قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} ومعنى العود عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى هو العزم على الوطء وعليه فلا إشكال كما تقدم وما حكاه الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره عن مالك من أنه حكي عنه أن العود الجماع فهو خلاف المعروف من مذهبه وكذلك ما حكاه عن أبي حنيفة من أن العود هو العود إلى الظهار بعد تحريمه ورفع(6/146)
ما كان عليه أمر الجاهلية فهو خلاف المقرر في فروع الحنفية من أنه العزم على الوطء كما ذكرنا وغالب ما قيل في معنى العود راجع إلى ما ذكرنا من أقوال الأئمة رحمهم الله وقال بعض العلماء المراد بالعود الرجوع إلى الاستمتاع بغير الجماع والمراد بالمسيس في قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} خصوص الجماع وعليه فلا إشكال ولكن لا يخفى عدم ظهور هذا القول والتحقيق عدم جواز الاستمتاع بوطء أو غيره قبل التكفير لعموم قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وأجاز بعضهم الاستمتاع بغير الوطء قائلا إن المراد بالمسيس في قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} نفس الجماع لا مقدماته وممن قال بذلك الحسن البصري والثوري وروي عن الشافعي في أحد القولين وقال بعض العلماء اللام في قوله: {لِمَا قَالُوا} بمعنى في أي يعودون فيما قالوا بمعنى يرجعون عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "الواهب العائد في هبته". الحديث. وقيل اللام بمعنى عن أي يعودون لما قالوا أي يرجعون عنه وهو قريب مما قبله. قال مقيده عفا الله عنه: الذي يظهر والله تعالى أعلم أن العود له مبدأ ومنتهى فمبدؤه العزم على الوطء ومنتهاه الوطء بالفعل فمن عزم على الوطء فقد عاد بالنية فتلزمه الكفارة لإباحة الوطء ومن وطء بالفعل تحتم في حقه اللزوم وخالف بالإقدام على الوطء قبل التكفير ويدل لهذا أنه صلى الله عليه وسلم لما قال: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" وقالوا""يا رسول الله قد عرفنا القاتل فما بال المقتول؟ "قال: "إنه كان حريصا على قتل صاحبه"فبين أن العزم على الفعل عمل يؤخذ به الإنسان فإن قيل ظاهر الآية المتبادر منها يوافق قول الظاهرية الذي قدمنا بطلانه لإن الظاهر المتبادر من قوله لما قالوا أنه صيغة الظهار فيكون العود لها تكريرها مرة أخرى. فالجواب أن المعنى لما قالوا أنه حرام عليهم وهو الجماع ويدل لذلك وجود نظيره في القرآن في قوله تعالى: {وَنَرِثُهُ(6/147)
مَا يَقُولُ} أي ما يقول أنه يؤته من مال وولد في قوله: {لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} وما ذكرنا من أن من جامع قبل التكفير يلزمه الكف عن المسيس مرة أخرى حتى يكفر هو التحقيق خلافا لمن قال تسقط الكفارة بالجماع قبل المسيس كما روي عن الزهري وسعيد بن جبير وأبي يوسف ولمن قال تلزم به كفارتان كما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الرحمن بن مهدي ولمن قال تلزم به ثلاثة كفارات كما رواه سعيد بن منصور عن الحسن وإبراهيم والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} هذه الآية تدل على طلب تقديم الصدقة أمام المناجاة. وقوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} الآية. . يدل على خلاف ذلك.
والجواب ظاهر وأن الأخير ناسخ للأول والعلم عند الله تعالى.
سورة الحشر
قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} الآية. تقدم وجه الجمع بين الإطلاق والذي في هذه الآية والتقييد الذي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} في سورة الأنفال وقوله تعالى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} .
سورة الممتحنة(6/148)
قوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} . هذه الآية الكريمة تدل على أن الكافر إذا لم يقاتل المؤمن في الدين ولم يخرجه من داره لا يحرم بره والإقساط إليه. وقد جاءت آيات أخر تدل على منع موالاة الكفار وموادتهم مطلقا. كقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} . وقوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر} الآية.
والجواب هو أن من يقول بنسخ هذه الآية فلا إشكال فيها على قوله وعلى القول بأنها محكمة فوجه الجمع مفهوم منها لأن الكافر الذي لم ينه عن بره والإقساط إليه مشروط فيه عدم القتال في الدين وعدم إخراج المؤمنين من ديارهم والكافر المنهي عن ذلك فيه هو المقاتل في الدين المخرج للمؤمنين من ديارهم المظاهر للعدو على إخراجهم والعلم عند الله تعالى.
سورة الصف
قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن الخارج عن طاعة الله لا يهديه الله. وقد جاءت آيات أُخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا} الآية. وقوله تعالى: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} .
والجواب: أن الآية من العام المخصوص فهي في خصوص الأشقياء الذين أزاغ الله قلوبهم عن الهدي لشقاوتهم الأزلية وقيل المعنى لا يهديهم ما داموا على فسقهم فإن تابوا منه هداهم.(6/149)
ملاحظات متجول
بقلم الشيخ عبد المهيمن أبو السمح
منذ ثلثي قرن من الزمن قدمت من أمريكا امرأة أمريكية لتقيم في مدينة كبيرة في بلد عربي إسلامي، وكان هدفها من الإقامة فيها لغرضين، أحدهما ظاهري والآخر باطني، فأما الأول فهو رعاية الأيتام الذين لا عائل لهم، وقد استطاعت أن تقنع أثرياء المدينة فأمدوها بالمال علاوة على المدد المادي الذي يصل إليها من أمريكا، فأنشأت ملجأ تؤوي إليه من لا عائل له من الأيتام وزادت المعونة الأمريكية والمساعدات المحلية من أثرياء البلدة فاتسع الملجأ وزاد عدد اللاجئين إليه ثم أخذت تدربهم على الصناعات المختلفة حسب هواية كل لاجئ، وأهمها السجاد والتطعيم بسن الفيل وهذا هو الغرض الظاهري لمهمتها لتصل به إلى مهمتها الحقيقية (التبشير) .(6/150)
وهدفها الخاص ورسالتها المعينة التي ظهرت أخيرا وهو تعليم اللاجئين مبادئ الدين المسيحي، وتلقينهم دروسا في التبشير ليكونوا دعاة رسالتها في المجتمعات التي يعيشون فيها، وهكذا أظهرت في بادئ الأمر العطف والرحمة والإنسانية فاستدرت عطف الوطنيين حتى تمكنت، ثم أظهرت غرضها الثاني، وكان غرضها الأول إنسانيا بحتا وكان ظاهرا للعيان مما شجع الأثرياء وغير الأثرياء على مساعدتها للنهوض برسالتها على أنها إنسانية وأما الغرض الثاني (الحقيقي) التبشير بالدين المسيحي ونشر تعاليمه في الأوساط المختلفة فقد تحقق بعد إتمام الغرض الإنساني الظاهري، وبعد أن تم لها تحقيق الهدفين من هجرتها، كانت تقوم بتزويج أبنائها لبناتها الذين تربوا في رعايتها وتحت كنفها منذ ما يبلغ كل منهما سنا معينة ولا تتركهما بعد الزواج بل تيسر لهما عملا يرزقان منه وتمدهما بالمساعدة المالية اللازمة على أن ترد هذه المساعدات على أقساط شهرية إلى إدارة الملجأ، وإيمانا من هؤلاء برسالة الملجأ، ووفاء لأمهم التي ربتهم وشملتهم بعنايتها يقومون بتسديد الأقساط الشهرية بمواعيدها وعن طيب خاطر، ومن تلقاء أنفسهم بل ومنهم من كان يتبرع للملجأ بعد السداد، وهكذا استطاعت هذه الأمريكية أن تنشأ لها دولة داخل الدولة تأتمر بأمرها وتنفذ تعاليمها وتنشر رسالتها بل وتنقلها من جهة إلى أخرى ومن جيل إلى جيل، واستطاعت أن تنشر دينها بطريقة سلمية منظمة، ثم توفيت وتركت رسالتها أمانة في عنق أبنائها الروحانيين.(6/151)
ولا زال الملجأ قائما يؤدي رسالتها التي رسمتها له هذه الأمريكية التي جاهدت في سبيل عقيدتها وهاجرت في سبيل نشر دينها وتكوين أجيال من المبشرين لدينها تبشيرا عمليا عميق الجذور عريض الاتساع هذه لمحة عن هذه الأمريكية التي جاءت من بلادها لتبشر بدين منسوخ في بلاد دينها الرسمي الإسلام، نهضت برسالتها ومكنت لها لإقناع أثرياء تلك المدينة الذين أمدوها بالمال والمساعدات فضلا عن المساعدات الأمريكية.
هذه امرأة أمريكية آمنت بدينها ووهبت حياتها لتحقيق رسالتها التي تعتقد صحتها وتؤمن بخيرها وتركت بعدها ثروة بشرية جادة مجاهدة في نشر رسالتها التي ركزت لها كل إمكانياتها وجهودها ووقتها ومالها وشبابها وحسن تصرفها من وراء ذلك ما أحوج الدين الحقيقي الذي نسخ ما قبله من الأديان إلى مثل هذه المرأة المجاهدة، ما أحوج دين الله الحق إلى رجال ونساء يخلصون إخلاص تلك المرأة _ تتوفر فيهم ما توفر فيها من الإخلاص والمثابرة والثبات لنشر تعاليم الدين السمح في أواسط إفريقية وآسيا وأوروبا وأمريكا. ما أحوج العالم إلى معرفة أصول الدين الإسلامي.
لقد شاهدنا نماذج حية من المسلمين الذين جاءوا من مشارق الأرض ومغاربها ليحجوا إلى بيت الله الحرام وزيارة مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، شاهدنا هذه النماذج فأنبأتنا عن جهلها المطبق بأبسط قواعد الإسلام ودلت على أن هؤلاء المسلمين في حاجة ماسة وحاجة ملحة جدا إلى من يفقهم في الدين ويبصرهم بأمر دينهم ودنياهم أنها عناصر طيبة وخامات مؤمنة وتهفوا نفوسهم إلى الإسلام في أي مكان.
أيها الأخ القارئ لا أريد أن أطيل عليك، ولكن اقرأ إن شئت في الكتاب الأخضر ص82 قصة طريفة أذكر لك منها كلمات ذلك السنغالي التي ألقاها في أحد مساجد لبنان في يوم جمعة بين المسلمين ومما قال:(6/152)
"يا إخواننا العرب إننا نرجوكم أن تكونوا أنتم قادتنا لأنكم لو لم تكونوا أشرف أمة لما اختاركم الله لحمل رسالته ونشر دعوته، وإنه ليشرفنا أن تقبلونا جنودا مخلصين نسير وراء قيادتكم مؤمنين ونتعلم لغتكم صادقين ونتلوا قرآنكم مصلين ونسجد لربنا وربكم طائعين وعابدين". أكتفي بهذه الكلمات من غير تعليق، والكتاب كله تجب قراءته.
فإذا تركناهم على ما هم فيه فسيتلقفهم المبشرون الذين أتقنوا هذه المهنة كما قرأت عن الأمريكية فيحولونهم من مسلمين إلى الأديان الأخرى ويتخذون منهم تكأة يتكئون عليها وقاعدة ينشرون منها ويجعلونهم أعداء لنا بعد أن كانوا إخوانا لنا في الدين والعقيدة ثم استطرد المتجول ليلقى التبعة على علماء المسلمين في جميع الأقطار فقال: إن علماء الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها منعزلون انعزالا تاما عن هذه البقاع ويعيشون في معزل عن العالم وقد ارتضوا من حياتهم أن يصلوا في اليوم خمس أوقات وأن يصوموا رمضان وأن يؤدوا باقي ما اقترض الله وكفى، ولكن دين الله يتطلب من هؤلاء العلماء أن يجاهروا في سبيل الدعوة _ لا هذه الأمريكية _ لإنقاذ العالم من بيداء الجهالة وضلال الكفر.
إن دين الله وتعاليم الشرع الشريف والقرآن الكريم، وإن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لا يكفيها من العلماء شقشقة اللسان ولكنها تتطلب علماء عاملين بما يعلمون ومجاهدين بأموالهم وأنفسهم ومضحين بكل مرتخص وغال حتى يضمنوا لأنفسهم حياة سعيدة في جناة عدن {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} الآية ...(6/153)
إن الدين في حاجة إلى قول باللسان يصدقه القلب والوجدان، فيتفاعل القول مع العمل ويتبلور في رجل مؤمن ومسلم عامل، وهذا عند الله خير من جيش عرمرم من المسلمين بل من العلماء الذين يقولون ما لا يفعلون و {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} إن الجهل الذي يسود العالم والكفر الذي يعيش فيه أغلب دول العالم مرجعه إخلاد أهل الدين من المسلمين إلى الدعة والاكتفاء بتسميتهم مسلمين وعلماء.
ما أحوج العلماء إلى توزيع الوعاظ وخريجي الجامعات الإسلامية لكن على نمط تلك الأمريكية وهم كثيرون على دول العالم ليقضوا فيها بقية حياتهم يجدون ويجاهدون بالطرق السهلة التي ضربت لنا فيها المثل الكبير هذه الأمريكية التي خلد التاريخ صنيعها والتي لا يزال أهل تلك البلدة يذكرونها ويشكرون لها جهودها إني أدعو العلماء من جميع الأقطار إلى تعليم دعاة يذهبون إلى كل دولة بحيث يتعلمون لغة هذه الدول التي يبعثون إليها ليعيشوا فيها ويموتوا بها بعد الجهاد في سبيل نشر الدعوة الإسلامية وبعد أداء رسالتهم فيحييهم الله في الدار الآخرة مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
إذا فعل كل غيور على دينه من هؤلاء العلماء الدعاء على نحو الطريقة التي سلكتها المرأة الأمريكية وحذوا حذوها فسيكون أثرهم في هداية الخلق خلال ثلث قرن من الزمان أضعاف ما قامت به تلك الأمريكية وخلال ثلثي قرن وذلك لسهولة تعاليم الإسلام السمح وقبول النفوس له (لأنه دين الفطرة) وإقبال العقلاء عليه واطمئنانهم إليه ونتيجة لذلك سنطوي ثلاثة عشر قرنا مضت ونصل حاضرنا ومستقبلنا السعيد بماضينا العتيق في صدر الإسلام في عهد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده رضي الله عنهم وأرضاهم ووفقنا للعمل بشريعة السماء ودين الله السمح الحنيف الذي نسخ ما قبله من الأديان وسنة خير الأنام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.(6/154)
هيا يا رجال الدين الحنيف.. هيا إلى الجهاد في سبيل الله. .هيا إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين. . هيا فبلغوا الرسالة وأدوا الأمانة ولا ترضوا بالتي هي أدنى واسعوا إلى ذكر الله بالقول والعمل هيا فهاجروا في سبيل الله فالحياة جهاد والجهاد سبيل المؤمنين وطريقتهم إلى الجنة عرفها الله لهم.
إني لأرجوا أن يحييني الله حتى أرى تطوير برامج التعليم الديني بما يتفق ورسالة الدين الحنيف وما يتفق مع روح الجهاد التي أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وضرب لنا فيها المثل الأعلى في هجرته من مكة إلى المدينة ثم عودته إليها منتصرا وفاتحا وهو يردد قول الله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} .
لقد فتحت هذه الأمريكية أمام المسلمين آفاقا شتى وضربت لنا المثل الرفيع في الجهاد والجلد والهجرة في سبيل العقيدة والدين فاللهم ارزقنا الإخلاص لدينك ووفقنا للعمل بسنة رسولك صلى الله عليه وسلم واهدنا صراطك المستقيم ووفق ولاة أمورنا للأخذ بناصر دينك الحنيف ووفق بين حكامنا ورؤساء دولنا الإسلامية للإنفاق على ما فيه رفعة دينك وإنقاذ على ما فيه رفعة دينك وانقاد البشرية من وهدة الجهل وضلال الكفر والعصيان إنك على ما تشاء قدير وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.(6/155)
ندوة الطلبة
النجاح والرسوب ونقاش بينهما
بقلم عبد الرحمن محمد الأنصاري
الطالب بكلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة
هممت ذات مساء بكتابة كلمة عن النجاح والرسوب _ وفيما كنت أشرع في الكتابة لمحت اثنين قادمين، ولما كانت هيئتهما متسمة بصفة الغرابة بالنسبة لي، أوقفت الخيال ب ((جماح النظر والتحديق)) إليهما، وبالخصوص كأنهما قاصدان إليّ دون بقية الأنام.
أحدهما طويل القامة، ضخم البنية، مفتول العضلات كأنما هو بقية من قوم عاد!!
والآخر وما أدراك ما هو:رجل في منزلة بين المنزلتين.. كما تقول المعتزلة!!
ليس فيه ما يلفت النظر إلا أنه يظهر للرائي بادئ الأمر أنه من قوم لماّ يخلقوا، وإنما خلقتهم ((شاغرة _ كما في لغة الوظائف_ إذ ما سبق للتاريخ أن تبرع بوصفهم، إلا في ألف ليلة وليلة وهو بعد مصدر هام لإثبات تواريخ هؤلاء!!!
فلما ق ربا مني انحنى العملاق العاديّ _ نسبة إلى عاد _ انحناء تشبه انحناءة طائرة البوينج عندما تستعد لمصافحة الأرض.. ليصل أذن رفيقه الذي لا أعلم من صفته سوى أنه من قوم ما زالوا في كتمان الغيب.. ليقول له: أهو هذا؟ وقد قالها فيما أحسب بصوت أخفض من صوت القلب حينما يتناجى مع المخ. . ولكنه مع ذلك ما كانت قولته في أذني إلاّ صوت مكبّر في أصفى ما يكون!
لا لأن سمعي لا كالأسماع، بل لأن صوت ذلك العملاق لا كالأصوات فرد المجهول الغيبي: هو، هو،..
ولم أفهمها منه إلا بإشمامه لشفتيه، ولم أدرِ من أين للخبيث بالتجويد؟!
فسلما، فرددت، فرحبت، فجلسا.. ولما كان من عادتي أن لا أسأل القادم عن دوافع قدومه إلاّ إذا بدأ هو بطوع من نفسه في الحديث عن أسباب مجيئه تريثت، ريثما قدمت لهما شرابا، وما أن أتى العملاق على نصيبه منه حتى رأيته متهيئا للحديث فقلت: خيرا؟(6/156)
وهنا انبرى زميله فقال: جئنا إليك نختصم. . نطلب فتواك لاقراك!
فقلت: هما لكما إذا شئتما، فثنى العملاق عطفه ليقول: حسنا ولكن أرنا منهما ما جئنا لأجله لنرى أيطمعنا الخير بالحسنى، أما إذا انعكست الآية، فلا هذا ولا ذاك. . وهنا أدركت أن هذا ((عملاق)) من فئة ذات مزاج ((ساخن)) . .
فقلت: هيه! ما وراءكما؟
قالا معا: المسألة أنّ. . وهنا قطعت عليهما الحديث قبل إتمامه،، وقلت: على رسلكما، أحدكما فالآخر. .
وهنا قال المباين للعملاق: ذلك خير الحسنين.
فأذن لصاحبه العملاق بالحديث، فبدأ كأنما هو سيل جارف. . قائلا:
اسمي ((النجاح)) بن فلان الفوقيّ وصديقي هذا اسمه ((الرسوب بن مرسوب التحتيّ. . ولما كان فضلي أظهر ونوري أبهر، وخيري أوقع، وأجدر، حاول هذا الطفيليّ مشاركتي في سيما الخير بحكم ما بيننا من التلازم كالذي بين المبتدأ والخبر، والفعل والفاعل، والعدل والإسلام، فحاول التطفل إلى خيري، وبزّي حقي، فلما أبى إلا اللجاج والخصام. . دُلِلنا عليك لتحكم بيننا بما أراك الله، ولا تكن للخائنين خصيما.
فاستغفرت الله وقلت للرسوب ما عندك؟
فأومأ بطرفه إلى ندّه ليقول له: أسمع جعجعة ولا أرى طحنا. . ما الخير الذي زعمته لنفسك؟
أما لك أن تنزل من سمائك إلى أرضي فيذهب كما ذهب هدير بعض الظالمين.
بماذا تفضلني؟ أبمعناك اللغوي أم بالاصطلاحي أم بكرة مُمرّغَةٍ في وَحلٍ كان بينهما؟ أم بقوتك وبدانتك التي أحسن وصفها حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه؟ أم بعقلك الذي أحسن تشبيهه [1] أم بوصف الباري لأشباهك ممن: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} فيالك من مغرور غرّة هُزالي ورقة حالي، فظن أنه كل شيء، وأنني كل لا شيء!!
أعد نظرا يا عبد قيس لَعلّما.
أضاءت لك النار الحمار المقيّدا
.(6/157)
وعندما أنشد ((الرسوب)) البيت، عيل صبر العملاق العاديّ، فعبس، وبسر، ثم أقبل وأدبر، فأشار بكفه فكأنما الأشجار المركبة فيه ((الأصابع)) لا تكفي إحداها للإشارة!! فقال لقد استنسر البُغات. .
ألمثلي تقول هذا يا راسب بن مرسوب؟!!
أنا الذي سُهر من أجلي وأعدّ الآباء أبناءهم في استحصالي فوالله ما استعاذت ((الأمُ)) على ابنها في دياجير الحوالك إلا منك، ولا سألت ربّها في السّحر لفلذة كبدها إلاّ إيّاي وما نِيلَتْ الرُتبُ إلاّ بين وفُصلت الفصول، وتُعوقد مع المعلمين في الأقطار النائية بباهظ الأجر إلا لأكون النتيجة في آخر العام. . ثم من علمك القول حتى تقول؟ ومن فرح بك حتى تفرح بنفسك؟..
فلما وصل ((النجاح)) إلى هذا القول التفت الرسوب إليه التفاتة الساخر بما سمع، ناظرا إليه نظرة من يؤمن بأن الحق بجانبه، وأنّ الخَطَلَ مع ندّه. فقال:
هذا قولك فما الشاهد عليه من التاريخ والواقع؟ هنيئا مريئا غير داء مخامر لعزّة من أعراضنا ما استحلّت فلله نبرات صوت ما أسهل انسياب الضلال من ثقوبها. . إلى مسامع الأبرياء الذين لم يتعودوا إلا الحق وسماعه.
قُلتَ: إنهم فرحوا بك؟!
وهل كل فرح يُعتبر. . لكأنك من قوم قارون فَتُرشق بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} .
ومعنى هذا الفرح أنهم هضموا خمسة عشر كتابا إن لم تزد أقلها صفحات ما حوى المائتين في تسعة أشهر على الأكثر، ثلاثة أرباعها عطل. هنيئا لك ولهؤلاء العلماء. .
وإذا قربت الامتحانات، خفقت القلوب، ووجلت الأفئدة، وسُهر الليل، وضُيعت فريضة الفجر ولا تسمع إلا همسا، فلله ابن عبد الفتاح حين وصفك في عصمائيته التي يقول فيها: والظهر منكوس.. [2] .(6/158)
قال الراوي: فرفع النجاح عقيرته ليقول ويرد، ولكني لماّ كنا غير أهل للحكم بين خصمين كهذين قطعت عليهما الحديث لأحيلهما على مليء، ومن أحيل إلى مليء احتال وفعلا أحلتهما إلى الأخ الفاضل الأستاذ الصديق عبد العزيز قارئ ليسمع من الخصمين ويحكم بينهما. فأخذ النجاح بتلابيب ((الرسوب)) إلى أن وصلا شارع الساحة [3] فقلت الحمد لله على هذه الراحة. .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] إشارة إلى قوله: جسم البغال وأحلام العصافير.
[2] الاشارة إلى قصيدة الاستاذ عبد العزيز عبد الفتاح قارئ عن الاختبار المنشورة في العدد الأول من مجلة الجامعة الإسلامية الغراء السنة الأولى.
[3] من شوارع المدينة المنورة_ وحيث يسكن الصديق المشار إليه.(6/159)
يستفتونك
يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
س - من الأخ أ. ج.س. ما حكم المقيم في بلد أهله متمسكون بالبدعة هل يصح له أن يصلي معهم صلاة الجمعة والجماعة أو يصلي وحده أو تسقط عنه الجمعة وإذا كان أهل السنة ببلد أقل من اثني عشر فهل تصح لهم الجمعة أم لا؟
الجواب عن السؤال الأول: إن إقامة الجمعة واجبة مع كل مسلم أو فاجر فإذا كان الإمام في الجمعة لا تخرجه بدعته عن الإسلام فإنه يصلى خلفه، قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في عقيدته المشهورة: "ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة وعلى من مات منهم"انتهى، قال الشارح لهذه العقيدة وهو من العلماء المحققين في شرح هذه الجملة، قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا خلف كل بر فاجر" رواه مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه وأخرجه الدارقطني وقال مكحول لم يلق أبا هريرة، وفي إسناده معاوية بن صالح متكلم فيه وقد احتج به مسلم في صحيحه، وخرج له الدارقطني أيضا وأبو داود عن مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلاة واجبة عليكم مع كل مسلم برا كان أو فاجرا وإن عمل بالكبائر والجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا وإن عمل الكبائر" وفي صحيح البخاري أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي وكذا أنس بن مالك وكان الحجاج فاسقا ظالما، وفي صحيحه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطئوا فلكم وعليهم"، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا خلف من قال لا إله إلا الله وصلوا على من مات من أهل لا إله إلا الله"أخرجه الدارقطني من طرق وضعفها.(6/160)
اعلم رحمك الله وإيانا أنه يجوز للرجل أن يصلي خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقا باتفاق الأئمة وليس من شرط الإئتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه ولا أن يمتحنه فيقول ماذا تعتقد؟ بل يصلي خلف المستور الحال ولو صلى خلف مبتدع يدعو إلى بدعته أو فاسق ظاهر الفسق وهو الإمام الراتب الذي لا يمكنه الصلاة إلا خلفه كإمام الجمعة والعيدين والإمام في صلاة الحج بعرفة ونحو ذلك فإن المأموم يصلي خلفه عند عامة السلف والخلف ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر فهو المبتدع عند أكثر العلماء، والصحيح أنه يصليها ولا يعيدها، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار ولا يعيدون كما كان عبد الله بن عمر يصلي خلف الحجاج بن يوسف وكذلك أنس بن مالك رضي الله عنه كما تقدم وكذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان يشرب الخمر، حتى أنه صلى بهم الصب مرة أربعة ثم قال: أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود: ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة وفي الصحيح أن عثمان رضي الله عنه لما حصر صلى بالناس شخص فسأل سائل عثمان إنك إمام عامة وهذا الذي صلي بالناس إمام فتنة؟ فقال يا ابن أخي إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس فإذا أحسنوا فأحسن معهم وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم.
والفاسق والمبتدع صلاته في نفسها صحيحة فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب.
ومن ذلك أن من أظهر بدعة وفجورا لا يرتب إماما للمسلمين فإنه يستحق التعزير حتى يتوب فإن أمكن هجره حتى يتوب كان حسنا وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره أثر ذلك في إنكار المنكر حتى يتوب أو يعزل أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه كان في ذلك مصلحة شرعية ولم تفت المأموم جمعة ولا جماعة.(6/161)
وأما إذا كان ترك الصلاة خلفه يفوت المأموم الجمعة والجماعة فهنا لا يترك الصلاة خلفه إلا مبتدع مخالف للصحابة رضي الله عنهم، وكذلك إذا كان الإمام قد رتبه ولاة الأمور ليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية فهنا لا يترك الصلاة خلفه بل الصلاة خلفه أفضل.
فإذا أمكن للإنسان أن لا يقدم مظهرا للمنكر في الإمامة وجب عليه ذلك لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة أو كان لا يتمكن من صرفه عن الإمامة إلا بشرٍ أعظم ضررا من ضرر ما أظهر من منكر فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ولا دفع أخف الضررين بحصول أعظمهما فإن الشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان فتفويت الجمع والجماعات أعظم فسادا من الإقتداء فيهما بالإمام الفاجر لا سيما إذا كان التخلف عنها لا يدفع فجورا فيبقى تعطيل المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة.
وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البر فهذا أولى من فعلها خلف الفاجر وحينئذ فإذا صلى خلف الفاجر من غير عذر فهو موضع اجتهاد العلماء منهم من قال يعيد ومنهم من قال لا يعيد وموضع بسط ذلك في كتب الفروع انتهى كلام الشارح. والأقرب في هذه المسألة الأخيرة عدم الإعادة للأدلة السابقة ولأن الأصل عدم وجوب الإعادة فلا يجوز الإلزام بها إلا بدليل خاص يقتضي ذلك ولا نعلم وجوده والله الموفق.
وأما السؤال الثاني: فجوابه أن يقال هذه المسألة فيها خلاف مشهور بين أهل العلم والصواب في ذلك جواز إقامة الجمعة بثلاثة فأكثر إذا كانوا مستوطنين في قرية لا تقام فيها الجمعة أما اشتراط أربعين أو اثني عشر أو أقل أو أكثر لإقامة الجمعة فليس عليه دليل يعتمد عليه فيما نعلم وإنما الواجب أن تقام في جماعة وأقلها ثلاثة وهو قول جماعة من أهل العلم واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو الصواب كما تقدم.
وهذه عدة أسئلة من الأخ ع. ح.س.(6/162)
السؤال الأول - لقد اكتسبت من عمل التصوير مالا وأنا مستعد للتنازل عنه رضاء لله ورسوله فما حكم ذلك المال هل هو حرام أم ماذا أصنع فيه.
الجواب: أرجو أن لا يكون عليكم فيه حرج لأنكم حين اكتسابه لم تكونوا متأكدين تحريمه جهلا بالحكم الشرعي أو لشبهة من أجاز التصوير الشمسي وقد قال الله سبحانه في أهل الربا: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أعاذنا الله وإياكم منها فهذه الآية الكريمة يستفاد منها حل الكسب الماضي من العمل غير المشروع إذا تاب العبد إلى الله ورجع عن ذلك وإن تصدقتم به أو بشيء منه احتياطا فحسن لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" أما وجوب الصدقة به فلا أعلم دليلا واضحا يدل عليه.
السؤال الثاني - إذا كان تصوير ما لا روح فيه مباحا شرعا فهل يجوز الاستمرار على ذلك.
الجواب: نعم يجوز ذلك كما أفتى بذلك ترجمان القرآن وحبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ودل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي ذكرنا في الجواب المفيد في حكم التصوير وهو أن جبريل عليه السلام أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع رأس التمثال حتى يكون كهيئة شجرة وذلك يدل على جواز تصوير الشجرة ونحوه وقد أجمع العلماء على ذلك بحمد الله، لكن إذا تيسر للإنسان عمل آخر من الأعمال الطيبة المباحة فهو أحسن من عمل التصوير لما لا روح فيه لأنه قد يجر إلى تصوير ما له روح والبعد عن وسائل الشر مطلوب شرعا رزقنا الله وإياكم العافية من أسباب غضبه.
السؤال الثالث- أرغب ترك العمل والاتجاه للدراسة فهل هذا حسن؟
السؤال الرابع - هل في الإمكان إلحاقي بالجامعة الإسلامية والدراسة والتفقه في الدين؟(6/163)
الجواب: إن الاتجاه للدراسة والتفقه في الدين من أفضل الأعمال وقد يجب ذلك إذا كان المسلم لم يتمكن من معرفة الأمور التي لا يسعه جهلها أعني أمور دينه فطلب العلم حينئذ واجب حتى يعرف ما أوجب الله عليه وما حرم عليه ويعبد ربه على بصيرة، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" وقال عليه الصلاة والسلام: "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة"والجامعة الإسلامية ترحب بأمثالكم إذا كان لديكم مؤهل غير دبلوم الصناعة فإذا رأيتم إرسال صورة من مؤهلاتكم للنظر فيها وإفادتكم فلا بأس مع العلم بأن الطالب في الجامعة يعطى مكافأة نقدية مقدارها (250) ريالا لطالب المرحلة المتوسطة والثانوية و (300) ريال لطالب المرحلة العالية مع إعداد السكن المجهز بما يلزم ووسائط النقل من الجامعة إلى المدينة ومن المدينة إلى الجامعة.
السؤال الخامس - ما حكم الإسلام في عمل المرأة وخروجها بزيها الذي نراه في الشارع والمدرسة والبيت هكذا وعمل المرأة الريفية مع زوجها في الحقل؟(6/164)
الجواب: لا ريب أن الإسلام جاء بإكرام المرأة والحفاظ عليها وصيانتها عن ذئاب بني الإنسان وحفظ حقوقها ورفع شأنها فجعلها شريكة الذكر في الميراث وحرّم وأدها وأوجب استئذانها في النكاح وجعل لها مطلق التصرف في مالها إذا كانت رشيدة وأوجب لها على زوجها حقوقا كثيرة وأوجب على أبيها وقراباتها الإنفاق عليها عند حاجتها وأوجب عليها الحجاب عن نظر الأجانب إليها لئلا تكون سلعة رخيصة يتمتع بها كل أحد قال تعالى في سورة الأحزاب: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} الآية. . وقال سبحانه في السورة المذكورة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ ِلأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} وقال تعالى في سورة النور: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} الآية. . فقوله سبحانه: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فسّره الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بأن المراد بذلك الملابس الظاهرة لأن ذلك لا يمكن ستره إلا بحرج كبير وفسره ابن عباس رضي الله عنهما في المشهور عنه بالوجه والكفين والأرجح في ذلك قول ابن مسعود لأن آية الحجاب المتقدمة تدل على وجوب سترهما ولكونهما من أعظم الزينة فسترهما مهم جدا، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه(6/165)
الله كان كشفهما في أول الإسلام ثم نزلت آية الحجاب بوجوب سترهما ولأن كشفهما لدى غير المحارم من أعظم أسباب الفتنة ومن أعظم الأسباب لكشف غيرهما، وإذا كان الوجه والكفان مزينين بالكحل والأصباغ ونحو ذلك من أنواع التجميل كان كشفهما محرما بالإجماع والغالب على النساء اليوم تحسينهما وتجميلهما فتحريم كشفهما معين على القولين جميعا وأما ما يفعله النساء اليوم من كشف الرأس والعنق والصدر والذراعين والساقين وبعض الفخذين فهذا منكر بإجماع المسلمين لا يرتاب فيه من له أدنى بصيرة والفتنة في ذلك عظيمة والفساد المترتب عليه كبير جدا، فنسأل الله أن يوفق قادة المسلمين لمنع ذلك والقضاء عليه والرجوع بالمرأة إلى ما أوجب الله عليها من الحجاب والبعد عن أسباب الفتنة ومما ورد في هذا الباب قوله سبحانه: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} وقوله سبحانه: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، فأمر الله سبحانه النساء في الآية الأولى بلزوم البيوت لأن خروجهن غالبا من أسباب الفتنة وقد دلت الأدلة الشرعية على جواز الخروج للحاجة مع الحجاب والبعد عن أسباب الريبة ولكن لزومهن للبيوت هو الأصل وهو خير لهن وأصلح وأبعد عن الفتنة ثم نهاهن عن التبرج الجاهلية وذلك بإظهار المحاسن والمفاتن وأباح في الآية الثانية للقواعد وهن العجائز اللاتي لا يرجون نكاحا وضع الثياب بمعنى عدم الحجاب بشرط عدم تبرجهن بزينة، وإذا كان العجائز يلزمن بالحجاب عند وجود الزينة ولا يسمح لهن بتركه إلا عند علمها وهن لا يفتن ولا مطمع فيهن فكيف بالشابات الفاتنات ثم أخبر سبحانه أن استعفاف القواعد بالحجاب خير لهن ولو لم يتبرجن بالزينة وهذا كله(6/166)
واضح في حث النساء على الحجاب والبعد عن السفور وأسباب الفتنة والله المستعان.
أما عمل المرأة مع زوجها في الحقل والمصنع والبيت فلا حرج في ذلك وهكذا مع محارمها إذا لم يكن معهم أجنبي منها وهكذا مع النساء وإنما المحرم عملها مع الرجال غير محارمها لأن ذلك يفضي إلى فساد كبير وفتنة عظيمة كما أنه يفضي إلى الخلوة بها وإلى رؤية بعض محاسنها والشريعة الإسلامية الكاملة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ودرأ المفاسد وتقليلها وسد الذرائع الموصلة إلى ما حرم الله في مواضع كثيرة ولا سبيل إلى السعادة والعزة والكرامة والنجاة في الدنيا والآخرة إلا بالتمسك بالشريعة والتقيد بأحكامها والحذر مما خالفهما والدعوة إلى ذلك والصبر عليه وفقنا الله وإياكم وسائر إخواننا إلى ما فيه رضاه وأعاذنا جميعا من مضلات الفتن إنه جواد كريم.
السؤال السادس - ما حكم الإسلام فيمن يعملون في البنوك ووضع أموال فيها دون أخذ فوائد لها؟
الجواب: لا ريب أن العمل في البنوك التي تعامل بالربا غير جائز غير جائز لأن ذلك إعانة لهم على الإثم والعدوان وقد قال الله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن آكل الربى وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: "هم سواء"أخرجه مسلم في صحيحه.(6/167)
أما وضع المال في البنوك بالفائدة الشهرية أو السنوية فذلك من الربا المحرم بإجماع العلماء، أما وضعه بدون فائدة فالأحوط تركه إلا عند الضرورة إذا كان البنك يعامل بالربا لأن وضع المال عنده ولو بدون فائدة فيه إعانة له على أعماله الربوية فيخشى على صاحبه أن يكون من جملة المعينين على الإثم والعدوان وإن لم يرد ذلك، فالواجب الحذر مما حرم الله والتماس الطرق السليمة لحفظ الأموال وتصريفها، وفق الله المسلمين لما في سعادتهم وعزهم ونجاتهم ويسر لهم العمل السريع لإيجاد بنوك إسلامية سليمة من أعمال الربا.
إنه ولي ذلك والقادر عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. .(6/168)
أخبار الجامعة
المجلس التنفيذي للجامعة الإسلامية يعقد في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
· تقرر انعقاد المجلس التنفيذي لجمعية الجامعات الإسلامية بمقر الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وتقوم رئاسة الجامعة الإسلامية بالإعداد لهذا المؤتمر الذي يعتبر المؤتمر الأول من نوعه في المدينة المنورة، وكخطوة أولى كلف سماحة الرئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن باز فضيلة الأمين العام للجامعة الشيخ محمد بن ناصر العبودي بالسفر إلى كل من تونس والمغرب للاجتماع هناك برئيس جمعية الجامعات الإسلامية، وسكرتارية الجمعية للاتفاق على زمان انعقاد المجلس، وعمل الترتيبات اللازمة لذلك.
هذا ومن المنتظر أن تمثل الجامعات والكليات الإسلامية التالية في هذه الدورة:
رئيس جمعية الجامعات الإسلامية.
جامعة عليكره بالهند.
كلية الجامعة الإسلامية بماليزيا.
كلية الدراسات العربية والإسلامية بجامعة البنجاب بباكستان الغربية.
كلية الشريعة بالأزهر.
كلية الشريعة بالجامعة الأردنية.
الكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين بتونس.
كلية الشريعة بدمشق.
كلية الآداب والدراسات الإسلامية، كلية عبد الله بايرم كنو بجامعة أحمد بيلو في نيجيريا.
المعهد العالي للدراسات الإسلامية في كينيا.
المعهد الإسلامي في السنغال.
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
كلية الدارسات الإسلامية بتركيا.
وجهات أخرى سيجرى تعيينها فيها بعد.
ومما تجدر الإشارة إليه أن الدورة الثانية للمجلس التنفيذي سبق أن عقدت في مدينة _ تونس _ في شهر يناير عام 1971م ومثل الجامعة الإسلامية في المدينة فضيلة أمين عام الجامعة، وعميد الكليتين فيها.
هذا وسنوافي القراء بموعد انعقاد المجلس في حينه.(6/169)
ونسأل الله أن يحقق منه الخير للمسلمين إنه وليّ ذلك والقادر عليه.
· لجنة القبول والمعادلات بالجامعة الإسلامية بالمدينة انتهت هذه الأيام من دراسة الطلبات الواردة من خارج المملكة وهي الآن تستعد لدراسة الطلبات المقدمة من الطلاب السعوديين.
· يغادرنا قريبا إلى جدة في طريقه إلى الجزائر فضيلة الشيخ أبي بكر جابر الجزائري المدرس بكلية الشريعة بالجامعة والواعظ بالمسجد النبوي الشريف مبعوثا من الجامعة الإسلامية للقيام بالدعوة والإرشاد والوعظ هناك خلال العطلة الصيفية.
· كما وسيغادر إلى السودان فضيلة الشيخ ربيع هادي حكمي المدرس بالمعهد الثانوي مبعوثا من الجامعة للغرض نفسه.
· غادرنا إلى إفريقيا كل من:
1_ فضيلة الشيخ عمر محمد مساعد الأمين العام للجامعة الإسلامية مندوبا من قبل الجامعة الإسلامية بالمدينة.
2_ فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم قعود مدير إدارة الدعوة والإرشاد مندوبا من دار الإفتاء بالرياض.
وذلك في مهمة للإطلاع على المدار س والجمعيات الإسلامية هناك وتزويد الجهات الرسمية هنا بتقرير مفصل عنها.
هذا وسيقومان هناك بإبقاء المحاضرات والندوات العلمية والوعظ والإرشاد في تلك الأنحاء ومما تجدر الإشارة إليه أن الجامعة الإسلامية ودار الإفتاء قد زودتهما بكمية كبيرة من المصاحف والكتب والنشرات لتوزيعها هناك على الأهالي وتستمر المهمة حوالي شهرين.
والحقيقة أن هذا مثل تضربه حكومة جلالة الملك وعلى رأسها الفيصل المعظم حفظه الله في العناية بأمور المسلمين داخل المملكة وخارجها وتفقد أحوالهم.(6/170)
· في يوم السبت الموافق 6/5/1392هـ قام معالي وزير الأوقاف السوداني السيد عوني الشريف بزيارة خاصة للجامعة الإسلامية يرافقه سعادة وكيل وزارة الحج والأوقاف ومديرها العام وكان في استقباله فضيلة الشيخ عمر محمد مساعد الأمين العام في الجامعة وبعض رؤساء الأقسام وبعد جولة في أقسام الجامعة ومكتباتها قدمت الجامعة له بعض الكتب القيمة هدية لمعاليه.
· قام سعادة سفير نيجيريا بجدة بزيارة خاصة للجامعة الإسلامية وكان في استقباله الأمين العام المساعد ومدير العلاقات العام وبعضا من رؤساء الأقسام وقد تجول الضيف في أنحاء الجامعة وزار المكتبة العامة وفي ختام الزيارة قدمت الجامعة لسعادته بعض الكتب هدية منها.
· نظرا لكثرة الطلبات الواردة من شتى أنحاء العالم لإرسال كتب دراسية من المملكة.
فقد أصدر سماحة رئيس الجامعة قرارا بتشكيل لجنة في الجامعة للنظر في الطلبات الواردة من الخارج على النحو التالي:
مساعد الأمين العام للجامعة رئيسا
مدير العلاقات العامة عضوا
مدير شئون الطلبة عضوا
رئيس التحرير عضوا
هذا وقد أسندت سكرتارية اللجنة لمدير العلاقات العامة في الجامعة الأستاذ أحمد عبد الحميد عباس ومن المنتظر أن تبدأ اللجنة نشاطها قريبا.
· وصل إلى الجامعة فضيلة الدكتور محمد أمين المصري رئيس قسم الدارسات العليا بمكة المكرمة للمشاركة في إلقاء المحاضرات على طلاب الدورة التدريبية المنعقدة الآن في الجامعة الإسلامية للطلبة المتخرجين منها ويحاضر فضيلة الدكتور المصري في شعبة التربية وطرق التدريس ومما يجدر ذكره أن فضيلته حصل على شهادة الدكتوراه في موضوع ((التربية الإسلامية)) .(6/171)
· قام وفد من الجامعة الإسلامية بالسلام على ضيف جلالة الملك الرئيس ذو الفقار على بهوتو رئيس الجمهورية الإسلامية الباكستانية برئاسة فخامة سماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز، وعضوية كل من:
فضيلة الشيخ محمد بن ناصر العبودي الأمين العام للجامعة.
فضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد المدرس بكلية الشريعة بالجامعة.
فضيلة الشيخ عبد المحسن العباد المدرس بكلية الشريعة بالجامعة.
الأستاذ عبد الرحمن بن دايل سكرتير سماحة الرئيس.
الأخ عبد العزيز شريف سكرتير فضيلة الأمين العام.
وقد قدمت الجامعة لفخامة الضيف مجموعة طيبة من الكتب الإسلامية باللغتين العربية والإنكليزية تقبلها شاكرا.
هذا وقد ألقى سماحة الرئيس كلمة ترحيب بالضيف ضمنها نصيحة شرعية، وبعدها ودع الوفد الضيف الكريم.
· غادرنا إلى جدة في طريقهما إلى القاهرة _ بيروت _ دمشق _ عمان _ كل من:
فضيلة الشيخ عبد العزيز بن محمد القويفلي عميد كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة.
الأستاذ سليم سلمان الحازمي مدير شؤون الموظفين بالجامعة وذلك للتعاقد مع مدرسين للعمل في كليات الجامعة ومعاهدها للعام الدراسي القادم 92_1393هـ.(6/172)
آراء العلماء في المناسبات
للشيخ أحمد حسن
المدر س بالمعهد الثانوي بالجامعة
بعد هذا العرض لمذاهب العلماء في (المناسبة) لا بدّ أن نقف وقفة عند كل اتجاه نناقش الأدلة التي اعتمد عليها في حكمه والاستنتاجات التي توصل إليها بناء على هذه الأدلة.
1- مع الشوكاني:
عرفنا من استعراض رأي الشوكاني أنه ينكر القول بـ (المناسبة) ويرى من يقول بها متكلفا متعسفا متكلما برأيه فاتحا لأبواب الشك مُوسّعا لدائرة الرّيب، مُضَيّعا وقته فيما لا يفيد. ويبني الشوكاني رأيه على دليلين. .
الأول:
نزول القرآن مفرقا حسب الحوادث المقتضية لنزوله، وكونها متخالفة باعتبار نفسها، بل قد تكون متناقضة كتحريم أمرٍ كان حلالا، وتحليل أمر كان حراما. . . ثم يقول: وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الاختلاف ومتباينة هذا التباين.. فالقرآن النازل فيها هو باعتباره نفسه مختلف كاختلافها إلى أن يقول: هذا على فرض أن نزول القرآن مترتبا على هذا الترتيب الكائن في المصحف، فكيف وكل من له أدنى علم بالكتاب، وأيسر حظ من معرفة يعلم علما يقينا أنه لم يكن كذلك. . ثم يقول: وإذا كان الأمر هكذا فأي معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعا أنه قد تقدم في ترتيب المصحف ما أنزله الله متأخرا، وتأخّر ما أنزله الله متقدما فإن هذا عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه ممن تصدّى لذلك من الصحابة. .
الثاني:(6/173)
قياسُه القرآن الكريم على قصائد الشعراء وكلام الخطباء حيث يقول: وقد علم كل مقصر وكامل أن الله تعالى وصف هذا بأنه عربي وأنزله بلغة العرب وسلك فيه مسالكهم في الكلام وجرى به مجاريهم في الخطاب، وقد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون متخالفة وطرائق متباينة فضلا عن المقامين، فضلا عن المقامات، فضلا عن جميع ما قاله ما دام حيا، وكذلك شاعرهم. وإذا ما نظرنا في القسم الأول من الدليل الأول، وهو نزول القرآن منجما على حسب الحوادث المختلفة، وترتيبه على حسب النزول فإننا لا نجد حاجة لناقشة هذه الفكرة لأنها ساقطة بنفسها، ولم يقل بها أحد من العلماء حتى إن الشوكاني نفسه يقول بعد أن يستعرضها: "هذا على فرض أن نزول القرآن كان مترتبا على الترتيب الكائن في المصحف، فكيف وكل من له أدنى علم بالكتاب وأيسر حظ من معرفة، يعلم عليما يقينا أنه لم يكن كذلك".
وإذا كان الأمر - كما قال الشوكاني - فلماذا هذا الفرض ولماذا هذا الحكم بناء عليه وهل هناك مجال للافتراضات في الأمور المعلومة من الدين بالضرورة والتي ثبتت بطريق التواتر، خاصة وأن جميع القائلين بـ (المناسبة) إنما يبنونها على أساس أن ترتيب التلاوة غير ترتيب النزول. وإذا ما انتقلنا إلى القسم الثاني من الدليل الأول، والذي يبني فيه حكمه على أن ترتيب القرآن لم يكن حسب النزول، وإنما تقدم في ترتيبه ما كان متأخرا وتأخر ما كان متقدما فإننا نقول: -
إن كلام الشوكاني هنا مبني على أن ترتيب الآيات القرآنية، لم يكن بالتوقيف وإنما كان اجتهاديا برأي الصحابة ونص كلامه "فإن هذا - أي تقديم المتأخر وتأخير المتقدم - عمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه ممن تصدى لذلك من الصحابة".(6/174)
ومعلوم أن القول بأن ترتيب الآيات اجتهادي لم يقل به أحد من العلماء وإنما انعقد الإجماع وقامت الأدلة - كما تقدم معنا - على أن ترتيب الآيات توقيفي لا مجال للاجتهاد فيه. فالقول بأنه اجتهادي خروج على الإجماع والأدلة المتضافرة،هذا بالإضافة إلى أن الشوكاني لم يذكر لنا دليلا واحدا على رأيه هذا.
وإذا ثبت هذا فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا رُتّبَت الآيات ترتيبا مخالفا لترتيب النزول؟ وهل كان هذا الأمر هكذا جزافا أم لابد وراء ذلك من حكمة؟ وإذا كان لحكمة فما هي هذه الحكمة؟ إن لم تكن المناسبة؟ وإذا كانت المناسبة خافية في بعض الأحيان فليس معنى ذلك أنها غير موجودة، بل معنى ذلك أننا قصرنا في استخراجها وإدراكها كما تخفى علينا كثيرا من الحكم في آيات الله في الآفاق والأنفس، وقد يظهر عند البعض ما هو خاف عند غيرهم وقد يظهر في زمن ما خفي في زمن آخر، ولا شك أن الإنسان يأخذ من القرآن بقدر ما يعطيه، والمناسبة تكون على وجوه وتدرك حسب أفهام الناس، ولا بد من اختلاف لمدارج الناس في العلم وقوة الاستنباط. فبعض الوجوه يظهر على بعض الناس، وبعضها عل بعض آخر. ويعلق الفراهي على هذه الفكرة في كتابه ((دلائل النظام)) فيقول:
المنكر للنّظْم - أي المناسبة - لا محيص له من أحد ثلاثة أقوال:
فإما أن يقول بأن السورة ليست إلا آيات جمعت بعد النبي صلى عليه وسلم من غير رعاية ترتيب كما وجدت في أيدي الناس. وإما أن يقول بأنها اختل نظمها، لما أن الآيات التي أدخلت بين الكلام المربوط قطعت النّظم، فكلا القولين ظاهر البطلان ومبنيٌ على الجهل الفاحش بجمْع القرآن وترتيبه، ومواقع الآيات المبيّنة والمفصلة بعد النزول الأول.(6/175)
أما الأول فلأنّ السّور كانت متلوّة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأمر الله النبي بالتّلاوة حسب تلاوة جبريل كما صرح به القرآن. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم الناس السورة بالتمام ويسمع منهم فهذا القرآن المجموع في المصاحف ليس إلا على نسق ما جاء به جبريل عليه السلام، وقرأه على النبي في تلاوته الأخيرة، فلو صح ما زعم فَلِمَ أمرَ الله نبيه باتّباع قراءة جبريل؟ ولِمَ كان يأمر بوضع الآيات بمواقعها الخاصة.
أما الثاني - فلأن الآية المدخولة لا تقطع النّظم إذا دخلت في موضع يليق بها، والآيات المدخولة كلها معلومة الربط بما قبلها أو بعدها. وقد قال الله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} .(6/176)
وإما أن يقول بأن الله تعالى لم يُرِدْ أن يُنَزّل كلاما منظما كما لم يُرِد أن يجعله شعرا أو سجعا أو غير ذلك مما يراعى فيه المتكلم من البدائع والتكلف إنما هو كلام أُريد به الهداية والحكمة فأنزل حسب ما اقتضت الأحوال من الدلائل والشرائع. وربما اجتمع المقتضيات من وجوه مختلفة، فأنزل مراعيا لتلك الوجوه المتباينة سورة جامعة لمطالب مختلفة، احتيج إليها في زمان نزولها. والأحوال والحوادث، واقتضاءاتها تجمع من علل متباعدة في زمان واحد. فالسورة تجمع هذه الجمل كلها تكون على حِدّتها في غاية الحُسْن والنّظام، وأما مجموع هذه الجمل فلا معنى لالتماس النظام فيه. وقد بيّن ذلك بعض أكابر العلماء فأقول لولا رعاية النظم فيه لما وجدنا الكلام الطّويل مبنيا على أسلوب جامع أو كلمة ناظرة إلى كلمة سابقة بعيدة عنها. مثلا {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} قد سبق في أول سورة البقرة ثم جرى الكلام حتى عاد إلى ذكر أهل التقوى، فجاء قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} ناظرا إلى ما سبق، والتّأمل في نظم ما بينهما وفي ما بعد ذلك يبيّن أن ذلك ليس بمحض الاتفاق ولذلك أمثلة كثيرة أوضح مما ذكرنا.(6/177)
أما الدليل الثاني الذي يعتمد عليه الشوكاني في حكمه، وهو قياسه على كلام العرب وقصائدهم وخطبهم لأنه نزل بلغتهم فإننا نقول فيه: إن القرآن الكريم وإن نزل بلغة العرب، فليس يشبه كلامهم من كل وجه ولا يخالفه من كل وجه، فهناك أوجه اتفاق، كما أن هناك أوجه اختلاف فمن أوجه الاختلاف ما قال الجاحظ: "سمّى الله تعالى كتابه اسما مخالفا لما سمّى العرب كلامهم على الجملة، والتفصيل، سمّى جملته قُرآنا ما سمّوا ديوانا وبعضه سورة، كقصيدة، وبعضها آية كالبيت، وآخرها فاصلة كقافية. وإذا ما تأملنا قصائد الجاهلية، وجدنا أنها تسير على نظام معيّن حيث ابتداء بالنسيب والبكاء على الأطفال والديار، ثم يصل الشاعر إلى غرضه من الفخر أو المدح أو الرثاء، ولا شك أن المناسبة قائمة بين أجزاء القصيدة وأبياتها.
أما بالنسبة إلى ما ذكره الشوكاني من إنكاره ترتيب القصائد المختلفة الموضوع كمدح والهجاء والرثاء، أو ترتيب الخطب التي قبلت في مناسبات مختلفة، فهذا غير وارد، وذلك لأن كثيرا من القصائد التي وصلتنا على قلتها لم تكن لتنجو من تلاعب رواة الشعر بين تقديم وتأخير، وحذف وتغيير، ولأن العرب كانوا أمة أُمية لا يقرؤون ولا يكتبون، ومن ثم لم يؤلفوا كُبُبا حتى تحتاج إلى ترتيب وتنسيق، وحينما تحولوا إلى أمة علمية بمجيء القرآن ودخولهم في الإسلام، وجدنا الكتب المصنفة المرتبة، ووجدنا المناسبة تجمع أشتات هذه الكتب وموضوعاتها، وهكذا توزعت الكتب واختلفت باختلاف موضوعاتها وفنونها فكتب الفقه وكتب التفسير، وكتب الحديث وكتب التاريخ الخ.(6/178)
وكل كتاب يبدأ بما يناسب الابتداء، ثم يقدم ما حقه التقديم، ويؤخر ما حقه التأخير، ثم تأتي الخاتمة، وكذلك الشعراء فإنهم لا ينشرون دواوينهم هكذا اعتباطا، وإنما يعمدون إلى القصائد التي يجمعها موضوع واحد، أو مناسبة ما فينشرونها في ديوان واحد تحت عنوان واحد، وليس هذا شأن العرب وحدهم، وإنما هو شأن البشرية كلها في الشرق والغرب، بل إن الشوكاني نفسه، شعر حينما استطرد في كلامه عن المناسبة أنّه خرج عن الموضوع الذي كان فيه وهو تفسيره لسورة البقرة، فاعتذر عن ذلك وقال: "إنما ذكرنا هذا البحث في هذا الموطن لأن الكلام هنا قد انتقل مع بني إسرائيل بعد أن كان قبله مع أبي البشر آدم عليه السلام". فهو يريد بذلك أن يبين للقارئ مناسبة هذا الكلام الذي انْجرّ إليه، حتى لا يلام على ذلك، وهذا دليل على أن الإنسان لا يمكن أبدا أن يتخلى عن المناسبة، أو أن يُغفلها في كلامه أو كتابته فإذا كان كلام البشر خلوا من المناسبة فلا شك أنه عيب في الكلام، ونقص في صاحبه فكيف بكلام الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي لا ريب فيه هدىً للمتقين.
وإليك ما قاله الفراهي في دحض هذه الشبهة:(6/179)
"زعم بعض العلماء أن الكلام المنظم الذي يجري إلى عمود خاص ليس من عادة العرب فإنك ترى في شعرهم اقتضابا بيّنا، فلو جاء القرآن على غير أسلوبهم ثقل عليهم، وهذا زعم باطل، فإن العرب كانوا يتَلَهّوْنَ بالشعر، ولا يعدونه من المعالي وإنما كانوا يعظمون الحكماء ويحبون الخطبات الحكيمة، ولذلك كان الأشراف يأنفون عن قول الشعر وأنْ يُعْرفوا به وإنما يستعملونه نزرا على وجه الحكمة وضرب المثل. ومحض الوزن والنظم لا يُعَد شعرا، وإن للشعر مواضيع من فنون الهزل والإطْراب، فهو على كل حال من لهو الحديث، فمن نظم الأبيات في غير مواضيعه لا يُسَمّى شاعرا إنما هو ناظم. ومن هذا الجانب المعروف من حقيقة الشعر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحرا".
أي هذا يكون عل الندرة، ولذلك نزه الله تعالى نبيه عن الشعر حيث قال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} .
فإن تبيّن لك هذا الفرق بين الشعر والبيان، وأن العرب لم يكن أكثر كلامهم الجزل شعرا، فهل بعد ذلك تجعل القرآن على أسلوب الشعراء وأنه مقتضب البيان كمثله؟ ألا ترى كيف جعل الله ذلك من ذمائم الشعراء وقدمه على الكذب مع ظهور شناعة الكذب فنبّه على أن القول من غير غاية وعمود ونظام أدل على سخافة القائل، فقال تعالى في ذم هؤلاء الشعراء: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} الشعراء (225-226) .
هل الهيمان في كل واد إلا الجريان في القول من غير مقصد ونظام. وليس للعقل فيه رغبة، ولكن النفس ربما ترغب في الملاهي، والخُلُوِّ عن الفكر فتميل إلى ذلك كما تميل إلى الخمر والغناء وأشغالٍ تغفلها عن الهموم والأفكار وهذا ليس بدواء ولكنه داء. .(6/180)
ثم يبين الدوافع الحقيقية، والأسباب الخفية التي جعلت بعض العلماء ينكرون المناسبة فيقول:
"ما أنكر وجود النظم في القرآن من أنكره إلا بخلاف رضاه، ولولا أنه أكره عليه لتحاشى عنه، فإنه لا يرضى عاقل أن يترك بين الناس كلاما له، وهو يعلم أنه مختل النظم، بل لو لاح له بعد زمان شيء من الإخلال راجع فيه النظر، وهذّبه غاية ما يمكنه".
وكذلك لا يتهم به من حَسُن فيه ظنه، وإنما يتهمه إذا عجز عن فهمه ولم يتهم فيه نفسه بالتقصير، فحينئذ ينسب إلى القائل إساءة الصناعة، وذلك إذا كان الكلام من مخلوق.
فأما إذا كان من الخالق - تعالى وتقدس - وهو محفوظ ومرتب على غير ترتيب النزول - وألقاه الملك الأمين إلى نبي كريم، فصيح اللسان من قوم مشهورين بالفصاحة والبيان، وقد قرأه عليه مرارا.
ولا شك أن حُسْنَ الشيء ونفعه مودعان في تناسب أجزائه، لا سيما الكلام البليغ، ولا سيما إذا تحدى به البلغاء، فعجزوا عن الإتيان بمثله ولو بسورة واحدة. فلا أدري كيف يظن به ظان - وهو من المسلمين المؤمنين بالله وتنزيله - أنه خال عن حسن النظام.
فإذا كان الأمر كذلك، فلا شك أن الذين ذهبوا إلى نفي النظام ((أي المناسبة، لم يذهبوا إليه إلا لأسباب اضطرتهم إليه، فلنذكر بعض تلك الأسباب لتعرف عذرهم، وتبقى على حسن ظنك بهم، ولتخرج من محض التقليد، إلى مطمئن من الحق.
فإن الأذكياء والحكماء لا يذهبون إلى رأي نكرٍ إلا فرارا مما هو أشد نكارة، فمن لم يعرف ذلك إما أساء بهم الظن، وسدّ على نفسه الانتفاع بهم، أو قلّدهم في أمر ظاهر الفساد فعمي وتصامم عن الاستماع لكل دليل واضح. فإن إساءة الظن إلى دلائلك أهون عليه من إساءة الظن بأولئك الأكابر. وإن نقلت من بعض الأكابر ما يوافق الحق اشتبه عليه الأمر، وربما اتبع ما عليه الأكثرون.
فلذلك احتجنا إلى ذكر بعض الأسباب المانعة عن الإيقان بالنظام مع وضوح دلائله، فنقول وبالله التوفيق:(6/181)
الأول:
وهو أقوى الأسباب: تبرئة كلام الله عن كل عيب وشين. ولا شك أنه ظاهر النظام والترتيب في كثير من المواضع، ولكنهم لو ادعوا أن كله منظم، -والنظم مرعي فيه - لاضطروا في مواضع إلى القول بعدمه وذلك لغموضه ودقته، فتركوا هذا المسلك، ولم يحولوه إلى قصور أفهامهم، فإن منها ما وجدوه خلاف أصول النظم، وتيقنوا أنه لا يمكن فيه تصور نظم ما. كما ترى في آية: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} - البقرة:238- فإن هذه الآية واقعة بين ذكر متصل لأمور النساء، ثم بعدها يرجع إلى الذكر الأول، ولولا هذه الآية لكان البيان على غاية الاتصال.
ومن بيّن مناسبة هذه الآية، لم يأت بما يتقبله من رزق شيئا من الإنصاف ويستمع القول فيتبع أحسنه.
ومن الذين يؤمنون بوجود النظام من نسب ذلك إلى عجز فهمه. وذلك هو المسلك الأحوط وقد كشف لنا غطاؤه بعد سنين، فالحمد لله رب العالمين {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الأعراف: 43.
الثاني:
ليس دون الأول، ولكن الأول يتعلق بالمصنفين، والثاني يتعلق بالناظرين في كلامهم.
وهو أكثر من ذهب إلى وجود النظم كالإمام الرازي - رحمه الله - قنع في هذا الأمر الصعب بما هو أوهى من نسج العنكبوت، مع سبقه الظاهر في العلوم النظرية والذكاء.
فمن نظر في كلامه تيقن بأن النظم لو كان كما يدعيه هذا الإمام المتبحر وأمثاله، لما خفي عليه مع خوضه فيه، وإذ لا يأتي هو ولا غيره إلا بكل ضعيف، فلا مطمح فيه لأحد بعد هؤلاء، فإما بقي على قوله بوجود النظم، ولكن يئس من علمه وأغلق بابه، فإن سمع أحدا يدعوه إليه لم يسمعه. وإما صار إلى الرأي الذي ظنه أسلم، وهو أن القرآن إنما نزل منجما مفرقا، فلا يطلب فيه نظام.
الثالث:(6/182)
إكثار الوجوه في التأويل، وإكثار الجدل وقال وقيل، وذلك بأن النظم إنّما يجري على وحدة، فبحسب ما تكثر الوجوه، يتعذر استنباط النظام. فمن نظر في هذه الوجوه المتناقضة والأقاويل المتشاكسة تحَيّر، لا يدري ماذا يختار منها؟ وأصبح في حجب من النّظم الذي يجري من كل جملة في وجه واحد كمن سلك طريقا يصادف في كل غلوة طرقا شتّى.
ولما كان ذلك - ولأسباب أُخر شرطنا أن نقنع بوجه واحد صحيح ظاهر ينتظم به الكلام، ولم نجده إلا أحسنها تأويلا، وأبلغها بيانا - وهذا مبسوط في موضعه وإنما ذكرناه هنا من جهة أن إكثار الوجوه من أكبر الحجب على فهم النظام، بل عدم التمسك بالنظام هو أكبر سبب للولوع بكثرة التأويل، فإن النّظم هو الذي يوجهك إلى الوجه الصحيح والسلف رحمهم الله لم يجمعوا وجوها بل كل منهم ذهب إلى أمر في كل علم إذا كثرت الكتب ودون العلم، وسهل الطريق فيحرصون على التبحر ويرفضون الرسوخ والتحقيق في فن واحد، فيحسبون تكثير الأقاويل والمذاهب علما وهم خِلْوٌ عنه كما قيل: طَلَبُ الكل فَوْتُ الكل.
فمن اشتغل بالتفسير وجده بحرا متلاطما من الأقوال، وحفظه هذه الأقاويل يمنعه عن مسلك النظام من جهة نفاد فرصته ومنته، ومن جهة أن النظام قد خفي وضل عنه في شتات الوجوه الكثيرة بل لو رفض هذه الكتب كلها وأخذ طريق السلف رحمهم الله فتدبر القرآن والتمس المطابقة بينه، وبين السنة الثابتة لكان أقرب إلى معرفة النظام وصحيح التأويل.
الرابع:(6/183)
قريب من الثالث، إنّ تحَزّب الأمة في فرق وشِيع، قد ألجأهم إلى التمسك بما يؤيده من الكتاب فراق لهم تأويله الخاص سواء كان بظاهر القول، أو بإحدى طرق حمل الكلام على بعض المحتملات. ولا يخفى أن غلبة رأي وتوهم، يجعل البعيد قريبا والضعيف قويا، وكذلك يضل كل فريق، فلكل حزب تأويل حسب مذهبه، وحينئذ لا يمكن رعاية النظام فإن الكلام لا بد له من سياق، ولا بد لأجزائه من موقع يخصه. فلو رعوا النظام، ظهر ضعف ما يمليه ويجذبه إلى غير مساقه، كما أنن الكلمة الواحدة ربما تكون مشتركة بين المعاني المتعددة ولكن إذا وضعت في كلام منع موقعها وقرائنها من كثرة الاحتمالات، وتعين منها ما وافق معنى الجملة والتأم به. ومع ذلك ليس كل نظام جديرا بالأخذ بل ما هو أحسن تأويلا فربما يلتئم الكلام ويتسق النظام بتأويل ركيك ساقط، فهذا مما يتح بابا لدخول الأباطيل والهوى، ويخالف النظام الصحيح العالي الذي يظهر به رفيع مكان التنزيل، كما وصف الله به كتابه في مواضع لا تحصى.
مع العز بن عبد السلام:(6/184)
بالرغم من أن العز بن عبد السلام يصرح بأن المناسبة علم حسن، إلا أنه يشترط أن تكون في أمر متحد مرتبط أوّله بآخره، ولا يقبل بالمناسبة فيما وراء ذلك لأن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة، وما كان كذلك لا يتَأتّى ربط بعضه ببعض ولا شك بأن الأمر المتحد المرتبط أوله بآخر لا يحتاج أن نبحث له عن المناسبة لأنها ظاهرة الفكرة مرتبط أولها بآخرها، فهذا الشرط هو تحصيل حاصل. أما في ما وراء الأمر المتحد المرتبط أوله بآخره، فنرى أن العز بن عبد السلام لا يقول بالمناسبة، وذلك لاختلاف أسباب النزول، ولا شك بأن هذا الرأي مبني على أن ترتيب الآيات كما هي في المصحف، إنما كان على ترتيب النزول، وهو أمر ظاهر البطلان، بعد ما قدمنا من الأدلة على أن ترتيب الآيات ليس وفق ترتيب النزول، وأنه توقيفي بأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم - وهكذا نرى أن هذه الشبهة ساقطة، ولا تنهض أمام الأدلة المتوافرة التي سبقت.
ونستخلص من هذا أن العز بن عبد السلام متوسط في رأيه، فهو يقول بالمناسبة الظاهرة، دون الخفية، وذلك ليهرب أيضا من التكلف الذي رآه عند بعض من خاضوا هذا البحر، ولم يحسنوا فيه السباحة فأوشكوا على الغرق. فهو يرى حسن المناسبة ولكنه يشفق على من يسعى إليها.
مع الجمهور:(6/185)
لا شك أن رأي الجمهور بالقول بالمناسبة يعتمد على أدلة قوية كما قدمنا، غير أن الطريقة التي سلكها أكثرهم في التعرض إلى المناسبة واستكشافها لم تكن تساعدهم دائما على معرفة المناسبة القوية، فيلجئون إلى مناسبات ضعيفة قد تضطرهم إلى شيء من التكلف مما حمل أصحاب الاتجاه الأول على إنكار المناسبة والتشنيع على القائلين بها، وأصحاب الاتجاه الثاني على القول بها في حال دون حال ويبدو أن الطريقة التي كانوا يلجئون إليها في غالب الأحيان، وهي طريقة التحليل حيث لا يتجاوزون الآيتين المتجاورتين، وبالتالي ينحصر البحث في معنى الآيتين ولا يجاوزهما إلى معانٍ أخرى تفهم من مجموع الآيات في السورة الواحدة، ولو أنهم بعد أن سلكوا هذا الطريق التحليلي، عادوا فنظروا إليه نظرة محلية تركيبية، لأمكنهم أن يربطوا بين الآيات كلها ربطا محكما، لا شبهة فيه ولا تكلف، ومن هنا فالطريق الصحيح لإدراك المناسبة لا بد أن يستخدم أولا منطق التحليل، حيث يضع الفرضيات الأولى للمناسبة بين الآيات، ثم يأتي بعد ذلك منطق التركيب الذي يحاول استكشاف الوحدة الكلية الموضوعية التي يقوم عليها بناء السورة فإذا ما أدرك ذلك أمكن تصحيح التكلف والتعسف الذي ينشأ من منطق التحليل، بذلك تبدو المناسبة قوية محكمة لا تحتاج إلى تكلف ولا تعسف. غير أن إدراك الوحدة الموضوعية الكلية ليس بالأمر الميسور، كما أنه ليس ملقىً على قارعة الطريق، وإنما يحتاج إلى بحث ودراسة، وقد تختلف فيه أنظار الباحثين والدارسين ومن ثمّ تختلف المناسبات باختلافهم، فالبقاعي - مثلا - يستنتج موضوع السورة من اسمها، وفي ذلك يقول. وقد ظهر لي باستعمالي لهذه القاعدة بعد وصولي إلى سورة سبأ أن اسم كل سورة مترجم عن مقصودها لأن اسم كل شيء تلحظ المناسبة بينه وبين مُسماّه عنوانه الدّال إجمالا على تفصيل ما فيه، وذلك هو الذي أنبأ آدم عليه السلام عند العرض على الملائكة عليهم السلام، ومقصود كل سورة هاد(6/186)
إلى تناسبها، فأذكر المقصود من كل سورة وأطابق بينه وبين اسمها، وأفسّر كل بسملة بما يوافق السورة ولا أخرج عن معاني كلماتها.
أما الفراهي فإنه يقول:. . ولما كان اسم الشيء عنوانا لمعناه، وقد اشتهر من الأسماء ما لا يخبر عن معناً هاما، فاعلم أن أسماء السور على أربعة وجوه:
الأول:
تسميتها بلفظ من أوائلها، فمنه فيما نقله السيوطي سورة الحمد وبراءة، وسورة سبحان، وطه، وحواميم، ويس، واقتربت، والرحمن، وتبارك، وعمّ، والمعصرات، وأرأيت، وسورة تبت، وغير ذلك، وهكذا سمّت اليهود كتب التوراة.
الثاني:
تسميتها بلفظ اختص بها، كالزخرف والشعراء والحديد، والماعون، وغير ذلك، فهذه أسماء لا تنبئ عن مقصود السورة ولكنها كالشّامة والسّمة تتميز بها مسمياتها، وكانت العرب تسمي الرجال والأشياء هكذا، كالملتمس وتأبَطّ شراً، وهكذا المنطقي يميز المعاني بعرض خاص ليس في شيء من حقيقة المعنى.
الثالث:
تسميتها بلفظ يخبر عن بعض المعاني العظيمة كتسمية سورة النور لاشتمالها على آية النور وتسمية سورة آل عمران، وسورة النساء، وسورة إبراهيم وسورة يونس، وكثير من الأسماء على هذا الأسلوب.
الرابع:
تسمية السورة بما ينبئ عن المقصد الذي تبنيت له السورة، ضمنها تسمية الفاتحة بصورة الصلاة وتسمية براءة وسورة بني إسرائيل وسورة محمد بسورة القتال وسورة الإخلاص والمعوذتين، فهذا الوجه الرابع يخبر عن فهم من سمّى السورة به، فلو سموا كل سورة على هذا الوجه لظهر نظام السور لكل متوسم. وهكذا فإن حصر موضوع السورة في اسمها ربما يؤدي إلى تكلف، إذا كان الاسم من الأنواع الثلاثة التي ذكرها الفراهي، ولا شك أن هذا الخلاف في تعيين موضوع السورة ينعكس على إدراك مناسبات آياتها، ومن ثم يكون اختلاف كبير في وجهات النظر.
مع دراز والفراهي:(6/187)
لا شك أن ما ذهب إليه الدكتور دراز، والمعلم الفراهي، يبدو أنه أقرب للصواب وأدنى من الحكمة، لما قدما من أدلة قوية مقنعة، ولما وضعاه من الأصول والمعالم التي تهدي إلى المناسبة المعقولة، والتي تبعد عن التكلف والتعسف وذلك كما سيأتي معنا فيما بعد، وقد بلغ الأمر عند الفراهي مرتبة اليقين حتى أنه يقول: ((وكيف يشك فيه من وجد مَسّ برده، وشم ريح ورده، وتمتع بنسيم عرار نجده، ولكنه من لم يذق فإن ارتاب فلا تثريب عليه)) ومع ذلك يبدو أن هذا الاتجاه على أهميته - وبالرغم من الجهود التي بذلها في توضيح رأيه وإقامة الحجج والبراهين المقنعة - لم يستطع أن يعبد الطريق أمام الباحثين فما زالت هناك صعوبات كثيرة وعقبات كبيرة، تحتاج إلى مواصلة الجهد ومعودة الدرس. إننا نتعاطف مع هذه الفكرة ونشعر شعورا قويا وغامضا بصحتها، ولكن تحقيقها في عالم الواقع ليس بالأمر الهين اليسير ودون ذلك، أشواك ومشتقات حتى يستوي النظام على سوقه، ويرتفع بنيانه على قواعد علمية محددة، وقد لا يستطيع ذلك إلا أفذاذ من الناس ممن وهبوا حياتهم ووقتهم لمطالعة كتاب الله ودراسته وآتاهم الله فهما وحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا.(6/188)
أضواء إسلامية على بعض الأفكار الخاطئة
بقلم الشيخ ربيع بن هادي
المدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد: فإن من أغرب الأمور وأعجبها وأشدها وقعا على قلب كل مؤمن واع وأشدها حيرة لعقله وأذهبها للبّه ما وقع فيه كثير من المنتسبين للإسلام من ضلال بعيد في الفكر وانحراف خطير في المعتقد وانحدار فيه إلى مستوى من الجاهلية لم تبلغه أيّ جاهلية مضت على مدار التاريخ.
صحيح أن المشركين في كل جاهلية قد عبدوا الطواغيت والأوثان من دون الله واستكبروا في الأرض وكذبوا الرسل وعاندوهم أشد العناد والمكابرة.
غير أن احتجاجهم لشركهم وتعصبهم لوثنيتهم ما كان يتجاوز أن آلهتهم تقربهم إلى الله زلفى ((الزمر)) وأن هذا أمر اعتادوه وألفوه وورثوه عن آبائهم كما يقص علينا القرآن وهو أصدق حديث عرفته البشرية {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} الزخرف.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} .(6/189)
فأنت ترى أنهم لا يبالغون ولا يهولون في تمجيد آلهتهم ولا يتجاوزون الواقع الذي كان عليه معبوداتهم من أنها لا تسمع دعاءهم ولا تجلب لهم نفعا ولا تدفع عنهم ضرا كل ما في الأمر أنهم قلدوا آباءهم في أمر وجدوهم عليه وتراث يريدون الحفاظ عليه.
وإذا قرأت تاريخ الجاهلية ترى تعلق كثير منهم بمعبوداتهم فيه ضرب من الاستخفاف فالرجل يحمل حجرا معه ليعبده فإذا وجد حجرا أجمل منه رمى حجره الأول واتخذ الأخير معبوده الجديد ويتخذ الرجل معبوده يصنعه من التمر فإذا مسه الجوع أكله بدون تردد أو وجل.
وكانوا إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ناسين آلهتهم لأن ثقتهم فيها ضعيفة متجهين إلى الله الذي بيده النفع والضر والإنقاذ من الشدائد.
إن مثل هذا الكلام والأسلوب يزعج كثيرا من الناس ويثيرهم وأكثر ما يزعج أولئك الصيادين الذين اتخذوا من سدانة القبور ومن كرامات الأولياء شبكات لاصطياد الأغمار والبله والمغفلين قارن بين واقع المشركين الأولين الذي قصه الله علينا وهو أصدق القائلين وبين عقائد هؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام.
قارن بين ما تراه من أفعالهم وما تسمع من أقوالهم وما تقرؤه من كتبهم في كرامات الأولياء ومراتبهم من أن هناك أقطابا وأوتادا وغوثا و. . . و. . .الخ.(6/190)
وما لهم من خوارق العادات ومن تصرفات في شؤون الكون واطلاع على الغيوب تر العقائد الوثنية الأولى أقل جهلا وغلوا من عقائد هؤلاء المتأخرين، إنا نقول لهؤلاء كما قال تعالى لأهل الكتاب - لأن هؤلاء - يزعمون أنهم أهل القرآن فنقول {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقّ} .
ونقول لعلمائهم إن كان فيهم علماء.
{لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .
تعالوا نحتكم إلى القرآن الحكيم الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} كما أمرنا الله {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} .(6/191)
وإلى السنة المطهرة قول الرسول الكريم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى. ولا تكونوا كالذين قال الله فيهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} فإن صددتم فاسمعوا قول الله {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} .
وإن كنتم على استعداد للتحاكم إلى الرسول كما أمر الله بذلك فهنا بعض المسائل نحب أن يركز الكلام عليها وأن يدور الحديث حولها وليس عليكم إلا أن تتحلوا بالإنصاف وتتجردوا من التعصب وتقبلوا بعقولكم وقلوبكم وتصغوا بآذانكم بجد إقبال من يريد الحق وعلى ضوء مناقشة تلك المسائل بالأدلة من الكتاب والسنة ستبين لكم الحق من الباطل وإليكم ما نريد مناقشته:
1- دعاء غير الله من الموتى والغائبين والاستغاثة بهم.
2- إدعاء أن غير الله يعلم الغيب سواءا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء والأولياء.
3- إدعاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بشرا.
(المسألة الأولى - وهي دعاء غير الله)
نريد أن نعرف حقيقة الدعاء لغة وشرعا.
1- قال في الصحاح دعوت فلانا صحت به واستدعيته ودعوت الله له وعليه.
2- وقال في القاموس الدعاء الرغبة إلى الله.
3- وقال في المصباح دعوت الله أدعوه دعاء ابتهلت إليه بالسؤال ورغبت فيما عنده من الخير ودعوت زيدا ناديته وطلبت إقباله.(6/192)
4- وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: "والدعاء الطلب والدعاء إلى الشيء الحث على فعله ودعوت فلانا سألته ودعوته إستغثته".
فالدعاء إذا استدعاء ورغبة ونداء وابتهال بالسؤال واستغاثة والذي يدعو الله راغب إليه ومنادٍ له ومبتهل وسائل له ومستغيث به والداعي لغير الله من ميت وغائب كذلك.
(حقيقة الدعاء في القرآن)
1- قال تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} آل عمران.
2- وقال تعالى عن زكريا أيضا: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} .
فالدعاء المذكور في آل عمران سمّاه هنا نداء وفسر النداء في سورة مريم بطلب الولد.
(حقيقة الدعاء في السنة)
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت ولكن ليعزم المسألة وليعظم الرغبة فإن الله سبحانه لا يتعاظمه شيء أعطاه".
فسمى ما يطلبه العبد من ربه دعاء ومسألة رغبة وهو موافق لأقوال أئمة اللغة.
2- وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول قد دعوت فلم يستجب لي" متفق عليه وأخرجه الترمذي.
3- وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعا أحدكم فليعزم الدعاء ولا يقل اللهم إن شئت فأعطي فإن الله لا مستكره له" متفق عليه.(6/193)
والأحاديث ومؤلفات العلماء وتراجمهم في الدعاء شيء لا يأتي عليه العد بل عوام الناس إذا ذكر لفظ الدعاء لا يتبادر إلى أذهانهم إلا هذه الحقيقة وهي النداء والسؤال والطلب.
إذا تقررت وفهمت حقيقة الدعاء على ضوء الكتاب والسنة واللغة العربية وواقع الناس فالله تعالى قد أمرنا بدعائه ونهانا أشد النهي عن دعاء غيره.
قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} .
أمرنا الله بدعائه وعلمنا آداب الدعاء التي يرجى من ورائها الإجابة وهي:
1- التضرع 2- الخفية 3- الخوف 4- الطمع.
وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} .
فهنا ندب تبارك وتعالى عباده إلى دعائه وأخبر أن المستكبرين عن دعائه مستكبرون عن عبادته لأن الدعاء أهم أنواع العبادة وأعظمها فالتارك لدعائه استكبارا كافر سيدخل جهنم داخرا أي صاغرا وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأبن أبي حاتم عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدعاء هو العبادة"ثم قرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} .
قال الترمذي صحيح الإسناد ومعنى الدعاء هو العبادة كما قال العلماء أي جلها ومعظمها كقوله صلى الله عليه وسلم "الحج عرفة"أي أعظم أركان الحج، وكقوله صلى الله عليه وسلم "الدين النصيحة" ولا شك أن الدعاء كذلك ولذا تعبدنا الله به في كل صلاة.(6/194)
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} .
هذه لمحة عن أهمية الدعاء وإشارة خاطفة إلى بعض ما أمرنا به ربنا تعالى من دعائه وحده.
أما دعاء غير الله فقد نهى الله تبارك وتعالى عنه أشد النهي وحكم على فاعله بالضلال وضرب فيه الأمثال وأبدى فيه وأعاد وركز عليه تركيزا قويا واعتنى بموضوعه أقوى عناية وأشدها وكيف لا يكون كذلك وهو أعلى أنواع العبادة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة" بتعريف الجزءين وهو من طريق القصر المعروفة عند البلاغيين.
ولنشر الآن إلى قليل من كثير مما ورد في القرآن الكريم في هذا الموضوع قال تعالى مخاطبا نبيه الكريم: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} .
والظلم هنا هو الشرك {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} .
فهذا نهي صريح للنبي صلى الله عليه وسلم عن دعاء غير الله مهما علت منزلته وارتفعت درجته سواء كان نبيا أو ملكا مقربا، فهذا أكمل المخلوقات وسيد المرسلين والنبيين لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا قال تعالى في سورة الأعراف آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .(6/195)
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فبديهي أنه لا يملك ذلك لغيره وصرح بهذا المعنى في آيات أُخر قال الله آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} .
{قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} .
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} .
وقال صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} : "يا معشر قريش -أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئا.
يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا".
فإذا كان أكمل الخلق صلى الله عليه وسلم كذلك، فغيره أبعد عن ذلك وأبعد، فهذه البيانات الواضحة والتصريحات القوية التي تصدر عن أصدق القائلين الهدف الأصيل منها أن يقطع المؤمن الصادق كل أمل وكل رجاء من غير الله ويتجه بدعائه ورجائه ورغباته وكل مطالبه إلى الله وحده مباشرة.
ولذا قال عقب هذه الآية التي تلوناها عليكم من سورة يونس: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} .
وقال في سورة الأنعام مستعملا الأسلوب نفسه: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .(6/196)
2- وقال تعالى ضاربا مثلا لحال من يدعو غير الله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} .
شبهت حال من يدعو غير الله بحال شخص استولت عليه الشياطين فحرفته عن الجادة فهو تائه مضطرب الفكر والعقل ذاهب اللب يتخبط في سيره لا يهتدي لجهة ولا يعرف مقصدا في الوقت الذي يدعي فيه إلى خلاصه والطريق الذي فيه نجاحه وفلاحه فيمعن ويوغل في البعد عن طريق الخلاص والنجاة حتى يلقى هلاكه ومصيره المشئوم.
3- وقال ضاربا مثلا لخيبة الأمل التي يُمنى بها من يدعو غير الله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} .
فهل يستجيب ماء بئر في الدنيا لمن وقف على حافته يمد كفيه ويبسطهما إليه ولو كان ملتهب الأحشاء محترق الفؤاد من الظمأ؟
4- وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} .(6/197)
وهذا تصوير صحيح لواقع كل مدعو من دون الله وأن من في السماوات والأرض لو اجتمعوا لخلق ذرة فضلا عن ذباب لا يستطيعون، ولوقفوا عاجزين وهذا غاية الغايات في العجز، فإذا كان هذا حال المدعوين فلماذا لا يثوب الداعون لهم إلى رشدهم ولذا قال ما قدروا حق قدره إن الله لقوي عزيز، فهو قادر على كل شيء غالب على كل شيء إنما أمره إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون، والواقع أن الذين يستجيزون لأنفسهم دعاء غير الله لا يشعرون أن هذا النداء في هذه الآية موجه إليهم وأن هذا المثل فيها مضروب لهم ومن جراء فقدان هذا الشعور والإحساس لم يرهفوا أسماعهم لهذا المثل الذي قال الله فيه فاستمعوا له وإلا لكان لهم منه أكبر زاجر وأقوى رادع ولفتحوا أسماعهم وأبصارهم وأفئدتهم على قدرة الله الهائلة التي يصغر أمامها كل شيء فاتجهوا إليه وحده ضارعين وداعين.
5- وقال تعالى مبينا غناه المطلق وفقر من عداه المطلق وأن المدعوين من دون الله جميعا صفر اليدين مما يتعلق به المشركون بهم الداعون لهم من دون الله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} .
فهذه الآية فيها تحطيم لكل أمل يتعلق به المشركون فالمدعوون من دون الله مع الأسف لا يملكون من هذا الملك الواسع والكون الكبير السموات والأرض مثقال ذرة لا على سبيل الاستقلال ولا على سبيل المشاركة والله غني غنىً مطلقا فليس هو سبحانه وهي متوقفة على إذنه، على أنه لا حظ فيها لهؤلاء المشركين الداعين لغير الله وإنما هي للموحدين فماذا استفاد المشركون؟
النار وبئس القرار، ولا كرامة.(6/198)
وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} .
فالله تبارك وتعالى يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يتحدى المشركين بأن يشيروا إلى أي نقطة من السموات والأرض قد خلقها آلهتهم ولو مجتمعة أو أي جزئية شاركوا فيها في الخلق والتصرف وهم لا يمكن أن يدعو ذلك فهم معترفون بأن الله وحده المنفرد بخلق الكون والتصرف في شئونه.
فإن توقح متوقح منهم فليت بالبرهان الواضح ولا يمكنه ذلك لا من طريق النقل ولا من طريق العقل وبعد عجزهم الفاضح أمام التحديات فما حكمهم إن أصروا على دعاء غير الله؟
حكمهم أنهم خلق الله إنهم غارقون في ضلال بعيد لأنهم يدعون من لا يملك شيئا في السماوات والأرض لا لنفسه ولا لغيره وقد عجزوا وأفحموا عن إقامة البرهان على شيء من ذلك وهم مع ذلك لا يستجيبون لهم ولو بحت أصواتهم وانقطعت حناجرهم من النداء والهتاف ولو استمروا فيهما إلى يوم القيامة.
والنتيجة المرة أنهم يوم القيامة يبارزونهم ويصارحونهم بالعداء الشديد {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} إنها لنهاية أليمة ومصير مشئوم وهذا الذي أشرنا إليه قليل من كثير فما يزخر به القرآن من محاربة هذا الاتجاه المخزي فمن أراد أن يعرف الحقيقة فليمط عن وجهه حجاب التعصب الأعمى وليقرأ القرآن ملاحظا ما أشرنا إليه فسيجد الأمر أوضح وأقوى.(6/199)
المسألة الثانية: وهي ادعاؤهم وزعمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثير من الصالحين يعلمون الغيب.
وقبل الخوض في هذه المسألة نبدأ بمقدمة ينكشف بها أن المزاعم الباطلة والافتراءات الكاذبة لا ترفع شيئا من منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس من تعظيمه وتوقيره في شيء بل ذلك عدوان على منصبه ومنابذة لشرعه ورسالته.
إن المؤمن الحق يعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم البشر وسيد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وأنه يجب تعظيمه وتوقيره وتعظيم واحترام ما جاء به من قرآن وسنة وأنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وهنا نتساءل ما هو البرهان الصحيح العملي الذي يقيمه المؤمن على هذا الحب والتعظيم والتوقير.
والجواب: السديد أن ذلك يكون بطاعته.
1- والتفاني فيها واتباع ما جاء به بحيث لا يزاحمه في هذه الطاعة وهذا الاتباع الصادق أحد كائنا من كان جاعلا المؤمن نصب عينيه {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} .
2- ويكون ذلك بحبه الصحيح الذي يفوق حب النفس والوالد والولد والمال والناس أجمعين "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين".
3- ويكون ذلك بموافقته في كل أمره فما أحبه رسول الله يحبه وما أبغضه يبغضه.(6/200)
4- ويكون ذلك أيضا بتصديقه في كل ما أخبر به تصديقا وإيمانا لا يرقى إليه أدنى شك ولا ريب واتخاذ أخباره قضيا مسلمة لا تقاس ولا توزن بكلام أحد بل أقواله وأفعاله وأخباره وتشريعاته في الميزان الصحيح الحق لأقوال الناس وأعمالهم فما وافقه فهو الحق وما خالفه فهو الباطل سواء كان في مجال الاعتقاد أو التشريع أو الأخلاق أو السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد أو غيرها من شئون الحياة الدنيا أو الدين.
أما الغلو فيه وإطراؤه مع الاستخفاف بأوامره ونواهيه وتشريعاته وتعاليمه وبغض ما يحبه وحب ما يبغضه وتقديم طاعة الناس والأهواء على طاعته والحيدة والروغان عند أخباره فهذا في الواقع هو العداء السافر أو المقنع فما قيمة تعظيم مزعوم لا ينقاد صاحبه ولا يسلس له قياد إلا فيما يوافق هواه وما يتبعه من مذاهب وتقاليد وعادات، ما قيمة تعظيم أشبه بصراع عنيف مع تعاليمه ومصادمة لا تقف عند حد، فإذا قال افعلوا هذا قيل سمعنا وعصينا وإذا قال اتركوا ذلك قيل لا بد من فعله وإذا أخبر عن أمر أنه كذا وكذا قيل لا بد من وزن هذا الكلام وعرضه على آراء الناس، فإذا قال صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد الله ورسوله"، قيل ليس لنا بد من إطرائك والغلو فيك وإذا قال الله لرسوله {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} .
لا يرفع أناس الخبر رأسا ولم يقيموا له وزنا ولم يعيروه أي اهتمام بل قالوا:
(فإن من جودك الدنيا وضرتها
ومن علومك علم اللوح والقلم) .(6/201)
ولنضرب مثلا يتضح به الحب الصحيح من الكاذب هناك زعيم مخلص متفان فيما ينفع أتباعه صادق اللهجة لم يجرب عليه كذب له أتباع فريق منهم سهل الانقياد سريع الاستجابة لا يتلكأ ولا يتلعثم عند أمر أو نهي لا يأمره ذلك الزعيم بأمر إلا بادر وسارع إلى تنفيذه ولا ينهاه عن شيء إلا كان أشد الناس ابتعادا عنه ولا يخبره بخبر إلا أصاب موضع اليقين من قلبه ولا يفعل فعلا إلا أتسم به ورأى أنه القدوة الحسنة.
وفريق آخر يمتاز بالمبالغة والتهويل في تمجيد ذلك الرئيس رغم أنه يكره هذه المبالغات وهذا الغلو أشد الكراهية عرف ذلك من أقواله وأفعاله المتواترة وتصريحاته القوية وتعليماته. ومبادؤه قائمة على أساس محاربة هذا اللون من الانحراف والإتيان عليه من القواعد ورغم كل ذلك يصر هذا الفريق على موقفه ويمعن فيه غير أنه بجانب هذا الغلو يمتاز بأسلوب آخر وهو أن أوامر هذا الرئيس وزواجره وتوجيهاته لا يذعن لها هذا الفريق ويروغ عنها روغان الثعلب فإذا قال افعلوا هذا الأمر واتركوا ذاك والأمر الفلاني واقعه كذا قالوا والله يا سيادة الرئيس أمرك هذا لا يوافق مزاجنا وليس عندنا نشاط ولا استعداد لتنفيذه ويمكن إن نفذناه أن نواجه مشاكل لأنه لا يتفق مع رأي فلان ولا يناسب مزاج علان ونهيك ندخله في خبر كان وخبرك فيه سطحية وسذاجة لا بد له من ميزان، وعلى كل حال أحسن رأي عندنا أننا نمدحك ونطريك ولو كان الغلو والإطراء أبغض شيء إليك، ثم ضربوا بتعليماته السديدة وتوجيهاته الرشيدة عرض الحائط فخالفوا أوامره ونواهيه، وحرفوا أخباره وتأولوها كما أملت عليهم أهواؤهم ولم يقفوا عند هذا الحد بل صبوا جام غضبهم على الفريق الطائع المنقاد وأوسعوهم لوما وتجريحا واحتقارا وسخرية ووجهوا إليهم الشتائم والمطاعن ورموهم بالدواهي من المفتريات فأي الفريقين أحق بذلك الزعيم وأقربهم إليه وأحبهم لديه لا يخفى ذلك على المنصف العاقل.(6/202)
ولنشرع الآن في بيان هذا الموضوع على ضوء الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وواقعهم، قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .
ومعنى الآية واضح كل الوضوح أن علم الغيب أمر مختص بالله جملة وتفصيلا وأن هذا أمر استأثر به لا يشركه فيه غيره كاختصاصه واستئثاره بالربوبية والألوهية وغيرها من صفاته العليا التي انفرد بها واستأثر بها وحده.
2- قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} .
وهذا أمر امتاز به وحده كما امتاز بتصويرنا في الأرحام كما يشاء.
3- {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} إلى قوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} .
وهذا تصريح واضح من نبي كريم من أولي العزم بحقيقة ناصعة يوافقه عليها كل نبي ورسول اختاره الله وكل مؤمن هداه الله.
4- {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} .(6/203)
أمر الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يعلن هذه الحقائق الساطعة فليس عنده خزائن الله ولا يعلم الغيب ولا يقول إنه ملك ولا يخرج عن الطريق الواضح الذي رسمه الله له وهو اتباع الوحي فلا تخفى هذه الأمور الواضحة إلا على من أعمى الله قلبه وطمس بصيرته من المكذبين المعارضين أو من الغلاة المبالغين.
5- وقال تعالى: {وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} .
وهذا أمر من الله لنبيه أن يعلن هذه الحقيقة أنه لا يعلم الغيب إنما الغيب لله وحده وقد بلغ رسول الله كما أمره الله ونحن على ذلك من الشاهدين ومن المؤمنين المصدقين لا نمتري في هذه الأخبار الصادقة ولا نشك فيها ولا نحرفها ولا نؤولها.
6- وقال تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} .
وهذه الإحاطة والشمول لا تنبغي إلا لجلاله الكبير المتعال.
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} .(6/204)
هذه الآيات التي تلوناها وأضعافها في القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تدور على حقيقة واحدة بشتى الأساليب من عموم وشمول وإحاطة وإجمال وتفصيل واستقصاء واستيعاب وقصر وتأكيد مما لا يدع بعض هذه النصوص فضلا عن جميعها أدنى شك في أن الله وحده هو المنفرد بهذا الكمال وأن ادعاء علم الغيب لأحد غير الله سواء رسول الله أو غيره تكذيب وقح لله ولرسوله ولكتابه شاء ذلك أو أباه.
ولنضف إلى ما سبق نصوصا أخرى تخص رسول الله بالذات بنفي علم الغيب عنه زيادة في إقامة الحجة.
1- {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} سورة الأنعام.
2- وقال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
وقد سبقت الإشارة إلى معاني هاتين الآيتين، إلا أننا نلفت النظر هنا إلى أنه يجب أن نفهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام مع أنه يوحى إليهم لا يجوز أن يعتقد فيهم أنهم يعلمون الغيب بدليل أنه جمع في آية واحدة بين نفي علم الغيب عنه وإثبات الوحي له إذا فعلم الغيب شيء وكونهم يوحى إليهم شيء آخر ولو جاز أن يعتقد فيهم ذلك لجاز الاعتقاد ونفسه في كل من بلغوه ذلك الوحي وهو في غاية البطلان والضلال.
3- وقال تعالى معاتبا نبيه صلى الله عليه وسلم: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} .(6/205)
فسبب هذا العتاب أن بعض الأشخاص استأذنوه صلى الله عليه وسلم في القعود عن الجهاد وقدموا إليه معاذير غير صحيحة ولا واقعة فأذن لهم بناء على تلك الأعذار التي قدموها ظانا صحتها وواقعيتها غير عالم أن الله سيعاتبه في هذا الأمر وإلا لما أقدم عليه وهو أحرص الناس على مرضاة ربه وقال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} فهؤلاء المنافقون من سكان المدينة ومن حولها والمنافقون من أهل المدينة بالذات قد مهروا في النفاق لكثرة ممارستهم له حتى أتقنوه وهم ولا شك يشكلون خطرا على رسالته وأصحابه ومع ممارستهم إياه مدة طويلة وفي قلب المدينة إلى تسع سنين ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلمهم كما قال تعالى:
{لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُم} وقال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} .
{قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً} .
ففي هذه النصوص ما يشفي المؤمن ويقنعه أن علم الغيب مختص بالله وحده وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدعي ذلك وإذا كان كذلك فغير رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى وأولى.
ولننتقل إلى رحاب السنة المطهرة.
1- عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار".(6/206)
فالحديث صريح أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر والبشر وغريرهم من المخلوقات لا يعلمون الغيب وإنما ذلك لله وحده ولرسول الله يخشى أن يقلب بعض الناس للسنهم وفصاحتهم الحق باطلا والباطل حقا فيقضي رسول الله بنحو ما يسمع لأن بواطن الأمور وسرائر النفوس وخفاياها لا يعلمها إلا الله.
2- وروى الإمام مسلم عن مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة رضي الله عنها قالت: يا أبا عائشة ثلاث من تحدث بواحدة منهم فقد أعظم على الله الفرية.
قلت ما هن، قالت من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية قال وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ألم يقل الله ولقد رآه بالأفق المبين ولقد رآه نزلة أخرى.
فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى عليه وسلم فقال: "إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض" فقالت: أو لم تسمع أن الله يقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} .
أو لم تسمع أن الله يقول: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} .
قالت: ومن زعم أن محمدا كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية والله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} .(6/207)
ومن زعم أنه يخير بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، فعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وهي أعلم الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم ترى أن نسبة واحدة من هذه الثلاث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أظم الافتراءات على الله ولنلاحظ كيف استدلت على عدم إمكان رؤيته لربه بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} الآية، لأنها ترى وتعالم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر تنطبق عليه الآية كما تنطبق على غيره من الرسل الكرام لأن الجميع مشتركون في هذا الوصف وهو البشرية وهذا الذي أنكرته عائشة إنما هو الرؤية في الدنيا وأما رؤية الله في الآخرة فهي ثابتة للمؤمنين بالكتاب والسنة فلا تنكرها عائشة رضي الله عنها.
واستدلت على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب بقوله تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} وهو استدلال في موضعه وهو عين الحق والصواب الذي لا تشك فيه عائشة ولا غيرها من الصحابة الكرام وجميع المؤمنين ومن زعم أنه صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب فقد أعظم على الله الفرية كما قالت رضي الله عنها.
3- وعن ابن عباس رضي الله عنه قال أخبرتني ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أصبح يوما واجما"-أي حزينا كئيبا- فقالت ميمونة: يا رسول الله لقد استنكرت هيئتك منذ اليوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن جبريل كان وعدني أن يلقاني الليلة فلم يلقني أما والله ما أخلفني" قال فظل رسول الله يومه ذلك على ذلك ثم وقع في نفسه جرو كلب تحت فسطاط لنا فأمر به فأخرج ثم أخذ بيده ماء مكانه فلما أمسى لقيه جبريل فقال: "لقد كنت وعدتني أن تلقاني" قال: "أجل ولكننا لا ندخل بيتا فيه كلب أو صورة"رواه مسلم.(6/208)
فجبريل وعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه في الليل وطبعا يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره فلم يأته لذا أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم واجما ولا يعلم لذلك سببا ولو أن السبب هو الجرو لبادر إلى إخراجه فورا ثم استمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على تلك الحل من الكآبة والحزن. يفكر في الأمور التي قد تكون سببا في تأخر جبريل فوقع في نفسه جرو كلب فأمر به فأخرج كما قالت ميمونة.
ثم سأل جبريل عن سبب تأخره لأنه لم يستيقن إلى وقت سؤاله السبب الحقيقي وفي رواية لمسلم عن عائشة يحتمل أن تكون هي هذه الحادثة ويحتمل أن تكون حادثة أخرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة متى دخل هذا الكلب ههنا؟ "
فقالت: "والله ما دريت"، فهذه الحادثة وأمثالها كثير مما يدور في بيته وهو لا يعلمه فيسأله عنه أهله.
فقد تنفد نفقة أهله فلا يعلم بها فيأتيه الضيف فيرسل إلى أهله واحدة واحدة فيقلن والله ما عندنا غير الماء كما روى مسلم فلماذا يحرج أهله بالسؤال وهو خير الناس لأهله وأفضلهم معاشرة ما ذلك؟ إلا أنه لا يعلم الغيب.
4- ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق استأجر أجيرا يدلهما على الطريق ومن يعلم الغيب لا يلجأ إلى ذلك.
5- وعن أنس رضي الله عنه: "أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك" فإذا خفي عليه شيء كهذا وأمثاله وإذا مسه مرض أو أذى لا نقول لماذا؟ لأنا نعلم أنه بشر رسول وسنة الله في البشر أنهم مبتلون وأشدهم بلاء الرسل ثم الأمثل فالأمثل كما قال هو صلى الله عليه وسلم.(6/209)
6- وروى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتى بضب محنوذ فأهوى إليه صلى الله عليه وسلم بيده فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل منه فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده" وفي رواية أخرى في مسلم "وكان قلما يقدم إليه طعام حتى يحدث به ويسمى له فأهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى الضب فقالت امرأة من النسوة الحضور أخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدمتن له قلن هو الضب فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده". والعبرة من الحديث.
1- أن رسول الله كان يكره الضب ما صرح بذلك غير مرة وفي هذه المناسبة أهوى بيده ليأكل منه لأنه لا يعلم أنه الضب ولما أخبر رفع يده.
2- اعتقاد أصحابه وأهل بيته أنه لا يعلم الغيب ولهذا كان قلما يقدم إليه طعام حتى يحدث به ويخبر ويسمي له.
3- قول المرأة أخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدمتن له والمخاطب بهذا أهل بيت النبي صلى عليه وسلم ويمكن أن يكون عندهن غيرهن نساء أخر، وفي القوم خالد بن الوليد وابن عباس ولم ينكر هذا أحد منهم لأنه مستقر عندهم أنه لا يعلم الغيب وحاشاهم أن يكونوا غلاة.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يقر على باطل يسمع هذا كل يوم ولم يقل لهم لا حاجة بي إلى أن تخبروني لأني أعلم الغيب والله تبارك وتعالى قد أمر رسوله بأن يستشير أصحابه فقال وشاورهم في الأمر فكان يستشيرهم وأحيانا يميل إلى رأي يكون الصواب في غيره كما في قصة أسرى بدر حيث هوى رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي أبي بكر ولم يأخذ برأي عمر فأنزل عليه: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} .(6/210)
فجاء عمر رضي الله عنه ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يبكيان فقال يا رسول الله ما يبكيك أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد عرض علي العذاب دون هذه الشجرة للذي عرض على أصحابك".
والشاهد منه أن الصحابة كانوا يدلون بآرائهم إذا استشارهم ولا يقولون لا حاجة إلى رأينا لأنك تعلم الغيب ولننقل كلاما يتمشى مع ما اقتضاه الكتاب والسنة.
وما كان عليه السلف الصالح: قال ابن الهمام في المسايرة في العقائد (ص202) وذكر الحنفية تصريحا بالتفكير باعتقاد أن النبي صلى عليه وسلم يعلم الغيب لمعارضته قوله تعالى {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} هذا الكلام في الكتاب المذكور في خاتمة الفصل التاسع.
المسألة الثالثة وهي: هل الرسول ليس من البشر ?
وبقيت ثالثة الأثافي وهي من أغرب الغرائب وأعجبها قولهم: إن رسول الله ليس بشرا وتضليل من يقول إنه بشر وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل فنحن إذا مضطرون إلى أن نسوق الأدلة على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم.
آسفين أشد الأسف على من ينتسب إلى الإسلام ويؤمن بالقرآن والسنة ويصل في الانحطاط الفكري والضلال العقائدي إلى هذا المستوى.
1- قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} .
فالآية تنص على أن رسول الله من أنفس المؤمنين قال المفسرون: "إن المراد بقوله من أنفسهم أنه من العرب"وقال آخرون: "إن المراد أنه من البشر"ووجه المنة على التفسير الأول يفقهون عنه ويفهمون ولا يحتاجون إلى ترجمان.(6/211)
وعلى التفسير الثاني أنهم يأنسون به بجامع البشرية.
2- {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} والشاهد من الآية قوله: {ٌمِنْ أَنْفُسِكُمْ} وتفسيره كالأول و {مِنْ} في الموضعين للتبعيض فهو بعض من البشر.
3- وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} .
والأميون هم العرب وقوله منهم أي من الأميين العرب ومن تبعيضية فهو من بعض العرب وواحد منهم فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم النبي العربي الأمي الهاشمي من أشرف العرب وأكرمهم محتدا. ولو كان من عنصر آخر لذكره الله في هذه المقامات.
4- وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} وعشيرة الرجل قبيلته وبنو أبيه الأدنون ولما نزلت عليه هذه الآية صعد على الصفا ونادى يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئا يا عباس بن عبد المطلب اشترِ نفسك من الله لا أغني عنك من الله شيئا يا صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا وهكذا فهم رسول الله أن عشيرته الأقربين وبني أبيه هم هؤلاء الذين صدع فيهم بهذا الأمر.
5- وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} وقومه هم العرب الأميون بالكتاب والسنة وإجماع كل الأمم العرب والعجم.
(إثبات بشرية الرسول من السنة)(6/212)
وقبل أن نسوق الأدلة من السنة نذكر نسبه صلى الله عليه وسلم فهو محمد بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
فمن يزعم أنه صلى الله عليه وسلم ليس بشرا فماذا يقول في هذا النسب ولماذا جاء عن طريق هؤلاء فهل هؤلاء أيضا غير بشر.
1- روى مسلم رحمه الله عن واثلة بن الأسقع يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم".
2- وروى الترمذي عن واثلة بن الأسقع أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة واصطفى من بني كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واسطفاني من بني هاشم".(6/213)
3- وروى الترمذي أيضا عن المطلب بن وداعة قال: جاء العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه سمع شيئا. (أي من الطعن في بني هاشم) فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: "من أنا" فقالوا"أنتَ رسول الله عليك السلام"فقال: "أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إن الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم قبيلة ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة ثم جعلهم بيتا وخيرهم نفسا"، فهذه الفرق والقبائل والبيوت كلها من البشر ولو كان رسول الله من عنصر آخر لذكره في هذه المناسبات وإنا لنأسف إذ نستنبط أمورا بديهية هي من باب تحصيل الحاصل ولكن ماذا نصنع وقد وجد في الناس من يتلقف أفكارا مسمومة هدامة تدس على المسلمين الهدف منها هدم الإسلام واقتلاع قواعد التوحيد من الأساس يتلقفونها ثم لا تلبث أن تتحول عندهم إلى عقائد راسخة من أعظم أركان الدين فيوالون يعادون من أجلها ويحرفون نصوص القرآن والسنة من أجلها مهما بلغت من الكثرة والوضوح.
وعندما رسخت في نفوسهم هذه الأفكار المدسوسة شوهت نظرهم الصحيح فأصبحوا ينظرون إلى البشرية من الزاوية التي نظر منها المشركون فكان المشركون يتحقرون البشرية ويرون استحالة اجتماع البشرية والرسالة وأن الإنسان لا يمكن أن يرتفع إلى مستوى يؤهله لتلقي الوحي من الله.
قال تعالى حكاية لموقفهم: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} .
{قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} .
{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} .(6/214)
{ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}
وهؤلاء نظروا من نفس الزاوية إلى البشرية واحتقروها فعز عليهم يكون رسول الله بشرا وتلقفوا أسطورة من نسج خيال أعداء الإسلام أن رسول الله خلق من نور، وهذه الدسيسة تشبه إلى مدى بعيد دسيسة اليهود على النصارى، واليهود أعدى أعداء عيسى عليه السلام فدسوا على أتباعه أنه ابن الله وأنه هو الله لقصد إضلالهم ولا يبعد أن تكون فكرة أن رسول الله ليس بشرا وإنما هو من نور دسيسة من دسائس اليهود والقصد إضلال المسلمين ونحن بحمد الله معشر المؤمنين نرى الإنسان البشر المؤمن العادي أفضل من جميع الأنوار فكيف برسول الله الذي هو أفضل الخلق أجمعين.
قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} .
وكل ما في السموات والأرض سخره الله لهذا الإنسان البشر {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .(6/215)
فأنوار الكواكب والشمس والقمر والنار والكهرباء كلها مسخرة لهذا البشر الكريم فالذي يجرد رسول الله من بشريته فقد احتقره من حيث يعزم أنه يكرمه ويجله ثم هذه الأسطورة لا تستطيع أن تثبت أمام نص واحد من القرآن وقد تقدمت لكم النصوص التي تلوناها على مسامعكم، ونضيف إليها الآن ما لا يدع مجالا للشك في الإيمان ببشرية رسول الله المثلى قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} فقد أكد بشريته بأقوى أنواع التأكيد فإن القصر من أسباب التأكيد عند البلاغيين ثم زاد ذلك تأكيدا بقوله: {مِثْلُكُمْ} أي مثلنا في الخلق والتكوين له جسم مكون من لحم وعظام وعصب وله شعر وعينان ويدان يبطش بهما ورجلان يمشي بهما، ويأكل كما نأكل ويشرب كما نشرب ويجوع ويمرض وقد تولد بين أبوين هما عبد الله ابن عبد المطلب وآمنة بنت وهب.(6/216)
وقد تزوج كثيرا من النساء وأنجب أولادا كما يتزوج البشر وينجبون ثم أشار في الآية إلى الميزة التي امتاز بها صلى الله عليه وسلم وهي الوحي فقال: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} وهذا هو المضمار الذي لا يباريه فيه أحد والقمة الشاهقة التي بلغها النبي العربي الكريم، وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً} .(6/217)
فأنتم ترون أن الكفار قد بلغ بهم التعنت أقصى مدى فطلبوا من رسول الله ما لا يدخل تحت قدرة البشر ولا غيرهم من الخلق ولا يقدر عليه إلا الله فلذا أمر الله نبيه أن ينزهه بالتسبيح فقال: {ُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي} ثم بين حقيقة نفسه وواقع أمره بكل صراحة ووضوح فقال: {هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً} وصفان ظاهران أولهما (بشر) وثانيهما (رسول) بأقوى طرق القصر والتأكيد لأن هل هنا استفهام بمعنى (ما) النافية والنفي وإلا أقوى طرق القصر والتأكيد والقصر هنا حقيقي بمعنى أنه لا يتجاوز البشرية والرسالة إلى غيرهما فالبشرية تستلزم كل خصائص البشرية والرسالة تستلزم كل مقومات الرسالة وخصائصها، وقال تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية وقال تعالى في سورة (ص) .
{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} فقال رجل منهم وقال منذر منهم فبأي حديث بعد الله وآياته نؤمن.
وإليكم الآن أقواله الصادقة الواضحة الصريحة الصحيحة، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "صلى رسول الله_ صلى الله عليه وسلم_ الظهر خمسا فلما سلم قيل له: "يا رسول الله أحدث في الصلاة شيء"قال: "وما ذاك"قالوا: "صليت كذا وكذا"فثنى رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم فلما أقبل علينا بوجهه قال: "إنه لو حدث في الصلاة شيء لنبأتك به ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني"رواه البخاري.
وانظر فتح الباري ج1 ص503.(6/218)
وهذا موافق للآيات الكريمة من ناحية القصر والتأكيد وذكر المماثلة في البشرية وزاد أمرا آخر من لوازم الطبيعة البشرية فقال: "أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني".
وعن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أنا بشر مثلكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذ فإنما أقطع له قطعة من النار". رواه الجماعة.
وهذا الحديث يوافق الآيات والحديث السابق في استخدام الطريق نفسه والأسلوب عينه وفيه بالإضافة إلى إثبات بشريته نفي علم الغيب عنه وقد تقدم لنا في بحث المسألة الثانية أن عائشة رضي الله عنها استدلت على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرَ ربه بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} رواه مسلم
وعائشة رضي الله عنها أعلم الناس به فلو كان رسول الله غير بشر لقال لها أنا لست بشرا ولأخبرتنا بذلك ولكنا نراها تحتج على عدم رؤيته لربه ببشريته وأن الآية تنطبق عليه والصحابة الكرام كانوا يعلمون أنه بشر وهو يؤكد لهم هذه الحقيقة وهم قد بلغوها إلى التابعين ومن بعدهم يتداولون هذه الحقيقة مؤمنين بها من أعماق القلوب كإيمانهم برسالته وهكذا نقف على هذه الحقائق الثلاث واضحة جليه على ضوء الكتاب والسنة تولى الله بيانها على أبلغ وجوه البيان بشتى الطرق كما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك وليس بعد الحق إلا الضلال وما بعد بيان الله ورسول الله بيان فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر والمرجع إلى الله وحده.
وهو سبحانه سيكافئ ويجازي كل امرئ بما يعتقد وبما يعمل والله نسأل أن يثبتنا على الحق والتمسك بالكتاب والسنة ويتوفانا على ذلك إنه سميع الدعاء.(6/219)
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله وعلى آله وصحبه وسلم.(6/220)
إفك مفترى حول عيسى عليه السلام
للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
نشرت صحيفة الميثاق الأسبوعية التي تصدر في طنجة بالمغرب في عددها رقم 145 من السنة التاسعة كلمة لفضيلة العلامة الشيخ محمد بن عبد السلام كنون رئيس محكمة الاستئناف الشرعي بفاس ذكر فيها أنه وجد في ص 212 من كتاب (التاريخ القديم من عصور ما قبل التاريخ إلى الفتح العربي (للسنة الأولى من القسم الثانوي بالمدارس الإسلامية بالمغرب الذي ألفه الأستاذ إبراهيم بو طالب ومحمد زيبر وعبد العزيز أمين وآخرون والذين نشرته ووزعته دار الثقافة ودار الكتاب بالدار البيضاء، النص التالي (ولد عيسىمن مريم ببيت لحم في أسرة متواضعة حيث كان أبوه نجارا فاشتغل معه صبيا ثم شابا حتى أنزل عليه الوحي الإلهي وسنه سبع وعشرون سنة الخ.
ثم ذكر فضيلة الشيخ محمد بن عبد السلام كنون، أن هذا ولا شك يصادم الكتاب والسنة وما علم مجيئه من الدين بالضرورة أن المعتقد الإسلامي كما هو معلوم أن عيسى وُلِدَ بدون أب ثم قال: ولعل الذين يقولون أن له والدا كان نجارا هم اليهود.
وإني لأشكر فضيلة الشيخ محمد ابن عبد السلام كنون على كلمته القيمة، وغيرته على دين الله جزاه الله خيرا، ونأمل من جميع علماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يكثروا من تفحص ما ينشر أو يقرر من كتب في البلاد الإسلامي، وأن يعلموا على القاء الأضواء على ما قد يدس فيها من إفساد لعقائد أبناء المسلمين.
والواقع أن الناس قد اختلفوا في عيسى بن مريم عليه السلام بعد إطباقهم على أن أمه عندما حبلت به لم تكن متزوجة. فزعم اليهود لعنهم الله أنه ولد زنا وقالوا على مريم بهتانا عظيما، وإلى ذلك يشير الله عز وجل حيث يقول، وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما.(6/221)
وأما النصارى فلم يقل واحد منهم، إنه ابن يوسف النجار، فنص الفقرة (18) من الإصحاح الأول من إنجيل متى يقول ((أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا، لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس)) وتقول الفقرة (27) من الإصحاح الأول من إنجيل لوقا، واسم العذراء مريم، 28 _ فدخل إليها الملاك وقال، سلام لك أيتها المنعم عليها، الرب معك، مباركة أنت في النساء 29 _ فلما رأته اضطربت من كلامه وفكرت ما عسى أن تكون هذه التحية، 30 _ فقال لها الملاك، لا تخافي يا مريم لأنك قد وجدت نعمة الله، 31 _ وها أنت ستحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع، ثم يقول في الفقرة 34 _ من نفس الإصحاح، فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجا، الخ.
غير أن النصارى قد اخترع لهم شاول اليهودي (بولس) الزعم بأن المسيح ابن الله ولم يكن أحد من الحواريين قد سمع من عيسى عليه السلام تقرير هذه البنوة المفتراة.
وقد أشار برنابا في الإصحاح الأول من إنجيله إلى سبب تأليفه وأنه ألفه للرد على شاول الذي ادعى أن المسيح ابن الله فقد جاء في مقدمة برنابا ما يلي: _
أيها الأعزاء إن الله العظيم العجيب قد افتقدنا في هذه الأيام بنبيه يسوع المسيح برحمة عظيمة للتعليم، والآيات التي اتخذها الشيطان ذريعة للتضليل كثيرين ما سوى التقوى مبشرين بتعليم شديد الكفر، داعين المسيح ابن الله، ورافضين الختان الذي أمر به الله دائما مجوزين كل لحم نجس الذي ضل في عدادهم أيضا بولس (شاول) اليهودي الذي لا أتكلم عنه إلا مع الأسى وهو السبب الذي لأجله أسطر ذلك الحق الذي رأيته.
وفي الإصحاح السبعين منه يقول، أجاب يسوع، وما قولكم أنتم فيّ؟ أجاب بطرس: إنك المسيح ابن الله، فغضب حينئذ يسوع وانتهره بغضب قائلا اذهب وانصرف عني لأنك أنت الشيطان، وتريد أن تسيء إليّ.
وفي الإصحاح الثالث والتسعين منه يقول:(6/222)
أجاب الكاهن أن اليهودية قد اضطربت لآياتك وتعليمك حتى أنهم يجاهرون بأنك أنت الله، فاضطررت بسبب الشعب إلى أن آتي إلى هنا مع الوالي الروماني والملك هيرودوس فنرجو من كل قلبنا أن ترضى بإزالة الفتنة التي ثارت بسببك لأن من يقول أنك الله وآخر يقول أنك ابن الله، ويقول فريق أنك نبي، أجاب يسوع وأنت يا رئيس الكهنة لماذا لم تخمد الفتنة وهل جننت أنت أيضا؟ وهل أمست النبوات وشريعة الله نسيا منسيا، أيتها اليهودية الشقية التي ضللها الشيطان ولما قال يسوع هذا عاد فقال: إني أشهد أمام السماء، وأشهد كل ساكن على الأرض أني بريء من كل ما قال الناس عني من أني أعظم من بشر، لأني بشر مولود من امرأة وعرضة لحكم الله أعيش كسائر البشر.
أما المسلمون فيعتقدون أن المسيح عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الله تبارك وتعالى خلقه من غير أب آية للدلالة على عظيم قدرته، وأنه تعالى لا يعجزه شيء، وكما أوجد آدم من غير أب ولا أم، وكذلك أوجد حواء من غير أم، جعل عيسى آية كذلك كما قال عز وجل، إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون، وكما قال وإنه لعلم للساعة ويقول إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل.
وقد أوضح الله تبارك وتعالى في محكم كتابه قصة ولادته حيث قال:(6/223)
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ(6/224)
فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} .
وصلى الله وسلم وبارك على النبي وآله وصحبه وسلم. .(6/225)
الأسوة الحسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم
بقلم الشيخ: محمد المهدي محمود علي
المدرس في دار الحديث بالمدينة التابعة للجامعة
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبي الهدى ورسول الخير والبر، من اصطفاه الله رحمة للعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أما بعد:
فيقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} .
جاء المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى هذا العالم داعيا إلى الله. راسما الطريق إلى رضوان الله ومحبته، رافعا علم التوحيد. موضحا معالم العبودية لذي الجلال والإكرام.
عاش الهادي الأمين صلوات الله وسلامه عليه حياته الطيبة المباركة. مجاهدا. زاهدا. عابدا. مجاهدا أعظم ما يكون الجهاد.
زاهدا أسمى وأصفى ما يكون الزهد.
عابدا أجمل وأحلى ما تكون العبادة والإنابة والخشوع، والخوف من الله ذي الجلال والإكرام. عاش صلوات الله وسلامه عليه. يبلغ في رحمته، ويرسم الطريق إلى الله في رفق وحكمة وتؤدة، داعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، فكان المثل الأعلى في الأدب والكمال. المثل الأعلى في عظمة الأخلاق في كل ناحية من النواحي وفي كل ميدان من الميادين.
أدبه ربنا تبارك وتعالى فأحسن تأديبه وأثنى عليه سبحانه بقوله:
{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .
ومن أجل هذا الاصطفاء الإلهي، والأدب الرباني.(6/226)
من أجل هذا السمو وهذه العظمة. عظمة الأخلاق العالية. كان صلوات الله وسلامه عليه. أسوة كريمة وقدوة حسنة، مثلا أعلى للمؤمنين الذين صفت أرواحهم، وزكت نفوسهم، وطهرت قلوبهم، واطمأنت أفئدتهم، واستنارت ألبابهم، فعاشوا في دنياهم العابرة الفانية. يريدون الله والدار الآخرة، يجمعون الزاد لدار البقاء في جنة الفردوس مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
اتخذوا السبيل إلى الله، وجعلوا الهادي الأمين صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، والقدوة المباركة، للوصول إلى هذه الغاية المنشودة، والسعادة العظمى. سعادة الفوز برضى الحق جل جلاله. قال تبارك وتعالى:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} .
عاش صلوات الله وسلامه عليه حياته المباركة، فملأ الدنيا نورا وخيرا، ورحمة وعدلا، ثم ودعها راحلا إلى الله، يلقى وجه الله الكريم، وما عند الله خير وأبقى. لقد انتقل إلى الرفيق الأعلى بعد أن بلغ الرسالة وأدى الأمانة. ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد. بلغ الرسالة أعظم ما يكون التبليغ.
وأدى الأمانة أكمل ما يكون الأداء، وترك الدنيا وفيها نور التوحيد الصادق، وعبير الإيمان، وكمال الأخلاق، وعطر المحبة، والأخوة في الله ولله، والرحمة الشاملة المباركة في كل ناحية من نواحي الحياة، والعدالة في أسمى صورها ومحاسنها، وأكمل معانيها، وأجمل ثمارها وفوائدها، وبذلك تمت نعمة الله تبارك وتعالى على العوالم كلها.
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} .(6/227)
فارق الرسول صلوات الله وسلامه عليه هذه الدنيا. بعد أن بيّن للمسلمين طريق العظمة والسيادة، والمجد والعزة. بيّن لهم أن القرآن هو نور الله، هو النور الهادي إلى سعادة البشرية في الدنيا والآخرة. السعادة في أتم معانيها، وأكمل صورها.
إن القرآن هو كتاب الله تبارك وتعالى. هو المصباح السماوي الخالد. هو الكتاب المعجز ببلاغته وتشريعاته، وأخبراه، وما كشف من حقائق كونية. إنه هداية الباري جل وعلا. قال سبحانه وتعالى:
{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} .
وكلما تقدم العلم. سجد العلم والكشف والاختراع والابتكار أمام الآيات البينات. أمام آيات الحق جل وعلا.
{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} .
فما بالنا نرى المسلمين اليوم وقد تخلفوا عن ركب الحضارة. تخلفوا عن قيادة توجيه الإنسانية.
ما بالنا نرى المسلمين وقد تفشت فيهم الأمراض الاجتماعية الفتاكة!!! تركوا الحكم بكتاب الله، فحرموا نعمة الهدوء والعيش الآمن الوارف الظلال الطيب الثمار، واحتكموا لغير ما أنزل، واستبدلوا بتشريع الله القوانين الوضعية. التي هي من صنع البشر، فحرموا نعمة العدل السماوي، وعاشوا في شقاء وفوضى واضطراب!!!
خرجت المرأة عن مبادئ العز والشرف والحياء والفضيلة فاضطربت الحياة المنزلية، واهتزت السعادة الزوجية، وأصيبت حياة الأسرة بالفشل والشقاق والنزاع، وحل الخصام محل الوئام وضاع الأطفال الأبرياء!!!(6/228)
استباحوا الكثير مما حرّم الله! فتعاملوا بالربا فزاد فقرهم، وكثر شقاؤهم، وانتزعت البركة من أموالهم، وأصبحوا يتسللون عن طريق القروض الأجنبية.. وهيهات أن يكون فيها خير أو أن يكون فيها بركة بعد أن أعلن الله الحرب على المتعاملين بالربا، وبعد أن لعنهم الرسول صلى الله عليه وسلم. قال الله سبحانه وتعالى:
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. . .} !!
وقال صلى الله عليه وسلم:
"لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهده".
إن المال الحلال الطيب الطاهر. تستجاب به الدعوات، وتنال بطريقه البركات، والخيرات والحسنات، ويتنزل النصر من السموات.
ما بالنا نرى المسلمين اليوم عميت بصائرهم فضلوا سواء السبيل.
1_ حددوا النسل تارة. 2_ وحددوا الملكية تارة أخرى. وكانت ثالثة الأثافي أن حددوا عدد الحجاج إلى بيت الله الحرام!!!
إن تحديد النسل افتراء على الله، وسوء ظن بالرزاق القادر على كل شيء، وليتهم حافظوا على أموال الدولة ولم يبعثروها على أوجه الفساد، تارة في الاعتمادات الضخمة لإعانة الملاهي، وأخرى في استيراد الدخان والخمور، وثالثة في أوجه الكماليات للنساء، فأخرجوهن عن الفطرة السليمة للمرأة الفاضلة العاقلة!!!
وإن تحديد ملكية الأفراد. أكل لأموال الناس بالباطل، وظلم شنيع للأسر الكريمة الفاضلة، واعتداء شنيع على الحرمات!! لقد أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم تحريم ذلك وأكده في خطبته المبراكة في حجة الوداع، تلك الخطبة العظيمة التي هي دستور السعادة الحقة، فقال صلوات الله وسلامه عليه: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. . ." أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبد الله.(6/229)
إن أكل أموال الناس بالباطل ظلما وعدوانا جزاؤه نار جهنم وبئس المصير!
وأما تحديد عدد الحجاج فهو صد عن سبيل الله. . إنه عمل الكفار. قال الله تبارك وتعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} .
إن الحج مصدر الخير والبركة ومغفرة الذنوب وزيادة الرزق، يلجأ فيه الإنسان إلى مولاه ويتعرض لنفحات ربه سبحانه. قال تبارك وتعالى:
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} .
سبحانه هو الغني ونحن الفقراء إلى الله جل شأنه.
وقال صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" وقال صلوات الله وسلامه عليه: "تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب".
وكان مما عظمت مصيبته أن خدع بعض المسلمين بالمذاهب الضالة، خدعوا بالشيوعية، وبالاشتراكية وبالوجودية والماسونية الخ. . .(6/230)
إن الاشتراكية ضلال وإلحاد وكفر وزندقة ومروق إن أصولها خبيثة. إن نباتها سام. إنها شجرة الزقوم. إنها لا تعترف بدين ولا بخلق، ولا بحساب وبعث. إن الاشتراكية سراب خادع. يحسبه الظمآن ماء. إنها بيت العنكبوت. إنها ظلمات بعضها فوق بعض هكذا أثبتت التجارب، وهكذا أثبت الواقع الواضح، وإن الإسلام دين الرحمة والأخوة، والسماحة والوفاء. إن الإسلام دين الإيثار، والمحبة لله ومن أجل الله رجاء رضوان الحق تبارك وتعالى. والمسلم الحق يتحلى بالأخلاق الكريمة، ينفق في سخاء، ويتصدق عن رضاء ومحبة يعمل ويكدح. يبتغي من رزق الله ولا يرضى لنفسه الخسة والدناءة. همته عالية، وإيمانه قوي، فهو رجل الحياة بحق _ أما الشيوعيون وأذنابهم الاشتراكيون فهم حيوانات سائمة فقدوا إنسانيتهم وفقدوا كرامتهم. فهم عبيد مسخرون لعبادة أشخاص أصحاب مبادئ ضالة أردتهم في أسوأ نهاية ثم لهم جهنم وبئس المصير!!!
ثم ما كان من أمر أجهزة الإعلام، لقد انحرفت عن رسالتها وأصبحت أداء لنشر الأغاني الخليعة. الفاجرة الماجنة. التي تحطم أقدس معاني الشرف والحياء والفضيلة ومكارم الأخلاق. إن أذناب المدرسة الاستعمارية الإلحادية لا زالت لهم بقايا تشرف على توجيه الإذاعة و ((التلفزيون)) والصحافة. توجهها نحو مظاهر الانحلال الخلقي الجامح العنيف. لا زالت جادة في المسير نحو التغني بالمرأة ومحاسنها ومفاتنها وإشاعة الفساد الخلقي, فانحرف الشباب وضلت المرأة وانحط المستوى الخلقي للشعوب والجماعات!!!
كل هذه مظاهر واضحة لترك المسلمين مصادر النور والخير، والسعادة والهداية والفضيلة والشرف، مصادر النور التي تتمثل في كتاب الله، وكتاب الله نور من الله {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} تتمثل في هدي الرسول صلى الله عليه وسلم والمصطفى هو السراج المنير.
{وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} .(6/231)
تتمثل فيما كان عليه صحابة المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم، وهم الغر الميامين، النجوم الزاهرة. المثل العليا، والنماذج الصادقة للعمل بنور الله تبارك وتعالى، وهدي السراج المنير صلى الله عليه وسلم.
إن العلاج لتخلف المسلمين وضعفهم وتشتتهم وتفرق كلمتهم وهزائمهم الفادحة وتهافتهم على تقليد الأجانب في الجانب الخلقي الهدام.
إن العلاج واضح إنه يتمثل في العودة الكريمة لمصادر النور والخير والنصر والهداية.
وفي هذه الأيام بزغ نجم جديد في سماء المعرفة الإسلامية. نجم قوي لامع. نجم الجامعة الإسلامية فقد قامت الجامعة الإسلامية تؤدي دورها العلمي في أمانة وقوة.
تؤدي دورها الإيجابي البنّاء. في إعادة مجد الإسلام، وعزة المسلمين.
تؤدي الجامعة رسالتها. بتوجيه شيخ مبارك، وعالم جليل ورع زاهد، وهب حياته للعلم، ونصح المسلمين. لا يخشى في الله لومة لائم. ضرب مُثُلا عالية في الكرم، والسماحة، والنبل، وعلو الهمة. هدفه في الحياة. عودة المسلمين إلى كتاب الله تبارك وتعالى، وسنة المصطفى الهادي الأمين صلى الله عليه وسلم. وما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم. . .
تؤدي الجامعة الإسلامية رسالتها. بمساعدة الملك المحبوب فيصل بن عبد العزيز حفظه الله ورعاه وكتب على يديه إعادة مجد الإسلام والعروبة تنبعث هاتك الرسالة. رسالة الجامعة الإسلامية. رسالة العلم والنور والهداية، وتسير شرقا وغربا. على يد طلاب علم بررة صلحاء، جاءوا ينهلون العلم من مشارق الأرض ومغاربها، وبذلك أصبحت الجامعة الإسلامية. مركز إشعاع لنور الإسلام، وتعاليم القرآن، وهدى الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم.(6/232)
فيا أبناء الجامعة الإسلامية هذا قبس من نور رسالة الجامعة فتقدموا في إيمان وقوة وعزم وكفاح. لحمل راية الجهاد المبارك في نشر رسالة الإسلام. بلغوا أمانة العلم التي تحملتموها، وكان لكم شرف الانتساب إليها.
تزودوا من العلم إلى أبعد الحدود، وجدوا ليلا ونهارا في الارتشاف من رحيق العلم، واحرصوا على إجادة كتاب الله. إجادة تامة، واستذكروا كلام الله سبحانه، فهو الخير والهدى والفلاح، واقرءوا دائما في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحاديثه المباركة. تنالوا شرف الأسوة الطيبة بالمصطفى صلى الله عليه وسلم، وإن تاريخ الصحابة رضوان الله عليهم، واضح مشرق. عظيم السنا والسناء. ينزل على القلوب، فيهديها إلى شرف القدوة بالرسول صلى الله عليه وسلم.
يا أبناء الجامعة _ إنكم ستجدون في كثير من البلاد تركة مثقلة خلفها الاستعمار، والكفار، وأعداء الله. في عصور ضعف المسلمين.
لقد عمل المستعمرون على الحيلولة بين المسلمين وبين التفقه في دينهم، فحاربوا كتاب الله، وحاربوا اللغة العربية. لغة القرآن والإسلام، واضطهدوا العلماء الأجلاء، ونشروا الفسق والفجور والخمور، وجردوا المرأة من ثياب الحياء والشرف، وفتحوا مدراس التبشير والكنائس، وجعلوا المستشفيات أوكارا خبيثة للتبشير والصليبية، ونشروا الإلحاد والكفر والزندقة!!! ودنسوا المعاملات المالية بالربا وحكموا بالقوانين الوضعية ومولوا أجهزة الإعلام لنشر الفساد الخلقي!! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فيا أبناء الجامعة. . أنتم حملة المشاعل المقدسة فتقدموا لشرف الجهاد، واعتصموا بحبل الله المتين وجاهدوا كما جاهد العلماء الأبرار، واسلكوا طريق الهداة المرشدين. في العناية بكتاب الله، والدعوة إلى هداية السماء، والتهجد بالقرآن، ونشر العلم في المساجد ولا سيما في شهر رمضان المبارك.(6/233)
لقد كان العلماء في عصورهم الزاهية _ ولا زالوا _ ينتشرون في أنحاء البلاد ينيرون للناس السبيل إلى الله، ويبصرونهم بكتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتاريخ السلف الصالح. في أخلاقهم وخوفهم من الله. في بطولتهم، وشجاعتهم. في حبهم لما عند الله، وإنابتهم إلى الله، ومجافاتهم لدار الغرور. كان العلماء يبلغون الرسالة في أمانة وخوف وخشية من الله.
تراهم. فترى فيهم نور القرآن، وجمال العلم، وأدب الإسلام، وشعار الفضيلة. ترى حسن الصلة بالله وبالناس، فسعد بهم العالم، وعرف عن طريقهم هداية القرآن، وما جاء به المبعوث رحمة للعالمين.
عرفت المجتمعات الإسلامية. المبادئ الإنسانية السامية، وَوَضَح لها الحلال الطيب من الحرام الخبيث، فكان هناك الأمن الشامل، والسعادة الوارفة الظلال، فساد الهدوء والإخاء، والمحبة والتعاون، والورع والعفة، والفضيلة والحياء، وحب الخير والإيثار، والتعاون على البر والتقوى. تنبعث كل هاتيك الصفات من صدور مشرقة بنور الإيمان وصفاء اليقين. الله أكبر لقد عرفت الأمة عن طريق ورثة الأنبياء. السبيل إلى الله والدار الآخرة والصراط المستقيم. الموصل إلى الفوز بجنة الفردوس في دار الخلود.
إعلان
أنا طه محمد الزيني محقق كتاب الإمامة والسياسة الذي نشرته مؤسسة الحلبي بالقاهرة. أعلن للناس جميعا أنني غير راضٍ عما في هذا الكتاب من كل رأي يخالف رأي أهل السنة والجماعة وعن كل ما ورد فيه ماسا ببعض الصحابة والتابعين أو ما يفهم منه نصرة طائفة على طائفة بغية التفريق بين المسلمين.(6/234)
كما أعلن أن هذا الكتاب ليس من تأليف ابن قتيبة وقد شرحت ذلك وبينته في المقدمة التي قدمت بها لهذا التحقيق ولكن الطابع أضاعه ولم يظهر في الكتاب ولم أستطع مقاضاته لعدم وجود مستند تحت يدي على تسليمه هذه العبارات فأرجو من كل من اطلع أو يطلع عليه أن يعتقد براءتي من كل ما فيه من سوء والله أسأل أن يديم تثبيتي على العقيدة الصحيحة ويوفقني والمسلمين إلى ما يحبه ويرضاه.
طه الزيني(6/235)
المركز الثقافي الإسلامي باسكندنافية
النظام الأساسي
1- الأهداف
المركز الثقافي الإسلامي باسكندنافية مؤسسة مستقلة مهمتها تنمية الروابط الروحية للمسلمين المقيمين هنا وفي نفس الوقت إبراز التفاهم المتبادل والصداقة بين الاسكندنافيين والعالم الإسلامي.
كما أن من أهدافه أن يكون مكانا للالتقاء الثقافي والاجتماعي للمسلمين ولغيرهم من المهتمين.
2- المقر
المقر الرئيسي للمركز مدينة كوبنهاجن، وتنشأ فروع له في أماكن أخرى حسب الحاجة داخل اسكندنافيا وأيسلندا.
3- النشاطات
يقوم المركز بالواجبات الآتية طبقا لروح الإسلام العامة:
1- نشر الثقافة الإسلامية وإبراز فلسفة الإسلام وحضارة.
2- إنشاء مسجد أو أكثر والقيام بصيانتها حسب الحاجة والإمكانيات وإنشاء مكتبة بكل منها تحتوي مؤلفات عن الثقافة الإسلامية وفلسفتها وعن الدول والشعوب الإسلامية.
3-تنظيم دروس لتعليم اللغة العربية وأصول الدين لأبناء المسلمين.
4- تنظيم المؤتمرات والندوات ودوائر الأبحاث والمحاضرات والمعارض وتعليم اللغات.
5- فتح فروع للمركز في أماكن أخرى داخل اسكندنافيا وأيسلندا حسب الحاجة والإمكانيات.
6- إصدار نشرة دورية،
7- التعاون مع كل من يرغب في التعاون مع المركز في روح من الأخوة الإنسانية والصداقة.
4- الإدارة
أولا - اللجنة الشرفية: تتكون من رؤساء البعثات الدبلوماسية للدول الإسلامية المعتمدين في كوبنهاجن، وللجنة الشرفية الصلاحيات الآتية:
1- تعيين رئيس اللجنة العاملة.
2- البت في اقتراح رئيس اللجنة العاملة حول اختيار أعضائها وتعيين أعضاء آخرين فيها حسب الحاجة.
3- اعتماد ميزانية المركز ومراقبة حساباته.
4- إسداء النصح والتوجيه للجنة العاملة مع مراعاة تحقيق أهداف المركز.(6/236)
5- دراسة المشروعات الهامة وتقدير قيمتها وأتعابها وطريقة صرف أموالها.
وتجتمع اللجنة الشرفية مرتين في السنة على الأقل، وخلاف ذلك بناء على طلب اثنين على الأقل من أعضائها أو بناء على طلب رئيس اللجنة العاملة.
ويجب الدعوة كتابيا إلى الاجتماعات الدورية والهامة قبل الموعد بأسبوعين على الأقل، ويمكن الاستثناء من هذه القاعدة في حالة اتفاق جميع أعضاء اللجنة الشرفية المقيمين في كوبنهاجن على ذلك.
وتتم الموافقة على القرارات الهامة بأغلبية ثلثي الحاضرين على الأقل، أما القرارات الأخرى فيتم الموفقة عليها بالأغلبية العادية.
ثانيا- رئيس اللجنة العاملة: يعين رئيس اللجنة العاملة بواسطة اللجنة الشرفية، ويجب أن يكون من الشخصيات الإسلامية ذات السيرة الحسنة، ويفضل أن يكون اسكندنافي الأصل. ويقوم بالواجبات الآتية:
1- هو المتحدث الرسمي باسم المركز ويمثله أمام الجهات الرسمية والرأي العام وأمام المنظمات والمؤسسات بتفويض من اللجنة الشرفية.
2- يقوم بتوقيع جميع المستندات والمراسلات نيابة عن المركز (أنظر فقرة 6) .
3- يقترح تعيين أعضاء اللجنة العاملة. (أنظر المادة 4أولا فقرة2) .
4- يرأس اجتماعات اللجنة العاملة.
5- يقوم بتوزيع العمل بين أعضاء اللجنة العاملة ويعين من بينهم أمين الصندوق والسكرتير ورئيس اللجنة الثقافية بالتشاور مع اللجنة الشرفية.
6- يمكنه إسناد بعض واجباته عند الضرورة إلى أحد أعضاء اللجنة العاملة.
ثالثا- اللجنة العاملة: يتكون أعضاؤها من أشخاص ذوي سيرة حسنة يؤمنون بأهداف المركز ويسعون بنشاط إلى تحقيقها. ويقترح رئيس المركز تعيين الأعضاء وتعتمدهم اللجنة الشرفية.
ويمكن أن يعين أعضاء جدد مباشرة بواسطة اللجنة الشرفية. (أنظر المادة 4 أولا فقرة 2) .
وتقوم اللجنة بممارسة نشاطات المركز وتسيير أعماله.
5- المالية(6/237)
يمول المركز من وسائل دخل على صورة هبات أو ما شابه ذلك، وتوضع الأموال في حساب في المصرف باسم المركز الثقافي الإسلامي ويتم الصرف عن طريق توقيع مشترك من الرئيس وأمين الصندوق في المبالغ التي لا تزيد عن عشرة آلاف كرون دانمركي.
يقوم رئيس اللجنة الشرفية بإبلاغ المصرف في حالة تغيير الرئيس أو أمين الصندوق أو غياب أحدهما.
تُعد اللجنة العاملة الميزانية ويقوم أمين الصندوق بعمل الحسابات ويتم مراجعتها بواسطة محاسب قانوني.
6- أملاك المركز
بما في ذلك الأموال العقارية تعتبر وقفا إسلاميا، وفي حالة حل المركز تصبح وقفا إسلاميا تؤول إدارته إلى الحرم المكي الشريف.
يجب توقيع الرئيس وأمين الصندوق مجتمعين في حالة شراء أو بيع أو رهن العقارات إن وجدت بموافقة اللجنة الشرفية.
تمت مناقشة هذا النظام وإقراره في الاجتماع الذي عقد بمنزل السفير المغربي بكوبنهاجن مساء يوم 21 رمضان 1391هـ الموافق 9 نوفمبر 1971م.(6/238)
أولياء الله
للدكتور طه الزيني
المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة
معنى الولي:
يطلق لفظ الولي في اللغة ويُراد منه القريب والصديق، والحبيب، والنصير، وعلى غير تلك من المعاني التي وردت في القرآن العظيم وفي الحديث النبوي الشريف، ولكن المعاني التي يستعمل فيها لفظ الولي تدور على معنى واحد هو القرب.
وعلى ذلك فمعنى ولي الله، القريب إلى الله، وأولياء الله هو القريبون منه، والقرب من الله لا يتحقق إلا إذا تحلى المؤمن بصفات الكمال الإيماني، بأن يؤمن بالله وبمن أرسله من الرسل وما أنزله من الكتب، وبالملائكة، وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره وبأن الله هو الفاعل لكل شيء، وأن يتقي الله، بأن يجعل بينه وبين مخالفة الله وقاية وحاجزا يمنعه من المخالفة فيتبع الأوامر، ويجتنب النواهي، وبذلك يحفظه الله من الخوف ومن الحزن ومن العذاب. وعلى ذلك جاء قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وهؤلاء الأولياء يحبهم الله ويدافع عنهم وقد ورد في الحديث القدسي الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه "يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه، وما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما فرضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش وبي يسعى"-الحديث، وفيه أن الله يجيب هذا الولي إذا دعاه ويعيذه من الشرور إذا استعاذ به، وعلى(6/239)
العموم يطمئن ويمنع الخوف عنه والحزن والشر.
وأولياء الله قسمان: مقتصدون يتقربون إلى الله بفعل الواجبات، وسابقون يتقربون إلى الله بالنوافل بعد الواجبات، مكثرين من عمل النوافل حتى يحبهم الله.
وهؤلاء الأولياء الذين يحبهم الله ويدافع عنهم قد يظهر على أيديهم أو بسببهم أعمالا خارقة للعادة تدل على رضاه عنهم وإكرامه لهم وقد ثبت لأوليائه كرامات عرفها الناس وورد بها القرآن الكريم.
نماذج من الكرامات
1-من ذلك ما ورد في قوله تعالى عن مريم عليها السلام: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} الآية (37) من سورة آل عمران.
2-ومن ذلك ما حدث لأهل الكهف الذين كانوا يعبدون الله، اضطهدهم ملكهم هم وغيرهم من المؤمنين بالله، فخرجوا من مدينتهم لا يقصدون مكانا (معينا) بعينه حتى وجدوا غارا فدخلوا فيه، فناموا ثلاثمائة سنة وتسع سنين، ثم أحياهم الله بعد ذلك ليكون أحياؤهم عبرة لمن لا يعتقد بقدرة الله، وإكرامه لأوليائه.
3-ومن ذلك ما أجراه الله تعالى على يد الذي عنده علم من الكتاب لما طلب سليمان عليه السلام أن يأتيه أتباعه بعرش الملكة بلقيس، وكان الجن مسخرين له، وهم يقدرون على ما لا يقدر عليه الإنس، فتفوق الإنسي الولي على الجن، إذ قال عفريت من الجن لسليمان أنا آتيك بعرشها قبل أن تقوم من مقامك. وقال الولي الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يعود إليك بصرك.(6/240)
4-ومن ذلك سماع سارية قائد المسلمين وهو بخراسان قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يا سارية الجبل"وعمر رضي الله عنه بالمدينة وكان في ذلك نصر المسلمين، لأن الجبل حمى ظهورهم من العدو [1] .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] يتضح من البحث أن الولاية قرينة التقوى والتزام مرضاة الله. . وبذلك يخرج من حيز الولاية كل من تجرد من التقوى والالتزام، فلاحظ، إذن في الولاية للدجالين الذين يدعون -أو يدعى لهم -الوصول إلى التحرر من التكاليف الشرعية! . . (المجلة)(6/241)
أين التقدم؟ !
للشيخ عبد الله قادري
المشرف الاجتماعي بالجامعة
ماذا وراء تخرج وتعلم
في عالم متحضر متقدم
شاد القصور فطاولت شرفاتها
سحب السماء لزينة وتنعم
ومضى يشق بأرضه طرقاتها
فغدت مذللة لكل ميم.
وبني جواري كالجبال مواخرا
غواصة في قعر بحر مظلم.
وغدا الحديد الصلب طوع بنانه
بسهولة تبدو كنوع توهم
وغزا الكواكب خاطرا متبخترا
ومضحيا بالنفس دون تلعثم
بل قرب الزمن البعيد لناظر
ومسافر ولهامس متكلم
وانساح في الأرض البسيطة كاشفا
أسرارها سعيا وراء تقدم
صنع السلاح قنابلا ومدافعا
وبنادقا وصوارخا لم ترحم
وتبددت ظلمات ليل حالك
بكواشف لألاءة كالأنجم
ولمَ التوجع والحضارة أسفرت
عما ذكرت من الثناء القيم
بل ما وظيفة عالم متنسك
في عالم متمدن متقدم
هذا سؤال القاصرين أصوغه
وجوابه متيسر للمسلم
قف فوق طود شريعة ميمونة
وانظر إلى ما تحته وترحم
سترى الجحود لخالق ورسالة
ولما يغيب كجنة وجهنم
وترى من الإشراك أمرا هائلا
:للقبر، للأبقار، للطاغي العمى
والجاحدون لربهم عبدوا الذي
أغوى، كماركس، وماو المجرم
وترى القوي له حقوق جمة
وترى الضعيف مسفها لم يكرم
والعهد عند المستفيد معظم
ولدى سواه محقر لم يبرم
وترى الخيانة عادة قد أصبحت
في القوم دون تحسر وتندم
وعلى الحطام تقاتلوا بشراسة
مثل القرود تهارشت للمغنم
وغدا السلاح كلعبة الأطفال في
أيدي قساة لم يبالوا بالدم
قتلوا الشعوب بقتلهم للمصلحين
من الرجال ونصرهم للمجرم
وبنهب خيرات البلاد وجعلها
تحت الوصاية والحصار المحكم
ويجعل أبناء الشعوب نفوسهم
أدوات إفساد وفكر مظلم
يستبدلون بعزهم وثرائهم
ذلا وفقرا مدقعا لم يفصم(6/242)
وغدت عقولهمو أسيرة خمرة
_ وهمو عبيد الموسمات _ ودرهم
وترجل الجنس اللطيف مخلفا
فينا شبابا للأنوثة ينتمي
فترى الفتى متسترا لكعوبه
متخنفسا متمايلا كالأيم
وترى الفتاة بجنبه قد أسفرت
عن جسمها الفتان دون تبرم
مسخ لعمري قد أحاط بجيلنا
فهوى بقعر رذيلة لم يعلم
والمسلمون تحاسدوا وتفرقوا
في الدين للدنيا وعاجل مغنم
والنزر منهم واقف لا ينثني
عن نصر دينه بالوجاهة والدم
وهنا يكون سؤلنا متوجها
: ماذا وراء تخرج وتعلّم؟!
أين التقدم والحضارة يا أخي
بل أين ناس ينتمون لآدم
أين التقدم والخلائق تصطلي
نار الشقاء وحسرة المتندم
هذا فساد بالغ متأصل
يرنو إليك يراك خير مرمم
فاضرب بسهم في سهام أئمة
سبقوك في هذا السبيل القيم
وافتح مغاليق القلوب لتهتدي
بشريعة الهادي الرسول الأكرم
وادع العباد بحكمة وترفق
فالرفق للقلب المريض كبلسم
وأبِنْ لهذا الجيل زائف عصره
فالجيل لم يفتأ بليل مظلم
وأبِنْ محاسن ديننا متوسلا
بأصوله والواقع المتحتم
فمذاهب الأرض الوضيعة جربت
وبدت مرارتها كطعم العلقم
وشريعة الإسلام أضحى أهلها
إذ حكموها في الملا كالأنجم
وأبدأ بنفسك صائغا وممرنا
لتكون عالية المرام وتمّم
وبدولة البيت الصغيرة فاهتمم
فهي النواة لأي شعب تنتمي
وانشر رسالتك التي كلفتها
في كل صقع واغد خير معلم
واختر ذوي الهمم العظام وحطهمو
بعناية قصوى وقلب مفعم
فهم الذين سيصبحون مشاعلا
لبناء هذا العلم المتحطم
ويجددون بعلمهم وببأسهم
مجدا تليدا شامخا للمسلم
واحذر من اليأس المثبط آملا
نصر الإله وللنهاية صمم
واحذر ولاء الكافرين وخبثهم
على إلهك فاعتمد واستعصم
واذكر بلاء الأنبياء وغيرهم
في الله دون تقاعس، وتقدّم(6/243)
وإذا أردت حياة عز دائم
فأعد نفسك للوطيس إذا حمى
واصبر إذا نزل البلاء مراقبا
برد الجنان وصرف حر جهنم
والموت في الوقت المحدد زاحف
فاختر لنفسك موت ذي البأس الكمي
وأرِ العدو تصبرا وتجلدا
وثبات أطواد أمام تهجم
وإذا رأيت المبطلين تجرؤوا
وتظاهروا بتعجرف وتعظم
فاعلم بقرب زوالهم واعزم على
تحطيم ما قد شيدوه وهدم
والنصر للدين الحنيف محقق
للقائمين بحقه المتحتم
ولسوف تشرق شمسه في حينها
لتضيء درب جماعة لم تسأم
هذي وظيفتنا وذاك مجالها
يا ويل كل مفرط مستسلم(6/244)
العدد 17
فهرس المحتويات
1- رفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
2- من أعلام المحدثين - علي بن المديني 161 - 234 هـ: للشيخ عبد المحسن العباد
3- أضواء من التفسير: لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
4-حول الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في العصر الحديث: بقلم الشيخ محمد المهدي محمود
5- من الصحف والمجلات - ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون: إعداد العلاقات العامة
6- إلى البابا بولس السادس عظيم أهل ملته: بقلم الشيخ محمد مهدي استانبولي
7- الزي الإسلامي للمرأة ومزاياه: بقلم الدكتور فاروق محمود ساهل
8- الإسلام والحياة - فريضة التفكير في الإسلام: بقلم الشيخ: أحمد عبد الرحيم السايح من علماء الأزهر
9- محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم: بقلم الشيخ محمود عبد الوهاب قايد
10- المسؤولية في الإسلام مسؤولية الرجل: للشيخ عبد الله قادري
11- متى …متى! : للشيخ محمد المجذوب
12- التطور البلاغي لمبحث الفصل والوصل: بقلم الأستاذ عبد الله عبد الرحيم عسيلان
13- هل وجود السينما في هذه البلاد ضرورة؟ : عبد الرحمن سيف
14- الإيمان نصر: للشيخ أحمد مختار البزرة
15- إلى رياض العلم: للطالب عبد الله عارف الحسن
16- الصفحة الأدبية: لأبي عاصم
17- من هو الناقد الأدب: بقلم الطالب عبد الرحمن الأنصاري
18- الوجه الحقيقي للإسلام: للطالب عبد الله عثمان الكوكي
19- الشباب دعامة المستقبل: بقلم عبد العزيز يوسف بهزاد
20- أخبار الجامعة
21- يستفتونك: يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(6/245)
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب
لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي المدرس بالجامعة
سورة الجمعة
قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} - فيه الإشكال والجواب مثل ما ذكرنا آنفا في قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .
قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} الآية. لا يخفى أن أصل مرجع الضمير هو الأحد الدائر بين التجارة واللهو لدلالة لفظة أو على ذلك ولكن هذا الضمير رجع إلى التجارة وحدها دون اللهو فبينه وبين مفسره بعض منافاة في الجملة. والجواب أن التجارة أهم من اللهو وأقوى سببا في الانفضاض عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم انفضوا عنه من أجل العير، واللهو كان من أجل قدومها مع أن اللغة العربية يجوز فيها رجوع الضمير لأحد المذكورين قبله.. أما في العطف فواضح لأن الضمير في الحقيقة راجع إلى الأحد الدائر الذي هو واحد لا بعينه. كقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً}
وأما الواو فهو فيها كثير. ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا} الآية - وقوله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} - وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا} الآية - وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْه} الآية - ونظيره من كلام العرب قول نابغة ذبيان: -
وقد أراني ونعما لاهيين بها
والدهر والعيش لم يهمم بامرار
سورة المنافقون(6/246)
قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} الآية. هذا الذي شهدوا عليه حق لأن رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم حق لا شك فيها وقد كذبهم الله بقوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون، مع أن قوله والله يعلم أنك لرسوله كأنه تصديق لهم.
والجواب أن تكذيبه تعالى لهم منصب على إسنادهم الشهادة إلى أنفسهم في قولهم نشهد وهم في باطن الأمر لا يشهدون برسالته بل يعتقدون عدمها أو يشكون فيه كما يدل للأول قوله تعالى: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} إلى قوله: {وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} . ويدل للثاني قوله تعالى: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية ظاهر هذه الآية الكريمة أنه لا يغفر للمنافقين مطلقا وقد جاءت آية توهم الطمع في غفرانه لهم إذا استغفر لهم رسوله صلى الله عليه وسلم أكثر من سبعين مرة. وهي قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}
والجواب أن هذه الآية هي الأخيرة بينت أنه لا يغفر لهم على كل حال لأنهم كفار في الباطن.
سورة التغابن
قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم} تقدم رفع الإشكال بينه وبين قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} في سورة آل عمران
سورة الطلاق
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} . الآية. ظاهر في خصوص الخطاب به صلى الله عليه وسلم وقوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ} الآية يقتضي خلاف ذلك.
والجواب هو ما تقدم محررا في سورة الروم من أن الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم حكمه عام لجميع الأمة.(6/247)
قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأََنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً} .
أفرد الضمير في هذه الآية في قوله يؤمن وقوله يعمل وقوله يدخله وقوله، وجمع في قوله خالدين.
والجواب أن الإفراد باعتبار لفظ من والجمع باعتبار معناها وهو كثير في القرآن العظيم. وفي هذه الآية الكريمة رد على من زعم أن مراعاة المعنى لا تجوز بعدها مراعاة اللفظ لأنه في هذه الآية راعى المعنى في قوله خالدين ثم راعى اللفظ بعد ذلك في قوله قد أحسن الله له رزقا.
سورة التحريم
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِي} مع قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} يجري فيه من الإشكال.
والجواب ما تقدم في سورة الطلاق
قوله تعالى: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} – لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من أن المرأة ليست من الرجال وهو تعالى لم يقل من القانتات.
والجواب هو إطباق أهل للسان العربي على تغليب الذكر على الأنثى في الجمع فلما أراد أن يبين أن مريم من عباد الله القانتين وكان منهم ذكور وأناث غلب الذكور كما هو الواجب في اللغة العربية ونظير قوله تعالى: {إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} . وقوله: {إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} .
سورة الملك
قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} ظاهر هذه الآية الكريمة يدل على أنهم ما كانوا يسمعون في الدنيا ولا يعقلون وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً} .
وقوله: {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} .(6/248)
وقد قدمنا الجواب عن هذا محررا في الكلام على قوله صم بكم وعلى قوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً} الآية.
سورة القلم
قوله تعالى: {لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} . الآية. تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء} . الآية.
سورة الحاقة
قوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} تقدم رفع الإشكال بينه وبين الآيات الدالة على أن الظن لا يغني من الحق شيئا في الكلام على قوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} في سورة البقرة قوله تعالى: {وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} ظاهر هذا الحصر أنه لا طعام لأهل النار إلا الغسلين وهو ما يسيل من صديد أهل النار على أصح التفسيرات كأنه فعلين من الغسل لأن الصديد كأنه غسالة قروح أهل النار أعاذنا الله والمسلمين منها. وقد جاءت آية أخرى تدل على حصر طعامهم في غير الغسلين وهي قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ} وهو الشبرق اليابس على أصح التفسيرات ويدل لهذا قوله أبي ذؤيب:
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى
وصار ضريعا بان عنه النحائص(6/249)
وللعلماء عن هذا أجوبة كثيرة أحسنها عندي اثنان منها ولذلك اقتصرت عليهما الأول- أن العذاب ألوان والمعذبون طبقات فمنهم من لا طعام له إلا من غسلين ومنهم من لا طعام له إلا من ضريع، ومنهم من لا طعام له إلا الزقوم ويدل لهذا قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} . الثاني – أن المعنى في جميع الآيات أنهم لا طعام لهم أصلا لأن الضريع لا يصدق عليه اسم الطعام ولا تأكله البهائم فأحرى الآدميون، وكذلك الغسلين ليس من الطعام فمن طعامه الضريع لا طعام له ومن طعامه الغسلين كذلك. ومنه قولهم فلان لا ظل له إلا الشمس ولا دابة له إلا دابة ثوبه يعنون القمل ومرادهم لا ظل له أصلا ولا دابة له أصلا وعليه فلا إشكال والعلم عند الله تعالى.
سورة سأل سائل
قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} .
تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله في يوم كان مقداره ألف سنة وقوله: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} في سورة الحج وقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأَُخْتَيْنِ} في سورة النساء.
سورة نوح
قوله تعالى: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} هذه الآية الكريمة تدل على أن نوحا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عالم بما يصير إليه الأولاد من الفجور والكفر قبل ولادتهم وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله كقوله: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} وكقول نوح نفسه فيما ذكره الله عنه في سورة هود: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} . الآية.(6/250)
والجواب عن هذا ظاهر وهو أنه علم بوحي من الله أن قومه لا يؤمن منهم أحد إلا من آمن كما بينه بقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَن} . الآية.
سورة الجن
قوله تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} – لا يعارض قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} لأن القاسط هو الجائر والمقسط هو العادل فهما ضدان.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ} . الآية. أفرد الضمير في قوله له وجمع قوله خالدين.
والجواب هو ما تقدم من أن الإفراد باعتبار لفظ من والجمع باعتبار معناها وهو ظاهر.
سورة المزمل
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً} . وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ} إلى قوله: {وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} الآية يدل على وجوب قيام الليل على الأمة لأن أمر القدوة أمر لاتباعه. وقوله: {وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} دليل على عدم الخصوص به صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الله ما يدل على خلاف ذلك في قوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} . وقوله: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} . والجواب ظاهر وهو أن الأخير ناسخ للأول ثم نسخ الأخير أيضا بالصلوات الخمس.
قوله تعالى: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً} . لا يعارض قوله: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} لأن قوله وكانت الجبال كثيبا مهيلا تشبيه بليغ والجبال بعد طحنها المنصوص عليه بقوله وبست الجبال بسا تشبه الرمل المتهايل وتشبه أيضا الصوف المنفوش.
سورة المدثر(6/251)
قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} . الآية تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} الآية.
سورة القيامة
قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} . لا يعارض إقسامه به في قوله: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} . والجواب من وجهين:
أحدهما أن لا نافية لكلام الكفار.
الثاني أنها صلة كما تقدم وسيأتي له زيادة إيضاح إن شاء الله تعال.
قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}
سورة الإنسان
قوله تعالى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} . لا يعارضه قوله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} الآية ووجه الجمع ظاهر وهو أنهما جنتان أوانيهما وجميع ما فيهما من فضة، وأخريان أوانيهما وجميع ما فيهما من ذهب والعلم عند الله تعالى.
سورة المرسلات
قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} .
هذه الآية الكريمة تدل على أن أهل النار لا ينطقون ولا يعتذرون وقد جاءت آيات تدل على أنهم ينطقون ويعتذرون. كقوله تعالى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} . وقوله: {فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ} . وقوله: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً} . وقوله: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ} وقوله: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} إلى غير ذلك من الآيات.
والجواب عن هذا من أوجه:
الأول: أن القيامة مواطن ففي بعضها ينطقون وفي بعضها لا ينطقون.
الثاني: أنهم لا ينطقون بما لهم فيه فائدة ومالا فائدة فيه كالعدم.(6/252)
الثالث: أنهم بعد أن يقول الله لهم اخسئوا فيها ولا تكلمون ينقطع نطقهم ولم يبق إلا الزفير والشهيق. قال تعالى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ} . وهذا الوجه الثالث راجع للوجه الأول.
سورة النبأ
قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} تقدم وجه الجمع بينه هو والآيات المشابهة له كقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} مع الآيات المقتضية لدوام عذاب أهل النار بلا انقطاع كقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدا} في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّه} الآية فقد بينا هناك أن العذاب لا ينقطع عنهم وبينا وجه الاستثناء بالمشيئة وأما وجه الجمع بين الأحقاب المذكورة هنا مع الدوام الأبدي الذي قدمنا الآيات الدالة عليه فمن ثلاثة أوجه:(6/253)
الأول: وهو الذي مال إليه ابن جرير وهو الأظهر عندي لدلالة ظاهر القرآن عليه هو أن قوله لابثين فيها أحقابا متعلق بما بعده أي لابثين فيها أحقابا في حال كونهم لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا فإذا انقضت تلك الأحقاب عذبوا بأنواع أخر من أنواع العذاب غير الحميم والغساق ويدل لهذا تصريحه تعالى بأنهم يعذبون بأنواع أخر من أنواع العذاب غير الحميم والغساق في قوله: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} . وغاية ما يلزم على هذا القول تداخل الحال وهو جائز حتى عند من منع ترادف الحال كابن عصفور ومن وافقه. وإيضاحه أن جملة: لا يذوقون: حال من ضمير اسم الفاعل المستكن ونعني باسم الفاعل قوله لابثين الذي هو حال ونظيره من اتيان جملة فعل مضارع منفي بلا حالا في القرآن قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} أي في حال كونكم لا تعلمون.
الثاني: أن هذه الأحقاب لا تنقضي أبدا رواه ابن جرير عن قتادة والربيع بن أنس وقال إنه أصح من جعل الآية في عصاة المسلمين كما ذهب إليه خالد بن معدان.
الثالث: أنا لو سلمنا دلالة قوله أحقابا على التناهي والانقضاء فإن ذلك إنما فهم من مفهوم الظرف والتأبيد مصرح به منطوقا والمنطوق مقدم على المفهوم كما تقرر في الأصول. وقوله خالد بن معدان أن هذه الآية في عصاة المسلمين يرده ظاهر القرآن لأن الله قال وكذبوا بآياتنا كذابا: وهؤلاء الكفار.
سورة النازعات(6/254)
قوله تعالى: {وَالأََرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} – تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} – في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأََرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} . الآية.
قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} .
تقدم وجه الجمع بينه وبين الآيات الدالة على عموم الإنذار كقوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} في سورة يس وغيرها.
سورة عبس
قوله تعالى: {أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} . عبر الله تعالى عن هذا الصحابي الجليل الذي هو عبد الله بن أم مكتوم بلقب يكرهه الناس مع أنه قال: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَاب} .
والجواب هو ما نبه عليه بعض العلماء من أن السر في التعبير عنه بلفظ الأعمى للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كالم الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لو كان يرى ما هو مشتغل به مع صناديد الكفار لما قطع كلامه.
سورة التكوير
قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} ظاهر هذه الآية يتوهم منه الجاهل أن القرآن كلام جبريل مع أن الآيات القرآنية مصرحة بكثرة بأنه كلام الله كقوله: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّه} وكقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} .
والجواب واضح من نفس الآية لأن الإيهام الحاصل من قوله أنه لقول يدفعه ذكر الرسول لأنه يدل على أن الكل ام لغيره لكنه أرسل بتبليغه فمعنى قوله رسول أي تبليغه عمن أرسله من غير زيادة ولا نقص.
