في الزِيّ والسِحنةِ والمَأثَمَة
ولو حوى رأسُك بعضَ النّهى
لم تَرَ في التقليد غَيرَ العَمَه
فأبشر بما نلتَ من العار وَلْ
تَهنئْكَ يا (خُنفُس) هذي السّمَه
(المجذوب)(4/10)
من تاريخ المذاهب الهدامة
كتاب أسرار الباطنية لمحمد بن مالك (5)
بقلم محمد بن مالك اليمني
باب ذكر أولاد المنصور:
مات لعنه الله سنة اثنتين وثلثمائة واستخلف على أهل دعوته رجلا يقال له عبد الله بن عباس الشاوري والي ولده أبي الحسن المنصور. وقال: "قد أوصيتكما بمبدأ الأمر فاحفظاه ولا تقطعا دعوة بني عبيد بن ميمون فنحن غرس من غرسهم ولولا ناموسهم وما دعونا به إليهم ما صار إلينا من الملك ما قد نلناه ولا تم لنا في الرياسة حال فعليكما بمكاتبة القائم منهم واستيراد الأمر منهم فأوصيكما بطاعة المهدي يعني عبيد بن ميمون حتى يرد أمره بولاية أحدكما ويكون كل واحد منكما عونا لصاحبه"…
وقد كان لعبد الله بن عباس عند عبيد بن ميمون سابقة ومعرفة لأن المنصور قد كان لعنه الله بعثه مع أبي عبد الله الشيعي الخارج بكتامة من بلاد الغرب [1] على ما أذكره فيما بعد.(4/11)
ثم إن عبد الله بن عباس كتب إلى عبيد بن ميمون المسمى بالمهدي بموت المنصور وهو يومئذ بمدينة بناها وسماها المهدية بالغرب وأنه قام بمذهبه من بعد المنصور ودعا إليه وأنه لم يبق إلا استيراد الأمر ويسأله الولاية وعزل أولاد المنصور وخرج ولد المنصور بنفسه إلى القيروان يسأل الولاية لنفسه ولا ينزع الأمر منهم بعد أبيهم، وقد كانت وصلت هدايا ابن عباس وكتابه وولاه الأمر وكتب له فلما وصل ابن المنصور أمره بطاعة ابن عباس وبعث لابن عباس بسبع رايات، فرجع ولد المنصور إلى مسور وقد يئس مما كان يرجو من الولاية فلقيه عبد الله بن عباس بنفسه وأهل دعوته فبجله وعظمه ولقيه أخوه جعفر وأبو الفضل وبقية أولاد القرمطي لعنه الله فسألوه بما ورد به الأمر فعرفهم بصرف الأمر عنهم إلى عبد الله بن عباس دونهم فتبين لجعفر في وجه أخيه أبي الحسن الشر والعداوة لابن عباس والحسد فنهاه عن ذلك وقبح عليه وزجره وقال له: "أنت تعلم أنه غرس أبينا وأنه لا يقدم علينا سوانا في هذا الأمر", قال: "والله لا تركته يتنعم في ملك عني به غيره ونحن أحق به منه"فقال له أخوه جعفر: "إن أمرنا إذن يتلاشى ويزول ملكنا وتتفرق هذه الدعوة ويذهب الناموس الذي نمسناه على الناس فلا تحدث نفسك بهلاكه فتهلك"فلم يلتفت إلى قوله وكتم السر في نفسه وكان أولاد المنصور لا يحجبون عن أبي العباس ليلا ونهارا فوثب عليه أبو الحسن بن المنصور فقتله غدرا وولي الأمر من بعده فولي ما كان أبوه يلي ورجع إلى مذهب الإسلام وجمع العشائر من بلده وأشهد أنه رجع عما كان عليه أبوه فأحبه الناس فدخل عليه جعفر فقبح ما فعله وقال: "قطعت يدك بيدك"فلم يلتفت إلى قوله, وخرج جعفر إلى ولد عبيد المسمى بالقائم فكاتب أخاه يعيب عليه فعله بشعر طويل يقول فيه:
فكنتم وأنتم تهدمون وابتني
فشتان من يبني وآخر يهدم(4/12)
وتتبع أبو الحسن من كان على دين أبيه يقتلهم فأباد القرامطة وبقي منهم قوم يتكتمون منه وأقاموا ناموسهم برجل منهم وكان لا يقطع مكاتبة بني عبيد ثم إن أبا الحسن خرج من مسور إلى عبر محرم وفيه يومئذ رجل من بني العرجي واستخلف أبو الحسن على مسور رجلا يقال له إبراهيم بن عبد الحميد السباعي وهو جد المنتاب فوثب ابن العرجي على أبي الحسن فقتله فلما انتهى الخبر إلى إبراهيم بن عبد الحميد السباعي لزم مسورا وادعى الأمر لنفسه وخرج أولاد المنصور وحريمه من مسور إلى جبل ذي أعسب فوثب عليهم المسلمون من أهل المغرب [2] فقتلوهم الصغير منهم والكبير وسبوا حريمهم ولم يبقوا على وجه الأرض من الكافرين ديارا ولم يبق للمنصور عقب يعرف بحمد الله ومنه.(4/13)
ثم إن إبراهيم بن عبد الحميد اتفق هو وابن العرجي واقتسما المغرب بينهما نصفين لكل واحد منهما ما يليه ورجع عن مذهب القرامطة وكان أبوه من كبار قواد المنصور وأصله من قدم من حمير وكان أبوه قتل في مخلاف البياض لأن المنصور كان أخرجه إلى هناك بالعساكر ثم إن إبراهيم بنى في بيت ريب مسجدا ونصب منبرا وخطب لأمير المؤمنين من بني العباس وكاتب الأمير أبا الحسن بن إبراهيم بن زياد وبذل له من نفسه السمع والطاعة والدخول في الخدمة وسأله أن يبعث إليه محاصر من قبله يكون عنده فأرسل رجلا يقال له السراج وقال له: إذا تمكنت قبضت على إبراهيم بن عبد الحميد فوصل من زبيد ولقيه إبراهيم بن عبد الحميد إلى بيت ريب وطلع إبراهيم بن عبد الحميد إلى الحصن في رأس الجبل وكان ينزل إليه كل يوم يصحبه ويعظم حقه ثم إن السراج عامل على إبراهيم ناسا من أهل الجبل فنزل إليه يصحبه فلقيه رجل من العاملين فأخبره بالمعاملة فرجع إلى حصنه فضرب الطبول فاجتمع إليه الناس ومن كان فيه من أهل دولته فدخل على السراج فقبض عليه فأمر بحلق لحيته ونفاه عن بلده وانقطعت المكاتبة بينه وبين ابن زياد واستمر أمره وجعل يتتبع القرامطة يقتلهم ويسبي ذراريهم فبقي منهم قليل في ناحية جبل مسور فأقاموا قرمطيا منهم يقال له ابن الطفيل فسمع به إبراهيم بن عبد الحميد فخرج إليه فقتله وتفرق من بقي من أصحابه إلى نواحي عمان وقطاية وانكتم أمرهم عن إبراهيم.(4/14)
ثم إنهما أقاموا ناموسهم برجل يقال له ابن رحيم وذلك في أيام المنتاب بعد موت أبيه إبراهيم وكان ابن رحيم هذا لا يستقر في موضع واحد خوفا من المنتاب ومن المسلمين وهو يكاتب بني عبيد وذلك بعد خروج المعز من القيروان إلى بلاد مصر عند بناءه القاهرة المنسوبة إليه فلم يزل ابن رحيم يكاتب أهل مصر المعز ومن بعده وينهي أخبار أهل اليمن حتى مات لا رحمه الله. واستخلف على من بقي من القرامطة لعنهم الله رجلا يقال له يوسف بن الأمشح من أهل شبام حمير فأقام لعنه الله يدعوا إلى الحاكم ويبايع له على وجه السر حتى مات لعنه الله.
واستخلف على مذهبه رجلا يقال له سليمان [3] عبد الله الزواحي من حمير من ضلع شبام من موضع يقال له الحفن فأقام يدعوا إلى الحاكم وإلى المستنصر وكان الملعون كثير المال عظيم الجاه فاستمال الرعاع والطغام إلى مذهبه وكان في أيامه قد شهر نفسه بالمباعية لأهل مصر من بين عبيد بن ميمون الملعون وقد كان عرف بذلك ونسب إليه فكل ما هم به المسلمون من حمير وشبام وما حوله من القبائل دفعهم بالجميل ووقال لهم أنا رجل مسلم فكيف يحل لكم قتلي فينتهون عنه.
وكان فيه كرم نفس وكان يكرم الناس ويتلطف بهم فلم يزل كذلك حتى مات لا رحمه الله.
باب ذكر ابتداء دولة الصليحيين:(4/15)
وكان هذا الصليحي المسمى علي بن محمد كثير الخلطة به والمعاشرة وكان أحظى من عنده وأطوع أهل مذهبه له وكان يأتيه من بلد الأخروج وهو سبع من أسباع حراز وكان الصليحي الملعون شهما شجاعا مقداما فلما عرفه سليمان بذلك وحضرته الوفاة لا رحمه الله أوصاه بأهل مذهبه وأمرهم بالسمع والطاعة وسلم إليه مالا كثيرا قد كان جمعه من أهل مذهبه ثم إن الصليحي الملعون أرسل إليه القرامطة من أوطان كثيرة بعيدة ومواضع متباينة وعدهم بالوصول إليه ليوم معلوم فلما وصلوا إليه طلع بهم مسار [4] وكان طلوعه ليلة الخميس للنصف من جمادى الأوى سنة تسع وثلاثين [5] وأربعمائة وطليعته تسعمائة رجل وخمسون رجلا فلما استقر بالجبل كتب [6] إلى صاحب مصر وهو معد المستنصر من بني عبيد ووجه إليه بهدايا سبعين سيفا مقابضها عقيق واثني عشر سكينا نصبها عقيق لأن للعقيق عندهم قدرا لأنه لا يكون إلا في اليمن وخمسة أثواب وشي وجام عقيق وفصوص من عقيق مع إهليلج كابلي ومسك وعنبر.
فوجه معد المستنصر المستنصر برايات وألقاب وعقد له الولاية وكان سفيره خاله أحمد بن المظفر وأحمد بن محمد الذي انهدم عليه الدار بعدن وهو أبو زوجة المكرم المسماة بالسيدة بنت أحمد.
فالحذر الحذر أيها المسلمون من مقاربته ومخالطته والركون إلى قوله فإنه وأهل مذهبه يستدرجون العقول ويضلون من ركن إليهم لقد سمعته مرارا وأسفارا وهو يقول لأصحابه قد قرب كشف ما نحن نخفيه وزوال هذه الشريعة المحمدية والله سبحانه أكرم من أن يبلغه مأموله من فساد الدين وهلاك المسلمين.
خلعت العذار ولم أستر
وأظهرت ما ليس بالمظهر
وبحت بما كنت أسررته
من الغي والمذهب الأخسر
وتبت إلى الله مستغفرا
منيبا إنابة مستغفر
وحرمت ما كنت حللته
لقومك من كل مستنكر
وحذرت من فعلك العالمين
وعدت إلى المنهج الأنور
فإن جئت نحوك مستغفرا
فبالله بالله لا تغفر(4/16)
أتحسبني أنثني صبوة
إلى رائق اللون والمنظر
وحاشا لمثلي أن ينثني
إلى الكفر والمذهب الأغبر
فإن لم يكن غير هجر الملاح
فلا زال ذاك إلى المحشر
عباد الله إني لم أزل أتلطف بخاصته وأهل مذهبه ولم أقنع حتى خالطته وأطعته بقبول ما هو عليه من مذهبه وضلالته وكفره وبدعته وأعماله الشنيعة وضلالته الفظيعة التي تنكرها القلوب وتشمئز منها النفوس.
وذلك أن الصليحي [7] ومن هو على مذهبه يدعون إلى ناموس خفي كل جهول غبي بعهود مؤكدة ومواثيق مغلظة مشددة على كتمان ما بويع عليه ودعي إليه وأنه لا يكشف لهم سرا ولا يظهر لهم أمرا، ثم يطلعه على علوم مموهة وروايات مشبهة يدعوه في بدء الأمر إلى الله ورسوله كلمة حق يراد بها الباطل ثم يأخذه بعد ذلك بالرفض والبغض لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا انقاد له وطاوعه أدخله في طرق المهالك تدريجا ويأتيه بتأويل كتاب الله تحريفاً وتعويجاً بكتب مصنعة وأقوال مزخرفة إلى أن يلبس عليه الدين ويخرجه منه كما يخرج الشعرة من العجين وقصارى أمره إبطال الشرائع وتحليل جميع المحارم فسارع إليه من لم يكن له بالشرع معرفة لأنه صادف أكثر الناس عواما فأجابه إلى دعوته الرعاع والطغام ومن لم يكن له معرفة بالإسلام من حسب وسنحام ويام [8] فحرم الحلال وأحل الحرام وناقض بجهده الإسلام وأبطل الصلاة والصيام والزكاة والحج إلى بيت الله الحرام فأهلكهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق.
(آخر الرسالة محمد بن مالك رحمه الله رحمة الأبرار ووقاه عذاب النار) .
--------------------------------------------------------------------------------
-[1] بإفريقية.ز.
-[2] مغرب اليمن.
[3]- وكان هذا داعيا فقط وفي تاريخ عمارة بعض توسع في أبناء هؤلاء.ز.
[4]- مسار: حصن عظيم في حراز باليمن فوق مدينة مناخة.(4/17)
[5]- ونقل ابن خلكان عن أخبار اليمن لعمارة اليمني أنه كان ذلك سنة 429 (1-368) .ز.
-[6] سنة ثلاث وخمسين يستأذن في إظهار الدعوة فأذن له فطوى البلاد طيا وفتح الحصون والتهايم ولم تخرج سنة خمس وخمسين إلا وقد ملك اليمن كله سهله ووعره وبره وبحره وهذا أمر لم يعهد مثله في جاهلية ولا إسلام كما في ترجمة الصليحي هذا في وفيات الأعيان. وأطال عمارة اليمني في بيان أنبائه وأنباء أبنائه بنوع من الميل إليهم. وفي تاريخ الجندي أيضا بعض بسط في أنباء الصليحيين خذلهم الله.ز.
[7]- لم يدرك المصنف أواخر عهد الصليحي وكان قتل (علي بن محمد الصليحي) في يوم السبت 12 ذي القعدة 473 على التحقيق ثم قام مقامه ابنه أحمد ثم ابنه (أبو حمير سبأ) ثم الداعي الزواجي ثم انتقلت الدعوة إلى آل زريع إلى أن استأصل رجال صلاح الدين الأيوبي شأفة المذهب الباطني من البلاد اليمنية فعاد إلى الكمون في القبائل الآتية.ز.
[8]- وقبيلة (يام) إلى اليوم باطنية تنتمي إلى بهرة الهند.ز.(4/18)
الإمام البخاري
وكتابه الجامع الصحيح
بقلم الشيخ عبد المحسن العباد
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
نسب الإمام البخاري:
هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه الجعفي. فجده بردزبه ضبط اسمه بفتح الباء الموحدة وسكون الراء المهملة وكسر الدال المهملة وسكون الزاي المعجمة وفتح الباء الموحدة بعدها هاء. قال الحافظ ابن حجر: "هذا هو المشهور في ضبطه, وبردزبه في الفارسية الزراع كذا يقول أهل بخارى, وكان بردزبة فارسيا على دين قومه"انتهى.
وجده المغيرة ابن بردزبه أسلم على يدي يمان البخاري والي بخارى ويمان جعفي فنسب إليه لأنه مولاه من فوق, عملا بمذهب من يرى أن من أسلم على يد شخص كان ولاؤه له.
وجده إبراهيم قال الحافظ ابن حجر إنه لم يقف على شيء من أخباره.
وأبوه إسماعيل ترجم له ابن حبان في الثقات وقال: "إسماعيل بن إبراهيم والد البخاري يروي عن حماد بن زيد ومالك وروى عنه العراقيون", وترجم له الحافظ في تهذيب التهذيب.
متى وأين ولد: -
ولد رحمه الله في بخارى (وهي من أعظم مدن ما وراء النهر بينها وبين سمرقند مسافة ثمانية أيام) في يوم الجمعة بعد الصلاة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر شوال سنة أربع وتسعين ومائة.
نشأته وبدؤه طلب العلم: -(4/19)
توفي والده وهو صغير فنشأ في حجر أمه وأقبل على طلب العلم منذ الصغر وقد تحدث عن نفسه فيما ذكره الفِرَبْري عن محمد بن أبي حاتم ورّاق البخاري قال: سمعت البخاري يقول: "ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكتاب"، قلت: وكم أتى عليك إذ ذاك؟، قال: "عشر سنين أو أقل"، إلى أن قال: "فلما طعنت في ست عشرة سنة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع وعرفت كلام هؤلاء - يعني أصحاب الرأي-"، قال: "ثم خرجت مع أمي وأخي إلى الحج, فلما طعنت في ثمان عشرة سنة صنفت كتاب قضايا الصحابة والتابعين ثم صنفت التاريخ بالمدينة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وكنت أكتبه في الليالي المقمرة"، قال: "وقلَّ اسم في التاريخ إلا وله عندي قصة إلا أني كرهت أن يطول الكتاب".
رحلته في طلب العلم وسماعه الحديث: -(4/20)
اشتغل وهو صغير في طلب العلم وسماع الحديث فسمع من أهل بلده من مثل محمد بن سلام ومحمد بن يوسف البيكنديين وعبد الله بن محمد المسندي وابن الأشعث وغيرهم ثم حج هو وأمه وأخوه أحمد وهو أسن منه سنة عشر ومائتين فرجع أخوه بأمه وبقي في طلب العلم فسمع بمكة من الحميدي وغيره وبالمدينة من عبد العزيز الأويسي ومطرف ابن عبد الله وغيرهم ثم رحل إلى أكثر محدثي الأمصار في خراسان والشام ومصر ومدن العراق وقدم بغداد مرارا واجتمع إليه أهلها واعترفوا بفضله وشهدوا بتفرده في علمي الرواية والدراية وسمع ببلخ من مكي بن إبراهيم وغيره وبمرو من علي بن الحسن وعبد الله بن عثمان وغيرهما وبنيسابور من يحيى بن يحيى وغيره وبالري من إبراهيم بن موسى وغيره وببغداد من شريح بن النعمان وأحمد بن حنبل وغيرهما وبالبصرة من أبي عاصم النبيل ومحمد بن عبد الله الأنصاري وغيرهما وبالكوفة من طلق بن غنام وخلاد بن يحيى وغيرهما وبمصر من سعيد بن كثير بن عفير وغيره وسمع من أناس كثيرين غير هؤلاء ونقل عنه أنه قال: "كتبت عن ألف وثمانين نفسا ليس فيهم إلا صاحب حديث", وقال أيضا: "لم أكتب إلا عمن قال: الإيمان قول وعمل".
ذكاؤه وقوة حفظه: -
وكان رحمه الله قوي الذاكرة سريع الحفظ ذكر عنه المطلعون على حاله ما يتعجب منه الأذكياء ذوو الحفظ والإتقان فضلا عمن سواهم فقد قال أبو بكر الكلذواني: "ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل كان يأخذ الكتاب من العلم فيطلع عليه اطلاعة فيحفظ عامة أطراف الحديث من مرة واحدة".(4/21)
وقال محمد بن أبي حاتم وراق البخاري: قلت لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل: تحفظ جميع ما أدخلته في المصنف، قال: "لا يخفى علي جميع ما فيه", وقال محمد بن حمدوية: سمعت البخاري يقول: "أحفظ مائة ألف حديث صحيح, ومائتي ألف حديث غير صحيح". وقال محمد بن الأزهر السجستاني: كنت في مجلس سليمان بن حرب والبخاري معنا يسمع ولا يكتب فقيل لبعضهم: ماله لا يكتب فقال: يرجع إلى بخارى ويكتب من حفظه, ولعل من أعجب ما نقل عنه في ذلك ما قاله الحافظ أبو أحمد ابن عدي كما في تاريخ بغداد ووفيات الأعيان وغيرهما سمعت عدة مشائخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد فسمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا وأرادوا امتحان حفظه فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر وإسناد هذا المتن لمتن آخر ودفعوا إلى عشرة أنفس إلى كل رجل عشرة أحاديث وأمروهم إذا حضروا المجلس أن يلقوا ذلك على البخاري وأخذوا الموعد للمجلس فحضر المجلس جماعة من أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خراسان وغيرها ومن البغداديين فلما اطمأن المجلس بأهله انتدب إليه رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث فقال البخاري: "لا أعرفه"، فسأله عن آخر فقال: "لا أعرفه", فما زال يلقي عليه واحدا بعد واحد حتى فرغ من عشرته والبخاري يقول: "لا أعرفه"، فكان الفهماء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون الرجل فهم, ومن كان منهم غير ذلك يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الفهم, ثم انتدب رجل آخر من العشرة وسأله كما سأله الأول والبخاري رحمه الله يجيب بما أجاب به الأول ثم الثالث والرابع حتى فرغ العشرة مما هيأوه من الأحاديث فلما علم البخاري أنهم فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال أما حديثك الأول فقلت كذا وصوابه كذا وحديثك الثاني قلت كذا وصوابه كذاوالثالث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه وفعل(4/22)
بالآخرين مثل ذلك ورد متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها وأسانيدها إلى متونها فأقر له الناس بالحفظ وأذعنوا له بالفضل، وعند ذكر هذه القصة يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: "هنا يخضع للبخاري فما العجب من رده الخطأ إلى الصواب فإنه كان حافظا, بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة".
نماذج من ثناء الناس عليه رحمه الله: -
وقد كان البخاري رحمه الله موضع التقدير من شيوخه وأقرانه تحدثوا عنه بما هو أهله وأنزلوه المنزلة التي تليق به وكذلك غيرهم ممن عاصره أو جاء بعده وقد جمع مناقبه الحافظان الكبيران الذهبي وابن حجر العسقلاني في مؤلفين خاصين كما ذكر ذلك الذهبي في تذكرة الحفاظ وابن حجر في تهذيب التهذيب. ولعل من المناسب هنا ذكر بعض النماذج من ذلك:(4/23)
قال أبو عيسى الترمذي: "كان محمد بن إسماعيل عند عبد الله بن منير فقال له لما قام: يا أبا عبد الله جعلك الله زين هذه الأمة فاستجاب الله تعالى له فيه"..ويقول الإمام البخاري: "كنت إذا دخلت على سليمان بن حرب يقول: "بيّن لنا غلط شعبة"، وقال محمد بن أبي حاتم وراق البخاري: سمعت يحيى بن جعفر البيكندي يقول: "لو قدرت أن أزيد من عمري في عمر محمد بن إسماعيل لفعلت فإن موتي يكون موت رجل واحد وموت محمد بن إسماعيل فيه ذهاب العلم".. وقال أحمد بن حنبل: "ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل", ولما بلغ علي بن المديني قول البخاري: "ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني"قال لمن أخبره: "دع قوله؛ ما رأى مثل نفسه".. وقال رجاء بن رجاء: "هو - يعني البخاري - آية من آيات الله تمشي على ظهر الأرض". وقال أبو عبد الله الحاكم في تاريخ نيسابور: "هو إمام أهل الحديث بلا خلاف بين أهل النقل".. وقال إمام الأئمة ابن خزيمة: "ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحفظ له من محمد بن إسماعيل البخاري".. ويقول الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ: "وكان رأسا في الذكاء رأسا في العلم رأسا في الورع والعبادة"، ويقول في كتابه العبر: "وكان من أوعية العلم يتوقد ذكاء ولم يخلف بعده مثله رحمة الله عليه"، وقال الحافظ ابن حجر في كتابه تقريب التهذيب: "أبو عبد الله البخاري جبل الحفظ وإمام الدنيا ثقة الحديث".(4/24)
وقال الحافظ ابن كثير في كتابه البداية والنهاية: "هو إمام أهل الحديث في زمانه والمقتدى به في أوانه والمقدم على سائر أضرابه وأقرانه"، وقال: "وقد كان البخاري رحمه الله في غاية الحياء والشجاعة والسخاء والورع والزهد في الدنيا دار الفناء والرغبة في الآخرة دار البقاء"، وقال ابن السبكي في طبقات الشافعية: "هو إمام المسلمين وقدوة الموحدين وشيخ المؤمنين والمعول عليه في أحاديث سيد المرسلين وحافظ نظام الدين"، وقال محمد بن يعقوب الأخرم سمعت أصحابنا يقولون: لما قدم البخاري نيسابور استقبله أربعة آلاف رجل على الخيل سوى من ركب بغلا أو حمارا وسوى الرجالة". هذا غيض من فيض مما قيل في الإمام أبي عبد الله البخاري رحمه الله تعالى برحمته الواسعة.
مصنفاته: -
وقد أتحف الإمام البخاري رحمه الله المكتبة الإسلامية بمصنفات قيّمة نافعة أجلّها وعلى رأسها كتابه الجامع الصحيح الذي هو أصح الكتب المصنفة في الحديث النبوي.
ومن مؤلفاته: الأدب المفرد, ورفع اليدين في الصلاة, والقراءة خلف الإمام, وبر الوالدين, والتأريخ الكبير, والأوسط, والصغير, وخلق أفعال العباد, والضعفاء, والجامع الكبير, والمسند الكبير, والتفسير الكبير, وكتاب الأشربة, وكتاب الهبة, وأسامي الصحابة, إلى غير ذلك من مؤلفاته الكثيرة التي أورد كثير منها الحافظ ابن حجر رحمه الله في مقدمة فتح الباري…
عناية العلماء بترجمته ونقل أخباره رحمه الله: -
لما قام الإمام البخاري رحمه الله بالعناية التامة في تدوين سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتنقيتها من الشوائب وتجريد الأحاديث الصحيحة جعل الله له لسان صدق في الآخرين فما زال الناس منذ عصره ولا يزالون يثنون عليه ويترحمون عليه ويولون كتابه الجامع الصحيح العناية التامة وما من مؤلف في التاريخ وتراجم الرجال إلا ويزين مؤلفه بذكر ترجمته والتنويه بشأنه ونقل أخباره رحمه الله.(4/25)
فهذا الحافظ الذهبي رحمه الله يترجم له في تذكرة الحفاظ ويقول بعد نقل شيء من مناقبه: "قلت: قد أفردت مناقب هذا الإمام في جزء ضخم فيه العجب".
وهذا الحافظ ابن حجر يترجم له في تهذيب التهذيب ويقول في ترجمته: "قلت: مناقبه كثيرة جدا قد جمعتها في كتاب مفرد ولخصت مقاصده في آخر الكتاب الذي تكلمت فيه على تعاليق الجامع الصحيح".
وقد ترجم له أيضا في آخر كتاب هدي الساري مقدمة فتح الباري ونقل شيئا من ثناء مشائخه وأقرانه عليه ثم قال: "ولو فتحت باب ثناء الأئمة عليه ممن تأخر عن عصره لفني القرطاس ونفدت الأنفاس فذاك بحر لا ساحل له".
وذكر الحافظ ابن كثير في تاريخه البداية والنهاية في أعيان سنة ست وخمسين ومائتين وقال: "وقد ذكرنا له ترجمة حافلة في أول شرحنا لصحيحه ولنذكر هنا نبذة يسيرة من ذلك", فذكرها في ثلاث صفحات.
وترجم له ابن السبكي في طبقات الشافعية الكبرى وعّدد شيئا من مناقبه ثم قال: "واعلم أن مناقب أبي عبد الله كثيرة فلا مطمع في استيعاب غالبها والكتب مشحونة به وفيما وردناه مقنع وبلاغ".
ويجدر بهذه المناسبة أن أضع بين يدي القارئ جدولا يوضح بعض الكتب المطبوعة التي اشتملت على ترجمته وتسمية مؤلفيها مع ذكر تاريخ وفياتهم وعدد صفحات الترجمة وتعيينها من كل كتاب ليكون راغب الوقوف على أخباره رحمه الله على علم بمظنتها كما يدرك من ذلك أيضا المطوّل منها والمختصر وذلك فيما يلي:
المؤلف وتاريخ وفاته
اسم الكتاب
عدد صفحات الترجمة
الصفحة الأولى
الجزء
تاريخ الطبع ومكانه
1. الخطيب البغدادي 463هـ تاريخ بغداد
31
4
2
مصر 1349هـ
2.
القاضي محمد بن أبي يعلى 526هـ
طبقات الحنابلة
9
271
1
مصر مطبعة السنة المحمدية
3.
ابن خلكان 681هـ
وفيات الأعيان
3
309
3
1367 مصر
4.
الحافظ الذهبي 748هـ(4/26)
تذكرة الحفاظ
2
134
2
في حيدرأباد بالهند
5.
ابن السبكي 771هـ
طبقات الشافعية الكبرى
18
2
2
1324 مصر
6.
الحافظ ابن كثير 774هـ
البداية والنهاية
3
24
11
مطبعة السعادة بمصر
7.
الحافظ ابن حجر العسقلاني 852هـ
هدي الساري
17
255
2
1383 مصر
8.
الحافظ ابن حجر العسقلاني 852هـ
تهذيب التهذيب
9
47
9
1326 حيدر أباد
9.
العليمي الحنبلي 928هـ
المنهج الأحمد
4
133
1
1383هـ بمصر
10.
ابن العماد الحنبلي 1089هـ
شذرات الذهب
2
134
2
1350هـ مصر
11.
صديق حسن خان 1307هـ
التاج المكلل
3
106
0
1382 الهند
وفاته ومدة عمره: ـ
توفي رحمه الله في خرتنك قرية من قرى سمرقند ليلة السبت بعد صلاة العشاء, وكانت ليلة عيد الفطر, ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر سنة ست وخمسين ومائتين. ومدة عمره اثنتان وستون سنة إلا ثلاثة عشر يوما رحمه الله تعالى, قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية والنهاية: "وقد ترك رحمه الله بعده علماً نافعاً لجميع المسلمين فعلمه لم ينقطع بل هو موصول بما أسداه من الصالحات في الحياة".
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به" الحديث, رواه مسلم.
صحيح البخاري
اسمه: -
اشتهر بين الناس قديماً وحديثا تسمية الكتاب الذي ألفه الإمام البخاري رحمه الله في الحديث النبوي بصحيح البخاري…(4/27)
أما اسمه عند البخاري رحمه الله فالجامع الصحيح كما ذكر ذلك في الباعث له على تأليفه وقد سماه الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في مقدمة كتابه فتح الباري وذكر ابن الصلاح في كتابه علوم الحديث أنه سماه: الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه.
السبب الباعث للإمام البخاري على تأليفه: -
ذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة كتابه فتح الباري أسبابا ثلاثة دعت الإمام البخاري رحمه إلى تأليف كتابه الجامع الصحيح:
أحدها: أنه وجد الكتب التي ألفت قبله بحسب الوضع جامعة بين ما يدخل تحت التصحيح والتحسين والكثير منها يشمله التضعيف فلا يقال لغثه سمين, قال فحرك همته لجمع الحديث الصحيح الذي لا يرتاب في صحته أمين.
الثاني: قال وقوّى عزمه على ذلك ما سمعه من أستاذه أمير المؤمنين في الحديث والفقه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهوية وساق بسنده إليه أنه قال: "كنا عند إسحاق بن راهوية فقال: "لو جمعتم كتاباً مختصرا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم", قال: "فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع الصحيح".
الثالث: قال: وروينا بالإسناد الثابت عن محمد بن سليمان بن فارس قال سمعت البخاري يقول: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وكأني واقف بين يديه وبيدي مروحة أذب بها عنه, فسألت بعض المعبرين فقال لي: "أنت تذب عنه الكذب فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح".
مدى عنايته في تأليفه: -(4/28)
ولم يأل البخاري رحمه الله جهدا في العناية في هذا المؤلف العظيم يتضح مدى هذه العناية مما نقله العلماء عنه فنقل الفربري عنه أنه قال: "ما وضعت في كتابي الصحيح حديثا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين"، ونقل عمر بن محمد البحيري عنه أنه قال: "ما أدخلت فيه (يعني الجامع الصحيح) حديثا إلا بعد ما استخرت الله تعالى وصليت ركعتين وتيقنت صحته". ونقل عنه عبد الرحمن بن رساين البخاري أنه قال: "صنفت كتابي الصحيح لست عشرة سنة خرجته من ستمائة ألف حديث وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى".
موضوع الجامع الصحيح: -
والأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هي موضوع كتابه الجامع الصحيح فهي التي وجه عنايته إليها وجعل كتابه مشتملا عليها ويدل لذلك أمور منها:
1ـ تسميته لكتابه الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه…
2ـ تصريحه بذلك في نصوص كثيرة نقلت عنه تقدم ذكر بعضها في السبب الباعث له على تأليفه وفي التنويه بمدى عنايته في تأليفه ومن ذلك غير ما تقدم ما نقله الإسماعيلي عنه أنه قال: "لم أخرج هذا الكتاب إلا صحيحا وما تركت من الصحيح أكثر". وروى إبراهيم بن معقل عنه أنه قال: "ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح وتركت من الصحيح حتى لا يطول"…
محتويات الجامع الصحيح: -(4/29)
وصحيح البخاري كما أنه يشتمل على الأحاديث الصحيحة التي هي موضوع الكتاب فهو يشتمل أيضا على ما في تراجم أبوابه من التعليقات والاستنباط وذكر أقوال السلف وغير ذلك مما ليس داخلا في موضوع كتابه, قال الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري بعد الإشارة إلى موضوع الكتاب: "ثم رأى أن لا يخليه من الفوائد الفقهية والنكت الحكمية فاستخرج بفهمه من المتون معاني كثيرة فرقها في أبواب الكتاب بحسب تناسبها واعتنى فيه بآيات الأحكام فانتزع منها الدلالات البديعة وسلك في الإشارة إلى تفسيرها السبل الوسيعة"انتهى…
وبذلك جمع الإمام البخاري رحمه الله في كتابه الجامع الصحيح بين الرواية والدراية بين حفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفهمها…
التعليقات في صحيح البخاري: -(4/30)
التعليق هو حذف راو أو أكثر من أول السند ولو إلى آخر الإسناد وهو كثير في صحيح البخاري بخلاف صحيح مسلم فإنه قليل جدا وقد ألف الحافظ ابن حجر في وصل تعليقات البخاري كتابا سماه (تعليق التعليق) واختصر هذا الكتاب في مقدمة الفتح في فصل طويل ذكر فيه تعاليقه المرفوعة والإشارة إلى من وصلها وكذا المتابعات لالتحاقها بها في الحكم في أوائل الفصل "وقد بسطت ذلك جميعه في تصنيف كبير سميته تعليق التعليق ذكرت فيه جميع أحاديثه المرفوعة وآثاره الموقوفة وذكرت من وصلها بأسانيدي إلى المكان المعلق فجاء كتابا حافلا وجامعا كاملا"- إلى أن قال -: "وما علمت أحدا تعرض لتصنيف في ذلك", وقال في نهاية الفصل بعد ذكر آخر ما في الصحيح من الأحاديث المعلقة المرفوعة: "وقد بينت ما وصله منها في مكان آخر من كتابه ووصله في مكان من كتبه التي هي خارج الصحيح بينته أيضا وما لم نقف عليه من طريقه بينت من وصله إلى من علق عنه من الأئمة في تصانيفهم"إلى آخر كلامه رحمه الله, وحاصل الحكم على التعليقات أن ما كان منها بصيغة الجزم كقال وروى وجاء ونحو ذلك مما بُني الفعل فيه للمعلوم فهو صحيح إلى من علقه عنه, ثم النظر فيما بعد ذلك, وما كان منها بصيغة التمريض كقِيل ورُوي ويُروى ويُذكر ونحو ذلك مما بُني الفعل فيه للمجهول فلا يستفاد منها صحة ولا ينافيها، ذكر معنى ذلك الحافظ ابن كثير في اختصاره لمقدمة ابن الصلاح، وقال: "لأنه قد وقع من ذلك كذلك وهو صحيح وربما رواه مسلم"، وقال الحافظ في مقدمة الفتح بعد ذكر الصيغة الأولى: "الصيغة الثانية وهي صيغة التمريض لا تستفاد منها الصحة إلى من علق عنه لكن فيه ما هو صحيح وفيه ما ليس بصحيح…".
عدد أحاديث صحيح البخاري: -
قد حرّر الحافظ ابن حجر عدد الأحاديث المرفوعة في صحيح البخاري والمعلقة وأوضح ذلك في مقدمة الفتح إجمالا وتفصيلا وإليك خلاصة ما انتهى إليه في ذلك على سبيل الإجمال: -
حديثا(4/31)
7397 عدد الأحاديث المرفوعة الموصولة بما فيها المكررة
1-
حديثا
1341 عدد الأحاديث المرفوعة المعلقة بما فيها المكررة
2-
حديثا
344 عدد ما فيه من المتابعات والتنبيه على اختلاف الروايات
3-
حديثا
9082 عدد ما فيه من الموصول والمعلق والمتابعات المرفوعة بالمكررة
4-
حديثا
2602 عدد الأحاديث المرفوعة الموصولة بدون تكرار
5-
حديثا
159 عدد الأحاديث المعلقة بدون تكرار
6-
حديثا
2761 عدد الأحاديث المرفوعة موصولة أو معلقة بدون تكرار
7-
وهذه الأعداد إنما هي في المرفوع خاصة دون ما في الكتاب من الموقوفات على الصحابة والمقطوعات عن التابعين ومن بعدهم، وبعد ذكر الحافظ ابن حجر لجملة الأحاديث بدون تكرار قال: "وبين هذا العدد الذي حررته والعدد الذي ذكره ابن الصلاح وغيره تفاوت كثير", ويعني بذلك ما جاء عن ابن الصلاح حيث قال في علوم الحديث: "وقد قيل إنها بإسقاط المكررة أربعة آلاف حديث"ثم إنه علل ذلك بقوله: "يحتمل أن يكون العدد الأول الذي قلدوه في ذلك كان إذا رأى الحديث مطولا في موضع آخر يظن أن المختصر غير المطول إما لبعد العهد به أو لقلة المعرفة بالصناعة ففي الكتاب من هذا النمط شيء كثير وحينئذ يتبين السبب في تفاوت ما بين العددين والله الموفق"انتهى كلامه رحمه الله وغفر له وجزاه عن خدمته التامة للسنة وبخاصة أصح الكتب الحديثية خير جزاء.
السر في إعادة البخاري للحديث الواحد في موضع أو مواضع من صحيحه: -(4/32)
معلوم أن البخاري رحمه الله لم يرد الاقتصار في صحيحه على سرد الأحاديث وإنما أراد مع جمع الحديث الصحيح استنباط ما اشتمل عليه من حكم وأحكام ولذلك يستنبط من الحديث الحكم ويجعله ترجمة ثم يورد الحديث تحتها للاستدلال به عليها ويستنبط منه حكما آخر يترجم به ويورد الحديث مرة أخرى للاستدلال به أيضا فيكون التكرار لغرض الاستدلال على أنه إذا أعاد الحديث مستدلا به لا يخلي المقام من فائدة جديدة وهي إيراده له عن شيخ سوى الشيخ الذي أخرجه عنه من قبل وذلك يفيد تعدد الطرق لذلك الحديث ولهذا قال الحافظ أبو الفضل ابن طاهر المقدسي فيما نقل عنه الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح: "وقلما يورد حديثا في موضعين بإسناد واحد ولفظ واحد"، وذكر الحافظ ابن حجر أن الذي وقع له من ذلك قليل جدا، وقال صاحب كشف الظنون: "والتي ذكرها سندا ومتنا معادا ثلاثة وعشرون حديثا"، وللبخاري أغراض أخرى في إعادة الحديث في موضع أو مواضع ذكر كثيرا منها الحافظ في مقدمة الفتح.
تراجم صحيح البخاري:(4/33)
وصف الحافظ ابن حجر تراجم صحيح البخاري بكونها حيّرت الأفكار وأدهشت العقول والأبصار, وبكونها بعيدة المنال منيعة المثال انفرد بتدقيقه فيها عن نظرائه واشتهر بتحقيقه لها عن قرنائه وقد فصّل القول فيها في مقدمة الفتح وذكر أن منها ما يكون دالا بالمطابقة لما يورده تحتها وقد تكون الترجمة بلفظ المترجم له أو بعضه أو معناه وكثيرا ما يترجم بلفظ الاستفهام حيث لا يجزم بأحد الاحتمالين وكثيرا ما يترجم بأمر لا يتضح المقصود منه إلا بالتأمل كقوله: "باب قول الرجل ما صلينا"فإن غرضه الرد على من كره ذلك, وكثيرا ما يترجم بلفظ يومئ إلى معنى حديث لم يصح على شرطه أو يأتي بلفظ الحديث الذي لم يصح على شرطه صريحا في الترجمة ويورد في الباب ما يؤدي معناه تارة بأمر ظاهر وتارة بأمر خفي وربما اكتفى أحيانا بلفظ الترجمة التي هي لفظ حديث لم يصح على شرطه وأورد معه أثرا أو آية فكأنه يقول لم يصح في الباب شيء على شرطه، لهذه الأمور وغيرها اشتهر عن جمع من الفضلاء قولهم: "فقه البخاري في تراجمه".
شرط البخاري في صحيحه:(4/34)
روى الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح بسنده إلى الحافظ أبي الفضل ابن طاهر المقدسي أنه قال: "شرط البخاري أن يخرّج الحديث المتفق على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور من غير اختلاف بين الثقات الأثبات ويكون إسناده متصلا غير مقطوع وإن كان للصحابي راويان فصاعدا فحسن وإن لم يكن إلا راو واحد وصح الطريق إليه كفى"انتهى. وهذا الذي رواه الحافظ عنه في مقدمة الفتح صرح به المقدسي نفسه بلفظ قريب منه في أول كتابه شروط الأئمة الستة، وقال الحافظ في مقدمة الفتح وفي شرح نخبة الفكر في معرض ترجيح صحيحه على صحيح مسلم: "أما رجحانه من حيث الاتصال فلاشتراطه أن يكون الراوي قد ثبت له لقاء من روى عنه ولو مرة واكتفى مسلم بمطلق المعاصرة"، وقال في شرح النخبة أيضا في أثناء تعداد مراتب الصحيح: "ثم يقدم في الأرجحية من حيث الأصحية ما وافقه شرطهما لأن المراد به رواتهما مع باقي شروط الصحيح…".
ثناء العلماء عليه وتلقيهم له ولصحيح مسلم بالقبول: -
قال الحافظ في مطلع مقدمة الفتح: "وقد رأيت الإمام أبا عبد الله البخاري في جامعه الصحيح قد تصدى للاقتباس من أنوارهما البهية - يعني الكتاب والسنة - تقريرا واستنباطا وكرع من مناهلهما الروية انتزاعا وانتشاطا ورزق بحسن نية السعادة فيما جمع حتى أذعن له المخالف والموافق وتلقى كلامه في الصحيح بالتسليم المطاوع والمفارق.."إلى آخر كلامه رحمه الله…
وقال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية: "وأجمع العلماء على قبوله - يعني صحيح البخاري - وصحة ما فيه وكذلك سائر أهل الإسلام…".
وقال ابن السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: "وأما كتابه الجامع الصحيح فأجل كتب الإسلام بعد كتاب الله…".
وقال أبو عمرو ابن الصلاح في علوم الحديث بعد ذكره أن أول من صنف في الصحيح البخاري ثم مسلم: "وكتاباهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز" ثم قال: "ثم إن كتاب البخاري أصح الكتابين وأكثرهما فوائد".(4/35)
وقال النووي في مقدمة شرحه لمسلم: "اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد الكتاب العزيز الصحيحان البخاري ومسلم وتلقتهما الأمة بالقبول وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة وقد صح أن مسلما كان ممن يستفيد من البخاري ويعترف بأنه ليس له نظير في علم الحديث"انتهى…
وقال الحافظ عبد الغني المقدسي في كتابه الكمال - فيما نقله ابن العماد في شذرات الذهب -: "الإمام أبو عبد الله الجعفي مولاهم البخاري صاحب الصحيح إمام هذا الشأن والمقتدى به فيه والمعول على كتابه بين أهل الإسلام".
وقال الإمام الشوكاني في مطلع كتابه قطر الولي على حديث الولي - وهو حديث من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب - قال: "ولا حاجة لنا في الكلام على رجال إسناده فقد أجمع أهل هذا الشأن أن أحاديث الصحيحين أو أحدهما كلها من المعلوم صدقه المتلقى بالقبول المجمع على ثبوته وعند هذه الإجماعات تندفع كل شبهة ويزول كل تشكيك وقد دفع أكابر الأئمة من تعرض للكلام على شيء مما فيهما وردوه أبلغ رد وبينوا صحته أكمل بيان فالكلام على إسناده بعد هذا لا يأتي بفائدة يعتد بها فكل رواته قد جاوزوا القنطرة وارتفع عنهم القيل والقال وصاروا أكبر من أن يتكلم فيهم بكلام أو يتناولهم طعن طاعن أو توهين موهن"انتهى…
هذه أمثلة لكلام العلماء في صحيح البخاري وبيان علو درجته وتلقي الأمة له ولصحيح مسلم بالقبول…
وجوه ترجيح صحيحه على صحيح مسلم: -
تقدم ذكر بعض أقوال الأئمة الدالة على تقديم الصحيحين صحيح البخاري وصحيح مسلم على غيرهما وتلقي الأمة لهما بالقبول وفي بعضها النص على تقديم صحيح البخاري على صحيح مسلم وهو أمر مشهور عند أهل العلم وذلك لأمور: -(4/36)
الأول: أن الذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم أربعمائة وبضعة وثلاثون رجلا, المتكلم فيه بالضعف منهم ثمانون رجلا، والذين انفرد مسلم بالإخراج لهم دون البخاري ستمائة وعشرون رجلا المتكلم فيه بالضعف منهم مائة وستون رجلا, ولا شك أن التخريج عمن لم يتكلم فيه أصلا أولى من التخريج عمن تكلم فيه وإن لم يكن ذلك الكلام قادحا.
الثاني والثالث: أن الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه لم يكثر من تخريج أحاديثهم وأن أكثرهم من شيوخه الذين لقيهم وجالسهم وعرف من أحوالهم واطلع على أحاديثهم وميز جيدها من موهومها بخلاف مسلم في الأمرين…
الرابع: أن البخاري اشترط ثبوت التلاقي بين الراوي ومن روى عنه ولو مرة واكتفى مسلم بمجرد المعاصرة وذلك واضح الدلالة على تقديم صحيح البخاري على صحيح مسلم لما فيه من شدة الاحتياط وزيادة التثبت…
الخامس: أن ما انتقد على البخاري من الأحاديث أقل عددا مما انتقد على مسلم ولا شك أن ما قل الانتقاد فيه أرجح مما كثر.
وهذه الوجوه بالإضافة إلى اتفاق العلماء على أن البخاري أعلم بهذا الفن من مسلم وأن مسلما تلميذه وخريجه وكان يشهد له بالتقدم في هذا الفن والإمامة فيه والتفرد بمعرفة ذلك في عصره. وقد أوضح هذه الوجوه وغيرها الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح وفي شرحه لنخبة الفكر…
وهذا الترجيح لصحيح البخاري على صحيح مسلم المراد به ترجيح الجملة على الجملة لا كل فرد من أحاديث الآخر كما أشار إلى ذلك السيوطي في ألفيته بقوله:
وربما يعرض للمفوق ما
يجعله مساويا أو قدما
ومن أمثلة ذلك كما في شرح النخبة للحافظ ابن حجر أن يكون الحديث عند مسلم وهو مشهور قاصر عن درجة التواتر لكن حفته قرينة صار بها يفيد العلم فإنه يقدم على الحديث الذي يخرجه البخاري إذا كان فردا مطلقا…(4/37)
أما ما نقل عن بعض العلماء من تقديم صحيح مسلم على صحيح البخاري فهو راجع إلى حسن السياق وجودة الوضع والترتيب لا إلى الأصحية كما قرر ذلك أهل هذا الشأن…
عدد شيوخ البخاري في الجامع الصحيح وطبقاتهم: -
ذكر صاحب كشف الظنون أن عدد مشائخ البخاري الذين خرج عنهم في الجامع الصحيح مائتان وتسعة وثمانون، وعدد الذين تفرد بالرواية عنهم دون مسلم مائة وأربعة وثلاثون وذكر الحافظ في مقدمة الفتح أن مشائخه منحصرون في خمس طبقات:
الطبقة الأولى: من حدثه عن التابعين مثل محمد بن عبد الله الأنصاري حدثه عن حميد ومثل مكي بن إبراهيم حدثه عن يزيد بن أبي عبيد ومثل أبي عاصم النبيل حدثه عن يزيد بن أبي عبيد أيضا ومثل عبيد الله ابن موسى حدثه عن إسماعيل بن أبي خالد ومثل أبي نعيم حدثه عن الأعمش ومثل خلاد بن يحيى حدثه عن عيسى بن طهمان ومثل علي بن عياش وعصام بن خالد حدثاه عن حريز بن عثمان وشيوخ هؤلاء كلهم من التابعين…
الطبقة الثانية: من كان في عصر هؤلاء لكن لم يسمع من ثقات التابعين كآدم بن أبي إياس وأبي مسهر عبد الأعلى بن مسهر وسعيد بن أبي مريم وأيوب بن سليمان بن بلال وأمثالهم…
الطبقة الثالثة: هي الوسطى من مشائخه وهم من لم يلق التابعين بل كبار تبع الأتباع كسليمان بن حرب وقتيبة بن سعيد ونعيم بن حماد وعلي بن المديني ويحيى بن معين وأحمد ابن حنبل واسحاق ابن راهوية وأبي بكر وعثمان بن أبي شيبة وأمثال هؤلاء، وهذه الطبقة قد شاركه مسلم في الأخذ عنهم…
الطبقة الرابعة: رفقاؤه في الطلب ومن سمع قبله قليلا كمحمد بن يحيى الذهلي وأبي حاتم الرازي ومحمد بن عبد الرحيم صاعقة وعبد بن حميد وأحمد بن النضر وجماعة من نظرائهم وإنما يخرج عن هؤلاء ما فاته من مشايخه أو ما لم يجد عند غيرهم.(4/38)
الطبقة الخامسة: قوم في عداد طلبته في السن والإسناد سمع منهم للفائدة كعبد الله بن حماد الآملي وعبد الله بن أبي العاص الخوارزمي وحسين بن محمد القباني وغيرهم. وقد روى عنهم أشياء يسيرة وعمل في الرواية عنهم بما روى عثمان بن أبي شيبة عن وكيع قال: "لا يكون الرجل عالما حتى يحدث عمن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه"، وعن البخاري أنه قال: "لا يكون المحدث كاملا حتى يكتب عمن هو فوقه وعمن هو مثله وعمن هو دونه..".
ثناء العلماء على الرواة المخرج لهم في صحيح البخاري وانتقاد بعض الحفاظ لبعضهم والجواب على ذلك:
تقدم في كلام الشوكاني على صحة حديث من عادى لي وليا قوله: "فكل رواته قد جاوزوا القنطرة وارتفع عنهم القيل والقال وصاروا أكبر من أن يتكلم فيهم بكلام أو يتناولهم طعن طاعن أو توهين موهن".
وقال الحافظ في مقدمة الفتح: "وقد كان الشيخ أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل الذي خرج عنه في الصحيح هذا جاز القنطرة يعني بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل ما فيه"، وقال الحافظ في شرح نخبة الفكر: "ورواتهما (يعني الصحيحن) قد حصل الاتفاق على القول بتعديلهم بطريق اللزوم, فهم مقدمون على غيرهم في رواياتهم وهذا أصل لا يخرج عنه إلا بدليل"انتهى. وقد كان من دأب العلماء أحيانا عند إرادة التعريف ببعض الرواة: الاكتفاء بالقول بأنه من رجال الصحيحين أو أحدهما.(4/39)
هذا وقد انتقد بعض الحفاظ نحو الثمانين من رجال صحيح البخاري كما سبقت الإشارة إلى ذلك عند ذكر وجوه ترجيح صحيح البخاري على صحيح مسلم وقد عقد الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح فصلا ذكرهم فيه واحدا واحدا وأجاب عما وجه إليهم من انتقادات وقال في معرض تعداد الفصول العشرة التي اشتملت عليها المقدمة: "التاسع في سياق أسماء جميع من طعن فيه من رجاله على ترتيب الحروف والجواب عن ذلك الطعن بطريق الإنصاف والعدل والاعتذار عن المصنف في التخريج لبعضهم ممن يقوى جانب القدح فيه إما لكونه تجنب ما طعن فيه بسببه وإما لكونه أخرج ما وافقه عليه من هو أقوى منه وإما لغير ذلك من الأسباب"، وقال في مطلع الفصل المشار إليه: "وقبل الخوض فيه ينبغي لكل منصف أن يعلم أن تخريج الصحيح لأي راو كان مفتعل لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته ولا سيما ما انضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين وهذا معنى لم يحصل بغير من خرج عنه في الصحيح فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما, هذا إذا خرج له في الأصول فأما إن خرج له في المتابعات والشواهد والتعاليق فهذا يتفاوت درجات من أخرج له منهم في الضبط وغيره مع حصول اسم الصدق لهم وحينئذ إذا وجدنا لغيره في أحد منهم طعنا فذلك الطعن مقابل تعديل هذا الإمام فلا يقبل إلا مبين السبب مفسرا بقادح يقدح في عدالة هذا الراوي أو في ضبطه مطلقا أو في ضبطه لخبر بعينه لأن الأسباب الحاملة على الجرح متفاوتة منها ما يقدح ومنها ما لا يقدح", ثم إنه ذكر الأسباب الخمسة التي عليها مدار الجرح وهي البدعة والمخالفة والغلط وجهالة الحال ودعوى الانقطاع في السند وتكلم على كل منها بالنسبة لرجال الصحيح إجمالا ثم نبه على أمور قدح بها بعض العلماء وهي غير قادحة. وقال الخطيب البغدادي كما في قواعد التحديث للقاسمي: "ما احتج البخاري ومسلم به من جماعة علم الطعن فيهم من غيرهم محمول على أنه لم يثبت(4/40)
الطعن المؤثر مفسر السبب…".
وقال الحافظ الذهبي في جزء جمعه في الثقات الذين تكلم فيهم بما لا يوجب ردهم: "وقد كتبت في مصنفي الميزان عددا كثيرا من الثقات الذي احتج البخاري ومسلم وغيرهما بهم لكون الرجل منهم قد دون اسمه في مصنفات الجرح وما أوردتهم لضعف فيهم عندي بل ليعرف ذلك وما زال يمر بي الرجل الثبت وفيه مقال من لا يعبأ به"إلى آخر كلامه رحمه الله.
انتقاد بعض الحفاظ لبعض الأحاديث في صحيح البخاري والجواب عن ذلك: -
ذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح أن الدارقطني وغيره من الحفاظ انتقدوا على الصحيحين مائتين وعشرة أحاديث اشتركا في اثنين وثلاثين حديثا وانفرد البخاري عن مسلم بثمانية وسبعين حديثا وانفرد مسلم عن البخاري بمائة حديث وقد عقد فصلا خاصا للكلام على الأحاديث المنتقدة في صحيح البخاري أورد فيه الأحاديث على ترتيب صحيح البخاري وأجاب على الانتقادات فيها تفصيلا وقد أجاب عنها في أول الفصل إجمالا حيث قال: "والجواب عنه على سبيل الإجمال أن نقول: "لا ريب في تقديم البخاري ثم مسلم على أهل عصرهما ومن بعده من أئمة هذا الفن في معرفة الصحيح والمعلل"ثم ذكر بعض ما يؤيد ذلك ثم قال: "فإذا عرف وتقرر أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له أو له علة إلا أنها غير مؤثرة عندهما فبتقدير توجيه كلام من انتقد عليهما يكون قوله معارضا لتصحيحهما ولا ريب في تقديمهما في ذلك على غيرهما فيندفع الاعتراض من حيث الجملة وأما من حيث التفصيل فالأحاديث التي انتقدت عليهما تنقسم أقساما:
الأول: ما تختلف الرواة فيه بالزيادة والنقص من رجال الإسناد.
الثاني: ما تختلف الرواة فيه بتغيير رجال بعض الإسناد.
الثالث: ما تفرد بعض الرواة بزيادة فيه دون من هو أكثر عددا أو أضبط ممن لم يذكرها.
الرابع: ما تفرد به بعض الرواة ممن ضعف من الرواة.
الخامس: ما حكم فيه بالوهم على بعض رجاله.(4/41)
السادس: ما اختلف فيه بتعيين بعض ألفاظ المتن.
وفي ضمن ذكره لهذه الأقسام ذكر الجواب عن ذلك في الجملة وأشار إلى بعض الأحاديث المنتقدة التي فصل القول فيها بما يوضح الجواب الإجمالي. ثم قال: "فهذه جملة أقسام ما انتقده الأئمة على الصحيح وقد حررتها وحققتها وقسمتها وفصلتها لا يظهر منها ما يؤثر في أصل موضوع الكتاب بحمد الله إلا النادر". وقال في نهاية الفصل: "هذا جميع ما تعقبه الحفاظ النقاد العارفون بعلل الأسانيد المطلعون على خفايا الطرق"، إلى أن قال: "فإذا تأمل المنصف ما حررته من ذلك عظم مقدار المصنف في نفسه وجل تصنيفه في عينه وعذر الأئمة من أهل العلم في تلقيه بالقبول والتسليم وتقديمهم له على كل مصنف في الحديث والقديم".
عناية العلماء بصحيح البخاري:(4/42)
وقصارى القول أن صحيح البخاري أول مصنف في الصحيح المجرد وهو أصح كتاب بعد كتاب الله العزيز ورجاله مقدمون في الرتبة على غيرهم وأحاديثه على كثرتها لم ينتقد الجهابذة المبرزون في هذا الفن منها إلا القليل مع عدم سلامة هذا النقد ومع هذا كله جمع فيه مؤلفه رحمه الله بين الرواية والدراية وهذه الميزات وغيرها توضح السر في إقبال العلماء عليه واشتغالهم فيه وعنايتهم التامة به فلقد بذل العلماء قديما وحديثا فيه الجهود العظيمة وصرفوا في خدمته الأوقات الثمينة وأولوه ما هو جدير به من اهتمامهم فكم شارح لجميع ما بين دفتيه بسطا واختصارا ومقتصر على إيضاح بعض جوانبه فألفوا في رجاله وفي شيوخه خصوصا وصنفوا في شرح تراجم أبوابه وفي المناسبة بينها وغير ذلك من الجوانب التي أفردت بالتأليف وكان على رأس المبرزين في هذا الميدان الحافظ الكبير أحمد بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852هـ فقد أودع كتابه العظيم فتح الباري مع مقدمته ما فيه العجب فكما أن مؤلفه رحمه الله أحسن في انتقائه وجمعه غاية الإحسان فقد أحسن الحافظ ابن حجر في خدمته والعناية به تمام الإحسان وإن نسبته إلى غيره من الشيوخ كنسبة صحيح البخاري إلى غيره من المصنفات فرحم الله الجميع برحمته الواسعة وجزاهم خير الجزاء …
الشدة على المتعلمين مضر بهم(4/43)
وذلك أن إرهاف الحد بالتعليم مضر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيق عن النفس في انبساطها وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل وحمله على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله وصار عيالا على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل سافلين. وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف واعتبره في كل من يملك أمره عليه ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به وتجد ذلك فيهم استقراء، وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالحرج ومعناه في الاصطلاح المشهور التخابث والكيد وسببه ما قلناه.
ابن خلدون(4/44)
التخدير الجَماعي
بقلم الشيخ رمضان أبو العز
المدرس بكلية الشرية بالجامعة
في مكان ما من المعمورة كان يسكن شعب من الشعوب يقال له (الأرو) وكان يغلو في حاكمه إلى درجة (التقديس) وكان الأرو من الشعوب الرعوية وكان كأنما يعيش في عصر الفخار.
وذات يوم انطلق عجل كاد يقتله الظمأ إلى (زير) من الفخار به ماء فشرب وحينما أراد أن يخرج رأسه من الإناء عاقه قرناه فذهب فريق من الأرو إلى زعيمه الحاكم لحل المشكل فأشار عليهم بذبح العجل في الحال ولما نطق بالحل علا الهتاف بطول الحياة للزعيم على الحل السعيد. ولكن بعد الذبح تعذر إخراج الرأس أكثر من ذي قبل فعادوا إلى الزعيم لإيجاد الحل الأخير فأشار بكسر (زير) الفخار وعلا الهتاف مرة ثانية لا بطول البقاء فحسب بل بالخلود في الأبدية.
ولو كان طفل واع مكان هذا الشعب لفطن إلى أن الحل الذي اقترحه الزعيم هو أسوأ الحلول طرا لأنه لا عجلا أبقى ولا إناء سلم من التكسير بل كان الأولى كسر الزير فداء للعجل وبدلا من أن ينتقد الزعيم زادوا فيه غلوا وما ذلك إلا لأن هذا الشعب وأمثاله كثير قد وضعوا تحت تأثير تخدير روحي فلم يعودوا يعون إلا شيئا واحدا هو تقديس الزعيم وكلما مني بالفشل ازداد تعلقهم به وتقديسهم لآرائه.
ذلك أن الروح تسكر كما يسكر البدن وربما كان سكرها أشد إيغالا وأمعن ذهابا للعقل.
وما الخرافات والأساطير التي شاعت وفشت في كل من مصر القديمة وبابل وآشور والهند واليونان والرومان إلا مظاهر صارخة لهذا السكر الجماعي الذي امتد أمده أحقابا وآجالا قد تتجاوز آلاف السنين.
فما نسجته الهند حول كرشنا وبوذا، ومصر القديمة حول أوزيريس وإيزيس، واليونان حول جوبتر وفينوس، والرومان حول مارس وأدونيس، وسوريا القديمة حول بعل وعشتورات، والجاهلون حول اللات والعزى إن هي إلا أسماء سموها وخرافات لفقوها.(4/45)
تخرصا وأحاديثا ملفقة
ليست بنبع إذا قيست ولا غرب
وما كانت جميعا لتروج عاما ولا شهرا ولا يوما ولا ساعة لولا هذا الأفيون الروحي الجماعي الذي كثيرا ما ينتاب الشعوب فيذرها مبنجة في غيبوبة عن المنطق والتفكير الصحيح، وإذا كانت الوثنيات ترتكز على ركائز أربعة:
- أولها: الزعماء وحواشيهم وهم الذين سماهم الحق تبارك وتعالى (بالملأ) بقوله: {قَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ} , وهؤلاء يمسكون بالخرافة لا إيمانا بها ولكن لأنها هي التي تحفظ عليهم منصبهم وجاههم وسمعتهم بين العامة.
- وقامت الركيزة الثانية على الكهنة ورجال الدين الضالين المضلين الذين قاموا بنسج هذه الأساطير الملفقة تواطؤا مع الزعماء وضمانا لمكاسبهم المادية ومنزلتهم في النفوس.
- وقامت الركيزة الثالثة على الجيوش والشرطة الذين يعملون كحراس للفئتين السابقتين لتحتفظ لنفسها بقسط وافر من الغنائم والسحت والجاه كذلك.
إلا أن هذه الركائز ما كانت لتبقى لولا الركيزة الرابعة التي هي بحق عمود فسطاط الوثنية ولذا كانت أهمها جميعا.
تلك أيها الإخوة الكرام هي (العوام) و (الجماهير) الذين غالتهم كؤوس الروح فعطلوا عقولهم وسدوا آذانهم وغطوا أبصارهم فلسان حالهم قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} , من هذه الركيزة نجم الخطر الأكبر على الدين الصحيح والدعوة الحقة فلولا (العامة) و (الجمهور) ما قامت أسطوانة واحدة للركائز السابقة بحال وهل كان فرعون مستطيعا أن يدعي الربوبية العليا لولا الدهماء! إقرأ إن شئت قوله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} .(4/46)
وقد علم بالتجربة أن من أهون الأمور تخدير (العوام) فرادى وجماعات، فشيء من الغناء المثير للغرائز والكذب المنمق والقول المزخرف والقصص المخترع يؤثر فيهم {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} , فيبتعدون رويداً رويداً عن الحقائق وينأون عن الواقع، ويدخلون في عالم الخيال وظلمات الأوهام، حتى يصعب انتشالهم من ظلمة الوهم إلى وضح اليقين ونور الحق.
فالغناء والكذب والتلفيق هي أفيون سريع الوصول إلى ألبابهم وعقولهم قوي التأثير على أبصارهم فتحجب عنهم الرؤية إلا ما يبصره لهم الزعماء والرؤساء، وفيهم يقول شوقي:
صور العمى شتى وأقبحها إذا
نظرت بغير عيونهن السهام
وكذلك السمع فقد سدوا آذانهم ولم يفتحوها إلا لما يلقيه عليهم الكبراء والسادة وفيهم يقول شوقي:
ياله من ببغاء
عقله في أذنيه
ملأ الجو هتافا
بحياتي قاتليه
ولما بعدوا عن توحيد الحق وإفراده بالعبادة سارعت إلى نفوسهم الآلهة القديمة ولكن بأسماء مستحدثة، وبدلا من تسميتهم آلهة سموهم أولياء، فكما تعلق القدماء باللات والعزى تعلق هؤلاء بالبدوي والجيلاني والتيجاني والدسوقي.
أما هبل الأكبر فيقرن به البدوي وربما زاد عليه، والأدهى من هذا أن أحد الملاحدة في التاريخ الإسلامي قد وجد من أعلى قبره وأنشأ له ضريحا هائلا في عاصمة من كبرى عواصم البلاد الإسلامية بالرغم من انه هو القائل:
العبد رب والرب عبد
فليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك رب
أو قلت رب أنى يكلف
وهي مقالة وحدة الوجود الآثمة المجرمة، وبرغم هذا الإلحاد استغاثوا به وسألوه النفع والضر.(4/47)
بل إن التخدير وصل إلى درجة لم تبلغها الجاهلية الأولى فأشركوا الآلهة الجديدة المسماة بالأولياء أشركوها مع الله في الربوبية فضلا عن العبادة فادعوا أن ديوانا يعقد أسبوعيا للبت في مصائر الكون ترأسه زينب بنت علي رضي الله عنه وبرأها مما قالوا، بل قسموا الكون إلى أربعة اركان ونيط بكل ولي ركن منها…
أي بلاء وأي أفيون خبيث أصاب طائفة من المسلمين في صلب العقيدة حتى أشركوا مع الله الآلهة الجدد في أصل الربوبية.
وقد يستلزم الخمر المعنوية خمورا حسية فقد أنشأ الحسن الصباح وشيعته فكرة الحشيش وأكثروا من تعاطيه وكاد الحشاشون أن يفتكوا بصلاح الدين الأيوبي رحمه الله رحمة واسعة.
وكثيرا ما تناولت أشعارهم التغزل بالخمر وما إليها.
ولقد تبلورت الوثنيات القديمة فجمعت في وثنية مستحدثة متطورة تلك هي (الاشتراكية العلمية) التي أنشأها اليهودي ماركس والأباضي المتخنث انجلز ونفذها المارق لينين.
فبينما تركز أشد تركيز على الكفر بالله عزوجل وإنكار وجوده بشتى الأساليب وإعلان لينين اللعين بقوله: "الآن أعلن أن الله خرافة", تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. فبينما يدأبون ويدأب أشياعهم على هذا ليل نهار إذا بهم يتخذون من لينين معبودا ومن قبره مزارا وصنما يعبد.
وإذا بهم يقولون عن السفاح ستالين (الأب الرحيم) وهو لفظ لا يطلق عندهم إلا على الإله، وإذا بأحد الكتاب المنتسبين إلى الإسلام يقول في رثاء ستالين: "بأبي أنت وأمي طبت حيا وميتا", كبرت كلمة تخرج من أفواههم!.
ولقد قامت هذه الاشتراكية العلمية بعملية تخدير واسعة النطاق بتنظيمها الأيديولوجي وهو الغوز الفكري الذي حشدت له أبالسة الكتاب المتخصصين في علم النفس الذين عملوا على تزوير التاريخ بما اتبدعوه من التفسير المادي للتاريخ.(4/48)
ومن استعصى على غزوهم الفكري فلتصب عليه وسائل البطش والانتقام الذي لم يعهد له مثيل من قبل.. فيخدره البطش الجبار والعذاب الأليم ثم الغزو الفكري حتى تحولت الإنسانية على أيديهم إلى سائمة شقية تساق إلى المصانع بمنتهى الهوان والذلة، وقد لا تجد ما تقتات به إلا حساء الكرنب الذي هو والماء المغلي سواء. ومع ذلك فقد أطلقوا على هذا الذل عزة وكرامة، وعلى هذا الحرمان الشديد رخاء وسعة، وعلى الضيق القاتل حرية وانطلاقا، وما كان للسامئة أن تبدي تملمها أو اعتراضها، وإلا فالسوط فوق الجلود والزمهرير القارس في سيبيريا بالمرصاد لكل من يبدي أدنى حركة وراء الستار الحديدي.
وإن تعجب فعجب أن يتقمص هؤلاء المخمورون التائهون شخصية المفيق الواعي فيرموك أنت بدائهم.. ألم يسموا من قبل محمدا صلى الله عليه وسلم ومن معه الصائبة الخارجين على أصل الدين في نظرهم، الناكبين عن طريق الحق الذي هم فيه بزعمهم. ألم يزعموا أنهم هم أهل الصلاة والصلة بالله فرد عليهم الحق تبارك وتعالى بقوله: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} . ألم يدعوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو قاطع الرحم دونهم.
ثم جاءت الوثنية المتطورة أعني بها الاشتراكية العلمية فرمت الأديان عامة والإسلام بوجه أخص أنه هو أفيون الشعوب ومخدر الجماعات، وهل يعقل أن دينا يلزم معتنقه بالمسؤولية الكاملة عن كل ما يصدر منه ولوكان في حجم الذرة.. اقرأ إن شئت هذه الآية الجامعة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ, وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} , ثم قوله صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".(4/49)
ولقد كانت القرون الإسلامية الأولى التي نفذت تعاليم الإسلام تنفيذا صحيحا أشد أهل الدنيا محاسبة للنفس وأبعدهم عن الخدر والأفيون، ولم يستطع حتى الأعداء الألداء أن يرموهم بمثل هذا ولكن كما قالوا قديما: "رمتني بدائها وانسلت"ومع ذلك فإنّ إيديولوجيتهم الخبيثة قد استطاعت أن تلبس الأمر على كثير من الناس، فالواقع الذي لا مراء فيه أن كثيرا من المسلمين في عصور الانحطاط ينطبق عليهم وصف المخمورين على أوسع مدى، ولكنهم لم ينحدروا إلى هذا الدرك المزري إلا بعد أن خلعوا ربقة الإسلام من أعناقهم، وتاهوا في الضلالة والغي والشركيات الفاضحة, أما السلف الصالح فكانوا مثلا يحتذى في كل خير وبر ويقظة في الدين والدنيا والحرب والسلم جميعا, ولكن التلبيس والدسائس هو شغل الاشتراكية الشاغل كما كان شغل زعيمها اللعين إبليس عليه لعنة.
وإذا كان لا بد من سوق بعض الأمثلة على الخدر الجماعي الذي يصيب الناس في مختلف العصور فإليكم ما يأتي:
إن قلب نجد الذي أنجب من الفصحاء أمثال الأعشى ولبيد العامري الذي قال أصدق كلمة بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لما يروى عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد وهي: (ألا كل شيء ما خلا الله باطل) "
فهل يعقل أن بلادا تنجب هؤلاء ومعهم زهير وامرؤ القيس وغيرهم تنجب من يستمع إلى هراء مسيلمة فضلا عن أن يؤمنوا إيمانا عميقا بمثل قوله: "يا ضفدعة بنت ضفدعين، نقي ما تنقين، نصفك في الماء، ونصفك في الطين"ومن مثل قوله: "والحارثات حرثا، والحاصدات حصدا، والطاحنات طحنا، والثاردات ثردا واللاقمات لقما.."الخ, إنما استمعوا إلى هذا الهراء في فترة سكرة من الروح أعمت أبصارهم وأصمت أذانهم وذهبت بعقولهم وألبابهم فلم يصحوا ولا أفاقوا إلا على سيف خالد بن الوليد وزيد بن الخطاب وعبد الله بن عبد الله بن أبي وغيرهم رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.(4/50)
مثال آخر نرى فئاماً من المسلمين إلى اليوم قد صدقوا بعض الجهال في خرافتهم وتزييفهم للحقائق الذين يزعمون أنهم لا يعبدون الله خوف ناره، فهذه في زعمهم عبادة العبيد، ولا من أجل جنته فهذه عبادة التجار، وإنما عشقوه لذاته، ولم تندفع هذه الفئام في تصديق هذا الهراء إلا لأنهم في سبات روحي عميق، وإلا فالخشية من ذي الجلال والرغبة فيما عنده من عليا مراتب الإيمان بل من شأن الرسل العظام، اقرأ إن شئت قوله تعالى في حق زكريا عليه السلام وأهل بيته: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} , ثم قال جل شأنه بعدها: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} .
وآخر مثال في هذا مآسي التسعة والتسعين في المائة من الأصوات بل فضلا في التسعة والتسعين في المائة وتسعمائة وتسعة وتسعين في الألف.. ما كان هذا كله ليروج على الناس لولا التخدير الجماعي الذي ساعد على تكوينه الإيديولوجية الملفقة التي تفتأ تزيف الحقائق آناء الليل وأطراف النهار، ثم البطش الجبار وألوان التعذيب والإرهاق.. {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
اللهم هب المسلمين يقظة من سباتهم العميق وأزح يا رب الغشاوة عن أبصارهم والريبة عن قلوبهم قبل أن تأخذهم بذنوبهم إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.(4/51)
الضّوابط الأخلاقيّة للاقتصاد الإسلامي
بقلم الدكتور محمود بابللي
الاقتصاد والدين الإسلامي
قد يستغرب البعض ممن تأثروا بالثقافة الغربية، ولم يكن لهم حظ الاطلاع على الثقافة الإسلامية، أن يكون في الإسلام نظام اقتصادي خاص به.
وهذا الاستغراب لا يستبعد من أناس جهلوا حقيقة الإسلام وحسبوه دينا تقتصر علاقته على الأمور التعبدية وذلك حسب مفهومهم للدين الذي أخذوه عن المفهوم الغربي.
أما ما يجب أن يستغرب منهم - وهم أدعياء التقدمية - أن يكون حكمهم على الدين الإسلامي أنه مجرد دين تعبدي تقتصر تعاليمه على الصلة بين الله والإنسان، دون أن يكلفوا أنفسهم بدراسة هذه التعاليم، لذلك يأتي حكمهم مشوبا بالجهالة بهذا الدين الحنيف.
وجهل هؤلاء الناس بالإسلام يجعلهم أعداء له فيقدمون على إصدار حكمهم عليه دون تبصر أو اطلاع شأن الجهال عندما يصدرون أحكامهم على شيء دون معرفة.
فالدين الذي ينظم أمور أتباعه، بل أمور الإنسانية قاطبة، في كل مرافق الحياة، ولا يقطع الصلة بين هذه الحياة الدنيا، وما بعد هذه الحياة, لا يمكن أن يكون دينا تعبديا صرفا لا شأن له بأمور المعاملات وتنظيمات الدولة، وإن كان من أهم مبادئه توحيد الله وإخلاص العبودية له، هذا الإخلاص الذي هو في صلاح المؤمنين به دنيا وأخرى، لأن من أخلص عبادته لله استقام أمره وطابت سريرته وحمدت مغبته.
وعلى هذا لا يعقل أن يكون الدين الإسلامي ناظما لشؤون الدنيا والآخرة ولا يكون متضمنا نظاما اقتصاديا خاصا به متميزا عن غيره.
والأمور الاقتصادية في الإسلام تدخل في قسم المعاملات من الفقه الإسلامي، وقد فصل الفقه الإسلامي هذه المعاملات تفصيلا دقيقا، وكانت موضع التطبيق في العالم الإسلامي من لدن قيام الدولة الإسلامية حتى قبيل الحرب العالمية الأولى.(4/52)
وإذا جد في التعامل الاقتصادي أمور لم تكن من قبل، فإن الفقه الإسلامي لا يقف حجر عثرة أمام اقتباس ما يصلح من هذه الأمور ولا يتعارض مع أصل من أصول الشريعة الإسلامية، لأن الشرع الإسلامي يدور حيث تدور المصلحة المعتبرة شرعا.
وقد سبق لنا أن بينا خصائص الاقتصاد الإسلامي [1] وسنتعرض هنا، في هذا البحث إلى ذكر بعض ضوابطه المستمدة من الأخلاق الإسلامية.
ومن ضوابط الاقتصاد الإسلامي التي تحضن خصائصه وتؤكد معالمه هذه المعاني الإنسانية المنبثقة عن تعاليمه الأخلاقية، لأن الإسلام في حقيقته أخلاق كله.
والله سبحانه وتعالى وصف رسوله الكريم بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} , كما أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت مجيبة لمن سألها عن خلقه صلى الله عليه وسلم: "كان خلقه القرآن".
والاقتصاد الإسلامي فرع من المعاملات التي تدور بين الناس، وقد حدد لها الشرع الإسلامي حدودا لا تتعداها وألزم بها المسلمين ولو تجاوز الطرف الآخر هذه الحدود، لأن المسلم وقّاف عند حدود الله، وصدق الله العظيم:
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} , وقال سبحانه: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} .
وقال عليه الصلاة والسلام: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك".
وسيقتصر البحث في هذه العجالة على الضوابط الأخلاقية التالية وهي:
1- الإخاء.
2- الإحسان.
3- النصيحة.
4- الاستقامة.
5- التقوى.
وهذه الضوابط لها من الأهمية ما جعلني أقدمها على غيرها من الضوابط التي لا تخفى على من عرف حقيقة الإسلام عقيدة وتعاملا وسلوكا ولأنها تؤدي الغرض من الاستشهاد بها في هذا الموضوع الاقتصادي. وأهم هذه الضوابط بنظري التقوى، ولذلك ختمت بها هذ الحديث.
2ـ ضوابط الاقتصاد الإسلامي الأخلاقية(4/53)
أولا ـ الإخاء:
إن الدين الذي يجعل من الإخاء الإنساني أصلا من أصول التعايش بين الناس، والذي يشيد بأخوة العقيدة كأساس للترابط بين المسلمين، والذي يؤكد أن المسلمين نساء ورجالا بعضهم أولياء بعض، هذا الدين لا يمكن أن يكون قاصرا على الأمور التعبدية، بل هو دين عام شامل لشئون الحياة الإنسانية كلها، وهو دين الإنسانية قاطبة حتى قيام الساعة.
هذا الدين الذي لا يفرق بين الناس المنحدرين من أصل واحد، والذي لا يقيم لاختلاف الأجناس والألوان أي وزن، والذي يقرر المساواة أصلا في التعامل الإنساني، لا يصح أن يطلق عليه أنه دين عبادة وليس دين حياة، كما وأن العبادة لا تنفصل عن الحياة لأن كل ما يقوم الإنسان به في سبيل نفسه وغيره - إذا التزم به حدود الشرع - يكون عبادة.
وإن أخوة العقيدة في الإسلام لا تعدلها أخوة الدم والنسب، لأن هذه الأخوة تقوم على رباط الصلة بالله والإرتباط بشريعته، فكل من انتسب إلى هذه الشريعة انتساب اعتقاد وعمل، فهو أخ في الله لسائر المسلمين لا فرق بين إناثهم وذكورهم، أو بين حقيرهم وأميرهم إذ يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم.
والأخوة في الله تعني الانقطاع عن كل علاقة دنيوية غير مشروعة وتنمي كل علاقة تقوم على المحبة والتناصر في الله، كما أنها تعني معاداة كل من لا يؤمن بالله وموالاة كل من آمن بالله.
يقول تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} .
هذا النص يقيد الإطلاق بأن المؤمنين إخوة في الدين، والتناصر والتناصح بين الإخوة أمر محقق، كما أن هذه الأخوة توجب العمل على الإصلاح بين المؤمنين - عند الاقتضاء - لأن هذه الآية وردت بعد ورود النص على وجوب قتال الفئة الباغية من المؤمنين حتى تفيء إلى أمر الله.(4/54)
وهذا القتال لا يعني انعدام معاني الأخوة بين المسلمين، لأنها أصل ثابت لا يؤثر عليه سوى الخروج عن الإسلام بالكفر والعياذ بالله، وهي تذكير أيضا لهؤلاء المتقاتلين بأن الصلات بينهم يجب أن تكون قائمة على هذه الأخوة المقررة في الشرع الإسلامي، وضابطها التقوى التي تلازم الإنسان المسلم في أية حالة كان عليه.
ونجد هذا المعنى أيضا في قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} .
إن كلمة (أخيه) تشير إلى أكثر من معنى، فهي تشير إلى أن حادثة القتل - التي هي موضوع سياق هذه الآية - مهما كانت عظيمة ومستقبحة فإنها لا تقطع روابط الأخوة بين الجاني والمجني عليه، وإن هذه الصلة الوثقى بين المؤمنين هي من صلات الأخوة في الدين وفي العقيدة، وفي الإيمان بالله وبما أنزل من عنده، فالمؤمنون إخوة مهما حصل بينهم ما داموا يؤمنون بإله واحد وبشرع واحد، ويرجعون إلى حكم واحد, وهو حكم الله في الأرض الذي بيّنه القرآن وفصّلته السنة المطهرة.
وكلمة (أخيه) تتضمن هذا المعنى كما تتضمن الإشارة إلى أن العفو يعيد آصر الأخوة إلى عهدها السابق ويزيل الأحقاد ويمحو الضغائن ويخزي الشيطان، فهو معنى مستمد من هذا التوجيه الإلهي الحكيم.
ويقول سبحانه وتعالى - تذكيرا وعرضا لحالة المؤمنين الأولين قبل اعتناقهم الإسلام، وما يجب عليهم تجاه هذا التفضل بالهداية منه سبحانه وتعالى -:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ, وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} .(4/55)
ويقول سبحانه: {.. وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .
هذه هي الأخوة الحقيقية في الله، وما أقواها صلة وأبقاها أثرا وأحفلها نتائج، ومن نتائجها انتشار هذا الدين الإسلامي في العالم كله من يوم نزول القرآن العظيم إلى قيام الساعة.
وأثر الإخاء في التعامل بين الناس يوجب العدل والإنصاف والنصح، ويحول دون الإضرار، أو الكسب الحرام، أو الغش، أو الاحتكار، فهو ضابط أخلاقي, له وزنه في الميزان الاقتصادي وحسن التعايش بين الناس.
ثانيا ـ الإحسان:
الإحسان في الإسلام لا يمكن أن نجد له شبيها لمفاهيمه ودلالته عند غير المسلمين، لأنه نابع من شرع الله الذي أبدع كل شيء، وهو يلي مرتبة الإيمان.
فهو مفهوم إسلامي صرف. وقد عبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا التعبير الجامع الشامل: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
وهذه العبادة أو هذه الرقابة لله، ومن الله، لا تترك مجالا للمسلم أن ينحرف عن الصراط السوي، وإذا ما زاغ بعض الشيء تذكر رقابة الله عليه فعاد إلى الجادة، وأصلح ما فسد منه، وهذه هي حقيقة التقوى لأن التقوى هي رقابة الله في كل شيء.
وهذا غاية التوجيه الأخلاقي للفرد وللجماعة، لأن التعاليم الإسلامية تهدف إلى تحسين أوضاع الفرد، فهو اللبنة التي تبني منها الجماعو. فصلاح الجماعة متوقف على صلاح الفرد، والتلازم بينهما وارد والاعتبار هو للجماعة، لأن المصلحة الفردية تتوقف عند اصطدامها بمصلحة الجماعة، ومصلحة الجماعة لا تعتبر إلا إذا كانت مصلحة عامة يقرها الشرع.
وقد كتب الله الإحسان على كل شيء حتى في القتل والذبح.(4/56)
عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته".
وقد نهى الإسلام عن اتخاذ الشيء الحي هدفا لتعلم الرماية، كما أنه نهى عن تعذيب الحيوان، وقد جعل الشرع الإسلامي، وهو في مدلوله من موجبات دخلو الجنة.
هذه بعض مفاهيم الإحسان في الشرع الإسلامي، وهو في مدلوله يشمل كل قول وعمل يصدر عن الإنسان، لأن الإحسان - كما قلنا - مطلوب في كل شيء.
والآيات التي تشير إلى الإحسان وتحض عليه كثيرة نذكر منها قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} .
هذه الأوامر والنواهي هي دستور الحياة الإنسانية المثلى وهي جماع الخير كله، لأنها جمعت بين العدل الذي تقوم عليه السموات والأرض، والإحسان الذي هو في حقيقته مراقبة الله في كل أمر، والتكافل الإجتماعي بين ذوي القربى، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي التي هي جماع الشر كله.
وكل هذا من مبادئ الإسلام الاجتماعية التي تتصل بمعاملات الناس وصلاتهم بعضهم ببعض، وأهم ما في هذا الإحسان أن تجعل رقابة الله قائمة في كل عمل أو قول أو تصرف يصدر عنك. وبذلك يكون التعامل الاقتصادي قد احتضنته هذه الرقابة وأدت حق الله فيه.
ثالثا ـ النصيحة:
ما المقصود من النصح أو التناصح؟ يكون النصح خاصا وعاما، فالنصح الخاص هو الذي يقتصر على شخص معين في قضية معينة، أما النصح العام، فهو النصح الذي يكون له أثر واسع ويدخل في التعامل بين الناس.
والتناصح خلق إسلامي تفرضه الأخوة الإسلامية، والمبدأ في هذا هو أن تحب لأخيك ما تحبه لنفسك.(4/57)
عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: إني أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: "أبايعك على الإسلام، فشرط علي النصح لكل مسلم فبايعته على هذا".
وهذا النصح يعتمد مفهومه أيضا على الحديث الشريف التالي:
عن تميم الداري رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: "الدين النصيحة - ثلاث مرات - قالوا:: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".
فالنبي صلى الله عليه وسلم فسر النصيحة بهذه الأمور الخمسة التي تشمل القيام بحقوق الله وحقوق كتابه، وحقوق رسوله، وحقوق جميع المسلمين على اختلاف أحوالهم وطبقاتهم فشمل ذلك الدين كله، ولم يبق منه شيء إلا دخل في هذا الكلام الجامع المحيط.
فكلمة الدين النصيحة تجعل مفهوم النصيحة أمرا تعبديا خالصا، لأنه من متعلقات الدين، أو هو من الدين، أو كما ورد في الحديث الشريف: "الدين - كله - النصيحة".
وبذلك تكون النصيحة إلزامية بأن يتحراها الإنسان لأخيه الإنسان وأن لا يكتمه النصيحة إن وجد لزوما لها.
والتناصح يدخل أيضا في باب التعاون الذي يتناول البر والتقوى، والنهي عن التعاون بالإثم والعدوان، لأن النصح للغير فيه عون له على إرشاده إلى ما فيه صلاحه.
والتناصح يدخل أيضا في مفهوم التواصي بالحق والتواصي بالصبر المؤكد عليهما في سورة العصر.
والتواصي كالتناصح الحاصل بين اثنين فأكثر، لأن المر يشمل المؤمنين عامة، واقتران الحق بالصبر له دلالته على أن الدعوة إلى الحق لا بد لها من صبر وحسب أداء، وكذلك التناصح فإنه إن لم يكن في حكمة وبصيرة ويستعان عليه بالصبر لم يعط مردوده المرجو منه.
ومن هذا يتحقق لنا أن التعامل الاقتصادي في الإسلام يجب أن يبنى على النصيحة، وإذا ما نصحت في عملك، أي صدقت , فإنك تكون قد حققت أحد المفاهيم أو الأوامر الإسلامية المطلوبة منك.(4/58)
أي إنك عملت بما توجبه عليك أخلاقك الإسلامية في أداء النصيحة إلى الغير في جميع تصرفاتك وأعمالك وأقوالك.
والنصح لا يقبل الغش، لأن الغش لا يتفق مع النصح، ولا يكون نصح إذا كان فيه غش، وإنما يعتبر كذبا وتمويها واستغلالا وخيانة.
لذلك فإن النصح يفرض عليك أن تصدق في التعامل وأن لا تقبل لغيرك إلا ما ترتضيه لنفسك.
وهذا الضابط الأخلاقي له أثره البين في التعامل الاقتصادي، لأن هذا التعامل لا يقتصر على ذات الإنسان، وإنما يتعداه إلى الغير، فإذا تحقق التناصح بين المتعاملين اطمأنت النفوس بعضها لبعض، وعم الخير والتضامن بين أفراد المجتمع, وكان لذلك أثره في جميع شؤون الحياة.
ولا بد من الإشارة إلى أن النصيحة تدخل في باب الشورى، وقد جعل الإسلام الشورى واجبة على من يلي أمر المسلمين وصفة إيمانية لهم, ولا تتحقق الشورى إلا بالتناصح وبيان الرأي الأفضل.
وأثر النصيحة في التعامل الاقتصادي - بالمفهوم الإسلامي - أضحى واضحا، وبذلك يمتنع الفشل والاحتيال، والاحتكار وجميع ما يتصل بسوء المعاملة، فيما إذا افترضنا أن المجتمع يعيش حياة إسلامية، لأن الفرد المسلم حريص على اكتساب مرضاة الله سبحانه {وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .
رابعا ـ الاستقامة:
الاستقامة سلوك فردي وجماعي، وهو أبرز في حياة الجماعة وأبعد أثرا، وبذلك يقول الله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلآّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} … إلى آخر هذه الآيات الكريمات من سورة فصلت رقم30/32.(4/59)
هذا التوجيه الإسلامي للسلوك الفردي والجماعي يبتدأ بالاستقامة الجماعية، ويتأيد هذا المعنى بالآية القرآنية الكريمة الواردة في سورة الأحقاف في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} .
ومن ثم يتلو مبدأ الاستقامة البشري من الله للمؤمنين بأن لهم النصر في الدنيا والآخرة وبما أعد الله لهم في الجنة من نعيم دائم، ثم ينتقل إلى الفرد ويرسم له حسن المعاشرة (أو التعايش) بين الناس بقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ, وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ, َمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} .
والاستقامة تتعلق بسلوك الإنسان ظاهرا وباطنا، وذلك بفعل المأمورات واجتناب المنهيات والمداومة على ذلك حتى الممات.
ويوجه الله سبحانه رسوله الكريم ومن تاب معه بالاستقامة فيقول سبحانه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
فالاستقامة للرسول صلى الله عليه وسلم أن يثابر على تبليغ أوامر ربه وعلى ما هو عليه من خلق عظيم، والاستقامة للمؤمنين هي التأسي بالرسول عليه الصلاة والسلام والثبات على الدعوة الإسلامية.
والطغيان غير وارد في حق الرسول الأعظم، وإنما هو تحذير من الله سبحانه للمؤمنين بعدم تجاوزهم الحدود التي يرسمها لهم لأنه لا يخفى عليه شيء فهو بصير بما يعملون.(4/60)
ثم يوجه الله سبحانه عباده تأكيدا لما سبق من معاني بهذا الخصوص بقوله جل من قائل: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} .
وهذه الاستقامة استقامة جماعية أيضا مطلوبة من جميع المسلمين بأن يتمسكوا بتعاليم الإسلام ويثبتوا عليها، لأنها جماع الأخلاق الكريمة، وفيها ضمان صلاح الدنيا وحسن ثواب الآخرة.
فالاستقامة في حقيقتها تعني الثبات على السلوك السوي والطريق المستقيم حتى قيل عنها في الأمثال الدارجة: (الاستقامة عين الكرامة) .
ومرد هذا السلوك المستقيم في التعامل الاقتصادي أمر لا مراء فيه، لأن المجتمع المسلم يحرص على استقامة أفراده وحسن سلوكهم.
ونستطيع أن نعيد إلى الأذهان إقبال الناس على اعتناق الإسلام في البلاد التي لم تصل إليها جيوش المسلمين، وإنما وصلت إليها نماذج من أفراد المسلمين في أهم حقل اقتصادي وهو التجارة.
فكان من سلوك هؤلاء التجار المسلمين واستقامتهم أن حمل أمما عديدة علىاعتناق الإسلام والدخول في دين الله أفواجا.
والتجارة من الأمور المادية التي تقوم على طلب الربح، فهي مختبر عملي لكشف أخلاق التجار، وقد أثبت التجار المسلمون أنهم دعاة الإسلام بما كانوا يتخلقون به من أخلاق الإسلام حتى رغب الناس في اعتناق دينهم حبا في أخلاقهم وحسن معاملتهم.
خامسا ـ التقوى:
كلمة التقوى كلمة كثر ورودها في القرآن العظيم في مواضيع عديدة ومختلفة، وإننا إذا تتبعنا هذه الكلمة وما يتفرع عنها، وتحققنا من الأغراض التي تقصد إليها لوجدناها الرباط الذي يعقل النفوس عن أن تنطلق حسب رغباتها ووفق هواها، فهي قيد وثيق محكم لا يستطيع المؤمن أن يتفلت منه إذا كان يخشى الله ويتقيه.(4/61)
والتقوى هي ضابط رئيسي من ضوابط الاقتصاد الإسلامي، بل هي ضابط أساسي من ضوابط السلوك الإنساني جميعه في مضمار هذه الحياة لأنها في حقيقتها مراقبة الله والحرص على مرضاته والخوف من عذابه.
فالمسلم الذي يخشى الله ويتقيه يحرص على أن يكون نظيف السلوك ومستقيمه، ويتجنب كل ما يجعله في قرارة نفسه مسؤولا في يوم تعرض فيه الأعمال على رب العالمين الذي لا تخفى عليه خافية.
وسأقتصر فيمايلي على الاستشهاد ببعض الآيات التي وردت فيها التقوى كضابط من ضوابط السلوك الإنساني لأن استقصاء هذه الضوابط ليس بالأمر السهل.
أ - في الوفاء بالعهد:
يقول تعالى: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .
ب ـ في الإصلاح:
يقول تعالى أيضا: {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} .
ويقول أيضا: {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
ج ـ في الإيمان والعمل الصالح والإحسان:
يقول تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} .
د ـ في الصبر:
يقول تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} .
وقال أيضا: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} .
هـ ـ في المداينة والتعامل:(4/62)
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} - إلى قوله: – {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} , {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّه} .
وـ في الاستقامة:
يقول تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .
ز ـ في التواضع:
يقول تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} .
ح ـ في الصوم:
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
ط ـ في القصاص:
يقول تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
وسنورد بعض الآيات التي تكشف لنا عن أثر التقوى وما تخلفه من نتائج:(4/63)
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
ويقول أيضا: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} .
ويقول أيضا: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً, وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} .
{وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} .
{وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} .
ويقول أيضا: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} .
ويقول أيضا: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} .
هذه بعض آيات استشهدت بها عن مفهوم التقوى وأثرها، وهي في الحقيقة ضابط شديد الحساسية وتحوي الأثر، ولا يمكن أن نجد له ذكرا في القوانين الوضعية، لذلك فإن الرقابة إن لم تتوصل إلى اكتشاف ما اقترفه الإنسان، فإن المؤمن يعلم على اليقين أن عمله هذا مكشوف عند الله وأنه محاسب عليه، فهو رقيب على نفسه {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ, وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} . وبذلك يتراجع عن اقتراف ما يمكن أن يكون مسؤولا عنه, ويحرص على أداء ما يسجل له في سجل حسانته يوم القيامة.
وهذه الضوابط التي عددناها هي أيضاً على سبيل المثال لأن مكارم الأخلاق في الإسلام هي من محاسن الأخلاق، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم حسن الخلق بأنه البر.
وقال أيضا: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن" وهو من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام.(4/64)
وهذه الضوابط يتداخل بعضها مع بعض لأن الإسلام كل لا يتجزأ في جميع تعاليمه وهديه.
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] نشر بحث خصائص الاقتصاد الإسلامي في مجلة التجارة في جدة في الأعداد (3 و4 و5) من السنة العاشرة.(4/65)
المدلسون (5)
بقلم الشيخ حماد الأنصاري
المدرس بكلية الدعوة
153 (يعقوب) ابن عطاء بن أبي رباح في ترجمته في ثقات ابن حبان ما يقتضي أنه يدلس توفي سنة 155هـ من الطبقة الرابعة.
154 (ع س يونس) بن عبيد البصري من حفاظ البصرة ثقة مشهور وصفه النسائي بالتدليس وكذا ذكره السلمي عن الدارقطني، وقال ابن سعد في طبقاته: "توفي سنة 140هـ"من الطبقة الثانية.
155 (ع يونس) بن عبد الأعلى الصدفي المصري عن الشافعي عن محمد بن خالد الجندي حديث أنس الذي أخرجه ابن ماجه وأشار الذهبي إلى أن يونس هذا سواه تفرد عنه الشافعي بذاك الحديث "لامهدي إلا عيسى"وهو حديث منكر جدا، من الطبقة الثانية سنة 164هـ.
156 (ع يونس) بن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي حافظ مشهور كوفي يقال إنه روى عن الشعبي حديثا وهو حديثه عن الحارث الأعور عن علي رضي الله عنه "أبو بكر وعمر سيدا كُهولِ أهل الجنة" فأسقط الحارث وقال عبد الله بن أحمد: سألت أبي عن يونس بن أبي إسحاق فقال: كذا وكذا، قال الذهبي: "هذه العبارة يستعملها عبد الله بن أحمد بن حنبل كثيرا فيما يجيبه والده وهي بالاستقراء كناية عمن فيه لين"، من الطبقة الثانية، قال ابن سعد توفي سنة 159هـ.
(الكنى)
157 (أبو إسرائيل) الملائي اسمه إسماعيل بن خليفة العبسي مُتَكَلّمٌ فيه، وخرّج الترمذي من طريقه عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن بلال حديث "لا تثوبن في شيء من الصلوات إلا في صلاة الفجر"قال الترمذي: "لم يسمع أبو إسرائيل هذا الحديث من الحكم وإنما رواه عن الحسن ابن عمارة عنه من الخامسة توفي سنة 169هـ عن أكثر من 80 سنة.(4/66)
(أبو حرة) الرقاشي واسمه واصل بن عبد الرحمن صاحب الحسن البصري وعنه يحيي بن سعيد القطان, وصفه أحمد والدارقطني بالتدليس، قال الفلاس: "مات سنة 152هـ"من الطبقة الثالثة.
(أبو سعد) البقال واسمه سعيد بن المرزبان متكلم فيه مشهور بالتدليس رماه به أحمد وأبو حاتم والدارقطني وغيرهم قال ابن المبارك قلت لشريك بن عبد الله النخعي تعرف أبا سعد البقال فقال إي والله أعرفه عالي الإسناد أنا حدثته عن عبد الكريم الجزري عن زياد بن أبي مريم وروي عن عبد الله بن معقل عن ابن مسعود حديث "الندم توبة" فتركني وترك عبد الكريم وزياد بن أبي مريم وروى عن عبد الله بن معقل عن ابن مسعود هذا الحديث. من الطبقة الخامسة مات سنة بضع وأربعين ومائة.
(أبو قلابة) عبد بن زيد الجرمي ذكر الذهبي في ميزانه أنه كان يدلس عمن لحقهم وعمن لم يلحقهم وكان له صحف يحدث منها ويدلس من الأولى قال خليفة مات بالشام سنة 104هـ وقيل سنة 6 وقيل سنة 7.
(ع أبو عبيدة) بن عبد الله بن مسعود ثقة مشهور من أهل الكوفة اسمه عامر حديثه عن أبيه في السنن وعن غير أبيه في الصحيح واختلف في سماعه من أبيه والأكثر على أنه لم يسمع منه وثبت له لقاؤه وسماع كلامه فروايته عنه داخلة في التدليس وهو أولى بالذكر من أخيه عبد الرحمن من الطبقة الثالثة توفي سنة 81هـ.
(تنبيه)(4/67)
ومما يستغرب ما ذكر عن شعبة في ذلك مع كراهيته للتدليس وذلك ما قرأه الحافظ على فاطمة بنت المنجا عن عيسى بن عبد الرحمن المطعم قرئ على كريمة بنت عبد الوهاب وأنا أسمع عن محمد بن أحمد بن عمرو الباعنان أنا أبو عمرو بن أبي عبد الله بن منده أنا أبو عمرو عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد الوهاب إملاء ثنا أبو عبد الله أحمد بن يونس بن إسحاق ثنا أحمد بن محمد الأصفر حدثني النفيلي ثنا مسكين بن بكير ثنا شعبة قال: سألت عمرو بن دينار عن رفع الأيدي عند رؤية البيت؟ فقال أبو قزعة: حدثني مهاجر المكي أنه سأل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: "أكنتم ترفعون أيديكم عند رؤية البيت"فقال: "قد كنا مع رسول الله فلم يكن يفعله".
قال الأصفر: "ألقيته على أحمد بن حنبل فاستعادنيه فأعدته عليه" فقال: "ما كنت أظن أن شعبة يدلس"، حدثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن أبي قزعة بأربعة أحاديث هذا أحدها ولم يذكر فيه عمرو بن دينار, قال الحافظ: "اسم أبي قزعة سويد بن حجر"، وهذا شيء قاله الإمام أحمد ظنا والذي عندي أن شعبة لم يدلسه بل كان يسأل عمرو بن دينار فحدثه بهذا ثم لقي أبا قزعة فسأله عنه فحدثه به والدليل على ذلك أنه صرح بسماعه منه لهذا الحديث فيما رواه أبو داود في السنن عن يحيى بن معين عن محمد بن جعفر المعروف بغندر عن شعبة سمعت أبا قزعة به، وكيف يظن بشعبة التدليس وهو القائل: "لأن أخر من السماء أحب من أن أقول عن فلان ولم أسمعه عنه"وهو القائل: "لأن أزني أحب إلي من أن أدلس".
وقال البيهقي في المعرفة: "روينا عن شعبة قال: "كنت أتفقد فم قتادة فإذا قال: حدثنا وسمعت حفظته وإذا قال حدث فلان تركته".
قال: وروينا عن شعبة أنه قال: "كفيتكم تدليس ثلاثة الأعمش وأبي إسحاق السبيعي وقتادة"، وقال الحافظ: "فهذه قاعدة جيدة في أحاديث هؤلاء الثلاثة أنها إذا جاءت من طريق شعبة دلت على السماع ولو كانت معنعة".(4/68)
ونظير هذا حدثنا الليث عن أبي الزبير عن جابر فإنه لم يسمع منه إلا مسموعه عن جابر قال سعيد بن أبي مريم حدثنا الليث قال: جئت أبا الزبير فدفع إليّ كتابين فسألته أسمعت هذا كله عن جابر؟ قال: "لا فيه ما سمعت وفيه ما لم أسمع"قال: "فأعلم لي على ما سمعت منه", فأعلم لي على هذا الذي عندي"فتبين بهذا أن حديث الليث عن أبي الزبير عن جابر محمول على الاتصال ولا فرق فيه بين العنعنة وغيرها.
(خاتمة في منظومة الحافظ الذهبي في المدلسين)
قال التاج أبو نصر عبد الوهاب بن تقي الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى ومن نظم الذهبي في أسماء المدلسين.
خذ المدلسين يا ذا الفكر
جابر الجعفي ثم الزهري
والحسن البصري قل مكحول
قتادة حميد الطويل
ثم ابن عبد الملك القطيعي
وابن أبي نجيح المكي
والثبت يحيى بن أبي كثير
والأعمش الناقل بالتحرير
وقل مغيرة أبو إسحاق
والمرئي ميمون باتفاق
ثم يزيد بن أبي زياد
حبيب ثابت من الأجداد
أبو جناب وأبو الزبير
والحكم الفقيه أهل الخير
عباد منصور قل ابن عجلان
وابن عبيد يونس ذو الشان
ثم أبو حرة وابن إسحاق
حجاج أرطاة لكل مشتاق
ثم أبو سعيد البقال
عكرمة الصغير يا نقال
ثم ابن واقد حصين المروزي
وابن أبي عروبة اسمع تفُز
وليد مسلم كذا بقية
في حذف واه خلة دنية
وهنا أيضا قصيدة أخرى في المدلسين لأبي محمود المقدسي تلميذ الحافظ الذهبي وجدتها ضمن مجموعة في مكتبة عارف حكمت تحت رقم (66) أصول الحديث.
يقول فيها:
قتادة والحسن البصري
حميد الطويل والتيمي
هشيم الثوري أبو الزبير(4/69)
مغيرة وابن أبي كثير
والقارئ الأعمش والزهري
وابن جريج جابر الجعفي
سفيانهم ابن عيينة الحكم
شريك القاضي ابن إسحاق العلم
أبو عبيد يونس سعيد
ابن أبي عروبة تليد
وابن أبي خالد الوليد
هو ابن مسلم كذا يزيد
وابن أبي يحيى كذا ميمون
مع ابن واقد هو الحسين
وابن عمير وأبو إسحاقا
وابن فضالة معاً وفاقا
وابن غياث وابن عمار عمر
هو المقدمي شباك في الأثر
هو الطفاوي مع الأنصاري
ابن سعيد فاعن بالأخبار
وابن أبي حبة والبقال
مع ابن طائي من ذوي النقال
وابن أبي ثابت وابن انعم
وابن غراب ثم مروان افهم
وطلحة ابن نافع مكحول
ثم ابن أرطاة سويد قولوا
ثم الصريفيني شعيب الواعية
ثم جريرهم أبو معاوية
ثم ابن منصور لمن تحققه
ثم محمد هو ابن صدقه
وابن أبي زائدة عن عامر
والقيد فيه ظاهر للماهر
ثم بقية عن المجهول
ثم الضعيف جاء في المنقول
ثم أبو حرة الرقاشي
يقول تارة بلا تحاشي
حدثنا وتارة عن الحسن
ثم ابن عجلان عن الأعرج عن
صاحبه أبي هريرة
وإنما يرويه عن ربيعة
ثم ابن عقبة عن الزهري روى
بعن وقال في البخاري سوا
وقيل لم يسمعه منه فاعلم
والحمد لله به فلنختم
هذا آخر من رمي بالتدليس من الرواة, جمعتهم من ثلاث رسائل لثلاثة حفاظ البرهان الحلبي والحافظ ابن حجر والسيوطي وزدت عليهم شيئا قليلا من المراجع المعتبرة كالميزان للذهبي ولسانه للحافظ وغيرهما من كتب الجرح التي تعنى بهذا النوع من علوم الحديث. والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين آمين…
(مناجاة)
لقد عشت دهراً غير أني لم أزل
أهيم بأرض الله ألهو وألعب
فلا النفس تنهاني ولا العقل ردني(4/70)
وما زلت في دوامة أتقلب
وإني أرى الشيطان يحتال دائما
عليّ وإني خائف أترقب
فيارب رفقاً بي فما زلت خائفاً
لعلمي بتقصيري وأني مذنب
فصُنّي من الشيطان والنفس والهوى
فَهُنَ يمين الله دائي المجرب
وإلا أرحني من حياتي وشقوتي
فلا خير فيها حينما أنت تغضب
أحمد عبد الحميد عباس(4/71)
المسؤولية في الإسلام
بقلم الشيخ عبد الله بن أحمد قادري
المدرس بالجامعة الإسلامية
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلّكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته" متفق عليه.
وضع الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف - الذي هو من جوامع كلمه كل فرد من أرفاد المسلمين - حاكمين ومحكومين، ذكرانا وإناثا، مخدومين وخادمين - أمام مسؤوليته المنوطة به, حسب منصبه ووظيفته.
فكل فرد مسلم يعتبر راعيا ومرعيا في وقت واحد، عليه حقوق يجب أن يؤديها لأهلها وله واجيات يجب أن تؤدى إليه، وقد عم النبي صلى الله عليه في مطلع الحديث بقوله: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" وفي آخره بقوله: "وكلكم راع ومسؤول عن رعيته" وخص فيما بين ذلك.
فذكر أعلى أصناف الناس في أول من ذكر، وأدناهم في آخر من ذكر، وأوساطهم فيما بين ذلك، فالمقصود من الحديث استغراق كل أفراد المسلمين بذكر أعلاهم، وأدناهم، ومتوسطهم، وهو شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم في ذكر شعب الإيمان: "الإيمان بضع وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق". وإذا كان المراد من الحديث العموم والتنصيص على من ذكر، أريد به التمثيل، فلنبدأ بالكلام على الأصناف الأربعة - حسب ترتيبهم في الحديث - مع ضرب أمثلة أخرى من واقعنا الذي كثر فيه الرعاة وتعددت المسؤوليات على اختلافها من الجسامة والضئالة، وعلى أثر ذلك ظهر لكل مسؤولية أثرها الملموس.
الإمام راع ومسؤول عن رعيته:(4/72)
يطلق الإمام في الشرع على من يقتدى به كإمام الجماعة في صلاتهم، ومعلم الخير وفاعله، والداعي إليه كما قال تعالى عن المؤمنين: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} , وكخليفة المسلمين وهو أميرهم العام الذي يدينون له كلهم بالولاء والطاعة، لقيامه فيهم بشرع الله، وهذا هو المقصود من الحديث، وخليفة المسلمين هو أعلى رعاتهم، ومسؤوليته أعظم مسؤولية، لتعلق حقوق كل الرعية به، ولهذا استحق التقديم في الحديث، ويشبه العلماء إمام المسلمين معهم بالقلب مع سائر الأعضاء في الأهمية، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في القلب: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
والأمر كذلك بالنسبة للإمام فإن غالب رعيته يقتفون أثره ويحاولون محاكاته ما استطاعوا في الملبس والمسكن والمنكح، والعدل والظلم والتواضع والتكبر، والكرم والبخل، والإيثار والإسراف، والحزم والضبط والفوضى والاضطراب، ففي صلاحه صلاح رعيته، وفي فساده فسادهم لأن زمامهم بيده، ومصالحهم تحت تصرفه، يقودهم إلى ما تهواه نفسه، ويميل إليه طبعه، كما أن القلب مصدر صلاح الأعضاء، وفسادها لسيطرته عليها.
حق الإمام على الرعية:
للإمام على رعيته حقوق لا يجوز لهم أن يقصروا في أدائها ما استطاعوا ذلك، وتتلخص في أمرو ثلاثة:(4/73)
الأول: طاعته في غير معصية الله تعالى، كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} , وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "على المرء المسلم السمع والطاعة في ما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة" متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليك السمع والطاعة في عسرك ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك". والنصوص في هذا الباب كثيرة جدا، والذي يتضح من الجميع أنه يجب على الرعية طاعة إمامها في ما تحب وتكره، ما لم يأمرها بمعصية الله فإن أمرها بها وجب عليها أن ترفض طاعته لأنها إنما تطيعه، رغبة في رضى الله عنه، ورهبة من غضبه عليها، فإذا أمرها الإمام بما يسخط الله فقد سلك غير سبيله وطلب ما لا حق له فيه.
الثاني: بذل النصيحة له، بتوجيهه إلى الخير، وتشجيعه عليه، وتقويمه إن عدل عنه وذلك بأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، بالتي هي أحسن، بأن يذكروه بحقوق الله عليه، ثم بحقوق رعيته حيث أخذ منهم البيعة على الطاعة في غير معصية وأخذوا منه العهد بالقيام بشريعة الله حتى يكون دائما في حذر من الوقوع فيما يعود عليه وعلى رعيته بشر في دينهم ودنياهم.(4/74)
الثالث: أن يكفوا عن ذكر معايبه، في المجتمعات والأندية، والأسواق والمساجد ونحوها، وينتهروا من يفعل شيئا من ذلك، ويمسكوا عن حض الناس على القيام ضده، لخلعه ونبذ طاعته ما دام قائما بأحكام الإسلام معترفا بأنها حق، غير جاحد ولا مستهزئ، لأن اغتياب الإمام والحث على الخروج عليه فيه خطر عظيم، من إثارة الفتن والقلاقل التي لا يستطيع ردها ولا دفعها، كما أن ذلك ليس من سيرة علماء المسلمين الفاهمين للإسلام وحكمه وأسراره، ولهذا بالغ النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن الخروج على الأئمة أو ارتكاب الأسباب المؤدية إلى ذلك.
روى مسلم في صحيحه من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، - أي تدعون لهم ويدعون لكم - وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم"قال: قلنا: يا رسول الله أفلا ننابذهم؟ قال: "لا ما أقاموا فيكم الصلاة, لا ما أقاموا فيكم الصلاة" فقد نهى في هذا الحديث عن منابذة أئمة هم شرار أئمة المسلمين ما داموا يصلون، وفي بعض الروايات "إلا أن تروا كفراً بواحاً، عندكم فيه من برهان".(4/75)
والحكمة في النهي عن الخروج عن الأئمة، والأمر بالصبر على ظلمهم وفسقهم واضحة جدا، فإن المصائب والمفاسد الحاصلة بسبب الخروج عليهم من سفك للدماء ونهب للأموال واستباحة للأعراض أعظم من ظلمهم، وما على المرء إلا أن يستعرض التاريخ قديما وحديثا ليرى صدق ما قلته، ولا أريد من هذا إدخال الحكام المفضلين لقوانين البشر، على شريعة الله والزاعمين بأن أحكام الإسلام لا تصلح لهذا العصر، الراقي في زعمهم، أقول لا أريد إدخال هؤلاء في عداد الأئمة الجائرين مع قيامهم بأحكام الإسلام واعترافهم بها، فإن الذين لا يعترفون بحكم الله شريعة ودستورا كفار صرحاء لا لبس في كفرهم، يجب على الأمة الإسلامية إذا استطاعت أن تنابذهم وتجتثهم من أصولهم لتضع مكانهم من يقوم بشرع الله الذي شرعه لعباده، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده الحديث".
حقوق الرعية على الإمام:
وكما أن للإمام حقوقا على رعيته فإن للرعية حقوقا عليه يجب أن يقوم بها خير قيام، وخلاصتها: أن يجتهد في تحصيل ما ينفعهم ودفع ما يضرهم في دينهم ودنياهم، ويبتعد عن غشهم وخيانتهم، ولا يتحقق له ذلك إلا بأمور..
الأول: أن يختار لوظائف الدولة الهامة أحسن من يظن فيهم القيام بها، خبرة وأمانة، وقدرة وإخلاصا وحكمة، ويحض كلا منهم على اختيار الأصلح فالأصلح للوظائف التي تحت مسئوليته، وهكذا يكون الاختيار ابتداء من أكبر وزير وانتهاء إلى أصغر موظف في الدولة، حتى يقوم كل منهم بواجبه الذي أسند إليه على أتم وجه وأكمله.(4/76)
الثاني: أن يختار لمجالسته أهل التقوى والخشية والعلم والورع والنصح ليعاونوه على فعل الخير ويحسنوه له، وينصحوه بالابتعاد عن مقارفة الأمور التي تعود عليه وعلى رعيته بالسوء، ويقبحوا له ذلك حتى يصبح من طبعه فعل النافع واجتناب الضار، والنتائج المترتبة على اختيار جلساء الخير عظيمة جدا، وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك وحذر من اتخاذ جلساء السوء، وأحرى الناس باختيار الجليس الصالح، واجتناب جليس السوء هم ولاة الأمور، لأن خيرهم وشرهم يعمان كل الرعية، ولهذا قرنهم النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء كما في حديث أبي سعيد وأبي هريرة الصحيح: "ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله".
الثالث: أن يأخذ على أيدي السفهاء والفسقة، ويردعهم عن المعاصي والظلم والفوضى ومعارضة أهل الخير بالطرق المؤدية لذلك - كالقصاص والحدود والتعازير - فإن لم يجتهد في هذه الأمور الثلاثة، فقد غش رعيته واستحق وعيد الله الذي أجراه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة" رواه الشيخان عن معقل بن يسار رضي الله عنه.
وهذه الأمور تعتبر أسسا لحقوق الرعية على الإمام إذا توفرت كانت النتائج حسنة، في كل مجالات الحياة، وإذا أردنا أن نفصل بعض التفصيل نجد أن للرعية على الإمام ما يلي:(4/77)
1- إنشاء وسائل نشر العلم الديني بين كافة طبقات الناس من مدارس لجميع المراحل التعليمية للمتفرغين لطلب العلم، ويجب أن يختار لكل مؤسسة من تتوفر فيه شروط الانتفاع منها، من علم وأمانة وقدرة وإخلاص، كما يجب على هذا المسئول أن يختار المدرسين الأكفاء الذين يقومون بتربية الطلاب تربية إسلامية شاملة، ومن هؤلاء يكون القضاة والمدرسون، والمرشدون وغيرهم من موظفي الدولة، كل يعطي ما يناسبه، أما من عداهم من عامة الناس الذين لا يتمكنون من التفرغ لطلب العلم فيجب أن يخصص لهم مرشدون لتعليمهم ما يهمهم من أمور دينهم بحيث يعرفون حقوق ربهم وحقوق بعضهم على بعض في المعاملات حتى لا يقعوا في معاصي الله بترك واجباته وارتكاب محرماته ولا يعتدي بعضهم على حقوق بعض.
2- العمل على توفير أمن الرعية في الداخل والخارج، متمشيا مع القواعد الشرعية العامة، ويحصل ذلك بإعداد رجال أمن داخلي مدربين تدريبا كافيا، ليسهروا على أمن البلاد وسلامتها، بالوسائل التي تكفل المطلوب وإعداد الجيش الكافي المزود بالأسلحة المستطاعة، الرادعة لصد أي هجوم متوقع من خارج البلاد، بل لغزو البلاد الكافرة لفتحها وإقامة دين الله فيها عند الاستطاعة امتثالا لأمر الله تعالى في كتابه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُم} , والقوة المأمور بها هي التي ترهب العدو كما نصت على ذلك الآية الكريمة وهي في كل عصر بما يناسبه.(4/78)
3- العمل على توسيع الحالة المعيشية والصحة البدنية، وهذه الأمور الثلاثة تقتضي تشجيع الحركة التجارية إيرادا وتصديرا، بأيسر السبل وأكثرها نفعا والحركة الصناعية والعلوم الطبية العامة والخاصة، لتستغني الرعية عن أعدائها، الذين يتحكمون فيهم بسبب حاجتهم إلى ما عندهم، وبالجملة فكل ما يجلب للرعية نفعا أو يدفع عنها ضررا في الدنيا والآخرة فهو من حقوقها على الإمام ما دام يستطيع ذلك فإذا قصر في شيء يقدر عليه فهو غاش لرعيته مستحق للوعيد المتقدم الذكر، ولا يتم أداء حق الراعي من قبل الرعية وحق الرعية من قبل الراعي إلا بالتعاون التام بينهم، كل يقوم بواجبه عملا بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} .
مصدر تحديد المصلحة والمضرة:
والمصلحة التي يجب على الإمام أن يهييء وسائل تحصيلها يجب أن يكون تحديدها من قبل الشريعة الإسلامية، كما أن المضرة التي يجب أن يهييء وسائل منعها يجب أن يكون تحديدها من قبل الشريعة كذلك، فما اعتبرته الشريعة مصلحة فهو مصلحة، وما اعتبرته مضرة فهو مضرة, وليس تحديد المصلحة أو المضرة من حق الإمام أو الرعية بدون الرجوع إلى الشريعة لأنهما لو جعلتا من حق الإمام أو الرعية مطلقا لحصل في تحديدهما اختلاف عظيم لاختلاف ميول الناس وشهواتهم اختلافا متباينا إذ ما يراه بعضهم مصلحة قد يراه الآخر مضرة, وبناء على ذلك فيسختلف الوزراء في ما بينهم ومع الإمام، وستختلف الرعية في ما بينها ومع المسئولين من موظفي الدولة، فسيزعم بعضهم أن المصلحة أو المضرة تقتضي إباحة شيء ويزعم الآخر أنهما يقتضيان تحريمه، وستضطرب بذلك الأمور ويختل النظام وتنتهك حرمات الله بسبب إسناد تحديد المصلحة والمضرة إلى غيره تعالى.(4/79)
وخلاصة الكلام أن الحلال ما أحله الله وليس لأحد تحريمه، والحرام ما حرم الله، وليس لأحد تحليله, وإذا تعارضت مفسدتان , لا بد من ارتكاب إحداهما، وجب ارتكاب أخفهما، وإن تعارضت مصلحتان لا بد من تحقيق إحداهما وجب تقديم أعظمهما، والتحديد في كل ذلك يرجع إلى القواعد الإسلامية، والمعنيون بالبحث والمقارنة هم علماء الأمة، المعروفون بالورع والتقوى وخشية الله والتضلع من العلوم الإسلامية أصولها وفروعها، الذين لا يخافون في الله لومة لائم بل يقولون كلمة الحق ولو على أنفسهم، هؤلاء هم الذين يجب أن يسند إليهم البحث في مصالح الناس ومضارهم، وهم أهل الحق في تعيين المصلحة والمضرة وعلى ضوء بحثهم واجتهادهم يجب على الإمام أن ينفذ ما أشاروا به، ولا يلتفت لمعارضة أهل الأهواء ممن يدعون العلم وقصدهم الشهرة والتقرب إلى الإمام والرعية بإفتائهم بما يوافق أهواءهم وميولهم، ولو كان مخالفا للشريعة، كما هو حال أكثر العلماء في الأقطار التي اتخذ حكامها لأنفسهم دساتير غير دستور وقانون الإسلام، خلص الله المسلمين منهم وأبدلهم بهم خيرا منهم.(4/80)
فليس حسن النية بالرعية والإحسان إليهم أن يفعل ما يهوونه ويترك ما يكرهونه، فقد قال الله تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنّ} , وقال تعالى للصحابة: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} , وإنما الإحسان إليهم فعل ما ينفعهم في الدنيا والآخرة ولو كرهه من كرهه، لكن ينبغي له أن يرفق بهم فيما يكرهونه. ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانه", وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" إهـ. من رسالة السياسة الشرعية الجديرة بأن يهتم بها الخليفة ويعمل بمقتضاها، فإنها على اختصارها وقصر وقت كتابتها الذي يقال إنه ليلة واحدة ذات أهمية كبيرة في هذا الموضوع.
بعض المسؤوليات المكملة:
والمسئوليات التي لها علاقة بمن ذكر في الحديث كثيرة جدا ولكني أذكر أهمها فيما يلي:
الأولى: تتعلق بموظفي أجهزة الإعلام. إن الدور الذي تلعبه أجهزة الإعلام على اختلافها دور خطير يجب أن يعطى حظا وافرا من العناية والملاحظة لأنها تملأ أسماع الناس بأصواتها وتشغل أبصارهم بأفلامها وصحفها وصورها، وتكد عقولهم بأفكارها ومبادئها وهي سلاح ذو حدين، أحدهما قاتل فتاك يقطع العلاقة المتينة بين المسلم وأصول دينه التي يتوقف عليها نجاحه في الدنيا والآخرة. وثانيهما مقوم بناء يصل المسلم بماضيه المجيد بما يبث فيه من روح التهذيب والجد والرجوع إلى أصول دينه الحنيف، ليكون رجل الساعة المرتقب وأهم تلك الأصول فيما أرى:(4/81)
1- العقيدة الإسلامية الصحيحة التي تتضمن توحيد الله في خلقه ورزقه، وتدبيره وطاعته والإيمان برسله وكتبه وملائكته والبعث والجزاء والحساب وغير ذلك مما أخبر الله به في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، العقيدة التي إذا تزعزعت في أمة من الأمم انهارت انهيارا كاملا في كل مجالات حياتها وخسرت دينها ودنياها.
2- السلوك الحسن الذي يترتب على وجوده في الأمة وجود كل خصال الخير والشرف من عفة ونزاهة، وشجاعة وإقدام، وبذل وتضحية وصدق ووفاء، ونصح وصراحة، كما يترتب على عدمه كل خصال الشر من خسة ونذالة ودناءة وجبن وإحجام وبخل وشح، وكذب وغدر، ونفاق ومداهنة. ولقد تفشت الأخلاق الرذيلة في شباب الشعوب الإسلامية وكهولها - ولا أبالغ إذا قلت وشيوخها - تفشيا ذريعا، متسببا عن تلك الأجهزة الخبيثة لما تبثه من خلاعة وفجور وميوعة بأصواتها وأفلامها وصحفها وصورها.
3- الشعائر التعبدية كأركان الإسلام الخمسة، التي تعتبر للعقيدة كالوقود للآلات، ولقد عملت أجهزة الإعلام دورا خطيرا، في صرف أبناء الإسلام عن أداء تلك الشعائر العظيمة حيث شغلتهم بما يستمعون وما يبصرون وما يقرؤون حتى إنك لتجد الكثير منهم يتسابقون إلى أمكنة اللهو تاركين المساجد وراءهم في الوقت الذي يقول فيه المؤذن: (حي على الصلاة حي على الفلاح) مهرولين كما يهرول الشيطان، مدبرا إذا سمع الأذان، وليتهم يتركون تلك الشعائر فحسب بل إنهم ليبغضون من يؤديها ويسخرون منهم، ويرون أن ما يتسابقون إليه أكثر نفعا وأجدى فائدة من أدائها!(4/82)
4- إجتماع كلمة المسلمين وبث روح الألفة والمودة بينهم حتى يكونوا يدا واحدة كما أمرهم الله {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} , وأمرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم "وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة". ولقد اتخذت تلك الأجهزة شتى الأساليب والطرق لتفريق كلمة المسلمين وبث العداوة والبغضاء بينهم وأصبحت كل دولة تكيل للأخرى السباب والشتائم، وتختلق عليها الدسائس والتهم الكاذبة!.(4/83)
ورعاة هذه المسئولية في كل شعب من الشعوب الإسلامية هم وزراء الإعلام فالواجب عليهم أن يعملوا بمقتضى دينهم الذي يدعونه، فيسيروا هذه الأجهزة في طريق مستقيم بحيث ينتفع بها أبناء شعوبهم بتوعيتهم بالثقافة الإسلامية واطلاعهم على الأحداث الجارية، وتحذيرهم من تخطيطات أعدائهم التي يقصدون من ورائها اجتثاث إيمانهم من قلوبهم أو إضعافه - على الأقل - كما يجب أن تستخدم هذه الأجهزة في بيان الطرق والأساليب الواجب اتخاذها ضد تلك المخططات بكشفها للناس عن طريق الخطابة والكتابة الإذاعة وغيرها، وأن يتخذوها وسائل للتعليم المتنوع بحيث يستفيد منه جميع طبقات الأمة، من شرح لأمور الدين التي لا يسع أحدا من المسلمين جهلها، كالصلاة والزكاة والصوم والحج، والمعاملات المصرفية والعلاقات الزوجية وأشباهها, ومن دروس علمية في التفسير والحديث والأخلاق الإسلامية والجهاد في سبيل الله الذي يعتبر أهم سلاح حاول ويحاول كسره الأعداء الصرحاء منهم والمنافقون، حتى لا تكاد الشعوب الإسلامية إلا ما شاء الله تفكر في رفع راية الجهاد ضد أعداء الله في هذا العصر، بتأثير من حكامهم الطغاة، الذيت تربعوا على كراسي الحكم بالقوة وأشاعوا بين المسلمين ما أراده أصدقاؤهم الكفار الصرحاء، من أن الجهاد وحشية لا يصلح للقرن العشرين! والواقع أن القتال من أجل الباطل هو سلاح أولئك الكفار، ينفذون به مأربهم، يغزون الشعوب ويقتلون أهلها، ويستحلون محارمهم، وينهبون أموالهم وثرواتهم، ويحدثون بينهم الفوضى والاضطراب والخراب والدمار، من أجل إشباع شهواتهم المسعورة، ومن أجل السيطرة التي ليس لهم فيها أدنى حق، ولا يعتبرون ذلك وحشية بل يعتبرون الجهاد الذي هو وسيلة تحرير الناس كلهم من عبودية الناس إلى عبودية الله وحده، ولا يقوم حق الله وحق عباده إلا به, يعتبرونه وحشية وهمجية، فلو أن المسئولين عن تلك الأجهزة استخدموها في كشف وفضح هذه المؤامرات لا في تأييدها وبثها،(4/84)
وبينوا للناس محاسن الإسلام وحكمه وأسراره في الجهاد وغيره، لما وصل جيلنا الحاضر إلى ما وصل إليه من تنكر لدينه وكفر بمبادئه، ولكنهم أي المسئولين عن هذه الأجهزة بدل أن يفعلوا ذلك فعلوا ضده، فكل رذيلة أرادوا مقارفتها، والإسلام يحاربها كرذيلة الزنا ودواعيها، سلطوا أجهزتهم على تقبيح الوسائل التي اتخذها الإسلام للابتعاد عن تلك الرذيلة، ووصفوها بأوصاف منفرة، حتى تصبح عند الناس من الأمور المنكرة التي تنفر من ذكرها الأسماع، ومن أوضح الأمثلة على ذلك، وسيلة عفة المرأة، وهي الحجاب، فقد سلطت عليه تلك الأجهزة مقبحة له زاعمة أنه سلب لحرية المرأة وهضم لحقها، وانطلق علماء الشيطان المنتسبون إلى الإسلام يبرهنون لتلك الأجهزة على صحة ما تثبته في الناس بالتأويلات الفاسدة لنصوص الشرعية، كما ارتفعت أصواتهم بإباحة اختلاط الجنسين في كل ميدان، وصرح شجعانهم بأن تعاليم الدين في هذا الباب تعتبر غلا في عنق المرأة يجب أن يكسر، وأول جبناؤهم نصوص الوحيين في مدح الاختلاط كما أولوا ذلك في مسألة الحجاب، وأجهزة الإعلام تنشر كل ذلك بجانب نشر وسائل الدعارة، حتى قتلوا بذلك معنوية الشباب، فأصبح شبابا مائعا لا هم له سوى بطنه وفرجه، وليفعل أعداؤه في بلاده ما أرادوا.
مسؤولية التعليم:
إن للتعليم أهميته التي لا يجحدها أحد من الناس - كل الناس - والذي ينقص المسلمين في التعليم أمور:
الأول: عدم إسناد مسؤوليات التعليم إلى من هو أهل لها في كثير من البلدان الإسلامية حيث تسند إلى أشخاص ناقصي الخبرة وفاقدي الأمانة، والقوة والتنفيذ والجهل والخيانة والضعف أمراض فتاكة تقتل الشعوب وتمنع الخير.
الثاني: عدم الاعتناء بوضع المناهج التعليمية المفيدة في الدين والدنيا، والسبب الغالب هو:(4/85)
الثالث: إطلاق يد الأعداء في وضع مناهج التعليم لكل المستويات من المدارس الابتدائية إلى أعلى أقسام التخصص، متذرعين بأن للقوم خبرة وتجربة يجب أن يستفاد منهما، ولا شك أن الاستفادة من ذوي التجرية مطلوبة ولو كانوا كفارا، ولكن يشترط في ذلك العلم بأن ما تأخذه منهم فيه فائدة وليس فيه مضرة على المسلمين في دينهم ودنياهم، وذلك يقتضي التمحيص والتدقيق في الأمور التي تعرض لأخذها وتطبيقها في بلاد الإسلام، أما أن تطلق أيدي الآثمين من أعدائنا فتخطط كما تشاء مما نعلم يقينا، أنه من مصالحها هي ومن مضارنا نحن فهذا لا يرضاه مسلم يؤمن بدينه وحقوق أمته، ولهذا نجد هؤلاء المخططين من أعدائنا اغتنموا الفرصة عندما أمناهم على أعظم سبيل لنجاحنا، اغتنموا الفرصة وأقصوا علوم الدين من تلك المناهج في أكثر المدارس، والمدارس التي بقي للدين فيها أثر فصفحات معدودة لاتسمن ولا تغني من جوع، وأخذوا يدسون على تاريخ الأمة الإسلامية بالطعن على خلفائها وقوادها ومفكريها، وإلصاق التهم بهم، وفي نفس الوقت أخذوا يرفعون رؤساء وقوادا من أعداء الدين بالمدح والثناء عليهم وعلى أفكارهم، حتى أصبح الناشئون من أبناء الإسلام يجلون ويكبرون قادة الأفكار الهدامة من أمثال (ماركس ولينين وهتلر وغاندي وماو) وغيرهم من ساسة الكفار أكبر وأعظم من إجلالهم لأمثال (أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد وعبد الله بن رواحة) وغيرهم من حملة راية الإسلام.(4/86)
كما أخذوا في غمط علماء الإسلام ووصفهم بعدم المعرفة وفقدان الأفكار النافعة، ورفعوا منازل فلاسفة الغرب واعتمدوا على أفكارهم وآرائهم في التربية وعلم النفس وطرق التدريس، بل حتى في فهم الدين الإسلامي ووتاريخه، وإنك لتجد المؤلف المسلم - كما يعرف من اسمه - يؤلف كتابا يتكون من ثلاثة مجلدات أو أكثر كل مجلد يحتوي على مئات الصفحات في التربية وعلم النفس وطرق التدريس، ولا تجد فيه مثالا واحدا من الأمثلة الإسلامية لتربية الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ولأمته بآيات كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم التي تأخذ في تربية الشخص من مولده بوساطة وليه إلى بلوغه، ثم تأخذ في توجيهه مباشرة في كل مجالات حياته، عقيدة وعبادة، وسلوكا ومعاملة وشريعة ونظاما، في الحرب والسلم، داخليا وخارجيا إلى أن يموت، والأمثلة من القرآن والسنة وسيرة السلف الصالح، في التربية وعلم النفس كثيرة جدا، ولكن أولئك المؤلفين لا يلقون لها بالا.(4/87)
أقول لا أجد هؤلاء المؤلفين - المسلمين - يذكرون شيئا من الأمثلة التربوية الإسلامية بل يملأون كتبهم بأسماء علماء الغرب وذكر نظرياتهم والمقارنة بينها وترجيح بعضها على بعض، مفتخرين بها, ناسين ما في تراثهم الإسلامي من ثروة عظيمة، كان من الواجب عليهم أن يدرسوها وينقلوها للناس ليخرجوهم بها من الظلمات إلى النور مع الاعتزاز بها، لأنها فخر آبائهم وأجدادهم قبلهم، وسبب بقاء مجدهم وعزهم في حاضرهم ومستقبلهم. والصالح الذي يفتخرون به في كتب علماء الغرب يوجد في الإسلام ما هو أكثر صلاحا منه وأقرب تناولا وأعظم فائدة. والفاسد الذي في كتبهم يوجد في الإسلام ما يبين فساده أو فساد أشباهه مع إقامة الحجج والبراهين على ذلك، ولكن ليت قومي يعلمون. والسبب في كل ما مضى من فساد الأنظمة وإقصاء الدين عن الناشئين من أبنائه والغفلة عن التربية الإسلامية، هو عدم الاختيار الموفق للمسؤولين عن التعليم من أعلى موظف إلى أصغر موظف، ولو أحسن الاختيار لكانت النتائج حسنة مرضية، ولكان الجيل قويا قائما بأعباء مسئولية الوقت، ولكن القوم سلكوا للعزة - إن كانوا أرادوها - غير مسلكها، وأخذوا لبابها مفتاحا غير مفتاحه، فمكانوا كما قيل:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبس(4/88)
بين الرضا والغضب [1]
للشيخ محمد المَجذوب
لُمِس الزندُ فاشتعَلْ خُلُقي ذاك أم مَثَلْ
هكَذا صاغني الذي بَرَأ الخلق في الأزل
كلما قلت "هدأة" أيها النفس لم تُبَل
وقبيح بعاقل بعد ستينَ أن يُزَل
غير أني لحكمة غبتُ عنها ولم أزل
لم تدع في الأناة لي حين تهتاج - من أمل
ولكم بت نادماً غِبّ إيثارها العَجَل
فتوقعت بعدها أن تُصَفّى من الخَطَل
وانتصارُ النهى على أثر الهَفْوِ مُحْتَمَل
لكن الطبعُ غالبٌ ليس يُجدي به الجدل
فإذا ما قسرته راح يستنبط الحيل
فأنا منه في لَظَى محنة أمرُها جَلَل
ليس لي منه مَخْلَص أو مُريح سوى الأجل
ليت شعري، وقد طغى ذلك الخطب بي وجلْ
ألِخيرٍ أريدَ لي أم هو الشر.. أم لعل؟
فإلى الله وحده أشتكي هذه العِلل
وصراعا أخوضه كاد عَزمي به يُفَل
بين طبعي ومنطقي منه ما يشبه الخلل
غضبٌ يحجب النهى ورضىً يُعقب الخجل
وأنا بين ذا وذا في أسىً ليس يُحتمل
معرك من يَفُزْ به فهو - لا غيرهُ - البَطَلْ
--------------------------------------------------------------------------------
[1] من ديوان (همسات قلب) الذي يصدر قريبا.(4/89)
تعليم الإناث وتربيتهن
بقلم الدُكتُور تقيِّ الدِّين الهلاليِ
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين
بالجامعة الإسلامية
نحمد الله تعالى ونصلي ونسلم على محمد رسوله وعلى آله وصحبه.
في هذه المسألة اليوم ثلاثة مذاهب متباينة:
المذهب الأول:
عدم تعليمهن أكثر من قراءة المصحف بدون فهم.
قال أصحاب هذا المذهب: إنه أحسن المذاهب وأولاها بالصواب، وهو الذي وجدنا عليه آباءنا وهم كانوا أحسن منا، وتعليم النساء يفسد أخلاقهن، فإن المرأة التي لا تقرأ ولا تكتب تكون بعيدة عن متناول شياطين الإنس، فإن القلم كما لا يخفى أحد اللسانين، فبعدم معرفتها للقراءة والكتابة تأمن شر هذا اللسان وبضرب الحجاب المتين عليها تأمن شر اللسان الثاني، فيتم لها الأمن.
وكم رأينا من متعلمات لم يأتهن الشر إلا من قبل تعلمهن، وهذا في زمان الإسلام والعفاف والأنفة العربية، وأما في هذا الزمان فقد بلغ السيل الزبى، واتسع الخرق على الراقع. فإن معرفة الفتاة للقراءة توصل إلى ذهنها جميع ما يقع في الدنيا من الفساد والمخادنة وتملأ فكرها بهواجس خبيثة كانت في عافية منها.(4/90)
وفي الحديث: "لا تسكنوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة، وعلموهن المغزل وسورة النور"فهذه هي التربية الصحيحة، فتعليم الكتابة ذريعة إلى المكاتبة مع الفجار, وإسكانهن الغرف ذريعة إلى التخاطب ولو بالإشارة مع الفساق, وتعليمهن المغزل فيه شغل نافع لهن بما فيه من رياضة البدن والفكر وبما يثمره الغزل من المال الذي يستعن به على معاشهن، وتعليمهن سورة النور يحملهن على العفاف، لأن فيها حد الزنا والزجر عنه، وحد القذف، وتوبيخ فاعله، وفيها حكم اللعان وما يلحق صاحبيه من العار والخزي، وفيها قصة الإفك والمرأة الظاهرة البريئة، وبيان ما أعد الله لمن يقذف المحصنات الغافلات عن الشر المؤمنات بالله من العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وفيها أمر الله للمؤمنين والمؤمنات بغض البصر وعدم إظهار زينتهن والنهي عن التبرج بالزينة، وهذا والله نعم الأدب للفتاة، ولو عمل الناس بهذا الحديث لصلحت حال النساء ورأى الناس من الخير والعفاف ما لم يكن لهم به عهد منذ زمان بعيد.
المذهب الثاني:(4/91)
تعليمهن وتربيتهن على منهاج دعاة التفرنج, قال أصحاب هذا المذهب: نحن لا نريد أن نطيل القيل والقال، ونضيع أوقاتنا في الجدال الفراغ، هناك أمم راقية حرة سعيدة في حياتها. وهناك أمم أخرى منحطة مستعبدة شقية في حياتها، وقد نظرنا فوجدنا أن سبب سعادة تلك وشقاء هذه هو العمل والمال، لذلك عزمنا على الاقتداء بالأمم الراقية، لنكون مثلهم: نقتدي بهم في التعلم والتعليم والتربية والتفكير والزي والمعيشة ونظام الحكم وفي كل شيء. ومن ذلك تعليم المرأة وحرية المرأة ومساواتها للرجل في كل شيء ممكن بلا قيد ولا شرط. فهذا الذي نؤمن به ونعمل على تنفيذه وقولكم بدفن النساء في قبور البيوت ومنعهن من التصرف في أموالهن وشؤونهن، ومنعكم لهن حتى من التنفس في الهواء ومن رؤية طريقهن إذا دعتهن ضرورة للخروج, بل تغاليتم حتى جعلتم صورتهن عورة ونقصتم حقهن في الميراث فجعلتموه على النصف ويا ليت النصف الباقي يسلم لهن، فإنه يضيع في أغلب الأحوال، لأن لزومها الحجاب وكون أخيها أو أبيها أو ابن عمها هو الرقيب عليها يضيع عليها النصف الذي تركتم لها، لأن هذا القريب غالبا يعتدي عليها فيأكل مالها, والحجاب يمنعها من المطالبة بحقها فتحرم من كل شيء وتبقى في ظلمات سجنها تشكو إلى ربها ظلم الرجال وجورهم.
ولا يقف الأمر عند ذلك، بل يحرم العالم من نصفه، سواء قلنا كما يقول الأوروبيون إن هذا النصف هو الأفضل، أو قلنا إنه مساو، وكيف تحيا أمة نصفها ميت تماما ونصفها الآخر أشل بسبب الجهل والانحطاط, والرقي لا يتجزأ، فإما أن يعم الآباء والأمهات والأبناء، وإما أن يكون الجميع منحطين، وهل سمعت بأمة رجالها مهذبون متمدنون ونساؤها في غاية الجهل والتوحش والبعد عن الحياة؟.(4/92)
ولماذا لا تصير المرأة حاكمة وملكة ورئيسة ومحامية ونائبة في مجلس النواب, وعينا في مجلس الأعيان؟، أليس سبيل ذلك كله هو العقل والخلق وقوة الذهن وحسن التدبير؟ وهل تتجرءون أن تدّعوا أن المرأة محرومة من العقل والتفكير لا تصلح لشيء إلا للنتاج كالفرس والبقرة؟ إذن لقد نزلتم بأمهاتكم إلى أسفل سافلين.
ولعمري أن مثل هذه الأفكار جديرة أن تحط الأمم من عليائها, وتسبغ عليها ثوب الخمول بل وتقبرها في رمس الهمجية.
كم من ملايين من النساء شاركت في الحرب العالمية الأخيرة؟ وعلى مذهبكم هذا البائس لا توجد امرأة واحدة من بين النساء المقبورات في سجن البيوت تقدر أن تضرب بسهم في الدفاع عن الوطن.
وأما ما تشاغبون به من العفاف، فهو عادة والعادات دائما عرضة للتغير وإن كان أمس من الأمور التي تلحظ بعين الاعتبار فهو اليوم من الأمور التي تدعو إلى السخرية، وقد رأينا عظماء الرجال في البلاد السعيدة ذات السيادة المطلقة وفيهم الفلاسفة والعلماء والأمراء والوزراء لا يعبئون بهذه الأمور ولا يحسبون لها حسابا وقد استقر عندهم أن الفتاة إذا بلغت سبع عشرة سنة فقد صارت حرة في نفسها تصنع ما تشاء وتخالط من تحب وتسافر وحدها ليلا ونهارا، ونحن نقتدي بهذه الأمم ونترسم خطاها في جميع الشؤون.
المذهب الثالث:
متوسط بين المذهبين السابقين قد أخذ خير كل منهما وصوابه، وترك شره وخطأه، وذلك أن تعلم المرأة تعليما يناسب ما خلقت له أولا وهو تدبير المنزل وملؤه سعادة ونظاما وجعله منبتا صالحا للبنين والبنات الأبرار. وثانيا لتكون عونا للرجل في جميع شؤونه المعاشية والحربية والخلقية.
قال أصحاب هذا المذهب: إن أهل المذهب الأول مفْرطون، وأصحاب المذهب الثاني مفرّطون، ونحن نرد عليهم جميعا، ونبين ما عندهم من الخطأ، بادئين بأهل المذهب الأول فنقول:(4/93)
إن منعكم المرأة من التعلم أو حصره في قراءة حروف المصحف دون فهم لمعنى ما تقرؤه منه، في غاية البعد عن الصواب، فلا هو إسلامي، ولا هو عقلي أو علمي محض، وإن زعمتم أنه موافق للإسلام وذهبتم في ذلك كل مذهب، حتى احتججتم بحديث واه ساقط لا تقوم به حجة عند أصحاب الحديث، هذا من جهة الرواية، وأما من جهة المعنى فهو باطل، فإن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يقرأن، ويكتبن، وغيرهن من الصحابيات، والتابعيات، والحافظات المحدثات، اللاتي روى عنهن الحفاظ.. حتى إن كتب أسماء الرجال: كتهذيب التهذيب، والميزان، ولسان الميزان، والخلاصة، وقبلها طبقات ابن سعد وغير ذلك كلها مشحونة بأسماء عالمات وفقيهات وأديبات, ذلك في زمان عظمة الإسلام حين كانت راياته منصورة وجيوش أعدائه مكسورة مدحورة.
وأما آباؤكم المتأخرون الذين تريدون أن تقتدوا بهم في تجهيل النساء، فلم يكونوا قط أهلا للاقتداء بهم، فإن زمانهم هو زمان الجاهلية الآخرة، وكل الذي يقاسيه الإسلام اليوم فهو نتيجة أعمالهم، ومع ذلك لا نسلم لكم أن أهل العلم من آبائكم كانوا يقولون بهذا القول المرذول، وكيف وقد كان في زمانهم عالمات أديبات، وإن كن قليلات، فلم ينقطع الخير عنهن بالمرة.(4/94)
وأما قولكم: إن القلم أحد اللسانين، وإن المرأة لجهلها بهذا اللسان وضرب الحجاب الشديد تأمن شر اللسانين، فقد أخطأتم في ذلك خطأ فاحشا. ألم تعلموا أن الفتاة التي ساءت تربيتها لا يمكن صيانتها ولو جعلت في حق وكانت صماء بكماء، والفتاة التي ربيت على العفاف والتحصن لا يصل إليها سوء ولو كانت بين الرجال في غير ريبة، وقد كانت النساء يرافقن رجالهن في الغزوات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصحب معه نساءه في الغزو والحج، وكانت نساء الصحابة غير قابعات في بيوتهن بل يخرجن لأشغالهن إن كانت، ويعلفن الخيل، ويكدحن في أموالهن، وكان النساء يغزون بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك مسطور في كتب الحديث لا نطيل بذكره، فلم يضرهن ذلك لقوة إيمانهن وكمال عفافهن.
والحاصل أن تعلم الكتابة والقراءة لا يصير المرأة فاسدة ولا صالحة وحده، فإن كانت صالحة فإن تعلمها الكتابة والقراءة يزيدها سلاحا, وإن كانت تربيتها فاسدة فبتعلمها تزداد فسادا؛ لأن العلم بالقراءة والكتابة آلة صالحة للاستعمال في الخير والشر معا.
وأما تعليم سورة النور فهو من أعظم ما أدب الله به المسلمات، وهو كنز عظيم، وذخر جسيم، ولكن ينبغي للفتاة أن لا تهجر غير هذه السورة من القرآن، وسبيل تعليم القرآن هو القراءة، والقراءة لا تنفع إلا بمعرفة المعنى، ومعرفة المعنى لا يمكن إلا بتعلم النحو والصرف واللغة، ولا بد لمن تتعلمه من القراءة والكتابة وأنتم منعتم ذلك, فهذا تناقض منكم وأنتم لا تشعرون.
يصيب وما يدري ويخطي وما درى
وكيف يكون النوك إلا كذلكا
وأما تعليم المغزل فهو حسن، ولكن أهم منه في المدن على الأقل تدبير المنزل وتدبير الصحة والتمريض وما أشبه ذلك.(4/95)
وأما قولكم إن الفتاة في هذا الزمان إذا كانت قارئة تصل إلى ذهنها أنواع الشر بقراءة صحف الخلاعة ومجلاتها، فهو صحيح! ولكن الجاهلة أيضا يصل إليها ذلك بالذهاب إلى السينما ولو خلسة في غيبة الرقيب وتصل إليها بطريق الراديو، ويصل إليها بطريق زائراتها ومحدثاتها، وإذا فسد الجو لم تنفع المعتزل عزلته.
فلو أنكم انتقدتم منهاج تعليم الفتاة وطالبتم بإصلاحه وإبداله بمنهاج كامل يضمن للفتاة التربية الصحيحة بدل إنكاركم للتعليم مرة لكان ذلكم أقرب إلى الصواب.(4/96)
أما أهل المذهب المقابل فقد أفرطوا وتجازوا الحدود وضلوا ضلالا بعيدا ولا بد أن نناقشهم الحساب، ونبين ما في حملتهم من الحجج الواهية الداحضة، التي هي أوهن من بيت العنكبوت فنقول لهم: أما قولكم إن أمم العالم قسمان: أمم راقية سعيدة، وأخرى منحطة شقية فهو حق، وأما قولكم إن سعادة أولئك السعداء جاءتهم من أعمالهم وأحوالهم فهو صحيح أيضا، ولكنه مجمل يحتاج إلى تفصيل وبيان، وفي إجماله أمكنكم أن تدخلوا ما أدخلتموه من المغالطة، وبيان ذلك أولا أن الأمم الأوروبية تختلف اختلافا كثيرا يكفر من أجله بعضهم بعضا, حتى أن الكاثوليكي لا يقدر أن يتزوج بامرأة بروتستانتية، وإن تجرأ على ذلك عوقب من قبل الكنيسة بالحرمان وهو مصيبة اجتماعية عظيمة. ويختلفون في مناهج الحكم، حتى يفضي بهم ذلك أن يفني بعضهم بعضا بلا إبقاء ولا رحمة، ويختلفون في شؤون النساء فمنهم من يرى وجوب مراقبة الفتاة والمحافظة التامة عليها ومنهم من يطلق لها العنان بعد بلوغها سن الرشد القانوني، ومنهم من يجيز البغاء الرسمي كالأمم اللاتينية لحصر الفساد في أماكن محدودة حسبما ظهر لهم، وهؤلاء يعاملون البغيات بشيء من الرحمة. ومنهم من يحرم البغاء الرسمي كالأمم الجرمانية والأمة البريطانية، وهؤلاء يعاملون البغيات بكل قسوة حتى إنهم ليجعلونهن طبقة منبوذة مستقذرة كالذباب، فلا يمكن البغي أن تتصل بأحد من النساء والرجال ذوي الشرف والمروءة, فهم عندهم كما قال الشاعر:
لتقعدن مقعد القصي
مني ذي القاذورة المقلي(4/97)
ثم إن هذا التساهل في العرض الموجود عند الأوروبيين لم يكن ناتجا عن المدنية والرقي، بل لا علاقة له بهما أصلا، وإنما هي عادة ورثوها عن آبائهم في زمان جهلهم وهمجيتهم، كما يشهد ذلك تاريخهم، وكذلك بعض الأمم المجاورة للبحر الأبيض المتوسط من غير الأوروبيين، وهي قبائل البربر الذين ليس عندهم من الإسلام إلا اسمه، كآبن مكيلد، وآيت سخمان، واشقيرن، وآيت اسحاق، وآيت هودى وغيرهم، وهذه القبائل في الألوان وبرودة الدم مثل أهل شمالي أوروبة، والغيرة عندهم معدومة، حتى إني رأيتهم إذا وجد أحدهم مع زوجته رجلا يطلق رصاصة في الهواء، لا ليصيب أحدهما بأذى، بل ليعلن الأمر، فيجتمع الناس من كل حدب ينسلون، فيقول لهم الرجل: اشهدوا على فلان فقد وجده مع زوجته، فيقولون: سنشهد لك بما رأينا، فإذا اجتمع ملؤهم في الحي يدعو الزوج ذلك الرجل إلى المحاكمة، فيأتي ويحضر أمام شيوخهم، فيتهمه، ويحضر الشهود، فيشهدون، ومع ذلك كله يجحد المتهم ويقول: إنه لم يفعل شيئا، فيحملون عليه طبقا للعرف أن يدفع إلى الزوج ستة أريلة وكبشا، فيمعن المتهم في الإنكار والامتناع من أداء الغرامة، فيهم الزوج بقتله، فعند ذلك يجري الناس في الصلح بينهما، فيترك الزوج إحدى الغرامتين، إما الكبش وإما ستة أريلة.
وما لنا نذهب بعيدا، فقد جاء في صحيح البخاري أن رجلا كان عنده غلام عسيف أي أجير، فزنى هذا الغلام بامرأة مخدومه، فسأل الرجل بعض الناس ممن ظن أن عندهم علما، فأفتوه أن على الغلام أن يدفع لزوج المرأة مائة شاة، فدفعها أبوه عنه, ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بالقصة، فخطأهم النبي صلى الله عليه وسلم في حكمهم وقال: "أما الغنم فهي رد على أبي الأجير وأما الأجير فعليه جلد مائة وتغريب عام", وأما المرأة فبعث إليها النبي صلى الله عليه وسلم رجلا اسمه أنيس وقال: "أغد عليها فإن اعترفت فارجمها".(4/98)
فأنت ترى أن مثل هذا الحكم البربري وجد في العرب في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، والبشر هم البشر لا يمتاز شعب عن شعب إلا بأخلاق الأنبياء وعلوم المدنية، فمن جمع بين هذين جمع السعادة الكبرى.
والمقصود هنا أن الأوروبيين لم يتسامحوا في شأن النساء نتيجة لنهضتهم المدنية، وإنما ساروا - في هذه القضية - على نهج من قبلهم، وأقروه بالعمل عليه، وتأليف القصص التمثيلية وغيرها.
أما حرية المرأة فليست مرتبطة بهتك النساء، وسقوط عفافهن، فقد توجد حرية النساء مع تمام العفاف، وقد توجد عبودية النساء مع غاية التهتك.
ونحن وجدنا آباءنا الأولين الذين سادوا العالم علما وأخلاقا وحضارة ورقيا، وكنا لهم نحن شر خلف لخير سلف، فقد كانوا في قضية النساء على صراط مستقيم، فكانت المرأة عندهم عضوا حيا نشيطا تشاركهم في العلم والعمل في البيت وفي المزرعة وفي ميدان القتال، عليها حجاب يحفظ شرفها ومكانتها، ولا يمنعها من أخذ حقها إذا ظلمت، ولا من مشاركة الرجال في الأعمال السلمية والحربية عند الحاجة، ولذلك أدرك أسلافنا من المدنية أعلاها ومن الرقي ذروته رجالا ونساء، ولم يمنع أدب القرآن المرأة من الرقي، بل هو الذي أوصلها إلى أسناه مصونة العرض والعقل والشرف.(4/99)
وأما آباؤنا المتأخرون فقد انحرفوا عن الجادة في الدين والدنيا وعلومهما فلما عجزوا عن إقامة صروح العفاف والأخلاق الكريمة, وتنفيذ حدود الشرع المحمدي العظيم، لجأوا إلى الاختفاء والفرار والاختباء، فغلوا في الحجاب حتى دفنوا النساء كما قلتم، ومنعوهن من الخروج، وإذا خرجن يفرضون عليهن ستر وجوههن إلا عينا واحدة أو نصف عين، وجعلوا أصواتهن عورة، وحديثهن مع الرجال وإن كانوا صالحين، وبحضرة محارمهن أو أزواجهن وقاحة، وزادوا على ذلك فقال بعضهم بمنعهن من القراءة والكتابة, فضاعت بذلك حقوقهن التي أعطاهن الشرع المحمدي كالميراث والبيع والشراء والشهادة والوكالة وسائر التصرفات, وصرن بالأموات أشبه منهن بالأحياء، بل تعدى الأمر إلى أن جرت العادة بدس البكر في ظلمات الخدور وحجبها حتى عن النساء، فلا تراها أعين والديها وإخوتها، وبطلت بذلك السنة المحمدية التي قال فيها الرسول الكريم عليه السلام: "إذا أراد أحدكم أن يتزوج امرأة فلينظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينهما" أي فإن ذلك أجدر أن يوقع بينهما الاتفاق إذا رأى كل منهما الآخر في غير ريبة ولا خلوة.
والجرائم التي وقعت بالغلو في الحجاب (على غير وجهه الشرعي) كثيرة ومشاهدة، وبذلك صارت حوادث التزوير تقع في الزواج فتكون عند الرجل ابنتان مثلا إحداهما جميلة والأخرى دميمة، فإذا جاء خاطب لا يعرفهما ولا تعرفهما العجوز التي تنوب عنه في الخطبة، وكانت الجميلة اسمها ليلى والدميمة اسمها دعد يوهمونها أن الدميمة هي الجميلة ويغالطونها فتقع الكارثة على رأس الرجل المسكين ويذهب ماله ضائعا.(4/100)
ولو قام رجال عقلاء صالحون بتغيير هذه العادة ورد النساء إلى ما كن عليه في زمان النبي صلى الله عليه وسلم - وهو ما عليه نساء القرى والبوادي في البلاد الإسلامية بأسرها من أول ظهور الإسلام إلى اليوم - مع أدب غض البصر ونحوه لوجب أن يصغى لإصلاحهم وأن يعانوا عليه، ولكن أكثر الذين يدعون إلى ما يسمونه: تحرير المرأة وإعطاءها حقوقها ليس لهم في قلوب الأمة ثقة ولا مكانة، ولا تطمئن إليهم النفوس، وما لهم أخلاق ولا غيرة على الدين والعرض، والجمهور لذلك متهمهم بأن لهم في دعوتهم مآرب أخرى كمآرب الذئب في رعي الحملان. وهؤلاء لا يشكون في أن النساء وإن كن قد أصابهن بالغلو في الحجاب شر عظيم، فإن الشر الذي أصابهن وسيصيبهن بالتبرج والتهتك ليس له حدود، وهو مبني على شفا جرف هار أعظم بكثير من ذلك. فقضية إصلاح حال النساء لم يعالجها طبيب ولا راق، بل صارت بين حزبين مفْرطين ومفَرِّطين، ونحن علم الله لو رأيناكم - يا دعاة تحرير المرأة - داعين إلى إصلاح النساء دعوة مبنية على أساس متين من العقل والحكمة وتوخي صلاحهن وسعادتهن، وأن يصرن أمهات كاملات الأمومة ينتجن إناثا صالحات، وذكوراً صالحين، ويملأن بيوتهن سعادة، لو رأيناكم كذلك لآزرناكم وتعاونا معكم، ولكنا رأينا فيكم الطيش، وسوء النية، والتغرير بالفتيات الغافلات، ومخادعتهن على عفافهن، وتزيين الموبقات لهن, وتصيدهن بكل حيلة، وقعودكم لهن كل سبيل مما لا يفعله العدو بعدوه, فرأينا أن جمود الجامدين أخف ضررا مما تدعون إليه.
وأما قولكم: إنكم في هذه المخادعة ونصب الحبائل التي تصيب البيوتات بالدمار والخراب تقتدون بأهل أوربة.. فهو من العجب العجاب! فقد تقدم أن أهل أوربة لم يصنعوا ذلك بأيديهم وإنما هو صنع أجيال مضت، بل حاولوا أن يصلحوا تلك الحال، ودونكم البيان:(4/101)
من المعلوم أن التزوج في البلاد التي لا تزال متمسكة بشريعة الإسلام وآدابه سائرا سيرا حسنا، ومعدل المتزوجات نحو خمس وتسعين في المائة، مع ما تعلمون من شدة ذلك الحجاب، وما ذلك إلا بفضل هداية الإسلام.
أتعلمون أن حكومة هتلر لما رأت أن المتزوجين في المدن الألمانية من الرجال والنساء لا يزيد عددهم على أربعين في المائة سنت قانونا يقضي بتقديم خمسة آلاف مارك (أي أربعمائة دينار، حسب الصرف في ذلك الزمان) لمن يريد التزوج. وهذا المبلغ يكون سلفا عند الزوجين، فإن ولد لهما ولد عفي لهما عن قسط منه، وإن استمرت المرأة تلد الأولاد أسقط عنهما دفعه.
وسنت الحكومة أيضا قانون تكريم الوالدات في كل سنة في الربيع وخصصت الحكومة لهن تحفا وهدايا ذات بال. وسنت قانونا يقضي بمساعدة كل والدين بلغ عدد أولادهما خمسة مساعدات مالية طيبة مع إسقاط الضرائب عنهما. هذا وكانت ضرائب العزاب رجالا كانوا أو نساء في زمان الحرب العالمية الأخيرة تساوي ثلث دخل الشخص في كل شهر، إذا كان راتبه عاليا، والأباء والأمهات الذين بلغ عدد أولادهم خمسة معفوة من الضرائب، ومع ذلك كله لم يزد عدد المتزوجين في المدن على أربعين في المائة، أما في القرى فقد كانت نسبة المتزوجين أعلى من ذلك لضرورة التعاون على المعيشة.(4/102)
فإن قلت وأي الجنسين كان يتحمل تبعة قلة التزوج في المدن؟ أقول بلا تردد ولا شك الرجال، لأن كل امرأة أيم سواء كانت غنية أم فقيرة كان قلبها يحترق شوقا إلى الزواج، حتى إن الإنسان لا يجد موضوعا يتكلم فيه مع الأيم ليسرها ويطيب نفسها أحسن ولا مماثلا لموضوع الزواج، ولا سيما إن كانت من أولئك البائسات اللاتي تسلط عليهن أحد لصوص الزواج (هايرات شفندلر) فإن هؤلاء اللصوص المجرمين كم أهلكوا من فتيات كن كأزهار الربيع في غاية التألق والسعادة والنعيم فنقلوهن إلى جحيم الشقاوة وقضوا عليهن القضاء الأخير. وهؤلاء الشياطين يردون المدن في صورة شبان قد بلغوا الغاية في الجمال والتأنق وأجادوا كل شيء يغري الفتاة ويسيل لعابها من حسن الهندام والظرف ولطف الحديث وإتقان جميع أنواع الرقص والتبذير في النفقة، وحسن الذوق في انتقاء جميع الأشياء وانتقادها. وهؤلاء لهم أسماء متعددة وكلها من أسماء البيوتات الأرسطقراطية. وقد تكون لهم هويات جوازات متعددة تثبت ذلك ولا يصيدون إلا بنات كبار الأغنياء فيظهر اللص أولا للفتاة أنه ابن أمير أو غني كبير, ويذهب أمامها إلى البنك ويخرج مبالغ كبيرة من المال أو يبعث برقية إلى أحد شركائه فيأتيه المال في الحال، وترى تلك الفتاة صورة الفتيات اللاتي أوقعهن سوء طالعهن في حبالته ومكاتباتهن معه، فترى جمالهن وعلو أدبهن وكونهن من بنات البيوتات فتزداد استهواء وفتنة حتى إذا نضجت ثمرة خداعه وعميت الفتاة وطاش لبها، تظاهر بتأخر حوالة عظيمة كان قد طلبها من أبيه واخترع لذلك عذرا، فتقوم الفتاة الغرة وتأتيه بالمبلغ الذي يريده من المال فيأخذه، ولا يعسر عليه أن يخترع سببا لسفر عاجل وأنه سيرجع إليها, فيكون آخر العهد به، وقد يتركها في بعض الأحيان حاملا، ولكن هذا نادر جدا لأنهم يحتاطون للحمل باستعمال الوسائل المانعة منه، ولا يكادون يتساهلون فيها إلا بعد عقد النكاح بصورة رسمية.(4/103)
وهل يعلم هؤلاء الدعاة أن المرأة في أرقى دول أوروبا تشعر بالحاجة إلى حماية الرجل وقواميته عليها، ورئاسته ولا يغنيها عن هذه الحاجة مال ولا علم ولا شرف ولا حسب ولا منصب أبدا. ومما يحكى في هذا المعنى أن الملكة البريطانية العظيمة فكتوريا جاءت يوما إلى غرفة زوجها، فدقت الباب، فقال من بالباب؟ فقالت أنا الملكة، فقال: لا حاجة لي بالملكة، فانتبهت في الحين إلى خطئها وتلافته، فقالت افتح! أنا عزيزتك فكتوريا، فقال الآن أفتح.
وخضوع الأنثى للفحل أمر جعله الله في طبع كل أنثى من الحيوان الأبكم والناطق، ولا سبيل إلى إزالته عنها، لأنها لا تقدر أن تكون أنثى بدونه، كما جعل الله في طبعها الدلال والغنج أيضا، فهذان الخلقان معجونان في فطرتها.
هذا ولا تستغني المرأة عن حماية الرجل ولو في أرقى الأمم فقد أخبرتني (فراوزلي) في مدينة (بن) أنها حين كان زوجها في قيد الحياة، كان يجرعها غصصا، بسبب خليلة كانت له، ولكن بعد وفاته نسيت كل ذلك وحزنت على فراقه وقد ترك لها فراغا عظيما في كل شيء, حتى إنها إذا كتبت إلى شركة تطلب منها بضاعة تحذف آخر اسمها ليظن المكتب إليه أنها رجل فلا يتهاون بطلبها.
وأخبرتني أيضا أنه يأتي إلى بابها أحيانا بعض المساكين الذين يسألون الصدقة على الأبواب خلافا للقانون، فترحم السائل ولا تحب أن ترده، ولكنها تلقي إليه الفلوس من شق الباب، وتخاف أن تفتح له الباب، فيكون لصا في صورة سائل.
وكانت لي في برلين جارة لها ثلاثة أولاد صغار، فكنت حين أسمع صفارة الإنذار أسمع معه بكاء المرأة وأولادها! لأن عليها أن تملأ سطلا كبيرا تعده لإطفاء الحريق وتوقظ أولادها الثلاثة، وتلبسهم ثيابهم، وتأخذ لهم شيئا يأكلون وشيئا يشربون، لأن مدة الغارة قد تدوم ست ساعات أو أكثر، وفي ذلك الوقت - وهو من أول الحرب إلى سنة 1942 - كانت الغارات الجوية لا تأتي في الغالب إلا ليلا.(4/104)
وبهذه المناسبة أذكر أن الغارات في أول زمان الحرب كانت قسمين: غارات روسية، وعلامتها أن تأتي بعد الغروب بنصف ساعة لقرب الروس، وهذه لم يكن الألمان يخافون منها، وأكثرهم لا ينزلون إلى الملاجئ وغارات إنكليزية، وهذه كانت تفتك فيهم فتكا ذريعا، وكان الألمانيون يحسبون لها حسابا وأي حساب.
قلت: إني كنت أسمع بكاء تلك الأم وأولادها، ولم يكن لها جار من الرجال غيري، فكنت آخذ أحد الأولاد في يدي وننزل الدرج، وفي أكثر الأحيان لم تكن الغارة الجوية تمهل هذه المرأة حتى تستعد للنزول، فكانت رعود الغارة والمدافع المضادة لها وبروقها تبتدئ قبل نزولنا، فكان هؤلاء المساكين يتوقفون مرتجفين عن عبور المسافة التي بين دهليز الدرج وباب السرداب لأن هذه المسافة مكشوفة تحت السماء بلا حاجب، فكنت أشجعهم حتى يعبروا، فإذا نزلت معهم أربع درجات من السرداب رجعت، لأني لم أكن أختبئ من أجل خصومة وقعت بيني وبين مراقب المخبأ, وفعلا وقعت القنابل على تلك الدار واحترقت الغرفة التي كنت أنام بها بما فيها، ولكن بعد خروجي من ألمانيا.
ولو ذهبنا نعدد الأدلة على حاجة المرأة إلى قوامية الرجل وحمايته لطال بنا القول.
وأما قساوة أرقى الأوروبيين من الأمم على النساء وعدم الرحمة والرفق بهن، فحدث عن البحر ولا حرج.
فمن ذلك أن العادة جارية عندهم بأن المرأة لا تقدر أن تتزوج حتى تحضر صداقا أقله خمسة آلاف مارك، وأكثره لا حد له، ومن أسعدها الحظ بالتزوج فعلى حسب مالها تقدر أن تجد زوجا ملائما لها، لأن الزوج لا يرغب في المرأة لجمال ولا لدين ولا لحسب، بل يقدم المال على ذلك كله.(4/105)
فترى المرأة تقضي شطرا كبيرا من شبابها في العمل لجمع المال الذي به وحده يكون لها بعض الأمل في الزواج، ففي برلين تشتغل الخادمة بثلاثين (ماركا) ، وفي المدن الصغيرة بعشرين (ماركا) مع أكلها في كل شهر، وتضيق على نفسها فتحرمها من كل شيء لتجمع صداقا، وقد تكون أم عجوز ضعيفة لا بد لها أن تساعدها من ذلك الراتب القليل ببعض الماركات، فكم يجب عليها أن تخدم من السنين حتى تجمع آلاف الماكرات؟ وإذا جمعت مقدارا يمكنها من التزوج بفقير مثلها، تحتاج إلى أن تؤم المجتمعات كدور الرقص والسينما وغيرها، وإذا وجدت فرصة للحديث مع رجل تغتنمها.
والعادة جارية بأن الرجل هو الذي يدعو المرأة للرقص، وهو الذي يبدأها بالكلام فقد تذهب إلى ناد من الأندية التي يجتمع فيها الناس وتنفق شيئا من المال، وهي به جد ضنية، فتدخل دار السينما أو القهوة، أو المطعم، أو دار الرقص، ولا تظفر بأحد أصلا فتعود خائبة، ثم تنتظر حتى تجد فرصة أخرى، لأن مثل هذه الفرصة لا تتيسر لها في كل يوم، بل أحسن أحوالها أن تتيسر لها في الأسبوع مرة.
وإذا ساق الحظ لها واحدا فقد يكون مخالفا لها في الدين، وقد يكون مخادعا.
فإذا وجدت رجلا موافقا في كل شيء فلا بد أن تجتمع به الفينة بعد الفينة وتختبر عشرته وحاله، فإن أعجبها فإن العادة التي جرت أن يتواعدا على الزواج ويبقيا سنين طويلة متواعدين، وفي طيلة مدة التواعد تظل خائفة عليه أن ينقض عهده ويتركها.(4/106)
وهذا كثير جدا: أعرف كاتبة في القسم الشرقي من جامعة (بن) كانت في قلبها غصة لا تفارقها أبدا, وذلك أن رجلا عاهدها على التزوج، وبقي معها أربع عشرة سنة يعيش معها كما يعيش الزوج مع زوجته، أي يجتمع بها في أوقات فراغهما، ويخالطها كما يخالط الرجل زوجته، لا أنه ينفق عليها شيئا أو يتعاونان على المعيشة، لأن ذلك إنما يقع بعد عقد النكاح والاجتماع الرسمي، فيسميان زوجين، وأما قبل ذلك فيسميان متخاطبين فقط، وبعد مضي أربع عشرة سنة قضت فيها زهرة شبابها معه، وجد امرأة أكثر مالا منها فتزوج بها وتركها تتقطع حسرات.
وهذا نموذج من ألوف من أمثاله، ومن غريب ما وقفت عليه من شؤون المتخاطبين عندهم أن الرجل يخطب المرأة فيتفقان على الزواج، ويبقيان مدة طويلة تعاشران عشرة المتحابين، وهي كما قلنا مخالطة تامة كمخالطة الزوجين، ثم يعقدان النكاح ويجتمعان على الزواج، فلا يلبثان أن تسوء عشرتهما، فيقع الشقاق بينهما ثم يعقبه الفراق.
ومن عجيب ما سمعت من ذلك في مدينة (بن) الألمانية أن متخاطبين بقيا مدة عشرين سنة متعاشرين في غاية الوفاق والوئام، ثم تزوجا، فلم يلبثا إلا سنة واحدة حتى وقع الطلاق بينهما، وكانت تلك السنة كلها خصومات ونزاعا بينهما، فسألت عن سر ذلك فأخبروني أن الرجل والمرأة ما داما متخاطبين يستر كل منهما أخلاقه الحقيقية ويتخلق بغيرها مصانعة وتملقا لصاحبه، مخافة أن يمله ويفسخ الخطبة، فإذا وقعت عقدة النكاح بينهما يسقط كل واحد منهما الكلفة، ويزول التملق، وتنكشف مخبآت الأخلاق والعادات، فيتلوها التنافر ثم النزاع والخصام ثم الطلاق.(4/107)
وبهذا تعلم أن قول بعض الأغرار من الشرقيين باستحسان مخالطة الخاطب لمخطوبته قبل العقد، وخلوته بها ومعاشرته لها، زاعما أن ذلك يكشف لكل واحد منهما دخيلة الآخر فيقع الاتفاق، فالحب هو أساس الزواج السعيد، إن هذا القول باطل, وحديث خرافة، لأن هذين المتخاطبين لا يمكن لأحد منهما أن يعرف طباع صاحبه الحقيقية إلا بعد إسقاط الكلفة، وذلك يكون بعد العقد، ولأنهما غير معصومين من المباشرة المحرمة وعاقبتها الوخيمة في العاجل والآجل.(4/108)
ولذلك حرم الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم الخلوة بالأجنبية وقد جاء في الخبر "ما خلا رجل بامرأة، يعني أجنبية، إلا كان الشيطان ثالثهما"، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدخول على المغيبات - يعني النساء اللاتي أزواجهن غائبون - وسئل عن الحمو، وهو أخو البعل، هل يغتفر دخوله على زوجة أخيه وخلوته بها؟، فقال صلى الله عليه وسلم: "الحمو الموت" يريد أنه شر من البعيدة في الخلوة، ونهى صلى الله عليه وسلم أن تسافر المرأة إلا مع زوج أو ذي محرم، كل ذلك كان منه محافظة على العرض والنسب والدين، وصلاح ذات البين، وصيانة لحقوق الرحم، أما نظر المتخاطبين كل منهما الآخر في غير خلوة ولا ريبة فلا بد منه، وقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم، وقولهم: إن الزواج السعيد أساسه الحب، فيه نظر فإن الحب على أنواع، منه: حب الشهوة كحب الطعام والشراب وركوب الخيل، وما أشبه ذلك, فهذا الحب هو في الحقيقة ألم يحز في النفس، ويعظم بفقد المسكن، وهو قضاء الغرض من المطلوب فإذا ظفر صاحبه بمطلوبه سكن ألمه وضعفت رغبته في ذلك المطلوب، وصار ينظر إليه بعين غير العين التي كان ينظر إليه بها عند فقده، وقد تستمر هذه الرغبة في الضعف حتى تنعدم، والدليل على ذلك أن كثيرا من الناس كانوا يعشقون نساء، وبذلوا في سبيل التزوج بهن كل ما يستطيعون بذله، فلما وصلوا إلى غرضهم لم يلبثوا أن ملوا أولئك النساء، ولم تبق لهن قيمة عندهم، لأنهم كانوا يحبونهن حب شهوة، فلما قضيت قضى معها الحب نحبه، وهذا عام في البشر: الشرقيين منهم والغربيين. وقد سئل بعض الأوروبيين: من تحب من النساء؟ فقال: أحب جميع النساء ما عدا زوجتي! فإن لم يزل ذلك الحب بالمرة، فإنه يضعف كثيرا جدا، فإذا اتفق أن المحبوب كان غليظ الطبع جافيا سيء الخلق كان ذلك أدعى إلى موت ذلك الحب بسرعة وربما انقلب بغضا وعداوة.(4/109)
ومنها حب ميل زوجي وهذا أطول عمرا من الذي قبله، فإن صادف أن المحبوب كان متصفا بأخلاق ملائمة لطبع المحب، ازداد ذلك الحب قوة على مر الأيام وثبت، وليس مقصودنا أن ننفي أن حسن الصورة من دواعي الحب الصحيح، ولا نقول بغض النظر عن كل حسن جسمي والاكتفاء بالجمال النفسي فإن هذا خطأ فإن الحب الصحيح لا يتم إلا إذا كان المحبوب جميلا في نفسه وهذا الحب يبنى على الزواج الشرعي الذي يكون كل من الزوجين قد رأى صاحبه قبل الزواج ورضي به زوجا بدون إكراه ولا إغراء، فإن صادفه الاتفاق في الأخلاق ومتانة الدين، كان ذلك أقوى له وأرسخ لقواعده، وهذا هو الذي أمر به الإسلام.
وأما اعتراضكم على الإسلام في جعله ميراث المرأة نصف ميراث الرجل، فهو اعتراض ساقط، لأن الرجل قد فرض عليه الإسلام فرائض مالية لم يفرضها على المرأة، منها دفع المهر، ومنها النفقة على الزوجة والأولاد والوالدين الفقيرين، زيادة على أن عليه حماية هؤلاء، والدفاع عنهم فهو في حاجة إلى المال، بخلاف المرأة فحاجتها في الجملة إلى المال قليلة.(4/110)
العدد 9
فهرس المحتويات
1-من مسائل الربا: لسماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
2- دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
3- موسوعات الفقه الإسلامي أو معاجم القوانين الفقهية: لفضيلة السيد محمد المنتصر الكتاني
4- مقابلة مع فضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية: الشيخ محمد بن ناصر العبودي
5- الإمام مسلم وصحيحه: بقلم الشيخ عبد المحسن العباد
6- في مناسبات الآيات والسور - المناسبات.. وترتيب الآيات والسور: للشيخ أحمد حسن
7- في ظلال سورة الأنفال (3) : بقلم الشيخ: أبي بكر جابر الجزائري
8- التراويح أكثر من ألف عام في المسجد النبوي: بقلم الشيخ عطية محمد سالم
9- دراسات أدبية - كتاب في أفريقية الخضراء: بقلم الأستاذ محمد المجذوب
10- الإسلام والحياة - القرآن والمظاهر الطبيعية: بقلم أحمد عبد الرحيم السايح
11- ملاحظات وتعقيبات: للشيخ عبد الله القادري
1- تعقيب على مقال: التضامن الإسلامي بين التأييد والتنديد.
2- التعقيب على مقال ابن حزم
12- قدس القداسات: بقلم الأستاذ عبد السلام حافظ
13- ذبح الحمام الأهلي في الحرم المكي: لفضيلة الشيخ محمد شفيع
14- التفكر في مخلوقات الله: للشيخ عبد الله بن صالح المحسن
15- مع الصحافة - مع الإسلام ولكن؟ : نقلا عن مجلة البعث الإسلامي
16- يستفتونك: يتولى الرد على أسئلة القراء فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
17- ندوة الطلبة - الحركة الإسلامية في الهند: بقلم الطالب: عبد الرحمن تروائي المليباري
18- الأدب العربي: بقلم الطالب عبد الرحمن محمد الأنصاري
19- دراسات في الديانات الهندية - الديانة الهندوسية (1) : بقلم: الطالب محمد ضياء الرحمن الأعظمي
20- أخبار الجامعة
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(4/111)
من مسائل الربا
لسماحة رئيس الجامعة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فقد سألني غير واحد عن معاملة يتعاطاها كثير من الناس وهي أن بعضهم يدفع إلى البنك أو غيره مالاً معلوما على سبيل الأمانة أو ليتجر به القابض على أن يدفع القابض إلى الدافع ربحا معلوما كل شهر أو كل سنة مثال ذلك أن يدفع شخص إلى البنك أو غيره عشرة آلاف ريال أو أقل أو أكثر على أن يدفع إليه القابض مائة ريال أو أكثر أو أقل كل شهر أو كل سنة، وهذه المعاملة لا شك أنها من مسائل الربا المحرم بالنص والإجماع وقد دلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على أن أكل الربا من كبائر الذنوب ومن الجرائم المتوعد عليها بالنار واللعنة. قال الله سبحانه: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(4/112)
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} . ففي هذه الآيات الكريمات الدلالة الصريحة على غلظ تحريم الربا وأنه من الكبائر الموجبة للنار كما أن فيها الدلالة على أن الله سبحانه يمحق كسب المرابي ويربي الصدقات أي يربيها لأهلها وينميها حتى يكون القليل كثيرا إذا كان من كسب طيب. وفي الآية الأخيرة التصريح بأن المرابي محارب لله ورسوله وأن الواجب عليه التوبة إلى الله سبحانه وأخذ رأس ماله من غير زيادة. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء، فالواجب على كل مسلم أن يتقي الله سبحانه ويراقبه في جميع الأمور وأن يحذر ما حرم الله عليه من الأقوال والأعمال والمكاسب الخبيثة ومن أعظمها وأخطرها مكاسب الربا الذي أنزل الله فيه ما يوجب الحذر منه والتواصي بتركه، وقد نقل أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة رحمه الله في كتابه المغني عن الحافظ ابن المنذر إجماع العلماء على تحريم مثل هذه المعاملة وفي ذلك كفاية ومقنع لطالب الحق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز(4/113)
الإسلام والحياة
القرآن والمظاهر الطبيعية
بقلم أحمد عبد الرحيم السايح
من علماء الأزهر
القرآن الكريم يلفت نظر المؤمنين إلى المظاهر الطبيعية، لينمِّي في الإنسانية القوى العقلية، المفضية إلى النظر في البراهين، الداعية إلى التفكُّر والتأمل في هذا الكون العجيب، الذي يسير وفق نظام امتلأ دقة وروعة.
قال الله تعالى في سورة البقرة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
وقال تعالى في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ, وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ، وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ, ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .(4/114)
وفي سورة يونس: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ, إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} .
وقال تعالى في سورة (ق) : {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ, وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ, تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ, وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ, وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ, رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ..} .
وفي سورة الأعراف: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} .
وفي سورة الأنعام: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .
وفي سورة يونس: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} .
وفي سورة الغاشية: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ, وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ, وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ, وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ, فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} .(4/115)
وقال تعالى في سورة الواقعة: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ, أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ؟ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ؟ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ, وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ. أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ؟ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ؟ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ؟ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ, أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ؟ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} .
لقد طاف بنا القرآن الكريم في الآيات المذكورة، في أنحاء هذا الكون الكبير، الذي لا يعلم مداه إلا خالقه، وتتبع مظاهر الطبيعة على وجه هذه الأرض التي نعيش عليها، بما فيها من جبال، وبحار، وأنهار، وينابيع، ونبات، وأشجار، وحيوان، وفواكه، تسقى بماء واحد، وتفضل بعضها على بعض في الأكل.
ووضَّح القرآن في أسلوب أخَّاذ، كيفية تبدُّل الأرض وتغيُّرها عندما ينزل عليها الماء فتهتز وتربو وتنبت من كل زوج بهيج.
وفي الكون العلوي، تحدث القرآن عن ملكوت السموات، تحدث عن الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} .(4/116)
وتتسم الآيات التي تناولت مظاهر الطبيعة بلفت النظرة والاعتبار، بما فيها بداية أو نهاية، كثيرا ما تُصَدَّر الآية بقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا} ، {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} .
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} .
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} .
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ} .
ولكي نعطي صورة تقريبية، لمدى اهتمام القرآن بمظاهر الطبيعة وتوجيه النظر، للتفكير والتأمل والبحث فيها. نورد إحصائية لبعض هذه الظواهر التي رددها القرآن في كثير من آياته.
ذكر القرآن الكريم (الأرض) في أكثر من ثمانين وأربعمائة آية، وذكر السماء مفردا وجمعا في مائتي آية، وذكر النهار في خمسين موضعا، وذكر البحر في أكثر من أربعين موضعا، وذكر الجبال في أكثر خمسة وثلاثين موضعا، وذكر الأنعام في ثلاثين موضعا، وذكر الريح والرياح في أكثر من خمسة وعشرين موضعا. وذكر الظلمات في عشرين آية والنجم في ثلاث عشرة آية، وذكر النخيل في عشرين آية، والنطفة في اثنتي عشرة آية.
لم يكن تكرار تلك الألفاظ عبثا، وإنما جاء في كل آية بإشارات خاصة وإيحاءات دافعة، ومناسبات تختلف كل واحدة فيها عن الأخرى.
وهذا مثال للجوانب التي تحدث فيها القرآن الكريم عن الأرض، في بعض الآيات التي وردت في القرآن: "أخذت الأرض زخرفها"، "أشرقت بنور ربها"، "ألقت ما فيها وتخلت"، "أخرجت أثقالها"، "وضعها للأنام"، "ألقى رواسي أن تميد بكم"، "تصبح مخضرَّة"، "فجرها عيونا"، "رجت رجا"، "زلزلت الأرض زلزالها"، "وجعلها الله فراشا، وذلولا، وبساطا، وكفاتا، وقرارا، وخاشعة، ودحاها، وجعل فيها خزائن، وجنات"إلخ.. [1] .(4/117)
وهكذا لو حاولنا تقصِّي المناسبات التي ذكرت فيها هذه الظواهر والأسرار التي ذكرها الله بشأنها، لَمَا وسعنا الزمن، وصدق الله العظيم: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} .
وقال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} . وإلى اللقاء.
من حكم أبي بكر الصديق رضي الله عنه
1- صنائع المعروف تقي مصارع السوء.
2- ليست مع العزاء مصيبة ولا مع الجزع فائدة.
3- ثلاث من كُنَّ فيه كُنَّ عليه: البغي، والنكث، والمكر.
4- كثير الكلام ينسي بعضه بعضا، وإنما لك ما وُعِيَ عنك.
5- أصلح نفسك يصلح لك الناس.
(جواهر الأدب)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] راجع مجلة الدراسات الإسلامية المجلد الثاني - باكستان - إسلام آباد.(4/118)
ملاحظات وتعقيبات
تعقيب على مقال:
التضامن الإسلامي بين التأييد والتنديد
للشيخ عبد الله القادري
المشرف الاجتماعي في الجامعة الإسلامية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه. وبعد، فقد نشرت جريدة (نداء الجنوب) في العدد 129 مقالا بعنوان: (التضامن الإسلامي بين التأييد والتنديد) يحمل توقيع (عقيل) وهو مقال جيِّد يدل على غِيرة الأخ الكاتب على دينه وعلى امتعاضه من المبادئ والشعارات المعادية للإسلام. ولكن عبارة لفتت نظري واستغربت أن تكون من صاحب المقال، لأن وجهته إسلامية وكتابته ضد المبادئ الهدامة، والعبارة - حسب اعتقادي - فيها ما هو مخالف للإسلام صراحة، وفيها ما هو في حاجة إلى البيان والإيضاح، وأنا أنقل العبارة أولا بلفظها ثم أذكر بعد ذلك ما رأيت ابدأه نصحا لله ولرسوله وللكاتب والقائمين على إصدار الجريدة والقراء بصفة عامَّة.
قال الكاتب:
"وما كان الإسلام ولن يكون عدو القومية والوحدة والتحرُّر والإنسانية والاشتراكية".
قلت: إن بعض ما في هذه العبارة مخالف للإسلام صراحة، وبعضها الآخر يحتاج إلى إيضاح وتفصيل:
1- أما ما يخالف الإسلام صراحة فهو كون الإسلام ليس عدوا للاشتراكية، فإن الاشتراكية - كما هو معروف - مقدمة الشيوعية. ولا أريد أن أطيل الكلام في هذا الموضوع فقد كفانا الكتَّاب المسلمون عناء ذلك، ومن سقط من المنتسبين إلى الإسلام من أهل العلم أو أدعيائه في هوة أعداء الإسلام وادعى أن نصوص الإسلام تؤيد الاشتراكية لا يخلو من أحد أمرين: فهو إما مخطئ في فهم نصوص الشريعة مع حسن نيته، وهذا الاحتمال أحسن الاحتمالين وأمر صاحبه إلى الله تعالى إذ هو الذي يعلم حسن نيته - دون غيره -.(4/119)
وإما عبد مادة وجاه طلب منه أعداء الإسلام أن يؤيد فكرتهم بالتلاعب بنصوص الشريعة والاستدلال بها على صحة مبادئ أسيادهم الهدَّامة، وهذا أسوء الاحتمالين، وصاحبه يعتبر مشابها للمحرفين من أهل الكتاب الذين ينسبون أحكاما إلى الله وليس من عنده وهذا العمل يعتبر كفرا وردة يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا فجزاؤه معروف في باب الردة من كل كتاب من كتب الأحكام.
ومن الرسائل التي تعرضت للرد على أولئك العلماء بِقِسْمَيْهِمْ رسالة للشيخ عبد العزيز البدري وكتاب للشيخ محمد الحامد رحمهما الله وغيرهما كثير.
وعلى أي حال فالإسلام كيان مستقل بنفسه ليس في حاجة إلى الشيوعية الشرقية ولا إلى الرأسمالية الغربية.. بل فيه الغناء التام عقيدة وسلوكا وشريعة ونظاما. ولو طبَّق حكَّام الشعوب الإسلامية قوانين إسلامهم تطبيقا كاملا لأروا كلتا الكتلتين أن الإسلام وحده هو الكفيل بإيجاد الأمن والاستقرار والسعادة لكل أبناء الإنسان في كل أنحاء الأرض، ولكن أولئك الحكام - إلا من شاء الله - هم الذين شوَّهوا الإسلام في نظر أعدائه وأبنائه على السواء. والله المستعان.
2- وأما ما يحتاج إلى تفصيل وإيضاح فكون الأمور الأربعة التالية لا يعاديها الإسلام:
الأول: القومية.
الثاني: الوحدة.
الثالث: التحرر.
الرابع: الإنسانية.
1- القومية:
إن كان المراد بالقومية مناصرة بعض القوم بعضا في الحق دون الباطل، والتفاف بعضهم حول بعض من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل فنقول: إن هذه القومية - إن صحت تسميتها بذلك - قومية محمودة وعدل مطلوب، ولعل هذا هو السر في تعبير كثير من الأنبياء عندما ينادي جماعته بلفظ: ((يا قوم)) .
ولكنها تصبح قومية مخالفة للإسلام عندما تتخذ رباطا يجمع بين أمَّة من الأمم تشترك في النسب أو اللغة أو الوطن ونحوها، وينصر بعضهم بعضا على حق أو باطل كما قال الشاعر الجاهلي القديم:(4/120)
وهل أنا إلا من غزية إن غوت
غويت وإن ترشد غزية أرشد
وكما هو المتعارف عليه في هذا العصر بالنسبة لجميع القوميات، ومن ذلك: القومية العربية التي حاول المستعمرون أن يحلوها محل العقيدة الإسلامية التي تربط بين المسلمين في أنحاء المعمورة من أي جنس مهما كانت أنسابهم ومهما اختلفت أوطانهم ولغاتهم، ليصلوا بذلك إلى هدفهم الأصيل، وهو تفريق كلمة المسلمين وتشتيت جمعهم بتعدد القوميات لكل أمة منهم، لأن العرب عندما يدعون إلى القومية العربية ويفتخرون بها، ويتخلون عن الدعوة إلى الإسلام يفتحون بذلك بابا لانفصال المسلمين من غير العرب عنهم، لأن لكل أمة قومية تخصها، فإذا كانت قومية العرب هي العربية فقومية الأتراك هي التركية، وهي أحق بالأتراك من القومية العربية التي نادى بها المستعمرون أولا وطبقها أذنابهم في بلادنا ثانيا، حتى أصبح المسلمون في أنحاء العالم ينظرون إلى العرب كأمة منفصلة عنهم لا تربطهم بهم رابطة. وأرجو أن لا يفهم القارئ من هذا أنني لا أحبذ اجتماع كلمة العرب، كلا!! ولكني أريد منهم أن يكون اجتماعهم على رابطة عامة شريفة تربطهم بإخوانهم المسلمين كلهم وهي رابطة العقيدة الصحيحة. ولذا نرى دول الشعوب الإسلامية تسارع إلى حضور الاجتماعات الإسلامية وتؤيِّدها باسم الإسلام الذين يشتركون فيه جميعا..
أجل إن القومية التي لها هذه المعاني فهي ما أذهبه الله عن المسلمين من عيشة الجاهلية، من دعا إليها فقد دعا إلى ما أذهبه الله عن المسلمين من أسباب الفرقة والعداء. ولصاحب السماحة الوالد رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رسالة قيمة في هذا الموضوع تسمى: نقد القومية على ضوء الإسلام والواقع، فمن شاء فليرجع إليها.
2- الوحدة:(4/121)
إن أريد بها اتحاد جميع المسلمين وتضامنهم حول عقيدتهم الإسلامية عربهم وعجمهم تحقيقا لقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وذلك بأن يطبقوا تعاليم الإسلام في عقيدتهم وشريعتهم ونظامهم وسلوكهم لا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، ولا بعضهم يؤمن بالإسلام وبعضهم يؤمن بما يخالفه، فهذه وحدة نادى بها الإسلام قبل أربعة عشر قرنا، ويجب على المسلمين تحقيقها وهي الجماعة التي يد الله معها، وبها تقوى شوكتهم ويحصل التعاون التام بينهم الذي يضمن لهم نصرهم على عدوهم.
وإن أريد بها وحدة الدول خاصة ذات هدف واحد مشترك يخالف الإسلام كوحدة الثوريين والاشتراكيين فهذه في الحقيقة ليست وحدة وإنما هي فرقة، وواقعها يكفي دليلا على فشلها، وكل وحدة على غير الإسلام فمصيرها الفرقة، وهذه الوحدة المزعومة هي التي ينادي بها من نصَّبوا أنفسهم أعداء للوحدة الإسلامية الشاملة، وتسميتها وحدة بمنزلة تسمية الخمر عسلا.
3- التحرر:
والتحرر أيضا قسمان - حسب مفهوم الناس -:
الأول: التحرر من عبادة العباد وشهوات النفس إلى عبادة الله وحده. فهذا التحرر هو الذي نادى به الإسلام يوم بزوغ شمسه، كما قال بعض المجاهدين لرئيس من رؤساء الدول الأجنبية عندما سأل الرئيس المجاهد قائلا: لماذا جئتم إلى بلادنا؟ فقال المجاهد: جئنا لنحرر العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور السلطان إلى عدل الإسلام.(4/122)
الثاني: ما يطلقه أكثر الناس الآن على التفلُّت الكامل بحيث يفعل الإنسان ما ترغب نفسه وتستطيبه شهوته، لا يلَّتفت إلى ما يحب الله ولا إلى ما يبغضه بل يبقى طليقا يفعل ما يشاء يزني ويشرب الخمر ويغني ويرقص، ويأكل المحرمات إلى ما لا نهاية. وهذا - وإن سماه الدعاة إليه تحررا - ليس بتحرر وإنما هو رق كامل لا لجهة واحدة وإنما لجهات متعددة: رق للشيطان ورق للنفس وشهواتها ورق لمن يملك من الناس تمكين الشخص من مراده وعدم تمكينه.
4- الإنسانية:
وللإنسانية أيضا مفهومان:
الأول: صحيح وهو: أن يعتقد أن البشر كلهم بنو الإنسان الأول الذي هو آدم عليه السلام ليس لأحدهم فضل على الآخر إلا بتقوى الله كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ومعنى هذا أنهم يتساوون في الحقوق والواجبات والتصرفات، لا يفيد أحدا منهم أحدا، ولا يحرم أحد شيئا على أحد، كما لا يحل شخص لآخر من عند نفسه، وإنما يصدر التحليل والتحريم والتقييد من مصدر واحد هو خالق الناس كلهم، وإذا كان التفاضل بين الناس لا يحصل إلا بالتقوى فلا منافاة بين كونهم يستوون في الانتساب إلى الإنسانية. وكثير من الأمور التي يطول ذكرها، وبين كون الذي اختص بالتقوى يفضل من لم يصبه منها نصيب فلا غرو أن يكون المسلم هو الحاكم المنفذ لشريعة الله على المؤمن والكافر معاً، وأن يكون الكافر صاغراً دافعاً للجزية لقاء أمنه على نفسه وماله وعرضه بين المسلمين.
أما المفهوم الثاني للإنسانية فهو ما تعارف عليه الناس في هذه الأيام، وهو المساواة المطلقة بين الناس مسلمهم ونصرانيهم ويهوديهم ووثنيهم، ذكرهم وأنثاهم، فليس لمسلم أن يجاهد كافراً ليدخل في الإسلام أو يدفع الجزية وهو صاغر لأنهم كلهم إخوة في الإنسانية.(4/123)
ولا فرق بين الرجل والمرأة في كل شيء، فلها الحرية الكاملة في الذهاب والإياب والاختلاط والخلوة بالرجل في المكتب والمصنع وغيرهما، وتساويه في الإرث وغيره، وهذه في الحقيقة ليست إنسانية لأنها وضع للأمور في غير مواضعها ومخالفتها لنصوص القرآن والسنة والحكمة واضحة كل الوضوح.
والإنسانية هي التي تضم الجميع في ظل عدالة سماوية وحكم إلهي يجعل لكل فرد أو جماعة ما تستحق، ويوجب عليها لغيرها ما يستحق، فإن المساواة المطلقة بين المسلم والكافر يعتبر معاكسة لجميع الأديان السماوية كما قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} .
وقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} . بل فرق بين المسلمين أنفسهم ببعض الصفات فقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} وجعل للمرأة نصف حظ الرجل في الإرث وجعله قوَّاماً عليها، لعلمه تعالى أنه أهل لذلك بخلافها، والواقع أكبر شاهد لذلك.
ولا أريد الإطالة كما قلت بل أردت التنبيه فقط، وأرجو أن يكون الأخ الكاتب أراد في كل ما ذكر المفهومات الصحيحة كما هو المظنون به، وأرجو أن يعلم أني لم أرد التشهير به وإنما قصدت النصح كما ذكرت أولا، وإذا كان للكاتب أو غيره ملاحظة على شيء مما ذكرت فإني أرحب بتنبيهي على خطأ يصدر مني إذ "كل بني آدم خطاؤن وخير الخطائين التوابون" وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه.
-2-
تعقيب على مقال: " ابن حزم "
للشيخ محمد المجذوب
سيادة الأخ المكرم محرر (نداء الجنوب) سلَّمه الله:
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته:(4/124)
في العدد (168) من النداء العزيز قرأت مقالة الأستاذ " ابن حزم " (صفحات من التاريخ) وعلى الرغم من إعجابي بقلمه وأفكاره العالية وجدتني مضطرا لإبداء بعض النقاط التي ما يحسن السكوت عليها لمخالفتها للصحيح الثابت من أخبار غزوة أحد.
1- يقول الكاتب المحترم عن الذعر الذي عمَّ المسلمين عقب الانتكاسة: "فألقى بعضهم السلاح وأخذوا يفكرون في الاتصال بحليف المشركين عبد الله بن أبي - رأس المنافقين بالمدينة - ليعرض استسلامهم على قائد جيش القرشيين ويأخذ لهم الأمان منهم ظنا منهم أن النبي القائد - صلى الله عليه وسلم - قد قُتِلَ وألا جدوى في المقاومة..وبينما هم حائرون يفكرون في الاستسلام إذ أقبل إليهم انس بن النضر.."وقد تكرر هذا المعنى في المقال عدة مرات كقوله: "..يعني الصحابة الذين ألقوا السلاح وفكروا في الاستسلام.."وقوله عن تضحية أنس رضي الله عنه بأنها كانت "بمثابة العاصفة التي اقتلعت روح الاستسلام من نفوس الصحابة الذين كانوا قد قرروا إلقاء السلاح والاستسلام للمشركين..".
ثم يقول: ".. فعدلوا عن فكرة الاستسلام وأخذوا أسلحتهم واندفعوا..".
2- فها هنا توكيد مُلِحٌّ على أن هؤلاء الصحابة قد ألقوا السلاح وأنهم أزمعوا الاستسلام للمنافقين والمشركين لم يردهم عن ذلك إلا مشاهد التضحية التي حققها أنس وبعض الثابتين على العهد.
وهذا قول يعوِزه التحقيق الذي سرعان ما يكشف زيفه، حتى ولو نسبت روايته إلى بعض المشهورين الذين أشار إليهم الطبري وابن كثير رحمهما الله.(4/125)
3- وأول ما يعرض من الشك في ادعاء كهذا هو ما ينطوي عليه من اتهام لهؤلاء الصحابة برقة الدين حتى أنهم ليلقون سلاحهم، ويفكرون بإعطاء الدنية التي تقربهم بل تعرضهم للارتداد. لأن أهل النفاق والشرك لن يرضوا عنهم بأقل من العودة إلى وثنيتهم.. وهو تصور مستحيل في حقهم، ولا سيما بعد استقرار الإيمان في قلوبهم ومشاهدتهم الآيات، وعيشهم في غمار الوحي، والتأثر العميق بالتربية النبوية، وبخاصة أن بينهم بعض كبار الصحابة والمبشرين وحسبنا أن نذكر منهم عمر الفاروق رضي الله عنه الذي يقول فيه ابن مسعود: "ما زلنا أذلة حتى أسلم عمر..".
4- إذا أعدنا النظر في هذه الرواية كما جاءت في تاريخ ابن كثير نلاحظ أنه عقب عليها بما يدحضها ويرذلها، وذلك قوله: "وهذا غريب جدا وفيه نكارة"ومرد تلك إلى أمرين: متن القصة الذي لا يتفق مع إيمان أولئك الصحابة الذين أسهموا في تثبيت صرح الإسلام وإعلاء رايته قبلا وبعدا، ثم إسناد القصة الذي فيه مجهولان، وهما شيخ ابن جرير وشيخ شيخه، وأسباط عن السدي، والأول مجروح بكثرة الخطأ والإغراب، والثاني منبوذ بالتشيع.. ورائحة التشيع أبرز شيء في هذه القصة.. هذا فضلا عن الانقطاع الذي لا يخطئه النظر، إذ تقف الرواية عند السدي، ثم لا ندري عمن رواها.. وكفى بهذا مفنداً ومكذباً.(4/126)
5- ولدى التدقيق في خبر أنس بن النضر كما ورد في رواية ابن إسحاق - بصيغة التحديث - وكما أخرجه البخاري من حديث أنس، وأحمد عن يزيد عن حميد عن أنس رضي الله عنه، لا تجد أية إشارة إلى فكرة الاستسلام أو إلقاء السلاح بل كل ما هنالك أنهم - كما جاء في رواية ابن إسحاق - ألقوا بأيديهم - لا بأسلحتهم - وذلك كناية عن الوهن والحيرة من هول ما أصابهم حين سمعوا الخبر عن مقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسرعان ما عادوا إلى القتال بما سمعوا من تذكير أنس، وبما علموا من حياة قائدهم الحبيب صلى الله عليه وسلم كما هو واضح من مختلف المصادر الصحيحة.
6- والخلاصة أن لا سند من الصحة لخبر الاستسلام أو إلقاء السلاح، ولا يعقل أن يكون في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من يفكر بمفاوضة أعداء الله، والتخلي عن دينه ليمكِّن للوثنية وأهلها.. إلا إذا سمحنا لعقولنا بأن لا تفرق بين ذلك الرعيل المصفى من أحابيش اليوم.
وبعد، فهذا ما رأيت التذكير به شاكراً للأستاذ ابن حزم وإخوانه جهادهم وغيرتهم، والله أسأل أن يوفقنا وإياهم إلى طاعته واقتفاء آثار أولئك الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، والحمد لله رب العالمين.(4/127)
قدس القداسات
بقلم الأستاذ عبد السلام حافظ
يا قدس يا جرحنا الدامي وشكوانا
يا قدس يا ليلنا المملوء أحزانا
يا قدس.. ماذا دهانا فيك واشتعلت
عشرون عاما وأرض النور تلحانا
يا قدس.. طيبة والبيت الحرام علا
صوتاهما يسألان الرب تحنانا
ويبكيان القداسات التي هدرت
في أرض عيسى وأمست من منايانا
مسرى الرسول ومعراج العظيم بها
كيف التأسي وقد عادت لبلوانا!
مثارهم.. وإسرائيل تنهبها
وأهلها يعلقون الذل ألوانا!
مشردون بلا مال ولا وطن
شعب الخيام غدوا.. فالشعب قد هانا!
عاشت بقبلتنا الأولى شراذمة
واستهجنوا ورموا بالنار أقصانا
رماهم الله بالخسران من قدم
لا يعرفون لغير الشر ميدانا
هم اليهود أضروا الأنبياء وفي
كل العصور أذاقوا الناس عدوانا
يا قدس آتون للتحرير يلهبنا
شوق الصلاة جماعات ووحدانا
نطهر المسجد الأقصى ونرفعها
الله أكبر.. توحيدا وبنيانا
أجل سنأتي فبعد اليوم لا طلعت
شمس علينا إذا ما خاب مسعانا
تصميمنا وإرادات الحياة بنا
هي التحفز.. والأمجاد تلقانا
اليوم نعلنها لله في ثقة
حربا مقدسة.. والنصر نجوانا
فيا بني العرب أبطال أمتنا
هبوا إلى نصرة الإسلام أعوانا
هناك في المقدس الوضاء ملحمة
كبرى.. هي الشرق الباقي وذكرانا
فمن تهاون في حق يضيعه
والفوز بالعزم والإصرار قد كانا
* * *
وأسوة بالفدائيين فابتدروا
درب الكفاح وأعلوا السيف إعلانا
قلوبهم بين أيديهم مزغردة
للموت، إذ يبذلون الروح قربانا
الله أكبر ما عشنا نرددها(4/128)
نحيا بظلاتها صحبا وإخوانا
على العدو أشدَّاء أشاوسة
لم يبق فينا سوى من بات يقظانا
يأبى الهوان ولا يرضى بمظلمة
يفدي فلسطينا بالأرواح إيمانا
قدس القداسات نحميها وننقذها
حي ـ الجهاد بكأس الفخر أسقانا
* * *
يا قدس.. يا شعلة التحرير موعدنا
آت قريبا ليزهو فيك مأوانا
نفجر الحقد والثأر القديم بمن
عاثوا بأوطاننا سرا وإعلانا
حتماً سيكبو بإسرائيل مطمعها
وتنتهي.. فيبيد الله شيطاناً
وتستعيد فلسطين الحياة بها
نورا وعلما وتاريخا وإنسانا
ونحمد الله.. فالإسلام خافقة
أعلامه تشهد الدنيا بتقوانا
يا قدس آتون للتحرير غايتنا
أبقى من العصر.. الرحمن يرعانا
ما دام فينا نضاليون مشعلهم
دين الهدى، يبذلون النفس.. برهانا(4/129)
ذبح الحمام الأهلي في الحرم المكي
لفضيلة الشيخ محمد شفيع
نحمد الله ونصلي ونسلم على رسوله الكريم، أما بعد.
فقد ورد علينا سؤال من سكان مكة المكرمة سيما الذين يقطنون في الأحياء البعيدة عن المسجد الحرام كالجرول، وقوس النكاسة، والدهلة الوسطى سألوا عن ذبح الحمام الأهلي الذي يقتنيه الناس في بيوتهم هل يجوز ذبحه في حدود حرم مكة أم لا؟ وهل حكم الحمام الأهلي كدجاجة جاز ذبحها في الحرم لمحرم وحلال أم هو كالطيور التي ذبحها محظور على المحرم.. وعلى من كان في الحرم حلالا كان أو حراما.
إنا فتشنا عن ذلك في كتب المذاهب الأربعة فاتضح لنا أن الحمام عند أصحاب المذاهب الأربعة لا يكون إلا صيداً سواء كان أهلياً يقتنى في البيوت أو متوحشاً يطير ويخاف من الإنس كحمام المسجد الحرام أو غير ذلك مما يوجد في الصحراء، والآجام وكون بعض صنوفه أهلياً مستأنسا بالرجال لكونه مقتنى في البيوت لا يخرجه عن كونه صيداً.
ففي المغني من فقه الحنابلة صفحة 502 - ج3 "وكذلك وجب الجزاء في الحمام أهلية ووحشية اعتباراً بأصله" اهـ. هذا ما ذكره في جنايات الإحرام.
وقال في ذكر محظورات الحرم: "وما يحرم ويضمن في الإحرام يحرم ويضمن في الحرم وما لا فلا إلا شيئين، أحدهما القمل مختلف في قتله في الإحرام وهو مباح في الحرم بلا اختلاف. الثاني: صيد البحر مباح في الإحرام من غير خلاف، ولا يحل صيده من آبار الحرم وعيونه"اهـ. وهذا صريح في أن الحمام لا يجوز ذبحه وقتله في حدود حرم مكة المكرمة أهلياً أو وحشياً وليس له حكم الدجاجة في ذلك.(4/130)
وفي المهذب - من فقه الشافعية -: "وإن كان الصيد طائراً نظرت فإن كان حماماً وهو الذي يغب ويهدر كالذي يقتنيه الناس في البيوت كالدبسي والقمري والفاختة فإنه يجب فيه شاة". صفحة 318 ج1, وفيه أيضا صفحة 318 ج1: "ويحرم صيد الحرم على الحلال والمحرم، وحكمه في الجزاء حكم صيد الإحرام لأنه مثله في التحريم فكان مثله في الجزاء"اهـ، فإذا كان حكم الحرم والإحرام واحداً في حرمة الصيد وجزائه، وكل حمام أهلياً كان أو وحشياً صيد عند الشافعية كان ذبح الحمام الأهلي في الحرم حراماً عندهم وفي غنية الناسك صفحة (151) من كتب الحنفية المعتمد في المناسك ومسائل الحرمين "والصيد المملوك لو كان معلماً كالبازي والشاهين والصقر والطوطي والحمام، الذي يجيء من المواضع البعيدة.
وغير ذلك من الأصناف التي تتخذ للترفه يلزمه قيمته للجناية غير معلم وقيمته لمالكه معلماً بالغة ما بلغت إلا أن يكون للهو ولا تعتبر زيادة قيمته بسبب التعليم أو تفاخر الملوك لحق الشرع، وأما زيادتها لحسن ذات في الصيد فمعتبرة كالحمام المطوقة والمصوتة، والصيد الحسن المليح"اهـ. وهذا صريح في الجزاء على المحرم يقتل الحمام المعلم، والمعلم هو الأهلي الداجن الذي يقتنى في البيوت، فلما كان هذا حكم المحرم كان حكم الحرم كذلك لما صرح قاضي خان في فتاواه - وهو من أكابر الفقهاء الحنفية – "صيد الحرم لا يحل قتله ولا تنفيره إلا ما يباح منه للمحرم"اهـ.
ولقد قال ابن نجيم الحنفي المصري في البحر الواثق شرح كنز الدقائق صفحة 39 ج3: "الحمام متوحش بأصل الخلقة ممتنع بطيرانه وإن كان بطيء النهوض، والاستيناس عارض"اهـ، فالحمام صيد عند الحنفية - أيَّ حمام كان - لكونه متوحشاً في أصل الخلقة وفي المدونة - من فقه المالكية - "وكان مالك يكره للمحرم أن يذبح الحمام إذا أحرم الوحشي وغير الوحشي لأن أصل الحمام طير يطير".(4/131)
قال عبد الرحمن بن قاسم: "قيل لمالك إنا عندنا حماما يقال له ((الردمية)) لا يطير وإنما يتخذ للفراخ"، قال: "لا يعجبني ذبحه لأنها تطير، ولا يعجبني أن يذبح المحرم شيئا مما يطير"، قال: "فقلنا لمالك فيذبح في المحرم الإوز، والدجاج"، قال: "لا بأس بذلك"، قلت لابن القاسم: "أليس الإوز طيراً يطير فما فرق بينه وبين الحمام"، قال مالك: "ليس أصله مما يطير، وكذلك الدجاج ليس أصله مما يطير"، قال: فقلت لمالك: "فما أدخل مكة من الحمام الإنسي، والوحشي أترى للحلال إن أدخل به من الحل فكذا الحمام في ذلك"اهـ.
وفي أقرب المسالك لمذهب الإمام مالك تأليف محمد بن أحمد الدردير صفحة (53) "وليس الدجاج، والإوز بصيد بخلاف الحمام "اهـ.
ففي عبارة المدونة، وأقرب المسالك تصريح في أن الحمام صيد - أي حمام كان - فلا يجوز ذبح الحمام الأهلي، وغير الأهلي في الحرم عند المالكية أيضاً إلا أن مالكا - رحمة الله عليه - أجاز ذبح الحمام الذي أدخل في الحرم من خارج الحرم.
فالذي يعوَّل عليه، ويعتمد أن ذبح الحمام الأهلي المستأنس، والوحشي الذي يستأنس لا يجوز ذبحه في حدود حرم مكة في المذاهب الأربعة، إلا مالكاً - رحمة الله تعالى عليه - أجاز ذبح الحمام الذي أدخل في الحرم من خارج الحرم.
والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب.
محمد شفيع
- عفى الله عنه -(4/132)
التفكر في مخلوقات الله
للشيخ عبد الله بن صالح المحسن
المدرس بمعهد الجامعة
إن التفكر في مخلوقات الله ليفتح أبواباً مغلقة من نور البصيرة في العلوم والأفهام وتحرير الإنسان من الغفلة والجهل والعصيان وقد أثنى الله على المتفكرين في كتابه العزيز. قال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} ، فعلى العبد أن ينظر في هذا الكون نظر تفكر وتدبر واعتبار ليزداد إيماناً ويقيناً. على أن كل ما في الوجود هو خلق الله وأن كل شيء خلق لحكمة قد تعلم أو لا تعلم أو يعلم بعض دون الآخر لأن في مخلوقات الله عجائب وغرائب لا تحيط بها العلوم والأفكار ولا تحصيها الأقلام.
قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} .(4/133)
وأول شيء أذكره من هذا الموجز من عجائب بعض المخلوقات العظيمة هو نظر المرء إلى نفسه حيث أمره الله بذلك، قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} وقال تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ, مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ, مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ, ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ, ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ, ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} وقال تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى, فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى, أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} وقال تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ, فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ, إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ, فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} إلى غير ذلك من الآيات الدالة على بيان مبدأ الإنسان ومنتهاه، ليتذكر أولو الألباب وليعلم كل إنسان أن ذكر النطفة وما ينتهي إليه ليس مجرد لفظ يسمع ويترك التفكر في معناه وما يترتب عليه من الثمرات والنتائج إنما هو مأمور بالنظر والتفكير والاعتبار حول هذه النطفة التي هي قطرة من ماء لو تركت ساعة من الوقت بعد خروجها لفسدت وأنتنت، فكيف خلقها الله وأخرجها ربُّ العزة والجلال من بين الصلب والترائب، وخلق الإنسان من بين ذلك، وكيف خلق الجنين منها وأمده بدم الحيض في الرحم ليكون له كالغذاء، والرحم كالوعاء ينمو ويكبر حتى حين خروجه..(4/134)
ثم كيف نقلت هذه المضغة من حال إلى حال أخرى حتى تصورت إنسانا ونفخت فيه الروح متكاملا بعظام وأعصاب وعروق وأوتاد ولحم وتقاسيم عجيبة من رأس وسمع وبصر وأنف ويدين ورجلين وغير ذلك مما يعجز جميع البشر أن يخلقوا مثله، ثم بعد خروجه أنظر العجائب المركبة فيه من الإحساس وتحرك مفاصل العظام التي هي ثلاثة وستون مفصلا والعضلات التي تزيد على خمسمائة عضلة، وقد جعل لكل عضلة وعضو عملا يخصه، وانظر مع كثرة بني آدم لا يماثل واحد آخر فلا بد من مميز بينهما، وانظر معتبراً كل ذلك مما يتذكر به أولو الألباب إن هذا الخلق لهم ربٌّ واحد خلقهم أول مرة وهو بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وإليه يرجعون فإذا عرفت أيها العبد هذه العجائب وغيرها في نفسك فتفكر في الأرض التي هي مقرك وما فيها من أنهار وبحار وجبال وأشجار ومعادن وغير ذلك، وجعلها الله لنا ذلولاً نسعى في مناكبها ونأكل من رزقه وجعلها لنا كفاتاً أحياء وأمواتاً، وانظر كيف تخرج لنا من النباتات والأشجار التي فيها معاشنا، وانظر إلى الحيوانات التي خلق أكثرها لمنافعنا كيف تنوعها وأشكالها وما فيها من العجائب التي لا نشك أن لها خالقاً عظيماً هو الله سبحانه وتعالى، وانظر إلى الهواء اللطيف الذي يدرك بالحس ولا يرى بالعين قد جعل لحايتنا ومنافعنا، وانظر إلى عجائب الجوِّ وما يطرأ عليه من الغيوم والرعد والبرق ونزول الأمطار والشهب والصواعق ...(4/135)
كل ذلك لمنافع وحكم وأسرار لا يعلما إلا الله، وقد أشار القرآن إلى ذلك بقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} وانظر كيف عظَّم الله أمر السماوات والنجوم في كتابه العزيز، فما من سورة إلا وهي مشتملة على ذكرها وتعظيمها، وكم قسم في القرآن بها ومن ذلك قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} , {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} , {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} ، {وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} , {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} , {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} , {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} , {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} . {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} , {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} , {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ, وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} إلى غير ذلك مما ورد في القرآن العزيز، فإذا علمت أن عجائب النطفة التي خلقت منها لم يستطع أحد الإحاطة بمعرفة حقيقتها فكيف بشيء أقسم به رب العزة والجلال أن يحيط بعلمه أحد من خلقه.. وأمر عباده بالتفكر في خلق السماوات والأرض مما يدل على أن السماوات والأرض والكواكب فيها عجائب وأمور وشئون عظيمة لا نعلمها، وقد نعلم منها في المستقبل ما لا نعلمه الآن، وهل تظن أن النظر والتفكر مجرد نظر إلى زرقة السماء وضوء الكواكب أو النظر إلى الأرض مجرد نظر إلى سطحها؟(4/136)
كلا لقد كانت البهائم تشارك بني آدم في ذلك إنما على الإنسان النظر إلى ذلك كله بتفكر واعتبار أولاً وبفعل الأسباب المؤدية إلى بعض العلوم التي لا نعلمها لنعلمها ونستفيد منها. وقد أخبرنا الله أنه يعلِّمنا ما لم نعلم، قال تعالى: {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وإننا متفاوتون في العلم فنسأل عما جهلناه قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} فأدر أيها العاقل فكرك في آيات الله في تلك الكواكب في دورانها وطلوعها وغروبها مستمرة مع اختلاف ألوانها وصفاتها وحركاتها، ومرتبة بحساب مقدر لا يزيد ولا ينقص مع عظم حجمها وصغر مرآها لبعدها عنا، فهي باقية على هذا الترتيب والنظام العجيب إلى أن يطويها الله سبحانه كطي السجل للكتب.
وأعظم من ذلك أن النجوم والسماء قد أمسكت من دون عمد نراها ولا معلقة بشيء يمسكها مع ما فيها من عظيم صنع الله وكل العالم لهم السماء كالسقف الواحد، وإن الأرض كروية وكلها في مرأى الأعين كأنها مبسوطة لعظمها وسعتها، وفيها من جنود الله الذين لا يحصيهم إلا هو, وما يعلم جنود ربك إلا هو, مع ذلك كله وغيره يقول الله عز وجل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً} وقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} فسبحان الله رب العالمين رب العرش العظيم.(4/137)
وقصارى القول: إن التفكير السليم هو السُّلم إلى السعادة في الدنيا والآخرة وإن علم الله لا يحيط به أحد من خلقه وإنه لمن أجهل الجهل وأخطر الخطر أن يقول الإنسان في مخلوقات الله التي لا يعلمها إذا أخبر عنها بغير علم فيسارع إلى إنكارها لكونها خرجت عن محيط إدراكه وفهمه القاصر السيئ، لأنه لم يستدل على ما لا يعلمه بما يعلمه على أن الله على كل شيء قدير وإن كل ما يتوصل إليه من العلم فهو لا يخرج عن خلق الله وقدرته العظيمة الشأن، وإنما على المرء أن لا يتسرع إلى هذا القول الأحمق والاعتقاد الفاسد حتى يتيقن عدم ما أنبئ به أو يتحقق ثبوته، فيزداد العاقل إيماناً بربه وأنه خلق ويخلق ما لا نعلم ويعلم الإنسان ما لم يعلم.
هذا وكل ما ذكرته ما هو إلا نبذة من العلوم والتفكير في مخلوقات الله، والله الهادي إلى سواء السبيل.(4/138)
مع الصحافة
مع الإسلام ولكن؟
نقلا عن مجلة البعث الإسلامي
نشرت مجلة البحث الإسلامي في عددها الأول من المجلد الخامس عشر الصادر في جمادى الآخرة عام 1390هـ مقالا بعنوان:
مع الإسلام ولكن..؟
نحن كلنا مع الإسلام، ما في ذلك شك، مع الإسلام في الهند، وباكستان، ومصر، وسوريا، والحجاز، والكويت، وفي كل بلد إسلامي وفي كل جهة إسلامية.
نحن مع الإسلام دائما، وبصفة عامة، والحمد لله على هذه النعمة العظيمة الباقية إن شاء الله.
ولكن..؟
إن (لكن) هو الفارق الوحيد الأساسي بين إسلام وإسلام، وبين إسلام لا يرى عليه ضررا من أي حركة سياسية، ولو خالفت أهم قواعده، وأولى مقوماته، وينسجم مع سائر الأوضاع والملابسات ولو عارضته من أول طريق، وبداية الخط.
بين إسلامٍ (مضمونٍ) عقد عليه في شركات التأمين، فلا تفسده خيانة، ولا يفسده نفاق، ولا يضره استهتار، ولا ينال منه إسراف، ولا تكدِّر بحره الزاخر فجور ثقافية، وخلافة أدبية وفضيحة فنية، وعري علني، وكفر منطقي، وإنكار قومي، وشذوذ سياسي، لأنه إسلام مضمون مسجل، وعد بسلامته ومتانته جودته، كبار تلاميذ الغرب ووكلائه الموزعين في الشرق.
إنه إسلام يسمى فيه المولود مسلما بحكم القانون والوراثة، ويبقى مسلما ليتمتع به بما شاء من منافع مادية وأدبية، ولا يحتاج إلى تجديد في إيمانه لأنه ولد من أبويين مسلمين وكفى.
إنه إسلام جامد، واقف، لا ينقص ولا يزيد، ولا يتحرك، ورحم الله البخاري فقد عقد بابا تحت هذا العنوان (الإيمان يزيد وينقص) وهو لا يعلم أن في بلده وفي البلاد الإسلامية العريقة قوما لا تضرهم اشتراكية ماركس الملحدة، وكفر لينين البواح، ولا ينقص إيمانهم بشيء من هذه الأشياء.(4/139)
إنه إسلام سلبي، لا يتدخل في المجتمع والحياة، بل يترك الحبل على غاربه، ويدع جيله تحت رحمة الموجبات المادية الطاغية والأفكار السامة والأدب المائع، فيترك المجتمع فريسة سهلة ولقمة سائغة أمام ذئاب الإنسانية ووحوش الحضارة، وقراصنة السياسة، ولصوص الدين والأدب، ويظن أنه سينجو بنفسه ويقول كما قال ولد سيدنا نوح عليه السلام {قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} ثم لم يلبث أن يجرفه التيار المارد العنيف، وتسوقه هذه ((السلبية البريئة)) إلى كل ما عافه قديما واستنكفه، ومقته، ومجه {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} .
إن هذا الإسلام يعيش جنبا إلى جنب مع كل كاتب يبيع الهوى وينشر المنكر ويروج بضاعة الفحشاء مع كل أديب يحسن الكتابة، ويجيد الوصف ولو تطاول على ذات الله عز وجل، ومقام الرسول صلى الله عليه وسلم، ويستمع بكل أناة وصبر وشرح صدر إلى كل حوار لبق وكلام شيق، وحديث حلو، ولو كان حالقاً للدين، ماحقا للإيمان، هادما للأخلاق، وينظر إلى كل صورة على الشاشة ولو ذهبت بالحزم والحلم، واللب والعقل، وأطارت الرشد والصواب.
هذا الإسلام يمشي مع سائر التقلبات والموضات الفكرية والمذاهب الاجتماعية والسياسية، والحركات التقدمية الثورية، في الهند الصينية أو أمريكا اللاتينية، ومع كل فريق من المغنين والمصورين والهائمين والحالمين والشذاذ الأفاقين، لأن ((تمشي)) هذه ((الكلمة السحرية)) تضع في يد هؤلاء القوم ((ورقة مرور)) يتعدون بها كل حد، ويحطمون بها كل سياج، ويهيمون بها في كل واد وناد.
إنه إسلام ((السالمين)) لا المسلمين، في تعبير أصح وأفصح، لأنه يسالم جمع الألوان والأنواع الحضارية الموجودة في العالم المعاصر، ويتبع كل سبيل غير سبيل الرشد.(4/140)
إن هذا الإسلام لا ينقص بالتهاون في حقوق الله، والاستهانة بشعائر الدين، فإذا وقع عنده صدام بين عبادات وأعمال سياسية واجتماعية طغت الأعمال السياسية على العبادات والصلوات، ولذة التقريب والمناجاة، وإذا حدث له شيء أو شغله أمر من تحرير في صحيفة أو خطاب في حفل أو قيادة لموكب أو رفع لاحتجاج أو قضية في برلمان أو حديث في مأدبة ومسامرة في عشاء أو نزهة في حديقة، وحتى فنجان شاي بين الأصدقاء نسي ما عليه من حق الله، وهو في الأشغال والنشاطات، وفي المشكلات والأزمات أولى بالطاعات وأحق بالدعاء والتضرع والمناجاة، وأحوج إلى العبادة والعبودية، دون الأوضاع الهادئة والظروف العادية، فلا اعتبار بطاعة لم تصطدم بما يهواه الطبع، وعبادة لم تشق على النفس، إنها درجات في إسلام ولكنه على كل حال إسلام المسالمين، أما إسلام المسلمين فهو لا يقبل ((على ما يرام)) ولا يؤمن بمبدأ ((الدين للديان والوطن للجميع)) ولا يجمع بين الخطب الدينية في المحافل، والترفيه بالبرامج العارية الراقصة، الفاسدة المفسدة بعد صلاة العشاء بين أولاده وأفلاذ أكباده.
إنه لا يؤمن بالجمع بين حضارة الغرب وعقيدة الإسلام، والزي الإسلامي والحياة الأوربية، والجمع بين لغة الحديث والقرآن وأفكار لينين وسارتر وماوتسي تونغ.
إنه لا يؤمن بالجمع بين عبد الباسط وأم كلثوم، والجمع بين المصاحف المرتلة والموسوعات الفقهية، وأغاني صباح، وفيروز وشادية، أو الجمع بين ((المجتمع)) و ((البلاغ)) و ((البعث الإسلامي)) وبين روز اليوسف و ((الموعد)) و ((الطليعة)) .(4/141)
إنها صورة جزئية، وصور بسيطة وأمور ليست بذات أهمية عند البعض، ولكنها تصور ذلك الإسلام الذي أشرنا إليه كل التصوير، إسلام من ((ماركة ممتاز)) لا يؤثر فيه شيء، ولا يعتريه البلى والوهن، ولا ينقص بنقصان شرع ودين ومسالمة واستسلام أو انسياق مع تيارات المادة والمعدة، واتجاهات الغرب والشرق واليمين واليسار.
نحن مع الإسلام في كل مكان، ما في ذلك من شك، ولكن مع الإسلام المستقل الأصيل، لا الإسلام التابع، الفرعي، المتطفل.
نحن مع الإسلام القائد، السائد، المعلم، الموجه، لا الإسلام الذي يتلقى الأوامر والتعليمات من ((الباب العالي)) في موسكو، و ((البيت الأبيض)) في واشنطن.
مع إسلام لا ينكر العلم والسياسة، بل إن العلم والسياسة فيه عبادة، ولا يهمل الطاعة والعبادة فهي مفزع المؤمن ومأمنه، وحصنه ومعقله، وأكبر همه وغاية مناه.
مع إسلام مناضل مكافح متصل الحلقات بجميع أجزائه، وثيق العرى بجميع حركاته وتنظيماته، عميق الحب بجميع أبنائه، كثير الاعتراف بالفضل عظيم التقدير لذوي الكفاية والإخلاص، كثير الشكر على المساهمة والتعاون.
هذا الإسلام العميق الواسع، المشرق النير، الكامل الشامل، الأصيل المستقل، المكافح المناضل.
الإسلام الذي يتكلم ولو كره الصليبيون الجدد الحمر والبيض والصفر، ويرفع صوته لتنظيم المجتمع والحكم، والأسرة والعائلة، على أسس نقية واضحة من السيرة الطاهرة والشريعة الخالدة والكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
هذا الإسلام هو العنصر الأقوى في معركتنا الكبرى، وردنا الحاسم على هواة الفساد ودعاة الانحلال والمتآمرين على سلامة البلاد، ونعمة الأمن والهناء، باسم الحرية والعلم والتقدمية، والاشتراكية والثورية.
نعم، نحن مع الإسلام ولكن؟؟
محمد الحسني(4/142)
يستفتونك
يتولى الرد على أسئلة القراء فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
ورد سؤال من الشيخ منظور أحمد رئيس الجامعة العربية (جنيوت الباكستان الغربية) وهذا نص السؤال:
ما قول السادة العلماء الكرام في حياة سيدنا عيسى عليه السلام ورفعه إلى السماء بجسده العنصري الشريف ثم نزوله من السماء إلى الأرض قرب يوم القيامة وأن ذلك النزول من أشراط الساعة وما حكم من أنكر نزوله قرب يوم القيامة، وادعى أنه صلب ولكنه لم يمت بذلك بل هاجر إلى كشمير (الهند) وعاش فيها طويلا ومات فيها بموت طبعي وأنه لا ينزل قبل الساعة بل يأتي مثيله. أفتونا مأجورين؟
والجواب:
وبالله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله، قد تظافرت الأدلة من الكتاب والسنة على أن عيسى بن مريم عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم قد رفع إلى السماء بجسده الشريف وروحه وأنه لم يمت ولم يقتل ولم يصلب وأنه ينزل في آخر الزمان فيقتل الدجال ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام وثبت أن ذلك النزول من أشراط الساعة. وقد أجمع علماء الإسلام الذين يعتد بأقوالهم على ما ذكرناه وإنما اختلفوا في التوفي المذكور في قول الله عز وجل: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} على أقوال:
أحدها:
إن المراد بذلك وفاة الموت لأنه الظاهر من الآية بالنسبة إلى من لم يتأمل بقية الأدلة ولأن ذلك قد تكرر في القرآن الكريم بهذا المعنى مثل قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} وقوله سبحانه وتعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} وفي آيات أخرى قد ذكر فيها التوفي بمعنى الموت, وعلى هذا المعنى يكون في الآية تقديم وتأخير.(4/143)
والقول الثاني: معناه القبض نقل ذلك أبن جرير في تفسيره عن جماعة من السلف واختاره ورجحه على ما سواه وعليه فيكون معنى الآية: إني قابضك من عالم الأرض إلى عالم السماء وأنت حيّ ورافعك إليّ. ومن هذا المعنى قول العرب: "توفيت مالي من فلان"أي قبضته كله وافيا.
والقول الثالث: أن المراد بذلك: وفاة النوم؛ لأن النوم يسمى وفاة, وقد دلت الأدلة على عدم موته عليه السلام فوجب حمل الآية على وفاة النوم جمعاً بين الأدلة كقوله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} , وقوله عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} . والقولان الأخيران أرجح من القول الأول, وبكل حال فالحق الذي دلت عليه الأدلة البينة وتظافرت عليه البراهين أنه عليه الصلاة والسلام رفع إلى السماء حيا وأنه لم يمت بل لم يزل عليه السلام حيا في السماء إلى أن ينزل في آخر الزمان ويقوم بأداء المهمة التي أسندت إليه المبينة في الأحاديث الصحيحة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يموت بعد ذلك الموتة التي كتبها الله عليه ومن هنا يعلم أن تفسير التوفي بالموت قول ضعيف مرجوح وعلى فرض صحته فالمراد بذلك التوفي الذي يكون بعد نزوله في آخر الزمان فيكون ذكره في الآية قبل الرفع من باب المقدم ومعناه التأخير لأن الواو لا تقتضي الترتيب كما نبه عليه أهل العلم والله الموفق. وأما من زعم أنه قد قتل أو صلب فصريح القرآن يرد قوله ويبطله. وهكذا قول من قال إنه لم يرفع إلى السماء وإنما هاجر إلى كشمير وعاش فيها طويلا ومات فيها بموت طبيعي وأنه لا ينزل قبل الساعة وإنما يأتي مثيله فقوله ظاهر البطلان بل هو من أعظم الفرية على الله تعالى والكذب عليه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم.(4/144)
وهكذا قول من قال إنه أتى وأدى المهمة كالقادياني فقوله من أوضح الكذب فإن المسيح عليه السلام لم يزل في السماء ولم يزل إلى وقتنا هذا وسوف ينزل في مستقبل الزمان كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومما تقدم يعلم السائل وغيره أن من قال إن المسيح قتل أو صلب أو قال إنه هاجر إلى كشمير ومات بها موتا طبيعيا ولم يرفع إلى السماء أو قال إنه قد أتى أو سيأتي مثيله وإنه ليس هناك مسيح ينزل من السماء فقد أعظم على الله الفرية بل هو مكذب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ومن كذب الله ورسوله فقد كفر والواجب أن يستتاب من قال مثل هذه الأقوال وأن توضح له الأدلة من الكتاب والسنة فإن تاب ورجع إلى الحق وإلا قتل كافرا.
والأدلة على ذلك كثيرة معلومة منها قوله سبحانه في شأن عيسى عليه السلام في سورة النساء {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً, بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} . ومنها ما توافرت به الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنه عليه الصلاة والسلام ينزل في آخر الزمان حَكَماً مقسطاً فيقتل مسيح الضلالة ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام، وهي أحاديث متواترة مقطوع بصحتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أجمع علماء الإسلام على تلاقيها بالقبول والإيمان بما دلت عليه وذكروا ذلك في كتب العقائد.(4/145)
فمن أنكرها متعلقاً بأنها أخبار آحاد لا تفيد القطع وتأوَّلها على أن المراد بذلك تمسك الناس في آخر الزمان بأخلاق المسيح عليه السلام من الرحمة والعطف وأخذ الناس بروح الشريعة ومقاصدها ولبابها لا بظواهرها فقوله ظاهر البطلان مخالف لما عليه أئمة الإسلام بل هو صريح في رد النصوص الثابتة المتواترة وجناية على الشريعة الغراء وجرأة شنيعة على الإسلام وأخبار المعصوم عليه الصلاة والسلام وتحكيم للظن والهوى وخروج عن جادة الحق والهدى لا يقدم عليه من له قدم راسخة في علم الشريعة وإيمان صادق بمن جاء بها وتعظيم لأحكامها ونصوصها والقول بأن أحاديث المسيح أخبار آحاد لا تفيد القطع قول ظاهر الفساد لأنها أحاديث كثيرة مخرجة في الصحاح والسنن والمسانيد متنوعة الأسانيد والطرق متعددة المخارج قد توفرت فيها شروط التواتر فكيف يجوز لمن له أدنى بصيرة في الشريعة أن يقول باطّراحها وعدم الاعتماد عليها ولو سلمنا أنها أخبار آحاد فليس كل أخبار الآحاد لا يفيد القطع بل الصحيح الذي عليه أهل التحقيق من أهل العلم أن أخبار الآحاد إذا تعددت طرقها واستقامت أسانيدها وسلمت من المعارض المقاوم تفيد القطع والأحاديث في هذا الباب بهذا المعنى فإنها أحاديث مقطوع بصحتها متعددة الطرق والمخارج ليس في الباب ما يعارضها فهي مفيدة للقطع سواء قلنا أنها أخبار آحاد أو متواترة وبذلك يعلم السائل وغيره بطلان هذه الشبهة وانحراف قائلها عن جادة الحق والصواب وأشنع من ذلك وأعظم في البطلان والجرأة على الله سبحانه وتعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم قول من تأولها على غير ما دلت عليه فإنه قد جمع بين تكذيب النصوص وإبطالها وعدم الإيمان بما دلت عليه من نزول عيسى عليه السلام وحكمه بين الناس بالقسط وقتله الدجال وغير ذلك مما جاء في الأحاديث وبين نسبته الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو أنصح الناس وأعلمهم بشريعة الله إلى التمويه والتلبيس وإرادة غير ما يظهر من(4/146)
كلامه وتدل عليه ألفاظه وهذا غاية في الكذب والافتراء والغش للأمة الذي يجب أن يتنزه عنه مقام الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا القول يشبه قول الملاحدة الذين نسبوا الرسل عليهم الصلاة والسلام إلى التخييل والتلبيس لمصلحة الجمهور وأنهم ما أرادوا مما قالوه الحقيقة وقد رد عليهم أهل العلم والإيمان وأبطلوا مقالتهم بواضح الحجة وساطع البرهان. فنعوذ بالله من زيغ القلوب والتباس الأمور ومضلات الفتن ونزغات الشيطان، ونسأله عز وجل أن يعصمنا والمسلمين من طاعة الهوى والشيطان إنه على كل شيء قدير ولا حول ولا قوة إلا بالله ونرجو أن يكون فيما ذكرناه مقنع للسائل وإيضاح للحق.