سورة الانفطار(6/255)
قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} . هذه الآية الكريمة يوهم ظاهرها أن الذي يعلم يوم القيامة ما قدم وما أخر نفس واحدة وقد جاءت آيات أخر تدل على أن كل نفس تعلم ما قدمت وأخرت كقوله: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} وقوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} – إلى غير ذلك من الآيات
والجواب – أن المراد بقوله نفس كل نفس والنكرة وإن كانت لا تعم إلا في سياق النفي أو الشرط أو الامتنان كما تقرر في الأصول، فإن التحقيق إنها ربما أفادت العموم بقرينة السياق من غير نفي أو شرط أو امتنان كقوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ} في التكوير والانفطار وقوله أن مثل نفس وقوله أن تقول نفس يا حسرتي والعلم عند الله تعالى.
سورة التطفيف
قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} . يفهم منه أن المؤمنين ليسوا محجوبين عن ربهم يوم القيامة وقد قدمنا وجه الجمع بين هذا المفهوم وبين قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأََبْصَارُ} .
سورة الانشقاق
قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} الآية، هذه الآية الكريمة تدل على أن من لم يعط كتابه بيمينه أنه يعطاه وراء ظهره وقد جاءت آية يفهم منها أنه يؤتاه بشماله وهي قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي} . الآية.
والجواب ظاهر وهو أنه لا منافاة بين أخذه بشماله وايتائه وراء ظهره لأن الكافر تغل يمناه إلى عنقه وتجعل يسراه وراء ظهره فيأخذ بها كتابه.
سورة البروج
قوله تعالى: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} .(6/256)
وقوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من توهم المنافاة من لفظة الجنود مع لفظة فرعون لأن فرعون ليس جندا وإنما هو رجل لعينه.
والجواب ظاهر وهو أن المراد بفرعون هو وقومه فاكتفى بذكره لأنهم تبع له وتحت طاعته.
سورة الطارق
قوله تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} . هذا الإمهال المذكور هنا ينافيه قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية.
والجواب أن الإمهال منسوخ بآيات السيف والعلم عند الله تعالى.(6/257)
المسؤولية في الإسلام
مسؤولية الرجل
للشيخ عبد الله قادري
كانت الحلقات السابقة من هذا البحث تتحدث عن المسؤوليات المتعلقة بالحاكم والمحكوم، وقد ضربنا لذلك أمثلة بأربع مسؤوليات هي:
مسؤولية الإمام، ومسؤولية التعليم، ومسؤولية الإعلام ومسؤولية جند المسلمين، وهي كافية للتنبيه على المسؤوليات الحكومية الأخرى، كالقضاء والإدارة وغيرهما.
أما في هذه الحلقة وما يليها فيدور الكلام حول المسؤوليات المتعلقة بأشخاص بأعيانهم لأشخاص بأعيانهم.
1- حقوق الوالدين
وقبل الكلام على حقوق الوالدين أحب أن أنبه على جوانب سؤال قد يعن للقارئ، وهو: كيف يكون الوالدان من رعية الولد مع أن العكس هو الصحيح حسب الظاهر؟
والجواب أنه لا غرابة في ذلك فإن الوالد قد يكون كبير السن عاجزا لا يقدر على القيام بمصالح نفسه فيقوم ولده بها، فيكون بذلك راعيا والوالد مرعيا، وقد يكون الولد متعلما عنده مؤهلات لتولي بعض المناصب الهامة في الدولة كالخلافة والإمارة والقضاء وأشباههما وليس كذلك الوالد فيكون الأب من جملة الرعية التي يتولى الولد أمرها.
وعلى أي حال فإن للوالدين على ولديهما حقوقا عظيمة اعتنت بها نصوص الشريعة الإسلامية من كتاب وسنة وقرنت حقوقهما بحقوق الله في القرآن الكريم لأهميتها كما قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}
سبب الاعتناء بحقوق الوالدين:
ولعل السبب في عناية الإسلام بحقوق الوالدين من الأمرين التاليين:
1- أنهما السبب المحسوس المباشر في وجود الولد، ومن كان سببا في وجودك فحقه عظيم ولذا نرى القرآن يجمع بين حق الله وحقهما كما مضى ولما كان الله تعالى هو خالق الأسباب والمسببات وهو مصدر وجود المخلوق كان حقه مقدما على حق كل أحد.(6/258)
2- ما يعانيانه من المشقات على ولدهما من حمل ووضع وإرضاع من قبل الأم ومن تربية وإنفاق وتنظيف وتمريض وإشفاق من قبلهما معا، وقد أشارت الآيات القرآنية إلى ذلك كما قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} الآية من سورة لقمان.
وقال تعالى في سورة الإسراء بعد أن أمر الولد بالإحسان إليهما ونهاه عن أدنى ما يمكن أن يصدر عنه من عقوق لهما: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}
وبالتأمل في الآيات القرآنية يظهر أن الوالدين يشتركان في تربية الولد الدينية والعقلية والجسمية، وإن كان ببعض هذه الأمور، ولكن الأم تختص بتحمل مشاق لا يشاركها فيها الأب كالحمل والوضع والإرضاع. كما قال تعالى في الآية المتقدمة: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} ومن هنا كان حق الأم أكد على الولد من حق الأب، وقد أوضحت ذلك السنة الصحيحة تما الإيضاح، فقد سأل بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ فقال أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك.
شرك الوالدين لا يسقط حقهما
ومن عدل الشريعة الإسلامية الغراء أنها تعطي صاحب الحق حقه ولو كان مشركا يدعو إلى الشرك ولا يجيز إسقاط حقه بسبب شركه، كما قال تعالى في سورة المائدة على وجه العموم: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} . ولذلك أمر الله الولد أن يقوم بحق والديه من الإحسان إليهما والبر بهما والإنفاق عليهما ومصاحبتهما بالمعروف مع بقائهما على الشرك، ولا يجوز له أن يعصيهما إلا إذا أمراه بمعصية الله تعالى، فلا طاعة لهما عليه في ذلك، لأن المقصود من طاعتهما الحصول على ثواب الله، وطاعتهما في المعصية يترتب عليها عكس ذلك وهو العقاب.(6/259)
والقاعدة العامة ألا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقد أوضحت الآيات القرآنية ذلك إيضاحا تاما. قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}
وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون}
وقد روى مسلم في صحيحه أن هاتين الآيتين من سورة لقمان نزلتا في حق سعد بن أبي وقاص عندما حلفت أمه وكانت مشركة ألا تكلمه، ولا تأكل ولا تشرب حتى يكفر بدينه، وقالت له: زعمت أن الله وصاك بوالديك وأنا أمك وأنا آمرك بهذا. فمكثت ثلاثا حتى غشي عليها من الجهد فقام ابن لها يقال له عمارة، فسقاها فجعلت تدعو على سعد فأنز الله عز وجل في القرآن هذه الآية الكريمة: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ}(6/260)
وانظر تفسير ابن كثير، ج 3 ص 405-445، وقد دلت السنة أن حق الوالدين أكد على ولدهما من الجهاد – إذا كان تطوعا – ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال:"أحي والداك؟ " قال: نعم. قال:"ففيهما فجاهد". كما أن قصة جريج وهي في الصحيحين أيضا تدل على أن إجابة الولد المصلى – تطوعا – أمه إذا دعته واجبة عليه مراجع إن شئت كتاب اللؤلؤ والمرجان ج 3 ص 241-242 والأحاديث في ذلك كثيرة أكتفي منهما بما مضى وبالحديث التالي الدال على أن عقوقهما من أكبر الكبائر. ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر – ثلاثا –؟ قالوا: بلى، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين. وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور". ويلاحظ أن القرآن ذكر حقوقهما الواجبة مع حقوق الله والسنة قرنت بين عصيانهما وعصيان الله، وكفى بذلك دلالة على وجوب البر والإحسان إليهما.
2- حقوق الأولاد.(6/261)
الأولاد اليوم أطفال ومرؤوسون، وغدا آباء كبار ورؤساء، وقد جرت سنة الله أن يسلم كل جيل أبناءه من يده قيادة عجلة الدنيا، وفي مدة لا تزيد عن مائة سنة في الغالب يرحل جيل ويخلفه آخر، وقد أراد الله تعالى من البشرية الإصلاح في الأرض لا الإفساد، أراد الإصلاح الشامل الذي يتناول الدنيا والدين، من قام بما أراد الله منه نال حظه الوافر في الدنيا من راحة واطمئنان وتمكين وثناء حسن في حياته وبعد مماته، وفي الآخرة من رضى الله وثوابه الذي يضاعفه له جزاء ما قدم من إصلاح، ومن فعل خلاف ذلك فعمل الفساد وفتح أبوابا وسهلا موصلة إليه فعليه وزر ما عمله هو وما عمله غيره من الفساد اقتداء به. وكانت عاقبته شر عاقبة عاجلا بما ينال في الدنيا من قلق واضطراب وسوء معاملة بينه وبين الناس، وذكر سيئ في حياته وبعد مماته، وآجلا بما أعده الله له من عقاب أليم جزاء ما اكتسب من فساد وإفساد، وأحسن الناس من خلف بعده أعمالا صالحة يستفيد منها المسلمون كما مضى في الحديث الصحيح "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به" وأسوأ الناس من كانت أعماله شرا، وخلف بعده آثارا سيئة، فيها ضرر على المسلمين في مصالحهم العامة أو الخاصة، ومثل هذا كمثل من قال فيه الشاعر:
رحلت بخزية وتركت عارا
وكنت إذا حللت بدار قوم
إذا عرفنا ما تقدم عرفنا أهمية حقوق الأولاد على الآباء، وهي كثيرة وخلاصتها السعي في جلب ما ينفعهم ودفع ما يضرهم عاجلا وآجلا، وحقوقهم في الحقيقة ليست حقوقا شخصية فحسب بل إنها فوق كونها نافعة لأشخاصهم نافعة للمجتمع كله.
واذكر من حقوق الأولاد على الآباء ما يلي على سبيل المثال:(6/262)
1- العناية بتربيتهم الجسمانية وقت الطفولة من غذاء منظم مفيد، ونظافة وعلاج عند الحاجة، ونحو ذلك مما يساعد على نمو أجسامهم وسلامتها، وقوة أعضائهم، فإن قوة الجسم مطلوبة مع غيرها من القوى المعنوية، كقوة العقل، وقد مدح الله تعالى طالوت عندما خصه بالقيادة بصفتين عظيمتين، احداهما قوة الجسم والثانية كثيرة العلم، فقال: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} والمؤمن القوي الجسم الذي يقدر على القيام بأعمال مفيدة نافعة له ولإخوانه المؤمنين خير من ضعيف الجسم الذي لا يقدر على ذلك وقد مضى ما يدل على هذا المعنى في الحديث الصحيح الذي فيه: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير ".
2- العناية بتنشئتهم على الأخلاق الفاضلة في وقت الصغر، فإن الأمور التي يطبع عليها الصغير قلما يفارقها في كبره، فيجب أن يمرن على الصدق والوفاء وعلى الشجاعة والكرم، وإكرام الضيف والجار والشفقة على الضعيف والاعتماد على النفس في جلب المعاش وغير ذلك من الصفات الحميدة، كما ينفر من أضداد تلك الصفات وأشباهها، ولا يتأتى هذا الأمر إلا إذا توفرت هذه الصفات الحميدة في الآباء وغيرهم من أهل البيت. فإن الطفل يكتسب من أهل البيت صفاتهم التي يراهم يلازمونها، حسنة كانت أم سيئة، فيجب أن يكون الكبار قدوة للصغار في أعمال الخير.
3- العناية بتنمية مواهبهم العقلية بالتدريج، بحيث لا يحملون ما لا يطيقون ولا يهملون مطلقا، بل يبدأ معهم بتمارين مناسبة لعقولهم، وخير ما أرى أن تنمى به عقولهم في المرحلة الأولى تعريفهم بأن ما يشاهدون من هذا الكون من إنسان وحيوان وشمس وقمر ونجوم وسماء وأشجار كلها من مخلوقات الله، حتى ينشأوا على معرفة ربهم وأنه المتصرف في هذا الكون ليحتفظ لهم بفطرتهم التي فطرهم الله عليها.(6/263)
4- ملاحظتهم في أداء الشعائر التعبدية كالصلاة وما يتصل بها من وضوء ونحوه، والوقت الذي يؤمر فيه الصبي بالصلاة هو السابعة من عمره، وهو بطبيعته سيحاول تقليد أبيه وأمه في صلاتهما ووضوئهما قبل ذلك، وسيرى الناس مع أبيه في المسجد يصلون باستمرار، فيرتسم في نفسه أن هذا أمر لا بد منه، فإذا بلغ العاشرة من عمره، وأمر بالصلاة ولم يصل، عندئذ يؤدب بالضرب حتى يصلي، وهذا العمل يعتبر حفاظا من الشريعة على الطفل، وتمرينا له على الطاعة قبل أن يبلغ السن التي يكون مكلفا فيها تكليفة إيجاب، وهو احتياط عظيم جدا، فإن الطفل إذا بدئ بتمرينه على الطاعة، قبل سن الرشد بأربع سنوات أو خمس لا يأتي وقت تكليفه إلا وهو يعمل ما كلف به عن طواعية واختيار، ولا يفوت شيئا مما يجب عليه، بخلاف ما إذا ترك دون تمرين حتى يصل إلى سن البلوغ فإنه سيتردد في فعل الواجب، وسيفوت بعضه في أول الأمر حتى يمرن مدة من الزمن كافية، وهذا من محاسن التربية الإسلامية التي لا توازيها أي تربية يكون مصدرها سوى الإسلام.(6/264)
5- العناية بتعليمهم قراءة القرآن، وإذا تيسر تحفيظهم إياه فلا ينبغي أن يفرط في ذلك، وإذا لم يتيسر حفظ الجميع فما تيسر منه، مع تفهيمهم أن هذا القرآن كلام الله الذي نزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن المطلوب من تعلمه وقراءته وحفظه وتعليمه هو العمل بأوامره واجتناب نواهيه، وأن يكون هو الدستور والمرجع الذي يحتكم إليه، وإنه هو الحق وما خالفه هو الباطل لا يجوز العمل به، حتى يكون القرآن معظما في نفوسهم ومنهجهم وإمامهم في اعتقادهم وسلوكهم وشريعتهم ونظامهم فإن شباب المسلمين لم يتركوا تعاليم دينهم ولم يبتعدوا عنها إلا بعد أن ذهب تعظيم هذا الكتاب من نفوسهم إذ هجروه إلى غيره من الكتب التي يشكك أغلبها في أحكامه العادلة وأخباره الصادقة، كما يجب أن يوجهوا بعد كتاب الله إلى سنة رسوله الصحيحة، وأن يختار لهم في صغرهم بعض الأحاديث التي تشتمل على الأخلاق الحسنة والدعوة إليها والتنفير من أضدادها حتى ينشأوا محبين للخير متصفين به كارهين للشر مبتعدين عنه.(6/265)
6- وعند ما يبلغون السن التي يحصل معها الفهم الكافي يجب أن يعلموا الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة من حلال وحرام وما يتصل بهما، مع الاستعانة بتفاسير القرآن الكريم وشروح السنة المعتمدة، وكتب الأئمة الفضلاء دون أن يؤمروا بالتعصب لأي مذهب معين، بل ينبغي أن يبث فيهم روح الاجتهاد والبحث عن الأحكام من مصادرها الأصيلة، ويجب أن يعرفوا فضل أئمة الإسلام – كالأئمة الأربعة وغيرهم – واحترامهم وأن يكون موقفهم من أولئك الأئمة موقف المنصف الذي ينزل كل شخص منزلته اللائقة به، دون إفراط أو غلو، كما يفعل المتعصبون لبعض الأئمة، حيث يصرح الكثير منهم أنهم لا يأخذون الأحكام من كتاب ولا سنة، بل يأخذون الأحكام من أقوال إمامهم المعين، ولو خالفت صريح القرآن وصحيح السنة، فإن في هذا غلوا يخشى على صاحبه الفتنة، ودون تفريط في حق أولئك الأئمة رحمهم الله تعالى، كما يفعل بعض المتطرفين الذين يذمونهم، ويستدلون عليهم بالآيات التي تذم الخلاف والتفرق، كقوله تعالى في سورة الأنعام: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} الآية وهذا الاستدلال غير صحيح بالنسبة بالأئمة رحمهم الله، فإنهم لم يقصدوا الخلاف، وإنما اجتهدوا في فهم نصوص الكتاب والسنة، وكل منهم عمل لما بلغه اجتهاده وهو الواجب عليه، فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر، كما ثبت ذلك في السنة. والأئمة أنفسهم حذروا أتباعهم من أخذ آرائهم بدون دليل فما ذنبهم بعد هذا؟(6/266)
والذي يجب على طالب العلم، أن يعرف حقهم، وأنهم خدموا الإسلام خدمة عظيمة وأن أغلب آرائهم صواب وخطأهم قليل، وأن الواجب أن يأخذ طالب العلم ما قام عليه الدليل في أي مذهب كان، فإن الله تعالى لم يتعبدنا بالتسليم لقول أي أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يجب التسليم له لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وما عداه فهو محل أخذ ورد، وما اختلف فيه وجب رده إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا حاكم غيرهما في أمور الدين. هذا هو الواجب مع احترام الأئمة والاطلاع على أقوالهم واستدلالهم، لأن لهم باعا طويلا في فهم الوحيين. ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رسالة قيمة في هذا الموضوع لا ينبغي لطالب العلم أن يغفل عن مطالعتها تسمى: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) . وينبغي أن يسبق حث الطالب على الاجتهاد والبحث عن الأدلة وطرق الاستدلال تزويده بثروة كافية من علوم اللغة العربية وعلوم الآلات الشرعية كأصول الفقه والتفسير والحديث وغيرها حتى يكون له استعداد للبحث وفهم مراد الله من النص ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم. أما قليل الفهم والعلم الذي لا يتمكن من ذلك فليس له ترجيح قول على قول لعدم أهليته، وإنما عليه أن يسأل العلماء والمجتهدين عن حكم الله تعالى، ويعمل بذلك، وما يفعله كثير من الجهال الذين لا أهلية عندهم لفهم ولا علم من إصدار الأحكام من تحليل وتحريم أمر لا يجوز ويجب أن يؤخذ على أيديهم، لأن التحليل والتحريم ليس من وظيفتهم، وإنما هو من وظيفة العلماء الفاهمين الذين لهم اطلاع واسع على نصوص الشريعة وعلومها، فلا يحلون إلا ما أحله الله، ولا يحرمون إلا ما حرمه الله، وقد نهى الله الجهال عن الحكم على شيء بأنه حلال أو حرام بدون علم كما قال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ(6/267)
الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} وقال: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}
7- ومن أهم الأمور التي يجب أن يعتني بها الآباء اختيار المدارس التي عرفت بالعناية بعلوم الدين والتربية الإسلامية، لا سيما في المراحل الأولى والثانية والثالثة من مراحل التعليم فإن في ذلك إعانة للوالد على الحصول على مراده من تربية ولده، ومن المؤسف أن كثيرا من الآباء لا يهمه إلا أن يحمل ولده شهادة في المستقبل يتسلم بها وظيفة راقية سواء أبقى له شيء من دينه أم لا، فيرميه في أي مدرسة دون أن يعرف وجهة مديرها ومدرسيها وما يهدفون إليه، وهذا أمر خطير، وذنب عظيم يتحمله الوالد، حيث يلقى بولده في صغره في أحضان قوم قد يكون همهم الوحيد التشكيك في الدين وإفساد اللأب بإخراجهم عن تعاليم دينهم، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَة}(6/268)
ورزق الله تعالى مكتوب لا تأتي به شهادة ولا يمنعه عدمها، وإذا أراد الوالد أن يتخصص ولده في علم من العلوم فلا مانع من ذلك بعد أن يؤمن عليه بمعرفة دينه والعمل به، وكذلك يجب أن يختار لولده معلما يلازمه يكون قدوة له تتوفر فيه أسباب الفلاح بحيث يكون متقيا ورعا محافظا على شعائر الدين، متحليا بالأخلاق الفاضلة، من إخلاص وصدق وأمانة وكرم وشجاعة ومثابرة على البحث والتحقيق العلمي، فإن اختيار مثل هذا المدرس الصالح لملازمة ولده يساعده مساعدة عظيمة على تربيته الصالحة، لأن المرء بقرينه كما قيل، والجليس الصالح من أعظم الأسباب لصلاح جليسه، كما أن الجليس السيئ من أكبر الأسباب لفساد جليسه وكما يجب أن يختار له ملازما صالحا يجب أن يحول بينه وبين وملازمة الأشرار من مدرسين وطلاب وغيرهم لئلا يكتسب من صفاتهم الخبيثة فيصبح مثلهم، وقد ذكر الله تعالى في كتابه أن الذي يصاحب أهل الشر فيضلونه عن سبيل الله يندم يوم القيامة على ما فعل، ويتمنى أن لا يكون فعل ذلك، كما يتمنى أن يكون قد صاحب من يهديه إلى طريق الخير قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً} الفرقان، وذكر تعالى أن رؤساء الضلال والاضلال يتبرأون يوم القيامة من أتباعهم، وأن أتباعهم يتمنون لو يعودون إلى الحياة الدنيا فيتبرأون من أولئك الرؤساء كما تبرأوا منهم، قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ(6/269)
حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} والآيات في هذا المعنى كثيرة، ولقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم حسن مجالسة الصالحين وقبح مجالسة الفاسدين أتم إيضاح بمثالين، ففي الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل جليس الصلاح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة"
فاحذروا أيها الآباء على أولادكم من مجالسة الأشرار وحافظوا علهم بمجالسة أهل الخير، والموضوع في حقيقته عام لكل مسلم يجب أن يصحب الأخيار ويبتعد عن الأشرار، وإنما ذكرت ذلك هنا لأن الأولاد أكثر استجابة لأي مبدأ من الكبار، والكلام هنا في شأنهم.
قد يقال إن وجود المعلم الذي تتوفر فيه تلك الصفات نادر، وأغلب المعلمين لا يوجد فيهم إلا بعضها ومنهم من يتصف بأضدادها فهل تعني أن نمنع أولادنا دخول المدارس؟
والجواب: لا، لم أرد ذلك، وإنما أردت المعلم الذي ينبغي أن يلازمه الطالب، في أغلب أوقاته، سواء كان من مدرسيه في المدرسة أو من غيرهم والمهم صلاحه.(6/270)
8- وينبغي أن يهتم الوالد بتعليم ابنه بعض الحرف التي تكون سببا لطرق كسبه كالتجارة والصناعة والزراعة وغيرهما، حتى يكون معتمدا في كسبه وانفاقه على ربه ثم على عمل يده، ولا يكون عالة على المجتمع يتكفف الناس، ولنا في أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام أسوة حسنة فقد كان بعضهم نجارا، كما صنع نوح عليه السلام السفينة التي كانت السبب المحسوس في نجاته ونجاة قومه، وكان زكريا عليه السلام نجارا كما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان داود عليه السلام يصنع الدروع كما قال تعالى عنه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ولقد فضل الرسول صلى الله عليه وسلم للرجل أن يجمع الحطب ويحمله على ظهره ويبيعه وينفق على نفسه ليستغني عن الناس ويتصدق منه، فضل له ذلك على تكفف الناس وسؤالهم، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لأن يغدو أحدكم فيحتطب على ظهره فيتصدق منه ويستغني به عن الناس خير له من أن يسأل رجلا أعطاه أو منعه"
والأحاديث الصحيحة في ذم السؤال كثيرة جدا، فيجب أن يحث الوالد ولده على الشهامة والمروءة وعزة النفس والابتعاد عن الأمور، التي تجعله ذليلا أمام الناس.(6/271)
9- ومما ينبغي التنبه له أنه يجمل بالأب أن يوجه ولده إلى تفهم مشاكل المجتمع التي تعترضهم سواء كانت أخلاقية أو سياسية أو اقتصادية أو غيرها، والبحث عن الحلول المناسبة حتى يكون عضوا عاملا يهمه ما يهم مجتمعه، ولا يقف متفرجا على ما يحدث من المشاكل، فإن الذي يقف من مشاكل أمته هذا الموقف يعتبر بمنزلة العضو المقطوع من الجسد. وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على تعاون المسلمين فيما بينهم وجعلهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. وقال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" والله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .
ومن هنا وجب على المعلمين أن يتعاونوا مع الآباء في توجيه الأولاد، لأن كثيرا من الآباء ليسوا أهلا للتوجيه في كثير مما مضى.(6/272)
متى … متى!
للشيخ محمد المجذوب
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين
أيها الحسناء … كفى من ضلالك
واسمعي النصح يجنبك المهالك
ذلك العري الذي آثرته
رجعة للغاب … لو تدرين ذلك
خلفه أيدي "الكواهين "التي
لا يروي غلها غير اغتيالك
قد دروا إنك ميزان القوى
فإذا اختل هوى الخزي بآلك
وقديما يئسوا من قهرنا
حينما أعياهمو لمح خيالك
غير أن الذل قد دمرنا
منذ أن خضت بنا تلك المسالك
فمتى العود إلى الله وقد
وضح الدرب، ولا عذر لسالك
أنت إن لم ترحمي أمتنا
فارحمي نفسك، وارثي لمآلك(6/273)
التطور البلاغي لمبحث الفصل والوصل
بقلم: الأستاذ عبد الله عبد الرحيم عسيلان
المدرس بالمعهد العلمي بالمدينة
1- تمهيد:
يعتبر بحث الفصل والوصل من المباحث الهامة، وقد احتل منزلة كبيرة في تقدير علماء البلاغة إلى درجة أن بعضهم حد البلاغة بأنها معرقة الفصل والوصل، وما ذلك إلا لما يتميز به من دقة في المأخذ وصعوبة في المسلك بحيث (لا يحيط علما بكنهه إلا من أوتي في فهم كلام العرب طبعا سليما ورزق من ادراك أسراره ذوقا سليما) [1]
ويعتبر الجرجاني معرفة الفصل والوصل سبيلا إلى معرفة سائر معاني البلاغة يقول: "وإنه لا يكمل الإحراز الفضيلة فيه أحد إلا كمل لسائر معاني البلاغة" [2] وفصحاء العرب وبلغاؤهم كانوا حريصين كل الحرص على مراعاة مواطن الفصل والوصل في كلامهم وخطبهم، وينصحون بذلك بقول أبو العباس السفاح لكاتبه:"قف عند مقاطع الكلام وحدوده وإياك أن تخلط المرعى بالمهمل" [3] ويقول معاوية: "يا أشدق قم عند قروم العرب وجحاجحها فسل لسانك وجل في ميادين البلاغة وليكن لمقاطع الكلام منك على بال فإني شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى على علي ابن أبي طالب رضي الله عنه كتابا وكان يتفقد مقاطع الكلام كتفقد المصرم صريمه"
وقصارى القول أن مبحث الفصل والوصل من المباحث الهامة في البلاغة العربية، ونحن هنا نحاول أن نتبين الأطوار التي مر بها إلى أن استوى على سوقه.
2- تعريفه:(6/274)
إذا تلمسنا تحديدا للفصل والوصل في الكتب التي تبحث في الأدب والبلاغة والتي تمثل أدوار نشأة البحث البلاغي كالبيان والتبيين للجاحظ، وقواعد الشعر لثعلب والبديع لابن المعتز فإننا لا نظفر بشيء، ومن الممكن أن نقف على تعريف بدائي له عند أبي هلال العسكري في الصناعتين، فقد اهتم به وعد معرفته معرفة للبلاغة كلها وبين مدى ضرورة الكاتب والخطيب والشاعر إلى معرفة مواضع كل من الفصل والوصل إلا أنه درسه دراسة أدبية لا أثر فيها للتنظيم والتحديد والتعريف ومع ذلك كله يمكن أن نستخلص من خلال ما ذكره المقاييس البلاغية التي تخص الفصلة والوصل فمن ذلك ما أورده عن أكثم بن صيفي أنه إذا كاتب ملوك الجاهلية يقول لكتابه "أفصلوا بين كل معنى منقض وصلوا إذا كان الكلام معجونا بعضه ببعض" [4] ، وما أورده عن الحارث بن شمر الغساني إذ يقول لكاتبه: "إذا نزع بك الكلام إلى الابتداء بمعنى غير ما أنت فيه فافصل بينه وبين تبعيته من الألفاظ فإنك إن مذقت ألفاظك بغير ما يحسن أن تمذق نفرت القلوب عن وعيها وملته الأسماع واستثقلته الرواة" [5] وحينما نتفحص قول أكثم والحارث على ضوء المقاييس التي وضعها البلاغيون بعده نجد أنها تقترب مما يقررونه في باب الفصل والوصل، أو لم يقرروا بأن التباين التام باختلاف الجملتين خبرا وإنشاء أو عدم وجود التناسب بينهما مما يوجب الفصل حسب ما هو معروف فيما سموه (كمال الانقطاع) ، وهناك لفتة وردت في قول أكثم تشعر بوصل أجزاء الكلام إذا كان معجونا بعضه ببعض، وهذه اللفتة تتفق مع ما قرره البلاغيون فيما بعد من وجوب الوصل إذا قصد اشتراك الجملتين في الحكم الإعرابي أو إذا اتفقا خبرا وإنشاء وكانت بينهما مناسبة ولنتخطى أبا هلال إلى الجرجاني لنجد أنه وضع معالم بحث الفصل والوصل بقوله: "اعلم أن العلم بما ينبغي أن يصنع في الجملة من عطف بعضها على بعض أو ترك العطف فيها والمجيء بها منثورة تستأنف واحدة منها بعد أخرى من(6/275)
أسرار البلاغة" [6] وننتقل إلى السكاكي فنجده يعرفه بقوله "ومدار الفصل والوصل هو ترك العطف وذكره على هذه الجهات وكذا طي الجمل عن البين ولا طيها" [7] ثم جاء ملخصوا المفتاح وشراح التلخيص وكلهم يدورون حول تعريف واحد هو: "أن الوصل عطف بعض الجمل على بعض والفصل تركه"وقد استفاض شراح التلخيص في التعليق على هذا التعريف وتوضيحه.
3- مادة الفصل والوصل:
من خلال دراستنا لتاريخ البلاغة العربية نجد أن ثمة مؤلفات أولية تمثل أدوار النشأة الأولى للبلاغة العربية من مثل قواعد الشعر لثعلب، والبديع لابن المعتز، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ونقد الشعر لقدامة وغيرها من الكتب التي تعني بجمع النصوص الأدبية والشوارد اللغوية كالبيان والتبيين للجاحظ والكامل للمبرد، ولو قلبنا صفحات تلك الكتب وسبرنا أغوارها فإننا لا نتمكن من العثور على شيء ذي بال يتعلق بمباحث الفصل والوصل بل إن بعضها يخلو تماما من مجرد الإشارة إليه، ولعل الجاحظ فيما يبدو لي يعتبر أول من أشار إلى الفصل والوصل في كتابه البيان والتبيين حينما نقل عن الفارسي قوله: "إن البلاغة معرفة الفصل والوصل"، ولم يزد على ذلك بمعنى أنه لم يحدثنا عنه أو لم يعطنا فكرة عن مباحثه، ويمكن القول أن أبا هلال العسكري هو أول من اعتنى بمبحث الفصل والوصل فقد أفرد له بابا في كتابه الصناعتين جمع فيه نصوصا وشواهد كثيرة تحث على مراعاة مواطن الفصل والوصل في الكلام والكتابة، وساق شواهد من الشعر والنثر على أحواله، فاستشهد لما سماه المأمون [8] في قوله باسم المحلول والمعقود ووضح المقصود بالمحلول والمعقود بقوله: "هو إنك إذا ابتدأت مخاطبة ثم لم تنتبه إلى موضع التخلص مما عقدت عليه كلامك سمي الكلام معقودا وإذا شرحت المستور وأبنت عن الغرض المنزوع إليه سمي الكلام محلولا" [9] واستشهد لما لم يبن موضع الفصل فيه وللمقطع الحسن في الشعر [10] ولجودة الفاصلة وحسن موقعها وتمكنها في(6/276)
موضعها، وقسم ذلك إلى ثلاثة أضرب: الأول أن يضيق على الشاعر موضع القافية فيأتي بلفظ قصير قليل الحروف فيتم به البيت كقول زهير:
ولكنني عن علم ما في غد عمي واعلم ما في اليوم والأمس قبله
والثاني أن يضيق به المكان أيضا ويعجز عن إيراد كلمة سالمة تحتاج إلى إعراب ليتم بها البيت فيأتي بكلمة معتلة لا تحتاج إلى إعراب فيتمه به مثل قول امرئ القيس:
كذئب الفضا يمشي الضراء ويتقي بعثنا ربيبا قبل ذاك محجلا(6/277)
الثالث أن تكون الفاصلة لائقة بما تقدمها من ألفاظ الجزء من الرسالة أو البيت من الشعر وتكون مستقرة في قرارها متمكنة في موضعها حتى لا يسد مسدها غيرها وإن لم تكن قصيرة قليلة الحروف كقوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} وقوله تعالى: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} فأبكى مع أضحك وأحيا مع أمات، والأنثى مع الذكر والأولى مع الآخرة والرضا مع العطية في نهاية الجودة وغاية حسن الموقع [11] ، وهنا نقف على لفتة بلاغية من لفتات أبي هلال حيث نبه على التناسق البديع في السياق القرآني للآيات السابقة، على أن أبا هلال العسكري حشد هذه المادة الكثيرة حول الفصل والوصل معالجا الموضوع معالجة أدبية دون العناية بالترتيب والتقنين والتحديد ولهذا لا نجد فيما ذكره ما يضع بين أيدينا مقاييس بلاغية واضحة المعالم لمبحث الفصل والوصل، وكأني بسائل يسأل وعبد القاهر الجرجاني ما هو شأنه مع الفصل والوصل فنجيب بأنه كان في طليعة من بحثوه بحثا منسقا مفصلا يعتمد التقسيم والتحليل، والتعليل والتعريف وحينما تحدث عنه وضع نصب عينه نظريته في النظم فربطه بباب العطف، واستفاض في الحديث عنه، وفي نهاية المطاف أجمل مواضع الفصل والوصل بقوله: "وإذا قد عرفت هذه الأصول والقوانين في شأن فصل الجمل ووصلها فاعلم أنا قد حصلنا من ذلك على أن الجمل على ثلاثة أضرب، جملة حالها مع التي قبلها حال الصفة مع الموصوف والتأكيد مع المؤكد فلا يكون العطف البتة لشبه العطف بها لو عطفت بعطف الشيء على نفسه".
وجملة حالها مع التي قبلها حال الاسم يكون غير الذي قبله إلا أنه يشاركه في حكم ويدخل معه في معنى مثل أن يكون كلا الاسمين فاعلا أو مفعولا أو مضافا إليه فيكون حقها العطف.(6/278)
وجملة ليست في شيء من الحالين بل سبيلها مع التي قبلها سبيل الاسم مع الاسم لا يكون منه في شيء فلا يكون إياه ولا مشاركا له في معنى بل هو شيء إن ذكر لم يذكر إلا بأمر ينفرد به ويكون ذكر الذي قبله وترك الذكر سواء في حالة لعدم التعلق بينه وبينه رأسا، وحق هذا ترك العطف البتة، فترك العطف يكون إما للاتصال إلى الغاية أو الانفصال، والعطف هو واسطة بين الأمرين، وكان له حال بين الحالين فاعرفه" [12] ولا نبعد عن الصواب إذا اعتبرنا عبد القاهر الواضع الأول لأصول وقوانين بحث الفصل والوصل، وقد انتفع بجهوده من جاء بعده من علماء البلاغة، فاختصروا بحثه ونسقوه، وقسموه، وخرجوا منه بمقاييس بجهوده من جاء بعده من علماء البلاغة، وقواعد للفصل والوصل حددت معالمه أكثر مما هو عند الجرجاني، ويقع السكاكي في طليعة الذين تابعوه بل إن الدكتور أحمد مطلوب يعتقد (أن السكاكي سطا سطوا عجيبا على بحث الفصل والوصل عند الجرجاني، وأدخله في كتابه بعد أن طبعه بطابعه الخاص، ولكن روح الجرجاني لم تفارق بحث الفصل والوصل في المفتاح فمواضع الفصل والوصل والكلام على جملة الحال والأمثلة هي كلام عبد القاهر في قصر البلاغة على هذا الباب يتابعه فيه) [13] وقد جمع القزويني بين طريقتي عبد القاهر والسكاكي عند حديثه عن الفصل والوصل في كتابه الإيضاح بمعنى أنه يرسم القاعدة ويحددها من جهة ويشرح ويعلل من جهة أخرى، أما بحث الفصل والوصل في شرح التلخيص فقد جاء بحثا مطولا مستفيضا مثقلا بالتعليلات ويبدو أن السبكي صاحب ((عروس الأفراح)) كان أكثر شراح التلخيص دقة وأحسنهم عرضا وأجودهم مادة فقد تأمل ما كتبه غيره فوجد (أقساما متداخلة بين كثير منها عموم وخصوص من وجه، وبعضها يدفع بعضا ووجدتهم قرروا فيه قواعد لا تخلو عن اشكال، وذكروا أمورا على غير الصواب من جعل ما ليس له محل من الإعراب ذا محل وعكسه إلى غير ذلك) [14] ويرى أن هذا الخلل لم يكن في كلام صاحب(6/279)
المفتاح وإنما في كلام من بعده لأنهم لم يتأملوا كلامه [15] .
الخاتمة:
فيما سبق رأينا أن مبحث الفصل والوصل لم يوجد له تعريف محدد المعالم في كتب البلاغة أو الأدب التي عاصرت دور نشأة البحث البلاغي، ورأينا أن من الممكن استخلاص تعريف بدائي مما ذكره أبو هلال العسكري في الصناعتين كما تبين أن الجاحظ أول من أشار مجرد إشارة إلى مبحث الفصل والوصل، وأن الجرجاني قام بوضع الأسس الأولى لمباحث الفصل والوصل بشكر منظم ومحدد معولا على التحليل والتعريف، وقد استفاد البلاغيون بعده من بحوثه وبخاصة السكاكي الذي تأثر كثيرا بالجرجاني واستفاد منه ثم جاء شراح التلخيص فوسعوا دائرة البحث بالتعليقات والتعليلات والحواشي.
مراجع البحث:
الإيضاح – للقزويني – تحقيق وتعليق محمد محيي الدين عبد الحميد – مطبعة السنة المحمدية
1-
كتاب الصناعتين – لأبي هلال العسكري – الطبعة الأولى عيسى البابي الحلبي 1371 – 1952
2-
دلائل الإعجاز – للجرجاني – تصحيح وتعليق محمد رشيد رضا 1381-1361
3-
المفتاح للسكاكي – الطبعة الأولى بالمطبعة الأدبية 1317
4-
عروس الأفراح – من شروح التلخيص – الطبعة المصورة عن طبعة عيسى البابي الحلبي
5-
البلاغة عند السكاكي – للدكتور أحمد مطلوب – مكتبة النهضة بغداد – الطبعة الأولى 1384
6-
قواعد الشعر لثعلب – دار المعرفة 1966.
7-
البيان والتبين للجاحظ – طبعة السندوبي.
8-
المطول – لسعد الدين التفتازاني – مطبعة أحمد كامل – بايزيدة 1330
9-
البديع لابن المعتز – طبعة الخفاجي.
10-
نقد الشعر لقدامة بن جعفر – الطبعة الأولى – مطبعة لجوانب
11-
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الإيضاح ص 147، وكتاب الصناعتين ص 438(6/280)
[2] الإيضاح ص 147
[3] دلائل الإعجاز ص 146 وكتاب الصناعتين ص 438
[4] الصناعتين ص 440
[5] المصدر السابق ص 440
[6] دلائل الإعجاز ص 146
[7] مفتاح العلوم ص 134
[8] الصناعتين ص 441
[9] المصدر السابق ص441
[10] المصدر السابق ص441
[11] الصناعتين ص 449
[12] دلائل الإعجاز ص 159-106
[13] البلاغة عند السكاكي ص 217
[14] عروس الأفراح ص 4ج 3
[15] المصدر السابق ص 4 ج 3(6/281)
هل وجود السينما في هذه البلاد ضرورة؟
عبد الرحمن سيف
اطلعت على مقالة الأستاذ فايز البخيت المنشورة بصحيفة المدينة المنورة في عددها رقم 2493 الصادر بتاريخ 4/5/1392 تحت عنوان (أين دور السينما في بلادنا) وتأسفت كثيرا من جرأة الكاتب ودعوته الصريحة إلى فتح دور للسينما في هذه البلاد المقدسة مهبط النور ومنطلق الرسالة وموطن الحرمين الشريفين وقبلة المسلمين، هذه البلاد التي ينظر إليها المسلمون على أنها المعقل الوحيد للإسلام الأمينة على نشر رسالته المؤهلة للذود عنه وصد خصومه ورد مفتريات أعدائه هذه البلاد التي ألمحنا إلى شيء من الحياة ودورهم القيادي في الدعوة إلى الإسلام ومحاربة أعدائه لا زال البعض يتجاهل هذه المكانة ويريد أن يساويها بالبلاد الأخرى ثم هو يسلك في سبيل ذلك طرقا متنوعة ومعاذير شتى كان يقول أن السينما أداة تثقيفية هامة ووسيلة من وسائل الترفية وأنه بالإمكان التحكم في نشر الصلاح من أفلامها وترك ما سوى ذلك وأن وجود هذه الدور في بلادنا سيحد من كثرة المسافرين إلى الخارج إلى غير ذلك من الدعاوى الكثيرة التي يريدون عن طريقها الوصول إلى أهدافهم وأغراضهم المشكوك في سلامتها ونبل مقاصد أصحابها مهما تظاهروا به من أقوال ذلك أن السينما لم تكن في يوم من الأيام أداة من أدوات التهذيب والإصلاح ولم تستعمل لبناء الخلق الكريم والهدف الصلاح والاتجاه السليم والغاية الشريفة المثلى كما يزعم البعض وإنما كانت وسيلة من وسائل الهدم والتخريب وإفساد العقائد والأخلاق والاستهتار بالقيم ونشر الرذائل بين الناس والأمثلة على ذلك كثرة وشاهد الحال خير دليل على ما نقول والسبب في ذلك واضح ومعروف لدى أكثر الناس ذلك أن أصحاب شركات الأفلام في العالم لا يخرجون عن أحد قسمين القسم الأول غرضه تجاري محض فهو لا يهتم بنوع المادة المعروضة سواء كانت صالحة أم طالحة وأغلب هؤلاء ممن(6/282)
لا يفرق بين الإيمان والإلحاد والأخلاق الفاضلة الكريمة من الأخلاق الفاسدة وإنما همه الوحيد هو كسب المادة فقط.
القسم الثاني: وهو أعظم خطرا وأخبث مقصدا ووسيلة وغاية فهي تلك المؤسسات التي تستخدم هذه الآلة بقصد الوصول إلى أهدافها الاستعمارية الخبيثة وعقائدها المحرفة وأكثر القائمين على مثل هذه المؤسسات هم من الصهاينة والمفسدين في الأرض الذين يريدون نشر باطلهم تحت ستار الثقافة والمعرفة ومحو الجهل والأمية إلى غير ذلك وهذه حقيقة لا أظنها تحتاج إلى جدال، وإلا فقل لي بربك أين هي تلك المؤسسات والأفلام السينمائية التي تخدم الدين وتنشر الفضيلة وتحمي الأخلاق وتساهم في إشاعة المعرفة الصحيحة بين الناس، إن أحدا لم يرها ولم يسمع بها حتى الآن وعليك أن تقدم الدليل الواضح على ذلك، وأكبر شاهد على ما نقول ما نشاهده وما نسمع عنه في البلاد العربية المجاورة مع الأسف الشديد، ولست أعتقد خفاء ذلك على مثلك وإنما هو جب التقليد ومسايرة الركب والغشاوة التي طمست على أعين فحجبتها عن الرؤية الصحيحة والبصيرة النافذة لحقائق الأمور هذا هو واقع تلك الأفلام المستوردة بدون تجن ولا مغالطة – وأنا لست الوحيد في إصدار هذا الحكم وإنما يشاركني في ذلك أغلب من شاهد تلك الأفلام ويؤيد ذلك ما صرح به مسئول كبير في وزارة الإعلام هو الدكتور عبد الرحمن الشبيلي مدير عام التلفزيون حيث ذكر في ندوة تلفزيونية أذيعت قبل أيام في برنامج حديث الأصدقاء ضمت الأساتذة محمد علي حبشي من أسرة جامعة الملك عبد العزيز، وعباس عبد المجيد من أسرة تحرير صحيفة المدينة في الحديث عن البرامج التلفزيونية والأفلام والمسلسلات التي تعرض بالتلفزيون وما يناسب المشاهد منها وما لا يناسب ذكر الدكتور عبد الرحمن أن 90% من الأفلام والمسلسلات الأجنبية والعربية على السواء لا تصلح للعرض في هذه البلاد لمنافاتها للمبادئ الدينية والأخلاق الإسلامية التي تلتزم بها هذه(6/283)
البلاد حكومة وشعبا وإن جهاز الرقابة بالوزارة يعاني صعوبات كبيرة ويمضي موظفوه أوقاتا كثيرة لاختيار الأفلام المناسبة وقلما يعثرون على الصالح منها وهذا الكلام هو عين الحقيقة والواقع يصرح به مسئول كبير في جهاز وزارة الإعلام وهذا الجهاز هو أكثر الناس خبرة ومعرفة بالأفلام التلفزيونية الأجنبية والعربية على السواء هذا في الوقت الذي يحرص فيه المسئولون في أكثر بلاد العالم على أن تكون مادة التلفزيون أنزه وأسلم من الأفلام السينمائية حيث أن التلفزيون يشاهده الناس في بيوتهم وعلى كافة المستويات بخلاف السينما التي لها جمهورها الخاصة والتي يندر أن يوجد بها أفلام نزيهة خالية من الخلاعة والعرى والمجون بعد هذا يمكنك أن تقول أن بإمكان المسئولين في هذه البلاد عمل الأفلام محليا، وهذا في الوقت الحاضر شبه مستحيل لأنه يحتاج إلى أيد فنية كثيرة وخبرة أجنبية وإمكانيات كبيرة ومبالغ طائلة يجب أن نصرفها ونستغلها في مشاريع نافعة ومجالات أخرى هامة أنفع للعباد والبلاد من السينما بكثير.
إن بلادنا ككل البلاد النامية لا زالت في أول الطريق وهي تحتاج إلى الجهود المخلصة والتضحيات العظيمة من قبل أبنائها في شتى مجالات الحياة للرفع من مستواها والوصول بها إلى الأهداف الكريمة والحياة السعيدة التي ننشدها جميعا.
ثم إن حكومتنا السنية لم تدخر وسعا أو طاقة في سبيل إشاعة المعرفة الصحيحة والثقافة الواعية والتسلية البريئة بين الناس فقد أوجدت الإذاعات ومحطات التلفزيون الكثيرة لهذه الأغراض مع حرص الدولة التام على تقديم المادة النافعة والبرامج المفيدة التي لا تتعارض مع تعاليم الدين ومبادئ الأخلاق وواجب الشباب عامة والمثقفين منهم خاصة أن يكونوا عونا لهؤلاء المسئولين في بناء هذا المجتمع ورفعة شأن هذه الأمة وصيانة مقدراتها ومثلها العليا للوصول بها إلى المكانة اللائقة.(6/284)
إن واجب أبناء هذه البلاد عموما هو الشعور بالمسئولية الكبيرة الملقاة على عواتقهم في الدعوة إلى الإسلام ومحاربة المذاهب والدعوات المضللة والنظريات المعوجة.
فآمال المسلمين في أنحاء المعمورة معلقة على أبناء هذه البلاد الذين أكرمهم الله بتحكيم شرعه وخدمة بيته والذود عن مقدساته ثم أن المسلمين والعرب يمرون بمرحلة عصيبة من أشد المراحل وأقساها فهناك العدو الإسرائيلي الذي يسيطر على أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين والأراضي العربية الأخرى وهناك الصهيونية العالمية الواسعة النفوذ في أكثر بلاد العالم قوة وحضارة وهي تؤيد هذا الباطل وتدعمه بكافة الإمكانيات والقدرات وتعمل بكافة الوسائل لتشكيك المسلمين في دينهم وبث الشحناء والعداوة بين دولهم وشعوبهم لتمزيق وحدتهم وإضعاف قوتهم حتى يستسلموا لأعدائهم ويحقق المستعمر آماله في استعباد هذه الشعوب وامتصاص خيراتها ومسخ تاريخها وحضارتها ومجدها وأما هذه المصائب والدسائس والمؤامرات والحروب المختلفة الأغراض والغايات من الصهيونية والاستعمار ولا يجد الرجل العاقل المفكر الحريص على دينه ومستقبل أمته ووطنه متسعا من الوقت لمشاهدة الأفلام السينمائية ولا غيرها من الملهيات الأخرى لتقضية الساعات والأوقات الكثيرة فيما لا فائدة فيه ولا نفع من ورائه كما يتمنى ذلك الكاتب.
فلقد ذكر في كلمته أن الشاشة التلفزيونية لا تفي بالمقصود لكون زمن البث محدودا وبرامجه غير كافية بخلاف الشاشة السينمائية فإن مجالها أرحب وأوسع.
وأخيرا فكم كنت أود لو أن الكاتب استخدم فكره وقلمه لمعالجة موضوع هام غير هذا الموضوع مما يعود بالخير والازدهار لهذه الأمة الكريمة فذلك أجدى وأنفع مما دعا إليه والله الهادي إلى سواء السبيل.(6/285)
الإيمان نصر
للشيخ أحمد مختار البزرة
عندما تكتسح الأرض موجة الإلحاد مجترئة على الله بما أعطى من عناصر القوة وأسبابها، لا يسع المؤمن إلا أن يجابه الموجة العاتية بصلابة الإيمان وثبات العلم، فإن القوة في هذا العصر لا تستكمل إلا بعميق العلم وبعيده ونحن بها مأمورون لحفظ الديار وحمل الأمانة وحماية الإيمان في الأرض:
إذا استنهض الصور أهل الحضر
فهبوا ولبوا النداء زمر
وفجرت الأرض أرحامها
وألقت بما ضمنتها العصر
وجاشت بحار تزجي بحارا من الخلق مهرعة في ذعر
كما دفع السيل مستعليا
إلى خفضة طاميا مسبطر [1]
وجاء الزمان بأشتاته
فلاقى أوائله بالأخر
وأخرج من كهفه ما تظل
له النفس من عجب تنبهر
لقد حسر الوهم عن مثله
وزاغ الخيال كليل البصر
فيا روعة السر في جعبة الد
هر أغفى فلما تجلى بهر
لقد وصل البعث ما قطع الـ
ردى من سلاسل صلب البشر
وجاؤوا على موعد كم تمارى
به المنكرون فلجوا فجر
أزال الغشاوة عن أعين
تفاداه بالنظر المنكسر
وقد حدق الغيب في وجههم
فيا خزية جللت من كفر
ومن يجعل الأرض فوق السماء
تحجب عن قلبه كل سر
إذا حطم المرء وجدانه
بفاس الجحود هوى واندثر
متى أغلق اللحد لم يبق ركز
يظل صدى بعده يدكر
يجيء ويمضي ولا يشهر الكو
ن منه ضياء يزين السير
غدا بأكل الترب جثمانه
ويفني سوى الصالحات الغرر
حياة إذا لم تفض بالجميل
وبالخير كانت هباء نثر
إذا رمت يوم المعاد النجاة
فلا تنس زادك قبل السفر
ومهما تراخت حبال المنون
فأنت على موعد مستقر
تباكرك الشمس مختالة
ويرخي عليك الظلام الستر
وأنت على الدرب إما الورود
جنيت وإما جنيت الإبر(6/286)
فراشك في القبر ذلك الحصاد
وذخرك في الوزن هذا القدر [2]
فعمرك أما ادكرت ابتلاء
فإما الجنان وإما سقر
فإن كنت تخشى مساس الجحيم
غدا فاعتنق مله كالقمر
فوحد وكبر وقل: لا إله
سوى الخالق البارئ المقتدر
وشق عن النفس ثوب القنوط
ولا تخش لله أن تنتصر
وسارع فناد إلى المأثرات
وخل الخنوع لقلب الحذر
وفض عن العلم أختامه
وسابق بميدانه الناس طر
وغص في البحار وطر في الفضاء
ليعلم إنك القوي الخطر [3]
وصابر فلا تغلبنك الصعاب
فإما غلبت فإنك حر
هو الكون يهوي الجريء الغيور
ويرفض كل ذليل دحر
ويفتح للخلق أبوابه
يطالعـ أسراره المبتدر [4]
تعوذت بالله من أمة
ترامت قواها سماء وبر
وسال لديها اليباب كنوزا
خزائن تجبي نضارا نضر
أثارت من الأرض ما خبأ الله
- م- فيها لكل طلوب صبر
وراح بها شغف في العلو
إلى النجم تسأله: ما الخبر؟
وقد ركبوا اللهب المستشيط
إلى قمر قبلهم لم يزر
وجابوا الفضاء كجوب الخيال
من الليل أرجاء قفر هجر
تراءت لهم معجزات الإله
وآلاؤه باهرات كبر
هو الكون..يا لصنع القدير 5
رحيب المجال بعيد المقر
يظل له اللب في روعة
ويكبو حسيرا لديه النظر
كواكب جابت بحار الفضاء
به ترتعي سربها ما ذعر
حباها الإله رحاب السلام
ولم يعتل الظهر منها أشر
إذا حيت الأرض في سيرها
تناوحها بالدموع الغزر
وتأسي لها أن علاها كفور
ينغصها بالمآسي الكثر
يعب من الخير ما قد أفاض
بها الله ثم الجحود بطر
ينكس راياتها المشرقات
بنور الإله ويدعو النكر
وما مؤمن عنده آمن
ولا مسلم القلب إلا سخر
كأن من المنكرات العظا
م قولك: ربي الوجود فطر(6/287)
أغرك أن فتق الله سرا
لديك عن الخلق قبل أسر
وماذا من العلم في جعبة الكو
ن نلت؟ لقد نلت ما قد نذر
ومن يمتح البحر مهما استزاد
فما نقص البحر بعض القطر
فدع عنك هذا الغرور الغشوم
وانصت إلى الله في كل سر
تعاظمت لما ملكت القوى
من النار والمعدن المنصهر
وركبت منها العجيب الرهيب
بعقل حباك الإله المبر
فيا كرم الله كم يعظم الفضل
-م- منه ويغوي الجحود المصر
أئن أمر الله آفاقه:
ألا فافتحي الباب للمختبر
لعل المعاند اما ارتقى
فشام الروائع للذقن خر
وأجهش في عبرات اليقين:
(تباركت من خالق مفتطر)
عتوت كأن قد سمكت السماء
وأنجمها الزاهيات الزهر
وغلفت قلبك بالكبرياء
وطرفك في النكر طرف النمر
ومن قبل كان أبو الأنبياء الـ
ـخليل-إذا ساح-جم الفكر
يقلب في الكون أنظاره
ووجدانه باليقين عمر
على الأرض ثمة لا مرصد
لديه ولا طائر بالشرر
رأي الناس في لجة غارقين
لبازغة عبدوا أو حجر
فناداهم أين فضل النهي
-ظلمتم- أليس الدليل أبر
تعالوا لنعبد من لا يزال
له الحول والطول المستمر
ولما رأى النجم أهوى بهم
إليه وللبدر لما بدر
وللشمس بازغة كالعروس
- تطل من الأفق – فيها خفر
وغابوا جميعا فما بالهم
يسيرون في نهج مستطر
أما يملكون – على عظمهم-
بقاء ثوان على ما سطر
فلله وجهي الذي خلق الكو
ن بدءا وأعطى لكل قدر
ويا قوم لا تسفهوا بعدها
لقد حصحص الحق للمفتكر
متى أخلص المرء وجدانه
لرب السماء راى واعتبر
ولاحت له في كتاب الوجود
حقائق مسطورة كالسور
وليس بنافعه أن يرود
عباب الفضاء بقلب كدر
فكم آية تبهر المستريد
ولكن ناظره قد سكر(6/288)
تباركت ربي الحليم الغفور
بسطت من الفضل للخلق ثر
مننت على العابدين الحديد
- م – والسائل اللاهب المنفجر
لترفعها حجة كالنهار
على منكر في عماه سدر
ألفنا السبات ومن حولنا
يمورون كالمارج المستعر
وكل أبي إذا شاقه
من المجد نور أعد السهر
غدا يسأل الله اما وقفنا
يحاسبنا عن حصاد العمر
علام رضيتم لراياتكم
بدار السباق بأن تندحر
ألستم رجال الكتاب المبين
متى جاءه مخلص لم يبر
فإن خفت خزي العقاب الأليم
-م- قبل الفوات وقبل الحسر
فشق إلى النور درب الجهاد
وصح للعلا بالأباة الصبر
فما هتك المعتدين الغزاة
سوى مؤمن كالشهاب أعر
إذا رفع الكفر أعلامه
ففي عصب المؤمنين خور
ولو زأر الليث في غيله
لولى لفيف الذئاب الدبر
ولكنها غمة في الفؤاد
أماتت حمية من يستعر
وبات الملهب في غيظه
لخذلانه ساعدا قد بتر
أنعطي الدنية في أمرنا
ونصبر إذ ذم من يصطبر
وتسحب من تحتنا أرضنا
كما سلب الثوب عن ذي سكر
ونرقص والعار وسم الجبين
وأعداؤنا راصدون غدر
وما كان في شيم الأولين
إذا مسهم نائب من صغر
كأن لم يلدنا مثنى الحروب
ولم يفتح الأرض فينا عمر
ولكننا قد كرعنا الهوا
ن حتى نكرنا مجاج الظفر
ولكن قومي وإن أسرفوا
لهم في المعالي قديم الأثر
لعلي بهم بالعدي يعصفون
كما تنزع الريح رأس الشجر
فتطهر من رجسهم قدسنا
وتشدو مآذنها في السحر
وترفل بالنصر مغترة
مرابعها والمقام الطهر
ومن عاش للثأر لم يغتمض
ولم يهدر الحق كان الظفر
--------------------------------------------------------------------------------(6/289)
[1] مستعمل: ذو ارتفاع ومسبطر: ممتد.
[2] الوزن: الحساب، والقدر: المقدار
[3] انك: مخففة
[4] المبتدر: السابق(6/290)
إلى رياض العلم
للطالب عبد الله عارف الحسن
الطالب بالسنة الثالثة بالمعهد الثانوي بالجامعة
أقول فكن لي مصغيا في مقالتي
أخا العلم قم واشهد حدائق روضة
(وقد أينعت) للمجتني كل فينة
هي الروضة الخضراء تعطي ثمارها
لقلت هي الفردوس من غير فرية
فوالله لولا خلت إني مبالغ
فصلوا عليه في الضحى والعشية
بطيبة إذ فيها الحبيب محمد
وياليت قومي يعلمون وجيرتي
فأحسن بدار الوحي صيفا ومربعا
يقولون: لو أضحى بأرض عشيرتي
تطيب نفوس المولهين بحسنها
هل النجم في الأفق المنير كحلكة؟
أخا العلم لا تفتر ودم في طلابه
وكم من جهول لم يزل في الجهالة
فكم من وضيع ساد بالعلم وارتقى
بكل نشاط للعلي وبهمة
وشمر عن الجد السواعد والتمس
بأنواره سبل الهدى والهداية
ولا تطلبن العلم إلا لتهتدي
ولا تسلكن يوما سبيل الغواية
وكن عاملا للدين تحظ بنيله
بشيرا نذيرا أزهق الكفر باللتي
تأس بمبعوث إلى الخلق رحمة
عليه صلاة الله في كل حالة [1]
نبي تسامي خلقه وخلاقه
وأمته فاقت على كل أمة
فنعم المربي كان للناس أحمد
--------------------------------------------------------------------------------
[1] جمع الناظم بين التأسيس وعدمه في القافية، وهذا لا يدركه إلا أهل العروض، ولعله يعني به ليتجنب مخالفة قوانين الخليل فيما بعد. (الجامعة الإسلامية)(6/291)
الصفحة الأدبية
لأبي عاصم
روينا بأسانيد عن أبي الفتح شهاب الدين محمد بن أحمد الأبشيهي: أن الغضبان لما كان راجعا من خراسان نزل برملة كرمان في شدة الصيف والقيظ فضرب قبته وحط رواحله، فبينما هو كذلك إذا بأعرابي قد أقبل على بعير قاصدا نحوه، وقد اشتد الحر وحميت الشمس وقت الظهيرة وقد ظمئ ظمأ شديدا، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال الغضبان: هذه سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم وردها فريضة فرضها النبي صلى الله عليه وسلم قد فاز قائلها وقد خسر تاركها.
قال الأعرابي: أصلحك الله إن الرمضاء وشدة الحر قد أصابتني وإن الظمأ قد قتلني فتيممت قبتك أرجو بركتها. فقال الغضبان: هلا تيممت قبة أكبر منها وأعظم؟ قال: أيتهن تعني؟ قال: قبة الأمير ابن الأشعث. قال: تلك لا يوصل إليها. قال: فهذه أمنع منها.. فقال الأعرابي: ما اسمك يا عبد الله. قال: آخذ. قال: وما تعطي. قال: أكره أن يكون لي اسمان. قال: بالله من أين أنت. قال: من الأرض. قال: وأين تريد؟ قال: أمشي في مناكبها. فقال الأعرابي وهو يرفع رجلا ويضع أخرى من شدة الحر: أتقرض الشعر؟ قال: إنما تقرض الفأرة. قال: أفتسجع؟ قال: إنما تسجع الحمامة. فقال: يا هذا ائذن لي أدخل قبتك قال: خلفك أوسع لك. قال: قد أحرقتني الشمس. قال: مالي عليها من سلطان. فقال: إني لا أريد طعامك ولا شرابك. قال: لا تتعرض إلى ما لا تصل إليه ولو تلفت روحك. فقال الأعرابي: سبحان الله. قال من قبل أن تطلع أضراسك. قال الأعرابي: بالله من أنت؟ قال: أنا الغضبان بن القبعثرى. قال اسمان منكران إني لأظنك حروريا. قال: اللهم اجعلني ممن يتحرى الخير. قال: إني لأظن عنصرك فاسدا. قال: ما أقدرني على إصلاحه.. فولى الأعرابي وهو يقول:
إني أظنك والرحمن شيطانا
لا بارك الله في قوم تسودهم
فأظهر الشيخ ذوالقرنين حرمانا
أتيت قبته أرجو ضيافته(6/292)
قال أبو عاصم: وقد أذكرتني هذه الحكاية حكاية ابن أبي سنان قال كنا جلوسا نتذاكر شئون العلم والإيمان ونستثير في القلوب الأحزان والأشجان على ما سلف من المسلمين وما خلف وما أصابهم من الفساد والتلف إذ أقبل إلينا إنسان فجلس على ركبتيه وأرخى جفنيه وقال بصوت كسير وقلب حسير: إني سائلكم يا معشر المتعلمين عن مصيبة حلت بهذا المسكين؟ ما قولكم في رجل حميت عليه امرأته فصبت من لسانها عليه العذاب صبا ففار الدم في خلايا رأسه ودماغه فقذفها (بطلقة) كأنها شهاب ثاقب، ثم لم يشف ذلك غله فعاد من عند الباب ورماها (بطلقة) أعظم شررا من أختها فصاحت المنكوبة وولولت ولم تترك له أبا ولا جدا ولا نسبا ولا صهرا فعزز طلقاته (بطلقة) ثالثة لم تبق في المسكينة من عقل يذكر.. وهما الآن على ما فرطا نادمان وللتلاقي متلهفان.
قال ابن أبي سنان فماج القوم موجة ومد والله كل عنقه وفتح عقيرته فإذا بذلك الشاكي المستفتي يسمع في لحظة واحدة عشرين جوابا وفتوى. وبلع المسكين ريقه وكفكف حريقه واشتغلوا عنه ببعضهم يشرح كل واحد رأيه وفتواه، والذي أدى إليه اجتهاده وتقواه، فمن قائل: يعود بعضهما لبعض وقائل: لا يعودان وقائل: هي طلقة واحدة وقائل: طلقتان، فما زالوا على صخبهم وضجيجهم والمسكين لا يدري ماذا يصنع، وقد أخذه الرعب والعجب وتملكته الحيرة والسورة، فلما طال به المقام ولم ينته اللجاج والخصام أشفق على نفسه منهم، وعليهم من نفسه وقال: ياقوم يا قوم أنا أكفيكم المسألة وأطفئ عنكم نار المشكلة، امرأتي والله طالق ثلاثين لا ثلاثا فلا رجعها الله أبدا …
ثم ولى وهو يجمع أطرافه ويلملم ثيابه مستعيذا مستجيرا وخائبا محسورا.(6/293)
قال أبو عاصم: فما كان أغنى هؤلاء عن كل هذا الجدال والمراء، وكلهم لو كان صادقا في تقواه لكان على نصيب من الحق في فتواه، لأن المجتهد لا يخلو من أحد القسمين من الأجر أو الأجرين.. وقد صار هذا شأن كثير من المتعلمين، ولع بالمبارزة والمناظرة والمداورة والمحاورة كأنهم فرسان في حلبة قتال أو معترك نزال، يخوضون في كل سؤال وإشكال ما بين تقرير واعتراض وتقدير وافتراض وما تكاد تفتح فمك لخطاب حتى يفتح لك في كل كلمة باب وتشرع لك في كل مسألة حراب..
والويل ثم الويل لمن يشرح لهم حكما ما: إنها ليست أمرا مسلما ولا دليلا محكما، ومن أين لك هذا الحكم وكيف؟
وما دليله وكيف؟
ومن رواه وكيف؟
فإن قلت: هو من بنات أفكاري ونتيجة اجتهادي وابتكاري..
قال لك قوم: ومن أذن لك بالاجتهاد ألا يكفيك أن تكون من الإتباع؟
أنى لك النظر والاستنباط يا قليل الاطلاع يا ضيق الباع!
وإن قلت: ليس من ابتداعي ولا اختراعي بل هو قول العلماء وسبقني إليه الفقهاء..
قال لك قوم: كل إنسان نأخذ منه وترد.. العلماء؟ ومن هم العلماء؟ هل هل خلقوا من ذهب أم هو خلق آخر؟ إنهم رجال ونحن رجال ولله وحده الكمال.
فما تزال المعارك دائرة، والدماء فائرة، والمسائل متناثرة، لا تدري الحجة عند هذا الصائح أم عند ذاك المنادى؟
وأيم الله ما بلغ مثل هؤلاء غاية، ولا أصابوا حقا، ولا استفادوا علما وما هدوا إلى رشاد..
العلم إنما يتوصل إليه بالإحسان في الطلب وكمال الأدب.
ولطافة السؤال والبراعة في الجواب من غير بغي أو تعد على الحدود ولا بعد عن المطلوب والمقصود.
إني والله رأيت علامة العلم في العالم وسمة الفضل المتكامل أن سكوته يكون أكثر من كلامه..
لأن العلماء يزنون الكلمات ويتخيرون الحجج ولا ينطقون إلا إذا سئلوا، ولا يفتون إلا إذا انتدبوا، فإذا قالوا سمعت الحكمة الرائعة والبرهان الساطع.(6/294)
وإني رأيت علامة الجهل في الجاهل كثرة سرده وتراكم عباراته وتزاحم كلماته من غير نظام ولا إحكام.. هو أول القائلين والمتكلين وآخر الصامتين..
قال أبو عاصم: وما سمعت فيما سمعت أبلغ أثرا ولا أقطع للمشكلة من حجة أبي مهدية الأعرابي، وكان ولى إحدى الإمارات في اليمامة وكان بها يهود أهل خبث وجدل … فكثر كلامهم حول عيسى عليه السلام وادعوا قتله وافتخروا بذلك.. وتركوا الناس في حيص بيص فدعا بهم وقال:
أنتم قتلتم عيسى بن مريم؟
قالوا: نعم يا أبا مهدية.
قال: لتدفعن ديته أضعافا مضاعفة لأنه كان نبيا صالحا وإلا قتلتكم به جميعا..
فما تخلصوا حتى بذلوا له الأموال الطائلة.(6/295)
من هو الناقد الأدب
بقلم عبد الرحمن الأنصاري الطالب بالسنة الرابعة بكلية الدعوة بالجامعة
للنقد الأدبي طرائق إذا حاد عنها الناقد عد نقده من هذر القول ولغوه، ولم تكن نسبته عند ذلك إلى الأدب ونقده إلا كنسبة الشيء إلى ضده.
وقبل التطرق إلى الناقد الأدبي ومهامه أود في المستهل أن أذكر العمل الأدبي ما هو فأقول: هو: (التعبير عن تجربة شعورية في صورة موحية) [1] . وعلى قد تتبعي المتواضع فإني لم أعثر على تعريف جامع كهذا.
هل للنقد الأدبي قواعد لا يحيد عنها الناقد؟
يرى بعض الأدباء أن قواد النقد الأدبي ينبغي أن تكون حرة كما خلقها الله.. وإذا وجد هناك معايير معينة فإنها ترجع إلى (ذوق الناقد وحصافته) [2] .
وسيد قطب رحمه الله تعالى خصص فصلا في كتابه (النقد الأدبي) أسماه: مناهج النقد الأدبي.
وهو رحمه الله لا يقصد من هذه المناهج التي حددها: أن تكون قواعد دقيقة، دقة القواعد العلمية البحتة إنما الغرض منه هو توضيح الاتجاهات وإعطاؤها سمة خاصة تفرقها من غيرها قدر الإمكان، وكل مغالاة في التحديد الحاسم منافية بطبعها لطبيعة الأدب المرنة [3]
ومع احتراسه رحمه الله من تحديد قواعد للنقد، فقم رسم مناهج هي منائر للسالكين في هذا الدرب الطويل الشائك، ولعل من أمتع هذه الفصول: الجانب التحليلي للمنهج النفسي.
بماذا يختلف الأدبي الحديث عن الأدب في القرن الرابع مثلا؟
مما لا شك فيه أن مجالات النقد الحديثة أوسع من المجالات الموجودة أمام الناقد في العصور الأولى من صدر الإسلام لقربها من تدوين النقد. إن صح هذا التعبير. ولأن (الأسباب التي دعت إلى تنظيم النقد الأدبي منذ آخر القرن الأول هي عين الأسباب التي دعت إلى تدوين اللغة، ووضع العلوم اللسانية المختلفة) [4](6/296)
ومع الأسف فإنه مع تكامل تدوين النقد وسائر فروعه فإن دقة الأوائل لم ينلها حتى الآن اجتهاد الأواخر.
مهمة الناقد:
إن مهمة النقد لمن المهمات القيمة التي لا يضطلع بأعبائها إلا ذوا الحصافة ومقدرة معينة على التبصر من خلال الزوايا العميقة المتطلبة لدقة وعمق.
والناقد الأدبي يختلف عن كثير من النقاد لما لحرفته من مهام وسمات متصلة بالنفس البشرية لا يمكنه ازاحتها عن نفسه الملتصقة به إلا إذا وعى حقيقة النقد الأدبي، وآثرها على كل الاعتبارات المجلبة للرضى والغضب.
ملاحظة هامة: وثمة ملاحظة أعتبرها جديرة بالاهتمام، وعلى إخواننا من هواة الأدب ومحبيه أن يتنبهوا لها حتى لا يقعوا في حبائلها، وفي أسلاكها الشائكة وهي أن كثيرا ممن راجوا على الوسط الأدبي وعرفوا بأنهم نقدة أدب اتخذوا مقياس التجرد الذي أشرت إليه في صدر حديثي مرتقى إلى التزامهم بالمبادئ المعينة التي يدعون إليها، والتي قد تكون نقيض ما نؤمن به من مثل عالية، هي فيض الهامنا، وزاد مسيرتنا الطويلة في تحقيق الأهداف العالية.
وهذه الملاحظة بدورها تدعوني إلى تفنيد دعوى عدم الالتزام المنبثة من الصهيونية العالمية، لنخرج من شباك الالتزام لنفسح لهم الدخول من أوسع أبوابه..!!
--------------------------------------------------------------------------------
[1] النقد الأدبي أصوله ومناهجه لسيد قطب
[2] انظر ما يفيد هذا المعنى في الجزء الثالث من حديث الأربعاء.
[3] النقد الأدبي أصوله ومناهجه لسيد قطب.
[4] تاريخ النقد الأدبي عند العرب للأستاذ طه أحمد إبراهيم ص 50(6/297)
الوجه الحقيقي للإسلام
للطالب عبد الله عثمان الكوكي
هذا كتاب صغير الحجم لا تتجاوز صفحاته المائة والخمسين ولكنه عظيم الفائدة، بالغ الأهمية، وحجة قوية تدحض مزاعم خصوم الإسلام الناعقين في الفراغ الجاهلين لمبادئه الرائعة التي تسمو بالإنسانية إلى أسمى الدرجات.
ومؤلف هذا الكتيب النفيس هو الدكتور صلاح الدين كشريد الشهير، الذي جند قلمه الفرنسي الرائع منذ سنوات طوال لخدمة الإسلام، فكان خير داعية إلى الإسلام وخير مفند لأباطيل وأكاذيب أعداء الحق وعبيد اللذة والمادة، فقد نشرت له الصحف التونسية والأجنبية الكثير من مقالاته البناءة الداعية إلى الله، وهو المشرف على القسم الفرنسي بمجلة جوهر الإسلام التونسية لصاحبها فضيلة الشيخ الحبيب المستاوي الداعية الإسلامي الكبير والشاعر البارع.
والكتاب مجموعة بحوث قيمة في غاية العمق والجدال الرصين والدعوة إلى سبيل الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة. وقد تم طبعها سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة وألف بمطبعة (النجاح) بتونس العاصمة.(6/298)
ولقد توقع المؤلف أن يوجه له القارئ سؤالا عن غرضه من الكتابة بلسان غير لسانه العربي فأجابه بقوله (جوابي بسيط ذلك لأني أتوجه بكتابتي إلى قوم تواقين لكل ما هو جديد، قوم حسب رأيي فيهم أنهم يتصفون بعدم الاهتمام والعدول عن كل شيء يألفونه، وهذا يحز في نفسي، إذ هم لم يحاولوا أن يحاجوا الشعوب الأخرى بما عندهم من حق تلك الشعوب التي أمكنني التعرف عليها والتوصل إلى الوقوف على أخطائها المؤدية لا محالة إلى التدهور وسوء المصير للعالم بأسره. وتلك هي عاقبة الأمور ثم قال إننا نعلم كلنا: أنه لا يكرم نبي في قريته، غير أنه على الأقل أوجه بحوثي هذه إلى كل من يتمتع بصبر وقدرة على متابعة خطابي حتى نهايته، ثم لا يحاول نقض الحق إلا بما هو أحق منه وأن لا ينظر إلى الأمور إلا نظرة علمية وواقعية ثبتت صحتها وقبلتها الفطرة
فتعال أيها القارئ الكريم نبحث معه هذه الفصول البالغ عددها سبعة عشر فصلا هي: العلم وتحديات الطبيعة، مولد الدين، تاريخ الديانات، محمد نبي ورسول من الله، القرآن، الإسلام والرق، تعدد الزوجات، الشريعة الإسلامية، قواعد الإسلام الخمس، الصلاة، الصدقة العادلة أو الزكاة، صوم رمضان، الحج إلى بيت الله الحرام، المحظورات في الإسلام، الخمر والمخدرات، الجهاد في سبيل الله، موقف الإسلام من الرأسمالية.(6/299)
وفي فصل العلم وتحديات الطبيعة بين لنا المؤلف عجز الإنسان عن إدراك كنه جميع الأشياء وكيف أن الإنسانية في القرن العشرين تجاوزت اعتبار أهمية العلوم بالنسبة لكل شيء وهي حقيقة رائعة تمنعنا مهما كانت درجة معرفتنا أن نقول في شيء ما، يجب أن يقع هكذا. ولكن يجب أن نقول لهذا الشيء أنه وقع هكذا، وكما قال سقراط رغم عقليته الجبارة وكان يحتضر: "أعرف أنني لا أعلم شيئا"ذلك لأنه يعرف أن عقل الإنسان متعطش دوما إلى المعرفة وتواق إلى الذي هو أكثر حقيقة وعلما، فقوانين المادة وأكبر النظريات الحسابية والفزيائية تتقدم باطراد، وكل نظرية جديدة تهدم التي سبقتها ثم تنهدم هي بدورها. ومثال ذلك أن أقيسة الأشعة غير ثابتة وأسماؤها تتغير دائما، ولم تثبت حتى الآن، وهذا تسببه طبعا اكتشاف نظريات حديثة تظهر لنا حقائق أخرى أكثر جدية وفاعلية.. وإذن فما هي المادة؟ أو ما هي الطبيعة، وما حالاتها في واقع العالم، ثم ما هو موقف عالم فذ مثلا من علماء القرون الوسطى إزاء مذياع أو حتى كشاف كهربائي بسيط مما هو معروف في زمننا هذا؟ لا شك أن هذا العالم سينسب هذه الصناعة إلى السحر أو الأمور الخارقة للعادة، وكذلك نحن أيضا فمهما تكن قدراتنا العقلية فهي عاجزة عن استيعاب ما يفوقها نظريا، لأن النظريات العلمية تساير واقع حضارتنا وقدرة عقولنا، فهي تشبه الحذاء تتسع اليوم حسب طاقتنا وتضيق غدا عند تقدمنا حضريا، وعند تطور النظريات العلمية، لذلك لا يمكننا أن نعتمد على العلم في اثبات حقائق راسخة. وهذا ليس غريبا ولكن الغريب أن نزعم أنه يمكننا تفسير كل الأشياء أو ترك بعضها على حدة باعتبارها غير محسوسة، ثم نقول إنها الطبيعة، خوفاً من أن نقول إنها من صنع الله تعالى!. ثم إنه إذا كانت القاعدة الصحيحة أن اثنين مع اثنين يساويان أربعة، وأنه ليس هناك دخان من غير نار فما نقول في مسألة تناسق هذا الكون؟ وماذا نقول في الشمس والقمر والليل والنهار؟ ثم(6/300)
لماذا الكواكب في نظام محكم عجيب؟ أليس من السخف أن نقول إنها الطبيعة؟!.. إننا نعلم أن كل نظام لا بد له من منظم، فكيف لا نعلم أن الله منظم هذا المدار الشمسي؟ هذا الذي لا يفوق حبة خردل ملقاة في محيط واسع، ولكن كفر الإنسان وما أجهله!.. إنه يحب أن يكون إلهه في متناول يده حتى يمكنه التحكم فيه، وكما قال المؤلف في فصل مولد الدين: "ما كان ذنب إبراهيم الخليل عليه السلام سوى أنه صرح بالحقيقة التي صدمت العقول فكان أن ألقاه قومه في النار، كذلك نحن في هذا القرن فإننا نفتش عن غير الله، ذلك لأن الله لا تدركه الأبصار ولا يشاركه أحد في ملكه، ونحن منذ بدء الخليقة نحاول اخضاع جميع الأمور في سبيل أهوائنا ولكن هيهات أن يحصل ذلك أبدا! ".(6/301)
وأما القرآن الكريم فهو ليس مجرد كتاب يقرأ من حين لآخر للتسلية، ولكنه دستور يحمل بين طياته مقررات تهم المرء وعلاقته مع خالقه. وتهم أخص خصوصياته، فهو يعلمنا حتى كيفية الأكل وكيفية الاغتسال ويعطينا الحلول الناجعة لكل المشاكل التي تعترضنا، ثم هو ينظم علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وينبه على حسن معاملة حتى الحيوان وبما أن القرآن الكريم هو آخر الكتب السماوية فإنه حوى الصيغة النهائية التي يجب أن يسير عليها العالم بأسره، ولم يسمح بتغيير أي بند من بنوده، ومزق غشاوة جهلنا، ووضح لنا أهمية المخلوقات في هذا الوجود، ففيه بيان كيفية خلق الأرض والسماوات، وفيه حقائق عن القمر والشمس والجبال، مع أن العلم لم يصل حتى الآن إلى اكتشاف جريان الشمس في الفضاء، إلا أنه توصل إلى معرفة أن مدار الشمس كله يسبح في الفضاء، ولنتل قول الله تعالى من سورة (يس) : {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} .
وهكذا صدق أعلم العالمين، وعجز عباده العاصون، كما يذكر المؤلف شيئا هاما لم يقل العلم فيه كلمته الثابتة وهو مسألة تعاقب الليل والنهار فيذكر لنا كلمة للعالم الذري التونسي الدكتور البشير التركي جاءت في محاضرة له أمام علماء الذرة وهي أن تعاقب الليل والنهار ليس من جراء اختفاء الشمس خلف الأرض فحسب لأن النور المنبثق من النجوم يمكنه أن يغمر الأرض ويكون أشد ضياء ولكن بماذا نفسر هذه المعضلة؟ إلا أن المهم هو أن المعارف الجديدة التي كشف عنها العلم لم تدع مجالا للشك في وجود مدبر جبار وراء ظواهر الطبيعة ألا وهو الخالق جل شأنه.(6/302)
وأما رد المؤلف على المعارضين لتطبيق القانون الإسلامي فإنه صاغه في صورة احتجاج عليهم لأنهم يستطيعون قطع عوض أو حتى جزء كامل من الإنسان للحد من سريان المرض في بقية جسده، أو ربما لإجراء تجربة عليه دون اعتبار لقيمته، ثم هم لا يسمحون بالقصاص أو الخلاص من عضو أفسد المجتمع ونخر هيكله!.. ولو طبق قانون رب العزة والجلال لما تجرأ أحد على خلع عين غيره أو انتهك حرمات الناس، وعندنا المملكة العربية السعودية وما يتمتع به أهلها من اطمئنان على ممتلكاتهم خير شاهد على نجاعة القانون الإلهي، فمنذ قيام المغفور له عبد العزيز بن سعود ظهرت نتيجة الحكم العادل، حتى أن الزائر لهذه البلاد اليوم يشاهد أروع ما في العالم.. يشاهد الأمتعة الثمينة في المحطات والأمكنة العمومية للمسافرين من غير حراسة ولا يفقد منها شيء، كما يشاهد دكاكين المجوهرات مفتوحة وقد توجه أصحابها إلى الصلاة وتركوها وراءهم مطمئنين أنها لن ينقص منها ذرة.. واسمعوا هذه الواقعة: كان ذلك سنة 1935 م عندما نزل جدى بميناء جدة وكان غرضه أداء فريضة الحج، وفجأة فقد حزامه الذي به كامل ماله فاضطرب اضطرابا شديدا، ولم يدر ماذا يفعل!.. ولكن نصحه أحد الحجاج المرافقين له بإبلاغ الأمر إلى الشرطة فعمل بهذه النصيحة، وتوجه نحو مكة المكرمة، ولما وصلها جاءه آمر الشرطة وسلمه حزامه وبداخله كل ماله.