ورد سؤال من بعض الإخوة بمدينة (كتان كدى) الواقعة بجنوب سيلان يذكرون فيه أن سكان هذه المدينة البالغ عددهم (20000) نسمة قد حدث بينهم خلاف حول جواز ترجمة خطبة الجمعة والعيدين بلغتهم الوطنية ورغبتهم في إبانة الصواب في هذه المسألة حسب ما تقتضيه قواعد الشرع المطهر والمصلحة العامة للمخاطبين بالخطبة؟
الجواب:
قد تنازع العلماء رحمة الله عليهم في جواز ترجمة الخطب المنبرية في يوم الجمعة والعيدين باللغات الأعجمية فمنع ذلك جمع من أهل العلم رغبة منهم رضي الله عنهم في بقاء اللغة العربية والمحافظة عليها والسير على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في إلقاء الخطب باللغة العربية في بلاد العجم وغيرها وتشجيعاً للناس على تعلم اللغة العربية والعناية بها.(4/147)
وذهب آخرون من أهل العم إلى جواز ترجمة الخطب باللغة الأعجمية إذا كان المخاطبون أو أكثرهم لا يعرفون اللغة العربية نظراً للمعنى الذي من أجله شرع الله الخطبة وهو تفهيم الناس ما شرعه الله لهم من الأحكام وما نهاهم عنه من المعاصي والآثام وإرشادهم إلى الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة وتحذيرهم من خلافها. ولا شك أن مراعاة المعاني والمقاصد أولى وأوجب من مراعاة الألفاظ والرسوم ولا سيما إذا كان المخاطبون لا يهتمون باللغة العربية ولا يؤثر فيهم خطبة الخطيب بها تسابقا إلى تعلمها وحرصا عليها. فالمقصود حينئذ لم يحصل والمطلوب بالبقاء على اللغة العربية لم يتحقق. وبذلك يظهر للمتأمل أن القول بجواز ترجمة الخطب باللغات السائدة بين المخاطبين التي يعقلون بها الكلام ويفهمون بها المراد أولى وأحق بالاتباع ولا سيما إذا كان عدم الترجمة يفضي إلى النزاع والخصام، فلا شك أن الترجمة والحالة هذه متعينة لحصول المصلحة بها وزوال المفسدة. وإذا كان في المخاطبين من يعرف اللغة العربية فالمشروع للخطيب أن يجمع بين اللغتين فيخطب باللغة العربية ثم يعيدها باللغة الأخرى التي يفهمها الآخرون، وبذلك يجمع بين اللغتين، وبذلك يجمع بين المصلحتين وتنتفي المضرة كلها وينقطع النزاع بين المخاطبين.(4/148)
ويدل على ذلك من الشرع المطهر أدلة كثيرة منها ما تقدم وهو أن المقصود من الخطبة نفع المخاطبين وتذكيرهم بحق الله ودعوتهم إليه وتحذيرهم مما نهى الله عنه ولا يحصل ذلك إلا بلغتهم ومنها أن الله سبحانه إنما أرسل الرسل عليهم السلام بألسنة قومهم ليفهموهم مراد الله سبحانه بلغاتهم كما قال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} وقال عز وجل: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} وكيف يمكن إخراجهم به من الظلمات إلى النور وهم لا يعرفون معناه ولا يفهمون مراد الله منه. فعلم أنه لا بد من ترجمة تبين المراد وتوضح لهم حق الله سبحانه إذا لم يتيسر لهم تعلم لغته والعناية بها. ومن ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود ليكاتبهم بها ويقيم عليهم الحجة، كما يقرأ كتبهم إذا وردت ويوضح للنبي صلى الله عليه وسلم مرادهم. ومن ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم لما غزوا بلاد العجم من فارس والروم لم يقاتلوهم حتى دعوهم إلى الإسلام بواسطة المترجمين. ولما فتحوا البلاد الأعجمية دعوا الناس إلى الله سبحانه باللغة العربية وأمروا الناس بتعلمها ومن جهلها منهم دعوه بلغته وأفهموه المراد باللغة التي يفهمها فقامت بذلك الحجة وانقطعت المعذرة. ولا شك أن هذا السبيل لا بد منه ولا سيما في آخر الزمان وعند غربة الإسلام وتمسك كل قبيل بلغته. فإن الحاجة للترجمة ضرورية ولا يتم للداعي دعوة إلا بذلك. وصلى الله على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
نصيحة
(من رسالة لإمام علي كرم الله وجهه)(4/149)
دع الإسراف مقتصداً، واذكر في اليوم غداً، وامسك من المال بقدر ضرورتك، وقدم الفضل ليوم حاجتك، أترجو أن يعطيك الله أجر المتواضعين وأنت عنده من المتكبيرن؟ أو تطمع وأنت متمرغ في نعيم تمنعه الضعيف والأرملة، أن يوجب لك ثواب المتصدقين؟ وإنما المرء مجزي بما أسلف وقادم علة ما قدم، والسلام.
(جواهر الأدب)(4/150)
ندوة الطلبة
الحركة الإسلامية في الهند
بقلم الطالب: عبد الرحمن تروائي المليباري
الإسلام دين إلهي ومنهج رباني يشمل جميع جوانب الحياة البشرية وليس مجرد تصور أو عقيدة أو طريق منعزل عن واقع حياة الأمة. وليس الإسلام مجرد اسم لعلاقة سرية بين العبد وربه وليس الإسلام مجرد نظام خاص وجد لإنهاء بعض الخصومات القبلية التي وجدت في فترة من الفترات كما يريد أن يظهره خصومه، ولكن الإسلام عقائد وعبادات ومعاملات وأخلاق وجهاد ودولة، وهو الدين الوحيد الضامن لحامله السعادة في العاجلة والآجلة مهما تغيرت الأزمان وتطورت الآراء أما مسؤولية إقامة هذا الدين الحنيف على الوجه الأكمل فإنها ملقاة على كواهل هذه الأمة بعد وفاة رسولها وقائدها محمد صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين الذين تحملوا أعباء هذه المسؤولية بعده قد أدوا دورهم وأقاموا الخلافة الإسلامية الراشدة على أتم صورة، وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بسنوات قلائل أزيلت وحطمت الإمبراطوريتان العظيمتان الرومية والفارسية المحيطتان بالجزيرة العربية الإسلامية من الوجود، فأصبحوا سادة العالم وقادة البشر أكثر من ألف سنة، وحطموا خلالها الصليبين وقضوا على التتار، وغزو شرق أوربا وجنوبها وغربها، وأقاموا فيها حكم الله عز وجل مئات السنين، حتى أن الخليفة العباسي هارون الرشيد رضي الله عنه يقول للسحابة: "أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك ".(4/151)
ولا يعتبر الإنسان مسلما حقيقيا حتى يحكم الإسلام في شؤونه كلها دقيقها وجليلها صغيرها وكبيرها عظيمها وحقيرها وهذا مصداق قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} المائدة:49, {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} النساء:105، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} المائدة:45، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} المائدة:47، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} النساء:65.
وإن هذه الآيات القرآنية لتضع الإنسان أمام طريقين لا ثالث لهما أحدهما الاستجابة لله وللرسول واتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والثاني اتباع الهوى والشيطان وهذا صريح قوله: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} القصص:50.(4/152)
فهذه مصر الإسلامية في سنة 1884م تخلت عن الشريعة الإسلامية وصبغت نظامها طبقا للقوانين الفرنسية، وهكذا فعلت الدولة التركية، والألبانية المسلمة أزاحت القوانين الإسلامية حتى قانون الأحوال الشخصية الإسلامية وجعلت نظام إيطاليا وسويسرا نظاما لها. وتاريخ الإسلام في الهند ليس ببعيد عنا، فقد ضلت الدولة الإسلامية فيها مستمرة مدة ثمانية قرون إلى زمن الاستعمار البريطاني، ومنذ أن وطئت أقدام المستعمر أرضها بدؤوا يبطلون الشريعة الإسلامية القائمة آنذاك شيئا فشيئا، فكنا نحن المسلمين في الهند نرزح تحت نير الاستعمار المجرم ووطأته وضغطه مدة 190 عاما ثم أخذت الهند استقلالها بعد ذلك، ولكن لم تنتهي محاولة محو الإسلام من نفوس أتباعه، فما زالت تقوم محاولات سرية لإزالة ما بقي من شعائر الدين على يد الحكومة الحالية التي ركزها الاستعمار عندما خرج من الهند، فكأن الهند لم تأخذ استقلالها بعد.
وهذه الحالة المؤلمة ما ألمت بالمسلمين على نتيجة لتخليهم عن الشريعة الإسلامية وتحولهم عنها وإعراضهم عن القرآن الكريم وفهمهم الخاطئ للإسلام، حيث فصلوا بين الدين والدولة، فاصبح الدين عبارة عن مفهوم ضيق لا هيمنة له على واقع حياة الأمة، وأصبح المسلمون عبيدا وأذلاء في وجه الأعداء، ومن الواضح جدا أن المسلمين إذا طبَّقوا القرآن تطبيقا كاملا في جميع مرافق حياتهم فلن يقدر أي عدو محليا كان أو خارجيا أن يتغلب عليهم، ومنذ أن حدث هذا الفصام النكد بين الدين والدولة أصبح المسلمون قطيعا من الغنم في وجه الأسود المفترسة تكالبت عليهم الأمم من كل جانب، ولعل هذا ما قصد إليه الوزير الإنجليزي جلادستون حين وقف في مجلس العموم قبل سنين كثيرة يقول: " إن قدم الإمبراطورية الإنجليزية لن ترسخ في بلاد الإسلام ما دام القرآن موجودا ".(4/153)
والقرن الرابع عشر طلع علينا بامتيازات غير معروفة من قبل من البلايا والرزايا والنكبات والنكسات التي تبلبل العقول وتهز الاتجاهات الإنسانية، ومن أكبرها خطرا استيراد الحضارة الغربية القتالة التي أثرت في حياة الأمة الإسلامية أيما تأثير، فصرفت الشباب المؤمن عن الجادة الصحيحة المستقيمة، فانطفأ النور وعم الظلام وكثر الناعقون خلال هذا الظلام الدامس، فقسمت الناس إلى معسكرين بارزين شرقي وغربي، بعدما قسمهم الإسلام إلى معسكرين الإيمان والكفر أو الهداية والظلال، وإن هؤلاء الناعقين الغاشمين لبسوا كل ثوب حتى يصلوا إلى مهمتهم، فكان منهم المستشرقون الذين عُنُوا بدراسة العلوم الشرقية والمعارف الإسلامية للكيد للإسلام، والدس والافتراء عليه وعلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، راغبين في إلباس الإسلام أثوابا مستوردة مشوهة، وكان منهم الكتاب في الداخل الذين اشتراهم المبشرون والاستعمار بثمن بخس يستخدمونهم في مهاجمة الدين لفصل الدين عن الدولة، مقلدين حملة الاستشراق البشع تقليد الأعمى، ولاشك أن الاستشراق متولد من أبوين غير شرعيين: التبشير الذي خططه والاستعمار الذي غذَّاه، وجميع هذه الأفكار والتنظيمات والمؤامرات المضادة للإسلام متفقة على نقطة واحدة وهي تقويض دعائم العقيدة الإسلامية الغراء ليغرسوا مكانها بعض التصورات والمفاهيم الجهنمية، ليصبح أبناء الإسلام حيارى لا يعرفون عنوان الإسلام فضلا عن مبادئه وتعاليمه.(4/154)
والعلماء هم ورثة الأنبياء غفلوا أو تغافلوا عن هذا الاصطياد في الماء العكر فما أدوا ما عليهم من الواجبات الدينية الملقاة على كواهلهم، وقد صار جل همهم في تحقيق المطامع الدنيوية والتشاجر في مسائل لا مساس لها بجوهر الدين، فما أحوج الأمة الإسلامية في هذه الظروف الحرجة والأوضاع المضطربة إلى حركات إسلامية تقوم بالدعوة الإسلامية الخالصة من جديد، وتحمي تعاليم الإسلام وقوانينه من الطوفان الجديد المادي، وتعيد إلى حظيرة الإسلام جميع جوانب الحياة المشردة الفردية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
وتحقيقا لهذا الغرض النبيل الجليل تأسست في الهند وغيرها حركات إسلامية عديدة منها حركة ((الجماعة الإسلامية في الهند وباكستان)) والإخوان المسلمون في لبلاد العربية و ((ماشومي)) (مجلس شورى مسلمي إندونيسيا) وغرضي من هذه الجولة السريعة أن أقدم إلى الإخوان نظرة خاطفة عن تاريخ الجماعة الإسلامية الهندية وعن نشاطها الكبير الفعال في الهند وذلك بعد إيجاز تاريخ وصول الإسلام إليها.
وصول الإسلام إلى الهند:(4/155)
تعتبر الهند القطر الثالث في العالم بعد باكستان وإندونيسيا وذلك من ناحية كثرة المسلمين الذين يبلغ عددهم حوالي 60 مليون نسمة. توجد في الهند عدة أجناس وديانات ولغات وثقافات، وقد استمرت العلاقات التجارية والثقافية بينها وبين العرب ولا سيما ربوع مالابار قرونا عديدة والتجار العرب والبحارة من الحضارمة وغيرهم كانوا يتجولون في خليج بنغال وبلاد الملايو وجزر إندونيسيا ولما انبثق فجر الإسلام من أفق الجزيرة العربية وامتدت أشعتها إلى ما وراء بلاد الجزيرة العربية شرقا وغربا وشمالا وجنوبا حمل التجار العرب هذا المشعل الجديد ألى الهند في حين كانت الهند تئن من التفرقة والشدائد المتكررة من أصحاب الديانات السائدة فيها، ورأوا أن تربة الهند صالحة لبذر هذا الدين الجديد ودعوا الناس إلى التوحيد والمساواة ومكارم الأخلاق، والكتب التاريخية القديمة والحديثة تنص أن الإسلام وصل إلى الهند في القرن الأول الهجري. ومالابار هي البقعة الأولى التي تشرفت بالإسلام أولا ثم انتشر الإسلام إلى البقاع الهندية الأخرى.
تأسيس الجماعة الإسلامية:(4/156)
أسس هذه الحركة الإسلامية الأستاذ المودودي ومنذ أن بدأ يشتغل بالصحافة والتأليف مجردا قلمه السيال مكِبّاً على معالجة القضايا التربوية والاقتصادية والسياسية وكشف النقاب عن عورات الزنادقة والملحدين والمنحرفين والحكام الضالين في صفحات مجلته ((ترجمان القرآن)) بدأ الأستاذ يكتب فيها معلنا ومحاربا جميع ألوان الطواغيت وأشكال الانحراف وذلك بأساليب مختلفة مثبتا قدميه أمام التحديات العصرية بدون أي تزعزع أو هوادة كالجبل الأشم الراسخ وجعل يكتب سلسلة من المقالات والأبحاث الفكرية القيمة التي تتعلق بانحطاط المسلمين وتدهورهم واندحارهم وضياع سابق عزهم وكان يناقش فيها جميع المخططات العملية السيئة للأحزاب السياسية ومحاولاتها الشريرة لتظليل أبناء الأمة وذَوَبان بعض القلوب المسلمة فيها وموقف العلماء المنتمين إلى الإسلام المتقاعسين المتغافلين عن المهمات الدينية، وبعد أن ختم تلك المقالات بدأ يكتب مقالات جديدة مناشدا فيها ضرورة قيام جماعة صالحة خيرة لإنقاذ الأمة الإسلامية مما هم فيه من الانحراف والانحلال والتأخر، وقد رسم فيها الهدف الأسمى لتلك الحركة التجديدية والوسائل المطلوبة لتحقيق غايتها. وقد صرح فيها أن الإسلام عقائد وعبادات ومعاملات وأخلاق وجهاد ودولة، وهو صالح لكل زمان ومكان وهو نظام إلهي للبشرية كافة وهو يعطي الاستقرار التام والسلام الكامل وأن الأنظمة الوضعية المستوردة كلها لا قيام لها ولا دوام وأنها لا تستحق البقاء أمام هذا النور الساطع فهو الذي لا يغيب ولا يأفل حتى يرث الله الأرض ومن عليها لأنه نور الله الذي لا يطفئه شيء {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .(4/157)
ولا شك أن مقالاته الفكرية قد فتحت قلوب العلماء المفكرين النائمة وجعلتهم يفكرون في مستقبل الإسلام والمسلمين والأوضاع الخطيرة المحيطة بهم من كل جانب والنتيجة الوخيمة التي تأتي على الأمة المسلمة إذا تركت بلا قيادة دينية محكمة وفعلا إنها فتحت قلوب أمثال المجاهد البطل محمد إقبال الشاعر الإسلامي رحمه الله الذي أرسل خطابا إلى المودودي يقول فيه إن بيئة بنجاب وجوها أليق وأحسن من حيدر آباد لغرس فكرته ودعوته، ولابد من السفر إليها، وبُعَيْدَ وصول هذا الخطاب انتقل الأستاذ من حيدر آباد إلى بتان كوت ببنجاب سنة 1938م.
وبعد أن بذل جهوده المباركة طوال تسع سنوات ازداد عدد المؤيدين له من أرجاء الهند، وفي 26 آب سنة 1941م اجتمع 75 رجلا من رجال العلم والدعوة الذين تأثروا بدعوته وفكرته والذين وجد فيهم استعدادا كاملا للاضطلاع بأعباء هذه المهمة العظيمة، والجهاد في سبيلها بالنفس والنفيس، احتشدوا في دار السلام في بتان كوت ببنجاب الشرقية. وبعد طول البحث والنقاش والتشاور اتفقت كلمتهم على تكوين حركة ((الجماعة الإسلامية)) . وقد صرح الأستاذ المودودي في مناسبة انتخابه أميرا لهذه الحركة بكلمته الرائعة المشهورة وهي ((أحب أن أتولى وظيفة ساعي البريد تحت نظام إسلامي صحيح أكثر مما أحب أن أنتخب رئيسا أو وزيرا تحت نظام غير إسلامي)) .
وعقب استقلال الهند وانقسامها إلى قسمين: الهند وباكستان انقسمت الجماعة الإسلامية إلى قسمين: الجماعة الإسلامية الهندية، والجماعة الإسلامية الباكستانية، والأستاذ المودودي يحاول باذلا طاقاته أن يقيم في باكستان دولة إسلامية مثالية. وقد صرح قائلا أثناء محاضرته في كلية لاهور في شهر يناير سنة 1948م: " إن باكستان لابد أن تكون دولة إسلامية صحيحة ولابد أن تنفذ فيها القوانين الإسلامية بدل القوانين الأجنبية الوضعية ".(4/158)
هدف الجماعة الإسلامية الهندية ومنهاجها كما ينص دستورها:
الهدف: الهدف الذي ترمي إليه الجماعة الإسلامية الهندية هو إقامة الدين الحنيف والدافع الحقيقي وراء ذلك إنما هو نيل مرضاة الله تعالى والفرز في الآخرة.
التوضيح:
إن المراد بالدين في قوله: ((إقامة الدين)) هو الدين الذي أرسل الله لأجله جميع أنبيائه في مختلف العصور والأمصار والذي أكمله بمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين على أتم شكل وأكمله هدى للناس كافة وهذا الدين الذي بقي في الدنيا سائدا ومحفوظا ومقبولا عند الله هو الدين الوحيد المسمى بالإسلام وإن هذا الإسلام هو نظام سماوي يحيط الإنسان بظاهره وباطنه ويشمل كل جانب من جوانب الحياة البشرية الفردية والاجتماعية من العقيدة والعبادة والخلق والسلوك وما إلى ذلك من القوانين الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ولن توجد شعبة من شعب حياة الإنسانية خارجة عن دائرة هذا الدين، وهذا الدين هو أصلح نظام للبشر يحل جميع مشاكل حياته حلا سليما حكيما، كما أنه يكفل مرضاة الله والسعادة في الآخرة، ولا تستقيم حياة الفرد والمجتمع بطريق أمثل وأجود إلا بإقامة هذا الدين على الوجه الأكمل.
المراد بإقامة هذا الدين هو اتباعه بكليته دون أي تفريق وتعديل بكل إخلاص وتطبيقه بكامله في جميع مرافق الحياة البشرية الفردية والاجتماعية، حتى يصبح ارتقاء الفرد وبناء المجتمع وتنظيم الدولة طبقا لمقتضيات هذا الدين.
والمثال الرفيع لإقامة هذا الدين إنما هو ما رسمه محمد صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون.
(البند الرابع من دستور الجماعة الإسلامية الهندية)
المنهج:
1- القرآن والسنة هما الأساس الذي تعتمد عليه الجماعة في جميع أعمالها وأما سواهما فلا يعتبر إلا في المرتبة الثانية وإلى حد يسمح به الكتاب والسنة.(4/159)
2- إن الجماعة تهتم في جميع نشاطاتها اهتماما بالغا بالتزام حدود الإخلاص والقيم ولن تقبل أي وسيلة ولا مخطط يصادم الصدق والأمانة ويؤدي إلى انفجار أي اعتداء عنصري واشتباك طائفي وفساد وفوضى في الأرض.
3- تعتمد الجماعة لتحقيق هدفها المرسوم على الوسائل العلمية السليمة أي أنها تقوم أولا بنشر العقيدة وتزكية القلوب وتهذيب الأخلاق والعادات ثم تكوين الرأي العام لإيجاد انقلاب صالح منشود في مجالات الحياة الاجتماعية.
(البند الخامس من دستور الجماعة الإسلامية الهندية)
لمحة سريعة من حياة الأستاذ المودودي:(4/160)
ولد الأستاذ المودودي بتاريخ 15 أيلول سنة 1903م في مدينة أورنك آباد في مقاطعة حيدر آباد وكانت ولادته في أسرة علمية صوفية تعرف بالأسرة المودودية نسبة إلى الشيخ قطب الدين مودودي جشتي رحمه الله مؤسس الطريقة الجشتية في الهند المتوفى سنة 527هـ وكان والده عالما متدينا شديد الورع أحب أن يعلم ابنه في مسقط رأسه وفي منزله لكيلا تؤثر فيه الحضارة الغربية، بدأ نشاطه كصحفي إسلامي وهو في السابعة عشر من عمره وهو في سبيل الدعوة الإسلامية تولى منصب رئاسة تحرير جريدة ((تاج)) الصادرة في جبل بور وجريدة ((مسلم)) وجريدة ((الجمعية)) الصادرة في دلهي، ومجلته الخاصة ((ترجمان القرآن)) التي بدأ صدورها سنة 1923م لا تزال تصدر تحت رئاسته وهي تعد من أكبر المجلات الإسلامية في العالم والأستاذ المودودي غني عن التعريف وعن كل بيان لأنه لا يزال محترما بين المسلمين في الداخل والخارج. إن كان هناك شخصيات تتوفر فيهم أهلية القيادة للأمة المسلمة في هذه الظروف العصيبة، فهذا الرجل المسلم الواعي المفكر لا بد أن يكون في مقدمتهم وله عضوية مرموقة في عدة منظمات إسلامية عالمية، قام برحلات عديدة في البلاد العربية من المملكة العربية السعودية والأردن وسوريا وفلسطين ولبنان والجمهورية العربية المتحدة وذلك لمشاهدة الأماكن التاريخية والآثار الإسلامية المعروفة بالقداسة والشهرة وهو أمير للجماعة الإسلامية منذ تأسيسها إلى وقتنا هذا اللهم إلا فترة بسيطة كان مسجونا فيها وهو لا يزال يمارس جهوده الجبارة ليلا ونهارا في الدعوة الإسلامية ولإيجاد وحدة بين صفوف العلماء والجمعيات الإسلامية.
مؤلفاته:(4/161)
للأستاذ المودودي حوالي 100 كتاب ما بين رسائل وكتب في السياسة والقانون والدستور والتربية والاقتصاد والاجتماع والأخلاق والتاريخ وما إلى ذلك من مشكلات اليوم والقضايا العصرية المعقدة، وعادته في التأليف أن يدرس الموضوع أولا مهما كان الموضوع دراسة وافية ثم يعرضه على القالب الإسلامي وبوتقته ثم يعالجه معالجة سديدة بشكل جذاب وأسلوب أخاذ على ضوء الكتاب والسنة والمنطق السليم.
ومن أشهر كتبه تفهيم القرآن تفسيره للقرآن الكريم صدرت منه أربعة مجلدات من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الفتح ومن المتوقع أنه سيصدر الباقي قريبا لأنه مكب على إنهائه رغم وجود الأعمال المتراكمة المتشعبة وقد كانت زيارته في البلاد العربية إنما هي لمشاهدة الأماكن التاريخية والآثار الإسلامية القديمة ولدارسة تاريخها كما ورد ذكرها في القرآن الكريم ولذا نجد في تفسيره صور الخرائط للأماكن التاريخية والمعارك الإسلامية قلما توجد في كتب التفسير الأخرى.
ومنها كتاب ((الجهاد في الإسلام)) الذي ألفه سنة 1927م وقد فصل فيه موضوع الجهاد بحيث لا يبقي لقارئه أي شبهة حول قضية الجهاد في الإسلام وهذا الكتاب يقع في أكثر من 500 صفحة ومما يذكر من أسباب تأليفه المباشرة قول الزعيم الهندي المعروف ((المهاتما غندي)) في تصريحاته العديدة بأن الإسلام لم ينتشر إلا بقوة السيف، ولا شك أن هذا الكتاب قد جعل له مكانة عظمى في صفوف العلماء وكان موقع تقدير نبيل من أقطاب العلماء والمثقفين والمفكرين.(4/162)
ومنها كتاب ((المسألة القاديانية)) كتبه سنة 1953م ولما صدر هذا الكتاب ألقي القبض عليه في شهر آذار سنة 1953م وسجنته الحكومة الباكستانية وصدر من الحكومة الباكستانية العسكرية قرارها بإعدامه، والمسلمون لما سمعوا هذا الخبر تواردت برقياتهم من أنحاء العالم كله في الدوائر الحكومية فتركت أثرا كبيرا وهذا الأستاذ حسن الهضيبي من أعلام مصر يبعث ببرقية يبين فيها أن الحكم بإعدام الأستاذ أبي الأعلى المودودي هو أمر مؤسف جدا وعمل إجرامي بشع نحو الحركة الإسلامية، والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ينظرون إلى هذا الحكم بالاستنكار الشديد والقلق الكبير ويطلبون من الحكومة الباكستانية استبدال هذا الحكم وعدم تنفيذه، وارتباط المسلمين ببكستان إنما هو ارتباط إسلامي فحسب ـ منبر المشرق القاهرة 22-5-1953م-
وخلاصة برقية مسلمي إندونيسيا: "الأستاذ أبو الأعلى المودودي أمانة للعالم الإسلامي، والعالم الإسلامي في حاجة إليه، إن لم تحتج إليه باكستان نحن (مسلمي إندونيسيا) معه، والعالم الإسلامي في أشد حاجة إلى أفكاره النيرة".
وبناء على طلب المسلمين من أنحاء العالم الذين اعتنقوا فكرته والمواطنين القائمين بالجماعة الإسلامية أبدلت الحكومة بحكم الإعدام عقوبة السجن المؤبد مع الأشغال الشاقة ثم رفعت القضية إلى المحكمة العليا في لاهور ثم أطلقت سراحه سنة 1955م، ويجدر بنا أن نذكر هنا أنه ألقي القبض عليه قبل هذا في شهر تشرين الأول سنة 1948م أي بعد تأسيس باكستان إلى أيار 1950م.(4/163)
ومن الجدير بالذكر أن بعض مؤلفاته الشهيرة نقلت إلى اللغات العالمية العربية والإنجليزية والفرنسية والتركية والألمانية وغيرها من اللغات المحلية مثل البنغالية والتاملية والمراتية والكندية والمليالمية والهندية والتلنكية، وأعجب من هذا أن بعض مؤلفاته نقلت إلى سبع عشرة لغة وقد نقلت من كتبه إلى اللغة العربية أكثر من 45 كتابا ومن أشهر مؤلفاته التي ظهرت في اللغة العربية ما يلي:
1- المصطلحات الأربعة في القرآن.
2- الحجاب.
3- تفسير سورة النور.
4- الإسلام والجاهلية.
5- نظرية الإسلام وهديه في السياسة والدستور والقانون.
6- القانون الإسلامي.
7- نحن والحضارة الغربية.
8- المسألة القاديانية.
9- مبادئ أساسية لفهم القرآن.
10- حركة تحديد النسل في ميزان النقد.
11- مسألة ملكية الأرض في الإسلام.
12- أسس الاقتصاد بين الإسلام والنظم المعاصرة.
13- الربا.
14- شهادة الحق.
15- نظرية الإسلام السياسية.
16- منهاج الانقلاب الإسلامي.
17- معضلات الاقتصاد الإسلامي وحلها في الإسلام.
ومؤلفات الأستاذ المودودي كلها مفيدة تحتوي ذخائر وكنوزاً علمية فكرية فلسفية لا نريد بذلك القول بسلامتها من الخطأ؛ لأن أحداً لا يدعي العصمة ولا تدعى له.
بعض الوسائل المهمة التي تستخدمتها الجماعة الإسلامية الهندية:
1- توزيع المنشورات الإسلامية.
2- الطباعة.
3- الحلقات العمومية.
4- اجتماعات الاستقبال.
5- حلقات التبليغ والدعوة والتعليم.
6- دور المطالعات.
7- مراكز الشباب.
8- التنسيقات الدراسية.
9- المنظمات التربوية.
10- إنشاء المدارس والكليات.(4/164)
11- إنشاء المكتبات الإسلامية، ومكتبة الجماعة الإسلامية المركزية والمكتبات الفرعية التابعة لها قد نشرت خلال السنوات الماضية مئات من الكتب في عدة لغات رائجة في الهند، وقد ترجمت بعض الكتب الإسلامية لرجال الأقلام البارزة في العالم الإسلامي وفي مقدمتهم الشهيد سيد قطب رحمه الله.
والجماعة الإسلامية الهندية بفضل الله تعالى تتمشى إلى الأمام بكل جرأة ونشاط على قدم وساق وليس في الهند حركة إسلامية ترمي إلى هدف لأجله وجدت الجماعة الإسلامية، وقد أبلغت الجماعة دعوتها الإسلامية إلى آلاف المسلمين وعشرات من غير المسلمين ولمنشوراتها تأثير عميق ونفوذ كبير في أصحاب الفكر والاطلاع من المهندسين والدكاترة والأساتذة وغيرهم من المثقفين. والجماعة الإسلامية الهندية ليست حزبا سياسيا كما يزعم أعداؤها بل إنها حركة إسلامية خالصة تقوم بالإسلام ولأجل دعوة الإسلام.
وأمير الجماعة الإسلامية في الهند هو الأستاذ أبو الليث الندوي الإصلاحي وهو لا يزال يمارس جهوده المباركة الموكلة من قبل الجماعة الإسلامية والأستاذ أبو الليث يعد من فحول علماء الهند وله نظرة ثاقبة في علوم القرآن والحديث واطلاع واسع على مشاكل العصر. ومقر الجماعة الإسلامية في الهند هو مدينة دلهي العاصمة وجريدتها الرسمية هي "الدعوة"تصدر باللغة الأوردية وهي تعد من أكبر الجرائد الإسلامية في الهند وقد قامت الجماعة الإسلامية الهندية خلال السنوات الماضية بجمع مبلغ كبير من التبرعات والمساعدات من المسلمين وتوزيعها بين المصابين والمنكوبين وخاصة بين سكان بيهار وأحمد آباد عندما ألمت بهم العواصف والسيول والنكبات والنكسات.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
فضل الجهاد والشهادة في سبيل الله(4/165)
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أفضل الناس؟ فقال: "مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله تعالى، ثم مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ويدع الناس من شره". [1]
وقال صلى الله عليه وسلم: "ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا إلا وله ما على الأرض من شيء، إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة". [2]
--------------------------------------------------------------------------------
(1) متفق عليه.
(2) متفق عليه.(4/166)
الأدب العربي
بقلم الطالب عبد الرحمن محمد الأنصاري
من بين الكتب التي أتيحت لي قراءتها هذه الأيام، وسعدت بلقائها كتيب صغير الحجم لا تربو صفحاته على (54) وهو مع ذلك قد وفق مؤلفه الفاضل في الوصول إلى الهدف الذي رمي إليه.
ذلك هو ((الأدب العربي في ظل القومية العربية)) لمؤلفه الدكتور محمد محمد حسين، وبما أن مقاييس الناس في ما ينتجون، وما يحسنون، لا في شخصياتهم المجردة فإنني لا أقول كلمة واحدة عن المؤلف الفاضل.. وإنما أكتفي بتسليط الضوء من كوة ضيقة جدا عل متعطشا إلى نمير المعرفة يهتدي ببصيصها إلى أدبنا الخالد، وما يقال عنه من أراجيف كان للأعداء اليد الطولى في ترويجها.
طبع الكتاب مرتين، أولاهما سنة 1379هـ وثانيهما في سنة 1389هـ، وقد شاء الله ألا ألقاه إلا بعد أن أكمل من سنيه عشرا رغم حرصي الشديد على الكتب التي تنحو منحاه..
تكلم المؤلف الفاضل في فاتحة بحثه عن القومية العربية بأسطر مقتضبة بلغت في مطابقتها لمقتضى الحال ما لا أجد معه إلا رسمها أمامك أيها القارئ الكريم.
إن أكثر الناعقين والمتشدقين بـ ((القومية العربية)) إنما هم: ما بين مأجور، وراءه أموال من خزائن العدو، وبين متعلق لسلطان يردد ما يذهب إليه ويرضاه..
وهذه لعمر الله حقيقة لا ينكرها إلا المبطلون المعاندون.
وأزيدك أن الويلات التي منيت بها أمتنا في أي حقبة، وبخاصة الحقبة الأخيرة، إنما مردها إلى مضغ هذه العلكة الجاهلية ((القومية العربية)) التي حرمتنا من مصافحة أيد هي لنا قوة ونحن لها تأييد.
وهذا ما شعر به رائد التضامن الإسلامي فيصل بن عبد العزيز فذهب إلى إخوانه في عقر ديارهم مشعرا إياهم أنكم منا ونحن منكم.. ولقد تبين للناعين عليه في ذلك أن الحق فيما ارتآه.. وهكذا يحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره الكافرون.(4/167)
هذا ولا أريد أن ألخص لك الكتاب للحيلولة بينك وبين جماله الذي قد ينعدم أمامك بالتلخيص، إذ هو خير من يحدثك عن نفسه.. وإنما قصدي ذكر بعض النقاط الحساسة التي أشار إليها المؤلف وجعلها ركيزة للكتاب فكانت محوره.. بل كانت ضياءه.
ذكر المؤلف الفاضل: أن الإسلام هو الذي حدد الشخصية العربية على مر العصور.. وربط آخرها بأولها لغة وحضارة وخُلُقاً ((وليس للعروبة تاريخ يعتز به العرب ويجتمعون حوله قبل الإسلام))
ثم ينعي على الذين اعتبروا أن ذلك الطابع الخاص المميز للأدب العربي عما سواه لا يعني الجمود كما يزعمه الزاعمون ولا يقود إليه في أي حال.
ودليله على ذلك عدة أسباب:
أولاها: أن الجمود صفة لا وجود لها في الحياة.. لأن الحياة حركة، ولأن الكائن الحي لو أراد الجمود وقصد إليه لما استطاعه فكل شيء في الحياة متغير، والناس مضطرون إلى التعبير عن أنفسهم وعن الحياة في مختلف نواحيها: في أدبهم، وفي صحفهم، وفي اذاعاتهم، وفي قصصهم، وفي كتبهم العلمية، والحرص على استعمال لغتنا العربية في كل هذه الميادين ينتهي حتما إلى تصفيتها وتنقيتها فيسقط السخيف الثقيل، والحوشي المستهجن لأن الأدباء والعلماء والدارسين سوف ينفرون من استعماله، ومن ورائهم الذوق العربي الممثل في جمهور القراء، والرواة.
فأنت ترى المؤلف الفاضل يقرر مبدأ: إن البقاء للأصلح، وهو معنى يحلو لقليلي البضاعة - الفكرية - عزوه إلى ابن القرود داروين..!!
علما بأن الفضل فيه لمنزل الكتاب جل جلاله, قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}(4/168)
ثم ذكر المؤلف الآية الكريمة: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
مستدلا بها على تباين الكائنات الحية:
فالحيوان لا يأكل إلا النبات، وبعضه لا يأكل إلا اللحوم، فالله سبحانه وتعالى قد أعطى كل نوع من ذلك خلقه، وهداه إلى سبيل معين، ونهج خاص في سلوكه.. وقد يقحم الجاهل على حياة بعض النبات أو الحيوان مالا يلائمه مما يظن أنه أعود عليه بالنفع فيضنيه ويسقمه، وقد يقتله، والناس في ذلك - ككل خلق الله - طوائف وأمم يتمايزون في الطبائع والأمزجة، وفي غذاء الأبدان والأرواح والعقول، وقد يقتل بعض جماعاتهم ما تصح به جماعة أخرى.
وأقوال: إن هذه معايير لم يعرها نفر من هؤلاء الأفاضل الذين يدعون بحرارة عاطفة هوجاء إلى أنواع من الأدب اعتبرها تجديدا وحرروها من عبودية مزعومة، بينما هي في الحقيقة لا تلامس وجداننا إلا بقدر ما يصلح العشب الأخضر أن يكون غذاء للأسد استعاضة عن اللحم..!
وكنت ذات يوم عند أحد الأصدقاء المجددين فأدار مفتاح الراديو فإذا هو فجأة يلتقي بإذاعة من إذاعات الروم - الأفرنج - وبعد أن انتهى ((العلج)) من قراءة أخباره على ما يظهر سمعت صوتا شككت في بادئ الأمر أنه صوت إحدى ((الدركترات)) وهي تهد الصخور هدا.. بينما صديقي ظاهرة عليه إمارات الطرب والسرور، فلما أحس بما تعانيه طبلة أذني من وقع قضبان الدركترات على الصخر، قال مستنكرا: ألا تطرب للسمفونيات العالمية!.
على أنني أشاطر الدكتور الفاضل الرأي إذ يقول: ".. والمهم في ذلك كله أن يكون الاقتباس والتطور على كل حال بالقدر الذي لا ينقلنا عن جبلتنا، ولا يغير حقيقتنا، ولا يقطع صلتنا بالماضي".(4/169)
وأما إذا ظللنا لا نعيش إلا على فتات موائد الغرب، والإشادة بكل هراء من ناعق، ونبذ تراثنا الخالد، ووصمه بما لا يفق مع سموه، فإننا مع الأسف نكون كما قال المؤلف: "أذنابا ينقادون ولا يقودون، ويقلدون، ولا يبتكرون".
ثم يقف المؤلف محاميا عن الأدب العربي القديم أمام محكمة التجديد ويبدأ مرافعته بقوله: "أما الذين ينتقصون الأدب العربي القديم ويعيبونه فهم يذكرون عيوبا ليس من بينها عيب واحد يثبت على التحقيق", وأكثر هؤلاء من المفتونين بالأدب الأوروبي ويردون أن يحملوا الأدب العربي عليه، ويفنوه فيه، فيجعلوه باب من أبوابه، وأسلوبا من أساليبه، وشعبة من واديه، فهم لا يستحسنون من تراث العرب إلا ما وافق مذهبا من مذاهب الغرب، فعابوا على الشعر القديم نظام القافية، لأم الشعر الأوروبي خال منها، ووصفوا التأنق في التعبير، والاحتفال بجرس الألفاظ بالغثاثة، والتفاهة، لأن اللغات الأوروبية في فقرها وضيقها تعجز عن مجاراة اللغة العربية فيه.
هذا إلى آخر ما تعرض إليه المؤلف الفاضل من أمور بلغت من الأهمية في هذا الموضوع الغاية القصوى، ولو ذهبت إلى ذكرها فقرة فقرة لشذذت عما التزمت في فاتحة بحثي، فحسبي أن دللتك عليه بإشارة مقتضبة، والله من وراء القصد.(4/170)
دراسات في الديانات الهندية
الديانة الهندوسية (1)
بقلم: الطالب محمد ضياء الرحمن الأعظمي
عقيدة التناسخ:
هذه العقيدة تقوم على اعتقادهم بأزلية الرب والروح والمادة، فالروح لا تفنى فناءا كاملا بل إذا خرجت من جسم حلت جسم آخر، وهكذا تنتقل الروح من هنا إلى هناك حتى تقوم الساعة.
مسألة القيامة:
أعمار الدنيا منقسمة أربعة أقسام:
1- ست يك.
2- ترتيا يك.
3- دواير يك.
4- كل يك.
وكل دور من هذه الأدوار له خصائص وأوصاف، فمثلا الذين يولدون في الدور الأول (ست يك) والذين يجمعون الدنيا والدين يولدون في الدور الثاني (ترتيا يك) والذين يجمعون الشهوات والرغبات والدين والدنيا يولدون في الدور الثالث (دواير يك) والذين يمشون وراء الرغبات والرهبات يولدون في الدور الرابع (كل يك) .
كل دور من هذه الأدوار الأربعة يستغرق ملايين من السنين فبعد انتهاء هذه الدوار الأربعة تعيد الدنيا عملها ودورانها مرة ثانية من (ست يك) إلى (كل يك) ملايين المرات ثم تقوم القيامة وتنجو الروح من جولاتها وتتصل بذات الإله.
السبب في هذا أن الروح لها ثلاث خصائص:
1- ستوكن - من علامته أن تكون الروح راغبة في العلم والمعرفة.
2- ثموكن - من علامته أن تكون الروح بعيدة عن العلم والمعرفة.
3- رجوكن - من علامته أن تكون الروح راغبة في وقت ونافرة في وقت.
هذه الخصائص المجموعة هي سبب عيادة الروح مرة بعد مرة لحصول النجاة من أرذل صفاتها، فمن شرط النجاة تخليص النية من جميع الوسواس والأفكار الرديئة، والإنسان ما دام في قالب البشر لا يقدر على تخلية نفسه الوساوس خصوصا إذا ولد في ثموكن وكل يك، لأن ستوكن خاص بالملائكة المعصومين فلزم تنقل الروح من جسم إلى جسم جزاء بما كسبت في الحياة السابقة.(4/171)
هذه عقيدة معروفة منتشرة لدى جمهور الهندوس وتسلطت على عقولهم وأفكارهم ومجملهم لم يستطيعوا أن يتخلصوا منها.
والباحثون إنما يمشون مع الجمهور ويظنون أن العادات والتقاليد هي عقيدة الأمم والملل فيتخبطون خاصة في مثل هذه المسائل التي لا انفكاك لها عن الديانة الهندوسية والأمة الهندية القديمة، فلنرجع على أصل ويدك وهرم ولننظر فيه حتى نقف على حقيقة هذه المسألة:
1- رك ويد - تذكر يوم الآخرة وعظم العلم والمعرفة ولا تتجاوز هذه الحدود (1-2-3-20) .
2- رك ويد - ذل نفسك وقل للذين يعظمون الملائكة (ديوتا) إنكم لتردون إلى حياة أخرى (19-44-60) .
3- رك ويد - اجتهدوا في تحصيل الشمس حتى تعرفوا قدر النار. إن رسلنا " بهرب " و " بكو" و "مات وشوا " كلهم يؤمنون بالحياتين (حياة الدنيا الآخرة) (1-11-70-10) .
4- دك ويد " أنا أذنت لكم بتناول الطعام الأبدي فيا أكنى " اسم رسول، كن من الذين يجتهدون في تحصيل الحياة الأبدية السرمدية (1-9-44-5) .
هذه أربع آيات جئنا بها لنبين كذب الهندوس وافتراءهم على ويدك وهرم ومعاندتهم تعليم الإسلام، نعم! كبا بوذا يعتقد جولان الروح والتناسخ ولكن هذه العقيدة ما كانت منتشرة في جميع الهندوس إلا بعد نزول القرآن ومجيء آخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم. فالآيات الثلاث الأول تشير إلى ثبوت يوم الآخرة، والآية الرابعة تحث على تحصيل الحياة الأبدية التي لا حياة بعدها.
هذه هي عقيدة ويد في مسألة التناسخ خلافا لما ذهب إليه " ديانتد " مؤسس آريا سماح وقلده جمهور الهندوس. أما الذين أنكروا عليه وعلى أتباعه وأثبتوا يوم الآخرة فكثيرون جدا منهم عالم كبير بسنسكرتيه " واهل سنسكرتايان " [1] يقول: " الذين قالوا بمسألة التناسخ كانوا في أزمنة [2] " أبا نشد " لعلهم ما عرفوا بأن هذه المسألة ستكون خطيرة فيما بعد.(4/172)
وتقول الدكتورة " فريدة جوهان ": " نعم إن ويد يثبت جولان الروح ولكن مرة واحدة فقط لا آلاف المرات " (التناسخ وويد ص 93)
ويقول ستيا بركاش: " أنا أتحدى أن مسألة التناسخ لا توجد في ويد " (آواكون ص104) .
ويقول المفكر الجديد " دركاشنكر " الذي عرفته من مقالاته القيمة التي تصدر في مجلة " كانتي " يحاول هذا العالم إثبات تعاليم القرآن في ويدك دهرم لتقليل المنافرة بين الأمتين المسلمة والهندوسية، وقد نجح نجاحا بارزا فكم من الشباب الهندوكي أقبلوا على دراسات القرآن.
" إن من الأسئلة الغريبة التي وجهت إليَّ: هل توجد في ويدك دهرم مسألة اليوم الآخر؟ فهذا السؤال كسؤال من سأل هل في الجسم روح؟ فإن ويدك دهرم مملوءة بتوضيح مسألة اليوم الثاني " (مقالة مسألة التناسخ وويد) .
هذه هي تحقيقاتنا موجزة في مسألة التناسخ في ويدك دهرم فالذي يريد الزيادة فليرجع إلى ويد لعله يعرف حقيقة هذه العقيدة الفاسدة التي احتلت جزءا كبيرا من قلوب الهندوس، فلما جاء القرآن يثبت يوم الآخرة كذبوه وعاندوه بغير علم. وصدق الله العظيم: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} ولا عجب، {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ..} .
الكلام الأخير:
هذا هو ويدك دهرم الذي انتشر في جميع أنحاء الهند وفي بعض البلدان الأفريقية ذكرناه موجزا ما تيسر لنا، وما دخلنا في التفصيل والتنقيح، لأنه لا يكفي له مجلدات، والشيء الذي التزمناه هو إغماض العين عن العادات والتقاليد لأنها ليست من أساس الديانة، فكل ما ذكرناه وأوردناه من النصوص اقتبسناه من الكتب المقدسة، ثم فسرناه بما فسره به أهله وعلماؤه لئلا يطعن علينا طاعن بالتعصب والتحزب.(4/173)
وليس قصدنا من ذكر ويدك دهرم الاستهزاء به.. وكيف وقد منعنا الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} ، بل أردنا به إحقاق الحق وإبطال الباطل، حتى لو سألنا أحد عن تركنا ويدك دهرم فنقدم إليه المذكرة الموجزة..
وأخيرا ندعو أصحاب ويدك دهرم إلى أن يوازنوا بينه وبين الإسلام وينظروا أيهما أحق بالاتباع والاقتداء لأن الله يحب المقسطين.
نسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] من العلماء الموجودين ليس عندي شيء من مؤلفاته حتى أذكر ترجمته ولكن أورد بعض ما بقي في حفظي مما قرأته في الأيام الماضية، هذا العالم يتصل بمقاطعة الهند الشمالية وقد قضى حياته كلها باحثا في أديان العالم وسافر إلى الدول الغربية عدة مرات للبحث وكان في بعض فترات حياته مسلما فكتب كتابا سماه " الدين الإسلامي مخططاته " ثم دخل في البوذية ووقف على دراسته ثم بدا له فترك البوذية ودخل في ويدك واشتغل بالتصنيف والتأليف ثم ما أعرف هل هو حي أو ميت.
[2] والمعروف أن أبا نشد لم يكتب في فترة واحدة بل كتبه العلماء في أزمنة عدة حتى بلغ عدده 108 (ويدانت ص 18 المطبوع في أبريل سنة 1967) .(4/174)
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب
لفضيلة الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي
المدرس بالجامعة
سورة الأنفال
قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية.. هذه الآية تدل على أن وجل القلوب عند سماع ذكر الله من علامات المؤمنين. وقد جاء في آية أخرى ما يدل على خلاف ذلك وهي قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} . فالمنافاة بين الطمأنينة ووجل القلوب ظاهرة والجواب عن هذا أن الطمأنينة تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد والوجل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} .
وقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} الآية. وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} .(4/175)
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} الآية. هذه الآية تدل بظاهرها على أن الاستجابة للرسول التي هي طاعته لا تجب إلا إذا دعانا لما يحيينا ونظيرها قوله تعالى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} وقد جاء في آيات أخر ما يدل على وجوب اتباعه مطلقا من غير قيد كقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} . الآية. وقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} . والظاهر أن وجه الجمع والله تعالى أعلم أن آيات الإطلاق مبينة أنه صلى الله عليه وسلم لا يدعونا إلا لما يحيينا من خيري الدنيا والآخرة فالشرط المذكور في قوله إذا دعاكم متوفر في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لمكان عصمته كما دل عليه قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} . والحاصل أن الآية إذا دعاكم لما يحييكم مبينة أنه لا طاعة إلا لما يدعو إلى ما يرضي الله وأن الآيات الأخر بينت أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعو أبدا إلا إلى ذلك صلوات الله عليه وسلامه.
قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} . هذه الآية الكريمة تدل على أن لكفار مكة أمانين يدفع الله عنهم العذاب بسببها: أحدهما كونه صلى الله عليه وسلم فيهم لأن الله لم يهلك أمة ونبيهم فيهم. والثاني استغفارهم الله وقوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يدل على خلاف ذلك.
والجواب من أربعة أوجه:(4/176)
الأول: وهو اختيار ابن جرير ونقله عن قتادة والسدي وابن زيد أن الأمانين منتفيان فالنبي صلى الله عليه وسلم خرج من بين أظهرهم مهاجرا واستغفارهم معدوم لإصرارهم على الكفر فجملة الحال أريد بها أن العذاب لا ينزل في حاله استغفارهم لو يستغفروا ولا في حالة وجود نبيهم فيهم لكنه خرج من بين أظهرهم ولم يستغفروا لكفرهم ومعلوم أن الحال قيد لعاملها ووصف لصاحبها فالاستغفار مثلا قيد في نفي العذاب لكنهم لم يأتوا بالقيد فتقرير المعنى وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون لو استغفروا.
وبعد انتفاء الأمرين عذبهم بالقتل والأسر يوم بدر كما يشير إليه قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} .(4/177)
الوجه الثاني: أن المراد بقوله: يستغفرون استغفار المؤمنين المستضعفين بمكة وعليه فالمعنى أنه بعد خروجه صلى الله عليه وسلم كان استغفار المؤمنين سببا لرفع العذاب الدنيوي عن الكفار المستعجلين للعذاب بقولهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} . الآية. وعلى هذا القول فقد أسند الاستغفار إلى مجموع أهل مكة الصادق بخصوص المؤمنين منهم ونظير الآية عليه قوله تعالى: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} مع أن العاقر واحد منهم بدليل قوله تعالى: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً. وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} : أي جعل القمر في مجموعهن الصادق بخصوص السماء التي فيها القمر لأنه لم يجعل في كل سماء قمراًًًًًً. وقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} أي من مجموعكم الصادق بخصوص الإنس على الأصح إذا ليس من الجن رسل وأما تمثيل كثير من العلماء لإطلاق المجموع مرادا بعضه بقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} زاعمين أن معنى قوله منهما: أي من مجموعهما الصادق بخصوص البحر الملح لأن العذب لا يخرج منه لؤلؤ ولا مرجان فهو قول باطل بنص القرآن العظيم.(4/178)
فقد صرح تعالى باستخراج اللؤلؤ والمرجان من البحرين كليهما حيث قال: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} فقوله تعالى: {وَمِنْ كُلّ} نص صريح في إرادة العذب والملح معا وقوله: {حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} هي اللؤلؤ والمرجان، وعلى هذا القول فالعذاب الدنيوي يدفعه الله عنهم باستغفار المؤمنين الكائنين بين أظهرهم. وقوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} : أي بعد خروج المؤمنين الذين كان استغفارهم سببا لدفع العذاب الدنيوي فبعد خروجهم عذب الله أهل مكة في الدنيا بأن سلط عليهم رسول الله عليه وسلم حتى فتح مكة ويدل لكونه تعالى يدفع العذاب الدنيوي عن الكفار بسب وجود المسلمين بين أظهرهم ما وقع في صلح الحديبية كما بينه تعالى بقوله: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} . فقوله: {لَوْ تَزَيَّلُوا} أي لو تزيل الكفار عن المسلمين لعذبنا الكفار بتسليط المسلمين عليهم ولكنا رفعنا عن الكفار هذا العذاب الدنيوي لعدم تميزهم من المؤمنين كما بينه بقوله: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ..} الآية. ونقل ابن جرير هذا القول عن ابن عباس والضحاك وأبي مالك وابن أبزي وحاصل هذا القول أن كفار مكة لما قالوا: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} . الآية. أنزل الله قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} ثم لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم بقيت طائفة من(4/179)
المسلمين بمكة يستغفرون الله ويعبدونه فأنزل الله قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} أي: أيُّ شيء ثبت لهم يدفع عنهم عذاب الله. وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من بين أظهرهم. فالآية على هذا كقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} .
الوجه الثالث: أن المراد بقوله: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} كفار مكة وعليه فوجه الجمع أن الله تعالى يرد عنهم العذاب الدنيوي بسبب استغفارهم أما عذاب الآخرة فهو واقع بهم لا محالة فقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} أي في الدنيا في حالة استغفارهم وقوله: {وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} أي في الآخرة وقد كانوا كفارا في الدنيا. ونقل ابن جرير هذا القول عن ابن عباس وعلى هذا القول فعمل الكافر ينفعه في الدنيا كما فسر به جماعة قوله تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} : أي أثابه من عمله الطيب في الدنيا وهو صريح قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} . الآية. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} . وقوله: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} ونحو ذلك من الآيات يدل على بطلان عمل الكافر من أصله كما أوضحه الله تعالى بقوله: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} فجعل كلتا الدارين ظرفا لبطلان أعمالهم واضمحلالها وسيأتي إن شاء الله تحقيق هذا المقام في سورة هود.(4/180)
الوجه الرابع: أن معنى قوله: {وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي يسلمون أي وما كان الله معذبهم وقد سبق في عمله أن منهم من يسلم ويستغفر الله من كفره وعلى هذا القول فقوله: {وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} في الذين سبقت لهم الشقاوة كأبي جهل وأصحابه الذين عذبوا بالقتل يوم بدر ونقل ابن جرير معنى هذا القول عن عكرمة ومجاهد. وأما ما رواه ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري من أن قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} ناسخ لقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فبطلانه ظاهر لأن قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ} . الآية. خبر من الله بعدم تعذيبه لهم في حالة استغفارهم والخبر لا يجوز نسخه شرعا بإجماع المسلمين وأظهر هذه الأقوال الأولان منها: قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} . الآية. ظاهر هذه الآية أن الواحد من المسلمين يجب عليه مصابرة عشرة من الكفار وقد ذكر تعالى ما يدل على خلاف ذلك بقوله: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} . الآية. والجواب عن هذا أن الأول منسوخ بالثاني كما دل عليه قوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} . الآية. والعلم عند الله تعالى.(4/181)
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} . هذه الآية الكريمة تدل على أن من لم يهاجر لا ولاية بينه وبين المؤمنين حتى يهاجر. وقد جاءت آية أخرى يفهم منها خلاف ذلك وهي قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} فإنها تدل على ثبوت الولاية بين المؤمنين وظاهرها العموم. والجواب من وجهين: الأول: إن الولاية المنفية في قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} هي ولاية الميراث أي ما لكم شيء من ميراثهم حتى يهاجروا لأن المهاجرين والأنصار كانوا يتوارثون بالمؤاخاة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فمن مات من المهاجرين ورثه أخوه الأنصاري دون أخيه المؤمن الذي لم يهاجر حتى نسخ ذلك بقوله تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} . الآية. وهذا مروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة كما نقله عنهم أبو حيان وابن جرير والولاية في قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ولاية النصر والمؤازرة والتعاون والتعاضد لأن المسلمين كالبنيان يشد بعضه بعضا وكالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. وهذه الولاية لم تقصد بالنفي في قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} بدليل تصريحه تعالى بذلك في قوله بعده يليه: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} . الآية. فأثبت ولاية النصر بينهم بعد قوله ما لكم من ولايتهم من شيء فدل على أن الولاية المنفية غير ولاية النصر فظهر أن الولاية المنفية غير المنثبتة فارتفع الإشكال. الثاني: هو ما اقتصر عليه ابن كثير مستدلا عليه بحديث أخرجه الإمام أحمد ومسلم أن معنى قوله: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} يعني لا نصيب لكم من المغانم ولا في خمسها إلا فيما حضرتم(4/182)
فيه القتال وعليه فلا إشكال في الآية ولا مانع من تناول الآية للجميع فيكون المراد بها نفي الميراث بينهم ونفي القسم لهم في الغنائم والخمس والعلم عند الله تعالى.
سورة براءة
قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} . الآية. اعلم أولا أن المراد بهذه الأشهر الحرم أشهر المهلة المنصوص عليها بقوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر لا الأشهر الحرم التي هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب على الصحيح وهو قول ابن عباس في رواية العوفي عنه.
وبه قال مجاهد وعمرو بن شعيب ومحمد ابن إسحاق وقتادة والسدي وعبد الرحمان بن زيد بن أسلم واستظهر هذا القول ابن كثير لدلالة سياق القرآن الكريم عليه ولأقوال هؤلاء العلماء خلافا لابن جرير وعليه فالآية تدل بعمومها على قتال الكفار في الأشهر الحرم المعروفة بعد انقضاء أشهر الإمهال الأربعة وقد جاءت آية أخرى تدل على عدم القتال فيها وهي قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} . الآية.(4/183)
والجواب: أن تحريم الأشهر الحرم [1] منسوخ بعموم آيات السيف ومن يقول بعدم النسخ يقول: هو مخصص لها. والظاهر أن الصحيح كونها منسوخة كما يدل عليه النبي صلى الله عليه وسلم في حصار ثقيف في الشهر الحرام الذي هو ذو القعدة كما ثبت في الصحيحين أنه خرج إلى هوازن في شهر شوال فلما كسرهم واستفاء أموالهم ورجع إليهم لجأوا إلى الطائف فعمد إلى الطائف فحاصرهم أربعين يوما وانصرف ولم يفتحها فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام وهذا القول هو المشهور عند العلماء وعليه فقوله تعالى: {َاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ناسخ لقوله: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} وقوله: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} وقوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} الآية. والمنسوخ من هذه ومن قوله أربعة حرم هو تحريم الشهر في الأولى والأشهر في الثانية فقط دون ما تضمنتاه من الخبر لأن الخبر لا يجوز نسخه شرعاً.(4/184)
قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} إلى قوله سبحانه {عَمَّا يُشْرِكُونَ} . هذه الآية فيها التنصيص الصريح على أن كفار أهل الكتاب مشركون بدليل قوله فيهم: سبحانه عما يشركون بعد أن بين وجوه شركهم بجعلهم الأولاد لله واتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا من دون الله ونظير هذه الآية قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} لإجماع العلماء أن كفار أهل الكتاب داخلون فيها. وقد جاءت آيات أخرى تدل بظاهرها على أن أهل الكتاب ليسوا من المشركين كقوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ} . الآية. وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} . الآية. وقوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ} . الآية. والعطف يقتضي المغايرة.(4/185)
والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه: أن وجه الجمع أن الشرك الأكبر المقتضي للخروج من الملة أنواع. وأهل الكتاب متصفون ببعضها وغير متصفين ببعض آخر منها. أما البعض الذي هم غير متصفين به فهو ما اتصف به كفار مكة من عبادة الأوثان صريحا ولذا عطفهم عليهم لاتصاف كفار مكة بما لم يتصف به أهل الكتاب من عبادة الأوثان وهذه المغايرة هي التي سوغت العطف فلا ينافي أن يكون أهل الكتاب مشركون بنوع آخر من أنواع الشرك الأكبر وهو طاعة الشيطان والأحبار والرهبان فإن مطيع الشيطان إذا كان يعتقد أن ذلك صواب عابد الشيطان مشرك بعبادة الشيطان الشرك الأكبر المخلد في النار كما بينته النصوص القرآنية كقوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَاناً مَرِيداً} فقوله: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَاناً} . صح معناه وما يعبدون إلا شيطانا لأن عبادتهم للشيطان طاعتهم له فيما حرمه الله عليهم وقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} الآية. وقوله تعالى عن خليله إبراهيم: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} . وقوله تعالى: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنّ} . الآية. وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} . الآية. فكل هذا الكفر بشرك الطاعة في معصية الله تعالى، ولما أوحى الشيطان إلى كفار مكة أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الشاة تصبح ميتة من قتلها؟ وأنه إذا قال صلى الله عليه وسلم الله قتلها أن يقولوا: ما قتلتموه بأيديكم حلال وما قتله الله حرام فأنتم إذا أحسن من الله. أنزل الله في ذلك قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ(4/186)
لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} . فأقسم تعالى في هذه الآية على أن من أطاع الشيطان في معصية الله أنه مشرك بالله ولما سأل عدي بن حاتم النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً} ، كيف اتخذوهم أربابا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألم يحلوا لهم ما حرم الله ويحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم". قال: "بلى". قال: "بذلك اتخذوهم أربابا". فبان أن أهل الكتاب مشركون من هذا الوجه الشرك الأكبر وإن كانوا خالفوا كفار مكة في صريح عبادة الأوثان والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} . الآية. هذه الآية الكريمة تدل على لزوم الخروج للجهاد في سبيل الله على كل حال وقد جاءت آيات أخرى تدل على خلاف ذلك كقوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} . الآية. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} . الآية.
والجواب: أن آية انفروا خفافا وثقالا منسوخة بآيات العذر المذكورة وهذا الوضع من أمثلة ما نسخ فيه الناسخ لأن قوله: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً..} ناسخ لآيات الإعراض عن المشركين وهو منسوخ بآيات العذر كما ذكرنا آنفا. والعلم عند الله تعالى.
--------------------------------------------------------------------------------(4/187)
[1]- لو قيل بعدم النسخ والتعارض لأن أشهر السياحة خاصة بأهل العهود الذين نقضوا عهدهم أو ظهرت خيانتهم. الخ. فأرجئوا أربعة أشهر حتى يبلغوا مأمنهم. وأما الأشهر الحرم الأخرى الدوارة فهي على ما هي عليه لما ذكر من الأدلة ولأن المشركين لما عاتبوا المسلمين في وقعه سرية نخله وعظم الأمر على المسلمين لم يذكر الله نسخ تلك الأشهر، بل ذكر أن القتال فيها كبير أيضا إلا أن عمل الكفار للمسلمين أكبر وكأنهم بادؤون بالحرب فلا جرم على المسلمين إذا حاربوهم لذلك {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ َالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ} . الآية.
ومن ناحية أخرى أن قوله تعالى: {َقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} من باب التهييج ولم يتعرض للزمن فلا دليل فيه على النسخ وحصار ثقيف أجاب عنه في فتح القدير للشوكاني بأنه كان امتداد لحرب بدأت في شوال ابتدأ بها هوازن ثم لجأوا إلى الطائف فامتد الحرب من شوال إلى الأشهر الحرم. ويقول: فرق بين البداءة وبين الامتداد، فالبداءة محرمة بخلاف الامتداد.(4/188)
أخبار الجامعة
انضم إلى هيئة الأطباء في مستوصف الجامعة الإسلامية الدكتور مصطفى إبراهيم مصطفى بكالوريوس في الطب والجراحة من الجامعة المصرية بعد أن تعاقدت معه إدارة الجامعة للعمل في المستوصف التابع لها. وقد باشر عمله فور وصوله حيث انضم إلى الهيئة الطبية العاملة لدى المستوصف.
تعاقدت إدارة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة مع الأساتذة الآتية أسماؤهم وذلك للانضمام إلى هيئة التدريس التابعة لها للعام الدراسي 90-91هـ وهم:
اسم المتعاقد
جنسيته
مؤهلاته
1-
الأستاذ يوسف عبد الرحمن الضبع
مصري
درجة الأستاذية
2-
الشيخ محمد محمد الدهان
مصري
ماجستير
3-
الشيخ محمد محمد الليثي أبو فرحة
مصري
ماجستير
4-
الشيخ يوسف إبراهيم خليل
مصري
ماجستير
5-
الشيخ محمود عبد الحليم الرفاعي
مصري
ماجستير
6-
الشيخ محمد سيد أحمد الشال
مصري
ماجستير
7-
الشيخ سعد عبد الرحمن سليم ندا
مصري
شهادة كلية الحقوق
8-
الشيخ عبد القوي عبد المجيد فضل الرحمن
باكستاني
شهادة علمية(4/189)
موسوعات الفقه الإسلامي أو معاجم القوانين الفقهية
لفضيلة السيد محمد المنتصر الكتاني
المستشار العام لرابطة العالم الإسلامي
والمدرس في الجامعة الإسلامية سابقا
تقنين الفقه بجميع مذاهبه منذ عصر الصحابة إلى عصر تجميد الاجتهاد، أي القرون الخمسة الأولى، قرون الخير والنور وإمامة العلوم وسيادة المسلمين للعالم، تقنين الفقه صناعة عربية إسلامية عنَّا أخذها الأجانب وكان الأندلسيون هم رواد المسلمين والعالم فيها.
فأبو محمد ابن حزم الأندلسي إمام فقه الحديث، وقد عاش ما بين عام (384) وعام (456) هو الرائد الأول لتقنين الفقه، فقد وضع كتابا يعتبر أول موسوعة فقهية جامعة وأول معجم شامل لجميع مذاهب الفقه وهو: كتاب الخصال الجامعة لجمل شرائع الإسلام في الواجب والحلال والحرام وسائر الأحكام على ما أوجبه القرآن والسنة والإجماع. قال عنه مؤلفه ابن حزم في المحلي: "قد جمعنا فيه كل ما روي من نصوص القرآن والسنة والإجماع، منذ أربعمائة عام ونيف وأربعين عاما من شرق الأرض إلى غربها".
وقال عنه تلميذه الحافظ الحميدي في جذوة المقتبس: "أورد فيه أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين في مسائل الفقه والحجة لكل طائفة وعليها والأحاديث الواردة في الصحيح والسقيم بالأسانيد وبيان ذلك كله وتحقيق القول فيه".
وذكر معاصر ابن حزم الحكيم صاعد الأندلسي في كتابه أخبار الحكماء أنه رأى كتاب الإيصال في أربعة وعشرين مجلدا بخط مؤلفه ابن حزم قال: "وكان خطه في غاية الإدماج". يريد بالإدماج الخط الدقيق المرصوص، الذي لو كتب بخط أوسع لأخذ مسافة أكبر ولبلغ مجلدات أكثر.
وقال الحافظ الذهبي في سير النبلاء: "كتاب الإيصال في خمسة وعشرين ورقة".
ويعتبر هذا الكتاب ضائعا بين ما ضاع من كنوز وتراث الفردوس المفقود: الأندلس.(4/190)
ولكن إذا ضاع الإيصال فقد بقيت لنا صورة مصغرة عنه وهو مختصره لابن حزم المؤلف نفسه وأعني به: كتابه المحلي وقد طبع ثلاث مرات.
فالمحلي مختصر الإيصال في أحد عشر مجلدا مات ابن حزم وهو يؤلفه وقد وصل فيه إلى ثنايا المجلد العاشر فأتمه ولده الشهيد الفضل أبو رافع أمير ولاية مالقة الأندلسية أتم العاشر وكتب المجلد الحادي عشر والأخير منه، اختصر من الأصل الجامع كتاب أبيه الإيصال.
وبمعرفتنا للمحلي عرفنا الإيصال فالمحلي دون مواد قانونية باسم مسائل يبلغ عددها (2308) مسألة منها ما هو في عشر صفحات وفي عشرين، وفي ثلاثين، وفي أكثر من ثلاثين، وهي مواد مستقلة أشبه برسائل محررة مستقلة في بابها، وصفحاتها (4388) صفحة.
والإيصال في خمسة وعشرين ألف ورقة كما قال الحافظ الذهبي: أي خمسون ألف صفحة، ومعنى هذا أن المحلي اختصر فيه الإيصال إلى أقل من عشره، ومعنى هذا أيضا أن مسائل الإيصال تبلغ (23080) مسألة وإذا كان المحلي وهو المختصر للإيصال قد طبع في أحد عشر مجلدا فمعنى ذلك أن الإيصال إذا عثر عليه وطبع يخرج في أكثر من مائة مجلد بعدة مجلدات.
والرائد الثاني لتقنين الفقه الشهيد أبو القاسم بن جزي الأندلسي الإمام المالكي، وقد عاش بين عام (693) وعام (741) فقد وضع كتابا - طبع أكثر من مرة - في فقه أئمة المذاهب الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وسماه: "القوانين الفقهية".
والعودة إلى تقنين الفقه مسألة مسألة كما دون في العصر الخامس، ومادة مادة كما دون في القرن الثامن، هي عودة ضرورية ملحة، توجبها العقيدة والتزام الثبات عليها ويوجبها العلم والتزم الدعوة إليه.(4/191)
توجبها العقيدة والتزام الثبات عليها: نحن اليوم نعيش في غزو فكري، الغزاة فيه وحوش ضارية، هم أشد ضراوة من الغزاة العسكريين، فهؤلاء استهدفوا الأرض قرونا أو قرنا وبعض قرن وفي النهاية طردوا منها أشلاء صاغرين وقامت على تلك الأرض دول إسلامية تشهد بشهادة التوحيد وتستقبل كعبة المسلمين، أما غزاة الفكر فقد استهدفوا المسلم نفسه لا أرضه فقط، فغزوا مخه وقلبه وعشعشوا فيهما وعنكبوا، باض فيهما وفرخ سرطان تمكن من عقيدة الإسلام وفقه المسلمين، فحوَّلهما إلى عقيدة الكفر وفقه الشياطين.
حررت أرض المسلمين من الغزو العسكري، وقامت جيوش وحكومات إسلامية مكان ذلك الغزو، ولكنها بألسنة عربية وقلوب أعجمية كما أنذر نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
فقد تكهن شيطان من شياطين الغزو العسكري، وقد فشل في غزوه وهلك شريدا طريدا بأن فتوحاته ستعود ما انتشر قانونه ودام فقهه، وأعني به نابليون، فقد تكهن قائلا: "ستمتد فتوحاتي حيث يصل قانوني".
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . وهذا الفريق على قلَّته بين المسلمين، قد أخذ إبليس بقانونه النابليوني ينتقص من أطراف فقهه، في مؤسسات وشركات وأنظمة.
أما العالم الإسلامي في أكثره فقانون نابليون بكفره وظلمه وكثرة فسوقه قد غزاه وحكمه حكومات وشعوبا ولا تزال كليات الحقوق في جامعاتهم تجمع لإبليس طلابا وتخرِّج له أساتذة ودكاترة، يحلُّون قوانينه محلَّ فقه الإسلام، {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} .
وكثير من هؤلاء لو يقرب لهم الفقه بما اعتادوه من تقنين ووسائل لعادوا إليه عود الغريب لأهله والشارد إلى قومه.(4/192)
والطريق لهذا التقريب هو تدوين موسوعة للفقه جامعة لكل قضاياه شاملة لكل مذاهبه وتكون هذه الموسوعة معجما، بمعنى أنها تدوِّن مواد ومسائل مرتبة على حروف المعجم: أب ت، ففقهنا المدون أبوابا وفصولا مع كثرة الاستطراد فيه وذكر الكثير من القضايا في غير مظانِّها حين يعاد تصنيعه على حروف المعجم: أب ت، وتستقصى في هذا المعجم جميع المذاهب في العصور الفاضلة نكون قد يسرنا الفقه على المختص، وقربناه لغير المختص، وأبرزنا كنوزه ومعادنه الثمينة لجميع الناس في العالم، مسلمين وغير مسلمين ونكون بذلك دعاة إلى الإسلام الدين الحق، ومعلمين للعلماء حقائق الحلال والحرام، وقضاة عادلين محاربين للظلم والظلمة وناشرين للحق والعدالة بين البشر في جميع ما شجر بينهم.
وبظهور معاجم الفقه الإسلامي، ندفع عنه ما قذفه به كفرة المستشرقين وجهلة المسلمين من أنه فقه بدائي وإنما انتشر واتسع في بغداد بقانون حمورابي والفرس والرومان باسم القياس.
وبظهور معاجم الفقه الإسلامي، وما اشتملت عليه من مجلدات في فقه الصحابة والتابعين قبل أن تكون بغداد وقبل أن يولد أئمتها نثبت للناس أن فقه الإسلام هو فقه الإسلام وكفى بهذا الوصف كشفا وسمة فهو مستنبط من القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين، وما زاد عليها فهو فروع عنها، ومستخرج منها خروج الجنين من بطن أمه.
المعاجم:
دونت أكثر العلوم الإسلامية على حروف المعاجم، فهرس القرآن الكريم وأنفع فهارسه وأدقها المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم لمحمد فؤاد عبد الباقي ودونت السنة وأشهر مدوناتها المعجمة وأنفعها جامع الأصول لابن الأثير، وفي اللغة أجمعها لسان العرب لابن منظور وفي تراجم الرجال كتب الحافظ: الإصابة في الصحابة وتهذيب التهذيب في رجال كتب الحديث الستة.
معاجم الفقه:(4/193)
وأول من فكَّر في إخراج معجم موسوعة للفقه كلية الشريعة بجامعة دمشق منذ ستة عشر عاما أسست لذلك لجنة بمرسوم جمهوري وبعد قيامها بسنتين حَضَرتُ من المغرب وضُمِمْت لها بمرسوم فكان التخطيط لتدوين الموسوعة أن يُسْتَكْتَبَ لها فقهاء من مختلف أقطار العالم الإسلامي فعارضت هذه الخطة لثلاث علل:
العلة الأولى: إن ما سيكتب لو كتب سيكون غير متناسق ولا منسجم وسيكون ابن جماعة هجينا.
العلة الثانية: من كيان الموسوعة الأساسي أن لا يكون للفقيه الكاتب فيما يكتبه رأي خاص لا بتقديم ولا بترجيح. لا برفض ولا بقبول وإنما هو مصوِّر للفقه كما هو عند أئمته دون تدخل بينهم وإلا كان من يفعل ذلك مدوِّنا فقهاً لنفسه ومذهباً له والموسوعة لم تجعل لفقه نفسه ولا لمذهبه.
العلة الثالثة: فقهاء الموسوعة وكتابها لبعدهم عن بعض وعدم اجتماعهم سيبقى فهم تدوينها وتحريرها بينهم ضائعا مما سيكون سببا لعدم استجابتهم للكتابة وهذا الذي حدث.
قال لي زملاؤنا من أعضاء الجنة: "وما الخطة التي تراها أنت؟ "قلت: "توضع لكل قضية عامة من قضايا الفقه كلمة أصلية تشمل كلمات فرعية ويحرص على أن ينتقي لذلك كلمات ذات دلالة ماسة بالقضية ودالة عليها بالتحديد مع المحافظة على النص الفقهي ما أمكن إلا إن كان غامضا فيوضَّح أو متشعبا فليخص ولا تترك مفردة فقهية يكون لها معنى خاص ومصطلح عليه إلا وتفرد بكلمة أصلية أو فرعية".
وكمثال لذلك أثبتهم بأوراق رسمت فيها هذه الخطة فوافقوا عليها مجمعين بكتابة قرار لا أزال أحتفظ به فاخترت كتاب المحلي لابن حزم لعدة أسباب منها: أن فقهه فقه لجميع المذاهب، فهو سيكون من أجل ذلك صورة مصغرة عن الموسوعة المكبرة وسميته معجم فقه ابن حزم الظاهري.
وهكذا بعد ستة أشهر تممته في مجلدين ضخمين وطبع بعد ذلك بسنوات بمطبعة جامعة دمشق عام 1385 هـ باسم لجنة موسوعة الفقه الإسلامي.(4/194)
وقد قال عنه الأخ المحترم العلامة مصطفى الزرقاء رئيس اللجنة إذ ذاك في مقدمة للتعريف بالمعجم: فقام الأستاذ المنتصر بالعبء خير قيام. ثم لما بدأ الأستاذ المنتصر العمل جدَّت له فكرة جديدة هي أن يقوم بتسجيل خلاصة الحكم الفقهي الذي يستقر عليه ابن حزم في كل موضوع، وبذلك يصبح أشبه بموسوعة فقهية مصغَّرة. وقد استحسنتْ اللجنة هذه الفكرة لما تنطوي عليه من نفع كبير. ولكن عظم الفائدة المرجوَّة من هذا العمل الجليل غطَّى على اللجنة ما فيه من مشقة، فقررت أن يتابع الأستاذ الكتَّاني العمل على هذا الأساس ففعل مشكورا. وأمدته اللجنة بالأعوان في مراحل عديدة من العمل.. وظاهر للناظر أن هذا عمل مبتكر في حقل الفقه الإسلامي لم يسبق أن وجد له نموذج. فقد تبين عند الانتهاء منه أنه أصبح يمثل شبه موسوعة للفقه الإسلامي فهو يقدم للباحثين من أهل القانون والفقه الأحكام الفقهية التي يبحثون عنها.
وبعد وحدة دمشق والقاهرة انضم على لجنة دمشق أعضاء مصريون بانتقائنا، هم من كبار علماء مصر، وضعنا جزء نموذجيا طلب إلينا إنجازه بإلحاح ليظهر في مناسبة خطابية رسمية دورية، فكتبناه على الخطة الأولى التي لم أؤمن بها وهي الاستكتاب، فكان جزءا نموذجيا حقا في العلل الثلاث التي ذكرتها عن الخطة الاستكتابية: الهجنة في عدم انسجام مواده والتفاوت بين الفقهاء الكتاب في كل ما كتبوه وقلة من شارك فيه وكلهم من اللجنة الجديدة السورية والمصرية وليس من غيرهم سوى الفقير المحاضر فقد شارك بكتابة مادة: المعادن. وعن نفسي أتحدث قبل أن يتحدث عني غيري، ذهبت فيها إلى أن المعادن لا تملك ولو شئت أن أعيد عنها الكتابة الآن وأقول: إن المعادن تملك لما أعوزتني النصوص، وهكذا على كل من شارك في هذا الجزء النموذجي لهذه المعاني بحق من جميع زملائنا وإن كنا لم نقصد ذلك ولكن الخطة المكتوب بها هذا الجزء تفرض ذلك بطبيعتها.(4/195)
وقد طبع هذا الجزء في القاهرة سنة 1381 هـ باسم: موسوعة جمال عبد الناصر في الفقه الإسلامي.
وخلال هذه السنوات تابعت موسوعة مصر الرسمية عملها فأصدرت ستة أجزاء أخرى بنفس العنوان ولكن زادت علة رابعة في فساد تلك الخطة، صدرت هذه الأجزاء الستة ولم يذكر فيها اسم لأحد من كتابها الفقهاء. ومتى قيل العلم رواية مجهول؟ لا يدري من هو؟ وما تقواه؟ وما علمه؟ الحديث النبوي على قدسيته إذا أداه لنا مجهول رفضناه، وأغفلنا قدسيته، فكيف يفهم فقيه واستنباط نكرة لا تعرف لها حقيقة؟ أنعتمد في العقائد والحلال والحرام واستباحة الدماء والفروج والأموال على مجاهيل؟ فلابد من معرفة العالم لنزنه بموازين العلماء، دينا وثقة وضبطا، ولم يكن ذلك كذلك، فستكون كل موسوعة كتبها مجهول أو مجاهيل موسوعة مهدورة وجهود أصحابها ضائعة.
وعلى خطة الموسوعة المصرية الرسمية الفقهية صدرت موسوعة شعبية مصرية أيضا بإشراف صديقنا عالم مصر الشيخ محمد أبو زهرة رأيت منها مجلدا.
وعلى خطة الموسوعتين المصريتين صدرت نشرتان في الأشربة والأطعمة لموسوعة فقهية في الكويت تحت إشراف صديقنا المحترم الشيخ مصطفى الزرقاء.
معاجم الفقه العامة:
وطريقتنا نحن في تدوين الموسوعة الفقهية قد أصبحت واضحة مجسمة بصدور معجم فقه ابن حزم والنسج على منواله في إخراجها.
معاجم مفردة لفقه الأئمة الأربعة:
أولا:
معجم فقه أبي حنيفة ومعجم فقه مالك معجم فقه الشافعي معجم فقه أحمد. ثم معاجم لفقه الأئمة الذين لم تدون مذاهبهم: كعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والليث بن سعد وعبد الله بن المبارك وداوود بن علي ومحمد بن جرير وأبي ثور وأمثالهم لكل واحد منهم معجم مستقل بمذهبه.
ثم معاجم لفقه التابعين وتابعيهم:(4/196)
الحسن البصري ـ وقد جمع فقهه في سبعة أسفار ضخام الحافظ بن مفرج الأندلسي وقد عاش بين سنتي 315-380 هـ والسعيدان: ابن المسيب وابن جبير والسفيانان: ابن عيينة والثوري والحمادان: ابن سلمة وابن زيد وابن شهاب الزهري ـ وقد جمع فقهه الحافظ ابن مفرج الأندلسي أيضا في ثلاثة أسفار ضخام، وعمر بن عبد العزيز وأمثالهم، لفقه كل واحد منهم معجم.
ثم معاجم لفقه آل البيت:
علي بن أبي طالب وعبد الله بن العباس ـ وقد جمع فقهه سليله أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث: أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن أمير المؤمنين المأمون العباس، جمعه في عشرين كتابا وقد عاش بين سنتي 268-342 هـ والحسن بن علي وسليله عبد الله الكامل، والحسين بن علي وذريته: زين العابدين وزيد بن علي والباقر والصادق، والعباس بن عبد المطلب وسليلاه: سليمان بن داوود والعباس بن عبد الله، لفقه كل واحد منهم معجم.
ثم معاجم فقه الصحابة:
عمر بن الخطاب وابنه عبد الله، وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت، وذكر ابن حزم في الأحكام وفي جوامع السيرة سبعة من الصحابة هؤلاء، وعليا وابن عباس وعائشة وقال: يمكن أن يجمع من فقه كل واحد منهم سفر ضخم. ثم فقه أبي بكر وعثمان وباقي عشرين من الصحابة قال عنهم ابن حزم: يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم جزء صغير جدا ثم جزء لباقي فقهاء الصحابة. وذكر اسماء جميع فقهائهم في جوامع السيرة فبلغوا (162) فقيه وقد قال ابن حزم: "وقد روى عن فقهاء الصحابة أزيد من عشرين ألف قضية".
ثم معاجم فقه أئمة النساء صحابيات وتابعيات:
معجم فقه عائشة أم المؤمنين ثم معجم لفقه فاطمة بنت رسول الله وفقه أمهات المؤمنين ثم معجم لفقه عمرة بنت عبد الرحمن وباقي التابعيات.(4/197)
وقد أشرفتُ في جامعة دمشق على إخراج فقه السبعة المكثرين من الصحابة، لسبعة من خريجي كلية الشريعة بها، فكان نصيب فقه عائشة لطالبة هي اليوم تعتبر داعية الإسلام في الشام وعالمة نسائها هي الآنسة منيرة الفبيسي وباقي السبعة المتخرجين هم اليوم بين زملاء أساتذة جامعين وبين دكاترة في علوم الشريعة وقضاة في المحاكم.
وهذه المعاجم تفيد بمفردها في المناطق التي تتمذهب بفقه أحد أئمتها الأربعة وكزيد بن علي وجعفر الصادق، تفيدهم للعلم والدراسة وتفيدهم لاختيار الدساتير الإسلامية منها، والقوانين الموحدة الملزمة حكما وقضاء وفتوى.
وبعد الانتهاء من تدوين جميع هذه المعاجم لفقه الصحابة والتابعين والأئمة الذين لم يدوَّن فقههم والأئمة الذين دوِّن فقههم وفقه آل البيت وفقه أئمة النساء، تأتي المرحلة الثانية وهي:
دمج جميع هذه المذاهب في كتاب واحد على نفس الطريقة المعجمية: أب ت باسم معاجم الفقه الإسلامي.
معجم الحديث:
والمرحلة الثالثة هي جمع جميع أحاديث الأحكام مرتبة على حروف المعجم كذلك وتكون هذه الأحاديث ذات عناوين مفردة لكل حديث كلمة أصلية، تحتها كلمات فرعية ذات دلالة فقهية خاصة، ولتكون هذه الأحاديث مع آيات الأحكام الدليل المرجوع إليه عند تضارب المذاهب وتغاير الأحكام في القضية الواحدة لاختيار حكم واحد من بينها، يسنده الدليل ويعززه على أن يُخرج كل حديث منها ويذكر بجانبه من صحَّحه أو ضعَّفه أو من زكَّى جميع رجاله أو جرَّح أحدهم.(4/198)
وكنت أشرفت في لجنة موسوعة الفقه الدمشقية على جمع جميع أحاديث البيوع، فخرجتْ في ثلاثة أجزاء، وأعجلتنا الفتن العقائدية عن مراجعتها وإعطاء عناوين أصلية لوحداتها وفرعية لكل حديث منها، فأخرجتنا عن الشام حيث نقيم بين المملكة العربية السعودية وبين الكويت، بعد أن مات ثلاثة من خيرة زملائنا في اللجنة وهم الدكاترة مصطفى السباعي ويوسف العشي وأحمد السمان رحمهم الله وغفر لهم.
وقد وضعنا في المعجم الظاهري كلمات ليس لها في كتب الفقه أبواب أو فصول مستقلة وأن يكون لها أحكام مبعثرة في ثناياها ومستطردة، ومنها كمثال: إجهاض وتشريح وفضول المال.
وطريقتنا هذه في المعاجم الموسوعة أثنى عليها بكتاب مستقل ودعا لها ونوَّره بها فيه وأسماه: تراث الفقه الإسلامي ومنهج الاستفادة منه على الصعيدين الإسلامي والعالمي دعا لها وساندها مؤلف هذا الكتاب: الدكتور جمال الدين عطية، فقال بعد أن تحدث عنها في أوراق منه وفي عدة صفحات خص بها الحديث عن معجم فقه ابن حزم:
"ونرى أن يكون منهج العمل، في معاجم أمهات الفقه على مثال ما تم بالنسبة لمعجم فقه ابن حزم الذي يتميز في رأينا بميزتين أساسيتين:
1- أنه أورد خلاصة وافية لرأي ابن حزم في كل مسألة.
2- أنه أرجع مباحث كل كلمة إلى رقم المسألة من كتاب المحلي".
وكتاب الدكتور عطية في 104 صفحات.
وسيكون (معاجم الفقه الإسلامي) هذا بعد قيامه كتاب دراسة لجميع مراحل التعليم الثانوي والجامعي والعالي ومنه يأخذ كل ما يحتاجه وما يتفق ومنهاجه وبرامجه.
ومنه ستختار الحكومات الإسلامية بواسطة علمائها وقضاتها ورجال الحكم فيها دساتيرها وقوانينها العامة والخاصة الداخلية الخارجية إن شاء الله.(4/199)
وقد استبعد بعض زملائنا وأصدقائنا من أساتذة الجامعات والعلماء إمكان تنفيذ هذه الطريقة وتحقيقها في الماضي ولكن حين رأوها متمثلة في معجم فقه ابن حزم تلاشى استبعادهم وآمنوا بتحقيق تنفيذها وإذا أعان الله فسنعيده وسيكون بعد تجديده ثلاث مجلدات بدل مجلدين، إذ لا تزال فيه نواقص ككل عمل في البداية حين يبتكر.
ولا يزال بعض العلماء مع كل ذلك يستبعد جمع فقه الصحابة والتابعين والأئمة المنقرضة مذاهبهم ولهؤلاء أقول:
يمكننا بكل يسر وسماحة وبلا كبير تعب ومشقة في عصرنا هذا الرابع عشر، أن نجمع فقه الصحابة والتابعين وأولئك الأئمة ونصل بها - في معاجم - لما قدره لها ابن حزم من خبرة له مؤكدة واطلاع تام ولعل المصادر المتاحة لنا اليوم لم تكن متاحة كلها لابن حزم، فما علينا إلا أن نحضر من التفاسير أمثال كتب ابن جرير والبغوي والقرطبي وابن كثير والسيوطي وأمثال كتب الحديث: الموطأ لمالك وسنن الترمذي والدراقطني والبيهقي ومصنف ابن أبي شيبة وشروح الحديث: فتح الباري للحافظ وشرح مسلم للنووي ومعالم السنن للخطابي وطرح التثريب للعراقي ونيل الأوطار للشوكاني وسبل السلام للصنعاني وكتب ابن حزم: المحلى والإحكام والملل والنحل وجمهرة الأنساب ومراتب الإجماع وتقريب المنطق وجوامع السيرة والرد على ابن التغريلة ورسائله المجتمعة والمتفرقة والمجموع للنووي والمغني لابن قدامة والبحر الزخار لابن المرتضى والروض النضير للحسين الصنعاني وأشباهها ونظائرها من الكتب كثيرة، تطولها كل يد دارسة ولعل المصادر التي بين أيدينا من ذلك توصلنا لأن نضع بين يدي الفقهاء من فقه الصحابة والتابعين وهؤلاء الأئمة أكثر مما قدره له ابن حزم.
وقد سبق لي أن قلت هذا أو شبيهه في مقدمة تخريجي بالمشاركة لأحاديث فقه الحنفية، منذ سنوات وهو مطبوع متداول بين أيدي الناس في أربع مجلدات.(4/200)
وبعد، فإن قيام هذه (المعاجم لموسوعة الفقه الإسلامي) سيبقى دينا في ذمة الدول الإسلامية ملوكا ورؤساء وحكومات ودينا في ذمة الجامعات الإسلامية إدارة وأساتذة وموجهين ودينا في ذمة القضاء محاكم وحكاما وقضاة.
والذي سيسعده الحظ من الملوك والرؤساء المسلمين سيكون نابليون المسلم الذي سيقول بملء فيه: ستنتهي فتوحاتي حيث يصل قانوني. والمنتظر أن يكون القائم بذلك فيصل خادم الحرمين الشريفين ومنزلي الوحي ومولد صاحب الشريعة ومرقده صلوات الله عليه، فمن أولى بذلك منه فلا يزال في مملكته للحدود سلطان وللشريعة محاكم وقضاة.
نريد أن نسمع قريبا: قانون فيصل، بدل قانون نابليون.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} .
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} والحمد لله رب العالمين.
التعليق على محاضرة السيد المنتصر
محاضرة لسماحة رئيس الجامعة الإسلامية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد، فإنا نشكر الأستاذ الكبير والعلامة الشهير الأخ الشيخ المنتصر الموفق.
نعم، لقد أجاد أخونا العلامة وأفاد وأحسن فيما ذكر واقترح، وإنّ ما ذكره عن الموسوعات القديمة الفقهية ولاسيما موسوعة العلامة الكبير أبي محمد بن حزم المسماة بالإيصال، لا شك أن هذه الموسوعة موسوعة عظيمة وإن لم توجد، فقد بقي ووجد مختصرها الذي يدل على علم المؤلف الواسع وعظم عنايته وسعة اطلاعه.(4/201)
وإني أؤيد فضيلة الأستاذ فيما ذكر من الاقتراح ومسيس الحاجة إلى معاجم متعددة لفقه الإسلام وإن الحاجة ماسة بل شديدة جدا إلى جمع أقوال علماء الإسلام من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة الأعلام رضوان الله عليهم جميعا. وإن إيجاد معاجم لفتاواهم وأحكامهم ليس ذلك واجبا فقط وإنما ذلك مفيد جدا ونافع كثيرا، وقد أجاد فضيلته في بيان حاجة الناس لذلك وإن هذا القانون وهذه المعاجم سوف تفيد العالم كله الإسلامي وغير الإسلامي وحاجة المسلمين أنفسهم إلى تراثهم العظيم على نقاوته وصفائه من معادنه لا شك حاجة عظيمة، ومن استبعد وجود ذلك وإمكان ذلك فإنما ذلك من عدم العناية بهذا الأمر والتدبر له والتفكير فيه تفكيرا جدَّيا، وإنه كما قال الأستاذ ليس بعسير ولا مستحيل، بل ممكن إذا فُرِّغ له العلماء المتبصرون والمتحمسون لهذه الفكرة فإن الحصول عليه وإمكان جمعه أمر ممكن بلا شك، وإني أقترح أن يكون ذلك من طريق تكوين لجنة من أهل العلم المتبصرة في الفقه الإسلامي ممن يفرغون في مكان واحد ليجمعوا هذه المعاجم بادئين بفقه الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ثم التابعين وهكذا وفي الإمكان أيضا أن يتشاوروا ويدرسوا الموضوع دراسة جدية على ضوء الدراسات السابقة التي أشار إليها محاضرنا وعلى الطريقة الجيدة الحسنة التي سلكت في وضع المعاجم كما أن في الإمكان أن ينظروا في ذلك من جهة أخرى من جهة البدء بمعاجم الصحابة أو غيرهم، كل ذلك ممكن إذا فرغ له العلماء المبصرون المعوَّل عليهم في الفقه الإسلامي ممن لهم سمعة حسنة ومعرفة جيدة في هذا الباب.(4/202)
وكما أن الناس في حاجة إلى جمع نصوص الفقهاء والعناية بها مرتبة على أحرف المعجم فكذلك هم في حاجة إلى ترتيب ما لم يرتب من أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام ونشر ما رتب والعناية بالتصحيح والتضعيف، حتى يكون الناظر في ذلك على بينة وعلى بصيرة من أمر الحديث الشريف من جهة الصحة والضعف والوضع وغير ذلك ولابد من الإشارة إلى تكوين لجان متعددة، لجنة لكذا ولجنة لكذا ولجنة تقوم بإعداد الترتيب الكافي المناسب لما يتعلق بالأحاديث ولجنة تكون لما يتعلق بفقه الصحابة ولجنة أخرى لفقه التابعين وهكذا على حسب الإمكان واليسر من جهة وجود العلماء الذين يصلحون لهذا الغرض.
ومن أهم الأمور في هذا الباب العناية بصحة الفتاوي والنظر في أسانيدها إلى من نسبت إليه فإن هذا أمر عظيم فقد تنسب الفتوى إلى شخص هو براء منها وتنسب الفتوى إلى شخص لم يقلها كما نسبت وإنما قال شيئا منها فيزيد فيها وينقص. فالحاجة ماسة إلى العناية بأسانيد الفتوى عمن نقلت عنه من الصحابة وغيرهم وعن المرجع ومكانها في الصفحات والطبعات، وغير ذلك، حتى يكون المراجع والمطالع على بينة وعلى هدى وعلى بصيرة في ذلك كله. وكما أن العلماء محتاجون إلى ما دوِّن في الحديث الصحيح والتفسير فكذلك هم محتاجون أيضا إلى معرفة صحة الفتاوى عمن نسبت إليه من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام، وعدم صحتها حتى يكون الناقل لها والناظر فيها على بصيرة. وقد علمنا وعلم غيرنا فتاوي كثيرة تنسب لكثير من أهل العلم ولا صحة لها، وقد علم الناس ما لدى الشيعة في كتبهم وغير الشيعة من فتاوي تنسب إلى أهل البيت تحتاج إلى تمحيص وإلى عناية والواجب في هذا، يتثبت في كل شيء.(4/203)
فالذي ينسب للأئمة من الصحابة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم جميعا وغيرهم من أئمة الصحابة وعلماء الصحابة يجب أن يكون العناية به أكبر ثم هكذا التابعون والأئمة بعدهم، وبخصوص ما ينسب لأهل البيت ينبغي أن يمحص وينظر في أسانيده حتى ينتفع في ذلك من أراد الله هدايته وتوفيقه إلى معرفة الصحيح والصواب فيما ينسب إلى أهل البيت كما ينتفع أيضا من ينتسب إلى الشافعي وإلى مالك وإلى أبي حنيفة وإلى أحمد بما يوقف عليه من الفتاوي بأسانيدها ودلائل صحتها أو ضعفها حتى يكون ذلك الشخص أو تلك الجماعة على بينة فيما ينسب إلى مذهبهم وإلى إمامهم وقد تكون أمور كثيرة في مسائل فقهية يوجد الشيء وضده فيها فتحتاج إلى بحث وتمحيص إلى أن يوجد السند القوي أو الأصل المعتمد في صحة ذلك الحكم وتلك الفتوى فالحاصل أن ما ذكره أخونا العلامة الشيخ المنتصر في هذا الباب حقيق بالعناية ولا شك أنه قد أصاب في ذلك ولا شك أن هذا العمل أمر عظيم ومشروع جليل يحتاج إلى عناية كبيرة وإلى علماء معروفين بالأمانة والنصح والصدق والبصيرة والعلم حتى يطمئن الناس إلى علمهم وإلى صحة ما ذكروا من الحديث والفقه والفتاوى.(4/204)
وفي الجامع الصحيح للبخاري رحمة الله عليه من الآثار والأحاديث ما ينفع جدا هذا السبيل كما هو في كتب السنة وكتب الأحاديث المعروفة من الآثار والعلوم الكثيرة ما ينقع في هذا الباب وفي كتب الفقه كالمحلى والمغني وغيرهما من الفوائد العظيمة والآثار الكبيرة ما ينفع في هذا الباب أيضا، والحاصل أن هذا ممكن بحمد الله وليس بعسر ولا مستحيل إذا أوجد له الرجال الأكفاء وإذا هيئت له الأسباب وفرَّغوا لهذا الأمر. وإن أولى الناس بهذا الأمر ولهذا المشروع العظيم هو كما قال الأستاذ حاكم هذه البلاد وإمام المسلمين فيصل بن عبد العزيز وفقه الله وهداه إنه أولى الناس بهذا المشروع والعناية به وإخراجه إلى حيز الوجود لإيجاد علماء صالحين لهذا الغرض متفرغين يعنون به ويكرِّسون جهودهم ويمنحونه ما لديهم في هذا الباب مستعينين بالله سبحانه وتعالى ثم بإخوانهم بقية العلماء في كل ما يهم في هذا السبيل من المراجع والمحفوظات وغير ذلك.
وأسأل الله أن يجزي محاضرنا عن محاضرته خيرا، وأن يبارك في جهوده وعلومه وأن ينفع به وبسائر علماء المسلمين الأمة الإسلامية وأن ينصر بهم الحق ويدحض بهم الباطل وأن يجمع علماء المسلمين وولاة أمرهم على الحق والهدى ويصلح عامة المسلمين جميعا ويهديهم سواء السبيل ويصلح ويوفق قادتهم لحكم الشريعة والتحاكم إليها وتسهيل سبيل ذلك إنه على كل شيء قدير، وصلى لله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(4/205)
مقابلة مع فضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية
الشيخ محمد بن ناصر العبودي
أجاب فضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية الشيخ محمد العبودي على أسئلة مندوب مجلة اليمامة ((حول الجامعة الإسلامية)) .
ونظرا لأهمية الحديث وما يلقيه من أضواء على هذه الفكرة، رأت مجلة الجامعة نشره فيما يلي:
قال مندوب مجلة اليمامة موجها خطابه إلى فضيلة الأمين العام:
س1- كم عدد المدرسين والطلاب بالجامعة خلال العام الحالي 90-91هـ في مختلف مراحل الدراسة وكم عدد الكليات حاليا، ومن كم دولة إسلامية يتكون الطلاب؟
ج1- عدد أعضاء هيئة التدريس في المرحلة الجامعية والأقسام التابعة للجامعة هذا العام (71) واحد وسبعون مدرسا.
أما عدد الطلاب الدارسين في المرحلة الجامعية والأقسام التابعة للجامعة في هذا العام فقد بلغ ألف وثلاثة وأربعين طالبا.
وفي الجامعة حاليا كليتان، كلية الشريعة وقد أنشئت في عام 1381هـ وكلية الدعوة وأصول الدين وقد أنشئت عام 1386هـ.
وينتمي طلاب الجامعة إلى خمسة وسبعين قطرا من أقطار العالم.
س2ـ ما هي المراحل التي يتم بها قبول الطالب واستقدامه للدراسة في الجامعة من أي بلد إسلامي في العالم؟(4/206)
ج2ـ توزع المنح الدراسية من قبل مجلس الجامعة في كل عام دراسي على الأقطار الإسلامية والبلاد التي يوجد فيها مسلمون حسب الحاجة وكثرة السكان وتبلغ بذلك وزارة الخارجية لإعلان ذلك بواسطة سفارات وممثليات جلالة الملك في الأقطار التي خصصت لها مقاعد ويقبل لشغل هذه المقاعد الطلاب الذين تتوفر فيهم شروط الالتحاق بالجامعة لكل مرحلة من المراحل الدراسية فيها حسب الأوراق الثبوتية اللازمة الخاصة بكل طلب إلتحاق، فإن كانت الشهادة التي يحملها قد عودلت مع توفر الشروط تمَّ قبوله وإلا طلب من المؤسسة التي تخرج منها بعث المناهج والأنظمة اللازمة لتجري معادلتها من قبل لجنة المعادلات في وزارة المعارف حسب نظام الجامعة لينظر في أمر قبول خريجيها على ضوء ذلك.
فإذا تمَّ ترشيحه للقبول استقدم على حساب الجامعة الإسلامية بواسطة الخطوط الجوية العربية السعودية.
س3- هناك جهود وخدمات تبذلها الجامعة لطلابها أثناء الدراسة وبعد التخرج فما هي هذه الجهود والخدمات؟
ج3- تستقدم الجامعة الطلاب المقبولين للدراسة فيها على حساب الجامعة وتصرف للطالب في المرحلة العالية شهريا ثلاثمائة ريال (300) وتصرف للطالب في المراحل دون الجامعية مائتين وخمسين ريال (250) في الشهر وذلك بالإضافة إلى الكتب الدراسية مجانا كما تتولى علاجهم وصرف الأدوية لهم مجانا من قبل المستوصف التابع للجامعة وتؤمن لهم وسائل النقل للدخول إلى المدينة والخروج إلى الجامعة يوميا صباحا ومساء وعند تخرُّج الطالب ترحِّله الجامعة كما استقدمته على حسابها بواسطة مؤسسة الخطوط الجوية العربية السعودية وتزويد الجامعة خريجها ببعض الكتب والرسائل التي يجري توزيعها من قبل الجامعة، وتقوم دار الإفتاء بالرياض بالتعاقد مع بعضهم للعمل في أفريقيا بالتدريس ونشر الدعوة الإسلامية.(4/207)
س4- ممن يتكون المجلس الأعلى للجامعة؟ وكم مرة يجتمع في العام؟ وما هي آخر مرحلة وصل إليها مشروع افتتاح كلية اللغة العربية بالجامعة؟ وكذلك مشروع افتتاح قسم الدراسات العليا بها؟
ج4- يتألف مجلس الأعلى الاستشاري للجامعة من:
أ - رئيس الجامعة الإسلامية ونائبه وزير المعارف أو من ينوب عنه ومدير جامعة الرياض واثنين من هيئة التدريس بالجامعة.
ب - خمسة عشر عضوا يختارهم رئيس الجامعة بناء على ترشيح من نائبه يوافق عليه الرئيس الأعلى للجامعة وهو جلالة الملك ويراعى في اختيارهم تنوع الاختصاص وتمثيل مختلف البلاد الإسلامية وتكون مدة عضويتهم سنتين قابلتين للتجديد، ورئيس الجامعة هو رئيس المجلس، وله أن ينيب عنه من يشاء من الأعضاء عند غيابه، وينعقد المجلس الأعلى الاستشاري بناء على دعوة من رئيسه أو طلب يقدم من ثلث أعضائه، وقد درس المجلس الأعلى الاستشاري مشروع نظام قسم الدراسات العليا في الجامعة ومشروع افتتاح كلية اللغة العربية والآداب المعدين من قبل مجلس الجامعة ووافق عليهما وقد رفع إلى الجهات العليا لطلب الموافقة.
ونرجو أن تصل الموافقة عليهما ويتم التنفيذ قريبا إن شاء الله على الوجه المطلوب.
س5- سؤال يتردد على ألسنة فئة كبيرة من الشباب المسلم الذين لا تسمح لهم الظروف بالانتظام بالجامعة، وهو لماذا لا تتيح الجامعة الإسلامية الفرصة أمام هؤلاء الشباب للانتساب إليها لتحصل الفائدة ويعم النفع؟
ج5- قد درس مجلس الجامعة ثم المجلس الأعلى الاستشاري للجامعة هذا الموضوع وقرر عدم فتح باب الانتساب للجامعة ووجه ذلك أن الغرض من إنشاء الجامعة ليس هو مجرد الحصول على الشهادة العلمية وإنما المقصود مع ذلك أن يعيش الطالب في جو إسلامي يكسبه أخلاقا كريمة وآدابا سامية.
موعظة(4/208)
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ. إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .
(لقمان/ 33،34)(4/209)
الإمام مسلم وصحيحه
بقلم الشيخ: عبد المحسن العباد
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية
نسبه:
هو الإمام أبو الحسن مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري نسبا النيسابوري وطنا، قال ابن الأثير في اللباب في تهذيب الأنساب: القشيري بضم القاف وفتح الشين وسكون الياء تحتها نقطتان وفي آخرها راء، هذه النسبة إلى قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة قبيلة كبيرة ينسب إليها كثير من العلماء فذكر جماعة من هؤلاء ومنهم الإمام مسلم، ونسبة الإمام مسلم هذه نسبة أصل بخلاف الإمام البخاري فإن نسبته إلى الجعفيين نسبة ولاء ولهذا لما ذكر الإمام أبو عمر بن الصلاح في كتابه علوم الحديث أن أول من ألف في الصحيح الإمام البخاري ثم الإمام مسلم قال: "أول من صنف الصحيح البخاري أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي مولاهم وتلاه أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري القشيري من أنفسهم".
ولادته:
ولد الإمام مسلم سنة أربع ومائتين كما في خلاصة تهذيب الكمال للخزرجي وتهذيب التهذيب وتقريبه للحافظ ابن حجر العسقلاني، وكذا في البداية والنهاية لابن كثير، قال بعد أن ذكر وفاته سنة إحدى وستين ومائتين: وكان مولده في السنة التي توفي فيها الشافعي وهي سنة أبع ومائتين فكان عمره سبعا وخمسين سنة رحمه الله تعالى، ونقل ابن خلكان في كتابه وفيات الأعيان عن كتاب (علماء الأمصار) لأبي عبد الله النيسابوري الحاكم أن مسلما توفي بنيسابور لخمس بقين من شهر رجب الفرد سنة إحدى وستين ومائتين وهو ابن خمسة وخمسين سنة ثم قال: فتكون ولادته في سنة ست ومائتين.
رحلته في طلب العلم وسماعه الحديث:(4/210)
بدأ سماع الحديث سنة ثماني عشرة ومائتين كما في تذكرة الحفاظ للذهبي، وقد رحل لطلبه إلى العراق والحجاز والشام ومصر، وروى عن جماعة كثيرين أذكر فيما يلي عشرة من الذين أكثر من السماع منهم والرواية عنهم في صحيحه مع بيان عدد ما رواه عن كل منهم كما نقل ذلك الحافظ ابن حجر في تراجمهم في كتابه تهذيب التهذيب:
1- أبو بكر ابن أبي شيبة: 1540 حديثا.
2- أبو خيثمة زهير بن حرب: 1281 حديثا.
3- محمد بن المثني الملقب الزمن: 772 حديثا.
4- قتيبة بن سعيد: 668 حديثا.
5- محمد بن عبد الله بن نمير: 573 حديثا.
6- أبو كريب محمد بن العلاء ابن كريب: 556 حديثا.
7- محمد بن بشار الملقب بندارا: 460 حديثا.
8- محمد بن رافع النيسابوري: 362 حديثا.
9- محمد بن حاتم الملقب السمين: 300 حديثا.
10- علي بن حجر السعدي: 188 حديثا.
وهؤلاء العشرة من شيوخ مسلم روى البخاري في صحيحه مباشرة عن تسعة منهم فهم جميعا من شيوخ الشيخين معا إلا محمد بن حاتم فلم يرو عنه البخاري في صحيحه لا بواسطة ولا بغيرها، وقد قال الإمام أبو عمرو بن الصلاح في كتابه علوم الحديث: ومسلم مع أنه أخذ عن البخاري واستفاد منه فإنه يشارك البخاري في كثير من شيوخه.
تلمذته على الإمام البخاري:(4/211)
يعتبر الإمام البخاري من شيوخ مسلم البارزين الذين لهم دور كبير في إفادته وتمكنِّه في معرفة الحديث النبوي والتثبت في نقل الصحيح. قال الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في ترجمة الإمام مسلم في كتابه تاريخ بغداد، قلت: "إنما قفا مسلم طريق البخاري ونظر في علمه وحذا حذوه، ولما ورد البخاري نيسابور في آخر أمره لازمه مسلم وداوم الاختلاف إليه"، وقال الحافظ ابن حجر في شرحه لنخبة الفكر في معرض ترجيح صحيح البخاري على صحيح مسلم: "هذا على اتفاق العلماء على أن البخاري كان أجل من مسلم وأعرف بصناعة الحديث منه وإن مسلما تلميذه وخريجه ولم يزل يستفيد منه ويتبع آثاره حتى قال الدارقطني: "لولا البخاري لما راح مسلم ولا جاء"". انتهى.
ومع كون الإمام مسلم تتلمذ على الإمام البخاري ولازمه واستفاد منه لم يرو عنه في صحيحه شيئا ويبدو والله تعالى أعلم أن مسلما رحمه الله فعل ذلك لأمرين:
الأول:
الرغبة في علو الإسناد وذلك أن مسلما شارك البخاري في كثير من شيوخه فلو روى عنه ما رواه عنهم لطال السند بزيادة راو لكنَّه رغبة منه في علوِّ الإسناد وقربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم روى مباشرة عن هؤلاء الشيوخ تلك الأحاديث التي رواها البخاري عنهم.
الثاني:
أن الإمام مسلما رحمه الله ساءه ما حصل من بعض العلماء من مزج الأحاديث الضعيفة بالأحاديث الصحيحة وعدم التمييز بينهما، فوجه عنايته في تجريد الصحيح من غيره كما أوضح ذلك في مقدمة صحيحه، وإذاً فما كان عند البخاري من الأحاديث قد كفاه مؤونته لأنَّه قد عنى بجمع الحديث الصحيح مع شدة الاحتياط وزيادة التثبت.
تلاميذه:(4/212)
وللإمام مسلم تلاميذ كثيرون سمعوا منه، كما في تهذيب التهذيب منهم: أبو الفضل أحمد بن سلمة وإبراهيم بن أبي طالب وأبو عمرو الخفاف وحسين بن محمد القباني وأبو عمرو المستملي وصالح بن محمد الحافظ وعلي بن الحسن الهلالي ومحمد بن عبد الوهاب الفراء - وهما من شيوخه - وعلي بن الحسين بن الجنيد وابن خزيمة وابن صاعد ومحمد بن عبد بن حميد وغيرهم.
وروى عنه الترمذي في جامعه حديثا واحدا أخرجه في كتاب الصيام باب ما جاء في إحصاء هلال شعبان لرمضان فقال: حدثنا مسلم بن حجاج حدثنا يحي بن يحي حدثنا أبو معاوية عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أحصوا هلال شعبان لرمضان".
قال العراقي -كما نقله عنه المباركفوري في تحفة الأحوذي-: "لم يرو المصنف في كتابه شيئا عن مسلم صاحب الصحيح إلا هذا الحديث، وهو من رواية الأقران فإنهما اشتركا في كثير من شيوخهما". وقد أشار إليه الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب وقال: "ما له في جامع الترمذي غيره". وقال الخزرجي في خلاصة تهذيب الكمال: "وعنه الترمذي فرد حديث". انتهى.
وقد رمز في الخلاصة وتهذيب التهذيب وتقريبه عند الترجمة لمسلم لكونه من رجال الترمذي وذلك من أجل هذا الحديث الواحد الذي أخرجه عنه.
نماذج من ثناء العلماء عليه رحمه الله:(4/213)
تحدث العلماء عن فضل الإمام مسلم واعترفوا له بقوة المعرفة وعلو المنزلة. قال فيه شيخه محمد بن عبد الوهاب الفراء: "كان مسلم من علماء الناس وأوعية العلم ما علمته إلا خيرا". وقال ابن الأخرم: "إنما أخرجت مدينتنا هذه من رجال الحديث ثلاثة هم: محمد بن يحي وإبراهيم بن أبي طالب ومسلم". وقال ابن عقدة: "قلما يقع الغلط لمسلم في الرجال لأنه كتب الحديث على وجهه". وقال أبو بكر ابن الجارودي: "حدثنا مسلم بن الحجاج وكان من أوعية العلم". وقال مسلمة بن قاسم: "ثقة جليل القدر من الأئمة". وقال ابن أبي حاتم: "كتبت عنه، وكان ثقة من الحفاظ له معرفة في الحديث وسئل عنه أبي فقال صدوق"، وقال بندار: "الحفاظ أربعة أبو زرعة ومحمد بن إسماعيل والدارمي ومسلم". وقال إسحاق بن منصور لمسلم: "لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين". وقال أحمد بن سلمة: "رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما". وقال النووي: "وأجمعوا على جلالته وإمامته وعلو مرتبته وحذقه في هذه الصنعة وتقدمه فيها وتضلعه منها". وقال أيضا: "واعلم أن مسلما رحمه الله أحد أعلام أئمة هذا الشأن وكبار المبرزين فيه وأهل الحفظ والإتقان والرحَّالين في طلبه إلى أئمة الأقطار والبلدان والمعترف له بالتقدم فيه بلا خلاف عند أهل الحذق والعرفان والرجوع إلى كتابه والمعتمد عليه في كل زمان".
وقال الذهبي في العبر: "أبو الحسين النيسابوري الحافظ أحد أركان الحديث".
مؤلفاته:
قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات: "وصنَّف مسلم رحمه الله كتبا كثيرة.
1- منها هذا الكتاب الصحيح الذي مَنَّ الله الكريم -وله الحمد والنعمة والفضل والمنة- به على المسلمين أبقى لمسلم به ذكرا جميلا وثناء حسنا إلى يوم الدين مع ما أعد له من الأجر الجزيل في دار القرار وعم نفعه المسلمين قاطبة.
2- ومنها الكتاب المسند الكبير على أسماء الرجال.(4/214)
3- وكتاب الجامع الكبير على الأبواب.
4- وكتاب العلل.
5- وكتاب أوهام المحدثين.
6- وكتاب التمييز.
7- وكتاب من ليس له إلا راو واحد.
8- وكتاب طبقات التابعين.
9- وكتاب المخضرمين. وغير ذلك". انتهى.
وذكر الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ نقلا عن الحاكم عشرين مؤلفا لمسلم هي بالإضافة إلى ما تقدم:
10- كتاب الأسماء والكنى.
11- كتاب الأفراد.
12- كتاب الأقران.
13- كتاب سؤالات أحمد بن حنبل.
14- كتاب حديث عمرو بن شعيب.
15- كتاب الانتفاع بأهب السباع.
16- كتاب مشايخ مالك.
17- كتاب مشائخ الثوري.
18- كتاب مشائخ شعبة.
19- كتاب أولاد الصحابة.
20- كتاب أفراد الشاميين.
مهنته:
وكان الإمام مسلم رحمه الله بزازا كما في تهذيب التهذيب. وقال الذهبي في كتابه العبر: "وكان صاحب تجارة وكان محسن نيسابور وله أملاك وثروة".
عناية العلماء بترجمته ونقل أخباره رحمه الله:
وقد عنى الكاتبون في التاريخ وترجم الرجال بترجمة الإمام مسلم رحمه الله وتحدثوا عنه بما هو حقيق به من ثناء جميل وذكر حسن، وعلى سبيل المثال أذكر عشرة من أصحاب المؤلفات الذين توَّجوا مؤلفاتهم بترجمة الإمام مسلم رحمه الله مع ذكر تاريخ وفياتهم واسم الكتاب المطبوع المشتمل على ترجمة الإمام مسلم وعدد صفحات الترجمة في كل كتاب وتعيين الصفحة الأولى منها. أذكر ذلك تسهيلا لمن يريد الوقوف على بعض ما كتب هذا الإمام الذي خلَّد الله ذكره بما وفقه له من تدوين الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وذلك في الجدول المبيَّن في الصفحة التالية.
اسم المؤلف
تاريخ وفاته
اسم الكتاب
عدد صفحات الترجمة
الصفحة
تاريخ الطبع ومكانه
1ـ الخطيب البغدادي
463هـ
تاريخ بغداد
4
100جزء13
1349هـ مصر(4/215)
2ـ القاضي محمد بن أبي يعلى
526هـ
طبقات الحنابلة
2
337 جزء 1
مطبعة السنة المحمدية بمصر
3ـ الإمام النووي
676هـ
تهذيب الأسماء واللغات
3
89 جزء2
الطبعة المنيرية بمصر
4ـ ابن خلكان
671هـ
وفيات الأعيان
2
280 جزء 4
1367هـ مصر
5ـ الحافظ الذهبي
748هـ
تذكرة الحفاظ
2
165 جزء2
حيدر آباد بالهند
6ـ ابن كثير
774هـ
البداية والنهاية
2
33 جزء 11
مطبعة السعادة بمصر
7ـابن حجر العسقلاني
852هـ
تهذيب التهذيب
2
126 جزء10
1326هـ حيدر آباد بالهند
8ـ العليمي الحنبلي
928هـ
المنهج الأحمد
1
146 جزء1
1383هـ مصر
9ـ ابن العماد الحنبلي
1089هـ
شذرات الذهب
1
144 جزء2
1350هـ مصر
10ـ صديق حسن خان
1307هـ
التاج المكلل
2
130 جزء 00
1382هـ الهند
وفاته ومدة عمره:
توفي الإمام مسلم رحمه الله عشية يوم الأحد ودفن يوم الاثنين لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين. دفن بنصر أباد ظاهر نيسابور، ومدة عمره قيل خمس وخمسون سنة وقيل سبعون وخمسون رحمه الله.