وفي مكة المكرمة والمدينة المنورة وغيرهما انتشر الصرافون على القرعة وقد وضعوا أمامهم مختلف العملات من غير حاجز يحميها من اللصوص لأن أصحابها لا يخافون تفجير المفرقعات مثلما يحدث في البلاد المتمدنة عند محاول الاستيلاء على أحد البنوك!.(6/303)
وأما ما جاء في الفصل الأخير الذي عنوانه موقف الإسلام من الرأسمالية والشيوعية فهو قوله: "إذا كانت الرأسمالية كما يدل عليها اسمها هي كون السلطة بكاملها بأيدي الأغنياء والمال مقسم بينهم على قاعدة أن المال يأتي بالمال، فإن إله هذا المجتمع لا يشبه إلا العجل الذهبي إذ أن المجتمع فيه يخضع لأفاكين منحطين ولهم أفكار دنيئة، ذلك لأنهم يعتبرون ما للفرد من رصيد في البنك ولأن المال لا تفوح منه رائحة عفنة. أما الرجل العادي النظيف الشريف الذي ليس له مال فإنهم يحقدون عليه وينظرون إليه على أنه متخلف متهور إنسان غير مرغوب فيه، ولذ فإنه يمكن لهؤلاء الرأسماليين أن يستغنوا ببيع الفضلات للأمم الضعيفة وبأخذ أموالهم عن طريق الربا، وأنه مهما يكن الواحد منهم فإنه توهب له الجنسية والجنسيات العديدة ويرقى إلى أعلا مراتب القومية، ويدخل أي مجموعة كانت كل ذلك لأجل أشباع نهمه وتحقيق أغراضه السافلة.. العدالة ومراكز الرآسة والصحافة وكل وسائل الإعلام بأيدي الأغنياء، فهذه الرأسمالية، العدو الذي يمتص دم الناس وعرق الفقراء".(6/304)
ونتيجة لهذه الحالة يتكون البغض والحقد بين طبقات المجتمع ويوجد أناس يرفعون من قيمة اليد العاملة إلى درجة سيادتها على بقية الطبقات الأخرى، وتحطيم هذا النظام البرجوازي ليعوض عنه بنظام غير عادل أيضا ألا وهو الشيوعية، التي تأخذ بزمام الأمور وتوجه حربها ضد أي غني ولو كان ماله حلالا حصل عليه بعرق جبينه بدعوى التسوية بين البشر!. وهي لا شك نظرة خاطئة لأن الناس لا يولدون متساوين، وإذا أردنا أن نسوي بينهم فلنبدأ بخلقهم متساوين في القدرات العقلية والطاقات الجسدية، وهذا طلب للمحال، ثم لنفرض أن هذه الاشتراكية جاءت على أساس حب العدالة للمجتمع، فهل يلزم أن يكون الذي بيده السلطة مثالا لهذه العدالة؟ أو ليس امتياز العامل على غيره هو امتياز طبقة على أخرى؟.. وهيمنة المطرقة والمنجل على الإنسان؟!.. وإذن فلا المال ولا المعول يقدر قيمة هذا الإنسان لأنه يكون عبدا لهما، ويستمر العامل هكذا ممتلئا بالمشاكل والبؤس لأن كلا من الرأسمالية والشيوعية استغلال طبقة لأخرى، الأولى عمادها الثراء والثانية عمادها الذكاء، وهي أخطر من الأولى لأنها تطعمنا السم ممزوجا بالعسل وهذه حقيقة مزيفة لواقع الإنسان.
فيا أيها الإنسان تعال نتعاون لنتخلص من هذه العبودية غير العادلة تعال نوفق بين الأجناس ولا نفرق بين الأبيض والأسود، ونعدل بينهم بإتاحة الفرصة لجميع الناس حتى يعمل كل حسب طاقته ونتخلص من هذه السرقات الخفية التي تخنق الإِنسان. ولنمتثل لقول الله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
ذلك هو كتاب الدكتور صلاح الدين كشريد الداعية الإسلامي الكبير وقد حاولت استعراض بعضه للقارئ الكريم تنبيها إلى أن الإسلام في حاجة إلى دعاة بجميع لغات العالم وأننا مقصرون في هذه الناحية فنسأل الله الإعانة على خدمة الحق ونصرة الإسلام.(6/305)
الشباب دعامة المستقبل
بقلم: عبد العزيز يوسف بهزاد
خريج كلية الشريعة بالجامعة
إن الشباب هم عماد الدين وأساس بنائه ولبنات المستقبل، ففي ارتفاع مستواهم يسمو مستوى الأمم والمجتمعات، ويعلو إلى أعلى الدرجات وبانخفاضه يهبط المجتمع وينخفض إلى الحضيض. وإن ما نراه اليوم من عدم اهتمام الشباب بالمسؤوليات الملقاة على عاتقهم شيء مؤسف جدا لأن الشباب هم الذين سيتحملون المسؤولية الكبرى وتبعاتها غدا، وأما الموجودون اليوم فهم لا شك لن يبقوا لنا بل سينتهي أمرهم – سنة الله في خلقه – إما إلى الموت والفناء أو إلى الشيخوخة والعجز.
وإن ضلال الشباب وانحرافاته التي نشاهدها اليوم في كثير من الدول الإسلامية من السير خلف التقليعات وقشور الحضارة الحديثة من تخنفس وتخنث وتعر وميوعة وعدم شعور بالمسؤولية واللامبالاة.. والاهتمام بالملابس المزركشة، والضيقة، وذات الألوان الصارخة، وتطويل الشعور وتقصير الملابس أو الفساتين، والسير خلف تقاليع اليهود والنصارى والكفرة والملحدين وغيرهم من الشرق والغرب وتقليدهم تقليدا أعمى وتشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال ...
كل ذلك له مسؤول بل مسؤولون وهم:
أولا – الآباء وأولياء الأمور حيث تقع عليهم المسؤولية الكبرى والتبعة.
ثانيا – المسؤولون في الحكومات، وعليهم شطر المسؤولية أيضا، وكل ما حدث ويحدث في هذا الوقت هو مصداق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه"قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن إذا؟ " أو كما قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء ولعن الله المتشبهات من النساء بالرجال" دليل على علمه صلى الله عليه وسلم بما سيقع في هذا الزمان وما قبله وما بعده بما علمه الله وأوحى إليه.(6/306)
فمما لا شك فيه أن الآباء هم المسؤولون أولا حيث أول ما يشاهد الطفل في هذه الدنيا والداه ويسير على حسب ما يسيرانه، ويتخذ منهم القدوة فكيف السبيل لاصلاحهم؟ إننا لا يجب علينا الضغط على الأبناء لأن ذلك يسبب الانفجار والضلال والإصرار على الغواية بدل الهداية، وكذلك لا يجوز إطلاقهم على أهوائهم دون إرشاد أو تنوير فذلك يجعل الشباب ضالا فكلا هذين الأمرين لا يجوزان، بل يجب على الوالد اختيار الوسط بإرشاده أحيانا، وبضربه أحيانا أخرى إذا اقتضى الأمر، بنصحه وزجره وتوبيخه مرات أخرى وتنوير طريقه بالنصائح والإرشادات، وتبيان الضار من النافع والطريق القويم المستقيم، وما يدل عليه من أدلة وأمثلة. وكذلك الطريق الفاسد غير المستقيم وأضراره ومفاسده المترتبة عليه، وضرب أمثلة وأدلة على كل ذلك ليكون لدينا جيل قوي مستقيم.(6/307)
وهكذا إنني أحمل الآباء مسؤولية ضلال الجيل الناشئ الجديد، لأنه خرج إلى الحياة على الفطرة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" وهم مسؤولون أمام الله الواحد القهار في يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" ومما يقطع القلوب أننا نرى كل يوم الخنافس وأشباه الرجال في تزايد مع شعورهم الطويلة التي تشبه القرود في تقليدها الأعمى والخنازير في قبحها، وتشمئز أنفسنا من مشاهدة المناظر البشعة في معظم الدول الإسلامية. وكذلك عادة تطويل السوالف المأخوذة من اليهود الصهاينة خاصة، كما هو معروف عندنا وفي أوربا وأمريكا والدول العربية أن اليهود يتميزون بتربية السوالف وشبابنا صغارا وكبارا وحتى بعض المربين يقتدون بهم طواعية، أحد الأصدقاء كان له سوالف وأخبرني أنه زار بعض الأقطار العربية واستغرب أحدهم منه فسأله بدهشة واستغرب: هل أنت مسلم؟ وكان يظنه يهوديا. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: من تشبه بقوم فهو منهم ومن أحب قوما حشر معهم، ونحن لا نأخذ أحكامنا ومبادئنا إلا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ونعود إلى المسؤول الثاني وهو الحكومات والمسئولين فيها، فعليهم مثلنا مسئولية كبرى وباستطاعتهم وضع ما يرونه من عقوبات على هذه الأشياء المخالفة والنافية للشرع.
وليت جميع الدول والحكومات الإسلامية تتخذ أوامر صارمة بمنع تربية السوالف والشعور الطويلة وتفرض العقوبات على أي شخص يخالف ذلك.(6/308)
وقد بادرت كثير من الدول باتخاذ قرارات مشابهة ومقاربة لما ذكرته، وأذكر أن إحدى هذه الدول قد قامت باعتقال جميع الخنافس وحلقت رؤوسهم وساقتهم إلى الجبهة لتجنيدهم وتدريبهم على الأعمال العسكرية الخشنة تدريبا إجباريا، فهذا أيضا من الأدوية الناجعة لمعالجة طيش الشباب المسيطر على الكثيرين منهم.
وبلغني أن أحد مديري المدارس منع جميع الطلاب الخنافس من دخول المدرسة ورفض أن يقبل أي واحد منهم.
بعد كل ذلك ينبغي أن نعلم بأنه يجب أن يكون هناك تعاون يبدأ بالبيت والأسرة ثم المدرسة وينتهي بالسلطة الحكومية، حتى نخرج جيلا ناهضا يستطيع القيام بأداء واجبه على أكمل وجه وينفع وطنه وأمته.
وختاما نسأل الله التوفيق للجميع، وأن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وأن ينفعنا بما علمنا ويعلمنا ما ينفعنا والله ولي التوفيق والقادر على ذلك.(6/309)
من أعلام المحدثين
علي بن المديني 161 – 234 هـ
للشيخ عبد المحسن العباد
المدرس في كلية الشريعة بالجامعة
نسبه:
هو علي بن عبد الله بن جعفر بن نجيح بن بكر بن سعد، هكذا نسبه الخطيب في تاريخ بغداد.
كنيته ونسبته:
كنيته أبو الحسن، واشتهر بابن المديني – بفتح الميم – وكسر الدال – نسبة إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم والنسبة إليها بهذه الصيغة قليلة وأكثر ما ينسب إليها المدني بدون ياء، وإنما نسب إليها لأن أصله منها كما ذكر ذلك البخاري في التاريخ وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل وابن الأثير في اللباب وكانت ولادته ونشأته بالبصرة، ولهذا ينسب إليها فيقال له: البصري، ويقال له: السعدي من بني سعد بن بكر نسبة إليهم نسبة ولاء وهو مولى عروة بن عطية السعدي كما في تهذيب الأسماء واللغات للنووي.
ولادته:
ولد ابن المديني سنة احدى وستين ومائة نقله الخطيب في تاريخه عن علي بن أحمد بن النضر وقال الخطيب: "كان مولده بالبصرة"وكذا أرخه الذهبي في تذكرة الحفاظ وابن السبكي في طبقات الشافعية.
ابن المديني من بيت علم:
الإمام ابن المديني أحد أعلام المحدثين الذين اشتهروا بحفظ الحديث ومعرفة علله، وأبوه وجده من حملة الحديث ونقلته فأبوه عبد الله محدث مشهور روى عن غير واحد من مشيخة مالك بن أنس وجده جعفر بن نجيح روى عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ذكر ذلك الخطيب في تاريخه.
ممن روى عنهم:(6/310)
سمع الحديث من كثير من المحدثين فرواه عن أبيه وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة وابن علية وأبي ضمرة وبشر بن المفضل وحاتم بن وردان وخالد بن الحارث وبشر بن السري وأزهر بن سعد السمان وحرمي بن عمارة وحسان بن إبراهيم وشبابة وسعيد بن عامر وأبي أسامة ويحيى بن سعيد القطان ويزيد بن زريع وهشيم بن بشير ومعاذ بن معاذ وعبد الأعلى بن عبد الأعلى وعبد الله بن وهب وعبد العزيز العمى والفضل بن عنبسة وفضيل بن سليمان وغندر ومحمد بن طلحة التيمي ومرحوم بن عبد العزيز ومحمد بن عبد الرحمن الطفاوي ومعن بن عيسى وأبي النضر وهشام بن يوسف وعبد الرزاق ويوسف بن يعقوب الماجشون وأبي صفوان الأموي وجعفر بن سليمان وعبد العزيز الدراوردي ومعتمر بن سليمان وجرير بن عبد الحميد والوليد بن مسلم وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الوهاب الثقفي وأبي الوليد الطيالسي وغيرهم، وكتب عن الشافعي كتاب الرسالة وحملها إلى عبد الرحمن ابن مهدي فأعجب بها ذكره أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء ص 103.
ممن رووا عنه:(6/311)
روى عنه البخاري وأبو داود، والذهلي وإبراهيم بن الحارث البغدادي والحسن بن علي الخلال وأبو مزاحم سباع بن النضر وأبو بكر عبد القدوس الحبحباني وأبو بكر بن أبي عتاب الأعين ومحمد ابن عمرو بن نبهان الثقفي وإبراهيم الجوزجاني وحميد بن زنجويه وأبو داود الحراني ومحمد بن عبد الله ابن عبد العظيم ومحمد بن جعفر بن الإمام وهلال بن العلاء الرقي وعباس بن عبد العظيم العنبري، وروى عنه سفيان بن عيينة ومعاذ بن معاذ وهما من شيوخه وأحمد بن حنبل وعثمان بن أبي شيبة وهما من أقرانه وابنه عبد الله بن علي وأحمد بن منصور وإسماعيل بن إسحاق القاضي وحنبل بن إسحاق وصالح جزرة وأبو قلابة وأبو حاتم والصاغاني والفضل بن سهل الأعرج ومحمد بن عبد الرحيم صاعقة ويعقوب بن شيبة وأبو شعيب الحراني وأبو الحسين بن البراء وصالح بن أحمد بن حنبل ومحمد بن علي بن الفضل المديني فستقة وأبو خليفة الجمحي ومحمد بن يونس الكديمي ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة وأبو يعلى الموصلي والبغوي وعبد الله بن محمد بن الحسن الكاتب وآخر الذين رووا عنه موتا عبد الله بن محمد بن أيوب الكاتب وأقدمهم شيخه سفيان بن عيينة وبين وفاتيهما مائة وثمان وعشرون سنة ذكره الخطيب وهذا من أمثلة السابق واللاحق.
من خرج حديثه:
خرج حديثه البخاري في صحيحه وروى عنه فيه ثلاثمائة وثلاثة أحاديث نقل ذلك الحافظ بن حجر في تهذيب التهذيب وخرج حديثه أبو داود في سننه وقد روى عنه البخاري وأبو داود بدون واسطة، وروى عنه أبو داود أيضا بواسطة وخرج حديثه الترمذي والنسائي في سننهما وابن ماجة في التفسير رووا عنه بواسطة.
ثناء الأئمة عليه:
وكان علي بن المديني موضع تقدير كبار المحدثين أثنوا عليه في حفظه وفي علمه وتبحره وبصره في علل الحديث وأثنوا عليه بوجه عام.
فمن الثناء عليه بوجه عام:(6/312)
قال أبو حاتم الرازي: "وكان أحمد لا يسمه إنما يكنيه تبجيلا له"قال: "وما سمعت أحمد سماه قط".
وقد بلغ مبلغا عظيما قال فيه عباس العنبري: "كان الناس يكتبون قيامه وقعوده ولباسه وكل شيء يقول ويفعل".
وقال البخاري: "ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني".
وقال النسائي: "كأن الله خلق علي بن المديني لهذا الشأن".
وقال النووي: "وأجمعوا على جلالته وإمامته وبراعته في هذا الشأن وتقدمه على غيره".
وقال الذهبي في ميزان الاعتدال: "وأما علي بن المدين فإليه المنتهى في معرفة علل الحديث النبوي مع كمال المعرفة بنقد الرجال وسعة الحفظ والتبحر في هذا الشأن بل لعله فرد زمانه في معناه".
وقال ابن حجر في تقريب التهذيب: "ثقة ثبت إمام".
حفظه:
وكان علي بن المديني من الحفاظ المبرزين قال فيه الذهبي: "حافظ العصر وقدوة أرباب هذا الشأن"وقال ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة: "الحافظ المبرز"، وقال الخطيب في تاريخه: "هو أحد أئمة الحديث في عصره والمقدم على حفاظ وقته".
علمه:
ومن ثناء الأئمة عليه في علمه قول عبد الرحمن بن مهدي: "ابن المديني أعلم الناس". وقول أبي عبيد القاسم بن سلام: "انتهى العلم إلى أربعة: أبو بكر بن أبي شيبة أسردهم له، وأحمد بن حنبل أفقههم فيه، وعلي بن المديني أعلمهم به، ويحيى بن معين أكتبهم له".
بصره بعلل الحديث:
ومن ثناء الأئمة عليه وإشادتهم بمعرقته التامة بعلل الحديث قول أبي حاتم: "كان ابن المديني علما في الناس في معرفة الحديث والعلل".
وقال ابن حجر في التقريب:"أعلم أهل عصره بالحديث وعلله".
وقال الذهبي في الميزان: "إليه المنتهى في معرفة علل الحديث النبوي".
وقال ابن الأثير في اللباب: "وكان من أعلم أهل زمانه بعلل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم".(6/313)
وقال أبو داود: "ابن المديني أعلم باختلاف الحديث من أحمد بن حنبل".
وفي تارخ الخطيب: سئل الفرهياني عن يحيى بن معين وعلي وأحمد وأبي خيثمة فقال:
"أما علي فأعلمهم بالحديث والعلل، ويحيى أعلمهم بالرجال، وأحمد بالفقه، وأبو خيثمة من النبلاء".
وقال صالح بن محمد: "أعلم من أدركت بالحديث وعلله علي بن المديني، وأفقههم في الحديث أحمد ابن حنبل، وأمهرهم في الحديث سليمان الشاذكوني".
دخوله في محنة القول بخلق القرآن وأثر ذلك وكيف انتهى أمره:(6/314)
وكان علي بن المديني رحمه الله ممن دخل في محنة القول بخلق القرآن دخول الخائف على نفسه ولم يصبر كما صبر الإمام أحمد بن حنبل وغيره بل هاب الإرهاب والقمع الذي حصل لمن لم يوافق دعاة القول بخلق القرآن إلى ما يريدون ومن أجل ذلك لم يرو عنه بعض المحدثين كالإمام مسلم. ولكنه تاب وأناب واتضح من قوله وقول غيره أن دخوله لم يكن عن عقيدة وإنما كان خوفا على النفس. وقد صرح بذلك عن نفسه وصرح به غيره، وقد أورد الذهبي علي بن المديني في كتابه الميزان لكون العقيلي أورده في كتاب الضعفاء وأنحى باللوم على العقيلي لذلك وذب عن هذا الإمام وأشاد بذكره والثناء عليه قال في كتابه الميزان (3/138) : "أحد الأعلام الأثبات وحافظ العصر ذكره العقيلي في كتاب الضعفاء، فبئس ما صنع، فقال: جنح إلى ابن أبي دؤاد والجهمية وحديثه مستقيم إن شاء الله"، ثم ذكر الذهبي بعض ثناء الأئمة عليه ثم قال: "وقد بدت منه هفوة ثم تاب منها وهذا أبو عبد الله البخاري – وناهيك به – قد شحن صحيحه بحديث علي بن المديني وقال: ما استصغرت نفسي بين يدي أحد إلا بين يدي علي بن الديني، ولو ترك حديث علي وصاحبه محمد وشيخه عبد الرزاق وذكر أناسا آخرين سماهم، لغلقنا الباب وانقطع الخطاب، ولماتت الآثار، واستولت الزنادقة، ولخرج الدجال، أفما لك عقل يا عقيلي أتدري فيمن تتكلم، وإنما تبعناك في ذكر هذا النمط لنذب عنهم ولنزيف ما قيل فيهم كأنك لا تدري أن كل واحد من هؤلاء أوثق منك بطبقات بل وأوثق من ثقات كثيرين لم توردهم في كتابك فهذا مما لا يرتاب فيه محدث".(6/315)
وقال الذهبي في الميزان أيضا: "كان ابن المديني خوافا متاقيا في مسألة القرآن مع أنه كان حريصا على إظهار الخير فقد قال ابن أبي خيثمة في تاريخه: سمعت يحيى بن معين يقول: كان ابن المديني إذا قدم علينا أظهر السنة وإذا ورد البصرة أظهر التشيع ثم قال الذهبي: قلت كان ذلك بالبصرة ليؤلفهم على حب علي رضي الله عنه، فإنهم عثمانية". انتهى. وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: "عابوا عليه إجابته في المحنة لكنه تنصل وتاب واعتذر بأنه كان خاف على نفسه"، وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ بعد أن ذكر كثيرا من ثناء الأئمة عليه: "قلت مناقب هذا الإمام جمة لو ما كدرها بتعلقه بشيء من مسألة خلق القرآن وتردده إلى أحمد بن أبي دؤاد إلا أنه تنصل وندم وكفر من يقول بخلق القرآن، فالله يرحمه ويغفر له". انتهى.
وقد جاء عنه الثناء على الإمام أحمد في صبره في المحنة وقال: "إن الله أعز هذا الدين برجلين، أبو بكر الصديق يوم الردة وأحمد بن حنبل يوم المحنة".
وقال ابن أبي حاتم الرازي في كتاب الجرح والتعديل: "وترك أبو زرعة الرواية عنه من أجل ما كان منه في المحنة وكان أبي يروي عنه لنزوعه عما كان منه".
وفي تاريخ بغداد أن عباس العنبري روى عنه أنه قال: "قوي أحمد على السوط وأنا لا أقوى"وقال ابن عمار: "ما أجاب إلى ما أجاب ديانة إلا خوفا"، وقال ابن السبكي في طبقات الشافعية: "وكان علي بن المديني ممن أجاب إلى القول بخلق القرآن في المحنة فنقم ذلك عليه وزيد عليه في القول، والصحيح عندنا أنه إنما أجاب خشية السيف"قال ابن عدي: "سمعت مسددا ابن أبي يوسف الفلوسي يقول:
قلت لابن المديني: مثلك في علمك يجيب إلى ما أجبت إليه. فقال يا أبا يوسف: ما أهون عليك السيف"، وعنه: "خفت أن أقتل ولو ضربت سوطا واحدا لمت".(6/316)
وهكذا نجد أن ابن المديني رحمه الله دخل في المحنة خائفا على نفسه لا معتقدا صحة ذلك كما صرح بذلك عن نفسه وصرح غيره كما في النقول المذكورة وإن دخوله هذا أثر في إعراض بعض المحدثين عن الرواية عنه ولما كان قد تاب واعتذر بأن الذي حمله على الدخول الخوف على نفسه لم يلتفت إلى ما سلف منه كثير من المحدثين فرووا عنه وعلى رأسهم الإمام البخاري الذي شحن صحيحه بالرواية عنه وبلغ جملة ما رواه عنه في الصحيح ثلاثمائة وثلاثة أحاديث.
شيوخه يستفيدون منه:
وكما كان ابن المديني يستفيد من شيوخه فهم أيضا يستفيدون منه وقد صرح بعضهم بذلك. قال شيخه يحيى بن سعيد القطان: "كنا نستفيد منه أكثر مما يستفيد منا"وقال سفيان بن عيينة: "يلومونني على حب علي، والله كنت أتعلم منه أكثر مما يتعلم مني".
آثاره:
ألف ابن المديني في الحديث مصنفات كثيرة العدد جليلة القدر.
قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: "وكان علي أحد أئمة الإسلام المبرزين في الحديث صنف فيه مائتي مصنف لم يسبق إلى معظمها ولم يلحق في كثير منها".
وقد أورد الحاكم أبو عبد الله في كتابه معرفة علوم الحديث – ص 89 – فهرست مؤلفاته نقله عن شيخه محمد بن صالح الهاشمي قال: "سمعت الشريف القاضي أبا الحسن محمد بن صالح الهاشمي قاضي القضاة يقول: هذه أسامي مصنفات علي بن المديني:
1- كتاب الأسامي والكنى ثمانية أجزاء.
2- كتاب الضعفاء – عشرة أجزاء.
3- كتاب المدلسين – خمسة أجزاء.
4- كتاب أول من نظر في الرجال وفحص عنهم – جزء.
5- كتاب الطبقات: عشرة أجزاء.
6- كتاب من روى عن رجل لم يره – جزء.
7- كتاب علل المسند – ثلاثون جزءا.
8- كتاب العلل لإسماعيل القاضي – أربعة عشر جزءا.
9- كتاب علل حديث ابن عيينة - ثلاثة عشر جزءا.(6/317)
10- كتاب من لا يجنح بحديثه ولا يسقط – جزءان.
11- كتاب الكنى – خمسة أجزاء.
12- كتاب الوهم والخطأ: خمسة أجزاء.
13- كتاب قبائل العرب – عشرة أجزاء.
14- كتاب من نزل من الصحابة سائر البلدان – خمسة أجزاء.
15- كتاب التاريخ – عشرة أجزاء.
16- كتاب العرض على المحدث – جزءان.
17- كتاب من حدث ثم رجع عنه – جزءان.
18- كتاب يحيى وعبد الرحمن في الرجال – خمسة أجزاء.
19- كتاب سؤلاته يحيى – جزءان.
20- كتاب الثقات والمثبتين – عشرة أجزاء.
21- كتاب اختلاف الحديث – خمسة أجزاء.
22- كتاب الأسامي الشاذة – ثلاثة أجزاء.
23- كتاب الأشربة – ثلاثة أجزاء.
24- كتاب تفسير غريب الحديث – خمسة أجزاء.
25- كتاب الإخوة والأخوات – خمسة أجزاء.
26- كتاب من يعرف باسم دون اسم أبيه – جزءان.
27- كتاب من يعرف باللقب – جزء.
28- كتاب العلل المفرقة – ثلاثون جزءا.
29- كتاب مذاهب المحدثين – جزءان.
هكذا سردها الحاكم وقد أضفت إليها الترقيم، وبعد فراغه من سياقه قال: "إنما اقتصرنا على فهرست مصنفاته في هذا الموضع ليستدل به على تبحره وتقدمه وكماله". انتهى.(6/318)
أقول: "وإن مما يؤسف له أن هذه المكتبة الكبيرة لا وجود لها في الوقت الحاضر، بل إن ذكر أسماء هذه المصنفات قليل في كثير من المصنفات فما رأيت أحدا من مؤلفي المصادر التي رجعت إليها في ترجمته - والتي أثبتها في نهاية الترجمة - تعرض لتسميتها اللهم إلا العليمي صاحب المنهج الأحمد في تراجم أصحاب الإمام أحمد المتوفى سنة 928هـ فقد أورد هذا الفهرس الذي سقته هنا عن الحاكم دون أن يشير إلى المصدر الذي استمده منه. ويوجد من آثاره كتاب علل الحديث ومعرفة الرجال مخطوطا في خزانة أحمد الثالث في تركيا وصورته في معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية بالقاهرة رقم 743 فهرس التاريخ.
وفاته:
قال البخاري: "مات علي بن المديني ليومين بقيا من ذي القعدة سنة أربع وثلاثين ومائتين". وقال الحارث بن أبي أسامة وغير واحد: "مات بسر من رأى في ذي القعدة"، وكانت وفاته في يوم الاثنين كما في التاريخ الكبير للبخاري.
ممن ترجم له:
1- ترجم له الحافظ الذهبي في العبر 1-418 والميزان 3-138 وتذكرة الحفاظ 2-15.
2- وابن حر العسقلاني في التقريب 2-39 وتهذيب التهذيب 7-349
3- البخاري في التاريخ الكبير 2-3-284
4- الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 11-458
5- الخزرجي في خلاصة تذهيب الكمال 133
6- ابن القيسراني في الجمع بين رجال الصحيحين 356
7- ابن العماد في شذرات الذهب 2-81
8- السمعاني في الأنساب 516 مخطوط
9- ابن الأثير في اللباب 3-115
10- ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة 1-225
11- العليمي في المنهج الأحمد 1-97
12- أبو إسحاق الشيرازي في طبقات الفقهاء 103
13- ابن السبكي في طبقات الشافعية 1-266
14- النووي في تهذيب الأسماء واللغات 1-350(6/319)
15- ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1-3-193 وفي مقدمته 319(6/320)
أخبار الجامعة
للإشراف الاجتماعي بالجامعة نشاطات ملموسة من حيث تنظيم الاجتماعات واللقاءات الخيرة بين مختلف الجنسيات بالجامعة. هذا ويبذل المشرف الأستاذ عبد الله قادري جهودا موفقة في هذا المضمار.
هذا وقد عقدت في الأشهر المنصرمة ثلاث ندوات نوقش فيها ما يلي:
1- حث الطلاب على التآخي.
2- إقامة ندوة خاصة بالتعارف، وذلك ليتسنى للطلاب معرفة إخوانهم المستجدين.
3- معرفة المذاهب الهدامة التي تحاك ضد الإسلام.
4- التعرف على مشاكل الطلاب السكنية ووضع حل لها.
5- اقتراحات الطلاب.
وقد قام الطلاب بعدة رحلات تحت مراقبة وإشراف المشرف الاجتماعي بالجامعة.
* وصل للمدينة المنورة قادما من نيجيريا فضيلة الشيخ عمر محمد مساعد الأمين العام للجامعة الإسلامية، والمدرس في المسجد النبوي الشريف وذلك بعد أن اشترك مع مندوب دار الإفتاء الشيخ محمد بن إبراهيم بن قعود مدير قسم نشر الدعوة والإرشاد في تفقد أحوال المدارس في نيجيريا لمعرفة مدى تمشي مناهجها مع مناهج الجامعة ليتم قبول الطلاب على ضوء ذلك.
هذا وقد اتصل المندوبان بالجمعيات الإسلامية والهيئات الدينية لمعرفة نشاطها ومتطلباتها، وقد استغرقت المهمة حوالي ثلاثة شهور، وهذا مثل تضربه حكومة جلالة الملك وعلى رأسها الفيصل في تفقد أحوال المسلمين والاهتمام بأمورهم.
* زار الجامعة الإسلامية فضيلة الشيخ ضياء الدين بن خان مدير الإدارة الدينية ورئس المسلمين في الاتحاد السوفياتي قادما من القاهرة بعد أن اشترك في مؤتمر مجمع البحوث الذي عقد في القاهرة في الآونة الأخيرة، يرافقه كل من مدير العلاقات الخارجية بالإدارة الدينية ورئيس تحرير مجلة (المسلمون) هناك. وقد قام الوفد بزيارة لكليات الجامعة ومنشآتها، واجتمع مع فضيلة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن باز والأمين المساعد.(6/321)
هذا وفي ختام الزيارة قدمت الجامعة للوفد بعض الكتب والمناهج المجلات هدية منها.
* عقد مجلس الجامعة الموقر أولى جلساته مساء الأحد 16-8-1392 هـ بعد إجازة دامت حوالي شهرين، وقد بحث المجلس عدة مواضيع هامة.
* في صبيحة يوم السبت الموافق 29-8-1392 هـ قام سمو ولي العهد ووزير الدفاع في دولة البحرين الشقيقة بزيارة للجامعة الإسلامية بالمدينة، وكان في استقبال سموه ومرافقيه صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية وكبار المسئولين في الجامعة، وبعد تناول المرطبات والقهوة العربية في مكتب سماحة رئيس الجامعة اتجه سموه ومرافقوه إلى كلية الشريعة بالجامعة حيث اطلع سموه عن كثب على سير الدراسة في هذه الكلية، واستمع إلى بعض المحاضرات التي ألقاها بعض كبار مدرسي الجامعة.
هذا وفي ختام زيارة الضيف قدمت الجامعة لسموه بعض الكتب القيمة هدية منها لسموه الكريم.
* الشركة المسئولة عن سفلتة شوارع الجامعة الإسلامية تعمل هذه الأيام بجد ونشاط، ومن المتوقع إن شاء الله أن السفلتة ستتم قبل موسم حج هذا العام.
* المشرف الاجتماعي، والمشرف الرياضي بالجامعة الإسلامية يقومان في هذه الأيام بنشاطات ملموسة مع بداية العام الدراسي الجديد.
وقد نظمت الندوات والاجتماعات، وكذلك جرت بعض المباريات في السباق وغيره.
* باشر يوم الاثنين 9-9-1392 فضيلة الأمين العام للجامعة الشيخ محمد ناصر العبودي عمله بالجامعة الإسلامية بعد إجازة دامت قرابة شهر قام خلالها بجولة في العديد من العواصم العربية، وذلك لوضع الترتيبات اللازمة لاجتماع المجلس التنفيذي لجمعية الجامعات الإسلامية بالمدينة المنورة قبل موسم هذا الحج 1392هـ. هذا ومما تجدر الإشارة إليه أن المجلس المذكور سيشارك فيه ممثلون عن أكثر من عشر من الجامعات والكليات الإسلامية.(6/322)
* وجه سماحة رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن باز الدعوة إلى أعضاء المجلس التنفيذي لجمعية الجامعات الإسلامية لحضور الدورة الثالثة التي ستعقد بمقر الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ومن الجدير بالذكر أن جدول أعمال هذا المؤتمر قد أرسل للسادة أعضاء المجلس قبل عقد المؤتمر بمدة كافية وذلك ليتسنى لهم إبداء رأيهم في إضافة شيء لهذا الجدول.
هذا ومن المقرر أن يقوم أعضاء المجلس بزيارة للجامعات والكليات الجامعية في مدن المملكة وفقا لمنهج معد للزيارة المذكورة وجرى اتخاذ الترتيبات اللازمة لذلك مسبقا.
ومما تجدر الإشارة إليه أن فضيلته يزمع هذه الأيام دفع بعض مؤلفاته إلى المطابع.
* عقدت لجنة توزيع الكتب في الجامعة أولى جلساتها برئاسة فضيلة الأمين العام المساعد وعضوية كل من: مساعد الأمين العام لشئون التعليم، ومدير العلاقات العامة ورئيس التحريرات.
* اجتمع فضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية الشيخ محمد بن ناصر العبودي بمكتبه مع كل من مساعده الشيخ عمر محمد، ومدير العلاقات بالجامعة الأستاذ أحمد عبد الحميد عباس.
* اجتمع بمقر دار الحديث التابعة للجامعة مجلس الجامعة وذلك قبل سفر سماحة الرئيس. هذا وقد بحث المجلس عدة مواضيع هامة.
* من المتوقع أن تبدأ إجازة آخر شهر رمضان وعيد الفطر بالنسبة للمدرسين والطلاب يوم السبت 21 رمضان، وذلك ليتسنى للطلاب الغير سعوديين زيارة أهاليهم وذويهم خارج المملكة.
* اجتمع فضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية يوم أمس الأول في مكتبه مع كل من مساعد الأمين العام، ومدير الشئون المالية ومدير شئون الموظفين بالجامعة وذلك لدراسة بعض الموضوعات الهامة ثم اجتمعت لجنة الترقيات في الجامعة التي اتخذت محضرا بترشيح بعض الموظفين.(6/323)
* بمناسبة قرب الإجازة بالنسبة للطلاب والمدرسين فقد اجتمع كل من مجلس كلية الشريعة برئاسة فضيلة عميدها وكذلك مجلس كلية الدعوة برئاسة فضيلة عميدها وذلك لدراسة بعض الأمور المتعلقة بالكليتين وبما يكفل استمرار سير الدراسة بها.(6/324)
يستفتونك
يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
س 1 – إذا صلى الإمام الصلاة وقام ولم يتشهد التشهد الأول ونبه ولم يرجع وعندما سلم من الصلاة نبه وسلم ولم يسجد وبعد السلام قال له بعض المأمومين لمَ لم تسجد فقال ذهب محله فماذا عليه هل عليه الإعادة لأنه ترك واجبا عمدا، وإذا كان جاهلا والمأمومون يجهلون الحكم فماذا عليهم أفتونا مأجورين؟.
ج 1 – التشهد الأول إذا تعمد المصلي تركه بطلت صلاته في أصح قولي العلماء إذا كان عالما بالحكم ذاكرا فإن كان جاهلا فلا شيء عليه وإن تركه ناسيا وجب عليه السجود للسهو فإن تعمد تركه بطلت صلاته أما إذا نسي وسلم قبل أن يسجد ثم نبه أو ذكر فإنه يجب عليه أن يسجد بعد السلام للسهو ثم يسلم كالحال وسجود السهو الذي محله بعد السلام فإن لم يفعل فقد اختلف في بطلان الصلاة بذلك أي بترك سجود السهو بعد السلام سواء كان محله بعد السلام أو قبله فنسيه فصار بعد السلام. قال أبو محمد ابن قدامة رحمه الله في المغني: "فإن ترك الواجب عمدا فإن كان قبل السلام بطلت صلاته لأنه أخل بواجب في الصلاة عمدا، وإن ترك الواجب بعد السلام لم تبطل صلاته لأنه جبر للعبادة خارج منها فلم تبطل بتركه كجبرانات الحج، وسواء كان محله بعد السلام أو قبله فنسيه فصار بعد السلام"وقد نقل عن أحمد ما يدل على بطلان الصلاة ونقل عنه التوقف انتهى المقصود.(6/325)
وبهذا يعلم أن الصواب صحة الصلاة وعدم وجوب الإعادة على الجميع إلا إذا كان الإمام قد تعمد الترك لما يشرع الإتيان به قبل السلام مع العلم بالحكم الشرعي فإنها تلزمه الإعادة لكونه ترك واجبا بدون عذر شرعي، أما المأموم فعليه أن يسجد للسهو إذا لم يسجد إمامه بعد السلام في قول الأكثرين كما في المغني لأن السهو ينقص صلاة الجميع فإذا لم يسجد الإمام لجبران النقص الحاصل بالسهو وجب على المأمومين السجود سواء سجدوا فرادى أو عينوا من يؤمهم في ذلك لأن الإمام لما امتنع من الواجب انقطعت تبعيتهم له ووجب عليهم الاستقلال بأداء الواجب كما لو سلم عن نقص ونبهوه فلم يرجع للصواب فإنه يلزمهم أن يكملوا صلاتهم فرادى أو بإمام منهم لوجوب تكميل الصلاة على الجميع، فلما امتنع منه الإمام انقطعت تبعيتهم له فإن لم يسجدوا لم تبطل صلاتهم لأنه واجب خارج الصلاة فلم تبطل الصلاة بتركه كالأذان والإقامة وكجبرانات الحج والله سبحانه وتعالى أعلم.
س2 – إذا صلى الإمام بعض الصلاة ثم قطع الصلاة وقام محله آخر وأتم الصلاة بغير استخلاف وبعد انقضاء الصلاة حصل عند المأمومين تشويش هل استخلف أم لا؟ وبعضهم سأل الإمام الآخر هل استخلفك الإمام قال لا فهل يلزم المأمومين إعادة الصلاة؟ وهل يلزم البحث إذا كانوا لم يعلموا الحال؟ وهل في المسألة أقوال لأن بعض طلبة العلم أفتى بصحة الصلاة وبعضهم ببطلانها؟.(6/326)
ج2- إذا قدم الإمام رجلا من المأمومين عند احتياجه إلى قطع الصلاة جاز في أظهر أقوال أهل العلم. وقد روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما وفعله عمر رضي الله عنه لما طعن وهو في الصلاة فإنه قدم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ليتم الصلاة والقصة في صحيح البخاري وكذا لو قدم المأمومون أحدهم إذا كانوا قلة أو قدمه بعضهم إذا كانوا كثيرا وكذا لو تقدم أحدهم أتم الصلاة دون أن يقدمه أحد. قال أبو محمد بن قدامة رحمه الله في المغني بعد أن استدل للرأي الراجح وهو جواز الاستخلاف: "إذا ثبت هذا فإن للإمام أن يستخلف من يتم بهم الصلاة كما فعل عمر رضي الله عنه، وإن لم يستخلف فقدم المأمومون منهم رجلا فأتم بهم جاز، وإن صلوا وحدانا جاز قال الزهري في إمام ينوبه الدم أو يرعف أو يجد مذيا: "ينصرف وليقل أتموا صلاتكم" انتهى. ولا شك أن تقدم أحد المأمومين ليتم بهم الصلاة أولى من إتمامهم الصلاة فرادى وليس الاستخلاف من الإمام ولا من المأمومين شرطا في صحة الصلاة بعد خروج الإمام منها فإنه لو تقدم أحد الجماعة عند إقامة الصلاة وصلى بهم دون أن يقدمه أحد منهم فإن صلاته وصلاتهم وراءه صحيحة فكذا لو تقدم في اثناء الصلاة ليتم الصلاة بعد خروج الإمام وإن لم يقدمه أحد لأن تقدمه يتضمن نية الإمامة ومتابعتهم له تتضمن قصدهم الإتمام به، ولأن الصلاة جماعة مطلوبة شرعا فما كان محققا لها أولى من عدمه والله ولي التوفيق.
س 3 – إذا كان عند رجل رأس مال يتجر به ويستدين من هذا ويأخذ من هذا حتى يصفى التجارة فإذا حال عليه الحول هل يلزمه أن يزكي جميع ما عنده أو يحسب ما عليه من الدين ويزكي الباقي وما هو الراجح لديكم من أقوال العلماء؟.(6/327)
ج 3 – اختلف العلماء في كون الدين مانعا من وجوب الزكاة على أقوال أحدها أن الأموال الباطنة كالنقدين وعروض التجارة لا تجب فيها الزكاة إذا كان الدين ينقصها عن النصاب لأن الزكاة شرعت للمواساة ومن عليه دين ينقص النصاب أو يستغرقه لا يوصف بالغنى بل هو أهل لدفع الزكاة إليه، أما الأموال الظاهرة كالمواشي والثمار فإنه لما كان المنقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه رضي الله عنهم إرسال السعاة لأخذ الزكاة منها دون أن يؤثر عنهم الاستفسار هل على أهلها ديون أم لا فإن الحكم فيها يختلف عن الأموال الباطنة، وبهذا قال مالك والأوزاعي وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد في الأموال الظاهرة، والقول الثاني لا تجب فيها كالأموال الباطنة لما سبق، والقول الثالث تجب الزكاة في الجميع لما ذكرنا من الأدلة على وجوب الزكاة في الأموال الظاهرة ولو كان على أربابها دين ولأن الأدلة الدالة على وجوب الزكاة في الأموال الظاهرة والباطنة ليس فيها ما يدل على مراعاة الدين فوجب التعميم وهذا قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن وحماد بن أبي سليمان والشافعي في الجديد وهو الصواب، وعلى هذا فمحل السؤال تجب فيه الزكاة عملا بعموم الأدلة وعدم المخصص الذي يحسن الاعتماد عليه والله أعلم.
س4 – إذا بيعت الصبرة من الطعام كل صاع بريال وزيادة على جميع الصبرة عشرة أريلة مثلا والصبرة مجهولة فهل هذا يكون من بيع المجهول أولا؟ وإذا كان الناس يتعاملون بمثل ذلك فهل ينهون عنه أم لا؟.(6/328)
ج4- إذا بيعت الصبرة من الطعام كل صاع بريال وزيادة على جميع الصبرة عشر أريل مثلا والصبرة مجهولة فإن البيع صحيح وليس من بيع المجهول الذي لا يجوز لأن البيع معلوم بالمشاهدة والثمن في حكم المعلوم ويدل لذلك أن عليا رضي الله عنه أجر نفسه من امرأة على أن يمتح لها من بئر كل ذنوب بتمرة فمتح ست عشرة ذنوبا فعدت له ست عشرة تمرة فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأكل منها والحديث أخرجه أحمد وقال فيه الشوكاني في نيل الأوطار "جود الحافظ – يعني ابن حجر – إسناده"وأخرجه ابن ماجة بسند صححه ابن السكن انتهى، وبجواز بيع الصبرة كل قفيز بدرهم قال الأئمة أحمد ومالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد صاحب أبي حنيفة رحمهم الله ولأن الأصل في المعاملات الصحة فلا يبطل منها إلا ما قام الدليل على بطلانه وهذه المعاملة ليس فيها غرر ولا ما يقتضي بطلانها فوجب أن تكون صحيحة والله ولي التوفيق.
س5 – إذا أراد رجل أن يستدين من آخر هل يجوز له أن يقول بعني العشرة باثني عشر؟ وهل يجوز أن يتفقا على مبلغ معلوم والسلعة ليست موجودة لدى التاجر؟ وما معنى حديث حكيم ابن حزام "ولا تبع ما ليس عندك"؟.(6/329)
ج5- قول من يريد الاستدانة للدائن، بعني العشرة باثني عشرة معناه، بعني السلعة التي تساوي عشرة حالة باثني عشر مؤجلة ومثل هذا القول بهذا المعنى لا بأس به لأن العبرة بالمعاني، والبيع بثمن مؤجل أزيد مما تباع به السلعة نقدا جائز عند الجمهور والأدلة الدالة على حل البيع تشمله ويدل له أيضا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} فإنه شامل لما كان فيه الثمن مساويا للبيع نقدا وما كان زائدا عنه ويدل عليه أيضا ما خرجه الحاكم والبيهقي ورجاله ثقات عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يجهز جيشا فنفدت الإبل فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة قال: "فكنت آخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة"ذكره الحافظ في بلوغ المرام وهو صريح في هذه المسألة وقد ألف في جواز ذلك العلامة الشوكاني رحمه الله رسالة ذكرها في كتابه نيل الأوطار.
وإذا كانت السلعة ليست في ملك الدائن أو في ملكه وهو عاجز عن التسليم فليس له أن يبرم عقد البيع مع المشتري وإنما لهما أن يتواطآ على السعر ولا يتم بينهما بيع حتى تكون السلعة في حوزة البائع لحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم خرجه أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان والحاكم، قال ابن القيم في تهذيب السنن في شرح حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه "لا تبع ما ليس عندك" وقال: (وبيع ما ليس عنده إنما نهى عنه لكونه غير مضمون عليه ولا ثابت في ذمته ولا في يده فالمبيع لابد أن يكون ثابتا في ذمة البائع أو في يده وبيع ما ليس عنده ليس بواحد منهما فالحديث باقي على عمومه هذا بعض كلامه في تهذيب السنن وانظر إيضاح معنى الحديث أيضا في زاد المعاد لاين القيم وإعلام الموقعين له أيضا.(6/330)
س6 – إذا اشترى شخص من آخر طعاما إلى أجل فهل يجوز له بيعه قبل قبضه وما هو القبض الشرعي الذي جاء الحديث بالنهي عن البيع قبله وهل إذا اشترى منه سلعا من طعام أو غيره وعدها وهي في محل التاجر هل هذا يعتبر حيازة شرعية وقد أفتى بعض طلبة العلم بجواز ذلك فهل له حجة شرعية أم لا وقد أصبح كثير من الناس يتعاطون ذلك وربما تباع السلعة عدة مرات وهي في محل التاجر الأول خصوصا إذا كان سكرا أو أرزا أفتونا مأجورين ووضحوا ذلك أثابكم الله.(6/331)
ج6 – إذا اشترى شخص من آخر طعاما أو سلعة أخرى بثمن حال أو مؤجل فلا يجوز له بيعه قبل قبضة وذلك بحيازته إلى منزله أو متجره أو غير ذلك ولا يكفي في القبض عدها وإبقاؤها في محلها دون حيازتها ومن الأدلة على ذلك ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام حتى يستوفا وفي لفظ حتى يقبض وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عند مسلم، كنا نبتاع الطعام جزافا، فيبعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأمرنا بانتقاله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه، وحديثه في الصحيحين وغيرهما قال: "كانوا يتبايعون الطعام جزافا فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه"وحديثه فيهما أيضا قال: "رأيت الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبايعون جزافا يعني الطعام يضربون أن يبيعوه في مكانهم حتى يؤووه إلى رحالهم" وحديثه في سنن أبي داود والدارقطني والمستدرك وصحيح ابن حبان قال: ابتعت زيتا في السوق فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به ربحا حسنا فأردت أن أضرب على يده، فأخذ رجل من خلفي بذراعي فالتفت فإذا هو زيد بن ثابت فقال: "لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم"، والحديث في إسناده محمد ابن إسحاق قال ابن القيم بعد أن ذكر الحديث مستدلا به على تعميم الحكم في الطعام وغيره، وإن كان فيه محمد بن إسحاق فهو الثقة الصدوق انتهى، وقال عنه الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب، أحد الأئمة الأعلام حديثه حسن، وقال الحافظ في الفتح، ما ينفرد به محمد بن إسحاق وإن لم يبلغ درجة الصحيح فهو في درجة الحسن إذا صرح بالتحديث وإنما يصحح له من لا يفرق بين الصحيح والحسن ويجعل كل ما يصلح للحجة صحيحا وهذه طريقة ابن حبان ومن ذكره معه.(6/332)
وقال شمس الحق العظيم آبادي في تعليقه على سنن الدارقطني، الحديث أخرجه أبو داود بإسناد صرح فيه ابن إسحاق بالتحديث وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك وصححه وقال في التنقيح وسنده جيد فإن ابن إسحاق صرح بالتحديث انتهى، قلت قول الشيخ شمس الحق أن ابن إسحاق صرح في رواية أبي داود بالسماع فيه نظر فقد راجعت السنن فلم أجده صرح بالسماع فلعل ذلك وقع في نسخة الشيخ شمس الحق ولكن رواه الإمام أحمد في المسند من طريق ابن إسحاق مختصرا وصرح بالسماع فالحديث جيد وصريح في الموضوع، على أن السلع أيا كانت لا يجوز بيعها قبل حيازتها ومثله في إفادة العموم حديث حكيم بن حزام عند البيهقي بسند جيد قال قلت يارسول الله إني ابتاع هذه البيوع فما يحل لي منها وما يحرم قال: "يابن أخي لا تبع شيئا حتى تقبضه" ومما يدل على أن الحكم عام في الطعام وغيره حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه" قال ابن عباس ولا أحسب كل شيء إلا مثله، وقد حكى الخطابي في معالم السنن وابن المنذر كما عزا إليه ابن القيم في تهذيب السنن الإجماع على عدم جواز بيع الطعام قبل قبضه أما غير الطعام فقد حكى الخطابي وكذا ابن القيم للعلماء فيه أربعة أقوال رجح ابن القيم منها القول بتعميم حكم المنع في الطعام وغيره لحديث حكيم بن حزام وزيد بن ثابت الدالين على ذلك وقال إن النهي معلل بعدم تمام الاستيلاء وعدم انقطاع علاقة البائع عنه فإنه يطمع في الفسخ والامتناع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه ويغره الربح وتضيق عينه منه وربما أفضى إلى التحيل على الفسخ ولو ظلما والى الخصام والمعاداة والواقع شاهد بهذا فمن محاسن الشريعة الكاملة الحكيمة منع المشتري من التصرف فيه حتى يتم استيلاؤه عليه إلى آخر كلامه رحمه الله وما تمسك به القائلون بالتفريق بين الطعام وغيره من أن التنصيص على المنع(6/333)
جاء في الطعام في أغلب الأحاديث لا يفيد حصر الحكم عليه بل ذلك مع ما ورد في تعميم الحكم يدخل تحت القاعدة المشهورة وهي أن إثبات حكم العام لبعض أفراده لا يفيد قصره عليه والله أعلم، ويؤيد ذلك كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله أن المنع إذا جاء في الطعام مع شدة الحاجة إليه فمنعه في غير الطعام من باب أولى، أما إذا كان الطعام أو غيره بيع بالكيل أو الوزن فإن قبضه يكون باكتياله أو وزنه لما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يكتاله" انتهى، والمبيع بالوزن في معنى المبيع بالكيل ولكن الأحوط والأكمل أن لا يتصرف المشتري فيما اشتراه بالكيل أو الوزن حتى ينقله إلى رحله لعموم الأحاديث الصحيحة الكثيرة المخرجة في الصحيحين وغيرهما المضمنة نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يقبض، ولا شك أن القبض الكامل إنما يكون بالنقل والحيازة لا بمجرد الكيل والوزن والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(6/334)
أضواء من التفسير
لفضيلة الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
المدرس بكلية الشريعة
قال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ, إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ، إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ, قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ. فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} .
المناسبة:
بعد أن عرف بصاحب القصة ووصفه في الآيات السابقة وأثنى عليه ذكر القصة التي سبقت الآيات السابقة تمهيدا لها.
القراءة:
قرئ {لا تُشْطِطْ} بضم التاء وكسر الطاء الأولى، وقرئ {تَشْطُطْ} بفتح التاء وضم الطاء الأولى، وقرئ {وَعَزَّنِي} – بتشديد الزاي. وقرئ {وعَازَّنِي} بألف بعد العين وتشديد الزاي. وقرء {لَيَبْغِي} بسكون الياء التي بعد الغين، وقرئ: {ليبغيَ} – بفتح الياء الأخيرة – وقرئ: {ليَبغِ} – بحذف الياء – وقرئ: {فَتَنَّاهُ} – بفتح الفاء والتاء وتشديد النون – وقرئ – بفتح الفاء والتاء والنون الخفيفة – وقرئ: {فتَّناه} – بتشديد التاء – وقرئ: {حُسْنَ} – بالنصب – وقرئ: {حُسْنُ} وقرئ: بالرفع.
المفردات:(6/335)
أتاك: جاءك. نبأ: خبر. الخصم: هو في الأصل مصدر خصم بمعنى خاصم وأصل المخاصمة على ما قال الراغب: أن يتعلق كل واحد بخصم الآخر أي بجانبه، ولذا يستعمل الخصم للواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، والمراد هنا الجمع {تَسَوَّرُوا} يقال: تسور السور أو الحائط تسنمه وعلا ذروته والسور الجدار المرتفع. والمحراب: البيت المرتفع أو القصر الشامخ أو مكان العبادة، ويقول الذين يفسرون المحراب بالقصر أنه سمي بذلك لأنه يحارب من أجله. وأما المحاريب المعروفة الآن بما يدخل في الحائط على سمت القبلة ليتبين الناس منها جهة القبلة فيقول المفسرون: أنها شيء لم يكن قد عرف في الصدر الأول، فزع: ذعر وفرق. خصمان: فريقان متخاصمان. بغى: تعدى وجار. فاحكم: فافصل. بالحق: بالعدل. ولا تشطط – بضم التاء – من اشطط يشطط اشطاطا إذا تجاوز الحد والمعنى: ولا تجر.
قال أبو عبيدة: شططت في الحكم وأشططت إذا جرت. فهذا مما اتفق فيه فعل وأفعل، وأما من قرأ: تشطط – بفتح التاء وضم الطاء الأولى – فهو من شط بمعنى أشط.
كما قال أبو عبيدة: واهدنا: وأرشدنا. سواء الصراط: وسط الطريق والمراد طريق الحق ونهج العدل. أخي: أي في الدين أو في الصحبة أو في الشركة والخلطة. نعجة: شاة، وهي الأنثى من الضأن وبقر الوحش والمراد بها هنا أنثى الضان. أكفلنيها: أعطنيها وضمها إلي حتى أكفلها وأرعاها. وعزني: وغلبني. ومنه قول الشاعر:
تجاذبه وقد علق الجناح
قطاة عزها شرك فباتت
ومن قرأ وعازني، فالمعنى وغالبني. الخطاب: الكلام. ظلمك: تعدى عليك. بسؤال نعجتك إلى نعاجه: أي إضافة شاتك إلى شائه على سبيل السؤال. الخلطاء: الشركاء الذين خلطوا أموالهم وما شيتهم. ليبغي: ليتعدى. وظن: وقام بنفسه ورجح في خاطره. فتناه: بلوناه واختبرناه وأوقعناه في الفتنة. فاستغفر: فطلب المغفرة. خر: هوى إلى الأرض. راكعا: أي ساجدا كما قال الشاعر:
وتاب إلى الله من كل ذنب(6/336)
فخر على وجهه راكعا
وأناب: ورجع إلى ربه عز وجل. غفرنا: سترنا ومحونا. لزلفى: درجة عالية ومنزلة رفيعة. وحسن مآب: وجميل مرجع.
التراكيب:
قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} الواو قيل للعطف على إنا سخرنا من قبيل عطف القصة على القصة وقيل على اذكر، ويجوز أن تكون للاستئناف فبعد أن أثنى على داود استأنف ذكر قصته. وهل للاستفهام المقصود به التشويق إلى ما بعده لكونه أمرا بديعا عجيبا غريبا وقوله: {إِذْ تَسَوَّرُوا} إذ ظرف لمحذوف تقديره نبأ تخاصم وتحاكم الخصم إذ تسوروا. قال أبو حيان وغيره: وليس ظرفا لأتاك لأن اتيان النبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقع إلا في عهده لا في عهد داود وليس ظرفا للنبأ لأن النبأ واقع في عهد داود لا في عهده صلى الله عليه وسلم وإن أريد بالنبأ القصة في نفسها لم يكن ناصبا فتعين أن يكون ظرفا لمحذوف.(6/337)
وقوله: {إِذْ دَخَلُوا} إذ بدل من إذ الأولى أو ظرف لتسوروا. والفاء في {فَفَزِعَ} للسببية. وقوله: {قَالُوا لا تَخَفْ} استئناف بياني نشأ عن سؤال مقدر مرتب على فزعه عليه السلام كأنه قيل: فماذا قال الخصم عند مشاهدتهم لفزعه؟ فقيل: قالوا: لا تخف. وقوله {خَصْمَانِ} يحتمل أن يكون هذا موصولا بقوله: {لا تَخَفْ} مبادرة بإخباره عليه السلام بما أتيا من أجله، ويحتمل أن يكون سألهم: ما شأنكم؟ فقالوا: خصمان. وخصمان خبر لمبتدأ محذوف أي نحن خصمان وجملة بغى بعضنا على بعض في موضع رفع صفة لخصمان، وقد ثنى هنا باعتبار الفوج والفريق، وجمع في قوله {قَالُوا} لملاحظة أفراد الفريقين. والفاء في قوله {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا} فصيحة وقوله {وَلا تُشْطِطْ} تأكيد لمعنى الجملة قبله، وكذلك قوله: {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} . وقوله: {إِنَّ هَذَا أَخِي} استئناف لبيان ما فيه الخصومة. وقوله: {أَخِي} يجوز أن يكون بدلا أو عطف بيان أو خبرا لأن. وقوله تعالى: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} جواب قسم محذوف جيء به لقصد المبالغة في إنكار فعل المدعى عليه وتهجين طمعه في نعجة ليس لصاحبها سواها مع أن له قطيعا من الغنم. والسؤال مصدر مضاف لمفعوله، وإنما عدي إلى نعاجه بإلى لأنه متضمن لمعنى الضم والإضافة وقوله: {لَيَبْغِي} بسكون الياء الأخيرة في محل رفع خبر إن واللام للتوكيد وأما على قراءة فتح الياء الأخيرة فقد خرجت على تقدير حذف النون الخفيفة وأصله ليبغين على حد قول طرفة بن العبد.
ضربك بالسيف قونس الفرس
اضرب عنك الهموم طارقها
يعني اضربن. ويكون الكلام حينئذ على تقدير قسم محذوف وهو وجوابه خبر لأن. وأما قراءة ليبغ فإنها بحذف الياء للتخفيف على حد قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} ومنه قول الشاعر:
إذا ما خفت من أمر تبالا
محمد تفد نفسك كل نفس(6/338)
وقوله: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} استثناء من الجنس والمستثنى منه بعضهم. وقوله: {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} ، الجملة اعتراضية، تذييلية للتأسف على قلة المؤمنين والتعجب من هذه القلة. وقليل خبر مقدم وما صلة لإفادة التعجب وهم مبتدأ مؤخر وإنما أفادت التعجب لأن الشيء إذا بولغ فيه بإبهامه كان مظنة للتعجب منه قيل: ما أقلهم.
وما في قوله: {أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} هي الكافة وهي التي تهيئ إن وأخواتها للدخول على الأفعال فهي صلة والمعنى وظن داود أنا فتناه. والفاعل على قراءة تشديد النون هو الله تعالى، وعلى قراءة التخفيف هو الخصمان. والفاء في قوله: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} لإفادة مسارعته عليه السلام إلى التوبة وتعقيب الفتنة بالاستغفار، {رَاكِعاً} حال مقدرة. و {ذَلِكَ} مفعول غفرنا وقيل خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر ذلك. والإشارة إلى ما فتن به. و {وَحُسْنَ مَآبٍ} على قراءة النصب بالعطف على اسم إن وبالرفع مبتدأ والخبر محذوف تقديره له.
المعنى الإجمالي:
وهل جاءك يا محمد خبر تخاصم وتحاكم المتخاصمين إذ تسنموا حائط قصر داود عليه السلام وقت أن أرادوا الدخول عليه، لقد أخافه دخولهم على هذه الصورة الغريبة، فلما رأوه ذعر منهم طمأنوه بقولهم له: لا تخف أيها الملك: نحن فريقان متخاصمان تعدى بعضنا على بعض فافصل بيننا بالعدل ولا تجر في حكمك، وأرشدنا إلى طريق الحق ومنهج العدل. ثم تقدم إليه المظلوم وقال – مشيرا إلى من ظلمه – إن هذا شريكي له تسع وتسعون شاة ولي شاة واحدة فطلب مني أن يكفلها وقهرني في طلبه. فقال داود: لقد تجاوز حده، وتعدى عليك بسبب طلب ضم شاتك إلى شاءه، ثم وعظهم عليه السلام فقال: "وإن كثيرا من الشركاء ليتعدى بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وما أقلهم؟ "(6/339)
ولما خلا داود إلى نفسه أنبها على الفزع منهم ولامها على الخوف من الخلق، وقام بخاطره أنه فتن للفزع من البشر فطلب من ربه المغفرة وسقط إلى الأرض ساجدا، فتجاوزنا عن فزعه، وإن لداود عندنا لدرجة رفيعة ومنزلة عالية وجميل مرجع.
هذا وقد ساق الله تعالى هذه القصة الكريمة لينبه نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إلى أنه لا يفزع من كفار مكة الذين يتوعدونه ولا يخاف منهم ويقول له: اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود التقي الصالح صاحب القوة في الدين الأواب إلى الله تعالى، الذي سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب لما فزع عند دخول الخصمين عليه وتسورهما المحراب ظن أنه فتن وأنه قصر في حق سيده العظيم فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فلا تفزع ولا تخف.(6/340)
وقد ذكر جمهور المفسرين هنا قصة عجيبة غريبة نقلا عن اليهود لعنهم الله تعالى فقالوا إن داود كان في المحراب فوجد طائرا جميلا فمشى خلفه حتى صعد فوق المحراب فوجد امرأة أوريا تغتسل فأعجب بجمالها وأراد أن يضمها إليه فبعث زوجها أوريا إلى الحرب حتى قتل وأخذها لنفسه وكان له تسع وتسعون امرأة غيرها وليس لأوريا إلا هذه المرأة فقط فأرسل الله تعالى له ملكين في صورة متخاصمين وتسوروا المحراب على داود ففزع منهم فقالوا له: {لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} إلى قوله: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} – وقصدوا بالنعاج النساء – فقال: أكفلنيها وعزني في الخاطب فقال داود لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن رام ذلك ضربنا منه هذا وهذا وأشار إلى أنعه وأصل جبهته. فقال الملكان – وهما صاعدان إلى السماء – حكمت على نفسك، أنت تستحق أن يفعل بك ذلك، فأيقن أنه ابتلى بسبب امرأة أوريا واستغفر ربه وخر راكعا وأناب، وبكى بكاء مرا حتى خرج العشب من أثر دموعه وكان يسبح في سجوده الطويل المرير حتى تاب الله عليه.
وهذه القصة لا أصل لها من الصحة بل هي مختلقة وباطلة لأنها لو صحت لجاز وقوع الكبائر من الأنبياء عليهم السلام مع أنهم معصومون من ذلك، فضلا عن أنه لو نسب إلى رجل من العوام لتبرأ منه فكيف يحدث من نبي عظيم كداود عليه الصلاة والسلام؟.(6/341)
حول الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في العصر الحديث
بقلم الشيخ محمد المهدي محمود المدرس بدار الحديث التابعة للجامعة
الحمد لله الذي أنزل القرآن تبيانا لكل شيء، وهدى ورحمة وشفاء لما في الصدور، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، ورضي الله عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. .
وبعد..
فقد سعدت الدنيا بالنور المنزل على المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، فكانت رسالته رحمة عامة شاملة مباركة، رحمة في الدنيا والآخرة. رحمة في العقيدة، والتشريع، والقانون، والأخلاق، والنظام العام في الأسرة والمجتمع والشعوب. رحمة للفرد والجماعة. قال الله تعالى:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} فسعدت البشرية التائهة في بيداء الظلم والضلال، واهتدت بنور خالق الأرض والسماء سبحانه وتعالى. ما أجمل الدنيا وقد سعدت بنور الله تبارك وتعالى.
لقد شهدت الإنسانية نورا عاما في مناحي الحياة منبعثا من كتاب الله نورا في العقيدة، وضياء في المعرفة الكونية، وهداية لأقوم السبل. بأسلوب معجز. يتحدى الناس جميعا في كل العصور على اختلاف ثقافتهم ومعارفهم وعلومهم.
إن إعجاز القرآن عام في كل أنواع المعرفة.
إن القرآن بحر لا ساحل له، وتقدم العلوم والمعارف، إنما يكشف لنا عن بعض ما في كتاب الحق تبارك وتعالى من معان تتحدى أساطين الكشف والاختراع. قال الله تبارك وتعالى:
{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} صدق الله العظيم.(6/342)
فالقرآن العظيم من أي ناحية ارتشفت من رحيقه وشهده وجدت الشفاء والهداية. وجدت الأعجاز العام الخالد الذي يتحدى الزمن. يقرؤه البليغ فيجد فيه الأعجاز البلاغي، ويقرؤه العالم الاجتماعي فيجد فيه أسباب سعادة المجتمع، ويقرؤه الطبيب فيخر ساجدا أما أسراره التي لا تقف عند حد، وهكذا كان القرآن الكريم المعجزة الخالدة. قال الحق تبارك وتعالى:
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} وقد كشف العلم الحديث عن معنى بعض الآيات القرآنية، وكلما تقدمت العلوم كلما زاد اكتشاف جواهر القرآن، وأسراره وكنوزه، وسيأتي الوقت الذي يكون فيه العلماء الماديون أقرب الناس إلى الدين وإلى الإيمان بالله.
ومن أجل أن نلقي بعض الضوء على موضوع الاعجاز العلمي للقرآن الكريم في العصر الحديث نحتاج إلى تقديم أمثلة ونماذج لكي نضع أمام القارئ الكريم صورة عن هذا الاتجاه من هذا البيان لتوضيح إعجاز القرآن. بيد أن الأمثلة لا يمكن أن نوفيها بعض حقها في مقالة واحدة فأرجو أن يكون لنا لقاءات بعد تقديم هذا النموذج من الشرح والإيضاح في مقالات أخر ونسير بمشيئة الله في تسخير العلم لفهم بعض آيات الله في الكون وإبداعه في الخلق، وبذلك نوضح للعالم شرقا وغربا بعضا من نور الإسلام وإعجاز القرآن. إننا في حاجة إلى أن نتسلح بالأسلحة العلمية لكي نبرز بعضا مما في كتاب الله من كنوز وجواهر ولآلئ علمية في هذا العصر.. إن القرآن معجز في هدايته.. هدايته في الآيات الكونية، وفي الآيات التشريعية، وفي الآيات الخلقية، وهدايته في كل بيان جاء به.
لقد وردت في القرآن الكريم آيات بينات اشتملت على حقائق علمية كشفها العلم الحديث وبينها ووضحها، وصدق الله سبحانه وتعالى القائل:(6/343)
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} .
وسنذكر قطرة من بحر لنسترشد بها في بان بعض نواحي الإعجاز العلمي للقرآن الكريم.
يقول الله تبارك وتعالى عن عسل النحل:
{فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} ..
اشتملت الآية الكريمة على كثير من النواحي الطبية التي اكتشفها الطب الحديث والتي تعتبر من معجزات القرآن العلمية لقد أثبتت جميع المعامل الطبي العالمية أن عسل النحل يشتمل على مواد تعالج الكثير من الأمراض. كما أن له مفعولا كبيرا في شفاء الكثير من الأمراض لأنه يقتل الكثير من الميكروبات. ثم هو يحتوي على نسبة عظيمة من الفيتامينات والجلوكوز. على أنه ضد التسمم الناشئ من أمراض التسمم البولي، والاضطرابات المعدية، والمعوية، وأكبر منشط للكبد، ومن أجل أن نشرح هذا الموضوع شرحا وافيا لا بد أن نفصل الكلام على وجه البسط حتى تتضح الحقائق العلمية العظيمة التي أثبتت بعض ما يحتويه عسل النحل من عناصر – وما فيه من فوائد وأن التحليل العلمي للآية الكريمة يقتضي منا أن نتحدث عن مشتملات العسل على الترتيب الآتي:
أولا – الخمائر.
ثانيا – الأملاح المعدنية الموجودة في العسل.
ثالثا – العسل قلوي.
رابعا – الفيتامينات الموجودة في العسل.
ثم بعد ذلك نتحدث عن الأمراض التي يستعمل العسل في علاجها.
اكتشف الإنسان منذ أقدم العصور ما لعسل النحل من أهمية غذائية عظمى وبتقدم علم الكيمياء أمكن تحليل العسل ومعرفة تركيبه الكيماوي بدقة كبيرة. فالعسل يتكون أساسا من سكرى العنب والفواكه، وعدد كبير من الأملاح المعدنية، والخمائر والفيتامينات، والمركبات النباتية الفعالة ونسبة من الماء.
وجميع السكريات التي تدخل الجسم معقدة التركيب ولا يمكن للجسم أن يستفيد منها إلا بعد تحليلها.. أما عسل النحل فإن الجسم ستفيد منه سريعا.(6/344)
1- خمائر العسل: الخمائر أو الإنزيمات هي مركبات فعالة تستطيع القيام بعمليات التحليل الكيميائي للمكونات الغذائية بكفاءة مذهلة تعجز عنها أعظم المعامل الكيميائية.
وقد اتضح أن العسل يحتوي على الخمائر الآتية:
أ- الخميرة التي تحول النشا إلى سكر. ب – الخميرة التي تحول سكر القصب إلى سكر عنب وسكر فواكه. جـ – والخمائر التي تهضم المواد الدهنية.
من هنا نعلم السر في القدرة الهائلة على إزالة عسر الهضم وأمراض الجهاز الهضمي الموجودة في العسل بسبب احتوائه على الخمائر التي ذكرنا بعضا منها.
2- الأملاح المعدنية الموجودة في العسل:
يحتوي العسل على عدد كبير من الأملاح المعدنية بنسبة دقيقة بحسب احتياجات تركيب جسم الإنسان، من هذه الأملاح ما يأتي:
أملاح أالكالسيوم ب والحديد ج والكلور د والفسفور هـ والكبريت وواليود، وتكاد نسبة الأملاح المعدنية في العسل تعادل نسبتها في دم الإنسان.
وقد ظهر من التحليلات التي أجريت على عسل النجل أنه يحتوي على عناصر المنجنيز ب والألومنيوم ج واليورون وغيرها، هذه الأملاح المعدنية لها أهمية عظمى بالنسبة لجسم الإنسان.
3- العسل قلوي: يصاب جسم الإنسان باضطرابات خطيرة نتيجة لكثرة الأحماض الناتجة من كثرة المواد الزلالية أو الاجهاد العصبي المرهق، ولما كان العسل طعاما قلويا لاحتوائه على عناصر البوتاسيوم والصوديوم والكالسيوم والمغنسيوم لذلك كان أثره عظيما في إيجاد توازن قلوي في الجسم وتخليص الجسم من الأحماض التي تفت في عضد الإنسان وتقتل حيويته وتصيبه بالفتور والملل ولذلك يشعر الإنسان بعد تعاطيه للعسل بحيوية كبيرة وميل إلى النشاط والحركة.(6/345)
4- فيتامينات العسل: الفيتامينات هي مركبات كيميائية توجد في طعام الإنسان، وتوجد في الخضروات والفواكه بكثرة، ولها أهمية ضخمة في حسن انتظام سير العمل في أعضاء الجسم المختلفة، ووقايتها من الأمراض، ويصاب الجسم بكثير من الأمراض الخطيرة التي تصيب الإنسان في حالة خلو طعامه من أنواع معينة من الفيتامينات وذلك مثل مرض فقر الدم والكساح والبلاجرا.
وقد اتضح من التحليلات العلمية للعسل أنه يحتوي على الفيتامينات الآتية:
1- فيتامين ب بأنواعه.
ب1 – الذي يساعد على قوة الإبصار وب2 الذي يساهم في التمثيل الغذائي الخاص بالنشويات والسكريات والدهون والزلاليات وفي امتصاص سكر العنب من الأمعاء ولذلك يعتقد بعض الأطباء أن العسل من عوامل المناعة غير المحدودة ضد الأمراض، وفيتامين ب 3 يمنع من التهابات الجلد ويساهم في التمثيل الغذائي الخاص بالسكريات.
وفيتامين هـ يساهم في التمثيل الغذائي الخاص بالدهون والزلاليات ويساعد على بناء الجسم، وهذا الفيتامين يحفظ الجسم من الإصابة بأمراض الاكزيما والقوباء والدمامل والصدفية، وفيتامين ك يستعمل في وقف النزيف خصوصا النزيف الداخلي، وفيتامين ج يزيد في مناعة الجسم ضد العدوى ويساهم في عمليات تكوين الدم.
استعمال العسل:(6/346)
يستعمل العسل من أزمان بعيدة في علاج كثير من الأمراض وكتب مشاهير الأطباء القدامى من المصريين والإغريق والهنود والعرب مملوءة بالوصفات التي تحتوي على عسل النحل وبعد اكتشاف التركيب الكيميائي للعسل، أصبح يستعمل في علاج كثير من الأمراض بدرجة لا تقف عند حد، فلا يكاد يخلو كشف جديد في جميع أنحاء العالم من استعمال لعسل النحل في علاج مرض خطير أو داء مستعص، ونبدأ بالخواص العلاجية لأهم مكونات عسل النحل، وهو سكر العنب أو الجلوكوز، الذي يستعمل بكثرة لعلاج أمراض الدورة الدموية وزيادة التوتر والحساسية والنزيف، خصوصا المعدى وقرح المعدة وأمراض أمعاء الأطفال والأمراض المعدية مثل التيفوس والدوسنتاريا والملاريا والتهاب الحلق والحمى والحصبة التسمم. والجلوكوز علاج هام لأمراض الكبد ويزيد من مقاومة الكبد لحالات التسمم، على أن الجلوكوز من المصادر الحيوية لزيادة النشاط عند الإنسان ولعمليات بناء الأنسجة والتمثيل الغذائي.
أهم الأمراض التي يستعمل العسل في علاجها:
1- علاج الجروح: أوصى الحكيم العربي ابن سينا باستعمال لبخة من العسل المخلوط بالدقيق في علاج الجروح واستعمل الأطباء اليوم الكثير من المراهم التي يدخلها عسل النحل في شفاء الجروح المستعصية وكانت النتيجة مذهلة بسبب سرعة التئام الجروح وشفائها.
علاج أمراض الجهاز التنفسي استعمل العسل في شفاء أمراض المسالك التنفسية قديما واستعمل حديثا على هيئة محلول يستنشق منه المريض.
وفي علاج الزكام ينصح الأطباء باستعمال العسل مع اللبن الدافئ مع الراحة لمدة يومين.
وفي علاج السل ينصح الرئيس ابن سينا بتناول مزيج العسل مع خلاصة الورد، وستعمله في الصباح وفي المساء وقد تأكد الأطباء في العصر الحديث من أن العسل له أثر عظيم في زيادة مقاومة الجسم للسل.(6/347)
وفي علاج أمراض المعدة والأمعاء تدل الأبحاث العلمية الحديثة على أن تناول عسل النحل يقلل من الحموضة العالية في المعدة وهو علاج قوى للذين يشكون من قرح المعدة والأثنى عشر وفي هذه الحالة يجب أن يؤخذ العسل قبل الأكل بساعة ونصف وأفضل الأوقات لتناوله هو قبل الإفطار، وأحسن النتائج تحدث عند تناول العسل في كوب ماء دافئ، ونحن نقرر بكل اعتزاز وفخر أن المصطفى صلى الله عليه وسلم كان بتناول العسل بالماء وهكذا يخضع العلم الحديث أمام تعاليم نبي الإسلام وأمام عظمة القرآن.
وأما علاج أمراض الكبد فيستعمل العسل على نطاق واسع في علاج أمراض الكبد ويرجع أثره الطبي إلى أنه يزيد مخزون الكبد من السكر وينشط عملية التمثيل الغذائي في الأنسجة، وتقوم الكبد بعمل المرشح فتكون ترياقا من السموم وتدل التقارير الطبية على أن الانتظام في تناول العسل يأتي بالشفاء من التهاب الكبد المزمن والتهاب المرارة، وفي علاج الأمراض العصبية أوصى الرئيس ابن سينا بتناول القليل من العسل، وفي الطب الحديث اتضح أن عسل النحل المذاب في الماء الدافئ علاج ناجح للأمراض العصبية، وأجريت التجارب في هذا الصدد، وكانت النتائج مرضية جدا، واختفى الصداع والأرق وقل تهيج المرضى وزادت بهجتهم ويرجع ذلك إلى احتواء العسل على مقدار كبير من سكر العنب.
وأيضا أجريت تجارب كثيرة ناجحة في علا الأمراض الجلدية وأمراض العيون وكان العسل أهم عناصر تلك المراهم الشافية، وأخيرا تحسين حال مرضى السكر – لوحظ في تجارب عديدة أن كثيرا من مرضى السكر استفادوا كثيرا من تعاطى العسل حيث انخفضت نسبة السكر في دمهم، فأصبحت مقاربة لنسبتها في دم الأصحاء، ويرجع ذلك إلى وجود مواد في العسل تجعل تمثيل السكر أكثر سهولة في الجسم، فلا يظهر بنسبة مرتفعة في الدم.(6/348)
ومجمل القول لقد استخدم الأطباء قديما وحديث عسل النحل في كثير من المستحضرات الطبية، ولعلاج حالات مرضية، ونذكر منها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر علاج الصداع العصبي، لجلب النوم، لتغذية الأطفال، لتغذية الناشئين والناقهين من الأمراض في مقاومة أمراض الشيخوخة، لمنع شلل الأطفال، لتزويد أصحاب الأعمال الفكرية بالطاقة اللازمة للعمل، لمساعدة الحوامل أثناء الحمل، استعماله لمساعدة الأطفال عند التسنين في حالات الاضطرابات الجلدية والحساسة في المسالك التنفسية عامة في حالات فقر الدم في أمراض الكبد والمعدة والأمعاء والقولون والمرارة والبنكرياس والقلب والمسالك البولية، ومن الجميل أن بعض الأطباء ينادي باستعمال العسل وترك السكر ويبرر طلبه الأدلة العلمية التي منها:
1- لا يسبب عسل النحل اضطرابات لأغشية القناة الهضمية الرقيقة.
2- يحدث تمثيل العسل في الجسم سريعا وسهلا.
3- لا يضر عسل النحل بالكلي ولا يسبب تلف أنسجتها.
4- يزود عسل النحل الإنسان بأعظم قوى النشاط بأقل مجهود للجهاز الهضمي.
5- يساعد الرياضيين على استعادة قواهم سريعا، ورغم ظهور هذه المزايا فما زال في العسل مواد غير معروفة تبلغ 73ر3 في المائة عجز العلم عن اكتشافها للآن وهكذا يقرأ المسلم بكل فخر على مسامع الدنيا صباحا ومساء {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاس} .
ويا حبذا لو أن الأثرياء والأغنياء وأهل الأموال والبساتين يقومون بتربية النحل على نطاق واسع لأجل أن يستفيد الناس من هذا الشفاء المبارك تحقيقا لقول الله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاس} فالمسلمون أحق الناس بالانتفاع بتوجيهات الإسلام الخالدة العظيم.
يقول الله سبحانه وتعالى في قصة السيدة مريم أم عبد الله ورسوله سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام:
{وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّا}(6/349)
أثبت التحليل العلمي للرطب أنه يحتوي على مادة تخفف ضغط الدم عند السيدات الحوامل، وتؤثر تأثير كبيرا في مساعدة السيدات الحوامل على سهولة الولادة وقد قدم الدكتور عبد العزيز شرف بحثا علميا عن الرطب وتأثيره على الحامل أثبت فيه أن التمر يقوي انقباضات عضلات الرحم وخصوصا في الشهور الأخيرة من الحمل ويقول الدكتور شرف أنه استرشد في بحثه هذا بالآية القرآنية الكريمة من سورة مريم وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا.
ويقول أيضا أن الرطب له تأثيره الخاص على حركة الأمعاء على أن الرطب يعادل اللحم في قيمته الغذائية ويتفوق عليه بما يعطيه من سعرات حرارية ومواد معدنية وسكرية وذلك بالإضافة إلى أنه غني بالكلسيوم والفسفور والحديد ويحتوي على غالبية الفيتامينات الهامة، كما أنه يفيد في وقاية الجسم وعلاجه من أمراض العيون وضعف البصر والأمراض الجلدية والأنيميا ولين العظام.
ولننتقل بكم إلى مثل آخر من أمثلة إعجاز القرآن العلمي: لقد حرم الإسلام الخمر.
وقد ثبت طبيا أن الخمر أساسها مادة الكحول وهذه المادة إن دخلت المعدة سببت فيه الالتهابات الحادة والقروح المعوية التي تؤدي في نهاية الطريق إلى السرطان. كما أنها تحدث التهابا في الأعصاب وفي الكلي وتصلبا في الشرايين وتحجرا في الكبد.
ولما كان الكبد هو بمثابة المعمل الكيميائي في الجسم فإن ما ينتج من تحجر أو تليف في الكبد لهو إنذار صادق بالفناء ولهذا حرم الإسلام من الخمر القليل والكثير والقاعدة العامة "ما أسكر كثيره فقليله حرام".
إن الحديث عن إعجاز القرآن العلمي في العصر الحديث: لا يمكن أن ينتهي.(6/350)
إن كتاب الله سبحانه وتعالى اشتمل على كل شيء ينفع الإنسان في حياته في الدنيا والآخرة، والهدف من هذه المقالة أن يعرف المسلمون بعض ما في القرآن من أسرار وعجائب خالدة باقية وأن يرجع المسلمون عامة في مشارق الأرض ومغاربها إلى كتاب الله وإلى نوره الذي أنزله هداية للناس أن يرجع المسلمون إلى كتاب الله في عقائدهم وتشريعاتهم وأخلاقهم وآدابهم وثقافتهم حتى تعود لهم السيادة ويعود النصر الذي كتبه الله للمؤمنين الصادقين في إيمانهم.
كتب الله للمسلمين عودة كريمة إلى نور الإسلام وهدايته ووفق الله المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها للاعتصام بكتاب الله ونصر دين الله وجمعهم تحت راية الإسلام.
المراجع
1- كتب التفسير والحديث.
2- كتاب نحل العسل وشفاء الأمراض للدكتور أحمد لطفي عبد السلام.
3- نحل العسل للدكتور عبد الخالق وفا.
4- كتاب الإسلام والطب.(6/351)
من الصحف والمجلات
ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون
إعداد العلاقات العامة
في الولايات المتحدة تجاوزت الجريمة أكثر أضعافها في السنوات الأخيرة وأصبح معدل الجريمة: جريمة قتل كل دقيقة، سرقة مسلحة كل دقيقة. جريمة اغتصاب كل عشرين دقيقة. جرائم دون اغتصاب أي بالتفاهم بين المجرمين على حساب الأسرة والمجموع البشري، تتم دون أن يتم حصرها.
والعنف المنظم جزء لا يتجزأ من العلاقات الاجتماعية في هذا المجتمع، ومن الملحوظ أن جرائم القتل الحادة تكثر بين الشبان من سن 15- 35 أي هؤلاء الذين تتضخم لديهم الطاقات الباحثة عن الإشباع دون أن يجدوا متنفسا حقيقيا للتفريغ.
وفي روسيا تعتبر الحياة كلها جريمة، فالأسرة مفقودة بالمعنى الطبيعي للأسرة, والإنسان آلة لا تحس
بحركتها الذاتية، ولأنه لا يستطيع التفريغ في المجتمع الحديدي، فهو يقوم بالتفريغ في ذاته وفي من هو حوله.