سبب تأليفه:(4/216)
ذكر الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه سبب تأليفه هذا الكتاب المبارك وملخصه أن شخصا رغب تعرف جملة الأخبار المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنن الدين وأحكامه وما كان منها في الثواب والعقاب والترغيب والترهيب وغير ذلك من صنوف الأشياء بالأسانيد التي بها نقلت وتداولها أهل العلم فيما بينهم وسأل الإمام مسلما تلخيصها له في التأليف بلا تكرار يكثر ليتمكن من التفهم فيها والاستنباط منها، ولأهمية هذا المطلوب وما يترتب عليه من منفعة موجودة وعاقبة محمودة له خصوصا وللمسلمين عموما أقدم على جمع هذه الدرر خالصة نقية من الشوائب وزاده رغبة في القيام بهذه المهمة الجليلة ما رآه من بعض العلماء من نشر الأخبار الضعيفة وعدم التمييز بين السليم والسقيم وما ينجم عن ذلك من أضرار لا سيما على العوام الذين لا يدركون الفرق بينها.
قال رحمه الله: "وبعد، يرحمك الله فلولا الذي رأينا من سوء صنيع كثير ممن نصب نفسه محدثا فيما يلزمهم من طرح الأحاديث الضعيفة والروايات المنكرة وتركهم الاقتصار على الأحاديث الصحيحة المشهورة مما نقله الثقات المعرفون بالصدق والأمانة بعد معرفتهم وإقرارهم بألسنتهم أن كثيرا مما يقذفون به إلى الأغبياء من الناس ومستنكر ومنقول عن قوم غير مرضيين ممن ذم الرواية عنهم أئمة أهل الحديث، مثل مالك بن أنس وشعبة بن الحجاج وسفيان عيينة ويحي بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم من الأئمة لما سهل علينا الانتصاب لما سألت عن التمييز والتحصيل ولكن من أجل ما أعلمناك من نشر القوم الأخبار المنكرة بالأسانيد الضعاف المجهولة وقذفهم بها إلى العوام الذين لا يعرفون عيوبها خف على قلوبنا إجابتك إلى ما سألت".
مدى عنايته في تأليفه:(4/217)
قال الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه: "وأعلم وفقك الله تعالى أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها وثقات الناقلين لها من المتهمين أن لا يروى منها إلا ما عرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه وأن ينقى منها ما كان منها عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع". انتهى.
هذه الحقيقة التي أثبتها الإمام مسلم في مقدمة صحيحه وأرشد إليها هي المنهج الذي سلكه في تأليف صحيحه فقد بذل وسعه وشغل وقته في جمعه وترتيبه، ومن الأدلة على ذلك ما جاء عنه وعن غيره مما يوضح ذلك.
فروى الخطيب البغدادي بإسناده إلى محمد الماسرجسي قال: سمعت مسلم بن الحجاج يقول: "صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة".
وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ: "قال ابن الشرقي سمعت مسلما يقول: "ما وضعت في كتابي هذا المسند إلا بحجة وما أسقطت منه شيئا إلا بحجة".
وقد مكث في تأليف هذا الكتاب المبارك خمسة عشرة سنة قضاها في التحري والتثبت والعناية التامة بهذا المصدر الأساسي لمعرفة الحديث الصحيح جمعا وترتيبا وساعده في كتابته بعض تلاميذه طوال هذه المدة.
قال أحمد بن سلمة تلميذ الإمام مسلم-كما في تذكرة الحفاظ-: "كتبت مع مسلم رحمه الله في صحيحه خمس عشرة سنة وهو اثنا عشر ألف حديث".
ولم يكتف الإمام مسلم رحمه الله بما بذله من جهود عظيمة في تأليفه بل أخذ في عرضه على جهابذة المحدثين واستشارتهم فيه، فقد نقل النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم عن مكي بن عبدان أحد حفاظ نيسابور قوله:(4/218)
"سمعت مسلما يقول: "عرضت كتابي هذا على أبي زرعة الرازي فكل ما أشار أن له علة تركته وكل ما قال إنه صحيح وليس له علة خرجته"، وهذا من الإمام مسلم رحمه الله غاية في الاحتياط والتثبت من جهة وفي التواضع وقصد الصواب من جهة أخرى، ونتيجة لهذه العناية التامة التي تجلَّت في تلك الأدلة انشرح صدر الإمام مسلم لهذا النتاج القيم وارتاحت نفسه لذلك فأخذ يرغب الناس فيه ويؤكد أنه عمدة يعوَّل عليه في معرفة الصحيح من الأخبار يتضح ذلك مما نقله النووي عن مكي بن عبدان أيضا حيث قال: "سمعت مسلم بن الحجاج يقول: "لو أن أهل الحديث يكتبون مائتي سنة الحديث فمدارهم على هذا المسند"ـ يعني صحيحه.
منزلته بين كتب السنة:
صحيح مسلم يأتي في الدرجة الثانية بعد صحيح البخاري فهو ثاني كتابين هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى. قال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم: "
وأصح مصنف في الحديث بل في العلم مطلقا الصحيحان للإمامين القدوتين أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري وأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري رضي الله عنهما، فلم يوجد لهما نظير في المؤلفات". وقال أيضا: "اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة". انتهى.
هذه هي منزلة صحيح مسلم بين كتب السنة فهو في أعلى درجات الصحيح لا يتقدمه في ذلك سوى صحيح البخاري، ونقل عن أبي علي النيسابوري شيخ الحاكم قوله: "ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم بن الحجاج.."وقد يفهم من هذه العبارة تقديمه على صحيح البخاري وذلك خلاف ما صرح به العلماء من ترجيح صحيح البخاري عليه لتوفر أسباب الترجيح فيه وقد أجيب عن هذه العبارة بثلاثة أجوبة:
الأول:(4/219)
للحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ قال بعد ذكر عبارة أبي علي النيسابوري هذه: "قلت: لعل أبا علي ما وصل إليه صحيح البخاري"واستبعد هذا الحافظ بن حجر في مقدمة فتح الباري
الثاني:
لجماعة منهم أبو عمرو بن الصلاح في كتابه علوم الحديث أن ذلك محمول على سرد الصحيح فيه دون أن يمزج بمثل ما في صحيح البخاري مما ليس على شرطه، ولا يحمل على الأصحية.
الثالث:
للحافظ ابن احجر في شرحه لنخبة الفكر وحاصله أن عبارة أبي علي هذه تقتضي أن صحيح مسلم في أعلى درجات الصحيح وأنه لا يفوقه كتاب، أما أن يساويه كتاب كصحيح البخاري فذلك لا تنفيه هذه العبارة.
والحاصل أن صحيح مسلم في قمة الصحيح بعد صحيح البخاري كما صرح بذلك أهل العلم ولم يفصح أحد بترجيح صحيح مسلم على صحيح البخاري فيما يتعلق بالصحة.
ثناء العلماء عليه وتلقيهم له ولصحيح البخاري بالقبول:
لقي صحيح البخاري وصحيح مسلم قبولا لم يحصل لكتاب آخر وذلك نتيجة للعناية التامة التي بذلها الشيخان في هذين الكتابين الجليلين من التثبت والاحتياط في تجريد الصحيح من غيره فلا عجب إذا انطلقت الألسنة بالإشادة بشأنهما وإبراز ما لهما من خصائص ومزايا وقد ذكرت بعض النقول في ذلك في المقال السابق عن الإمام البخاري وكتابه الجامع الصحيح.
وأذكر هنا بعض ما يتعلق في صحيح مسلم:(4/220)
قال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم: "ومن حقق نظره في صحيح مسلم رحمه الله واطلع على ما أودعه في أسانيده وترتيبه وحسن سياقه وبديع طريقته من نفائس التحقيق وجواهر التدقيق وأنواع الورع والاحتياط والتحري في الرواية وتلخيص الطرق واختصارها وضبط متفرقها وانتشارها وكثرة إطلاعه واتساع روايته وغير ذلك مما فيه من المحاسن والأعجوبات واللطائف الظاهرات والخفيَّات علم أنَّه إمام لا يلحقه من بَعُد عصره وقل من يساويه بل يدانيه من أهل وقته ودهره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم".
وقال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب: "قلت: حصل لمسلم في كتابه حظ عظيم مفرط لم يحصل لأحد مثله ٍبحيث أن بعض الناس كان يفضله على صحيح محمد بن إسماعيل وذلك لما اختص به من جمع الطرق وجودة السياق والمحافظة على أداء الألفاظ من غير تقطيع ولا رواية بمعنى وقد نسج على منواله خلق من النيسابوريين فلم يبلغوا شأوه وحفظت منهم أكثر من عشرين إماما ممن صنف المستخرج على مسلم، فسبحان المعطي الوهاب".
مقدمة صحيح مسلم:
وقد وضع الإمام مسلم رحمه الله بين يدي صحيحه مقدمة قيمة عظيمة الشأن جليلة القدر تنبئ عن جلالة قدر واضعها وحسن نيته وحرصه على تدوين السنة النبوية نقية من الشوائب وقد صدَّر هذه المقدمة ببيان السبب الباعث له على تأليفه هذا الكتاب وإن أصل ذلك سؤال وقد زاده رغبة في الإجابة عليه ما رآه من قيام بعض العلماء بجمع الحديث دون تمييز بين صحيح وضعيف ثم أوضح أنه لا يصير إلى التكرار في ذكر الحديث إلا لحاجة من زيادة معنى في متن أو فائدة اسنادية، ثم ذكر أنه يعنى أولا وقبل كل شيء بذكر رواية أهل الضبط والاتقان ثم يتبعها برواية من هم أقل من أولئك ممن يشملهم اسم الستر والصدق وتعاطي العلم، ثم ذكر أن ما كان من الأخبار عن قوم متهمين أو كان الغالب على حديثهم المنكر والغلط لا يعبا به ولا يعرج عليه.(4/221)
ثم عقب ذلك بذكر وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين والتحذير من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتغليظ فيه، وساق الأدلة على ذلك ثم أورد الأدلة على النهي عن الحديث بكل ما سمع وعلى النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها، ويلي ذلك كلامه عن الإسناد وأنه من الدين وأن الرواية لا تكون إلا عن الثقات وإن جرح الرواة بما هو فيهم جائز بل واجب، وإنه ليس من الغيبة المحرمة بل من الذب عن الشريعة المكرمة، وأفاض في ذكر الأدلة والنقول عن المحدثين في ذلك. وختم هذه المقدمة بالكلام على صحة الحديث المعنعن، وأوضح أن المبحث الذي عليه المحدثون الاكتفاء بمعاصرة الراوي لمن يروي عنه دون اشتراط معرفة تلاق بينهما ما لم يكن الذي روى بالعنعنة مدلسا وأكثر من لوم من يشترط ذلك.
ولا شك أن من اشترط التلاقي بين الراوي ومن روى عنه كالبخاري مثلا قد أخذ في الاحتياط وزيادة التثبت واشتراطه ذلك يرفع من شأن كتابه، وأن من لم يشترط ذلك كالإمام مسلم لا يحط ذلك من شأن كتابه ولا يقدح فيه، وإنما هو التفاوت في درجات الصحة ومن أجل هذا ترجح صحيح البخاري على صحيح مسلم.
تبويبه:(4/222)
لما قام الإمام مسلم رحمه الله بجمع كتابه الجامع الصحيح راعى في جمعه أن تكون كل مجموعة من الأحاديث تتعلق في موضوع واحد على حدة، لكنه لم يضع لها تراجم أبواب كما صنع الإمام البخاري في صحيحه، وهو في الحقيقة في حكم المبوَّب وإنما فعل ذلك مسلم والله أعلم لئلا يزيد بها حجم الكتاب من جهة وليشحذ القارئ ذهنه في استنباط الترجمة من جهة أخرى، قال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم: "ثم إن مسلما رحمه الله رتب كتابه على أبواب فهو في حكم المبوَّب في الحقيقة ولكنه لم يذكر تراجم الأبواب فيه لئلا يزداد بذلك حجم الكتاب أو لغير ذلك"، ثم قال: "قلت: وقد ترجم جماعة أبوابه بتراجم بعضها جيِّد وبعضها ليس بجيِّد إما لقصور في عبارة الترجمة وإما لركاكة لفظها وإما لغير ذلك وأنا إن شاء الله أحرص على التعبير عنها بعبارات تليق بها في مواطنها والله أعلم".
عدد أحاديثه:
ذكر النووي في التقريب أن عدة أحاديث صحيح مسلم نحو أربعة آلاف بإسقاط المكرَّر وقال العراقي في نكته على بن الصلاح: "ولم يذكر - يعني النووي - عدته بالمكرر وهو يزيد على عدة كتاب البخاري لكثرة طرقه وقد رأيت عن أبي الفضل أحمد بن سلمة أنه اثنا عشر ألف حديث". انتهى. وقد عد أحاديثه الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي من المعاصرين وبلغت عنده بدون المكرَّر ثلاثة آلاف وثلاثة وثلاثين حديثا وقال: "وهو عمل ما سبقني إليه أحد من جميع المشتغلين بهذا الصحيح إذ كان جلُّ جهدهم أن يطلقوا عددا ما ورقما تخمينا وارتجالا لا يرتكز على أساس سليم، فجئت أنا بهذا الحصر كي أضع حدا حاسما فاصلا لهذا الاضطراب والبلبلة ولله الحمد".
شرط مسلم فيه:
نقل النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم عن بن الصلاح أنه قال: "شرط مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه أن يكون الحديث متصل الإسناد بنقل الثقة عن الثقة من أوله إلى منتهاه سالما من الشذوذ والعلة". انتهى.(4/223)
وقال الحافظ بن حجر في شرحه لنخبة الفكر في أثناء تعداد مراتب الصحيح: "ثم يقدم في الأرجحية من حيث الأصحية ما وافقه شرطهما لأن المراد به رواتهما مع باقي شروط الصحيح". انتهى.
ويتضح من مقدمة صحيحه أنه يقسم الأحاديث ثلاثة أقسام:
الأول: ما رواه الحفاظ المتقنون.
والثاني: ما رواه المستورون المتوسطون في الحفظ والإتقان.
والثالث: ما رواه الضعفاء والمتروكون وأنه إذا فرغ من القسم الأول أتبعه الثاني.
وأما الثالث فلا يعرج عليه كما نص في آخر مقدمة صحيحه على اكتفائه بمعاصرة الراوي لمن يروي عنه إذا روى بالعنعنة ما لم يكن الراوي بالعنعنة موصوفا بالتدليس.
التعليقات في صحيح مسلم:
التعليق هو حذف راوٍ أو أكثر من أول السند ولو إلى آخر الإسناد وهو كثير في صحيح البخاري بخلاف صحيح مسلم فإنه قليل جدا بلغت جملته فيه أربعة عشر موضعا ذكرها النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم. وقال نقلا عن أبي عمرو بن الصلاح: "وليس شيء من هذا والحمد لله مُخرِجا لما وجد فيه من حيز الصحيح بل هي موصولة من جهات صحيحة لا سيما ما كان منها مذكورا على وجه المتابعة ففي نفس الكتاب وصلها فاكتفى بكون ذلك معروفا عند أهل الحديث".
ثناء العلماء على الرواة المخرَّج لهم في صحيح مسلم وانتقاد بعض الحفاظ بعضهم والجواب على ذلك:
قال الحافظ ابن حجر في شرحه لنخبة الفكر: "ورواتهما ـ يعني الصحيحين ـ قد حصل الاتفاق على القول بتعديلهم بطريق اللزوم فهم مقدمون على غيرهم في رواياتهم، وهذا أصل لا يخرج عنه إلا بدليل"، وقال في مقدمة الفتح: "وقد كان الشيخ أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل الذي خرج عنه في الصحيح: هذا جاز القنطرة، يعني بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه".
وقد تكلم في بعض الرواة الذين خرج لهم مسلم وعدتهم مائة وستون رجلا وذلك الكلام لا يقدح في صحيحه ولا يحط من شأنه لأنه:(4/224)
أولا ـ قد يكون القدح غير مؤثر.
قال الخطيب البغدادي كما في مقدمة شرح صحيح مسلم للنووي: "ما احتج البخاري ومسلم به من جماعة عُلِمَ الطعن فيهم من غيرهم محمول على أنه لم يثبت الطعن المؤثر مفسَّر السبب"، وقال الذهبي في جزء جمعه في الثقات الذين تكلم فيهم بما لا يوجب ردهم ما نصه:
"وقد كتبت في مُصَنَفِي الميزان عددا كثيرا من الثقات الذين احتج البخاري ومسلم وغيرهما بهم لكون الرجل منهم قد دُوِّنَ اسمه في مصنفات الجرح وما أوردتهم لضعف فيهم عندي بل ليعرف ذلك وما زال يمرُّ بي الرجل الثبت وفيه مقال من لا يعبأ به ... "إلى آخر كلامه رحمه الله.
ثانيا ـ وإن كان القدح مؤثرا حمل الإخراج عنه في الصحيح على:
1- أن يكون ذلك واقعا في المتابعات والشواهد لا في الأصول. قال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم نقلا عن ابن الصلاح: "وذلك بأن يذكر الحديث أولا بإسناد نظيف رجاله ثقات ويجعله أصلا ثم يتبعه بإسناد آخر أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة أو لزيادة فيه تنبه على فائدة فيما قدمه".
2- أن يكون ضعف الرجل المحتج به في الصحيح طارئا عليه بعد أن أخذ صاحب الصحيح عنه كالاختلاط فروايته عنه زمن استقامته لا يؤثر فيها ما طرأ عليه من الاختلاط.
3- أن يكون صاحب الصحيح تجنب ما أنكر على الرجل المتكلم فيه. قال الحافظ ابن حجر في الفتح في شرحه لحديث إعادة النبي صلى الله عليه وسلم الكلمة ثلاثا لتفهم عنه قال: "وقد تقرر أن البخاري حيث يخرج لبعض من فيه مقال لا يخرج شيئا مما أنكر عليه". انتهى. ومثله مسلم في ذلك وقال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم: "واعلم أن ما كان في الصحيحين عن المدلسين بعن ونحوها فمحمول على ثبوت السماع من جهة أخرى وقد جاء كثير منه في الصحيح بالطريقين جميعا".
انتقاد الحفاظ بعض الأحاديث في صحيح مسلم والجواب عن ذلك:(4/225)
ذكر ابن حجر في مقدمة الفتح أن الدارقطني وغيره من الحفاظ انتقدوا على الصحيحن مائتين وعشرة أحاديث اشتركا في اثنين وثلاثين حديثا وانفرد البخاري عن مسلم بثمانية وسبعين حديثا، وانفرد مسلم عن البخاري بمائة حديث، وقد تولى الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح الإجابة عن الانتقاد الموجه إلى الأحاديث التي اشتركا فيها والأحاديث التي انفرد بها البخاري عن مسلم وعدتها مائة وعشرة أحاديث.
أما الأحاديث التي انفرد بها مسلم فقد أجاب عنها النووي في شرحه لصحيح مسلم في مواضعها وأكثرها الانتقاد فيه غير مسلم والإيراد عليه غير وارد، وما لا جواب عنه منها نزر يسير لا يعد شيئا في جنب الآلاف من الأحاديث الصحيحة التي اشتمل عليها صحيحه.
وهذه الانتقادات القليلة التي توصل إليها جهابذة النقاد مع أن أكثرها غير وارد إن دلت على شيء فإنما تدل على عظم شأن هذا الكتاب المبارك وأنه في أعلى درجات الصحيح، وتدل على جلالة قدر جامعه وشدة احتياطه وتحريه وأنه وفق فيما قصد إليه من جمع لصحيح نقيا خالصا، فإن تصدى الإمام الدارقطني وغيره من النقاد وتتبعهم الصحيح حديثا حديثا وهم من هم في دقة الإدراك وسعة الاطلاع ثم تكون نهاية المطاف ونتيجة التمحيص والتنقيب على هذا الوصف.
أقول إن ذلك يعطي الدليل الواضح على عظم قدره وعلو منزلته، وتلك شهادة من فرسان هذا الميدان على أنه بالمكان الأعلى والوصف الأسمى، وذلك يوضِّح لنا أيضا السرَّ في إقبال العلماء عليه وتلقيهم له ولصحيح البخاري بالقبول.
عناية العلماء بصحيح مسلم:(4/226)
وكما اعتنى علماء الأمة الإسلامية بصحيح البخاري الذي هو أصح كتاب بعد كتاب الله عز وجل فقد كانت عنايتهم عظيمة بصحيح مسلم الذي هو أصح كتاب يليه. فقد شرحه شارحون واختصره مختصرون وألف في رجاله مؤلفون واستخرج عليه مستخرجون، وعنايتهم بهذين الكتابين جاءت على قدر منزلة كل منهما، فهي بالنسبة لصحيح البخاري بالدرجة الأولى وبالنسبة لصحيح مسلم بالدرجة الثانية، فالكتب التي ألفت في صحيح مسلم كثيرة وأكثر منها المؤلفات المتعلقة بصحيح البخاري، ومع كثرة شروح صحيح مسلم ليس فيها ما يقرب من الكتاب العظيم الذي وفق الله لوضعه الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح البخاري الذي أسماه ((فتح الباري)) وأشهر شروحه وأكثرها رواجا في هذا العصر شرح الإمام النووي وهو شرح يغلب عليه الاختصار، وأكثر عنياته فيه في ضبط الألفاظ والتنبيه على لطائف الإسناد مع الإشارة إلى بيان فقه الحديث أحيانا.
وممن عني بصحيح مسلم عناية تامة من المعاصرين الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي، فقد بذل جهدا مشكورا في ترقيمه وتنويع فهارسه حتى كان الوصول إلى المطلوب فيه سهلا ميسورا لا يحوج الناظر إلى عناء ومشقة وخصص لهذه الفهارس مجلدا حافلا بأنواع شتى من الوسائل المؤدية إلى الوقوف على ما في هذا الكتاب المبارك بيسر وسهولة.
وقد طبع صحيح مسلم في أربع مجلدات وتلك الفهارس في مجلد، وما أحوج طالب العلم إلى اقتناء هذه الفهارس التي هي في الحقيقة مفتاح لصحيح مسلم.
خصائص صحيح مسلم والموازنة بينه وبين صحيح البخاري:
ينفرد صحيح مسلم بخصائص يتميز بها عن صحيح البخاري، ويوجد في صحيح البخاري من الخصائص والميزات ما لا يشاركه صحيح مسلم فيه ويتفقان في أمور ترفع من شأن الكتابين معا ويسموان بها إلى منتهى الصحة والإجادة والإتقان ونشير فيما يلي إلى نماذج من ذلك:-(4/227)
فيتفقان في أنهما معا في أعلى درجات الصحيح مع تفوق صحيح البخاري على صحيح مسلم في ذلك.
ويتفقان في أن العلماء تلقوهما بالقبول واعتبروهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز. ويتفقان في أن مؤلفيهما رحمهما الله سلكا في تأليفهما طرقا بالغة في الاحتياط والتثبت مع الأمانة التامة في العزو، ومن أمثلة ذلك أنهما يتقيدان غاية التقيد فيما يتلقيانه من شيوخهما في الأسانيد والمتون، وإذا كان الأمر يستدعي إيضاحا وبيانا قاما بذلك على وجه يتميز به ذلك. وقد عقد النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم فصلا خاصا بذلك قال فيه: "ليس للراوي أن يزيد في نسب غير شيخه ولا صفته على ما سمعه من شيخه لئلا يكون كاذبا على شيخه، فإن أراد تعريفه وإيضاحه وزوال اللبس المتطرق إليه لمشابهة غيره فطريقه أن يقول: قال حدثني فلان. يعني ابن فلان.. أو.. الفلاني.. أو.. هو ابن فلان.. أو.. الفلاني.. أو نحو ذلك فهذا جائز حسن قد استعمله الأئمة وقد أكثر البخاري ومسلم منه في الصحيحين غاية الإكثار حتى أن كثيرا من أسانيدهما يقع في الإسناد الواحد منها موضعان أو أكثر".
وينفرد صحيح مسلم بجمع طرق الحديث في مكان واحد غالبا مما جعل الوقوف على المطلوب فيه سهلا ميسورا. وإنما قلت - غالبا - لأنه قد وقع فيه ذكر بعض الأحاديث في أكثر من موضع.
وهذه الميزة لا توجد في صحيح البخاري إلا أنه وجد فيه بدلا منها ميزة كبرى وهي إيضاح ما اشتملت عليه الأحاديث من الفوائد الفقهية مع دقة الاستنباط وبألخص عبارة مما جعل صحيحه كتاب رواية ودراية معا. ومن أجل تحصيل هذا المطلب العظيم عمد البخاري رحمه الله إلى تفريق الحديث وتكرراه في أكثر من موضع مستدلا به في كل موضع بما يناسبه.(4/228)
وينفرد صحيح مسلم بأن مسلما رحمه الله إذا أسند الحديث فيه إلى جماعة من شيوخه عيَّن من له اللفظ منهم غالبا، فيقول: "حدثنا فلان وفلان واللفظ لفلان"أو قال: "فلان حدثنا فلان"ومن أمثلة ذلك قوله في باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر: حدثنا يحي بن أيوب وقتيبة بن سعيد وعلي بن حجر كلهم عن إسماعيل.
قال ابن أيوب حدثنا إسماعيل بن جعفر. وقوله في باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء: حدثنا سويد بن سعيد وابن أبي عمر جميعا عن مروان الفزاري، قال ابن أبي عمر: حدثنا مروان، وقوله في الحديث الذي يليه: وحدثنا أبو كريب وواصل بن عبد الأعلى واللفظ لواصل قالا حدثنا ابن فضيل. وقوله في باب الاستنجاء بالماء من التبرز: وحدثني زهير بن حرب وأبو كريب واللفظ لزهير حدثنا إسماعيل يعني ابن علية.
أما الإمام البخاري فقد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري عند الكلام على حديث جابر بن عبد الله في الخمس الذي أوتيها صلى الله عليه وسلم وهو الحديث الثاني في كتاب التيمم من صحيح البخاري ذكر الحافظ أنه إذا روى الحديث عن غير واحد فاللفظ للأخير، قال رحمه الله: "وقد ظهر بالاستقراء من صنيع البخاري أنه إذا أورد الحديث عن غير واحد فإن اللفظ يكون للأخير والله أعلم".
وينفرد صحيح مسلم بأن مسلما رحمه الله صدَّره بمقدمة اشتملت على جمل من علوم الحديث وقد تقدم بيان ما تضمنته على سبيل الإجمال، أما الإمام البخاري فلم يضع بين يدي صحيحه مقدمة بل افتتحه ببدأ الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وينفرد صحيح مسلم بكثرة استعمال التحويل في الأسانيد وذلك لجمعه طرق الحديث المتعلقة بموضوع معين في موضع واحد ويوجد التحويل في الأسانيد قليلا في صحيح البخاري.(4/229)
وينفر صحيح مسلم بقلة التعليق فيه إذ بلغت جملة ما فيه من ذلك أربعة عشر موضعا كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، وقد أكثر الإمام البخاري من استعماله في صحيحه.
وينفرد صحيح مسلم بأن مسلما رحمه الله اقتصر فيه على الأحاديث المسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أقوال الصحابة وغيرهم بخلاف البخاري رحمه الله فقد أورد أقوالهم ومعلوم أنها ليست من شرط كتابه وإنما ذلك للإيضاح والبيان لأنه يجمع في كتابه بين الرواية والدراية.
ليس كل الصحيح موجودا في الصحيحين وحدهما:
صحيح البخاري وصحيح مسلم اشتملا على قدر كبير من الحديث الصحيح، وهذا القدر الذي اشتملا عليه ليس هو كل شيء في الحديث الصحيح، فإن الصحيح كما أنه موجود فيهما فهو موجود خارجهما في الكتب المؤلفة في الحديث النبوي كالموطأ وصحيح ابن خزيمة وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم وجامع الترمذي وسنن أبي داود والنسائي وابن ماجه والدارمي والدارقطني والبيهقي وغيرها. وهو أمر واضح غاية الوضوح فلم ينقل عن البخاري ومسلم أنهما استوعبا الصحيح في صحيحهما أو قصدا استيعابه وإنما جاء عنهما التصريح بخلاف ذلك. قال أبو عمرو ابن الصلاح في كتابه علوم الحديث: "لم يستوعبا - يعني البخاري ومسلما - الصحيح في صحيحهما ولا التزما ذلك، فقد روينا عن البخاري أنه قال: "ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح وتركت من الصحيح لحال الطول". وروينا عن مسلم أنه قال: "ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا - يعني في كتابه الصحيح - إنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه ... "وقال الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري: "روى الإسماعيلي عنه ـ يعني البخاري ـ قال: "لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيح وما تركت من الصحيح أكثر".(4/230)
وقال النووي في مقدمة شرحه لصحيح مسلم بعد أن ذكر التزام جماعة لهما إخراج أحاديث على شرطيهما لم يخرجاها في كتابيهما قال: "وهذا الإلزام ليس بلازم في الحقيقة فإنهما لم يلتزما استيعاب الصحيح بل صح عنهما تصريحهما بأنهما لم يستوعباه وإنما قصدا جمع جمل من الصحيح كما يقصد المصنف في الفقه جمع جمل من مسائله لا أنه يحصر جميع مسائله"انتهى.
ومما يوضح عدم استيعاب البخاري الصحيح وعدم التزامه بذلك أيضا أنه جاء عن البخاري أنه قال: "أحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي حديث غير صحيح". مع أن جملة ما في صحيحه من الأحاديث المسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما في ذلك الأحاديث المعلقة لا تبلغ عشرة آلاف حديث. وأيضا استدراك الحاكم على البخاري ومسلم أحاديث على شرطيهما أو شرط واحد منهما لم يخرجاها وهي أحاديث كثيرة جدا، وأيضا فإن العلماء قسموا الصحيح إلى سبع مراتب مرتبة حسب القوة على النحو التالي:
1- صحيح اتفقا على إخراجه البخاري ومسلم.
2- صحيح انفرد بإخراجه البخاري عن مسلم.
3- صحيح انفرد به مسلم عن البخاري.
4- صحيح على شرطهما معا ولم يخرجاه.
5- صحيح على شرط البخاري ولم يخرجه.
6- صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه.
7- صحيح لم يخرجاه ولم يكن على شرطهما معا وعلى شرط واحد منهما.(4/231)
وهذه المراتب السبع للصحيح ذكرها أبو عمرو ابن الصلاح في علوم الحديث والحافظ ابن حجر في شرحه لنخبة الفكر وغيرهما، وليس في الصحيحين في هذه المراتب إلا الثلاث الأولى أما الأربعة الباقية فلا وجود لها إلا خارج الصحيحين ولم يزل من دأب العلماء في جميع العصور الاحتجاج بالأحاديث الصحيحة - بل والحسنة - الموجودة خارج الصحيحين والعمل بها مطلقا واعتبار ما دلت عليه دون إعراض عنهما أو تعرض للحط من شأنها والتقليل من قيمتها، فلا يليق بمسلم يحب الخير لنفسه ودفع الضر عنها أن يتوقف أدنى توقف في أن سبيلهم هذا هو الحق وغيره هو الباطل والضلال المبين {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} .
الحديث المتفق عليه:
يرفع من شأن الحديث كونه مخرجا من أحد الصحيحين فإن كان مخرجا فيهما معا كانت منزلته أعلى وشأنه أكبر وأمره أعظم وهذا النوع هو المرتبة الأولى من المراتب السبع للحديث الصحيح التي مر ذكرها، وقد درج المشتغلون بالسنة من أهل الحديث وغيرهم على التعبير عن هذا النوع بقولهم: "متفق عليه"، أو، "أخرجاه".
ولا أعلم أحد يطلق " متفق عليه " إلا على اتفاق البخاري ومسلم وحدهما ما عدى المجد ابن تيمية جد شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه منتقى الأخبار الذي شرحه الشوكاني في كتابه ((نيل الأوطار)) فإنه يعني بقوله فيه "متفق عليه " اتفاق البخاري ومسلم وأحمد. ويعبر عما رواه الشيخان وحدهما " أخرجاه ".
وكون الحديث المتفق عليه في قمة الصحيح أمر معلوم عند المحدثين. قال أبو عمرو ابن الصلاح في كتابه علوم الحديث بعد أن ذكر مراتب الصحيح السبع المشار إليها.(4/232)
"هذه الأمهات أقسامه وأعلاها الأول وهو الذي يقول فيه أهل الحديث كثيرا "صحيح متفق عليه ". يطلقون ذلك ويعنون به اتفاق البخاري ومسلم لا اتفاق الأمة عليه، لكن اتفاق الأمة عليه لازم وحاصل معه لاتفاق الأمة على تلقي ما اتفقا عليه بالقبول وهذا القسم مقطوع بصحته والعلم اليقيني والنظري واقع به". انتهى.
وقد أُفْرِدَ هذا النوع المتفق عليه بالتأليف وأشمل هذه الكتب وأدقها تحريرا كتاب ((اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان)) للشيخ محمد فؤاد عبد الباقي، ذكر أنه فرغ من جمعه عام 1367هـ وهو مطبوع في ثلاثة مجلدات وقد بلغت أحاديثه 1906 من الحديث المتفق عليه. وقد رتبه على ترتيب صحيح مسلم فيثبت فيه الحديث بلفظ مسلم ويشير إلى أقرب ألفاظ الحديث عند البخاري الذي اتفق فيه مع مسلم إذا كان مكررا فيذكر الكتاب عند البخاري ورقمه والباب الذي فيه الحديث من ذلك الكتاب ورقم الباب.(4/233)
في مناسبات الآيات والسور
المناسبات.. وترتيب الآيات والسور
للشيخ أحمد حسن
المدرس في المعهد الثانوي في الجامعة
الكلام عن المناسبات فرع على الكلام عن (ترتيب الآيات والسور) أهو توقيفي أم اجتهادي؟ ومن هنا كان لابد لنا قبل بيان آراء العلماء في المناسبات من أن نعرض لهذه القضية.
ونبين الوجه الذي تطمئن إليه النفس كما نبين الوجوه الأخرى التي تنير لنا الطريق في مناقشة آراء العلماء في المناسبات وتكشف اللثام عن اختلاف المنازع والاتجاهات، بحيث يكون حكمنا أقرب للصواب وأبعد عن الخطأ.
ترتيب الآيات:
ترتيب الآيات في سورها توقيفي ثابت بالوحي وبأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وبما علم من تلاوته للقرآن بمشهد من الصحابة وعلى كونه توقيفيا، دلت النصوص وانعقد الإجماع، قال السيوطي في بحث ترتيب الآيات ما نصه: "الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك، أما الإجماع فنقله غير واحد منهم الزركشي في البرهان وأبو جعفر بن الزبير في مناسباته وعبارته ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه صلى الله عليه وسلم وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين".
وهذه هي النصوص التي استدل بها السيوطي على أن ترتيب الآيات توقيفي.
1- ما قاله زيد بن ثابت فيما رواه البيهقي والحاكم: "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع"قال البيهقي: "يشبه أن يكون المراد به تأليف ما نزل من الآيات المفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم"0
2- ما أخرجه أبو داوود والنسائي وغيرهما عن عثمان بن عفان أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا".(4/234)
3- روى الإمام أحمد بإسناد حسن عن عثمان بن أبي العاص قال: "كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره ثم صوبه ثم قال: "أتاني جبرائيل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} إلى آخرها".
4- روى البخاري عن عبد الله بن الزبير قال: "قلت لعثمان بن عفان: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} نسختها الآية الأخرى فَلِمَ تكتبها أو تدعها - والمعنى لماذا تكتبها؟ أو قال: "لماذا تتركها مكتوبة مع أنها منسوخة؟ قال: يا ابن أخي لا أغيّر شيئا منه من مكانه".
فقوله: "لا أغير شيئا من مكانه"يدل على أن وضع كل آية في مكانها أمر توقيفي لا مدخل للرأي فيه لذلك لا يجوز تحويل شيء منه عن مكانه.
5ـ روى الشيخان وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه"، وروى مسلم عن أبي الدرداء مرفوعا: "من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال".
وروى مسلم عن عمر قال: "ما سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري تكفيك آية الصيف التي في آخر النساء".
فلولا أنه كان قد وقفهم على ترتيب من قبل لما اعتمد في إرشادهم إلى الآيات المتقدمة على وصفها بأنها أول سورة كذا، أو آخر سورة كذا، إذ كيف تتميز لهم عن غيرها بوصف يكون مجهولا لهم؟(4/235)
6- ما ثبت من قراءته صلى الله عليه وسلم لسور كثيرة بمشهد من الصحابة ففي حديث حذيفة الذي رواه مسلم أنه قرأ في صلاته ذات ليلة البقرة وآل عمران والنساء وفي صحيح البخاري أنه قرأ الأعراف في سورة المغرب. وروى الشيخان أنه كان يقرأ في صبح الجمعة بـ (الم تنزيل) و (هل أتى على الإنسان) وفي صحيح مسلم أنه كان يقرأ (ق في الخطبة، وعند مسلم أنه كان يقرأ في العيد بـ (ق) و (اقتربت) وعنده أيضا أنه كان يقرأ في صلاة الجمعة بـ (الجمعة) و (المنافقون) وفي المستدرك عن عبد الله بن سلام أنه قرأ عليهم سورة الصف حين نزلت حتى ختمها، إلى غير ذلك من سور أخرى ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قرأها بمشهد من الصحابة وما كان لهم أن يختاروا ترتيبا يخالف ما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم [1] فتبين بهذه الأدلة أن الصحابة تلقوا ترتيب الآيات عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن النبي تلقاه عن جبرئيل عن الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في آية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} : "إن جبرئيل أتاني فأمرني أن أضعها في موضعها من سورتها". فتكون جميع الآيات كذلك، إذ لا فرق بين آية وأخرى، وقد صرح جميع العلماء بذلك، وبأنه مجمع عليه كقول القاضي عياض فيما نقله عن الحافظ في الفتح: "لا خلاف أن ترتيب الآيات في كل سورة على ما هي عليه الآن في المصحف من الله تعالى [2] ".
ترتيب السور:(4/236)
الصحيح عند عامة السلف أن ترتيب السور توقيفي بمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم تلقاه عن جبرئيل عليه السلام وتلقاه عنه الصحابة. قال عبد الرحمن بن وهب: "سمعت مالكا يقول: "إنما أُلِّفَ القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم". وقال البغوي في شرح السنة: "والصحابة رضي الله عنهم جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزل الله على رسوله من غير أن يزيدوا أو ينقصوا منه شيئا، خوف ذهاب بعضه بذهاب حفظته، فكتبوه كما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقن أصحابه ويعلمهم ما نزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا، بتوقيف جبرئيل إياه على ذلك وإعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقب كذا في سورة كذا فثبت أن سعي الصحابة كان في جمعه في موضع واحد لا في ترتيبه، فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب، أنزله الله جملة إلى السماء الدنيا، ثم كان ينزله مفرقا عند الحاجة وترتيب النزول غير ترتيب التلاوة. وقال ابن الحصار: "ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنما كان بالوحي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ضعوا آية كذا في موضع كذا". وقد حصل اليقين من النقل المتواتر بهذا الترتيب من تلاوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومما أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف، وقال أبو بكر بن الأنباري في كتاب (الرد على من خالف مصحف عثمان: "إن الله تعالى أنزل القرآن جملة إلى السماء الدنيا، ثم فرقه على النبي صلى الله عليه وسلم في بضع وعشرين سنة وكانت السورة تنزل في أمر يحدث والآية تنزل جوابا لمستخبر يسأل، ويوقف جبرئيل النبي صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآية. فانتظام السور كانتظام الآيات والحروف كله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين عن رب العالمين. فمن أخر سورة مقدمة أو قدم أخرى مؤخرة كمن أفسد نظام الآيات وغيَّر الحروف(4/237)
والكلمات. ولا حجة على أهل الحق في تقديم البقرة على الأنعام، والأنعام نزلت قبل البقرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ عنه هذا الترتيب وهو كان يقول: "ضعوا هذه السورة موضع كذا وكذا من القرآن"وكان جبرئيل عليه السلام يوقفه على مكان الآيات". وقال الكرماني في (البرهان) : "ترتيب السور هكذا هو عند الله في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب وكان صلى الله عليه وسلم يعرض على جبرئيل كل سنة ما كان يجتمع عنده منه. وعرضه عليه في السنة التي توفي فيها مرتين، وكان آخر الآيات نزولا {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} فأمره جبرئيل أن يضعها بين آيتي الربا والدين". وقال العلامة الطيبي: "أنزل القرآن أولا جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثم نزل مفرقا على حسب المصالح، ثم أثبت في المصاحف على التأليف والنظم المثبت في اللوح المحفوظ". وذهب الباقلاني في أحد قوليه وابن فارس إلى أن ترتيب السور باجتهاد من الصحابة، ونسب إلى مالك، ومال ابن عطية في تفسيره إلى أن كثيرا من السور كان قد علم ترتيبها في حياته صلى الله عليه وسلم كالسبع الطوال والحواميم والمفصل وأن ما سوى ذلك يمكن أن يكون قد فوَّض الأمر فيه إلى الأمة بعده. قال الزركشي في "البرهان": "والخلاف بين الفريقين لفظي، لأن القائل بالثاني يقول أنه رمز إليهم بذلك لعلمهم بأسباب نزوله ومواقع كلماته. ولهذا قال مالك: "إنما ألَّفوا القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله بأن ترتيب السوَّر باجتهاد منهم، فآل الخلاف إلى أنه هل هو بتوقيف قولي؟ أو بمجرد إسناد فعلي، بحيث يبقى لهم فيه مجال للنظر".
وقال البيهقي في المدخل: "كان القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرتبا سوره وآياته على هذا الترتيب إلى الأنفال والبراءة، لحديث عثمان"ومال إليه السيوطي وحديث عثمان لا دلالة فيه لما قاله كما سيأتي بحول الله تعالى.(4/238)
قال أبو جعفر النحاس: "المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث واثلة: "أعطيت مكان التوراة السبع الطوال" فهذا الحديث يدل على أن تأليف القرآن مأخوذ عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من ذلك الوقت، وإنما جمع في المصحف على شيء واحد لأنه جاء هذا الحديث بلفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم على تأليف القرآن. قلت: "لفظ حديث واثلة: "أعطيت مكان التوراة السبع الطوال وأعطيت مكان الزبور المئين وأعطيت مكان الإنجيل المثاني وفضلت بالمفصل" رواه أحمد والطبراني، وفي إسناده عمران بن داوود القطان وهو وإن ضعفه يحي بن معين وأبو داوود والنسائي، فقد وثقه عفان ومشاه أحمد، وقال ابن عدي: "هو ممن يكتب حديثه". واحتج به ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم، فهذا الحديث حسن، قال الحافظ بن حجر في (فتح الباري) : "ومما يدل على أنَّ ترتيبها توقيفي ما أخرجه أحمد وأبو داوود عن أوس بن أبي أوس عن حذيفة الثقفي قال::كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف"الحديث. وفيه: "فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طرأ على حزب من القرآن فأردت ألا أخرج حتى أقضيه" فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: "كيف تحزبون القرآن؟ "قالوا: "نحزبه ثلاث سور، وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة سورة وثلاث عشرة سورة وحزب المفصل من (ق) حتى نختم" قال: "فهذا الحديث يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن، كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم". قال: "ويحتمل أن الذي كان مرتبا حينئذ حزب المفصل خاصة بخلاف ما عداه". قلت: هو احتمال بعيد يبطله حديث واثلة.
وفي صحيح مسلم حديث: "إقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران" وفي مصنف ابن أبي شيبة من حديث سعيد بن خالد قال: "قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بالسبع الطوال في كل ركعة".(4/239)
وفي صحيح البخاري عن بن مسعود أنه قال في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: "إنهن من العتاق الأول وهن من تلادي". فذكرها نسقا كما هي في المصحف الآن. قال الحافظ السيوطي: "ومما يدل على أن ترتيب السور توقيفي، كون الحواميم رتبت ولاء، وكذا الطواسين. ولم ترتب المسبحات ولاء، بل فصل بين سورها وفصل بين (طسم الشعراء) و (طسم القصص) بـ (طس) مع أنها أقصر منهما ولو كان الترتيب اجتهاديا لذكرت المسبحات ولاء وأخرت (طس) عن القصص".(4/240)
والخلاصة أن ترتيب السور توقيفي كترتيب الآيات، أما ما رواه أحمد وأصحابه السنن عن ابن عباس قال: "قلت لعثمان: "ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما، ولم تكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال؟ "فقال عثمان: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تنزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: "ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا" وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت بأنها منها، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتهما في السبع الطوال"صححه ابن حبان والحاكم، فهذا لا يدل على أن عثمان رتبهما باجتهاد منه وإنما يدل على أنه ظنهما سورة واحدة. ولهذا لم يكتب لبراءة بسملة، وهذا رأي رآه مجاهد وأبو روق وسفيان، فقالوا الأنفال وبراءة سورة واحدة والصحيح أن براءة قائمة بنفسها، وهو ما عليه عامة العلماء، ولم تكتب في أولها البسملة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بكتابتها كما في المستدرك للحاكم والحكمة في ذلك ما رواه الحاكم عن بن عباس قال: "سألت عليا بن أبي طالب: لما لم تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: لأنها أمان، وبراءة نزلت بالسيف [3] ".
(للبحث صلة)
رباعيات من فلسطين
((.. وجاء الخامس عشر من أيار.. فتذكرت النكبة والمأساة والعار..))
بعثرت أيامنا عاما فعاما
وزرعنا الأرض بؤسا وخياما
وطوينا بسمة العمر على
أما العودة.. أو نقضي كراما
لا تسلني يا أخي في عجب
لم لا تملأ دنياك ابتساما؟
أنا مذ مزق قدسي غاصب
صارت البسمة في شرعي حراما؟
يوسف العظم(4/241)
--------------------------------------------------------------------------------
[1]- انظر (الإتقان) للسيوطي.
[2]- جـ9 ص33.
[3]- ولأنها كانت عذابا على المنافقين فضحتهم وكشفت أسرارهم. في صحيح البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: "سورة التوبة، قال التوبة؟ بل هي الفاضحة، ما زالت تنزل ومنهم حتى ظننا أن لا يبقى أحد منا إلا ذكر فيها". وفي مستدرك الحاكم عن حذيفة قال: "التي تسمون سورة التوبة هي سورة العذاب".(4/242)
في ظلال سورة الأنفال (3)
بقلم الشيخ: أبي بكر جابر الجزائري
المدرس في الجامعة
قال الله تعالى:
{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ, يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ, وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ, لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}
بسم الله والحمد لله. وبعد:
فهذه أربع آيات أخرى من سورة الأنفال نتفيأ ظلالها مع السادة القراء الكرام، وقبل الشروع في ذلك تحسن الإشارة إلى مضمون الآيات الأربع قبلها تذكيرا وتعليما فنشير إليها ونقول: إن مضمون الآيات الأربع السابقة يتلخص فيما يلي فتأملها أيها القارئ الكريم:
1- خلاف الشبان مع الشيوخ في الأحق بالغنائم، ذاك الخلاف الذي أدى إلى حالة خطرة جدا كادت تقضي بجماعة الإيمان إلى أسوأ العواقب وأوخمها.
2- إنهاء الخلاف والقضاء على أسبابه برد الله تعالى أمر الغنائم إليه وإلى رسوله ليحكم الله فيها بما يشاء، ويقسمها الرسول صلى الله عليه وسلم بما يأمره الله تبارك وتعالى.
3- أمر الجماعة المؤمنة بتقوى الله عز وجل وإصلاح ذات بينها، وبطاعة الله ورسوله فيما يأمران به، وينهيان عنه، ككفارة لما بدر منها من رغبة في المادة وميل إليها. (وحب العاجلة رأس الخطايا كما قيل) .(4/243)
4- تذكير الجماعة المؤمنة بإيمانها الذي هو مصدر قوتها وخيريتها وكمالها وسعادتها وذلك لترقية شعورها، ودفعها إلى طاعة الله والرسول، تلك الطاعة التي لا يستقيم أمرها، ولا يصلح شأنها إلاّ عليها {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً} .
5- ذكر صفات المؤمنين الصادقين في إيمانهم لتكون مرآة للجماعة ترى فيها صورتها الحقة، وتعرف بها مدى كمالها في إيمانها، ودعواها فيه، وتلك الصفات هي:
1- وجل القلب عند ذكر الرَّب.
2- زيادة الإيمان عند سماع القرآن.
3- التوكل الكامل على الله وحده دون سواه.
4- إقام الصلاة.
5- الإنفاق مما رزق الله.
6- بيان منازل أولئك المؤمنين الصادقين، وما أعد الله لهم من النعيم المقيم.(4/244)
والآن، وبعد هذا العرض السريع لمضمون الآيات السابقة نعود إلى تفيؤ ظلال الآيات الأربع التي أردنا تفيؤها في هذه الحلقة من الدراسة القرآنية المفيدة النافعة إن شاء الله تعالى. فنذكر أولا: أن المناسبة بين هذه الآيات وسابقتها هي مناسبة قوية كمناسبة الشبيه بشبيهه، والمشبه بالمشبه به، إذ الكاف في قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} . الآية. هي لتشبيه حال الكارهين لخروج الأنفال من أيديهم، وعدم ارتياحهم لذلك، في حين أن العاقبة كانت خيرا من ذلك، وإن كراهتهم لم تكن إلا من باب المثل القرآني: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} . أقول: إن الكاف في قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ} هي لتشبيه حال هؤلاء في كراهيتهم لما آلت الغنائم بخروجها من أيديهم، وردها إلى الله والرسول ابتدءا، بحال الفريق الذين كرهوا الاصطدام بقريش وقتالها على قلَّتهم وكثرتها، وخوفهم وقوَّتها في حين أن تلك الكراهية لم تكن لتخرج أيضا من مثل (عسى وعسى) لما كان في ذلك الاصطدام والقتال على كراهية بعض القوم له ومحاولة الفرار منه من الخير العظيم الذي لا يقدر قدره، والإنعام الكبير الذي لا يوفى شكره. وما هذه الغنائم التي تنازعوا اليوم إلا من خير ذلك القتال الذي كرهوه وبركته لو كانوا يذكرون.
هذا وجه المناسبة بين هذه الآيات وسابقتها وقفنا القارئ الكريم عليه.
أما معاني هذه الآيات فإلي القارئ الكريم ذلك بشيء من التفصيل أحيانا وبدونه أخرى:
قوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} .(4/245)
هذه الآية معناها الذي دل عليه لفظها هو تشبيه حال المتنازعين في غنائم بدر وكراهيتهم لخروجها من أيديهم - ابتداءا - بعد أن ظنُّوا كلَّ الظنِّ أنها لهم وحدهم، وأنهم أحق بها من غيرهم مع ما كان في ذلك التدبير الإلهي من خير، بحال الكارهين لقتال قريش يوم خروج الرسول صلى الله عليه وسلم بهم من بيته من المدينة يقودهم إلى المعركة بعد ما تعيَّنت، وإلى القتال بعد ما وجب، مع ما كان في ذلك أيضا من الخير لهم وحسن العاقبة.
وقوله تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} .
في هذه الآية تصوير بديع لحال المتنازعين في الغنائم يوم تقدم بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو قتال قريش بعد ما تعين عليهم ووجب، وهم يجادلونه - فداه أبي وأمي - ويحاولون التفصي من القتال والهروب من المواجهة، بحجة أنهم لم يخرجوا لقتال قريش ولم يستعدُّوا لذلك، وإنما خرجوا لعير أبي سفيان وتجارة قريش فقط. والمخاوف تنتابهم، وتصوُّر كرب المعركة يغشاهم، حتى لكأنهم يساقون إلى الموت الحتم، وهم ينظرون إلى أسبابه قائمة بين أيدهم، ماثلة أمام أعينهم: وضعت هذه الصورة الحية لهم ليشاهدوا بأعينهم حالهم قبل الظفر بالغنائم وكيف كانوا على وضعية يستحي معها صاحبها اليوم أن يطالب بالغنائم فضلا أن يحاول الاستئثار بها دون إخوانه المجاهدين معه. كل هذا من تأديب الله تعالى لأصحاب رسوله وتربيته لهم حتى كانوا مَثَل الكمال البشري، ولم تعرف الحياة لهم نظيرا على طولها.
وقوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} .(4/246)
تضمنت هذه الآية جانبا من الصورة التي رسمتها الآية قبلها، فهي تقول لهم: أيها المتنازعون في الغنائم اذكروا اليوم الذي وعدكم الله على لسان نبيه اغتنام إحدى الطائفتين: عير قريش التجارية، أو قريش بسلاحها وكراعها، وأكد لكم ذلك بحيث لم يبقى للشك مجال في صدق هذا الوعد وأحقيته. غير أنه لم يعين لكم الطائفة الموعودة بها لحكمة الدفع بكم إلى مواصلة الطلب، والسير حتى ساحة المعركة. وأنتم في هذه الأثناء، وقبل أن يتبين لكم أن العير نجت حيث أخذ بها أبو سفيان قائدها سيف البحر ونجا بها، وإن الطائفة الموعود بها أصبحت قريشا ذات القوة والسلاح، ولم يبقى شك في قتال قريش والاصطدام بها، كنتم في هذه الأثناء تحبون متمنين أن غير ذات الشوكة تكون لكم، لأنها في نظركم من الغنائم الباردة التي لا تكلف دما ولا جهدا كبيرا.
ولكن الله أراد غير ذلك أراد النفير أراد قريشا الباغية العاتية ليكسر شوكتها، ويحطم كبرياءها فيحق بذلك الحق وينصره ويقطع دابر الكافرين ويهزمهم. وشتان بين ما أراد الله، وبين ما أردتم، فهلا تتعظون بهذه الصورة أيها القوم، وقد انتزعت من ماضيكم القريب، فتتقوا الله وتصلحوا ذات بينكم.. وقد فعلتم وهذا من فضل الله عليكم حيث أدبكم فأحسن، ورباكم فأجمل وأكمل، فله الحمد وله المنة.
قوله تعالى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} .
في معنى هذه الآية التعليل لإرادة الله تعالى بأن تكون إحدى الطائفتين هي ذات الشوكة التي لم يردها المؤمنون، ولم يحبوها ويتمنوها كما تمنوا غيرها وأحبوها، وأراد الله النفير (قريشا) لا العير، لأن في انهزام قريش وانتصار المؤمنين من الخير ما لا يوجد ولا معشاره في الاستيلاء على تجارة قريش والتمتع بها أياما ثم تنقضي، كما ودَّ المؤمنون الغافلون.(4/247)
إن بانهزام قريش انتصر الإيمان على الكفر، والحق على الباطل، وإلى الأبد، ولو كره المجرمون من اليهود والمنافقين المتربصين بالرسول والمؤمنين في المدينة.. والحمد لله على تدبيره لأوليائه، وحسن بلائه لهم. وأخيرا ما في هذه الآيات من الهداية القرآنية.
إن بهذه الآيات من الهداية القرآنية ما لا مطمع لأحد في حصره، ولا استقصائه، ولا حتى في الكشف عن جله وإظهاره، لأن هذا من سر الله في كتابه وهو بحر علوم ومحيط أنوار، يفتح الله من أبواب رحمته ما يشاء على من يشاء، ومن لم يجعل الله نورا فما له من نور، فليأخذ العبد بقدر ما أعطاه مولاه، فمن أعطي الكثير فهو المكثر ومن أعطي القليل فهو المقل، وليس تمَّ إلا الله. قل هو الله أحد.
وبعد، فمن هداية هذه الآيات ما يلي:
1- تحقيق وشرح معنى قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .
فقد كره من كره من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الاصطدام بقريش وحاول الفرار من مواجهتها بكل جهد، ويأبى الله إلا ذاك، فكان، وكان فيه من حسن العاقبة والخير الكثير.
كما تنازع الشبان مع الشيوخ الغنائم، وأرادها كل له دون سواه بحسب بلائه في القتال وتأثيره في المعركة، وانتزعها الله من أيديهم وجعلها له ولرسوله فتململ من تململ وكره من كره، ثم قسمها الله عليهم قسمة عادلة بقيت مثلا يحتذى في قسمة كل الغنائم إلى يوم القيامة، فكان من ذلك التدبير من البركة والخير ما لم يَقِل عن سابقه في إرادة الله تعالى النفير لا العير.(4/248)
هذا ووجه العبرة لنا نحن اليوم وفي ظروفنا الراهنة هذه: أن المسلمين اليوم يكرهون شيئين عظيمين معا أحب الله تعالى لهم وأراد، ويُصِرُّون على ذلك إلى حد العناد والمكابرة. وهذان الشيئان هما: وحدة المسلمين في عقيدتهم وعباداتهم وشرعهم وقانونهم وحكومتهم وقيادتهم، مع أن تحقيق هذا الأمر وطاعة الله فيه من أيسر الأمور وأسهلها في هذه الظروف الحاضرة لوجود الأسباب وتوفر القدرات، فلم يكلف الأمر أكثر من التفويض لله والانقياد له، واجتماع حكام المسلمين وعلمائهم في مكة أو المدينة والخروج بوحدة كاملة، لا يكون من نتائجه سعادة المسلمين في حياتهم فحسب، بل وسعادة العالم أجمع.
والشيء الثاني: تخاذل المسلمين في قتال اليهود والسكوت عن احتلال اليهود لأُوْلى قِبْلَتَيْهِم ومسرى ومعراج نبيهم المسجد الأقصى وما حوله من الأرض المباركة.
في حين أن هذا القتال لو أرادوه وخاضوه لم يزد على أن يطهر قلوبهم من الجبن، وجيوبهم من المال الحرام، ومسجدهم من رجس اليهود. وقد يكون سببا في عزة دائمة للمسلمين. وقد يكون بداية وحدة بهم تشمل كل بلادهم، وتوجد منهم المنقذ المنتظر لعالم البشر.
وأيسر الطرق لذلك تكوين جيش إسلامي نظامي يسهم فيه جميع المسلمين بخير ما عندهم من صالح الرجال والسلاح، كل أمة بقدرها وطاقتها، ويوضع تحت قيادة إسلامية مشتركة، ويدرب ذاك الجيش أياما على الرغبة فيما عند الله، وحب لقائه، والرضا بحسن بلائه، بعد أن كان قد تدرب على استعمال السلاح وخوض معارك الكفاح، ثم يرمى به في أرض المعركة فلا يخرج منها حتى يطهر أرضها، ويعلن عن دولة للإسلام جديدة تحكِّم كتاب الله وتدعو كافة البشرية إلى الله، فيولد بها المولود المنتظر، وتقر بحكمها عيون البشر، لأنها دولة الله والحاكم فيها الله.
وختاما، آمل من كل قارئ أن يفكر جديا في تحقيق هذه الفكرة وأن يبذل لها ما يمكنه بذله، والله يحسن الجزاء لمن أحسن عملا.(4/249)
فضل الذكر
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه ربه عز وجل: "قال الله تبارك وتعالى: "أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم".
متفق عليه.(4/250)
التراويح أكثر من ألف عام في المسجد النبوي
بقلم الشيخ عطية محمد سالم
القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة
الحلقة الرابعة
القرن الرابع عشر
دخل القرن الرابع عشر والتراويح في المسجد النبوي على ما هي عليه من قبل وظلت إلى قرابة منتصفه.
ولم يطرأ عليها أي تغيير لا في العدد ولا في كيفية أدائها فكانت ستا وثلاثين ركعة وثلاثا وترا تصلى عشرون بعد العشاء وست عشرة ركعة بعد منتصف الليل وينادي لهذه الأخيرة باسم الستة عشرية كما قاله النابلسي سابقا في القرن الثاني عشر.
ولكن الجديد في التراويح في هذا الوقت أي أوائل القرن الرابع عشر هو تعدد الأئمة والجماعات المتعددة زيادة على أئمة المذاهب الأربعة، وكانوا كثيرين يزيدون تارة وينقصون أخرى ولكن الدائمين أو الرسميين منهم ستة:
1- إمام للحاكم وحاشيته.
2- إمام للقاضي وكتابه وأعوانه.
3- إمام للأغوات ومن يصلي معهم.
4- إمام للمفتي.
5- إمام لرئيس العسكر.
6- إمام للنساء.
7- أئمة للعوائل، تقيم بعض العوائل الكبار التراويح لأفرادها خلف إمام خاص بها، وهؤلاء الأئمة كانوا يصلون التراويح أثناء صلاة الإمام الراتب أي مع أئمة المذاهب السابقين وكانوا يختلفون عنهم في القراءة فيقتصرون على بعض الآيات وقصار السور لأنهم يصلون بأصحاب أعمال لا يستطيعون انتظار أئمة الفريضة لأن الأئمة الآخرين أئمة المذاهب كانوا يصلون بعموم الناس وكانوا يختمون مرتين مرة في الصلاة الأولى، ومرة في الصلاة الأخيرة التي هي الست عشرية.
وكان لهؤلاء الأئمة مواضع خاصة، فكان إمام الأغوات يصلي بهم عند الدكة الخاصة وفي محراب التهجد وهو المحراب الواقع حاليا في مؤخرة الحجرة والذي في الشبك الواقع بين الحجرة والدكة، أي دكة الأغوات محل أهل الصفة.(4/251)
كما أن النساء كان يصلي بهن داخل القفص, وكان القفص عبارة عن شبك خشبي مزركش يحجز النظر يمتد في الجناح الشرقي من جهة باب النساء ممتدا إلى الشمال إلى الباب المجيدي من مؤخرة المسجد آنذاك وبعرض الجناح الشرقي كله.
وكان بارتفاع نحو ثلاثة أمتار، وغير مسموح لأحد بدخوله سوى النساء والأطفال والأغوات إذا لزم الأمر.
وقد أزيل هذا القفص قبل التوسعة الجديدة الحالية.
وكان إمام لشيخ الروضة يقوم في الحصوة الأولى التي بين باب الرحمة وباب النساء مما يلي مؤخرة الحرم.
ومن العجب ما أخبرني به السيد سعيد باشا شامل أن إمام شيخ الروضة كان يقرأ القرآن كله كل ليلة في التراويح طيلة الشهر، وقال: "كان هذا الإمام يقرأ بسرعة شديدة بحيث أنه كان تأخذه هزة وينسى نفسه وربما قرأ الجزء في الركعة الواحدة".
وقد سمعت من فضيلة الشيخ حسن الشاعر شيخ قراء المسجد النبوي أن رجلا كان يقرأ القرآن الكريم كله في ليلة واحدة من ليالي رمضان في صلاة التراويح، ولكن كان يفعل ذلك مرة واحدة تأكيدا لحفظه، وقال: كان يسرع في القراءة حتى لا تكاد تسمع منه إلا رؤوس الآية أو أواخرها من شدة السرعة، ومثل هذا يكون لضبط الحفظ لا للتدبر.
صلاة شيخ الحرم:(4/252)
وسمعت من الشيخ السيد أحمد الرفاعي وهو شيخ الحرم الآن، أن شيخ الحرم في عهد الأتراك والأشراف كان يصلي التراويح أحيانا في دكته أي دكة شيخ الحرم شتاء وهي الدكة الصغيرة الواقعة بين باب جبريل ودكة الأغوات على يمين الداخل من الباب ولا تزال موجودة حتى الآن وتتسع لثلاثة صفوف كل صف فيه ثلاثة أشخاص وترتفع قدر نصف المتر تقريبا كان يصلي به إمام خاص به وبمن يصلي معه فكان يصلي التراويح بتلك الدكة شتاء ويصلي التراويح بالحصوة الأولى صيفا. ومما يدل على صلاة التراويح بالحصوة على وجه العموم ما جاء عن النابلسي أنه قال عن بعض الليالي قال: "وكنا في صلاة التراويح فنزل المطر فدخلنا إلى الداخل"مما يدل على أنهم كانوا يصلون التراويح في الحصوة صيفا وفي الداخل شتاء وأن ذلك عمل البعض، لأنهم يذكرون صلاة أئمة الفريضة في محاريب معينة ويصلون فيها أيضا التراويح.
وسيأتي ذكر صلاة بعض أمراء المدينة في العهد السعودي للتراويح في الحصوة أيضا زمن الصيف إن شاء الله.
وبجانب هؤلاء الأئمة الست أئمة أيضا لبعض العوائل الكبار تجتمع العائلة بجميع أفرادها من عميدها وكبيرها إلى غلمانها فيأتي إمامهم فيصلي بهم في جهة ما من المسجد إلى أن ينهي التراويح طيلة رمضان.
إمامة طارئة من نوع جديد وطريف:
وكانت هناك إمامة الغلمان الذين يحفظون القرآن ويختمونه في تلك السنة من أي سنة من السنين فإذا تم حفظه في أي وقت من أوقات السنة ظل ينتظر حتى يأتي شهر رمضان فيحضر إلى الحرم ويحضر معه شيخه الذي حفظه وأبوه وزملاؤه الذين يحفظون معه وبعض الأقارب والأصدقاء فيقوم الغلام بصلاة التراويح ويقرأ القرآن الكريم كله في أثناء الشهر أو أقل بسماع شيخه والحاضرين فيكون بمثابة اختبار له وشهادة منهم على حفظه ثم يعمل له والده حفل ختم القرآن كلٌّ حسب اقتداره ومجهوده.(4/253)
وقد يبذل والد الغلام الشيء الكثير في هذا الحفل فرحا بحفظ ولده للقرآن العظيم وقد يهدي الحلل والهدايا الثمينة للشيخ والحاضرين علاوة على الطعام والحلوى ثم يلبس الغلام حلة وعمامة تشعر بأنه ختم القرآن وصلى به التراويح بالمسجد النبوي، وقد حدثني الشيخ السيد جعفر فقيه عن هذا العمل حديثا شيِّقا ولا سيما ما فعله والده نفسه لأحد أولاده، كما سمعت من فضيلة الشيخ محمد سعيد دفتر دار طرقا عديدة في ذلك.
وقد كان لهذا العمل فضل عظيم في تشجيع طلاب الكتاتيب على حفظ القرآن الكريم.
وكان بالحرم النبوي عدة كتاتيب يقوم عليها نخبة من معلمي القراءة والكتابة وتحفيظ القرآن وكانت تلك الكتاتيب هي اللبنة الأولى في تعليم أبناء المدينة كلهم ومنها إلى دروس الحرم أو المدارس فيما بعد.
ولا زالت صلاة هؤلاء الطلاب الصغار الذين ختموا القرآن يصلون بأهاليهم وزملائهم ومشائخهم لازال موجودا حتى الآن إلا أنه على نطاق ضيق ومن قلة من الناس.
ولا يبدؤون صلاتهم إلا بعد أن يفرغ الإمام من الصلاة بالناس.
والجدير بالذكر أنه أخذ يتناقص حتى أصبحنا لا نرى إلا الواحد أو الاثنين فقط وأن الكتاتيب نفسها قد ألغيت ولم تبق إلا آثار وبقايا في جوانب المسجد لا تستطيع مواصلة السير مع الصبيان حتى تعلمهم وتحفظهم القرآن.
كما أن آباء هؤلاء الصبيان لا يرضون لأبنائهم قضاء الوقت في أمثالها فيبادرون بهم إلى المدارس ومن ثم يثقل الطفل بالمواد فلا يستطيع حفظ القرآن اللهم إلا من وجدوا عناية خاصة من آبائهم أو التحقوا بمدارس تحفيظ القرآن التي أنشأتها وزارة المعارف تسد هذا الفراغ وساندها أهل الخير بإنشاء جمعيات لهذا الغرض، وقد التحق بها العديد من أبناء الحاضرة والبادية.
ولقد استطرد بنا الحديث إلى تلك الكتاتيب فلنعد إلى التراويح من أول العهد السعودي.
العهد السعودي
تمهيد:(4/254)
من أصعب المواضيع على الكتاب هو الموضوع الذي لم يسبق إليه، حيث لا مثال يحتذي ولا مصدر يستقى منه، وسيكون الكاتب، وإن قيل أن له قصب السبق إلا أنه سيكون موضع التجربة، ومحل النقد، لأنه سيتصيده من بحار الكتب ثم يجمع ما تصيده في سلك التأليف. فإذا لم يكن له وجود في الكتب، ولم يقيد قط، ولم يكن الكاتب يعاصره كان ذلك أصعب عليه، لأنه لا مرجع يؤخذ منه، ولا مشاهدة يستقي منها، بل سيتصيد ذلك من أقوال الرجال، وإذا كان العهد بعيدا كانت الصعوبة أشد لما يعرض للناس من آفة النسيان، وسيجد اختلافات عديدة وأقوال متنوعة، وعليه هو أن يستخلص منها ما يوصله إلى مطلوبه، وفي مثل هذه الحالة لن يسلم من الخطأ بزيادة أو نقص.
ومبحث التراويح في العهد السعودي وفي أوائله بالذات من هذا القبيل، فلا هو مدوَّن في كتب التاريخ، فيرجع إليها، ولا هو مشاهد فيستقى من الواقع.
وقد اتصلت بالكثيرين ممن شاهدوا أواخر العهد السابق وأوائل هذا العهد فكان كل يدلي بما حفظته الذاكرة ولم تضيعه عليه الأيام، وما نقص من عند هذا يكمل من عند ذاك، وكانت في مجموعها متفقة في أصولها وإنما الخلاف في صورها وأشكالها فاستخلصت منها ما سنقدمه للقراء الكرام ليأخذوا ولو صورة مجملة.
وإني لأجدد الذكرى بما أسلفت من رجاء من حضرات القراء أن من اطلع على شيء يتعلق بهذا الموضوع فإنه يتفضل بتقديمه إلينا تتمة للبحث وتوفية للموضوع وخدمة للمعرفة، وتأييدا للحق.
بدء العهد السعودي بالحجاز:
بدأ العهد السعودي قبيل منتصف هذا القرن وبدأ في المدينة المنورة بالذات سنة 1344هـ، وقد كانت التراويح من قبله تصلى جماعات متعددة بأئمة متعددين في وقت واحد وكانوا جميعا يصلون عشرين ركعة في أول الليل، والبعض منهم وخاصة المالكية يرجعون آخر الليل إلى المسجد النبوي يصلون ست عشرة ركعة المتقدم ذكرها وقد زال هذا التعدد من أوائل العهد السعودي.(4/255)
أما وجوده فكان طارئا على المدينة لم يحدث إلا بعد القرن السابع وكانت المدينة سبعة قرون تصلي الصلوات كلها بإمام واحد ولا تتعدد فيها الجماعة لفريضة واحدة بل إن مالكا رحمه الله وهو إمام دار الهجرة ممن يكره تعدد الجماعة في المسجد الواحد للفريضة الواحدة.
وقد مرَّت بالمدينة قبل هذا العهد أطوار مذهبية ساد أولا فيها مذهب مالك ثم ساد بعده مذهب الشافعي، ثم بعده مذهب أبي حنيفة رحمهم الله جميعا، وذلك بدون تعدد في وقت واحد ثم تعدد المذاهب في المدينة بعد أن ظهرت الدراسات المذهبية وتميز طلاب كل مذهب، وبدأت المنافسة ثم تحولت إلى مناقشة, ثم انتهت إلى تعصب، وأخيرا تعدد الأئمة في الصلوات الخمس، ثم جاء العهد السعودي فتوحدت فيه الجماعة في المسجد النبوي وفي المسجد الحرام للصلوات الخمس وللتراويح.
أما عدد الركعات وكيفية الصلاة فكانت عشرين ركعة بعد العشاء وثلاثا وترا، وذلك طيلة الشهر فإذا دخل العشر الأواخر زيدت عشر ركعات في آخر الليل باسم القيام، ومعها ثلاث وترا. فيكون مجموع الركعات في العشر الأواخر ستا وثلاثين ركعة إذا أضفنا الوتر أول الليل وآخره فيتفق العدد مع ما كانت عليه من قبل، ولكن هل كان ذلك مقصودا أم جاء عفوا واتفاقا يغلب على الظن أنه جاء عفوا وإن الزيادة قصد بها الاجتهاد في العشر الأواخر كما جاء عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها. وعنها أيضا أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر طوى فراشه وشد مئزره وأيقظ أهله.. إلى غير ذلك.
ولا سيما شدَّة التحري لليلة القدر التي تضافرت النصوص أنها في العشر الأواخر، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر دون غيرها.
وعليه فتكون التراويح قد استقرت على عشرين ركعة على ما عليه العمل في جميع البلاد وعليه المذاهب الثلاثة. وخصت ليالي العشر الأواخر بعشر ركعات تهجدا وقياما.(4/256)
الجديد في هذا العهد
فيكون الجديد في التراويح في هذا العهد بالنسبة لما قبله هو: توحيدها في الجماعة الأولى، وإبطال التعدد الذي كان يشوش بعضهم على بعض. وقد سمعت من الشيخ محمد مظهر أن جده كان يخرج إلى بيته يصلي التراويح فرار عن التشويش في المسجد.
والجدير بالذكر أن من أعظم نعم الله على الأمة أن تتوحد في الصلوات كلها في جماعة واحدة، وعلى إمام واحد أيا كان مذهبه من المذاهب الأربعة التي لم تخرج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولسنا في معرض مناقشة تعدد الأئمة والجماعة في الصلاة الواحدة في المسجد الواحد لا لشيء إلا لاختلاف مذهب هذا عن مذهب ذاك مع اتفاق أئمة المذاهب أنفسهم رحمهم الله على جواز صلاة كل منهم خلف الآخر. ولسنا كذلك في معرض المقارنة بين مذهب ومذهب فكلهم يرجعون إلى أصل واحد هو الكتاب والسنة. فلسنا في معرض هذا أو ذاك ولكن يهمنا وحدة الأمة، وبالأخص في عمل هو شعار الوحدة، ويكفي في ذلك الإشارة إلى ما سلف ذكره عن عمر رضي الله عنه لما دخل المسجد ووجد تعدد الجماعات فساءه ذلك فجمعهم على إمام واحد كراهية تفرقتهم أوزاعا، ولما رآهم من الغد ورأى اجتماعهم بعد الفرقة أعجبه ذلك وقال: "نعمت البدعة تلك".(4/257)
أما العدد والاقتصار منه على عشرين ركعة فإنه العدد المعمول به عند الأئمة الثلاثة أبي حنيفة والشافعي وأحمد في غير المدينة وأخذا برواية ((يزيد بن رومان)) في نفس المدينة وعدم الأخذ بالزيادة في مقابل طواف بعض أهل مكة الذي تقدم الكلام عليه. وهذا العدد هو ما كان العمل عليه في المائة الرابعة وما بعدها إلى عهد أبي زرعة رحمه الله وتقدم أنه لما أراد بإعادة الست والثلاثين ركعة لم يعدها مجتمعة بل راعى خلاف الأئمة فصلى عشرين ركعة بعد العشاء عملا بما عليه الاتفاق، وأتى بالست عشرة ركعة آخر الليل مراعاة لعمل أهل المدينة، وقد كان يختم القرآن مرتين إحداهما في العشرين ركعة أول الليل، والأخرى في الست عشرة ركعة التي يصليها في آخر الليل.
وهذا الختم موجود كذلك في هذا العهد حيث يختم الإمام في التراويح أول الليل ثم يختم مرة أخرى في العشر ركعات في آخر الليل من العشر الأواخر.
فالتقى هذا العهد مع الذي قبله تقريبا في النتيجة، وهي ختم القرآن الكريم مرتين وإن اختلف عنه في عدد الركعات وفي كيفية توزيع الصلاة، وانفرد هذا العهد بتوحيد الجماعة وإن وجد عدة أئمة يتناوبون الصلوات الخمس دون أن تتعدد الجماعة للصلاة الواحدة.
وكان أول من تولى الإمامة في العهد السعودي من السعوديين هو الشيخ الحميدي بردعان من أهالي حائل.
وتولاها معه ومن بعده عدة أئمة كانوا من أئمة سابقين يصلون بأتباع المذاهب الثلاثة على الوضع الأول فكانوا يتناوبون جميعا للصلوات الخمس يصلي كل واحد منهم بالجميع فريضة دون تعدد الجماعات.
فكان الشيخ محمد خليل من أئمة الشافعية سابقا أسندت إليه صلاة الظهر للجميع.
وكان الشيخ مولود من أئمة المالكية سابقا أسندت إليه صلاة العصر.
وكان الشيخ أسعد توفيق من أئمة الأحناف أسندت إليه صلاة العشاء.
وأسندت صلاتي المغرب والفجر إلى الشيخ عبد الرزاق حمزة.(4/258)
وكان ينوب عنه الشيخ تقي الدين الهلالي.
كما كان يصلي أيضا الشيخ محمد عبد الله التنبكتي.
ثم كان من بعدهم جميعا لجميع الصلوات الخمس وللتراويح فضيلة المرحوم الشيخ صالح الزغيبي تولى الإمامة حوالي ربع قرن ظل فيها إلى أخريات حياته.
ولما كبر كان يساعده فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح ابتدأ من شعبان سنة 1367هـ ثم انفرد بالإمامة فضيلة الشيخ عبد العزيز بعد وفاة الشيخ صالح الزغيبي رحمه الله سنة 1376هـ تقريبا.
وفي سنة 1376هـ عيِّن فضيلة الشيخ عبد المجيد بن حسن مساعدا لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح.
ولا تزال إمامة المسجد النبوي الرسمية لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح ونائبه فضيلة الشيخ عبد المجيد بن حسن إلى تاريخ كتابة ذلك.
وكنَّا نود أن نقدم الكثير عن أصحاب الفضيلة أئمة المسجد النبوي في هذا العهد وخاصة الذين صلوا التراويح ولكن ذلك يطول ذكره ويبعدنا عن الموضوع.
ولكن لا يسعنا إلا أن نورد عبارات موجزة ولمحات خاطفة إلى أن يقيض الله من يترجم لهم جميعا تراجم وافية في رسالة مستقلة خدمة للمسجد ووفاء بحق أئمته.
وقد ترجم ابن فرحون للعديدين من أئمة المسجد النبوي في عصره وساق طرفا عنهم رحمهم الله.
ثم أعقبهم بتراجم للمؤذنين ثم للخدام وذكر الكثير من ذلك في عصره رحمه الله.
مما يلفت النظر إلى أسبقية هذا العمل وأنه محل عناية المؤرخين والكتاب والمؤلفين.
ولا سيما إذا تناول البحث جانبا علميا وحُكْماً فقهيا لنوع الإمامة وكيفية القراءة وهيئات الصلاة.. إلخ.. لما لهذا المسجد الشريف من مكانة في النفوس ومنزلة في القلوب جعلته المثل الذي يحتذى والقدوة التي به يقتدى.(4/259)
ولئن عني بالإمامة في هذا المسجد في السابق فلهي اليوم أولى بالعناية وألزم حيث تزايد عدد المصلين وتضاعف عدد الوافدين وتطلعت الأنظار إلى بلوغ الكمال، وما يتناسب ومقام المسجد من تعظيم وإجلال ولا سيما وقد كان ذلك مقام الرسول صلى الله عليه وسلم ثم خلفائه من بعده.
وإنها لنعمة يسوقها الله لمن أسعدهم من خلقه يشرفون بها ويؤدون حقها.
ومن ثم عظم حق الأئمة في هذا المسجد الشريف على سائر الناس وعظم الواجب في حقهم أقل ما يكون هو ترجمة شخصياتهم وبيان مزاياهم ليقتدي بهم أئمة مساجد الدنيا في الحفاظ على الأوقات وإتمام العمل في الصلوات وما إلى ذلك.
إذا كنا لا نستطيع إيفاء الواجب كما ينبغي فلا أقل من نبذة موجزة للتعريف لا للتأليف، ونقول بإيجاز: أئمة المسجد.
أما الشيخ الحميدي واسمه الشيخ الحميدي بردعان تقدم أنه كان من أهالي حائل وهو أول من تولى الإمامة في المسجد النبوي في أول العهد السعودي مكث لمدة سنتين ثم طلب من الملك عبد العزيز رحمه الله أن يسمح له بالعودة إلى بلده تلبية لرغبة جماعته ليعلمهم ويصلي بهم فامتنع عليه أولا ثم سمح له أخيرا. وبعد مدة رغب العودة إلى المدينة فلم يتيسر له.
أما الشيخ مولود فكان من أهالي المغرب وكان قد هاجر إلى المدينة قبل العهد السعودي وتوفي بالمدينة ولم أعلم أنه صلى التراويح.
وأما الشيخ محمد خليل والشيخ أسعد فمن أهالي المدينة والشيخ أسعد هو الذي تولى صلاة التراويح وتوفي كل منهما بالمدينة وعقبا أبناء كراما. وكان الثلاثة رحمهم الله من أئمة المذاهب الثلاثة في المسجد النبوي قبل هذا العهد.(4/260)
أما الشيخ عبد الرزاق حمزة فقد هاجر من مصر إلى المدينة في أوائل هذا العهد وتولى الإمامة للمغرب والفجر لمدة فوق السنتين ثم نقل إلى مكة المكرمة، ولم يعد إلى المدينة المنورة وظل بين مكة والطائف. وفي سنة 72ـ 1373هـ انتدب لتدريس المصطلح والحديث في المعهد العلمي بالرياض وانتهى به المطاف الآن إلى الطائف لكبر سنه، نسأل الله لنا وله العافية.
والشيخ تقي الدين الهلالي هو:
هاجر من المغرب في سنة 1340-1341هـ إلى مصر ومكث بها سنة واحدة لقي فيها السيد رشيد رضا وتنقل بين قبلي وبحري والإسكندرية في دعوة سلفية.
ثم سافر إلى الحج تلك السنة ومكث ثلاثة أشهر طرف الشيخ محمد نصيف وكان حفظه الله مركزا لكل سلفي يقدم جدة.
ثم سافر إلى الهند للدراسة والاطلاع على المكتبات وألقى دروسا في مدرسة علي جان من مدارس أهل الحديث في دلهي ثم تنقل في أرجاء الهند، ولقي شارح الترمذي صاحب التحفة أثناء كتابته للشرح المذكور وقد قرظه بقصيدة يهيب فيها بطلاب العلم إلى التمسك بالحديث والاستفادة من الشرح المذكور وقد طبعت تلك القصيدة في الجزء الرابع من الطبعة الهندية.
ثم سافر إلى العراق لمقابلة الشيخ الألوسي فلم يدركه ومكث بها ثلاث سنوات وتزوج بها وأنجب.
ثم جاء إلى الحجاز سنة 1345هـ مرة أخرى ومر بالشيخ رشيد رضا بمصر فكتب معه كتابا للملك عبد العزيز يشير عليه بإقامة الشيخ تقي الدين لديه.
فأراد الملك رحمه الله أن يوليه الإمامة في المسجد النبوي ولكنه اشترط أن يؤدي الصلاة على نحو عشر تسبيحات في الركوع والسجود فاعتبر ذلك تطويلا فعين مراقبا للدروس في الحرم النبوي وعين زميله الشيخ عبد الرزاق حمزة إماما ولكن الشيخ عبد الرزاق كان ينيبه عنه في بعض الصلوات خاصة في صلاة الصبح.(4/261)
ومكث سنتين بالمدينة المنورة ثم وقع نزاع بينه وبين أمير المدينة آنذاك فسافر إلى مكة مدرسا في المعهد السعودي وهو معهد ثانوي ديني وقد سمعت من فضيلته أن سبب هذا النزاع هو الاختلاف في أسلوب الدعوة وتغيير المنكر بين الشدة واللين وقد هجا بعض الأشخاص المسؤولين آنذاك لتراخيه في أمر العقيدة وقد أملى علي أبياته في هجائه غير أني لم أرد ذكره لما فيه من التصريح باسمه، وقد توفي قريبا رحمه الله فلا حاجة لذكرها بعد وفاته.
والجدير بالذكر أن زميله الشيخ عبد الرزاق كان سفره إلى مكة لنفس السبب، ثم سافر حفظه الله إلى الهند بدعوة السيد الندوي ومكث ثلاث سنوات ثم رجع إلى العراق ومن ثم سافر إلى أوربا لتحصيل شهادة رسمية عالية بجانب شهادته القروية من جامعة القيروان.
فسافر إلى جنيف ولقي الأمير شكيب أرسلان فتوصل إلى التدريس في جامعة ((بون)) محاضرات في اللغة العربية ودرس حتى نال الدكتوراه سنة 1940م.
ثم سافر إلى المغرب ومكث حتى انتهت الحرب فرجع إلى العراق وعمل أستاذا في جامعة بغداد إلى قيام ثورة عبد الكريم قاسم فهرب إلى ألمانيا ومنها إلى المغرب فعين مدرسا في جامعة الملك محمد الخامس.
ومن ثم دعي إلى المدينة المنورة للتدريس في الجامعة الإسلامية ابتداء من سنة 1388هـ ولم يزل بها حتى الآن مدرسا وعضو المجلس الإداري.
هذه خلاصة ما سمعته مشافهة من فضيلته، وقد سجلته نظرا إلى أنه يعتبر من أسبق المعاصرين لأوائل هذا العهد.
أما الشيخ عبد الله التنبكتي فهو من بلاد مالي من إقليم تنبكتو وهي العاصمة العلمية والسياسية لتلك البلاد وقد كان من علماء العربية والفقه.(4/262)
وكان له نشاط حميد في الدعوة بالمدينة ولظروف ما عاد إلى بلاده حوالي سنة 1344هـ وزاول نشاطه منقطع النظير في الدعوة إلى الله بفتح المدارس وتعليم عقيدة السلف، وكانت له جولات مع أعدائه على أيدي المستعمرين الفرنسيين آنذاك ولكن الرجل في نصرة دين الله فكان الله ناصر له كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} ولم يستطع الأعداء هناك النيل منه وبقي على عمله حتى توفاه الله.
ولعلي آتي بتفاصيل أوفى عنه وعن نشاطه في رسالة التراويح هذه التي ستطبع إن شاء الله تعالى قريبا في كتيب مستقل.
أما الشيخ صالح رحمه الله فقد آلت إليه الإمامة بعد هؤلاء جميعا وقام بها وحده منفردا بها منقطعا إليها ومكث بها مدة خمس وعشرين سنة تقريبا. وتوفي رحمه الله عن عمر يناهز الثمانين.
وكان من أهل القصيم وكتب عنه الشيخ محمد سعيد دفتر دار كتابة وافية في كتابه المخطوط أعلام المدينة.
ولكن الذي يهمنا هو جانب الإمامة وما له فيه من غرائب ونوادر لم تنقل عن غيره منها ما سمعته من فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح عنه أنه كان رحمه الله إذا أتى المسجد لصلاة العصر لم يخرج حتى يصلي العشاء، وإذا أتى لصلاة الفجر لا يخرج حتى تطلع الشمس.
ومنها ما سمعته من الشيخ عبد الرحمن الحصين أنه لم يؤخذ عليه سهو في الصلاة إلا النادر كما سمعت من فضيلة الشيخ عبد المجيد أنه دخل في الصلاة مرة ثم التفت وأشار إليهم مكانكم وذهب فتطهر وعاد للصلاة ولم يستخلف لأنه كان حريصا ألا تفوته صلاة وهو بالمدينة.
ولذا فالمشهور أنه لم يتخلف عن صلاة قط مدة وجوده بالمدينة إلا لمرض ولم يخرج من المدينة إلا إلى الحج وحج مرة واحدة.(4/263)
ومن الطريف أن إمام الحرم المكي في وقته كان ربما أطلق على نفسه إمام الحرمين فجاء إلى المدينة وأراد أن يصلي بالمسجد النبوي ولو فريضة واحدة كي يبرر هذا الإطلاق فلم يمكنه الشيخ صالح من ذلك أبدا.
ومن العجائب ما حدثني به رحمه الله أنه في بعض الأيام استيقظ لصلاة الفجر وكان من عادته أن يبكر قبل الوقت بساعة تقريبا يتوضأ ويوتر ثم ينزل إلى الحرم وبعد أن أتم وضوءه وأراد لبس حذائه فإذا بعقرب فلدغته في قدمه، ولم يجد من يسعفه في ذلك الوقت ولم يستطع إخبار نائبه ليصلي عنه فصبر وتجلد ونزل إلى الحرم كعادته، وانتظر الموعد المحدد الذي ألف الناس إقامة الصلاة فيه وهو بعد الأذان بثلث ساعة ثم صلى بالناس، ولم يقدم الصلاة عن الموعد المحدد حرصا على إدراك الناس للجماعة، وكل ذلك لم يعلم بحالته أحد حتى انتهى من صلاته وعندئذ نفد صبره وانهارت قواه فلم يستطع النهوض وأخبر بعض الحاضرين فقرأ عليه بعضهم ثم نقل إلى بيته وأسعف هناك بمصل ضد العقرب. وكان في أخريات حياته ينوب عنه فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح ثم لما ثقلت عليه القراءة صار ينوب عنه في الجهرية وفي خطبة الجمعة وهكذا في التراويح وفي العشر الأواخر.
أما فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح إمام وخطيب المسجد النبوي الآن ومساعده فضيلة الشيخ عبد المجيد المعاصران فإن معاصرتهما وإمامتهما تغني عن التحدث عنها، ومعرفة الجميع لها تكفي عن التعريف بهما وما يعرفه المعاصرون عنهما أكثر مما سيكتب بخصوصهما.
ولكن ما لابد منه لهذا العرض وما له صلة بصلاة التراويح، وما يقتضيه المقام من الإشارة بإيجاز فإني أوجزه في الآتي:(4/264)
أولا: فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح آل صالح ولد بالمجمعة ونشأ في أسرة كريمة عرف جميع أفرادها بالفضل وتحتل مكانتها في البلدة المذكورة بأصالة الرأي وحسن القدوة في أعيانها، فنشأ حفظه الله على أسس كريمة فاضلة ومحبة للخير فحفظ القرآن الكريم في صغره قبل البلوغ. ودرس على المشايخ الأوائل، وأكثر من أخذ عنه العلامة الفاضل الشيخ عبد الله ابن عبد العزيز العنقري من كبار علماء عصره وصاحب الحاشية المعروفة بحاشية العنقري على الروض المربع في ثلاث مجلدات. ثم أنهى دراسة التجويد على الشيخ القراء في المسجد النبوي وإمام عصره في القراءات فضيلة الشيخ حسن الشاعر سنة 1370هـ على قراءة حفص.
ومنذ بدء دراسته حفظه الله وهو دائب الجد والتحصيل وكانت دراستهم مناقشة ومنافسة على نظام الحلق والمراجع بدون تقيد بوقت ولا اختيار في مقرر وهي الطريقة التي كانت سائدة في عامة البلاد قبل الدراسات النظامية. فكانت مجالا واسعا للتحصيل والنبوغ.
وقد ظهرت مخايل نبوغه في صغره فاختير لمساعدة إمام مسجدهم لصلاة التراويح وعمره 16 سنة ثم عين إماما في المجمعة ثم رئيسا لهيئة الآمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمجمعة مع مواصلة الدراسة، ثم عين في سلك القضاء فعين في الرياض مع فضيلة الشيخ عبد الله بن زاحم رحمه الله فاتصل في تلك المدة بأصحاب الفضيلة من المشايخ بالرياض وخاصة آل الشيخ وسماحة المفتي رحمه الله، وفي سنة 1363هـ اختار الملك عبد العزيز رحمه الله فضيلة الشيخ عبد الله بن زاحم وكان من خواص رجالاته المقربين ذوي المكانة الخاصة لدى جلالته اختاره لرئاسة محكمة المدينة المنورة، فاختار هو أيضا فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح ليكون معه بمحكمة المدينة.
وفي شعبان سنة 1367هـ بدأ فضيلته الإمامة في المسجد النبوي مساعدا لفضيلة الشيخ صالح الزغيبي رحمه الله وكان يساعده في الصلوات الجهرية خاصة ثم عموم الصلوات والجمعة.(4/265)
وفي سنة 1370هـ توفي الشيخ صالح رحمه الله فأسندت الإمامة والخطابة إلى فضيلة الشيخ عبد العزيز حفظه الله وبجانب عمله الرسمي بالمحكمة الكبرى وكان آنذاك مساعد الرئيس مع دروس في الفقه والفرائض بالمسجد ثم بالبيت.
وفي 12 رجب سنة 1374هـ توفي فضيلة الشيخ عبد الله رئيس المحكمة فأسندت الرئاسة إلى الشيخ عبد العزيز بن صالح، وفضيلته من ذاك التاريخ هو الإمام والخطيب ورئيس المدرسين بالمسجد النبوي بجانب رئاسة المحاكم والدوائر الدينية بمنطقة المدينة.
وبعد نظام كادر القضاة عين فضيلته على رتبة قاضي تمييز واختير عضوا في المجلس الأعلى للقضاء وهو المجلس الذي يشرف على سير القضاء كله في المملكة كلها.
وكل ذلك معلوم للجميع الذين عرفوا فضيلته وما ذكرنا ذلك إلا بيانا لمقدار الإمامة بالمسجد النبوي وأنها لأعظم منصب وأكبر خطرا من ذلك كله.
ومما هو غني عن الذكر في هذا أن فضيلته وجه الخطابة إلى المشاكل والقضايا الاجتماعية درسا وتحليلا وعلاجا وتوجيها، فنقلها عن الدواوين المسطورة إلى الوقائع المشهورة.
أما التراويح موضوع الرسالة والكتابة فهي في صورتها وكيفية أدائها تلاوة وطمأنينة فهي في الواقع تعتبر الوسط الفاضل، فلا هي طويلة على ذوي الحاجات ولا هي قصيرة عند ذوي الرغبة في العادات، بل هي ترتيل من غير تطويل، وتخفيف من غير تحريف سواء من فضيلته أو من فضيلة مساعده عبد المجيد بن حسن.
تلك نبذة يسيرة لعمل تاريخي من زاوية محدودة لا ترجمة ولا تعريفا إذ التراجم دراسات من مقدمات ونتائج وليس هذا مجالها والتعريف بمن يكون مجهولا ولا محل للجهالة مع عظمة هذا المنصب الذي يعرف بصاحبه لدى القاصي والداني حفظه الله وأمد في عمره لخدمة هذا المنصب الجليل.(4/266)
أما فضيلة الشيخ عبد المجيد بن حسن فقد بدأ دراسته أولا في بلاده ثم واصل دراسته في مدرسة دار العلوم الشرعية بالمدينة إبان حدتها وقوة دراستها حين كان بها القسم العالي للعلوم الدينية والعربية وواصل دراسته أيضا الدينية والعربية في المسجد النبوية على عدة مشائخ منهم الشيخ الطيب رحمه الله.
وقد اختير للتعليم فالتحق بمديرية التعليم آنذاك وكان أول مؤسس لمدرسة شقراء سنة 1360هـ فقام بها خير قيام وكان لفضيلته أكبر الأثر في جميع أبنائها خاصة في أهالي البلدة عامة.
وفي سنة 1366هـ التحق بسلك القضاء فعين بمحكمة رابغ وعمل بها لمدة ست سنوات إلى نهاية عام 1371هـ.
وفي عام 13714هـ نقل إلى محكمة المدينة ثم كان المساعد الثاني لفضيلة الرئيس الشيخ عبد الله ابن زاحم رحمه الله، وكان المساعد الأول فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح.
وفي سنة 1373هـ بدأ الصلاة بالمسجد النبوي مساعدا لفضيلة الإمام عبد العزيز بن صالح وفضيلته الآن المساعد الأول لفضيلة الإمام يعاونه في الصلوات الخمس وينوب عنه في جميعها وفي الخطبة عند غيابه. ويشترك معه في صلاتي التراويح والقيام على النحو الآتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وفي عام التسعين والثلاثمائة والألف عند كتابة هذه الأحرف عين فضيلته عضوا في محكمة التمييز بالمنطقة الغربية وانتدب إلى الهيئة العلمية.
وكما أسلفت فلست في معرض الترجمة ولا بيان المزايا الشخصية والخصائص الفردية لكل من الشيخين فضيلة الإمام ونائبه، فهناك الشيء الكثير سواء ما عرفته من كل منهما، أو عرفه بعض خواصهما أو عرفه كل منهما عن الآخر بحكم ما بينهما حفظهما الله من قوة الصلة وروابط الإخاء والصداقة الشخصية فوق حدود الزمالة والعمل من أول ارتباطهما معا في عمل واحد.(4/267)
فلسنا في معرض بيان كل ذلك فكما أسلفنا معاصرة فضيلتهما أغنت عن تفصيل الحديث عنهما، وما يعرفه الناس عنهما أكثر مما يمكن أن يقال فيهما.
أمد الله في حياتهما وبارك فيهما أمين.
هذه لك عندي، فما لي عندك؟
طلب بعض الملوك كاتبا لخدمته، فقال للملك:
أصحبك على ثلاث:
فقال ما هي؟
قال: لا تهتك سترا، ولا تمنع عذرا، ولا تقبل فيَّ قول قائل.
فقال: هذه لك عندي، فما لي عندك؟
قال: لا أفشي لك سرا، ولا أؤخر عنك نصيحة، ولا أؤثر عليك أحدا.(4/268)
دراسات أدبية
كتاب في أفريقية الخضراء
بقلم الأستاذ محمد المجذوب
المدرس في الجامعة
كثيرون الذين كتبوا في ميدان الرحلات فسجلوا مشاهداتهم، وصوروا انطباعاتهم، وقد اشتهر من هؤلاء رحالون من العرب في القديم والحديث، كان لرحلاتهم العالمية أثرها العميق في قلوبهم وعقولهم، وكان لمؤلفاتهم عنها فوائد جليلة لا نزال نقتطفها وننعم بثمراتها. وما أحسبني مغاليا إذا صنفت كتاب (في أفريقية الخضراء) ضمن هذه المؤلفات الدسمة المفيدة.
إن للأدب الخاص بالرحلات عناصر لابد من توفرها في الكتاب، على رأسها دقة الملاحظة، وحرارة الانفعال، وصحة الحكم، وأخيرا براعة التحليل الذي يربط بين الوقائع والدوافع، على أن يسكب ذلك كله في أسلوب عفوي يحمل طابع السهولة والامتناع معا.
وقد توفر للأستاذ محمد العبودي كل هذه العناصر مجتمعة، سواء في كتابه هذا أو فيما سبقه من بحوث ضمها كتاب أو نشرت في مجلة. فهو في كتابه (الأمثال العامية في نجد) لغوي مدقق، وباحث متتبع، يتقصى الأسباب الجامعة بين المثل الدارج وأصله الفصيح، ولا يفوته إدراك الصلة الاجتاعية بين الوسط والكلمة. وفي كتابه المُعَد للطبع (الثقلاء) ظرف وطرافة، الحافز إليها بالدرجة الأولى ملاحظته العميقة للفروق الدقيقة بين أصناف الطبائع.. هذا إلى ما أوتيه من ثقافة أدبية تجعله مرجعا يعاد إليه في ما غمض من أخبار الأدب والأدباء، إلى مطالعات متجددة لا يكاد يند عنها أي جانب من أنباء العصر.
وطبيعي أن مثل هذه المميزات العقلية من شأنها أن تنفخ في مذكراته - عن جولتيه في أفريقية - روحا ترتفع بها عن مستوى الكتابات العادية التي تكتفي بالوقوف عند السطوح.(4/269)
وقد آثرت لكتابه هذا صفة المذكرات أخذا بما ذهب إليه هو في تعريفها، وجريا مع الطريقة التي سلكها في تسجيل مشاهداته وانطباعاته مقترنة على الغالب بتعيين الأمكنة والأيام.
يصدِّر الأستاذ العبودي كتابه - بعد المقدمة الوجيزة - ببيان واف عن البواعث الأساسية لرحلتيه، فهما مرتبطتان بالمهمة الكبرى التي أسست من أجلها الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وذلك أنها تخصص كل عام منحا دراسية توزعها على أقطار المسلمين.. ولكنها ترى أن يكون هذا التوزيع على أساس الحاجة دون الحجم، ومن أجل ذلك قررت في عامها الثالث إيفاد بعثة إلى بعض الأقطار الإفريقية للاطلاع على واقع المسلمين فيها، وتحديد حاجة كل منها إلى التعليم الإسلامي، وإلى المطبوعات الإسلامية، ودراسة ألوان النشاط الإسلامي والمعادي له، ومدى الحاجة إلى المدرسين من المملكة.(4/270)
وقد بدأت الرحلة الأولى يوم الثلاثاء السادس والعشرين من ربيع الآخر عام 1384هـ، وشملت زيارات الوفد أثناءها السودان وأرتيرية والحبشة والصومال وكينية وأوغندة وبورندي وتنجانيقة وروديسية الشمالية. وقد استغرقت هذه الرحلة قرابة أربعة أشهر، رفع الوفد بنهايتها تقارير وافية عن مشاهداته وانطباعاته، كانت موضع اهتمام بالغ من رئاسة الجامعة ورابطة العالم الإسلامي والوزارات المختصة بالمملكة، وكان من آثارها الطيبة أن رصدت حكومة المملكة مبالغ سخية، وأحدثت مبدئيا قرابة خمسين وظيفة لمدرسين ومرشدين يوفدون لبعض الأقطار الإفريقية ويرتب لهم نظام خاص يحصر نشاطهم ضمن حدود التنوير الديني المحض، ومن ثم تقرر إيفاد المؤلف في رحلة ثانية إلى تلك الأقطار لتعيين أماكن هؤلاء المدرسين والمرشدين وتأمين إقامتهم. وقد زود الوفد بمبالغ كريمة لتوزيعها على الهيئات والمؤسسات والدعاة هناك.. وفوض إليه تقديم منح دراسية واختيار الطلاب الصالحين لها. وقد بدأت هذه الرحلة الثانية بعد سنتين من تلك.. وتجاوزت المناطق الأولى إلى ملاوي وجوهانسبرغ - جنوب أفريقية - والكنغو كنشاسا.
ونظرة فاحصة إلى الفهرس الذي يستغرق ثلاث عشرة صفحة - توضح قيمة الكتاب، إذ يتعرف القارئ من خلال هذا الفهرس ميزة الشمول التي اتصفت بها هذه المذكرات، وأهمية الشؤون التي عالجتها أو عرضت لها. فكما عنيت بالمشاهدة العابرة - لطرافتها - عنيت بالأوضاع الاجتماعية والجوانب السياسية، والمظاهر الدينية، بما فيها من حقائق وما يعتريها من أوهام وخرافات.. فكان فيها ما يضحك ويعجب ويبكي.. وهنا يكمن السر الذي يشد القارئ إلى متابعة هذه اليوميات بشغف واهتمام.(4/271)
ولقد رأيتني أقف مترددا أمام ضخامة الكتاب عندما أردت التعريف به، إذ لم يكن من اليسير عليَّ قراءة سبعمائة وثلاث وستين صفحة في وقت لا أكاد أجد فيه متسعا للتنفس. ولكن سرعان ما وجدتني أتابع موضوعاته بمجرد أن وقع بصري عليها، ثم لا أستطيع بتر أي فصل دون استيفائه، حتى أتيت على الكثير منه في الأيام القليلة.. ومرد ذلك إلى الحيوية التي غمرت جوانبه، والطرافة التي جللته.. هذا إلى أن مضمون الكتاب كله ينبثق من القارة التي تهم كل مفكر مسلم. إنها أفريقية التي نريدها منطلق الإسلام الجديد، وتريدها الصليبية والشيوعية معترك الصراع الذي قد تختلفان فيه على كل شيء إلا القضاء على الإسلام.
فأنت لا تدرك السبب الذي من أجله اختار المؤلف لأفريقية صفة الخضراء، الكثير مما هو في حاجة إليه، إذ يفتح بصره - أثناء تَيْنِك الجولتين - على (بلاد تكاد تكون مجهولة لديه، ومعلومات وملاحظات عن الأوضاع الإسلامية وأحوال المسلمين لا يحسن بالباحثين الذين يهمهم هذا الأمر أن يجهلوها..) .
فأنت لا تدرك السبب الذي من أجله اختار المؤلف لإفريقية صفة الخضراء، ولكن لا تكاد تمضي معه في أنحاء تلك الأقطار حتى تؤيد ما ذهب إليه، إذ ترى الخضرة تغمر كل بقعة هناك، فتعلم من خلال ذلك السر الذي هاج كلب الاستعمار الغربي للانقضاض على تلك القارة التي منحها الله الكثير من الخصب والخير، وأودعها الكثير من الطاقات التي من شأنها - لو أحسن تنظيمها واستثمارها لمصلحة أهلها - أن تكون أنموذجا للعمران والتقدم، بدلا من التخلف الذي أسلمها الاستعمار إليه، حتى أصبحت نهبة لكل طامع من المستبدين والهدامين.(4/272)
وفي أثناء تجوالك مع المؤلف بين مسلمي تلك الأقطار ستضع يدك على الكثير من مواطن الأمل والألم.. إذ تطل على المعارك الرهيبة التي يخوضها الإسلام للدفاع عن بقائه ومعظمها من مخلفات الصليبية التي غادرت أفريقية من باب الجيوش لتدخلها من نوافذ التبشير والصهيونية ووليدتها الشيوعية، العدو الجهنمي الجديد.
وسيدهشك من واقع هذه المعارك صمود الإسلام على امتداد هذه الجبهات كلها، وهو الأعزل من كل سلاح سوى الحق الذي يسلك طريقه إلى القلوب عن طريق الفطرة، فيمتزج معها إلى الحد الذي يعجز أعداء في أيديهم مقاليد العلوم والحضارة والفنون وسائر وسائل الإغراء والاستهواء.
وفي الوقت نفسه سيؤلمك أن ترى الضعف الذي يعتري وجود المسلمين في كل مكان من هذه الأقطار الإفريقية.. ذلك الضعف الذي يكاد يكون شاملا لمختلف جوانب الحياة، وبخاصة في ناحية الثقافة الإسلامية، حيث معظم المسلمين لا يفقهون من العربية ما يمكِّنهم من الاتصال بمنابع الوحي، وليس لديهم من الترجمات لهذه المعاني ما يفي بغرض التوعية، ناهيك بالخرافات والبدع التي تفسد على العامة تصورهم وتفكيرهم، ثم يأتي وراء ذلك التمزق الذي يفتت قوة المسلمين، فيجعل منهم في بعض المناطق شيعا متنافسة يقاتل بعضهم بعضا حتى في الجمعية الواحدة - كما هو الحال في كينية حيث يرتفع عدد الجمعيات الإسلامية إلى 420 دونما جدوى -
ثم تخرج من ذلك كله بهذه النتيجة المؤثرة، وهي أن الطاقة الإسلامية العاملة هناك إنما هي طاقة أفراد وهبوا أنفسهم لله، فهم جنوده المجهولون، هالهم ما يتعرض له دين الله من أخطار، فتقدموا لحمل لواء الدعوة يجمعون تحته القوى، ويبصِّرون المسلمين بواقعهم وواجبهم ومصائرهم، ليتعاونوا معهم على صد الأرزاء وتثبيت العقيدة العاصمة في صدور الأبناء، الذين أصبحوا بتأثير الثقافة الغربية المسمومة صيدا قريب المنال لسهام الأعداء.(4/273)
في هذه المناطق التي نجوبها مع المؤلف ركائز بعيدة الغور للوجود الإسلامي، تتجلى في ميادين عديدة.. لعل أهمها إطلاقا ذلك الارتباط الروحي بالقرآن العظيم. فأنت أنى سرت خلال هذه المذكِّرات تجد إقبالا عليه، واهتماما بتلاوته، وإن وقف ذلك غالبا عند حدود التبرك والتعبد المجرد عن الفهم.. ذلك لأن القوم، سواء منهم الأفارقة الأصليون، أو الأعاجم المهاجرون، ولا يكادون يفقهون - كما أسلفنا - حرفا من العربية، التي هي المدخل الأول إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم لا يقل في ذلك عن الأهمية إقبال هؤلاء على العبادات الإسلامية من صلاة وصيام ونوافل.. تلك العبادات التي لا نظير لها في تحصين القلوب وتفتيت الفوارق. وإمداد المجتمع الإسلامي بكل عوامل الاستمرار ثم يلي هذا وذاك بعض الجمعيات والمؤسسات والمدارس والكتاتيب التي تقوم هنا وهناك من تلك الأقطار، فتأتي كتعبير عملي عن تنبه الجماعات الإسلامية إلى حاجتها للتنظيم الذي يساعدها على التقدم، ويمكنها من مواجهة التحديات الهائلة التي تنصب عليها من مختلف التيارات الغازية.. أجل.. إن القارئ ليطل من خلال هذه المذكرات على تلك الركائز التي من حقها أن تشدد الأمل بمستقبل الإسلام في تلك القارة، ولكنه لا يستطيع أن يتساءل: أين هم البناة الذين يحسنون استخدامها لتشييد الصرح الإسلامي الجديد في أفريقية الغد! ..
إن التعلق بكتاب الله لا يؤتي ثمرته إلا بالنفاذ إلى معانيه، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتمكين للعربية من ألسنة القوم وعقولهم، بحيث لا يقل اهتمامهم بها عن اهتمامهم بلغتهم القومية، ولا أمل في هذا الخير إلا بتوفير المدرسين لهذه اللغة في المدارس التي تعدُّهم للحياة.. ومن غير العرب يحمل مسئولية هذا العمل أمام الله وأمام الأجيال القادمة من أبناء هذه الأمة في أفريقية ... وفي غير أفريقية من أرض الله! ...(4/274)
ولكن.. متى كان العربي مَعْنِيًّا بأمر هذه اللغة والتمكين لها بين غير أهلها إذا فرَّغ قلبه من الإيمان برسالة الإسلام؟ ... وإذا كان الأمر كذلك فطبيعي أن تكون الدولة التي تضم الحرمين وترفع راية التضامن الإسلامي في العالم، هي الأَوْلَى بالاستجابة إلى هذا الواجب، والأجدر بحمل العبء الأكبر من هذه المسئولية.
وهذا هو الأمر الذي استهدفت هاتان الرحلتان المباركتان تحقيقه.. فكانتا الخطوة الأولى في طريق طويل من العمل الإسلامي الذي وطنت المملكة العربية العزم على النهوض به بكل ما وسعها من جهد..
لقد قام مؤلف هذه المذكرات مع إخوانه الموفدين لتلك المهمة بواجبهم كاملا، فاطَّلعوا على أحوال المسلمين في تلك الأقطار عن كثب، وتعرفوا مدى حاجة كل منها إلى العون الأخوي فقدموا للعاملين في خدمة الإسلام ما حملوه إليهم من عون كريم مشجع، ورفعوا إلى المسئولين في المملكة اقتراحاتهم البنَّاءة التي لم تلبث أن تحولت إلى أعمال، فانتشرت بعثات الوعظ والإرشاد والتدريس في تلك المناطق بأسرها، ووزعت منح الدراسة على العديد من أبنائها.. ثم تم إنشاء أول معهد سعودي لتدريس الإسلام والعربية في الصومال الشقيق، وأول الغيث قَطر ثم ينهمر.
وإلى جانب هذه التقريرات الحيَّة المؤثرة يطالعنا الطابع العلمي في الكتاب مطلا من منافذَ عدة وجوانب مختلفة. فهناك نَقْدُه الاجتماعي الذي يتناول بعض الأوضاع غير المرضية، ثم نَقْدُه للخرافات التي تتخذ لَبُوسَ الدِّين في بعض المناطق الإسلامية، كحديثه عن المتاجرين بالقبور، وأخبار من يسمونهم بالأولياء.. وهناك النظرات التاريخية كحديثه عن وصول الإسلام إلى سواحل كينية وملاوي، وعن بناء العُمَانِيينَ مدينة دار السلام - عاصمة تنزانية -.(4/275)
ونخص بالذكر تحليله الدقيق لمأساة العرب في زنجبار ثم تنزانية، ومقدماتها البعيدة، وتحديده المنصف لتبعة العرب في تلك الفواجع الدامية، ثم علاقة ذلك كله بالدعايات الغربية واللإيحاء الصهيوني، وبردود الفعل العِرْقِي ضد الجنس الأبيض في بعض المناطق، وضد الأجناس غير السوداء مطلقا في بعض المناطق الأخرى.. وما رافق ذلك من أحقاد أدَّت - في الكنغو - إلى أكل لحوم بعض الإيطاليين على مسمع ومرأى من شهود عيان!.
ومع تقديرنا لموضوعية هذه الأحكام نرى أن يضاف إلى عوامل المأساة في زنجبار مساعي اليسارية العربية، التي تولت تدريب القتلة في ظل بعض الأنظمة الاشتراكية.. الأمر الذي أعلنه أصحابه مع قيام الثورة نفسها.. ثم ما أشار إليه المؤلف من دسائس بعض السفارات العربية ضد الحكم القائم في ملاوي - وغيرها - مما أدى إلى زيادة التغلغل اليهودي في تلك الأقطار على حساب مصلحة العرب!
وقد تتبع المؤلف أثر الاستعمار في تأخر المسلمين، وتعمُّد المستعمر إقصاءهم عن الحياة العامة، وتركيزه على إضعاف اللغة العربية، وتحويل الشعوب الأفريقية عنها وعن الكتابة بحروفها إلى لغاته وحروفه، فجمَّد بذلك حركة المد الإسلامي إلى حد بعيد. واستعان بالتبشير لضرب الإسلام في عقر داره، ولانتزاع أبناء المسلمين من دين آبائهم، حتى أصبح هناك أسر تحتوي بين أفرادها المسلمين والمسيحيين!.
ولا ننسى أن نشير هنا إلى ملاحظته الدقيقة للصلات اللغوية بين العربية ولغات السواحل الشرقية من أفريقية، حيث تكوِّن من امتزاجها لغة خاصة هي السواحلية. وقد أحسن صنعا بما قدمه على ذلك من شواهد في جدول مقارن استغرق ثماني صفحات.(4/276)
ومن الجوانب العلمية الأخرى في الكتاب تلك المحاورة التي عقدها المؤلف مع طيَّار من جنوب إفريقية يعمل في الكنغو وقد جمعته به الطائرة على غير ميعاد فكانت فرصة سانحة للحديث عن السياسة العنصرية وموقف الإسلام منها. وقد حاول ذلك الأوربي تسويغ التمييز الذي تمارسه بلاده بكل ما أوتي من منطق، ومن ذلك احتجاجه بمنع الإسلام غير المسلمين دخول مكة المكرمة. فكان رد المؤلف على غاية من الإحكام، إذ أوضح لذلك العنصري سمو نظرة الإسلام إلى الإنسان، وتقرير مكانته على أساس الكسب الشخصي الذي يتساوى في مسئوليته الناس جميعا، دون الجانب الطبيعي الذي لا بد لصاحبه في تكوينه، ولا قدرة له على تبديله.
ومن طرائف هذه المحاورة تلك العبارة التي كشف بها ذلك العنصري المتعصب على لعبة الأوربيين والأمريكيين في موقفهم من أنظمة التمييز في جنوب أفريقية وروديسية، إذ يملئون ردهة المجالس العالمية ببكاء الحريات والتظاهر باستنكار تلك الجرائم العنصرية، ولكنهم يرفضون استعمال القوة لوقفها! فقد سأله المؤلف عن رأيه في المسألة الروديسية، وعما إذا كان يتوقع زوال الوضع الشاذ الذي فرضته جماعة سميث عليها. فأجاب: ((نحن لا نخشى شيئا، لأن من بأيديهم القوة لا يمكن أن يستعملوها ضدنا أو ضد روديسة.. أما من يرغبون في تدميرنا حقا فإننا أقوى منهم..)) .
والكتاب إلى هذا غني بالمشاهد العاطفية، فهي تطالع القارئ بنفحاتها اللاذة بين الحين والحين، وقد هزتني منها بخاصة ثلاثة مشاهد لا أزال أحس آثارها في أعماق نفسي.(4/277)
أما الأول فهي زامبية حيث يلتقي الوفد بشيخ باكستاني في بيت قريب له من كبار المسلمين الهنود، فما أن يعلم هذا الشيخ هوية الزائرين حتى يطلق لشجونه العنان، وجعل يقول والدمع ينساب من عينيه: "إنني شاهدت منذ أيام بعض أبناء المسلمين وهم لا يعرفون حتى أنهم مسلمونأنهم مسلمون، لأنهم لم يجدوا من يشرح لهم الإسلام، أنهم أنهم مسلمون، لأنهم لم يجدوا من يشرح لهم الإسلام، ولم يجدوا مدارس إسلامية فدخلوا مدارس المبشرين صغارا فنصروهم.. تصوروا كيف يكون حزنكم إذا علمتم اسم أحدهم (هنري محمد) أو (جيمس علي) . ومن أجل ذلك يرى هذا الشيخ أن الاتصال بالمسلمين في أفريقية، ومساعدتهم على الاحتفاظ بدينهم ولا سيما بين الناشئة منهم، واجب يخص كل مسلم.. ويقع العبء الأكبر منه على المملكة العربية السعودية بصفتها مهبط الوحي ومنبع الدين الإسلامي..
ثم يأتي المشهد الثاني في جامع بلانتير - من ملاوي - حيث نرى الأطفال الهنود يستعدون لصلاة المغرب مع الشيوخ والشبان والكهول، فما أن بصروا بالمؤلف ورفيقه حتى أحاطوا بهما، ولما علم القوم أنهما من المدينة المنورة أخذهم العجب والفرح.. وتجلى ذلك على أَشُدِّه في المؤذن الإفريقي الذي هزته روعة المفاجأة فلم يستطع التعبير وأخذ يردد كلمات: "المدينة المنورة.. الرسول صلى الله عليه وسلم ".
أما المشهد الثالث ففي المسجد الجامع بسالزبوري - روديسية الجنوبية - أثناء رمضان، حيث نستمتع مع المؤلف بمنظر المسلمين مكبين على تلاوة القرآن منذ انقضاء صلاة العصر حتى موعد الإفطار، فيقبلون عليه في مشاركة روحية رائعة، حتى إذا حانت صلاة العشاء غص المسجد بالمصلين كبارا وصغارا، ثم لا يغادره أحد منهم إلا بعد أن يؤدي صلاة التراويح..(4/278)
وكم في دمعة ذلك الشيخ الباكستاني الخائف على دينه.. وكم في مشهد الأطفال والمؤذن، وقد غمرتهم نشوة الحب لطيبة وساكنها الحبيب.. وكم في منظر أولئك الصائمين والقارئين المصلين المتحابين في الله الملازمين حتى للتراويح.. كم في هذا وذاك وذلك من معان يستشرفها الشعور، وتضيق عن استيعابها السطور!..