وأخيرا طالب الروس بمزيد من حرية الاستهلاك وبمزيد من الحرية التي لم تكن موجودة أصلا لأنهم بدوا يبحثون عن أنفسهم بعد سجن أكثر من نصف قرن، وهم – وبعدهم الصينيون – سيصلون إلى نفس المحط لأنهم بالطبع لا يحتمل أن يسيروا في طريق الإسلام والحضارة الحقيقية.
وفي ألمانيا تضاعفت جرائم القتل الناري عشرة أضعاف، وفي عام 1969م سجلت إحصائيات الإجرام أكثر من ألفي جريمة قتل. وفي عام 1970م وصلت إلى ألفين وخمسمائة وفي عام 1971م وصلت إلى ثلاثة آلاف وزيادة مطردة.
وفي بريطانيا ارتفع إحصاء الجريمة في السنوات الأخيرة من 15759 إلى 41088 عام 1970م وربما وصلت الآن إلى خمسين…
وجرائم السطو ارتفعت في عامين لتبلغ نصف مليون جريمة.(6/352)
وفي فرنسا زادت نسبة الجريمة إلى 32% لاسيما عملية السطو المسلح ولا مجال للاستطراد والنتيجة سيئة للغاية تنبئ بمستقبل مظلم للإنسان، الإنسان المجرد من الروح والعقل والضمير والإحساس لأنه – وهذه هي الحقيقة الأبقى والأخلد؛ لأنه بدون مناخ إسلامي يهيمن بروحه على الحياة لا يوجد بديل إلا عالم الجريمة.
نقلا عن مجلة المجتمع الكويتية(6/353)
إلى البابا بولس السادس عظيم أهل ملته
بقلم: الشيخ محمد مهدي استانبولي
سلام على من اتبع الهدى، أما بعد اطلعت على رسالتك التي وجهتها إلى كافة الرجال الخيرين على حد – تعبيرك – من أجل تحقيق السلام في العالم، وذلك في يناير (شباط) عام 1968 م عن طريق الاحتفال في اليوم الأول من كل عام بيوم السلام، فأشكرك شكرا كثيرا على اهتمامك في السعي لسعادة البشرية وسلامها وأهم ما أود أن ألفت نظرك إليه أن السلام الصحيح لا يتحقق ما لم نسع لإيقاظ الشعور الإنساني في ضمائر الناس ونذكرهم بأنهم أسرة واحدة، تمت بالأصل إلى أبوين اثنين كما تقول جميع الأديان السماوية فلا فرق بين أبيض ولا أسود، ولا أصفر إلا بالمنافسة في الأعمال المفيدة والبناءة للبشرية جمعاء.
ولا شك أن هذه الالتفاتة نحو الأخوة الواحدة من شأنها أن ترقق القلوب القاسية، فلا يعتدي فرد على فرد ولا شعب على شعب مهما كان قويا، ما دام يؤمن بأن البشر جميعا أخوة من أصل واحد مهما تباعدوا في الديار ومهما اختلفوا في الأجناس والألوان واللغات، وحتى في الأفكار وكل ضرر أو مصيبة تصيب جماعة تنتقل إلى الجماعات الأخرى.
ووسائل النقل الحديثة من طائرات وغيرها تساعد جدا على تحقيق هذه الفكرة، أكثر من أي وقت سابق فقد أصبح العالم نتيجة ذلك كأنه بلد واحد أو حي واحد، أو أسرة واحدة إذا أصيبت بسوء أو أزمة، انتقلت أزمتها وبلاؤها إلى الآخرين.(6/354)
والغريب – والغريب جدا – أن الخيرات والمنتوجات التي أودعها الله تعالى على الأرض، بدلا من أن تكون نعمة على البشرية جميعا، يتقاسمونها فيما بينهم قسمة أخوية إنسانية، كل حسب جهده، ومساعدة الفقراء والذين لا يكفيهم دخلهم، إذا بهم جعلوها سببا للقتال والحروب وسفك الدماء مما تشمئز منه النفوس الكريمة وتأباه الضمائر الحية، وترفضه العقول السليمة أن نجعل من النعم نقما تسبب شقاء البشرية بدلا من سعادتها وكل ذلك نتيجة فقدان الشعور الديني الإنساني السليم من التعصب.
ولو كان البشر – شعوبا وحكومات – تشعر بالأخوة الإنسانية بوعي ويقظة لما كان هذا المصير المؤسف الذي هدد ويهدد البشرية بالانهيار والفناء.
ومن أهم أسباب تحقيق السلام أيضا علاوة على أحياء الشعور الأخوي وجود تشريع سماوي واحد وصحيح يصلح لكل زمان ومكان بين هؤلاء البشر الأخوة، فلا يدع مجالا للنزاع والخصومة بينهم، كما هو الشأن الآن في التشريعات القومية واللادينية المعاصرة التي تمزق الشعوب وتثير الاختلافات كل ذلك بسبب عجز البشر أن يضعوا التشريعات لأنفسهم كعجزهم عن وضع القوانين الطبيعية.
فكما أن الله سبحانه وضع هذه القوانين المادية بين البشر وبين الطبيعة ولا بد من الخضوع لها حتى يفيد الناس من هذه الطبيعة، كذلك أنزل تشريعات دينية بين البشر أنفسهم، فلا بد لهم كي يسعدوا ويعيشوا بسلام من الخضوع لها.(6/355)
لقد أنزل الله سبحانه الأديان لتحكم بين الناس بالحق والعدل، وأذكرك بهذه المناسبة بالدين الإسلامي العظيم، وهو امتداد لشريعة المسيح عليه السلام كما أن المسيحية امتداد لشريعة التوراة فقد قال المسيح: "ما جئت لأنقض الناموس، بل جئت لأتمم"كذلك قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" بل إن الإسلام مسيحية مصححة بعيدة عن الانحرافات التي طرأت عليها عبر القرون كما أعلن هذه الحقيقة مؤرخو وعلماء النصارى أنفسهم أمثال (الهرارنست دي يونس) في كتابه (الإسلام: أي النصرانية المصححة) .
لقد بشر المسيح عليه السلام بهذا النبي في فقرات كثيرة من الأناجيل، فقد جاء في إنجيل يوحنا (12:16 و 13) "إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقولها لكم، ولكن لا تستطيعون أن تتحملوا الآن، وأما متى جاء روح الحق فهو يرشدكم إلى الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية".
وكان المسيح يعبر عن محمد المبشر به بلفظ (النبي) ، وبلفظ (فارقليط) وهو تقريب لفظ (بيريكلتوس) اليونانية ومعناها (الذي له حمد كثير) أي محمد. وقد جاء في أسفار التوراة والمزامير بشارات كثيرة بالنبي محمد اكتفي بذكر أسمائها وأرقام فقراتها (سفر التثنية – الإصحاح 18) والمزمور التاسع والأربعين بعد المائة، والعاشر بعد المائة، وأشعيا في الإصحاحات (8 و 9 و 6 و 35 و 42 و 43) ودانيال في الإصحاح (2 و 7) وحبقوق إصحاح (2) ، وزكريا إصحاح (3) وملاحي إصحاح (3) .(6/356)
إن المسيحيين لا يزالون إلى الآن بانتظار هذا النبي الذي بشرت به التوراة والإنجيل ليبقى معهم إلى الأبد – أي خاتم الأنبياء – وقد سئل المسيح عن صفاته لتميزه عن الأنبياء الكذبة فقال لرعيته: "من ثمارهم تعرفونهم"وهل أعظم من الثمار التي جاءت في تشريع محمد التي أصلحت العرب ووحدتهم بعد نزاعهم وانطلقت بهم في العالم فقضوا على وثنية الفرس والرومان وفتحوا الدنيا من المحيط إلى المحيط بأقل من قرن.
لقد شهد بعظمة الإسلام وصلاحه لكل زمان ومكان وقدرته على سعادة البشرية كلها، وحل جميع مشكلاتهم الاقتصادية والخلقية والسياسية كثير من مفكري وساسة الغرب المنصفين.
إن العالم يعيش اليوم على فوهة بركان مدمر في اضطراب وفوضى وخطر داهم بسبب التشريعات الوضعية القاصرة التي كانت من أهم أسباب نزاعه وحروبه.
ولما كانت المسيحية لا تملك تشريعا مفصلا كالإسلام، وكانت شريعة إقليمية لعصر معين مضى كما أعلن المسيح نفسه ذلك بقوله "إنما بعثت لشياه بني إسرائيل الضالة" وهي تقتصر على نصائح ووصايا لم يعد أكثرها صالحا للحياة والتطبيق وفيها كثير من المتناقضات مما كان سببا في نفور الغربيين منه وانسلاخهم عنه في تشريعاتهم ومدنيتهم وحياتهم العملية. ولكنهم غدوا مع كل ذلك بلا زمام ودون قيود فتكالبوا على المادة حتى أوشكت أن تقضي عليهم وتعرضهم للمهالك وكل ذلك كانت نتيجة رد الفعل للطقوس النصرانية التي تتنكر للعلم والمدنية كما تتنكر للحياة فتحض حتى على ترك الزواج والعزوف عنه. إن المدنية المعاصرة خطر مدمر بسبب تجردها عن الروحانية الصحيحة الموجودة فعلا في الإسلام الذي جمع بين المادة والروحانية في تعاليمه وحض عليهما.(6/357)
وأذكرك – يا عظيم ملته – بهذه المناسبة أن العالم اليوم ينقسم إلى معسكرين، معسكر الرأسمالية، ومعسكر الشيوعية، معسكر الفردية ومعسكر الجماعية، ويمثل هذين المعسكرين: الدول الغربية والدول الشرقية. وبقاء هذين المعسكرين يهدد السلام بالخطر وليس هناك حل سوى الإسلام فهو وسط بين الفردية والجماعية، ووسط بين الروحية والمادية، قد جمع بين كل منها في أروع نظام وأجمل تناسق.
وهذا يجعل الفاتيكان إذا اعتنق الإسلام، يتقدم إلى العالم بالحل السلمي الصحيح الذي يرضى جميع المعسكرات المتطاحنة فيتحقق على يده السلام والسعادة الحقيقين. فمن الواجب المحتم إنقاذا للبشرية بالمسارعة إلى اعتناق الإسلام ودعوة الناس إليه.
ومن هذه المتناقضات والأدلة على بطلان عقيدة الصلب ما جاء في (سفر التثنية) "لا يقتل الآباء عن الأولاد ولا يقتل الأولاد عن الآباء، كل إنسان بخطيئته يقتل! "
إن الإسلام أشاد بعظمة المسيح وأمه مريم الصديقة، وأن الله أنقذه من الصلب ونصره على أعدائه من اليهود ورفعه إليه، وهذا بخلاف ما يزعمه النصارى الذي يعتقدون بأن اليهود أهانوه وعذبوه وصلبوه، ولا أدري كيف تتفق عقيدة الصلب هذه مع قول التوراة: "ملعون من وضع على خشبه"فأي العقيدتين ترفع من شأن المسيح وتشيد بعظمة الله.
وكذلك يعتقد المسلمون بأن الله سبحانه واحد لا شريك له، ليس له والدة ولا زوجة ولا ولد شأن البشر، فأين هذا من عقيدة النصارى من احتقار الله وسبه وأنه حمل وولد، وكان يأكل ويشرب ويتغوط وينام، هو الله وابن الله، وأن الله أو ابنه حل فيه، ثم تركه يصلب من قبل اليهود ليكفر عن خطيئة آدم، مع أن الله يقول بأن آدم طلب المغفرة من الله بعد خطيئته فغفر له وانتهت القضية دون أن تلحق أحدا من البشر كما تقتضي أبسط مبادئ العدل الإلهي والبشري.(6/358)
ولا يخفى ما سببته عقيدة الخطية من تعذيب البشر وخاصة النساء والأطفال منهم وليس لهم ذنب، ولا يخفى أن هذه العقيدة شأن عقيدة التثليث والصلب عقيدة وثنية موجودة في تاريخ الهند القديم وغيرها من الأمم السابقة للمسيحية. وكم أتمنى لو يطلع زعماء النصارى على كتاب (العقيدة الوثنية في الديانة النصرانية) فيرون العجب العجاب وكيف أنهم يدينون بالوثنية وهم يشعرون أو لا يشعرون وهم يعتقدون أنهم لا يزالون يدينون بالمسيحية التي جاءت من عند الله.
كل ذلك يدعوك – أيها البابا بولس السادس- عظيم أهل ملته إلى دعوة المسيحيين في العالم لاعتناق الإسلام والدخول فيه إجابة لدعوة المسيح الذي بشر به، وإنقاذا للبشرية مما تعانيه اليوم من اضطراب وفوضى بسبب نظمها الوضعية العاجزة والقاصرة والمجحفة. وأذكركم بهذه المناسبة تمهيدا لانتشار الإسلام والسلام بوجوب دراسة الاختلافات الدينية بين المسيحية والإسلام لإزالتها فما كان دين الله ليتناقض، وليفرق، بل ليجمع ويوحد.
إن المسيح أعلن في فقرات كثيرة في الإنجيل أنه عبد الله ورسوله، وأن الحياة الأبدية أن يعرفوا أن الله هو الإله الحقيقي وحده، وأن المسيح رسوله (يوحنا 17/3) حتى أنه لم يقبل أن يقال له (السيد) فقال لحواريه: "السيد هو الله وحده"وهناك عشرات من الآيات سواء في التوراة أو الإنجيل تعلن هذه الوحدانية لله وقد جاء في إنجيل مرقس فأجابه يسوع: أن أول كل الوصايا هي: "اسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا واحد" (الفصل 12 العدد 39) ويبقى بعدها فقرات قليلة جدا فهم منها بعض المسيحيين ألوهية المسيح، وقد تكون مدسوسة أو محرفة ويجب تأويلها لتتفق مع جميع ما جاء في التوراة والإنجيل خشية أن يقال أن هذا الإنجيل فيه اختلاف وتناقض.(6/359)
وأذكر على الدوام أن جميع الكتب السماوية والأنبياء كلهم جاءوا بالتوحيد وأن التثليث جاء طارئا على ديانة المسيح بسبب قسطنطين وبولس وأن مجمع (نيقية) الذي قرر التثليث وهو عقيدة وثنية كانت قبل المسيح بضغط من الملك قسطنطين بينما كانت أكثرية أعضائه تنادى بوحدانية الله وأن المسيح عبده ورسوله.
وإنني ألفت نظركم بعدد خطير أصدرته مجلة لايف الأمريكية عام 1955 كما أظن تثبت فيه ما طرأ على التوراة والإنجيل من تحريفات حتى خرجا عن أصلهما الأول، فأدعوكم إلى مطالعته فإنه قد يكشف عن أمور هامة.
وقبل الخاتمة، إنني أذكرك أيا الباب بولس السادس عظيم أهل ملته بالتبعة الخطيرة الملقاة على عاتقك أمام الله وأمام البشرية وأمام التاريخ في إعلان هذه الحقيقة ودعوة الناس للدخول في الإسلام واعتناقه دينا وتشريعا لتحقيق العدالة والسعادة والسلام. فهو – وحده – كما أعلن ذلك المنصفون من مؤرخي وعلماء الغرب الكفيل بإنقاذ البشرية مما تعانيه من شقاء وما يتهددها من خطر حرب هيدروجينية يمكن وقوعها بين لحظة وأخرى تضيع نتيجتها الحضارة الإنسانية وتفني معظم البشر.
وأذكرك أيضا بأن الله العظيم مطلع على القلوب وأن الحياة الدنيا بالنسبة للآخرة لا تساوي شيئا مذكورا، فالحذر الحذر من إضاعة جنة الله، والدخول في ناره إلى الأبد من أجل متاع قليل.
وهذه وصايا المسيح نبي الله، ومن قبله ومن بعده من المرسلين، كلها تأمر بالعمل للدار الآخرة وعدم الاغترار بالحياة الدنيا. وآمل أن تمثلوا دور ملك الحبشة المسيحي، فإنه لما بلغه خبر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أصحابه الذين هاجروا إليه وسمع سورة مريم بكى هو والرهبان ولما سأل المسلمين ماذا يقولون في المسيح صدقهم وقال: "إن هذا والذي جاء به موسى وعيسى ليخرج من مشكاة واحدة" فآمن به.(6/360)
هذا وإني أعلمك أن هذا اليوم في دخول العالم في الإسلام آت لا محالة كما أخبرت الآيات الكريمة والأحاديث النبوية العديدة، وقد أخبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأن روما نفسها – ولعله الفاتيكان – ستدخل في الإسلام. ولعلكم تمهدون لهذا اليوم عقب هذا النداء الذي أوجهه إليكم والذي فيه كل الخير للمسيحية نفسها قبل أن يتقلص ظلها حتى عما عليه الآن في (الفاتيكان) .
وما أحسن ما قاله أحد المفكرين: "يمكننا أن نخدع كل الناس نصف الزمن، ويمكننا أن نخدع نصف الناس كل الزمن ولكن لا يمكن أن نخدع كل الناس كل الزمن". ويومئذ تستيقظ شعوب العالم من غفلتها وتنتقم من المضللين الانتهازيين الذين أخفوا الحقائق كل الحقائق، وسيرى الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون في الدنيا ويوم القيامة.
ألا قد بلغت ……… اللهم أشهد.(6/361)
الزي الإسلامي للمرأة ومزاياه
بقلم الدكتور فاروق محمود ساهل
نقلا عن مجلة المجتمع الكويتية
يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} .
يأمر الله نبيه الكريم – صلوات الله وسلامه عليه – أن يأمر نساءه وبناته ونساء المؤمنين عامة إذا خرجن لحاجتهم أن يغطين أجسامهن ورءوسهن وجيوبهن – وهي فتحة الصدر من الثوب – بجلباب كاس فيميزهن هذا الزي ويجعلهن في مأمن من معابثة الفساق أو ممن في قلوبهم مرض فلا يتعرضون لهن بأذى أو ريبة.
والزي الإسلامي للمرأة هو أن تلبس ما يستر جسدها جميعه بملابس واسعة غير ضيقة ولا شفافة حتى لا تظهر ثنيات الجسم وتفاصيله مع السماح لها بكشف الوجه والدين حتى الرسغين.
ولا يخفى ما يبلغه مجتمع من العفة والطهارة إذا خرجت فيه النساء لقضاء حاجتهن حيث سمح لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لعائشة رضي الله عنها "أنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن" على أن تكن محتشمات الملبس.(6/362)
ولقد عزى كثير من المصلحين والباحثين فساد كثير من شباب العصر إلى تعمد المرأة الخروج كاشفة أجزاء من عورتها ظلت تزيد وتزيد فلم يبق إلا القليل المستور من جسدها. وانبرى هدامون عديدون يفسرون ظاهرة كشف المرأة لعورتها وربطوها بنفسية المرأة وحبها للظهور والتبرج وعرض أجزاء من جسدها ثم استمتاعها بما يقع على سمعها من كلمات الغزل والاطراء من العابثين والفاسقين.. ووجدت المرأة من يقوم على تشجيعها بعدم ستر عورتها بجهاز ضخم منظم يشتمل على مصممين للأزياء الحديثة ودور للملبوسات الخليعة ومجلات ومسابقات وعروض وأفانين، وكلها تخضع لتمويل وإشراف اليهود طبقا لما ورد في بروتوكولاتهم من إفساد العباد وملء أوقاتهم بالفارغ من القول وجذب انتباههم بالتافة من العمل باسم التطور والرقى والمدنية و (آخر خطوط الموضة) ليظلوا بعيدين عن أمورهم الهامة ومشاكلهم الملحة، فضلا عن امتصاص الأموال الطائلة.
والغريب أن تكاليف الثياب القصيرة أغلى بكثير من تكاليف الثياب المحتشمة البسيطة.. ولكن: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} .
وصدق الله العظيم.. ثم تكون عليهم حسرة..
فبالإضافة إلى مجتمع يسيطر عليه الفساد والانحلال حين تتخلى المرأة عن ثياب العفة والنظافة، وما يخسره هذا المجتمع نتيجة سلوك نسائه ثم شبابه، بالإضافة إلى ذلك فإن الإحصائيات الحالية تشير إلى انتشار مرض السرطان الخبيث في الأجزاء العارية من أجساد الفتيات اللائي يلبسن الملابس القصيرة..(6/363)
وقبل أن أذكر تفاصيل ذلك أود أن أقدم له بأن الله جلت قدرته خلقنا وهو أعلم بخلقه وأمرنا باتباع أمور تجلب لنا النفع ونهانا عن أشياء تجر علينا الخراب والعذاب، وفوق نفعها أو ضررها لنا فهي اختبار لمدى طاعتنا لله سبحانه وتعالى.. قد لا يبدو لنا من الوهلة الأولى مدى النفع أو الضرر من أمر إلهي ولكن المؤمن الحق يؤمن به ويتبعه دون جدل أو نقاش، وبمرور السنين أو الدهور تتجلى الحكمة الإلهية فيما أمرنا باتباعه أو اجتنابه، ذلك هو الإيمان بالغيب {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} . {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} فالمعروف أن العقل يعتمد على الحواس التي هي محدودة مقيدة ومالا تدركه الحواس لا يدركه العقل. وليس معنى ذلك أن نلغي نعمة العقل والتفكير فلم نؤمر بذلك بل على النقيض أمرنا بالتدبر والتفكر واستعمال عقلنا في غير ما شطط أو ضلال، ونلزم العقل الأصول والقواعد خشية التردي في الهاوية (كما يحدث الآن للحضارات الأجنبية في أوروبا وأمريكا وآسيا) .
(ومع ذلك كله تجد فينا من لا يصيخون السمع إلى صوت الدين، وهم يلحدون في آيات الله فيميلون بها عن وجهها حينا، ويجادلون فيها أشد الجدال حينا آخر. ولكنهم يخضعون لهذه المزاعم الداعرة ويرونها فوق النقاش والمراء. هؤلاء قوم لا تقوم عندهم الحجة بالقرآن، ولكنها تقوم بهذه الظنون والأوهام فإذا عارضتهم بالثابت من قول الله سبحانه وتعالى – وهم يزعمون أنهم مسلمون – لووا رءوسهم وقالوا: نحدثك في العلم فتحدثنا في الدين؟ كأن هذه الأوهام أثبت عندهم من القرآن) وعلى كل فسنحدثهم بالعلم لعل فيه عبرة لهم وهداية، فلقد نشر في المجلة الطبية البريطانية أن السرطان الخبيث (الميلانوما) الخبيثة.(6/364)
والذي كان من أندر أنواع السرطان أصبح الآن في تزايد وإن عدد الإصابات في الفتيات في مقتبل العمر يتضاعف حاليا حيث يصبن به في أرجلهن وأن السبب الرئيسي لشيوع هذا السرطان الخبيث هو انتشار الأزياء القصيرة التي تعرض جسد النساء لأشعة الشمس فترات طويلة على مر السنة، ولا تفيد الجوارب الشفافة أو (النايلون) في الوقاية منه، وناشدت المجلة أطباء الأوبئة أن يشاركوا في جمع المعلومات عن هذا المرض وكأنه يقترب من كونه وباء.
{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .
ولقد حل العذاب الأليم – أو جزء منه – في صورة السرطان الخبيث بل أخبث أنواع السرطان. وهذا المرض ينتج من تعرض الجسم لأشعة الشمس وأشعة فوق البنفسجية فترات طويلة وهو ما توفره الملابس القصيرة في الحياة العادية أو أزياء البحر على الشواطئ ويصيب كافة الأجناس بنسب متفاوتة ويظهر أولا كبقعة صغيرة سوداء وقد تكون متناهية الصغر غالبا في القدم أو الساق (وأحيانا بالعين) ثم يبدأ بالانتشار في كل مكان واتجاه بينهما هو يزيد وينمو في مكان ظهوره الأول، فيهاجم العقد الليمفاوية بأعلى الفخذ ويغزو الدم ويستقر في الكبد ويدمرها وقد يستقر في كافة الأعضاء ومنها العظام والأحشاء بما فيها الكليتان ولربما يعقب غزو الكليتين البول الأسود نتيجة لتهتك الكلي بالسرطان الخبيث الغازي.. وقد ينتقل للجنين في بطن أمه.
ولنا أن نتصور حالة إنسان مصاب بكل هذا يتمنى الموت فيه خلاصا من الآلام والدمار.
ولا يمهل هذا المرض صاحبه طويلا ولا يمثل العلاج بالجراحة فرصة للنجاة كباقي أنواع السرطان الخبيث.
علما بأن هذا السرطان الخبيث لا يستجيب اطلاقا للعلاج بجلسات الأشعة.(6/365)
وبعد، فعلى الرغم من أن التدخين يسبب سرطان الرئة وسرطان المثانة وأمراض القلب والتهاب الشعيبات الهوائية المزمن إلا أن، نسبة المدخنين ثابتة بل لربما في تزايد وأقصى ما فعلته الجهات الصحية في أوروبا أن أجبرت شركات الدخان أن تكتب عبارة (التدخين قد يضر بالصحة!) وذلك على كل علبة من الدخان.
وعلى الرغم من أن أمراض الخمر كثيرة جدا وقاتلة فأقصى ما فعلته الجهات الصحية المسؤولة في بعض البلدان أن حذرت الناشئة من تعاطيها..
وعلى الرغم من أن أمراض الزنا (الأمراض السرية) أبادت ملايين الناس رجالا ونساء عبر السنين إلا أن الزنا منتشر.
وعليه فلا نتوقع أن يبدأ المسؤولون في نصح الفتيات بعدم ارتداء الملابس القصيرة إلا بعد أن تسقط الضحايا منهن بالآلاف.. ضحايا للاستغلال والمصالح الخاصة والكسب الحرام على حساب أرواح البشر.
فإلى فتياتنا ولمن يشجعهن على التخلي عن زيهن الإسلامي محاكاة وتقليدا ها قد تبين لنا أن التقليد ضار بل يؤدي للهلاك في الدنيا وفي الآخرة.. فسواء من الناحية المادية فالأثمان باهظة ومرتفعة.. أم من الناحية الاجتماعية تفكك وميوعة وضلال.
أم من الناحية الصحية فالعذاب البدني والموت المحقق.. ولعذاب الآخرة أشد وأبقى..
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}
وعلى فتياتنا المسلمات أن يفوتن الفرصة على دعاة الفساد وأن يتمسكن بتعاليم دينهن الحنيف يكسبن رضاء الله ويسلمن دنيت وينجين آخرة.(6/366)
الإسلام والحياة
فريضة التفكير في الإسلام
بقلم الشيخ: أحمد عبد الرحيم السايح من علماء الأزهر
.. والوسائل التي اتخذها الإسلام لنشر العلم تعتمد على عدة خطوات أهمها:
أولا – التأمل والدراسة والتدبر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من كائنات.
ثانيا- البحث العملي بالانتشار في أقطار الأرض لدراسة الجبال والأنهار والصحاري والبحار ومعرفة النبات والحيوان ووسائل الاستفادة من كل هذه الكائنات {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} ، {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ، {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} ، {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(6/367)
فالله سبحانه وتعالى لم يخلق هذه الكائنات عبثا وإنما سخرها لنا لننتفع بها بعد دراسة أساليب هذا الانتفاع، على أن نستخدم العقل والحواس معا في سبيل استنباط أيسر السبل وأسهل الوسائل لهذا الانتفاع، وكثيرا ما يلفتنا إلى أن وسيلة العلم هي البحث والتفكير {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وقد يغفل الناس عن أمر فيلفتهم إليه ليستغلوه {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}
ثالثا – الاستفادة مما تركه السابقون من معارف وعلوم وآثار ليمحصوها ثم يضيفوا إليها ما يهديهم إليه البحث من حقائق ونظريات {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} ، وللاتعاظ بما وقع فيه السابقون من أخطاء {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً}
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}
وكثيرا ما يضرب لهم الأمثلة بالأمم السابقة {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ. إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ. وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ. وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}(6/368)
وكثيرا ما يلفتهم إلى أن الحكمة ضالة المؤمن يلتمسها أنى وجدها {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} ثم يقرع الغافلين عن البحث والدرس والملاحظة التجريبية {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} ثم يدعو إلى سؤال علماء الأمم السابقة أو من ورثوا عنها هذه العلوم للمعرفة والتثبت {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ}
رابعا – الرحلة في طلب العلم: قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} وأوصى نبيه موسى عليه السلام بأن يرحل في طلب العلم إلى الخضر ويتنقل معه دارسا متعلما.
ويقول الرسول صلوات الله عليه: "من سلك طريقا يطلب فيها علما سلك الله به طريق من طرق الجنة"
وتلبية لهذا الأمر شد المسلمون الأولون الرحال وقطعوا الفيافي وجابوا البحار في طلب الحديث والفقه وعلوم الدين فنشروا العلم في أنحاء الأرض ونهضوا بالثقافة الإنسانية إلى عنان السماء وأسسوا حضارة عملية سيطرت على العالم كله مئات السنين.(6/369)
والإسلام حين جعل العلم فريضة واجبة الأداء ألزم العلماء بنشر العلم وبث المعرفة دون انتظار مثوبة أو جزاء قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} كما توعد الله من حرف الحقائق العلمية ليتخذها وسيلة إلى الضلال. قال تعالى في بني إسرائيل: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}
وقد ورد في الحديث الشريف: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} وقال جل شأنه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} ومن هذا كله نستطيع التأكيد أن الإسلام هو دين العلم والمعرفة والحق.(6/370)
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
بقلم الشيخ محمود عبد الوهاب قايد
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [1] ، هكذا قال الله في كتابه {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [2]
والشواهد على رسالته صلى الله عليه وسلم كثيرة لا يحصيها العد، ولا تقف عند حد، ويكفينا أن نلم بطرف منها، ولنعد إلى العصر الذي ظهر فيه، والى البيئة التي نشأ فيها، ولنعد إلى سيرته وقد اهتم بها المحدثون والمؤرخون فسجلوا بكل دقة وعناية كل ما يتعلق بها، سجلوا أقواله وأفعاله، سجلوا صفاته وحركاته وسكناته وإشاراته، سجلوا كل ما بدر منه أو صدر عنه.
ومن يفحص هذا التراث الضخم، ويتأمل ما يطويه وما يحتويه، يخرج منه مستيقنا بصدق رسالته، وصحة نبوته.
نعم.. لقد نشأ عليه الصلاة والسلام في عصر سادت فيه الجهالة، وعمت فيه الضلالة، وشاعت فيه الغواية، شب بين قوم أميين، وثنيين غير موحدين، يكفرون باليوم الآخر، ويحيون حياة اللهو والمجون، يتعصبون للأهل، يفتخرون بالأنساب، ويتقاتلون لأتفه الأسباب، كانوا قبائل متفرقة، وعشائر متمزقة، لا تربطهم رابطة، ولا تجمعهم جامعة، لم ينصهروا ليعيشوا أمة واحدة، ولم يكن لهم دولة لها مقومات الدولة من حكومة لها سلطان، وجيش يدفع عنها العدوان، ودستور يفصل الحقوق والواجبات وقانون يبين العقوبات.
في هذا العصر، وفي هذه البيئة نشأ عليه الصلاة والسلام.(6/371)
ويجمع المؤرخون على أنه صلى الله عليه وسلم كان راجح العقل، ثاقب الفكر، سديد الرأي، طاهر القلب، عظيم النفس، صافي الروح، نقي السريرة، كريم الخلق، عالي الهمة، يترفع عن السفاسف والنقائص، ويبتعد عن الدنايا والرذائل، وكان طول حياته حسن السمعة، نابه الذكر، معروفا بين قومه بالصدق والأمانة. والميل إلى حياة الجد، والبعد عن أماكن اللهو، والعزوف عن عبادة الأوثان. وهنا ينبغي أن نسأل أيمكن لهذا الذي عرف بالأمانة، واشتهر بالصدق فيما بين الناس أن يتجرأ على الكذب، وأن يكون أول من يتجرأ عليه، الإله الذي يدعو الناس إليه، ويرهبهم بعقابه، يخوفهم من عذابه، الإله الذي يسيطر على شعوره، ويمتلك كل أموره؟
كذلك ينبغي أن نسأل، ولماذا خرج على حكم البيئة، وللبيئة سلطانها وتأثيرها؟
لقد عاش أربعين سنة كاملة وسط قوم مغرقين في الجهالة، منهمكين في الضلالة فلم تنتقل إليه عدواهم ولم تصبه بلواهم، فنهج منهجا فذا لا يشبه منهجهم، وسلك مسلكا بريئا لا يتفق ومسلكهم، وفي جواب السؤال الأول يقضي علينا المنطق السليم أن نقول: إن محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان يتحرى الصدق في أقواله وأخباره، ويتحاشى الكذب على الناس أربعين سنة لا يمكن أن يفتري على الله، ولا يمكن أن يجترئ على الكذب على مولاه.(6/372)
وفي جواب السؤال الأخير لا مناص أن نقول: إن هناك قوة عليا كان لها – دون شك – سلطان عظيم على قلبه وحوك شديد في صدره، وأثر بالغ في نفسه، انمحى أمامها كل أثر للبيئة وصاحب هذه القوة هو الذي صنعه وصقله وهذبه وأدبه، وهو الذي طبعه على ما نشأ عليه من صفات كريمة، واتجاهات سليمة، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [3] {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [4]
ومما يستوقف النظر، ويسترعي الانتباه،أنه صلى الله بدأ فجأة وبعد أربعين سنة يعلن أنه رسول من عند الله،ويتحمس في دعوته، لا يثنيه عنها وعد أو وعيد، ولا يصرفه عنها إغراء أو تهديد عرضوا عليه المال والملك، وآذوه وبالغوا في إيذائه،واضطهدوه وأسرفوا في اضطهاده ومع هذا ظل صابرا محتسبا، يؤمل الخير ويرجوه لنفسه ولاتباعه، وتحقق فعلا ما أمله ورجاه وكلل الله بالظفر مسعاه.
نعم. لقد مرت عليه أربعون سنة لا يخطر بباله، ولا يتطرق إلى ذهنه، ولا يجول بخاطره أن يمتن الله عليه بما امتن عليه به قال تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [5] . {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [6] {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ} [7](6/373)
مر عليه شرخ الشباب، وهو الوقت الذي تجيش فيه الصدور بالآمال والأماني فلم تبد منه كلمة فيها تلميح برسالة، أو إشارة لنبوة، وفي الوقت الذي تهدأ فيه النفوس الثائرة، وتسكن فيه الآمال الفائرة بدأ يعلن دعوة غيرت مجرى التاريخ أعلن أنه رسول الله، ورسالته لا تقتصر على العرب وحدهم، ولا على أهل عصره دون سواهم بل رسالته عامة، تشمل كل الذي في عهده، وكل الذي يجيئون من بعده.
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} . [8] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} . [9]
ونبحث عن مفهوم هذه الدعوة، ويثير الانتباه أن الذي جاء بها أمي نشأ بين أميين مغرقين في الأمية لكن أول كلمة وجهت إليه، وأنزلت عليه كلمة (اقرأ) ، نعم. إن أول ما نزل عليه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} . [10] " ونعجب بل يعجب هو لهذا الأمر ولكن دهشته تزول على الفور حين يحس بفيوضات من الله تحل به، ونفحات منه تتنزل على قلبه، وبعدها منح من مالك الملك وملك الملوك شهادة فخرية، رشحته بحق ليكون أستاذ البشرية، ومعلم الإنسانية، وهادي البرية، يرشدها إلى كل خير تحتاجه في حاضرها ومستقبلها، وصدق الله العظيم إذ يقول {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [11]
هذه الدعوة التي جاء بها يجب أن نتعرف عليها، ونبحث عن هدفه منها، وقصده من تبليغها، ونبحث أيضا عن آثارها في نفوس الذي آمنوا بها وأخيرا نعرف ما حققته لهم من عز وظفر وسلام ووئام، وسيادة وسعادة.(6/374)
لقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليربط بين الناس وإله الناس، وليوثق العلاقة بينهم وبين ربهم عن طريق العقيدة الصحيحة، والعبادة الخالصة فدعاهم إلى الإيمان بالله وحده وحذرهم من أن يشركوا مع الله أحدا ودعاهم أيضا إلى الإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ودعاهم كذلك إلى إخلاص العبادة لله.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} [12] . وقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [13] .
كذلك جاء عليه الصلاة والسلام يدعو إلى عمارة الكون، والإحسان إلى خلق الله، وربط الناس بعضهم ببعض عن طريق المعاملة الكريمة، والسياسة الحكيمة، والعمل الصالح، والتعاون المثمر والعدل النزيه، والإحسان المجدي، فلا بطالة ولا تواكل، ولا تعاون على الشر، ولا تعصب للباطل ولا عكوف على الشهوات والمنكرات، ولا انتهاك للحرمات، ولا إهمال للحقوق والواجبات.
قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [14](6/375)
وقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [15] وقال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [16] وقال: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [17] . وقال: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [18]
وهنا نسأل:
أكان يمكن أن يتلقى دعوة التوحيد من مجتمع وثني يقول:
{أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [19]
أكان يمكن أن يتلقى عقيد البعث والإيمان باليوم الآخر من مجتمع يقول:
{أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [20]
ويقول في سخرية واستنكار:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [21]
أكان يمكن أن يتلقى الأمر بأن للفقير حقا على الغني يجب أن يسلمه، من مجتمع يقول:
{أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَه} [22]
أكان يمكن أن يتلقى هذا التوجيه الكريم:
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [23](6/376)
أكان يمكن أن يتلقى مثل هذا التوجيه الكريم من مجتمع يباهي بالأحساب، ويفاضل بين الأنساب ولا يسوي بين بني آدم ويقول كبراؤه في صلف وكبرياء: "لن نؤمن لك حتى تطرد من معك من الفقراء والضعفاء"؟
أكان يمكن أن يتلقى الدعوة بالوقوف إلى جانب الحق عن وعي وبصيرة وتقليم ظفر العصبية الجاهلية من مجتمع يعيش عليها ويفاخر بها ويحارب في سبيلها؟
أكان يمكن أن يتلقى الأمر بمحاربة المنكرات من مجتمع يمارس الشرور ويعاقر الخمور، ويبالغ في الفجور؟
لقد كان كل شيء يدل على أنه صادق في دعواه وأنه – كما كان يقول – رسول من عند الله أميته ودعوته:
أمي يعلم الأميين بل يعلم المتعلمين إلى يوم الدين.
وفي كشف ما جاء به من علوم ونظم وقوانين وذخائر ورائعات يتخصص النوابغ ليظفروا بأرقى الشهادات:
كفاك بالعلم في الأمي معجزه
في الجاهلية والتأديب في اليتم.
في العلم إن دانت لك العلماء
يا أيها الأمي حسبك رتبة
أمي يتخرج من جامعته الإسلامية حكام وساسة وجنود وقادة، وفقهاء وحكماء وحساب وكتاب، ومحدثون ومدرسون، ووعاظ ومفتون، وقضاة عادلون.
خرجت هؤلاء وهؤلاء وما كان سقفها سوى الجريد وفراشها سوى الحصباء.
ودعوة جامعة لكل خير، مانعة من كل شر، صالحة لكل زمان ومكان، يستبعد العقل أن تنبثق من أرض تموج بالشهوات والمنكرات والأهواء، ويؤكد الفكر الحصيف الواعي أنها وحي تنزل من السماء.
وبعد..(6/377)
فيكفي برهانا على صدق الرسول ورسالته، ودليلا على عظم دعوته، أنها أخرجت العرب من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن الخصام إلى الوئام ومن الفرقة إلى الوحدة، ومن العداوة إلى الألفة ومن الجمود إلى الحركة، يكفي أنها أقامت للعرب في أقل من قرن إمبراطورية واسعة الأنحاء، شاسعة الأرجاء لا يستطيع البليغ أن يبين مداها بأبلغ ولا بأوجز مما قاله أحد الخلفاء وقد رأي سحابة في السماء: (امطري حيث شئت فإن خراجك سيحمل الينا)
إمبراطورية لها حاسم يقوم على شؤونها، وجيش يسهر على رعايتها وتأمين حدودها، ويعمل على مصلحة الدولة والدعوة، ودستور يتحاكم إليه الحاكم والمحكوم، وقانون ينصف كل مظلوم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} [24]
نسأل الله أن يزيدنا إيمانا برسالته، ويوفقنا للعمل بدعوته إنه سميع قريب مجيب الدعاء وهو نعم المولى ونعم النصير.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة الفتح – آية 29
[2] سورة النساء آية 123
[3] سورة الجمعة آية 2
[4] سورة الجمعة آية 21
[5] سورة يونس آية 16
[6] سورة يوسف آية 3
[7] سورة القصص آية 86
[8] سورة الفرقان آية 107
[9] سورة الأنبياء آية 107
[10] سورة اقرأ الآية الأولى
[11] سورة البقرة الآية 151
[12] سورة النساء الآية 136
[13] سورة البينة الآية 5
[14] سورة التوبة آية 105
[15] سورة النحل آية 90(6/378)
[16] سورة المائدة الآية 2
[17] سورة المائدة آية 8
[18] سورة الممتحنة آية 8
[19] سورة ص آية 5
[20] سورة ق آية 3
[21] سورة سبأ آية 7
[22] سورة يس أية 47
[23] سورة الكهف آية 28
[24] سورة الأحزاب آيات 45-47(6/379)
العدد 18
فهرس المحتويات
1- دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
2- من ثمرات التوحيد: بقلم: الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
3- من أعلام المحدثين - أبو خيثمة زهير بن حرب: للشيخ عبد المحسن العباد
4- أتوعِد سنات الرسول بمَحوها: الدكتور محمد تقي الدين الهلالي
5- الحكم بقطع يد السارق في الشريعة الإسلامية: بقلم الدكتور: أحمد عبيد الكبيسي
6- الإسلام حرية منظمة وإخاء: بقلم الشيخ السعيد الشربيني الشرباصي
7- الإسلام والحياة: بقلم أحمد عبد الرحيم السايح
8- المسئولية في الإسلام: بقلم الشيخ عبد الله قادري
9- إلى طيبة: للشيخ أحمد مختار بزرة
10- قصص عن الطرق الأولية للعلاج النفسي عند العرب: للدكتور أحمد محمد سليمان
11- من أعلام السنة النبوية: بقلم الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي
12- أثر الاستعمار في مناهج التربية والتعليم في بعض البلاد العربية: بقلم: الشيخ محمد المهدي محمود
13- من الصحف والمجلات: إعداد العلاقات العامة
14- ندوة الطلبة - انتهت قصتي: شعر الطالب محمد محمود جاد الله
15- المنهج العلمي عند بعض مفكري الإسلام وعند مفكري أوربا: بقلم الطالب عبد الرزاق بسرور
16- خطورة الدعوة إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية: بقلم الطالب عبد الرحمن الأنصاري
17- ليس للإنسان إلا ما سعى: شعر الطالب عارف عبد الله الحسن
18- غايات وأهداف: بقلم الطالب سعد بن حامد المطرفي
19- شياطين الإنس: بقلم الطالب محمد عبد الخالق الضبع
20- أخبار الجامعة: إعداد العلاقات العامة
21- يستفتونك: يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(6/380)
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب
لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - المدرس بالجامعة
سورة الأعلى
قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} الآية. هذه الآية الكريمة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ينسى من القرآن ما شاء الله أن ينساه - وقد جاءت آيات كثيرة تدل على حفظ القرآن من الضياع كقوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} وقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .(6/381)
والجواب أن القرآن وإن كان محفوظا من الضياع فإن بعضه ينسخ بعضا وإنساء الله نبيه بعض القرآن في حكم النسخ فإذا أنساه آية فكأنه نسخها ولا بد أن يأتي بخير منها أو مثلها. كما صرح به تعالى في قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} . وقوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} . وأشار هنا لعلمه بحكمة النسخ بقوله: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} وقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} . هذه الآية الكريمة يفهم منها أن التذكير لا يطلب إلا عند مظنة نفعه بدليل أَنْ الشرطية. وقد جاء آيات كثيرة تدل على الأمر بالتذكير مطلقا كقوله: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} وقوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} . وأجيب عن هذا بأجوبة كثيرة منها أن في الكلام حذفا أي إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرّ} أي والبرد وهو قول الفراء والنحاس والجرجاني وغيرهم. ومنها أنها بمعنى (إذ) وإتيان (إن) بمعنى (إذ) مذهب الكوفيين خلافا للبصريين. وجعل منه الكوفيون قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقوله تعالى: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" وقول الفرزدق:
جهارا ولم تغضب لقتل بن حازم
أتغضب إن أذنا قتيبة حزتا
وأجاب البصريون عن آيات إن كنتم مؤمنين بأن فيها معنى الشرط جيء به للتهييج وعن آية إن شاء الله والحديث بأنهما تعليم للعباد كيف يتكلمون إذا أخبروا عن المستقبل وعن البيت بجوابين:(6/382)
أنه من إقامة السبب مقام المسبب والأصل: أتغضب إن افتخر مفتخر بحز أذني قتيبة إذ الافتخار بذلك يكون سببا للغضب ومسببا عن الحز.
أحدهما:
أتغضب أن تبين في المستقبل أن أذني قتيبة حزتا.
الثاني:
ومنها أن معنى {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} الإرشاد إلى التذكير بالأهم أي ذكر بالمهم الذي فيه النفع دون ما لا نفع فيه. فيكون المعنى ذكر الكفار مثلا بالأصول التي هي التوحيد، لا بالفروع لأنها لا تنفع دون الأصول وذكر المؤمن التارك لفرض مثلا بذلك الفرض المتروك لا بالعقائد ونحو ذلك لأنه أنفع.
ومنها أن {إِنْ} بمعنى (قد) وهو قول قطرب.
ومنها أنها صيغة شرط أريد بها ذم الكفار واستبعاد تذكرهم كما قال الشاعر:
ولكن لا حياة لمن تنادي
لقد أسمعت لو ناديت حيا
ومنها غير ذلك.
والذي يظهر لمقيد هذه الحروف عفا الله عنه بقاء الآية الكريمة على ظاهرها وأنه صلى الله عليه وسلم بعد أن يكرر الذكرى تكراير تقوم به حجة الله على خلقه مأمور بالتذكير عند ظن الفائدة أما إذا علم عدم الفائدة فلا يؤمر بشيء هو عالم أنه لا فائدة فيه لأن العاقل لا يسعى إلى ما لا فائدة فيه وقد قال الشاعر:
لشيء بعيد نفعه الدهر ساعيا
لما نافع يسعى اللبيب فلا تكن(6/383)
وهذا ظاهر ولكن الخفاء في تحقيق المناط. وإيضاحه أن يقال: بأي وجه يتيقن عدم إفادة الذكرى حتى يباح تركها. وبيان ذلك أنه تارة يعلمه بإعلام الله له به كما وقع في أبي لهب حيث قال تعالى فيه: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ، وَامْرَأَتُهُ} الآية. فأبو لهب هذا وامرأته لا تنفع فيهما الذكرى لأن القرآن نزل بأنهما من أهل النار بعد تكرار التذكير لهما تكرار تقوم عليهما به الحجة فلا يلزم النبي صلى الله عليه وسلم بعد علمه بذلك أن يذكرهما بشيء لقوله تعالى في هذه الآية: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} . وتارة يعلم ذلك بقرينة الحال بحيث يبلغ على أكمل وجه ويأتي بالمعجزات الواضحة فيعلم أن بعض الأشخاص عالم بصحة ثبوته وأنه مُصرّ على الكفر عنادا ولجاجا فمثل هذا لا يجب تكرير الذكرى له دائما بعد أن تكرر عليه تكريرا تلزمه به الحجة. وحاصل إيضاح هذا الجواب أن الذكرى تشتمل على ثلاث حكم:
خروج فاعلها من عهدة الأمر بها.
الأولى:
رجاء النفع لمن يوعظ بها وبين الله تعالى هاتين الحكمتين بقوله تعالى: {قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} وبيّن الأولى منها بقوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} . وقوله تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ} ونحوها من الآيات. وبين الثانية بقوله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} .
الثانية:(6/384)
إقامة الحجة على الخلق وبينها الله تعالى بقوله: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} . وبقوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً} الآية. فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا كرر الذكرى حصلت الأولى والثالثة فإن كان في الثانية طمع استمر على التذكير وإلا لم يكلف بالدوام والعلم عند الله تعالى.
الثالثة:
وإنما اخترنا بقاء الآية على ظاهرها مع أن أكثر المفسرين على صرفها عن ظاهرها المتبادر منها وأن معناها: فذكر مطلقا إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع لأننا نرى أنه لا يجوز صرف كتاب الله عن ظواهره المتبادر منه إلا لدليل يجب الرجوع له. وإلى بقاء هذه الآية على ظاهرها جنح ابن كثير حيث قال في تفسيرها أي ذكر حيث تنفع التذكرة ومن هنا يؤخذ الأدب في نشر العلم فلا يضعه في غير أهله كما قال على رضي الله عنه: ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم. وقال حدث الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله.
(تنبيه) هذا الإشكال الذي في هذه الآية إنما هو على قول من يقول باعتبار دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة وأما على قول من لا يعتبر مفهوم المخالفة شرطا كان أو غيره كأبي حنيفة فلا إشكال في الآية وكذلك لا إشكال فيها على قول من لا يعتبر مفهوم الشرط كالباقلاني فتكون الآية نصت على الأمر بالتذكير عند مظنة النفع وسكت عن حكمه عند عدم مظنة النفع فيطلب من دليل آخر فلا تعارض الآية الآيات الدالة على التذكير مطلقا.
سورة الغاشية
قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ} تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {وَلا طَعَامٌ إِلا مِنْ غِسْلِينٍ} .(6/385)
قوله تعالى: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} الآية. ظاهر هذه الآية أن الجنة فيها عين واحدة وقد جاءت آيات آخر تدل على خلاف ذلك كقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} . والجواب هو ما تقدم في الجمع بين قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} مع قوله فيها: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} الآية. فالمراد بالعين العيون كما تقدم نظيره في سورة البقرة وغيرها.
سورة الفجر
قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} يوهم أنه ملك واحد وقوله: {صَفّاً صَفّاً} يقتضي أنه غير ملك واحد بل صفوف من جماعات الملائكة.
والجواب: أن قوله تعالى: {والملك} معناه والملائكة ونظيره قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} . وتقدم بيانه بشواهده العربية في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنّ} الآية.
سورة البلد
قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} . هذه الآية الكريمة يتبادر من ظاهرها أنه تعالى أخبر بأنه لا يقسم بهذا البلد الذي هو مكة المكرمة مع أنه تعالى أقسم به في قوله: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} .
والجواب عن هذا من أوجه:(6/386)
الأول: وعليه الجمهور: أن {لاَ} هنا صلة على عادة العرب فإنها ربما لفظت بلفظة (لا) من غير قصد معناها الأصل بل لمجرد تقوية الكلام وتوكيده لقوله: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا، أَلا تَتَّبِعَنِ} يعني أن تتبعني وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ} أي أن تسجد على أحد القولين. ويدل له قوله في سورة ص {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ} الآية. وقوله: {لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} أي ليعلم أهل الكتاب، وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} أي فوربك، وقوله: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} أي والسيئة، وقوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} على أحد القولين، وقوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} على أحد القولين، وقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا} على أحد الأقوال الماضية وكقول أبي النجم:
لما رأين الشمط القفندرا
فما ألوم البيض ألا تسخرا
يعني أن تسخر وكقول الشاعر:
وللهو داع دائب غير غافل
وتلحينني في اللهو أن لا أحبه
يعني أن أحبه و (لا) زائدة. وقول الآخر:
نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله
أبى جوده لا البخل واستعجلت به
يعني أبى جوده البخل و (لا) زائدة على خلاف في زيادتها في هذا البيت الأخير ولاسيما على رواية البخل بالجر لأن (لا) عليها مضاف بمعنى لفظة لا فليست زائدة على رواية الجر وقول امرئ القيس:
لا يدعي القوم أني أفر
فلا وأبيك ابنة العامري
يعني وأبيك. وأنشد الفراء لزيادة (لا) في الكلام الذي فيه معنى الجحد.
قول الشاعر:
وإلا طيبان أبو بكر ولا عمر
ما كان يرضى رسول الله دينهم
يعني وعمر و (لا) صلة وأنشد الجوهري لزيادتها قول العجاج:
بافكه حتى رأى الصبح جشر(6/387)
في بئر لاحور سرى وما شعر
فالحور الهلكة يعني في بئر هلكة و (لا) صلة قاله أبو عبيدة وغيره.
وأنشد الأصمعي لزيادتها قول ساعدة الهذلي:
غاب تسنمه ضرام مثقب
أفعنك لا برق كأن وميضه
ويروي أفمنك، وتشيمه بدل أفعنك وتسمنه.
يعني أعنك برق و (لا) صلة. ومن شواهد زيادتها قول الشاعر:
وكاد صميم القلب لا يتقطع
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة
يعني كاد يتقطع. وأما استدلال أبي عبيدة لزيادتها بقول الشماخ:
يضيعون الهجان مع المضيع
أعائش ما لقومك لا أراهم
فغلط منه لأن (لا) في بيت الشماخ هذا نافية لا زائدة ومقصودة أنها تنهاه عن حفظ ماله مع أن أهلها يحفظون ما لهم أي لا أرى قومك يضيعون مالهم وأنت تعاتبيني في حفظ مالي وما ذكره الفراء من أن لفظة (لا) لا تكون صلة إلا في الكلام الذي فيه معنى الجحد فهو أغلبه لا يصح على الإطلاق بدليل بعض الأمثلة المتقدمة التي لا جحد فيها كهذه الآية على القول بأن (لا) فيها صلة وكبيت ساعدة الهذلي وما ذكره الزمخشري من زيادة (لا) في أول الكلام دون غيره فلا دليل عليه.
الوجه الثاني: أن {لا} نفي لكلام المشركين المكذبين للنبي صلى الله عليه وسلم وقوله: {أقسم} إثبات مستأنف وهذا القول وإن قال به كثير من العلماء فليس بوجيه عندي لقوله تعالى في سورة القيامة {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} لأن قوله تعالى {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} يدل على أنه لم يرد الإثبات المؤتنف بعد النفي بقوله أقسم والله تعالى أعلم.
الوجه الثالث: أنها حرف نفي أيضا ووجهه أن إنشاء القسم يتضمن الإخبار عن تعظيم المقسم به فهو نفي لذلك الخبر الضمني على سبيل الكناية والمراد أنه لا يعظم بالقسم بل هو في نفسه عظيم أقسم به أولا وهذا القول ذكره صاحب الكشاف وصاحب روح المعاني ولا يخلو عندي من بعد.(6/388)
الوجه الرابع: أن اللام لام الابتداء أشبعت فتحتها والعرب ربما أشبعت الفتحة بألف والكسرة بياء والضمة بواو فمثاله في الفتحة قول عبد يغوث ابن وقاص الحارثي:
كأن لم تر قبلي أسيرا يمانيا
وتضحك مني شيخة عبشمية
فالأصل كأن لم تر ولكن الفتحة أشبعت - وقول الراجز:
ولا ترضاها ولا تملقي
إذا العجوز غضبت فطلق
فالأصل ترضها لأن الفعل مجزوم بلا الناهية - وقول عنترة في معلقته:
زيافة مثل الفنيق المكدم
ينباع من ذفري غضوب جسرة
فالأصل ينبع يعني أن العرق ينبع من عظم الذفرى من ناقته فأشبع الفتحة فصار ينباع على الصحيح وقول الراجز:
يا ناقتي ما جلت من مجالي
قلت وقد خرت على الكلكال
فقوله الكلكال يعني الكلكل، وليس إشباع الفتحة في هذه الشواهد من ضرورة الشعر لتصريح علماء العربية بأن إشباع الحركة بحرف يناسبها أسلوب من أساليب اللغة العربية ولأنه مسموع في النثر كقولهم كلكال وخاتام وداناق يعنون كلكلا وخاتما ودانقا. ومثله في إشباع الضمة بالواو، وقولهم: برقوع ومعلوق يعنون برقعا ومعلقا. ومثال إشباع الكسرة بالياء قول قيس بن زهير:
بما لاقت لبون بني زياد
ألم يأتك والأنباء تنمى
فالأصل يأتك لمكان الجازم - وأنشد له الفراء:
أصبحت كالشن البال
لا عهد لي بنيضال
ومنه قول امرئ القيس:
على عجل مني أطأطئ شيمالي
كأني بفتحاء الجناحين لقوة
ويروى: صيود من العقبان طأطأن شيمالي. ويروى دفوف من العقبان الخ. ويروى شملال بدل شيمال وعليه فلا شاهد في البيت إلا أن رواية الياء مشورة. ومثال إشباع الضمة بالواو قول الشاعر:
من هجو زبان لم تهجو ولم تدع
هجوت زبان ثم جئت معتذرا
وقول الآخر:
يوم الفراق إلى إخواننا صور
الله أعلم أنا في تلفتنا
من حيثما ما سلكوا أدنوا فأنظور
وإنني حيثما يثني الهوى بصري(6/389)
يعني فانظر، وقول الراجز:
فانهض فشد المئزر المعقودا
لو أن عمرا عم أن يرقودا
يعني يرقد، ويدل لهذا الوجه قراءة قنبل: (لأقسم بهذا البلد) بلام الابتداء وهو مروي عن البزي والحسن والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} يدل ظاهره على أن المسكين لاصق بالتراب ليس عنده شيء فهو أشد فقرا من مطلق الفقير كما ذهب إليه مالك وكثير من العلماء وقوله تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ} الآية. يدل على خلاف ذلك لأنه سماهم مساكين مع أن لهم سفينة عاملة للإيجار.(6/390)
والجواب عن هذا محتاج إليه على كلا القولين - أما على قول من قال إن المسكين من عنده مالا يكفيه كالشافعي فالذي يظهر لي أن الجواب أنه يقول: المسكين عند الإطلاق ينصرف إلى من عنده شيء لا يكفيه فإذا قيد بما يقتضي أنه لا شيء عنده فذلك يعلم من القيد الزائد لا من مطلق لفظ المسكين وعليه فالله في هذه الآية قيد المسكين بكونه ذا متربة فلو لم يقيده لانصرف إلى من عنده ما لا يكفيه فمدلول اللفظ حالة الإطلاق لا يعارض بمدلوله حالة التقيد وأما على قول من قال بأن المسكين أحوج من مطلق الفقير وأنه لا شيء عنده فيجاب عن آية الكهف بأجوبة منها: أن المراد بقوله مسكين أنهم قوم ضعاف لا يقدرون على مدافعة الظلمة ويزعمون أنهم عشرة خمسة منهم زمني، ومنها أن السفينة لم تكن ملكا لهم بل كانوا أجراء فيها أو أنها عارية واللام للاختصاص، ومنها أن اسم المساكين أطلق عليهم ترحما لضعفهم. والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه أن هذه الأجوبة لا دليل على شيء منها فليس فيها حجة يجب الرجوع إليها. وما احتج به بعضهم من قراءة علي رضى الله عنه لمساكين بتشديد السين جمع تصحيح لمساك بمعنى الملاح أو دابغ المسوك التي هي الجلود فلا يخفى سقوطه لضعف هذه القراءة وشذوذها. والذي يتبادر إلى ذهن المصنف أن مجموع الآيتين دل على أن لفظ المسكين مشكك تتفاوت أفراده فيصدق بمن عنده مالا يكفيه بدليل آية الكهف، ومن هو لاصق بالتراب لا شيء عنده بدليل آية البلد كاشتراك الشمس والسراج في النور مع تفاوتهما، واشتراك الثلج والعاج في البياض مع تفاوتهما. والمشكك إذا أطلق ولم يقيد بوصف الأشدية انصرف إلى مطلقه هذا ما ظهر والعلم عند الله تعالى. والفقير أيضا قد تطلقه العرب على من عنده بعض المال كقول مالك ومن شواهده قوال راعي نمير:
وفق العيال فلم يترك له سبد
أما الفقير الذي كانت حلوبته
فسماه فقيرا مع أن عنده حلوبة قدر عياله.
سورة الشمس(6/391)
قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} يدل على أن الله هو الذي يجعل الفجور والتقوى في القلب وقد جاءت آيات كثيرة تدل على أن فجور العبد وتقواه باختياره ومشيئته كقوله تعالى: {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} وقوله تعالى: {اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} ونحو ذلك. وهذه المسألة هي التي ضل فيها القدرية والجبرية. وأما القدرية: فضلوا بالتفريط حيث زعموا أن العبد يخلق عمل نفسه استقلالا عن غير تأثير لقدرة الله فيه. وأما الجبرية فضلوا بالإفراط حيث زعموا أن العبد لا عمل له أصلا حتى يؤاخذ به. وأما أهل السنة والجماعة فلم يفرطوا ولم يفرطوا فأثبتوا للعبد أفعالا اختيارية ومن الضروري عند جميع العقلاء أن الحركة الارتعاشية ليست كالحركة الاختيارية وأثبتوا أن الله خالق كل شيء فهو خالق العبد وخالق قدرته وإرادته وتأثير قدرة العبد لا يكون إلا بمشيئة الله تعالى. فالعبد وجميع أفعاله بمشيئة الله تعالى مع أن العبد يفعل اختيارا بالقدرة والإرادة اللتين خلقهما الله فيه فعلا اختياريا يثاب عليه ويعاقب. ولو فرضنا أن جبريا ناظر سنيا فقال الجبري: حجتي لربي أن أقول إني لست مستقلا بعمل وإني لا بد أن تنفذ في مشيئته وإرادته على وفق العلم الأزلي فأنا مجبور فكيف يعاقبني على أمر لا قدرة لي أن أحيد عنه؟ فإن السني يقول له كل الأسباب التي أعطاها للمهتدين أعطاها لك جعل لك سمعا تسمع به وبصراً تبصر به وعقلا تعقل به وأرسل لك رسولا وجعل لك اختيارا وقدرة ولم يبق بعد ذلك إلا التوفيق وهو ملكه المحض إن أعطاه ففضل وإن منعه فعدل كما أشار له تعالى بقوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} . بمعنى أن ملكه للتوفيق حجة بالغة على الخلق فمن أعطيه ففضل ومن منعه فعدل. ولما تناظر أبو إسحاق الإسفرائيني مع عبد الجبار المعتزلي؛ قال عبد الجبار سبحان من تنزه عن الفحشاء وقصده أن(6/392)
المعاصي كالسرقة والزنى بمشيئة العبد دون مشيئة الله لأن الله أعلى وأجل من أن يشاء القبائح في زعمهم، فقال أبو إسحاق: كلمة حق أريد بها باطل ثم قال: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء. فقال عبد الجبار: أتراه يخلقه ويعاقبني عليه؟ فقال أبو إسحاق: أتراك تفعله جبرا عليه؟ أأنت الرب وهو العبد؟ فقال عبد الجبار: أرأيت إن دعاني إلى الهدى وقضى على بالردى أتراه أحسن إلي أم أساء؟ فقال أبو إسحاق: إن كان الذي منعك منه ملكا لك فقد أساء وإن كان له فإن أعطاك ففضل وإن منعك فعدل فبهت عبد الجبار وقال الحاضرون والله ما لهذا جواب. وجاء أعرابي إلى عمرو ابن عبيد وقال له ادع الله لي أن يرد على حمارة لي سرقت مني فقال اللهم إن حمارته سرقت ولم ترد سرقتها فارددها عليه فقال له الأعرابي: يا هذا كف عني من دعائك الخبيث إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد. وقد رفع الله إشكال هذه المسألة بقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فأثبت للعبد مشيئة وصرح بأنه لا مشيئته للعبد إلا بمشيئة الله جل وعلا. فكل شيء صادر من قدرته ومشيئته جلا وعلا. وقوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} وأما على قول من فسر الآية الكريمة بأن معنى فألهمها فجورها وتقواها أنه بين لها طريق الخير وطريق الشر، فلا إشكال في الآية وبهذا المعنى فسرها جماعة من العلماء. والعلم عند الله تعالى.
سورة الليل
قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} . يدل على أن الله التزم على نفسه الهدى للخلق مع أنه جاءت آيات كثيرة تدل على عدم هداه لبعض الناس كقوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} . وقوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} وقوله: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا} الآية. إلى غير ذلك من الآيات.(6/393)
والجواب هو ما تقدم من أن الهدى يستعمل في القرآن خاصا وعاما فالمثبت العام والمنفي الخاص ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم وأما على قول من قال أن معنى الآية إن الطريق الذي يدل علينا وعلى طاعتنا هو الهدى لا الضلال، وقول من قال أن معنى الآية إن من سلك طريق الهدى وصل إلى الله فلا إشكال في الآية أصلا.
سورة الضحى
قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} . هذه الآية الكريمة يوهم ظاهرها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ضالا قبل الوحي مع أن قوله تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} يدل على أنه صلى الله عليه وسلم فطر على هذا الدين الحنيف ومعلوم أنه لم يهوده أبواه ولم ينصراه ولم يمجساه بل لم يزل باقيا على الفطرة حتى بعثه الله رسولا ويدل لذلك ما ثبت من أن أول نزول الوحي كان وهو يتعبد في غار حراء فذلك التعبد قبل نزول الوحي دليل على البقاء على الفطرة.
والجواب أن معنى قوله: {ضَالاً فَهَدَى} أي غافلا عما تعلمه الآن من الشرائع وأسرار علوم الدين التي لا تعلم بالفطرة ولا بالعقل وإنما تعلم بالوحي فهداك إلى ذلك بما أوحى إليك فمعنى الضلال على هذا القول الذهاب من العلم ومنه بهذا المعنى قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} وقوله: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} . وقوله: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} .
وقول الشاعر:
بدلا أراها في الضلال تهيم
وتظن سلمى أنني أبغي بها(6/394)
ويدل لهذا قوله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} لأن المراد بالإيمان شرائع دين الإسلام وقوله: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} . وقوله: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} . وقوله: {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} . وقيل المراد بقوله ضالا. ذهابه وهو صغير في شعاب مكة وقيل ذهابه في سفره إلى الشام والقول الأول هو الصحيح والله تعالى أعلم ونسبة العلم إلى الله أسلم.(6/395)
قصص عن الطرق الأولية للعلاج النفسي عند العرب
للدكتور أحمد محمد سليمان
دعي الرازي الطبيب العظيم ليعالج الأمير منصور الذي كان يشكو من أمراض روماتيزمية في مفاصله أعجزت كل من عاده من الأطباء ولما وصل إلى بخارى جرب طرقا عديدة لعلاج الأمير دون أن ينجح. وقال له آخر الأمر: "سأجرب في غد طريقة جديدة، ولكنها ستكلفك خير حصان وخير بغل في حظيرتك".
ووافق الأمير ووضع الحيوانين تحت تصرفه. وفي اليوم التالي ذهب الرازي بالأمير إلى حمام ساخن خارج المدينة، وربط الحصان والبغل خارجه بعد أن أسرجهما وألجمهما. ثم دخل الحجرة الساخنة وحده مع مريضه الذي وضعه تحت الدش الساخن عدة مرات وسقاه جرعة كان قد أعدها له عندما يجيء الوقت الذي تنضج الأخلاط في مفاصله.
ثم خرج ولبس ثيابه، ودخل ثانية وفي يده سكين، ووقف برهة يشتم الأمير قائلا: "لقد أمرت أن أقيد وأن ألقى في القارب، متآمرا بذلك على حياتي، وإن لم أقتلك عقابا لك على هذا فليس اسمي محمد بن زكريا، فغضب الأمير غضبا شديدا وثارت ثائرته وهب واقفا على قدميه مدفوعا بالغضب من جهة والخوف من جهة أخرى". فأسرع الرازي بالفرار من الحمام وقصد إلى حيث كان غلامه ينتظره في الخارج مع الحصان والبغل، وركب حصانه وانطلق به راكضا بأقصى سرعة، ولم يتوقف في هربه حتى عبر نهر أوكسس ووصل إلى مرو، ومن هناك كتب إلى الأمير:
"أطال الله حياة الملك. لقد بذلت في علاجك أقصى ما لدي من قدرة وفقا لما تقتضيه مهنتي. ولكن نظرا لنقص الحرارة عندك كانت مدة العلاج ستطول إلى حد بعيد، لهذا عدلت عن العلاج الطويل إلى العلاج النفساني، ولما تعرضت الأخلاط الفاسدة للحرارة في الحمام الساخن إلى الحد الكافي، أثرتك عامدا حتى أزيد حرارتك الطبيعة، وبذلك اكتسبت من القوة ما يكفي لإذابة الأخلاط التي كانت قد لانت".(6/396)
وخفَّت حدة غضب الأمير. وسره أن رأى صحته عادت إليه وأصبح قادرا على الحركة.
والقصة الثانية: لمريضة من أهل بيت الملك، كانت منحنية وهي تعد المائدة وأحست فجأة (بورم روماتزمي في المفاصل) فلما أردت أن تعتدل وجدت نفسها عاجزة عن ذلك. واستدعي طبيب الملك وأمر بأن يداويها، ولما لم يجد في متناوله أدوية، لجأ إلى (تدبير نفساني) فأزال أولا خمارها، ثم نطاق ثوبها مستجداً بشعور الخجل الذي (بعث فيها وهجا من الحرارة) أذاب الأخلاط الروماتزمية فوقفت منتصبة القامة وقد شفيت تماما.
والقصة الثالثة: قدم ابن سينا متخفيا إلى جرجان على ساحل بحر قزوين وهو يحاول الهرب من السلطان محمود الغزنوي، وكان أحد أقارب حاكم جرجان طريح الفراش بداء أعيا جميع الأطباء المحليين. ودعي ابن سينا لعيادته وإبداء رأيه، وبعد أن فحص المريض طلب معاونة شخص عليم بكل نواحي البلاد ومدنها. وكان هذا الشخص يذكر أسماءها بينما كان ابن سينا واضعا أصبعه على نبض المريض. فلاحظ عند ذكر بلدة معينة خفقة في نبض المريض. فقال: "أنا الآن في حاجة إلى شخص يعرف كل أحياء هذه البلدة وشوارعها وبيوتها".
ولاحظ عند ذكر اسم ساكنة من منزل بعينه مزيدا من الخفقان وحينئذ قال ابن سينا "لقد انتهيت، فالصبي يحب فتاة اسمهما كذا تقطن في منزل كذا في شارع كذا في بلدة كذا زواجه بالفتاة هو دواء المريض". فعقد له عليها في ساعة موافقة اختارها ابن سينا، وهكذا تم علاج المريض.
وهذا يدل على سرعة شفاء المريض إذا ما تحققت له أمنيته بأن يجمعه مع محبوبه برباط يقره الدين، ومن هذا يتبين أيضا خضوع الطبيعة البشرية للتخيلات الذهنية.(6/397)
والقصة الرابعة: أصيب أمير من أمراء أسرة بويه بالملانخوليا وخيل إليه أنه بقرة. وكان الأمير يخور كل يوم كما تفعل البقرة فتضيق لذلك صدور كل من حوله وكان يصيح "اذبحوني واصنعوا من لحمي طبقا شهيا من اليخنى"وظلت الحال تسوء حتى امتنع عن الأكل بتاتا، بينما الأطباء عاجزون عن أن يفيدوه بشيء، وأخيرا أمكن إقناع ابن سينا أن يتولى الحالة وقد وافق رغم ضغط المشاغل العامة والخاصة والسياسية والعلمية والأدبية. وكان أول ما صنع أن أرسل للمريض رسالة طلب إليه فيها أن يفرح لأن الجزار قادم لذبحه وقيل أن المريض سر لذلك. وبعد فترة من الوقت دخل ابن سيناء حجرة المريض وبيده سكين وقال "أين البقرة حتى أذبحها؟ "فخار المريض خوار البقرة ليدله على مكانه. فألقي بأمر ابن سينا على الأرض موثوق اليدين والرجلين. ثم تقدم ابن سينا فجس جسمه كله ثم قال: "إنه نحيف جدا ولا يصلح للذبح يجب أن يسمن". فقدموا إليه غذاء مناسبا فأقبل عليه يأكل منه بشهية فعادت إليه قوته تدريجيا وتخلص من وهمه، وبريء من علته تماما.
والقصة الخامسة: تروي كيف أن المنافسة بين طبيبين من أطباء البلاط بلغت أخيرا حدا جعلهما يتحدى أحدهما الآخر إلى مبارزة أو امتحان بالسم، ويقضي الاتفاق بأن يتناول كل منهما سما أعده خصمه، ثم عليه أن يحاول أن يبطل مفعوله بدواء مضاد مناسب. وأعد الأول جرعة من السم يبلغ من شدتها أن تذيب الحجارة السوداء، فشرب منافسه الكأس ثم تناول في الحال جرعة مضادة أبطلت مفعوله.
وجاء دوره، فالتقط زهرة من الحديقة، وقرأ عليها رقية وأمر خصمه بشمها: فلما فعل سقط ميتا في الحال، والسبب هو الخوف فحسب. وهنا استعمل الإيحاء لا للإبراء بل للإهلاك.
والقصة رواها الشاعر نظامي في كتابه (مخزن الأسرار) حيث يقول ما ترجمته:(6/398)
وبهذه الوردة التي أعطاها له قارئ الرقى تغلب الخوف على العدو فأسلم الروح فذلك بالترياق طرد السم من جسمه بينما مات هذا بالخوف بسبب ورودة.(6/399)
من أعلام السنة النبوية
بقلم الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي
الحمد لله، وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
وقع طرفي أثناء تحضير البحث على عدة تراجم عاطرة لكبار المحدثين السلف رحمهم الله تعالى. أولئك العظام الذين حملوا لواء السنة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام وحققوا قوله تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [1] وكنت عزمت حينئذ على دراسة أحوالهم عند التفرغ، والاطلاع على سيرتهم، ونهجهم، وسلوكهم، فيما قدموا لنا من هذه الثروة العلمية الهائلة، فوجدت في هذه الدراسة متعة روحية للقلب والضمير والنفس، وعرفت بعض ما يمكن معرفته من تقدمهم في العلم، والعمل والتضحية والفداء، وتأخرنا في كل شيء على ما كان هؤلاء الأمجاد رحمهم الله تعالى من التقى والورع، والزهد، والفضل.
من أولئك العمالقة الكرام أمير المؤمنين في الحديث وسيد الحفاظ، والنقاد أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري رحمه الله تعالى، وسوف تكون الدراسية في ترجمته على النحو الآتي:
1- نسبه، ومولده، ونشأته، وشيوخه، وتلامذته.
2- علم سفيان الثوري فقهه وبراعة فهمه، وعلمه بتفسير القرآن.
3- تخوف سفيان على نفسه من العلم أن لا يسلم منه.
4- حفظ الثوري، وإتقانه.
5- جودته لأخذه الحديث.
6- تزكية لمن أجمل القول في السلف.
7- كلامه في نافلة الآثار.
8- تعظيم كل العلماء له، ونزولهم عند قوله، وفتواه.
9- زهده، وورعه.
10- رسالته إلى عباد بن عباد.
11- دخوله على السلطان، ومناصحته إياه في أموال الأمة.
12- تركه قبول بر الأمراء.
13- أدبه، وتواضعه.
14- حرصه على كتابة السنة.
15- رؤيا رجل للثوري بعد وفاته.
16- أمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر.
17- بره بأبيه.(6/400)
18- عقيدة سفيان الثوري.
19- رحلة سفيان الثوري في طلب الحديث.
وأرجو الله تعالى، وأتضرع إليه سبحانه وتعالى أن ينفع بهذه الكتابة المتواضعة، ويجعلها خالصة لوجهه الكريم إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله، وسلم على عبده، ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما نسبة:
فهو الثوري، بفتح الثاء المثلثة، وفي آخرها الراء، هذه النسبة إلى بطن من همدان، وبطن من بني تميم.
قال العلامة السمعاني: وأما ثور تميم فمنهم أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، إمام أهل الكوفة، مات بالبصرة.
قلت: اختلفت الرواية في نسب سفيان الثوري، هل هو من ثور تميم، أم من ثور همدان؟
ذكر السمعاني الروايتين بإسناده، إذ يقول: أخبرنا أبو طاهر الوراق، بنواحي اندخوذ [2] أنا أبو الحسن المؤذن، أنا أبو سعيد الصيرفي، ثنا أبو العباس الأصم ثنا العباس الدوري، ثنا شاذان، ثنا سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، ثور بني تميم [3] .
والرواية الثانية:
وحدثنا [4] شعبة بن الحجاج، أبو بسطام مولى الأزد. وحدثنا شريك بن عبد الله بن شريك بن الحارث النخعي، وحدثنا عبد الله ابن المبارك الخراساني، وحدثنا الحسن بن صالح بن الحي الهمذاني، ثم الثوري ثور همذان [5] .
قلت: أما الرواية الأولى، فأيدها الإمام المزي رحمه الله تعالى، والثانية ردها [6] ، وقال الإمام الذهبي في حقه: الإمام شيخ الإسلام، سيد الحفاظ، أبو عبد الله الثوري، ثور مضر، لا ثور همدان [7] .
وقال محمد بن سعد في نسبه: سفيان بن مسروق بن حبيب ابن رافع بن عبد الله بن موهبة بن أُبي ابن عبد الله بن منقذ بن نصر بن الحارث بن ثعلبة بن عامر بن ملكان ابن ثور بن عبد مناة بن أد بن طابخه ابن إلياس بن مضر بن نزار، ويكنى أبا عبد الله [8] ، قلت: يجتمع نسب سفيان الثوري بنسب رسول الله صلى الله عليه وسلم في جده السادس عشر، وهو إلياس بن مضر.(6/401)
وقال أبو العباس أحمد القلقشندي: بنو تميم من طابخه، وطابخه من عدنان، وهو بنو تميم بن مر بن أد ابن طابخة [9] ، ثم قال: "بنو طابخه بطن من خندف من مضر من العدنانية، وهم: بنو طابخه –اسمه عمرو- بن إلياس بن مضر، سمي طابخه لأنه كان هو وأخوه في إبل لهما يرعيانها، فاصطادوا صيدا، وقعدا يطبخانه، فعدت عادية على إبلهما، فقال عمرو لعامر:
تدارك الإبل، فجاء بها، وطبخ عمرو، فلما راحا على أبيهما، وأخبراه بشأنهما، فقال لعامر: أنت مدركة، وقال لعمرو: أنت طابخه فسمى عمرو طابخه، من حينئذ [10]
وقال الإمام البخاري: والثوري، هو ثور بن عبد مناة بن أد بن طابخة ابن إلياس بن مضر [11] .
وقال ابن خلكان: والثوري –بفتح الثاء المثلثة، وبعدها واو ساكنة- وراء هذه النسبة إلى ثور بن عبد مناة، وثم ثوري آخر في تميم، وثوري آخر من همدان [12] .
وقال ابن حزم: وهو ثور أطحل، نسب إلى أطحل، وهو جبل كان يسكنه، ولد ثور بن عبد مناة: ملكان، فولد ملكان، مالك، وعامر. منهم الفقيه أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع ابن عبد الله بن موهبة بن أبي بن عبد الله بن منقذ بن نصر بن الحارث ابن ثعلبة بن عامر بن ملكان بن ثور، وأخواه عمر ومبارك ثقات كلهم، وإن كان أبوهم سعيد أحسب الناس، ومنهم الربيع بن خشيم الفقيه.
وقال بعض العلماء بالنسب: لولا هذان الرجلان، ما عرفت ثور [13]
وقال ابن قتيبة: فأما عبد مناة بن أد، فمنهم يتيم بن عبد مناة، وبطونها، وعدي بن مناة، ومنهم ذو الرمة الشاعر –وعكل، وبطونها- وهؤلاء الثلاثة من الرباب، وثور بن عبد مناة وهم رهط سفيان الثوري [14]
قلت: ومن هنا عرفت جليا، أن أمير المؤمنين سفيان الثوري هو من ثور بني تميم، وليس من ثور همدان والله تعالى أعلم.
أما مولده:(6/402)
فقال ابن سعد: قال محمد بن عمر [15] ولد سفيان سنة سبع وتسعين في خلافة سليمان بن عبد الملك [16] وأكد الإمام البخاري رحمه الله تعالى مولده في خلافة سليمان بن عبد الملك إذ قال رحمه الله تعالى بإسناده: سفيان بن سعيد بن مسروق، أبو عبد الله الثوري الكوفي، قال أبو الوليد مات سنة 161 قال لي ابن الأسود عن حميد بن الأسود، سألت مالكا، وسفيان فاتفقا أنهما ولدا في خلافة سليمان بن عبد الملك [17] .
وقال الخطيب: أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي، أخبرنا محمد بن عبد الله بن خلف الدقاق، حدثنا عمر بن محمد الجوهري، حدثنا أبو بكر الأثرم، قال سمعت أبا عبد الله، ذكر عن موسى بن داود، خروج سفيان بن سعيد من الكوفة. وسنه، وهو في كتاب التاريخ، فقال: هذا سمعه سماعا كان يثبته، قال هذا مع أنه ولد سنة سبع وتسعين، وليس كما قالوا سفيان سنة سبع وتسعين [18] .
ثم قال الخطيب: أخبرنا حمزة بن محمد بن طاهر، أخبرنا أحمد بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن حمد البغوي، حدثني أحمد بن زهير، قال سمعت يحيى بن معين يقول: ولد سنة خمس وتسعين [19] .
قلت: هكذا رجح الخطيب وغيره من المحدثين مولد سفيان الثوري في سنة 97 من هجرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك في نهاية خلافة سليمان بن عبد الملك الأموي وهو ابن ست وستين سنة، وكانت وفاته رحمه الله تعالى في سنة إحدى وستين ومائة فيما قاله الخطيب وغيره.
نشأة سفيان الثوري:
لم أجد مرجعا يبحث نشأة هذا الإمام البارع بالتفصيل، إلا أن هناك روايات عديدة أخرجها أصحاب كتب الرجال وهي تعطينا فكرة أصلية عما كان عليه رحمه الله تعالى من نشاط، وفضل وبر، وتقدم في العلم في صغر سنه.(6/403)
قال الإمام أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي: أخبرنا أبو الفتح يوسف بن عمر الزاهد ببغداد، حدثنا أحمد بن الحسن الواعظ، حدثنا خلف بن محمد الهمداني، السبحي [20] ببيت المقدس، حدثنا عبيد الله بن عمر، حدثنا أبي، قال سمعت يوسف بن يونس الجرجاني، يحدث عن عبد الرحيم بن حبيب، قال سمعت وكيع بن الجراح، يقول: قالت أم سفيان الثوري لسفيان: يا بني أطلب العلم، وأنا أكفيك من مغزلي، يا بني إذا كتبت عشرة أحاديث، فانظر هل ترى في نفسك زيادة في مشيك، وحلمك ووقارك؟ فإن لم تر ذلك، فاعلم أنه يضرك، ولا ينفعك [21] .
قلت: يستدل من هذه الرواية على عدة أشياء:
1- أن سفيان رحمه الله تعالى نشأ في سنه المبكر بدراسة السنة، وكانت أمه تعينه على العلم، وتوجهه إلى الخير، وترشده إلى كيفية العمل بالسنة، وأخذها.
2- أنها كانت رحمها الله تعالى عالمة وعابدة وزاهدة تقية وورعة تحث ابنها على تعلم العلم، وتكفيه عن مؤنة العمل وأنها كانت تكسب بيدها فتسد رمق ابنها من عملها الخاص لكي يتفرع للعلم، ويظهر هذا أنه كان في صغر سن سفيان الثوري والله أعلم.
3- وهذا الكسب بيدها أدى إلى براعة سفيان الثوري في ورعه، وزهده، وتقواه، وفي علمه، وعمله الذي ضرب به المثل الأعلى في التضحية والفداء أمام الخلائق.
4- كتابة السنة، عمل حافل في سجل المحدثين.
5- ما كان يكتفون بالكتابة وحدها بل حفظها في الصدر، والعمل بها كما رأيت من نصيحة أم سفيان لابنه رحمهما الله تعالى.