وأخيرا.. إن أقل ما توصف به هذه المذكرات هو أنها ليست عرضا جامدا أو سردا ميتا.. وإنما هي نتاج تفكير، وملاحظة وشعور، فهي بهذا كله تعتبر عملا أدبيا حيا..
وطبيعي أن كتابا ينطوي على كل هذه الجوانب من الشطط الإدعاء بأن صفحات يسيرة كهذه يمكن أن تستوعب خلاصته، أو تقدم صورة كاملة عنه. ولكن حسبها من الخير أن تؤكد للقارئ أن في هذا المؤلف خيرا كثيرا لا سبيل إلى الاستمتاع به كله إلا بمطالعته كله.(4/279)
العدد 10
فهرس المحتويات
1- أثر القرآن في تنمية القوى الإنسانية: بقلم الشيخ: أحمد عبد الرحيم السائح - من علماء الأزهر
2- أخبار الجامعة
3- في مناسبات الآيات والسور (3) - آراء العلماء في المناسبات: للشيخ أحمد حسن
4- الإسلام والمذاهب الاشتراكية: بقلم فضيلة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي
5- التراويح أكثر من ألف عام في المسجد النبوي: بقلم الشيخ عطية محمد سالم
6- الشباب الضائع: بقلم الطالب عبد الله العبادي
7- العبرة في شهر الصوم: بقلم الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
8- القرآن الكريم.. دراسته وتعليمه في جميع بلاد الإسلام: نص قرار المجلس لرابطة العالم الإسلامي
9- المكتبات العامة وأثرها في تثقيف الأمة: للدكتور محمود بابللى
10- ثقافة… ودين: نقلا عن مجلة دعوة الحق
11- سلام على المنابر: شعر الطالب: عبد الشكور محمد أمان الأثيوبي
12- شعر أهل الحديث: بقلم الأستاذ: عبد العزيز القارئ
13- صدر حديثاً:
14- في ظلال سورة الأنفال: بقلم الشيخ: أبي بكر جابر الجزائري
15- مع الصحافة - حول المؤتمر الإسلامي في أمريكا الجنوبية: تحقيق صحفي مع فضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية
16- مكانة المسجد في الإسلام: بقلم الشيخ: محمد بن حمود الوائلي
17- من وحي السنة: بقلم الشيخ علي ناصر فقيهي
18- من.. ولماذا؟ (قصة) : بقلم الشيخ: محمد المجذوب
19- ندوة الطلبة - دراسات في الديانات الهندية - الديانة الجينية - الجينية (جين دهرم)
بقلم الطالب: محمد ضياء الرحمن الأعظمي
20- نظرات في حديث أصحابي كالنجوم: بقلم الطالب: صالح بن سعيد بن هلابي
21- يستفتونك: يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رئيس الجامعة الإسلامية
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(4/280)
أثر القرآن في تنمية القوى الإنسانية
بقلم الشيخ: أحمد عبد الرحيم السائح - من علماء الأزهر
هذا الإتجاه الواضح الذي أخذ فيه القرآن الكريم بيد الإنسان، وطاف به في أعماق هذا الكون، هداه إلى أسراره، وأوحى إليه أن يتأمل فيه ويتدبر، ويتعلم وليسخره لمنفعته، ويستخدم عقله في سبيل ذلك إلى حدود لم تحدد.
هذا الإيحاء هو الذي دفع بالمسلمين إلى الخوض في بحار العلوم المختلفة، وأدركوا مبلغ الحاجة إليه في بناء مجتمعاتهم، ودعم سلطانهم، وعرفوا أن العلم: هو الذي يوضح لهم معالم السير على النهج القويم، ويفتح لهم آفاق الحياة والقوة، ويكشف لهم عن أسرار العوالم الكونية ونواميسها، ويقيم لهم وسائل الحياة، والسؤدد ويبني لهم قواعد المجد والعزة.
عرفوا كل هذا، فوجهوا عزائمهم إلى طلب العلوم على اختلاف أنواعها ولم يشغلهم عن طلبها ترف الحضارة، ولا ثنت عزائمهم عنها بأساء الحياة وضراؤها، وبحثوا عنها في آيات الله التشريعية، وآياته الكونية وأقاموا لها في كل قطر إسلامي مناراً عالياً، وحملوا مشاعلها إلى مشارق الأرض ومغاربها، ولم يقفوا بجهودهم عند نتاج عقولهم وأفهامهم بل اتجهوا بها أيضاً إلى علوم السابقين فاستخرجوها من زوايا النسيان والإهمال.
وأخذوا إبريزها بعد أن زادوه نقاء وصفاء، وردوا زائفها بعد أن بينوا زيفه وفساده؛ لأنهم كانوا يطلبون العلوم طلب الناقد البصير.
واكتمل لهم من ملكات العلوم والفنون في جيل واحد، ما لم يكتمل لأمة من الأمم الناهضة، في عدة أجيال وفي ذلك يقول بعض المؤرخين من علماء الغرب: (إن ملكة الفنون لم يتم تكوينها في أمة من الأمم الناهضة إلا في ثلاثة أجيال: جيل التقليد، وجيل الخضرمة، وجيل الاستقلال والاجتهاد، إلا العرب وحدهم، فقد استحكمت لهم ملكة الفنون في الجيل الأول الذي بدأوا فيه بمزاولتها) .(4/281)
نهضة علمية جبارة، قام بها المسلمون على رغم الأحداث العاتية التي حملوا أعباءها، والحروب الطاحنة التي خاضوا غمارها.
لأن الأحداث والخطوب، وإن بلغت من العنف ما بلغت، لا تستطيع أن تقف في طريق العقائد التي انطوت عليها القلوب، وانفعلت بها النفوس، ولا أن تمنع العزائم القوية من الوصول إلى أغراضها وأهدافها.
وبهذه النهضة العلمية الجبارة، استطاع المسلمون أن يعملوا عمل الأقوياء لأن العمل لبناء المجتمعات في دينها ودنياها لا يصدر إلا عن إرادة قوية دافعة، والإدارة القوية الدافعة لا تصدر إلا عن العلم.
وبهذه النهضة العلمية، استطاع المسلمون في سرعة لم يعهد لها مثيل في تاريخ النهوض أن ينتقلوا من أمة الأمية، والانطواء على النفس إلى أمة العلم والقيادة الفكرية العالمية، وأن يصبحوا أساتذة العالم، وقادة الفكر، ورواد العلوم والفنون، يدرسونها للأجيال المعاصرة كأحسن ما يكون الدرس والتعليم، ويدونونها للأجيال المقبلة كأحسن ما يكون التأليف والتدوين، وينشرونها في شعوب كانت تائهة في عماء الجهل وظلمته.
فقد كانت بعوث الأمم، تفد على العواصم الإسلامية من كل ناحية، فيأخذون من علمائها ما شاءوا من أفانين العلوم وألوان المعرفة، ثم يعودون إلى بلادهم حاملين إليها مشاعل هذه العلوم التي أخرجتهم من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة ونفحت فيهم روح الحياة، وفتحت لهم طريق الانتفاع بأصلين عظيمين من أصول الإصلاح الإسلامي، وهما حرية الفكر، واستقلال الإرادة.
كما شهد بذلك المنصفون من علماء الغرب، فيما كتبوه لمرضاة العلم في ذاته.(4/282)
قال أحدهم: "إن المسلمين كانوا منفردين بالعلم في تلك القرون المظلمة وإن الفضل في إخراج أوروبا من ظلمة الجهل إلى ضياء العلم، وفي تعلمها كيف تنظر، وكيف تفكر، راجع إلى المسلمين وآدابهم ومعارفهم التي حملوها إليهم عن طريق أسبانيا وإيطاليا وفرنسا، وإن العرب هم أول من علم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين والعقيدة، وإن نشأة المدنية في أوروبا قامت على أصلين عظيمين وهما: حرية الفكر، واستقلال الإرادة، فلم تنهض العقول للبحث، ولم تتحرك النفوس للعمل إلا بعد أن عرفت أن لها حقا في طلب الحقائق بعقولهم وأفهامهم، وفي تصريف شئونهم بإرادتهم واختيارهم.
ولم يصل إليهم هذا النوع من العرفان إلا في الجيل السادس من ميلاد المسيح، حينما سطع عليهم شعاع من آداب الإسلام ومعارف المسلمين".
تقدم المسلمون في كل ميادين الفكر الإنساني عندما عملوا عقولهم في البحث والدراسة وانتهجوا نهج القرآن العقلي الذي وضح لهم.
وهذا الاتجاه من القرآن الكريم لاستعمال العقل هو الذي هدى المسلمين في المقام الأول للعمل على تنمية القوى العقلية، حتى كانت لهم حضارات رائعة، وما زالت تتحدى الحضارات الإنسانية عراقة وأصالة.
كما أن المسلمين استفادوا من ثقافات الأمم التي انتشر بينها الإسلام، والتي لم ينتشر فيها الإسلام.
ولم يكن المسلمون مجرد نقلة، ولكنهم كانوا مفكرين ناقدين مجددين فشرعوا في الفقه والقانون ومناهج البحث، ودونوا التاريخ، ووضعوا نظريات الاجتماع وأحدثوا أسساً عظيمة للفلك، والجغرافيا، والطب، والكيمياء، والطبيعة، والفلسفة، والرياضة، والهندسة.
وفوق هذا وذاك، كانوا واضعي طريق البحث التجريبي الذي كان أساساً للحضارة الأوروبية الحديثة.
ويكفي أن نستشهد في هذا باعترف (بريفولت) BRIFFAULT في كتابه:
MAKINJ OF HUMANITY
"إن الأوروبيين درسوا عن العرب طرق البحث العلمي التجريبي، وأنه لم يسبقهم إليها باحث أو مفكر".(4/283)
ويؤكد (بريفولت) BRIFFAULT
"أن نفي هذا عن المسلمين، هو نوع من التضليل في فهم المصدر الحقيقي للحضارة الأوروبية" (1) .
ولقد خلف المسلمون ميراثاً، كان لأوروبا نبراساً، اعتدت به في عصورها المظلمة الحالكة الظلام.
وكانت مؤلفات العلماء المسلمين تدرس في جامعات أوروبا، وكان الأساتذة المسلمون يمدون أبناء أوروبا بما وهبهم الله من معرفة.
ولئن أفلتت القيادة الفكرية والسياسة من أيدي المسلمين حيناً من الدهر فقد استيقظ المسلمون على دوي المدافع، وضجيج الآلات، وأزيز الطائرات وسباق الفضاء.
والإسلام قادر بطبيعته الذاتية على مواجهة متطلبات كل زمان ومكان؛ لأنه الدين الذي ارتضاه رب العزة للإنسانية في مسيرتها عبر الزمان.
وما على المسلمين إلا أن يعودوا إلى الاغتراف من المنابع الإسلامية الأصيلة وينهلوا من المنهل الحق، ويتمسكوا بقيم الإسلام وتعاليمه وفي ذلك الشفاء، وإلى اللقاء.
---
(2) انظر: مجلة رسالة الإسلام العدد 5 ـ 56 ص 323 الزمالك.
(3) المصدر السابق ص 326.
(4) مجلة الدراسات الإسلامية المجلد الثاني عدد 5 ص 51 باكستان ـ إسلام آباد.(4/284)
ثقافة … ودين
نقلا عن مجلة دعوة الحق
نشرت مجلة دعوة الحق في عددها الأول من السنة الرابعة عشرة افتتاحية تحت عنوان: (ثقافة.. ودين) جاء فيها:
سئل أحد الرجال الذين هداهم الله أخيراً إلى اعتناق دين الإسلام بعد بحث واستقراء لما عرف في هذا الكون من ديانات وثقافات.. عن السبب الذي حدا به إلى الإقدام على هذا العمل، فأجاب على الفور:
إنني كنت أبحث عن عقيدة ذات ثقافة.. وفي الوقت نفسه كنت أبحث عن ثقافة ذات عقيدة.. فكانت رحلتي شاقة.. وأتعابي مضنية.. فكم وجدت من ثقافات لا تربطها بالعقائد رابطة.. ولا تجمعها بها جامعة.. وكم وجدت من عقائد لا تصلها بالثقافات صلة تذكر.. فهي في واد.. وثقافة أهلها في واد آخر.
وقد علمتنا التجربة التاريخية أن كل حضارة لم تعمق جذورها في ثقافة ذات عقيدة.. وعقيدة ذات ثقافة.. فإنها تكون في مهب الرياح..
ولا يعنينا هنا أن يكون هذا الجواب معبراً صادقاً عن واقع هذا الرجل.. ولا يعنينا أيضاً أن يكون هذا الجواب صحيحاً أو غير صحيح.. وإنما يعنينا أولا وقبل كل شيء أن نعرف أصل الفكرة التي يشير إليها ومقدار عمقها أو سطحيتها…
فالباحث الدارس الذي يستهدف في بحثه النزيه الصلة الوثقى بين الإسلام وثقافة معتنقيه.. يجد أن الإسلام من حيث هو يتلخص في شيئين اثنين:
دين.. وثقافة.. وكل منهما يعمق في الآخر معاني الخير والطمأنينة من جهة.. ومعاني البحث والفهم والمعرفة من جهة أخرى.. وبذلك تمتد خيوط الصلة بين الدين والمجتمع.. وتقاس أعمال الخير والصلاح والفساد والنفع والضر.. بمقياس دقيقة تجعل الناس على بينة من أمرهم في كل عمل يربطهم بالآخرين.. كما تجعل الإنسان يسمو في مطامحه الشخصية والاجتماعية عن الأنانية والوصولية والغش والخداع.. لأن عليه رقابة من ضمير شريف..(4/285)
وإذا كانت نوازع الإنسان متعددة.. يملي بعضها العقل..بينما يملي بعضها الآخر القلب والوجدان.. فإن من السخافة والجهل بطبيعة الأشياء.. أن يحاول دين ما.. أو ثقافة ما أن تجعل من الإنسان ذا نوازع عقلية صرفة، أو ذا نوازع وجدانية صرفة.. في حين أن الإنسان عقل ووجدان..
وهذا ما يشير إليه الجواب الذي قدمناه آنفاً.. حيث إن هذا الرجل الذي هداه الله إلى الدين الحق.. كان يبحث عما يروي ظمأه العقلي.. وظمأه الوجداني في وقت واحد.. ولا شك أن ذلك هو الخط المستقيم الذي يمر عليه كل تفكير مستقيم..
وأخطاء العصر.. ومآسيه.. ومشكلاته.. التي يتخبط فيها الأقوياء والضعفاء.. والمنتصرون والمنهزمون والأثرياء.. والبؤساء.. هي نتائج وليست مقدمات.. هي نتائج التنكر لطبيعة الإنسان مفرداً.. ومجتمعاً.. والتذكر لطبيعة الأشياء في الحسيات والمعنويات.. وحفر هوة عميقة بين عنصري الحيوانية.. والإنسانية.. في بني الإنسان..
فبقدر ما يحقق الإنسان انتصارات علمية.. واختراعات بشرية.. وتقدم يسير.. ويطير بقدر ما يسجل على نفسه في عصر الذرة والصاروخ سخافات وتفاهات وحماقات.. أفقدت السعداء سعادتهم.. وضاعفت في الأشقياء شقاوتهم.. ولو كان الإنسان يحقق انتصارات أخرى في الميدان الذي تهيم فيه الأرواح والقلوب.. وتتلوث الأخلاق.. والضمائر.. وتنتهك فيه الحرمات الإنسانية.. لكان بذلك يحفظ توازن الحضارات والثقافات ويضمن استمرار المجتمعات وتسلسل حلقات الحياة.. عبر الزمان والمكان.
ولقد أخطأ الإنسان في ماضيه يوم كان يخرج من وثنية إلى أخرى.. عبد الشمس.. والنار.. والكواكب.. والأشجار.. والحيوانات.. وقدس الأزمنة والأمكنة.. وهام بعدد من المخلوقات هياماً شبيهاً بالعبادة.. إن لم يكن عينها..(4/286)
ثم كفر بمعبوداته ونبذها وانقلب عليها وآمن بالله.. لأنه أدرك أنه المعبود الحق الذي توحد عبادته بين القلوب.. وتؤلف بين الشعوب.. وتسمو بالإنسانية إلى درجة السمو الممكنة في إطار هذه الحياة..
واليوم يعيد الإنسان سيرته الأول.. فيعمد إلى المادة.. وإلى المادة وحدها.. ليجعلها علماً وعملاً.. وثقافة.. وقيمة.. ومقياساً.. وبذلك يجدد عهد الوثنية البغيض..
وعلى العادة.. فيسكفر الإنسان بالمادة.. وسيتنكر لها وسينبذها.. لأننا ألفنا منه ذلك في تاريخه الطويل.. وسيدرك الإنسان أنه بنى قصوراً على الرمال.. وشاد صروحاً على الفضاء.. يوم اعتمد على المادة وحدها وجعلها فلكاً يدور فيه في كل حركاته وسكناته.. وتنظيماته واستعداداته لأنه بعمله ذاك زرع الخوف.. كما زرع الألم.. وزرع الحقد كما زرع الانحلال..
وإذا صح ما يتنبأ به مفكرو عصرنا فإن مصير الإنسانية بعد عصر الذرة والصاروخ لن يكون إلا إلى الإيمان..!
(مؤمن)(4/287)
سلام على المنابر
شعر الطالب: عبد الشكور محمد أمان الأثيوبي
ما لإخواننا سبتهم رعاء
بعد مجد له الملوك فداء
بعد عز هوى له ملك كسرى
وتهاوت أمامه العظماء
ولآبائهم منابر عز
عجزت عن صعودها الخطباء
ولهم في العلى مبوأ صدق
لم تنله الملوك والأمراء
ولكسرى عن مرتقاهم كسور
وقصور لقيصر وانحناء
خدمتهم ملوك فارس والرو
م وهم بعد ملكهم خدماء
لم يكن من شعارهم (وطني) بل
صلوات شعارهم ودعاء
فعليهم مدى الزمان رضي الله ومنـ
ـه مثوبة وجزاء
اعجز الغرب غزونا بسلاح
وثناه القنوط والإعياء
فمضى يركب الأضاليل والمكر
فيعنو لأمره السفهاء
اقتدوا بالعدو في كل شر
ولبئس التقليد والاقتداء
ويقولون بالسياسة نبني
ولكم هد بالنفاق البناء
كم تغنوا بالدين والقلب عار
وتنادوا والدين منهم براء
صدفوا عن صراطه فأضاعوا
مجد آبائهم فخاب الرجاء
هجروا نهجه القويم فضلوا
وهدى الله ليس فيه التواء
يدعون النهى وقد خسروها
أمن العقل أن يجافى الدواء؟
كيف يرجى الخلاص والبحر طام
وتوالى (1) العواصف الهوجاء؟
وسلام على المنابر من بعـ
ـد أناس هم للمعالي سماء
ملكوا العز بالنفوس الأبيا
ت فنعم الهدى ونعم الإباء
سأبكي ما عشت تلك المعالي
وأنادي إن كان يغني النداء
أسفا بعد عزة خسروها
وبكاء لو كان يجدي البكاء
---
الفعل مضارع حذفت إحدى تاءيه.(4/288)
شعر أهل الحديث
بقلم الأستاذ: عبد العزيز القارئ
المدرس بمعهد الجامعة
ـ 1 ـ
مما جرى على الألسنة واشتهر ما نسب إلى الإمام الشافعي رحمه الله، وهو قوله:
لكنت اليوم أشعر من لبيد
ولولا الشعر بالعلماء يزري
فما نصيب العلماء من الشعر؟ وما نصيب المحدثين منهم؟ وهم في الخاطر أجدر بأن يكونوا أبعد الناس وأقلهم فيه.
لم أشأ أن أوسع بحثي لأتناول العلماء على اختلاف اختصاصاتهم وقد أكتب في الموضوع بتوسع في بعض المناسبات.. لكني اخترت أهل الحديث من العلماء لأدرس شعرهم وموقفهم من الشعر والشعراء.
وفي النفس أمل يراودها بأن أكتب فيما بعد (أدب العلماء) في مصنفاتهم سواء منها العلمية أو الأدبية، فهو موضوع مهم يحتاج إلى دراسة واسعة..
قبل الشروع في شعر أهل الحديث.. يحسن أن أقدم له بالكلام عن الشعر وميزان الجمال فيه ثم موقف النبي صلى الله عليه وسلم من الشعر والشعراء.. مع بحث بعض الآيات والآثار التي ظاهرها ذم الشعر والحث على هجره.
الشعر وديوان العرب:
قيل لسعيد بن المسيب: إ ن قوماً بالعراق يكرهون الشعر، فقال: "نسكوا نسكاً عجيباً". ذلك لأن الشعر من أعظم ما جادت به ألسنة العرب، وهو عنوان لغتها وبلاغتها وسجل حوادثها وتاريخها، وترجمان أخلاقها وعاداتها، وكان أحب إليهم من غيره وأرفع قدراً وأعظم شأناً، فهي أكثر اشتغالاً به وأكثر حفظاً ورواية له، وأعظم حرصاً عليه ولذلك فقد نقل إلينا من أشعارهم أكثر مما نقل من منثورهم. وقد قيل: إن ما وصل إلينا من منثورهم عشره، وما ضاع من منظومهم عشره (1) ومن إعظامهم لشأن الشعر قرنوه بالكهانة والسحر؛ لأن كلا منهما يغير الأشياء في مرأى الإنسان ومخيلته بأساليب تأثيرية نافذة، فتأثير الشعر في نفوسهم أشبه تأثير السحر حتى قال قائلهم:
رواية مرا ومرا شاعرا
لقد خشيت أن تكون ساحراً(4/289)
ولذلك لما تحيروا من عظمة بلاغة القرآن وقوة بيانه لم يجدوا ما ينسبونه إليه إلا الشعر أو السحر فمرة قالوا: "هذا سحر"، ومرة قالوا: "هذا شعر".
وهذا منهم دليل على إعظامهم لشأن الشعر.. وقد رد الله عليهم بقوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ, وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} (1) .
إلا أن الشعر تميز بأن أساسه التأثير بواسطة التخييلات البيانية من تشبيه واستعارة وكناية ونحو ذلك.. ولما كان الخيال صورة من صور الكذب قيل إن أعذب الشعر أكذبه. ولكن ليس ذلك على إطلاقه، فإن العمدة في حسن الشعر وجودته على صدق الشعور وجمال التعبير.. وكم من أبيات اعتبرت من عيون الشعر بينما هي لا تعتمد على أي صورة كاذبة، وإنما تتجلى بلاغتها في حسن إصابتها للمعنى الصحيح وحسن صياغتها في تعبير جميل.. ولعل حسان رضي الله عنه كان يعني هذا الميزان حينما قال:
بيت يقال إذا أنشدته صدقا
وإن أشعر بيت أنت قائله
إلا أن الذي غلب على الشعراء المبالغة في الصور البيانية إلى حد التخييل الكاذب الصريح.. وخاصة في مقاصد الوصف والمدح والهجاء، فتسابقوا إلى الإغراب في ذلك وإلى ابتداع المعاني الموغلة في الاستحالة، زاعمين أنه بذلك يحلو الشعر ويستعذب.. فمن قائل:
عقيقاً فصار الكل في جيدها عقدا
بكت لؤلؤاً رطباً فسالت مدامعي
وقائل:
وقدت لرجل البين نعلين من خدي
وجذت رقاب الوصل أسياف هجرها
وقائل:
منك يشكو ويصيح
بح صوت المال مما
وقائل:
صليل البيض تقرع بالذكور
فلولا الريح أسمع من بحجر
ولعمري لو كان هذا الميزان صحيحاً إذاً لكان أكثر حسناً وعذوبة في الشعر قول أبي نواس:
لتخافك النطف التي لم تخلق
وأخفت أهل الشرك حتى أنه
أو قول المتنبي:
من فيه أحلى من التوحيد
يترشفن من فمي رشفات
أو قول جرير:
على خبث الحديد إذا لذابا
ولو وضعت فقاح بني نمير(4/290)
والنقاد يجمعون على استهجان مثل هذا الشعر مع أنه أشد إغراقا في الكذب: فالنطف التي لم تخلق لا تخاف صاحب أبي نواس، وربما حتى لو خلقت، والرشفات من فم المتنبي حاشا أن تكون أحلى (من التوحيد) وفي بيته هذا قبح من وجهين: تغزله بنفسه، واعتداؤه القبيح على مثل هذا الجناب العظيم (1) .. وكذلك فقاح بن نمير لا يمكن في أي يوم من الأيام أن تذيب الحديد أو خبثه مهما كان شأن بني نمير مع صاحبهم.
فكل هذا مستقبح مستهجن مع أنه من أكذب ما قيل من الشعر.. بل قالوا في قول المهلهل: "فلولا الريح أسمع من بحجر". إنه أكذب بيت قالته العرب.
ولكن لعلك تستعذب معي مثل قول كثير:
أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
وكنت إذا ما زرت سعدى بأرضها
إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
من الخفرات البيض ود جليسها
أو قول جرير في الفخر:
حسبت الناس كلهم غضاباً
إذا غضبت عليك بنو تميم
أو قول المتنبي في مطلع قصيدة:
وتأتي على قدر الكرم المكارم
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
أو قول عنترة العبسي:
مني وبيض الهند تقطر من دمي
ولقد ذكرتك والرماح نواهل
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
فوددت تقبيل السيوف لأنها
فهل تجد في هذه الأبيات شيئاً من الصور الكاذبة المستحيلة؟. ومع ذلك فهي من أعذب الشعر وأجوده حتى لقد قيل في قول كثير عزة:
من الخفرات البيض ود جليسها
.....................................
إنه أرق شعر قيل في النسيب.
ولو تأملت هذا المقام لوجدت أن حسن الشعر يتجلى في أمرين:
الأمر الأول: صدق المعنى الذي يذكره في البيت أو صدق الشعور الذي يعبر عنه.
والأمر الثاني: جمال الصورة التعبيرية التي يختارها لأداء ذلك المعنى وإبراز ذلك الشعور..(4/291)
فمثلاً أبيات كثير عزة: تصور لنا شعوراً يختلج في نفس كثير تجاه حبيبته، فهو يحبها حباً شديداً ويكاد يهلك شوقاً لمرآها.. فهو يصور كيف تكون نفسه في سعادة عندما يهم بزيارتها والرحيل إلى ديارها: كأن الأرض تطوى له من شدة رغبته في الوصول إليها.. حتى إذا اجتمع بها ودارت بينهما الأحاديث تلذذ بكل ما تقصه عليه، فما تنتهي من أحدوثة إلا تمنى لو تعيدها مرات ومرات.
ومثل هذه الإحساسات يعرفها ويشعر بها كل محب مع من يحب، وما في هذه الأبيات إذا معنى مستحيل.. بل صدق إحساس أحسن الشاعر التعبير عنه.
وقول الآخر:
حسبت الناس كلهم غضابا
إذا غضب عليك بنو تميم
هو كذلك في غاية الروعة في تصوير الحالة النفسية التي يغرق فيها من غضبت عليه بنو تميم، فإن الأرض تضيق به ووجوه الناس تتغير عليه، حتى يتخيل كل إنسان يمر به حانقاً عليه، وفيه تصوير بديع لسطوة هؤلاء القوم وعظم مكانتهم وامتداد نفوذهم، ولا يضاهيه في معناه إلا قول نابغة بني ذبيان لما غضب عليه النعمان ففر منه هائماً على وجهه:
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
فإنك كالليل الذي هو مدركي
ولعمري إن بيت النابغة أكثر نجاحاً في تصوير هذه الحالة النفسية من القلق والرهبة باختياره لكمتي (الليل) و (مدركي) فالليل لا يمكن الفرار منه فهو مدركه أنى ذهب..
وأما بيت المتنبي (علي قدر…) إذا جردت معناه من شعره فلا تكاد تجد أي صورة بيانية، بل هو مجرد تعبير قوي عن حقيقة واقعة من حقائق الحياة، والحسن كل الحسن فيه في الإطار الشعري الذي صاغ المعنى به، وغالب أبيات المتنبي من هذا القبيل.. وما أخالك إذا سمعت مثل قوله:
فمن العجز أن تموت جبانا
وإذا لم يكن من الموت بد
إلا هاتفا بملء فيك: صدق.
وأبيات عنترة كذلك: صورة ملخصها: معركة محتدمة ازدحمت فيها الخيول وبرقت الأسنة ولمعت السيوف حول الشاعر تتناهشه وتنهل من دمه.(4/292)
ومع عظم هذا المقام وشدة هوله يتذكر حبيبته، ويتخيل لمعان السيوف والأسنة كلمعان ثغرها عندما تبتسم، فيتفجر في نفسه الشوق إليها حتى يكاد يهجم على تلك السيوف لا باطشاً ولكن مقبلاً.
فهذه الصورة نجحت في التعبير عن: شجاعة الشاعر، وشدة محبته لصاحبته، وجمال ثغرها وحسنه.
وهكذا كلما تأملت شيئاً من عيون الشعر وجيده تجد أن حسنه وجودته في صدق المعاني وصدق التعبير وجماله.
وتجد الشعر كلما أغرق في الاستعارات البعيدة والصور المستحيلة ازداد قبحاً وصار مستهجناً.
وبذلك تعلم أن أعذب الشعر أصدقه! وأن هذا هو الميزان الصحيح كما قرره حسان بن ثابت رضي الله عنه.
موقف النبي صلى الله عليه وسلم من الشعر:
النبي هو سيد العلماء، فهل كان يكره الشعر ويذمه؟
من المجمع عليه أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن شاعراً ولم ينظم الشعر، بل طبعه الله عز وجل على خلاف سجية الشعراء ومنع عنه ملكة الشعر.. حتى ما كان يستقيم في لسانه في الغالب، وإن كان يجري على لسانه أحياناً، إلا أن المنفي عنه بالجملة أن يكون شاعراً، فإذا جرى على لسانه بيت أو بيتان مستقيمان فإن ذلك لا يعني أنه قال شعراً، لأن جريان كلام منظوم بغير قصد لنظمه وعنايته بإيجاده موزوناً، يجري على كل الألسنة ولا يعتبر شعراً..
قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} (1) : أخرج ابن كثير عن الشعبي قال: "ما ولد عبد المطلب ذكراً ولا أنثى إلا يقول الشعر إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم".(4/293)
أما قوله: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أي ليس من طبعه فلا يحسنه ولا تقتضيه جبلته، ولعل الحكمة في ذلك (الإعجاز) بالقرآن فإنه أعظم من الشعر وليس بشعر، وإثبات أنه من عند الله وليس من تأليف الرسول.. فسد الله عز وجل كل باب يمكن أن يتذرع به المشركون في دعواهم أن القرآن من كلامه صلى الله عليه وسلم أو أنه من شعره، فجعل الرسول أميّاً لا يقرأ ولا يكتب، حتى لا يقال إنه ينقل من كتب اليهود والنصارى، ولم يجعله شاعراً حتى لا يقال إنه يؤلف شعراً.
وكون الرسول أمياً لم يعن مذمة الكتابة والقراءة.. وكذلك كونه ليس شاعراً لا يعني ذم الشعر.. فلا يفهم من قوله: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} إلا أن الشعر مع مقام الوحي لم يكن مناسباً، كما أن الأمية كانت مناسبة، والدليل على أن المقصود هو تأكيد أن القرآن ليس بشعر أن الآية جاءت في معرض هذا المعنى حيث يقول بعدها: {إِنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} فيكون المعنى وما ينبغي أن يكون القرآن شعراً؛ لأنه كتاب إرشاد وتعليم وموعظة للناس، والشعر ليس محلا للتفصيل والتبيين والإيضاح بل هو محل الإجمال والإشارة.. فهذا الكلام ليس من نوع الشعر ولكنه (قرآن مبين) ..
ثم قال: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي يحق عليهم بأن هذا الكلام المبين كلام الله وبذلك تنقطع حجة المشركين..
ومثل هذه الآيات قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ، وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (1) .
وبذلك يتبين لك أن ليس في قوله: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أي دليل على غضاضة في الشعر، وسيزيدك إيضاحاً لذلك ما سيأتي من استشهاد الرسول بالشعر واستنشاده له، ومناقشته لبعض معانيه وحثه عليه..(4/294)
وإن قال قائل: إن العلة في غضاضة الشعر كونه محلاً للأكاذيب وتلفيق المعاني وتغيير الحقائق فقد بينت لك آنفاً أن قولهم: أعذب الشعر أكذبه ميزان غير صحيح عن النقاد.
وقد يستدل بآيات الشعراء على ذم الشعر وهي قوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ, أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ, وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} (1) ولو لم يكن لذلك من جواب إلا الاستثناء الذي ختمت به هذه الآيات {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا} لكفى..
لكن يحسن أن تذكر سبب نزول هذه الآيات لنتبين المقصود منها:
فسورة الشعراء مكية، وهذه الآيات الأربع في آخرها مدنية، ونزلت في شعراء المشركين من قريش الذين كانوا قد أشعلوا حرباً كلامياً ضد الرسول صلى الله عليه وسلم بهجائهم له ولأصحابه ولدينه.. وهي دعاية تعتبر خطيرة في ذلك الوقت ضد الإسلام، لما علمت من مكانة الشعر في نفوس العرب وسرعة تأثيره فيها.. ولأجل خطورة هذه الحرب المناوئة التي شنها هؤلاء على الإسلام والمسلمين أهدر النبي دماءهم وقتل من قتل منهم وأسلم من أسلم.
ولأجل ذلك أيضاً نزلت الآيات تندد بهؤلاء الشعراء وتسفه من أمرهم فهم {فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} أي يحيدون عن طريق الحق ليضيعوا في أودية الباطل والكفر والضلال، فيقولون بغير بصيرة ولا تعقل، ويكذبون في اتهاماتهم وشتائمهم.. و {يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} من تهديدهم للنبي والمسلمين..
ومثل هؤلاء الشعراء الذين كانوا يحاربون الإسلام بشعرهم كل شاعر يحارب الإسلام أو يدعوا إلى الرذائل أو يحسن الباطل.. فوجه الذم ليس في أصل الشعر ولكن في هذه الصفات التي علقت به..(4/295)
وهذا ما ذكره أكثر المفسرين.. أخرج بن كثير قال: قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "يعني الكفار يتبعهم ضلال الإنس والجن.."وكذا قال مجاهد رحمه الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما.. اهـ.
وقال الخازن في تفسيره عند هذه الآية: قال أهل التفسير: "أراد شعراء الكفار الذين كانوا يهجون النبي صلى الله عليه وسلم منهم: عبد الله بن الزبعري السهمي، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، ومانع بن عبد مناف، وأبو عمرو بن عبد الله الجمحي، وأمية بن أبي الصلت الثقفي.."اهـ.
وكانت بين هؤلاء، وبين حسان بن ثابت شاعر رسول النبي والإسلام معارك شعرية طاحنة ذكر ابن هشام طرفاً منها في السيرة.. وهي مذكورة في كتب السير والأدب فلما فتحت مكة هرب عبد الله بن الزبعري وهبيرة بن أبي وهب إلى نجران فرمى حسان ابن الزبعرى ببيت واحد ما زاد عليه:
نجران في عيش أجد لئيم
لا تعدمن رجلا أحلك بغضه
فأتى هذا البيت من الشعر بقياده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه، وقال معتذراً ومكفراً عن شعره بشعره:
والليل معتلج الرواق بهيم
منع الرقاد بلابل وهموم
فيه فبت كأنني محموم
وآتاني أن أحمد لامني
عيرانة سرح اليدين غشوم
يا خير من حملت على أوصالها
أسديت إذ أنا في الضلال أهيم
إني لمعتذر إليك من التي
سهم وتأمرني بها مخزوم
أيام تأمرني بأغوى خطة
أمر الغواة وأمرهم مشئوم
وأمد أسباب الهوى ويقودني
قلبي ومخطئ هذه محروم
فاليوم آمن بالنبي محمد
ودعت أواصر بيننا وحلوم
مضت العداوة وانقضت أسبابها
زللي فإنك راحم مرحوم
فاغفر فدى لك والداي كلاهما(4/296)
وذكر ابن كثير بعض الأخبار المرسلة: أنه لما نزلت آية الشعراء جاء حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهم يبكون قالوا: "قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء"، فتلا النبي: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} وقال: "أنتم.."ومهما يكن حال هذا الحديث فإن المعنى بالآية هم رضي الله عنهم.
هل كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن الشعر؟
أما كونه صلى الله عليه وسلم كان لا يحب الشعر فقد ورد في أثر ذكره ابن كثير عن قتادة أنه قيل لعائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله يتمثل بشيء من الشعر..؟
قالت: "كان أبغض الحديث إليه، غير أنه كان صلى الله عليه وسلم يتمثل ببيت أخي بني قيس فيجعل أوله آخره وآخره أوله.."تعني قول طرفة: ويأتيك بالأخبار من لم تزود.. فإنه كان يقول صلى الله عليه وسلم: فيأتيك من لم تزود بالأخبار..
ومما روي عن تغييره لوزن الشعر ما رواه البيهقي في الدلائل أنه صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن مرداس السلمي رضي الله عنه: أنت القائل: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة فقال: إنما هو بين عيينة والأقرع.. فقال: "الكل سواء..".
وذكر ابن كثير أيضاً خبراً مرسلاً عن الحسن البصري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت: كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً..
فقال أبو بكر: "يا رسول الله، كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً".
والحاصل: أن كراهيته صلى الله عليه وسلم كانت إما للإكثار من الشعر أو أنه كان يكره قرض الشعر لأنه لا يمكن أن يقال بكراهيته لمطلق الشعر، وقد كان يستشهد به ويسمعه ويجيز عليه ويحث شعراءه على نظمه.(4/297)
ومما يدل على أن هذه الكراهية خصوصية له صلى الله عليه وسلم، بسبب ما ذكرنا من سد الذريعة أن تتطرق إلى القرآن، ما ثبت من أنه صلى الله عليه وسلم ما يستقيم على لسانه وزن الشعر في الغالب كما مثلت، وقد توسع ابن العربي في أحكام القرآن الكريم في هذه المسألة وادعى أنه صلى الله عليه وسلم ما استقام بيت من الشعر على لسانه قط، وخرج كل ما روي عنه على ذلك وما أظن جميع الروايات تساعده كما سيأتي.
ومن أعظم ما يشكل في هذا المقام حديث في الصحيح: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأن يمتلئ جوف الرجل قيحاً يريه خير من أن يمتلئ شعراً". وفي رواية عن مسلم عن أبي سعيد قال: "بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج إذ عرض شاعر ينشد فقال رسول الله: "خذوا الشيطان أو أمسكوا الشيطان؛ لأن يمتلئ جوف رجل قيحاً خير من أن يمتلئ شعراً". فهذا الحديث في ظاهره يدل على التنفير من الشعر والحث على هجره واجتنابه.. بل على تحريم تعاطيه فهو كقوله صلى الله عليه وسلم "من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في دم خنزير".
ولو كان ذلك كذلك: فما ورد من تمثله صلى الله عليه وسلم بالشعر وإنشاده بين يديه واستنشاده له واتخاذه شعراء كحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله ابن رواحة.. يعارض هذا ويناقضه.. هذا مع أنه لا يعقل أن ينهى النبي صلى الله عليه وسلم العرب عن الشعر وقد علم مكانته في نفوسهم.
وقد روي عن السائب المخزومي رضي الله عنه أنه كان يقول: "أما والله لو كان الشعر محرماً لوردنا الرحبة كل يوم مراراً", (والرحبة الموضع الذي كانت تقام فيه الحدود) ولكن المعنى والله أعلم: هو النهي عن الاشتغال به عن القرآن، وعن ذكر الله، ويدل عليه لفظة "يمتلئ"فإن القلب إذا افتتن بالشعر فامتلأ منه لم يبق به موضع لذكر الله ودراسة القرآن والحديث..(4/298)
وهذا ما ذكره بعض المحققين منهم البخاري فقد أورد هذا الحديث في الأدب المفرد معنوناً له بقوله: (باب من كره الغالب عليه الشعر) .
وقال النووي في شرح هذا الحديث: "الصواب أن المراد أن يكون الشعر غالباً عليه مستوليا عليه بحيث يشغله عن القرآن لكريم وغيره من العلوم الشرعية". اهـ.
ومن أوضح الأدلة على هذا المعنى أن الله عز وجل لما استثنى الشعراء وصفهم بقوله: {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} فإذا لم يشغل الشعر صاحبه عن الإيمان والعمل الصالح وذكر الله، وكان وسيلة لنصر المسلمين والذب عن الدين والدفاع عن المظلومين، فلا يتوجه إليه النهي والذم ولا غضاضة في تعاطيه، وقد يكون المقصود بالحديث أيضاً الشعر الذي يخالف آداب الإسلام، فإن الإسلام حرم عادات الجاهلية من تعاظمها بالآباء ومن النياحة والكذب وقذف الأعراف والتشبيب بالمحجبات.. وقد كانت هذه كلها عادات مستحكمة في الشعر عند العرب.. فشدد الرسول في القضاء عليها والنهي عنها.
أخرج البخاري (في الأدب) بسنده عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أعظم الناس جرماً إنسان شاعر يهجو القبيلة من أسرها ورجل ينتفي من أبيه".. وأخرجه ابن ماجة بلفظ: "رجل هاجى رجلا فهجا القبيلة بأسرها" وصحح هذا الحديث ابن حبان.
ويؤيد هذا المعنى والذي قبله ما أخرجه أحمد والترمذي وصححه أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتناشدون الأشعار في المسجد فلا ينهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وربما ابتسم معهم، وكذلك ما أخرجه مسلم من أن حسان كان ينشد في المسجد وفيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.(4/299)
وفي رواية عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال (1) : "لم يكن أصحاب رسول الله محتزقين ولا متماوتين، وكانوا يتناشدون الشعر في مجالسهم، ويذكرون أمر جاهليتهم، فإذا أريد أحد منهم على شيء من أمر الله دارت حماليق عينيه كأنه مجنون".
هذا مع ما روي من قوله: "إن من البيان لسحراً وإن من الشعر لحكمة". وفي رواية: "لحكما" (2) .
وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "الشعر منه حسن ومنه قبيح، خذ بالحسن ودع القبيح، ولقد رويت من شعر كعب بن مالك أشعاراً منها القصيدة الأربعون بيتاً ودون ذلك" (3) .
وروي عن أبي العالية قال: كنت أمشي مع ابن عباس وهو محرم وهو يرتجز بالإبل يقول:
إن تصدق الطير لميسا
وهن يمشين بنا هميسا
وذكر البخاري في الأدب قال: ثنا إبراهيم بن المنذر قال: ثنا معن قال: ثنا عمر بن سلام أن عبد الملك بن مروان دفع ولده إلى الشعبي يؤدبهم فقال: علمهم الشعر يمجدوا وينجدوا..
ولعل هذا المقصد وهو ألا يغلب الشعر أصحابه فيشغلهم عن القرآن.. قد تجلى في بعض الشعراء الذين انصرفوا عن الشعر إلى القرآن كلبيد بن ربيعة العامري.. فإنه عاش في الإسلام خمساً وخمسين سنة ولم يقل إلا أبياتاً أو بيتاً من الشعر..
قال الحافظ في ترجمته (4) : لما كتب عمر إلى عامله بالكوفة: سل لبيداً والأغلب العجلي ما أحدثا من الشعر في الإسلام. قال لبيد: أبدلني الله بالشعر سورة البقرة وآل عمران، فزاد عمر في عطائه.
وفي رواية: ما قلت شعراً منذ سمعت الله يقول: {ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيه} .
ويقال إنه ما قال في الإسلام إلا بيتاً واحداً هو قوله:
حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي
ـ للبحث صلة ـ
---
(5) العمدة: لابن رشيق.
(6) الحاقة: 41، 42.
(7) قيل: إنه يريد بالتوحيد نوعاً من التمر معروفاً وهناك رواية (حلاوة) بدل (أحلى من) - المجلة -.
(8) يس: 69.
(9) الحاقة: 41 ـ 43.(4/300)
(1) الشعراء: 224 ـ 227.
(2) الأدب المفرد.
(3) البخاري عن أبي بن كعب والترمذي وأبو داود عن ابن عباس.
(4) الأدب المفرد.
(5) الإصابة: ج3.(4/301)
(صدر حديثاً)
من مؤلفات بعض مشايخ الجامعة الإسلامية:
1-
أضواء البيان ـ الجزء الخامس ـ لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
2-
همسات قلب ـ الديوان الثاني من شعر الشيخ محمد المجذوب.
3-
مشكلات الجيل في ضوء الإسلام ـ بقلم الشيخ محمد المجذوب.
4-
تأملات في المرأة والمجتمع ـ بقلم الشيخ محمد المجذوب.
5-
مشاهد من حياة الصديق ـ بقلم الشيخ محمد المجذوب.
6-
بطل إلى النار ـ طبعة ثانية ـ بقلم الشيخ محمد المجذوب.
7-
قصص من سورية ـ طبعة ثانية ـ بقلم الشيخ محمد المجذوب.
8-
قصص للشباب والطلاب ـ طبعة ثانية ـ بقلم الشيخ محمد المجذوب.
9-
الأدب العربي ـ للسنة الثانية من الكليتين ـ بقلم الشيخ محمد المجذوب.
10-
منهاج المسلم ـ للسنة الثانية مزيدة ـ بقلم الشيخ أبي بكر جابر الجزائري.
11-
فقه الدعوة ـ بقلم الشيخ أحمد حسن.
12-
عشرون حديثاً من صحيح البخاري ـ دراسة أسانيدها ومتونها للسنة الأولى من كلية الشريعة ـ بقلم الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد.
13-
عشرون حديثاً من صحيح مسلم ـ دراسة أسانيدها وشرح متونها للسنة الثانية من كلية الشريعة ـ بقلم الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد.
14-
حقوق المرأة في الإسلام ـ طبعة ثانية ـ بقلم الشيخ عبد القادر شيبة الحمد.(4/302)
في ظلال سورة الأنفال
بقلم الشيخ: أبي بكر جابر الجزائري
المدرس في الجامعة
وقال الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ, وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ, إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} .
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد، فهذه آيات ثلاث أخرى من سورة الأنفال نتفيؤ ظلالها مع الإخوة القراء، تقوية لإيماننا، وتنمية لمشاعر التقوى والإحسان في نفوسنا، ترقية للأرواح، وتهذيباً للوجدان.
صلة هذه الآيات بسابقاتها:(4/303)
ما هذه الآيات التي نتفيؤ الآن ظلالها إلا بمثابة جواهر ثلاث من عقد النعم الذي طوقه الله تعالى جيد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر الانتصار، فهو يمنه عليهم ويذكرهم به، ليبين لهم أن الذي أولاهم تلك النعم، ووهبهم ذلك الإحسان والإفضال لم يكن في انتزاعه الغنائم منهم ساعة اختلفوا في قسمتها وتنازعوا فيها، ليجعلها له ولرسوله يحكم فيها تعالى بما يشاء، ويقسمها الرسول على ما يريد، لم يكن ذلك عن بغض لهم، ولا عن إرادة شر، أو سوء بهم، وإنما كان من باب مزيدهم إفضالاً فوق الإفضال وإنعاماً وإحساناً فوق الإنعام والإحسان، فهو تعالى يقول لهم: اذكروا الوقت الذي أحاطت بكم المخاوف من كل جانب، وانتابكم الفزع، واستبد بكم القلق ففزعتم إلى ربكم تستغيثون، فأمدكم بألف من الملائكة مردفين، فكانت تلامس أرواحكم فتقوى عزائمكم، وتخالط صفوفكم فيشتد بها أزركم، ويحمي ظهركم، واذكروا ليلة لقائكم عدوكم والخوف الشديد يساوركم فيطرد النوم من أعينكم، فما أنتم ساعتها إلا نفوس حائرة وأعصاب ثائرة مرتاعون ارتياع من طار قلبه وفارقه عزمه، وعيل صبره. كيف غشاكم ربكم برداء رحمته بنعاس خالط الأجفان، فكان الأمان، فبه زالت المخاوف، وذهب القلق، فسكنت لذلك القلوب وهدأت الأعصاب، وقضيتم ليلتكم نائمين إلا ما كان من نبيكم عليه صلوات وسلام ربكم فإنه قضى ليلته يناجي ربه، ويسأله إنجاز وعده.
واذكروا إذ سبقكم عدوكم إلى الماء فنزل عليه، وحال بينكم وبين الوصول إليه، فقبض بذلك على زمام المعركة، وعزم على أن يقودها نصراً له وهزيمة عليكم، وكيف أنزل عليكم ربكم من السماء ماءً فأزال به ظمأكم، وطهر به أحداثكم، وأبعد وسواس الشيطان من صدوركم، ربط به القلوب، وثبتت به الأقدام.
لعلك، أخي القارئ، قد أدركت بهذا وجه المناسبة والصلة بين الآيات السابقة وهذه اللاحقة، فنمضي معك الآن قدماً في تفيء ظلال هذه الآيات.(4/304)
إن الآية الأولى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} .
يخاطب فيها الرب تبارك وتعالى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مذكراً إياهم بنعمة استجابته دعاءهم يوم استغاثوه طالبين نصره فأغاثهم بأن أمدهم بألف من الملائكة مردفين (متتابعين) فكان في ذلك ما قوى عزائمهم، وحمى ظهورهم حتى انتصروا على عدوهم الذي يفوقهم عدداً، ويتفوق عليهم عدة.
أما الآية الثاني: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
فقد تضمنت إعلامه سبحانه وتعالى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الإمداد بالملائكة لم يكن إلا من قبيل التبشير بالنصر، والتطمين للقلوب، أما نصر الله متى أراده فإنه لا يتوقف على شيء من ذلك أبداً.
كما تضمنت الآية الإخبار بأن أي نصر يكسبه الإنسان في هذه الحياة موضوع من الله، موهوب من لدنه عز وجل، فلا يتصور وجود نصر خارج عن عطاء الله وهبته {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ومن هنا وجب أن يطلب النصر دائماً من الله تعالى إذ هو مالك النصر وواهبه، فليتوسل في الحصول على أي نصر بطاعة الله تعالى باتباع شرائعه والأخذ بسننه في خلقه، ومن أراد النصر من غير طريق الله العزيز الحكيم فإنه لا يظفر به ولا يحصل عليه مهما بذل من جهد، وأنفذ من طاقة؛ لأن الله عزيز غالب لا يمانع في شيء يريده، ولا يمتنع عنه شيء أراده، حكيم يهب النصر ويضعه في يد من يستحقه، فلا يعطي نصراً ولا يمنحه غير مستحقه، وهذا بعض ما يدل عليه قوله: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .(4/305)
وأخيراً الآية الأخيرة: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} .
فإن معناها: التذكير بنعمتين أخريين هما: تغشيه تعالى لهم بنعاس كان أماناً لهم من المخاوف التي ما برحت تساورهم، ومن القلق الذي هيج أعصابهم، وأطار النوم عن أعينهم بحيث لو باتوا على تلك الحال من الهيجان والقلق والخوف لما أمكنهم غداً قتال عدوهم، ولما استطاعوا الوقوف أمامه، ولكن تداركهم الله برحمته فأغشاهم بذلك النعاس الذي ذهب به كل تعب جسماني وروحاني فأصبحوا وهم أقدر على خوض المعركة والاستبسال فيها والصبر على خوضها حتى تم لهم النصر بإذن الله.
والثانية: إنزال الله تعالى عليهم ماء من السماء والذي كان له أعظم الأثر وأطيبه في إصلاح حالهم، وإعدادهم لخوض المعركة والانتصار فيها، وذلك أن هذا الماء المنزل عليهم اشتمل على أربع فوائد عظيمة إليكها أخي القارئ واحدة بعد أخرى:
1- تطهيرهم به تطهيراً حسيا بالنظافة التي انشرحت بها الصدور، ونشطت بها الأعضاء، وتطهيراً شرعيا بإزالة الأحداث الكبرى والصغرى.
2- إذهاب رجز الشيطان عنهم، وهو ما كان يلقيه في نفوسهم بالوسوسة كان يقول لهم: أتزعمون أنكم على الحق، وفيكم نبي الله، وقد غلبكم عدوكم على الماء فها أنتم ظامئون عطاشاً تصلون بغير طهارة، فكيف تنتصرون غداً إلى غير ذلك مما كان يؤلم به نفوسهم ويعذبهم به.
3- الربط على القلوب وهو تثبيتها وتوطينها على الصبر بما حصل لهم من ارتياح كبير بحصولهم على الماء واستيلائهم عليه دون عدوهم.. إذ أنهم قاموا من آخر الليل وصنعوا الحياض للماء، ثم غوروا ما عدا حياضهم ونزلوا عليها وبنوا لنبيهم عريشاً فوقها ليدير المعركة غداً من هذا المركز الذي أرشد إليه الحباب ابن المنذر رضي الله عنه.(4/306)
4- تثبيت الأقدام، إذ كانت الأرض رملية دهاسا تسوغ فيها الأقدام، فلما نزل بها الماء تماسكت واشتدت وأصبح المقاتل ثابت القدم عليها يمكنه أن يكر ويفر، ويجول في ساحة المعركة كما يشاء.
مباحث الألفاظ:
الاستغاثة: طلب الغوث والإنقاذ من الهلكة.
مردفين: متتابعين يردف بعضهم بعضاً، من أردفه على الدابة إذا أركبه وراءه على ردف الدابة وهو عجزها.
يغشيكم: يلقي النعاس عليكم كما يلقي الغشاء الغطاء على الشخص.
النعاس: أول النوم، وهو فتور في الحواس وأعصاب الرأس يعقبه النوم.
أمنة: أماناً أكسبهم طمأنينة في نفوسهم وسكوناً في قلوبهم.
رجز: عذاب، وهو ما تخلقه وسوسة الشيطان من آلام في النفس.
هداية الآيات:
من ضروب الهداية في هذه الآيات ما يلي:
أ - الاستغاثة من العبادة ولا تصلح لأحد غير الله تعالى، وقد ورد أنه قيل للرسول صلى الله عليه وسلم يوماً: تعالوا نستغيث برسول الله من هذا المنافق (لمنافق كان يؤذيهم)
فقال لهم عليه الصلاة والسلام: "إنه لا يستغاث بِي، وإنما يستغاث بالله".
ومن هنا يتبين خطأ أولئك الذين يستغيثون بالأولياء والصالحين يا فلان، يا فلان مما هو صريح الشرك والعياذ بالله.
ولو كان يجوز الاستغاثة بغير الله تعالى لاستغاث رسول الله وأصحابه، وهم في أحلك الظروف وأشدها.. ولكن كانت استغاثة الصحابة: يا رب، يا رب انصرنا على عدوك، يارب أغثنا، يا غياث المستغيثين.. وكانت استغاثة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أنجز لي ما وعدتني به اللهم آتني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" فلم يسألوا الله تعالى بحق أحد ولا بجاه آخر، ولو كان ذلك جائزاً لما تركوه وهم في أشد الحاجة إليه، وأمسها إلى مثله.
ألم يسع المسلمين اليوم ما وسع نبيهم وأصحابه، ألم يكفهم ما كفى سلفهم؟ أليس الله بكاف عبده؟(4/307)
ب - في استجابة الله تعالى لرسوله وأصحابه بإمدادهم بالملائكة وإنزال الماء عليهم ونصرهم على عدوهم الأكثر منهم عدداً وعدة كرامة واضحة من الله تعالى لهم، ولهذا كانت عقيدة السلف إثبات الكرامات لأولياء الله تعالى، وتضليل من ينفيها.
جـ - النصر لا يأتي من أحد غير الله تعالى، إذ الله وحده المالك له وهو الذي ينصر من يشاء ويخذل من يشاء، فلا ينبغي أن يطلب النصر إلا منه تعالى، وذلك بطاعته عز وجل في شرعه وسننه، في شرعه بامتثال أمره واجتناب نهيه، وفي سننه في خلقه بجمع القلوب على القتال، والصبر فيه، وإعداد ما يلزمه من عدة وعتاد وطاعة القيادة، والأخذ بالحذر، وبذل ما في الوسع من طاقة وجهد.
وأخيراً إلى اللقاء أيها القارئ في ظلال آيات أخرى إن شاء الله تعالى.(4/308)
مع الصحافة
تحقيق صحفي مع فضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية
حول المؤتمر الإسلامي في أمريكا الجنوبية
نشرت صحيفة عكاظ في عددها 1815 تحقيقاً صحفيا مع فضيلة الشيخ محمد ناصر العبودي الأمين العام للجامعة الإسلامية بمناسبة عودته من البرازيل حيث حضر باسم المملكة العربية السعودية المؤتمر الإسلامي الأول للمؤسسات الإسلامية في أمريكا الجنوبية الذي عقد في مدينة سان باولو في البرازيل، إعداد الأستاذ محمد عبد الله الحصين، تحت عنوان:
مسلمو أمريكا اللاتينية يباركون جهود الفيصل.
رئيس وفد المملكة إلى مؤتمر المؤسسات الإسلامية في البرازيل يتحدث لصحيفة عكاظ.
المؤتمر يدعو إلى جمع التبرعات للمجاهدين في فلسطين.
في المهجر مجلة عربية تهتم بنشر أنباء تطور المملكة وخاصة في المجال الثقافي..
عقد مؤخراً في مدينة سان باولو في البرازيل مؤتمر للمؤسسات الإسلامية، وقد وجهت الدعوة إلى المملكة العربية السعودية لحضور هذا المؤتمر فبادرت كدأبها إلى الاستجابة إيماناً منها بفاعلية مثل هذه المؤتمرات التي تستهدف نشر الدين الإسلامي والدعوة إلى اعتناقه فأوفدت فضيلة الشيخ محمد ناصر العبودي الأمين العام للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وقد التقيت بفضيلته بعد عودته من حضور المؤتمر إلى المدينة المنورة وأجريت معه هذا الحديث:
قلت لفضيلته: ما هي أهداف المؤتمر؟(4/309)
فأجاب قائلاً: هو المؤتمر الأول أو كما أسماه المؤتمرون حرفياً (المؤتمر الإسلامي الأول للمؤسسات الإسلامية في أمريكا اللاتينية) والغرض منه مناقشة ودراسة الأمور التي تهدف إلى رفع شأن المسلمين في أمريكا اللاتينية وإيجاد التعاون بينهم وتأمين مستقبل أولادهم من الناحية الدينية وذلك مثل توفير التعليم الإسلامي وتعليم اللغة العربية لهم، كما تضمن جدول أعمال المؤتمر مسائل كثيرة كلها داخلة في موضوع العمل على رفع شأن المسلمين ومنها إبراز شخصية المسلمين في أقطار أميركا اللاتينية والاعتراف بهم كهيئة دينية لها مقامها المعتبر.
وقد استغرق المؤتمر خمسة أيام.
وإجابة على سؤال عن الدول التي اشتركت في المؤتمر قال فضيلته:
المؤتمر كما قلت هو للمؤسسات الإسلامية في أميركا اللاتينية وقد اشترك فيه ممثلون عن المسلمين في البرازيل والأرجنتين وفنزويلا وكولمبيا وأرغواي، هذا إلى جانب الوفود التي وجه لها المؤتمرون الدعوة لحضور المؤتمر من خارج قارة أميركا الجنوبية وقد حضره من الوفود وفد المملكة العربية السعودية ووفد من مصر كما مثلت بعض الدول الإسلامية كالباكستان وأندونيسيا بسفرائها في تلك البلاد.
وسألت فضيلته عن القرارات التي اتخذها المؤتمر فقال:
تضمنت قرارات المؤتمر أموراً كثيرة من أهمها:
1- إنشاء اتحاد للجمعيات الإسلامية في أميركا اللاتينية.
2- تكوين صندوق يصرف منه على الدعوة الإسلامية وما يحتاجه المسلمون في أمور دينهم.
3- الاتصال بالحكومات الإسلامية في الخارج بغية العمل على إرسال مدرسين ومرشدين للمسلمين في أميركا اللاتينية.
4- حث جميع المسلمين في كل منطقة ولو كان عددهم قليلاً على أن يبنوا لهم مسجداً ولو كان صغيراً أو غير مستكمل البناء ليكون بمثابة النادي الذي يجتمعون به وعن طريقه يتعارفون وذلك بغية إيجاد الصلة والتعارف فيما بينهم وبالتالي إيجاد التعاون الوثيق بين أفرادهم.(4/310)
هذا وقد أعقب المؤتمر أن وجهت بعض الجمعيات الإسلامية في أنحاء البرازيل أي خارج المنطقة التي عقد فيها المؤتمر وهي مدينة سان باولو دعوات إلى ممثلي بعض الدول لزيارتها وقد قمنا بزيارة بعضها وتفقد أحوال المسلمين هناك واستغرق ذلك بضعة أيام.
وإجابة على سؤال عن نشاط الجمعيات الإسلامية هناك قال فضيلته:
نقول مع الأسف الشديد أن نشاط الجمعيات الإسلامية هناك محدود جداً بالنسبة إلى نشاط الجمعية الدينية غير الإسلامية كالجمعيات المسيحية وذلك راجع إلى أمرين أساسيين:
أولا: وهو الأهم وجود الدعم الخارجي مادياً ومعنويا وأهم مظاهر هذا الدعم إرسال رجال الدين من الخارج إلى البرازيل على حين أن الدعم للمسلمين من الخارج يكون معدوماً.
ثانياً: أن أكثرية المسلمين في أميركا اللاتينية هم من التجار الذين هجروا من سوريا ولبنان للرزق وليسوا على مقدار كبير من الثقافة الإسلامية وإن كان لا ينقصهم التحمس لدينهم ومحبة العمل فيما ينفع المسلمين هناك.
وسألت فضيلته عن العلاج الذي يراه فقال:
ـ أعتقد أن أهم شيء وألزمه للمسلمين في أميركا اللاتينية هو إرسال مرشدين يرشدونهم ومدرسين يدرسون أولادهم الدين الإسلامي وينشئونهم تنشئة إسلامية صالحة وهذا أمر إذا تحقق فإنه يحل كثيراً من المشكلات التي يعانيها المسلمون وأخطرها الذوبان في تلك المجتمعات الغريبة عن الإسلام لأن المسلم إذا كان هو في نفسه على درجة كبيرة من الجهل بأمور الدين ثم أرسل أولاده ليتعلموا في مدارس غير إسلامية فمن أين تأتيهم المعرفة بأمور الدين وكيف يحصلون على التربية الإسلامية الصحيحة المطلوبة؟(4/311)
وأعتقد أن واجب إرسال المرشدين والمدرسين للمسلمين هناك لا يقتصر على دولة إسلامية دون أخرى بل يجب أن يتضافر المسلمون على القيام بكل ما يجب نظراً لبعد المسافة من جهة ولشدة حاجة المسلمين وتفرقهم به لأن دولة واحدة لا تستطيع أن تقوم في أنحاء تلك القارة من جهة أخرى مما يستدعي معه الحاجة إلى إرسال عدد كبير من المرشدين والمدرسين الدينيين.
وسألت فضيلته هل طرحت قضية فلسطين في المؤتمر فقال:
طرحت في المؤتمر قضايا سياسية خارج قارة أميركا الجنوبية وكان الرأي السائد أن من الأفضل للمسلمين في هذه البلاد النائية أن يركزوا جهودهم على إصلاح أحوالهم لأن في ذلك تقوية للمسلمين في كل مكان على هذا لم يمنع من أن المؤتمر اتخذ قراراً بتأييد جمع التبرعات للمجاهدين في فلسطين ودعا إلى مزيد من التبرعات في هذا السبيل للمستقبل.
وإجابة على سؤال حول نظرة مسلمي أميركا إلى المملكة العربية السعودية قال فضيلته: إن المؤتمرين هم كغيرهم من المسلمين ينظرون إلى هذه البلاد على أنها الوطن الأم الذي شع منه نور الإسلام وهبط على ساحاته الوحي على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقد سروا كثيراً لوجود ممثل المملكة العربية السعودية بينهم ونوهوا بذلك في خطبهم وتوجهوا بالشكر إلى جلالة الملك فيصل بن عبد العزيز حفظ الله على إصدار أمره الكريم بإيفاد ممثل عن المملكة لحضور مؤتمرهم وقد تضمنت قرارات المؤتمر بندا بهذا الخصوص.
وقال فضيلته ردا على سؤال عن نشاط الوفد السعودي في المؤتمر:
الحقيقة أنه شارك في عدة لجان وتقدم باقتراحات مفيدة وقدم باسم المملكة ما يلي:
1- عدداً من المنح الدراسية للدراسة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة مخصوصة لأبناء البرازيل الذين يحملون الجنسية البرازيلية ويقيمون هناك لأنهم هم الذين سيبقون في بلادهم البرازيل والمؤمل أن ينفعوها بعلمهم في المستقبل.(4/312)
2- قدم كمية طيبة من المصاحف والكتب الإسلامية هدية من الجامعة الإسلامية.
3- قدم وعداً للسعي في إرسال عدد من المدرسين والمرشدين الإسلاميين إلى هناك حالما تتوفر الظروف لإرسالهم.
وقال فضيلته عن نشاط الجمعيات هناك في بناء المسجد:
هنالك في بعض المدن الكبرى توجد جوامع وفي مدينة سان باولو في البرازيل بصفة خاصة مركز إسلامي أسمه (المركز الإسلامي البرازيلي) ويتكون المركز من مسجد جامع تقام فيه صلاة الجمعة وقاعة صغيرة جداً تلقى فيها المحاضرات وبيت لإمام الجامع ولكن المسلمين يشكون من ضيقه ويزمعون العمل على إنشاء مركز أكبر يلحق به ناد كبير يكون صالحاً لقضاء أوقات الفراغ لأبناء المسلمين تحت إشراف المرشدين المسلمين. كما أن المركز الإسلامي في سان باولو يصدر جريدة أسبوعية صغيرة باللغتين العربية والبرتغالية لغة البلاد.
وتحدث فضيلته عن الحركة الأدبية العربية في المهجر قائلاً: إنه يوجد في البرازيل حركة أدبية عربية مهجرية تقوم على إصدار عدد من المجلات والنشرات الأدبية باللغة العربية وأكثر الذين يقومون على هذه الحركة ويغذونها بإنتاجهم الأدبي وخاصة من إنتاجهم الشعري هم من المسيحيين العرب الذين نزحوا من لبنان وسوريا وذلك لأن عددهم أكثر وعهدهم بالبلاد أقدم، ولهم نشاط بارز في المحافظة على إبقاء اللغة العربية حية في أولادهم وإبقاء مكتباتهم الخاصة عامرة بالكتب العربية.
وأقرب مثال لذلك أن مدينة سان باولو التي عقد فيها المؤتمر الإسلامي تصدر فيها أكثر من ست صحف ما بين جريدة ومجلة باللغة العربية.(4/313)
ومن أرقى هذه الصحف مادة لغوية وأرقها إنتاجاً شعريا مجلة (المراحل) التي تقوم على إصدارها وإدارتها امرأة لبنانية في السبعين من عمرها اسمها (ماريانا فاخوري) وهذه المجلة بالذات تهتم بنشر أخبار المملكة العربية السعودية وتعريف العرب في المهجر بالنهضة الأدبية والثقافية في المملكة جرياً على عادتها في توسيع الحركة الثقافية والأدبية بين العرب في الوطن العربي والعرب في المهجر.
وسألت فضيلته عن أهم ما لفت نظره في البرازيل فقال:
أهم ما يلفت نظر السائح من الشرق الأوسط الذي يزور تلك البلاد من الناحية العمرانية والسكانية هو ما بلغته البرازيل من حضارة مادية ورقي عمراني لم نكن نظن أنه يوجد في غير أميركا الشمالية فمثلا ناطحات السحاب توجد بكثرة في سان باولو وفي مدينة ريودي جانيرو والجسور العظيمة تكاد تكون صفة مميزة لمدينة سان باولو التي يبلغ عدد سكانها أكثر من ستة ملايين نسمة وحركة سير السيارات فيها هائلة.
ثم إن المرء ليلاحظ بمزيد من الارتياح أن سكان البرازيل يمكن ملاحظة كونهم يتألفون من عناصر بشرية متعددة أو ربما يقال إنهم يمثلون جميع العناصر البشرية ويلاحظ ذلك بسهولة من تعدد ألوانهم ومع ذلك فإن التسامح العنصري موجود بل إن سياسة عدم التفرقة العنصرية هي السائدة هناك فلا تفريق بين أجناس الناس بسبب اللون أو الثقافة أو غيرهما.
ثم إن المرء إذا خرج إلى الريف البرازيلي وبخاصة إذا رأى مزارع البن فإنه يدهش إذا رأى المزارع الخضراء تغطي مساحات شاسعة ويمكن ملاحظة بعض مساحاته بالطائرة مما يجعل المرء يعتقد بأن دولة البرازيل سيكون لها مستقبل عظيم في السياسة الدولية في بحر عشرين سنة المقبلة لا سيما إذا لاحظنا أن عدد سكان البرازيل في الوقت الحاضر 91 مليون نسمة وأنهم يرحبون بالمهاجرين الجدد لأنهم يعتقدون أن بلادهم لا زالت في حاجة إلى أيد عاملة.
(درر)(4/314)
ما خاب تاجر صادق، ولا تلميذ مجتهد، ولا صانع ماهر، المعروف قروض، والأيام دول، ومن توانى عن حقه ضاع، ومن قاهر الحق قهر.
الإمام علي كرم الله وجهه.(4/315)
مكانة المسجد في الإسلام
بقلم الشيخ: محمد بن حمود الوائلي
المدرس بمعهد الجامعة
إن للمسجد في المجتمع الإسلامي دوره التاريخي يبقى بقاء العقيدة ويخلد خلود الإيمان ومن مناراته تعلو أصوات المؤذنين وتتكرر كلمات التوحيد التي توالت رسل الله تبينها لأممها واضحة المعالم نيرة السبل بينة المراسيم هذه العقيدة التي تجمع الشتيت وتلم الشعث وتربط الأفراد بعضهم ببعض دون نسب ولا صلة، فتذوب أمامها كل الفوارق، وتزول بها كل الحواجز..
بهذه العقيدة أصبح الحفاة العراة رعاة الشاة سادة وقادة..
وأصبحت الأمة الإسلامية مهيبة الجانب عزيزة السلطان موفورة الكرامة أقامت في إطار عقيدتها حضارة شامخة وحياة سعيدة.
ثم يلي ذلك النداء إلى الركن الثاني وهو إقامة الصلاة فتنعقد صلة العبد بربه بعد توحيده والإقرار له والإيمان به لتزاد عقيدته وتعلو ولتزداد تلك العقيدة سمواً ورفعة ويزداد صاحبها قرباً إلى الله.
فالصلاة عامل وقائي للفرد وللمجتمع من أن تتفشى فيه الفواحش أو المنكرات وهي وسيلة لمناجاة العبد لربه فتزكو نفسه وتنغرس فيها قوة قابلة للخير فتتكون بهذه النفس الطيبة أسرة صالحة تعمل لبناء المجتمع الناجح، فتكون الألفة شعارها والدين غايتها والمحبة ضالتها المنشودة فمتى تم هذا كما شرعه الله لا يكون بيننا جائع ولا عار ولن تسيل قطرة دمع لظلم ظالم أو طغيان جائر.
يلي هذا النداء مناجاة الله سبحانه وتعالى فتسعد بها النفوس.
إذن فالمسجد هو المركز الأول للإشعاع الروحي والعلمي لأنه مكان العبادة والتعلم وموطن التذكير والتفقيه والتوجيه.
فبيت الله الحرام قبلة المسلمين تتجه الوجوه شطره والأبصار نحوه تتحلق والجموع حوله، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل المدينة فيكون من أولى خطواته لبناء الدولة الإسلامية أن يقيم على هذه الأرض الطاهرة مسجده ليعلم الناس الخير ويجمعهم على عبادة الله.(4/316)
ولم تكن رسالة المسجد في الإسلام قاصرة على الصلاة وحدها بل كانت المساجد ولا تزال مفتحة الأبواب لا يرد عنها طالب علم أو قاصد ثقافة.
ففي مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أقام فقراء المهاجرين وفي هذا المسجد استقبل الرسول صلى الله عليه وسلم الوفود ومنه انطلقت البعوث وأرسلت الجيوش.
ولقد كان هذا المسجد الجامعة الأولى التي ربى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على يديه خير تربية فقهوا في دين الله فكانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العمل.
فكان الصحابة رضوان الله عليهم يختلفون إلى هذه المدرسة فيصيبون فيها علماً وهدى وفضائل وأدباً وأحكاماً ما اتسعت لذلك أوقاتهم وساعدت عليه ظروفهم.
ولقد كانت التربية العملية في هذه المدرسة الأولى لها المقام الأول في العناية لأنها نتيجة العلم وثمرته.
فأصبحت إطاراً لكل فضيلة وسياجاً من كل ظلم، ومناجاة من كل رذيلة، وحماية من كل كبر.
فكانت أساليب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه المثل الأعلى في تكوين الإنسانية بأسمى صفاتها.
فتخرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المسجد بقيادة حميدة وتعاليم رشيدة يمضون في مسالك الأرض يقيمون الحق وينصرونه ويدعون الله فقادوا العالم إلى وجهه سليمة واتجهوا به إلى شاطئ السلام.
حملوا للعالم ديناً ينظم حياته، ويساير فطرته، ويسمو بإنسانيته، وأماطوا عنه حجب التشاغل وأزالوا عنه ركام المادة فاهتدت القلوب بعد الضلال، وسكنت النفوس بعد الاضطراب، فكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم علماء أجلاء وقواداً عظماء تسير الفتوحات أين ساروا، ضربوا للعالم بعد رسول الله أروع مثل في الإخلاص لدين الله مع شجاعة فائقة، ونضوج عقل، فاستطاع المسلمون في مدة وجيزة أن يقضوا على الدولتين العظيمتين الروم وفارس رغم ما كان لهما من القوة وشدة البأس، وأن يقلبوا التاريخ رأساً على عقب.(4/317)
هذا كله من نتائج هذه البيوت التي أقيمت ليعلو فيها ذكر الله وتزدان بالتقوى وعبادة الله {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ, رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} .
إن المسجد حصن من حصون الإسلام كيف لا يكون ذلك وفيه قرآن يتلى وصلاة تقام وتسبيح لله يرتفع.
كيف لا يكون المسجد خير ما يبنى على الأرض والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتاً في الجنة".
ولهذا نرى أن المسلمين إذا نزلوا أرضاً أو فتحوا مصراً يكو عملهم الأول أن يبنوا مسجداً لله فهو موضع عبادتهم ومركز تجمعهم، ومجلس قضائهم علانية بأحكام الله، وما ذهبت دولة المسلمين وضاع سلطانهم واستهان بهم أعداؤهم إلا بانحرافهم عن عقيدتهم، وما زهد المسلمون في مساجدهم إلا يوم ضعف شأنهم وانحطت كرامتهم وتفرقت كلمتهم وتمزقت ديارهم.
وإننا لنرى اليوم الكثير من شباب المسلمين يبتعدون عن بيوت الله وهم يعلمون أنهم لن يقوم لهم مجد ولا عز ولن تصبح لهم كرامة وهيبة إلا بعودتهم إلى المساجد فتتعلق بها قلوبهم وتهوى إليها أفئدتهم فيعمرونها بالإيمان وإقام الصلاة {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلآَّ اللَّه} الآية.
فالمساجد بيوت الله لا يعبد فيها غير الله ولا يدعى بها إلا الله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} .(4/318)
لقد عرفنا ما للمسجد في الإسلام من مكانة عالية ومنزلة رفيعة، وأنه بموضع القلب النابض لدى المسلمين، ولهذا نرى أن أول كيد في الإسلام كان كيد الذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ, لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيه, ِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ، أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ, وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
وإنه لا يخفى اليوم على كل مسلم ما تقوم به الصهيونية الخبيثة على سمع ومشهد من العالم من انتهاك لحرمات المسلمين، وتهديم لمعالم الهدى، وإطفاء لنور التقوى مع تقتيل الشيوخ والأطفال والنساء.
فأين نحن اليوم مما كان عليه أبطال بدر وأحد، وفرسان القادسية واليرموك؟ أين نحن من أولئك القوم الذين دافعوا عن رسالة الإسلام حتى أوصلوا أمانتها إلى من بعدهم سالمة كاملة فتناقلتها العصور حتى وصلت إلينا اليوم.
إنها رسالة الإنسانية الخالدة التي لا دواء لها من أوصابها إلا بها، وهي أمانة ثقيلة على من أثقل نفسه بالشهوات والأباطيل خفيفة على من عاد إلى فطرة الله وتحرى في أعماله سبيل الله، وقصد بجميع تصرفاته وجه الله.(4/319)
ألا ما أحوج المسلمين اليوم إلى شباب يهضمون رسالة الإسلام فتمتزج بها نفوسهم، وتنبض بها قلوبهم، وتراها الأمم في أخلاق حملة أمانتها وفي أعمالهم وتصرفاتهم فتنقاد من ورائهم إلى هذا الحق.
لقد أمعن اليهود في غرورهم وتمادوا في طغيانهم وازدادوا في عتوهم دون أن تفل له صفاة أو تقصف لهم قناة.
يا عجباً كل العجب من تمادي هؤلاء المعتدين في باطلهم وفشل المسلمين عن حقوقهم.
أين نريد، أفراراً من الزحف؟ والله يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} أم خوفاً من الموت والله يدعونا إلى الجهاد في سبيله ويعدنا جنة عرضها السموات والأرض أكلها دائم وظلها {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
إن المسلمين اليوم في حاجة ملحة إلى تمزيق حجاب الجهل بالدين الصحيح وذلك بالالتفاف حول عقيدة الإسلام الخالدة فهي لب الإيمان وجوهر الإصلاح، والعودة إلى تعاليم الدين الحنيف فهو الدين الوافي بمطالب الإنسانية الصالح لها في كل جيل يسد عوزها، ويكفيها عن مورد آخر تستقي منه حاجتها فقد أغناها الله بالمنهل العذب والمعين الذي لا ينضب.(4/320)
وبذلك يكون المسلمون قد وضعوا أيديهم على مفاتيح العزة وأسباب السعادة فتزول الفرقة وتحل الألفة ثم تنطلق الجموع المؤمنة تقطع الفيافي وتتخطى المفاوز دون أن تتعثر خطاها أو تحيد عن غايتها فتدخل ساحة الوغى وميدان القتال لتحرر مساجد الله من عبث العابثين وظلم الظالمين، إذ أن أعظم بقعة يجب الدفاع عنها والقتال دونها بيوت الله التي ما أقيمت إلا ليعلو فيها ذكر الله.
وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} .
هذه هي مكانة المسجد في الإسلام استقيناها من نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام وهم القدوة الحسنة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.(4/321)
من وحي السنة
بقلم الشيخ علي ناصر فقيهي
مدير المعهد الثانوي في الجامعة الإسلامية
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". رواه مسلم، وفي رواية له: "المسلمون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى كله".
هذا اللفظ الموجز البليغ الذي نطق به رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ورسم فيه ما ينبغي أن تكون عليه الأمة الإسلامية من التماسك والترابط وشد بعضهم بعضاً حيث شبهها بالجسد الواحد إذا أصاب المرض منه عضواً واحداً أصاب جميعه القلق والسهر وعدم الهدوء والراحة التي كان ينعم بها حينما كان صحيحاً، يا ترى هذه الأمة المسلمة المتصفة بهذا الوصف العظيم الذي يقوم فيه المسلم بحق أخيه المسلم في أي مكان وجد وبأي لون اتصف وبأي لغة تكلم، ما دام مسلماً {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} هل هي موجودة الآن، وهل وجد لها هذا الوصف في ماحي التاريخ؟
إذا رجعنا إلى العصر الأول عصر الترابط والتضحية والجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وجدنا ذلك واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار.
نجد من يضحي بحياته فينام على السرير الذي يعلم يقيناً أن سيوف المشركين تترقب الانقضاض على صاحبه ويتغطى ببرده عليه الصلاة والسلام.
وذلك هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ونجد آخر يجاهد بنفسه وماله - كما هو واضح من سيرة الصديق رضي الله عنه - ونرى عثمان رضي الله عنه يجهز جيشاً كاملاً.(4/322)
ونجد مثالاً رائعاً في الإيثار والتضحية والتعاطف والتراحم ذلك هو ما وقع في معركة القادسية، إذ عرض الماء على جماعة كل واحد منهم في آخر رمق من حياته وهو بحاجة إلى جرعة ماء ليهون بها عن نفسه من سكرات الموت، فينظر إلى آخر فيراه ينظر إليه فيعلم أنه في حاجة إلى الماء، فيقول للساقي: قدمه إليه لعله أحوج مني، وهكذا إلى أن يصل إلى آخرهم وكل واحد منهم يؤثر أخاه على نفسه، ثم يرجع الساقي إلى الأول فيجده قد قضى نحبه، فإلى الثاني كذلك ويلقون ربهم جميعاً ويبقى الماء.
كما نجد في التاريخ أيضاً امرأة هتكت حرمتها فنادت: وا معتصماه! فجهز جيشاً كاملاً.. استجابة لدعوتها.
بعد هذه المقدمة القصيرة نلقي نظرة على واقع مسلمي اليوم ومدى ترابطهم وشد بعضهم بعضاً على ضوء هذا الحديث النبوي الكريم.
مع مقارنته بما عليه أعداء الله والذين هم على دين انتهت مهمته بالرسالة الشاملة الكاملة.
تعرف أيها القارئ الكريم ما حدث في فلسطين من قادة الكفر في أنحاء العالم ومدهم الشرذمة الذليلة المشردة المضروب عليها بالذلة والمسكنة إلى يوم القيامة بما يحتاجونه من سلاح وغيره إعداداً للنيل من الإسلام والمسلمين، وما حدث أثر ذلك من القتل الجماعي وتهديم المساكن والمساجد التي يذكر فيها اسم الله، وتشريد أهلها إلى مخيمات لاجئين يقاسون ما يقاسون من البرد القارس في الشتاء والحر المهلك في الصيف، ويعانون الأمراض التي تجتاحهم وأطفالهم ونساءهم.. كل ذلك يجري ويزداد يوماً بعد يوم بإجلاء العائلات ونسف مساكنها.
بل على العكس نسمع وكالة غوث اللاجئين تدعي عجزاً في ميزانيتها وتأتي بشتى الوسائل لإسقاط بعض ما تدفعه لهؤلاء المنكوبين، بدعوى أن أكثرهم ينتسبون لجهات تستطيع الوكالة بأسبابها إسقاط ما يستحقون ولا غرابة في ذلك فمن المشرف على هذه الوكالة؟(4/323)
وما ذلك إلا لأن ما وصف به الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة الإسلامية من التعاطف والتراحم وجعلها كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
ولا يوجد إلا قليلاً - ولا يمكن تحققه إلا إذا وجد من يتصف بتلك الصفات التي اتصف بها أسلافنا وأين ذلك في هذا العصر الذي تحقق فيه ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حب الدنيا وكراهية الموت، ونعود لذكر ما أشرت إليه من المقارنة بين المسلمين على ضوء الحديث وبين أعداء الإسلام وشد بعضهم بعضاً.
سمعنا جميعاً ما حدث في نيجيريا من الحرب الأهلية التي استمرت أكثر من سنتين وانتصار الاتحاديين على البيفريين الانفصاليين.
فقد ضجت النصرانية والصهيونية في أقطار العالم من حكومات وجمعيات وكنائس وكل نصراني في العالم خوفاً على إخوانهم في بيفري أن يفتك بهم من قبل أعدائهم، كأنما يمثلون - ويا للأسف - ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمة المسلمة إذا اشتكى واحد منهم هب الجميع لنصرته وإغاثته.
ثم ما قدمته هذه الحكومات والجمعيات والكنائس من إعانات مالية تتمثل في ملايين النقود ومئات الآلاف من الأطنان الغذائية والكميات الهائلة من الأدوية والمستشفيات المتنقلة والأطباء والممرضين وغير ذلك.
كل هذا نقوله بأسف وأسى لما صار ويصير على المسلمين في فلسطين وروسيا وتنزانيا والهند وغيرها من البلدان الإسلامية التي يتعرض سكانها لكل كارثة من قتل ونسف وتشريد عوائل ولا معتصم يجيب، فهل ستعود الأمة الإسلامية كالجسد الواحد؟ ذلك ما نرجوه وما هو على الله بعزيز.
---
(1) تداعى: دعى بعضه بعضاً إلى المشاركة في ذلك.(4/324)
من.. ولماذا؟
- قصة -
بقلم الشيخ: محمد المجذوب
كان الرقيب برهان غارقا في نوم ثقيل، عندما انتقل جرس الهاتف الموضوع بحذاء رأسه يقرع سمعه برنين مزعج طويل، ويبدو أنه كان مستغرقاً في حلم غير سار سرعان ما اختلطت أحداثه بهذا الرنين، فإذا هو يهب مذعوراً، وفي غير وعي يجذب جهاز الهاتف ويقذف به بعيداً، فيكاد يصدم رأس زميله المساعد، لولا أن رده جانب الوسادة الذي كان مرتفعاً فوق ذراعه التي اعتادت أن تأخذ مكانها تحتها، كلما أخذ رأسه موضعه فوقها.. وفي هذه اللحظة أخذ الرقيب يسترد كامل يقظته، فاعتذر لرفيقه بأنه كان يحلم أنه في خط النار، وقد سقطت بجانبه قذيفة يدوية، فالتقطها ورمى بها ليتفادى انفجارها..
وكان جرس الهاتف مستمراً في رنينه، فرفع الرقيب السماعة..
- من هنا؟
- هنا مركز قطنا.
- هنا مركز الضابطة العامة في قوة اليرموك بدمشق.. الرقيب برهان يتكلم.
- شكراً.. هنا زميل لكم من ضابطة اليرموك في معسكر قطنا عثر به قتيلاً عند مدخل البلد.
- رقيب.. قتيل؟!.. أهكذا قلت؟!..
- نعم.. رقيب من ضابطة اليرموك الخاصة في قطنا.. وجدته جوالة للشرطة قتيلاً أو ميتاً..
- قتيل.. ميت!! .. أقتيل هو أم ميت؟؟
- المكان يوهم أن في الأمر جريمة.. ولكن لا يبدو في الجثمان ما يدل على ذلك.
- شكراً.. احرسوا الجثمان.. سنجري اللازم حالاً.
وأعاد الرقيب السماعة.. وأطرق يفكر، الساعة الآن الثانية، ومعنى ذلك أنه لم يمض على نومه سوى ساعة.. وقد قضى يومه في عمل متواصل يراقب المتطوعة، ويستمع إلى الشكاوي… وعشرات الأشياء الأخرى، وكان يمني نفسه بإغفاءة لا يقطعها إلا بالنهوض لصلاة الفجر.. وها هو ذا مضطر إلى مغادرة فراشه قبل الموعد بثلاث ساعات، ليبتدأ عملاً لا يعلم متى ينتهي.. ومن يدري فقد يكون الرجل ميتاً لا قتيلاً، ما دام الشرطة، وهم الذين شاهدوا جثمانه، لا يستطيعون القطع بأحد الأمرين، وفي هذه الحال سيكون مجهوده خالياً من كل معنى!..(4/325)
وتذكر برهان أن مثل هذا التفكير لا يحسن بالإنسان الذي وهب نفسه لواجب الجهاد، الذي لا يكون قتالاً للعدو فقط، بل قتالاً للأهواء، وقتالاً للكسل الذي يدفع صاحبه لإيثار النوم على التحقيق في قضية كهذه.. أياً كانت نتائجها!.
على أنه لم يخطر في ذهنه موضوع الجهاد حتى أحس بانقباض موجع، لقد انتظم في سلك المجاهدين في غمرة من الحماسة الروحية التي تجعل الاستشهاد أروع ما يتصوره القلب المؤمن، وهو الروح الذي كان يسيطر على معسكرات المجاهدين جميعا، وبه بدأت المعارك الأولى، فكان النصر، وكان القتل، وكان كلاهما شيئاً جميلاً في نظر هؤلاء الذين فارقوا أهليهم وأعمالهم ابتغاء رضوان الله، ولا يزال يذكر الساعة التي فقد فيها رفيقه ومواطنه اللاذقي (محمد الصباغ) .. ذلك الفتى الذي لم يستطع والداه صده عن خوض هذه الغمرة؛ لأنه كان شديد الرغبة في الشهادة، فأبى الله إلا أن يحقق له رغبته، وتم ذلك برصاصة يهودية حطمت فكه الأسفل، وحملت إليه المنية، إذ كان إلى جانبه يطلق نيران بندقيته على العدو، وتحول الإصابة بينه وبين الكلام، فيسلم الروح وعلى ثغره ابتسامة الرضا بما آتاه الله من فضله.. ولقد خاض برهان بعد معركة القدس تلك عدة ملاحم، ورأى العديد من رفاقه المؤمنين يسبقونه إلى الجنة، وفي كل مرة كان يتطلع إلى حظه من هذه النعمة، مزوداً نفسه لها بكل ما يسعه.. ولكن الله لم يقدر له هذا المصير، ومد بأجله حتى اليوم.. ليشهد التدهور المريع الذي بدأ يراود النفوس، فيطفئ شيئاً فشيئاً توهج الوقدة المقدسة التي ساقتها إلى هذه الساحات.. وها هو ذا يرى بعيني رأسه التطور الفاجع الذي أعقب الهدنة، فجعل يحول الطاقات التي كانت معبأة لدك معاقل اليهود، واستنقاذ الأرض المقدسة إلى تدمير نفسها بهذه الخلافات اليومية التي يثيرها المتطوعة فيما بينهم لأتفه الأسباب.. ثم وجدت في الجهاد من أجل فلسطين فرصة للتوبة والتطهر.. حتى إذا تسرب روح الوهن إلى جهاز(4/326)
النضال العام، استيقظت فيها عوامل الضعف القديمة، فتكاد اليوم تستأنف سيرتها الأولى، لا يمنعها من ذلك إلا هذه البقية من روح النظام الذي تكافح الضابطة من أجل صيانته في هذه المعسكرات.
ومما يساعد على مضاعفة هذا الانهيار المعنوي تلك الأنباء التي تأخذ طريقها بقوة إلى كل شقة ولسان بين المتطوعة.. إنها أنباء خيانات تنسب إلى طائفة من الكبار.. الذين تصدوا لقيادة الجهاد، فإذا هم فيما يقال يتواطأون مع العدو على تسليم الأرض المقدسة، لقد بدأت هذه الشوائع همسات في الخلوات، ثم انتهت إلى العلانية، يتداولها الجميع بين مصدق ومكذب.. وكفى بهذا وحده مثيراً للشكوك، مثبتاً للعزائم، مدمراً للحماسة، محطماً لكل تصميم روحي!..
وكانت هذه التصورات تتفاعل في صدر الرقيب برهان وخياله، وهو متجه في سيارة الجيب نحو منزل القائد.. ولما وقفت به السيارة أمام الباب انتزع نفسه من شروده، وأعلن مهمته لحرس المنزل.. ثم عاد إلى السيارة ليصحب الرئيس الذي كلف التحقيق في القضية.
وكانت الساعة لا تعدو الثالثة إلا قليلاً عندما وصل مكلفو التحقيق إلى حيث يستقر الجثمان تحت شجرة الجوز العجوز، التي تظلل أغصانها بعض الطريق الداخل إلى (قطنا) .. وترجل الرئيس وكاتبه، وتبعهما الرقيب برهان ليلقوا النظر الذي لا بد منه على الجسد الهامد.
كانت الظلمة طاغية.. والجو كشأنه في مثل هذه الليلة من آذار قارساً، ولكن مصباح الضغط الذي أحضره رجال الدرك لحراسة الجثمان بدد الكثير من تلك الظلمة، ونشر شيئاً غير قليل من الدفء..
ونظر المحقق ومن معه إلى ذلك الجسد المنبطح على صدره، وقد امتد كل من ذراعيه في شبه زاوية قائمة، وانفرجت ساقاه.. ولم يبد من وجهه سوى جانبيه.. لأن مقدمته لاصقة بالأرض.
وتراءى ذلك الهيكل العملاق تحت الضوء المشع مهيب النظر، يوحي بأن صاحبه كان على حظ من القوة الجسدية غير يسير.(4/327)
ولم يشأ المحقق أن يغير وضع الجثمان بانتظار الطبيب الشرعي.. ولكنه جعل يدقق النظر من أعلاه إلى أدناه، فلم يلمح أي أثر لجريمة.. اللهم إلا ذلك التماس الشديد الذي بدا بين وجهه والأرض، حتى لكأن أنفه قد كسر أو بسط تحت ضغط ثقيل غير أن مثل هذا قد يتأتى من أيد آثمة كما يحدث من سقطة فادحة..ومن يدري، فقد يكون الرجل مصاباً بالصرع، وقد فاجأه هنا، فأكبه على وجهه بهذه الصورة!.
وبدأ المحقق استيضاحه مع كبير الشرط:
- من الرجل.. اسمه.. ومن أي البلاد هو؟
- اسمه عبد الله خليل.. وهو أردني من إربد.. كان يتردد على مركزنا أثناء تجواله لمراقبة المتطوعين..
- إذن فأنتم تعرفون الكثير عن سلوكه الخلقي؟
- بالتأكيد.. إنه رجل شهم يتحلى بإخلاص كبير.. وكان صارماً في حماية النظام.. مما جعل الكثيرين غير راضين عنه..
وأمسك المحقق عن متابعة الأسئلة، لم يفكر بما يسمع، ولاح عليه أنه وجد في بعض هذا الوصف ما يستحق اهتمامه.. ثم طلب إلى الرجل أن يطلعه على التقرير الذي كتبوه عن مشاهداتهم.
وقرأ التقرير ووقف عند هذه الأسطر:.. وكان آخر عمل قام به في (قطنا) هو إخراجه بعض المتطوعة بالقوة من خماره (أبو جورج) .. وفي تمام الساعة الثانية عشرة من بنا في طريقه إلى المعسكر، ثم حوالي الساعة الواحدة والنصف شاهدته جوالتنا فاقد الروح تحت شجرة الجوز..)
وسأل الرجل مرة أخرى: (هل تعرفون أحداً من أولئك الذين كرههم على مغادرة الخمارة!؟.
وجاءه الجواب بالنفي.. فالتفت إلى الرقيب برهان: يحسن أن تحضر لي الخمارة، وسيرافقك أحد الشرطة ليرشدك إلى داره.. وستجدني بانتظاركم في مخفر الشرطة.
وترك المحقق الجثمان للطبيب الذي وصل آنئذ.. ومضى بسيارته إلى داخل البلد، ثم لم يكد يستقر إلا قليلاً حتى أقبلت سيارة الرقيب برهان بالخمارة.. الذي أوشك قلبه أن يقف من شدة الرعب، ولما رأى المحقق اضطرابه سكن روعه، وأشار إليه بالجلوس، ثم جعل يسأله في لهجه لا تبعث القلق:(4/328)
- الرقيب في الضابطة الخاصة لقوة اليرموك في قطنا عبد الله خليل الأردني، قد مر بحانتك مساء اليوم.. هل تذكر؟
- نعم أذكر جيداً..
- ماذا عمل عندك؟
- أخرج المتطوعة الذين كانوا يغربدون.. وعلى الفور أغلقت حانتي ودخلت الدار.. ثم لم أغادرها إلا الساعة.
- حسن.. تذكر.. هل تعرف هؤلاء المتطوعة؟
- إنهم من أقطار مختلفة: اليمن.. الحجاز.. العراق.. و.. لذلك من العسير أن أعرفهم جميعاً.
- إذن فأنت تعرف بعضهم؟
- طبعاً..
- أذكر لي اسم هذا البعض..
- سعيد حمدو الفلسطيني..
- وعبده الخالد من الأردن
- ثم من؟
- لا أعرف أسماء الآخرين.. ولكن أظنني أعرف وجوههم..
.. ولم يشأ المحقق أن يقطع تسلسل العمل فدعا بالرقيب برهان، وكلفه أن يحمل الخمار في سيارته.
وبعد مكالمة هاتفية قصيرة انطلقت السيارتان في الطريق إلى معسكر اليرموك خارج قطنا.
ودخل المحقق مع رئيس مثله من المعسكر، ووراءه كاتب التحقيق والرقيب برهان.. دخلوا جميعاً إحدى قاعات النوم، وكان نزلاؤها الثمانية يغطون في نوم عميق..
وطلب المحقق أن يؤتى بسعيد وعبده.. فأوقظا بصعوبة، وكلفا ارتداء ثيابهما، ثم أخرجا إلى غرفة مجاورة، حيث جهز للمحقق مكتب مرتجل..
ونظر المحقق إلى المتطوعين، قد أخذتهما رعشة ظاهرة.. وبدأ الجحوظ في عينيهما القلقتين، فلم يرد في ذلك ما يسترعي الاهتمام، بل وجد له ما يسوغه في برودة الجو، والنهوض المباغت من النوم، وأشار إلى أحد الاثنين بأن يدنو منه، ولكنه لم يفهم ما يريد، وجعل يدقق بصره بين رفيقه والمحقق في نظرات زائغة، فاضطر المحقق أن يشعره بقصده إليه، وقال له في لهجة الأمر: "أنت.. تعال" …
ولكن الرجل غلبه الارتباك، فأخذ يجمجم، وهو يسارق رفيقه النظر: أنا!!. لا.. ما أنا.. هو.. هو!.
وبدا رفيقه فاغر الفم، كأنه عجز عن النطق، وقد بهتت عيناه، وانطفأ بريقهما، فكأنهما مصنوعتان من الزجاج، ولم يسطع ضبط ساقيه، فجعلتا تهتزان بصورة أفقدته التوازن..(4/329)
وهنا أمر المحقق بإخراج هذا إلى مكان آخر، ودفع الأول نحو مكتبه مكرها..
- لم يبق مجال للكتمان.. خير لك أن تعترف.. وإلا فقدت كل حق بالعطف..
- أقسم لك.. أني.. أني.. لم أشترك بالقتل..
واهتزت أعصاب المحقق وهو يسمع لفظة القتل، الذي لم يذكر أنه رأى في هيئة القتيل أي دليل على حدوثه.. وثارت رغبته في معرفة التفاصيل التي بدأت تتدفق في جهد..
- لكن دورك بارز في الجريمة.. قلت لك تكلم بصراحة وصدق لتستحق العطف.. وسترى أن كل شيء معروف.. ولا سبيل إلى الإنكار.
وبلغت أعصاب المتهم نهاية الانهيار، ولم يبق له من سلطان على نفسه، فأخذ يتكلم ويسجل الكاتب كل حرف من كلامه، حتى إذا استنفد التحقيق غرضه أمره المحقق بالجلوس.. وحذره أن يتكلم إلا بإذنه.. ثم دعا بالمتهم الثاني..
- أي عبده.. لقد اتضح كل شيء.. فعليك بالصدق إذا شئت أن يكون لك حظ في الرحمة..
وحدق في وجه رفيقه سعيد قبل أية كلمة.. ورآه يحرك كتفيه ويقلب كفيه إشعاراً باعترافه.. فلم يدر بأية كلمة يجب أن يبدأ، وجعل يتمتم: الشيطان.. الشيطان.. له..
وشد على أسنانه يريد إتمام كلمته، ولكنه عجز عن ذلك.. ثم لم يستطع كلاماً إلا بعد أن نضح وجهه بالماء ومص بعض قطرات منه.. ثم راح يفضي بمكنوناته في حال من الإعياء الإرادي التام.
وتوالى الأفراد باعترافهم واحداً تلو الآخر.. وكان في إقرر كل منهم ضرب من الإيحاء القاهر، يجر الآخر مكرها إلى الإفضاء بكل ما في نفسه.. وكانت الساعة قد قاربت السادسة.. وأطلت تباشير من النهار، فلم يبق من مانع دون تمثيل وقائع الجريمة في مكانها..
وعند شجرة الجوز توزع الثمانية مهامهم وأمكنتهم.. فتسلق عبده وآخر معه الفرع الممتد فوق الطريق، وكمن اثنان في الخندق الأيمن من الطريق واحتل آخران خندقه الأيسر.. ثم تولى الباقيان مراقبة الطريق..
قال شحادة:(4/330)
".. وكان لا بد للرقيب من المرور بهذا المكان.. فلما ألقى مبروك حصاته على الشجرة تأهبنا للعمل، وانتظرنا حتى كان الرقيب تحتنا، فقذفنا بأنفسنا عليه وكاد يتغلب علينا رغم المفاجأة.. لولا أن أدركنا الرفاق من الخندقين، فأخذ بعضهم بيديه وبعضهم برجليه، وتمكنا بذلك من دفعه على وجهه.. وكان علي أن أتولى عرك أخدعه الأيمن، وعلى عبده عرك الأيسر، فما زلنا بهما حتى خمدت حركته تماماً.. وهنا جاء دور سعيد فغرس دبوساً في النقرة الخلفية من عنقه حتى مزق الحبل الشوكي.. وبذلك تمت الخطة، ونهضنا عن جسده..".
وكان (شحادة) يسرد هذه المعلومات وهو يتبع كلا منها بتمثيل عملي ويستشهد كلا من رفاقه على دوره في ذلك، فيأتي الإقرار مؤكداً لا خلاف فيه ولا غموض..
واستغرقت محاكمة القتلة قرابة الثلاثة الأشهر.. وصدر الحكم بإعدام ثلاثة منهم.. وتفاوت نصيب الباقين من السجن بين الخمس والخمس عشرة من السنين.
وكان الرقيب برهان واقفاً خارج قوس المحكمة يستمع إلى قرارها، فلم يستطيع أن يتمالك دمعتين كبيرتين تدحرجتا على وجنتيه..
إنه لا يشك في عدالة الحكم.. ولكنه يتساءل في حيرة وحرقة: لقد جاء هؤلاء ليظفروا بالشهادة في فلسطين، أو يهموا في إنقاذها، فلماذا حرموا إحدى الحسنيين؟.. ومن المسئول عن تحولهم إلى هذا المصير الحقير؟!!(4/331)
ندوة الطلبة
دراسات في الديانات الهندية
الديانة الجينية - الجينية (جين دهرم)
بقلم الطالب: محمد ضياء الرحمن الأعظمي
لا بد لأي باحث في الديانات الهندية من أن يذكر شيئاً عن (جين دهرم) مع قلة أتباعه لما له من تأثير كبير في الديانات الأخرى.
موجز تاريخها:
يدعي أتباع الجينية أن دينهم قديم كقدم العالم والمصلح الأخير الذي جدد أصوله ونشر عقيدته هم (مها بيرسوامي) كان معاصراً (لبوذا) فحصل بينهما معارك كثيرة ونقد عليه (بوذا) في بعض خطبه ومواعظه، وقد تقدم (مها بيرسوامي) ثلاث وعشرون (تيرشنكر) (الرسل الذين يعتقد فيهم الجينيون الألوهية) والزمان الذي بين كل اثنين منهم يستغرق ملايين السنين، بل قد عجز الرياضي عن ضبطه، يقول: (لالا ديوان جند) في كتابه (هل جين دهرم أزلي) – "إن هذه الدنيا قديمة أزلية لا بداية لها ولا نهاية فكذلك (جين دهرم) ".
الفرق والمذهب:
افترقت الجينية إلى فرقتين كبيرتين:
1- الفرقة الدكمبرية.
2- الفرقة السوبنامبرية.
ثم كل منهما انقسمت قسمين: قسم يعبد الأصنام، وقسم يحرمها.
فالقسم الذي يحرم عبادة الأصنام من الدكمبرية يسمى (تارن بنتهي) Taran Panthi
ومن السونبامبرية (داس) Das.
ترتيب تعليمات مها بيرسوامي:
توفي (مها بيرسوامي) سنة 527 ق. م.(4/332)
تقول الفرقة الدكمبرية: إن حفاظ الجينيين كانوا يعلمون الناس (دواو شانك) من محفوظاتهم بعد وفاة (مها بيرسوامي) كانت لهم حافظة قوية يحفطون جميع التعلميات، ولكن بعد سبعة قرون على وفاة مها بيرسوامي مضى الحفاظ الكاملون ولم يبق فيهم إلا من يحفظ بعض الأجزاء، فلما رأى (كند كندسوامي) هذا الضعف توجه إلى ترتيب ما بقي في الحافظة فكتب كتباً كثيرة ثم تلاه تلميذه (أوماسوامي) فصنف كتاباً نال مرتبة (التوراة) و (الإنجيل) عند الجينيين وهو المعروف إلى يومنا هذا باسم (تتورات سوتر) Tatuarth Sutra والآن يعتبر هذا الكتاب مصدراً وحيداً لتعليمات (جين دهرم) : (هذه هي رواية الفرقة الدكمبرية) .
أما رواية الفرقة السونبامبرية فكما يقول مصنف كتاب (جين مت سار) :
(إن ديو آردي جمع خمسمائة من علماء الجينيين في بلده (بلبهي) سنة 453م أي بعد عشرة قرون تقريباً وأمرهم أن يرتبوا ما بقي من حافظتهم في كتاب.
النقد التاريخي:
بعد إيرادنا هذه الرواية يسهل علينا أن نقول إن تعليمات (مها بيرسوامي) لم تصل إلينا كما هي بل ضاع منها جزء كبير عبر الزمن، والذي بقي لا نثق بصحته التاريخية لأن ديو آردي لم يتأكد من صدق هؤلاء الحفاظ الذين جاءوا من أنحاء البلاد؛ لأن (ديو آردي) كان كلما سمع كلمة من فمهم أمر الكتاب بكتابتها، والأهم من هذا هو كيف يثق أحد بسند هذا الكتاب إلى ديو آردي مع أنه خال من أي وثيقة ومستند، فالعجب ممن يؤمن بهذه القصص والأساطير والحكايات.
الاختلاف الأساسي بين الفرقة الدكمبرية السونبابرية:
الاختلاف بين هاتين الفرقتين في أربع وثمانين مسألة ولكن أكثرها جزئي لا نهتم به، أما الاختلاف الأساسي فهو في ثلاث:
الأولى:(4/333)
أنه لا تحصل المعرفة الكاملة والنجاة الدائمة عن الفرقة الدكمبرية بأن يقطع الإنسان علاقته الدنيوية تماماً بحيث يجتنب اللباس وستر العورات لأجل هذا نجد نساك الفرقة الدكمبرية يعيشون عراة، وأما نساك الفرقة السونبامبرية فلا يقطعون عن الحوائج الضرورية من اللباس والفراش والعصا وغيرها، ونساك الدكمبرية يكتفون بأشياء ثلاثة:
1- شاشر (الكتاب المقدس) .
2- ومراوح من ريش الطاووس لتكنيس الأرض وطهارتها.
3- وإبريق للاستنجاء.
فما نرى من الصور العارية في الكتب الدينية والمراكز الثقافية كلها متعلقة بالفرقة الدكمبرية، نساك الفرقة السونبامبرية يرخون على وجوههم ثوباً عند السفر والكلام، ونساك الفرقة الدكمبرية يجتنبون الثياب كليا.
نساك الفرقة الدكمبرية يأكلون مرة واحدة في اليوم والليلة ولا يستعملون الأواني بل يصنعون الطعام في أيديهم ثم يأكلون.
ونساك الفرقة السونبامبرية ياكلون مرتين في الأواني.
الثانية:
الفرقة السونبامبرية ترى أن المرأة تحصل النجاة في قالبها النسائي بينما الفرقة الدكمبرية ترى أن المرأة لا تحصل النجاة لأن في إبطها جرثومة صغيرة تموت بحركتها فتلزم عليها ولادتها بقالب الرجل في الحياة الأخرى (جولان الروح) وكذلك لأنها تتنجس في كل شهر بحيض فلا تقدر على المراقبة التامة وكذلك لا تقدر على التخلص من اللباس كلياً، وهكذا.
الثالثة:
إن الفرقة الدكمبرية ترى أن العارف الكامل لا يلحقه الجوع والعطش والمرض في حياته الدنيوية بصورته الإنسانية خلافاً للفرقة السونبامبرية.
هذه هي الفروق الأساسية بين هاتين الفرقتين أما الجزئيات والفرعيات فكثيرة نتركها إيثاراً للإيجاز.
العقائد الجينية:
1- الدنيا ثمرات الروح والمادة وليس لها خالق ومدبر خارج عنها.
2- أن العلاقة التي نجدها بين الروح والمادة هي نتيجة الأعمال (كرما) لأن الأعمال تعيد الروح إلى الدنيا مرة بعد مرة.(4/334)
3- لا تتخلص الروح من العودة إلا بالإيمان الصحيح والعلم الصحيح والسيرة الحسنة ويسمى هذا التخلص (مكتي) (النجاة) .
4- الروح الناجية هي (برماتما) (إله) وتتردد وبعد النجاة لإضاءة السبيل للسائرين، فالواجب على الإنسان أن يجتهد في تخليص روحه من العودة.
5- الدنيا مركز الأرواح ومستقرها وتسلسل الأرواح في الدنيا غير متناه.
6- أهنسا برمو دهرما (أفضل الدين هو ترك القتل والإيذاء) .
الألوهية عند الجينيين:
إذا فكرنا في العقيدة الأولى وجدنا أن الجينيين لا يعتقدون بوجود خالق الكون ومدبره بل يقولون إن الدنيا نتيجة للعلاقة التي بين الروح والمادة فهي قديمة كالروح والمادة لأنها لم تكن معدومة فأوجدها موجد بل كانت موجودة من الأزل بشكل آخر فشكلت بهذا الشكل لأجل العلاقة الجديدة.
ولكن الجينيين ينكرون ذلك ويقولون نحن لا ننكر وجود الخالق بل ننكر صفته الخالقة والمدبرة، لأن وجوده ليس خارجاً عن الدنيا.
يقول العالم الجيني بي - آر - جين:
"إن الجينيين لا يعتقدون بمعبود أزلي قديم وموجود في كل زمان ومكان عالم لكل صغير وكبير قادر على كل شيء خالق الكون والحياة، بل يعتقدون بالأرواح الناجية التي بلغت درجة الإله".
معنى هذا الكلام أن آلهة جينيين كعدد الأرواح الناجية (والعياذ بالله) فروا من إله واحد فوقعوا في آلهة لا تحصى.
طبقات الرجال:
إن الجينيين يقسمون رجالهم إلى خمس طبقات:
1- أرهت:
الأرواح الناجية في الأجسام التي حصل لها علم كامل ومعرفة تامة فوصلت إلى درجة المعبود في الحياة الدنيا وهم أربع وعشرون تيرشنكر قبل الموت.
2- سدها:
الأرواح التي نجت من تكرر العودة في الدنيا ووصلت إلى مقام النجاة هم أربع وعشرون تيرشنكر بعد الموت.
3- آجاريه: رئيس الرهبان.
4- أبا دهياء: الرهبان المرشدون.
5- سادهو: الرهبان والنساك.
فلسفة عبادة الأصنام:(4/335)
إن المبتدئين الذين بدأوا حياتهم الرهبانية لا يقدرون على استقرار الفكر ودوام الفكر لعدم قدرتهم على تركيز القلوب في تصور المعبود فاحتاج هؤلاء إلى إله مكشوف بالأعين الظاهرة فلما عرف علماء الجينيين هذه الحقيقة أذنوا لهم في بناء الأصنام التي تحمل الأوصاف المطلوبة فتوجهت كل فرقة إلى بناء المعبود وفق اعتقادهم.
فالفرقة الدكمبرية مثلا تبني معبوداتها عراة لتصور تخليهم عن الضروريات الدنيوية والفرقة السوبنامبرية تبنيها وفق اعتقادها.
فهذه هي بداية عبادة الأصنام في الديانات الهندية لأننا نجد ذكر الأصنام وبناء المعابد في ويدك دهرم وبدها دهرم كما أثبتنا في موضعه فكلا المذهبين تأثرا من (جين دهرم) .
عبادة الأصنام أمر مستحسن عند الجينيين فهم يتأسفون الآن على الأجيال الجديدة التي تركت عبادة الأصنام وينقدون الإسلام لأنه هو الذي حرم بناء الأصنام وعبادتها أول مرة في تاريخ الديانة الهندية.
هنا يسأل السائل: عن الجينيين لا يعتقدون بصفة من صفات الله فعلى أي صورة يصنعون أصنامهم؟
يجاب: هم لا يصنعون صورة الإله الذي ينكرون وجوده بل يصورون حياة (تيرشنكر) الذين نجت أرواحهم من عودتها إلى الدنيا، ممثلاً ديوجي وبارش بات جي ومها بيرجي، وشومنات جي وغيرهم.
أثر جين دهرم على ويدك دهرم وبدها درهم:
1- عبادة الأصنام وبناء المعابد:
إن الهندوسيين ما كانوا يعرفون عبادة الأصنام وبناء المعابد في عصر ويدك دهرم وكذلك البوذيون بل تأثروا كلهم بجين درهم وحذروا حذوه.
2- أهنسا:
إن ويدك دهرم قد صرح بتضحيته الأنعام من الخيل والجاموس حتى البقرة، فجاء جين دهرم وحرم الأضحية حتى قتل الجراثيم التي تطير في الهواء، فتأثر به ويدك دهرم وحرم على أهله تضحية الحيوان عامة وخاصة البقرة بغضاً للمسلمين، وأما بدها دهرم فكيف يريب العاقل بجوار الأضحية رغم أن بدها لم يمت إلا بعد أن أكل لحم الخنزير، والآن هم كذلك يفتخرون بقولهم: (أهنسا برمو دهرما) .(4/336)
3- مسألة التناسخ أو جولان الأرواح:
لقد أثبتنا أن ويد قد صرح بوجود الجنة والنار وإثبات الحياتين، فجاء جين دهرم وأثر على ويدك دهرم حتى على بدها، فصار ويدك دهرم ملتزما بالتناسخ.
4- الرهبانية:
تقدم بحث أعمار الإنسان في ويدك دهرم، فالقسمان الأولان متعلقان بالحياة الأهلية، أما جين دهرم فيبحث عن بداية الحياة وفي ترك العلاقة الدنيوية والتمسك بالحياة الرهبانية.
نعم، أن بدها يحرض على ترك اللذات والشهوات، ولكن الغاية العظمى عنده هي النجاة، لا كالجينيين، فإن الغاية عندهم قطع العلائق الدنيوية كلية في جميع مجالات الحياة من الطعام والشراب واللباس فتأثر نساك الهندوسيين من جين دهرم وتركوا العلائق الدنيوية كلية وسكنوا في رأس جبل (هملايا) .
5- العري:
لا نجد فكرة العري في ويدك دهرم ولا في بدها دهرم بل جاءت هذه الفكرة من حين دهرم وأخذها نساك الهندوسيين، والآن هم الذين يحتفلون كل سنة ويجولون في الشوارع عراة ولكن الحكومة الهندية منعتهم وسمحت لهم أن يقيموا احتفالاتهم هذه في الصحاري والغابات.
وأخيراً:
هذه هي الديانة الجينية أوجزناها قدر المستطاع مع أن تفصيلها يستغرق آلاف الصفحات، ويجعل هذه المباحث السهلة تعود غامضة يتعب العقل من إدراكها ويصعب على القراء فهمها.
فسبحان الذي أنزل آيات بينات في كتابه المبين يستوي معه في فهمها الحضري والبدوي، ويستفيد منها حسب حاجته العالم والجاهل، فنشكر الله على ما من علينا بالتوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
بقلم الطالب: محمد ضياء الرحمن الأعظمي.
---
(1) يبلغ عددهم في إحصائيات سنة عام 1951م 1,618,405(4/337)
(1) شبو ديوجي - اجت نات جي -شبوانات جي - نفدن جي - سمت نات جي - يدم جي - سياثيوجي جندرجي - سبدي نات جي - شنيل نات جي - شريانسي - شرى اسوويوجي - شري بمل ناشاجي - آره ناتجي - ملى نات جي - مني سوامي - اننت نات جي - شرى دهرم نات جي - شانتى نات جي - كنت نات جي - نمى نات جي - نسيم نات جي - بارش نات جي - شرى مها بيرسوامي جي - هؤلاء كلهم في فترة واحدة من الزمان وبين كا اثنين ملايين السنوات فإذا انتهت هذه الفترة تبدأ فترة ثانية وهكذا تعيد الدنيا فتراتها مرة بعد مرة.
(2) في المطارات والمعابد والاحتفالات.
(3) هذا هو الصنم الذي هدمه محمد غزنوي حينما قام بغزو الهند سنة 1018م.(4/338)
أخبار الجامعة
وجه سماحة رئيس الجامعة الإسلامية أمراً لمدرسي الجامعة الإسلامية بأن يختاروا نخبة من طلاب الجامعة من مختلف الجنسيات ليقوموا بالمساهمة في تثقيف الحجاج وتذكيرهم بما قد يخفى على كثير منهم في مسائل الحج والعمرة، كما يوضحون لهم العقيدة الصحيحة ويحذرونهم مما قد ألصق بها من أنواع الخرافات وما فشا في الكثير من البلاد الإسلامية من البدع والضلالات ويشرحون لهم محاسن الإسلام كل ذلك بلغتهم التي يفهمونها وذلك في المسجد النبوي والمسجد الحرام ومواضع الاجتماعات؛ لأن الكثير من الحجاج في أشد الحاجة إلى مثل هذه التوجيهات وقيد شجع هذه الحركة المباركة فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح رئيس المحاكم الشرعية بالمدينة المنورة وهيأ للدعاة ما يعينهم على أداء مهمتهم على الوجه المطلوب، كما اهتم فضيلته بإعداد مكبر للصوت بعد العصر وبعد المغرب في المسجد النبوي ليتناوب المرشدون والمدرسون على توجيه الحجاج إلى ما يهمهم نحو دينهم وحجهم.
نسأل الله أن ينفع بالجهود المبذولة ويوفق المسئولين لكل ما فيه الخير للمسلمين عامة، إنه ولي التوفيق.
إجتماع مجلس الجامعة
. انعقد مجلس الجامعة الإسلامية وذلك بناءً على دعوة من سماحة رئيسه الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة الإسلامية.
وقد عقدت الجلسة بعد صلاة العشاء واستمرت مدة ثلاث ساعات، وكانت برئاسة سماحة الرئيس.