قال الحافظ أبو نعيم: حدثنا إبراهيم بن عبد الله، حدثنا محمد بن إسحاق، ثنا أبو إسحاق السكوني، ثنا مبارك بن سعيد، قال رأيت عاصم بن أبي النجود، يجئ إلى سفيان الثوري يستفتيه، ويقول: أتيتنا يا سفيان صغيرا، وأتيناك كبيرا [22] .
قلت: هذه الرواية أيضا تعطينا فكرة عن نشأة سفيان الثوري على أنه نشأ على العلم، والفضل والسعي وراء أخذ العلم في صغر سنه.(6/404)
قال الحافظ أبو نعيم: حدثنا أحمد جعفر بن سليم، حدثنا أحمد بن علي الأبار، ثنا يحي بن أيوب، ثنا أبو المنفى، قال سمعت الناس بمرو يقولون: قد جاء الثوري، فخرجت أنظر إليه فإذا هو غلام قد بقل وجهه [23] .
قلت: تشعر هذه الرواية إلى أن الثوري نال شهرة رفيعة، ومكانة سامية في صغر سنه لما وجد عنده رحمه الله تعالى من رغبة صادقة وعزيمة أكيدة في أخذ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنه المبكر.
قال ابن سعد: أخبرنا عفان بن مسلم، قال: حدثنا خالد بن الحارث قال: حدثنا سفيان: قال: حماد ابن أبي سليمان إن في هذا الفتى لمصطنعا، يعني سفيان نفسه [24] .
قلت: هكذا يتوسم فيه كبار الأئمة حال حضوره في حلقات دروسهم رحمهم الله تعالى لما كانوا يلاحظون عليه من الذكاء والخير، والرغبة، وغير ذلك من الأمور الكثيرة، فكان رحمه الله تعالى كما قالوا فيه.
قال الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم: حدثنا عبد الرحمن أنا محمد بن خالد الخراز، قال سمعت مقاتل بن محمد يحكي عن الوليد بن مسلم، قال رأيت الثوري بمكة يستفتى، ولما يخط وجهه بعد [25]
قلت: أكتفي بهذه الروايات في نشأته رحمه الله تعالى، وسوف أواصل البحث في شيوخه، وتلامذته في حلقة قادمة إن شاء الله تعالى، وصلى الله عليه وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة الحجر، الآية 9.
[2] اندخوذ: بالفتح ثم السكون وفتح الدال المهملة، وضم الخاء المعجمة، وسكون الواو، وذال معجمة بلدة بين بلخ، ومرو على طرف البر، معجم البلدان 1/260.
[3] الأنساب للسمعاني 3/152، واللباب لابن الأثير 1/198-199، والاكمال لابن ماكولا 1/586، ابن سعد 6/371، طبقات خليفة بن خياط 1/395.(6/405)
[4] القائل: حدثنا هنا في جميع الروايات، هو شاذان واسمه الأسود بن عامر الشامي، انظر التقريب 1/76.
[5] انظر الأنساب للسمعاني 3/152.
[6] تهذيب الكمال 3/516، تهذيب التهذيب لابن حجر 4/111.
[7] تذكرة الحفاظ 1/204، والعبر في خبر من غبر 1/235
[8] طبقات ابن سعد 6/371، وتاريخ بغداد 9/154.
[9] نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب 188.
[10] المصدر السابق 322، انظر الجمهرة 187، العبر 2/315ر، وصبحي الأعشى 1/347.
[11] التاريخ الكبير 2/2/94، انظر الجرح والتعديل 1/2/222
[12] وفيات الأعيان 2/127-128.
[13] جمهرة أنساب العرب لابن حزم 201، انظر الاشتياق لابن
[14] المعارف 74، انظر ترجمة. تهذيب الأسماء واللغات للنووي سفيان الثوري في ص497، انظر 11/450، فهرست لابن النديم 1/222، ودائرة المعارف الإسلامية إسحاق الشيرازي 1/65، انظر: 314-315، وطبقات الفقهاء لابن 145 تحفة ذوي الأرب لابن خطيب الدهشة.
[15] هو محمد بن عمر الواقدي. انظر ترجمته: ميزان الاعتدال 3/662-666، تاريخ متروك، وميزان الأعيان 640-741، إرشاد بغداد 3/196-197، الأنساب للسمعاني الأريب 18/277-282، تاريخ جرجان 165، طبقات لابن سعد 5/425-433.
[16] طبقات ابن سعد 6/371، انظر تاريخ بغداد 9/151، تذكرة الحفاظ 1/206، والجواهر المضية 2/250، والجروح والتعديل لابن أبي حاتم 1/2/222.
[17] التاريخ الكبير 2/2/93، تهذيب الكمال 3/517، وفيات الأعيان 2/128، والعبر في خير من غبر 1/235-236.
[18] تاريخ بغداد 9/172
[19] المصدر السابق.
[20] في الأصل (الشبخي) والتصحيح من المشتبه ص252 المعلق.
[21] تاريخ جرجان 449.
[22] الحلية للحافظ أبي نعيم 6/357.
[23] المصدر السابق 6/358، انظر الجرح والتعديل 1/224.(6/406)
[24] طبقات ابن سعد 6/371، والجرح والتعديل 1/2/223.
[25] الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 1/2/224.(6/407)
أثر الاستعمار في مناهج التربية والتعليم في بعض البلاد العربية
بقلم: الشيخ محمد المهدي محمود
المدرس بدار الحديث التابعة للجامعة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من اصطفاه الله رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي سعدت الدنيا ببعثته واستنارت برسالته، واهتدت بنور واستنارت برسالته، واهتدت بنور الله تبارك وتعالى، قال جل شأنه:
{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وقال سبحانه وتعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ونبيك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. أما بعد:
فحينما تجلت رحمة الله تبارك وتعالى على هذا العالم، وأراد الله له الهداية، بعث المصطفى صلى الله عليه وسلم بخير كتاب كريم، يهدي إلى أقوم سبيل، وبذلك استنارت الدنيا بهذا المصباح السماوي المبارك، وسطعت شمس الهداية الربانية، على يد هادي البشرية، ومنقذها من الضلال، المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي كانت رسالته رحمة عامة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} .
رحمة عامة، شاملة مباركة، رحمة في الدنيا والآخرة، رحمة في العقيدة والتشريع والأخلاق، والنظام العام في الأسرة والمجتمع أنها رسالة الأخلاق السامية، قال صلوات الله وسلامه عليه: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" فسعدت البشرية التائهة في بيداء الظلم والضلال، واهتدت بنور خالق الأرض والسماء، سبحانه وتعالى، قال جل شأنه:(6/408)
{الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} وقال سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} .
وبذلك شهدت الإنسانية نورا عاما في مناحي الحياة، نوراً في العقيدة، وحكمة في التشريع، وعظمة في الأخلاق، وضياء في المعرفة الكونية، وهداية لأقوم السبل، هداية عامة مباركة للحياتين الدنيا والآخرة، بأسلوب في أعلى مراتب البلاغة والفصاحة، مع إعجاز عام في كل أنواع المعرفة، فالقرآن بحر لا ساحل له، وتقدم العلوم والمعارف يكشف عن بعض ما في القرآن من معان تتحدى أساطين الكشف والاختراع.
درج المسلمون في عصورهم الزاهية الأولى. أيام مجدهم، وعظمتهم، وعزتهم، على العناية بكتاب الله. مصدر الهداية الحقة، ومصدر الخير والحق والنور، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد كان الهادي الأمين صلوات الله وسلامه عليه يوجه عنايته التامة إلى كتاب الله عز وجل، لقد أنس بكتاب الله، رأى نور الله في التنزيل الرباني. الذي أحكمه مبدع السماوات والأرض، فعكف على ترتيل كلام الحق جل شأنه، متدبرا ما توحي به الآيات المباركة من فيض المعاني الربانية وما فيها من أسرار قدسية، ويجد أسعد أوقاته في رياض القرآن تاليا ومستمعا ومتدبرا لما ترشد إليه آيات الذكر الحكيم، ويقوم صلوات الله وسلامه عليه، يقوم الليل الطويل مرتلا للقرآن الكريم، ترتيلا لم تشهد الدنيا أجمل منه، يناجي المولى بحديث اختاره الله بعلمه، وأحكمه بقدرته، يتلو كتاب الله في السحر فتسيل عبراته على وجناته، مبللة لحيته الشريفة المباركة يرجو الله، ويستمطر رحمته، ويطلب عفوه، ويستعيد من عقوبته، يطلب رضوان الله، ويسأله الجنة، واللطف بأمته.(6/409)
ويأتي السلف الصالح رضوان الله عليهم فينهج سنة سيد القائمين والقانتين في العناية بكتاب الله تلاوة وعملا، ويحكمون كتاب الله في كل شيء من أمور دينهم ودنياهم، فكانت لهم السعادة، وتكونت الأمة الإسلامية في أوج عظمتها وسيادتها، فقهرت الفرس والروم، وزلزلت عروش الأكاسرة والقياصرة، ودانت لهم البلاد بالنصر والفتح المبين وصحبهم نصر الله، ونصر الله للمؤمنين الصادقين المجاهدين في ظل راية القرآن وهداية القرآن الكريم وصدق الحكتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا ق تبارك وتعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} .
إن هذا النور الإلهي يهدي ويوصل للتي هي أحكم وأقوم وأعدل، يهدي لأقوام الطرق وأرشدها وأكملها.(6/410)
ظل المسلمون على خير حال إلى أن ابتعدوا عن مصدر عزهم ومجدهم.. وأهملوا كتاب ربهم.. وفقدوا صلتهم بأخلاق القرآن وآدابه وهديه.. فمالت الراية الإسلامية وضاعت الخلافة العثمانية بسبب مؤامرات الأعداء من اليهود والصليبيين الذين توصلوا إلى تحطيم هذا الطرد الشامخ عن طريق إبعاد المسلمين عن آداب القرآن وهديه، وإشاعة الفوضى الخلقية، وبث الدسائس والفتن والمؤتمرات، وكر المستعمرون بدورهم على الدول الإسلامية يحتلونها ويسلبون خيراتها، وينشرون الفساد العام في كل ناحية من النواحي، وظهرت الحرب الصليبية من جديد، ولكنها في شكل آخر، ومظهر مغاير، بدأت الحرب الصليبية على يد إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال وهولندا تحاول إبعاد المسلمين عن دينهم، وسلب خيرات بلادهم، وسيق أحرار الرجال إلى السجون والنفي، ولكن المستمر الماكر الخبيث يرى أن كل هذا لا يكفي، ولن يطمئن إلا إذا أبعد المسلمين عن القرآن الذي كان سببا وباعثا في بناء الدولة الإسلامية وقوتها وصمودها، فلا بد من الحيلولة بين المسلمين وبين مصدر عزهم ومجدهم وعظمتهم، وها هو ذا اللورد غلادستون يقف في مجلس العموم البريطاني ويعلن السياسة الاستعمارية في حربها للقرآن الكريم فيقول: لا قرار لكم في مصر ما دام هذا الكتاب في أيدي المصريين.
وبدأت الحرب الصليبية تسير في قوة وعنف عن طريق الغزو الفكري الصليبي، ويبدو في وضوح في الأمور الآتية:
1- الإرساليات التبشيرية
2- المستشفيات التبشيرية
3- المدارس الأجنبية
4- البعثات التعليمية
5- السيطرة على التعليم والتحكم في مناهجه وتوجيهها وجهة رسمها المستعمرون لتحقيق أهدافهم وأغراضهم.(6/411)
قامت الإرساليات التبشيرية بممارسة نشاطها في أفريقية وآسيا مدعمة بجميع الإمكانيات المادية من أجل أن تنشر النصرانية في ربوع أفريقية بين المسلمين وغير المسلمين وما زالت هذه الإرساليات تمارس نشاطها حتى الآن في بعض الدول بأساليب شتى، منها المستشفيات العديدة في البلاد التي تمارس فيها التبشير.
ومنها المدارس التي أنشأتها زاعمة أنها للعلم والتهذيب وهي لصبغ أبناء المسلمين بصيغة الحادية، وإبعادهم عن فهم الإسلام وتعالميه، وإخراج جيل بعيد عن الإسلام عقيدة وروحا وشعورا.
ومنها البعثات التعليمية التي تختار من بين المعروفين بميولهم الإلحادية. هذه لمحات سريعة عن خطر الإرساليات التبشيرية والمستشفيات التبشيرية، والمدارس الأجنبية التي تغزو المسلمين في أفريقية، وما زالت تمارس نشاطها في الكثير من البلاد، وكل من يقوم بجولة في ربوع أفريقية يرى بوضوح هذه السياسة التبشيرية، ويلمس حاجة المسلمين إلى المعونات الأدبية والمالية، وقد أفاض في بيان ذلك فضيلة الأستاذ محمد العبودي أمين عام الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في كتابه القيم (في أفريقية الخضراء) واستطلع أحوال المسلمين، وناقش قضاياهم واحتياجاتهم في التوجيه الديني، والدفاع عن الإسلام، وذكر الكثير من الأمور التي تعوق نشاط المسلمين وتقدمهم بأسلوب قيم سهل جذاب.(6/412)
وأخطر شيء في هذا الغزو الصليبي إنما هو الاستعمار الثقافي أو الغزو الفكري الذي يحطم العقيدة والأخلاق، ويمحو شخصية الفرد والأسرة والمجتمع فيصبح الفرد منتميا للإسلام بالاسم فحسب، وتتعرض الأسرة لعوامل التحلل والتفكك ويفقد المجتمع أهم مقوماته كمجتمع مسلم ينتمي إلى الإسلام ويهتدي بهداه، ويصبح المجتمع مسلما اسما فقط بعد أن تلاشت منه مبادئ الإسلام وأركانه وأخلاقه وآدابه وعاداته وتقاليده، ومما يتوسل به الاستعمار إلى هذه الأهداف دور الخيالة (السينما) والإذاعة والصحافة، وأجهزة الإعلام عامة، فيشجع عرض الروايات الخليعة الفاجرة، وترسل الإذاعة الأغاني التي تنافي الفضيلة والحياة، وتسير الصحافة الخليعة في هذا التيار المنحرف.
ولقد تحدث الكثير من الكتاب المصلحين وقادة الرأي الإسلامي عن خطر هذه التيارات المنحلة التي هي من آثار الاستعمار والطغيان، وأوضحوا للعالم الإسلامي خطورتها على المجتمع الإسلامي.(6/413)
ومن المقالات القيمة التي نشرت بهذا الصدد مقال بعنوان: الغزو الفكري لفضيلة الأستاذ ممدوح فخري المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، بدأ المقال بالحديث عن كارثة سقوط الخلافة الإسلامية وزوال الدولة العثمانية، وأن هذه الدولة كانت تمثل مظهرا كريما من مظاهر الوحدة الإسلامية، وأن السبب الأساسي في سقوطها الدسائس اليهودية والمؤامرات الصليبية، ثم تحدث عن فكرة فصل الدين عن الدولة، وعن فكرة القوميات والعصبيات الجاهلية، وفكرة الوطنية وفكرة العلمانية، وعن شعارات المدنية والحضارة والتقدم، وعن الحركة النسائية وفكرة تحرير المرأة ثم عن برامج التعليم، ثم يختم مقالة القيم بالحديث عن تنظيم هذه القوى الغازية والاهتمام بمراكز القوة من أجل استمرار الغزو الفكري، وأنهم يتوصلون إلى ذلك باحتلال مراكز الجيش من أجل حماية الأفكار الدخيلة المناقضة للإسلام. 10-هو ص 21 (راجع العدد الأول – السنة الثانية –– رجب سنة 1389هـ- مجلة الجامعة الإسلامية) .
من هذه المقدمة يظهر لنا في وضوح جانب من الحرب الاستعمارية الصليبية الفكرية ضد المسلمين، بيد أن أخطرها وأعنفها إنما يتمثل في السيطرة على التعليم والتحكم في مناهجه، وتوجيهها وجهة تحقق أهداف المستعمر وتنفيذ أعراضه ومراميه..
سبق أن قلنا أن جلادستون وقف في مجلس العموم البريطاني، وأعلن عن السياسة الاستعمارية التي هي امتداد للحروب الصليبية، وأنه لا قرار للإنجليز في مصر ما دام القرآن موجودا في أيدي المصريين، ومعنى هذا أنه أعلن الحرب على القرآن وعلى الإسلام، لكي يتم تمزيق الوحدة الإسلامية، ويسهل توزيع الدول الإسلامية غنائم على المشتركين في هدم صرح الخلافة الإسلامية ثم جاء (دنلوب) إلى مصر موجها لمدارس الحكومة، فسار على أهداف (جلادستون) وظل يناوئ وحدة المسلمين واجتماع كلمتهم، ومفتاح عزهم وسيادتهم.(6/414)
إن القرآن هو سبب سيادة المسلمين وعزتهم ومجدهم، والاستعمار يريدهم دويلات مفككة ضعيفة، بل يريد لها المحو والفناء إن استطاع، فبعد أن حطم مركز الخلافة الإسلامية كر على الأمم الإسلامية ينشر فيها الفساد العام في كل نواحي الحياة: في السياسة والثقافة والقانون والأخلاق والاقتصاد والدفاع.
لقد كتب الاستعمار صفحة سوداء من الخسة والنذالة والاستبداد والعدوان والإجرام الوحشي، ويوم يكتب تاريخ الاستعمار في أفريقية وآسيا سيسجل على المستعمرين أفظع ما عرفته الإنسانية من إجرام.
جاء دنلوب إلى مصر موجها لمدارس الحكومة، منفذا لسياسة الاستعمار العدوانية، ولننقل إلى حضراتكم مقتطفات من محاضرة للدكتور محمد البهي بعنوان: مستوى الكفاية الفنية للتعليم في مصر، يقول فضيلته:
الإسلام واللغة العربية عاملان مقومان لشخصية الشعب العربي والشعب المصري على السواء، اتجه الغرب المستعمر في مصر إلى إضعاف اللغة العربية والإسلام، ونفذ إلى ذلك عن طريق التربية والتعليم، فقد عمد أولا إلى إخلاء مناهج التعليم في الابتدائي والثانوي إذ ذاك من الدين الإسلامي فضلا عن التعليم العالي، ثم جعل لغة التعليم هي اللغة الإنجليزية عدا دروس اللغة العربية، وهذه هي الخطوة الثانية.
وأضاف إلى هاتين التقليل من دروس اللغة العربية في مناهج التعليم. ثم يقول فضيلته:(6/415)
والاستعمار في مصر كشف في سياسته الاستعمارية للتعليم المصري عن هذا الهدف، فلورد كرومر، ينص في كتابه (مصر الحديثة) على الصلة بين أضعاف اللغة العربية وخلخلة الإسلام في نفوس المصريين وبين استقرار الاحتلال البريطاني والتقدم المدني في التعليم في مصر الذي يساعد على التعاون بين الشرق والغرب، فكلما ضعف مستوى اللغة العربية وتخلخل الإسلام سنحت الفرصة لثبات الاحتلال من جانب، وللتقدم المدني من جانب آخر، الأمر الذي يجعل الشعب يقبل على الاتصال بالغرب على أنه سيد وموجه، وأصبحت السياسة التعليمية في عهد الاستعمار ترتكز على دعامتين:
الدعامة الأولى: إضعاف الأزهر بعزله عن الحياة التعليمية العامة.
الدعامة الثانية: رعاية التقدم المدني في التعليم، وهذا التقدم يرتكز بدوره على إبعاد الثقافة الإسلامية إبعادا تاما عن مناهج التعليم وعلى تشويه تاريخ العرب والمسلمين وفي الوقت نفسه إحلال تاريخ أوروبا والشعوب الأوروبية محل التاريخ العربي ولإسلامي.(6/416)
ثم يورد هنا مقترحات المستر (بول اشميد) في كتابه (الإسلام قوة الغد) وتتلخص في أن يتضامن الغرب المسيحي شعوبا وحكومات، ويعيدوا الحرب الصليبية في صورة أخرى ملائمة للعصر الحديث، ولكن في أسلوب نافذ وحاسم، ويثني على سياسة البريطانيين في مصر بالنسبة للجانب التعليمي، ولكنه يأخذ عليهم أن الأزهر لم يزل بابه مفتوحا لأبناء مصر والوافدين عليه من أبناء العالم الإسلامي ويناشد البريطانيين أن يفعلوا بالأزهر كما فعل الفرنسيون بجامعة الزيتونة في تونس، وبالقيروان في الجزائر، وتثني على موسوليني في منعه طلاب ليبيا من الالتحاق بالأزهر في مصر بإنشائه في الحبشة معهدا إسلاميا يلتحق به أبناء المستعمرات الإيطالية في أفريقية له مظهر الأزهر وجوهر التعليم فيه إيطالي النزعة، وهي نزعة الاستعمار الغربي القائم على تفكيك الشخصية الإسلامية ... ثم ترك الاستعمار تلاميذه يوجهون القيادة التربوية.
هذه لمحات خاطفة ومرور عابر، وصورة سريعة عن جانب من تاريخ الاستعمار في المجال التربوي بمصر في فترة من الزمن انقضت إلى غير رجعة، وكان الحال في المستعمرات الفرنسية والإيطالية والهولندية وغيرها أسوأ حالا، فالاستعمار هو الاستعمار في كل زمان ومكان.. وشاءت إرادة الله أن يكون مصرع الاستعمار على أيدي رجال الأزهر، كما كان مصرعه في البلاد الأخرى على أيدي العلماء الذين يجاهدون في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله، فنصرهم الله، {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} .
من النصوص السابقة نرى في وضوح كيف بنى التعليم المدني، وكيف أسس وكيف غذى بتوجيهات معادية للإسلام.(6/417)
إنه نبات خبيث سام أسس على غير تقوى من الله، وغذى بأفكار الحادية مارقة، أسس على غير تقوى فلا يصح لنا أن نقوم فيه، ولا أن تتعلم فيه، وهذا هو السبب في أن الكثير من المسلمين في الشعوب الإسلامية كانوا يمتنعون عن إرسال أبنائهم إلى المدارس المصطبغة بهذه الصبغة في الأيام الماضية.
وعلى الرغم المحاولات التي بذلت في هذا الموضوع من أجل التقريب بين التعليم المدني وبين الصيغة الدينية وذلك بإدخال بعض المذكرات والمختصرات في العلوم الدينية والعربية هل وصلنا إلى الهدف الذي ننشده من التربية الإسلامية هل وجدنا جيلا صالحا؟ هل رأينا شبابا قويا في إيمانه وعقيدته، قويا في أخلاقه وسلوكه، قويا في رأيه وعمله في الحياة من أجل الإسلام والمسلمين؟ هل رأينا شبابا يهتدي بنور القرآن وهدي الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم ويقتدي بالسلف الصالح رضوان الله عليه؟
إن الحكم على التعليم المدني إنما يكون بحسب النتيجة والمشاهدة، وقديما قيل: إنما تعرف الشجرة بثمرها.
وسنضع الآن الثمرة على بساط البحث والمشاهدة، ولنشترك جميعا في رؤيتها بالمنظار المكبر.
إننا الآن أمام مرحلتين من أجل بناء المجد الإسلامي، وإعادة تكوين الأمة الإسلامية الخالدة ذات التاريخ المجيد، المرحلة الأولى مرحلة التطهير والتصفية من آثار الاستعمار عامة، والمرحلة الثانية مرحلة البناء الجديد على أساس من الكتاب والسنة وعمل الصحابة رضوان الله عليهم على أساس من التقوى وحسن الصلة بالله على أساس من القوة العامة قوة الإيمان، وقوة العمل، قوة العلم، وقوة الاختراع والابتكار.(6/418)
فالمسلم يرى الكون كله مجالا للعمل لما يرضى الله تبارك وتعالى، فهو خليفة الله في أرضه، فلا بد أن يمسك مقاليد الخلافة بعزم، يأخذ الكتاب بقوة، حتى يصدق عليه قول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} .
المرحلة الأولى وهي مرحلة التصفية والتطهير من آثار الاستعمار عامة وفي مناهج التعليم خاصة.
لقد خلف الاستعمار تركة خبيثة في كثير من المجالات وأهمها:
الناحية التشريعية والقضائية.
أولا:
الناحية النسائية وبعدها عن الدين، وعدم تمسكها بالآداب الإسلامية.
ثانيا:
بعد الشباب عن التمسك بالأخلاق الكريمة.
ثالثا:
أجهزة الإعلام.
رابعا:
تشويه الثقافة الإسلامية.
خامسا:
ثنائية التعليم، وتمزيقه، وعدم وحدته.
سادسا:
وسنحاول بفضل الله وكرمه وتوفيقه ومعونته والهامة أن نمر على بعض هذه العناصر مرور الحكيم اللبيب، ينظر ويعتبر، ويعالج في حكمة وأناة وصبر وأن نمر على بعضها مر الكرام اكتفاء بالإشارة عن طول العبارة، وفي عبقرية السادة القراء والحمد لله ما يغني عن الإطالة.
الناحية الأولى: وهي الناحية التشريعية، والقضائية:
لقد أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن هداية ونورا لكل ما يسعد الإنسان في دنياه وأخراه.
ومن ثمار هذه الهداية الربانية الهداية في الأحكام، ولقد سعدت الأمة الإسلامية في عصورها الزاهية المباركة بنعمة العمل بكتاب الله سبحانه وتعالى، فعرف الناس نعمة الهدوء والأمن والاستقرار، وعاشوا في ظلال حياة وارفة الظلال طيبة الثمار الحياة السعيدة، الحياة الحقة الهادئة الطيبة المباركة، وصدق الله سبحانه وتعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} .(6/419)
ثم جاءت عصور الضعف، وجاء تلاميذ المدارس الاستعمارية، جاءوا حاكمين وموجهين، فأبعدوا الناس عن كتاب الله وعن نور الله وعن هداية الله، واستعاضوا عنها بالقوانين الوضعية التي هي من صنع البشر وتركوا قوانين السماء المعصومة عن الخطأ، أعرضوا عن هدي الله وعن نوره، فماذا كانت النتيجة؟! لقد كثرت حوادث السرقة وتعددت جرائم السلب والنهي، واجترأ اللصوص على القتل من أجل المال ومن أجل السرقة.
والصحافة خير شاهد على ما نقول ففي كل يوم تحمل لنا الصحافة مأساة دامية من أجل سرقة الأموال وكم رأينا من ضحايا يسيل دمها على الأرض يسجل حجة الله على القائمين بالتشريع، الذين كانوا سببا في سلب نعمة الأمن والهدوء والطمأنينة التي هي في ظلال هداية القرآن الكريم، وتشريعات الله، نور الله الخالد، الموصل إلى السعادة الحقة في الدنيا والآخرة.
أعرض أصحاب القوانين الوضعية عن هدي الله ونوره، لأنهم أغرموا بثقافات أجنبية، بعيدة عن الإسلام وعن نور الإيمان، تثقفوا بثقافات نبتت في بيئات الحادية كافرة، إنما هي نتاج عقول طالما كرعت من الخمر وتغذت بلحم الخنزير، وعبدت الصليب.(6/420)
على أن هذه القوانين الوضعية أضلت أهلها، وكانت سببا في شقائهم ثم أنها في تغير وتبدل مستمرين، فالقوانين الوضعية والمبادئ الشيوعية هما السبب المباشر في شقاء العالم وحيرته وضلاله، وأدنى مقارنة بين الأمن في البلاد السعودية، وفي أرقى بلاد العالم حضارة نجد الفارق عنيفا، أنه فرق ما بين السماء والأرض، فهنا الأمن والأمان والهدوء والطمأنينة الطيبة المباركة، أنها في ظلال هداية القرآن الكريم كتاب الباري جل وعلا، ونحن إذ نتحدث في هذه الموضوعات إنما نتحدث على مستوى عالمي، لا نقصد دولة بعينها، ولا قطراً بذاته، وإنما نقصد كل دولة سبق أن ابتليت بمحن الاستعمار، وكان الاستعمار فيها موجها، وترك تلاميذا له هم أشد خطرا منه، إنما نتحدث بروح علمية نشرح ونوجه ونعالج، ونسأل الله الهداية والتوفيق والرشاد.
العنصر الثاني من الانحرافات انحراف المرأة.
لقد رسم القرآن طريقا لسعادة المرأة، وصانها من التردي في مهاوي الرذيلة رسم لها طريق الحجاب، وأوصى بها خيرا، وأمر بمعاملتها بالمعروف والرفق بها والرحمة والشفقة، ولين الجانب في معاملتها.
والمصطفى صلى الله عليه وسلم ضرب أعلى مثل قولا وعملا في سلوكه مع أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن ومن أحاديثه الطيبة المباركة صلوات الله عليه وسلامه: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي".(6/421)
ويعلنها المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وسلم صريحة واضحة قوية مجلجلة تسير مع الزمن، وقد سجلت في سجل الخلود يعلن الوصية بالنساء في حجة الوداع في خطبته المباركة التي هي أعظم قانون يسير عليه البشر، يقول الهادي الأمين صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله في نسائكم أخذتموهن بأمانة الله" وهل هناك شيء أعظم من الأمانة، الأمانة في أدق صورها وأكملها، وأجملها وأسماها؟ ولكن المرأة للأسف الشديد تحاول أن تهرب من سياج عزها ومجدها وشرفها وكرامتها، تحاول أن تفر إلى تقاليد الغرب التي جعلت من المرأة سلعة للجمال الرخيص المدنس، لقد أصبحت المرأة في الغرب أفعى سامة وحية رقطاء ناعمة الملمس، وفي لسعها وإغوائها وإغرائها السم المهلك والتردي والفساد.
ما أسعد المرأة في ظل الإسلام، وما أسعد الإنسان بالمرأة الصالحة التقية النقية، وما أسعد المجتمع بالنساء المؤمنات الفاضلات اللاتي يوجهن النشء إلى الآداب الإسلامية المباركة، ويربين الجيل على الفضيلة ومكارم الأخلاق، لأنهن مصدر خير ومنبع فضل، ومشرق نور وهداية.
أعددت شعبا طيب الأعراق
الأم مدرسة إذا أعددتها
والإسلام غني بالمثل العليا للسيدات المسلمات اللاتي تربين على مأدبة القرآن ونشأن في ظلال الإسلام، وفي مقدمتهن السيدة الفاضلة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، التي حباها الله عقلا راجحا، وحكمة بالغة، فسعدت برسول الله وسعد بها الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه.
والفضل والمنة لله جل جلاله الذي أنزل الكتاب نورا وهداية يرسم للبشرية طريق السعادة في الدنيا والآخرة، {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} .
العصر الثالث: بعد الشباب عن التمسك بالأخلاق الكريمة في كثير من الدول فمن المسلم به أن سلوك الشباب يرجع إلى أمرين:
أ- البيئة التي يعيش فيها.(6/422)
ب- والثقافة التي ينهل منها، ويغذى روحه بها.
فإذا ما صلحت البيئة، وصفت الثقافة التي ينهل منها كان هناك شباب طاهر تسعد به الأمة الإسلامية.
العنصر الرابع: أجهزة الإعلام.
رسالة أجهزة الإعلام رسالة توجيه، فإن وجهت إلى الخير كان الخير سائدا، وإن وجهت إلى الشر أصبح الشر مستطيرا، وحينما ننظر إلى أجهزة الإعلام في غالب الدول نرى طابع الانحراف يغلب على مناهجها، ونرى تلاميذ المدرسة الاستعمارية يحاولون السيطرة على هذه الأجهزة الهامة.
إذن فهذه الأجهزة الإعلامية تحتاج إلى تطهير على أيدي علماء عرفوا سعة الاطلاع واليقظة لدسائس الغرب الصليبي المستعمر الماكر الخبيث.
والعنصر الخامس: تشويه الثقافة الإسلامية.
فقد حدث على مرحلتين:
المرحلة الأولى: يوم أن ترجمت ثقافة اليونانيين وهي ثقافة مجوسية الحادية وفلسفات ضالة، وما كان أغنى المسلمين عن الفلسفة في عصورها القديمة وعن فلسفات سقراط وأرسطو وأفلاطون وأبيقور وارستيب والفلاسفة أنفسهم لم يتفقوا على رأي ترجمت هذه الفلسفات فانهال على المسلمين صراع جدلي عنيف، ونشأت فرق كلامية وعكف فريق على هذه الدراسات، وتشعبت بمرور الزمن، وارتفعت نارها ولهيبها وانشغل بها المسلمون عن كتاب الله.. لقد كان المسلمون في عصورهم الأولى ينهلون من ينابيع صافية. فيها شفاء للناس، كانوا ينهلون من مصادر معصومة عن الخطأ، من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتاب الله نور، ورسول الله هو السراج المنير، وحديثه تفسير وشرح وبيان لنور الحق تبارك وتعالى، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل كريمة، مثل عليا للعمل بالكتاب والسنة.(6/423)
والمرحلة الثانية من العدوان على الثقافة الإسلامية يوم أن جاء المستعمرون، ويوم أن جاء المستشرقون. مكن العبث بالتراث الإسلامي، ونشر الآراء الإلحادية المارقة، وبث الشبهات والضلالات بين أبناء الجامعات الشرقية، ودسوا كثيرا من الكذب والزور والبهتان في التاريخ الإسلامي وفي السيرة النبوية المطهرة، وكان لهم أذناب من كبار رجال السياسة والأدب والفلسفة هذا هو الطابع العام لأغلب المستشرقين إذ كانوا عملاء لدى وزارت الخارجية للدول المستعمرة.
على أن البعض منهم قد خلت نفسه من التعصب والحقد والكراهية فقدم خدمات علمية، على أنه يجب قراءتها بحذر، فهذا هو كتاب المنجد في اللغة لم يخل من التعبيرات الصليبية.
العنصر السادس في مرحلة التصفية والتطهير هو الحديث عن ثنائية التعليم وتمزيقه وعدم وحدته.
ولقد ظهر من النصوص السابقة أن المستعمر هو الذي أنشأ التعليم المدني وخطط له ووجهه بحسب أغراضه وأهدافه ومراميه التي تنحصر في أمرين: الحرب على الإسلام، والحرب على اللغة العربية وفي الوقت نفسه يعمل على إضعاف التعليم الديني، ويعمل على عزل المتعلمين تعليما دينيا عن الحياة وعن القيادات أيا كانت، على هذا الأساس قام التعليم المدني، ومن ثم تظهر لنا في وضوح الأمور التالية، وهي أمور تنذر بأخطر العواقب وقد برزت بنتيجتها المحزنة في كثير من البلاد الشرقية، وعلى الغيورين على الإسلام أن يبادروا إلى دراستها على نطاق واسع ومعالجتها، والله المستعان.. أهم هذه الأمور ما يلي:
تقسيم التعليم امتداد للحروب الصليبية المقنعة التي تهدف إلى إضعاف الدين الإسلامي رويداً رويداً.
أولا:
تقسيم التعليم تطبيق عملي لمبدأ فصل الدين عن الدولة وتنفيذ لمبدأ (دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) فالدين في عرف هؤلاء لا يصلح لقيادة الدولة، والمتدينون لا يصلحون لتولي الوظائف العملية، فينبغي حصرهم في صوامعهم للرهبنة.
ثانيا:(6/424)
تقسيم التعليم تطبيق لمبدأ العلمانية.
ثالثا:
تقسيم العلوم معول هدام في صرح وحدة الأمة.
رابعاً:
تقسيم التعليم وكر خبيث من أوكار الإلحاد والتحلل والزندقة والمروق من الدين.
خامسا:
تقسيم التعليم حرب على الثقافة الإسلامية.
سادسا:
تقسيم التعليم يسبب انزواء التعليم الديني.
سابعا:
تقسيم التعليم خرج جيلا ضعيفا متهافتا غير أمين على مقدسات الإسلام.
ثامنا:
تقسيم التعليم حرب على القرآن الكريم.
تاسعا:
ولقد تحدث في هذا الموضوع فضيلة الأستاذ الألباني المدرس بالمعهد العلمي في محاضراته القيمة بعنوان: (هذا القرآن العظيم – وما يكيد له الكائدون) .
تحدث عن فضل القرآن، ثم بين موقف المستعمرين من كتاب الله بأسلوب واقعي مأخوذ من الأحداث التي وقعت، نقتطف منه العبارات الآتية:
قال فضيلته: ما دخل الكفار بلدا إسلاميا إلا صرفوا القرآن عن حياة الناس في الحكم والقضاء وفي التوجيه والتربية والثقافة والتعليم وجاءوا بقوانينهم الكفرية بديل كتاب الله، وجاءوا بأخلاقهم الخاصة وفلسفاتهم المادية، ثم يقول فضيلة: وجاءوا بالعلوم الدنيوية والتي هي وسيلة إلى فهم الإسلام فوجهوا إليها وحدها جهود الطلاب والإباء فنبتت أجيال، أبصارهم إلى التراب، وقلوبهم في التراب، نبتت أجيال ما وجدت رائحة الإيمان، ولا ذاقت حلاوة القرآن، ثم سلمهم الكفار حكم بلادهم سلمهم مقاليد التربية والتعليم فإذا هم يقررون مختلف العلوم ويصرفون أنظارهم عن القرآن وعلومه.
وهنا نتساءل: ما هو موقف حماة الدين من رواسب الاستعمار؟
ما هو موقف العلماء الإجلاء في بلاد الإسلام عامة؟
ما هو موقف ملوك ورؤساء العالم الإسلامي من مختلفات عصور الضعيف والانحلال وطغيان القوى الباغية الكافرة؟
والجواب واضح..(6/425)
فالعلماء عليهم أن يبلغوا وأن يوضحوا، عليهم أن يتعاونوا ويتحدوا، وأن يقوموا بنشاط هائل في المنظمات الإسلامية، وفي أجهزة الإعلام عامة، وفي نشر الرسائل، وفي كل ميدان يتأتى فيه التبليغ، وهذا واجب العلماء الذين يريدون الله والدار الآخرة.
وأما واجب الملوك والرؤساء فهو واجب التنفيذ والعمل بما يقوله العلماء فهم أمناء على الحكم، وإن الله سائلهم عما استرعاهم، وأن السعادة الحقة إنما هي في النجاة يوم لقاء الله تعالى.
واجب العلماء:
أن ينادوا بوحدة التعليم على أساس من كتاب الله ونوره وهداه، واجب العلماء أن يعلنوا للناس أن ثنائية التعليم مرض سرطاني خبيث في قلب وحدة الأمة الإسلامية، قام على أساس (فرق سد) فلا بد من العودة إلى كتاب الله، وإن الإسلام هو الذي يبني الدولة، وإن القرآن هو الذي يربي الرجال، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
إن العلاج يقتضي منا أن نعيد التخطيط لمناهج التعليم من جديد، وأن نعيدها إسلامية صافية مشرقة نيرة واضحة وضوح الشمس. مشرقة إشراقة الضحى. جميلة جمال الزهر، صافية صفاء السلسبيل، مشرقة بنور الله وهدى رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم.
إن العلاج يتطلب وضع نظام تربوي جديد، يهدف إلى تكوين الشباب المسلم القوي في دينه، القوي في خلقه، القوي في علمه وتخصصه في علمه بالحياة وما يجري فيها، وكيف يملك زمام الاختراع والابتكار والكشف والعمل والصنع.(6/426)
إن الإسلام دين العلم والقوة والخلق، في ظلال من الله الخالق جل وعلا، لقد اشتمل كتاب الله عز وجل على إجلال العلم والعلماء، واشتمل على الحقائق الكونية، وتقدم العلم يكشف عن بعض ما في القرآن من أسرار فالقرآن معجز في كل ناحية من نواحي العلم والمعرفة، بيد أن العلم في الإسلام يتسم بطابع إلهي وتوجيه رباني. إن العلم في الإسلام يبحث في الكون ويتعمق في دراسته على أنه أثر من آثار قدرة الله جل وعلا، لا يبحث في العلم استقلالا فيؤدي بحثه إلى الإلحاد والكفر، كهؤلاء الذين يبحثون المسائل العلمية باسم الطبيعة الحية.
الإسلام يبحث العلم الكوني بطابع الرحمة والخلق والنفع العام، لا من أجل التدمير والإهلاك.
فلماذا ينعزل رجال الدين في جانب آخر؟
إن هذا الانعزال إنما هو نتيجة لتوجيهات خاطئة.
إن بحوث علماء الإسلام في العصور السابقة انتفع بها الغربيون في نهضتهم وفي أبحاثهم في الكيمياء والرياضيات والفلك والطب والأخلاق ومعرفة البلدان.
فلماذا نتخلى عن هذا المجد العظيم ونترك زمامه للمستعمرين وأذناب المستعمرين.
لماذا نترك لهم القيادة ونجعلهم يتحكمون في الشعوب الإسلامية، لأنهم امتلكوا زمام القوة فغيروا وبدلوا حتى في شريعة الله..
ألم يقل الله سبحانه وتعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} القوة التي لا تقف عند حد.
قوة الإيمان. قوة العلم. قوة العمل. قوة الكشف والاختراع الابتكار والسبق العلمي في كل مضمار. إني استسمحكم أن أقدم لحضراتكم الطريقة التربوية الآتية:
ويسعدني أن أتقبل النقد البناء الهادف.. ويسعدني أن أتقبل النصيحة من أجل سد الخلل، ورأب الصدع، ولم الشمل، والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل..
تتلخص هذه الطريقة في وضع جوهر التربية إسلامية الأصلية في إطار حديث فنجمع بين صفاء الجوهر وجمال العرض.(6/427)
أولا: نبقى على مراحل التعليم في وضعها الحالي: المرحلة الابتدائية – المرحلة المتوسطة – المرحلة الثانوية – المرحلة الجامعية – مرحلة الأستاذية، ثم نأخذ جوهر التعليم والتربية الإسلامية ونضعها في هذا الإطار، وتكون المواد والمناهج كالآتي:
المرحلة الابتدائية مدتها ست سنوات تبدأ في السادسة أو الخامسة والهدف منها أولا حفظ القرآن جيدا، وحفظ الأحاديث النبوية، ودراسة السيرة النبوية في صورة مبسطة، وضرورة من حياة الصحابة رضوان الله عيهم، العبادات عمليا مع الشرح المبسط، غرس مكارم الأخلاق والحديث عن أمهات الفضائل، تحسين وإجادة الخط، إجادة مادة الإملاء، بسائط مادة الحساب، تضاف مواد أخرى تراها اللجان الفنية النقية المؤمنة بحيث لا تقلل من الأهداف السامية السابقة ولا تعتدي على الوقت المخصص لها ولا يتسبب عنها إرهاق عقلية الطفل، وتنبني هذه الطريقة على أساس من علم النفس والتربية إذ من المعلوم أن الإنسان في حداثة سنة تقوى فيه ملكة الحفظ، وتثبت عنده الفضائل التي شب عليها.
وينبغي أن تكون المدرسة الابتدائية وسط حديقة مبسطة، فيها الزهور والثمار، وفيها أيضا بعض الطيور الألفية، فيتذوق الطفل معاني الحياة الطيبة، وينشأ بين جمال الخلق وجمال الطبيعة وينبغي أن يمرن الطفل على بعض الأعمال التي تناسب قوته وميوله من أجل أن ينشأ عصاميا، ومن أجل أن ينشأ رجل الحياة والمستقبل.
المرحلة الإعدادية:
يتعلم فيها التلميذ بسائط من المواد الهامة التي تراها اللجان الفنية مع العناية بدروس الدين واللغة العربية.
المرحلة الثانوية:
وهي حلقة الاتصال بين التعليم المتوسط وبين الجامعة، وتنبني المرحلة الثانوية على التخصص المبكر وهي طريقة نهضت بها بعض الدول من كبوتها، وامتلكت بها زمام التقدم العلمي والصناعي.(6/428)
أما المستشارون الإنجليز وتلاميذهم فإنهم يتخمون هذه المرحلة بمناهج كاملة في مواد مختلفة فيرهقون أعصاب التلاميذ، ويتخمون عقولهم بعلوم لا يحتاجون إليها في التعليم الجامعي، وسريعا ما ينساها التلميذ على أنه لم يأخذ المقدار الكافي ولم يتخصص في العلوم التي تعده لأن يكون قويا في الجامعة، وكثيرا ما شكا أساتذة الجامعات العلمية من ضعف المستوى الجامعي الناتج عن عدم الإعداد الفني في المرحلة الثانوية، وهذا من عيوب الوضع الحالي، أما الطريقة الحديثة والنظرية التي ينادي بها رجال التربية، فهي نظام التخصص المبكر.
أذكر هذه الطريقة جيدا منذ كان فضيلة الدكتور محمد البهي وزير الأوقاف والأزهر السابق بمصر يحاضرنا في علوم التربية وعلم النفس بتخصص التدريس.. فقد كان حفظه الله يجتهد في أن يجعل منا مفكرين لخدمة الإسلام في شتى المجالات.
تعتمد هذه الطريقة على التخصص المبكر، فتقسم المدارس بحسب حاجة الوطن والبيئة، فمثلا: ثانوي طب، ثانوي زراعة، ثانوي هندسة، ثانوي ميكانيكا، وتسترسل في الأقسام بحسب حاجة البيئة وإمكانياتها.
فالمدرسة الثانوية للطب تدرس علوم الدين واللغة، ومبادئ ومقدمات وعلوم تتصل اتصالا وثيقا بتخصصه في الجامعة.
والمدرسة الثانوية للزراعة تدرس علوم الدين واللغة، وعلوما تتصل بتخصصه في الجامعة.
وهكذا الثانوية في الهندسة والطيران والملاحة وأبحاث البترول والمعادن إلى نهاية هذه الفروع، وبذلك نضمن تخريج علماء في الناحية الدينية والمدنية، ونفهم هذه العلوم فهم عبادة وتفكير في ظل تعاليم القرآن وهدي القرآن وتوجيهاته، ثم تكون المرحلة الجامعية متممة للمرحلة الثانوية، وتتلاقى معها تلاقي الزهور اليانعة بالثمار الحلوة الشهية وبذلك نقضي على ما نحن فيه الآن.(6/429)
إن العلم اليوم يتعرض لمحن عنيفة من أجراء المبادئ الهدامة من جراء تيارات الانحلال الخلقي، هذه التيارات التي تسير بعنف نحو الفساد العام في كل ناحية من نواحي الحياة.
إن المدينة الانحلالية أفسدت الأسر والجماعات، وأضلت الشباب فسرت موجة التقليد الفاجرة الماجنة، وإننا نخشى على الشعوب الإسلامية من خطر تسرب موجات الانحلال الخلقي الذي يسري من الدول الإلحادية الكافرة.
وإن العصمة من كل هذا إنما هي في الرجوع إلى هداية القرآن، إلى نور الله الخالد.
إن القرآن الذي أصلح جاهلية الأمس كفيل بإصلاح ما نحن فيه اليوم، إن القرآن الكريم الذي أضاء جزيرة العرب، وحول شركها توحيدا، وكفرها إيمانا وظلمها عدلا وقسوتها رحمة، وغلظتها برا وعطفا وخوفها أمنا، وجهلها علما – إن القرآن الكريم الذي جعل من كفار مكة أساتذة للعالم يضرب بهم المثل في العدل والحكمة والسياسة وقيادة الجيوش، إن هذا الكتاب المبارك، إن هذا النور الإلهي، إن هذا التوجيه السماوي كفيل بإصلاح أحوال العالم وما فيه من مشاكل، إن العالم وما فيه من ظلام، إن العالم ما فيه من ظلام المبادئ الهدامة، ظلام الانحلال الخلقي، وتيار الإباحية والإلحاد والمروق عن الدين وعن هدى الله إن هذا الانحلال الخلقي الذي يسري تيار بقوة عنيفة، ويكاد يغزو غزوا مروعا يغزو الأفراد والجماعات والشعوب، يغزو الأسرة ويبعدها عن الهدوء والاستقرار والأدب الإلهي – إن هذا الظلام المنتشر في الحياة العصرية الحديثة التي فسدت من جراء المبادئ الهدامة، والبعد عن نور الله تبارك وتعالى.(6/430)
إننا حينما نسلط على هذا الظلام الحالي نور الله تبارك تعالى، حينما نوجه نور الحق سبحانه وتعالى على هذه الجاهلية الحديثة، وعلى هذه الأصنام الفكرية المجوسية التي تعبد وتقدس من دون هداية الله وتشريعاته، نرجع إلى السعادة الوارفة الظلال الطيبة الثمار، وتعود إلى رحمة الله المرسلة، ونسعد برحمة الله المهداة، ونهتدي بنور الله الذي أنزله لهداية الناس، ونعرف الحياة السعيدة وننعم بنعمة الإسلام الكبرى، وصدق الحق تبارك وتعالى إذ يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} صدق الله العظيم.
هذا وبالله التوفيق.(6/431)
من الصحف والمجلات
كتبت صحيفة الرائد التي تصدر في الهند في عددها السادس ما نصه:
تتلخص النتائج التي أسفرت عنها المذابح التي تعرض لها مسلمو الفلبين إلى ما يأتي:
1- إحراق أكثر من ستة آلاف من بيوت المسلمين كما أحرق أكثر من ستين مسجدا.
2- إن ضحايا المسلمين أكثر من ثلاثة آلاف شخص رجالا ونساء وأطفالا وشيوخا.
3- لقد هاجر أكثر من خمسين ألف أسرة من أراضيهم وهم الآن بين الموت والحياة لمعاناتهم الجوع والألم.
4- المسلمون المهاجرون لم يستطيعون أن يحصدوا مزارعهم لطردهم من أراضيهم وإنما حصدها الجيش الفلبيني وأفراد العصابات المسيحية.
5- استولى المسيحيون على 12 بلدية من أرضي المسلمين.
وجدير بالذكر أن معظم هذه الخسائر حدثت قبل أن يتحد زعماء مسلمي الفلبين وبعد اتحادهم استطاع المسلمون المقاتلون بصبرهم وشجاعتهم وإيمانهم أن ينتصروا في كثير من المعارك التي نشبت بينهم وبين الجيش الفلبيني كما استطاعوا أن يقتلوا كما استطاعوا أن يقتلوا عشرات مقابل شهيد واحد من المسلمين.
هذا وبالرغم من انتصار المسلمين في كثير من المعارك التي دارت بينهم وبين الأعداء بعد اتحاد زعمائهم بالرغم من ذلك كله فإنهم بحاجة ماسة إلى المال والسلاح والذخيرة الأمر الذي دعاهم إلى مناشدة زعماء الدول العربية والإسلامية الوقوف إلى جانبهم بالعون المادي والمعنوي.
ولا ريب أن الاكتفاء بالنداء إلى وقف إطلاق النار بين الجيشين الفلبيني والمسلمين ليس كافيا في تسوية النزاع.
الهزيمة وأسبابها
كتبت صحيفة أخبار العالم الإسلامي في عددها 277 ما يلي:
صرح تنكو عبد الرحمن الأمين العام للأمانة الإسلامية لوكالة الإسلامية بأن الهزيمة التي واجهها المسلمون في الشرق الأوسط وشبه القارة الهندية كانت أقسى تجربة يعانيها المسلمون في العصر الحديث.(6/432)
وقال الأمين العام: إن هذه التجربة أرادها الله ليذكر بها عباده بأخطائهم وسيأتيهم وبالنسبة للشئون العربية قال إن العرب كانوا أمة عظمى حملت راية الإسلام لأقاصي الأرض وأقاموا حضارة زاهرة في بلاد لم تعرف التقدم ولكنهم بمرور الزمن نسوا واجباتهم كشعب مسلم واستكانوا إلى حياة الرفاه فكان ذلك سببا في انحدارهم.
من أهداف الغزو التبشيري
ونشرت صحيفة أخبار العالم الإسلامي في عددها 277 ما نصه:
في العام الماضي نشرت مجلة المجتمع الكويتية وثيقة كنسية خطيرة تبين تخطيط النصارى في بريطانيا لتنصير ما يمكن تنصيره من الطلبة المسلمين ال16000 الذين يدرسون في المملكة المتحدة.
وأوضحت الوثيقة من جانب آخر نشاط التبشير النصراني في مختلف ديار المسلمين حتى تلك البلاد التي يدين 100% من سكانها بالدين الإسلامي والذي يتصور ألا مجال فيها (لعمل نصراني) .
وقراءة هذه الوثيقة الخطيرة، في حد ذاتها تجسد خطرا أعمق وهو محاولة تطويق الجزيرة العربية بالكنائس والبعثات التبشيرية في زحف منسق من جميع الجهات.. وهذه الإرسالية التبشيرية تستغل الوسائل المختلفة لتحقيق أغراضها وكانت الجبهة الجديدة التي فتحها المبشرون في غزوهم للجزيرة العربية هي اليمن الشقيق.
وقد جاء في هذه الوثيقة أن أحد المبشرين في احتفال لجمع التبرعات عقد في نيويورك بالولايا المتحدة في العام الماضي لبناء كنائس في الجزيرة العربية قال في الاحتفال:
إن محمدا طرد المسيح من الجزيرة العربية وأن المسيح سيعود للجزيرة منتصرا في القرن العشرون. وإنكم إذ تتبرعون للكنائس في الجزيرة العربية إنما تساعدون في تحقيق حلم المسيحيين في بناء كنسية كبرى ستكون إلى جانب الكعبة في مكة.(6/433)
وهذه أول مرة في تاريخ الجزيرة العربية بعد دخولها الإسلام منذ 14 قرنا يظهر تحد لقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم "لا يجتمع في جزيرة العرب دينان" فالمخططون لنشر النصرانية الذين هزمت محاولاتهم في نشر النصرانية بين المسلمين أيام كان الاستعمار مسيطرا على العالم الإسلامي بدءوا الآن في تحقيق مخططاتهم عن طريق الاستعمار غير المباشر.
وتذكر الوثيقة التي قدمها مؤتمر الصلاة السنوي لعام 1969م وهو مؤسسة انجليكانية ضعيفة الإمكانيات.
إن مؤتمر الصلاة السنوي هذا أطلق نعوتا فاحشة على الإسلام منها: (الإسلام دين الوثنية) ، (الإسلام أداة في يد الشيطان) .
وهذه الوثيقة الخطيرة تذكر أن كون الكثير من البلدان الإسلامية سكانها مسلمون 100% لا يمنع المبشرين من محاولة تنصيرهم ويذكر التقرير أفغانستان على سبيل المثال وبالتأكيد فإن اليمن مثال آخر ماثل الآن.(6/434)
ندوة الطلبة
انتهت قصتي
شعر محمد محمود جاد الله الطالب بكلية الشريعة بالجامعة
وسئمت الأيام عرضا وطولا
انتهت قصتي وتمت فصولا
غمرات اللذات فيها فضولا
ولعمري إني رأيت الليالي
ملئت علقما وساءت سبيلا
هكذا العقل يقتضي أن نراها
فأرانا الكثبان ظلا ظليلا
إنما عيشنا سراب تراءى
ورعيل قد راح يقفو رعيلا
وجموع الإنسان من قبل راحت
نومة الموت لم يبلوا غليلا
وشباب في ميعة العمر ناموا
تحت أجداثهم وهال مقيلا
غالهم دهرهم فأمسوا فرادى
لم يكن أيهم مريضا عليلا
إنه الموت قد طواهم زهورا
وكثير الآمال يمسي قليلا
هو حكم على البرية جار
كان في الأرض عيشنا مستحيلا
بعد نوح ومنذ آدم نمضي
كنت شهما أو كنت فدما بخيلا
كلنا نازح سراعا سواء
ومرور الانسام يغدو عويلا
نغمات الأطيار تمسي نواحا
بكرور الأيام صرحا مهيلا
كل صرح ممرد سوف يغدو
من مشى خطوة ومن سار ميلا
ليس يبقى على البسيطة منا
للمنايا وهو لهن رسولا
رب فجر يجمل الكون أضحى
صار في الترب قاطنا ونزيلا
بادي الحسن أو نراه جميلا
رب غصن قد أخجل الروض حسنا
أي شيء من بعد هذا نراه
كنت للموت من قديم خليلا
أيها المشتهي من العيش خيرا
أو سيبقى منغصا أو هزيلا
كل عيش مرفه سوف يبلى
بمرور الأيام شرا وبيلا
وأماني الإنسان في العيس صارت
ومغاني الأفراح تمسي طلولا
وجنان الإنسان تغدو يبابا
كان دوما مآلها أن تزولا
كل نعمى وإن تراءت لحي
واطلبي الله لا ترومي بديلا
أجملي الصبر أيها النفس واسعى
غمرات الأيام صبرا طويلا
إنما الصبر بلسم فلنبادر
إن تحت الأنقاض هما ثقيلا(6/435)
إيه يا نفس اقلعي ثم توبي
كل حال مصيره أن يحولا
أيها النفس لا تغري بعيش(6/436)
المنهج العلمي عند بعض مفكري الإسلام وعند مفكري أوربا
بقلم: عبد الرزاق بسرور
الطالب بكلية الشريعة وأصول الدين بتونس
منذ القدم، والإنسان يبحث عن قوانين تضبط تفكيرة وتكشف له عن الحقائق التي يروم استكناه سرها فتعددت المناهج والقواعد في البحث عن جوهر الأشياء، والتطلع إلى إدراك ماهياتها.
وكان للسفسطائيين مهاترة تبدو لهم أنها السبيل الأقوم في التفكير، وذلك حين قرروا أن الخطأ مستحيل ما دام الإنسان مقياسا لكل شيء. ثم جاء سقراط، فهدم منهجهم ليبني منهجا جديدا يقوم على فن (توليد المعاني) لتعريف حقائق الأشياء.
ويأتي أفلاطون بطريقة كان لها الأثر في المنطق الأرسطي وهي الطريقة المعروفة (بالقسمة المنطقية) واعتبارا لما تقدم، يكون المنطق قد وجد وظهرت معالمه في التفكير الإنساني قبل أن يوجد المنطق الصوري على يدي أرسطو.
1- منطق أرسطو:
يدرس منطق ارسطو صور التفكير غير أنه لا يهتم بموضوع هذا التفكير. لذلك كان صوريا. فصدق الاستدلال له من الأهمية من حيث شكله لا موضوعه. كان اتباع أرسطو يهدفون إلى الكشف عن الطرق المختلفة التي يمكن اتباعها في استنباط النتائج الضرورية من بعض المقدمات العامة التي يسلم المرء بصدقها. وهو شكلي إذ يسلك مسلك علم الرياضيات في إمكان استبدال القضايا وحدودها برموز أو أحرف.
ثم إنه منطق عام لأن قوانينه صالحة للتطبيق على مختلف المواضيع الفكرية. وسيان أن تطابق هذه النتائج خبرتنا في الواقع أو تتنافى معها فمحك الصواب في القياس الصوري يكون في اتساق نتائجه مع مقدماته، لا تطابقها في الواقع مع العالم الخارجي.(6/437)
وهذا القياس لا يؤدي بالباحث إلى كشف معرفة جديدة، حتى مع افتراض أن مقدماته مطابقة للواقع، لأن نتائج القياس متضمنة على الدوام في مقدماته. فإذا سلمت مثلا بالمقدمة التي تقول: أن جميع الناس عرضة للموت ثم أضفت إلى هذا أن سقراط إنسان، كنت على علم بأن سقراط هذا هو أحد الناس الذين وصفتهم في قضيتك الأولى بأنهم عرضة للموت.. وبهذا لا يكون في النتيجة التي ينتهي إليها قياسك –وهي سقراط عرضة للموت- شيء جديد إذ هي من باب تحصيل الحاصل.
من هنا كان القياس الصوري عقيما مجدبا، إذ يفسر لنا ما نعلمه ولا يكشف لنا عما نعلمه.
2- موقف علماء الإسلام من منطق أرسطو:
دخل منطق أرسطو العالم الإسلامي، ووقف مفكرو الإسلام منه مواقف مختلفة:
أ- منهم من رفضه رفضا تاما لاعتقاد أن روحه مخالفة للروح الإسلامية.. فحاولوا هدمه ليبنوا على أنقاضه منطقا جديدا يتلاءم ومعتقدهم.
ب- ومن العلماء من عاداه العداوة التامة وحرم النظر فيه. ونذكر من هؤلاء ابن الصلاح والنووي.
ج- ومنهم من قبله على أنه وحدة فكرية قائمة الذات، واعتبروه قانون العقل. وهؤلاء هم الشراح الإسلاميون المشاؤون.
وقبل أن نحدد موقف علماء الإسلام من المنطق الصوري نوضح في إيجاز معنى الثقافة في المفهوم الإسلامي.
إن الثقافة حسب التصور الإسلامي تعني الطريقة التي يتوصل بها إلى المعرفة. وهذه الطريقة هي ما عبر عنها القرآن الكريم بلفظة النظر، النظر الذي يولد مجهولا من معلوم. قال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}
وقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [1] .(6/438)
وهذه الطريقة الإسلامية الموصلة إلى المعرفة تكون على مراحل:
1- تأمل الموجودات ومشاهدتها بالاعتماد على الملاحظة وعلى الحواس.
2- تبويب تلك التأملات وتنظيمها وتجريد الحقائق منها بفعالية العقل حتى تستنبط الرابطة أو العلاقة التي تربط بين تلك الحقائق.
3- درس تلك العلاقة التي ربطت بين الحقائق، ومقارنتها بغيرها حتى يقع استنتاج القانون الذي يعكس للدارس ماهية ذلك الشيء أي الموجودات كما هو في الواقع.
4- إرجاع ذلك القانون الجديد الذي من مقارنة القوانين الجزئية الأخرى يعطينا قانونا عاما للطبيعة بأسرها. وهو وجود علة أوجدت هذه الموجودات المحيطة بنا. وهي علة واجبة الوجود إلا وهي الله.
فالمنهج الإسلامي في الثقافة يدرس الموجودات لا لمجرد أن يعرفها بل ليردها كذلك إلى علتها الأولى. بعد هذه المقدمة سنقف قليلا عند موقف علماء أصول الدين وأصول الفقه من منطق أرسطو.
أ- موقف علماء أصول الدين من منطق أرسطو:(6/439)
رفض المتكلمون أو علماء أصول الدين مبحث القياس الأرسطي.. "فالقاضي عبد الجبار يستخدم في أكثر مواضع كتبه قيس الغائب على الشاهد وهي عملية استدلالية إسلامية" [2] . وقد ألفت كتب عديدة في نقد المنطق الأرسطي، من طرف بعض المتكلمين نذكر منها كتاب الآراء والديانات لابن النوبختي والدقائق لأبي بكر بن الطيب، ويروي أبو حيان التوحيدي في المقابسات أن أبا علي الجبائي وأبا هاشم والقاضي عبد الجبار كتبوا في نقد المنطق الصوري.. أما الفكرة الرائجة عند أغلب المفكرين وهي أن علماء أصول الدين ما كان لهم أن ينافحوا عن العقيدة الإسلامية إلا بعد أن تسلحوا بالمنطق الأرسطي الذي أكسبهم القدرة على محاجة أهل البدع وأصحاب الديانات الأخرى، فهي فكرة لا تنطبق إلا في أواخر القرن الخامس الهجري على أيدي المتأخرين من المتكلمين.. يقول ابن خلدون في هذا السياق: "وكملت هذه الطريقة وجاءت من أحسن الفنون النظرية والعلوم الدينية.. إلا أن صور الأدلة فيها بعض الأحيان على غير الوجه الصناعي لسذاجة القوم، ولأن صناعة المنطق التي تسير بها الأدلة وتعتبر بها الأقيسة، لم تكن حينئذ ظاهرة في الملة، ولو ظهر منها بعض الشيء، فلم يأخذ به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفة المباينة للعقائد الشرعية بالجملة، فكانت بجورة عندهم" [3] .
ب- موقف علماء أصول الفقه من منطق أرسطو:
قبل استعراض موقف علماء أصول الفقه من المنطق الأرسطي يجب أن نلاحظ أن علم الأصول بالنسبة إلى الفقه هو كعلم المنطق بالنسبة إلى الفلسفة. فالأصول هي منهج البحث عند الفقيه أو هي منطق المواضيع التي يبحث فيها.. وأول من وضع منهج الأصول وحدد مسالكها بصفة علمية، الإمام الشافعي.. هاجم الشافعي منطق أرسطو، ونادى بتحريمه لاعتقاده أن هذا المنطق يستند إلى خصائص اللغة اليونانية المخالف لخصائص اللغة العربية، ولو طبق لأفضى ذلك إلى تناقض لا يقره العقل السليم.(6/440)
أما الإمام الغزالي، فقد مزج المنطق الصوري بعلوم الإسلام: ويظهر هذا المزج في مقدمة كتابه المستصفى واعتبر الغزالي أن المنطق الأرسطي شرط من شروط الاجتهاد وإلا فإن من لا يأخذ به لا يوثق بعلمه. وقد اعترض الفقهاء المسلمون الغزالي في ذلك ونقدوه. وبعد الغزالي، أي في القرن الخامس الهجري وما بعده، بدأ المسلمون مزج المنطق اليوناني بالأصول واعتقده كل حسب اجتهاده، وبذلك فقد المنهج الإسلامي شيئا من ذاتيته في مادة الفقه على الأقل.
3- المنهج العلمي عند علماء الإسلام:
من الطبيعي وروح الإسلام تدعو إلى الواقعية، أن لا يهضم العقل الإسلامي الصحيح منهج اليونان في البحث، وطبيعي أيضا أن تقوم تلك الثورة الفكرية المتجلية في نقد علماء الإسلام (متكلمين وفقهاء) لذلك المنهج وأن يقع إنشاء منهج ينبع من معتقدهم وذاتيتهم تكون دعامتاه: المحسوس والفكر.. يعتمد المنهج الإسلامي المحسوس منطلقا للبحث عن طريق الملاحظة والتجريب. ثم يسلط العقل للمقارنة وتأويل لمعاني المبهمة التي تمدنا بها الحواس فيحلل ويعلل لاستنباط الحقيقة التي تشرح الواقع وتزيح غموضه. إذن فهو منهج يجمع بين التجربة والتفسير العقلي. إذ أن التجربة وحدها لا تكفي إذا لم يعضدها العقل لتنظيمها وتأويلها، كما أن العقل وحده لا يكفي لمدنا بالمعرفة الموضوعية إذا لم تآزره التجربة. وما التجربة إلا حوار مع الطبيعة.(6/441)
آمن المسلمون بهذا المبدأ وجعلوه شعارا لهم في أبحاثهم العلمية، فكان منهجهم يتسم بالتجريبية العلمية.. ولا بد هنا أن أعرج على فكرة ضالة استحكمت بعقول كثير من المفكرين مستشرقين منهم وغير مستشرقين وهي أن البحث العلمي على الطريقة العلمية الحديثة لم تظهر معالمه في تاريخ التطور الفكري إلا بعد عصر النهضة في أوروبا. وينسب الفضل في نشوء طريقة البحث العلمي الحديث إلى فرنسيس بيكون الذي عاش ما بين (1561-1626م) . وقد تكفل بدحض هذا الزعم نزيه من نزهاء الغرب (والفضل ما اعترفت به النزهاء) وهو بريفولت في كتابه بناء الإنسانية. حيث يقول: "إن ما يدين به علمنا لعلم العرب ليس هو ما قدموه لنا من اكتشافهم لنظريات مبتكرة.. بل أنه يدين لهم بوجوده.. فقد أبدع اليونان المذاهب وعمموا الأحكام ولكن طرق البحث وجمع المعرفة الوضعية وتركيزها، ومناهج العلم الدقيقة والملاحظة العميقة والبحث التجريبي كانت كلها غريبة عن المزاج اليوناني.. إن ما ندعوه بالعلم ظهر في أوروبا كنتيجة لروح جديدة في البحث وهي الروح العربية" [4] .
ويجدر بنا الآن أن نتعرض بإيجاز إلى خصائص المنهج الحديث، وإلى استعراض منهج أحد علماء الإسلام في البحث وذلك حتى نتبين هل أن المنهجين متفقان أو مختلفان.
أ - خصائص المنهج الحديث:
يبتدئ البحث الحديث بمشاهدة الأمور الطبيعية على ما هي عليه في الواقع. ويلي ذلك جمع الحقائق المشاهدة وتبويبها وترتيبها لا لمجرد التبويب والجمع والترتيب وإنما للبحث والتمحيص عن علاقة تربط بين الحقائق العلمية. وقد نسميها قانونا طبيعيا، وقد نسميها نظرية علمية.(6/442)
والأمر لا يقف عند الكشف عن هذه العلاقة، فإذا ما تم الوصول إليها تستنبط بالقياس النتائج التي تفضي إليها. ثم يقع البحث عن صحة تلك النتائج ومطابقتها للواقع بالمشاهدة والتجربة. فإذا تحققت تلك النتائج على هذه الصفة كان دليلا على صحة تلك العلاقة علها تقبل التعديل أو التنقيح بما يجعل نتائجها القياسية متفقة والواقع. ورائد البحث في كل طور من هذه الأطوار المتعاقبة، إقرار الحقائق كما توجد دون ميل إلى نزعة من النزعات أو هوى من الأهواء. وأحيانا يستعان في الكشوف العلمية بالتمثيل.
فيهتدي على منوال القريب المعلوم إلى معرفة البعيد المجهول. وخلاصة لما ذكر، فإن عناصر البحث العلمي الحديث هي:
1- الاستقراء
2- القياس
3- التمثيل
ب- منهج ابن الهيثم في البحث:
يتضح منهج ابن الهيثم في البحث إجمالا من مقدمة كتابه (المناظر) . بين فيه بإيجاز الطريقة التي هداه تفكيره إلى أنها الطريقة المثلى في البحث، والتي اتبعها في بحوثه.. يقول ابن الهيثم:
".. ونبتدئ في البحث باستقراء الموجودات، وتصفح أحوال المبصرات وتمييز خواص الجزئيات، ونلتقط باستقراء ما يخص البصر في حال الأبصار، وما هو مطرد لا يتغير وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس. ثم نرتقي في البحث والمقاييس على التدريج والترتيب مع انتقاد المقدمات والتحفظ في النتائج ونجعل غرضنا في جميع ما نستقريه ونتصفحه استعمال العدل لا اتباع الهوى ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء" [5] .
فابن الهيثم أخذ في بحوثه بالاستقراء والقياس، وعنى في البعض منها بالتمثيل وهي كما رأينا عناصر البحوث العلمية العصرية.. وابن الهيثم في هذا كله لم يسبق فرنسيس بيكون إلى طريقته الاستقرائية فحسب، بل سما عليه سموا كبيرا وكان أوسع منه أفقا وأعمق تفكيرا، وإن لم يعن كما عني بيكون بالتفلسف النظري.(6/443)
فهذا المنهج يتسم بالحيوية والتكامل إذ يجد فيه رجل العلم ما يرتاح له من أساليب وطرق تسهل له عمله، ويجد فيه الفيلسوف صاحب النظر المجرد، ما يثلج صدره ويقيه جمحات عقله.
يقول أحمد أمين: "وأهم ما امتاز به (ابن الهيثم) معرفة نظريات الرياضة. ومن أهم مميزاته تطبيق علمه على العمل" [6] .
كان لاكتشافات ابن الهيثم تأثير صالح على التراث الفكري الإنساني، وقد عكس نظرية العلماء اليونان في موضوع الإبصار، حيث أن أقليدس وبطليموس قد زعما بأن الأبصار يكون بإرسال شعاع من العين نحو المبصر من الأشياء.
هدم ابن الهيثم هذه النظرية ليعلمهم أنه (ليس كما ظنه أكثر القدماء من أن الضوء يخرج من العين ليلمس المرئيات بطريقة ما، وليس هناك من أشعة تنطلق من العين لتحقق النظر بل أن شكل الأشياء المرئية هي التي تعكس الأشعة على العين فتبصرها هذه الأخيرة بواسطة عدستها) .
ومن اكتشافاته، اكتشافه قوانين انعكاس الضوء وانكساره، واكتشافه الشكل المنحنى الذي يأخذه الشعاع في سيره في الجو، واكتشافه أن القمر يعكس نور الشمس وبذلك فسر تكوين الهلال وكسوف القمر.
قالت زيكريد هونك الألمانية في كتابها (شمس الله تسطع على الغرب) .(6/444)
"لقد كان تأثير هذا العربي (ابن الهيثم) النابغة على بلاد الغرب عظيم الشأن فسيطرت نظرياته في علمي الفيزياء والبصريات على العلوم الأوروبية حتى أيامنا هذه.. فعلى أساس كتاب المناظر لابن الهيثم نشأ كل ما يتعلق بالبصريات ابتداء من الإنكليزي (روجر بيكون) حتى الألماني (فيتللوا) وأما ليوناردو دافنسي الإيطالي مخترع آلة (التصوير الثقب) أو الآلة المعتمة ومخترع المضخة والمخرط وأول طائرة – ادعاء - فقد كان تأثيرا مباشرا بالعرب وأوحت إليه آثار ابن الهيثم أفكار كثيرة. وعندما قام (كبلر) في ألمانيا خلال القرن السادس عشر ببحث القوانين التي تمكن (جليليو) بالاستناد إليها من رؤية نجوم مجهولة من خلال منظار كبير كان ظل ابن الهيثم الكبير يجثم خلفه. وما تزال حتى أيامنا هذه المسألة الفيزيائية الرياضية الصعبة التي حلها ابن الهيثم بواسطة معادلة من الدرجة الرابعة مبرهنا بهذا عن تضلعه البالغ في علم الجبر، نقول ما تزال المسألة القائمة على حسب موقع نقطة التقاء الصورة التي تعكسها المرأة المحرقة بالدوائر على مسافة منها ما تزال تسمى (بالمسألة الهيثمية) نسبة إلى ابن الهيثم) .
ورغم هذه الصفات وهذا النبوغ الذي شهد له بها فإنه يتحلى بروح علمية سامقة، إذ قرر أن الحقائق العلمية غير ثابتة، وأنها ليست غايات ينتهي إليها العلم بل كثيرا ما يعتريها التبديل والتغيير. وهو يؤمل ويرجو رجاء العالم المتواضع الوصول إلى الحقيقة فيقول: "ولعلنا ننتهي بهذا الطريق إلى الحق الذي يثلج الصدر ونصل بالتدريج والتلطف إلى الغاية التي عندها اليقين، ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف وتنحسم بها مواد الشبهات"
وهكذا يتضح أن منهج ابن الهيثم في العلم يلتقي مع المنهج العلمي الحديث وأربى عليه باعتبار سبقه الزمني.(6/445)
ولو ذهبنا قدما في استعراض منهج كل عالم إسلامي في البحث، لتكشف لنا أن المتشعبين بروح الإسلام قد اهتدوا إلى هذه الطريق النابعة من طبيعة الإسلام.
والتاريخ الإنساني حافل باكتشافات خطيرة مصدرها العقل العربي الإسلامي وقد ذكرنا بعض كشوف ابن الهيثم ونذكر الابتكارات الهندسية التي ظهر بها محمد البوزجاني (8-376هـ) الذي اشتهر في علمي الفلك والرياضيات وكان له الفضل في تقدم العلوم الرياضية. ونذكر أبا عبد الله البتاني 230-317هـ وقضاياه في علمي الفلك والرياضيات وجابر بن حيان ومنهجه التجريبي في الكيمياء.
وخلاصة القول فإن المنطق الإسلامي أساسه الواقع، يعتمد الملاحظة والتجربة كاعتماده العقل والتفكير.. ولا ننكر أنه أخذ شيئا من المنطق اليوناني، وهذا من طبيعة كل نظرية جديدة حيث لا يمكن لها أن تقوم إلا بالاعتماد على نظريات سبقتها.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الآيتان من سورة يونس
[2] مناهج البحث عند مفكري الإسلام.
[3] المقدمة لابن خلدون.
[4] مناهج البحث عند مفكري الإسلام للنشار.
[5] الحسن بن الهيثم (بحوث وكشوفه البصرية) لمصطفى نظيف.
[6] ظهر الإسلام ج1.(6/446)
خطورة الدعوة إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية
بقلم: عبد الرحمن الأنصاري
الطالب بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
تمهيد:
جاء الإسلام والبشرية تتخبط في مهاوي الضلال، وانحلال القيم وانعكاس المفاهيم، فلما أراد الله للإنسانية أن تنعم بالسعادة الدنيوية، والأخروية، بعث لها محمدا صلى الله عليه وسلم لينقذها من دياجير الظلمات التي تتخبط فيها خبط عشواء.
فجاء الإسلام على أساس الوحدة المتمثلة في عبودية إله واحد هو الله جل جلاله، ودستور واحد هو: كتاب الله، وقبلة واحدة هي: بيت الله الحرام..
وهكذا في سائر العبادات، فإن موقوتيتها لم تكن لأناس (من المسلمين) دون آخرين.
وكما وحد الإسلام في العبادات وحد بين سائر الناس والأجناس الذين يدينون بدين الإسلام –في الحقوق والواجبات..
فمثلا صلاة الظهر المفروضة على أفقر الناس، مفروضة في نفس الوقت على أغنى الناس، وأحملهم لألقاب الرفعة والعلو، بل إن أي لقب يناله مسلم لا يكون به جديرا إلا على أساس الشعور بهذه التبعية لله ولشرعه، والدعوة إليه.
وإن كانت (الجاهلية) في كل زمان ومكان تصنف الناس على أعراقهم، وأنسابهم، وألوانهم..
فإن الإسلام جاء ليقرر بطلان ذلك إذ لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لابيض على أسود إلا بالتقوى..
وعلى هذا تأسست الدولة الإسلامية الأولى، فأهدت للإنسانية نورا لا زالت إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها –ترفل في حلله، وإن تنكر المتنكرون (فالعين تنكر نور الشمس من رمد) .
دور المسلمين من غير العرب أصلا في خدمة العربية:
وعلى أساس هذه الوحدة الإسلامية التي لا تعترف بأية آصرة خارجية عن الإسلام، فقد صار كل داخل في الإسلام أخا وحميما لسائر المسلمين.(6/447)
ولما أدرك المسلمون من غير العرب دور اللغة العربية في فهم الإسلام حافظوا عليها محافظة تفوق محافظتهم على لغة آبائهم وأجدادهم لما لها من شرف مخاطبة الله رسوله بها، فناضلوا في الذود عنها وقعدوا –بتشديد العين- لها القواعد، واستخرجوا من خبايا إسارها ما دل على تفانيهم في خدمتها، وحبها، وألفوا- المؤلفات العظيمة التي هي فخر للإسلام والمسلمين- باللغة العربية، لا بلغة آبائهم، وما ذلك إلا لهذه الصياغة التي صاغهم بها الإسلام وجعله إياهم حماة لدينه كغيرهم ممن اصطفى من العرب لهذا الشرف سواء بسواء.
خطورة هذه الدعوة:
ومن الطبيعي أن أعداء الإسلام الذين حاربوه منذ ظهوره وفي سائر العصور إلى يومنا هذا، قد جربوا مع الخبرة الطويلة في (العداء) : إنهم لا يستطيعون تشتيت المسلمين وتفرقة كلمتهم، وسلبهم (قدسهم) إلا بصرفهم عن الإسلام الذي هو رمز وحدتهم، وقد سلك لتحقيق ذلك شتى السبل، والوسائل ومنها على سبيل المثال لا الحصر: إحياء (القوميات) وتجديد النزعات العنصرية الضاربة في القدم، وإحياء ما يسمونه (الفكلور الشعبي) لكل أمة والدعوة إلى النظر في اللهجات المحلية، ورد أصولها إلى أشياء تاريخية معينة.
والاحتفالات التذكارية لمرور كذا من السنين على حكم أكاسرة وأباطرة وثنيين معينين، استنار أبناؤهم فيما بعد بنور الإسلام..وأخيرا الدعوة إلى استبدال الحرف العربي باللاتيني بحجج هي، أوهى من بيت العنكبوت.
وإلى غير ذلك من المكائد، التي لا تهدف في مجموعها إلا إلى شيء واحد هو صرف المسلمين عن دينهم.
العالم الإسلامي ومنحة الدعوة:
ومنذ بدأ الاستعمار بالتغلغل في شرايين العالم الإسلامي لم يكن هدفه الأول، إلا في تثبيت دعائمه، وأقدامه في الوطن الإسلامي بمبادئه التي يتصدرها شعار: فرق تسد..
وهل فرق تسد إلا غزو الأمة في مبادئها التي تغتر بها، ومثلها العليا، التي هي جزء من حياتها..(6/448)
ولقد سلك الاستعمار العالمي، ذلك المسلك المشين مع العالم الإسلامي لتتحقق له وسائل السيطرة عليه إلى الأبد.. إن استطاع. وإن ننسى، ولا ننسى مقالة ذلك الزعيم الذي قال قولته المشهورة في يوم احتفالهم: "نحن لا نحتفل بمرور مائة عام على احتلال الجزائر، بل نحتفل بمرور مائة عام على القضاء على اللغة العربية"
ومن أهم الجوانب التي سلكها الاستعمار العالمي لأهدافه السيئة هذه:
1- تنفير الشبيبة من اللغة العربية، بحجة صعوبة قواعدها..
2- وصم الكتب الإسلامية العلمية –التي هي خلاصة الفكر الإنساني العالمي- بأنها (صفراء بالية) لم تعد تلائم التطور..
علما بأن كل تطور حدث، أو يحدث، إنما كانت أسسه من هذه الكتب الصفراء، بشهادة بعض المنصفين من الأوروبيين، وغيرهم.
3- تنشئة الشبيبة، على المبادئ الهدامة الفاسدة، المعادية للفكرة الإسلامية من أساسها.
4- شراء أقلام كتاب محسوبين على الإسلام لترويج الدعاوى المخالفة عن طريقهم.
5- الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة، حتى تكون لغة الدولة، غير لغة الدين.. والنتائج بعد معلومة بالضرورة. إلى غير ذلك من المخططات الاستعمارية المكشوفة التي لا تنطلي إلا على عمي البصائر.. ومن البراهين المشاهدة المحسوسة على صدق ما ذكر: أننا قلما رأينا دولة من الدول التي نالت استقلالها من المستعمر، إلا وكانت لغتها لغة ذلك المستمر.. وأخلاقها وتقاليدها، أخلاق وتقاليد ذلك المستعمر.
هذا إذا لم تنضم تلك الدولة المستقلة بطواعية من نفسها إلى استعمار جديد يحمل طابع (كمنولث..)
ويوم أن كانت الأمة الإسلامية، أمة موحدة، لم تكن أطماع العالم تتجه إلا إلى شيء واحد فقط، هو: طلب مهادنتها، وخطب ودها فقط.
مقدمات الدعوة:(6/449)
لم تكن الدعوة إلى استبدال الحرف العربي باللاتيني، بالأمر السهل الهين، وقد أدرك المستعمر ذلك، فقدم لها من المقدمات ما كلفنا نحن المسلمين الثمن الكثير.
ولن تحد من شره هذه الدعوة، وغيرها من الدعوات الخبيثة التي تترى على أمتنا الإسلامية من جبهات الأعداء المختلفين، إلا دعوة إسلامية مضادة.