وقد بحث المجلس موضوع الدعوة التي تلقتها الجامعة الإسلامية من رئاسة جمعية الجامعات الإسلامية لإرسال وفد يمثل الجامعة الإسلامية في اجتماع المؤتمر التأسيسي للجمعية الذي سينعقد في تونس ابتداء من يوم 25يناير 1971م.
ورأى المجلس أن تشترك الجامعة في الاجتماع المذكور، ثم بحث تعيين أسماء الأشخاص الذين يمثلون الجامعة في ذلك الاجتماع فقرر أن يكون الوفد مؤلفاً من ثلاثة أشخاص هم:
الشيخ محمد ناصر العبودي ـ الأمين العام للجامعة.(4/339)
الشيخ محمد بن صالح المرشد عميد كلية الشريعة.
الشيخ عبد العزيز بن محمد القويفلي عميد كلية الدعوة وأصول الدين.
ثم انتقل المجلس إلى بحث موضوع إدخال مادة جديدة على مناهج الكليتين في الجامعة باسم: البحث العلمي، وهو الموضوع الذي كان قد نظره المجلس في جلسة سابقة وألف لجنة ثلاثية من أعضائه لوضع مشروع منهج تفصيلي له، وقد قدمت اللجنة الثلاثية المنهج المطلوب، فناقشه المجلس وأقره بالصيغة التالية:
البحث العلمي:
تمهيد: من مهام الدراسة الجامعية إعداد الخريج للبحث، والمناقشة، والتأليف، والانتفاع بالمراجع العلمية المتعلقة باختصاصه، لذلك درج الكثير من الجامعات على إلزام الطالب في المرحلة النهائية تقديم بحث في إحدى المواد التي يدخل ضمن منهاج الكلية.
وقد قررت الجامعة الإسلامية اعتبار تأليف البحث المنشود مادة إلزامية مستقلة في السنة النهائية لها درجتا نجاح: الصغرى، وهو عشرون، والكبرى وهي أربعون، ويجري تطبيقها على الأسس التالية:
1- يكون البحث في إحدى مواد المنهج المقرر في الكلية.
2- على الطالب أن يختار الموضوع الذي يريد الكتابة فيه، ويقدم بذلك خطاباً إلى عميد كليته خلال شهرين اعتباراً من بدء الدراسة، وليس له العدول عنه إلى سواه بعد تقديم الخطاب، والموافقة عليه من قبل مجلس الكلية.
3- يكون الموضوع المختار - مهما يحمل طابع الجدة ما أمكن - ولا يكتب فيه أكثر من طالب واحد في العام الواحد.
4- لا تقل صفحات البحث عن الثلاثين من حجم ورق الآلة الناسخة، ولا تزيد عن الخمسين ولا أسطر الصفحة عن العشرين بالخط العادي.
5- على الطالب أن يقدم بحثه إلى عميد الكلية قبل شهر من بدء امتحان الدور الأول مكتوباً بخط واضح، وعلى ثلاث نسخ مع أصلها، مذيلا كل صفحة اشتملت على ذكر مرجع ما بذكر المرجع، والجزء، ورقم الصفحة التي استمد منها.(4/340)
6- يتولى مدرس المادة في السنة النهائية، مع أستاذ يختاره مجلس الكلية لمراجعة البحث ثم مناقشته مع الطالب للتيقن من كونه هو المنشئ له وكونه على فهم سليم له، ثم يقدران الدرجة التي يستحقها على ضوء ذلك، مع ملاحظة الأفكار، والترتيب وسلامة الأسلوب، وصحة التعبير.
7- على الطالب أن يلحق بالبحث فهرساً تفصيلياً لنقاط البحث، وجريدة بذكر المراجع التي اعتمدها، مع تعيين أرقام الصفحات التي احتوت ذكرها.(4/341)
نظرات في حديث أصحابي كالنجوم
بقلم الطالب: صالح بن سعيد بن هلابي
كم من حديث اشتهر في بطون الكتب واستخرجت منه أحكام وقواعد عامة وأصلت منه أصول وقد يكون ضعيفاً بل موضوعاً بل ربما لا أصل له، ويلاحظ هذا كثيراً ما يقع في كتب الرقائق والزهد والوعظ والإرشاد والفضائل.
وموضوع حديثنا اليوم هو حديث أو يقال إنه حديث "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" وقد انتشر هذا الحديث في كثير من كتب أصول الفقه في باب الإجماع وخاصة إجماع الصحابة هل هو حجة أم لا؟ وربما سكت عنه الكثيرون بعد إيرادهم له ولست آتي بحكم جديد وإنما أنا ناقل وجامع لبعض ما قيل فيه.
وردت هذه الرواية بست روايات مختلفة متقاربة في اللفظ والمعنى، وسأسردها كلها إن شاء الله ونناقشها نقاشاً علمياً من حيث السند حتى نعرف مدى ما تقوم عليه هذه الروايات من حيث الصحة والضعف أو الوضع:
1- الرواية الأولى:
"أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" قال الحافظ أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري القرطبي المتوفى سنة 463هـ في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) (1) قال أخبرنا محمد بن إبراهيم بن سعد قراءة مني عليه أن محمد بن أحمد بن يحيى حدثهم قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن أيوب الرقي قال لنا أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار سألتهم عما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم مما في أيدي العامة يروونه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما مثل أصحابي كمثل النجوم أو أصحابي كالنجوم فبأيها اقتدوا اهتدوا".
قال ابن عبد البر: "وهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وربما رواه عبد الرحيم عن أبيه عن ابن عمر وإنما أتى ضعف هذا الحديث من قبل عبد الرحيم بن زيد لأن أهل العلم قد سكتوا عن الرواية لحديثه، والكلام أيضاً منكر عن النبي صلى الله عليه وسلم". اهـ.(4/342)
وسنعرف حالة عبد الرحيم بن زيد هذا بعرضه على كتب أئمة الجرح والتعديل كيف تناولوه وشرحوه هذا التشريح، قال الحافظ ابن حجر: "عبد الرحيم بن زيد بن الحواري العمي بفتح المهملة وتشديد الميم البصري أبو زيد كذبه ابن معين من الثامنة مات سنة أربع وثمانين". اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر أيضاً في تهذيب التهذيب: "عبد الرحيم بن زيد بن الحواري العمي البصري أبو زيد روى عن أبيه ومالك بن دينار وعنه أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي وأبو إبراهيم الترجماني وغيرهم"، قال الدوري عن ابن معين: "إنه ليس بشيء"، وقال الجوزجاني: "غير ثقة"، وقال أبو زرعة: "واه ضعيف الحديث"، وقال أبو حاتم: "يترك حديثه منكر الحديث كان يفسد أباه يحدث عنه بالطامات"، وقال الإمام البخاري: "تركوه"، وقال أبو داود: "ضعيف"،وقال النسائي: "متروك الحديث"، وقال مرة: "ليس بثقة ولا مأمون ولا يكتب حديثه"، وقال ابن عدي: "يروي عن أبيه عن شقيق عن عبد الله غير حديث منكر وله أحاديث لا يتابعه عليها الثقات"، وقال العقيلي: قال ابن معين: "كذاب خبيث"، وقال عبد الله بن علي بن المديني عن أبيه: "ضعيف"، وقال الساجي: "عنده مناكير". اهـ. من تهذيب التهذيب، وذكره الحافظ الذهبي في كتابه (ميزان الاعتدال في نقد الرجال) ج2 ص605 وذكر بعض أقوال العلماء التي ذكرا الحافظ ثم ذكر بعضاً من رواياته الموضوعة ثم قال ومن مروياته حديث: "أصحابي بمنزلة النجوم فبأيهم اقتديتم اهتديتم".
2- الرواية الثانية:(4/343)
وبإسناد آخر روى ابن عبد البر النمري القرطبي في كتابه جامع بيان العلم وفضله (1) من طريق سلام بن سليم قال حدثنا الحارث بن غصين عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعاً: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" قال ابن عبد البر: "هذا إسناد لا تقوم به حجة لأن الحارث بن غصين مجهول"، قال الحافظ ابن حزم الأندلسي في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام) قال: "هذه رواية ساقطة أبو سفيان ضعيف والحارث ابن غصين هذا هو أبو وهب الثقفي، وسلام بن سليمان يروي الأحاديث الموضوعة وهذا منها بلا شك". اهـ. ولنأخذ رجلاً واحداً من السند هو سلام بن سليمان قال الحافظ ابن حجر العسقلاني قال: "سلام بن سليم أو ابن سلم أو ابن سليمان والصواب أبو سليمان ويقال أبو عبد الله وهو سلام الطويل خراساني الأصل، روى عن حميد الطويل، وثور ابن يزيد الرجي وجعفر بن محمد الصادق وغيرهم وعنه - أي وروى عنه - عبد الرحمن ابن ثابت بن ثوبان وعبد الرحم بن محمد المحاربي وقبيصة بن عقبة وعلي بن الجعد وغيرهم"، قال فيه الإمام أحمد: "روى أحاديث منكرة"،وقال ابن أبي مريم عن ابن معين: "له أحاديث منكرة"، وقال الدوري وغيره عن ابن معين: "ليس بشيء"، وقال ابن المديني: "ضعيف"، وقال ابن عمار: "ليس بحجة"، وقال الجوزجاني: "ليس بثقة"، وقال البخاري: "تركوه"، وقال مرة: "يتكلمون فيه"، وقال أبو حاتم: "ضعيف الحديث تركوه"، وقال أبو زرعة: "ضعيف"، وقال النسائي: "متروك"، وقال مرة: "ليس بثقة ولا يكتب حديثه"، وقال ابن خراش: "كذاب"، وقال ابن حبان: "روى عن الثقات الموضوعات كأنه كان المعتمد لها وهو الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم عن أنس: "وقت للنفساء أربعين يوماً". اهـ.(4/344)
هذا خلاصة ما قيل فيه من أقوال أئمة الجرح والتعديل عن كتاب تهذيب التهذيب وعرفنا الرجل الآخر في السند هو الحارث بن غصين وهو أبو وهب الثقفي وهو مجهول ولا يحتج بالمجاهيل فضلا عن الضعفاء والكذابين والمتروكين.
3- الرواية الثالثة:
من طريق سليمان بن أبي كريمة عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعاً: "مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحدكم في تركه فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية فإن لم يكن سنة مني ماضية فمما قال أصحابي إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيها أخذتم به اهتديتم واختلاف أصحابي لكم رحمة". الحديث أورده السيوطي في رسالة (جزيل المواهب في اختلاف المذاهب) وأورد الجملة الأخيرة منه الإمام الغزالي في الإحياء ج1 ص25 قال الحافظ العراقي في تخريجه للإحياء: "إسناده ضعيف، ومعروفة بضاعة الغزالي في الحديث".
قلت: ليس هو ضعيفاً فقط بل هو موضوع لأن رواته كلهم متروكون، الأول فيه سليمان بن أبي كريمة قال الحافظ الذهبي قال: "سليمان بن أبي كريمة شامي روى عن هشام ابن عروة وهشام بن حسان وأبي قرة وخالد بن ميمون وعنه صدقة بن عبد الله وعمرو ابن هشام البيروني قال: ضعفه أبو حاتم، وقال ابن عدي: عامة أحاديثه مناكير".
وقال ابن أبي حاتم: "ضعيف جداً"، ثم قال الذهبي: "ولم أر للمتقدمين فيه كلاماً".(4/345)
ومن مناكيره حديث: "لكل أمة يهود ويهود أمتي المرجئة"اهـ. ملخصاً من ميزان الاعتدال، والرجل الثاني في السند هو جويبر بن سعد الأزدي قال الذهبي: "جويبر بن سعيد أبو القاسم الأزدي البلخي المفسر صاحب الضحاك قال فيه ابن معين: "ليس بشيء"، وقال الجوزجاني: لا يشتغل به، وقال النسائي والدارقطني وغيرهما: "متروك الحديث"، وقال أبو قدامة السرخسي: قال يحيى القطان: "تساهلوا في أخذ التفسير عن القوم لا تولعوهم في الحديث ثم ذكر ليث بن أبي سليم وجويبر هذا والضحاك ومحمد بن السائب وقال هؤلاء لا يحمد حديثهم ويكتب التفسير عنهم". اهـ.
والضحاك هو ابن مزاحم الهلالي لم يلق ابن عباس، بعد هذا العرض السريع لرجال هذا السند تبين لنا أن الرواية ساقطة لا تقوم بها حجة في ميزان العلم الصحيح والنقد النزيه.
4- الرواية الرابعة:
روى ابن عساكر في تاريخه من طريق نعيم بن حماد، حدثنا عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب مرفوعاً قوله: "سألت ربي فيما اختلف فيه أصحابي من بعدي فأوحى الله إلي يا محمد إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء بعضها أضوأ من بعض فمن أخذ بشيء مما هم عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى".
الحديث أورده الإمام السيوطي في الجامع الصغير برواية السجزي في الإبانة وابن عساكر عن عمر رضي الله عنه، ورمز إليه السيوطي بالضعف، قال الشيخ عبد الرؤوف المناوي صاحب كتاب فيض القدير شرح الجامع الصغير حول الحديث عن السجزي في كتاب الإبانة عن أصول الديانة وابن عساكر في التاريخ في ترجمة زيد الحواري وكذا البيهقي وابن عدي كلهم عن عمر بن الخطاب. قال ابن الجوزي في العلل: "هذا لا يصح نعيم مجروح وعبد الرحيم قال ابن معين إنه كذاب وفي الميزان هذا الحديث باطل"، وقال ابن معين وابن حجر في تخريج المختصر حديث غريب سئل عنه البزار فقال: "لا يصح هذا الكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم". اهـ. ملخصاً.(4/346)
وقد تقدم الكلام في الرواية الأولى حول عبد الرحيم بن زيد هذا وأقوال العلماء فيه فلا نعيده هنا، ونعيم بن حماد الخزاعي هو أبو عبد الله المروزي نزيل مصر، وقد تكلم حوله الحافظ الذهبي في الميزان كلاماً طويلاً، فمنهم المادح له ومنهم القادح فيه والذام له، وخلاصة القول فيه أنه كان ثقة وكان يروي المناكير قال محمد بن علي المروزي: سألت يحيى بن معين عن بعض أحاديث رواها نعيم بن حماد قال: "ليس لها أصل"، قلت: فنعيم قال: ثقة، قلت: كيف يحدث الثقة بباطل، قال شبه له"، قال أبو داود: "كان عند نعيم ابن حماد نحو من عشرين حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس لها أصل"، وقال النسائي: "هو ضعيف ومن مناكيره القبيحة المروية عنه حديث: "رأيت ربي في أحسن صورة شاباً موقراً رجلاه في خضر عليه نعلان من ذهب". اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر: "كان يخطئ كثيراً فقيه عارف بالفرائض". اهـ.
وإذا رجعنا إلى القاعدة الأصولية في مصطلح الحديث فيما اختلف العلماء في توثيقه أو ضعفه فإن القاعدة تقول إن الجرح مقدم على التعديل وخاصة إذا بين الجارح سبب الجرح في الراوي، ولأن الجارح يطلع على أحوال الراوي ما لم يطلع عليه غيره، بهذا نعرف منزلة الراوية أنها ضعيفة بل موضوعة بسبب هذا الكذاب فيها هو عبد الرحيم بن زيد.
5- الرواية الخامسة:(4/347)
"أهل بيتي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"الحديث أورده ابن عراق في كتابه العظيم تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة، وكذلك السيوطي في اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة ص 201، وأورده الشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص 397، قال الشوكاني قال في المختصر: "هو من نسخة نبيط المكذوبة"قال الأستاذين المعلقين على كتاب الشوكاني ما يأتي: "في الأصلين الكذاب وهو وهم نبيط صحابي وإنما جاء الكذب من بعض ذريته وهو أحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط لفق نسخة رواها عن أبيه عن جده عن نبيط وقد ذكرها السيوطي في أواخر الذيل". اهـ.
وأورد الشيخ الفاضل ناصر الدين الألباني الحديث في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة كما أورد كل هذه الروايات المتقدمة إنما أحببت أن أعيد القارئ الكريم إلى أصل مرجع أئمة الجرح والتعديل في مثل هذه الأحوال وأشار الشيخ الألباني في هذه الرواية إلى الفرق بين نبيط الصحابي ونبيط الكذاب، وقال: "وقد وقفت على نسخة أحمد بن نبيط الكذاب وهي من رواية أبي نعيم الأصبهاني قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن القاسم بن الريان المصري المعروف بـ (اللكي) بالبصرة في نهر دبيس قراءة عليه في صفر سنة سبع وخمسين وثلاثمائة فأقر به قال: أنبأنا أحمد بن إبراهيم بن نبيط بن شريط أبو جعر الأشجعي بمصر سنة اثنتين وسبعين ومائتين قال: حدثني أبي إسحاق بن إبراهيم بن نبيط قال: حدثني أبي إبراهيم بن نبيط عن جده نبيط بن شرط مرفوعاً فذكر أحاديث كثيرة هذا منها" اهـ.
قال الذهبي: "في نسخة أحمد بن نبيط هذا فيها بلايا وأحمد بن إسحاق لا يحل الاحتجاج به فإنه كذاب وأقره الحافظ في اللسان، والراوي أحمد بن القاسم ضعيف"، وأحمد ابن القاسم هذا قال عنه الذهبي في الميزان أحمد بن القاسم بن الريان (اللكي) له جزء عال رواه عنه أبو نعيم الحافظ لينه الأمير ابن ماكولا.(4/348)
وقال الحسن بن علي بن عمرو الزهري: "ليس بالمرضي وضعفه الدارقطني في المؤتلف والمختلف". اهـ.
6- الرواية السادسة:
"إنما أصحابي مثل النجوم فأيهم أخذتم بقوله اهتديتم" الحديث رواه ابن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) من طريق أبي شهاب الحناط عن حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً ثم قال ابن عبد البر: "وهذا إسناد لا يصح ولا يرويه عن نافع من يحتج به"، قلت وآفة هذه الرواية حمزة بن أبي حمزة الجزري النصيبي، قال الذهبي في الميزان قال ابن معين: "لا يساوي فلساً". وقال الإمام البخاري: "منكر الحديث"، وقال الدارقطني: "متروك"، وقال ابن عدي: "عامة ما يرويه موضوع"، ثم سرد الذهبي بعضاً من مروياته الموضوعة منها هذه الرواية: "أصحابي كالنجوم…".
وقال الحافظ في التقريب: "حمزة بن أبي جعفر الجعفي متروك متهم بالوضع"، وقال ابن حبان: "ينفرد عن الثقات بالموضوعات حتى كأنه المعتمد لها ولا تحل الرواية عنه".اهـ.
قال الحافظ ابن حزم الأندلسي وكتب إلي أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري إن هذا الحديث روي أيضاً من طريق عبد الرحيم بن زيد العمي ومن طريق حمزة الجزري قال: "وعبد الرحيم بن زيد وأبوه متروكان وحمزة الجزري مجهول"، وقد عرفنا حالة كل واحد منهم.
قال ابن حزم: "فقد ظهر أن هذه الرواية لا تثبت أصلاً بل لا شك أنها مكذوبة لأن الله تعالى يقول في صفة نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى, إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} فإذا كان كلامه عليه السلام في الشريعة حقا كله ووحياً فهو من الله تعالى بلا شك، وما كان من الله تعالى فلا اختلاف فيه بقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} ".(4/349)
إلى أن قال: "فمن المحال أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع كل قائل من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وفيهم من يحلل الشيء وغيره يحرمه ولو كان ذلك لكان بيع الخمر حلالاً اقتداء بسمرة بن جندب رضي الله عنه، ولكان أكل البرد للصائم حلالاً بأبي طلحة وحراماً بغير منهم، ولكان ترك الغسل من الإكسال جائزاً اقتداء بعلي وعثمان وطلحة وأبي أيوب وأبي بن كعب وحراماً اقتداء بعائشة وابن عمر ولكان بيع التمر قبل ظهور الطيب فيها حلالاً اقتداء بعمر حراماً اقتداء بغيره منهم، ثم استطرد ابن حزم في ضرب الأمثلة، وقال: وكل هذا مروي عندنا بالأسانيد الصحيحة تركناها خوف التطويل وقد كان الصحابة يقولون بآرائهم في عصره عليه الصلاة والسلام فيبلغه ذلك فيصوب المصيب ويخطئ المخطئ، فذلك بعد موته عليه السلام أفشى وأكره."اهـ ملخصاً من كلام ابن حزم رحمه الله ومن أراد التفصيل فعليه بالكتاب المشار إليه.
بعد هذا ليس على الباحث المنصف وطالب الحق إذا قال بعد اطلاعه على هذه الأحاديث الموضوعة المكذوبة ليس عليه شيء إذا قال: لا يصح في هذا الباب حديث واحد بهذه الروايات، وبهذا نتبين أن الله حفظ هذه الشريعة الغراء من كيد الدساسين الوضاعين والكذابين الآثمين، وإن الله قيض لهذا الدين جهابذة يدافعون في سبيله وينافحون عما علق به من الكذب والأباطيل {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
إلى الإسلام(4/350)
أعتقد أنه لا خير لنا في واحد من هذه النظم جميعاً، فلكل منها عيوبه الفاحشة، كما له حسناته البادية، وهي نظم نبتت في غير أرضنا لأوضاع غير أوضاعنا ومجتمعات فيها غير ما في مجتمعنا.. فضلاً عن أن بين أيدينا النظام الكامل الذي يؤدي إلى الإصلاح الشامل في توجيهات الإسلام الحنيف، وما وضع للاقتصاد القومي كلية أساسية لو علمناها وطبقناها تطبيقاً سليماً، لانحلت مشكلاتنا، ولظفرنا بكل ما في هذه النظم من حسنات، وتجنبنا كل ما فيها من سيئات، وعرفنا كيف يرتفع مستوى المعيشة وتستريح كل الطبقات، ووجدنا أقرب الطرق إلى الحياة الطيبة.
(من مجموعة رسائل البنا)
---
(1) ج2ص90 المكتبة العلمية بالمدينة المنورة.
(2) في تقريب التهذيب ج1 ص504.
(3) ج6 ص305.
(4) ج2 ص91.
(5) ج6 ص810 بتعليق الشيخ أحمد شاكر.
(6) تهذيب التهذيب ج4 ص281.
(7) في ميزان الاعتدال ج2 ص221 من الطبعة الجديدة بتحقيق الشيخ علي محمد البجاوي.
(8) ميزان الاعتدال ج1 ص427.
(9) انظر: فيض القدير ج4 ص76.
(10) ج4 ص267.
(11) التقريب ج2 ص305.
(12) ج1 ص419.
(13) ج1 ص128.
(14) ج1 ص90.
(15) ج1 ص606.
(16) الإحكام في أصول الأحكام ج6 ص810.
(17) ولا يغتر القارئ بتعدد روايات هذا الحديث لأن المتعدد لا يجدي نفعاً إذا كان مدار كل رواية على كذاب أو متهم أو فاحش الغلط فمثل هذا النوع لا يقوي بعضه بعضاً لأنه يكون من (مثقل استعان بذقنه) .(4/351)
يستفتونك
يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
وردت إلينا أسئلة من بعض مناطق اليمن، وفيما يلي نص الأسئلة والإجابة عليها:
س1- ما حكم الأذان والإقامة في قبر الميت عند وضعه فيه؟
ج - لا ريب أن ذلك بدعة ما أنزل الله بها من سلطان؛ لأن ذلك لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم، والخير كله في اتباعهم، وسلوك سبيلهم قال الله سبحانه:
{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} الآية.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" متفق على صحته، وفي لفظ آخر قال عليه الصلاة والسلام: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد".
وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة الجمعة: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " خرجه مسلم في حديث جابر رضي الله عنه.
س2- ما حكم التلفظ بالنية جهراً في الصلاة؟
ج - التلفظ بالنية بدعة، والجهر بذلك أشد في الإثم، وإنما السنة النية بالقلب لأن الله سبحانه يعلم السر وأخفى، وهو القائل عز وجل:
{قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}
ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن الأئمة المتبوعين التلفظ بالنية، فعلم بذلك أنه غير مشروع، بل من البدع المحدثة، وسبق في جواب السؤال الأول بيان الأدلة الدالة على إنكار البدع، والله ولي التوفيق.
س3- ما حكم رفع الصوت بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والترضي عن الخلفاء الراشدين بين ركعات التراويح؟(4/352)
ج - لا أصل لذلك - فيما نعلم - من الشرع المطهر، بل هو من البدع المحدثة، فالواجب تركه، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها وهو اتباع الكتاب والسنة، وماسار عليه سلف الأمة، والحذر مما خالف ذلك.
س4- ما حكم الجهر بالبسملة في الصلاة عند قراءة الفاتحة وغيرها من السور؟
ج - اختلف العلماء في ذلك، فبعضهم استحب الجهر بها، وبعضهم كره ذلك وأحب الإسرار بها وهذا هو الأرجح والأفضل لما ثبت في الحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم" وجاء في معناه أحاديث، وورد في بعض الأحاديث ما يدل على استحباب الجهر ولكنها أحاديث ضعيفة، ولا نعلم في الجهر بالبسملة حديثاً صحيحاً صريحاً يدل على ذلك، ولكن الأمر في ذلك واسع وسهل ولا ينبغي فيه النزاع، وإذا جهر الإمام بعض الأحيان بالبسملة ليعلم المأمومون أنه يقرأها فلا بأس، ولكن الأفضل أن يكون الغالب الإسرار بها عملاً بالأحاديث الصحيحة.
س5- ما حكم ما جرت به عادة بعض الناس من ذبح الإبل، والغنم، وإقامة وليمة عند موت الميت يجتمع فيها المعزون وغيرهم ويقرا فيها القرآن؟(4/353)
ج - هذا كله بدعة لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه رضي الله عنهم، وقد ثبت عن جرير بن عبد الله البجلي الصحابي الشهير رضي الله عنه، قال: "كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام بعد الدفن من النياحة". أخرجه الإمام أحمد، وابن ماجة بسند صحيح، وإنما المشروع أن يصنع الطعام لأهل الميت، ويبعث به إليهم من أقاربهم أو جيرانهم أو غيرهم لكونهم قد شغلوا بالمصيبة عن إعداد الطعام لأنفسهم لما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه، قال: لما أتى نعي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم"، أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة بإسناد صحيح، وهذا العمل - مع كونه بدعة - فيه أيضاً تكليف أهل الميت وإتعابهم مع مصيبتهم، وإضاعة أموالهم في غير حق، والله المستعان.
س6- هل على السيارات التجارية التي تسافر وتجلب الحبوب، وغيرها زكاة، وهكذا ما أشبهها من الجمال؟
ج - ليس على السيارات والجمال المعدة لنقل الحبوب، والأمتعة، وغيرها من بلاد إلى بلاد زكاة لكونها لم تعد للبيع وإنما أعدت للنقل والاستعمال، أما إن كانت السيارات معدة للبيع، وهكذا غيرها من الجمال، والحمير، والبغال، وسائر الحيوانات التي يجوز بيعها إذا كانت معه للبيع فإنها تجب فيها الزكاة لأنها صارت بذلك من عروض التجارة فوجبت فيها الزكاة لما روى أبو داود، وغيره عن سمرة بن جندب، رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نعده للبيع، وإلى هذا ذهب جماهير أهل العلم، وحكاه الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله إجماع أهل العلم.(4/354)
س7- بلادنا تنتج الحب، والعملة عندنا بالحبوب لقلة النقود، فإذا جاء وقت البذر اشترينا من التجار الصاع بريال، فإذا جاء وقت الحصاد وصفيت الحبوب سلمنا للتجار عن كل ريال صاعين مثلاً لأن السعر في وقت الحصاد أرخص منه في وقت البذر، فهل يجوز هذه المعاملة؟
ج - هذه المعاملة فيها خلاف بين العلماء، وقد رأى كثير منهم أنها لا تجوز لأنها وسيلة إلى بيع الحنطة ونحوها بجنسها متفاضلاً ونسيئة، وذلك عين الربا من جهتين: جهة التفاضل، وجهة التأجيل، وذهب جماعة آخرون من أهل العلم إلى أن ذلك جائز إذا كان البائع والمشتري لم يتواطأ على تسليم الحنطة بدل النقود، ولم يشترطا ذلك عند العقد، هذا هو كلام أهل العلم في هذه المسألة، ومعاملتكم هذه يظهر منها التواطؤ على تسليم حب أكثر بدل حب أقل لأن النقود قليلة وذلك لا يجوز، فالواجب على الزارع في مثل هذه الحالة أن يبيعوا الحبوب على غير التجار الذين اشتروا منهم البذر، ثم يوفوهم حقهم نقداً، هذا هو طريق السلامة والاحتياط والبعد عن الربا، فإن وقع البيع بين التجار وبين الزراع بالنقود، ثم حصل الوفاء من الزراع بالحبوب من غير تواطئ، ولا شرط فالأقرب صحة ذلك كما قاله جماعة من العلماء، ولا سيما إذا كان الزارع فقيراً ويخشى التاجر أنه إن لم يأخذ منه حباً بالسعر بدل النقود التي في ذمته فات حقه ولم يحصل له شيء لأن الزارع سوف يوفي به غيره ويتركه أو يصرفه - أي الحب - في حاجات أخرى، وهذا يقع كثيراً من الزراع الفقراء، ويضيع حق التجار، أما إذا كان التجار والزراع قد تواطأوا على تسليم الحب بعد الحصاد بدلاً من النقود فإن البيع الأول لا يصح من أجل التواطئ المذكور، وليس للتاجر إلا مثل الحب الذي سلم للزارع من غير زيادة تنزيلا له منزلة القرض لعدم صحة البيع مع التواطئ على أخذ حب أكثر.
س8- لمس المرأة بشهوة أو بدون شهوة سواء كانت امرأته أو غيرها هل ينقض الوضوء؟(4/355)
ج - هذه المسالة فيها خلاف بين العلماء، والصواب أنه لا ينقض الوضوء سواء كان بشهوة أو بدونها، وسواء كان اللمس لامرأته أو غيرها إذا لم يخرج منه مذي أو غيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض نسائه ثم يصلي ولا يتوضأ، ولأن الأصل صحة الطهارة وسلامتها فلا يجوز إبطالها إلا بناقض ثابت في الشرع، وليس في الشرع المطهر ما يدل على النقض بمجرد اللمس، أما قوله سبحانه: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} فالمراد به الجماع في أصح قولي العلماء كما قاله ابن عباس، وجماعة من العلماء، وليس المراد به مجرد اللمس، ولو كان المراد به مجرد المس لبينه النبي صلى الله عليه وسلم للأمة، لأن الله سبحانه بعثه مبلغاً ومعلماً، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقبل بعض نسائه ثم يصلي ولا يتوضأ، وذلك يبين معنى الآية الكريمة، والله أعلم.
س9- هل التسبيح برفع الصوت يوم الجمعة قبل الصلاة بساعة أو أكثر سنة أم بدعة؟
ج - لا شك أن هذا العمل بدعة، لأنه لم يبلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه أنهم فعلوا ذلك، والخير كله في اتباعهم، أما من سبح بينه وبين نفسه فلا بأس بذلك بل فيه خير عظيم، وثواب جزيل لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، وقال عليه الصلاة والسلام: "كلمتان خفيفتان على اللسان حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"، والأحاديث في فضل أنواع الذكر كثيرة.
س10- يكثر بين الناس عندنا الحلف بالطلاق، والحرام، فما حكم ذلك؟(4/356)
ج - أما الحلف بالطلاق فهو مكروه لا ينبغي فعله لأنه وسيلة إلى فراق الأهل - عند بعض أهل العلم - ولأن الطلاق أبغض الحلال إلى الله، فينبغي للمسلم حفظ لسانه من ذلك إلا عند الحاجة إلى الطلاق، والعزم عليه في غير حال الغضب، والأولى الاكتفاء باليمين بالله سبحانه إذا أحب الإنسان أن يؤكد على أحد من أصحابه أو ضيوفه للنزول عنده للضيافة أو غيرها، أما في حال الغضب فينبغي له أن يتعوذ بالله من الشيطان، وأن يحفظ لسانه وجوارحه عما لا ينبغي، أما التحريم فلا يجوز سواء كان بصيغة اليمين أو غيرها؛ لقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآية.
ولأدلة أخرى معروفة، ولأنه ليس للمسلم أن يحرم ما أحل الله له، أعاذ الله الجميع من نزغات الشيطان.
س11- إذا تخاصم قبيلتان أو شخصان حكم شيخ القبيلة على المدعى عليه بعقائر من الإبل أو الغنم تعقر وتذبح عند من له الحق إلى آخره؟
ج - الذي يظهر لنا من الشرع المطهر أن هذه العقائر لا تجوز لوجوه، أولها: أن هذا من سنة الجاهلية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا عقر في الإسلام".
والثاني: أن هذا العمل يقصد منه تعظيم صاحب الحق، والتقرب إليه بالعقيرة، وهذا من جنس ما يفعله المشركون من الذبح لغير الله، ومن جنس ما يفعله بعض الناس من الذبح عند قدوم بعض العظماء، وقد قال جماعة من العلماء: إن هذا يعتبر من الذبح لغير الله، وذلك لا يجوز بل هو في الجملة من الشرك، كما قال الله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} .(4/357)
والنسك هو الذبح، قرنه الله بالصلاة لعظم شأنه فدل ذلك على أن الذبح يجب أن يكون لله وحده، كما أن الصلاة لله وحده، وقال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من ذبح لغير الله".
الوجه الثالث: أن هذا العمل من حكم الجاهلية، وقد قال الله سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} . وفيه مشابهة لأعمال عباد الأموات، والأشجار، والأحجار كما تقدم، فالواجب تركه وفيما شرع الله من الأحكام، ووجوه الإصلاح ما يغني ويكفي عن هذا الحكم، والله ولي التوفيق.
س12- قد اشتهر عندنا أن الرجل إذا غاب عن بلاده ثم قدم أن النساء من جماعته يأتين إليه ويسلمن عليه ويقبلنه، وهكذا في الأعياد، عيد الفطر، وعيد الأضحى، فهل هذا مباح؟(4/358)
ج - قد علم بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة أن المرأة ليس لها أن تصافح أو تقبل غير محرمها من الرجال سواء كان ذلك في الأعياد أو عند القدوم من السفر أو لغير ذلك من الأسباب، لأن المرأة عورة، وفتنة، فليس لها أن تمس الرجل الذي ليس محرماً لها سواء كان ابن عمها أو بعيداً منها، وليس لها أن تقبله أو يقبلها، لا نعلم بين أهل العلم - رحمهم الله - خلافاً في تحريم هذا الأمر وإنكاره، لكونه من أسباب الفتن، ومن وسائل ما حرم الله من الفاحشة، والعادات المخالفة للشرع لا يجوز للمسلمين البقاء عليها، ولا التعلق بها بل يجب عليهم أن يتركوها، ويحاربوها ويشكروا الله سبحانه الذي من عليهم بمعرفة حكمه ووفقهم لترك ما يغضبه، والله سبحانه بعث الرسل عليهم الصلاة والسلام وعلى رأسهم سيدهم وخاتمتهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لدعوة الناس إلى توحيده سبحانه، وطاعة أوامره، وترك نواهيه، ومحاربة العادات السيئة التي تضر المجتمع في دينه، ودنياه، ولا شك أن هذه العادة من العادات السيئة، فالواجب تركها، ويكفي السلام بالكلام من غير مس، ولا تقبيل، وفيما شرع الله وأباح غنية عما حرم وكره، وكذلك يجب أن يكون السلام مع التحجب ولا سيما من الشابات لأن كشف الوجه لا يجوز لكونه من أعظم الزينة التي نهى عن إبدائها، قال الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنّ} إلى آخر الآية الكريمة، وقال تعالى في سورة الأحزاب: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ} الآية. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً} وقال تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ(4/359)
مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
والقواعد من العجائز، بين الله سبحانه أن لا حرج عليهن في وضع ثيابهن عن الوجه ونحوه إذا كن غير متبرجات بزينة، وأن التستر والتحجب خير لهن لما في ذلك من البعد عن الفتنة، أما مع التبرج بالزينة فليس لهن وضع الثياب بل يجب عليهن التحجب والتستر وإن كن عجائز، فعلم بذلك كله أن الشابات يجب عليهن التحجب عن الرجال في جميع الأحوال سواء كن متبرجات بالزينة أم غير متبرجات لأن الفتنة بهن أكبر، والخطر في سفورهن أعظم، وإذا حرم سفورهن فتحريم الملامسة، والتقبيل من باب أولى لأن الملامسة والتقبيل أشد من السفور، وهما من نتائجه السيئة وثمراته المنكرة، فالواجب ترك ذلك كله، والحذر منه، والتواصي بتركه وفق الله الجميع لما فيه رضاه، والسلامة من أسباب غضبه إنه جواد كريم، والذي أوصي به الجميع هو تقوى الله سبحانه، والمحافظة على دينه، ومن أهم ذلك وأعظمه المحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها، وأداؤها بالخشوع والطمأنينة، والمسارعة من الرجال إلى أدائها في الجماعة في مساجد الله التي أذن أن ترفع ويذكر فيها اسمه كما قال الله سبحانه: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .(4/360)
ومن الأمور المهمة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق، والصبر عليه، وهذه هي أخلاق المؤمنين والمؤمنات، وصفاتهم كما بين الله ذلك في قوله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لما يرضيه وأن يهدينا جميعاً صراطه المستقيم إنه سميع قريب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(4/361)
في مناسبات الآيات والسور (3)
آراء العلماء في المناسبات
للشيخ أحمد حسن
إذا تأملنا ما كتبه العلماء حول المناسبات أمكننا أن نميز فيه اتجاهات أربعة، وسنعرض أولاً آراء هذه الاتجاهات ثم مناقشتها ونرجح ما نراه أولى وأقرب إلى الصواب.
الإتجاه الأول:
يقول بعدم المناسبة أصلاً ونمثل له بالشوكاني حيث تعرض لهذا الموضوع في تفسيره المسمى (فتح القدير) ص 72 من المجلد الأول وأنحى باللائمة على المفسرين الذين يقولون بالمناسبة، يقول الشوكاني: "اعلم أن كثيراً من المفسرين جاءوا بعلم متكلف وخاضوا في بحر لم يكلفوا سباحته واستغرقوا أوقاتهم في فن لا يعود عليهم بفائدة بل أوقعوا أنفسهم في التكلم بمحض الرأي المنهي عنه في الأمور المتعلقة بكتاب الله سبحانه وذلك أنهم أرادوا أن يذكروا المناسبة بين الآيات القرآنية المسرودة على هذا الترتيب الموجود في المصاحف، فجاءوا بتكلفات وتعسفات يبرأ منها الإنصاف، ويتنزه عنها كلام البلغاء فضلاً عن كلام الرب سبحانه وحتى أفردوا ذلك بالتصنيف وجعلوه المقصد الأهم من التأليف، كما فعله البقاعي في تفسيره ومن تقدمه حسبما ذكر في خطبته وإن هذا لمن أعجب ما يسمعه من يعرف أن هذا القرآن ما زال مفرقاً ينزل حسب الحوادث المقتضية لنزوله منذ نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أن قبضه الله عز وجل، وكل عاقل فضلاً عن عالم لا يشك أن هذه الحوادث المقتضية نزول القرآن متخالفة باعتبار نفسها بل وقد تكون متناقضة كتحريم أمر كان حلالاً وتحليل أمر كان حراماً، وإثبات أمر لشخص أو أشخاص يناقض ما كان قد ثبت لهم قبله.(4/362)
وتارة يكون الكلام مع المسلمين وتارة مع الكافرين وتارة مع من مضى وتارة مع من حضر وحيناً في عبادة وحيناً في معاملة ووقتاً في ترغيب ووقتاً في ترهيب وآونة في بشارة وآونة في نذارة وطوراً في أمر دنيا وطوراً في أمر آخرة ومرة في تكاليف آتية ومرة في أقاصيص ماضية، وإذا كانت أسباب النزول مختلفة هذا الاختلاف ومتباينة هذا التباين الذي لا يسير معه الأئتلاف، فالقرآن النازل فيها هو باعتبار نفسه مختلف كاختلافها، فكيف يطلب العاقل المناسبة بين الضب والنون والماء والنار والملاح والملاح والحادي وهل هذا إلا من فتح أبواب الشك وتوسيع دائرة الريب على من في قلبه مرض أو كان مرضه مجرد الجهل والقصور فإنه إذا وجد أهل العلم يتكلمون في التناسب بين جميع آي القرآن بليغاً معجزاً إلا إذا ظهر الوجه المقتضي للمناسبة وتبين الأمر الموجب للارتباط فإن وجد الاختلاف بين الآيات فرجع إلى ما قاله المتكلمون في ذلك فوجده تكلفاً محضاً وتعسفاً بيناً انقدح في قلبه ما كان عنه في عافية وسلامة.(4/363)
هذا على فرض أن نزول القرآن الكريم كان مرتباً على هذا الترتيب الكائن في المصحف وكل من له أدنى علم بالكتاب وأيسر حظ من معرفته يعلم علماً يقيناً أنه لم يكن كذلك، ومن شك في هذا وإن لم يكن مما يشك فيه أهل العلم رجع إلى كلام أهل العلم العارفين بأسباب النزول المطلعين على حوادث النبوة فإنه ينثلج صدره ويزول عنه الريب بالنظر في سورة من السور المتوسطة فضلاً عن المطولة لأنه لا محالة يجدها مشتملة على آيات نزلت في حوادث مختلفة وأوقات متباينة لا مطابقة بين أسبابها وما نزلت فيها في الترتيب بل يكفي المقصر أن يعلم أن أول ما نزل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وبعده {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} وينظر أين موضع هذه الآيات والسور في ترتيب المصحف؟ وإذا كان الأمر هكذا فأي معنى لطلب المناسبة بين آيات نعلم قطعاً أنه قد تقدم في ترتيب المصحف ما أنزله الله متأخراً وتأخر ما أنزله الله متقدماً فإن هذا العمل لا يرجع إلى ترتيب نزول القرآن بل إلى ما وقع من الترتيب عند جمعه ممن تصدى لذلك من الصحابة وما أقل نفع مثل هذا وأنزر ثمره وأحقر فائدته بل هو عند من يفهم ما يقول وما يقال له من تضييع الأوقات وإنفاق الساعات في أمر لا يعود بنفع على فاعله ولا على من يقف عليه من الناس وأنت تعلم أنه لو تصدى رجل من أهل العلم للمناسبة بين ما قاله رجل من البلغاء من خطبه ورسائله وإنشاءاته أو إلى ما قاله شاعر من الشعراء من القصائد التي تكون تارة مدحاً وأخرى هجاء وحيناً نديباً وحيناً رثاء وغير ذلك من الأنواع المتخالفة فعمد هذا المتصدي إلى ذلك المجموع فناسب بين فقره ومقاطعه ثم تكلف تكلفاً آخر فناسب بين الخطبة التي خطبها في النكاح ونحو ذلك وناسب بين الإنشاء الكائن في العزاء والإنشاء الكائن في الهناء وما يشابه ذلك لعد هذا المتصدي لمثل هذا مصاباً في عقله متلاعباً بأوقاته عابثاً بعمره الذي هو رأس(4/364)
ماله وإذا كان مثل هذا بهذه المنزلة وهو ركوب الأحموقة في كلام البشر فكيف تراه يكون في كلام الله سبحانه الذي أعجزت بلاغته بلغاء العرب وأبكت بفصاحته فصحاء عدنان وقحطان وقد علم كل مقصر وكامل أن الله سبحانه وصف هذا القرآن بأنه عربي وأنزله بلغة العرب وسلك فيه مسلكهم في الكلام وجرى به مجاريهم في الخطاب وقد علمنا أن خطيبهم كان يقوم المقام الواحد فيأتي بفنون متخالفة وطرائق متباينة فضلاً عن المقامين فضلاً عن المقامات فضلاً عن جميع ما قاله ما دام حيا وكذلك شاعرهم.
ونكتفي بهذا التبيين على هذه المفسدة التي تعثر في ساحاتها كثير من المحققين وإنما ذكرنا هذا البحث في هذا الموطن لأن الكلام هنا قد انتقل مع بني إسرائيل بعد أن كان قبله مع أبي البشر آدم عليه السلام، فإذا قال متكلف كيف ناسب هذا ما قبله؟ قلنا لا كيف".
فدع عنك نهبا صيح في حجراته
وهات حديثا ما حديث الرواحل
الإتجاه الثاني:
اتجاه يقول بالمناسبة في حال دون حال ويمثل هذا الاتجاه الشيخ العز بن عبد السلام حيث يقول: "المناسبة علم حسن ولكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره فإن وقع على أسباب مختلفة لم يشترط فيه ارتباط أحدهما بالآخر".
قال: "ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك يصان عنه حسن الحديث فضلاً عن أحسنه، فإن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة ولأسباب مختلفة وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض، إذ لا يحسن أن تربط تصرف الإله في خلقه وأحكامه بعضها ببعض مع اختلاف العلل والأسباب كتصرف الملوك والحكام وتصرف الإنسان نفسه بأمور متوافقة ومتخالفة ومتضادة، وليس لأحد أن يطلب ربط بعض تلك التصرفات مع بعض مع اختلافها في نفسها واختلاف أوقاتها".
الاتجاه الثالث:(4/365)
هو الذي يقول بالمناسبة ويمثل جمهور الذين بحثوا في هذا الموضوع وهم يرون أن هذا العلم قد خفي على كثير من المفسرين لدقته، يقول الفخر الرازي في تفسيره: "أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط"وقال بعض الأئمة: "من محاسن الكلام أن يرتبط بعضه ببعض لئلا يكون منقطعاً وهذا النوع يهمله بعض المفسرين أو كثير منهم، وفوائده غزيرة". قال القاضي أبو بكر بن العربي في (سراج المريدين) : "ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني منتظمة المباني علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة ثم فتح الله ـ عز وجل ـ لنا فيه فلم نجد له حملة ورأينا الخلق بأوصاف البطلة ختمنا عليه وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه".
وقال بعض المشايخ المحققين: "قد وهم من قال لا يطلب للآي الكريمة مناسبة لأنها على حسب الوقائع المتفرقة، وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلاً وعلى حسب الحكمة ترتيباً فالمصحف كالصحف الكريمة على وفق ما في الكتاب المكنون مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف، وحافظ القرآن العظيم لو استفتي في أحكام متعددة أو ناظر فيها، أو أملاها لذكر آية كل حكم على ما سئل وإذا رجع إلى التلاوة لم يمثل كما أفتى، ولا كما نزل مفرقاً بل كما أنزل جملة إلى بيت العزة ومن المعجز البين أسلوبه الباهر فإنه {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} .
الاتجاه الرابع:(4/366)
هو الذي يقول بأكثر من المناسبة أنه بـ (النظام) الذي تعتبر المناسبة جزءاً من أجزائه وفرعاً من فروعه، ويمثل هذا الاتجاه المعلم عبد الحميد الفراهي الهندي ويقرب منه الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه (النبأ العظيم) يقول الفراهي في معرض بيان الفرق بين المناسبة والنظام: "قد صنف بعض العلماء في تناسب الآي والسور وأما الكلام في نظام القرآن فلم أطلع عليه، والفرق بينهما أن التناسب إنما هو جزء من النظام فإن التناسب بين الآيات بعضها مع بعض لا يكشف عن كون الكلام شيئاً واحداً مستقلا بنفسه، وطالب التناسب ربما يقنع بمناسبة ما وربما يغفل عن المناسبة التي ينتظم بها الكلام فيصير شيئاً واحداً، وربما يطلب المناسبة بين الآيات المتجاورة مع عدم اتصالها، فإن الآية التالية ربما تكون متصلة بالتي قبلها على بعد منها ولولا ذلك لما عجز الأذكياء عن إدراك التناسب فأنكروه، فإن عدم الاتصال بين آيات متجاورة يوجد كثيراً ومنها ما ترى فيه اقتضابا بيناً وذلك إذا كانت الآية أو جملة من الآيات متصلة بالتي على بعد منها، وبالجملة فمردانا بالنظام أن تكون السورة كلاماً واحداً ثم تكون ذات مناسبة بالسورة السابقة واللاحقة أو بالتي قبلها أو بعدها على بعد ما، كما قدمنا في نظم الآيات بعضها مع بعض فكما أن الآيات ربما تكون معترضة فكذلك ربما تكون السور معترضة. وعلى هذا الأصل ترى القرآن كله كلاماً واحداً ذا مناسبة وترتيب في أجزائه من الأول إلى الآخر فتبين مما تقدم أن النظام شيء زائد على المناسبة وترتيب الأجزاء".(4/367)
ويوضح الفراهي هذه الفكرة في كتابه الذي ألفه لهذا الغرض والمسمى (دلائل النظام) حيث يثبت أن للترتيب والنظام حظاً وافراً في كل مركب لا سيما في الكلام البليغ ولا سيما في هذا القرآن الكريم والذين يزعمون خلاف ذلك فإنهم قد أخطأوا في زعمهم ولم ينصفوا كتاب الله. ثم صرح بعد ذلك بأن القرآن الحكيم كلام منظم ومرتب من أوله إلى آخره على غاية حسن النظم والترتيب وليس فيه شيء من الاقتضاب لا في آياته ولا في سوره بل آياته مرتبة في كل سورة كالفصوص في الخواتم وسورة منظمة في سلك واحد كالدرر في القلائد حتى لو قدم ما أخر أو أخر ما قدم لبطل النظام، وفسدت بلاغة الكلام بل ربما يعود إلى قريب من الهذيان.
ويبين الفراهي في موضع آخر من كتابه كيف اهتدى إلى هذا العلم فيقول:
"وقد يسر لي بمحض نعمته فهم نظم القرآن في سورة البقرة وسورة القصص من نفس القرآن وإني كنت مولعاً بتلاوته وهو أحب الكتب وألذها عندي - ولله الحمد - وقد كنت أسمع أن القرآن الكريم أشت الكتب نظماً، لنزوله نجماً نجْماً ولكن بعد ما ظهر في النظام في سورتين حثني على التدبر في باقيها وكنت في حدث السن وعز الفرصة، فمضت بضع عشرة سنة حتى وفقني الله تعالى أن ابتدأت من أول القرآن ويسر لي الإتمام في سنة كاملة وهممت أن أبرزه للناس فردعني عظم الذمة وروعني كبر المغبة، فمكثت أراجع فيه النظر مرة بعد مرة أمداً طويلاً مستعيذاً بالله من ظلمات النفس وغوايات الجهل ومع ذلك وددت لو طويته على غره وسكت عن حلوه ومره ونجوت من إثمه وبره ولكن اضطرني إليه أمور:
الأول:(4/368)
أني رأيت اختلاف الآراء في التأويل من عدم التزام رباط الآيات، فإنه لو ظهر النظام واستبان لنا عمود الكلام، لجمعنا تحت راية واحدة وكلمة سواء {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} وجعلنا معتصمين بحبل كتابه، كما قال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وكيف الخلاص عن التفرق الأصلي، وقد جعلوا هذا الحبل أشتاتاً في ظنونهم وهو بحمد الله متين {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} فيؤوله كل فريق حسب ظنه، ويحرف طريق الكلام عن متنه وبالنظام يتبين سمت الكلام، فينفي عن آيات الله أهواء المبتدعين وانتحال المبطلين وزيغ المنحرفين, الذين يحرفون الكلم عن مواضعه, والذين يقطعون كلام الله عما بين يديه ومن خلفه ويضمون إليه ما يعجب هوى نفوسهم.
والثاني:
أني رأيت الملحدين قد طعنوا في القرآن من جهة سوء النظم ورأيت جمهور علماء المسلمين - عوض الشهادة بالحق والمنافحة عن حقيقة كتاب الله - قد تفوهوا بمثل ما قالوا {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} وقد علمت حق اليقين أن قولهم باطل وحجتهم داحضة فلم يسعني أن أسكت وأرى الباطل قد عمت بلواه وبلغ السيل زباه.
الثالث:(4/369)
أنه لا يخفى أن نظم الكلام بعض منه فإن تركته ذهب بعض معناه، فإن للتركيب معنى زائداً على أجزاء الأشتات فلا شك أن من حرم فهم النظام، فقد حرم حظاً وافراً من الكلام ويوشك أن يشبه حاله بمن قبله من أهل الكتاب كما أخبر الله تعالى عنهم: {فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وأخاف أن تكون هذه العداوة والبغضاء التي نراها في المسلمين من هذا النسيان فلا تهدأ عداوتهم ولا يرجعون من اختلافهم وسبب ذلك ما ذكرنا في الأمر الأول؛ لأننا إذا اختلفنا في معاني كلامه اختلفت أهواؤنا، وصرنا مثل أهل الكتاب، غير أن رجاءهم كان بهذا النبي وهذا القرآن الذي يرفع اختلافهم وأما نحن فليس لنا إلا هذا الكتاب المحفوظ".
وهكذا فإن علم النظام الذي اكتشفه الفراهي علم جامع ليس كعلم المناسبة الذي كان مركزاً لأفكار السلف ومطمحاً لأنظارهم؛ لأن التناسب إنما هو جزء من أجزائه والنظام شيء زائد عليه بل أوسع منه وأعم فعلم النظام لا يظهر التناسب وحده بل يجعل السورة كلاماً واحداً، ويعطيها وحدانيتها التي بها صارت سورة كاملة بنفسها ذات عمود تجري إليها أجزاؤها ويربط الآيات بعضها ببعض حتى تأخذ كل آية محلها الخاص ويتعين من التأويلات المحتملة أرجحها فمن تدبر القرآن في ضوء النظام فلا شك أنه لا يخطئ في فهم معانيه وذلك لأن النظام قد يبين له سمت الكلام وينفي عنه تشاكس المعاني ويرد الأمور إلى الوحدة ويسد أبواب الدخول فيه للأهواء حتى يجبره ألا يأخذ إلا بصحيح التأويل ولا يعتمد إلا عليه وهو أعظم مطلوب.
ويقول الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه (النبأ العظيم) :(4/370)
" إنك لتقرأ السورة الطويلة المنجمة يحسبها الجاهل أضغاثاً من المعاني حشيت حشواً وأوزاعا من المباني جمعت عفواً فإذا هي - لو تدبرت - بنية متماسكة قد بنيت من المقاصد الكلية على أسس وأصول وأقيم على كل اصل منها شعب وفصول وامتد من كل شعبة منها فروع تقصر أو تطول فلا تزال تنتقل بين أجزائها كما تنتقل بين حجرات وأفنية في بنيان واحد قد وضع رسمه مرة واحدة، لا تحس بشيء من تناكر الأوضاع في التقسيم والتنسيق، ولا بشيء من الانفصال في الخروج من طريق إلى طريق بل ترى بين الأجناس المختلفة تمام الألفة كما ترى بين آحاد الجنس الواحد نهاية التضام والالتحام كل ذلك بغير تكلف ولا استعانة بأمر خارج المعاني أنفسها وإنما هو حسن السياقة ولطف التمهيد في مطلع كل غرض ومقطعة وأثنائه يريك المنفصل متصلاً والمختلف مؤتلفاً.
ولماذا نقول إن هذه المعاني تتسق في السورة كما تتسق الحجرات في البنيان؟ لا بل إنها لتلتحم فيها كما تلتحم الأعضاء في جسم الإنسان، فبين كل قطعة وجارتها رباط موضعي من أنفسهما كما يلتقي العظمان عند المفصل ومن فوقها تمتد شبكة من الوشائج تحيط بهما عن كثب كما يشتبك العضوان بالشرايين والعروق والأعصاب ومن وراء ذلك كله يسري في جملة السورة اتجاه معين وتؤدي بمجموعها غرضاً خاصاً، كما يأخذ الجسم قواماً واحداً ويتعاون بجملة على أداء غرض واحد مع اختلاف وظائفه العضوية".
---
(1) الشيخ ولدين الملوي الهندي.(4/371)
الإسلام والمذاهب الاشتراكية
بقلم فضيلة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي
الإسلام هو الدين الرباني الذي ختم الله به دعوات الرسل وهدايتهم للبشر وهو دين خالد باق إلى قيام الساعة، له كتاب ضمن الله حفظه من التبديل والتغير والزيادة والنقص، وله سنة محمدية تفسر هذا الكتاب وتوضح معانيه وتبسط أحكامه، وتبين قواعده وتشرح فروعه، ولم يحصل مثل ذلك لأي كتاب من الكتب السماوية السابقة؛ لأنها كانت موقوتة بوقت محدود ينتهي العمل بها بانتهائه، أما القرآن والهداية المحمدية فهما باقيان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، لا ينسخهما ناسخ ولا يحدهما حد ولا يقف في طريقهما شيء، وإن بلغ أعداؤهما في الكيد والمكر كل مبلغ {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} - سورة الصف - وقال تعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} وقال تعالى فيها أيضاً: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} .
فعلى كل من بلغه الإسلام بوجه تقوم به الحجة عليه أن يدخل فيه ويتبعه ويتمسك به وهو دين صالح لكل الشعوب في كل زمان ومكان، ومعناه التسليم والانقياد لأمر الله تعالى باللسان والقلب والجوارح، والإسلام في عقيدته وأحكامه وآدابه وهي الأخلاق وسط بين طرفين لا إفراط فيه ولا تفريط فهو يثبت في عقيدته توحيد الله تعالى في ربوبيته وعبادته وأسمائه وصفاته، لا يعطي منها غير الله سبحانه مثقال ذرة ولو كان ملكاً مقرباً أو نبياً مرسلاً أو صديقا صالحاً.(4/372)
فأما توحيد الله في ربوبيته فيتبين في نحو قوله تعالى في سورة المؤمنين: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ, سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ, قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ, سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ, قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ, سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ, بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .(4/373)
هذه محاجة أمر الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يحاج المشركين بها فقال له: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يعترفون بأن الله رب كل شيء وخالق كل شيء وهو المدبر لشئون الخلق كلهم ومع ذلك يعبدون معه غيره، قل لهم لمن الأرض ومن فيها من حيوان عاقل وغير عاقل ونبات بسائر أنواعه وجماد من خلق ذلكم ومن يملكه ومن يسيره فسيعترفون بأن الله وحده هو الذي يملك الأرض ومن فيها فقل لهم أفلا تذكرون، فلماذا تعبدون معه غيره بالخوف والرجاء والذبح والنذر والدعاء والطلب والالتجاء عند الشدائد والملمات مع أن أولئك الذين تعبدونهم فقراء عاجزون لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً فكيف بغيرهم؟ ثم قال تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} قل لهم يا محمد قل للمشركين من رب السموات وما فيها من الكواكب السيارة والنجوم وغير ذلك من الآيات من خلقها؟ ومن يدبر شؤونها؟ ومن رب العرش العظيم؟ الذي هو سقف المخلوقات ولا يعرف قدره إلا الله فإنهم سيعترفون ويقولون الله هو رب ذلك كله قل أفلا تتقون الله وتتركون ما أنتم عليه من عبادة غيره، ثم قال: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي من يملك كل شيء وغيره لا يملك شيئاً بل هو نفسه مملوك ومن السيد العظيم الذي يجير أي يحمي من شاء فلا يستطيع أحد أن يناله بأذى ولا يجار عليه ولا يستطيع أحد أن يحمي ويؤمن من أراد الله عذابه أو إهلاكه فسيعترفون ويقولون: الله وحده هو الذي يستطع ذلك، فقل لهم: كيف تذهب عقولكم فتشركون مع الله غيره في عبادته، قال تعالى في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ(4/374)
اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ, ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ, وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} .
قال في اللسان: "الرب في اللغة يطلق على المالك والسيد المدبر والمربي والقيم والمنعم ولا يطلق على غير مضاف إلا على الله عز وجل".اهـ.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآيات: "يخبر تعالى أنه خالق العالم سماواته وأرضه وما بين ذلك في ستة أيام، كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن، واختلفوا في هذه الأيام هل كل يوم منها كهذه الأيام كما هو المتبادر إلى الذهن أو كل يوم كألف سنة كما نص على ذلك مجاهد والإمام أحمد بن حنبل، ويروى ذلك من رواية الضحاك عن ابن عباس. الشهادة.(4/375)
وقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال فيه الإمام مالك رحمه الله: الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة، وهذا أحسن ما قيل في تفسيره فإن الاستواء في لغة العرب معلوم معناه وكيفية ذلك لا يعلمها إلا الله واعتقاد السلف الصالح إمراراً آيات الصفات كما جاءت من غير تشبيه ولا تعطيل، ثم قال ابن كثير وقوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} أي يذهب ظلام هذا بضياء هذا وضياء هذا بظلام هذا وكل منهما يطلب الآخر طلباً حثيثاً أي سريعاً لا يتأخر عنه بل إذا ذهب هذا جاء هذا وعكسه {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} منهم من نصب ومنهم من رفع وكلاهما قريب المعنى أي الجميع تحت قهره وتسخيره ومشيئته ولهذا قال منبهاً: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} أي له الملك والتصرف {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} كقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} الآية. قال صاحب اللسان: "وتبارك الله تقدس وتنزه وتعالى وتعاظم لا تكون هذه الصفة لغيره".اهـ. والعالمون أجناس الخلق فهو ربهم ومالكهم والمتصرف فيهم وحده لا شريك له. وقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} قال ابن كثير: "أرشد تبارك وتعالى عباده إلى دعائه الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم قيل معناه: تذللاً واستكانة وخيفة كقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} الآية. وفي الصحيحين عن أبى موسى الأشعري قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنّ الذي تدعون سميع قريب" الحديث. وعن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: "اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها, فقال: يا بني سل الله الجنة وعذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يكون قوم يعتدون في الدعاء(4/376)
والطهور" اهـ.
فرفع الصوت في الدعاء والابتداع فيه من الاعتداء الذي نهى الله عنه.
وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض وما بعد الإصلاح فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد ثم وقع الفساد بعد
ذلك كان أضر ما يكون على العباد فنهى تعالى عن ذلك وأمر بعبادته ودعائه والتضرع إليه والتذلل لديه فقال: {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً} أي خوفاً مما عنده من وبيل العقاب وطمعاً فيما عنده من جزيل الثواب ثم قال: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي إن رحمته مرصدة للمحسنين الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} " قاله ابن كثير في تفسيره. اهـ.(4/377)
وأما توحيد العبادة فمعناه توحيد التوجه والطلب فإذا تقرر أن الله رب العالمين هو خالقهم ومالكهم ورازقهم ومدبر شؤونهم كلها وهو بكل شيء عليم وهو على كل شيء قدير وجب أن لا يتوجهوا في طلب جلب النفع ودفع الضر إلا إليه ولا يتخذوا من دونه ولياً ولا نصيراً واقتصر في الاستدلال على ذلك بآيتين في سورة فاطر وآيتين في سورة الأحقاف، ففي سورة فاطر قال تعالى بعد ذكر دلائل ربوبيته: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ, إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} فأخبر سبحانه أن كل من يدعى من دونه كيف ما كانت مرتبته لا يملك للداعي شيئاً من نفع أو ضر وأن غيره لا يسمع دعاء الداعين ولو سمع لم يقدر على إجابتهم ولا إسعافهم بشيء مما طلبوا وإن المدعوين من دونه سواء أكانوا ملائكة أم رسلاً أم صالحين أم غيرهم سيكفرون يوم القيامة بدعاء من دعاهم في الدنيا وسمى دعاءهم شركاً ومعنى يكفرون يتبرأون.(4/378)
وفي سورة الأحقاف: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ، وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} فأخبر سبحانه أنه لا أضل ولا أبعد عن الحق ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب لهم إلى يوم القيامة وهو أي المدعو غافل عن دعاء الداعي إن كان من الأنبياء والصالحين فهو مشغول بما أعد الله له من الكرامة والنعيم، وإن كان من الطالحين فهو مشغول بما أعد الله له من العذاب الأليم وإذا حشر الناس يوم القيامة وعلم المدعوون بدعاء الداعين لهم كانوا لهم أعداء وكفروا بدعائهم وسماه الله عبادة وكذلك سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبادة في الحديث الصحيح: "الدعاء هو العبادة"، وفي حديث آخر: "الدعاء من العبادة". رواهما الترمذي. وأما الأحكام فقد أحل الإسلام جميع الطيبات ولم يحرم منها شيئاً قال تعالى في سورة الأعراف: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وحرم الخبائث كلها ولم يبح منها شيئاً ومنها الخنزير والميتة والدم والخمر وكل مفسد للعقل الذي هو أعظم نعمة أنعم الله بها على البشر وأكل الربا والغصب والسرقة والغش والنجش وهو الاحتيال في البيع والقذف وهو اتهام المحصنات والمحصنين بالزنا، والزنا والسرقة وقطع الطريق وأكل أموال الناس بالباطل كالقمار وبيع الغرر وسائر أنواع الاحتيال.(4/379)
وأما الآداب فقد جاء الإسلام بأكمل الآداب وأكرم الأخلاق، فمنها بر الوالدين وصلة الرحام بالإحسان إلىى الأقارب وإكرام الجار كيف ما كان جنسه أو لونه أو دينه وإطعام الطعام وإفشاء السلام وإكرام اليتامى والرفق بالضعفاء وإقامة العدل بين الناس، قال تعالى في سورة النحل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ, وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} الآية. وأمر بإيفاء الكيل والوزن وأوعد على نقصهما بالويل قال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ, الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ, وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} . وأمر بكظم الغيظ والعفو عن الناس، ومدح الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وذم التبذير والإسراف، وحث على الصدقة وذم الكبر والعجب والحسد والبخل والرياء والغيبة والنميمة والتجسس وقبول أخبار الفساق بدون تثبت وأمر بالصبر والتواضع والتواصي بالحق والتعاون على البر التقوى ووضع النبي صلى الله عليه وسلم ميزاناً دقيقاً يميز المسلم الصادق من المنافق المدعي الكاذب، فقال فيما رواه البخاري ومسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان". وفي رواية انفرد بها مسلم: "وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم". وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده". رواه البخاري.(4/380)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة". يعني من قتل شخصاً من غير المسلمين بينه وبين المسلمين عهد لا يشم رائحة الجنة، وسوى الإسلام بين جميع البشر على اختلاف ألوانهم وأجناسهم لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح، إلى غير ذلك من مكارم الأخلاق التي لا تجدها في غيره أبداً ولو ذهبنا نعدده لطال بنا القول.
المذاهب الحديثة
(الاشتراكية الشيوعية)
اعلم أيها القارئ الكريم أن للإسلام نظاماً اقتصادياً مستقلاً مخالفاً لنظام رأس المال والاشتراكيات بأنواعها والشيوعية كل ما يدعى في هذه المذاهب من خير فقد سبق إليه الإسلام قبل التفكير فيها بقرون كثيرة، وكل ما فيها من شر فقد ابتعد عنه وحذر أهله منه، فهو يخالف نظام رأس المال بفرض الزكاة في الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم وما يخرج من الأرض من حبوب وثمرات والحق في المعدن والركاز وهو ما وجد مدفوناً في الأرض من الأزمنة السابقة وكذلك فرض كفارات، ككفارة الأيمان وكفارة الظهار وكفارة قتل النفس خطأ وكفارة الإفطار في نهار رمضان بلا عذر، وحرم الربا وبيع الغرر والبيوع الفاسدة، وبذلك ضمن التوازن النسبي في الممتلكات الثابتة والمنقولة، وحفظ الفقراء من استبداد الأغنياء واحتكارهم للثروة، ولم يحجر على أصحاب الكفاءات بل تركهم أحراراً في استخدام مواهبهم واكتساب الأموال بطرق مشروعة إذا أدوا حقهما، ومن أراد أن يجعل الناس سواء، فليس لجهله دواء، قال تعالى في سورة النحل: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} وسبب التفاضل في الرزق التفاضل في المواهب التي بها يكتسب الرزق، ولن يستطيع أحد من الأفراد والجماعات لا بسيف ولا مطرقة ولا محراث ولا بأي نوع من أنواع الإرهاب أن يجعل الناس في المواهب سواء، وإذا اختلفوا في المواهب فلا بد أن يختلفوا في الرزق سنة الله التي قد خلت من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، نزل المطر في(4/381)
أرض تثمر الكمأة بالعامية المغربية (الترفاس) فانطلق جماعة من الناس يبحثون عن الكمأة ثم رجعوا بعضهم حصل عشرين رطلاً، وبعضهم حصل رطلين، وبين هذين درجات كثيرة متفاوتة، فهل يجب على صاحب العشرين أن يقتسم مع صاحب الرطلين؟ هذا جور وظلم وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون، خرج ثلاثة صيادين إلى البحر فوضعوا شباكهم أو ألقوا سناراتهم فرجع كل واحد بما قسم له فهل يجب أن يخلطوا ويقتسموا؟ لا، لا هذا ظلم وجور، خرج ثلاثة صيادين لصيد الحجل في الهضاب والغابات وآخرون لصيد الغزلان في الصحراء، فهل يجب أن يجمعوا ما حصلوا عليه ويقتسموا بالسوية؟ لا، لا، هذا ظلم وجور، التفاوت في المواهب يستلزم التفاوت في الأرزاق لا محالة، ودواؤه فرض الزكاة والقرض بلا منفعة، وفرض الكفارات والحث على الصدقات.
(الاشتراكية الشيوعية)
الاشتراكية ثلاثة أنواع:
النوع الأول:
الاشتراكية القومية وهي التي دعا إليها موسوليني وهلتر، وحاصلها أن يعتبر الشعب كله عمالاً والحكومة هي التي تتصرف في جميع الأموال فتعين لكل عامل عمله وأجره ولا يجوز لأحد أن يرفض ما عينته له الحكومة وليس إلا حزب واحد وعلى الشعب أن ينتخب حكومته من ذلك الحزب، فهو الوصي على الشعب الذي ينظر في مصالحه في سلمه وحربه، وغاية الحزب والحكومة أن يكون شعبه فوق جميع الشعوب غنى وقوة وسعادة ولكل فرد من أفراد الشعب الحق في الحصول على عمل وأجر يكفل معيشته وله الحق أن يدخر ويملك ما قدر عليه من الممتلكات المنقولة وغيرها بشرط أن يؤدي الضرائب المفروضة، والملاك يقولون إن تلك الضرائب ثقيلة وكثيرة حتى إنه لا يبقى لهم بعد أخذها إلا قليل يعيشون به ويدعون إن حال العامل أفضل من حالهم وأن الحكومة تحصى عليهم كل شيء. هذا مبلغ علمي فيما رأيته وسمعته ولكني لم أسمع قط بوجود رشوة.(4/382)
أما المناصب العالية فهي خاصة للمنتسبين إلى الحزب، وهذا النظام لم يعمر طويلاً حتى يعلم صلاحه أو فساده ولما جر على أهله حرباً طاحنة أحرقت الأخضر واليابس فإن جمهور الشعب الألماني مقت هذا النظام ورفضه ولا يريد العودة إليه، ومن المؤسف أن بعض البلدان العربية اختارته وتمسكت به وعضت عليه بالنواجذ ودانت به مع أن أهله تبرأوا منه. هذا مع ما لهم من العلم والخبرة والتعاون والنجدة وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين.
النوع الثاني:
الاشتراكية الديمقراطية، كالتي عليها حزب العمال البريطاني الحاكم وأحزاب أخرى في فرنسا وإيطاليا وألمانيا وغيرها، وهذا النوع من الاشتراكية ليس فيه استبداد ولا خنق لحريات الشعوب وإنما يبنى على الدعاية ولا يمنع الملك الفردي لكنه يوجب أن تكون المصالح العامة كالمعادن والمناجم وسكك الحديد وما أشبه ذلك ملكاً للحكومة التي تمثل الشعب، فهذه الموارد يجب أن تكون ملكاً لعموم الشعب لا يستبد باستغلالها فرد ولا جماعة؛ لأن ذلك يفضي إلى احتكار بعض الأفراد أو الجماعات مقداراً كبيراً من الأموال والممتلكات على حساب أبناء جنسهم، وبذلك تنقسم الأمة إلى أغنياء طاغين قد تفاحش غناهم وتجاوز الحدود، وفقراء مدقعين قد تفاحش فقرهم فهم في غاية الذلة والاستكانة لا رأي لهم ولا كرامة موطوئين بالأقدام عبيداً أرقاء ليس لهم إلا السمع والطاعة وذلك ظلم وحيف في نظر الاشتراكية الديمقراطية، ولا تمنع هذه الاشتراكية وجود أحزاب مخالفة لها؛ لأنها كما قلنا لا تنشر مبادئها بالقهر والجبر بل بالدعاية والإقناع وتقدس حرية الرأي والكلام والعقيدة والعمل والتنقل.(4/383)
ولما كان هذا النوع من الاشتراكية يبيح الملك إلا ما تقدم استثناؤه خاف من تفاحش الغنى وتعاظم الثروة ففرض ضرائب تصاعدية على قدر الدخل والمحاصيل حتى لا تتسع المسافة بين الأغنياء والفقراء وهذه الاشتراكية لا تتعرض للدين ولا تتدخل في عقائد الناس وأقطابها متدينون معظمون لرجال الكنائس متفقون معهم وهم حاربون نظام رأس المال ويتهمون المتبعين له بأنهم كاذبون في ما يزعمونه من الدعوة إلى الحرية والديمقراطية لأنه متى لم تقيد الثروة بالقيود التي تقدم ذكرها طغى الأغنياء على الفقراء {كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى, أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} فالرجل الذي يملك معامل أو مزارع أو متاجر تحتاج إلى آلاف العمال لا بد أن يفرض إرادته على أولئك العمال فلا يستطيعوا أن ينتخبوا غيره إذا رشح نفسه ليكون نائباً في مجلس النواب أو يكون عيناً في مجلس الأعيان، وهذا يتنافى مع تحقيق الحرية وإقامة العدل والمساواة التي يزعم أصحاب رؤوس الأموال أنهم أنصارها، أما أنصار عقيدة رأس المال فلهم حجج يدفعون بها عن أنفسهم منها الحكومة تستنكر الاحتكار على أفراد الشعب وجماعاته وتحرمه عليهم وتحله لنفسها، ومنها أن الاستيلاء على المصالح العامة يعطل حركة التنافس بين الأفراد والجماعات فيضعف النشاط ويقل الحماس ونتيجة ذلك قلة المحاصيل وفرق كبير بين من يشتغل لنفسه ويشتغل في ما يعود عليه بالنفع والخير العميم وبين عامل يعمل في مصلحة حكومية لا يهمه ربحها أو خسارتها وإنما يهمه الراتب الذي يحصله في نهاية الأسبوع أو في نهاية الشهر، هذا مع اتفاق الفريقين على حرية الرأي والعقيدة وسائر الحريات ولذلك نراهم متعايشين في شعب واحد متعاونين على ما يرون فيه الخير لأمتهم وإن اختلفت وسائلهم، وقد مضى على هذا النوع من الاشتراكية زمان طويل في بلدان مختلفة وظهر أنه صالح للبقاء عندهم.
النوع الثالث من الاشتراكية:(4/384)
النوع الثالث من الاشتراكية التي يزعم أهلها أنها مقدمة للشيوعية، وتسمى (البولشفية) وهذا النوع يبنى على سلب جميع الممتلكات وجميع الحريات والمعتقدات ويجعل الإنسان آلة صماء يحركها الرؤساء فتتحرك ويقفونها فتقف، ويأمرونها أن تنطق فتنطق بما يشتهون وأن تسكت فتسكت، وأن تمدح فلانا فتقدسه في أول النهار، ثم يأمرونها أن تلعنه في آخر النهار، فتأتمر ولا تفكر فالاشتراكي المخلص عندهم هو الذي يكون كالعقل الالكتروني وليس مقصودي بهذا الكلام أن أشتمهم، ولكني أريد بيان الحقيقة كما هي في نظري، وقد دخلت برلين الشرقية وبقيت فيها أياماً وأنا أذكر ما شاهدته وخبرته وتحققته.
فأما سلب الأموال والممتلكات فإنه لا يجوز لأحد أن يملك أرضاً ولا داراً ولا سيارة ولا متجراً ولا يملك إلا ثيابه التي على ظهره وإلا أجرة عمله بشرط أن لا يدخرها لو كان فيها متسع للادخار.
ودونك مثلا يعينك على تصور هذه الحقيقة، رأيت في برلين الغربية سنة 1954م بتاريخ النصارى قبل بناء سور برلين عجوزاً تسكن في غريفة حقيرة من الفندق الذي كنت فيه نازلاً فأخبرتني صاحبة الفندق أن تلك العجوز قبل الحرب كانت لها ثروة طائلة فلما انتهت الحرب بخسران ألمانيا أراضيها الشرقية استولى الشيوعيون على أملاكها كلها، ولم يبقوا لها منها شيئاً لا قليلاً ولا كثيراً، وبقي لها جزء قليل من بيت في برلين الغربية وقد أعطاها الشيوعيون غرفة في بيت من برلين الشرقية وجعلوا لها أجرة لسد الرمق وفرضوا عليها أن تشتغل في كنس الشوارع فهي تشتغل مدة طويلة إلى أن يجتمع لها من كراء ذلك الجزء الضئيل الذي تملكه من ذلك البيت في برلين الغربية مقدار من المال فتنتقل إلى برلين الغربية وتستأجر غريفة رخيصة الثمن وتنفق مما اجتمع لها حتى ينقضي ثم ترجع إلى الجحيم.(4/385)
أما بعد بناء السور الذي هو عكس ما قال الله تعالى: {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} فلا أدري ما فعل الله بتلك المسكينة وأمثالها من الأغنياء الذين قلب لهم الزمان ظهر المجن فأصبحوا بؤساء بين عشية وضحاها بسبب الاحتلال الروسي وفرض الحكم الشيوعي على ذلك الشعب المنكوب، ودونك مثلا آخر حدثنا شهود عيان أن أهل بيت من الأغنياء (ولا أقول أسرة ولا عائلة) من ألمانيا الشرقية لما دهمهم الاحتلال الروسي أمروا بإحضار طعام الضيافة للفاتحين الغزاة فأمروا خدمهم بذبح المواشي وطهي الطعام وتوجهوا إلى الغابة وعلقوا فيها حبالاً وقتلوا أنفسهم خنقاً لأنهم يعلمون أن الضيوف الثقلاء بعد أكلهم وشربهم الخمور يسلبونهم كل شيء حتى الخواتم التي في أصابعهم ويطردونهم من ديارهم ومزارعهم ويفرضون على كل من سلبوا أرضه أو داره أن يكون بعيداً من الأرض المسلوبة أو الدار المغصوبة والمعمل مسافة لا تقل عن ثلاثين كيلو مترا، ومتى وجد في مكان يقرب من ممتلكاته السابقة أقل من ثلاثين كيلو متراً يعاقب عقاباً شديداً.
ودونك مثالا ثالثاً، من المعلوم أن الشعب الجرماني الذي يسمونه بالألماني من أرقى شعوب أوربة مدنية وحضارة لا يمتري في ذلك اثنان، ولا ينتطح فيه عنزان، وقد انقسمت هذه البلاد الجرمانية وهذا هو الاسم الذي سمتها به العرب في عام تخطيط البلدان بعد الحرب العالمية الأخيرة قسمين: غربي وشرقي، فالقسم الغربي مع ما أصابه من النكبات في زمان الحرب الطحون رجع أحسن مما كان يشهد بذلك كل مسافر وسائح رأى تلك البلاد فالمباني التي تهدم ثمانون منها في المائة بفعل قنابل الأعداء أعيدت أحسن مما كانت عليه، وكذلك المعامل والمزارع والطرق، هذا في القسم الغرب.(4/386)
أما القسم الشرقي فإنه خراب كأنه انتقل من يد دولة متمدنة إلى دولة همجية، سافرنا بالسيارة من المغرب فعبرنا المضيق من سبتة إلى الجزيرة، وعبرنا أسبانيا ففرنسة فالقسم الغربي من ألمانيا وكان الطريق من كلونيا إلى هنوفر التي هي على حدود ألمانيا الشرقية من أحسن طرق أوربا مقسوماً قسمين بينهما حاجز وكل منهما تسير فيه أربع سيارات ولا تحتاج السيارة إلى توقف لأن السيارات التي تعبر الطريق عرضاً لها ممرات إما تحت الأرض وإما فوق الجسور وقد تعجب في ذلك سائق سيارتي تبرعا وهو الأخ الحاج أحمد هارون، فقال لي: أريد أن أجرب هل اضطر إلى نقص سرعة السيارة أم لا أضطر فبقي ساعتين بمقياس واحد لم يضطر إلى أن ينقص شيئاً منه وأسماء الأماكن وعلامات الطرق المختلفة والأضواء التي تقوم مقام شرطة المرور كل ذلك في غاية الإتقان بحيث قلما يحتاج المسافر إلى أن يسأل عن شيء أو يضل طريقه هذا في القسم الغربي.
أما في القسم الشرقي فالأمر بعكس ذلك الطريق مهمل لم يصلح منذ سنين كأنه صحراء وليس فيه علامات ولا أضواء فتجد السائحين ضائعين يسأل بعضهم بعضاً ولا هادي ولا مرشد.(4/387)
والشعب الذي يسكن القسمين شعب واحد لا يختلف إلا في نظام الحكم، وهناك مثل آخر وهو برلين الغربية، وبرلين الشرقية، من المعلوم أن مدينة برلين مدينة واحدة كانت عاصمة جرمانية كلها قبل الحرب، وبعد هزيمة الجرمانيين في الحرب العالمية الأخيرة أصبحت برلين جزيرة في بحر ألمانيا الشرقية تحيط بها أراضي ألمانيا الشرقية من جانب، فاقتسمه الغالبون فأخذ الأمريكيون والبريطانيون والفرنسيون القسم الغربي منها وحكموه مدة ثم سلموه إلى حكومة ألمانيا الاتحادية، أما القسم الشرقي فبقي تابعاً لحكومة ألمانيا الشرقية تحت نفوذ الروسيين، وكل من زار قسمي برلين الشرقي والغربي لا يكاد ينقضي عجبه، يرى القسم الغربي وسكانه ثلاثة ملايين يعيشون في أرغد عيش في غاية الرفاهية والازدهار فترى المخازن والمتاجر ملأى بأنواع التحف والبضائع والمطاعم والمشارب والحدائق والملاعب والشوارع غاصة بأجمل السيارات والمباني التي تهدمت كلها في زمان الحرب قد أعيد بناؤها حتى صارت أجمل مما كانت وترى السكان يرفلون في أفخر الثياب والزي، أما إذا أردت أن تدخل إلى برلين الشرقية فإنك تجيء إلى مدخل السور وتسلم جواز سفرك وتعطي بطاقة صغيرة وتقف مع صفوف الواقفين حتى يجيء دورك فتنزل إلى سرداب تحت الأرض وتنتظر حتى تمتحن في أربعة مكاتب بأسئلة وأجوبة والمكتب الرابع بعد ما يعرف مقدار ما عندك من النقود ويسجلها يرد لك الجواز، فتدخل في القسم الشرقي وتجده يبابا خراباً كأن خيلا أغارت عليه ونهبته، وأبدلت سعده نحساً ونضرته كآبة وسعادته شقاء، فلا مباني تعجبك ولا أسواق ولا مطاعم ولا سيارات جميلة ولالا بضائع في المخازن والناس في ثياب حقيرة والنساء لابسات ثياباً خسيسة، فكأنك خرجت من عالم إلىعالم، فإن قلت: وما الموجب لبناء السور؟ فالجواب أن الشيوعيين أو الاشتراكيين كما يجبون أن يدعوا يزعمون أنهم وحدهم يعيشون في النعيم في الحرية والديمقراطية والعالم كله يعيش في شقاء(4/388)
العبودية تحت نظام رأس المال الطاغي أو الاستبداد الظالم ولكن رعاياهم لا تصدق هذا الزعم، ولذلك لم يزالوا يفرون من ذلك الفردوس المزعوم إلى برلين الغربية فتنقلهم الطائرات إلى برلين الغربية حيث يستنشقون نسيم الحرية ويشعرون بأنهم أحرار يسيرون في أرض الله الواسعة حيث يشاءون فلما عجزت حكومة ألمانيا الشرقية تحت المراقبة الروسية أن تقنعهم بما تزعم من الدعاوى أرادت أن تضرب سوراً على ذلك الفردوس وتنصب عليه الأسلاك الشائكة والرشاشات والحرس المسلح ليلا ونهاراً حتى لا يفر واحد من فردوس الشيوعية ونعيمها إلى عذاب نظام رأس المال وجحيمه، ومع ذلك كله لم تنقطع الهجرة والفرار وقد هرب من ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية بواسطة برلين الغربية منذ نهاية الحرب أكثر من أربعة ملايين وحتى بعد بناء السور لا يزال الناس يهربون ويتركون بيوتهم وأمتعتهم ويفرون بأنفسهم مؤثرين الحرية على كل شيء سواها من متاع الدنيا، وحوادث هذا الفرار لا تزال تتلى صباح مساء في الإذاعات على مسامع القراء وما أحسن المثل العامي الذي يقول: (حتى كلب ما هرب من دار العرس) معناه بالفصحى: (لا كلب يفر من الدار التي تصنع فيها وليمة العرس بل بالعكس كل كلب يحب أن يأتيها لينال من فضلات الطعام) ومن أغرب ما سمعته من إذاعة لندن في هذا الصدد أن خمسة وعشرين شخصاً اتفقوا على أن يحفروا نفقاً يبتدئون من دار أحدهم وكانت داره بقرب السور فقضوا مدة في الحفر كل ليلة يحفرون ساعات ويقومون بأعمالهم المفروضة عيهم في النهار حتى وصلوا النفق إلى مبنى في القسم الغربي ولما انتهى النفق خرجوا كلهم ذات ليلة وتركوا الدار تنعي من بناها، وهناك حوادث كثيرة طريفة وعجيبة يعرفها من يتتبع مثل هذه الأخبار.(4/389)
وأما سلب الحريات فيجب على كل عضو في الحزب أن يكفر بجميع الأديان وأن يؤمن بعصمة شارل ماركس في كل ما شرعه واعتقده ولينين، وكان ستالين ثالث ثلاثة إلى أن خلعه نائبه وشريكه في كل ما ارتكبه خروتشوف بعد وفاته فبطلت قدسيته عند بعض الشيوعيين وبقيت ثابتة عند بعضهم، أما من لم يكن من المشتركين في الحزب فيجوز له أن يقول إنه مسلم أو نصراني بشرط أن لا يرد شيئاً ولا ينتقد شيئاً من نظام شارل ماركس ولا من الأنظمة التي يضعها الحزب الشيوعي ومع ذلك يكون محتقراً موضع سخرية واستهزاء.
أما في السياسة فلا يجوز له أن يعتقد إلا سياسة الحزب وإن تناقضت يتناقض معها فكل الزعماء الذين رفضهم الحزب يجب على جميع الناس أن يقلبوا لهم ظهر المجن ويذموهم بعدما مدحوهم أعظم المدح كتروتسكي ومالينوف ومولوتوف وخروشوف. وأما ستالين فقد تقدم خبر رفعهم له إلى درجة التقديس ثم خفضهم له إلى درجة الإجرام.(4/390)
وأما حرية العمل فهي معدومة، فيجب على كل إنسان ذكراً كان أو أنثى أن يقبل العمل الذي تفرضه عليه الحكومة في المكان الذي تعينه له بالأجر الذي تعينه له والساعات التي تعينها له ولا يجوز له أن ينتقد شيئاً من ذلك، وإلا صار متهماً بالخيانة واستحق العقاب الشديد على قدر انتقاده وكذلك حرية التنقل والسفر إلى الخارج لا يجوز لأحد أن يفكر فيه وقد شاهدت في برلين الشرقية الصبيان في سن أربع عشرة سنة يوبخون والديهم ويتهمونهم بالرجعية وعدم الإخلاص للحزب والجمود على الأفكار السخيفة والآباء والأمهات يخافونهم، والواجب على كل ملك ورئيس من رؤساء المسلمين أن يحفظ شعبه من هذه المذاهب التي تجلب الشقاء والشر ويجب أن تسمىسل بحق الشعوب إذا كان غلاة الشيوعيين وكلهم غلاة يسمون الدين أفيون الشعوب فنحن نسمي نحلتهم سل الشعوب ولسنا من المؤثرين المحتكرين حتى نتهم بأننا نعارضهم محافظة على أموالنا ولكن النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم أوجب علينا أن ننصح لجميع الشعوب وخصوصاً المسلمين أن يبتعدوا من جميع أنواع الاشتراكية اسماً وعقيدة وعملاً، ففي ما جاء به كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم غنية لهم وكفاية، ومن لم يسعه ما وسع السلف الصالح فلا وسع الله عليه:
ومن لم يسعه ما أتى عن محمد
فلا وسع الرحمن يوماً على الغر
أما التسمية فقد قال الله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} آخر سورة المؤمنين.(4/391)
وأما العقيدة والعمل فقد تقدم أن الإسلام سبق إلى كل خير وتجنب عن كل شر وكل ما يدعونه من المواساة وابتغاء العدالة بين أفراد الشعب ظهر أنه غير صحيح، فقد أخبرني السيد أحمد موسلر المسلم الألماني في بيته ببرلين الغربية، قال: كنا نعيب على حكومة هلتر أنها تدعي الاشتراكية لتحقيق المساواة بين أفراد الشعب ومع ذلك كان طعام الضباط يختلف عن طعام الجنود فكان للضباط مطبخ فيه ألوان من الطعام ولعامة الجنود مطبخ آخر فيه ألوان دونها في الجودة فلما انهزم الجيش الألماني وقعت في أسر الروسيين فأخذوني إلى موسكو وبقيت هنالك سنتين فرأيت للجيش الروسي خمسة مطابخ بعضها أعلى من بعض يعني أن الطعام عندهم خمس درجات الدرجة العليا لكبار الضباط والثانية للمتوسطين والثالثة للصغار والرابعة للعرفاء والخامسة لعامة الجند، قال: فعلمت أن كلا الفريقين في دعواه الاشتراكيون القوميون والاشتراكيون الشيوعيون كلهم مخادعون، وصدق الله العظيم إذ يقول في سورة البقرة: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ, إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ, وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .
…
من صفات المؤمن
قال الحسن البصري:
"من أخلاق المؤمن: قوة في دين، وحزم في لي، وحرص على العلم، وقناعة في فقر، وعطاء في حق، وبر في استقامة، وفقه في يقين، وكسب في حلال".(4/392)
التراويح أكثر من ألف عام في المسجد النبوي
بقلم الشيخ: عطية محمد سالم
القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة
الحلقة الخامسة
التراويح اليوم في المسجد النبوي:
إنّ كل مواطن أو مشاهد في غنى عن التحدث إليه عن واقع التراويح الشاهد الملموس، ولكن الذين لم يقدر لهم حضور رمضان ولا جزءاً منه بالمدينة لا شك أنهم يتطلعون إلى كل شيء في المسجد النبوي، ولاسيما عن هذا العمل الفاضل، القيام في شهر الصيام، وفي مسجد النبي عليه السلام، ومن الذي يستطيع تصوير ذلك كما ينبغي، ولكني أحاول التحدث عنه حسب ما نشاهده وبقدر ما يمكن إعطاء الفكرة عنه، ومعلوم أن الكتابة لا تصل حد المشاهدة، فليس كالعين في النظر، ولا الأذن في السماع ولكن بقدر المستطاع.
أولا:
وقتها: معلوم أن وقتها بعد صلاة العشاء ولكن الجديد فيه هو أن العشاء في غير رمضان يؤذن لها بعد غروب الشمس بساعة ونصف أي تسعين دقيقة وتصلى بعد ربع الساعة من الأذان.
أما في رمضان فلا يؤذن للعشاء إلا في تمام الساعة الثانية بعد الغروب مراعاة للمصلين الذين يحضرون أولا لتناول ما يفك صيامهم في الحرم النبوي من تمرات خفيفات ثم يصلون المغرب ثم ينصرفون إلى بيوتهم لتناول وجبة الإفطار ومن ثم يعودون إلى الحرم لصلاة العشاء والتراويح.
والكثيرون منهم يحضرون من أماكن بعيدة فروعيت ظروفهم وتيسر حضورهم فإذا مضت الساعتان وأذن للعشاء أقيمت الصلاة بعد عشر دقائق فقط ويصليها فضيلة الشيخ عبد العزيز وبعدها يتنفل من شاء من ركعتي سنة العشاء ثم تبدأ التراويح على الكيفية الآتية:
كيفية أدائها:(4/393)
تبدأ في الساعة الثامنة والنصف إلا خمس دقائق تقريباً يبدأها فضيلة الشيخ عبد العزيز، فيصلي عشر ركعات في خمس تسليمات وتستمر إلى الساعة الثالثة إلا خمس دقائق أي تستغرق نصف ساعة تماماً ثم يبدأ فضيلة الشيخ عبد المجيد في العشر ركعات الأخرى مباشرة يصليها بخمس تسليمات تستمر إلى الساعة الثالثة والنصف إلا خمس دقائق ثم يصلي الوتر ثلاث ركعات مفرقة ينتهي منه في تمام الثالثة والنصف تماماً ومجموع القراءة في كل ليلة من كل منهما معاً جزء كامل.
والجدير بالذكر أن صلاة كل منهما حفظهما الله متساوية في الزمن وفي الأداء نصف ساعة لكل عشر ركعات بنصف جزء فيكون العشرون ركعة ساعة كاملة بجزء كامل.
وقد بلغ حرص المصلين على حضور التراويح بالمسجد النبوي حتى أصبحت التراويح كالجمعة لكثرة الزحام ووفرة القائمين من أطراف المدينة والزائرين من خارجها، وهذا العدد يتضاعف والزحام يشتد ليلة تسع وعشرين ليلة الختم، ختم القرآن لما فيه من الدعاء.
الوتر في رمضان في هذا العصر:
أما الوتر ففي التراويح فيما قبل العشر الأواخر فإن فضيلة الشيخ عبد المجيد يوقعه في نهاية التراويح بعد الخمس تسليمات الأخيرة التي يصليها تتمة للعشر تسليمات ويوقعه بثلاث ركعات منفصلة يسلم من ركعتين ثم يأتي بواحدة مفردة ويقنت جهراً بعد الرفع من الركوع.
أما في العشر الأواخر من الشهر المبارك والتي يكون فيها القيام آخر الليل يكون الوتر كالتالي:
1- يترك فضيلة الإمام ونائبه الوتر في صلاة التراويح ليؤدياه مع صلاة القيام آخر الليل لحديث: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً".
ولا يوقعه أول الليل لحديث: "لا وتران في ليلة" فيوتر بالجماعة أول الليل محمد العلمي على النحو المتقدم، هذا عمل الجماعة العامة لجميع المصلين.(4/394)
ما عدا جماعة الأحناف فإنهم لا يوترون مع الإمام بل ينفردون به بإمام منهم طيلة الشهر وذلك بعد فراغ الإمام الراتب أو نائبه من الوتر بعد التراويح ويوقعونه ثلاث مجتمعات كالمغرب، وسنلم بمبحث الوتر عند الأحناف في نهاية دعاء القنوت في التهجد ليلة الثلاثين من رمضان سنة 1390هـ بعد الختم بليلة نقل من التسجيل.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك اللهم لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين من تهون به علينا مصائب الدنيا.
اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا.
اللهم اجعل خير أعمالنا أواخرها وخير أعمارنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك.
اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم والغنيمة من كل بر والفوز بالجنة والنجاة من النار، ونسألك الجنة وما قرب منها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل ونسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لنا خيراً لنا يا رب العالمين.
اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وزدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وارزقنا وارض عنا.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا..
اللم اجعل مجتمعنا هذا مجتمعاً مرحوماً واجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك المؤمنين.(4/395)
اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك وبك منك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. ربنا تقبل منا إنك أنت السمع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وصل اللهم على سيدنا محمد وسلم.
صلاة القيام آخر الليل:
تقدم أن أهل المدينة منذ القرون المتقدمة من عهد أبي زرعة رحمه الله كانوا إذا فرغوا منن التراويح يرجعون إلى المسجد في ثلث الليل الأخير لصلاة الست عشرية وذلك طيلة ليالي الشهر كله يصلون ست عشرة ركعة وكانوا ينادون لها على المنارة لاجتماع الناس إليها وكانت ست عشرة ركعة مع عشرين أول الليل تتمة ست وثلاثين كما تقدم، ولكن في هذا العهد لا يصلي من آخر الليل شيء في أول الشهر.
فإذا كان العشر الأواخر ابتداء من ليلة عشرين فإن المصلين يعودون إلى المسجد بدون نداء على المنابر فإذا كان ثلث الليل الأخير حضر الإمام ونائبه وقد تجمع جم غفير من أنحاء المدينة رجالاً ونساء شيباً وشباباً ترى على الوجوه سمة الخير ووقار السكينة وإشراقة التهجد.
فيقوم الإمام في الروضة الشريفة في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا بدأ الصلاة ساد شعور لا يمكن وصفه ولا تصويره، من جلال وإجلال ورغبة ورهبة، وتلاحق في الذهن الماضي المشرق للمسجد المبارك، والآثار العطرة للروضة المطهرة.
وتراءت صور المصلين عبر القرون الماضية، وأحسست بخيوط من الأشعاع تربطك بالسلف وهبات من نسيم الرحمة تبلل جفاف القلوب وتحيي مواته وتمس شغافه فتزكي شعوره وتوقظ انتباهه وتملك زمامه.(4/396)
فإذا قرأ الإمام ورتل اجتذب المسامع واستصغى الأفئدة وهناك يمضي الوقت ولا يكاد يحسب من العمر أو يعد من الحياة لأنه أسمى ساعات العمر وفوق لحظات الحياة يصلي الإمام ركعتين ثم يصلي نائبه ركعتين وهكذا بالتناوب إلى أن تنتهي العشر ركعات بخمس تسليمات يبدأهن فضيلة الإمام ويختمهن أيضاً يقرأ في كل ليلة ثلاثة أجزاء ويوتر فضيلة الإمام بثلاث ركعات ويقنت كما تقدم ويطيل قنوته وهكذا الليالي التسع.
فإذا كانت الليلة الأخيرة وهي ليلة تسع وعشرين والتي يقع فيها الختم فإن الصلاة تكون فيها كالتالي:
أولاً: في التراويح تكون قراءة الختمة الأولى قد بلغت إلى جزء (عم) فيصلي الإمام التراويح كلها عشرين ركعة فإذا كان في الركعة الأخيرة وقرأ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} دعا بدعا ختم القرآن الكريم قبل أن يركع، وأطال في الدعاء واجتهد في الإنابة إلى الله والضراعة إليه والمصلون معه يؤمنون ويبتهلون وما أن يسترسل الإمام في دعائه وتظهر رقته في صوته إلا ويجهش الجميع بالبكاء ويضج المسجد بالدعاء إلى أن ينهي الإمام دعاءه ثم يركع ويكمل الركعة الأخيرة، ثم يترك الوتر للشيخ العلمي فإذا كان في القيام من آخر الليل عمر المسجد بالمصلين وأطلقت مباخر الطيب.
وتكون القراءة في تلك الليلة قد وصلت جزء (قد سمع) فيبدأ الإمام الصلاة كالمعتاد ويتناوب معه نائبه وتكون الركعتان الأخيرتان للإمام كما تقدم فإذا كان في الركعة الأخيرة كما تقدم وقرأ سورة (الناس) رفع يديه وبدأ الختم المبارك على النحو المتقدم، فإذا فرغ منه أتم صلاته ثم أوتر وقنت.
ولعظم شأن هذا الختم في المسجد النبوي المبارك وشدة روعته وكبير أثره فإني أورده بشيء من التفصيل في المبحث الآتي مبيناً أقوال العلماء في أصله ومستنده وكيفيته ومكانه من الصلاة وخاصة في المسجد النبوي.
مبحث عمل الختم في المسجد النبوي في الوقت الحاضر سنة 1390هـ.(4/397)
وبما أن العمل في المدينة وفي المسجد النبوي ومن الإمام الراتب له أهميته وقيمته في العالم الإسلامي كله. وقديماً كان علماء أهل المدينة حجة عند إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله بناء على أنهم توارثوه عن السلف وأنها منبع السنة.
وهكذا اليوم منزلة المدينة في نفوس المسلمين وقداستها في قلوبهم وإمامتها في أنظارهم فهي دار الهجرة وموطن التشريع.
وعمل الختم في نهاية التراويح والتهجد في رمضان بالمسجد النبوي في هذه الآونة طبقت أخباره الآفاق والأمصار، ويفد لحضوره عدد من جميع الأقطار، فلا بد وأن يكون موضع تساؤل عن أصل مشروعيته ولا سيما من الذين يتطلعون إلى أدلة كل عمل، وقد تساءل عبد الله بن أحمد بن حنبل مع أبيه حين سمعه يذكر عمل الختم فقال له: إلى أين تذهب في ذلك، أي ما هو دليلك فيه؟ فأجابه بما عنده فيه وسيأتي قريباً إن شاء الله.
وقبل كتابة هذه الرسالة تساءل معي أحد الإخوان الذين لهم غيرة على السنة وشدة على البدعة وشبهته في ذلك من جهتين:
الجهة الأولى:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصل التراويح كاملة في رمضان، ولم يقرأ القرآن كله في تراويح ولا في تهجد، وعليه فلم يدع بهذا الدعاء ولا محل له عنده؛ لأنه لم يوقع الختم الذي يدعو بعده فمن أين إذاً أصل المشروعية؟.
والجهة الثانية:
إن الناس في حالة سماع التلاوة طيلة الشهر يكونون في هدوء تام وحسن إصغاء وصمت، وعند دعاء الختم تعتريهم حالات الضراعة والبكاء والابتهال ويقول: إن الدعاء لا يكون أعظم تأثيراً من كلام الله تعالى.
هكذا أورد لي وجهة نظره وربما كان لا يحضر ولا يشارك في هذا العمل فكان من المستحسن إيراد الجواب على وجهة النظر تلك وعرض ما أقف عليه من الأدلة عن السلف رحمهم الله سواء المرفوع منها أو الموقوف العام فيها أو الخاص مما تستأنس له النفس ويطمئن إليه القلب إن شاء الله.
أما الأدلة:(4/398)
فقد وجدت في مجمع الزوائد ج1 ص172 حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاة فريضة فله دعوة مستجابة ومن ختم القرآن فله دعوة مستجابة"رواه الطبراني، وفيه عبد الحميد بن سليمان وهو ضعيف، وعن ثابت أن أنس بن مالك رضي الله عنه كان إذا ختم القرآن جمع أهله وولده فدعا لهم. رواه الطبراني ورجاله ثقات. اهـ.
فهنا حديث مرفوع بسند ضعيف وأثر موقوف على صحابي رجاله ثقات فيعضد أحدهما الآخر، وفي رسالة للشيخ حسين مخلوف ما نصه: (يسن الدعاء عقب الختم) وساق حديث العرباض المتقدم وقال: رواه الطبراني وغيره.
وعن أنس مرفوعاً: "من قرأ القرآن وحمد الرب وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم واستغفر ربه، فقد طلب الخير مكانه" رواه البيهقي في الشعب. وكان عند ختم القرآن يجمع أهله ويدعو.
فقد وجدنا حديث العرباض رواه الطبراني وغيره ووجدنا أثراً موقوفاً ومرفوعا عند البيهقي ومؤيداً بعمل الصحابي الذي رواه مرفوعاً.
وعند المروزي في كتاب (قيام الليل) قال: "كان رجل يقرأ القرآن من أوله إلى آخره في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ابن عباس يجعل عليه رقيباً فإذا أراد أن يختم قال لجلسائه: قوموا حتى نحضر الخاتمة".
وروي عن مجاهد أنه قال: "تنزل الرحمة عند ختم القرآن ويقولون الرحمة تنزل".
فهذه نصوص عامة في الدعاء عقب ختم القرآن مطلقاً من غير قيد الصلاة أو غيرها.
وقد وجدنا عند ابن قدامة تفصيلاً كاملاً في خصوص هذا العمل لأحمد رحمه الله.(4/399)
قال في المغني ج2 ص171 قال: "فصل في ختم القرآن. قال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله فقلت: ختم القرآن أجعله في الوتر أو في التراويح قال: اجعله في التراويح حتى يكون لنا دعاءين اثنين، قلت كيف أصنع؟ قال: إذا فرغت من آخر القرآن فارفع يديك قبل أن تركع وادع لنا ونحن في الصلاة وأطل القيام، قلت: بم أدعو؟ قال: بما شئت، قال: ففعلت بما أمرني وهو خلفي يدعو قائماً ويرفع يديه". فقد فصل لنا هذا النص عن أحمد كيفية العمل في الختم وبين لنا محله وعموم الدعاء فيه.
ونص عن حنبل قال: سمعت أحمد يقول في ختم القرآن: إذا فرغت من قراءة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فارفع يديك في الدعاء قبل الركوع، قلت: إل أي شيء تذهب في هذا؟ قال: "رأيت أهل مكة يفعلونه، وكان سفيان بن عيينة يفعله معهم بمكة".
قال العباس بن عبد العظيم: "وكذلك أدركنا الناس بالبصرة وبمكة. ويروي أهل المدينة في هذا شيئاً وذكر عن عثمان بن عفان.
ففي هذا نجد الفضل بن زياد يسأل أحمد لا عن مشروعية الدعاء عند الختم، بل عن موضعه من الصلاة وكيفية العمل فيه وأقره أحمد رحمه الله وبين له الكيفية والموضع مما يدل على أن أصل المشروعية معلوم لهما.
فلا غرو أن يقع التساؤل اليوم عن مشروعية هذا العمل، وقد وقع من قبل بين حنبل وأحمد رحمهما الله وقال له: إلى أين تذهب في ذلك، أي إلى دليل عليه.
وأحاله أحمد رحمه الله على ما عنده فيه مما رآه بالفعل من عمل أهل مكة، وفعل الإمام الجليل سفيان بن عيينة مع أهل مكة، وما يروى عن أهل المدينة، وما كان يفعل في الأمصار الثلاثة الرئيسية البصرة ومكة والمدينة مناطق العلم ومواطن الإقتداء آنذاك بالإضافة إلى ما عند أهل المدينة في ذلك عن عثمان رضي الله عنه، وكذلك ما رأينا عن ابن عباس رضي الله عنه، فظهر من هذا كله مستند مشروعية الدعاء عقب ختم القرآن سواء على الإطلاق أو في التراويح مع بيان الكيفية عن أحمد رحمه الله.(4/400)
وهي في مجموعها كافية لمثل هذا العمل بناء على أن ما كان مشروعاً بأصله فهو جائز بوصفه، فأصل الدعاء مشروع وكونه متصفاً بصورة الختم لا تنفي مشروعيته ومثله القنوت، دعاء في الصلاة.
ومهما يكن من شيء فإن ما تقدم من عرض ما ورد عن السلف يكسب طمأنينة ويورث ارتياحاً لمشروعية هذا العمل، وأن فيه اقتداءً بسلف الأمصار الثلاثة البصرة ومكة والمدينة.
أما التأثر بالدعاء أشد من التأثر بالتلاوة فهذه مقارنة بين حالتي المصلين في سماع التلاوة طيلة الشهر في هدوء وطمأنينة وسماع الدعاء عند الختم في ضراعة وبكاء وخشية وابتهال، وهما حالتان متغايرتان.
إلا أنهما وإن اختلفتا في الشكل فهما متحدتان في المعنى والحقيقة لأن آداب التلاوة في حسن الاستماع والإنصات، وخصائص الدعاء الابتهال والخشوع.
وللدعاء مكان لا تتأتى فيه التلاوة كالسجود أقرب ما يكون العبد فيه إلى الله تعالى، ومع هذا القرب لا تجوز التلاوة وينبغي الاجتهاد في الدعاء وكالحالات التي وردت فيها نصوص أدعية خاصة في الصباح وفي المساء ودخول المسجد وافتتاح الصلاة والقنوت.
وكما أن للتلاوة آداباً فللقرآن مواضع تمر بالمستمع من مواعظ وأخبار وتشريع وحلال وحرام وغير ذلك مما ينقل ذهن السامع من معنى إلى معنى آخر.
وأما الدعاء فإن المستمع والداعي تتركز أحاسيسهم وأفكارهم وشعورهم وقلوبهم إلى وجهة واحدة هي الضراعة والإنابة والابتهال إلى المولى عز وجل.
بل إن الفطرة نوجه القلب في حالة الاضطرار والفزع إلى خالص الدعاء وذل السؤال كما قال صلى الله عليه وسلم: "الدعاء مخ العبادة".
ومن الواضح البين ما كان منه صلى الله عليه وسلم يوم بدر لما قام في العريش حين التقت قوى الحق على قلتها مع قوى الشر على كثرتها توجه إلى الله تعالى بالدعاء وألح على ربه في السؤال حتى أشفق عليه الصديق قائلاً: بعض مناشدتك ربك يا رسول الله.(4/401)
فقد اجتهد صلى الله عليه وسلم في الدعاء ولم يلجأ إلى التلاوة، وكذلك ما جاء في الأحاديث الصحيحة عن يوم الفزع الأكبر حين يذهب صلى الله عليه وسلم لطلب الشفاعة فإنه يسجد سجوداً طويلاً ويلهمه الله بمحامد لم يكن يعلمها من قبل، ولم يوجه صلى الله عليه وسلم إلى التلاوة مما يبين أن للتلاوة مكاناً وحالات وآداباً وتأثيراً، وللدعاء مكان وحالات وتأثير، فهما متوافقان في الحقيقة وإن اختلفا في الصورة، وكلاهما متلائم في مكانه.
أما عمل الختم بالمسجد النبوي اليوم فالواقع أن الحديث عنه شيق كيف لا والحديث في حد ذاته عن ختم القرآن في أي مكان حديث ممتع للروح منعش للنفس منبه للضمائر الإسلامية لارتباطه بالقرآن الكريم المنزل من رب العالمين.
وإذا كان هذا الحديث يتعلق بالمسجد النبوي وفي الجوار الطاهر الكريم وفي شهر رمضان المعظم وفي آخر العشر الأواخر كان ذلك أعظم من أن يصور بحديث أو يقدم في موضوع، ولكن نسوق للقارئ الكريم وصفاً عملياً بقدر ما يمكن تصويره من وحي الشعور به فنقول وبالله التوفيق:
يقع الختم في المسجد النبوي في شهر رمضان مرتين مرة في صلاة التراويح وأخرى في صلاة القيام آخر الليل وذلك في ليلة التاسع والعشرين من شهر رمضان في أول الليل وفي آخره.
ولعل في ذلك ارتباط وإن كان من غير قصد بما جاء عنه صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام كان يدارسه القرآن الكريم في رمضان كل سنة مرة وفي السنة التي قبض فيها صلى الله عليه وسلم دارسه القرآن مرتين.
وفي هذه الليلة يقع الدعاء في المسجد النبوي في صلاة الجماعة أربع مرات: مرتين في الختم ومرتين في الوتر مما يجعل تلك الليلة ليلة مشهودة عبادتها موصولة.(4/402)
أما ختم التراويح الذي يكون في أول الليل فإنه إذا جاءت ليلة التاسع والعشرين فيكون قد بقي من قراءة الختمة الأولى جزء (عم يتساءلون) ، وهو الجزء الأخير من المصحف الشريف وفي هذه الليلة يصلي فضيلة الإمام الشيخ عبد العزيز بن صالح التراويح كلها بدون تناوب فيها مع أحد وعند الفراغ من قراءة سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} في آخر ركعة من التراويح وقبل أن يركع يبدأ الدعاء بالختم يفتتحه بقوله: صدق الله العظيم الذي لا إله إلا هو، المتوحد في الجلال بكمال الجمال تعظيماً وتكبيراً المنفرد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديراً وتدبيراً إلى آخر ما يدعو به، وسيأتي نص ما أمكن تدوينه في نهاية هذا البحث إن شاء الله.
والجدير بالذكر هنا أنه حفظه الله يطيل القيام ويكثر السؤال ويجتهد في الابتهال ويظهر من الخشوع والخضوع إلى الله، ومن الإنابة والضراعة ما يحرك القلوب ويوقظ الشعور ويفتح الآفاق بالآمال ويطمع في رحمة الله وعظيم النوال لما يرد في الدعاء من نصوص مأثورة تجمع خيري الدنيا والآخرة.
فإذا فرغ من الدعاء ركع وأكمل صلاة الركعة الأخيرة من التسليمة الأخيرة والتي هي تمام العشرين ركعة وسلم وهي نهياة التسليمة العاشرة.
ويترك الوتر إلى الشيخ محمد العلمي فيوتر ويقنت في الوتر ويدعو هو أيضاً بدعاء القنوت المشهور الذي أوله: اللهم اهدنا فيمن هديت..الخ.
ويحضر هذا الختم في أول الليل من المصلين رجالاً ونساءً شيباً وشباباً مما يماثل بهجة العيد.
وتطلق مباخر العود وتنثر أنواع العطور ويتبادل المصلون الدعوات والتباريك ببهجة وفرحة وغبطة تفوق الوصف، ثم ينصرفون موفوري الرجاء والآمال في سعة فضل الله ورحمته.(4/403)
فإذا كان ثلث الأخير عاد إلى المسجد خلق وفير من أهل المدينة وممن يفدون إليها بغية المشاركة وحضور هذا الختم فيتكامل عدد كبير رجالاً ونساء صغاراً وكباراً.. ويفيض المسجد بالجلال والوقار والهيبة والإكبار ينتظرون الإمام والبعض لم يبرح مكانه خاصة من وجد مكاناً في الروضة فيأتي الإمام ويقوم في الروضة في مصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكون قد بقي من الختمة الثانية ثلاثة أجزاء (قد سمع) و (تبارك) و (عم) ، فيصلي الإمام كالمعتاد بالتناوب مع مساعده يبدأ الإمام بالركعتين الأوليين ويختم بالركعتين الأخيرتين، وإذا فرغ من سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} بدأ دعاء الختم ثم يكمل الركعتين ويسلم ثم يصلي هو الوتر حيث لم يوتر أول الليل ويقنت في الركعة الأخيرة منه، وإذا سلم من الوتر تسابق الناس إليه وإلى بعضهم البعض بأحر التهاني وخالص الدعاء وعظيم الرجاء في القبول وطلب العودة إلى تلك الفرصة الكريمة من كل عام.
وهنا وقفة مع التاريخ الذي سردناه للتراويح في هذا المسجد المبارك فلئن سجل العلماء والمؤرخون وأصحاب الرحلات كالنابلسي وابن جبير وابن بطوطة والعياشي صور الختم في الحرمين من احتفال هائل بإيقاد الشموع والمشاعل ونثر الزهور والرياحين وضرب الفراقع والمقارع وإنشاء القصائد والابتهالات، وغير ذلك.
فإنه في هذا الوقت وقد انقضى عهد الشموع بالكهرباء والثريات الكبريات فإن ليلة الختم في هذا العصر في المسجد النبوي أصبحت مقصد الكثيرين ومحط رحال المسافرين يفدون إليها من أطراف المملكة التماساً لبركاتها وتعرضنا لنفحاتها في هذا المسجد الكريم وفي هذا الجوار العظيم حيث يتوفر لها فضل الزمان من شهر رمضان وفضل المكان من تضاعف الأعمال.(4/404)
عوامل تجعل لختم القرآن بالحرم النبوي في شهر رمضان وفي الثلث الأخير من الليل تفيض عليه روحاً ويضفي الله عليه نوراً ويكسوه جمالاً ويكسبه حلاوة ويزيده معنوية تفيض كلها على المصلين وجميع الحاضرين والمستمعين رحمات ورضوانا يجل قدرها عن الوصف، ويقصر دونها البيان، ولا يقدر قدره إلا من حضره.
وكيف يمكن وصف الحالات الروحية التي تشمل المكان كله وهي فوق حدود الوصف أو تقييم النفحات الربانية وهي أبعد من مقاييس التقييم حين تكتنف الحاضرين جميعاً.
ومن يقدر على تصوير الأحاسيس النفسية والشعور العميق بالبهجة العظمى لختم القرآن في نهاية رمضان في روضة من الجنان، إنها حالة يغيب فيها الشعور عن الوصف وتفقد فيها القدرة على البيان، فلا يسمع إلا أنات القلوب وزفرات الصدور، ولا ترى إلا عبرات الباكين من أعين الخاشعين في أكف الضارعين.
صور تجل عن الوصف ندركها ولا نقدرها ونلمسها ولا نصورها فتبقى في إطار الذكرى ماثلة وفي حلقات التاريخ نيرة عطرة.
ولا ينتهي الإمام من دعائه ويفرغ من تضرعاته إلا وقد استشعر كل فرد في قرارة نفسه ببرد الطمأنينة، وذاق حلاوة المناجاة وغسلت دموعه آثاراً تامة، وأحس بالارتياح وزاد بهجة وغبطة واهتز في إطار ما يكتنفه من شعور بجلال المقام وشرف الجوار وفضل المكان واسترجع بذاكرته عجلة التاريخ أربعة عشر قرناً يستعرض الماضي بعزته وإشراقته ويدرك سر القوة ومصدر الإشعاع الروحي من هذا المكان ينزل به جبريل عليه السلام كل ذلك في لمحات خاطفة وخطرات عابرة ثم يوتر الإمام ويقنت، ثم يكمل الوتر ويسلم فيقبل المصلون بعضهم على بعض بالتهاني وصالح الدعوات متمنين العودة ومؤملين القبول، نسأل الله تعالى أن يقبلنا معهم ويجعلنا وإياهم من عتقائه من النار. آمين.(4/405)
نص الدعاء عند ختم القرآن في المسجد النبوي في هذا الوقت الحاضر في التراويح من المعلوم أنه لا توجد نصوص خاصة بذلك ولا معينة له لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرا القرآن كله في الليالي التي صلاها أول الأمر فلم يؤثر عنه دعاء في ذلك.
ولكن كما قال ابن دقيق العيد: "ما كان مشروعاً بأصله فهو جائز بوصفه"أي أن الدعاء مشروع بأصله وهو مخ العبادة، وقال تعالى في أصل ذلك: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، وحث صلى الله عليه وسلم على الاجتهاد في الدعاء في السجود بدون تحديد لا في الآية ولا في الحديث ومن هنا كان الأصل في الدعاء الإطلاق والعموم إلا ما جاء منصوصاً عليه كالدعاء في القنوت أو في آخر التشهد أو في أول الافتتاح في الصلاة وكذلك عند دخول المسجد وخروجه وغير ذلك فمثل هذا تكون السنة فيه التقيد بما ورد، وما عداه فهو على عمومه يجتهد الداعي بما تيسر له كما فعل صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر.
وهكذا في هذا العمل فهو موضع اجتهاد وقد تقدم عن أنس أنه كان يجمع أهله ويدعو ولم يعثر على نص معين، كما تقدم عموم لفظه فله دعوة مستجابة أي بعد ختم القرآن وصلاة فريضة على ما سبق بحثه.
ومن هنا لم يتقيد أحد بنص معين بل يتخير من الدعاء ما تيسر له وما يحقق له رغباته ويعبر عن حاجاته ومتطلباته، سواء من الأدعية العامة المأثورة أو من غيرها، وتقدمت إجابة أحمد للسائل عن الدعاء في الختم فقال: أدع بما شئت.
وقد نسب لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله نصوصاً للدعاء في هذا العمل وهو دعاء جامع شامل وليس بالطويل المسهب ولا بالقصير الموجز، ولم يتقيد الإمام بنص معين بل يدعو بما تيسر وجميع أدعيته من المأثور ولكنه يفتتح الدعاء بقوله:(4/406)
صدق الله العظيم الذي لا إله إلا الله، المتوحد في الجلال بكمال الجمال تعظيماً وتكبيراً، المنفرد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديراً وتدبيراً، المتعالي بعظمته ومجده الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً، الذي أرسله إلى جميع الثقلين الجن والإنس بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، اللهم لك الحمد على ما أنعمت به علينا من نعمك العظيمة وآلائك الجسيمة، حيث أنزلت علينا خير كتبك وأرسلت إلينا أفضل رسلك وشرعت لنا افضل شرائع دينك، وجعلتنا من خير أمة أخرجت للناس وهديتنا لعالم دينك الذي ارتضيته لنفسك وبنيته على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام.
ولك الحمد على ما يسرته من صيام شهر رمضان وقيامه، وتلاوة كتابك العزيز الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك نواصينا بيدك ماض فينا حكمك عدل فينا قضاؤك.
نسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عند أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا وغمومنا.
اللهم ذكرنا منه ما نسينا وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا.
اللهم اجعلنا ممن يحل حلاله ويحرم حرامه، ويعمل بمحكمه ويؤمن بمتشابهه ويتلوه حق تلاوته.
اللهم اجعلنا ممن يقيم حدوده ولا تجعلنا ممن يقيم حروفه ويضيع حدوده.(4/407)
اللهم اجعلنا ممن اتبع القرآن فقاده إلى رضوانك والجنة ولا تجعلنا ممن اتبعه القرآن فزج في قفاه إلى النار، واجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، واهدهم سبل السلام، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وبارك لهم في أسماعهم وأبصارهم وذرياتهم وأزواجهم أبداً ما أبقيتهم واجعلهم شاكرين لتعمك مثنين بها عليك، وأتمها عليهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لجميع موتى المؤمنين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك.
اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .
اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك ونسألك من خير ما سألك منه عبدك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحون.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ونسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك ومن النار.
اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته ولا هما إلا فرجته ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته وعافيته ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين.
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا.(4/408)
ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وسلم. اهـ.
هذا نص الدعاء المنسوب لشيخ الإسلام ابن تيمية ولكن فضيلة الإمام الشيخ عبد العزيز بن صالح يزيد فيه جملاً مناسبة منها:
اللهم لا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
اللهم إنك أمرتنا بالدعاء ووعدتنا بالإجابة فلا تردنا خائبين.
اللهم اجعلنا من عتقائك من النار ومن المقبولين.
اللهم إن رحمتك أوسع من ذنوبنا وعفوك أوسع من خطايانا.
اللهم هب المسيئين منا للمحسنين.
اللهم أنت الغني عنا ونحن الفقراء إليك..
إلى مثل ذلك من العبارات التي تحرك القلب وتزكي الروح.
ثم يختم بنحو قوله: سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ثم يركع ويكمل الركعتين، ثم يأتي بركعتي الشفع ثم بركعة الوتر.
ولا يقام عمل ختم آخر نظراً لعدم تقدم الإمامة في الصلاة وإنما يجري ذلك كله في جماعة واحدة وفي ليلة واحدة من إمام واحد وهو الإمام الراتب الشيخ عبد العزيز بن صالح.(4/409)
الشباب الضائع
بقلم الطالب عبد الله العبادي
إن الكثير من شبابنا اليوم يعيش في متاهة نائية، بعيد عن كل خلق كريم، وعن كل تعاليم سامية، شباب انحرف عن الجادة فتاه في ظلمات الجهل، والإلحاد، والإباحية، والدعايات الفارغة، شباب انخدع بالمظاهر البراقة، فصفق مع المصفقين، وهتف مع الهاتفين دون أن يعرف عن ذلك شيئاً، شباب غرق في بحر السفاسف والملذات، فلم يجد من ينير له الطريق، فيدعوه إلى ما فيه صلاحه وسلامته.
ولكن على من تقع المسؤولية؟
تقع المسئولية على البيت، والمدرسة، والمجتمع، والحكومة، فكل من هذه العوامل لم تقم بواجبها خير قيام لتربية الجيل، وتركت الشباب في متاهته، وضلالاته.
ففي البيت قد ترك الوالدان لولدهما الحرية في كل ما يفعل: يجالس من يشاء، ويمشي مع من يشاء، ويسهر مع من يشاء، ويسافر حيث يشاء، فيكتسب بذلك كل ما هب ودب من الأخلاق، والرذائل، والتقاليد البالية.
بل إن الوالدين في كثير من البلدان قدوة سيئة لولدهما، فما دام الوالدان يجالسان المنحرفين، فما المانع أن يكون الولد كذلك؟
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
أما المدرسة، فإن فيها المعلم، وهو ذو تأثير فعال في التلميذ، وجل المعلمين في زماننا من المنحرفين، فما دام المعلم لا يعرف صلاة ولا صياماً، فاسد العقيدة، سيء الأخلاق فإن التلميذ - لا شك - سوف يحذو حذوه.
أما المجتمع فلا يقل عن البيت والمدرسة في التأثير في الشباب، بل هو الذي عليه المدار في زرع الفساد، والانحلال الخلقي في نفوس الشباب، والتأثير فيهم.
أما الحكومة فإن عليها القسط الأكبر من هذه المسئولية لأنها المسئول الأول عن خراب المجتمع، وعن ضلالاته، وانحرافاته "ولو صلح الراعي لصلحت الرعية"و "الناس على دين ملوكهم"كما ورد في الأثر.(4/410)
ولكن الحكومات نفسها قد ضلت الطريق، فأضلت التابع لها {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ, وَقَالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} فإن سلم الشباب من تلك لم يسلم من هذه، وإن اجتمعت عليهم القوى فقد قضي عليهم، ولا فائدة حينئذ ترجى.
وهذا هو الشيء المشاهد في كثير من البلدان الإسلامية فالسواد الأعظم من الشباب لا يعرف صلاة ولا صياماً، ولا أخلاقا فاضلة، يتردد على دور السينما والكبريهات ليل نهار، ويقضي كل وقته في لهو ولعب، وعبث ومجون، وخاصة إذا كان ذا ثروة، وفراغ، لا صلة له بالدين وأهله، يأكل ويشرب ويجيء ويذهب {كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} .
إن الشباب والفراغ والجدة
مفسدة للمرء أي مفسدة
فلنتذكر إذاً الحديث الشريف: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته". ولنضعه أمام أعيننا فنحن مسئولون أمام الله يوم القيامة.
من خلق الإيثار وتفضيل الغير على النفس
روى الشيخان أنه نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف فلم يجد عند أهله شيئاً فدخل عليه رجل من الأنصار فذهب بالضيف إلى أهله ثم وضع بين يديه الطعام وأمر امرأته بإطفاء السراج، وجعل يمد يده إلى الطعام كأنه يأكل، ولا يأكل حتى أكل الضيف إيثاراً للضيف على نفسه وأهله فلما أصبح قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: "لقد عجب الله من صنيعكم الليلة بضيفكم", ونزلت آية: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} .(4/411)
العبرة في شهر الصوم
بقلم الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
محاضرة ألقيت في مدرسة طيبة الثانوية
ليلة الاثنين الموافق 16 شوال عام 1390 هـ
الدنيا دار ابتلاء وامتحان:
خلق الله عباده ليعبدوه وحده لا شريك له، وقال في كتابه العزيز: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ، وأرسل رسله الكرام ليرسموا لهم طريق العبادة، وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} .. وجعل حياتهم الدنيوية موطناً لابتلائهم وامتحانهم أيهم أحسن عملاً، وقال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} , ثم قال: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} مبيناً أن هؤلاء الممتحنين منهم من يحسن في عمله فيجازى بما يقتضيه اسمه الغفور ومنهم من يسيء فيكون مستحقاً للعقوبة بما يقتضيه اسمه العزيز, وذلك كقوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ, وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} .
موسم من مواسم الآخرة:
وكما فضل الله بعض البشر على بعض وبعض الأماكن على بعض فضل بعض الزمان على بعض، ومن ذلك تفضيل شهر رمضان المبارك وتمييزه على غيره واختياره ليكون محلاً لإيجاب الصوم على الناس {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} .. فلقد فضل الله هذا الشهر وجعله موسماً من مواسم الآخرة يتنافس فيه عباده المتنافسون ويتسابق فيه لتحصيل الفوز والزلفى عند الله المتسابقون، يتقربون فيه إلى ربهم بصيام النهار وقيام الليل وتلاوة كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ويتقربون إلى الله بهذا وغيره من الطاعة مع الحذر والبعد عن المعصية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور.
زيادة في الخير:(4/412)
ولما فرض الله على العباد صيام شهر رمضان رغبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انتهائه بصيام ست من شوال ليعظم لهم الأجر وليكونوا كمن صام الدهر، فعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر". قال الحافظ المنذري: "رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والطبراني وزاد وقال: "قلت: بكل يوم عشرة، قال: نعم"، ورواته رواة الصحيح". انتهى. وذلك أن السنة أقصى حد لها ثلاثمائة وستون يوماً فإذا أضيف إلى شهر رمضان ستة أيام من شوال وصيام كل يوم بعشرة أيام لأن الحسنة بعشر أمثالها يكون المسلم كأنه صام السنة كلها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "كان كصيام الدهر" وذلك فضل عظيم من الله فله الحمد والشكر على نعمه التي لا تحصى ولا تعد.
من خير إلى خير:(4/413)
ومن فضل الله وإحسانه إلى عباده أن يسر لهم الأسباب التي ترفع في درجاتهم وتجعلهم على صلة وثيقة دائماً بعبادة ربهم فإذا مرت بهم أيام وليالي شهر رمضان التي يكفر الله فيها السيئات ويرفع الدرجات ويقيل العثرات تقربوا فيها إلى ربهم فإذا ما تصرمت أيامه وانتهت تلتها مباشرة أشهر الحج إلى بيت الله الحرام فإن يوم عيد الفطر الذي هو أول يوم من شهر شوال هو أول يوم في أشهر الحج التي قال الله تعالى فيها: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَاب} نعم إذا انتهت أيام شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن الشهر المبارك الذي تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النار وتصفد الشياطين أيام الصيام التي قال الله تعالى عنها في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، إذا انتهت هذه الأيام جاءت أيام الحج الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه" رواه البخاري ومسلم وغيرهما. وقال عنه صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" رواه البخاري ومسلم وغيرهما، فلا يكاد المسلم يودع موسماً من مواسم الآخرة إلا استقبل موسماً آخر ليكون على صلة مستمرة بعبادة خالقه وبارئه الذي أوجده من العدم وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة.
العبرة من شهر الصوم:(4/414)
وهذا الموسم المبارك من مواسم الآخرة قد ودعته الأمة الإسلامية منذ أيام فطوبى لمن وفقه الله فيه للأعمال الصالحة وتفضل عليه بقبولها ويا خسارة من مرت به أيامه دون أن يقدم فيها لنفسه صالحاً يلقاه إذا غادر هذه الدار وما أعظم مصيبته إن كان قد شغل أيامه بما يرضي الشيطان ويتفق مع ما تهواه النفس الأمارة بالسوء، والعياذ بالله.
وهذا الموسم العظيم الذي مرت بنا أيامه يشتمل على فوائد جمة وعلى عبر وعظات تبعث في النفس محبة الخير ودوام التعلق بطاعة الله كما تكسب النفس بغض المعصية والبعد من الوقوع فيما يسخط الله عز وجل.
وسأحاول فذ هذه الكلمات تسجيل بعض تلك العبر والعظات التي يخرج بها المسلم معه من شهر الصيام والتي هي الحصيلة الطيبة له في تلك الأيام المباركة فأقول مستمداً من الله التوفيق والتسديد:
أولا:(4/415)
إن أيام شهر رمضان إذا مرت بالمسلم فهي فرصة من فرص العمر قد تسنح له هذه الفرصة مرة أخرى أو أكثر وقد يوافيه الأجل المحتوم قبل بلوغ ذلك، والمهم في الأمر أن تكون هذه الفرصة قد انتهزت بشغلها في الطاعة والبعد من المعصية وأهم من ذلك أن تحصل المداومة على ذلك فإن من ثواب الحسنة الحسَنة بعدها كما أن من العقوبة على السيئة السيئَة بعدها وذلك أن المسلم الناصح لنفسه إذا وفق لبلوغ هذا الشهر المبارك وشغله في طاعة ربه الذي خلقه لعبادته وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة فارتاحت نفسه للأعمال الصالحة وتحرك قلبه للآخرة التي هي المستقر والمنتهى والتي لا ينفع الإنسان فيها إلا ما قدمت يداه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، نعم إذا ألفت النفس الطاعة في تلك الأيام المباركة رغبة فيما عند الله وكفت عن المعصية خوفاً من عقاب الله فلفائدة التي يكسبها المسلم من ذلك والعبرة التي يجب أن تكون معه بعد ذلك أن يلازم فعل الطاعات واجتناب المنهيات؛ لأن الله تعبد عباده حتى الممات.. {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فلا يليق بالمسلم وقد ذاق طعم الطاعة في شهر الصيام أن يحل محل تلك الحلاوة مرارة المعصية، ولا يسوغ له إذا أرغم عدوه في شهر الصيام أن يدخل عليه السرور في شهر شوال وما بعده من الشهور، وليس من صفات المسلم الناصح لنفسه أن يودع فعل الخيرات مع توديع شهر الصيام فيستبدل الزمن الذي هو أدنى بالذي هو خير فالمعبود في رمضان وغير رمضان حي لا يموت قيوم لا ينام يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل وعمل الليل قبل عمل النهار لا يظلم مثقال ذرة {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} .
ثانياً:(4/416)
الصيام سر بين العبد وبين ربه لا يطلع على حقيقته إلا هو سبحانه وتعالى ولهذا جاء في الحديث الصحيح يقول الله تعالى: "كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلا الصوم فإنه لي وأنا اجزي به يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي". وذلك أن بإمكان العبد أن يختفي عن الناس ويغلق على نفسه الأبواب ويأكل ويشرب ثم يخرج إلى الناس ويقول أنا صائم ولا يعلم ذلك إلا الله تبارك وتعالى ولكن يمنعه من ذلك اطلاع الله عليه ومراقبته له وهذا شيء يحمد عليه الإنسان والعبرة من ذلك أن يدرك أيضاً أن الذي يخشى إذا أخل الإنسان بصيامه هو الذي يخشى إذا أخل الإنسان بصلاته وزكاته وحجه وغير ذلك مما أوجبه الله فالذي فرض الصيام هو الذي فرض الصلاة والصلاة هي أعظم أركان الإسلام بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولعظم شأنها وكونها هي الصلة المستمرة ليلا ونهاراً بين العبد وبين ربه افترضها الله على نبيه ليلة عرج به إلى السماء فإذا وجد المسلم أن إخلاله بالصيام كبير وعظيم فيجب أن يجد ويدرك أن حصول ذلك منه في الصلاة أكبر وأعظم وتلك من أجل الفوائد وأعظم العبر التي يستفيدها المسلم من شهر الصيام.
ثالثاً:
إن مما يشرح الصدر ويدخل السرور على النفوس الطيبة أن تكون المساجد عامرة بالمصلين في شهر رمضان ويكون انشراحها أعظم والسرور أكبر في المداومة على ذلك فالفائدة التي يليق بالمسلم بعد الذي شاهده في تلك الأيام من اكتظاظ المساجد بالمصلين أن يعقد العزم ويصمم على أن يكون ممن يداوم على هذا الخير ليكون من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فإن من بينهم الرجل الذي يكون قلبه معلقا بالمساجد كما ثبت ذلك في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
رابعاً:(4/417)
وجوب الصيام عن الطعام والشراب وسائر المفطرات محله شهر رمضان أما الصيام عن الحرام فمحله طيلة عمر الإنسان فالمسلم يصوم في أيام شهر رمضان عن الحلال والحرام ويصوم طيلة حياته عن الحرام فالصيام عن الحلال والحرام معاً قد مرت أيامه أما الصيام عن الحرام فهو مستمر دائم وذلك أن الصوم في اللغة الإمساك عن الشيء، والصوم الشرعي هو الإمساك عن الأكل والشرب وسائر المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس والمعنى الشرعي جزء من جزئيات المعنى اللغوي فكما يطلق المعنى اللغوي على المعنى الشرعي فهو يشمله ويشمل غيره ومن ذلك الامتناع عن الحرام فامتناع العين واللسان والأذن واليد والرجل والفرج عما منعت منه هو صيام من حيث اللغة وذلك أن الله تفضل على العباد بهذه النعم التي لا غنى لهم عنها ولكن الله كما امتن عليهم بها أوجب عليهم استعمالها فيما يرضيه وحرم عليهم استعمالها فيما يسخطه ومن أعظم شكر الله على هذه النعم أن يكون المسلم مستعملاً لها حيث أمر أن يستعملها فيه ممتنعاً عن استعمالها في معصية من تفضل عليه بها وبكل نعمة ظاهرة وباطنة سبحانه وتعالى.
فالعين شرع استعمالها في النظر إلى ما أحل الله ومنع من استعمالها في النظر إلى الحرام وامتناعها عن ذلك صيامها وحكمه مستمر دائم.
والأذن شرع استعمالها في استماع ما أبيح لها وحرم على العبد استعمالها في سماع ما لا يجوز سماعه وامتناعها عن ذلك صيامه وحكمه مستمر دائم.
واللسان شرع استعماله في كل معروف ومنع استعماله في كل ما هو منكر وامتناعه من ذلك صيامه وحكمه مستمر دائم.
واليد شرع استعمالها في تعاطي ما هو مباح ومنع من استعمالها في كل حرام وامتناعها من ذلك صيامها وحكمه مستمر دائم.
والرجل شرع استعمالها في المشي إلى كل خير ومنع من المشي فيها إلى الحرام وامتناعها عن ذلك صيامها وحكمه مستمر دائم.(4/418)
والفرج أبيح استعماله في الحلال ومنع من استعماله في الحرام وامتناعه من ذلك صيامه وحكمه مستمر دائم.
وقد وعد الله من شكر هذه النعم واستعملها حيث أمر الله أن تستعمل وعده بالثواب الجزيل وتوعد من لم يحافظ عليها ولم يراع ما أريد استعمالها فيه بل طلقها فيما يسخط الله ولا يرضيه بل يرضي الشيطان الذي هو عدو الله وعدو المخلصين من عباد الله توعده بعقابه وأخبر أن هذه الجوارح مسؤولة يوم القيامة عنه وهو مسؤول عنها فقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} , {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} , وقال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ, حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ, وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه بعد أن أمره بحفظ اللسان، وقال له معاذ: "يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال عليه الصلاة والسلام: "ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم" رواه الترمذي. وقال صلى الله عليه وسلم: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة". رواه البخاري في صحيحه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه, ورواه الترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه: "من وقاه الله شر ما بين لحييه وشر ما بين رجليه دخل الجنة".(4/419)
وقال صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت". رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأخرجا من حديث أبي موسى رضي الله عنه مرفوعاً: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده". وقال صلى الله عليه وسلم: "المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار" رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات" أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
والحاصل أن الله أوجب على العبد أن يصون لسانه وفرجه وسمعه وبصره ويده ورجله عن الحرام وهو صيام من حيث اللغة وهذا الصيام لا يختص بوقت دون آخر بل يجب الاستمرار عليه حتى الممات طاعة لله تعالى ليفوز برضا الله ويسلم من سخطه وعقوبته، فإذا أدرك المسلم أنه في شهر الصيام امتنع عما أحل الله له؛ لأن الله حرم عليه تعاطي ذلك في أيام شهر رمضان فالعبرة من ذلك أن يدرك أن الله قد حرم عليه الحرام مدة حياته وعليه الكف عن ذلك والامتناع منه دائماً خوفاً من عقاب الله الذي أعده لمن خالف أمره وفعل ما نهى عنه.
وقد أخبر عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي عن ربه أن للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه فالصائم يفرح عند فطره لأن النفس عند الفطر تتعاطى ما منعت منه وهو محبوب لها ولأنه قد وفق لإنهاء الصيام الذي جزاؤه عظيم عند الله ويفرح الفرحة الكبرى عند لقاء ربه حيث يجازيه على صيامه الجزاء الأوفى.(4/420)
ومن حفظ لسانه عن الفحش وقول الزور وفرجه عما حرم الله عليه ويده من تعاطي ما لا يحل تعاطيه وسمعه من سماع ما يحرم سماعه وبصره عما حرم الله النظر إليه واستعمل هذه الجوارح فيما أحل الله من حفظها وحافظ عليها حتى توفاه الله فإنه يفطر بعد صيامه هذا على ما أعده الله لمن أطاعه من النعيم وأول ما يلاقيه من ذلك ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يجري للمؤمن عند الانتقال من هذه الدار إلى الدار الآخرة حيث يأتيه في آخر لحظات في الدنيا ملائكة كأن على وجوههم الشمس معهم كفن من الجنة وحنوط من الجنة يتقدمهم ملك الموت فيقول: يا أيتها النفس الطيبة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء إلى آخر ما بينه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مما يجري بعد ذلك وهذه هي البوادر الطيبة التي يجدها أمامه من حرص على سعادة نفسه وسعى في خلاصها مما يفضي بها إلى الهلاك والدمار، ولهذا أرشد طبيب القلوب صلوات الله وسلامه عليه الرجل الذي سأله عن قيام الساعة إلى ما هو أهم من قيامها وهو الاستعداد لها بالأعمال الصالحة فإنه صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله عن قيامها: "وماذا أعددت لها؟ " مبيناً أن الإنسان في حياته الدنيوية عليه الاستعداد لحياته الأخروية، وقد قال الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} وذلك أن كل سفر لا بد فيه من زاد يناسبه والسفر إلى الآخرة زاده تقوى الله والعمل بطاعته والسير على النهج القويم الذي جاء به رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
كلمة ختامية:
واختتم هذه المحاضرة بكلمة تخصنا معشر الذين امتن الله عليهم بسكنى طيبة الطيبة دار الهجرة والعاصمة الأولى للمسلمين فأقول:(4/421)
إن شهر رمضان المبارك شهر شرفه الله وخصه بخصائص لا توجد في غيره وقد ودعناه نحن وسائر الأمة الإسلامية منذ أيام ونرجو أن نكون جميعاً ممن فاز فيه برضا الرب جل جلاله والذي أحب أن أذكره هنا هو أنه إذا كان هذا الوقت المفضل والزمن المقدس قد مضى وذهب عنا وعن سائر المسلمين في كل مكان فإن لدينا ولله الحمد والمنة المكان المقدس، فقد جمع الله لنا في شهر رمضان بين شرف الزمان وشرف المكان وإذا ذهب شرف الزمان فإن شرف المكان باق موجود فها هي بين أيدينا سوق من أسواق الآخرة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فقد صح عن الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام"، إنه الفضل العظيم من الله صلاة في هذا المسجد المبارك مسجد الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام تفوق ألف صلاة في سائر المساجد سوى المسجد الحرام، إن المشتغلين في التجارة الدنيوية يتحرون المواسم التي تنفق فيها السلع وتروج فيها التجارة فيتجشمون الأخطار ويقطعون الفيافي وينتقلون بتجارتهم من مكان إلى آخر إذا علموا أن السلعة التي تساوي ريالاً واحداً قد تباع بريالين اثنين، هذا أمر لا مرية فيه ولا شك ونحن في هذا البلد الطيب الصلاة الواحدة في مسجد سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام لا تساوي صلاتين أو ثلاثاً أو عشراً أو مائة فحسب بل تفوق ألف صلاة في غيره سوى المسجد الحرام، سبحان الله ما أعظم فضله وأوسع جوده وإحسانه فله الحمد والشكر على نعمه.(4/422)
ولا يفوتني أن أقول: كما أن النعمة من الله علينا في سكنى طيبة الطيبة عظيمة والمنة جسيمة فإن علينا أن لا ننسى أنه على قدر النعمة تكون المسؤولية فكما أن الإحسان في هذا المكان المقدس أجره عظيم عند الله فإن الإساءة فيه ليست كالإساءة في الأمكنة الأخرى التي لا تفضيل فيها فمن يعصي الله بعيداً عن الحرم ليس كمن يعصيه في الحرم، وليس من يرتكب الحرام وهو في المشرق والمغرب كمن يقترف الذنوب في مكة المكرمة أو المدينة المنورة فإن البون شاسع بين هذا وذاك، فالمدينة المنورة أعز مكان وأقدس بقعة على وجه الأرض بعد مكة المكرمة فهي تلي مكة في الفضل ويليها المسجد الأقصى وهذه المدينة المباركة هي منطلق الرسالة ومنها شع النور إلى سائر أنحاء الأرض وهي المركز الرئيسي والعاصمة الأولى للمسلمين في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم منذ هاجر إليها وفي زمن أبي بكر وعمر وعثمان وبعض من عهد علي رضي الله عن الجميع، وفيها قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وكثير من الصحابة رضوان الله عليهم، وعلى هذه الأرض نزل جبريل عليه السلام بالوحي من السماء إلى محمد عليه الصلاة والسلام وهي الأرض المشتملة على أول جامعة إسلامية أبرز خريجيها أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذو النورين وعلي أبو الحسنين ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وصهره ورابع الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وعن سائر الصحابة أجمعين وهي الأرض التي مستها أقدام صفوة الصفوة وخلاصة الخلاصة من البشر بعد الأنبياء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين، فجدير بنا وقد أكرمنا الله بالبقاء فيها أن نتزود فيها من الأعمال الصالحة التي تنفعنا بعد الموت وأن نكون على حذر من الوقوع فيها بما يسخط الله عز وجل.(4/423)
وأسال الله تعالى أن يجعلنا جميعاً ممن تقبل الله صيامه وقيامه وأن يرزقنا في هذا البلد الطيب طيب الإقامة وحسن الأدب وأن يحسن لنا الختام، كما أرجوه سبحانه أن يمن على المسلمين في سائر أنحاء الأرض بالرجوع إلى كتاب ربهم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخليله وخيرته من خلقه محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين.(4/424)
القرآن الكريم..
دراسته وتعليمه في جميع بلاد الإسلام
نص قرار المجلس لرابطة العالم الإسلامي
نص قرار المجلس لرابطة العالم الإسلامي عن القرآن الكريم ووجوب تعليمه ودراسته في جميع بلاد الإسلام.
بعث الله تعالى خاتم رسله (محمداً) - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً بكتاب عربي مبين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حيكم خبير ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط مستقيم، فهو الحق القاطع والنور الساطع المستقيم، والمنهج القويم الذي فرض الله على العباد أن يؤمنوا به، ويهتدوا بهديه، وينتهجوا سبيله، ويلزموا طريقه في الأقوال والأعمال، وسائر الشؤون والأحوال، وحذرهم غاية التحذير من التفريط فيه والإعراض عنه وسلوك غير سبيله والعمل بغير تعاليمه.
وأمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغه لعباده فقال:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} وقال: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ} .
فبلغ - صلى الله عليه وسلم - رسالة ربه فبشر وأنذر وحث وحذر وبين وأوضح وعلم وربى على نهج كتاب ربه أمة مؤمنة قوية عادلة لم تطلع الشمس على مثلها في العالم إيماناً، وطاعة وهدى وفضلاً وقوة في الدين وعدلاً.
استظلت بالقرآن واعتصمت به في كل سبيل، وعاش في كنفه منها كل قبيل، وحرصت كل الحرص على استذكار آياته وتدبر معانيها، وتلاوتها مع فهم مقاصدها ومراميها، فكانت أعدل أمة بل أثمن درة في تاج تاريخ الأمم.
ذلك شأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعهم بإحسان من أمة القرآن في عهد ازدهار الإسلام ونضارته وصولته وقوته وانفعال النفوس به والحفاظ على جدته.(4/425)
ثم خلت قرون، وتبدلت شؤون، وتتابعت أحداث، وخلف من بعدهم خلف قد استهواهم الشيطان فلم يسلكوا سبيل أسلافهم في القيام بحق القرآن حفظاً وتلاوة وتدبراً وفهماً فنالهم بشؤم ذلك كثير من الذل والهوان، أهملوا حفظ القرآن في مكاتب تحفيظه بل أهملوا بعد ذلك إنشاء هذه المكاتب نفسها فحرم الأبناء من حفظ القرآن في حداثة السن، وبداية التربية.
ثم أهملوا حفظ القرآن وتدريسه في مراحل التعليم بعد المدارس، والمعاهد فتخرج الأبناء منها أخلياء من القرآن حفظاً ودراسة.
وحينما قررت بعض البلدان حفظ قليل منه وتدريسه بمدارسها جعلوه مادة إضافية بين مواد التعليم لا يترتب على الرسوب فيها أثر فكان كأن لم يكن.
وبذلك تقلص ظل القرآن في المدارس في هذه الأزمنة الأخيرة في معظم البلدان حفظاً، وتعليماً، وكل ذلك تنفيذ لمخطط إجرامي أثيم اصطنعه وأحكم تدبيره أعداء القرآن والإسلام من الأجانب المستعمرين الذين بأيديهم مقاليد التعليم في البلاد التي منيت بهم، وتبعهم، وتبعهم في ذلك بعض الضعفاء الإمعات، والمنافقين من أبناء البلاد ويمكننا أن نقول - في غير مغالاة - إن الشباب المسلم محروم الآن في أكثر بلاد الإسلام من حفظ القرآن، ودراسته في المرحلة الثانوية من مراحل التعليم، وفي الجامعات بأسرها، وهم في السن التي يحتاجون فيها أشد الاحتياج إلى ضبط النفوس، وقمع الشهوات، والتربية الدينية، والتهذيب والتوجيه إلى الخير والصلاح بوازع ديني محكم قويم وذلك بحفظ كثير من آيات الذكر الحكيم، ودراسة تفسيرها، وفهم معناها القويم.
ولا شك أن ذلك خطر كبير على المجتمع الإسلامي، وسبب قوي لانحلاله وتمزقه يحمل تبعاته الجسام من لم يحسن الرعاية من المسؤولين عن التعليم في البلاد بل استهان بالأمر حتى استفحل الشر، وساءت العقبى وأصبح الإسلام غريباً كما بدأ.
ولا سبيل للخلاص من هذا الخطر الداهم، والخروج من عهدة الإثم البالغ إلا بتنفيذ ما يأتي:(4/426)
1- الإكثار في البلاد الإسلامية من إنشاء مكاتب التحفيظ للقرآن يذهب إليها الأطفال في بدء نشأتهم ليحفظوا بعض أجزاء من القرآن عن ظهر قلب مع قليل من المعلومات الأولية على أن يكون التعليم فيها إجباريا.
2- وجوب حفظ أجزاء من القرآن لا تقل عن ثلثه في المرحلة الابتدائية للتعليم موزعة في سنواته العديدة مع تفسير المحفوظ تفسيراً بسيطاً للمفردات والمقصود من الآيات.
3- متابعة ذلك في المرحلة الثانوية مع قليل من التوسع في التفسير يناسب نمو المدارك في هذه السن.
4- تكميل هذه المراحل في التعليم الجامعي حيث يكون الطالب قد كمل استعداده فيتم له حفظ أغلب القرآن، وفهم أكثر معانيه وحسن التوجيه إلى أحكامه ومراميه.
5- وفي كل هذه المراحل يكون هذا التعليم مادة إجبارية أساسية في التعليم يترتب على الرسوب فيها عدم الانتقال إلى صف أعلى، وتوضع مناهج حفظ القرآن لكل مرحلة بل لكل سنة على غرار مناهج العلوم الأخرى في المدارس في جميع المراحل.
6- يختار لتدريس مادة تفسير القرآن وتحفيظه للطلاب من يتوافر فيه الصلاح والتقى والغيرة الإسلامية والاحتفاء بالدعوة إلى الإسلام من المدرسين.
7- تخصص مكافآت شهرية أو سنوية لمن يلبي أمر التحفيظ في مكاتب التحفيظ في سائر القرى، والمدن تشجعهم وترغيبهم في حسن القيام بمهمتهم الجليلة وتصرف المصاحف والاجزاء للتلاميذ مجاناً ويمنح كل من أتم جزءاً مكافأة مالية، وهكذا في سائر الأجزاء في هذه المرحلة تشجيعاً له.
8- تخصص مكافآت مماثلة للحفاظ من التلاميذ لهذه المراحل التعليمية تشجعهم وتتفاوت بقدر اجتهادهم في الحفظ، والفهم.
9- إنشاء معاهد في البلاد الإسلامية لتجويد القرآن - بعد حفظه - وتلقى الروايات السبع المعروفة وذلك لتخريج حفاظ ثقات يعرفون بإتقان علم الروايات، والقراءات، وبذلك تبقى سلسلة الرواة متصلة وذلك من الفرائض في حق القرآن.(4/427)
10- تعميم هذا النظام بأسره في الدول الإسلامية بحيث تشتمل قوانين التعليم في كل دولة عليه.
11- يسمح لأي طالب أن ينتسب لأي معهد من هذه المعاهد مهما كانت جنسيته ما دام مسلماً حافظاً.
12- على المسلمين الذين يقيمون ببلاد غير إسلامية أن ينشئوا مكاتب لتحفيظ القرآن وتدريسه، ويمولوها يقدر الإمكان، وعليهم أن يتصلوا بالدول الإسلامية لمدهم بما في الإمكان من المساعدة.
(تجارة رابحة)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ, وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (الصف) .(4/428)
المكتبات العامة وأثرها في تثقيف الأمة
للدكتور محمود بابللى
إن تيسير أسباب المطالعة من أهم عوامل الثقافة، ومهما أوتي المرء من قدرة على اقتناء الكتب فإنه أعجز من أن يظفر بمجموعة كبيرة منها تحتوي مختلف أنواع الكتب أو المجلات أو الصحف، كما أنه أكثر عجزاً من أن تكون لديه مكتبة تضم الآلاف أو عشرات الآلاف من الكتب.
لهذا كانت المكتبات الكبرى من الأمور المتعذر تأمينها لدى الأفراد إلا ما ندر، وإذا ما وجدت لدى البعض مثل هذه المكتبة فإنها لا تتعدى أن تكون مكتبة خاصة ذات نطاق ضيق ومحصور من حيث نوع الكتب وكميتها واقتصارها على صاحبها.
والتعطش إلى الثقافة غير محصور بنوع من المعرفة، وإنما هو عام ويشمل العديد من فروع العلم والمعرفة، ويتمشى انتشار الثقافة طرداً وعكساً مع تقدم الأمة أو تأخرها.
والمثقف من أبناء الشعب هو الذي يجمع إلى معلوماته الخاصة بناحية معينة من المعلوم حصيلة اطلاعاته على كثير من الكتب في مختلف العلوم والفنون، مع ما اكتسبه من خبرات اجتماعية أو إنسانية في حسن معاشرته للآخرين أو تتبعه لأخبارهم أو أسلوب معيشتهم أو طراز حياتهم؛ لأن كل هذه الأمور تدخل في نطاق الثقافة، وترفع مستوى أصحابها.
وليس أدل على حب العلم والازدياد منه في هذه البلاد وفي غيرها من البلدان العربية من كثرة هذه المدارس والجامعات، وحرص الموجهين فيها على استيعاب جميع أبناء الأمة، ومن يفد عليها من الأمم الأخرى، ضمن نطاق ما تتسع له.
والعلم كما هو معروف لا يأتي إلا بالتعلم، والكتاب وسيلة لهذا العلم، والمدرسة مفتاح ومنطلق للتزود منه ومهما توسعت برامج التعليم فإنها قاصرة عن أن تشتمل على جميع عناصر المعرفة، ولا بد للمتعلم في سبيل توسيع معرفته من أن يعب من مناهل العرفان المبثوثة في بطون الكتب وما يلحق بها من وسائل الثقافة العامة، كالمجلات على اختلاف أنواعها والصحف والندوات العلمية.(4/429)
وإن حرص المملكة على بث البرامج الإذاعية عن طريق الراديو والتلفزيون وتوسيع هذه البرامج وتعميمها لأنحاء المملكة كافة ما هو إلا دليل على رغبة الدولة في نشر الثقافة والتوجيه العام؛ لينال كل فرد من أفراد هذه الأمة نصيبه من هذا الجهد المشكور.
والبرامج الإذاعية - عن طريق الراديو والتلفزيون - ذات تأثير كبير على توجيه الشعب فيما إذا روعي فيها صدق هذا التوجيه وحسن الرقابة عليها؛ لأنها أصبحت تدخل إلى بيوت الناس، وتنقل إليهم ما تبثه الإذاعة والشاشة وتفرض نفسها عليهم بشكل يجعل لها تأثيراً على التربية الاجتماعية يعطي ثماره في مستقبل هذه الأمة، لذلك كانت خطورة التلفزيون ومحاربة البعض له باعتباره أداة قد يكون لها من التأثير ما ذكرنا أو أكثر، فيما لو تغافل عنه المسؤولون في انتقاء ما يعرض على المشاهدين من هذه البرامج المتنوعة من أجنبية أو عربية أو محلية.
ولكن هل تغني هذه البرامج على اختلاف مواضيعها عن اقتناء الكتب أو الاطلاع على بعض ما فيها عن طريق المكتبات العامة، إن تعذر على البعض - أو على الكثير من أفراد الأمة - تأمين ذلك من مواردهم الخاصة؟
هذه البرامج التوجيهية نوع من أنواع الثقافة تقدمه الدولة إلى الشعب وتيسر له سبيله، ولكنه كما قلنا لا يكفي في تزويد أبناء الشعب مما ترجوه لهم - منهم - الدولة، والكتاب وحده هو الزاد الحقيقي الذي يتعطش إليه الراغب في العلم؛ لأنه أداة العلم ووسيلته.
وتجدر رقابة الكتب والصحف والمجلات كرقابة الإذاعة والبرامج التلفزيونية أو أشد؛ لأن للكتب وغيرها من المطبوعات تأثيراً كبيراً في وعي الأمة وعقليتها وسلوكها، لذلك كانت الرقابة وحسن التوجيه مطلوبين أيضاً على هذه الوسائل التثقيفية، بما يتفق وعقيدة هذه الأمة ورايتها التي تحمل شعار التوحيد وما يستلزم هذا الشعار من عمل واعتقاد.(4/430)
والإسلام - كشأنه في شتى أموره - أسبق من غيره في تقديم هذا الزاد إلى أتباعه خاصة وإلى الناس كافة، وقد أنزل عليهم رب العالمين كتابه لينهلوا من زاده الذي لا ينضب له معين، وصدق الله العظيم: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ}
والتزود من هذه الدنيا بخير زاد بالنسبة للمفهوم الإسلامي يدخل في شموله التزود من العلم حيث قال سبحانه وتعالى موجهاً رسوله الكريم أن يسأله الزيادة فيه: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} والعلم يبقى أجره لصاحبه بعد وفاته إلى يوم القيامة.
ويحدثنا القرآن العظيم في قصة ملكة سبأ مع سليمان عليه السلام، أن قدرة العفريت في جلب عرش بلقيس كانت دون قدرة صاحب العلم الذي أخذ علمه من الكتاب، فتمكن من أن يأتي لسليمان بالعرش المطلوب قبل أن يرتد إليه طرفه.
فالسر في هذه القدرة الخارقة كامن في هاتين الكلمتين اللتين نوه عنهما رب العالمين: {عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ} أي العلم ووسيلته التي هي الكتاب.
فهلا عملنا على توفير الكتاب للشعب وتيسير الحصول عليه وتمكين أفراده من التزود منه علماً ومعرفة وتقوى بأيسر السبل وأقربها تناولاً؟
ومن جملة العوامل التي تساعد على اقتناء الكتب وتشكيل مكتبات خاصة، عدم ارتفاع أسعار هذه الكتب وإسهام الدولة في تخفيض هذه الأسعار، وفي طباعة الكتب المخطوطة أو تجديد طبع ما نفد من أمهات الكتب، ومساعدة المؤلفين على طباعة إنتاجهم، وتقديم الجوائز التقديرية لهم، وإيجاد متفرغين منهم لينكبوا على إخراج بعض الموسوعات أو المعاجم التي نشهدها، وإيجاد مجامع علمية، وغير ذلك مما يساعد على تدعيم هذه النهضة والارتفاع بها إلى المستوى اللائق بأمة قال عنها رب العالمين: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} .(4/431)
وإن النهضة التي نلمس أثرها في شعب المملكة بشكل خاص لم تترك مجالاً من مجالات التقدم والرقي إلا شاركت فيه، وهذا شيء تحمد عليه، وسوف يذكر لها التاريخ هذه النهضة ولا يبخس حق العاملين في سبيلها.
وتدشين المكتبة العامة في مدينة الرياض من سنتين خلتا والإعلان عن تعميم المكتبات في جميع مدن المملكة مثل حي وبارز من الأمثلة العديدة لآثار هذه النهضة، ودليل عملي على الاتجاه الذي تسير فيه الدولة وبشرى للشعب في تعميم هذا الخير على جميع أبنائه في مختلف أطراف المملكة، مدنها وقراها.
ولهذا نستطيع أن نطمئن ذاك الرجل الذي تمنى أن تكون في جدة، هذه المدينة الرئيسية من مدن المملكة، والتي هي من دلائل نهضة هذه المملكة مكتبة عامة كبرى أو مكتبات تفي بحاجة الشعب للتزود من هذا الزاد المشروع المندوب، نطمئنه بأنه ستكون هنالك مكتبة عامة كبرى بإذن الله.
وفي هذه المدينة بالذات يوجد رجل من أبنائها، صاحب مكتبة خاصة تعتبر من أغنى المكتبات بالكتب العلمية، ينبئك عن أمثاله من أبناء جدة في حرصهم على اقتناء الكتب والتزود منها علماً ومعرفة وديناً، وهو الشيخ محمد نصيف، أمد الله في عمره ونفع به وبآثاره ومخلفاته، وقد بلغنا أنه أهدى مكتبته (هذه) القيمة إلى مدينة جدة لتكون نواة لمكتبة عامة، فجزاه الله عن بلده وأمته خير الجزاء وأكثر من أمثاله.(4/432)
ولما كان التسابق العلمي في عصرنا هذا بلغ شأواً بعيداً جداً، لم يكن ليدرك أو يتوصل إليه لولا تسهيل أسباب العلم والمعرفة لأبنائه وإذ كانت الأندية الثقافية والجمعيات العلمية، وقاعات المحاضرات العامة والمراكز الثقافية، والمكتبات العامة الكبرى، والمكتبات الخاصة بالمراكز العلمية والجامعات والمدارس والمعاهد، ومكتبات البلديات، والمكتبات العامة المتنقلة بين القرى، مع وسائل التثقيف الأخرى التي تشارك في تعميم الثقافة وتيسير إيصالها إلى أبناء الشعب في مختلف مدنه وقراه، من أكبر العوامل المشاركة في هذه النهضة العلمية المعاصرة.
لذلك فإن الإكثار منها معناه المساهمة في الأخذ بأسباب هذه النهضة وتبويئها المكانة اللائقة بها.
ولما كانت الغاية من هذا البحث هي (تسيلط الأضواء) إن صح هذا التعبير على المكتبات العامة وعلى أثرها في تثقيف الأمة، لهذا يجدر بنا أن نضرب مثلاً على ذلك ما كانت عليه دورنا العميلة وما كانت تحتويه من كتب، في وقت لم تتوفر فيه أسباب الطباعة كما هي عليه الآن إذ كانت الكتب تكتب باليد، ويستنسخ منها المئات لتعميمها ونشرها بين الناس، وكثرة الكتب المخطوطة التي تطبع في وقتنا الحاضر والموجود منها في مكتبات العالم الكبرى لأكبر دليل على مدى ما توصلت إليه حضارتنا في العصور الماضية.
وينقل لنا (آدم متز) في كتابه (الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري) عن بعض المراجع الإسلامية أنه كان في كل جامع كبير مكتبة؛ لأنه كان من عادة العلماء أن يوقفوا كتبهم على الجامع، ويقال إن خزانة الكتب بمرو كانت تحتوي كتب يزدجرد لأنه حملها إليها وتركها، ص 322.(4/433)
وفي هامش هذه الصفحة يقول: "وقد ترنم ياقوت بذكر مكاتب مرو مع تأخر الزمن به، وكان قد أمضى بمرو ثلاث سنين، فتغنى بأيامه فيها شعراً جميلاً، وكان بها على عهده اثنتا عشرة خزانة بأحدها نحو من اثني عشر ألف مجلد"، يقول ياقوت: "وكانت (الخزائن) سهلة التناول لا يفارق منزلي منها مائتا مجلد وأكثر بغير رهن تكون قيمتها مائتي دينار، فكنت أرتع فيها وأقتبس من فوائدها وأنساني حبها كل بلد، وألهاني عن الأهل والولد" (معجم البلدان ج4 ص 509-510) من الطبعة الأوروبية.
ويقول في الصفحة 325: "وقد عمل علي بن يحيى وكان ممن جالس الخلفاء، حوالي منصف القرن الثالث الهجري خزانة كتب عظيمة في ضيعته وسماها خزانة الحكمة، وكان يقصدها الناس من كل بلد، فيقيمون فيها ويتعلمون منها صنوف العلم، والكتب مبذولة لهم والصيانة مشتملة عليهم، والنفقة في ذلك من مال علي بن يحيى".
ويقول أيضاً في الصفحة 329: "على أنه قد ظهرت إلى جانب دور الكتب مؤسسات علمية أخرى تزيد على دور الكتب بالتعليم أو على الأقل بإجراء الأرزاق على من يلازمها، فيحكي عن أبي القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي الفقيه الشافعي المتوفى عام 323هـ، أنه أسس داراً للعلم في بلده، وجعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم وقفاً على كل طالب علم، لا يمنع أحد من دخولها، وإذا جاءها غريب يطلب الأدب، وكان معسراً أعطاه ورقاً وورقاً (أي الفضة) ".
وقد حدثتنا كتب التاريخ أن بغداد كان فيها من المكتبات ما لا يحصى عدده، حتى جاءها الغزو الوحشي فقضى على معالمها، وقد تغير لوم مياه دجلة من مداد الكتب التي ألقيت فيها.
وأثر هذه النهضة العلمية الإسلامية بارز وناطق في مكتبات العالم الكبرى حيث حرصت هذه المكتبات على جمع الكتب والمخطوطات الإسلامية، وإن كل زائر لهذه المكتبات ليدهش مما تحتويه من آثارنا الخالدة التي تهيب بأبناء الأمة الإسلامية أن يعيدوا هذا الماضي المجيد في مستقبل مشرق رائد.(4/434)
وبالإضافة إلى هذه المكتبات العامة الكبرى - في عواصم العالم - فإن إلى جانبها مكتبات عامة أخرى على نطاق أضيق، منها ما هو مستقل بذاته، ومنها ما هو مرتبط بالمعاهد والكليات.
وجميع هذه المكتبات تيسر لروادها المراجعة، حتى إنها تفتح أبوابها في الوقت الذي يسهل على راغب المطالعة الحضور إلى هذه المكتبات في غير أوقات الدوام الرسمي للموظفين أو المعاهد العلمية، أي أنها لا تقتصر على دوام واحد لمدة ثماني ساعات فقط، وإنما تمتد إلى ضعف هذه المدة، فيتمكن بذلك الموظف والعامل والطالب وغيرهم من الاستفادة من هذه المكتبات بالحضور إليها خارج أوقات عمله.
وهناك في بعض المدن الكبرى مكتبات عامة تعرف باسم (المكتبات البلدية) وهي منتشرة هناك بكثرة، وتابعة لكل قسم من أقسام المدينة، وهي تسهل على أبناء هذا القسم أو المنطقة التزود من الكتب والإطلاع عليها في المكتبة، واستعارتها بإخراجها من المكتبة وفقاً للشروط التي يلتزم بها المستعير، ولا يدفع المستعير أي ضمان لقاء استعارته الكتب من المكتبة، وإنما يملي استمارة باسمه ومحل إقامته واسم الكتاب الذي يريده ورقمه، والمدة التي سيبقى الكتاب عنده فيها.
كما أن تيسير إعارة الكتب يحقق وجود أكثر من نسخة لكل كتاب، ومن هذه الاستعارة أو من المطالعة بشكل عام تتمكن الدولة من معرفة أي اتجاه يتجه إليه أبناؤها في مطالعتهم لهذه الكتب، وأي عنصر من عناصر الثقافة يقبلون عليه، وعلى ضوء ذلك تعمل الدولة على توجيه أبنائها الوجهة التي تراها أصلح لهم في دعم هذا الاتجاه أو تحويله، بأساليبها الخاصة إلى الوجهة الأخرى.(4/435)
وهناك مثل آخر على تيسير سبل الثقافة لغالبية أبناء الشعب ممن يسكن بعيداً عن المدن، كسكان الأرياف والمناطق الزراعية البعيدة، فإن الدولة تؤمن لهم مكتبات عامة متنقلة تيسر على سكان تلك المناطق النائية استعارة الكتب في فترات محددة، حيث تطوف عليهم هذه المكتبات المتنقلة في كل أسبوعين مرة أو في كل شهر على أبعد تقدير.
ولا أريد أن أتوسع في هذه الاستشهادات ولكني أردت أن أضرب المثل على اعتناء بعض الأمم بأبنائها من هذه الناحية العلمية الهامة بتيسير أسباب العلم والثقافة لهم بشتى الطرق والوسائل.
والإسلام الذي تقوم رسالته على العلم والتزود من العلم إلى جانب الأسس الأخرى التي يدعو إليها، لم يسبقه أحد، في هذه الناحية، حتى إن أول آية أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم تتضمن الأمر بالقراءة وتكرار الأمر بالقراءة وربط القراءة بالقلم الذي هو ربط وسيلة الكتابة، والكتاب الذي هو مصدر القراءة.
يقول تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ, خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ, اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ, الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ, عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فهي دعوة صريحة إليه، ورأس الكتب جميعاً هو كتاب الله سبحانه الذي يدعونا إلى قراءته وتدبره والعمل بأحكامه.
يقول عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (القمر 17) .
ويقول سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد 24) .
ويقول أيضاً: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} (ص 29) .(4/436)
وعلى هذا تكون المكتبات العامة ذات أثر كبير على تثقيف أبناء الأمة، ويكون إيجادها والإكثار منها، وتيسير أسباب المطالعة فيها من الأمور التي يدعو إليها الإسلام ويرغب فيها؛ لأنه دين العلم والإشادة بالعلم والعلماء، والعلم - كما قلنا في مطلع هذا البحث - لا يأتي إلا بالتعلم، والكتاب هو الوسيلة الأولى لهذا العلم، وتوفير هذا الكتاب وتيسير الوصول إليه وتعميمه على أبناء الأمة هو من مقتضيا المصلحة الكبرى التي يقوم على تحقيقها الحكم الصالح في كل زمان ومكان.
آداب المجالس
إذا جلست فأقبل على جلسائك بالبشر والطلاقة، وليكن مجلسك هادئاً، وحديثك مرتباً واحفظ لسانك من خطئه، وهذب ألفاظك، والتزم ترك الغيبة، ومجانبة الكذب والعبث بأصبعك في أنفك، وكثرة البصاق والتمطي والتثاؤب والتشاؤم، ولا تكثر الإشارة بيدك، واحذر الإيماء بطرفك إلى غيرك، ولا تلتفت إلى من وراءك، فمن حسنت مجالسته ثبتت في الأفئدة مودته، وحسنت عشرته، وكملت مروءته.(4/437)
العدد 11
فهرس المحتويات
1- أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم (2) : بقلم الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
2- أضواء من التفسير: للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
3- الخير في الاجتماع: بقلم الشيخ عبد الله بن صالح المحسن
4- الدّيانة البوذية: بقلم الشيخ محمد ضياء الرحمن الأعظمي
5- القيم الإنسانية في الصوم: بقلم الشيخ محمد وفا هاشم
6-ذلك الكتاب لا ريب فيه: بقلم الشيخ محمود عبد الوهاب فايد
7- دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطى
8- شعر أهل الحديث (2) : بقلم الأستاذ عبد العزيز القارئ
9- فضل الجهاد والمجاهدين: عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
10 -في ظلال سورة الأنفال: بقلم الشيخ أبي بكر جابر الجزائري
11- قبل فوات الأوان: للطالب عارف عبد الله الحسن
12- كلمة وفد الجامعة الإسلامية في مؤتمر جمعية الجامعات الإسلامية المنعقد في مدينة تونس
ألقاها فضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية الشيخ محمد بن ناصر العبودي
13- لمحة عن مرض التدرن الرئوي ((السل)) : بقلم الدكتور محمد محسن خان مدير مستوصف الجامعة
14- ما وقع في القرآن بغير لغة العرب: بقلم الدكتور محمد تقي الدين الهلالي
15- من الصحف والمجلات - العسل علاج لا يقدّر بثمن! : ترجمة الطبيب محمد نزار الدقر
16- من تاريخ الدعوة السلفية: الشيخ عبد الحميد بن باديس
17- منطق ومناطقة: بقلم الشيخ رمضان أبو العز
18- يستفتونك: يتولى الرد على أسئلة القراء فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعةالإسلامية
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(4/438)
أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم
بقلم الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
2ـ تواضعه صلى الله عليه وسلم وقربه من الناس:
ولم يحصل لأحد من البشر ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم من توفر صفات الكمال وبلوغ الحد الأعلى والغاية القصوى التي يمكن أن يبلغها إنسان فكان عليه الصلاة والسلام مضرب المثل في الكمال الإنساني والسمو الخلقي قبل البعثة وبعدها وقد خصه الله بخصائص وميزه بميزات امتاز بها على البشر في الدنيا والآخرة فجعله أفضل المرسلين الذين هم خير البشر وجعله خاتمهم وسيدهم وإمامهم وأولهم خروجا من القبر وأولهم تقدما للشفاعة وأولهم مشفعا وقال صلى الله عليه وسلم متحدثا بنعمة الله عليه ومبينا للأمة منزلته عند الله ليعتقدوا ذلك ولينزلوه المنزلة اللائقة به صلى الله عليه وسلم من الإجلال والتعظيم والمحبة والمتابعة قال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع". رواه مسلم وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ومع هذه الخصائص والميزات التي سما بها إلى منزلة لا يساويه فيها غيره من أولى العزم من الرسل فضلا عمن سواهم كان صلى الله عليه وسلم أشد الناس تواضعا وأقربهم إلى الضعيف والمسكين وأبعدهم من الكبر والترفع.
ولما بين صلى الله عليه وسلم لأمته بعض ما خصه الله به بقوله: "أنا سيد ولد آدم.." أضاف إلى ذلك ما يبريء ساحته من الفخر- وحاشاه من كل نقص- فقال: "ولا فخر"أخرجه الترمذي وابن ماجة والإمام أحمد من حديث أبي سعيد رضي الله عنه. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وإنما أخبر صلى الله عليه مسلم بمنزلته عند الله لأنه لا سبيل للأمة إلى معرفة ذلك إلا بواسطته والتلقي عنه - صلى الله عليه وسلم- إذ لا نبي بعده يخبر عن عظم منزلته عند الله كما أخبر هو أمته بفضائل الأنبياء قبله صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم أجمعين.(4/439)
ولما خير صلى الله عليه وسلم بين أن يكون عبدا رسولا أو نبيا ملكا اختار مقام العبودية والرسالة على مقام النبوة والملك, أخرجه الإمام أحمد في المسند, وروى البيهقي عن أنس قال: "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وذقنه إلى راحلته متخشعا"، وروى ابن إسحاق في السيرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضع رأسه تواضعا حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح حتى أن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل". قال ابن كثير: "وهذا التواضع في هذا الموطن عند دخوله صلى الله عليه وسلم مكة في مثل هذا الجيش العرمرم بخلاف ما اعتمده سفهاء بني إسرائيل حين أمروا أن يدخلوا باب بيت المقدس وهم سجود ـ أي ركع ـ يقولون حطة فدخلوا يزحفون على أستاههم وهم يقولون حنطة في شعرة) . وروى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال:"كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت"، وروى مسلم في صحيحه عن أنس "أن امرأة كان في عقلها شيء فقالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال: "يا أم فلان أنظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها"، وفي صحيح البخاري عن الأسود قال: سألت عائشة ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في أهله؟ قالت: "كان في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة". وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لو دعيت إلى ذراع أو كراع لقبلت"، وكان صلى الله علنه وسلم إذا مر بالصبين سلم عليهم. روى مسلم في صحيحه عن شعبة عن سيار قال:"كنت أمشى مع ثابت البناني فمر بصبيان فسلم عليهم وحدث ثابت أنه كان يمشي مع أنس فمر بصبيان فسلم عليهم وحدث أنس أنه كان يمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر بصبيان سلم عليهم"وكان صلى الله عليه وسلم يخالط أصحابه ويداعب الصبي الصغير يقول أنس رضي الله عنه فيما رواه عنه البخاري في(4/440)
الصحيح: "إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخ لي صغير: يا أبا عمير ما فعل النغير؟ ", وفي رواية عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا وكان لي أخ يقال له أبوعمير, قال: أحسبه فطيما. وكان إذا جاء قال:"يا أبا عمير ما فعل النغير، نغير كان يلعب به".
وفي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي: أف ولا لم صنعت؟ ولا ألا صنعت؟ ".
وكان صلى الله عليه وسلم يركب الدواب ويردف بعض أصحابه وراءه عليها، وكان صلى الله علنه وسلم يرشد أمته إلى التحلي بصفة التواضع ويرغبهم في التخلق بها، ومما قاله صلى الله علنه وسلم في ذلك:"وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله". رواه مسلم، وهو صلى الله عليه وسلم سيد المتواضعين وأسوتهم وقد رفعه الله إلى أعلى الدرجات رفع قدره وأعلى منزلته وخلد ذكره.
ومع هذا التواضع والخلق العظيم الذي تفضل الله به على عبده ورسوله وخليله محمد صلى الله عليه وسلم كان أصحابه رضي الله عنهم لا يملئون أعينهم بالنظر إليه صلى الله عليه وسلم إجلالا واحتراما له صلى الله عليه وسلم.
يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه في حديث له أخرجه مسلم في صحيحه: "وما كان أحد أحب إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه"
3ـ رحمته صلى الله عليه وسلم بأمته ورفقه بها وشفقته عليها:
وبفضل الله ورحمته عليه صلى الله عليه وسلم كان رحيما رفيقا كما قال الله تعالى مخاطبا إياه: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} فلم يحصل لأحدمن البشر ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الاتصاف بالرحمة والرفق لا يقاربه في ذلك أحد ولا يدانيه.(4/441)
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعربيا بال في طائفة المسجد فثار إليه الناس ليقعوا فيه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوه واهر يقوا على بوله ذنوبا من ماء أو سجلا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين". أخرجه البخاري وغيره.
وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا قال فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قط أشد غضبا في موعظة منه يومئذ. قال: فقال: "يا أيها الناس إن فيكم منفرين فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز فإن فيهم الكبير والمريض وذا الحاجة."
وعن أبي هريرة رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم للناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ماشاء".
وعن أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه سلم قال: "إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه".
وعن أنس رضي الله عنه قال: "ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتن أمه". وعن أبي قتادة قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم وأمامة بنت العاص على عاتقه فصلى فإذا ركع وضعها وإذا رفع رفعها"، وقال صلى الله عليه وسلم:"لولا أن أشق الى أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة".(4/442)
وهذه الأحاديث كلها في صحيح البخاري، ولما قام صلى الله عليه وسلم بأصحابه ليلا يصلي بهم في رمضان خشي أن يفرض عليهم فترك الصلاة بهم، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد فصلى بصلاته الناس ثم صلى الثانية فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله فلما أصبح قال: رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفترض عليكم وذلك في رمضان".(4/443)
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم"، ولما واصل صلى الله عليه وسلم في صيامه وعلم الصحابة رضوان الله عليهم ذلك واصلو معه فنهاهم عن الوصال إشفاقا عليهم قالوا فإنك تواصل, قال اني لست كهيئتكم, ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصوم فقال له رجل من المسلمين: إنك تواصل يا رسول الله قال وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني فلما أبو أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال: لو تأخر لزدتكم كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا". فإنه صلى الله عليه وسلم نهاهم عن الوصال رحمة بهم وشفقة عليهم فلما راجعوه في ذلك رغبة منهم في موافقته واصل بهم وكان ذلك آخر الشهر يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال وقال: "لو تأخر لزدتكم", كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا وهذا منه صلى الله عليه وسلم إرشاد عملي وتأديب نبوي للصحابة الكرام رضي الله عنهم ليوقفهم على ضعفهم وأن الوصال يشق عليهم فيبتعدوا عنه من تلقاء أنفسهم وهذا التأديب النبوي يشبهه ما لو رأى والد ولده يحاول العبث بالنار فيعمل على تجنيبه ضررها بأن يأخذ بيده ويضع أصبعه برفق على طرف جمرة منها ليدرك مدى ضررها فيكون حذرا منها ويبتعد عن الوقوع فيها لأن والده قد أوقفه على مدى ضررها.(4/444)
وفي صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه لما شمت وهو في الصلاة رجلا عطس ووجد من الصحابة إنكار عليه قال: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني قال: "إن الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وكان صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن أحد من أصحابه ما يحتاج إلى تنبيهه عليه قال في خطبة:"ما بال قوم يفعلون كذا ما بال رجال من أمتي يقولون كذا", وما أشبه ذلك, وذلك ليعدل عنه من صدر منه وليحذر الوقوع فيه من لم يباشره.
4ـ عفوه وحلمه صلى الله عليه وسلم:(4/445)
وكما كان صلى الله عليه وسلم غاية في الرحمة والشفقة فهو غاية في العفو والحلم والصفح والصبر والتحمل، وسيرته العطرة حافلة بالوقائع الدالة على ذلك. ففي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه، قال: "غزونا مع الرسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة قبل نجد فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في واد كثير العضاة, فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها, قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن رجلا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف صلتا في يده فقال لي: من يمنعك مني، قال: قلت الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني، قال: قلت الله، قال: فشام السيف فها هو ذا جالس ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم". وهذا لفظ مسلم. وعند البخاري: "ولم يعاقبه وجلس". وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم, قالت عائشة ففهمتها فقلت: وعليكم السام واللعنة قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مهلا يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله فقلت يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قلت: وعليكم.."(4/446)
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت:"ماخير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثما فإن كان إثما كان أبعد الناس منه وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها"، وروى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أنس رضي الله عنه قال:"كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية فأدركه أعرابي فجبذ بردائه جبذة شديدة, قال أنس: فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء."
–البقية في العدد القادم -(4/447)
في ظلال سورة الأنفال
بقلم الشيخ: أبي بكر جابر الجزائري
المدرس في كلية الشريعة بالجامعة
وقال الله عز وجل:
{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ. ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} .
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وبعد:
أخانا القارئ الكريم، هذه ثلاث آيات أخرى من سورة الأنفال ندعوك لتتفيأ ظلالها الوارفة الندية معنا. فدونك أيها الأخ خطاب الله العلي العظيم فاستمع إليه وهو يوجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في جلال وجمال: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} .
وترجمة هذا الخطاب الذي استمعت إليه وتفسيره الذي يقربه من ذهنك وفهمك هو: أذكر أيها الرسول لأولئك الذين تنازعوا في الأنفال ـ غنائم بدر ـ وساءهم أن تكون لهم وحدهم دون سواهم، أذكر لهم مذكرا إياهم بأن النصر الذي كانت الأنفال به، ووجدت بسببه ليس هو من صنع أيديهم ولا هم الذين أوجدوه حتى يكونوا أحق بالغنائم وأولى بالأنفال إنما صنع النصر وأوجده من أوحى إلى ملائكته: {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} وامتثلت الملائكة أمره فألمت بقلوبكم ـ أيها المؤمنون ـ ونفخت فيها روح الشجاعة والثبات والاستبسال، ولا مستها فألهمتكم الصبر وبشرتكم بالنصر، فبذلك ثبتم وانتصرتم.(4/448)
أذكر لهم أيها الرسول أن صانع النصر وموجده من وصل بحفنة التراب التي ألقاها عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم في وجه أعدائه فوصل بها إلى كل وجه وأدخلها في كل عين فمرج أمر المشركين المقاتلين، وتقطع سلك نظامهم فتهيئوا للهزيمة واستهدفوا للانكسار {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} .
أذكر لهم وذكرهم أن النصر الذي كان لهم على عدوا الله وعدوهم لم يكن من عند غير الله الذي ألقى بالرعب في قلوب مقاتليكم فخارت لذلك قواهم، وفقدوا في الانتصار عليكم كل أملهم ومناهم، أمكنكم منهم وسلطكم عليهم فقطعتم دابرهم وحطمتم أولهم وآخرهم، وكنتم كما قيل لكم: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} .
وشيء آخر ضمن هذا التذكير عليهم أن يفهموه ويفقهوه وهو أن ما أصاب الله به أعداءهم من الهزيمة والانكسار لم يكن إلا نتيجة مشاقة هذا العدو لله ولرسول الله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} .
وها أنتم أيها المنتصرون كدتم تنزلقون باختلافكم وتنازعكم من أجل الغنيمة والمادة المرذولة، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين. احذروا الوقوع في المشاقة فإن سنة الله فيمن شاق الله ورسوله واحدة لا تتبدل وهي الحرمان والخذلان. واعلموا أن ما قيل لأعدائكم يوم مضت سنة الله فيهم بالهزيمة النكراء والعقاب الصارم الأليم {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} سيقال لكل من سلك سبيلهم في مشاقة الله ورسوله، وتمضي فيه سنة الله بالعذاب والعقاب لأن سنة الله واحدة لا تختلف ولا تتخلف والجزاء أثر طبيعي للأعمال.(4/449)
والآن وأنا أحسبك أخي القارئ قد فهمت مدلول هذه الآيات وأدركت مغزاها، وعرفت صلتها بالآيات السابقة لها أريد قبل أن أنتقل معك إلى جانب آخر من البحث أمر بك مرة أخرى في ظلال هذه الآيات مستعرضين معانيها، واقفين على بعض الجوانب من أسرارها وهدايتها، قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} الآيات.
المعنى: أذكر أيها الرسول للذين شق عليهم أن لا يستأثروا بالغنيمة الوقت الضيق الحرج الذي واجهوا فيه قوة قريش الحربية تلك القوة التي لا قبل لهم بها ولا قدرة لهم عليها بحيث لو وكلوا فيها ٍٍِإلى أنفسهم لم يكونوا ليخرجوا منها سالمين فضلا عن أن يخرجوا منها ظافرين منتصرين، حيث أوحى الله إلى الملائكة أن ثبتوا الذين آمنوا ثبتوا قلوبهم حتى لا تفزع من الهول، ولاتنخلع من الرعب والخوف، ثبتوا الأقدام حتى لا تزول ولا تتزلزل، وباشرت الملائكة مهمتها على الفور فألمت بالقلوب تلهمها الصبر وتبشرها بالنصر.
وسرعان، بعد أن ألقى الله الرعب في قلوب الكافرين ما انقلبت المعركة إلى صالح المؤمنين فدارت رحى الحرب تطحن أعداء الله طحنا، ولم تلبث حتى تكشفت عن هزيمة كبرى أصيب بها المشركون، وعن نصر حاسم فاز به الموحدون.
ولكل من النصر والهزيمة علة ظاهر وسر غير خاف، فعلة النصر الإيمان بالله ورسوله، وسره طاعة الله ورسوله، وعلة الهزيمة الكفر بالله ورسوله, وسرها المشاقة لله ولرسوله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} .
ووراء ذلك حكمة عظيمة: التعليم بأن النصر في المعارك وفي كل زمان ومكان لا يتوقف الحصول عليه ولا الفوز به على كثرة العدد، ولا على قوة العدد، وإنما يتوقف على الإيمان الصادق، وطاعة الله في شرعه وسننه والرسول في محبته وصدق متابعته.
كما هي التنبيه إلى عوقب الكفر الوخيمة، ونتائج المشاقة لله ورسوله وما يترتب عليها من الخزي والهزائم والخذلان:(4/450)
{وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ، ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} .
هداية الآيات:
من هداية هذه الآيات الثلاث ما يلي:
1ـ تقوية إيمان المؤمنين بصدق وعد الله تعالى بالدفاع عنهم في قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} وبنصرتهم في قوله تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} .
2ـ الإعلام بأن نصر الله وتأييده يمنحهما المؤمنون به القائمون على حدوده الملتزمون للسير على منهاجه، والعاملون بسننه في خلقه.
3ـ بيان أسباب الهزائم وعوامل الخذلان في حروب الناس، وأنها المشاقة لله ورسوله بمعاداتهما ومخالفة أمرهما ونهيهما، والبعد عن طاعتهما.
4ـ بيان أن شقاء هذه الأمة في الدنيا وحيرتها وسوء حالها فيها مرده إلى خروجها عن الإسلام وتركها لشرائعه وأحكامه ووإهمالها لآدابه وأخلاقه.
5ـ بيان أن عذاب الآخرة منوط بالكفر المانع للمرء من تطهير نفسه وتزكينها بالإيمان الصحيح والعمل الصلح مع البعد بها عما يدنسها من الشرك والمعاصي.
لفت نظر إلى خلاف لا يضر:
اختلف في مباشرة الملائكة يوم بدر للقتال فمن قائل إن الملائكة قد باشرت القتال بالفعل، وقتلت العديد من المشركين، واليهم كان الأمر في قوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} الآية.ومن قائل إن الملائكة لم تباشر القتال، والأمر الأول فاضربوا فوق الأعناق كان للمؤمنين، وإنما مهمة الملائكة كانت الإلمام بالقلوب، وملامسة الأرواح للإلهام والتقوية والتبشير.
هذا هو القدر المختلف فيه بين أهل العلم. أما نزول الملائكة وكونهم ألفا، ومخالطتهم للصفوف المقاتلين، وتأثيرهم في المعركة حتى أصبحت في صالح المؤمنين فهذا محط إجماع المسلمين وذلك لدلالة النصوص القرآنية وصحة الأخبار النبوية عليه.(4/451)
مع العلم أن الملائكة إن باشرت القتال فإنها لم تكن على هيأتها الأصلية التي خلقها الله تعالى عليها حتى يقال: ما هناك حاجة إلى ألف من الملائكة أن الملك الواحد يكفي لا هلاك كل المشركين، كما فعل بقرى لوط وجعل عاليها سافلها وإنما باشرتها وهي في صورة بشر عليها حتى عمائم البشر كما ورد في الأثر، وحينئذ فلا محل للتعجب ولا للاستغراب فضلا عن النفي والإنكار.
مباحث الألفاظ:
1ـ ((إذ)) ظرف يفسر بوقت وهو متعلق بفعل: أذكر.
2ـ الوحي: الإعلام الخفي السريع وهو سبيل المعرفة إلى ما في عالم الغيب من أسماء الله وصفاته وشرائعه وأحكامه، ووعده ووعيده، ومحابه ومسا خطه، وما أعد لأوليائه وأعدائه.
3ـ الملائكة: خلق من خلق الله خلقهم من نور، وطبعهم على طاعته, وكرمهم بعبادته, يسبحون الليل والنهار لا يفترون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
4- الرعب: انزعاج النفس بتوقع المكروه.
5ـ المشاقة كالمحادة والمخالفة لله والرسول وذلك بالكفر بهما ومعصيتهما ومعاداتهما.(4/452)
قبل فوات الأوان
للطالب عارف عبد الله الحسن
هل تفكرت أيها الإنسان؟
برهة قبل أن يفوت الأوان
إن دنياك ساعة سوف تفنى
وديار الأخرى هي الحيوان
ليس يبقى ثوب البقاء لباسا
أبدا إنه له............... إبان
فتيقن أن المنية.. تأتى
قبل أن ينتهي بك البنيان
واغتنم فرصة الحياة وإن طا
لت عليك الأيام والأزمان
أين من كان يحكم الروم يوما؟
أين كسرى وهل له إيوان؟
أين أجدادنا الأولى أنجبونا؟
عجبا بل وأين ذاك الزمان
فني الكل والمهيمن00 باق
فاذكر الله انه المستعان
الجهل نسيت ذا أم لماذا؟
حذرا لا يغرك الشيطان
هو شر لأهله يا أصيحا
ب الحجا حيث حظه الحرمان
جنة الخلد للمطيعين فيها
كل ما يشتهي وحور حسان
جد في نيلها فان سواها
في زوال نعيمه خسران
ودع الكبر واتق الله ربا
يكرم المرء عنده أويهان
يوم لا تنفع البنون ولا الما
ل سوى ما يرضى به الرحمن
ذاك يوم ما أعظم الهول فيه
فانتبه سوف يوضع الميزان
فترى الناس أجمعين حيارى
كل فرد كأنه سكران
من سعيد يرجو عظيم ثواب
وشقي أذله الطغيان
يوم هم بارزون قال الهي
لمن الملك حيث لا سلطان؟
فإلى من مآبنا وإلى من؟
هل تفكرت أيها الإنسان؟(4/453)
كلمة وفد الجامعة الإسلامية في مؤتمر جمعية الجامعات الإسلامية
المنعقد في مدينة تونس
ألقاها فضيلة الأمين العام للجامعة الإسلامية الشيخ محمد بن ناصر العبودي
عقد بمدينة تونس في 25يناير عام 1971م الموافق 27 القعدة عام 1390هـ مؤتمر جمعية الجامعات الإسلامية. وقد حضر المؤتمر وفود يمثلون بعض الجامعات الإسلامية.هذا وقد مثل الجامعة الإسلامية في المدينة في هذا المؤتمر:
1:فضيلة الشيخ محمد بن ناصر العبودي الأمين العام للجامعةـ رئيسا للوفد.
2ـ فضيلة الشيخ محمد بن صالح المرشد عميد كلية الشريعةـ عضوا.
3ـ فضيلة الشيخ عبد العزيز محمد القويقلى عميد كلية الدعوة وأصول الدين ـ عضوا.
وقد ألقى فضيلة رئيس الوفد كلمة جامعة المدينة المنورة ونصها:
سماحة الرئيس، أصحاب الفضيلة الأعضاء:
إن الحمد لله، وصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد، نحييكم بتحية الإسلام، تحية من عند الله مباركة طيبة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إنها تحية الإسلام من منبع الإسلام، ومهبط الوحي، ومهوى القلوب المسلمين، من المدينة المنورة مهاجر رسول الله موطن المهاجرين، والأنصار.
أيها الإخوة الكرام من الأساتذة والمشايخ:
انه ليسرنا أن نحضر اجتماعكم هذا الم بارك أصالة عن أنفسنا، ونيابة عن سماحة رئيس الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة ,وعن جميع الأساتذة, والمدرسين في الجامعة، وعن طلابها الذين جاءوا إليها من سائر أقطار العالم.
وان الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة إذ تشارك في هذا الاجتماع للمرة الأولى لترجو أن يستمر الاتصال، والاجتماع بأعضاء جمعيتكم الموقرة، وأن يكون منه كما هو مأمول الفائدة المرجوة لنا جميعا التي هي في صالح الإسلام والمسلمين.
أيها الإخوة:(4/454)
إن الجامعة الإسلامية بالمدينة قد أسست عام 1371هـ الموافق لعام1961 م أي لم تستكمل السنوات العشر بعد وان الغرض من إنشائها كان توفير التعليم الإسلامي الصحيح لأبناء المسلمين من كل بقاع العالم، وهي منذ أن أنشئت وجلالة الملك المعظم خادم الحرمين الشريفين جلالة الملك فيصل بن عبد العزيزـ حفظه الله ـ لا يبخل بجهد يبذل، ولا بمال ينفق في سبيل تدعيمها، وتمكينها من القيام بمهمتها على خير وجه، حتى أصبحت الآن تظم طلابا ينتمون إلى 74الدولة، وما زالت تستقبل الطلاب الوافدين، وقد جرت عادة الجامعة على أن لا تزيد نسبة الطلاب السعوديين فيها 20% وان تكون بقية المقاعد مخصصة كلها لأبناء المسلمين من خارج المملكة توزع بينهم حسب الحاجة، وتقوم الجامعة باستقدام الطلاب على نفقتها، ثم إسكانهم ودفع نفقات معيشتهم حتى ينهوا دراستهم، وهي تشعر أن هذا جزء من واجب هذه البلاد المقدسة نحو المسلمين.
أيها الإخوة:(4/455)
إن الواجب الملقى على عواتقنا جميعا واجب عظيم، ألا وهو واجب التبليغ، والتبيين، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني ولو آية"، الحديث، وتوعد سبحانه وتعالى من لم يقم بهذا الواجب، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} ، وفي هذه المرحلة بالذات التي تتداعى فيها الأمم الأجنبية على الأمة الإسلامية بأجزائها، وجماعاتها، وعقائدها الغريبة عن الإسلام، كل حزب، وطائفة فرحة بما لديها، داعية إليه تحاول أن تجتذب ناشئة المسلمين إلي جانبها فتبعدها عن دينها، وتعزلها عن ثقافتها الإسلامية الصحيحة.هذه المرحلة التي نرى فيها أصحاب الأديان المخالفة يبذلون الجهود العظيمة، والأموال الطائلة، ويجندون الرجال ذوى الخبرات الطويلة في نشر دينهم، وتثبيت مبادئهم.
لاشك أننا نحن المشتغلين بالعلوم الإسلامية، وأصحاب التوجيه الديني أولى من غيرنا بذلك، وأحرى أن نقوم لله، وندعو الخلق إلى الدين الإسلامي الحنيف لأنه هو دين القوة، والعزة.
أيها الإخوة:
إننا نعتقد أن الدين الإسلامي بصفائه، ونقائه، وسماحته هو الدين الصالح الملائم لكل عصر، ومصر، وأن من واجب العلماء، والدعاة أن يعرضوه للناس بهذه الطريقة، وعلى طبيعته الصافية النقية الخالية من شوائب الشرك والبدع مما أحدثه الجاهلون، وابتدعه المبتدعون مما يخالف حقيقته، ويتباين مع قواعده.(4/456)
إننا يجب علينا أن نرجع إلى مصادر الإسلام الأولى، إلى كتاب الله تعالى نتدبر آياته، ونتفقه في أحكامه، ونستنبط الحلول لمشكلاتنا المعاصرة من نصوصه.
ويجب علينا الرجوع إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نهتدي بهداها، ونطبق ما صح عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ من الحديث مستعينين في ذلك كله بما خلفه علماء الأمة من التراث الإسلامي الصالح، ثم نعرض هذا الإسلام النقي من هذين المصدرين الأساسيين على الناس جميعا مسلمهم وكافرهم، لأن فيهما بيان كل ما تحتاج إليه الأمة قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ـ: "ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شرما يعلمه لهم" أخرجه مسلم في صحيحه، أما المسلم فلتبصيره وإرشاده حتى يصلح أمره، وتستقيم حاله، وأما غير المسلم فلهدايته إلى سبيل الرشاد، وإخراجه من الظلمات إلى النور.
ولاشك في أننا سنكون الناجحين في الحالتين كلتيهما إذا أخلصن وصدقنا، ويكون الإسلام هو الرابح المتنصر المنتشر إن شاء الله.
إننا نعلم جميعا أن كثيرا من الناس قد ملوا مادية المدنية الحديثة، وطغيان الجسد على الروح فيها وهم يبحثون الآن عن دين جديد، ومبادئ غير مبادئ تلك المدنية، ترتاح له القلوب، وتطمئن له الضمائر، وإنهم سوف يجدون في الإسلام النقي الخالص ما يشبع جوعهم، ويروي ظمأهم، ولكن العقبة الكأداء وهي البلية العظمى أن كثيرا من المسلمين أو المنتسبين إلى الإسلام لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، وهم بواقعهم، وبأقوالهم، وأفعالهم أعظم منفر لغير المسلمين عن الإسلام، وأعظم سبب يصد من يريدون الدخول إلى الإسلام عن الدخول فيه.(4/457)
لذلك فان واجبنا -كما قلت ـ سيكون واجب المحارب في جبهتين: الجبهة الداخلية نحارب فيها ما طرأ على أفكار المسلمين من انحراف، وما علق بأعمالهم من شوائب تخالف الإسلام، ونحارب في الجبهة الخارجية نحارب التيارات المعادية للإسلام من تيارات إلحادية مادية، ومبادئ مخالفة مخاصمة.
أيها الزملاء الكرام:
إننا في هذه اللحظات السعيدة الني نجتمع فيها على صعيد الإخوة الإسلامية وفي الطريق إلى العمل الإسلامي المشترك يجب علينا أن نذكر إخوانا لنا من المسلمين يقيمون في بلاد يمسك بمقاليد الأمور فيها أناس ليسوا من المسلمين أو أناس معادون للإسلام فيضيقون عليهم الخناق، ويكتمون منهم الأنفاس محاولين أن يطفئوا جذوة الإسلام في نفوسهم، ويخنقوا روحه من قلوبهم، وإذا لم يستطيعوا ذلك ركزوا على ناشئة المسلمين ليحولوا بينهم، وبين دينهم يبعدونهم عنه، ويمنعون دخوله إلى قلوبهم.
إن واجبنا أن نولي أولئك الإخوان من المسلمين العناية كل العناية، وأن نهتم بشأنهم، وأن نبذل جهودنا للمحافظة على مكانة الإسلام في نفوسهم، كل المحافظة.
إن بعض أولئك الذين يمكن أن يسموا بالأقليات الإسلامية يعيشون في ظروف دينية صعبة حتى يعز على بعضهم أن يجد من يحسن قراءة الفاتحة ليؤم قومه للصلاة، وبعضهم لا يجد من يستطيع أن يجهز الميت من المسلمين، كما يجهز غيره في بلاد المسلمين.
وهؤلاء الإخوة متفرقون في بلاد كثيرة، وموجودون في قارات متعددة، ولا يمكن لأي جامعة إسلامية أو أي جهة تعمل في التعليم الإسلام أن تقوم بأمر كله القيام الواجب جميعه منفردة لأن الأمر أكبر من ذلك، إذا لامناص من تعاون الجامعات، والمعاهد الإسلامية، وأن تعمل مجتمعة في هذا السبيل، وإننا نرى أن تتخذ الخطة اللازمة لهذا الغرض في اجتماعكم هذا ـ إذا رأيتم ذلك ـ.(4/458)
وكلمة أخيرة في هذه الكلمة القصيرة، وهي أن وفد الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة سوف يبذل جهده في كل عمل ترونه مثمراً سواء منه ما كان داخلا في جدول الأعمال المكتوب، وما كان خارجا عنه.
نسأل الله أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعا مباركا، وأن يكلل جهود الجميع بالتوفيق، والنجاح، وأن يصلح أحوال المسلين جميعا، ويولي عليهم خيارهم، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته انه سميع قريب، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.(4/459)
لمحة عن مرض التدرن الرئوي (السل)
بقلم الدكتور محمد محسن خان مدير مستوصف الجامعة
يعتبر مرض التدرن الرئوي من المشاكل التي تعانيها كثير من البلدان ومن أهم الأسباب التي يعزى إليها انتشار هذا المرض بين أهالي أي بلد هي كالآتي:
1ـ انتشار الجهل وقلة التعليم.
2ـ الاعتقاد السائد بأن هذا المرض لا يمكن الفرارمنه.
3 ـ عدم توفر الوعي الصحي والجهل بالمستويات الصحية.
4ـ عدم توفر عوامل نشر التثقيف الصحي بين المواطنين.
5ـ نزح كثير من أهل البادية الذين لا تتوفر لديهم المناعة ضد المرض إلى المدن حيث تتوفر الكثير من عوامل انتشار المرض.
6ـ قلة تناول الأغذية الطازجة.
7ـ طريقة تناول الغذاء والشراب التي تتنافى ومبادئ الصحة العامة والسائدة بين بعض المواطنين.
8ـ تعدد مرات الحمل والولادة بين النساء مع عدم توفر الغداء والراحة الضرورية لهن.
كل هذه العوامل مضاف إليها مشكلة التجمهر والاختلاط القريب بين السليم منهم والمصاب بمرض السل لمدة طويلة تحت ظروف صحية عامة وغذائية سيئة للغاية، كل هذه العوامل أسباب قوية تؤدي إلى كثرة انتشار المرض.
هذا علاوة على أن هناك بعض عوامل تؤدي في كثير من الأحيان إلى استمرار وجود المرض وتساعد على انتشاره وهروب كثير من الحالات من التشخيص. وهذه العوامل مثل:
1ـ عدم توفر التعاون الصادق من قبل المرضى تجاه العلاج.
2ـ النقص في إمكانيات تشخيص المرض في مراحله الأولى وهذا يكون بتأخر المريض في استشارة الطبيب وبالعجز السائد في عدد أخصائي الأمراض الصدرية أو ذوي الخبرات من الأطباء العموميون في مرض السل.
ومن المشاهد أن معظم حالات مرض السل في المملكة العربية السعودية تكون بين متوسطي العمر من المواطنين ودائما ما تكون عبارة عن تدرن رئوي متكهف مزدوج يتجاوب تجاوبا مرضيا مع علاجات مرض السل المعروفة.
ومن مشاهداتي الخاصة خلال مدة ثمان عشرة سنة بالمملكة أنه:(4/460)
أولاـ عدد المرضى من النساء أكثر بقليل من عدد المرضى من الرجال.
ثانيا ـ انخفاض نسبة حالات السل المنتشر.
وسل الجهاز البولي التناسلي يقل في الوقت الذي تزيد نسبة حالات سل العظام والغدد زيادة ملموسة.
... وعلاجات السل المعروفة هي:
الخط العلاجي الأول:
أمبول استربتوميسين1/جرام يوميا (من 60ألى90 حقنة) .
أقراص ويميفون (أيزونيكوتينيك أسيد هيدرازيد) 300 مجم يوميا.
أقراص باس من 12إلى15جم (جرام) يوميا.
الخط العلاجي الثاني: للحالات التي يستعصي فيها ميكروب السل على علاج الخط الأول:
أمبول فيومايسين2/1إلى1جم يوميا.
أقراص ايثنامايد2/1إلى1جم يوميا.
أقراص بايرازيناميد2/1إلى2جم يوميا.
أقراص ثيوسميكابازون 150مجم يوميا.
أقراص سيكلوسيرين 250مجمإلى750مجم يوميا.
وبديهي أن هذه الأدوية ينبغي أن توصف من قبل الطبيب وتعطى تحت إشرافه.
وقد يظن البعض أن إنشاء وحدة أو أكثر من مصحات الدرن الكبيرة قد يكون فيه حلا للمشكلة.ولكني أرى أن العمل لن يكون إلا إذا اتخذت إجراءات من شأنها القضاء على انتشار العدوى الذي يتزايد يوما بعد يوم ولن يتحقق هذا إلا بتوفر الآتي:
1-تشخيص وعلاج المرض في مراحله الأولى.
2ـ الكشف على المخالطين للحالات التي يثبت إصابتها بالمرض.
3-التثقيف الصحي العام.
4-العمل على رفع المقاومة ضد المرض في أجسام من هم أكثر تعرضا لخطر العدوى وذلك بتعميم التطعيم بلقاح الـ بي. سى. جى (B C G) يرفع مستواهم الاقتصادي الاجتماعي والعمل على رفاهيتهم بفتح مراكز الرعاية والشؤون الاجتماعية تحت إشراف عيادات الأمراض الصدرية.(4/461)
5-إنشاء عيادات الأمراض الصدرية في جميع أنحاء البلاد على أن تكون هذه العيادات مزودة بالمختبرات التي تتوفر لديها جميع الإمكانيات لعمل الفحوص المخبرية الحديثة مثل طرق الفحص المباشر التقدمية ومزارع مكروب السل المؤكدة النتائج وكذلك إمكانيات عمل اختبارات التيبوبركلين والتحصين بلقاء الـ بى. سى. جي. (b c g) كما تزود هذه العيادات بوحدات الأشعة الصغيرة الجماعية.
6-اجراء اختبار التيوبركلين الجماعي والتطعيم بلقاح الـ بى. سى. جى. على جميع الأطفال.
ويمكن تلخيص القواعد الأساسية لمقاومة السل والقضاء عليه في النقاط الآتية:
1ـ منع انتشار العدوى.
2ـ التشخيص المبكر للمرض في مراحله الأولى.
3ـ العلاج المناسب والكامل.
4ـ التخلص من العوامل الاقتصادية والاجتماعية السيئة.(4/462)
ما وقع في القرآن بغير لغة العرب
بقلم الدكتور محمد تقي الدين الهلالي
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
اعلم أن علماء اللغة اتفقوا على أن كل لغة عظيمة تنسب إلى أمة عظيمة لابد أن توجد في مفرداتها كلمات وردت عليها من أمة أخرى، لأن الأمة العظيمة لا بد أن تخالط غيرها من الأمم، وتتبادل معها المنافع من أغذية، وأدوية ومصنوعات، وتعلم وتعليم، فلا بد حينئذ من تداخل اللغات، ولا يمكن أن تستقل وتستغني عن جميع الأمم، فلا تستورد منها شيئا ولا تورد عليها شيئا، والقرآن نفسه يثبت هذا، قال تعالى في سورة إبراهيم 37 {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} . ذكر إبراهيم في دعائه انه أسكن ذريته يعنى إسماعيل وآله بواد غير ذي زرع وهو وادي مكة وإذا لم يكن فيه زرع لم تكن فيه ثمرات، وذكر في أثناء دعائه ومناجاته لربه، أنه أسكن ذريته بذلك الوادي المقفر ليقيموا الصلاة أي يؤدوها قائمة كاملة عند بيت الله، ويعبدوه, فسأل الله أن يجعل قلوب الناس تهوي إلى ذريته، أي تسرع إليهم شوقا ومحبة، وتمدهم بما يحتاجون إليه وأن يرزقهم من الثمرات التي تجلب إليهم من الآفاق والأقطار المختلفة ليشكروا الله على ذلك فيزيدهم، وقد استجاب الله دعوته فصارت أنواع الحبوب والثمرات والتوابل والأدوات والثياب والتحف، والطرائف تجلب إلى مكة من جميع أنحاء المعمور.(4/463)
وهذه الأمور التي تجلب إليها كثير منها وضعت أسماؤها في البلدان التي تصدر منه، فإذا جاءت إلى أهل مكة يسمونها بالاسم الذي جاءت به فتندمج في لغتهم وتصير جزءاً منها, والأصل في اللغات أن الأشياء العامة توجد لها أسماء في كل لغة، أما الأشياء الخاصة التي خص الله بها قطرا بعينه فإن الاسم الذي سماها به أهل ذلك القطر الذي خلقت فيه يبقى في الغالب ملازما ولنضرب لذلك مثلا، الجوز الهندي والنخيل الذي يثمره وهو ((نارجيل)) ويسمى بالهندية ((ناريل)) فهو يجلب إلى غير الهند، دون أن يبدل اسمه، وثمر ((الأمبة)) وهو أحسن الفواكه في الهند وقد يكون أحسن الفواكه مطلقا، يوجد دائما في مكة شرفها الله في أحقاق، إذا أكلته تظن أنك أكلته تحت شجرته وهذه الفاكهة موجودة في مصر وتسمى ((مانكة)) وتنقل إلى بلدان أخرى ويبقى اسمها ملازما لها.
وكذلك ثمر ((أناناس)) يجلب من أندونيسيا ويبقى اسمه ملازما له وقس على ذلك.(4/464)
وقد قال أحد علماء الفيلولوجيين أي علماء اللغات: إن لغة سكان أستراليا الأصليين لا تزيد مفرداتها على مائة لأنهم أبعد الناس على المدنية التي تستلزم مخالطة الأمم الأخرى وتبادل المنافع معها، فكلما عظمت اللغة دلت عظمتها وثروتها ووفرة ألفاظها على مخالفة أهلها لشعوب أخرى واقتباسها منهم فهي تعطي وتأخذ.. وقد أخبرنا القرآن أن قريشا كانت لهم رحلتان رحلة في الشتاء إلى جنوب الجزيرة العربية اليمن، ورحلة في الصيف إلى الشام وكانوا تجارا ينقلون البضائع من بلد إلى بلد، وكانت مكة شرفها الله تعالى مركزا عظيما للتجارة قبل الإسلام فكانت تنقل إليها البضائع من الشرق والغرب والجنوب والشمال فكيف يتصور أن لغة العرب تبقى مغلقة مختوما عليها لا تخرج منها كلمة ولا تدخلها كلمة. والأئمة الذين أنكروا وجود كلمات غير عربية في القرآن تمسكوا بظاهر قوله تعالى في صورة يوسف: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقوله تعالى في سورة النحل1.3: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} ، وما أشبه ذلك وهم على حق فيما قالوا ,فليس في القرآن كلمة أعجمية باقية على عجمتها البتة، فكل ما في القرآن من الكلمات كانت تنطق به العرب وتفهمه وهو جار على سنن كلامها لا خلاف في ذلك نعلمه، إنما الخلاف في المعرب هل هو موجود في القرآن أم لا؟(4/465)
قال السيوطي في الإتقان: " قد أفردت في هذا النوع كتابا سميته (المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب) وأنا ألخص هنا فوائد فأقول: اختلف الأئمة في وقوع المعرب في القرآن فالأكثرون ومنهم الإمام الشافعي وابن جرير وأبو عبيدة والقاضي أبو بكر وابن فارس على عدم وقوعه فيه لقوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً} , وقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} وقد شدد الشافعي النكير على القائل بذلك.
وقال أبو عبيدة: "إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول ومن زعم أن {لدا} بالنبطية فقد أكبر القول"، وقال ابن فارس:"لو كان فيه من لغة غير العرب شيء لتوهم متوهم أن العرب إنما عجزت عن الإتيان بمثله لأنه أتى بلغات لا يعرفونها".اهـ.(4/466)
قال محمد تقي الدين: "إنما يمكن أن يقال ذلك إذا كان في القرآن تراكيب أعجمية، أو كلمات باقية على عجمتها، أما وجود كلمات قد صقلتها العرب بألسنتها ونحت بها مناحي كلماتها ودخلت في أوزانها فلا يمكن أحدا أن يدعي ذلك فيها، وقد رد القرآن نفسه على من زعم ذلك من أعداء الإسلام الأولين، فقال تعالى: في سورة النحل 103: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} وتحداهم أن يأتوا بسورة مثله بأشد أساليب التحدي، فقال تعالى في سورة البقرة 23ـ 34: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} وقال تعالى في سورة الإسراء 88: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} فأي عدو يسمع مثل هذا التحدي لا يبذل قصارى جهده في معارضة عدوه وإبطال تحديه ولو أن إحدى الدولتين لمتعارضتين اليوم وهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي صنعت إحداهما سفينة فضائية مثلا وقالت للأخرى: انك لن تستطيعي أن تصنعي مثلها لغضبت الدولة المتحداة ولم يقر لها قرار، حتى تصنع سفينة مماثلة أو فائقة لما صنعته الدولة المتحدية.(4/467)
وها نحن اليوم نرى الصين الشيوعية لما رأت عدوتها الولايات المتحدة متفوقة في صنع القنابل الذرية والهيدروجينية فقدت عقلها حنقا وغيظا وهي جادة في صنع هاتين القنبلتين، وزادها غيظا أن أختها في الشيوعية دولة الاتحاد السوفياتي ضنت عليها بالمساعدة على التوصل إلى هذا الغرض مع أن الولايات المتحدة لم تتحد الصين إلا بلسان الحال، بل هذه فرنسا قلبت ظهر المجن لحليفتها الولايات المتحدة وبريطانيا لأنهما لم يشركاها فيما وصلتا إليه من صنع القنبلتين المذكورتين إلا بقدر ضئيل لا يشبع نهمتها. ولم يقل أحد من العرب المعادين للإسلام إن الذي منعهم من معارضة القرآن هو وجود كلمات فيه غير عربية بل سلموا أنه كله عربي.
أما كتاب السيوطي الذي سماه (المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب) فلا نعلم أنه موجود في هذا الزمان، لكن الملخص الذي نقله منه مؤلفه في كتاب الإتقان لا يدل على أن المؤلف - مع غزارة علمه - كان أهلا أن يؤلف في هذا الباب لأنه فيما يظهر لم يكن يعرف إلا اللغة العربية والمؤلف في هذا الموضوع يحتاج إلى إلمام باللغات التي قيل أن بعض مفرداتها قد عرب ودخل في القرآن، فإن لم يعلم بها كلها فلا أقل من الإلمام ببعضها، وأكثر علماء العرب مقصرون في علم اللغات, والذين يعرفون شيئاً من اللغات الأخرى منهم قليل. وقد كان عمر رضي الله عنه يعرف اللغة العبرانية ويقرأ التوراة ويفهمها.
وقال الترمذي في جامعه (باب تعليم السريانية) ثم روى بسنده إلى زيد بن ثابت قال:"أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم كلمات من كتاب يهود وقال إني والله ما آمن يهود على كتابي، قال فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له، قال فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم". هذا حديث حسن صحيح.(4/468)
قال العالم الرباني أستاذي عبد الرحمن بن عبد الرحيم المبار كفوري الهندي رحمه الله رحمة واسعة في شرح هذا الحديث من كتابه (تحفة الأحوذي في شرح جامع الترمذي ج 3 ص392) ما نصه: "قال القاري: قيل فيه دليل على جواز تعلم ما هو حرام في شرعنا للتوقي والحذر عن الوقوع في الشر كذا، ذكره الطيبي في ذيل كلام مظهري وهو غير ظاهر إذ لا يعرف في الشرع تحريم تعلم من اللغات سريانية أو عبرانية هندية أو تركية أو فارسية وقد قال تعالى سورة الروم الآية 22: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ} أي لغاتكم بل هو من جملة المباحات. اهـ.
وهذا الحديث رواه أيضا أحمد وأبو داود والبخاري في تاريخه وذكره في صحيحه تعليقا، ومعنى الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابي الجليل كاتب الوحي زيد بن ثابت أن يتعلم كتابة اليهود وفي رواية "أمره أن يتعلم السريانية"وعلل ذلك بأنه عليه الصلاة والسلام لا يأمن اليهود أن يقرءوا له كتابا يأتيه منهم لئلا يزيدوا فيه وينقصوا أو يبدلوا ويغيروا، فتعلم زيد ما أمره به النبي صلى الله عليه وسلم في نصف شهر.وقد يشكل فهم هذا من وجهين:
الأول: أن المعهود من اليهود أن يتكلموا ويكتبوا بالعبرانية لا بالسريانية.(4/469)
الثاني: كيف يستطيع متعلم أن يتعلم لغة أجنبية في نصف شهر؟ والجواب عن الأول أن اليهود في زمان النبي صلى الله عليه وسلم بل في زمان عيسى بن مريم وقبله بزمن لم يكونوا يتكلمون ويكتبون بالعبرانية لأنها كانت قد انقرضت ولم يبق منها إلا كلمات قليلة تردد في الصلوات، وكان اليهود يكتبون علومهم الدينية والدنيوية ويتخاطبون بالسريانية، وإنما جددوا العبرانية وأحيوها وبذلوا في ذلك جهودا عظيمة في هذا العصر الأخير. والجواب عن الثاني: أن زيدا لم يتعلم اللغة في نصف شهر وإنما تعلم الكتابة والقراءة، أما معاني لغة اليهود فكان يفهمها لأنها كانت لا تزال قريبة جدا من لغة العرب، ولأن قبائل من اليهود كانت مساكنة للأنصار وتعلم اللغات الأجنبية للانتفاع بها في أمور الدين والدنيا أمر محمود إذا لم يكن على حساب لغة القرآن كما يفعل سكان المستعمرات المتهوكون في زمان الاستعمار وبعده فيحقرون لغة القرآن وهي لغة دينهم وتاريخهم ومجدهم ويتعلمون لغة المستعمر ويتطاولون بها ويشمخون بأنوفهم ويتراطنون بها بغير ضرورة ويحتقرون شعوبهم لعدم استعمال تلك اللغة الأجنبية فهؤلاء أعضاء مجذومة في جسم الأمة يجب قطعها وهم يعلمون أن جميع الأمم تحتقرهم لأنه لا يكون لهم فضل بتعلمهم تلك اللغة الأجنبية إلا إذا أتقنوا لغتهم وكانوا أعضاء نافعين في أمتهم، ولكن..
من يهن يسهل الهوان عليه
ما لجرح بميت إيلام.
ثم قال السيوطي: "قال ابن جرير: ما ورد عن ابن عباس وغيره من تفسير ألفاظ القرآن أنها بالفارسية أو الحبشية أو النبطية أو نحو ذلك إنما اتفق فيها توارد اللغات فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة بلفظ واحد".اهـ.(4/470)
قال محمد تقي الدين: ابن جرير إمام المفسرين في زمانه وما بعده وفد أخطأ في هذا الرأي إذ لا يمكن أن تتكلم هذه الشعوب المتباينة في أنسابها ولغتها المتباعدة في أوطانها على سبيل المصادفة والاتفاق وتوارد الخواطر بتلك الكلمات الكثيرة العدد على أن الذين قالوا في القرآن كلمات كانت في الأصل غير عربية ثم صارت بالاستعمال عربية لم يقل أحد منهم أن الكلمة التي أصلها فارسي قد اتفق فيها الفرس مع العرب والنبط والحبشة، بل إذا كانت الكلمة فارسية كالأباريق مثلا لم تكن حبشية ولا نبطية والكلمة التي قيل إنها حبشية (كابلعي) من قوله تعالى: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} لم يقل أحد أنها توافق الفارسية والنبطية..وهكذا يقال في سائر الكلمات كما سيأتي في ذكر الكلمات التي نسب أصلها إلى غير العربية. ثم قال السيوطي: "قال غيره بل كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلغتهم بعض مخالطة لسائر الألسنة في أسفارهم فعلقت من لغاتهم ألفاظا غيرت بعضها بالنقص من حروفها واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربي الفصيح ووقع بها البيان وعلى هذا الحد نزل بها القرآن". انتهى. هذا هو الحق الذي لا ريب فيه ثم ذكر السيوطي آراء أخرى يظهر زيفها عند الامتحان فأعرضت عن نقلها. ثم نقل عن الجويني ما معناه في القرآن وعد ووعيد، والوعد يذكر فيه ثواب المطيعين وما أعد الله لهم في الدارين مما تشتهيه أنفسهم ويرغبهم في فعل الطاعات وذلك يتضمن مآكل ومشارب وثيابا ومساكن طيبة وحورا عينا وفرشا طيبة وغلمانا للخدمة وبعض تلك الأمور صنعته أمم غير عربية وسمته بكلمات من لغاتها فنقله العرب عنها فصار ذكره في وصف النعيم والعيشة الراضية لابد منه وهو ما غلظ من ثياب الحرير, وضرب لذلك كلمة إستبرق مثلاً, وهو ما غلظ من ثياب الحرير, والسندس مارق منه. قال البيضاوي وهو معرب (استبره) بالفارسية فلو أريد التجنب استعمال كلمة إستبرق، فأما أن يترك ذكر هذا النوع من(4/471)
الثياب أصلا فلا يتم المقصود وهو وصف العيشة الراضية، وإما أن يعبر عنه بكلمتين أو أكثر كثياب الحرير الغليظة فتفوت البلاغة إذن فلابد من التعبير به ليكون الكلام بليغا. ثم قال السيوطي: "قال أبو عبيد القاسم بن سلام بعد أن حكى هذا القول بالوقوع عن الفقهاء والمنع عن أهل العربية، والصواب عندي ما ذهب فيه تصديق القولين جميعا وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفظها، فصارت عربية ثم نزل القرآن بها وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب فمن قال إنها عربية فهو صادق، ومن قال أعجمية فصادق، ومال إلى هذا القول الجواليقي وابن الجوزي وآخرون".اهـ.
الكلمات المشتركة
أول القرآن {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اشتملت على أربع كلمات اسم، الله، الرحمن، الرحيم، ابدأ بالكلام على الرحمن. قال السيوطي في كتاب الإتقان: "ذهب المبرد وثعلب إلى أنه عبراني وأصله بالخاء المعجمة. قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى في سورة الفرقان الآية 6: {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} الآية. لأنهم ما كانوا يطلقونه على الله أو لأنهم ظنوا أنه أراد به غيره ولذلك قالوا: {أنسجد لما تأمرنا} ؟ أي للذي تأمرنا يعني تأمرنا بسجوده أو لأمرك لنا من غير عرفان وقيل لأنه كان معربا لم يسمعوه".اهـ..
وهذا يدل على ما قلته سابقا من جهل علماء العرب باللغات حتى أخوات لغتهم كالعبرانية والسريانية، فالرحمن كلمة عربية خالصة من الرحمة بزيادة الألف والنون كظمآن وعطشان، وكانت العرب تعرفه وتفهم معناه وقد سموا به مسيلمة الكذاب فكانوا يدعونه (رحمان اليمامة) ولكنهم لجهلهم لم يكونوا يعلمون أنه من أسماء الله.(4/472)
ومن أعجب العجب قولهم إنه عبراني وإن أصله بالخاء المعجمة، والخاء المعجمة لا وجود لها في العبرانية استقلالا وإنما تنطق الكاف بها إذا جاءت قبلها حركة مثل (هبراخا) البركة ومثل باروخ، أي مبارك ومعناه بالعبرانية هو معناه بالعربية، إلا أنه في اللغة العبرانية، صفة عامة لكل من في قلبه رحمة ليس خاصا بالله تعالى، إذن فهو من الكلمات المشتركة بين العبرانية والعربية وهي كثيرة تعد بالآلاف، وهذه الكلمات الأربع التي في البسملة كلها مشتركة بين اللغتين، فالاسم (شم) بإبدال السين شينا وذلك كثير في العبرانية، والله (الوهيم) والرحمن لفظه بالعبرانية كلفظه بالعربية إلا أداة التعريف فإنها بالعبرانية (هارحمان) والرحيم بالعبرانية (هارحوم) .. وهذه الكلمات الكثيرة المشتركة بين اللغات السامية هي أصلية في كل واحدة منها، لا يقال إن إحداهن أخذتها من الأخرى وهذا هو الشأن في كل مجموعة من اللغات ترجع إلى أصل واحد كاللغات اللاتينية كالإيطالية والإسبانية والفرنسية والرومانية والبرتغالية, ومجموعة اللغات الجرمانية كالألمانية والهولندية والفلمنكية والسويدية والنرويجية والدانماركية.
لفظ الجلالة (الله) هل هو مشتق أو مرتجل؟(4/473)
ومن ذلك المعركة الكبرى التي خاضها علماء العربية في لفظ الجلالة (الله) أهو مرتجل أم مشتق؟ وإن كان مشتقا فهل اشتقاقه من (أله) أو من (وله) أو من (لاه) وما هو أصله على كل من هذه الأوجه وماذا جرى عليه من الحذف والإدغام حتى بلغ صورته التي هو عليها؟ ومن تعلم شيئا من اللغات السامية أخوات اللغة العربية لا ينقضي عجبه من الخائضين في تلك المعركة ويرى جهودهم ضائعة ويحكم يقينا أن الاسم الكريم مرتجل بلا مرية وهو بعيد كل البعد من الاشتقاق، فإنه ثابت بهذا اللفظ في جميع اللغات السامية ففي السريانية (ألاها) والشرقيون منهم ينطقون به (ألاهو) وهو كذلك في الآشورية بفتح الهمزة في اللغات الثلاث وبالعبرانية (ألوهيم) . ولا تختلف الشعوب السامية فيما أعلم في هذا الاسم الكريم وكذلك في مجموعة اللغات اللاتينية، وفي مجموعة اللغات الجرمانية الاسم الكريم عندهم واحد مهما اختلفت لغاتهم في الكلمات الأخرى لا تختلف فيه.
مثال يدل على تقارب اللغتين العربية والعبرانية(4/474)
جاء في ترجمة يوسف روفلين للقرآن الكريم بالعبرانية في أول سورة الصف ما نصه مع استبدال الحروف العبرانية بحروف عربية (باراششت همعراخا) سورة المعركة (بشم الوهيم هارحمان هارحوم يشبح أث الوهيم كل أشر بشاميم وغل أشر باآرص وهو هكبور وهحاخام همأمنيم لا ماتوا مروات أثر لو تعسوا) بسم الله الرحمن الرحيم {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} . فأنت ترى أن الألفاظ كلها مشتركة من أول البسملة إلي قوله تعالى: (لم) إلا أن لفظ (سبح) أبدلت سينه شينا وحل المضارع محل الماضي، وهذا الفعل في العبرانية متعد بنفسه وكذلك في العربية قال تعالى في سورة ق.40: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} وإلا ترجمة (ما) الموصولة بـ (أشر) وزيادة (كل) لأن الترجمة إنما هي تفسير وإبدال سين السماوات شينا وجمعها بالياء والميم واستعمال (باء) الجر في موضع (في) وهو جائز في العربية قال تعالى في سورة الصافات 137 ـ 138 {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} وإبدال ضاد الأرض صادا وإبدال العزيز بالجبار (هكبور) وهما متقاربان في المعنى وإبدال الحكيم (هحاخام) وهما شيء واحد إلا أن الكاف أبدلت خاء.
وترجمت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بـ (همأمينيم) يعني المؤمنين. وترجمت (لم) بـ (لاما) وتقولون بـ (تومرو) وترجمت (لا) بـ (لو) وهما شيء واحد بإمالة الألف إلى الواو وترجمت تفعلون بـ (تعسوا) الواو في (تومور وتعسوا) واو الجماعة وحذفت النون فيهما بلا ناصب ولا جازم كما تحذف في العمليات العربية وهذه النون هي نون الرفع وهي ثابتة في التوراة في مواضع تفوق الحصر وليس كما قال بعض المستشرقين في خمسة مواضع فقط.
أمثلة من الكلمات التي قيل إنها وقعت في القرآن من غير العربية(4/475)
1 ـ أباريق
قال السيوطي في الإتقان: "حكى الثعالبي في فقه اللغة أنها فارسية، وقال الجوالقي الإبريق فارسي معرب ومعناه طريق الماء أو صب الماء على هينة. قال في لسان العرب والإبريق إناء وجمعه أباريق فارسي معرب، قال ابن بري شاهده قول عدي ابن زيد:
ودعا بالصبوح يوما فجاءت
قينة في يمينها إبريق
وقال كراع هو الكوز وقال أبو حنيفة مرة هو الكوز وقال مرة هو مثل الكوز وهو في كل ذلك فارسي وفي التنزيل {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} وأنشد أبو حنيفة لشبرمة الضبي:
كأن أباريق الشمول عشية
إ وز بأعلى الطف عوج الحناجر
وقال الفيروز أبادي في القاموس: "الإبريق معرب (اب ر ي) جمع أباريق."اهـ.
قال بعض العلماء هو مركب من كلمتين (آب) وهو الماء و (راه) وهو الطريق، وقيل مركب من (آب) وهو الماء و (ريختن) وهو الصب على مهل قاله أرثر جفري:
Arthur Jeffery by
في كتابه الألفاظ الأجنبية في القرآن:
the foreign vocabulary of the quran
2 ـ الأب
قال السيوطي: " (آب) قال بعضهم وهو الحشيش بلغة أهل الغرب حكاه شيدلة".اهـ. ونقله عنه جفري وفسر لغة أهل الغرب بالبربرية. أقول وهذا من أعجب العجب ولا نعلم أن العرب كانت لهم علاقة بالبربر قبل الإسلام حتى تقتبس العربية من لغتهم ثم إن هذه الكلمة يبعد أن تكون بربرية لأنها لا تشبه الكلمات البربرية وإنما تشبه العربية والسريانية والعبرانية. وقال جفري أنه مأخوذ من (أبا) الآرامية ومعناه الخضرة.
وقال في لسان العرب: "الأب الكلأ وعبر بعضهم عنه بأنه المرعى، وقال الزجاج: الأب، جميع الكلأ الذي تعتلفه الماشية، وفي التنزيل العزيز {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} , قال أبو حنيفة سمى الله تعالى المرعى كله أبا.قال الفراء الأب ما يأكله الأنعام، وقال مجاهد: الفاكهة ما أكله الناس، والأب ما أكلت الأنعام، فالأب من المرعى للدواب كالفاكهة للإنسان. وقال الشاعر:(4/476)
جذ منا قيس ونجد دارنا
ولنا الأب به والمكرع
قال ثعلب: الأب كل ما أخرجت الأرض من النبات، وقال عطاء كل شيء ينبت على وجه الأرض فهو الأب وفي حديث أن عمر بن الخطاب "قرأ قوله عز وجل: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} وقال فما الأب؟ ثم قال ما كلفنا وما أمرنا بهذا".اهـ.
وقال ابن كثير عن ابن جرير بسنده إلي أنس قال قرأ عمر بن الخطاب {عَبَسَ وَتَوَلَّى} فلما أتى على هذه الآية: {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} قال قد عرفناها الفاكهة فما الأب؟ فقال لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلّف"فهو إسناد صحيح رواه غير واحد عن أنس به. وهذا محمول على أنه أراد يعرف شكله وجنسه وعينه وإلا فهو وكل من قرأ هذه الآية يعلم أنه من نبات الأرض لقوله تعالى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً}
3 ـ ابلعي
قال السيوطي في الإتقان: "أخرج ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه في قوله تعالى 11ـ44: {ابْلَعِي مَاءَكِ} ، قال بالحبشية ازدرديه، وأخرج أبو الشيخ من طريق جعفر بن محمد عن أبيه قال اشربي بلغة الهند".اهـ.
وان تعجب فعجب قولهم إن (ابلعي) بلغة أهل الهند وهذا القول إلى الهزل أقرب منه إلى الجد وقائله ليس أهلا أن يؤخذ عنه العلم وإنما هو يهرف بما لا يعرف وأهل الهند أجناس كثيرة لهم مئات من اللغات ولا تكاد تسير مسافة يوم إلا وجدت جنسا آخر له لغة أخرى. وفي زماننا هذا نرى الدماء تسفك بينهم بسبب اللغات فلا يرضى جنس أن تكون لغة الدولة لغة أخرى غير لغته، وفي زمان الاستعمار لم تكن في الهند لغة يستطيع المسافر أن يتكلم بها ويجد من يفهم كلامه في جميع أنحاء الهند إلا لغتين إحداهما الإنكليزية وهي لغة الدولة الحاكمة، والثانية لغة المسلمين وهي لغة أوردو، على أن (بلغ) كلمة عربية سامية أصيلة عريقة في عروبتها وساميتها وترفع راية اللغات السامية وهي حرف العين.(4/477)
ومن المعلوم عند علماء اللغات أن العين والحاء لا توجدان إلا في اللغات السامية، فان وجدت إحداهما في كلمة من لغة غير سامية فتلك الكلمة طارئة واردة على تلك اللغة وبهذا يستدل الفيولوجيون على أن البربر من جزيرة العرب قبل خروج البابليين والآشوريين والكنعانيين والفينيقيين كما هو مبين في موضعه.
ونحن نرى إخواننا عامة المسلمين من أهل الهند يبذلون جهودهم في النطق بقوله تعالى: {إياك نعبد وإياك تستعين} فلا يتمون النطق بالعينين حتى تغفر ذنوبهم من مشقة النطق بهما. ولذلك نرى السيوطي في كتاب الإتقان كحاطب ليل وليس عنده تحقيق ولا إتقان وهذا شأنه في علوم المنقول، أما في علوم المعقول كعلوم العربية فهو فارس لا يشق له غبار. وقد تحامل عليه الحافظ السخاوي في كتابه (الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع) فالله يغفر لهما جميعا.
4 ـ أخلد
قال السيوطي في الإتقان قال الواسطي في الإرشاد أخلد إلى الأرض ركن بالعبرية. اهـ.
أقول: هذا القول لا يقوله إلا جاهل باللغات السامية فإن أخلد وخلد موجودتان في اللغتين كلتيهما ومتفقتان في معانيهما في الجملة فمن قال اتهما عبريتان وليستا عربيتين لقد قفاما لا علم له به ومن قال العكس فهو مثله، غير أن (أخلد) في العبرانية بالحاء المهملة، وكذلك (خلد) وقد تقدم أن الخاء المعجمة لا توجد بالأصالة في العبرانية وإنما توجد بالعرض في حرف الكاف إذا جاءت بعد حركة، ولم نر أحدا علماء اللغة العربية أشار إلى أن (أخلد) عبرانية كما ادعى هذا المدعي.قال في لسان العرب وخلد إلى الأرض وأخلد أقام فيها وفي التنزيل العزيز: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} أن ركن إليها وسكن وأخلد إلى الأرض وإلى فلان أي ركن إليه ومال إليه ورضي به، ويقال خلد إلى الأرض بغير ألف وهى قليلة. اهـ.(4/478)
وقال البيضاوي في تفسيره {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} مال إلى الدنيا أو إلى السفالة {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} في إيثار الدنيا واسترضاء قومه وأعرض عن مقتضى الآيات. اهـ.