ومن البديهي، والمسلم به أن العداء الموجه إلى (الحرف العربي) لم يكن إلا نتيجة لعداء كل ما يمت إلى الإسلام بصلة.(6/450)
ليس للإنسان إلا ما سعى
شعر الطالب عارف عبد الله الحسن الطالب بالسنة الثالثة بالمعهد الثانوي بالجامعة
لم تنم عيني وقلبي في وجل
أقبل الليل فويل للمقل
(إن أيام الصبا نجم أفل)
أقبل الليل وقد فات الصبا
فرغ العمر وما نلت الأمل
كيف أنسى ذكر أيام الصبا
خلق الإنسان إلا للعمل
فتزود أيها المرء فما
قول حق قاله عز وجل
ليس للإنسان إلا ما سعى
قبل أن تسبح يوما في الوحل
فاعبد الله ولا تشرك به
زك من مالك صم شهرا وصل
حج بيت الله فرض يا فتى
شئت عيشا فاضلا يا من عقل
راع حق الناس بعد الله إن
واحد فذ قديم لم يزل
كل من في الكون يفنى غيره
حكم الأقباط والقوم الأول؟
أين قارون وهامان ومن
ملك الرومان يوما فانعزل
أين ساسان وكسرى والذي
أنهم سادوا زمانا في الملل
تلك آثار فدلت بعدهم
إن من يشرب أضنته العلل
ودع الخمرة واحذر شرها
وتواضع يا فتى في المحتفل
جانب الكبر ولا ترض به
إن من يرفعه الله البطل
ليس إعجابي بنفسي رفعة
مثل الناظر من أعلى الجبل
(مثل الجاهل في إعجابه
أعين الناس صغيرا لم يزل)
يحسب الناس صغارا وهو في
من يكن مثلك فليخش الزلل
واترك الغيبة إن رمت العلى
إنما الدنيا متاع منتقل
كم وكم سادت وبادت أمم
ليس علم مجديا دون عمل
واطلب العلم إذا رمت الهدى
كنت سيين وعباد الهبل
فإذا ما أنت لم تعمل به
لم تجد علما فما تجدي الحيل
قيمة الإنسان بالعلم فإن
ملك الدينار دع عنك الكسل
إن كل الناس أعوان لمن
غانيات ومصفى من عسل
حلكة الليل وقد قال المثل
إن في الجنة حورا عربا
فهجر النوم وناجي الرب في(6/451)
سهر الليل وإلا لم ينل
فالمعالي إن من يطلبها
إنما الدنيا سحاب فاضمحل
طلق الدنيا ولا تفتن بها
في ظلال ثم ولى وارتحل
إنما الدنيا كضيف نازل
فبحق الجار قرآن نزل
واعرف الجار وعظم حقه
شئت أن تفلح صاحب من عدل
وصل الأرحام يا صاح وإن
إن من يأمر بالمعروف قل
مر بعرف وأنه عن منكر
جد في النيل فلا يجدي الهزل
واطلب النحو ولازم مذهبي
لم يكن يفقهه كالمختبل
حلية الإنسان بالنحو فمن
شئت أن تنجو من كل دغل
وخذ القرآن منهاجا إذا
فمن الشيطان أصغى وأضل
إنه من يتخذه عبثا
إن من يخضع للأهواء ذل
جاهد النفس ولا تتبع هوى
ليس للمرء سوى ما قد بذل
جامع المال لمن تجمعه؟
لاح في رأسك شيب فاشتغل
وهن العظم وقد فات الصبا
ب بلهفى أو بليت ولعل
لا ولا ترجع أيام الشبا
لست أدري ذاك أمر محتمل
ذهب الأمس فهل يأتي غذ؟
أيها الغافل قد حان الأجل
فاغتنم وقتك لا يذهب سدى
أيها المسكين إن الموت حل
وعظ النفس وقل يا أسفا
إنه شر فمن يتبعه ضل
واحذر الشيطان لا تغرر به
مرء تقوى الله أعلى وأجل
هل تزودت وخير الزاد للـ
خير ما قد قيل ما قل ودل
فاتق الله ودم في ذكره
خيركم من أرشدوه فامتثل
واستمع للنصح إني ناصح
فهو خير حافظا للمتكل
وبحبل الله كن معتصما
وسلامي كلما لاح زحل
وعلى الهادي صلاتي أبدا
((إنني اعتقد أن كل خلية من الخلايا الحية قد بلغت من التعقد درجة يصعب علينا فهمها.. وأن ملايين الملايين من الخلايا الحية الموجودة على سطح الأرض تشهد بقدرة الله شهادة تقوم على الفكر والمنطق. ولذلك أومن بوجود الله إيماناً راسخاً ... ))
رسل تشارلز ارنست
من كتاب الله يتجلى في عصر العلم(6/452)
غايات وأهداف
بقلم: سعد بن حامد المطرفي / الطالب بالقسم الثانوي بالجامعة.
إن هذا الكون لا يخلو من أمة قائمة على أمورها، كل فرد منها يحبذ جهوده وينمي إمكانياته في الوصول إلى ذلك الهدف أو تلك الغاية كما أن الأهداف والغايات تنقسم إلى قسمين: غايات وأهداف دنيوية، وأخرى أخروية.
فالمسلم يجمع بين هذا وذاك على السبيل المشروع والطريق النبوي المرسوم، فالناس تختلف غاياتهم وأهدافهم لكن له نهج وسبيل في أموره الدنيوية فالطالب يحث نفسه ويجهد حيلة في الحصول على النجاح في العلم ونفع الغير فما أحسنها من غاية وما أزكاه من هدف. فهو طالب لخير الدنيا ونعيم الآخرة.
فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في فضل العلم وأهله منها قوله: "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة" كذلك التاجر ينصب حبال الأهداف ومراسم الغايات كل ذلك لجمع المال، فالتاجر على خير ما قام بفعل الخير في مراعاة أوامر الله فيما أودعه الله من المال.
فالمال وديعة يعطيها الله من يشاء وينزعها ممن يشاء.
فأهل الأهداف والغايات على مستويات مختلفة وعلى أصول تنشأ عنها فروع متعددة. منهم عاملون ولا شك ما راعوا الهدف الأخروي الذي عليه المعتمد وبه يحصل الربح وعدمه.
فأنت يا أخي الطالب: انهج أي سبيل على الطرق المسهلة لتعليمك ثقة الهدف الذي ترجوه عائد بالنفع لك ولشعبك. نفعا لا ينحصر في الأمور الدنيوية فحسب بل للآخرة النصيب الأوفر والجهد الأكبر منه وما هنالك مانع من أن تكون طبيبا أو معلما أو تاجرا أو زارعا فهذه حقول أشرع في أيها شئت فلك حرية الغاية تتجه حيث تريد.
فالإسلام دين اليسر والعمل لنفع المسلمين، كذلك أنت يا أخي التاجر شد حيلك وانفع نفسك ومن يلزمك مئونته بالكسب الحلال.(6/453)
فالكسب الحلال وإن قل فعظيمة بركته وكثير خيره. وأنت محور ارتكاز وأهمية يعود نفعها إلى المجتمع الإسلامي لا لفرد خاص، فأعط كل ذي حق حقه فالله يقول: {كَلا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} فحاول أن تصغر نفسك في عينك وأن تلبس من التواضع رداءا وإزارا أبيضين ما فيهما درن.
أما الهدف الأخروي والغاية الأخروية فهي النبراس الذي شعلته ونوره ما تقدمه في هذه الحياة من الصالحات، فإن خيرا فخير وإن شرا فذاك. فعنوان النجاح والحصول على الخير هو التقوى، نعم إن التقوى إذا عمت القلب سكن وقام بتوزيع ذلك النور على الأعضاء فتعم السكينة والهدوء ذلك القلب وتلك الأعضاء.
من هنا يعرف الإنسان أن له هدفا وله غاية لا يسبقها سابق، ولا يتقدم عليهما متقدم، فالهدف والغاية الأخروية هي الحصول على الجنة. والحنة ثمنها غال حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألا أن سلعة الله غالية ألا أن سلعة الله هي الجنة".
أما الذي يفرط في ذلك الهدف فقد حكم عليه القدر بالشقاء لأنه عرض عليه الحق فأتى مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟
قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى".
فهل أنت حاسب حسابك وعارف كسبك؟ فإن البيع والشراء ينفر كل منهما عن الماديات في ذلك اليوم. فلا درهم ولا دينار ولكنها أعمال تدور على حلبة الحساب والجزاء وكل امرئ بما كسب رهين.(6/454)
أخي المسلم أنت الآن في سعة من الأمر فعليك بالاتجاه إلى تلك الغاية وذلك الهدف علما وتيقنا وتعقلا إن الدنيا والآخرة في حوزة مالك يوم الدين، فأسأل الدنيا ممن يملكها على الوجه الذي يحبه ويرضاه. وكن ممن بنى عقيدته على الخوف والرجاء وابتعد عن الإفراط والتفريط. فالدار الآخرة هي الدار الباقية وهي أساسك الذي يبني عليه سلاحك الأخروي وشقاؤك فهلا تختار لنفسك دارا فسيحا، وكسبا مربحا، ومركبا مريحا!!
هذا والله اسأل أن يأخذ بأيدي عامة المسلمين إلى سبيل الهدى والرشاد ويرزقهم بذل جهودهم في غاية وهدف يعود عليهم بالربح والفوز والنجاح الدنيوي والأخروي إنه سميع عليم.
((.. دارون.. صاحب نظرية النشوء والارتقاء.. ليس يهودياً، ولكننا استطعنا أن نستخدم نظريته لهدم الأخلاق وانحراف الشباب غير اليهودي، ليفسح لنا المجال لحكم العالم..))
بروتوكلات حكماء صهيون(6/455)
شياطين الإنس
بقلم: محمد عبد الخالق الضبع
الطالب بكلية الشريعة بالجامع
قد يبدو للقارئ أن هذا العنوان غريب نوعا ما ولكن الواقع الذي نعيش جانبا منه يمثل هذا العنوان، والذي سوف نتناول الحديث عنه اليوم واحدا من أولئك الذين اتبعوا أنفسهم هواها وارتبطوا مع شياطين الجن برباط الفكر المتشابه.
إنه الدكتور مصطفى محمود الذي صلع علينا أخيراً بتفسير مزعوم للقرآن الكريم سماه التفسير العصري للقرآن، وراح ينشر مقالاته بمجلة (صباح الخير) في مصر ولقد تتبعت مقالاته في مصر ثم حاولت متابعتها عندما حضرت إلى السعودية، والحقيقة أنني رأيت عجبا، رأيت إنسانا يتخلي كلية عن دينه وعقله فيتناول الآيات القرآنية بتفسير عجيب يصرف من خلاله الكلمات القرآنية عن معناها اللغوي والشرعي كلية، وإليك عزيزي القارئ جانبا من تلك المزاعم:(6/456)
يقول مصطفى محمود إن كلمة الجنة والنار التي وردت في القرآن الكريم كلمات لا حقيقة لمعناها والله سبحانه وتعالى لا يرضى أن يعذب إنسانا خلقه. ثم يستطرد في مقال آخر فيقول إن كلمة العذاب والنعيم التي وردت في القرآن أيضاً ليست في الآخرة إنما في الدنيا والعذاب هو عذاب الضمير، والنعيم هو نعيم راحة البال. وتتوالى مزاعمة الجنونية فيقول في مقال ثالث أن الإنسان لو نظر إلى امرأة جميلة متأملا في حسنها ثم قال (الله) ملتذا بهذا الجمال فله أجر على ذلك والكثير والكثير ولا يسع هذا المقال لتناول كل مزاعمه ولقد صدرت له عدة كتب لم يتمكن من طباعتها بمصر بسبب ثورة العلماء وبعض الشباب الواعي عليه لذا لجأ إلى المطابع اللبنانية ومن كتبه التي صدرت كتاب (رحلتي من الشك إلى اليقين) ولا أدري أي يقين هذا الذي انتهت به رحلته. ومما يؤسف له أن بعض كتبه ومقالاته تلقى رواجا من بعض الشباب الذين لا يعرفون كوعهم من بوعهم. وحسبوه امتدادا لعصرية الانحلال التي يجتاح العالم الآن.
وأنا أقول لك يا دكتور مصطفى إنك تحتل اسما من الأسماء الإسلامية وكان ينبغي لك احترام هذا الاسم أو أن تتخلى عنه كما تخليت عن توابعه. وأقول لك يا صاحب التفسير العصري هل يصل بك الأمر أن تتعامى كلية عن آلاف الآيات القرآنية التي تصف النار – ألم تقرأ قول الله عز وجل: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} ألم تقرأ قول الحق تبارك وتعالى: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} . {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً} {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً}(6/457)
وآلاف الآيات القرآنية الأخرى.. ألم تقنعك حتى تقول إن العذاب المقصود في القرآن ما هو إلا عذاب الضمير، إذن أين عذاب ضميرك أنت، إنك تضحك وتمرح، ثم تكذب بالجنة والنعيم، والقرآن الكريم يصفها في آلاف المواضع.. ثم تحل النظر إلى النساء والتمعن في حسنهن وتعطى الأجر على ذلك، ومن يدري فربما في جعبتك أكثر من ذلك وأجره مضاعف.
هل يصل بك الحد إلى تكذيب الحق تبارك وتعالى وتكذيب رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام_ لقد زلت قدمك وأي زلة ولقد افتريت إثما عظيما. يا حسرتاه. لقد زرت بنفسي مستشفى الأمراض العقلية بالقاهرة وأصدقك القول إنني رأيت كثيرا من نزلاء المستشفى المرضى وهم يمسكون في أيديهم المصاحف في خشوع ويدعون الله رغبة في الجنة وخوفا من النار.. هل تشك في أن أفكارك لو تسربت إلى هؤلاء المرضى فسوف نرى على وجوههم أكثر من علامة تعجب.
يا صاحب التفسير العصري ألم يبلغك حديث المعراج – ألم تبلغك مشاهدة الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام لرفاقك وهم يعذبون.
إن تفسيرك العصري هذا معناه اعلموا ما شئتم من كفر وقتل وزنى وسلب ونهب فليس هناك ثواب ولا عقاب، وبعبارة أدق أن أبا بكر وعمر وحمزة والحسن وغيرهم من المؤمنين الأبرار رضوان الله عليهم هم وفرعون وهامان واليد بن المغيرة وربما أنت في مرتبة واحدة لا ثواب ولا عقاب.
يا صاحب التفسير العصري إن عصرية الملابس وعصرية المادة وعصرية الرجال لا يمكن أن تزحف لتعبث بالقرآن الكريم.
كذلك فإن الشهرة يا صاحب التفسير العصري لا تأتي عن طريق تكذيب الله ورسوله. يمكنك أن تكون مشهورا بوسائل متعدد قد يلائمك منها البعض مثل أن تفتح محلا للأزياء الحديثة للسيدات أو الاشتراك في مسابقة الخنافس أو رئاسة فريق لمن يسمون بالهيبز أو تمشى في أحد الشوارع الكبرى كما ولدتك أمك.(6/458)
والواقع أن باب التوبة والرجوع ما زال مفتوحا أمامك.. وعليك بالإسراع إليه وصدق الله عز وجل: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} . صدق الله العظيم.(6/459)
من ثمرات التوحيد
بقلم: الشيخ عبد القادر شيبة الحمد
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد المرسلين، وبعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله والله تبارك وتعالى يقول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} وقد روى الإمام أحمد رضي الله عنه من طريق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لما نزلت: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله: فأينا لا يظلم نفسه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس الذي تعنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم. إنما هو الشرك"، وفي رواية للبخاري من طريق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت: ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، قال الصحابة: وأينا لم يظلم نفسه فنزلت: إن الشرك لظلم عظيم.(6/460)
أيها القارئ الكريم: لإخلاص العبادة لله، وإفراده تبارك وتعالى بالتوحيد مزايا لا تحصى وثمرات لا تستقصي منها ما يصلح باطن العبد ومنها ما يصلح ظاهره ومنها ما يصلح له الدنيا ومنها ما له الآخرة، ولقد أشار الله تبارك وتعالى إلى أن شجرة التوحيد أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، فمهما خطر على بال العبد من عظيم مزاياها وجميل ثمارها فهي في الحقيقة فوق ذلك، وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} ، فمن ثمرات التوحيد الأمن والاهتداء وقد بشر الله المؤمنين بذلك إذ يقول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} والأمن المشار إليه من الآية الكريمة يشمل في الحقيقة أمن الدنيا وأمن الآخرة إذ أن من أخلص دينه لله يفيض الله تبارك وتعالى عليه نعمة الرضى بقضائه ويطمئن قلبه عند نزول الحوادث ويثبت فؤاده عند حلول الكوارث فلا تزلزله زلازل المرجفين على حد قوله تبارك وتعالى في وصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ، إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .(6/461)
ومن أنواع الأمن الذي يمتع الله به أهل التوحيد أن يطمئن قلوبهم عند الموت على أولادهم وأحبابهم فلا يجزعهم فراق الأحبة بل تتنزل عليهم الملائكة عند الموت يبشرونهم بلقاء الله ونعيم الجنان ويطمئنونهم على ما خلفوا وراءهم وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} .
ومن أنواع الأمن الذي يمنحه الله تبارك وتعالى أهل التوحيد أن يطمئن قلوبهم عند الفزع الأكبر يوم القيامة وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى متهدداً المشركين: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ، لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ، إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ، لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ، لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} .(6/462)
أما الأمن في الدنيا من عقوبة الله في الآخرة فليس من سيما أهل الإيمان بل هو من أبرز علامات أهل الكفر الذين أمنوا مكر الله بأعدائه وعقوبته لمن خالف أمره إذ أن الكفار لا يخشون عذاب الله ولا يخافون من عقوبته ولذلك يستعجلون الساعة استهزاء بها وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى واصفا حالهم: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} وقال: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} ، ثم قال: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} .(6/463)
أما أهل الإيمان فإنهم يخافون مقامهم بين يدي الجبار ولذلك يمتنعون عن معاصيه ويبتعدون عن أسباب غضبه، وقد اقتضت حكمة الله تبارك وتعالى أن من أمن عقوبة الله وهو في دار الدنيا أخافه الله في الآخرة ومن خاف عقوبة الله في دار الدنيا آمنه الله في الآخرة وأورثه الجنة دار النعيم المقيم فلا يجتمع على العبد خوفان ولا يجتمع له أمنان وإلى ذلك يشير الله تبارك وتعالى إذ يقول: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} . كما قال تبارك وتعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} وكما قال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} . وكما قال: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} ، ولذلك أثر عن الصديق رضي الله عنه أنه قال: لا آمن مكر ربي ولو كانت إحدى رجلي في الجنة.
ومن ثمرات التوحيد الهداية والتوفيق وسلوك صراط الله المستقيم فكما بشر الله تبارك وتعالى أهل التوحيد بالأمن بشرهم كذلك بأنهم مهتدون وهذا الاهتداء يشمل تسديد الله لهم وحمايتهم من كيد الشيطان فلا يتسلط عليهم ولا يتمكن من إغوائهم بل يريهم الله تبارك وتعالى الحق حقا ويرزقهم اتباعه، ويريهم الباطل باطلا ويرزقهم اجتنابه، وهذه نعمة عظيمة ومنة جسيمة فالسعيد من هداه الله للخير ووفقه إليه وحمله عليه والشقي من خذله الله فلم يعينه ولم يسدده فتراه يتخبط في سلوكه يرى الباطل حقا ويرى الحق باطلا.
حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن يقضي على المرء في أيام محنته
ومن حرم التوفيق ضل عن سواء الطريق:(6/464)
تأتي له من كل شيء مراده إذا كان عون الله للعبد مسعفا
فأول ما يقضي عليه اجتهاده وإن لم يكن عون من الله للفتى
ومن ثمرات التوحيد مغفرة الخطايا وتكفير السيئات فقد وعد الله تبارك وتعالى أهل التوحيد الخالص بحط خطاياهم ومغفرة ذنوبهم والتجاوز عن سيئاتهم وأنهم لو جاؤوه يوم القيامة بملء الأرض من الخطايا وقد لقوه من غير شرك وماتوا على التوحيد فإنه تبارك وتعالى يقابلهم بالمغفرة الواسعة والرحمة الشاملة فقد روى الترمذي بسند حسن من طريق أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ورضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى:"يا ابن آدم: إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم: لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم: لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة"، وفي رواية مسلم من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه في الحديث القدسي: "ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بقرابها مغفرة".(6/465)
أخبار الجامعة
إعداد العلاقات العامة
* يغادرنا إلى جدة يوم السبت الموافق 19/10/92هـ فضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية الشيخ محمد بن ناصر العبودي، ومدير العلاقات العامة بالجامعة الأستاذ أحمد عبد الحميد عباس وذلك لحضور احتفالات جامعة الملك عبد العزيز بجدة..
* من المتوقع أن يقوم وفد مكون من بعض المدرسين في الجامعة الإسلامية، والمشرف الاجتماعي، والمشرف الرياضي، ونخبة من طلاب كلية الشريعة، وكلية الدعوة وأصول الدين، والمعهد الثانوي والمتوسط بزيارة لبعض المدارس، والجامعات في المملكة، وتعتبر تلك بمثابة رد للزيارة التي قام بها طلاب تلك الجامعات والكليات للجامعة في العالم الماضي.
* زار الجامعة الإسلامية سعادة الدكتور عبد الجليل حسن عميد كلية الدراسات الإسلامية في الجامعة الوطنية في ماليزيا وعضو رابطة العالم الإسلامي بمكة، وعضو المجلس التنفيذي لجمعية الجامعات الإسلامية، وقد اجتمع مع فضيلة الأمين العام للجامعة وقام بجولة على كليات الجامعة ومعاهدها، وقد أهديت له من الجامعة كتبا ونشرات.
* لقد تقرر أن تعقد الجلسة الأولى للمجلس التنفيذي لجمعية الجامعات الإسلامية يوم السبت 4 من ذي القعدة 1392هـ بمقر الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وقسم العلاقات العامة بالجامعة الإسلامية يستعد الآن ويضع الترتيبات اللازمة لهذا المجلس.
* زار الجامعة الإسلامية يوم أمس معالي الأستاذ عبد الرحمن السالم العتيقي. وزير المالية والنفط في دولة الكويت الشقيق وقد كان في كل استقباله فضيلة الأمين العام للجامعة الشيخ محمد العبودي في مكتبه ودار الحديث بينهما في الشئون الإسلامية العامة ثم قام الضيف بزيارة المكتبة العامة وبعض المنشآت في الجامعة, وقبيل مغادرته الجامعة قدمت له بعض الكتب هدية من الجامعة.(6/466)
* من بداية شهر رمضان المبارك وصلت 17 بعثة باشر طلابها الدراسة في كافة المراحل بالجامعة وتمثل هذه البعثات البلدان التالية:
غيانا. تونس. الهند. يوغسلافيا. أوغندا. الكمرون. نيجيريا. أثيوبيا. السودان. سوريا. الأردن. لبنان. كينيا. السنغال. فولتا العليا. النيجر. تشاد. ولا تزال البعثات تصل تباعا.
* تلفت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة أن معالي وزير التربية والتعليم في الجمهورية العربية اليمنية كتب بأن الشهادات الصادرة من جامعات ومدراس المملكة معترف بها من قبل وزارة التربية بالجمهورية العربية اليمنية وعلى رأسها الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ومما تجدر إليه الإشارة أنه قد تخرج حتى الآن من كليات الجامعة الإسلامية المختلفة أكثر من 60 جامعيا يمنيا عادوا إلى اليمن ليساهموا في رفع مستوى بلادهم الثقافي. ولا يزال أكثر من 130 طالبا يمانيا يواصلون تعليمهم في الجامعة الإسلامية.
* زار الجامعة يوم أمس فضيلة الأستاذ أحمد صالح محايري مندوب دار الافتاء في سيراليون. وقد اجتمع مع فضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية الشيخ محمد بن ناصر العبودي. ويذكر أن الشيخ المحايري أحد خريجي الجامعة الإسلامية وقد تم نقله أخيرا إلى البرازيل بعد أن كان يعمل في الدعوة في سيراليون ونال الميدالية الذهبية للأخوة الإسلامية من رئيس جمهورية سيراليون على جهوده في الإرشاد والدعوة الإسلامية..
والغرض من اجتماعه بأمين عام الجامعة الاستفسار عن الجمعيات الإسلامية في البرازيل وعن كيفية العمل الإسلامي هناك حيث أن فضيلة الأمين العام سبق أن مثل المملكة العربية السعودية في المؤتمر الإسلامي الذي عقد في البرازيل. نسأل الله له مزيدا من التوفيق والسداد.(6/467)
* وصل إلى المدينة المنورة سماحة رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن باز قادما من الرياض، يرافقه مدير الامتحانات بالجامعة، وأمين المكتبة العامة، ومن المقرر أن يغادر سماحته المدينة إلى مكة المكرمة لحضور اجتماعات الرابطة يوم الجمعة 11 شوال.
* استأنفت الدراسة في كافة المراحل التعليمية في الجامعة الإسلامية يوم الثلاثاء الموافق 8/10/1392هـ، وقد وصل معظم الطلاب الذين قضوا العيد بين أهلهم وذويهم خارج المملكة مع بداية الدراسة.
* قام بزيارة الجامعة الإسلامية كل من:
الدكتور توفيق محمد الشاوي المستشار القانوني بوزارة البترول والثروة المعدنية، والأستاذ غازي توفيق مساعد مدير إدارة الميزانية بوزارة المالية وقد اجتمعا بفضيلة الأمين العام للجامعة، واطلعا على منشئات الجامعة، وأقسامها.
سبق أن أمر سماحة رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن باز بإقامة حفل غداء في يومي عيد الفطر، وعيد الأضحى للطلاب المبتعثين والمقيمين في الجامعة وقد أسند إلى المشرفين.. الاجتماعي والرياضي.. القيام بهذه الرحلة والإعداد لها والهدف من هذه الرحلة وفي مثل هذه الأيام.. اجتماع الطلاب ليتم لهم الفرح والسرور بدلا من أن ينزوي كل منهم في حجرته الخاصة.. لأن هذا يورث الكثير منهم عدم الطمأنينة في يوم يعتبر سرور للمسلمين.
وقد أعلن في يوم 28 رمضان عن هذه الرحلة وطلب من الذين يرغبون الاشتراك المبادرة إلى مكتب الإشراف لتسجيل أسمائهم. وقد أعدت السيارات والأدوات وتمت الرحلة صباح يوم العيد 1/10/92 إلى أحد البساتين في ضاحية من ضواحي المدينة. وقد وزع الطلاب على مجموعات كل مجموعة مسئولة عن الشيء المكلفة به.
وقد نظمت المسابقات.. وكذلك السباحة.. والمساجلات.. والكلمات.. وكان اليوم سعيدا قضى فيه الطلاب وقتا ممتعا.
وقد عاد الجميع إلى مقر الجامعة قبيل المغرب.(6/468)
* قام يوم أمس الأول بزيارة الجامعة الإسلامية سعادة قمر الزمان شاه مبعوث الرئيس الباكستاني ذو الفقار علي بهوتو لدول أمريكا وكندا، وقد اجتمع سعادته مع سماحة رئيس الجامعة والأمين العام بها، وقد تجول في كافة أقسام الجامعة يرافقه مدير العلاقات العامة، وفي ختام الزيارة قدمت له الجامعة بعض الكتب هدية لسعادته.
* كما قام يوم أمس سعادة سفير ماليزيا في جدة السيد ثان سرى وأتو شيخ أحمد بن محمد هاشم بزيارة للجامعة الإسلامية للتباحث مع المسئولين فيها حول زيادة المنح المخصصة لماليزيا وأخذ تقرير عن سير الطلبة الماليزيين بالجامعة.
* وقد اجتمع سعادته بفضيلة الأمس العام للجامعة الشيخ محمد بن ناصر العبودي وقد دام الاجتماع حوالي الساعة، وبعد ذلك اجتمع سعادته بطلاب ماليزيا الذين يتلقون تعليمهم في كافة المراحل بالجامعة، ثم زار كلية الشريعة والمكتبة العامة يصحبه مدير العلاقات العامة الأستاذ أحمد عبد الحميد عباس، وقد لوحظ من خلال مناقشة حرصه الشديد على إرسال العديد من الطلبة، وحثهم على المواصلة، والاستمرار ليعودوا إلى بلادهم في أسرع فرصة، وقدمت الجامعة له كتبا باللغة الإنجليزية كصحيح البخاري وترجمة معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية.
* وقد رافق الضيف سكرتير بالسفار الماليزية في جدة ومترجم، وقد نزل الجميع ضيوفا على الجامعة الإسلامية، والجامعة إذ تشكر سعادته على حرصه واهتمامه بأمور الطلاب تسأل الله أن يأخذ بأيدي الجميع لما فيه صالح الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.(6/469)
يستفتونك
يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
السؤال رقم (1) من الأخ م. ع.ع هل لعصبة القتيل أن يحلفوا يمين القسامة.
والجواب: الأرجح هو تحليف العصبة المكلفين ولو كانوا غير وارثين كما هو ظاهر حديث القسامة، وهو مذهب جماعة من أهل العلم وهو إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله اختارها جمع من أصحابه منهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ودليل هذا القول ظاهر كما لا يخفى، ويؤيد ذلك أن هذا القول أردع للمجرمين وأشفى لقلوب أولياء القتيل وأبرأ للذمة وأحوط في الدين.
السؤال رقم (2) من الأخ ع. ح.ج
كنت أقود سيارة فصادفت في طريقي سيارة سائرة في الطريق المعد لسيري فنبهت قائدها بالمنبه وبالنور فلم ينتبه واتضح لي أنه نائم فاضطررت إلى الخروج عن الطريق عن الطريق فانقلبت سيارتي وتوفي عليَ إثر ذلك والدي وابنة عمي هل تجب على الكفارة.
والجواب: الذي يظهر لي من الشرع المطهر عدم وجوب الكفارة عليك إذا كان الذي حملك على الخروج من الطريق هو قصد إنقاذ نفسك وإنقاذ الركاب من خطر السيارة المقبلة الذي هو أكبر من خطر الخروج، إما إرثك من والدك فذلك راجع إلى المحكمة إن نازعك الورثة.
السؤال رقم (3) من الأخ م. ح.:
نرجو الإفادة عن رجل أرضعته جدته أم أبيه بعد انقطاع الحمل والولادة عنها بثمان سنوات فدرت عليه وهل يعتبر الرضاع المذكور وهل تحرم عليه به بنات عمته أخت أبيه لأب التي هي من امرأة غير جدته المذكورة.(6/470)
والجواب: إذا كانت درت عليه لبنا وكان الرضاع المذكور شرعيا وهو خمس رضعات حال كون الرضيع في الحولين وصفة الرضعة الواحدة هي أن يمسك الرضيع الثدي ويمتص اللبن ثم يتركه فإذا عاد وأمسكه ثانية وامتص البن وتركه صارت رضعة ثانية وهكذا حتى يكمل الخمس فإن الرجل المذكور قد صار أخا لأولاد جدته المذكورة من جده وغيره من أزواجها وأخا لأولاد جده من جدته المذكورة وغيرها من زوجاته وبذلك فإنه لا يحل له الزواج ببنات عمته المذكورة لأنه صار بهذا الرضاع خالا لهن من الرضاعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب".
السؤال رقم (4) من الأخ ز. م.ش.:
نسأل عن شخصين اشتريا أرضا وعمراها من مدة عشرين سنة وبعد أن هدما بيوتهما رأى أحدهما أن الآخر عنده زيادة مترين وطالبه بحقه من الزيادة.
والجواب: مثل هذه الدعوى لا تسمع لمضي هذا الوقت الطويل عليها الدال على رضاهما بالقسمة ولأن الأرض تختلف في الرغبة والرهبة فقد تكون التي زيد فيها أقل رغبة من الأخرى وبكل حال فهذه الدعوى لا وجه لها ولا ينبغي النظر فيها فيما أعلم من قواعد الشرع المطهر.
السؤال رقم (5) من الأخ ع. م.س:
أفيدكم أن لي ابنة عمة تبلغ من العمر أربعين عاما وأنها مصابة بمرض الربو مع ضيق في التنفس ونزيف أيضا من العادة، وأنها إذا صامت تكلفت كثيرا حتى تشرف على الموت من شدة الألم وأنها لو أفطرت في رمضان لا تستطيع القضاء لملازمة المرض لها نطلب الفتوى.
والجواب: إذا كان الواقع ما ذكرتم فلا بأس من إفطارها وعليها إطعام مسكين عن كل يوم ولا قضاء عليها إذا قرر الأطباء أن هذا المرض لا يرجى برؤه أما إن كان يرجى شفاؤه فلا بأس بإفطارها وليس عليها إطعام ومتى شفاها الله قضت ما عليها.
السؤال رقم (6) من الأخ س. ع:(6/471)
ما هو القول الراجح فيما يتعلق بالأغصان والعروق التي تمتد من ملك شخص إلى ملك جاره وما يترتب على ذلك من الضرر، وما هي درجة الحديث الذي ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قلع نخلة الشخص الذي أبى أن يقبل المعاوضة لما كان فيها ضرر على أخيه صاحب البستان.
والجواب: قد تأملت المسألة المذكورة ورأيت صاحب الإنصاف ذكر فيها وجهين وذكر غيره قولين في المسألة أحدهما أن المالك لا يجبر على إزالتها والثاني يجبر فإن امتنع ضمن ما ترتب عليها من الضرر فاتضح لي أن القول الثاني أرجح من وجوه.
الأول: أن ذلك هو مقتضى الأدلة الشرعية مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" وما جاء في معناه، الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره" ولا شك أن العروق والأغصان المضرة بالجار داخلة في الأذى المنهي عنه فالواجب منع الجار من ذلك. الثالث: أن عدم الإجبار يفضي إلى استمرار النزاع والخصومة وربما أفضى إلى ما هو أشد من ذلك من المضاربة وما هو أشد منها، فالواجب حسم ذلك والقضاء عليه وقد دلت الأدلة الشرعية التي يتعذر أو يتعسر إحصاؤها على وجوب سد الذرائع المفضية إلى الفساد والنزاع والخصومة أو ما هو أشد من ذلك.
أما حديث صاحب النخلة فقد خرجه أبو داود من حديث محمد بن علي بن الحسين عن سمرة بن جندب وفي إسناده نظر لأن محمد بن علي لا يعلم سماعه من سمرة بل الظاهر أنه لم يسمع منه كما نبه على ذلك الحافظ المنذري في مختصر السنن لكن ذكر الحافظ بن رجب في شرح الأربعين في الكلام على الحديث الثاني والثلاثين شواهد لهذا الحديث وهي كلها مع الحديث الذي ذكرنا في الوجه الأول تدل على ترجيح القول الذي ذكرنا وهو إلزام المالك بإزالة ما حصل به الضرر من عروق أو أغصان فإن لم يزل الضرر إلا بقلع الشجرة قلعت جبرا عليه حسما لمادة الضرر والنزاع ورعاية لحق الجوار.(6/472)
السؤال رقم (7) من الأخ ع. ح.ع
هناك مزرعة موقوفة على تفطير الصوام في أحد المساجد ولا يخفى أن الناس في هذا العصر ليسوا في حاجة إلى ذلك فما هي الجهة التي يمكن أن تصرف غلة الوقف المذكور عليها.
والجواب: إذا كان الواقع هو ما ذكرتم فالواجب صرف غلة الوقف في فقراء البلد لأن مقصود الواقف نفع الفقراء ومواساتهم في أيام رمضان المبارك فإذا لم يوجدوا في المسجد وجب صرفها لهم في بيوتهم في شهر رمضان ليستعينوا بذلك على الصيام والقيام وليحصل النفع للواقف بأجراء الصدقة المذكورة لمستحقيها والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/473)
من أعلام المحدثين
أبو خيثمة زهير بن حرب
للشيخ عبد المحسن العباد المدرس في كلية الشريعة بالجامعة
نسبه:
هو زهير بن حرب بن شداد هكذا نسبه الخطيب في تاريخه وابن حجر في تهذيب التهذيب وتقريبه والخزرجي في الخلاصة وابن القيسراني في الجمع بين رجال الصحيحين، وقال الخطيب في تاريخه: كان جده أشتال فعرب وجعل شدادا.
كنيته:
يكنى أبا خيثمة بفتح المعجمة وإسكان المثناة تحت وبعدها مثلثة هكذا ضبط كنيته النووي في شرحه أول حديث في صحيح مسلم ويوافقه في هذه الكنية، وفي الاسم أيضا أبو خيثمة زهير بن معاوية الكوفي من رجال الكتب الستة إلا أنه قلبه في الطبقة فولادته سنة مائة ووفاته سنة أربع وسبعين مائه.
نسبته:
يقال له النسائي نسبة إلى نسا مدينة بخراسان. قال البخاري في التاريخ الكبير: أصله من نسامات ببغداد. وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: النسائي نزيل بغداد: ويقال له الحرشي بفتح المهملين بعدهما معجمة هكذا نسبه وضبط نسبتة الخزرجي في الخلاصة وعقبها بقوله: مولاهم، ونسبه هذه النسبة الحافظ في تهذيب التهذيب وقال مولى بن الحريش بن كعب، ونسبه ابن القيسراني في الجمع بين رجال الصحيحين. فقال الشامي: ولم أر هذه النسبة في غيره والظاهر أنه خطأ.
ممن روى عنهم:
روى أبو خيثمة عن كثير من الأئمة فروى عن جرير بن عبد الحميد ويعقوب بن إبراهيم بن سعد ومحمد ابن فضيل ووكيع وسفيان بن عيينة وإسماعيل بن علية ويزيد بن هارون وعمرو بن يونس ويحي بن سعيد القطان وأبي الوليد الطيالسي وعفان بن مسلم وعبد الله بن نمير وروح بن عبادة وأبي معاوية وعبد الله بم إدريس وهشيم بن بشير ومعن ابن عيسى وزيد بن الحباب وعبد الرزاق وغيرهم.
ممن رووا عنه:(6/474)
روى عنه البخاري ومسلم في صحيحيهما وأبو داود وابن ماجه في سننهما وابنه أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان وبقي بن مخلد وإبراهيم الحربي وموسى بن هارون وابن أبي الدنيا ويعقوب بن شيبة وأبو يعلى الموصلي وعباس الدوري وغيرهم.
من خرج حديثه:
خرج حديثه البخاري ومسلم في صحيحيهما وأبو داود وابن ماجه في سننهما كل منهم روى عنه مباشرة وخرج حديثه النسائي في سننه بواسطة أحمد بن علي بن سعيد المروزي وقد أكثر الإمام مسلم من رواية حديثه في صحيحه إذ بلغ عدد ما رواه عنه فيه ألفا ومائتين وواحدا وثمانين حديثا كما نقل ذلك الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب وقال في التقريب: روى عنه مسلم أكثر من ألف حديث انتهى وقد افتتح مسلم صحيحه بالرواية عنه إذ روى عنه أول حديث في كتاب الإيمان من صحيحه وهو أول كتب الصحيح.
ثناء الأئمة عليه:(6/475)
اتفق الأئمة على توثيقه والثناء عليه ولم يذكروه إلا بخير قال فيه ابن معين: ثقة، وقال أيضا: يكفي قبيلة، وقال أبو حاتم الرازي: صدوق، وقال يعقوب بن شيبة: هو أثبت من أبي بكر بن أبي شيبة، وقال الفريابي: سألت ابن نمير عن أبي خيثمة وأبي بكر بن أبي شيبة أيهما أحب إليك أبو خيثمة أو أبو بكر فقال: أبو خيثمة وجعل يطربه، وقال الآجري: قلت لأبي داود: كان أبو خيثمة حجة في الرجال؟ قال: ما كان أحسن حديثه، وقال الحسين بن فهم: ثقة ثبت، وقال أبو بكر الخطيب في تاريخه: كان ثقة ثبتاً، وقال ابن وضاح: ثقة من البغوي: كتبت عنه، وقال ابن قانع: كان ثقة ثبتاً، وقال ابن وضاح: ثقة من الثقات لقيته ببغداد، وقال الذهبي في العبر: الإمام الحافظ رحل وكتب الكثير عن هشيم وطبقته وصنف وقال في تذكرة الحفاظ: الحافظ الكبير محدث بغداد، وقال الحافظ في التقريب: ثقة ثبت، وقال ابن القيسراني في الجمع بين رجال الصحيحين: كان متقنا ضابطا، ً وقال ابن ناصر الدين كما في شذرات الذهب لابن العماد: ثقة، وقال ابن حبان في الثقات: كان متقنا ضابطا من أقران أحمد ويحي بن معين.
آثاره:
قال الذهبي في العبر: رحل وكتب الكثير وصنف وقال في أول كتابه الميزان وقد ألف الحفاظ مصنفات جمة في الجرح والتعديل ما بين اختصار وتطويل ثم ذكر أن أول من جمع كلامه في ذلك يحي ابن سعيد القطان وتكلم في ذلك بعده تلامذته وسمى فيهم أبا خيثمة، ومن مؤلفاته المسند ذكره الكتاني في الرسالة المستطرفة ص63 ومنها كتاب العلم ويوجد منه نسختان مخطوطتان في المكتبة الظاهرية بدمشق إحداهما في المجموع رقم 94 والثانية في المجموع رقم 120 وقد طبع في المطبعة العمومية بدمشق بتحقيق الشيخ ناصر الدين الألباني.
وفاته:(6/476)
توفي الإمام أبو خيثمة سنة أربع وثلاثين ومائتين أرخ وفاته في هذه السنة الإمام البخاري في التاريخ الكبير وابن القيسراني في الجمع بين رجال الصحيحين والذهبي في التذكرة وفي العبر والخطيب في تاريخه نقله عن ابنه أبي بكر وعن مطين وعبيد ابن محمد خلف البزار، والحافظ في تقريب التهذيب، وابن كثير في البداية والنهاية، وابن العماد في شذرات، الذهب واتفقت الأقوال على أنه مات في هذه السنة إلا قولا ذكره الخطيب في تاريخه عن أبي غالب علي بن أحمد بن النصر وقال الخطيب: هذا وهم، وكانت وفاته في بغداد ذكره البخاري في التاريخ الكبير والذهبي في العبر، وقد ذكر البخاري في التاريخ وابن القيسراني في الجمع بين رجال الصحيحين أن وفاته في شهر ربيع الآخر، ونقل الخطيب عن أبيه أبي بكر أنه قال: ولد أبي زهير بن حرب سنة ستين ومائة، ومات ليلة الخميس لسبع ليال خلون من شعبان سنة أربع وثلاثين ومائتين في خلافة جعفر المتوكل وهو ابن أربع وسبعين سنة وكذا ذكر الذهبي في العبر أن وفاته في شعبان وأظهر القولين في تعيين الشهر الذي مات فيه ما قاله ابنه لكونه أخص به وأدرى من غيره في ذلك، وقد ذكر مدة عمره وأنها أربع وسبعون سنة سوى ابنه ابن القيسراني في الجمع بين رجال الصحيحين والذهبي في التذكرة وفي العبر والحافظ ابن حجر في التقريب.
ممن ترجم له:
1- الذهبي في العبر 1/416، وتذكرة الحفاظ 2/34.
2- وابن حجر في تهذيب التهذيب 3/342، والتقريب 1/264.
3- والخزرجي في الخلاصة 104.
4- والخطيب في تاريخ بغداد 8/482.
5- وابن القيسراني في الجمع بين رجال الصحيحين 153.
6- والبخاري في التاريخ الكبير 1/2-392.
7- وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 2/1-591.
8- وابن العماد في شذرات الذهب 2/80.
سل ابنك..(6/477)
جاء رجل إلى الأعمش فقال: يا أبا محمد هذا ابني، إن من علمه القرآن، إن من علمه بالفرائض، إن من علمه بالشعر.. إن من علمه بالنحو، إن من علمه بالفقه.. والأعمش ساكت.. ثم سأل الأعمش عن شيء، فقال سل ابنك.(6/478)
أتوعِد سنات الرسول بمَحوها
شعر الدكتور محمد تقي الدين الهلالي
المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
وقلت في أحد الرؤساء من أهل المغرب كان يحارب توحيد الله واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وغره منصبه فأخذ يبعث الجواسيس ليحضروا دروسي وجمعني معه مجلس فأراد أن يوبخني ويهددني فأغلظت له القول ولم أعبأ بتهديده فكاد لي ولجماعتي السلفيين الذين معي كيدا عظيما فرد الله كيده في نحره كما جاء في القصيدة. وكم حاول أعداء السنة إطفاء نور الله تعالى فأحبط الله أعمالهم وتفضل بالنصر على أنصار توحيد الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فله الحمد والشكر ونسأله أن يجعلنا منهم ويحيينا ويميتنا على الحنفية ملة إبراهيم والحمد لله رب العالمين.
وبرح بي شوق إلى ربة الخدر
لقد طال ليلي والجوى مالئ صدري
وليلي تسهاد إلى مطلع الفجر
أقضي نهاري دائم الفكر والأسى
ومهما أبح فالحب أفقدني صبري
وأكتم أسراري حذار من العدى
تذكرها قلبي يطير من الصدر
تذكرت أيام الوصال فكاد من
ومن فرط آلام الصبابة والهجر
فيا ويح قلبي ما يلاقي من الهوى
نعاب غراب للفؤاد عذابيري
وعاذلة جاءت بلوم كأنه
فكفى عن الإسفاف والمنطق الهجر
ولست بسال لو أطلت ملامتي
وأنفقت في حبي لها زهرة العمر
وكيف سلوى بعد ما شاب مفرقي
عديما من الجدوى فبالحب قد يغرى
ألم تعلمي أن الملام وأن غدا
على قدمي طورا وطورا على مهر
وطفت بلاد الله شرقاً ومغرباً
على جائبات الجو كالنجم إذ يسرى
وأنضيت بعرانا وحلقت في السما
ثبير يروع الحوت في لجة البحر
وطورا على فلك عظيم كأنه
وإن كنت في أهل كثير ذوي وفر
حليف اغتراب في ثواء ورحلة
ولكنه) في الدين والخلق والبر(6/479)
(وما غربة الإنسان من شقة النوى
وطغيان أهل الكفر والفسق والغدر
إلى الله أشكو غربة الدين والهدى
يحرق أنيابا من الغيظ والكبر
وأرعن غمر جاء يرعد مبرقا
وعيدك تطنان الذباب على النهر
فقلت له شؤشؤ لك الويل إنما
ومهما دنت تردى وتهوى إلى القعر
وليس يضير النهر صوت ذبابة
تعرضت للتدمير ويلك والثبر
أتوعد سنات الرسول بمحوها
يعذب في الدنيا وفي فتنة القبر
ومن يقل سنات الرسول فإنه
وما من جواب عنده غير لا أدري
ويسأله فيه نكير ومنكر
يحارب دين الله في السر والجهر
وذي سنة الجبار في كل من غدا
وموقع أهل البغي في دارة الخسر
ألم تدر أن الله ناصر دينه
بكيد فرد الله كيده في النحر
وكم قد سعى ساع لإطفاء نوره
وناصر هذي خاسر أبد الدهر
وتنصر إشراكا وفسقا وبدعة
ومن يلعن المختار فهو إلى شر
دعا المصطفى قدما عليه بلعنة
كذلك أهل الارض في السهل والوعر
وتلعنه الأملاك من فوق سبعة
وأنت يمين الله أجهل من حمر
تحدد للوعاظ ما يدرسونه
كلاها) وحتى سامها كل ذي عسر
(لقد هزلت حتى بدا من هزالها
لتلفيق أخبار من المين والمكر
تدس جواسيسا لئاما بوعظهم
وفي الكيد والبهتان والختل والختر
لقد فقت الاستعمار في اللؤم والخنا
وتلك لعمرو الله قاصمة الظهر
حارب من يدعو لسنة أحمد
مدورة جوفا حذار من الكسر
فيا ناطح الطود المتين بهامة
وحافر بئر الغدر يسقط في البئر
وليس يحيق المكر إلا بأهله
على نفسه قد جر في ذلك الحفر
وكم حافر لحدا ليدفن غيره
وسادن قبرياء بالخزي والخسر
وكم مشرك طاغ تردى بشركه
أصيب بذاك السهم في ثغرة النحر
وكم رائش سهما ليصطاد غيره
حقير كفأر صال في غيبة الهر(6/480)
هل أنت يا مغرور إلا معبد
من النسر والثعبان والباز والصقر
وقبرة أضحى لها الجو خاليا
ويسقيك كأس الحتف كالصاب والصبر
فلا تفرحن يوما سيأتيك صائد
وإن كنت تدري) زدت وزرا على وزر
(فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة
ضعيف ولم يغلبك) كالساقط القدر
(وإن أنت لم يفخر عليك كفاخر
كأن أباها) من لؤي ومن فهر
(فيا عجبا حتى كليب تسبني
عدمتك إهمالا وذا ديدن الغمر
أتغتر بالإمهال تحسب أنه
أتت عن نبي الله ذي الفتح والنصر
وما نحن إلا خادمون لسنة
كخادمها من بعد ما صار في القبر
وخادم سنات الرسول حياته
وأنواره تبقى إلى الحشر والنشر
وما غاب إلا شخصه عن عيوننا
بخزي على خزي وقهر على قهر
فيا مبغضي هدى النبي ألا أبشروا
أبو جهل المقصوم في ملتقى بدر
سلكتم سبيلا قد قفاها إمامكم
كما لزم الإحراق للقابض الجمر
وعاقبة المتبوع حتم لتابع
فكم كذبت من قبلكم أمم الكفر
فإن أنتم كذبتم بوعيده
فصاروا أحاديث المقيمين والسفر
فصب عليهم ربهم سوط نقمة
عليهم) إليك الأمر في العسر واليسر
(فيارب هل إلا بك النصر يرتجى
وكادوا لها فاجعل لهم كيدهم يفري
قلوا سنة المختار يبغون محوها
قليل وقد يعلو القليل على الكثر
هم استضعفونا اليوم من أجل أننا
وأعداؤه للبغي من جهلها تجري
ولا سيما أن كاد لله قائما
لمن يقتدي بالمصطفى من ذوي الحجر
وإدراك إحدى الحسنين محقق
وخاذل أنصار النبي بذا العصر
ومن ظن أن الله مخلف وعده
عريض القفا بين الورى مظلم الفكر
فذاك غليظ الطبع أرعن جاهل
حياتهم هذى وفي موقف الحشر
تكفل بالنصر العلي لحزبه
ولكنه يخفى على الفدم والغمر(6/481)
ففي غافر قد جاء ذلك واضحا
فهم أولياء الله في كل ما دهر
سلام على أنصار سنة أحمد
فرؤيتهم تشقى السقيم من الضر
إليهم أجوب البر والبحر قاصدا
عن الحق بالبرهان والبيض والسمر
هم حفظوا الدين الحنيف وناضلوا
بفعل وأقوال تلألأ كالدر
هم خلفوا المختار في نشر سنة
من الشرك والإلحاد والزيغ والمكر
هم جردوا التوحيد من كل نزعة
ولم يعبدوا قبرا بذبح ولا نذر
فلا قبة تبنى على قبر ميت
فذلك فعل المشركين ذوي الكفر
ولا بطواف أو بتقبيل تربة
مساجد خصت بالفضائل والأجر
ولا رحلوا يوما لغير ثلاثة
بغير إله الناس ذي الخلق والأمر
ولم يستغيثوا في الشدائد كلها
بنص كتاب الله والسنن الزهر
ولم يصفوا الرحمن إلا بما أتى
كما فعل المختار مع صحبة الغر
يقرون آيات الصفات جميعها
به فهم الفرسان في النظم والنشر
فلو كان في التأويل خير لبادروا
إذا ما) اجتمعنا في المجالس للفخر
(أولئك آبائي فجئني بمثلهم
فلم يبق من زيد لزيد ولا عمرو
وقد أكمل الرحمن من قبل دينه
وإتمام أنعام يجل عن الحصر
بمائدة قد جاء بالنص ختمه
يبدل دين الله بالحدس والحذر
وكم زائد في الدين أصبح ناقصا
فأفتى بتقليد فياله من غر
ومن ظن تقليد الأئمة منجيا
أضاف له جرما تجدد بالعذر
كمنتحل عذرا ليغفر ذنبه
وطالبه خلو من العلم والخير
ألا إنما التقليد جهل وظلمة
جرى خلف آل لاج في مهمة قفر
كطالب ورد بعدما شفه الظما
فإياك والتقليد فهو الذي يزري
فإن قمت بالإفتاء أو كنت قاضيا
عن الحدس والتخمين والسخف والهتر
وجرد سيوفا من براهين قد سمت
رياض حوت ما تشتهيه من الزهر
وطرفك سرح بالكتاب فإنه(6/482)
فأنواره تسمو على الشمس والبدر
ومن بعده فاعلق بسنة أحمد
كما حلت الميتات أكلا لمضطر
ولا تحكمن بالرأي إلا ضرورة
أقيم فبادر للرجوع على الفور
ومهما بدا أن القضاء على خطا
كهشوا غدت في كافر حالك تسري
ومن يقض بالتقليد فهو على شفا
وفي النحل نص جاء في غاية الزجر
ومن يفت بالتقليد فهو قد افترى
وأما نصوص الوحي فهي التي تبري
لعمرك ما التقليد للجهل شافيا
صلاة تدوم الدهر طيبة النشر
وصل وسلم يا إله على النبي
مهفهفة غيدا عروسا من الشعر
فدونكما بكرا عروبا خريدة
وليس لها إلا القراءة من مهر يضئ ظلام الليل نور جمالها
وناصرها لا شك يظفر بالنصر
قصدت بها نصرا لسنة أحمد
وأختمها بالحمد لله والشكر
وعدتها تسعون من بعد خمسة(6/483)
الحكم بقطع يد السارق في الشريعة الإسلامية
بقلم الدكتور: أحمد عبيد الكبيسي
مدرس الشريعة الإسلامية بجامعة بغداد
السرقة: من الجرائم التي توافرت النصوص من الكتاب والسنة على تجريم فعلها وتحديد العقوبة عليها تحديدا دقيقا، ليس لأحد الحق – إذا ما ثبت موجبها – أن يزيد فيها أو ينقص منها، أو يستبدل بها غيرها. ولهذه المعاني قال الفقهاء في تعريف الحد: عقوبة مقدرة حقا لله تعالى. [1]
حكمة تحديد عقوبة السرقة:
اتجهت الشريعة الإسلامية – في هذه الجريمة – إلى حماية الجماعة، وأهملت شأن المجرم. فشددت العقوبة عليه وجعلتها مقدرة محددة، من أجل القضاء على ما يتهدد الناس في أموالهم وما يتبع ذلك من إذلال وإرغام، فأحكم الشارع الحكيم وجوه الزجر الرادعة عن هذه الجناية غاية الأحكام وشرعها على أكمل الوجوه، المتضمنة لمصلحة الردع والزجر، مع عدم مجاوزة ما يستحقه الجاني من العقاب. فلا بد أن يكون العقاب مكافئا للجريمة، ولا يتسنى تقدير ذلك إلا لله العليم الخبير.(6/484)
ولو ترك تقدير العقوبة على السرقة إلى اجتهاد مجتهد، أو نظر حاكم، أو رأي جماعة، لأدى ذلك إلى تناقض لا تؤمن عاقبته، ولا يضمن معه تحقيق العدالة التي يجد الناس فيها أمانا من الظلم والقهر. فكان من رحمة الله – سبحانه وتعالى – أن تكفل هو بتقدير العقوبات على الخطير من الجرائم. وترك للناس تقدير غيرها من العقوبات: مما لا يترتب على تقديرها منهم أذى أو فساد. وفي هذا المعنى يقول ابن القيم [2] : " فلما تفاوتت مراتب الجنايات، ولم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات، وكان من المعلوم أن الناس لو وكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنسا ووصفا وقدرا لذهبت بهم الآراء كل مذهب، وتشعبت بهم الطرق كل مشعب، ولعظم الاختلاف واشتد الخطب. فكفاهم أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين مؤونة ذلك، وأزال عنهم كلفته، وتولى بحكمته وعلمه وقدرته ورحمته تقديره نوعا وقدرا. ورتب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة، وما يليق بها من النكال ".
حكمة الشدة في عقوبة السرقة:
من الواضح أن الشارع الحكيم لا حظ في عقوبة السرقة أن تكون شديدة قاسية [3] . إذ أن قطع يد السارق بربع دينار عقوبة شديدة تنخلع لها القلوب. وقد كان هذه الشدة مرتكزا للمغرضين – على مدى الأيام – في نيلهم من الشريعة الإسلامية. ومن حسنت نيته منهم: كان مرددا لأصداء ما يقال عنها، دون نظر سديد في موجبات هذه الشدة. والحكمة فيها واضحة جلية.(6/485)
فإنه لما كان الإسلام معنيا بتوفير الحياة الكريمة والعيش المطمئن لكل الناس. كان لا بد من حماية الفضيلة بالقضاء على الرذيلة والفساد، وكل ما من شأنه أن يدنس واجهة الجماعة التي أراد لها الإسلام: أن تكون نقية ناصعة. والغاية السليمة تبرر الوسيلة الحازمة ولو كانت شديدة قاسية. لأن القسوة ليست شرا في كل أحوالها. فإن من لا يراعي مصلحة الآخرين، ليس له أن يطمع في أن تراعى مصلحته ومن لا يرحم الناس لا يرحمه الشرع [4] . لأن في الرحمة بالجاني – حينئذ – قسوة على المجتمع. والعدل كل العدل في أن يعاقب من يستحق العذاب وليس أجدر بالعقاب، من ذلك النوع من المجرمين الذين تقتضي طبيعة جرائمهم أن تتم في الخفاء – كالسرقة – لما في خفائها من رهبة شديدة في نفوس الناس. وقد بين الله – سبحانه وتعالى – سببين للشدة، في عقوبة السرقة. فقال: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً} [5] .
معنى الجزاء
أما الجزاء فمعناه أن العقوبة مكافئة للجريمة مساوية لها، موافقة لآثارها: أي أن العقوبة: إنما هي على الجريمة بكل الآثار الناتجة عنها، والأضرار المترتبة عليها مما لا يقف عند حد أخذ المال المسروق. بل يتعدى ذلك إلى ما تحدثه السرقة من ترويع وإفزاع. وليس أدل على ذلك من حادثة سرقة واحدة، تقع في حي، أو قرية، نرى معها أي ذعر يعيش فيه الناس، لما أصبح معلوما: أن السارق لا يتورع عن اقتراف كل ما يخطر له في سبيل تحقيق مأربه. حتى أصبحت حوادث القتل لأجل السرقة من المألوف الشائع. فإن طبيعة السارق موسومة بالشراهة والنهم. وليس بين السارق وبين الناس إلا ما بين الذئب وفريسته. لا يهمه منها إلا نهشها من أي طرف.
فمن أجل هذه النتائج المفزعة، كانت الشدة في العقوبة. لأن الشارع بين أمرين: إما أن يردع الآثم، وإما أن يفزع الآمن، وليس من عدل الله ورحمته إلا ردع الآثم وزجره. بعقوبة تكافئ جرمه، نالها جزاء لذلك الجرم.(6/486)
ولهذا السبب لم تقطع يد الغاصب والمنتهب والخائن - مع أن هذه الجرائم وقعت على مال الغير، كالسرقة – إلا أنه ليس فيها من الإفزاع ما في السرقة. لأنها تقع في العلن. وليس فيه من الرهبة والإذلال مثل ما في الخفاء. وفي ذلك يقول المازري [6] :
"صان الله الأموال. بإيجاب قطع سارقها. وخص السرقة. لقلة ما عداها بالنسبة إليها من الانتهاب والغضب. ولسهولة إقامة البينة على ما عدا السرقة، بخلافها. وشدد العقوبة فيها ليكون أبلغ في الزجر. ولم يجعل دية الجناية على العضو المقطوع منها بقدر ما يقطع به حماية لليد. ثم لما خانت هانت" [7] .
ومما يدل على أن الله – سبحانه وتعالى – رتب العقوبة على ما تشيعه السرقة من خوف واضطراب، وليس على ذات المال المسروق: أن قطع اليد يعاقب به السارق إذا سرق ربع دينار. والسارق إذا سرق ألف دينار. ولو كان القطع على ذات الفعل، لتفاوتت العقوبة في هذا وذاك. وكما يقول العز بن عبد السلام [8] : "إن السرقتين: استويتا في المفسدتين"وما ذلك إلا بأثرهما على الجماعة. وإلا فإنه لا وجه لتساويهما كما هو ظاهر.
معنى النكال
وأما النكال فهو منع الغير من ارتكاب السرقة اعتبارا بما وقع للسارق المقطوعة يده من شدة وحزم. وقد جاء في اللسان – في كلمة نكل – قوله [9] : "نكل بفلان: إذا صنع به صنيعا يحذر منه غيره إذا رآه"ومنه قوله تعالى [10] : {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} أي عبرة. ولا عبرة أعظم من قطع اليد الذي يفضح صاحبه طول حياته ويسمه بميسم العار والخزي. ولا شك أن هذه العقوبة أجدر بمنع السرقة، وأجدى لتأمين الناس على أموالهم وأرواحهم [11] .(6/487)
ولعل من أبسط نتائج هذا النكال: أن عقوبة السرقة – القطع – لم تطبق في خلال نحو قرنين من الزمن إلا في أيد أقل من القليل [12] .ولم يتحقق ذلك إلا بشدة العقاب. فكانت الشدة والقسوة سببا لصيانة الأيدي وطهارة النفوس وكلما أشتد العقاب، قوى المنع. وفي ذلك يقول ابن القيم [13] : "ومن المعلوم: أن عقوبة الجناة والمفسدين لا تتم إلا بمؤلم يردعهم. ويجعل الجاني نكالا وعظة لمن يريد أن يفعل مثل فعله. وعند هذا فلا بد من إفساد شيء منه بحسب جريمته".
ويقول ابن عبد السلام: "من أمثلة الأفعال المشتملة على المصالح والمفاسد مع رجحان مصالحها على مفاسدها قطع يد السارق فإنه إفساد لها، ولكنه زاجر حافظ لجميع الأموال فقدمت مصلحة حفظ الأموال على مفسدة قطع يد السارق" [14] .
ومن هنا شاع الفساد وعمت الفوضى، عندما شاء الله لهذه الشريعة أن تحتجب بعض الوقت لحكمة يعلمها. فخلفتها القوانين الوضعية التي تجمع في باب واحد بين السرقة وقطع الطريق، وتتساهل في كلتا الحالتين إلى حد اعتبار السرقات المعتادة من قبيل الجنح البسيطة. ففتحوا على المجتمع أبواب شرور لا تتناهى فأصبحت جرائم السرقة في مجتمع الوضعيين، من الجرائم المسلم بوقوعها على كثرة تنذر بالخطر المروع، حتى فر الناس خوفا وذعرا من سكنى الأطراف، ولم يأمنوا مع ذلك – وهم في قلب المدينة الكبيرة – أما القرى النائية، والطرق العمومية، والمرتفعات الجبلية، فلا تسأل عما يبتلى به الناس من تسليط عتاة المجرمين المتمردين. لأنهم تحاقروا العقوبة على أخطر جريمة.
حكمة العقاب بقطع اليد:
كانت عقوبة السارق: قطع يده، دون غيرها من العقوبات. لأجل المناسبة بين الجريمة والعقوبة. وكان الشارع الحكيم قصد بذلك إلى إتلاف آلة الجريمة.(6/488)
وكما يقول ابن القيم [15] : "أما القطع فجعله عقوبة السارق. فكانت عقوبة به أبلغ وأردع من عقوبة الجلد. ولم تبلغ جنايته حد العقوبة بالقتل. فكان أليق العقوبات به: إبانة العضو الذي جعله وسيلة إلى أذى الناس وأخذ أموالهم"ويقول: "ثم هو مستعد للهرب والخلاص بنفسه إذا أخذ الشيء. واليدان للإنسان كالجناحين للطائر في إعانته على الطيران"ولهذا يقال: "وصلت جناح فلان إذا رأيته يسير منفردا فانضممت إليه لتصحبه. فعوقب السارق بقطع يده قصا لجناحه وتسهيلا لأخذه إن عاود السرقة".
ونجاري ابن القيم في طريقته في التحليل، فنقول: إن السارق – عادة لا يطلب من جريمته غير المال. إما ما ينتج عن السرقة من قتل أو اغتصاب فإنما هو تابع لا مقصود. ولهذا الاعتبار جاءت العقوبة: قطع اليد. للقضاء على هذا الدفاع في نفسه. لأن قطع اليد يؤدي – غالبا- إلى نقص الرزق وقلة الكسب. فتكون الشريعة الإسلامية قد دفعت العامل النفسي عند السارق، بعامل نفسي مضاد. وقد يرد على هذا: لزوم قطع آلة الزنا والقذف، وليس هو حكم الشريعة.
فنقول: إن هذا الإيراد مدفوع بأن فيه إسرافا وتجاوزا ونكوصا عن أهداف العقوبة المرسومة. إذ ليس من مقصود الشارع من العقوبة مجرد الأمن من عدم المعاودة وإلا لقتل السارق. وإنما المقصود الزجر والنكال وأن يكون إلى كف عدوانه أقرب، ولم تقطع آلة الزنا. لأن الزاني يزني بجميع بدنه. والتلذذ بقضاء شهوته يعم البدن كله. فعوقب بما يعم جميع بدنه من الجلد والرجم.
وفي ذلك يقول النسفي [16] : "وقطعت اليد لأنها آلة السرقة. ولم تقطع آلة الزنا تفاديا من قطع النسل".(6/489)
وزاد القرطبي على هذا الذي ذكره النسفي سببين آخرين [17] . "الأول: للسارق مثل يده التي قطعت. فإن انزجر بها اعتاض بالثانية وليس للزاني مثل ذكره إذا قطع فلم يعتض بغيره لو انزجر بقطعه. الثاني: أن الحد زجر للمحدود وغيره. وقطع اليد في السرقة ظاهر. وقطع الذكر في الزنا باطن".
لا سلطة لغير الشارع في تكييف عقوبة السرقة
قلنا إن عقوبة السرقة تثبت بالنص. فلا يجوز تغييرها، أو تبديلها، أو إسقاطها، وليس للزمان، أو المكان أثر في ذلك.
رأي المجوزين
إلا أن بعض الباحثين [18] ، ذهبوا: إلى جواز إلغاء عقوبة السرقة أو تبديلها بعقوبة أخرى، تبعا لتغير الأزمان والأحوال. وعلى هذا فإن لولي الأمر، الحق في تكييف عقوبة السرقة حسب الظروف والمقتضيات.
وهؤلاء الباحثون – ومن وافقهم – على اصل: جواز تغيير الأحكام المنصوص عليها إذا دعت إلى تغييرها مصلحة، يقرها اجتهاد. حتى ولو تعارض ذلك مع نصوص الكتاب والسنة. وقد استدلوا على ذلك ببعض ما لا تقوم لهم به حجة. وبشيء من النظر الخاص كما يظهر ذلك من نصوصهم التالية:
يقول بعض الكاتبين [19] : "إن العمل بمبدأ تغير الأحكام بتغير الأزمان تؤيده الأصول المتفق عليها، وهي: أن التشريع لا يكون حكيما عادلا إلا إذا كانت أحكامه ملائمة من شرع لهم متفقة ومصالحهم، وما تقتضيه بيئتهم. وأن التشريع الذي تلائم أحكامه أمة، ويتفق ومصالحها. قد لا تلائم أحكامه أمة أخرى، ويعارض مصالحها. بل أحكام التشريع الواحد قد تكون ملائمة للأمة ومتفقة ومصالحها في حين غير ملائمة لها ولا متفقة ومصالحها في حين آخر ثم يستطرد قائلا: "وهذه أصول تكاد تكون بديهية غير مفتقرة إلى برهان. وأصدق شاهد لها: نسخ بعض الأحكام الشرعية ببعض في التشريع"(6/490)
ويستشهد هذا الكاتب بابن القيم فيقول: "ولقد كتب في ذلك العلامة ابن القيم الجوزية في كتابه – إعلام الموقعين – فصولا ممتعة. وقال – تحت عنوان، فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد -: "هذا فصل عظيم النفع جدا، وقع بسببه غلط عظيم على الشريعة الإسلامية، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم: أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح، لا تأتي به. فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم، ومصالح العباد في المعاش والمعاد. وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها. فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث. فليست من الشريعة، وإن دخلت فيها بالتأويل".
ويقول كاتب آخر [20] : "ولم يقطع عمر يد سارق أو سارقة في عام المجاعة. لأنه رأى أن هذه السرقة كانت لحفظ الحياة. وحفظ الحياة مقدم على حفظ المال. هذا، مع أن آية حد السرقة صريحة في الأمر بقطع يد السارق والسارقة دون قيد".
ونقف قليلا عند قول هذا الكاتب: دون قيد. لنقول له: لا. إن الآية صريحة في قطع يد السارق. ولكن بقيد، وهو النصاب والحرز وغيرهما من القيود التي جاءت بها السنة المطهرة والتي خصصت عموم الآية. ومن القيود – أيضا -: أن لا تكون السرقة لضرورة حفظ الحياة لأن المضطر مأذون بالأخذ فلا يكون سارقا. وإذا لم يكن سارقا، فكيف يقطعه عمر؟(6/491)
وقول كاتب ثالث [21] : "إذا استعرضنا ما قدمنا من الفروع المأثورة في رعاية المصلحة، وجدنا منها ما اعتبرت فيه المصلحة مع معارضتها للكتاب أو السنة أو القياس. فمن الأول: إسقاط عمر سهم المؤلفة قلوبهم. وذلك معرض لقوله تعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} ومنه إسقاط حد السرقة عام المجاعة محافظة على الأنفس. وذلك معارض لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} .
ويقول أحد هؤلاء [22]- أيضا -: "وكان في مقدمة من فتح هذا الباب للمجتهدين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وذلك في حوادث متعددة. ومن هذا القبيل: اجتهاد عمر – رضي الله عنه – عام المجاعة في وقف تنفيذ حد السرقة على السارقين، وهو قطع اليد. واكتفاؤه بتعزير السارق عن قطع يده. معتبرا: أن السرقة ربما كان يندفع إليها السارقون – حينذاك – بدافع الضرورة، لا بدافع الإجرام. وفي هذا كما ترى تغيير لحكم السرقة – الثابت بنص القرآن. عملا بتغيير الظروف التي أحاطت بالسرقة".
جواز إسقاط الأحكام
وخلاصة الأمر: فإن هؤلاء يستدلون على جواز إسقاط الأحكام أو تغيرها بما يلي:
1- بالنسخ الواقع في الشريعة الإسلامية. فإنه تغيير للحكم.
2- بالإجماع على إسقاط حق المؤلفة قلوبهم في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه.
3- برأي ابن القيم في جواز تغير الفتوى بتغير الظروف.
4- بفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إسقاط عقوبة السرقة عام المجاعة.
ونتكلم عن هذه الأدلة فنقول:
استدلالهم بالنسخ(6/492)
أولا: إن أخذهم بوقوع النسخ كدليل على جواز تغيير الأحكام المنصوص عليها غير مسلم. فإن وقوع النسخ في القرآن، لا يدل من قريب، أو بعيد على صحة دعواهم، لأن النسخ – كما هو عند الأصوليين – رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر عنه. فشرط جواز نسخ الحكم الشرعي: أن يكون ناسخة حكما شرعيا مثله متأخرا عنه. والحكم الشرعي الذي يجوز النسخ به، هو ما جاء في كتاب، أو سنة. ولا يجوز النسخ بغيرهما. فلا ينسخه القياس. لأن شرط القياس: التعدي إلى فرع لا نص فيه. كما لا ينسخه الإجماع. لأنه إن كان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فناسخه السنة وليس الإجماع وإن كان بعد وفاته فلا نسخ حينئذ لأن الأحكام صارت مؤبدة بانقطاع الوحي [23] على أن من الفقهاء من لا يجيز نسخ الكتاب بالسنة فضلا عن عدم جواز نسخها بالإجماع استدلالا بقوله تعالى [24] : {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} على خلاف في ذلك نجده مبسوطا في كتب الأصول.
وهكذا نرى: أنه لا حجة في وقوع النسخ في الشريعة الإسلامية على دعواهم: جواز تغيير الأحكام وإسقاطها. لأن التغيير والإسقاط من غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم – لا يتوفر له نص شرعي يجوزه. والتغيير والإسقاط بغير نص شرعي ممنوع.
ثانيا: أما استدلالهم بالإجماع الواقع في زمن عمر – رضي الله عنه – على إسقاط نصيب المؤلفة قلوبهم. فلا حجة لهم به – أيضا – لأن عمر – رضي الله عنه – لم يسقط حكما ولم يعطل نصا. فإن عدم تطبيق النص، أو عدم تنفيذه لا يلزم منه إسقاطه أو تغييره وإنما كان ذلك لانعدام محله، وعدم موجبه.(6/493)
فإن الله – سبحانه وتعالى – أمر بجلد الزاني، وقد لا ينفذ هذا الحكم مرة واحدة. لعدم وجود الزاني، ولا يصح مع ذلك القول: بأن حكما قد سقط، أو نصا قد عطل. وهكذا: في مسألة المؤلفة قلوبهم. فإنه لا نصيب للمؤلفة قلوبهم عند عدم وجود فريق من الناس يطلق عليهم هذا الاسم. فلا محل – والحالة هذه – لنصيبهم الذي نصت عليه الآية، ولا فرق بينهم وبين ابن السبيل مثلا في احتمال عدم وجوده وعند عدم وجوده. لا يتعلق به حكم كما هو معرف. وكذلك الغارم والعامل وغيرهما. وهذا هو ما وقع في زمن عمر –رضي الله عنه- فإن المؤلفة قلوبهم. لا يوجدون إلا إذا تألفهم الإسلام. وهو لا يتألفهم إلا إذا كان بحاجة إلى ذلك. فإذا انتفت الحاجة، لم يعد هناك من يتأليفه. فرأى أمير المؤمنين: انتفاء الحاجة إلى تآلف قلوب الأعداء بعد أن أصبح الإسلام ذا قوة وشوكة. فإعطاء المؤلفة قلوبهم –حينئذ- اعتراف غير صحيح بحاجة الإسلام إلى كف شر هؤلاء عن الإسلام الذي لم يعد بحاجة إلى ذلك.
وعمر –نفسه- لا يخالف في وجوب دفع أنصبتهم لو دعت الحاجة إليه، أو كان أمر الدولة الإسلامية في حال لا يستقيم معه أمرها إلا بذلك. ففعل عمر ليس اجتهادا أدى إلى تعطيل النص أو إسقاطه. وإنما هو اجتهاد في تحقيق مناط الحكم. ومعلوم أن الاجتهاد المتعلق بتحقيق مناط الحكم لا علاقة له بأمر النص. وإنما هو استجلاء لحقائق الأشياء، وإدراكها على ما هي عليه. لتعلق حكم شرعي بها. كاستجلاء حقيقة البلوغ في الصبي [25] .
وفعل عمر -رضي الله عنه- إنما هو تطبيق لموجبات النص، واعتبار لعلته، لأن إعطاء المؤلفة قلوبهم: معلل بحاجة الدعوة الإسلامية لذلك. وعندما يشتد ساعد المسلمين وتنعدم حاجتهم إلى تآلف قلوب الأعداء حينئذ تنتفي الحاجة إلى شراء تأييد هؤلاء وكف شرهم بالمال. لأن للمسلمين أكثر من وسيلة لكف الأذى عن أنفسهم وعقيدتهم.(6/494)
ومن أجل هذا يقول الأصوليون: إن حكم عمر هذا الذي وافق إجماع المسلمين هو من قبيل: انتهاء الحكم. لانتهاء العلة [26] . وليس نسخا للحكم. لأن الإجماع لا ينسخ النص بل إن الجمهور على أن الإجماع ينسخ الإجماع. فما بالك بالنص [27] .
استدلالهم بقول ابن القيم
ثالثا: إما استشهادهم بما قاله ابن القيم، فليس له أساس إلا سوء الفهم. فمع التسليم بكل ما جاء على لسان ابن القيم جملة وتفصيلا. فإنا لا نسلم بفهم الكاتب –المشار إليه- لما قاله ابن القيم. ذاك أنه اقتطع بعضا من كلامه، الذي لا يستقيم معناه إلا بضم بعض أجزائه إلى بعض.
ففي مسألة [28] : (المصلحة أصل الأحكام في الشريعة) استعراض ابن القيم بعض المسائل التي قد يتوهم: أن فيها معارضة للنص، أو تغييرا للحكم، وإسقاطا للعقوبة، تبعا لاختلاف الفتوى فيها، واختلاف فقهاء الصحابة في كيفية تطبيق النصوص عليها. فأوضح الخفاء في وجوه تلك المسائل، وبين: أن ما تظنه بعض الإفهام تناقضا، ليس هو كذلك في الواقع. وما تتوهمه إسقاطا، أو تصرفا في نص، إنما هو في دقة تنفيذه في الحقيقة.
وقد ضرب ابن القيم لذلك بعض الشواهد، فوفق بين قوله –عليه الصلاة والسلام-: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده"وبين قوله: "من رأى من أميره ما يكره فليصبر، ولا ينزعن يدا من طاعة".
وبين ابن القيم وجه تعطيل الحد في السفر (حين أتى برجل من الغزاة قد سرق فلم يقطعه بسر بن أرطأة [29] ) ويرى ابن القيم أن ذلك لم يكن تعطيلا للحد، أو تغييرا للحكم، أو إسقاطا للعقوبة. كما قد يتوهم المتوهمون.. وإنما كان ذلك تطبيقا للنص من بعض وجوهه. فقد نهى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "أن تقطع الأيدي في السفر والغزو، خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تأخيره. بأن يلحق صاحبه بالمشركين".(6/495)
ثم ذكر ابن القيم، قصة أبي محجن [30] : حين شرب الخمر يوم القادسية، فلما أبلى في القتال بلاء حسنا لم يقم سعد ابن أبي وقاص عليه الحد، "لا والله لا أضرب اليوم رجلا أبلى للمسلمين ما أبلاهم فخلى سبيله" ... ثم عقب ابن القيم على ذلك كله فقال: "وليس في هذا ما يخالف نصا، ولا قياسا، ولا قاعدة من قواعد الشرع، ولا إجماعا". "وأكثر ما فيه تأخير الحد لمصلحة راجحة، إما من حاجة المسلمين إليه، أو من خوف ارتداده ولحوقه بالكفار، وتأخير الحد لعارض أمر وردت به الشريعة كما يؤخر الحامل والمرضع، وعن وقت الحر والبرد والمرض" [31] .
هذا هو مجمل كلام ابن القيم: لا نرى فيه جانبا واحداً يدل على: أنه قصد –فيما قال- إلى جواز تغيير الأحكام بتغير الأزمان والأحوال بل على العكس من ذلك فقد كان دأبه في كل ما ذكره: إزالة اللبس عما يمكن أن يعد من هذا القبيل.
فلا ندري: كيف فهم هذا الكاتب –من كلام ابن القيم- ما فهم إلا أن يكون قد خدع بالعنوان الذي أدرج ابن القيم كلامه تحته. فقد كان (فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغيير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد) ففهم من عبارة (تغير الفتوى) تغير الحكم. وليس الأمر كذلك. فإن الفتوى غير الحكم. وإنما هي بيانه [32] ، وكيفية تطبيقه على المسألة. ولا يختلف الأمر في هذه المسألة –التي سردها ابن القيم- عن الصيام في رمضان مثلا. فإن حكمه هو الوجوب ولكن يفتى بإسقاطه عن الحامل المرضع. ولا يقال –حينئذ- بأن حكما قد أسقط، أو بدل، أو عطل وإنما هو تطبيق له من وجه آخر.
استدلالهم بعمر(6/496)
رابعا: أما استدلالهم بما فعله، عمر –رضي الله عنه- عام الرمادة حين عطل حد السرقة –على حد زعمهم- حيث اعتبروا عدم قطع عمر لغلمان حاطب بن أبي بلتعة- لما سرقوا: [33] تصرفا في النص وتعطيلا للحد-: فهو استدلال مرفوض. لأن ما فعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- ما هو إلا: محض القياس، ومقتضى قواعد الشريعة الغراء- التي جعلت لكل حكم علة وشروطا يدور الحكم معها وجودا وعدماً.
فإن آية السرقة: ليست نصا بالمعنى المقابل للظاهر. بل هي عام قابل للتخصيص [34] . فهي لا تستعمل وحدها بالدلالة على حكم السرقة بالتفصيل قبل البحث عن المخصصات. وإذا فالتمسك بظاهر الآية وحدها دون النظر إلى ما يتعلق بها من مخصصات في السنة الصحيحة، إنما هو تنكب عن جملة الدليل. وقد خصصت السنة الصحيحة –كما ذكرنا في أكثر من مكان- كثيرا من آخذي مال الغير فلم تعتبرهم سراقا بالمعنى الذي تقطع به يد السارق. كآخذ الشيء التافه. وآخذ الثمر والكثر، والآخذ من غير حرز. وآخذ ما دون النصاب. وغير ذلك.
ومن هذا القبيل –أيضا- من يأخذ مال الغير بدون حق، للضرورة [35] . وكأن تكون السنة سنة مجاعة وشدة بحيث يغلب على الناس الحاجة الملحة لحفظ الحياة.
فحينئذ يكون المظنون الغالب: أن لا يسلم سارق من ضرورة تدعوه إلى الحصول على ما يسد به رمقه. مما يجعل المالكين بحال يجب معها البذل والعطاء بالثمن، أو بدونه على خلاف في ذلك. والناس أرجح [36] .(6/497)
فإذا سرق السارق في هذه الحالة خرج عن مدلول قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} وإلى هذا أشار أمير المؤمنين حين قال لحاطب بن أبي بلتعة: "إنكم تستعملونهم وتجيعونهم.. حتى أن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له"فهل من قواعد الشريعة الإسلامية: أن تقطع أيديهم بعد ذاك؟ والضرورات تبيح المحظورات. ثم إن شبهة الضرورة في هذا المكان أقوى من كثير من الشبه التي جعلها الفقهاء سببا لدرء الحد. مثل كون المال المسروق مما يتسارع إليه الفساد، أو ادعاء السارق ملكية الشيء المسروق دون حجة قائمة، وغير ذلك من الشبه الضعيفة التي لا تعد شيئاً إلى جانب هذه الشبهة القوية التي ألجأت الإمام العادل إلى درء القطع عن غلمان حاطب [37] . لولا ذلك لقطعهم. كما صرح هو بذلك حين قال: "لولا أعلم أنكم تجيعوهم لقطعت أيديهم". لأن الجائع مأخوذ مأذون له في مغالبة صاحب المال على أخذ ما يسد به رمقه ويحفظ عليه الحياة.
ثم إنه على فرض التسليم: بأن ما فعله عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- كان تغيير للحكم، وإسقاطا للعقوبة. فليس فيه دليل على جواز ذلك. لأنه ليس فيمن دون رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حجة. وهذا أصل يقره عمر بن الخطاب نفسه فيما رواه ابن وهب عن يونس ابن يزيد عن ابن شهاب، أن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- قال: وهو على المنبر: "يا أيها الناس، إن الرأي: إنما كان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مصيبا، إن الله كان يريه. وإنما هو منا الظن والتكلف" [38] .
ومن ذلك ما أخرجه البيهقي، من طريق الثوري بالسند إلى مسروق، قال: كتب كاتب لعمر بن الخطاب، فذكر في آخر كتابه: "هذا ما أرى الله، أمير المؤمنين عمر. فانتهزه وقال: لا. بل أكتب: هذا ما رأى عمر. فإن كان صوابا: فمن الله، وإن كان خطأ فمن عمر" [39] .
ويقول –رضي الله عنه-: "السنة ما سنه الله ورسوله –صلى الله عليه وسلم- ولا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة" [40] .(6/498)
خامسا: أما قولهم: "إن التشريع الذي تلائم أحكامه أمة ويتفق ومصالحها قد لا تلائم أحكامه أمة أخرى ويعارض مصالحها"فهذا ما نستعيذ بالله من شر خطراته على الذهن. فإن هذه السمة، إن انطبقت على أحكام الشرائع الوضعية التي جبلت بضعف البشر، وقصر النظر، وضيق المدارك، فإنها أبعد ما تكون عن شريعة الله التي أحكم نسجها، وشهد بكمالها فقال [41] : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} وأقرها لكل زمان ومكان فقال –مخاطبا رسوله الكريم-[42] : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ} .
وإن من أبسط الفروق بين الشرائع السماوية والوضعية هو [43] : "أن التشريع السماوي من الله سبحانه وتعالى، وهو محيط بكل ما دق وخفي من شئون عباده. يكون مستوفيا لما يعنيهم من وجوه المصالح التي يعلمها الله لهم حتى ينتهي الأمد الذي قدر لهذا التشريع بخلاف النظام الوضعي. فإنه من عمل الواضعين من ذوي السلطة في الجماعة. وليس من شك في أن الواضع يتأثر في تكوينه وفي عمله بالعوامل الاجتماعية، كالعرف والعادة والبيئة. وأن تلك العوامل عرضة للتغيير. فلا يكون القانون الذي وضعه الواضع في هذه الحالة ملائما لحالة أخرى".
والله -سبحانه وتعالى –حينما حكم بالقطع على السارق: لم يكن ليخفى على علمه، ما سوف يستجد من اختلاف الظروف والأحوال، ولو شاء لغير عقوبة القطع بعقوبة أخرى.
أما وقد تم التشريع الإسلامي، وأكمل الله دينه –وعقوبة السرقة على حالها- فليس لا حد: أن يدعي أنه يعلم من وجوه المصلحة ما غاب عن علم الله –تنزه ذكره- ومن شقي بادعاء ذلك فليسمع قوله تعالى [44] : {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
(نقلا عن مجلة العربي)(6/499)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] أنظر: الأحكام السلطانية للماوردي ص120
[2] انظر: إعلام الموقعين 2/66
[3] انظر: الموافقات للشاطبي 1/237
[4] انظر القواعد للعز بن عبد السلام 2/88
[5] انظر: تفسير أبي السعود 2/26 فلسفة العقوبة - أبو زهرة – ص214.
[6] هو: أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التميمي المازري الصقلي. إمام أهل إفريقية وما وراءها من المغرب. وكان آخر المشتغلين من شيوخ إفريقية بتحقيق الفقه ورتبة الاجتهاد والنظر. توفي سنة 536 هـ
[7] انظر: طرح التثريب 8/23 فتح الباري 15/104
[8] انظر: القواعد 1/40
[9] انظر: لسان العرب 11/677
[10] سورة البقرة، الآية 66.
[11] انظر: تفسير المراغي 6/115
[12] قيل: إن الذين قطعوا في الإسلام بالسرقة ستة فقط.
[13] انظر: أعلام الموقعين 2/103
[14] انظر: قواعد الأحكام 1/116.
[15] انظر: تفسير القرطبي 6/175.
[16] انظر: إعلام الموقعين 2/97 و 107.
[17] انظر: تفسير القرطبي 6/175.
[18] من هؤلاء: معروف الدواليبي في كتابه: مدخل إلى علم أصول الفقه ص321، ومصطفى زيد في كتابه: المصلحة في التشريع الإسلامي ص31 وعلي حسب الله في كتابه: أصول التشريع الإسلامي ص156 وأحمد أمين في كتابه فجر الإسلام ص238 الدكتور حمد الكبيسي في كتابه: مباحث التعليل ص66 – 67.
[19] معروف الدواليبي: في المدخل ص318-319-320.
[20] مصطفى زيد: في كتابه – المصلحة في التشريع الإسلامي – فقرة 21.
[21] الأستاذ علي حسب الله. في كتابه – أصول التشريع الإسلامي – ص156
[22] معروف الدواليبي – المصدر السابق ص321-322.
[23] انظر: شرح التلويح على التوضيح 2/34.
[24] سورة يونس الآية 15.(6/500)
[25] انظر: الموافقات للشاطبي 4/165.
[26] انظر: شرح مسلم الثبوت 2/84.
[27] انظر: شرح التلويح على التوضيح 2/34.
[28] انظر: إعلام الموقعين 3/17، 18، 19.
[29] هو: بسر بن أرطأة " أو أبي أرطأة "العامري القرشي أبو عبد الرحمن. قائد فتاك من الجبارين. ولد بمكة قبل الهجرة أصيب في عقله على آخر أيامه وبقي كذلك إلى أن مات بدمشق وقيل بالمدينة سنة 86 هـ.
[30] عمرو بن حبيب بن عمرو بن عمير بن عوف، بطل شاعر كريم، أسلم سنة 9هـ كان منهمكا في شرب النبيذ. فلما وقعت قصته مع سعد ترك النبيذ، وقال كنت آنف من أن أتركه من أجل الحد. فلما وقعت قصته مع سعد سنة 30هـ. انظر: خزانة الأدب للبغدادي 3/553.
[31] انظر: إعلام الموقعين 30/19.
[32] انظر: المصباح المنير 2/175.
[33] رواه مالك في الموطأ: أن غلمة لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فانتحروها فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمر عمر: كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم، ثم قال عمر: أراك تجيعهم؟ ثم قال: والله لأغرمنك غرما يشق عليك، ثم قال للمزني: كم ثمن ناقتك؟ فقال المزني قد كنت والله أمنعها من أربعمائة درهم. فقال عمر: أعطه ثمانمائة درهم. انظر: المنتقى على الموطأ 5/64.
[34] انظر: أحكام القرآن لابن العربي 2/602 تفسير الرزاي 3/415.
[35] انظر: تبصرة الحكام 2/353 – الروض النضير 4/234.
[36] انظر: الحاوي 18/108.
[37] ابن أبي بلتعة، صحابي شهد الوقائع كلها مع رسول الله، وكان من اشد الرجال توفي بالمدينة سنة 30هـ. انظر: الإعلام 2/163
[38] انظر: إعلام الموقعين 1/54.
[39] قال العسقلاني: إسناده صحيح. انظر التلخيص الحبير 2/406.
[40] إعلام الموقعين 1/54.
[41] سورة المائدة، الآية 3.
[42] سورة سبأ، الآية 38.(7/1)
[43] انظر: تاريخ الفقه الإسلامي للسايس ص9.
[44] سورة القصص، الآية 50.(7/2)
الإسلام حرية منظمة وإخاء
بقلم: الشيخ السعيد الشربيني الشرباصي
المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
كان هدف الإسلام العقائدي الأول تحرير العقل البشري من قيود الجهالة، وانحرافات الضلالة، وتخليص العقيدة من جمود الفكر وتبلد الحس، وتنقية النفس من أسر التقليد وعبودية العادة.
فلقد كان الإنسان قبل مجيء الإسلام يعيش في سجن مغلق يمسك بمفتاحه السلطان الكهنوتي الذي يوجه العقول وفقا لخطة استغلالية مرسومة، وتبعا لمصالح ذاتية موضوعة.
هذا في الغرب. وفي الشرق كان يمسك بالزمام جماعات من الأحبار والرهبان لا ينهضون لتحرير العقيدة، وإنما ينهضون لبقاء سلطتهم وتثبيت نفوذهم على ما كسبوا من أتباع، وما انضم إليهم من أشياع. وفي مكة الذات كان يقف إلى جانب سلطان الأحبار والرهبان سلطان رهيب من العصبية الحمقاء، والتقاليد الموغلة في الضلال، والعادات العريقة في الانحراف.
وجاء الإسلام بنوره، وبزغت فكرة التوحيد الإسلامية البسيطة، تشع وضوحا وبساطة وإقناعا، ليست في حاجة إلى فلسفة معقدة أو إلى مغالطة مبلبلة أو إلى جدال عقيم. إنما تعطى المبدأ الحقيقي في يسر وسهولة وفي إشراق وإقناع.
وبرز إلى الوجود الشعار الصادق الخالد:
(لا إله إلا الله، محمد رسول الله) .
وأعلن الرسول الكريم –صلوات الله وسلامه عليه- مفتاح الباب إلى الإسلام، وأعطى إشارة المرور للحيارى والضالين ليعبروا منطقة الظلام إلى منطقة الأمان. وما أروع هذا الشعار وما أعظمه، وفي الوقت نفسه ما أبسطه وأيسره. لأنه يعطى الحقيقة كلها عن الوجود وخالقه مجردة لا غموض فيها ولا إبهام، ولا تعقيد ولا جمود.(7/3)
ولقد حرص رسول الإسلام –صلى الله عليه وسلم- على بقاء هذا الشعار واضحا متجردا، وحذر مما وقع فيه أتباع الديانات السابقة من خلط وتلبيس، ومن تحريف وتدليس. ونادى بتجريد فكرة التوحيد من كل ما يوحي بالشرك، بل نادى بالابتعاد عما يوهم به، ولو كان هذا الإيهام في المظهر أو في المخبر، في الصورة أو في الحقيقة، في العبادة أو الحياة الفردية أو الحياة العامة.
وضمن هذه العقيدة الواضحة تقررت العلاقة المباشرة بين الفرد وخالقه. فهو لا يحتاج في استقبالها إلى وسيط، ولا يتوقف فهمها على سدنة أو أحبار. وإنما مجرد دعاء صادر من الأعماق يردد.
لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وضمن هذا الوضوح البالغ تقرر بالأصالة تحرير الفرد من سلطة الكهنة، وتحريره من التبعية للأحبار أو الرهبان ... ويستطيع كل ذي سمع أن يسمع (الشعار) أو يفهمه ويرتضيه دينا له، ويباشر عبادته مع ربه ومولاه.
وكما حرر الإسلام عقيدة الفرد، حرر حياته ووجوده، فهو خليفة الله في الأرض يتحمل المسئولية، ويشارك في مهام الوجود في الدائرة التي هيئ لها، فهو راع، وكل راع مسئول عن رعيته. وأمام توزيع المسئولية على الجميع بلا استثناء أصبح الكل سواسية بلا استثناء، وإنما الخلاف فقط في نوع المسئولية، والخلاف في اختلاف مواقع المسئولية. ولكن الكل محاسب والكل يتحمل واجبات معينة أمام المجتمع الإسلامي العام، والكل مسئول.
وتجاه هذه المسئولية وأمام هذه المساواة، فلكل فرد حقوقه الذاتية، فهو حر في تكوين منزلة، حر في اختيار العمل الذي يزاوله، حر في كسب عيشه. وقد صان الإسلام هذه الحرية فلا يصح لأي سلطة التدخل في هذه الحرية إلا بحق توجه عليه أو بواجب لزمه.(7/4)
وأمام هذه الحريات الأصلية تقوم واجبات معينة، هذه الواجبات هي التي يمليها النظام العام للجماعة، والتي تحتها المصلحة المطلقة للأمة. فالحرية ليست فوضى، والحياة ليست انطلاقة نحو التدمير والتخريب تحت سلطان الرغبة وميل النفس وجموح الهوى.
ولنسمع إلى القرآن الكريم وهو يقرر هذا الشعار النبيل:
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}
لم يطالب القرآن بالعقوبة، ولم يدع إلى الانتقام. وإنما دعا إلى التفكير في القضية كلها بدايتها ثم تسلسلها ثم نهايتها. لأن الفرد المتأمل لهذه القضية سيدرك أن محاولته العدوان على غيره ليس تحطيما لهذا الغير وحده، وإنما تحطيم لنفسه أيضا. وأنه ما دام قد وهبة الله العقل والتفكير فيتحتم عليه أن يصل إلى النتيجة الحتمية. وهي أن القصاص حياة له، وحياة لغيره، وحياة للمجتمع.
ولو تتبعنا صورة للعدوان في مجتمع بدائي لوجدنا أن الأمر يجري على هذا النحو.. يبدأ فرد بالعدوان على آخر، وبذلك يكون قد حكم على نفسه بالموت لأن أنصار القتيل لن يتركوه من غير انتقام. وعندما تتم عملية الانتقام تتبعها عملية مماثلة وهكذا يتحول القتل إلى سلسلة متوالية تهدد حياة الجماعة وتحرم المجتمع أمنه واستقراره، فلا يركن فرد فيه إلى الدعة أو الاستقرار لأنه يتحول أما مطلوب لدم، أو مطالب بدم.
ومن هنا جاء النظام الأم، النظام الأصل، التشريع الإسلامي العادل الرحيم وصاح في الأغبياء هبوا أيها الضعاف، وأدركوا الحقيقة. أن القصاص ليس عقوبة، وليس قسوة ولكنه رحمة بل إنه الحياة، وما أقل حوادث العدوان في مجتمع يأخذ به، وما أكثر حوادث العدوان في مجتمعات عطلته. إن الله سبحانه وتعالى اللطيف الخبير أعلم بالأسرار والخفايا.. ولهذا كان القصاص حياة.(7/5)
وفي الحرمات كلها تتكرر القصة وتتمثل الصورة الرائعة. فإن أردت أن تحمي مزرعتك من العدوان فلا تعتدي على مزرعة غيرك، وإن أردت أن تصون حماك فلا تقتحم حمى لسواك.
وإذا تطلعت إلى عورات جرك أعطيت له الفرصة ليتطلع إلى عوراتك وقدمت له السلاح الذي يستخدمه ضدك. وكما تدين تدان، والديان لا ينام، والرقيب العليم لا يخطئ ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
والحرية التي يدعيها المهرجون، ويتشدق بها دعاة الهمجية ليست حرية وإنما هي بوهيمية نازلة، وفوضى سافلة تعود بالمجتمع إلى حياة الحيوانات. فلا حدود للأعراض، ولا حدود للحقوق، ولا حدود للواجبات، ولا حدود للأخلاق، وإنما يعيش الناس في مهزلة جماعية يشترك فيها الجميع وهي مهزلة مبكية ومضحكة في وقت واحد. يدعي الكل فيها أنه حر وهو في الواقع أشد ما يكون عبودية لأخس الرغبات وأحط الرذائل، يعيش في مجتمع يسيطر عليه النفاق والخداع والمداهنة، وتستولي عليه المجاملات الكاذبة بينما يغلي بالنقد الأخرس والحقد الأسود والسخط المكبوت. فلا أحد راض عما يحدث حوله لأن ما يحدث هجوم فعلي على عقائده، ولكن لا أحد يتكلم لأن الكل يتشدق برنين أجوف باسم الحرية، وباسم التصرف الشخصي.
لقد صور الرسول النبيل –صلى الله عليه وسلم- فكرة الحرية في بساطة الإسلام ووضوح العقيدة بصورة حسية حينما ضرب المثل بقوم كانوا في سفينة، واحتل بعضهم المواقع العلوية في السفينة، واحتل آخرون الموقع الأسفل منها. وكان على الرابضين في الموقع الأسفل أن يستقوا الماء بواسطة إخوانهم الذين يعيشون في أعلى السفينة ولكن شيطان الحرية وسوس لهم، وطالبهم بالثورة على هذه التبعية باسم الحرية الحمقاء. وهتفوا: لماذا لا نخرق في مكاننا خرقا نأخذ منه الماء مباشرة من البحر لنتحرر من التبعية.
ولو مضى هؤلاء النفر ينفذون خطتهم باسم الحرية فماذا ستكون النتيجة؟(7/6)
يرد الرسول الكريم –عليه الصلاة والسلام- على هذا السؤال فيقول:
"فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا. وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً".
والواقع أن بعض المفلسين لا يضره أن يحترق السوق بما فيه لأنه لن يبيع ولن يشتري، ومثله بعض المأفونين الذي لا يضره صلح المجتمع أم فسد، وإنما يردد: علي وعلى أعدائي.
وإذا كان الرسول –صلى الله عليه وسلم- قد عالج في الحديث السابق قضية الفوضى ووضع حدا للحرية. فهو في حديث آخر يسجل أسس النظام، وقواعد المعاملة في إطار المجتمع. ويسجل أن الإسلام دين الأمن والأمان، وشرعه النظام والوئام. يروي مسلم في صحيحة عن أبي هريرة:
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حمل علينا السلاح فليس منا. ومن غشنا فليس منا".
وفي الشطر الأول من الحديث إقرار لأمن الجماعة وحماية لاستقرارها، ودعوة صريحة لاحترام النظام القائم ولتقديس الأمن الداخلي للأمة، لأن محاولة الخروج عليه فتنة لا تأتي إلا بالدمار والهلاك. فما دامت الحياة ماضية على سنن الإسلام وهدي القرآن، وراية الدين عالية ودستور القرآن منفذ، والأحكام الشرعية سارية يتحتم علينا أن نقف إلى جوار هذا الأمن عاملين على تدعيمه ليكون شوكة في ظهور العصاة وحربا على المجرمين، ولتكون له القدرة في الدفاع عن الحدود والوقوف في وجه أعداء الدين والإسلام.
ولقد أنذر الرسول –صلوات الله وسلامه عليه- كل من يخرج على هذا الأمن بأنه ليس منا وليس في جماعة المسلمين. لأن الإسلام دين سلام ونظام لا يرضى بالفوضى ولا يقبل العبث وإنما يدعو أعوانه إلى الحب والإخاء والمودة والتصافح والتعاون لا إلى التناحر أو الخلاف.
وأما تدعيم الإسلام لنظام المعاملة ولإرساء قواعد الأخذ والعطاء. فقد تحدث عنه الحديث في الشطر الثاني حيث يقول: "ومن غشنا فليس منا".(7/7)
وإذا كان الأمن الداخلي هو عمود الاستقرار، ومحور السلام والنظام. فإن النظام الاقتصادي الصحيح هو عمود الرخاء ورفع مستوى المواطنين وتوفير العيش والحياة الكريمة لهم. ولم يترك الإسلام أمر ذلك للحرية المطلقة لتتحول الحياة الاقتصادية إلى مضاربات ومراهنات، وإلى مقامرة أو مغامرة بل حرم الربا والمراهنة أو المقامرة وحرم الغش والخداع. وأعطى التشريع الإسلامي للمشتري الحقوق التي تكفل له الرجوع على البائع عندما يخدعه أو يغشه. "فالبيعان بالخيار ما لم يتفرقا". فإذا تفرقا لا ينتهي الأمر بهذا التفرق بل لكل منهما حق الرد بالعيب إذا ظهر في العين المشتراة عيب لم يعلنه البائع للمشتري، أو حدث منه تدليس. وكذا للبائع رد الثمن إذا ظهر أن النقد الذي قبضه مزيف أو فيه عيب من العيوب.
وبهذه القواعد، وبهذا التحذير الرهيب، الذي يهدد بطرد "من غشنا"من جماعة المسلمين يتحتم على كل من يعمل في حقل التجارة أن يكون أمينا في معاملاته، صادق النية في أخذه وعطائه. والتاجر الذي يخدع أخاه، إنما يخدع نفسه، لأن دولة الباطل لا تدوم، وثوب الخداع يشف عما تحته. والقرآن الكريم يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . الأنفال، الآية 27.
وأذكر أن الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرزاق شيخ الأزهر الأسبق وقف يتكلم في احتفال عام ولكن بعض الحمقى حاول إفساد نظام الحفل. فإذا به يتنمر ويقول ما خلاصته:
إن الله سبحانه وتعالى أقام عالمه على أساس النظام فالشمس تجري لمستقر لها محسوب ومقدور، والقمر قدرناه منازل، فلا الليل يسبق النهار ولا يحدث العكس. ولو اضطرب أمر النظام ولو بأقل من شعرة لاضطراب أمر العالم. فالنظام سر الكون وهو عمود الحياة وقوام الوجود ولولاه لأصبحت الحياة فوضى لإقرار فيها.(7/8)
ونظرة هادئة –ولا أقول فاحصة ولا متعمقة- إلى التشريعات الإسلامية تجدها تعطي أجمل صورة للنظام وللعدل ولوضع الأمور في نصابها.
تأمل معي عشرات الألوف ذات الأمزجة المختلفة والطبائع المتباعدة والجنسيات المتفرقة، وهي تقف متراصة مصطفة داخل مسجد الرسول –عليه الصلاة والسلام- تجمعها كلمة واحدة (الله أكبر) وتسرحها كلمة واحدة (السلام عليكم) . لقد شاهدت بنفسي الجيوش وهي تتجمع في المناسبات ورأيت ما تحدثه من فوضى، وما تأخذه من وقت رغم التدريب المتواصل والمران البعيد المدى.
وتأمل معي هذه الجماعات من الباعة وذوي الحرف، وهي تهرول في طريقها إلى منادى الصلاة، تتوضأ خمس مرات في اليوم في أوقات متباعدة. هل لأمة من الأمم مثل هذا النظام مهما بلغت حضارتها وتقدم النظام الصحي فيها.
ثم هذه الزكاة التي تضع أفضل نظام لتقريب الفوارق بين الناس، وتمضي حسب خطة عمادها التعاون والإخاء لا الطغيان أو العنف. فالذي يعطي راض، بل وشاكر لله على توفيقه، والذي يأخذ راض، وشاكر لله على نعمائه وعلى ما هيأ له من إخاء وإيمان وإسلام. وشاكر أخاه داعيا له راجيا الخير للمجتمع. فلا حقد ولا سخط ولا انحلال أو فقدان للثقة أو انعدام للمسئولية.
والحق أن الإسلام كل صوره عدالة وبساطة ويسر، وسلام وحب ونظام.(7/9)
الإسلام والحياة
بقلم أحمد عبد الرحيم السايح (من علماء الأزهر)
حضارة الإسلام
يمتاز الإسلام بأنه دين الحضارة الإنسانية الكاملة بمعنى أنه كان منذ نزوله دين عبادة ودين معاملة.
وأنه أنشأ لونا من الحضارة عرف باسمه (وهو الحضارة الإسلامية) .
ومفهوم كلمة الحضارة مفهوم تطور مع الزمن لا سيما في تاريخ الحياة العربية الإسلامية والمفهوم الأصيل لكلمة الحضارة في اللغة العربية أنها:
تعني حياة الحضر والإقامة الثابتة في المدن والقرى وعكسها البداوة وهي حياة التنقل من البادية. ولقد عرف العرب الفارق بين حياة البادية وحياة الحضر منذ كانت بادية وكان حضر.
ولكن أول من تصدى لهذا التمييز على أساس من الدراسة والتسجيل والتحليل العلمي هو العلامة عبد الرحمن بن خلدون، بل إن هذا العالم العربي هو أول من عالج شئون الحضارة بطريقة علمية تحليلية.
على أنه إذا كان ابن خلدون قد بلور مفهوم الحضارة عند العرب على أنها ذلك النمط من الحياة المستقرة والذي يناقض في مضمونه البداوة. فينشئ القرى والمدن ويضفي على أصحابها فنونا منتظمة من العيش والعمل والاجتماع والعلم والصناعة وإدارة شئون الحياة.
إذا كان ابن خلدون قد بلور هذا المعنى التاريخي واعتبر الحضارة غاية العمران فإن مفهوم الحضارة في العصر الحاضر قد امتد إلى ألوان من المعنى هي أبعد وأوسع مما رآه ابن خلدون في عصره، وفي بيئته العربية، في انتقالها الاجتماعي والسياسي والمدني من البادية إلى الحضر.
ولئن كان بعض العرب القدامى قد استعملوا لفظ (مدني) بمعنى (اجتماعي) فإن مفهوما آخر ظهر واتصل بها وأصبح الآن يعرف باسم المدينة.
وابن خلدون نفسه كان سباقا في هذا المجال اللفظي فاستعمل كلمة (التمدن) وكان يعني بها (التحضر)(7/10)
على أن تلك المفاهيم اللغوية إنما نشأت في بيئة عربية كانت حياة الحضر فيها تقابل حياة البادية. ولكن هذه الحالة من التقابل لا تكاد توجد بصورتها التقليدية إلا في جهات قليلة جدا خارج العالم العربي.
ولذلك فإن لفظ الحضارة في مفهومه العالمي ومفهومه الحديث المعاصر بصفة خاصة قد أصبح أكثر اتساعا مما كان يدل عليه في مفهومه اللغوي والتقليدي وإذا كان أصل معنى الحضارة (بفتح الحاء وكسرها) الإقامة في الحضر، فإن المعاجم اللغوية الحديثة تعرف الحضارة في استعمالها المولد بأنها: مظاهر الرقي العلمي والفني والأدبي والاجتماعي والاقتصادي في الحضر.
وقد يكون من المفيد معرفة مفهوم لفظتين أخريين لهما في الحياة الإنسانية شأن كبير وأثر واضح. وهما الثقافة والمدنية.
فأصل مادة التثقيف في اللغة العربية: التشذيب والتهذيب والتقويم والحذق والفطانة، والمعاجم اللغوية تعرفها في الاستعمال المحدث بأنها: العلوم والمعارف والفنون التي يطلب الحذق فيها. ونستطيع أن نقول أنها: تشمل كل ما يتصل بالروح والفكر والعقل والذوق والمشاعر وهي حصيلة الحياة الإنسانية في مجالات الحياة كلها. وتجمع أنماط الحياة الروحية والفكرية واللغوية والأدبية والفنية. ولها صورها التي تتعدد وتتلاقى بين الشعوب والتي يتصل بعضها بتراث الإنسانية المشترك.
ومادة مدن وتمدن متصلة بالمدنية والعيش فيها والأخذ بأسباب الحضارة وقد اتصل لفظ المدنية في المفاهيم الجارية بالجانب المادي والمظهري من الحياة. وذلك من حيث مقوماتها الطبيعية ومنشآتها الملموسة.
وكذلك من حيث الأنماط المعيشية في أسسها المادية وفي صورتها المحسوسة في حياة المجتمع. وما يتصل بهذه المظاهر المادية والمحسوسة في حياة الجماعة من قواعد ونظم وأعراف.
والحضارة بمفهومها الحديث هي: الحصيلة الشاملة للمدنية والثقافة ومجموع الحياة في صورها وأنماطها المدية والمعنوية.(7/11)
وبعبارة أخرى هي: الخطة العريضة التي يسير فيها تاريخ كل شعب من الشعوب على الأرض ومنها الحضارات القديمة والحضارات الحديثة المعاصرة ومنها الأطوار الحضارية الكبرى التي تصور انتقال الإنسان أو الجماعات الخاصة من مرحلة إلى مرحلة.
ولئن كان الإسلام قد امتاز بأنه دين الحضارة الإنسانية من حيث تقدير حرية الفكر، وحرية الإنسان وكرامته، وتشجيع المعرفة والنظام والمساواة بين الناس في ظلال إخاء شامل وعدل تام وروحانية صافية واعتزاز بالمثل العليا والقيم الأخلاقية الرفيعة.
فإن واقع الأمر يبين للدارس والباحث والمفكر أن الحضارة الإسلامية استمدت مقوماتها وعناصرها ووجودها وأسباب نمائها من الإسلام ذاته.
وإذا كان ظهور الإسلام قد سبقه في الجزيرة العربية وما جاورها، حضارات أقدم منه. كما سبقته أيضا في البلاد التي انتشر فيها ألوان من الحضارات القديمة ذات الطابع المحلي أو الإقليمي.
فإن الإسلام بطبيعة الذاتية استطاع أن يضفي على البلاد التي شملها لونا مشتركا من الفكر الديني والحياة. والمعاملات والعلاقات الإنسانية والاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية حتى أصبح هناك قدر حضاري مشترك بين المسلمين في مختلف الأقطار وبلاد الدنيا كلها شرقا وغربا.(7/12)
المسئولية في الإسلام
بقلم الشيخ عبد الله قادري المشرف الاجتماعي بالجامعة
حقوق البنت على أبيها
البنت الصغيرة التي عمرها اليوم مثلا ست سنوات ستصبح بعد عشر تقريبا، زوجة وأما وربة بيت، ودور المرأة في المجتمع دور عظيم، وأمامها واجبات هامة تصل البشرية بتحقيقها، إلى حظ كبير من السعادة المنشودة، ولذلك يجب أن يعتنى بها من صغرها، عناية تحقق لها القيام بمهامها، نحو أبيها وأمها وأهل بيتها الذي تربت فيه أولا.. ثم نحو زوجها وولدها، وبيتها الذي تصبح مربية فيه ثانيا، ثم نحو مجتمعها الذي ستشارك في بناء لبناته ثالثا.. والبنت تشترك مع الابن في الحقوق الماضية غالبا وهناك أمور أخرى تخصها وهي التي أريد التنبيه عليها هنا.
1- التدبير المنزلي، من أهم الأمور التي ينبغي أن يعتنى بها للبنت تعليمها منذ صغرها واجبات المنزل التي إذا قامت بها أظهرته بالمظهر اللائق به من تنظيم وتنظيف للبيت وأثاثه وغسل وكي للثياب وطبخ متنوع للطعام وخياطة واقتصاد وغير ذلك من الأمور التي تهمها في بيتها وقد يقول القائل هذه الأمور التي تتعلق بالمنزل يجب أن تذكر في واجبات الأم لأن الأمور المنزلية تختص بها وتستطيع بنتها أن تتعلمها منها عمليا فما سبب ذكرها في حقوق البنت على الأب؟ والجواب: أن هذا الإيراد صحيح لو كانت الأمهات كلهن يحسن التدبير المنزلي، ولأمر ليس كذلك فإن كثير من الأمهات لا يحسن هذه الأمور، ولذا فإن من حق البنت التي لا تحسن أمها تلك الأمور أن يعتني بها أبوها حتى تحسنها إما بإدخالها مدرسة خاصة بالبنات –إذا لم يكن في ذلك خطر على سلوكها لسوء سلوك المعلمات في المدرسة وإما باستئجار امرأة خاصة تعلمها في البيت حتى لا تصبح تصرفاتها في المستقبل شقاء على نفسها وأهلها وعلى زوجها وأولادها ومجتمعها.(7/13)
2- تربية الأولاد، ويجب أن تمرن كذلك على كيفية تربية الأولاد الجسمية من غذاء منظم وتنظيف جسم وثوب وتمريض والروحية في وقتها المناسب من ترويض على الأخلاق الحسنة كالصدق والأمانة والتحذير من أضدادها فإن الأم هي المدرسة الأولى إذا أحسنت الإعداد كانت عاملا فعالا في تربية الجيل الناشئ، كما مضى والعكس بالعكس.
3- تعليمها حقوق الزوج، ويجدر بالأب أن يعلم ابنته حقوق الزوج –وسيأتي تفصيلها في حقوق الزوج على الزوجة عند الكلام على هذه الفقرة من الحديث "والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها"- من طاعة وعدم عصيان وغير ذلك.
4- الحجاب والحشمة، ويجب على الأب أن يلاحظ ابنته ويمرنها على الحجاب ويحذرها من السفور ويحثها على الحشمة والعفة وعدم التهتك ويخبرها بأن ذلك من دينها الذي يجب أن تؤديه كما أمرها ربها حتى تكون مثالا يقتدي بها غيرها من صاحبة وجارة وبنت وغيرهن وحتى يأمنها زوجها على نفسها عندما يظهر له منها العفة والكرامة.
5- اختيار الزوج الكفء، ويجب أن يختار لها الزوج الكفء المعروف بالصلاح والتقوى والأخلاق الفاضلة حتى إذا دعت الحاجة إلى عرضها عليه فعل كما كان الخلص من السلف الصالح يفعلون ذلك فإن الزوج قرين الحياة يجب أن يكون زوجا صالحا يحسن عشرة الزوجة ويقوم بحقها، ويصبر عليها.(7/14)
6- ومن الحقوق التي يجب على الأباء الانتباه لها والعمل بها التسوية بين الأولاد في العطية والنفقة والكسوة وغير ذلك لأن ذلك من العدل الذي أمر الله به، وهو فوق ذلك من أسباب الألفة بين الأولاد وعدم عقوق الأب ولا يجوز له أن يفضل بعضهم على بعض لأن ذلك من الظلم الذي نهى الله عنه وقال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "الظلم ظلمات يوم القيامة" ولأن تفضيل بعضهم على بعض سبب في بث الحقد بينهم وفي عقوق بعضهم للأب فلا يجوز له أن يساعد الشيطان على دخوله بين الأولاد للإفساد بينهم والدليل على وجوب التسوية بين الأولاد ما ثبت في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن أباه أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكل ولدك نحلته مثل هذا"فقال، لا. فقال: "فأرجعه" وفي رواية لمسلم من حديث جابر قال: "فليس يصلح هذا فإني لا أشهد إلا على الحق" وفي رواية لمسلم أيضا من حديث النعمان "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" وفي رواية لأبي داود "لا تشهدني على جور إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم" هذه الروايات واضحة في وجوب التسوية بين الأولاد وللعلماء في ذلك خلاف، جمهورهم على الاستحباب ولكن الحق أحق أن يتبع وإن خالف الجمهور، فقد سمى الرسول صلى الله عليه وسلم التسوية بين الأولاد تقوى وحقا، وعلا وما سوى الحق إلا الباطل وما سوى العدل إلا الظلم هذا الذي ترجح لي من النصوص ومن أراد زيادة بيان فيراجع نيل الأوطار ج6 ص7-11، والله تعالى أعلم.
هذه بعض الأمور التي أردت التنبيه عليها من حقوق الأولاد على الآباء، وهي إن لم تستوف كل الحقوق تعتبر كالأمهات يمكن إدراج ما لم يذكر فيما ذكر.
حقوق الزوجة على الزوج(7/15)
أنعم الله تعالى على الزوجين فجعل بينهما مودة وهي المحبة، ورحمة وهي شفقة أحدهما على الآخر قال تعالى في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} وتحقيقا لتلك المودة والرحمة وسكون أحد الزوجين إلى الآخر، جعل الله لكل منهما حقوقا على قرينه إذا قام بها كل منهما التأم شملهما وتحققت لهما العشرة الطيبة من كلام الجانيين ولكون المقام الآن مقام بيان حقوق الزوجة على الزوج أبدأ بها واذكر ما تيسر لي منها باختصار.
1- العشرة الحسنة، من حقوق الزوجة على زوجها العشرة الحسنة واللطف واللين معها وعدم إغلاظ القول لها والصبر على ما قد يبدر منها مما لا ينبغي من إنكار لنعمة الزوج أو سوء معاملته، في بعض الأحيان كما ينبغي للزوج عندما يرى منها ما لا يرضاه، مما لا يمس الشرف والعرض، أن يذكر إلى جانب ذلك صفات أخرى تعجبه منها ويجعل الأخلاق السيئة بمنزلة النار، ويجعل الأخلاق الحسنة بمنزلة الماء، والماء يطفئ النار، وقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المرأة كالضلع إن ذهبت تقيمها كسرتها، وإن تركتها استمتعت بها على عوج" وفي لفظ "استوصوا بالنساء فإن المرأة خلقت من ضلع وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء" وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يفرك مؤمن إن كره منها خلقا رضي منها أخر"، وروى أحمد والترمذي –وصححه- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائه".(7/16)
2- النفقة والكسوة، ومن الحقوق الواجبة للزوجة على زوجها الإنفاق عليها وكسوتها على قدر حاله من غنى وفقر وما بينهما ولا يكلف ما لا يطيق لأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، ونفقتها مقدمة على نفقة غيرها، ففي المسند وصحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذي أنفقته على أهلك" وروى أحمد وأبو داود والنسائي من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا".
خذي ما يكفيك وولدك بالمعرف
وإذا لم يعط الزوج زوجته ما يكفيها ويكفي أولادها من النفقة والكسوة وقدرت على أخذ شيء من ماله فلها أن تأخذ ما يكفيها ويكفي أولادها دون إسراف ولا تقتير، بدون إذنه ففي الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أن هنداً قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت من ماله وهو لا يعلم فقال: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"فإن أعسر الزوج إعسارا تتعذر معه النفقة واختارت الزوجة فراقه لعدم صبرها عليه، فقد ذهب أكثر العلماء، إلى أنه يفرق بينهما، وخالف آخرون، والذي يظهر من أصول الشريعة أن لها الحق في مفارقته دفعا للضرر وقد ورد في السنة ما يدل على ذلك، راجع نيل الأوطار 6/343.(7/17)
3- العدل بينها وبين ضراتها، ويجب على الزوج أن يعدل بين أزواجه فإن الله تعالى عندما أباح للرجل الزيادة على الواحدة قيد ذلك بالعدل قال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ويكون العدل في أمور كثيرة أذكر منها ما يلي باختصار:
أ- في المبيت، يجب على الزوج أن يساوي بين الزوجات في مبيته، فإذا بات عند هذه ليلة بات عند تلك مثلها، وإن بات أكثر فكذلك، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقسم بين زوجاته –مع أن القسم غير واجب عليه عند كثير من العلماء- ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل في مرضه الذي مات فيه، "أين أنا غداً، أين أنا غداً" يريد يوم عائشة فأذن له أزواجه يكون حيث شاء فكان في بيت عائشة حتى مات عندها.
ب- إذا أراد سفرا تصحبه فيه إحداهن، فإن رضين بسفر من يريد منهن، وإلا أقرع بينهن كما كان يفعل ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم. كما في الصحيحين.
ج- في النفقة والكسوة، والعطية وغيرها من أثاث البيت ونحوه ولا يجوز له أن يفضل إحداهن على الأخرى في كل ما يستطيع.
4- ومن حقوق الزوجة على زوجها أن يعلمها أمور دينها التي لا عنى لها عنها، كالطهارة بأنواعها من الجنابة والحدث والحيض وكأركان الإسلام الخمسة ونحوها من الطاعات لأن الله تعالى يقول في كتابه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} ووقاية الأهل من النار تحصل بتعليمهم ما يجب عليهم وما يحرم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر كما يجب أن يعلمها بحقوقه عليها، حتى تقوم بأدائها ولا يحصل بينهما نزاع بسبب جهلها بذلك.(7/18)
5- ويجب عليه أن يحفظها ويحرص على عفتها وكرامتها واحتشامها بالبقاء في بيتها وعدم الخروج منه لغير حاجة، وإذا خرجت يجب أن تكون محتجبة غير سافرة لئلا يطمع فيها الفسقة كما هي عادتهم مع المرأة التي لا تظهر بمظهر الاحتشام، والرجل الذي يسمح لزوجته تخرج بين الرجال مظهرة لهم زينتها ويدعها تختلط بالأجانب رجل ديوث فاقد شعور الإنسان النزيه ومخالف للدين الذي يأمر بالحجاب ولقد أصبح الكثير من رجال المسلمين لا يبالون أن يكونوا ديوثين تلتقي زوجاتهم بالأجانب وتصافحهم وتتحدث معهم وهي سافرة كاشفة كثيرا من جسمها وربما يسمح لها باستقبال أصدقائه في بيتها وهو غائب فيحصل ما يحصل من الشر والفساد.
6- السماح لها بالخروج، ومن حقوق الزوجة، على زوجها أن يسمح لها بالخروج إذا احتاجت إليه كزيارة أقاربها وجيرانها إذا لم يكن هناك فساد ومنكر، فإذا تحقق أن هناك منكرا كشرب الخمور والاجتماع على الأفلام السينمائية الداعرة والاختلاط بالرجال الأجانب وجب أن يمنعها لأن في ذلك حفظا على لها من الوقوع في المنكر وكذلك إذا استأذنته للخروج لصلاة الجماعة، وكان خروجها، شرعيا بحيث لا تمس طيبا ولا تخرج زينة تفتن بها الرجال، فمن السنة أن يأذن لها ولكن ينبغي أن ينصحها بأن صلاتها في قعر بيتها أفضل من صلاتها في المسجد كما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن". وفي لفظ "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"، وفي لفظ لأحمد وأبي داود أيضاً من حديث أبي هريرة "وليخرجن تفلات" أي غير متطيبات. ومن السنة أيضا أن يؤذن للمرأة للخروج إلى مصلى العيد، كما ثبت في الصحيحين من حديث أم عطية رضي الله عنها.(7/19)
7- ويجب أن يعطيها مهرها كاملا إذا دخل بها، ولا يجوز أن يأخذ منه شيئا بدون إذنها ولا يجوز له أن يضرها إذا كان راغبا عنها لتفتدي منه من أجل طلاقها قال تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً، وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} فإن طابت نفس المرأة بإعطاء زوجها شيئا من مهرها فله أخذه قال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً}
8- فإن كرهها ولم يطق بقاءه معها فله طلاقها ولكن لا يجوز له أن يضارها بمراجعتها وهو لا يريدها فإما أن يمسكها بمعروف وإما أن يفارقها كذلك، قال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} الآية.
9- وإذا عزم على طلاق زوجته فالواجب أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه أو في حال حمل واضح ولا يجوز له أن يطلقها في حال الحيض ولا في طهر جامعها فيه، ولم يظهر حملها، وإذا كانت رجعية وجب عليه أن ينفق عليها ويسكنها ويكسوها حتى تنتهي عدتها.
10- إذا كان للمطلقة ولد لم يبلغ فالحق أن يبقى عندها إلا في الحالات التالية:
أ- أن ترفض هي بقاءه عندها.
ب- أن تتزوج رجلا غير أبيه لما رواه أحمد وأبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة قالت يا رسول الله إن ابني هذا، كان بطني له وعاء وحجري له حواء، وثدي له سقاء، وزعم أبوه أنه ينزعه مني فقال: "أنتِ أحق به ما لم تنكحي".(7/20)
ج- أن يكون الطفل مميزا بين مصلحته ومضرته، فيخيره الحاكم بين أبيه وأمه، فيختار أباه، لما رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خير غلاما بين أبيه وأمه.
د- أن يكون مميزا عنده استعداد للتربية والتعليم ويخشى عليه من بقائه عند أمه الإهمال وفساد الأخلاق لعدم قيامها بملاحظة تعليمه وتأديبه، فإن المصلحة تقتضي أن يأخذه أبوه إذا كان سيقوم بواجبه، أما إذا استويا في الإهمال فأمه أولى به كما هو الأصل، وفي المسألة خلاف وهذا التفصيل هو الذي ترجح لي. والله أعلم.(7/21)
إلى طيبة
للشيخ أحمد مختار بزرة
إن غالب الآفاق مجلاها
هل تحسبن الصب يسلاها
ما بين مربعة ومغناها
أو موج الكثبان عاصفة
مثل السعالى ثار طغواها
تسفي رمال النأي معولة
عن (طيبة) إن غاب مرآها
لا تحسبن الصب في شغل
بسامة لثم السنا فاها
فالعين عند الفحص تبصرها
فاهتز بالإسلام عطفاها
شماء غيث الحق ناداها
يخشى الكفور مساس مرقاها
ركبت جبين المجد معلمة
تهدي الشعاع لخابط تاها
وماضة بالنور باذخة
قد أخلصت لله تقواها
ترعى الدهور بعين مؤمنة
في الأرض تسأل فيهم الله
أم إذا أبناؤها ضربوا
لم ينهلوا من غير ذكراها
وهم وإن لعبت بهم غير
عين نعير ملء مجراها
دامت مودتهم كما وقفت
في سحر نجواهم ونجواها
تغفو الليالي وهي سابحة
عقدت دموع الفجر رياها
لا تسأل الأسحار عن مقة
من وجدهم قبست حمياها
والشهب دعها في توهجها
قد علم الأطيار شجواها
والطير إن تصدح فشجوهم
مما وعت شوقا لسكناها
سكبت دماء القلب أغنية
لما دنا يصغي لشكواها:
فتضرج الفجر الحنون دما
ر المساعف حين واساها
(يا طير لا تثريب! قال لها الفجـ
يلق (المدينة) بات يهواها
(إني غرست بها هواي، ومن
أحلى الرؤى فيها وأغناها
لله ما أبهى مشاهدها
ناجى فؤادي طيف رؤياها
فإذا غفوت [1] بجوف مظلمة
فإذا صحوت وهبت لقياها
فأبيت بالأحلام منتشيا
فافتر في خفر محياها
قبلتها ثغرا وسالفة
الأرجوان الغض خداها
وتوهج الخجل الحيي فشع
طلا نثير الدر ارواها
وسفحت دمعي في مباسمها
وسما العبير إلى تياها
فإذا حللت الرمل في (أحد)
وتشقق التاريخ أفواها(7/22)
هتفت بسر المجد صادحة
بحر من الأطياف وافاها
وتطلعت مقل الشعاب إلى
عبر العصور لطيب مثواها
شهداء دين الله قد زحفوا
من خلدها حثت مطاياها
فإذا المواكب في تخايلها
مرت به زمرا فحياها
تهمي الدموع من الجهاد إذا
هدى الكواكب أفق دنياها)
(إني شربت [2] اليتم مذ برحت
بالكفر تلطمه فيخشاها
كرعت صديد الحقد امواها
كانت سيولا غير عابئة
أهوى إلى (أحد) بطائفه
والجهل يأمرها وينهاها
وتمرد البغي الرعون بها
هوجاء نفث الضغن أوراها
وعدت بها صهوات عاصفة
فتدافعت بهم لتلقاها
رامت بصرح الدين فاقرة
شمس الضحى والذعر يغشاها
زأروا فحاد الطود وانبهرت
راياته والنجم قد باها
والمجد يركز في مواقفهم
تبتاع أخراها بدنياها
والكون يشهد أمة خرجت
ورنت إلى الفردوس عيناها
وغلى الحنين لنور خالقها
بفؤادها والشوق أضناها
وعلى الحسن نور خالقها
تقفو الملائك ضوء مسراها
فعلت إلى الجنات باسمه
منه الأماني كل مخزاها
وارتد جيش الكفر قد خزيت
لما لقوه وكبروا الله
لبس الفرار على تعنته
صبغا لحوزته وسقياها
ودم الشهادة مار في (أحد)
ضحوا لعل الله يرضاها
لله ما بذل الرجال وما
لبس العصور العز والجاها
وإذا سخوت على الحمى بدم
قطع من قلبه زهراء واراها
رجع الرسول وفي الثرى قطع
حرى مفجعة، ومافاها [3]
جمع الأسى والصبر في كبد
كف اليقين تشد مجراها
لم تهم عبرته بل اندفعت
تسري إلى أحد سراياها
أطياف بدر في تألقها
آلاء رحماها وبشراها:
(يا أخت) قالت وهي ساكبة
أغصانه في النجم أدناها
بيني وبينك في العلا نسب
والأسد في جنبيه مأواها
أخرجت شطئي فاستوى صعدا(7/23)
لله مصرعها ومحياها
فرويته بدماء صابرة
بعث الحياة به وأجراها
والنصر لا يزكو بغير دم
في جبهة الأمجاد سيماها
وقدت نضارته وقد رسخت
حر دماء القلب أعطاها
تغلو الديار –فلا تباح- إذا
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الضمير يعود إلى الفجر.
[2] الضمير عائد إلى الجهاد.
[3] وما فاها أي وما شكا.(7/24)
العدد 19
فهرس المحتويات
1- كيف نحارب الغزو الثقافي الغربي والشرقي: رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة عبد العزيز بن عبد الله بن باز
2- دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
3- رسائل لم يحملها البريد: بقلم الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
4- أضواء من التفسير: للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
5- من أعلام المحدثين - أبو حاتم الرازي 195-277هـ: بقلم: الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
6- العدوان على بنت عدنان: لفضيلة الشيخ يوسف عبد الرحمن الضبع
7- المسلمون اليوم: للدكتور طه محمد الزيني
8- يا ربة البنطلون: للشيخ محمد المجذوب
9- النظام الإسلامي سيد الأنظمة: بقلم الشيخ السعيد الشرباصي
10- البحث العلمي وطرائقه عند المدرسين: بقلم الأستاذ عيد عبد الله السيد
11- صفحات من جهاد الصومال: لفضيلة الشيخ محمد المهدي محمود
12- المسئولية في الإسلام: بقلم الشيخ عبد الله قادري
13- يا نفس! : للأستاذ أحمد عبد الحميد عباس
14- من الصحف والمجلات: إعداد العلاقات العامة
15- ألا هبوا للثأر: للشاعر اليمني حسن بن يحي علي
16- ندوة الطلبة - الله أكبر: للطالب: أحمد عبد الرحمن شميلة
17- تاريخ الفلبين - جغرافيتها من حيث الموقع والحدود والعاصمة والمدن الهامة والأماكن السياحية
18- أهازيج للبحر: بقلم الطالب محمد محمود جاد الله
19- أخبار الجامعة: إعداد العلاقات العامة
20- الفتاوى: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(7/25)
كيف نحارب الغزو الثقافي الغربي والشرقي
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.
وبعد فمما لا شك فيه أن أخطر ما تواجهه المجتمعات الإسلامية في الوقت الحاضر هو ما يسمى بالغزو الثقافي بأسلحته المتنوعة من كتب وإذاعات وصحف ومجلات وغير ذلك من الأسلحة الأخرى، ذلك أن الاستعمار في العصر الحديث قد غيّر من أساليبه القديمة لما أدركه من فشلها وعدم فعاليتها ومحاربة الشعوب واستماتتها في الدفاع عن دينها وأوطانها ومقدراتها وتراثها حيث أن الأخذ بالقوة وعن طريق العنف والإرهاب مما تأباه الطباع وتنفر منه النفوس لاسيما في الأوقات الحاضرة بعد أن انتشر الوعي بين الناس، واتصل بعضهم ببعض وأصبح هناك منظمات وهيئات كثيرة تدافع عن حقوق الشعوب وترفض الاستعمار عن طريق القوة وتطالب بحق تقرير المصير لكل شعب، وأنّ لأهل كل قطر حقهم الطبيعي في سيادتهم على أرضهم واستثمار مواردهم وتسيير دفة الحكم في أوطانهم حسب ميولهم ورغباتهم وطريقتهم في الحياة وحسب ما تدين به تلك الشعوب من معتقدات ومذاهب وأساليب مختلفة للحكم مما اضطر معه إلى الخروج عن هذه الأقطار بعد قتال عنيف وصدامات مسلحة وحروب كثيرة دامية.(7/26)
ولكنه قبل أن يخرج من هذه الأقطار فكّر في عدة وسائل, واتخذ كثيرا من المخططات بعد دراسة واعية وتفكير طويل وتصور كامل لأبعاد هذه المخططات ومدى فعاليتها وتأثيرها، والطرق التي ينبغي أن تتخذ للوصول إلى الغاية التي يريد، وأهدافه تتلخص في إيجاد مناهج دراسية على صلة ضعيفة بالدين مبالغة في الدهاء والمكر والتلبيس، ركّز فيها على خدمة أهدافه ونشر ثقافته وترسيخ الإعجاب بما حقّقه في مجال الصناعات المختلفة والمكاسب المادية في نفوس أغلب الناس، حتى إذا ما تشربت بها قلوبهم وأعجبوا بمظاهر بريقها ولمعانها وعظيم ما حققته وأنجزته من المكاسب الدنيوية والاختراعات العجيبة لاسيما في صفوف الطلاب والمتعلّمين الذين لا يزالون في سن المراهقة والشباب اختار جماعة منهم ممن انطلى عليهم سحر هذه الحضارة لإكمال تعليمهم في الخارج في الجامعات الأوروبية والأمريكية وغيرها حيث يواجهون هناك بسلسلة طويلة من الشبهات والشهوات على أيدي المستشرقين والملحدين بشكل منظم وخطط مدروسة وأساليب ملتوية في غاية المكر والدهاء وحيث يواجهون الحياة الغربية بما فيها من تفسح وتبذل وخلاعة وتفكّك ومجون وإباحية.
وهذه الأسلحة وما يصاحبها من إغراء وتشجيع وعدم وازع من دين أو سلطة قلّ من ينجو من شباكها ويسلم من شرورها إلا من عصم الله وهم القليل، وهؤلاء بعد إكمال دراستهم وعودتهم إلى بلادهم وتسلّمهم المناصب الكبيرة في الدولة خير من يطمئن إليهم المستعمر بعد رحيله، ويضع الأمانة الخسيسة في أيديهم لينفذوها بكل دقة بل بوسائل وأساليب أشدّ عنفا وقسوة من تلك التي سلكها المستعمر كما وقع ذلك فعلا في كثير من البلاد الذي ابتليت بالاستعمار أو كانت على صلة وثيقة به.(7/27)
أمّا الطريق إلى السلامة من هذا الخطر والبعد عن مساوئه وأضراره فيتلخص فيما أقدمت عليه حكومتنا السنية بعد إدراك كامل للمصلحة العامة وتقدير للمسئولية من إنشاء الجامعات والكليات والمعاهد المختلفة بكافة اختصاصاتها للحدّ من الابتعاث إلى الخارج وتدريس العلوم بكافة أنواعها في المملكة حرصا على سلامة عقيدة هؤلاء الشباب وصيانة أخلاقهم وخوفا على مستقبلهم، وحتى يساهموا في بناء مجتمعهم على ضوء من تعاليم الشريعة الإسلامية وحسب حاجات ومتطلبات هذه الأمة المسلمة، وضيّقت من نطاق الابتعاث إلى الخارج وحصرته في علوم معيّنة لا يتوفر في الوقت الحاضر تدريسها في الداخل.
وإنا لنشكر لحكومتنا السّنية هذا الصنيع وحرصها الشديد على مستقبل الأمة والوطن، وعلى ما حقّقته وأنجزته من المشاريع النافعة والمكاسب الضخمة، ونسأل الله لها مزيدا من التوفيق للأعمال الصالحة والخدمات النافعة للمسلمين، ولكن هذا المقام مع ما ذكرنا يحتاج إلى مزيد من العناية في إصلاح المناهج وصبغها بالصبغة الإسلامية على وجه أكمل، والاستكثار من المؤسسات العلمية التي يستغني بها أبناء البلاد عن السفر إلى الخارج، واختيار المدرسين والمدرسات والمديرين والمديرات، وأن يكون الجميع من المعروفين بالأخلاق الفاضلة والعقيدة الطيّبة والسيرة الحسنة والغيرة الإسلامية والقوة والأمانة؛ لأن من كان بهذه الصفات أمن شره ورجي خيره وبذل وسعه من كل ما من شأنه إيصال المعلومات إلى الطلبة والطالبات سليمة نقية.(7/28)
أما إذا اقتضت الضرورة ابتعاث بعض الطلاب إلى الخارج لعدم وجود بعض المعاهد الفنية المتخصصة لاسيما في مجال التصنيع وأشباهه فأرى أن يكون لذلك لجنة علمية أمينة لاختيار الشباب الصالح في دينه وأخلاقه، المتشبع بالثقافة والروح الإسلامية، واختيار مشرف على هذه البعثة معروف بعلمه وصلاحه ونشاطه في الدعوة ليرافق البعثة المذكورة ويقوم بالدعوة إلى الله هناك، وفي الوقت نفسه يشرف على البعثة ويتفقد أحوالها وتصرفات أفرادها، ويقوم بإرشادهم وتوجيههم وإجابتهم عما قد يعرض لهم من شبه وتشكيك وغير ذلك.
وينبغي أن تعقد لهم دورة قبل ابتعاثهم ولو قصيرة يدرسون فيها جميع المشاكل والشبهات التي قد تواجههم في البلاد التي يبتعثون إليها ويبيّن لهم موقف الشريعة الإسلامية منها والحكمة فيها حسب ما دلّ عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام أهل العلم مثل أحكام الرّق، وتعدّد الزوجات بصفة عامة، وتعدّد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة، وحكم الطلاق، وحكمة الجهاد ابتداء ودفاعا, وغير ذلك من الأمور التي يوردها أعداء الله على المسلمين حتى يكونوا على استعداد تام للردّ على ما يعرض لهم من الشبه.(7/29)
أما عن مجابهة الغزو المتمثل في الإذاعات والكتب والصحف والمجلاّت والأقلام التي ابتليت بها المجتمعات الإسلامية في هذا العصر وأخذت تشغل أكثر أوقات المرء المسلم والمرأة المسلمة رغم ما تشمل عليه في أكثر الأحيان من السم الزعاف والدعاية المضلّلة والأدب الرخيص والصور العارية والدعوة إلى الفساد، فأرى أن من أهمّ علاج ذلك أن تهتمّ الدولة الإسلامية لاسيما حكومتنا السنية بإيجاد هيئة من أهل العلم والبصيرة والغيرة على الإسلام والثقافة الواسعة وتفرغ لكتابة البحوث والنشرات والمقالات النافعة والدعوة إلى الإسلام والرّد على الغزو الثقافي المنظّم وكشف عواره وتبيين زيفه حيث أن الأعداء قد جنّدوا كافّة إمكاناتهم وقدراتهم، وأوجدوا المنظّمات المختلفة والوسائل المتنوعة للدسّ على المسلمين، فلابد من تفنيد هذه الشبهات وعرض الإسلام عقيدة وتشريعا وأحكاما وأخلاقا عرضا شيِّقا صافيا جذّابا بالأساليب الطيّبة العصرية المناسبة، وعن طريق الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، فهو الدين الكامل الجامع لكل خير، الكفيل بسعادة البشر وتحقيق الرقي الصالح والتقدم السليم والأمن والطمأنينة والحياة الكريمة والفوز في الدنيا والآخرة.(7/30)
وما أصيب المسلمون إلا بسبب عدم تمسّكهم بدينهم كما يجب، وعدم فهم الأكثرين لحقيقته، وما ذلك إلا لإعراضهم عنه وعدم تفقههم فيه وتقصير أكثر العلماء في شرح مزاياه وإبراز محاسنه وحكمه وأسراره، والصدق والصبر في الدعوة إليه وتحمّل الأذى في ذلك بالأساليب والطرق المتبعة في هذا العصر، ومن أجل ذلك حصل ما حصل اليوم من الفرقة والاختلاف وجهل الأكثر لأحكام الإسلام والتباس الأمور عليهم، ومعلوم أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، والذي صلح به أولها هو اتباع كتاب الله الكريم وسنة رسوله الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام كما قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} , وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقال سبحانه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} , وقد وعدهم الله سبحانه على ذلك النصر المبين والعاقبة الحميدة كما قال سبحانه وهو أصدق القائلين {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} , وقال سبحانه: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} وقال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} , وقال سبحانه: {يَا(7/31)
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} والآيات في هذا المعنى كثيرة، ولما حقّق سلفنا الصالح هذه الآيات الكريمة قولا وعملا وعقيدة نصرهم الله على أعدائهم ومكّن لهم في الأرض ونشر بهم العدل ورحم بهم العباد وجعلهم قادة الأمة وأئمة الهدى، ولما غيّر من بعدهم غيّر عليهم كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .
فنسأل الله سبحانه أن يردّ المسلمين حكومات وشعوبا إلى دينهم ردّا حميدا، وأن يمنحهم الفقه فيه والعمل به والحكم به، وأن يجمع كلمتهم على الحق ويوفقّهم للتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه إنه سميع قريب وصلى الله وسلّم على نبينا وسيدنا محمد وآله وصحبه وأتباعه بإحسان.(7/32)
مناهج البحث العلمي وطرائقه عند المدرسين
بقلم الأستاذ عيد عبد الله السيد
خبير مكتبة الجامعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير البشر أجمعين, محمّد بن عبد الله الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون.
رب الوجود ملكك، والقدر حكمك، والقلوب خزائن محبتك، خلقت الموت والحياة ابتلاء لنا، وجعلت العلم أقدس ما في الحياة، فنزلت أول سورة في القرآن على أشرف إنسان تقول: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . وبعد:
فالعلم منهج وطريقة وأسلوب، وتحصيل العلم يتم بطرائق متعددة أشهرها التلقين والتعليم الذاتي، وكلتا الطريقتين تعتمدان اعتمادا أساسيا على الكتاب، فالكتاب هو الأستاذ الدائم للباحث بعد أن تنقطع علاقته بكل أساتذته من البشر، وقد عرف الإسلام الحنيف قيمة الكتاب فأطلق اللفظ على القرآن الكريم باعتباره مجمل المعرفة الإنسانية ومفتاحها والدافع إليها {ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} وتتعدد لفظة (الكتاب) في القرآن الكريم مرادا منها كلام الله تعالى إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة من السور والآيات البينات.(7/33)
ومن وحي هذه الكلمات التامات الخالدات الباقيات الواردات في كتاب الله كان البحث العلمي الموضوعي في مختلف فروع المعرفة الإنسانية الذي كان نتاجه العلمي تراثا إسلاميا ضخما خالدا باقيا، وحضارة إسلامية بحتة أصلية ليست مقتبسة وليست منقولة عن غيرها من حضارات، حضارة لها من صفات الاستقلال والمرانة ما جعلها تفوق غيرها من حضارات بل وتحتويها وتجعلها أثرا دارسا، فبظهور الحضارة الإسلامية انتهت الحضارة الفارسية وحضارة الرومان الوارثة الفعلية للحضارة اليونانية القديمة، وكانت الغلبة لحضارة القرآن, حضارة الإسلام.
وخلاصة القول أنه إذا كانت قوة الدعوة الإسلامية في قلوب رجالات الإسلام الأوائل قد مكّنت للفتوحات الإسلامية في بلاد الشام وفارس ومصر وبلاد المغرب والأندلس أي ما يعرف اليوم بمنطقة الشرق الأوسط تقريبا بالإضافة إلى أجزاء من آسيا وأوربا فإن حضارة القرآن الكريم قد شملت كل هذه الأقاليم، إنّ القرآن كمصدر ومنهل للعلم والعرفان قد فتح أمام الباحثين كل أبواب المعرفة الإنسانية. وإن الثقافة والحضارة التي لازمت الإسلام وعرفت باسمه لم تخلق في فراغ ولم تنشأ من عدم، فأصلها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بدأت بجمع القرآن الكريم في أيام الخليفة الأول أبي بكر الصديق في رقاع وعسف وشقاف ثم دوّنت في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان في مصحف موّحد وزّعت نسخه على الأقاليم والأمصار.
وقد خشي المسلمون الأوائل أن يقع اللحن في قراءة القرآن بسبب اتساع الدولة الإسلامية واعتناق الموالي للإسلام، فابتدعوا النقط والشكل والإعجام، وابتكروا قواعد النحو والصرف بل ووضعوا القواميس العربية والمعاجم اللغوية لمعرفة معاني الكلمات ومشتقاتها ومترادفاتها رغبة في إيضاح الغامض من آيات التنزيل وتيسيرا على المشتغلين بالتفسير تأكيدا لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .(7/34)
كذلك اقتضى النظر في معاني القرآن الكريم ظهور علم التفسير وأصول هذا التفسير أي القواعد والشروط اللازمة له، وهكذا الحال بالنسبة لبقية ما يسمى بالعلوم الإسلامية كالتشريع وتاريخه، والفقه وأصوله ومذاهبه، والحديث ومدارسه ورجاله، والمحدثين والرواة والمؤرخين، وكتاب السير والملاحم والأدباء والقراء, وغير ذلك من معارف وعلوم إسلامية ليس هنا مجال الإفاضة فيها.
ومجمل القول أن الإسلام وهو دين الآخرة والأولى قد حث أتباعه على النظر في شئون دنياهم بقدر اهتمامهم بآخرتهم فكان من بين المسلمين علماء أفذاذ في الطب والفلك والتنجيم والكيمياء والطبيعة والفلسفة الإسلامية، أو ما يسمى بعلم الكلام والتصوف والجغرافيا والاجتماع والفن والعمارة وغير ذلك من شئون علمية فيما عدا الرسم والتصوير لما فيهما من أمور قد يضلّ بها العامي حديث العهد بالوثنية، وقد اشتهر من بين علماء المسلمين في مختلف العلوم غير الدينية علماء أفذاذ منهم ابن سينا والفارابي وابن رشد والحسن بن الهيثم والبيروني وابن بطوطة وابن جبير وابن خلكان وابن خلدون وغيرهم كثيرون ممن كانوا في زمانهم دوائر معارف بشرية.
ولقد اعتمدت الحضارة الأوربية الحديثة باعتراف علماء الغرب أنفسهم على ثقافة المسلمين وحضارتهم اعتمادا كليا في وجودها وتقدّمها، بل لقد اعتمدت حركة الكشوف الجغرافية على الفلكيين من المسلمين, وقامت جامعات أوربا الشهيرة على أكتاف العلماء المسلمين، وبها درست كتبهم ومصنفاتهم العلمية، ولا تزال أمهات هذه الكتب لأمثال هؤلاء العلماء محل رعاية المكتبات الأوربية وعنايتها حتى اليوم.. ولكن.(7/35)
كيف كان العربي والمسلم يتلقى العلم؟ وما هي طريقة التربية والتعليم في الإسلام؟ كيف كان يعد الباحث الإسلامي؟ وما هي المناهج العلمية التي اتبعها علماء المسلمين الأوائل؟ وما الفرق بينها وبين المناهج العلمية المعاصرة؟ نقول: من المؤكد أن العرب قد عرف لديهم الكثير من المؤسسات العلمية أشهرها:
1- المدارس.
2- الكتاتيب.
3- المساجد.
4- مجالس المناظرة.
5- المكتبات.
ذهب الذهبي إلى أن نظام الملك هو أول من أنشأ المدارس, ومن أشهرها مدرسة بغداد ومدرسة بلخ، وربما عرفت المدارس قبل نظام الملك كما جاء على لسان السبكي والسيوطي وغيرهما إذ يذكرون أن المدرسة البيهقية بنيسابور كانت قبل أن يولد نظام الملك، ويقول المقريزي: "إن المدارس شيء مستحدث في الإسلام وأنها لم تكن قائمة زمن الصحابة والتابعين"، وقبل المدارس وجدت معاهد أشهرها:
1- الكتاب: وهو لغة موضع التعليم، وتجمع كتاتيب ومكاتب، قال المبرد: "المكتب موضع التعليم، والمكتب المعلم".
وقد روى الجاحظ في البيان والتبيين أن من أمثال العامة "أحمق من معلم الكتاب"وبعض المكاتب كان لتعليم القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن الكريم، وبعضها كان يعلّم اللغة العربية كذلك، وبعض المعلّمين كانوا يعلّمون حسبة لا يسألون على تعليمهم أجرا، وقد يقع في الكتاب ضرب وحبس للصبي كوسيلة لتعليمه، ولا زال الكتاب يقوم برسالته في كثير من البلاد العربية كما نعلم حتى الآن.(7/36)
2- المسجد: وكان أكبر معهد للدراسة في يوم من الأيام، إذ كان مكانا للصلاة والخطابة والتقاضي، ومعهدا للدراسة، فالحرم النبوي والمكّي ومسجد عمرو في مصر ومسجد البصرة والكوفة والجامع الأزهر وغيرها من المساجد كانت تقوم مقام المدارس والجامعات في العصور الإسلامية الزاهرة، وبخاصة في عصر الصحابة وزمن خلفاء بني أمية، كما كان الخلفاء والأمراء والأغنياء يتخذون لأولادهم معلّمين خصوصيين, فالكسائي كان يؤدب الأمين بن هارون بن الرشيد على حد قول ابن خلّكان.
3- مجالس المناظرة: وهي عبارة عن مجالس علم كانت تقام في الدور والقصور والمساجد بين العلماء وفي حضرة الخلفاء، في الفقه والنحو والصرف وغير ذلك من علوم، وقد عقد السيوطي فصلا في كتابه (الأشباه والنظائر) في المناظرات والمجالسات والفتاوى والمكاتب والمراسلات.
وكان للخلفاء مجالس مناظرات كثيرة لاسيّما المأمون، وقد ورد في تاريخ بغداد الكثير عن مجالس العلم، وربما كان لهذه المناظرات أثرها البالغ في رقيّ العلم وتقدّمه إذ أنها حفّزت بلا شك العلماء للبحث والدراسة في أمهات الكتب.(7/37)
4- المكتبات: روى ابن النديم: قال أبو معشر في كتابه (اختلاف الزيجات) : "إن ملوك الفرس بلغ من عنايتهم بصيانة العلوم وحرصهم على بقائها على وجه الدهر إن اختاروا لها من المكاتب أصبرها على الأحداث وأبقاها على الدهر". ولقد كانت هذه الكتب التي تحدث عنها ابن النديم وبركلمان المستشرق الألماني أساسا لكتب تنقل إلى اللغة العربية منذ العصر الأموي، ولقد اتسعت المكتبات الإسلامية في العصر العباسي حتى إن هذا العصر يُعدّ بحقّ عصر الموسوعات العلمية والمكتبات الإسلامية، ولقد ساعد على ذلك اتساع حركة التأليف والترجمة وتقدم صناعة الورق التي هي أساس صناعة الكتاب، ومن أشهر مكتبات ذلك العصر (خزانة الحكمة) أو (بيت الحكمة) في بغداد، ولكن هل كانت مكتبة فقط؟ أم مكتبة ومعهدا مرصدا؟ وأين مكانها؟ وهل أنشأها الرشيد أم المأمون؟ وما نظامها؟ وماذا كان بها من أعمال؟ كل هذه الأسئلة تحتاج إلى إجابة وليس المجال مجال ذلك الآن، ولكن يبدو أن هذه المكتبة كان فيها مكان لنسخ الكتب فلم تكن الطباعة قد عرفت بعد، ومكان للترجمة إلى اللغة العربية، وكان بالمكتبة رئيس للمترجمين ومساعدون، وكان لها مدير وأعوان، وكان فيها مجلّدون إذ يقول ابن النديم: "إن ابن أبي الجريش كان يجلّد في خزانة الحكمة للمأمون", ولقد بقيت هذه المكتبة إلى عهد ابن النديم ونقل عنها.
ولقد جاء في دائرة المعارف الإسلامية "كانت أول مكتبة عامة هي مكتبة دار الحكمة التي أنشأها المأمون في بغداد وجمع لها الكتب اليونانية من الإمبراطورية البيزنطية وترجمت إلى العربية، وكانت المكتبة تحوي كل العلوم التي اشتغل بها العرب وقد ظلّت إلى مجيء التتار سنة 656هـ".
كما عرفت المكتبات زمن الخلافة الفاطمية وعند خلفاء بني أمية في الأندلس، وعن طريق محتويات هذه المكتبات كانت الحضارة الأوربية الحديثة.(7/38)
ومهما يكن من أمر فإن المسلمين لم يأخذوا في الغالب بالمراحل المتعددة للتعليم وإنما كان لديهم مرحلة واحدة تبتدئ في الغالب بالكتاب أو المدرس الخصوصي المعلم أو المؤدّب، وتنتهي بأن تكون له حلقة في المسجد، ولم يكن هناك منهج محدد للتعليم بالنسبة لكل عام دراسي بل ولم يكن عندهم إلزام بالنسبة للدراسة، فالدارس له مطلق الحرية في أن يحضر حلقة فقه أو حديث أو تفسير أو لغة أو غير ذلك، وكان التعليم حرّا لا تنفق عليه الدولة، فالطالب والعالم يقومان بالعملية التعليمية بمحض رغبتهما دون تدخل من أحد، وقد يدفع الطالب أجرا لأستاذه وربما تعلّم حسبة لله تعالى إذ كثيرا ما كان العلماء يتكسبون رزقهم من طريق آخر غير التعليم، ولم يكن هناك درجات علمية تعطى للدارس بعد إتمام دراسته، وقد اختلفت مناهج التعليم باختلاف الغرض من التعليم، فمنهج من يريد أن يصير كاتبا غير منهج من يرغب أن يكون فقيها أو باحثا في اللغة أو مؤرخا وهكذا.. وباختصار كانت المناهج متشعبة متروكة لاختيار الطالب ورأي العالم، وقد اعتقد علماء المسلمين أن طلب العلم جهاد، فمن مات في سبيله مات شهيدا، فكانوا يقصدون العلم لذاته، وربما كان حرصهم على تحصيله أقوى من حرصهم على الحياة.
فلا غرو أن رأينا هذا الأسلوب الرائع في التربية والتعليم يخرج في مختلف الأمصار الإسلامية علماء أفذاذا فحولا من أمثال ربيعة الرأي والواقدي ومالك في المدينة، وسفيان ابن عيينة في مكة، وأبو حنيفة وأبو عبيدة والفراء والكسائي في العراق، والليث ابن سعد والشافعي في مصر والأوزاعي بالشام.
هذا عدا ما عرف بالشام من حركة طبية، ذكر ابن أبي أصيبعة في كتابه (معجم الأطباء) كثيرا من أسمائهم وكذلك الحال بالنسبة لكل العلوم والمعارف الإنسانية التي ذكرها الفارابي في كتابه (إحصاء العلوم) .(7/39)
ولعلّي بهذا العرض الموجز أكون قد أجبت على كثير مما أثرت من تساؤلات، ويبقى سؤال معلّق هو ما هي مناهج البحث التي استخدمها المسلمون في أبحاثهم؟ وما مدى توافقها مع المناهج الحديثة المستخدمة في البحث العلمي؟
فطن العرب إلى استعمال جميع الطرق المستخدمة في البحث العلمي فقرّبوا المنطق التقليدي وعرّبوه واستخدموه وتوسعوا في القياس، وأدخلوه في دراستهم للعلوم الدينية كأصول الفقه وغير ذلك، كما استخدموا أيضا المنهج الرياضي واستخدموا الرموز ووضعوا قواعد الجبر، بل إن لفظة الجبر في اللاتينية مأخوذة عن العرب وعرفوا الهندسة وابتكروا فيها وأضافوا إليها، وإن الآثار المعمارية الإسلامية خير شاهد على ذلك.
أمّا عن الاستقراء الذي نسب ظلما وزورا إلى علماء الغرب من أمثال فرسيس بيكون وغيره فإنه كان معروفا عند علماء الطبيعة والكيمياء المسلمين، ولقد استخدم المسلمون الآلات العلمية في أبحاثهم، وعرفوا الملاحظة والمشاهدة والتجربة وطبقوها تطبيقا علميا في أبحاثهم.
أمّا عن علم الاجتماع الذي قيل عنه إنه علم أنشأه الأوربيون فإن ابن خلدون العالم المسلم هو المؤسس الحقيقي لهذا العلم وإن سماه (علم العمران) .
ويمكن القول باطمئنان أنه لا يوجد شيء من المعارف الإنسانية إلا وللمسلمين فيه بحث أو تطوير أو إضافة أو إحاطة ومعرفة، ولقد استخدم المسلمون في أبحاثهم العلمية المنطق القديم والمنطق الحديث على حد سواء, فلم يظنوا كما ظن مفكرو العصور الوسطى من الأوربيين أن أرسطو قد وضع النظرية النهائية لقواعد الاستنتاج, ولكنهم اهتدوا إلى أسلوب هام من أساليب التفكير هو ما يطلق عليه الآن اسم الاستقراء، وعرفوا المنهج الرياضي الذي يعتمد على المسلّمات والبديهيات، وعنهم نقل بيكون منهجه العلمي لأنه تتلمذ على علماء المسلمين. [1](7/40)
وإنّ المطّلع على علوم المسلمين في الكيمياء وشغفهم بدراستها يعلم أنهم هم الذين وضعوا التجربة في علوم الطبيعة، هذا ولم يفصل المسلمون بين المناهج العلمية في أبحاثهم ولكنهم كانوا يستخدمونها حيث يجب أن تستخدم، فلم يقولوا كما قال ديكارت إن المنهج الرياضي يصلح دون غيره لجميع أنواع العلوم، بل آمنوا بكل طريقة وأسلوب يوصل إلى نتائج صحيحة ما دام هذا الأسلوب يتفق مع العقل البشري، ولعلهم عرفوا أن قواعد البحث العلمي يمكن أن يهتدي إليها الباحث عفوا في أثناء محاولته الكشف عن بعض الحقائق، كذلك لم يغفل المسلمون معرفة منهج البحث في التاريخ وربما طبق هذا المنهج على معظم العلوم الإسلامية فعرفوا التحليل والتركيب أي جمع المادة العلمية من الكتب والوثائق والمخطوطات ثم نقدها وتمحيصها، وبيان مدى قيمتها، ثم تحديد الحقائق التي توصل إليها وعرفوا كذلك كيف يصنفون الحقائق الجزئية، واستخدموا الفروض وحاولوا تحقيقها، وعرفوا الصلات بين أجزاء البحث وأبرزوا ما خفي منها، وتحدثوا عن العلل والأسباب، وقد اهتم علماء المسلمين بنقد الرواة وتمحيص طرقهم في النقد وبخاصة ما يتعلق منها بأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد حدد ابن خلدون قواعد البحث في التاريخ والعلوم الإسلامية، وللسخاوي رسالة رائعة بعنوان: (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ) .
وعن هذه المناهج العربية نقل علماء الغرب مناهجهم وطوّروها وأكثروا من استخدامها.
والخلاصة أن البحث العلمي صار يستخدم الآن من المناهج ما يتفق وطبيعة العلم، فالمنهج الرياضي والمنطق والاستقراء ومنهج علم الاجتماع والمنهج التاريخي هي المناهج العلمية السائدة في العصر الحاضر، وقد رأينا أنها في الأصل مناهج كان يستخدمها المسلمون في عصر مجدهم العلمي.
مصادر يمكن الرجوع إليها:
1- دائرة المعارف الإسلامية.
2- المنطق الوضعي
زكي نجيب محمود.(7/41)
3- المنطق الحديث ومناهج البحث.
محمود قاسم.
4- إحصاء العلوم.
الفارابي.
5- ضحى الإسلام.
أحمد أمين.
6- معجم الأطباء.
ابن أبي أصيبعة.
7- الأشباه والنظائر.
السيوطي.
8- الفهرست.
ابن النديم.
9- البيان والتبيين.
للجاحظ.
10- قصة الحضارة - مترجم
ول ديورانت.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] محمود قاسم: المنطق الحديث ومناهج البحث، الطبعة الرابعة هامش صفحتي 22 و 23.(7/42)
صفحات من جهاد الصومال
لفضيلة الشيخ محمد مهدي محمود
الله أكبر الله أكبر..
الله أكبر الله أكبر..
أشهد أن لا إله إلا الله..
أشهد أن لا إله إلا الله..
أشهد أن محمدا رسول الله..
أشهد أن محمدا رسول الله..
حي على الصلاة..
دوي هذا الصوت الجميل المبارك من فوق مئذنة مسجد بربرة ببلاد الصومال ينادي الناس لصلاة الفجر وتسبيح الخالق جل وعلا، فقد انسلخ الليل وانبلج الفجر وبدت تباشير الصباح، وأذنت الديكة، وغردت البلابل، وشقشقت العصافير، وغنت الطيور مسبحة بحمد الله المنعم على الكون فتجاوب مع تسابيح الكون بذكر الله وتوحيد ذي الجلال والإكرام، والكرامة التي تأبى الذل والعار، منادي السماء وداعي التوحيد، الله أكبر الله أكبر، ولكن هذا الصوت الملائكي العذب الجميل.. لم يعجب ذلك القسيس الإنجليزي.. الذي جاء من بلاده.. ليدرس عقائد أهل الصومال وعاداتهم ولغاتهم، ولينقلهم من دينهم لدين آخر يرتضيه المستعمرون! فسرعان ما أخرج مسدسه وصوت رصاصات طائشة على منادي السماء، وهو يدعو الناس إلى عبادة الرحمن، إن القسيس يطلق الرصاص في وحشية وجنون على المؤذن الأعزل بحجة أنه قطع عليه نومه وأحلامه الجميلة البراقة..
نزل المؤذن صارخا مستنجدا بأهل الصومال.. مستحثا فيهم العزة الإسلامية، والنخوة، والمروءة، والهوان، وسرعان ما دوي صوت النجدة بين أبناء البلاد وشجعانهم، واجتمعت الجماهير، وتعالى صوت العزة والحرية: الجهاد!!! الجهاد!!! الجهاد!!!(7/43)
بيد أن الأنظار تتجه دائما نحو مركز البطولة الحقة، نحو القيادة التي تفنى في خدمة الشعوب في إخلاص وتقوى، وخوف من الله، فها هو ذا بطل الصومال يتزعم الجماهير ويقود الثورة ضد الإنجليز وأذنابهم، إنه العالم المجاهد: الشيخ محمد عبد الله حسن، ولد رحمه الله عام 1273هـ الموافق 1856م في قبائل الأوجادين، ولما شب وترعرع حرص والده رحمه الله على تعليمه القرآن وجدّ في التحصيل، ورحل إلى بربرة وهو في حداثة سنه، ثم لازم العلماء ينشر العلم والدين، ثم سافر إلى الحجاز لتأدية فريضة الحج، ولمقابلة علماء الحرمين الشريفين والأخذ عنهم، ولما عاد إلى الصومال ذاع صيته، وأقبل عليه طلاب العلم والمعرفة يرتشقون من منهله العذب، فكان رحمه الله يقسم وقته بين:
أ- إفادة الطلاب.
ب- وعظ الجماهير.
ج- تأليف الكتب.
إلى أن دوي صوت الجهاد, وحانت ساعة البطولة الخالدة، فنزل إلى الميدان مستمدا العون من الله العلي القدير على منازلة الأعداء، أعداء الله والإنسانية، والوطن، لقد سارع في إصدار إعلان الجهاد المقدس إلى شعب الصومال يدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله.
فقرات من وثيقة إعلان الجهاد المقدس:(7/44)
"بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين على أمور الدنيا والدين … إن أجل طاعة الله نصرة دينه وجهاد أعدائه … وقد جاء الإنجليز إلى بلادنا، وليس لهم غرض إلا إذلالنا وإفساد عقيدتنا، ونشر الإلحاد في أوطاننا، والسكوت على أمر كهذا معناه الرضا بالكفر، وعذاب الكفر لا يحل على القوم الكافرين … أعظكم أن تقوموا بواجبكم الديني وأن تدافعوا شر هؤلاء قبل أن يستفحل الداء ويعز الدواء … إن علماء الكفار غزوكم في بلادكم.. يريدون إفساد دينكم.. معتمدين على حماية حكوماتهم، وما لديها من سلاح وعتاد.. فحسبكم من سلاحكم إيمانكم بالله وقوة عزيمتكم فلا ترهبوا جنودهم ولا كثرة سلاحهم، فالله أقوى منهم وأكثر جندا، وكونوا صابرين على الشدائد موطنين النفس على طول الجهاد في سبيل الدين والعقيدة … وإذا رأيتم من المسلمين من يعين عليكم الكفار بأن دلّوهم على الطرق أو أماكن المياه أو كانوا لهم عيونا وجواسيس فاقتلوهم حيث وجدتموهم فليسوا بمسلمين قال عليه الصلاة والسلام: "من حمل علينا السلاح فليس منا".
أعلن جهادي أنا ومن اتبعني على الحكومة الإنجليزية وأعوانها مستعينا بالله.. وإني لأرجو أحد الفوزين: أن أموت شهيدا أو أطهّر البلاد من درن الكفار والله ولينا وهو حسبنا ونعم الوكيل".(7/45)
ومن ثنايا هذه الوثيقة التاريخية الهامة نلمس مدى ما كان عليه الشيخ رحمه الله من قوة الإيمان وصفاء العقيدة وحب الاستشهاد في سبيل الله مع ما تحلّى به من الشجاعة وقوة الرأي وصفاء العقل ونور البصيرة، ويظهر ذلك في وضوح في هذه النقاط الحيوية التي تحدث عنها والتي شملت الناحية الدينية والحربية والسياسية، أعلن رحمه الله الجهاد على الإنجليز ومن تحت حمايتهم وأخذ للأمر عدته، وجمع الصوماليين من مختلف أقسام الصومال واستحثهم على القتال، وتخليص أوطانهم من أدران الإنجليز، وبنى أكثر من أربعين حصنا أودعها الذخائر والمؤن التي جمعها، وصنع فيها صهاريج لحفظ المياه، وأنشأ قلاعا في داخل الأوجادين، وقسّم الجيش إلى فرق متناسبة بطريقة تكفل له النصر وتحقق الظفر، فألّف فرقا خاصة من العلماء وزعماء القبائل ممن عرفوا بالشجاعة وقوة الشكيمة وأعدّها لقتال الفرق الإنجليزية الخالصة، كما ألّف فرقا أخرى من الصوماليين غير من تقدموا لمقاتلة جنود المستعمرات وغيرهم الذين يجلبهم الإنجليز لهذه الحرب ويجعلونهم وقودا للدمار وضمانا لتوفير المواد الغذائية للجيش، أصدر أمره رحمه الله إلى الزراع بالاجتهاد والتوسع في الزراعة ليكثر محصولها وتكفي مؤونة الجند وأهل البلاد، وقد أبدى في هذه الحرب من ضروب الشجاعة والدعاء في القتال ما أقضّ مضاجع المستعمرين وكلّفهم الكثير من الأموال والرجال طيلة خمسة وعشرين عاما كان النصر فيها معقودا بلوائه، مع قلة رجاله وضعف عدته وكثرة عدوه وقوة أسلحته، فلم تستطع أنجلترا وهي في عنفوان طغيانها واستبدادها أن تنال منه في قليل أو كثير، فتعهدت له كتابة بما كان قد طلب تغييره مما يتنافى مع الدين، ولكن نفسه العالية - رحمه الله - أبت إلا إخراج الإنجليز الذين دنّسوا البلاد برجسهم وكفرهم.. وهنا تلجأ قوى الاستعمار إلى التكتل.. وتحارب الشيخ من كل الجهات فتتعاون الجيوش الإيطالية- الحبشية في ذلك الوقت - على هدم(7/46)