5 ـ الأرائك
قال السيوطي في الإتقان: "حكى ابن الجوزي في فنون الأفنان أنها السرر بالحبشية".اهـ.قال الراغب:"الأريكة حجلة على سرير جمعها (أرائك وتسميتها لذلك إما لكونها في الأرض متخذة من أراك وهو شجرة أو لكونها مكانا للإقامة من قولهم أرك بالمكان أروكا وأصل الأروك الإقامة على رعي الأراك ثم تجوز به في غيره من الإقامات"اهـ. وقال في لسان العرب والأريكة سرير في حجلة والجمع أريك وأرائك، وفي التنزيل {عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} قال المفسرون: الأرائك السرر في الحجال، وقال الزجاج: الأرائك الفرش في الحجال، وقيل: هي الأسرة وهي في الحقيقة الفرش كانت في الحجال أو في غير الحجال، وقيل الأريكة سرير منجد مزين في قبة أو بيت فإذا لم يكن فيه سرير فهو حجلة. وفي الحديث "ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول بيننا وبينكم كتاب الله"، الأريكة السرير في الحجلة من دونه ستر، ولا يسمى منفردا أريكة."اهـ. قال في اللسان: "والحجلة مثل القبة وحجلة العروس معروفة وهي بيت يزين بالثياب والأسرة والستور"، فقد رأيت أن الأرائك كلمة عربية خالصة، وبطل ما ادعاه السيوطي ومن نقل عنه.
6 ـ أسباط
قال السيوطي في الإتقان: "حكى أبو الليث في تفسيره أنها بلغتهم كالقبائل بلغة الغرب". اهـ.
وفي هذا الكلام شيء ساقط لأن الضمير في لغتهم لم يذكروا ما يعود عليه وهذا الساقط يحتمل أن يكون يدل على بني إسرائيل وكلام جفري يؤيد هذا الاحتمال وهذا نص ترجمته بالعربية..(4/479)
اضطر أبو الليث أن يعترف أنه أي السبط لفظ عبراني مستعار، قاله السيوطي في الإتقان. وقد أطال جفري البحث في هذا اللفظ وادعى أنه لم يستعمل في كلام العرب قبل استعماله في القرآن وربما يكون أول من استعمله محمد.
ونحن نقول لجفري وأمثاله من الذين أعمى التعصب بصائرهم وأفقدهم صوابهم: إن الله الذي أنزل التوراة والإنجيل اللذين تؤمن بهما أنت هو الذي أنزل القرآن على عبده ورسوله محمد بن عبد الله خاتم النبيين على رغم أنفك ولا ضير على القرآن أن يوجد فيه لفظ شاع استعماله في العبرانية لأن هاتين اللغتين نشأتا من أصل واحد وإذا جاز أن يكون في القرآن ألفاظ هي في الأصل فارسية مع أن لغة الفرس بعيدة من لغة العرب فما المانع أن توجد فيه ألفاظ عبرانية أو سريانية؟ وإذا اعتبرنا السبط اسما لقبيلة من قبائل بتي إسرائيل فالتعبير به طبيعي وهو أولى من التعبير عنه بالقبيلة لأنه صار شبيها بالأعلام التي يجب ذكرها بلفظها.
قال في لسان العرب:"والسبط من اليهود كالقبيلة من العرب وهم الذين يرجعون إلى أب واحد، سمي سبطا ليفرق بين ولد إسماعيل وولد إسحاق وجمعه أسباط.وقوله عز وجل: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً} , ليس أسباطا بتمييز لأن المميز إنما يكون واحدا لكنه بدل من قوله {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ} كأنه قال: جعلناهم أسباطا والأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من العرب". اهـ.
واصله بالعبرانية (شبط) على وزن ابل ومعناه القضيب والعصا والقبيلة.
7 ـ إستبرق
قال السيوطي الإتقان:"أخرج ابن أبي حاتم أنه الديباج بلغة العجم".اهـ. وقال البيضاوي في قوله تعالى في سورة الدخان53: {يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} .السندس مارق من الحرير والإستبرق ما غلظ منه معرب استبره".اهـ.(4/480)
قال جفري وهذا من الألفاظ القليلة التي اعترف المسلمون أنها مأخوذة من الفارسية وعزاه إلى السيوطي في الإتقان وفي المزهر حكاه فيه عن الأصمعي وإلى السجستاني في غريب القرآن وإلى الجوهري في الصحاح وإلى كتاب الرسالة للكندي وإلى ابن الأثير في النهاية قال وبعضهم يقول انه لفظ عربي مأخوذ من البرق ".اهـ.
8 ـ السندس
قال في القاموس:"ضرب من رقيق الديباج معرب بلا خلاف".اهـ. وقال في لسان العرب السندس البزيون.
وفي الحديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى عمر بجبة سندس".
قال المفسرون في السندس أنه رقيق الديباج ورفيعه وفي تفسير الإستبرق أنه غليظ الديباج ولم يختلفوا فيه، الليث، السندس ضرب من البزيون يتخذ من المر عزى ولم يختلف أهل اللغة فيهما أنهما معربان".اهـ.
9 ـ أسفار
قال السيوطي في الإتقان "قال الواسطي في الإرشاد هي الكتب بالسريانية وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: هي الكتب بالنبطية".اهـ.
قال محمد تقي الدين: يا لله للعجب؟ كيف يقال: إن الأسفار جمع سفر- بكسر فسكون-ليس بعربي وإنما هو سرياني أو نبطي، لا جرم لا يقول ذلك إلا جاهل باللغات السامية، والحق الذي لاشك فيه أن السفر كلمة عربية خالصة وهي في الوقت نفسه عبرانية وسريانية ونبطية فهي من الألفاظ المشتركة بين اللغات السامية ليست واحدة منها أولى بها من غيرها.(4/481)
من الصحف والمجلات
العسل علاج لا يقدّر بثمن!
تحت هذا العنوان نشرت مجلة حضارة الإسلام قي عددها رقم 1 و2 السنة الثانية عشرة، هذا المقال
ترجمة الطبيب محمد نزار الدقر: دكتوراه دولة بالأمراض الجلدية والتناسلية
[مقتبس عن كتاب (تقويم النخل) للبروفيسور ن. بوريش (أستاذ المداواة في معهد كييف الطبي) طبع في موسكو عام197..]
يعتبر العسل بحق مادة دوائية ثمينة فهو بالإضافة إلى كونه غذاء ممتازا للإنسان فهو يشفيه من كثير مما يعانيه من الأسقام.
ولقد استعمل الدكتور أ. بوداي العسل ممزوجا مع زيت السمك في معالجة الجروح المتقيحة والحروق، والتي استعصت على المعالجات الأخرى، وحصل على نتائج باهرة. كما طبقه كثير من الجراحين السوفييت أثناء الحرب الوطنية العظمى لمعالجة الجرحى وتوصلوا إلى نتائج علاجية جيدة.
ومنذ القديم، كتب ابن سينا أن العسل علاج رائع في معالجة أمراض القلب ونصح بتناوله على نطاق واسع بكميات معتدلة وممزوجا مع عصير الرمان الحلو، إذن من المعروف أن القلب بحالة عمل دائم وهو يحتاج إلى طاقة لا بد له لكي يؤمنها باستمرار من عنصر الغلوكوز (سكر العنب) ـ الذي يعتبر أهم مكونات العسل.
ولقد أدخلنا العسل في عداد القائمة الغذائية لعدد من المرضى المصابين بقصور في الجهاز القلبي الدوراني، فكان من نتيجتها أن استطعنا إبقاء هؤلاء المرضى بحالة معاوضة ممتازة دون تناول أي علاج آخر.
والعسل (أفضل صديق للمعدة) . هكذا تنادي الحكمة الشعبية الروسية. وبالفعل فإن الكثير مما نشره الباحثون، ومشاهدتنا خلال سنوات طويلة، كل هذا ينطق بما للعسل من تأثير حسن على سير عمليات الهضم. يفسر هذا ما يحتويه العسل من عناصر هامة كالمنغنيز والحديد وغيرها التي لا ينكر تأثيرها في إسراع وتحسين هذه العمليات.(4/482)
ولقد وصف الدكتور ف. غريغوريف مشاهدة سريرية لمريض مصاب بالتهاب معوي مزمن مع فرط حموضة في المعدة مترافق بآلام نوبية شديدة. عولج هذا المريض بعقاقير متنوعة لم ينتفع منها جميعها وكان شفاؤه بالنهاية بعسل النحل وحده.
أما لعلاج قرحة المعدة أو الاثنى عشرية، ففي كل من معهد كييف الطبي ن. يوريس ر. مييرزون, ومعهد كورسك الطبي (ف) مينشيكوف, (وس) فيلدمان, ومعهد أركوتسك (م. خوتكينا) , فقد جرب استعمال عسل النحل. وقد أعطت معالجة القرحة بالعسل نتائج مشجعة: ففي مدة قصيرة زالت الآلام القرحية وتحسنت شهية المرضى ونقصت مفرزات المعدة وحموضتها وزاد بالتالي وزن المرضى وارتفعت نسبة الهيموغلوبين في دمائهم.
وقد أثبتت جميع المشاهدات أنه بمعالجة مرضى القرحة بالمعالجات العدية مع الحمية المناسبة، فقد ثم شفاؤهم ببطء أكثر. في حين أن المعالجة بالعسل قصرت أمد هؤلاء المرضى في المشافي.
ونحن ننصح المصابين بالقرحة بتناول العسل قبل الفطور وقبل الغداء بساعة ونصف إلى ساعتين وبعد العشاء بساعتين إلى ثلاث ساعات. ويجب أن يكون على شكل محلول دافئ (تذوب كمية من العسل في مثليها من الماء المسخن) .
كما أثبتت التجارب الخواص المقوية للعسل وتأثيره العام على عضوية المرضى: فلقد زاد وزنهم, وزاد عدد الكريات الحمر والخضاب الدموي واعتدلت حموضة المعدة كما ونقصت نسبة التنبه في الجهاز العصبي مما جعل المرضى بشكل عام يشعرون بالراحة والنشاط.(4/483)
والعسل يساعد العضوية في كفاحها ضد الانتانات الرئوية كالسل الرئوي وخراجات الرئة والتهابات القصبات وغيرها. يثبت هذا نتائج مشاهداتنا على مجموعة من المصابين بالسل الرئوي أعطي كل منهم في حميته الخاصة من 100 ـ150غراما من العسل يوميا. كانت النتائج مشجعة. فقد تحسنت الحالة العامة عند المرضى وزاد وزنهم وتناقص السعال عندهم.وفي الدم ارتفعت نسبة الخضاب وعادت سرعة (التثفل) إلى الحدود الطبيعية، والنتائج العلاجية كانت جيدة إلا أنه لا يمكننا طبعا أن نعتبر العسل دواء نوعيا مضادا للسل.
وكما في الطب الشعبي، يؤيد البحت العلمي وصف العسل في أمراض الكبد. فقد ثبت أن الغلوكوز (سكر العنب) لا يعتبر فقط مادة مغذية لخلايا النسج إنما يزيد أيضا من قدرة الكبد على التخزين الغذائي حيث يدخر الغذاء على شكل مولد سكر العنب (الغليكوجين) كما ويحسن من عمليات الاستقلاب الخلوية. والغليكوجين يزيد من خاصيته العضوية في مقاومتها للانتان.ولقد أصبح العسل يستعمل في الأيام الأخيرة في أمراض الكبد والطرق الصفراوية مشركا مع الفيتامين (ج) , لغاية علاجية بحته.
ولقد اعتبر الرومان واليونانيون القدامى العسل بمثابة مادة مهدئة ومنومة. ولهذا فقد نصح ابن سينا بتناول العسل بمقادير قليلة في حالات الأرق. أما الكميات الكبيرة منه فيمكن أن تؤدي إلى فرط تنبه في الجهاز العصبي.
ولقد أثبتت المشاهدات السريرية الخواص الدوائية للعسل في معالجة أمراض الجهاز العصبي. فقد بين البروفسور ن. بوغوليبوف، وف. كيسيلييفا نجاح المعالجة بالعسل لمريضين مصابين بداء الرقص، (داء الرقص هو عبارة عن تقلصات عضلية لا إرادية تؤدي إلى حركات عفوية في الأطراف) . ففي فترة امتدت ثلاثة أسابيع أوقفت خلالها كافة المعالجات الدوائية الأخرى حصلوا على نتائج باهرة: فلقد استعاد المرضى نومهم الطبيعي وزال الصداع المرفق ونقص التهيج والضعف العام.(4/484)
والعسل مادة غذائية لا بديل لها للمرضى المبضوعين في عمليات الوجه والفكين. ففي الوقت الذي يحتاج فيه هؤلاء المرضى إلى حمية، لا يكتفي فقط باحتوائها على متطلباته من الحريرات، وإنما يتطلب منها أن تعمل بقدر الإمكان على تسريع التئام الجروح، وهذا ما يحققه العسل.
ومع أن العسل لا يدخل في عداد العقاقير المفرطة الفعالية كالمورفين والأفيون فإن لمقادير وزمن تناوله أهمية خاصة أثناء المعالجة به.
ويفضل من أجل المعالجة بالعسل تناوله على شكل محلول مع شراب الورد أو عصير الفواكه أو الثمار، ومع الجبن المبشور أو صفا البيض أو القشدة وغيرها. فهذا يسهل من نفوذية الأجزاء الفعالة في العسل إلى تيار الدم ومنه إلى الأنسجة والخلايا. وقد تبينا من تجاربنا على مدى ثلاثين عاما أن المقدار الدوائي من العسل للمريض الكهل100غ يوميا. أما المقدار الأقصى فلا يجوز أن يتجاوز الـ 200غ من العسل يوميا. ويجب أن يوزع المقدار اليومي على 3وجبات: صباحا من 30ـ60غ، ظهرا من 40ـ80غ ومساء من 30ـ60غ, ويعطى قبل تناول الطعام بساعتين أو بعده بثلاث ساعات. أما للأطفال فيعطى مقدار من العسل حوالي 30غ يوميا.
وقد تبين أن إضافة العسل إلى طعام الطفل (سميد، خبيصة ... ) يزيد من طاقته الحرورية ويحسن طعمه ويسهل هضمه وتمثله، ويحسن خاصة إضافة العسل إلى الحليب أو مشتقاته أو أن يتناول مع قطع من التفاح الحامض أو البرتقال أو بتحضيره مع الخشافات أو المهلمات المختلفة (الجيلاتين) . وإن ملعقة شاي واحدة من العسل في غذاء الطفل تفيده أكثر من تناول 20ـ25غ من السكر. ففي العسل العديد من الفيتامينات وحمض الغوليك والتي تعتبر ضرورية وهامة جدا للعضوية أثناء نموها. كما أن حمض الفوليك مع الفيتامين ب12 يحسن من نوعية الكريات الحمر ويزيد من عددها وكمية خضابها.(4/485)
هذا ويمكن تناول العسل لهدف علاجي لمدة شهرين وسطيا. أما الأشخاص المصابون بالداء السكري فلا نرى أي مانع من تناولهم للعسل تحت مراقبة الطبيب وعلى حساب الكمية المقررة لهم من ماءات الفحم.
كلمة المترجم: كثرت في الآونة الأخيرة ظهور مقالات علمية في أنحاء مختلفة من العالم حول أهمية العسل العلاجية. منها هذه المقالة، ومنها مقالة للدكتور ريمي شوفان مدير مركز أبحاث العسل في وزارة الزراعة الفرنسية نشرت ترجمته في مجلة العلوم اللبنانية (السنة 16العدد2 عام 1971م) . كل هذا يجعلنا نفهم مغزى الآية القرآنية في سورة النحل: {وأ وحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون. ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا. يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس.} صدق الله العظيم.(4/486)
من تاريخ الدعوة السلفية
الشيخ عبد الحميد بن باديس: قائد الحركة الإصلاحية في الجزائر
بقلم الشيخ محمد شريف الزيبق المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
لقد حمل ابن باديس لواء الإصلاح والدعوة لإيقاظ الوعي الإسلامي في بلاد الجزائر, في زمن ضرب فيه الجهل بجرانه، وراجت فيه الشعوذات والبدع، بعد أن سقطت البلاد في حضيض الضعف، واستولى الفرنسيون على السلطات وسعوا في زيادة مصائب الجزائريين، فسلطوا عليهم سياط العذاب والهوان والإرهاب من سفك للدماء وتشريد للأحرار وإفقار للعوام، وتركهم فريسة الجوع والبؤس والجهل، واستمر الاستعمار زهاء 130 عاما بكابوسه الفظيع إلى أن أثمرت جهود العاملين المخلصين أمثال الشيخ ابن باديس، وهب الجزائريون عن بكرة أبيهم يذودون عن الحمى ويجاهدون في سبيل الله، وأصلوا المستعمرين حربا ضروسا لا هوادة فيها طيلة ستة أعوام سقط فيها مئات الألوف من الجزائريين صرعى البغي والعدوان وظفرت الجزائر بحريتها رغم انف وزير خارجية فرنسا (1) .
وإذا كان الأجل لم يمهل ابن باديس حتى ينظر بعينيه إلى جهاد أبناء وطنه ويسعد بانتصارهم ـ إذ توفي قبل نشوب الثورة الجزائرية بخمس عشرة سنة ـ فإنه كان واثقا من نصر الله، دائبا في بذل أقصى ما يستطيع من جهد في إرشاد العامة ونشر العلم بين نابتة البلاد، وتنقلا بين حواضر الجزائر وبواديها، لا يهدأ له بال ولا يقرله قرار، يصدر الصحف العلمية الإسلامية وكلما عطل له المستعمرون صحيفة جدد غيرها وكان مع هذا كله يتعبد يتأمل ويحقق واصلا ليله بنهاره غير مشفق على نفسه ولا على جسمه، وقد هم بالخروج إلى جبال أوراس لإعلان الجهاد على الفرنسيين وكان يسعى لجمع الرجال لهذه الغاية. وحين اشتعلت الحرب العالمية الثانية قبيل وفاته اجتمع بأنصاره وقال: "عاهدوني" فلما أعطوه العهد فال: "سأعلن الثورة على فرنسا عندما تشهر إيطاليا عليها الحرب".(4/487)
وقبل الحديث عن حركة ابن باديس لابد من ذكر نبذة عمن سبقوه من العلماء المصلحين ـ وبعضهم معاصرون له ومنهم أساتذة تلقى عليهم دروسه الأولى ـ وكان هؤلاء العلماء نجوماً يضيئون في ليل الجزائر البهيم حيث يخيم ظلال الجهل والتعصب والجمود الفكري، ويستشري داء البدع والمحدثات، التي كان يتولى نشرها والدفاع عنها جهلة اتباع الطرق الصوفية التي سندها الاستعمار..حتى شاعت في بلاد المغرب عامة, وبلغ عدد الزوايا الصوفية في الجزائر وحدها 349زاوية يتبعها نحو ثلاثمائة ألف مريد وقد جارى الفقهاء هؤلاء المتصوفين وأصبح أكثرهم طرقيين حين لم يروا جدوى من معارضة هؤلاء المبتدعين.وقد أدى انتشار البدع والاعتقاد بالخرافات والأوهام إلى استسلام الناس للواقع والقعود عن مقاومة المنكر والجبن عن قتال أعداء الإسلام وصار أحدهم إذا سئل عن حاله يقول: "نأكل القوت ونستنى الموت".
وهنا برز جماعة من الفقهاء السلفيين الذين أثارتهم هذه الأحوال فقاموا بنشر العلم وبث الوعي وتنوير الأذهان ومحاربة البدع والمنكرات.
كذلك أثرت حركة السيد محمد بن على السنوسى ـ وهى حركة إصلاحية تعتمد على الجهاد للتخلص من النفوذ الأجنبي، ومع إن الدعوة السنوسية صوفية فقد اتصلت بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتأثرت بروحه السلفية، وكان للزوايا والرباطات السنوسية أثرها في إيقاظ الوعي الإسلامي في المغرب، وعلى الأخص في أقاليم برقة وطرابلس والجزائر.
ويعتبر الشيوخ صالح بن مهنا وعبد القادر المجاوى وحمدان الونيسى والمولود بن الموهوب والمولود الزريبي وعبد الحليم بن سماية ومحمد بلخوجة طلائع حركة الإصلاح وهذه نبذة عن كل منهم:(4/488)
1 ـ الشيخ صالح بن مهنا: كان يتولى التعليم والإرشاد بمدينة قسنطينة وامتاز بأسلوبه العاطفي الذي حرك الضمائر، وبدأ بإيقاظ الغافلين, فعملت السلطات الاستعمارية الفرنسية على إبعاده، وصادرت مكتبته النفيسة، ومؤلفاته الكثيرة (1) وقد توفي رحمه الله عام 1325هـ.
2ـ الشيخ عبد القادر المجاوي: كان عالما مفكرا عاملا بعلمه، يقوم بتطبيق ما يراه من مناهج الإصلاح وأساليب التربية والتعليم، ابتدأ التدريس في مدينة قسنطينة سنة 1286مدرسا متطوعا، ثم عين مدرسا بجامع الكتاني سنة1290. وتولى التدريس بالمدرسة الكتانية سنة 1295، ثم أبعدته الحكومة الفرنسية من قسنطينة إلى مدينة إلى الجزائر سنة 1316 فدرس في المدرسة الثعالبية التي تم بناؤها سنة 1322، ونالت دروسه إقبال الناس، وأحبوا فيه صدق اللهجة وصفاء السريرة، وظل يخاطب القلوب ويربي النفوس إلى إن أدركته الوفاةسنة1332،وله مؤلفات كثيرة منها: إرشاد المتعلمين، والمرصاد في مسائل الاقتصاد, وشرح منظومة في إنكار البدع والمفاسد الاجتماعية، والمنظومة للشيخ المولود بن الموهوب مطلعها:
صعود الأسفلين به دهينا
لأنا للمعارف ما هدينا.
وله رسالة في التربية، ورسالة في علم الكلام سماها القواعد الكلامية.
3ـ وقد ترك الشيخ المجاوي من بعده تلميذه الشيخ حمدان الونيسي الذي خلفه في التدريس بقسنطينة. والونيسي هو أستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ المولود بن الموهوب مفتي قسنطينة والشيخ أحمد الحبيباتي, وقد هاجر الشيخ الونيسي إلى المدينة المنورة وتوفي فيها.(4/489)
4ـ الشيخ المولود الزريبي المتوفى سنة 1343وهو من بلدة زريبة الوادي بناحية بسكرة تلقى العلم في الجامع الأزهر ثم عاد إلى الجزائر وقام بالتدريس في منطقة الأوراس، وكان من العلماء المشهود لهم بالصلاح، ومما يذكر عنه أنه لجأ إلى حيلة طريفة فعمد إلى كتاب (المرشد المعين) وهو كتاب معروف لدى الخاصة والعامة فشرحه وبث فيه آراءه الإصلاحية ودعوته السلفية لمقاومة البدع، وكانت تجري بينه وبين أنداده مناظرات في (المحدثات في الدين) .
5 ـ الشيخ عبد الحليم بن سماية المتوفى سنة1351 وكان على صلة بالسلفيين في مصر، وخاصة الشيخ رشيد رضا، وقد درس رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده وأسرار البلاغة ودلائل الإعجاز للجرجاني وألفية ابن مالك وشروحها والعقد الفريد لابن عبد ربه وحماسة أبي تمام ومفصل الزمخشري، وله تآليف نفيسة منها كتاب (فلسفة الإسلام) الذي ألقى الفصل الأول منه في مؤتمر المستشرقين الرابع عشر المنعقد في الجزائر سنة1323 وحين زار ملك المغرب الأقصى عبد العزيز الجزائر عام 1319 دعا الشيخ عبد الحليم للغداء فاعتذر (1) بقصيدة منها:
أمولاي شمس الفضل والعلم والنهى
وأجدر من يجري اللبيب ثناءه
سلام عليكم عاطر متضوع
كمسك ذكا بل لا يكون بواءه
وأفضل تكريم وأزكى تحية
يقيمان للقدر العظيم وفاءه
ويرأب كل منهما نأي عبدكم
بغيبته عما إليه دعاءه
علمت بأن المشي بالجفن واجب
إليكم ولكن لي اعتذار وراءه
6 ـ الشيخ محمد بلخوجة المتوفى سنة1333،وكان شاعرا مشهورا بتقدمه بالآداب والعلوم العربية، وهو أعلم علماء عصره بتراجم علماء الجزائر، وكان واسع الاطلاع ولوعا بالكتب العصرية، وقد قام بنشر تفسير عبد الرحمن الثعالبي من رجال القرن التاسع بعد تحقيقه على سبع نسخ، ونشر كتاب السيوطي: "الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض".
وقد عزلته السلطات الفرنسية من عمله، فأخذ يلقي دروسه في جامع حي بلكلور بمدينة الجزائر.
---(4/490)
(1) كان وزير خارجية فرنسا صرح عند نشوب الثورة الجزائرية بأنه لن يفاوض الجزائريين ولن يدع الهلال ينتصر على الصليب
(2) شروط النهضة ومشكلات الحضارة لمالك بن بني ترجمة عبد الصبور شاهين وعمر مسقاوي.
(3) الظاهر أن سبب اعتذاره نفته نن الحضور في مأدبة يشهدها الحكام الفرنسيون.(4/491)
منطق ومناطقة
بقلم الشيخ رمضان أبو العز: المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
لم يختل ميزان المنطق كما اختل في أيامنا هذه، وانك لتستمع إلى كثير من الناس فيتهيأ لك أنك في حظيرة ببغاوات لا تعي مما تنطق شيئا أو تحسب أنك في بيمارستان حيث لا قواعد تلتزم ولا أصول تراعى0
فمن الناس من يشتط في المكابرة فليجأ إلى المنطق المقلوب بمعنى أنه يرميك بما هو شائع فيه هو، متواتر عنه, فهذا أبو جهل قبحه الله يرمي خير البشر عليه الصلاة والسلام بأنه قاطع الرحم وذلك حيث يقول يوم خرج لبدر: "اللهم أقطعنا لرحمه فأحنه الغداة"يقصد اللعين أن قاطع الرحم إنما هو محمد عليه الصلاة والسلام وهل حض على صلة الرحم على توالي الأزمان وكر الأعصر كمحمد صلى الله عليه وسلم؟، ونسي اللعين أنه وثلثه من زعماء الشرك كانوا هم الذين سموا محمدا صلى الله عليه وسلم قبل البعثة الصادق الأمين فكان الرد الإلهي على استنصاحه أن استجاب دعاءه فأدركه الحنين الغداة كما طلب0 وفي ذلك نزل قوله تعالى: {إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح}
وقد عبر الشاعر العربي عن المنطق المقلوب بقوله: ((رمتني بدائها وانسلت)) وقالت العامة في هذا المعنى: ((تدهيك وترزيك واللي فيها تجيبوا فيك))
ومن المنطق المقلوب قول الاشتراكيين وزعمائهم بوجه أخص عن مجتمعهم انه مجتمع ((الحرية والرخاء والتنمية)) وما إليها في حين لم تشهد الدنيا أشد تضييقا وكبتا من مجتمعاتهم ولا أشد فقرا وتعاسة منها ويسمون أنفسهم أهل السلم والسلام وهم هم أهل الشغب والفوضى والإيغال في الدماء البريئة0
وأخيرا، وليس آخراً قالوا إن مجتمعهم إنما هو مجتمع الكفاية والعدل ولم نر أشد جورا وظلما وأبعد عن الكفاية منهم ولذلك علقت النكتة المصرية على هذه الكفاية والعدل بقولهم: ((انهم يكفون الناس على وجوههم ثم يقيموهم استعدادا للكفي مرة وثانية وثالثة))(4/492)
ومن الناس من يلجأ إلى المغالطة والتحريف, وقد شاع هذا في الأوساط التي تدعي الثقافة الذين يزعمون أن قدماء الهنود وقدماء المصريين واليونان والعرب القدامى أن هؤلاء وهؤلاء كانوا موحدين والذي ألجأهم إلى هذا القول أنهم جميعا كانوا إلى حد ما يقرون بالربوبية لذى الجلال جل شأنه, ولكن هذا الإقرار لا يفيدهم شروى نقير طالما أنهم أشركوا به العباد والمحكومين في العبادة والذل والتماس النفع وموقع الضر وإلا فهل يعقل أن الذين أشركوا مع الله سبحانه كرشنا وأدونيس وأميون وأزيريس أن هؤلاء كانوا موحدين بل وأشركوا القطط والبقر والحيات والعجول انه لمنطق ساقط ما في ذلك شك0
ومن الناس من يجنح إلى المغالاة الخارجة على كل منطق وذوق كأولئك الذين غلوا في المسيح عليه السلام فجعلوه إلها وما تسرب الشرك إلى الأمم السابقة إلا عن طريق الغلو ومما يروى عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "إنما أهلك من كان قبلكم الغلو إلا أني أنهاكم عن ذلك "وقد رد الحق تبارك وتعالى على غلو النصارى في المسيح بقوله: {ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام} 0الآية ومن لزوم أكل الطعام إخراج الفضلات فأي اله هو. ولذا قال الحق تبارك وتعالى في آخر الآية {أنظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون} . وللأسف قد شاعت الغلوات حتى في أمتنا الإسلامية فغلوا في البدوي والجيلاني والعيدروس جميعا بل قال شاعر العبيديين عن المعز العبيدي:
ندعوه منتقما عزيزا قادراً غفار موبقة الذنوب صفوحا
تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا0(4/493)
وفي هذا المعنى ما كتبه الأخ الفاضل الأستاذ محمد الحسني الندوي رئيس تحرير مجلة البعث الإسلامي الكلنوية المباركة في عدد رمضان سنة 1390هـ تحت عنوان: ((مسابقة في وضع الألقاب واختراع الأوصاف إذ أنه بعد موت هالك من دعاة الاشتراكية طلعت الصحف بمنحه ألقاب عجيبة من مثل قولهم: ((خالق الكرامة)) و ((صانع الحياة)) و ((نبي هذا الزمان)) و ((لا إله إلا الله فلان حبيب الله)) ثم ((أشرف رجل في التاريخ)) 0فعلق الأخ محمد الحسني قائلا: "ما كنا نتصور أن الإغراق في الثناء والتنافس في المدح والإطراء لرجل أهان بلده وشعبه يصل إلى درجة تمس كرامة الأنبياء ومكانة النبوة وحرمة سيد الأولين والآخرين"0وصدق الأخ الحسني وإلا فما معنى أشرف رجل في التاريخ إلا الازدراء برسل الله جميعا من نوح إلى محمد صلى الله عليهم أجمعين0
وما أجمل ما قاله الأخ الحسني في هذا المقال:"إنهم يؤمنون بالله، نظرا إلى أوضاع البلد المسلم الذي يحكمونه ولكنهم لا يحتاجون إليه في شيء مادام ((صانع الحياة)) و ((خالق الكرامة)) أغناهم عن كل شيء". ثم قال: "إن القرآن عندهم ليس إلا للمنابر والأضرحة والجنائز", ولذلك يتطاول عليه الفجار والفساق ورواة التاريخ الجنسي0
أما القرآن الثاني وهو الميثاق فحرام أن ينقده ناقد أو يقول فيه قائل، إلى آخر ما ذكر الأخ الحسني لا فض فوه وإني أنصح الشباب أن يقرؤوا المقال بإمعان ففيه توعية جليلة0
قومي الأعزاء، أفيقوا فقد حان الفواق ولا تكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم00
ولكن المنطق الشاذ الموغل في السماجة والقحة منطق الشيوعي الكويتي الذي زعم أنه دكتور في علم النفس والفلسفة فقد كتب إلى الدكتور محمد عزت نصر الله مدير مجلة (الفكر العربي) البيروتية (1) كتب الشيوعي قائلا:(4/494)
لقد قرأت موضوع المجتمع الروسي مغلق على نفسه00 أنا الذي أكتب إليك، دكتور في علم النفس والفلسفة، ولقد درست في موسكو تسع سنوات00 ولقد رأيت الشعب الروسي وخاصة الشعب المسلم هناك فان لهم حرية العبادة وحرية الرأي وحرية الصحافة، وكل الشعب الروسي والحكومة السوفيتية يحترم الديانة الإسلامية وإنني أنا مسلم".
من السفه أن ندخل في نقاش منطقي مع مثل تلك العقول فهؤلاء الذين عناهم الحق تبارك وتعالى بقوله {صم بكم عمي فهم لايعقلون} .
وهل يعقل أن دولة اللالحاد تحترم الديانة الاسلامية بل استمع إلى قوله: (وإنني أنا مسلم) بالتأكيد المؤكد فما الدليل على إسلامه؟
الدليل أكبر الدليل ما قاله بعد ذلك بقليل: "إنكم تهاجمون ماركس ولينين, إنه أحسن من محمد ماذا عمل محمد للشعب العربي؟.
أرأيت أي مسلم هو؟ وأي إسلام ذاك الذي يحترمه الشعب الروسي والحكومة السوفيتية إنه لا شك إسلام الخنازير والخنافس الذين يرون أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس شيئا بجانب آلهتهم ماركس ولينين، لعنة الله عليهم أجمعين0
---
(1) وهي مجلة قيمة تنشر هي و ((الشهاب)) البيروتية وعيا إسلاميا.(4/495)
يستفتونك
يتولى الرد على أسئلة القراء فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
*ظهرت لدينا بوادر خلاف حول صلاة المسافر خلف المقيم وصلاة الجمعة للمنفرد، وأنه هناك من يقول بأن يسلم المسافر إذا صلى خلاف المقيم من ركعتين، ويصلى المنفرد يوم الجمعة إن لم يدرك الجماعة ركعتين وأن الذي تعلمناه وسرنا عليه منذ أن جلسنا أمام علماء السنة، أن المسافر إذا كان إماما سلم من ركعتين ويتم المأمومون أربعا، وأن المنفرد إن فاتته الجمعة في المسجد يصلى الظهر أربعا وكنا نعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى في عرفات يوم الجمعة الظهر والعصر سرا وقصرا وجمعا ولكن لم نجد دليلا يؤكد قراءته سرا ونطلب البيان؟(4/496)
والجواب عن ذلك هو أن الصواب الذي عليه سلف الأمة وخلفها هو ما أنتم عليه لا ما جاءكم من المثال وهو أن المسافر إذا صلى خلف المقيم عليه أن يتم أربعا وقد ثبت في مسند أحمد وصحيح مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ما يدل على ذلك، أما إذا كان المسافر هو الإمام فإن السنة في حقه أن يصلي الرباعية ركعتين وعلى المأمومين أن يكملوا أربعا إذا كانوا غير مسافرين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح. وأما من فاتته الجمعة فالذي عليه الأئمة الأربعة والجمهور أنه يصلى ظهرا وليس له أن يصلى جمعة، والقول بأنه يصلى جمعة قول شاذ مخالف للأدلة الشرعية فلا ينبغي أن يعول عليه، وأما الدليل على قراءة النبي صلى الله عليه وسلم سرا في صلاتي الظهر والعصر يوم الجمعة في عرفة فهو ما ثبت في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه."أن النبي صلى الله وسلم بعدما خطب الناس يوم عرفة أمر بلالا فأذن ثم أقام فصلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين ولم يصلى بينهما شيئا". فهذا النص دليل ظاهر على أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل جمعة وإنما صلى ظهرا ومعلوم بالأدلة الشرعية أنه كان عليه الصلاة والسلام يقرأ سرا في الظهر والعصر فلو كان جهر بالقراءة في الظهر ذلك اليوم لنقل ويدل على ذلك أيضا أنه قدم الخطبة على الأذان فلو كان صلى جمعة لأخر الخطبة بعد الأذان أو جهر بالقراءة وأخر العصر إلى وقتها لأن ذلك هو الأجر المعروف من سنته عليه الصلاة والسلام مدة إقامته بالمدينة ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم -فيما نعلم- أنه قدم الخطبة على الأذان يوم الجمعة ولا مرة واحدة كما أنه لم ينقل عنه أنه جهر في الظهر, وإنما قد يسمعهم الآية بعض الأحيان في الظهر والعصر, ليعلموا أنه يقرأ عليه الصلاة والسلام, كما أنه لم ينقل عنه أنه صلى الجمعة في شيء من أسفاره, ولا أنه جمع بين الجمعة والعصر لا في السفر, ولا في الحضر, ومن قال خلاف ذلك فعليه بيان الدليل الثابت في ذلك.(4/497)
*ما قولكم في الصلاة خلف من يستغيثون بغير الله، واضطروا للصلاة في المنازل تحرجا من إمامة هؤلاء؟
لاشك أن الصلاة خلفهم لا تصح لتلبسهم بالشرك, ولكن لا ينبغي من مثلكم الصلاة في المنازل وترك الجمعة، بل الواجب الصلاة في غير مساجد هؤلاء المشركين أو إقامتها قبلهم أو بعدهم منكم, ومن لديكم من أهل التوحيد, ليتضح للجميع إنكاركم ما هم عليه من الشرك حيث أمكن ذلك, وأمنت الفتنة، وأما سماعكم بعض الإخوان يروي عن أم المؤمنين أنها قالت:لا تضر المؤمن صلاته خلف المنافق، ولا تنفع المنافق صلاته خلف المؤمن، وسؤالكم عن صحة هذا الأثر، فالجواب: هذا الأثر لم أطلع عليه ولا أظن صحته ولو صح لوجب حمله على معنى صحيح وهو أن مرادها إن المؤمن لا تضره صلاته خلف المنافق إذا لم يعلم نفاقه.
*ما حكم الإسلام في شارب الدخان، وهل تطلق زوجة شارب الدخان؟
الجواب: شارب الدخان قد أتى أمرا محرما؛ لأن الدخان من الخبائث وشربه محرم، ولكن زوجته لا تطلق بذلك لأن المسلم إذا فعل المعصية لا تطلق زوجته بذلك، وإنما عليه التوبة إلى الله سبحانه من ذلك، والحذر من العود إليه.
*هل يجوز للمسلم أن يقرأ ما تيسر من القرآن وهو جنب؟
الجواب: لا يجوز للمسلم أن يقرأ القرآن وهو جنب، سواء كانت قراءته من حفظه أو من المصحف؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يحجزه شيء عن القرآن إلا الجنابة.
*ما حكم الإسلام في الجلوس عند التلفزيون؟
الجواب: لا يجوز للمسلم إن يشاهد أو يستمع لما يعرض في التلفزيون من الصور النسائية غير المتحجبة، والأغاني وآلات الطرب؛ لما في ذلك من التعرض لغضب الرب عز وجل، ومرض القلوب وصدها عن ذكر الله، وعن الصلاة، والأحوط للمسلم أن لا يقتنيه ولا يحضره بالكلية حسما لمادة الشر، وحذراً من أسباب الفتنة.
واسأل الله أن يوفق الجميع للفقه في الدين والثبات عليه انه خير مسئول.(4/498)
أضواء من التفسير
للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
المدرس بكلية الشريعة
{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ. كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ}
المناسبة:
هذه السورة كالمتممة لما قبلها من حيث أنه ذكر فيها عدد من الأنبياء لم يذكروا في السورة السابقة وكذلك فإنه لما ذكر عن الكفار في السورة السابقة أنهم كانوا يقولون: لو أن عندنا ذكرا من الأولين لأخلصنا العبادة لله وحده وأنهم لما أتاهم الذكر كفروا به فبدأ هنا بالقسم بالقرآن ذي الذكر الذي جاءهم فخالفوه وكفروا به.
سبب النزول:
أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس قال: لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا فلو بعثت إليه فنهيته؟ فبعث إليه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل فخشي أبو جهل إن جلس النبي إلى أبي طالب أن يكون أرق عليه فوثب فجلس في ذلك المجلس فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب عمه فجلس عند الباب فقال له أبو طالب: أي ابن أخي، ما بال قومك يشكونك؟ يزعمون أنك تشتم آلهتهم ـ قال وأكثروا عليه من القول ـ وتكلم رسول الله صلى عليه وسلم فقال: "يا عم، إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها يدين لهم بها العرب، وتؤدي لهم بها الجزية العجم"، ففرحوا لكلمته ولقوله. فقال القوم: لنعطينكها وعشرا. قال: لا اله إلا الله. فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون: أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب. فنزل فيهم القرآن: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} , حتى بلغ {إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ} .
القراءة:(4/499)
قرأ الجمهور (ص) بسكون الدال وقرىء صاد بضم الدال وقرىء بكسر الدال بتنوين وبغير تنوين وقرىء بفتح الدال، وقرأ الجمهور (عزة) بالعين المهملة والزاي المعجمة وقرىء (غرة) بالغين المعجمة والراء المهملة, وقرأ الجمهور {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} بفتح النون من حين وقرىء بضمها وقرىء بكسرها إيضا.
المفردات:
(ص) من الفواتح الكريمة مثل: ق ون وحم وألم وغيرها, فمن الناس من قال: لا تفسير لها إما لأنها لا معنى لها أصلا وإلى هذا ذهب الحشوية. وإما لأن معناها استأثر الله بعلمه وإليه ذهب كثير من المتكلمين والأصوليين. ويقولون: الله أعلم بمراده به.
ومن الناس من قال لها معنى يدرك. وقد اختلف أصحاب هذا القول في المعنى المراد منها فقيل إنها اسم السورة, وقيل اسم للقرآن, وقيل مبادئ لأسماء الله تعالى أو لأفعال, وقيل غير ذلك. وقد اختار كثير من المحققين منهم شيخ الإسلام ابن تيميه بأنها للدلالة على الإعجاز والتحدي.
وقد لوحظ أن السور المبدوءة بهذه الفواتح المباركة يغلب عليها طابع الإعجاز والتحدي، وهي من خواص السور المكية إلا فيما ندر كالبقرة وآل عمران. وقد بدئ بها تسع وعشرون سورة عدد حروف المعجم. كما لوحظ أن هذه السور لها طابع خاص إذ يبدأ فيها بعد الفواتح بذكر القرآن إما صراحة وإما ضمنا فيعظمه ويمجده ثم يذكر أصناف الناس بالنسبة إليه وأنهم اختلفوا فيه كما اختلفوا على كتب الأنبياء السابقين، ويبين أن الفئة التي تتمسك به هي العزيزة الغالبة الظاهرة المنصورة في الدنيا وأنها السعيدة الفائزة بجنان الخلد ورضوان الله في الآخرة، وأن المعادين لهم مغلوبون مقهورون معرضون لعذاب الله في العاجلة والآجلة, يضرب الله تعالى لذلك ما شاء من الأمثلة، ويقص ما شاء من أحسن القصص، الذي يشرح هذه الفكرة، ويوضح هذا الهدف، ثم يختم السورة بذكر القرآن فيعظمه ويمجده كما بدأ أولا.(4/500)
وأما من قرأ صاد ـ بكسر الدال ـ من غير تنوين فقيل إنه فعل أمر من المصاداة وهي المعارضة ومنه الصدى وهو ما يعارض الصوت الأول في الأماكن الخالية والأجسام الصلبة، والمعنى: عارض بعملك القرآن أي اعمل بأوامره ونواهيه.
القرآن هو في الأصل مصدر قرأ كالقراءة ثم عل علما على كلام الله تعالى المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم المعجز بأقصر سورة منه.
الذكر: الشرف ومنه قوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس. أو الذكرى والموعظة للناس كما روي عن قتادة والضحاك، أو الذي يذكر ما يحتاج إليه في أمر الدين من الشرائع والأحكام كما قيل: (كفروا) جحدوا.
عزة: تكبر عن الحق. غرة: غفلة، شقاق: أصل الشقاق المخالفة وكونك في شق غير شق صاحبك، وجانب سوى جانبه، والمراد مخالفة الله ورسوله. أهلكنا: دمرنا. قرن: أمة وجيل فنادوا: فاستغاثوا. {وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} :أي ليس الوقت وقت فرار فالحين الوقت والمناص المنجى والفرار.
التراكيب:(5/1)
(ص) ليست معربة عند من قال إنها لا تفسير لها لأن الإعراب فرع إدراك المعنى. أما من فسرها فهي معربة عنده فيجوز أن تكون مرفوعة خبرا لمبتدأ محذوف أو مبتدأ والخبر مابعدها. ويجوز أن تكون منصوبة بفعل مقدر أو على نزع الخافض على رأي من قال إنها للقسم بها. ويجوز أن تكون مجرورة على حذف حرف الجر ـ وهو حرف القسم ـ وبقاء عمله وقيل هذا شاذ لأنه لا يحذف حرف الجر ويبقى عمله إلا مع اسم الله تعالى خاصة. ومن قرأ (ص) بسكون الدال فالسكون لأجل الوقف كأسماء الأعداء التي لم تلها العوامل. ومن قرأ بالضم فهي ضمة إعراب أو لأجل التقاء الساكنين. ومن قرأ بالفتح فهي فتحة إعراب على أنها منصوبة أو فتح لأجل التقاء الساكنين أيضا. ومن قرأ بالكسر من غير تنوين فهي إما أمر من صادى بفتح الدال بمعنى عارض كما تقدم أو للجر على القسم أو لأجل التقاء الساكنين أي السكون إلى الدال وألف صاد، ومن قرأ بالكسر والتنوين فلاعتبار ذلك اسما للقرآن كما هو أحد الاحتمالات فيه فلم تتحقق فيه العلتان وهي العلمية والتأنيث فوجب صرفه، وجر بحرف جر حذف وبقي عمله كما تقدم. والواو في القرآن للقسم إذا لم تكن صاد للقسم بها وإلا فهي للعطف. وجواب القسم محذوف والمختار أن تقديره: إن القرآن لحق وإنك لمن المرسلين بدليل {يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ولقوله هنا {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} . والقسم بالقرآن على حقية القرآن ضرب من البلاغة بديع. بل: للإضراب الانتقالي من هذا القسم والمقسم عليه إلى ذكر حال تكبر الكفار ومشاقتهم في قبول الرسالة. ويجوز أن تكون بل للإضراب الإبطالي وتكون حينئذ لإبطال شيء مفهوم من السياق كأنه قيل: ليس كفر هؤلاء لخلل في القرآن أو لمطعن فيه بل الخلل في أنفسهم وهو أنهم في تكبر وعناد وخلاف.(5/2)
والتعبير يعني في قوله (عزة) لإفادة استغراقهم في التكبر والخلاف. (كم) :خبرية للتكثير، وهي مفعول بأهلكنا دين. (قرن) : تمييز والفاء في (فنادوا) : للسببية. (ولات) : الواو للحال ولات هي لا المشبهة بليس عند سيبويه زيدت عليها التاء لتأكيد معناها، وعند الأخفش هي لا النافية للجنس تعمل عمل إن وزيدت عليها التاء.
و (حين) : بالنصب خبر لات عند سيبويه واسمها محذوف تقديره ولات الحين حين مناص، وعند الأخفش (حين) اسم لات وخبرها محذوف تقديره لهم، ومن قرأ بضم النون فهي اسم لات على مذهب سيبويه والخبر محذوف، وعند الأخفش هي مبتدأ والخبر محذوف لأن مذهبه أنه إذا ارتفع ما بعدها فعلى الابتداء،
وأما قراءة كسر النون فقد قال أبو حيان: الذي ظهر لي في تخريج هذه القراءة الشاذة أن الجر على إضمار (من) كأنه قيل: ولات من حين مناص. كما قالوا: لا رجل جزاه الله خيرا, يريدون لا من رجل، ويكون موضع من حين مناص رفعا على أنه اسم لات على مذهب سيبويه والخبر محذوف. وعند الأخفش على أنه مبتدأ والخبر وحذوف.
المعنى الإجمالي:
هذا تحد لكم يا أرباب الفصاحة، وأمراء البيان، وأساطين البلاغة، تعجزون عن محاكاته، والإتيان بمثله، مع أنه منظوم من مثل ما تنظمون منه كلامكم، وأقسم بكلامي المنزل على محمد رسولي، الذي فيه شرفكم وشرف العرب أجمعين، إن القرآن لحق وإن محمدا لمن المرسلين، ولم يطعن هؤلاء الكفرة الجاحدون في القرآن لعيب لمسوه منه أو لخلل وجدوه فيه، والخلل بأنفسهم وهو استغراقهم في التكبر عن الحق أو غفلتهم عنه ومجا نبتهم لداعي الخير، فليعلم هؤلاء الجاحدون أنهم بهذه المشاقة يعرضون أنفسهم لعقابنا ولونزل بهم ما استطاعوا فرارا. لقد أردنا تدمير كثير من الأمم الماضية قبل قريش لما شاقوا الرسل، وأرسلنا عليهم العذاب فلما عاينوه استغاثوا طالبين المنجى والفرار، والحال والشأن أنه ليس الوقت وقت فرار وطلب للتجاة.
ما ترشد إليه الآيات:(5/3)
1 ـ تحدي العرب بالقرآن وإعجازهم به.
2 ـ بيان شرف القرآن في نفسه.
3 ـ تشريفه للعرب.
4 ـ براءته من كل عيب.
5ـ لم يعارضه معارضوه لعيب فيه بل العيب فيهم.
6 ـ انه لا يعارضه إلا المتكبرون المعاندون.
7 ـ تحذير الكفار.
8 ـ انه إذا نزل العذاب لا يمكن الفرار.(5/4)
الخير في الاجتماع
بقلم الشيخ عبد الله بن صالح المحسن
المدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} , وقال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} .
فيا معشر المسلمين, يا معشر العلماء والطلاب في أقصى المعمورة وأدناها, قد علمتم -وفقكم الله- فضل العلم وأهله العاملين به وأنهم القدوة, وبأيديهم أزمة الأمور؛ أمور الدنيا والدين, وهم القائمون بأعباء هذه الرسالة والمسئولون أمام الله عن أدائها فنرجو لهم التوفيق لتحقيقها. والأمل في الطلاب أنهم سيبلغون ما بلغوا إليه فيقومون بما قاموا به فلو أن العلماء اختلفوا وتفرقوا وكانوا شيعا وأحزابا، مع العلم بأن العامة والخاصة تبع لهؤلاء، فهل يمكن الاجتماع والاتفاق الصحيح بدونهم؟.. كلا بل يهلك التابع والمتبوع, فيكون الجميع نهبا للأعداء, تهددهم الآراء والأهواء الخاطئة, ويسخرهم سوء التصرفات الجائرة حتى يلبسوا سرابيل الذل والصغار، وإن اجتمعوا واتفقوا وكان أمرهم شورى بينهم على الحق فيا بشراهم بالفوز والظفر على كل من ناوأهم وأرادهم بضر وسوء ويشهد لهذا ما سجل في التاريخ عن الأمم الغابرة حين قاموا بأسباب الاجتماع فقد نالوا العز والفخر والتقدم إلى الإمام، حتى بلغوا قمة المجد، وماذا حصل للآخرين حين تفرقوا واختلفوا من الفشل والخور فحل بهم من النكال والهوان والذلة والصغار والاضمحلال والزوال ما هو معروف وأكبر دليل, ومستند في ذلكم ما جاء في الكتاب والسنة الغراء من الأمر بالاجتماع وعدم التفرق، وأن المؤمنين أخوة، وأنهم كالبنيان يشد بعضه بعضا وأنهم كالجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وأنهم إذا اختلفوا وتفرقوا فشلوا وذهبت ريحكم، وأنهم إذا اجتمعوا وصبروا فالله معهم، ولن يخذل من كان الله معه..(5/5)
فيا معشر المسلمين عليكم أن تضعوا أسسا وأسبابا للاجتماع وعدم التفرق والاختلاف لتكونوا أمة واحدة، فتسعدوا في الدنيا والآخرة، فعليكم أن لا تجمعوا الجفوة والوحشة والتباعد في الأرواح والأشباح والاتجاهات هي صفاتكم، لأن هذا لا شك نقص ومبادئ مرض منتهاه ونتيجته التفرق والاختلاف، إنما عليكم أن تزيلوا هذا الداء قبل أن يتخلل القلوب ويستحكم في النفوس فيبدوا على الجوارح فتظهر أعلام التفرق القاتمة وأسنته الفتاكة التي تجعلنا تحت براثنه فتمزقنا وتهوي بنا نحو الحضيض فحينئذ لا ينفع العلاج.
أيها المسلمون خذوا سلاحا من الحمية والوقاية تكافحون به جميع الأمراض التي تعتري القلوب وتشتت الأذهان والآراء والأبدان، وتسري إلى هدم الإسلام، والبسوا دروعا سابغة من التقوى تقيكم صدماتها, فمن الحمية والأدوية الشافية الدافعة إلى كل خير والمبعدة عن كل الشر أن لا يكون الإنسان أنانيا لا يهمه في هذه الدنيا إلا نفسه وهواه وما يحيط به،، بل يزرع المحبة في قلوب إخوانه المسلمين قربوا أم بعدوا من الإيثار والمساواة والنصح لهم في الأقوال والأفعال، حتى تثمر هذه المحبة التراحم والتعاطف وقوة الصلة والرابطة بين الأفراد والمجتمعات لنكون يدا واحدة على قلب رجل واحد، وكتلة واحدة تحطم الأعداء وحلقة مفرغة لا يعلم أين طرفاها فلا يستطيع عدو حلها لا بسلطان ولا بسلاح، فإن نحن سرنا معشر المسلمين نحو الأمام فشخصنا المرض حين ابتدائه، وسارعناه بالعلاج، ودفعنا بالحمية والوقاية جميع الأمراض الطارئة تحقق الأمل والهدف المنشود، فبشرانا إن شاء لله بأعلام النصر ترفرف فوق التيجان مهما حاول كل عدو وشيطان.
والله الموفق والمستعان.(5/6)
الدّيانة البوذية
بقلم الشيخ محمد ضياء الرحمن الأعظمي
ولد بوذا (1) في مدينة "لمبنى" قريب من "كبلوستو"وكان أبوه "شد ودن"ملك"شاكيا" (2) وهناك خلاف كبير بين المؤرخين حول بوذا ووجوده التاريخي لأن تدوين تعليماته لم يبدأ إلا بعد مضي ثلاثة قرون في زمن الملك "أشوكا" فكانت الحكايات والتعليمات تتناقل في هذه القرون المظلمة مشافهة ولهذا لم يصل أحد إلى حقيقة بوذا وتعاليمه الأصلية إلا ما عثر من الملك"أشوكا"ولوحاته والسبب في ذلك هو أن تعليمات بوذا لم تسمح لأحد من أتباعه أن يدون شيئا باسمه خوفا من السمعة والرياء فمن كتب شيئا أو ألف كتابا أخفى اسمه حتى بقي تاريخ التأليف مجهولا لدى التاحثين.
وقد توفيت أم بوذا بعد ولادته بأسبوع فاحتضنته خالته"برجابتى جوتمي"فلما بلغ بوذا رشده تعمق في وجود هذا الكون وصار يفكر في إخراج الناس من المصائب والآلام حتى خاف عليه أبوه من تركه الدنيا واتصاله بالرهبان والزهاد فاستعجل خطبة ابنه ببنت"كوليا"تسمى "جشودرا"فبقي بوذا مع زوجته بعض السنوات وولد له طفل "راهول" ولكنه لم يصبر على هذه الحياة بعد ما رأى الهرم والمريض والميت والراهب فترك بيته ليلا سنة 534 ق. م.
يذكر بوذا هذه الحكاية لصديقه "بوجي راج"ابن الملك"أديا" وقد عاش مع الرهبان ست سنوات يتحمل المشاق فلما بلغ من عمره ستا وثلاثين حصل له العلم سنة528ق. م وبقي يدعو الناس إلى دينه خمسا وأربعين سنة حتى توفي في سنة 483وهو ابن ثمانين.
تعليمات بوذا:
إن الأمر المتفق عليه من جميع أتباع بوذا هو الحقائق المقدسة الأربعة:
1ـ الحقائق المقدسة في أسباب الحزن والآلام: الولادة حزن، والكهولة حزن والمرض حزن والموت حزن والنفور حزن وعدم الوصول إلى المحبوب حزن (3) .
2ـ الحقائق المقدسة في أسباب وجود الحزن: أسباب الحزن هي الأمنية الكاذبة والشهوات المهلكة.(5/7)
3ـالحقائق المقدسة للقضاء على الآلام والأحزان: ي إماتة الشهوات العمياء والرغبات النفسية واجتناب الحاجات الزائدة والسعي في قطع العلاقة بينها.
4ـ الحقائق المقدسة في الأعمال التي تساعد على الآلام والأحزان وهي ثمانية أصول:
1ـ الاعتقاد الصحيح (1) .
2ـالنية الصالحة (2) .
3ـ القول السديد (3) .
4ـ الفعل الحسن (4) .
5ـ الكسب الصحيح (5) .
6ـ السعي المشكور.
7ـالذكرى الصالحة.
8ـالمراقبة الصحيحة.
ولحصول هذه الحقائق أربع مراحل:
1ـ العهد والميثاق.
2ـ الحياة قبل الأخير تكون متلبسة بالخيالات الفاسدة والأوهام الباطلة.
3ـ الحياة الأخيرة التي لا تكرار بعدها يعني النجاة من الخيالات الفاسدة.
4ـ العلم بحقائق الأشياء وحصول "نروان"بعد الموت.
الأصول العشرة للرهبان:
1ـ تحريم قتل النفس.
2ـ تحريم السرقة.
3ـ تحريم الزنا.
4ـ تحريم الكذب.
5ـ تحريم الخمر.
6ـ تحريم الأكل بعد الظهر.
7ـ تحريم الرقص والموسيقى.
8ـ تحريم التطيب.
9ـ تحريم الجلوس على الشوارع والمكان المرتفع.
10ـ تحريم قبول الهدايا من الذهب والفضة.
ومن تعليمات بوذا أنه لا يعتقد في وجود الطبقات مثل الهندوسية بل سوى بين الناس جميعا. وليس معنى هذا الكلام أنه ينكر فضل بعض الناس على بعض كما تخبط بعض الشيوعيين في استنتاجهم بل المراد به أن التفريق العنصري الذي دعا إليه الهندوس ليس هو أساس بل الأساس في التفريق هو إصلاحية الفرد وأعماله في الحياة الماضية (6) والحاضرة ويضيف إلى هذا أن النجاة قد تحصل لفرد من أدنى الطبقات إذا سلك طريق العشق والحب والمراقبة والنية الصالحة.
سبب الآلام والمصائب:(5/8)
يقول بوذا: تبدأ الآلام والمصائب إذا أراد أحد أن يميز ذاته عن آخرين لأن كل شيء في الكون مركب ومرتب على وحدة لا انفكاك عنها فإبراز شخصية يدعو إلى تغيير العالم والإنسان يحس الضعف والوهن لأنه غير مقدر على تغيير الكون فتفتح له أبواب المصائب والجاهل لا يعذر في هذا النظام المحكم (1) .
الإله:
اختلف الباحثون قديما وحديثا في تصور الإله عن البوذية فجاؤوا بأشياء لا يقام لها وزن في نقد العلم. وأنا أذكر وجهة الفريقين المنكرين والمثبتين وأترك الأمر للباحثين.
وجهة المنكرين:
1ـ ينقل عن بوذا: إن الراهبين من الهندوس جاءا عنده وهما يريدان الاتحاد"ببرهما" فوقع بينهما خصومة شديدة في تعين الطريق فتحاكما إلى بوذا.
قال بوذا: هل تعرفان مسكن برهما؟.
قالا: لا.
قال بوذا: هل رأيتما برهما؟
قالا: لا.
قال بوذا: هل تعرفان طبيعة برهما؟
قالا: لا.
قال بوذا: هل ترضيان أن تتحدا بالشمس؟.
قالا: لا؛ لأنها بعيدة عنا وهي محرقة.
قال بوذا: إذا لم يمكن لكما أن تتحدا بالشمس وهى مخلوقة فكيف بخالقها؟ ثم قال لهما: هل برهما حاسد ومتكبر؟.
قالا: لا..
قال بوذا: وهل يوجد فيكم الحسد والكبر والبغض؟.
قالا: نعم.
فال بوذا: إذاً كيف يمكن لكما أن تتحدا ببرهما وطبيعتكما تخالف طبيعته؟ .
2ـ مرة حصل الكلام بين بوذا وبين عالم هندوسي"واششتا"فقال له بوذا:
هل رأيت برهما بعينك؟ بل هل من أسلافك مثلا"اشتك", "وامك", "وام ديو", "وشيا مترا"وغيرهم رأوه بأعينهم؟ (2) فسكت الهندوس.
3ـ من العلماء المتقدمين الذين أنكروا على بوذا:
تاج سين سنة150 ق. م، ناجا أرجن سنة175 م، آسنك سنة360 م، بسوبند سنة 400م، دجناج سنة420م، شانت سنة750م، شاكيا شري بدر سنة 1200م وغيرهم.
هذه بعض أدلة المنكرين فمن يريد الإيضاح أكثر من هذا فليرجع إلى كتاب "راهول"المسمىبـ"بوذا درشن" من صفحة 1، 41 ـ52، 171.
أدلة المثبتين:(5/9)
العقل والنقل: أما العقل فلا يتصور الدين بدون إله لأنه أساس مشترك بين جميع الأديان0
وأما النقل: فقد جاء لفظ "ايشور" في كتاب: "انكزنكاي" وفي كتاب"منجم نكاي".
إن البوذيين لا يعتقدون اعتقاد البراهمة في ألوهية برهما بل يفضلون بوذا على برهما، وهذا لا يتطرق إلى الانكار؛ لأن تعليمات بوذا كلها تدور حول تخليص الناس من الآلام والمصائب, والديانة البراهمية تؤدي لي النزاع؛ لأنها داعية إلي وجود الطبقات في المجتمع فإنكار بوذا لهذه العقيدة الفاسدة لا يوصل إلى نفي ذات الإله. إذاً فالتصور الصحيح كما يزعم هؤلاء المثبتون هو الإقرار بوجود الإله في حد ذاته لا في شئون الحياة كلها لأن فلسفته تدور حول تخلص الناس فهو لا يحب البحث فيما وراء الطبيعة لأنه يبعده عن منهجه.
ثم يقول المثبتون أن الشبهة حصلت لأسباب:
1ـ كان"سدهارتا"سادس ستة كلهم يدعون بـ"وذا"وهم "سكها بوذا"و"بسابوذا"و"يسها بوذا"و"كوسنكا بوذا"و"كرنا كنا بوذا"و"سبا بوذا"فاختلط الأمر فذكروا هذا بدلا من ذاك وذاك بدلا من هذا.
2ـ لم يذكر تصور الاله من الحقائق الأربعة وهي أسس التعاليم البوذية.
3- إن بوذا قد أغار على برهما ولم يحترم بفكرة ويدا فاتهمه الهندوس بالإلحاد وشاع هذا القول بوذا غارات شنيعة ففسقوه وبدعوه حتى صارت البوذية غريبة في وطنها ومسقط رأسها.
4ـ كيف يتصور أن تكون التعاليم البوذية فارغة من مسائل الإله الأكبر فظل البوذيون يعبدونه من دون الله.
وقد رجح هذا المذهب الدكتور رادها كرشنا في كتابه"فلسفة الهند"ج1ص355.
هذه بعض أدلة الفريقين وهما موجودان في يومنا هذا وأنا متوقف بدون ترجيح {ولا تقف ما ليس لك به علم}
العبادة عند البوذية:
إنها تخلت عن طريق العبادة بالحركات والسكنات كلية فالعبادة عندهم هي:
1ـ الأعمال الصالحة وعدم الإيذاء والقتال واجتناب المسكرات.
2ـ تزكية النفس من حطام الدنيا وزينتها حتى تصل إلى مرتبة"بوذا".(5/10)
3ـ الإكثار من الحمد والثناء على بوذا لحسنه وجماله وكماله.
4ـ التلذذ بتصوره وذكره في الخلوة والمجمع والدعاء بصيرورة نفسه مثله كاملة في الحياة الثانية.
5ـ تذكر اسم بوذا وتصوره من أعلى مراتب العباد, وأدت هذه العقيدة إلى تعظيم المشايخ حتى فتح باب الشرك. وفي اعتقاد البوذيين أن النجاة لا تحصل بمطالعة الكتب والتدبر فيها بل لا بد من الأخذ عن الشيخ الكامل الذي يبلغ درجة"بوذا"في تزكية نفسه وتخليها عن الشهوات والرغبات وهو الوحيد الذي يتولى كشف الإسرار، وفي المرحلة الثانية يقوم العابد مقام المعبود والمعتقد مقام المعتقد والمخلوق مقام الخالق فلم يبق بينه وبين خالق أدنى فرق ومن هنا يدعي ألوهية نفسه.
لا مانع أن نستنتج من هذا إنكار بوذا اله مستقلا عن ذاته.
إشاعة الديانة البوذية:
لم تكن الديانة البوذية قاصرة على أعلى طبقات المجتمع بل فتحت صدرها لكل من أراد الدخول فيها خلافا للديانة الهندوسية, فانتشرت البوذية انتشارا هاما ودخل فيها جمهرة من الهندوس من الطبقة الوضعية. ومن حسن حظها اعتنق الملك أشوكا البوذية وجعلها دينا رسميا للبلاد وأرسل الدعاة والمبلغين في داخل الهند وخارجها وأرسل ابنه"ماهندرا"إلى جنوب الهند وسيلان فبلغت البوذية إلى شرق آسيا ووسطها ولم يكن آنذاك بين البوذيين والبراهمة خلاف كبير كما يقول السياح الصيني "فاهيانا"الذي زار الهند في القرن الخامس الميلادي يقول: إن الشعب يكرم رهبان البوذية والبراهمة سواء بسواء والمعابد لكل الدينيين تبنى جنبا على جنب0
فلما طلع القرن السابع بدأ بعض النزاعات والخلافات فانعقد مجمع "قنوج"سنة 634م بين أتباعها ففاز البراهمة في هذه المناظرات وبدءوا يكسرون شوكة البوذية إلى أن جاء "شنكراجاريا"سنة788 ـ820م من كبار شراح "ويدانت"ومن كبار دعاة الهندوس فأخرج البوذية من القارة الهندية حتى بقيت مهاجرة إلى يومنا هذا من مولدها الأصلي0(5/11)
ثم جاء بعده نور الإسلام وتغلب على البقية الباقية فانهار أمام هذا النور الإلهي الهندوسية والبوذية من السند إلى أندونيسيا وتايلند فاعتنق كثير من البوذيين والهندوس الإسلام وأخيرا هاجر رهبان البوذية من أرض الهند كليا.
---
(1) أصل الكلمة"بودها" Buddha معناها صاحب العلم والمعرفة واسمه الحقيقي"سدهارتا" siddharth اختلفوا في تاريخ ولادته فقيل سنة852 ق. م وقيل 652ق.م وقيل 552 ق0 م وقد رجع علماء الغريب سنة483 ق0 م.
(2) والآن تسمى"رميدايا"وهي شرق محطة القطار "نوتنوا"بقريب8 أميال0
(3) وقد وجدنا في التاريخ أن"بديا"و"دندبانى"كذلك يسميان ملك شاكيا0 فدفعا للتعارض قال بعض المحققين إن الحكومة كانت جمهورية والنواب لهذا البرلمان يسمون ملوكا 0راجع"بد هارش"ص19
(4) "أشوكا"ملك من ملوك الهند عاش قبل المسيح بقرنين وفي الآخير اعتنق الديانة البوذية وقام بنشرها فأرسل الدعاة اإلى الصين واليابان والتبت وسيلان وبورما ومن كبار دعاة البوذية بل كاد أن يكون وحيدا في هذا الميدان وهو الذي أمر ببناء تماثيل بوذا في مسقط رأسه بعد 318سنة وأمر بكتابة الحكم البوذية وتعاليمها على اللوحات الحجرية 0والحكومة الهندية تفتخر بمثل هؤلاء الرجال الكبار فكان من تقديرها أن جعلت تطبع على الدوائر الرسمية والنقود الهندية صورة ثلاثة رؤوس لأسد وهي ذكرى خالدة للملك"أشوكا"0
(5) انظر تفاصيلها في "منجم نكايا"اية رقم2- 4-5نقلا من كتاب ((بوذا درشن)) المصنف "راهوك سنسكرتايان"المطبوع سنة 1943
(6) ((ديد نكايا)) 2-9
(7) يعني الاعتقاد لأربع حقائق مذكورة.
(8) يعني نفي الذات والسعي في إفادة الخلق وهو ينبني على ثلاث طرق: 1-ترك الدنيا ولذاتها, 2-عدم العداوة,3-عدم القتال.
(9) ترك مالا يعنيه والقيام بما يفيده.(5/12)
(1) التذكر بالأجسام المركبة من أجزاء نجسة والمراقبة لفرح الأجسام وأحزانها والمراقبة لميلان النفس والحواس الخمسة.
(2) "منجم نكايا"1ـ2ـ3
(3) يقول بوذا: الإنسان محيط بالآلام والمصائب ولا يستطيع أن يتخلص منها حتى بعد الموت لأن مولده يتكرر فهو في بحر الحياة والممات يلطمه الموج من جميع النواحي والفرق بين الحياتين أن الأولى علة للثانية0 والثانية معلولة للأولى والحياة مركبة من خمسة عناصر: 1- الصفات المادية أو التجسيم , 2- الحس, 3 - الإرادة غير المادية ,4- الترجيحات, 5- الأفكار والتصورات0 فإذا اختل الجسم عن هذه العناصر وقع الموت والموت لا يفنى الأعمال لأنها خارجة عن قدرتها ولها صلاحية على خلق شخص وهي معلول0
(4) أزلية بوذا ص 145المؤلفه دوداس.
(5) ص164.
يجدر الإشارة هنا بأن البراهمة توهموا بهذه الحكاية إنكار بوذا وجود الإله لاعتقادهم باتحاده.
(6) "نيوجاستا"المترجم ص87.
(7) الباب41
(8) الباب 101وهمامن الكتب الأساسية لتعليمات بوذا.(5/13)
القيم الإنسانية في الصوم
بقلم الشيخ محمد وفا هاشم
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
الشعور بالوحدة التامة، والمساواة الكاملة بين الإنسان وأخيه الإنسان نراهما واضحين في فريضة الصيام إذ هو تطبيق عملي لهذه المبادئ الإنسانية فالغني الفقير وغيرهما من ذوي الشرف والترف، وأصحاب الجاه والسلطان يشتركون في بداية الصوم ونهايته دون اختيار لواحد منهم. كما يشتركون في الحرمان المشروع طول اليوم فلا الغني الواجد يعصمه غناه عن أداء هذه الفريضة، ولا الفقير المعسر ينقذه إعساره من مشقتها إذ الكل أمام الاختبار الإلهي سواء.
إن حرمان الغني الموسر من الطعام وهو ميسور لديه ومن الشراب وهو كائن بين يديه يحمله على الشعور بما يقاسيه الفقير طوال العام فتتحرك فيه العاطفة الإنسانية وتضعف في نفسه عوامل الأنانية، وتقوى فيه دوافع الغيرية، فيشعر بالعطف السابغ يغمر قلبه، فتفيض نفسه بالخير، وتمتد يده بالإحسان ليخفف عن إخوانه في الله عبئ الحياة وشظف العيش، ومرارة الجوع، وآلام الحرمان ويسرع إلى نجدة كل محروم، ونصرة كل مظلوم، وإسعاف كل مكلوم، وبذلك يتولد بين الجماعة تراحم بالغ، وود كامل، وترابط قوي، وتكافل في الخير، وتعاون يمتد أثره إلى نواحي الحياة العامة وبهذا يصير المجتمع المؤمن كله كما أراده الله، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"، وكما قال صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
الصوم عبادة من ثمراتها أن يملك الإنسان زمام نفسه يكفها عن رغباتها، وكبح جماح شهواته، وتهذيب سلوكها، وكبت عواطفها, وهو بهذا يعد الإنسان إعدادا كاملا للصمود أمام أحداث الزمن، ونوائب الحياة، ويمده بالشحنة التي تهيئه لتحمل الصدمات في المحن والأزمات بقلب مطمئن، ونفس راضية بما يجري به القدر، ويجيء به القضاء.(5/14)
الصوم بما فيه من تطهير للروح، وتزكية للنفس، وتهذيب للخلق، وتقويم للسلوك، يربي الإرادة الحرة، ويقوي العزيمة الصادقة، ويشعر الإنسان بمراقبة الله له في خلواته ومجتمعاته لأنه سر خفي بين المرء وربه, ولذا أضافه المولى جل وعلا إلى ذاته كما جاع في حديث قدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به".
فإذا أيقن الصائم أن الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء يطلع عليه ويراقبه في غدواته وروحاته، ويحصي عليه كل تصرفاته، ويسجل له أو عليه كل حسناته وسيئاته في كتاب لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها قويت صفة المراقبة في نفسه, وعدل سلوكه في الحياة طمعا في رحمة الله ورجاء في ثوابه، وخوفا من عقابه، ورغبة في التقوى التي جعلها الله شعار المؤمنين، وثمرة صيام الصائمين حيث قال في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
إن التقوى التي جعلها الله سبحانه هدفا من أهداف الصوم، وثمرة من ثماره قدر مشترك بين جميع العبادات. ولكن الصوم أخذ منها نصيبا كبيرا وحظا وافرا أنه جاوز الدائرة التي تقف عندها العبادات الأخرى التي تنم بالكف عن المحرمات وأضاف إليها نوعا جديدا يظهر في الكف عن الحلال والمباح، والامتناع عن مقومات الحياة من طعام شهي، وشراب سائغ.(5/15)
فإذا صام المسلم شهرا كاملا صارت التقوى ملكه في نفسه تتحكم في سلوكه، وتسيطر على أحاسيسه، وتوجهه نحو الخير، وتذكره بالرقيب الأعلى فيحيا الضمير الإنساني ويقوى الوازع النفسي، ويحظى المجتمع بالأفراد الصالحين، والمواطنين المخلصين العاملين لوطنهم ومجتمعهم في حزم وعزم يؤدون الواجب, ويحسنون الإنتاج، ويسهمون في الخير ويقاومون الفساد، ويجتنبون الشر، ويبرؤون بأنفسهم عن الخيانة والغش، ويحاربون التبذير والإسراف، ويقفون في وجه المحتكر اللعين، والمستغل الجشع، عندئذ تطيب الحياة وتصفوا الموارد، ويسعد المجتمع أفراد وجماعات.
إن الصوم الذي فرضه الله علينا بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ,ليس معركة مبهمة ضد الجسم ولكنه خطة واضحة المعالم تهدف إلى تطهير النفس، وتزكية القلب، وتقوية الروح، وتعديل السلوك لتسير في الحياة على نهج قويم، وخلق كريم، وصدر رحيم، ونفس راضية مطمئنة تحب الخير وتصنع المعروف، وتنأى عن الشر، وتقاوم المنكر فيحفظ كل صائم لسانه عن السباب المرذول, ميصونه عن الفاحش من القول والسافل من المجون، ويترفع عن عورات الناس ومثالبهم فلا يبحث عن أسرارهم، ويجري وراء أخبارهم لينشرها بين عامة الناس وخاصتهم حتى تصبح خبرا مشاعا وحديثا مذاعا وبذلك ينال من كرامتهم ويحط من سمعتهم.
إن الصوم الكامل المقبول المثاب عليه لا يتفق مع الأخلاق الوضيعة، ولا يلائم الأفعال الدنيئة التي لا تصدر إلا عن قلوب مريضة، ولكنه يحتاج إلى صفات مثالية رفيعة، ونفوس شافة بريئة تصنع الخير، وتألف الإحسان تمقت الإثم، وتكره الظلم وتحب العدل، وتجنح إلى السلم وتحارب الشر في مختلف صوره لأنه يقطع الصلة، ويمحق المحبة ويزيل المودة، ويمزق الأسر، ويفرق الجماعة.(5/16)
من أجل هذا وذاك حذرنا المربي الأول محمد صلى الله عليه وسلم من كل عمل فيه إساءة للفرد أو اعتداء على حقوق الجماعة حيث قال: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق فإذا سابه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم".
إن رمضان شهر الذكريات التي جمعت النفوس، فألفت بين القلوب، وشدت الجماعة الإنسانية إلى الخالق الأعلى، وأوجدت بين أفرادها الروابط المثالية القوية التي لا تنفصم عراها، ولا تضعف أواصرها.فالقرآن الكريم نزلت أول آية منه على محمد صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين في ليلة مباركة من ليالي شهر رمضان. أنزل الله القرآن الكريم لينقذ الإنسانية المعذبة الحائرة من الهوة السحيقة التي تردت فيها، والغور العميق الذي انحدرت إليه، والمصير الغامض المجهول الذي لا تعرف مداه ولا تقدر نهايته بما رسمه لهم من خطط هداية واضحة سليمة، ومن مناهج قويمة، فقد تضمنت آياته كل ما يحتاج إليه البشر في حاضرهم ومستقبلهم، في معاشهم ومعادهم من بيان العقيدة الصالحة الواضحة التي ترتاح لها القلوب وتطمئن النفس القلقة بما تسمع من بيان دونه كل بيان، وبما ترى من أحكام وأحكام صالحة لكل زمان ومكان.
يقول لله سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} ويقول سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} .وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} .(5/17)
جاء القرآن كذلك بالقيم الإنسانية الكفيلة بحفظ نظام المجتمع وتماسك أفراده، وسعادة أبنائه. فوضع العدل وجعله أساسا للحكم، ودعا الناس إلى الأخذ به، وتطبيقه فيما يحدث بينهم من خصومات. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} وبذلك يطمئن كل فرد في المجتمع الإسلامي على حقوقه المشروعة فلا يسلب الأقوياء حقوق الضعفاء، ولا يستغل الأغنياء جهود الفقراء، ولا يستهتر الحكام بمصالح المحكومين، وبهذا يعيش الناس إخوان متحابين يتعاونون على البر ويتكافلون في الخير، ويتعاطفون في السراء والضراء.
دعا القرآن الكريم كذلك إلى الصفات المثالية، والسجايا الرفيعة التي تعمق المحبة وتحفظ أواصر المودة كالعفو والإيثار والكرم وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} , وقال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} , وقال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً, إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} .
فإن كان الناس في حاجة ماسة إلى الأخذ بهذه المبادئ الإنسانية، والتعامل بها فيما بينهم في غير رمضان فهم أشد حاجة إليها فيه، لأن الصيام ربط بينهم، وطهر نفوسهم، وجعلهم يشعرون بما لإخوانهم عليهم من حقوق واجبة الرعاية، والأداء.(5/18)
لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سمحا جوادا كريما لم ياجره في جوده أحد ولم يسبقه فيه إنسان فإذا جاء رمضان بلغ جوده نهاية الجود حتى كان أجود بالخير من الريح المرسلة وقد روى عنه الرواة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حينما يلقاه جبريل فيدارسه القرآن فرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة".
وفي رمضان ارتفعت أعلام الجهاد فوق رؤوس المسلمين، وعقدت لهم ألوية النصر إذ خاضوا كثيراً من المعارك التي جاءت فاصلة بين الحق والباطل والخير والشر وفي مقدمتها غزوة بدر الكبرى التي تعتبر غرة في جبين المعارك الإسلامية إذ فيها نصر الله الطائفة القليلة المستضعفة على الكثرة الطاغية الباغية المستبدة المعتزة بعدتها وعددها، والحق الأعزل على الباطل المغرور الأحمق المدجج.
ونرى القبائل القريبة، والشعوب البعيدة جيش محمد صلى الله عليه وسلم يخرج من معركة متكافئة منتصرا عزيزا كريما فيوقنون أن الأمر بيد الله يعز من يشاء ويذل من يشاء سبحانه {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
وهكذا نرى أن النصر في المعارك لا يرجع إلى قوة الاستحكامات وحدها، ولا يتوقف على براعة الخطط وكثرة العدد ووفرة العدد بقدر ما يتوقف على الإيمان بالله الذي يحيط عباده بالعناية والرعاية، ويمدهم بقوة من عنده، ومدد من جنده وفي ذلك يقول سبحانه: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ. بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} , {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} .(5/19)
ذلك الكتاب لاريب فيه
بقلم الشيخ محمود عبد الوهاب فايد
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
الكتاب الذي لاريب فيه، ولا نقص يعتريه هو القرآن الكريم، الذكر الحكيم ولا غرو فهو لبلاغة آياته، وسمو إرشاداته،ودقة معلوماته، وقوة دلائله وبيناته، وجمال قسماته، يملأ القلب يقينا بأنه نزل من سماء الحق لهداية الخلق على لسان أمّيّ لم يعرف عنه قبل نزوله انه اشتغل بشيء من علومه، أتى بكلام يساويه في فصاحته، أو يدانيه في بلاغته.
نعم إن كل منصف غير متعسف يجلس إلى مائدة القرآن، ويتأمل ما ورد فيه من معان لابد أن يقتنع بأنه آية الله الكبرى وحجته الخالدة، لابد أن يشهد بأنه بحق كتاب مبين، وواعظ ناطق، وبرهان قاطع، ونورساطع، وعقيدة صافية، وعبادة هادية ومعاملات سليمة، وأخلاق كريمة، وسياسة رحيمة، دستور سماوي، وتشريع روحي، وقانون رباني، وإصلاح اجتماعي، ونظام دولي، ويعتمد عليها طلاب المعرفة ويستند إليها أرباب النظر.
ولا بدع فقد قال الله تعالى وهو أصدق القائلين {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (1) ـ وروى عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا القرآن مأدبة فاقبلوا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن الله جل الله والنور المبين والشفاء النافع, عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن تبعه لا يزيغ فيستعتب ولا يعوج فيقوم ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق من كثرة الرد، أتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته، كل حرف عشر حسنات, أما إني لا أقول {ألم} حرف ولكن ألف ولام وميم". أخرجه الحاكم وصححه(5/20)
هذا الذي نقوله عن القرآن قد اعترف به كثير من عباقرة العالم ومشاهير الرجال في عصرنا الحديث. قال الفيلسوف الفرنسي (الكسى لوازون) : "خلف محمد للعالم كتابا هو آية البلاغة, وسجل للأخلاق, وكتاب مقدس, وليس بين المسائل العلمية المكتشفة حديثا مسألة تتعارض مع الأسس الإسلامية فالانسجام تام بين تعاليم القرآن والقوانين الطبيعية."
وقال (هيرشفيلد) :"وليس للقرآن مثيل في قوة إقناعه وبلاغته وتركيبه واليه يرجع الفضل في ازدهار العلوم بكافة نواحيها في العلم الإسلامي".
وقال الدكتور (موريس الفرنسي) في وصف القرآن:"إنه بمثابة ندوة علمية للعلماء ومعجم لغة للغويين ومعلّم نحْوٍ لمن أراد تقويم لسانه، ودائرة معارف للشرائع والقوانين، وكل كتاب سماوي جاء قبله لا يساوى أدنى سورة من سوره في حسن المعاني وانسجام الألفاظ، ومن اجل ذلك نرى رجال الطبقة الراقية في الأمة الإسلامية يزدادون تمسكا بهذا الكتاب واقتباسا لآياته يزينون كلامهم ويبنون عليها آراءهم كلما ازدادوا رفعة في القدر ونباهة في الفكر"
وقال المؤرخ الإنكليزي الشهير (ولزآن) : "إن الديانة الحقة التي وجدتها تسير مع المدنية أنى سارت هي الديانة الإسلامية وإذا أراد إنسان أن يعرف من هذا فليقرأ القرآن وما فيه من نظريات علمية، وقوانين, وأنظمة, وقوانينه تستعمل حتى في وقتنا الحال وستبقى مستعملة حتى قيام الساعة."
هذه شهادات لبعض رجال الفكر في العصر الحديث وما أكثر الذين شهدوا للقرآن واعترفوا بأنه كتاب مجيد، فذ فريد.
ميزات القرآن:
للقرآن مميزات تفوق العد، ولا تقف عند حد، بيد أننا تشير إلى بعضها:
1 ـ يمتاز بأنه بلغ غاية الكمال في البلاغة، وامتطى صهوة الفصاحة، حتى حير العرب في زمن عرفوا فيه باللسن وقوة البيان، حيرهم وأعجزهم.(5/21)
وعلى الرغم من أنه تحداهم وأعلن عجزهم، واشتد في تقريعهم، وعنف في تجريحهم وبالغ في تحديهم, وتحدى جميع الإنس والجن, على الرغم من هذا كله لم يسعهم في النهاية إلا إن يستكينوا ويحنوا رؤوسهم تحت مقامع التبكيت والتحدي مع إبائهم وأنفتهم، وشدة عداوتهم، وكمال عدتهم، وتوفر الأسباب والحوافز التي تثيرهم، والآلات التي تعينهم في تحقيق أمنيتهم.
لقد حاولوا أن يطفئوا هذا النور، ويحطموا هذه الدعوة بإعلان الحرب عليها، وقتل الداعين لها.فما الذي يحوجهم إلى استخدام السنان لو كانوا يستطيعون القضاء عليها باللسان. ألم يكن من الأسهل عليهم أن يردوا عليه بسورة قصيرة أو آيات يسيرة ليقطعوا حجته، ويدحضوا معجزته، فما بالهم لم يفعلوا وعادوا وقد نكسوا رؤوسهم، واشهروا إفلاسهم، ورجعوا إليه خاضعين مستسلمين، دون أن يأخذوا عليه عيبا في أسلوبه، أو خللا في تركيبه، أو ضعفا في مبانيه، أو فسادا في معانيه، أو نقصا في أهدافه ومراميه.
لقد صدق الله العظيم إذ يقول: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} .
حضر أحد البلغاء مجلسا يتلى فيه القرآن فلما بلغ القارئ آية السجدة سجد وسجد معه الحاضرون، وعندما رفعوا رؤوسهم قال لهم هذا البليغ: أنتم معشر القراء تسجدون، لتلاوته ونحن معشر البلغاء نسجد لبلاغته.(5/22)
تأمل معي آيات القرآن كيف يرتبط بعضها ببعض ارتباطا وثيقا، ويتماسك تماسكا عجيبا، وتدبر هذه الآية الكريمة {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (1) تر الترابط العجيب بين اسم (اللطيف) وبدء الآية {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} والترابط الوثيق بين اسم (الخبير) وقوله سبحانه {وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} وليس في القرآن كلمة ولا حرف إلا وضعهما موضعهما الصحيح دون تقديم أو تأخير ودون تبديل أو تعديل، ودون نقص أو زيادة حتى تؤدى غرضا لا يستقيم المعنى بدونه.
وفي القرآن مادة وفيرة، ومعان غزيرة لا تجدها في أي كتاب سواه، يحكى أن الأصمعي وقف متعجبا من امرأة تنشد شعرا فقالت: أتعجب من هذا؟ أين أنت من قوله سبحانه {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (2) فقد جمع بين أمرين ونهيين وبشارتين إلى جانب ما فيه من معنى جلى ولطف خفي.
2 ـ يمتاز بأنه جمع كل ما يحتاج إليه الخلائق في معاشهم ومعادهم فهو يضع نظاما للفرد والجماعة والدولة ويعمل على توثيق الروابط وينهض بالناس جسميا وعقليا وخلقيا، ودينيا، ويقيم لهم منهاجا كاملا يكفل لهم سعادة الدنيا والآخر {رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} (3) .(5/23)
ربطهم بالإله الذي خلقهم، وأسبغ عليهم نعمه، وفاض عليهم كرمه، فلا أقل من أن يعبدوه ويطيعوه ويشكروه ولا يشركوا به شيئا، {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (1) , {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} (2) , هكذا يسبق الله عباده بالإنعام عليهم، والإحسان إليهم ليكون ارتباطهم به عن طريق الحب لا عن طريق القهر، وقديما قيل (جبلت القلوب على حب من أحسن إليها) وما من نعمة وصلت إلى الإنسان إلا والله هو موجدها وسائقها وميسرها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ(5/24)
السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (1) , {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} (2) , {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (3) .(5/25)
وإيماننا بالله وحبنا له، يقتضي أن نحب رسوله، ونتبع هداه، ونلتزم وصاياه, {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (1) , "لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما".عن طريق الحب يرتبط العبد بالله ورسوله، وعن هذا الطريق نفسه يرتبط الإنسان بمن حوله من الناس، ويحرص القرآن على أن ينمى بذور المحبة، ويقتلع جذور العداوة والبغضاء ويفتح جميع أبواب الخير، ويغلق جميع منافذ الشر، ويمهد سبل الحب بين الناس. استمع إليه وهو يقول {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (2) , {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (3) ـ {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} (4) ـ {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (5) ـ {وَذَرُوا ظَاهِرَ الأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} (6) ـ {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} (7) ـ {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (8) ـ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ(5/26)
يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} (1) .
لقد اهتم الإسلام بأن ينقى المجتمع من الآثام ويصونه من الإجرام، ويؤسسه على الفضائل ويحميه من الرذائل ونصب حكاما يشرفون على بنائه، ويحفظونه من عوامل الهدم وأيدي التخريب، ويقيمون حدود الله، وألزم الأمة بطاعتهم ما أطاعوا الله ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (2) .
وخوفا من أن يستبد الحكام أو ينحرفوا جعل الحكم شورى وأوجب العدل ورغب في الإحسان والفضل ليشيع الحب والصفاء، والإخلاص والو فاء، والسلام والإخاء ولتقوم روابط قوية بين الراعي والرعية قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (3) ـ {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (4) ـ {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (5) .(5/27)
وقضية المال التي قسمت العالم إلى معسكرين متصارعين في عصرنا الحديث ـ كان للقرآن منها موقف وسط أنصف الفقراء والأغنياء على السواء لقد راعى غريزة التملك فلم يعارضها، وراعى حقوق الجماعة فلم يجحدها فأباح الملكية الفردية موافقة للغريزة البشرية، وأوجب في المال حقوقا يحارب الحاكم مانعها إنصافا للجماعة الإنسانية قال تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (1) . أضاف المال إليهم وبعدئذ فرض الحق عليهم.
والمرأة وما أدراك ما المرأة! لقد شغلت العالم قديما وحديثا وذهب الناس فيها مذاهب متناقضة تتسم بالغلو في التقييد والإطلاق فأنصفها القرآن وجعل أساس معاملتها قول الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (2) قرر حقها في التعلم والتعليم وساوى بينها وبين الرجل في التكاليف الشرعية ما عدا لوازم الأنوثة وأشركها في الأعمال الاجتماعية التي يقوم عليها المجتمع بما يتناسب مع طبيعتها وسوى بينهما في الجزاء على الأعمال وجعلها ذات مسؤولية مستقلة فيما بتعلق بشئونها أمام الله.(5/28)
قال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (1) ، وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (2) , وقال: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} (3) .
اعترف بحق المرأة في التفكير، واحترم رأيها، وسمح لها بان تناقش وتجادل فيما أشكل أمره كيف لا وقد جادلت رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن يقر صنيعها ولا يجد فيما فعلته ما يوجب اللوم أو المؤاخذة قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} الآيات.(5/29)
شيء واحد يحرص عليه الإسلام كل الحرص أن يصون سمعة المرأة ويضمن راحتها وينأى بها عن مواطن الريب والشكوك ,ومن أجل ذلك حبب إليها البيت، وأوجب على ولي أمرها أبا وزوجا أن يقوم بنفقتها، فإن دعتها الحاجة إلى أن تخرج طلب منها الإسلام أن ترتدي ثيابا تخفى مفاتنها وتستر عورتها حتى لا يسيء إليها مسيء أو يطمع فيها دنيء قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} (1) .
ويشتد الإسلام على من يجرح كرامة المرأة بغير حق فيقرر في القرآن {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
هكذا ينصفها الإسلام وهكذا يرفع شأنها القرآن، وهكذا نجد في كتاب الله علاجا ناجحا لكل مشكلة، وجواب شافيا عن كل مسألة.
وإلى لقاء قريب إن شاء الله.
---
(2) آية 89من سورة النحل.
(3) في المستدرك ج1ص555 قال الحاكم عقبه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بصالح بن عمر. قال الذهبي: صالح ثقة خرج له لكن إبراهيم بن مسلم ضعيف اهـ والحديث ذكرناه على سبيل الاستئناس.
(4) الإسراء آية 88
(5) الأنعام آية1.3
(6) القصص آية7.
(7) يونس آية57.
(8) النحل الآيات17ـ22
(9) النحل آيات78ـ11
(10) فاطر آية3
(11) النحل آية53
(12) الزمر آية6،7
(13) آل عمران آية2
(14) المائدة آية3
(15) العصر آية 3
(16) النحل آية9.
(17) النساء آية 62
(18) الإنعام آية52 ـ 53
(19) الإسراء آية32
(20) الإسراء آية32
(21) الحجرات آية1.
(22) النساء آية59
(23) آل عمران آية159
(24) النساء آية58
(25) النحل آية128
(26) الذريات آية19(5/30)
(1) البقرة آية 228
(2) الأحزاب آية 34 ـ 35
(3) التوبة آية71
(4) المجادلة آية1
(5) سورة الأحزاب آية59
(6) سورة النور آية4(5/31)
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب
لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطى
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
سورة النحل
قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ} الآية. هذه الآية الكريمة تدل على أن هؤلاء الضالين المضلين يحملون أوزارهم كاملة ويحملون أيضا من أوزار الأتباع الذين أضلوهم. وقد جاءت آيات أخر تدل أنه لا يحمل أحد وزر غيره كقوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} وقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} .
والجواب: أن هؤلاء الضالين ما حملوا إلا أوزار أنفسهم لأنهم تحمَّلوا وزر الضلال ووزر الإضلال.
فمن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا لأن تشريعه لها لغيره ذنب من ذنوبه فأخذ به, وبهذا يزول الإشكال أيضا في قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} الآية.
قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} الآية. هذه الآية الكريمة يفهم منها أن السُكر المتخذ من ثمرات التخيل والأعناب لا بأس به لأن الله
امتن به على عباده في سورة الامتنان التي هي سورة النحل, وقد حرّم تعالى الخمر بقوله: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} الآية, لأنه وصفها بأنها رجس وأنها من عمل الشيطان وأمر باجتنابها ورتب عليه رجاء الفلاح, ويفهم منه أن من لم يجتنبها لم يفلح وهو كذلك، وقد بيَّن صلى الله عليه وسلم أن كل ما خامر العقل فهو خمر وأن كل مسكر حرام وأن ما أسكر كثيره فقليله حرام.(5/32)
والجواب ظاهر وهو أن آية تحريم الخمر ناسخة لقوله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} . الآية. ونسخها له هو التحقيق خلافا لما يزعمه كثير من الأصوليين من أن تحريم الخمر ليس نسخا لإباحتها الأولى؛ لأن إباحتها الأولى إباحة عقلية, وهي المعروفة عند الأصوليين بالبراءة الأصلية, وتسمى استصحاب العدم الأصلي, والإباحة العقلية ليست من الأحكام الشرعية حتى يكون رفعها نسخا, ولو كان رفعها نسخا لكان كل تكليف في الشرع ناسخا للبراءة الأصلية من التكليف به, وإلى كون الإباحة العقلية ليست من الأحكام الشرعية أشار في مراقي السعود بقوله:
وما من الإباحة العقلية
قد أخذت فليست الشرعية
كما أشار إلى أن تحريم الخمر ليس نسخا لإباحتها؛ لأنها إباحة عقلية وليست من الأحكام الشرعية حتى يكون رفعها نسخا بقوله:
أباحها في أول الإسلام
براءة ليست من الأحكام
وإنما قلنا إن التحقيق هو كون تحريم الخمر ناسخا لإباحتها؛ لأن قوله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} يدل على إباحة الخمر شرعا, فرفع هذه الإباحة المدلول عليها بالقرآن رفع حكم شرعي فهو نسخ بلا شك, ولا يمكن أن تكون إباحتها عقلية إلا قبل نزول هذه الآية كما هو ظاهر, ومعلوم عند العلماء أن الخمر نزلت في شأنها أربع آيات من كتاب الله:
- الأولى: هذه الآية الدالة على إباحتها.
- الثانية: الآية التي ذكر فيها بعض معايبها, وأن فيها منافع وصرحت بأن إثمها أكبر من نفعها, وهي قوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} فشَرِبها بعد نزولها قوم للمنافع المذكورة, وترَكها آخرون للإثم الذي هو أكبر من المنافع.
- الثالثة: الآية التي دلت على تحريمها في أوقات الصلاة دون غيرها, وهي قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} الآية.(5/33)
- الرابعة: الآية التي حرمتها تحريما باتا مطلقا, وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} , والعلم عند الله تعالى.
وأما على قول من زعم أن السكر: الطعم, كما أختاره ابن جرير وأبو عبيدة, أو أنه الخل فلا إشكال في الآية.
قوله تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ} الآية. هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن الشيطان له سلطان على أوليائه, ونظيرها الاستثناء في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} .
وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على نفي سلطانه عليهم كقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} الآية, وقوله تعالى حاكيا عنه مقررا له: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} الآية.
والجواب: هو أن السلطان الذي أثبته له عليهم غير السلطان الذي نفاه؛ وذلك من وجهين:
الأول: أن السلطان المثبت له هو سلطان إضلاله لهم بتزيينه, والسلطان المنفي هو سلطان الحجة, فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها غير أنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان, وإطلاق السلطان على البرهان كثير في القرآن.
الثاني: أن الله لم يجعل له عليهم سلطانا ابتداء البتة, ولكنهم هم الذين سلّطوه على أنفسهم بطاعته, ودخولهم في حزبه فلم يتسلط عليهم بقوة؛ لأن الله يقول: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} , وإنما تسلّط عليهم بإرادتهم واختيارهم, ذكر هذا الجواب بوجهيه العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى.(5/34)
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} . هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن معية الله خاصة بالمتقين المحسنين، وقد جاء في آيات أخر ما يدل على عمومها, وهي قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} , وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم} , وقوله: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} , {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْن} الآية. والجواب: أن لله معية خاصة ومعية عامة, فالمعية الخاصة بالنصر والتوفيق والإعانة, وهذه لخصوص المتقين المحسنين كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} . وقوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} . الآية, وقوله: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} . ومعية عامة بالإحاطة والعلم؛ لأنه تعالى أعظم وأكبر من كل شيء, محيط بكل شيء, فجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل في يد أحدنا وله المثل الأعلى, وسيأتي له زيادة إيضاح في سورة الحديد - إن شاء الله - وهي عامة لكل الخلائق كما دلّت عليه الآيات المتقدمة.
سورة بني إسرائيل(5/35)
قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} . هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن الله تعالى لا يعذب أحداً حتى ينذره على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام, ونظيرها قوله تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} , وقوله تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} , إلى غير ذلك من الآيات, ويؤيده تصريحه تعالى بأن كل أفواج أهل النار جاءتهم الرسل في دار الدنيا في قوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا} الآية. ومعلوم أنّ (كلما) صيغة عموم, ونظيرها قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} إلى قوله تعالى: {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} فقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعمّ كلّ كافر, لما تقرر في الأصول من أن الموصولات من صيغ العموم, لعمومها كلّما تشمله صلاتها كما أشار له في مراقي السعود بقوله:
وقد تلا الذي التي الفروع
صيغة كل أو لجميع(5/36)
ومعنى قوله: (وقد تلا الذي الخ..) : أن (الذي) , و (التي) وفروعها صيغ عموم ككل وجميع, ونظيره أيضا قوله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} إلى قوله: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} فانه عام أيضاً؛ لأن أول الكلام {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} وأمثال هذا كثيرة في القرآن مع أنه جاء في بعض الآيات ما يفهم منه أن أهل الفترة في النار, كقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} , فإن عمومها يدل على دخول من لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك عموم قوله تعالى: {وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} , وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} . وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الأَرْضِ ذَهَباً} الآية. إلى غير ذلك من الآيات. اعلم أولا: أن من يأته نذير في دار الدنيا وكان كافرا حتى مات اختلف العلماء فيه هل هو من أهل النار لكفره أو هو معذور لأنه لم يأته نذير؟ كما أشار له في مراقي السعود بقوله:
ذو فترة بالفرع لا يراع
وفي الأصول بينهم نزاع(5/37)
وسنذكر إن شاء الله جواب أهل كل واحد من القولين, ونذكر ما يقتضي الدليل رجحانه, فنقول: -وبالله نستعين- قد قال قوم: إن الكافر في النار ولو مات في زمن الفترة وممن جزم بهذا القول النووي في شرح مسلم؛ لدلالة الأحاديث على تعذيب بعض أهل الفترة, وحكى القرافي في (شرح التنقيح) الإجماع على أن موتى أهل الجاهلية في النار لكفرهم كما حكاه عنه صاحب (نشر البنود) وأجاب أهل هذا القول عن آية: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} وأمثالها من ثلاثة أوجه:
الأول: إن التعذيب المنفي في قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} وأمثالها هو التعذيب الدنيوي فلا ينافي ثبوت التعذيب في الآخرة, وذكر الشوكاني في تفسيره أن اختصاص هذا التعذيب المنفي بالدنيا دون الآخرة ذهب إليه الجمهور, واستظهر هو خلافه, ورد التخصيص بعذاب الدنيا بأنه خلاف الظاهر من الآيات, وبأن الآيات المتقدمة الدالة على اعتراف أهل النار جميعا بأن الرسل أنذروهم في دار الدنيا صريح في نفيه.
الثاني: أن محل العذر بالفترة المنصوص في قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ} الآية وأمثالها في غير الواضح الذي لا يلتبس على عاقل, أما الواضح الذي لا يخفى على من عنده عقل كعبادة الأوثان فلا يعذر فيه أحد؛ لأن جميع الكفار يقرّون بأن الله هو ربهم وهو خالقهم ورازقهم, ويتحققون أن الأوثان لا تقدر على جلب نفع ولا على دفع ضر, لكنهم غالطوا أنفسهم فزعموا أنها تقربهم إلى الله زلفى, وأنها شفعاؤهم عند الله مع أن العقل يقطع بنفي ذلك.(5/38)
الثالث: أن عندهم بقية إنذار مما جاءت به الرسل الذين أرسلوا قبله - صلى الله عليه وسلم - تقوم عليهم بها الحجة, ومال إليه بعض الميل ابن قاسم في (الآيات البينات) وقد قدمنا في سورة آل عمران أن هذا القول يرده القرآن في آيات كثيرة مصرحة بنفي أصل النذير عنهم كقوله: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} , وقوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِك} وقوله: {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} , إلي غير ذلك من الآيات. وأجاب القائلون بأن أهل الفترة معذورون عن مثل قوله {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} - إلى قوله – {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} من الآيات المتقدمة, بأنهم لا يتبين أنهم من أصحاب الجحيم ولا يحكم لهم بالنار, ولو ماتوا كفارا إلا بعد إنذارهم وامتناعهم من الإيمان كأبي طالب, وحملوا الآيات المذكورة على هذا المعنى, واعترض هذا الجواب بما ثبت في الصحيح من دخول بعض أهل الفترة النار كحديث "إن أبي وأباك في النار" الثابت في صحيح مسلم وأمثاله من الأحاديث, واعترض هذا الاعتراض بأن الأحاديث - وإن صحت - فهي أخبار آحاد يقدم عليها القاطع كقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} , واعترض هذا الاعتراض أيضا بأنه لا يتعارض عام وخاص فما أخرجه حديث صحيح خرج من العموم وما لم يخرجه نص صحيح بقي داخلا في العموم, واعترض هذا الاعتراض أيضاً بأن هذا التخصيص يبطل علة العام؛ لأن الله تعالى تمدح بكمال الإنصاف, وصرح بأنه لا يعذب حتى يقطع حجة المعذب بإنذار الرسل في دار(5/39)
الدنيا, وبيّن أن ذلك الإنصاف التام علة لعدم التعذيب, فلو عذب إنسانا واحدا من غير إنذار لاختلت تلك الحكمة ولثبتت لذلك المعذب الحجة التي بعث الله الرسل لقطعها كما صرح به في قوله: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وهذه الحجة بيّنها في سورة طه بقوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ} الآية, وأشار لها في سورة القصص بقوله: {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ} إلى قوله: {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} , وهذا الاعتراض الأخير يجري على الخلاف في النقض هل هو قادح في العلة أو تخصيص لها؟ وهو اختلاف كثير معروف في الأصول عقده في مراقي السعود بقوله: - في تعداد القوادح في الدليل -:
منها وجود الوصف دون الحكم
سماه بالنقض وعاة العلم
والأكثرون عندهم لا يقدح
بل هو تخصيص وذا مصحح
وقد روى عن مالك تخصيص
إن يك الاستنباط لا التنصيص
وعكس هذا قد رآه البعض
ومنتقى ذي الاختصار النقض
إن لم تكن منصوصة بظاهر
وليس فيما استنبطت بضائر
إن جاء لفقد الشرط أو لما منع
والوفق في مثل العرايا قد وقع(5/40)
والمحققون من أهل الأصول على أن عدم تأثير العلة إن كان لوجود مانع من التأثير أو انتفاء شرط التأثير فوجودها مع تخلف الحكم لا ينقضها ولا يقدح فيها وخروج بعض أفراد الحكم حينئذ تخصيص للعلة لا تقض لها كالقتل عمدا عدوانا فانه علة القصاص إجماعا ولا يقدح في هذه العلة تخلف الحكم عنها في قتل الوالد لولده لأن تأثيرها منع منه مانع هو الأبوة وأما إن كان عدم تأثيرها لا لوجود مانع أو انتفاء بشرط فانه يكون نقضا لها وقدحا فيها ولكن يرد على هذا التحقيق ما ذكره بعض العلماء من أن قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّه} علة منصوصة لقوله: {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُم} الآية, مع أن هذه العلة قد توجد ولا يوجد ما عذب به بنو النضير من جلاء أو تعذيب دنيوي وهو يؤيد كون النقض تخصيصا مطلقا لا قدحاً. ويجاب عن هذا بأن بعض المحققين من الأصوليين قال: إن التحقيق المذكور محله في العلة المستنبطة دون المنصوصة وهذه منصوصة كما قدمنا ذلك في أبيات مراقي السعود في قوله:
وليس فيما استنبطت بضائر ...
إن جاء لفقد الشرط أو لما منع
هذا ملخص كلام العلماء وحججهم في المسألة, والذي يظهر رجحانه بالدليل هو الجمع بين الأدلة؛ لان الجمع واجب إذا أمكن بلا خلاف كما أشار له في المراقي بقوله: والجمع واجب متى ما أمكنا..الخ..(5/41)
ووجه الجمع بين هذه الأدلة هو عذرهم بالفترة وامتحانهم يوم القيامة بالأمر باقتحام نار فمن اقتحمها دخل الجنة وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا ومن امتنع عذب بالنار وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا لان الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل وبهذا الجمع تتفق الأدلة فيكون أهل الفترة معذورين, وقوم منهم من أهل النار بعد الامتحان, وقوم منهم من أهل الجنة بعده أيضا, ويحمل كل واحد من القولين على بعض منهم علم الله مصيرهم, وأعلم به نبيه صلى الله عليه وسلم، فيزول التعارض. والدليل على هذا الجمع ورود الأخبار به عنه صلى الله عليه وسلم. قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} بعد أن ساق طرق الأحاديث الدالة على عذرهم وامتحانهم يوم القيامة رادّا على ابن عبد البر تضعيف أحاديث عذرهم وامتحانهم ما نصه: "والجواب عما قال, إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء, ومنها ما هو حسن, ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن, وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها"انتهى محل الغرض منه بلفظه, ثم قال "إن هذا قال به جماعة من محققي العلماء والحفاظ والنقاد وما احتج به البعض لرد هذه الأحاديث من أن الآخرة دار جزاء لا دار عمل وابتلاء فهو مردود من وجهين: الأول أن ذلك لا ترد به النصوص الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم ولو سلمنا عموم ما قال من أن الآخرة ليست دار عمل لكانت الأحاديث المذكورة مخصصة لذلك العموم. الثاني: أنا لا نسلم انتفاء الامتحان في عر صات المحشر بل نقول دل القاطع عليه؛ لأن الله تعالى صرّح في سورة القلم بأنهم يُدعون إلى السجود في قوله جل وعلا: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} الآية ومعلوم أن أمرهم بالسجود تكليف في(5/42)
عر صات المحشر, وثبت في الصحيح أن المؤمنين يسجدون يوم القيامة وأن المنافق لا يستطيع ذلك ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طبقاً واحدا ًكلما أراد السجود خرّ لقفاه, وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجا منها أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأل غير ما هو فيه, ويتكرر ذلك مرارا, ويقول الله تعالى يا ابن آدم ما أغدرك ثم يأذن له في دخول الجنة, ومعلوم أن تلك العهود والمواثيق تكليف في عر صات المحشر والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً} : هذه الآية يظهر تعارضها مع قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} , ووجه الجمع أن الحصر في آية الإسراء حصر في المانع العادي والحصر في آية الكهف في المانع الحقيقي. وإيضاحه: هو ما ذكره ابن عبد السلام من أن معنى آية الكهف وما منع الناس أن يؤمنوا إلا أن الله أراد أن تأتيهم سنة الأولين من أنواع الهلاك في الدنيا أو يأتيهم العذاب قبلاً في الآخرة، فأخبر أنه أراد أن يصيبهم أحد الأمرين ولا شك أن إرادة الله مانعة من وقوع ما ينافي مراده فهذا حصر في المانع الحقيقي لأن الله هو المانع في الحقيقة.
ومعنى آية سبحان الذي أسرى أنه ما منع الناس من الإيمان إلا استغرابهم أن الله يبعث رسولا من البشر واستغرابهم لذلك ليس مانعا حقيقيا بل عاديا يجوز تخلفه فيوجد الإيمان معه بخلاف الأول فهو حقيقي لا يمكن تخلفه ولا وجود الإيمان معه. ذكر هذا الجمع صاحب الإتقان, والعلم عند الله تعالى.(5/43)
قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّا} الآية،هذه الآية الكريمة يدل ظاهرها على أن الكفار يبعثون يوم القيامة عمياً وبكماً وصماً. وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} , وكقوله {وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} ، وكقوله: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحا} .الآية والجواب عن هذا من أوجه:
الوجه الأول: هو ما استظهره أبو حيان من كون المراد مما ذكر حقيقته ويكون ذلك في مبدأ الأمر ثم يرد الله تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله تعالى عنهم في غير موضع.
الوجه الثاني: أنهم لا يرون شيئا يسرهم ولا يسمعون كذلك ولا ينطقون بحجة كما أنهم كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ولا يسمعونه وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس وروى أيضا عن الحسن كما ذكره الألوسى في تفسيره فتزل ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم لعدم الانتفاع به كما تقدم نظيره.
الوجه الثالث: أن الله إذا قال لهم اخسأوا فيها ولا تكلمون وقع بهم ذاك العمى والصم والبكم من شدة الكرب واليأس من الفرج قال تعالى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ} وعلى هذا القول تكون الأحوال الثلاثة مقدرة.
سورة الكهف(5/44)
قوله تعالى: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} . هذه الآية تدل بظاهرها على أن المكره على الكفر لا يفلح أبدا. وقد جاءت آية أخرى تدل على أن المكره على الكفر معذور إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان وهي قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} . الآية.
والجواب عن هذا من وجهين:(5/45)
الأول: أن رفع المؤاخذة مع الإكراه من خصائص هذه الأمة فهو داخل في قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} ويدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". فهو يدل بمفهومه على خصوصه بأمته صلى الله عليه وسلم وليس مفهوم لقب؛ لأن مناط التخصيص هو اتصافه صلى الله عليه وسلم بالأفضلية على من قبله من الرسل واتصاف أمته بها على من قبلها من الأمم. والحديث وان أعله أحمد وابن أبي حاتم فقد تلقاه العلماء قديما وحديثا بالقبول ومن أصرح الأدلة في أن من قبلنا ليس لهم عذر بالإكراه, حديث طارق بن شهاب في الذي دخل النار في ذباب قربه لصنم مع أنه قربه ليتخلص من شر عبدة الصنم, وصاحبه الذي امتنع من ذلك قتلوه فعلم أنه لو لم يفعل لقتلوه كما قتلوا صاحبه ولا إكراه أكبر من خوف القتل ومع هذا دخل النار ولم ينفعه الإكراه, وظواهر الآيات تدل على ذلك فقوله: {وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} ظاهر في عدم فلاحهم مع الإكراه؛ لأن قوله: {يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِم} صريح في الإكراه وقوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} مع أنه تعالى قال:"قد فعلت" كما ثبت في صحيح مسلم يدل بظاهره على أن التكليف بذلك كان معهوداً قبل, وقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} مع قوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّه} فأسند إليه النسيان والعصيان معا يدل على ذلك أيضا وعلى القول بأن المراد بالنسيان الترك فلا دليل في الآية. وقوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} مع قوله: {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} ويستأنس لهذا بما ذكره البغوي في تفسيره عن الكلبي من أن المؤاخذة بالنسيان كانت من الأصر على من قبلنا وكان عقابها يعجل لهم في الدنيا فيحرم عليهم بعض(5/46)
الطيبات. وقال بعض العلماء: إن الإكراه عذر لمن قبلنا وعليه فالجواب هو:
الوجه الثاني: أن الإكراه على الكفر قد يكون سببا لاستدراج الشيطان إلى استحسانه والاستمرار عليه كما يفهم من مفهوم قوله تعالى: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَان} وإلى هذا الوجه جنح صاحب روح المعاني والأول أظهر عندي وأوضح والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} .هذه الآية تدل على أن عيْبها يكون سببا لترك الملك الغاصب لها ولذلك خرقها الخضر وعموم قوله: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} يقتضي أخذ الملك للمعيببة والصحيحة معا. والجواب أن في الكلام حذف الصفة وتقديره: كل سفينة صالحة صحيحة. وحذف النعت إذا دل المقام عليه جائز كما أشار له ابن مالك في الخلاصة بقوله:
وما من المنعوت والنعت عقل
يجوز حذفه وفي النعت يقل
ومن شواهد حذف الصفة قول الشاعر:
ورب أسيلة الخدين بكر
مهفهفة لها فرع وجيد
أي لها فرع فاحم وجيد طويل.
وقول عبيد بن الأبرص الأسدي:
من قوله قول ومن فعله
فعل ومن نائله نائل
يعني من قوله قول فصل وفعله فعل جميل ونائله نائل جزل.
---
(1) ولو قيل: إن الذي دخل النار في ذبابة دخلها لمجرد رضاه بالذبح المفهوم من قوله: ما عندي ما أقدم، لأنه أجاب مبدئيا بعدم وجود ما يقدمه بخلاف صاحبه أجاب بعدم تقديمه فعلم منه أن الأول راض عن التقديم لكنه لم يجد ما يقدمه فدخل النار على رضاه وقبوله أما الآخر الذي امتنع فقتل وكان من حقه أن يقدم تقية ولو فعل فلا مانع لأن قلبه مطمئن بالإيمان لكنه لم يفعل فلا حق له. فالظاهر أنه ترك ذلك اختيارا كالذي أخذ أسيرا وأرادوا صلبه بمكة ثم عرضوا عليه أن يتمنى لو أن محمدا صلى الله وسلم مكانه ويتركونه فأبى حتى ولا أن يشاك بشوكة. وكان يمكنه أن يوافقهم تقية لكنه لم يوافقهم.(5/47)
شعر أهل الحديث (2)
بقلم الأستاذ عبد العزيز القارئ
المدرس بالمعهد الثانوى بالجامعة
ما جرى على لسان رسول الله صلى الله وسلم من الشعر:
أي ما صدر منه دون أن يقصد إلى نظمه ويتكلف قوله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كما أسلفنا لم يكن شاعرا (بإجماع العلماء) لقول الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} لكن ذلك لم يمنع أن يصدر منه في أحيان نادرة كلام موزون, وذلك شأن من شئون الفصحاء الذين اكتملت فصاحتهم وبلغوا أعلى درجاتها أن يجري على لسانهم الشعر دون أن يقصدوا نظمه أو يعدوا من الشعراء.
وولد عبد المطلب كانوا من أفصح العرب وكانوا شعراء, رجالهم ونساؤهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكره الشعبي رحمه الله.
وأكثر ضروب الشعر انتشار بين العرب - الرجز - فكان يجري على لسان كل أحد في شتى المناسبات شاعرا كان أو غير شاعر، وأخص مناسباته معترك الأقران حينما يقرع السنان بالسنان، فتجد الفرسان يرتجزون أبيات الحماسة والفخر.
ويرتجز الركبان أيضا حينما تسير الإبل ويسمى (حداء) ..فهذا (الرجز) نوع ولون من ألوان الشعر, سهل خفيف وجميل، ولذلك حبب إلى نفوسهم فقالوه غالبا دون تكلف لنظمه أو قصد إلى وزنه.. وإذا لاحظت ما جرى على لسان رسول صلى الله عليه وسلم من الشعر تجده من الرجز ليس غير.. وهذا لا يمس قولنا انه لم يكن شاعرا بشيء من الاعتراض أو النقص..وهو وحده لا يكفي ليقال لصاحبه انه شاعر.
من أشهر ما جرى على لسانه صلى الله عليه وسلم ما رواه البخاري وغيره في حديث بناء المسجد أنه كان يرتجز ويقول:
اللهم إنه لا عيش إلا عيش الآخرة
فانصر الأنصار والمهاجرة
فكان الصحابة يرددون معه ذلك. وتلاحظ في هذه الرواية أن الشطر الأول مكسور بل هو في كل روايات هذا الحديث ورد منكسرا وصدق الله عز وجل: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} .
وقد أورده البخاري أيضا في كتاب الصلاة بلفظ:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة
فاغفر للأنصار والمهاجرة(5/48)
وفي باب مناقب الأنصار بلفظ:
فأكرم الأنصار والمهاجرة
وفي باب غزوة الخندق بلفظ
اللهم إن العيش عيش الآخرة
فاغفر للأنصار والمهاجرة
فقال الصحابة مجيبين:
نحن الذين بايعوا محمدا
على الجهاد ما بقينا أبدا
وروى ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول:
لا عيش إلا عيش الآخرة
اللهم ارحم المهاجرين والأنصار
وذكر ابن القيم في زاد المعاد أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول أيضا عند بناء المسجد
هذا الحمال لا حمال خيبر
هذا أبر ربنا وأطهر
فيجيبه بعض الصحابة قائلا:
لئن قعدنا والنبي يعمل
لذاك منا العمل المضلل
وروى ابن هشام أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يرتجز يومئذ فيقول:
لا يستوي من يعمر المسا جدا
يدأب فيه قائما وقاعدا
ومن يرى عن الغبار حائدا
قال ابن إسحاق: فأخذها عمار بن ياسر فجعل يرتجز بها.
ومنه كذلك ما رواه الشيخان عند ذكر غزوة حنين ,في حديث البراء أنه قال: أما أنا فأشهد على النبي صلى عليه وسلم أنه لم يول ولكن عجل سرعان القوم فرشقتهم هوازن وأبو سفيان بن الحارث آخذ برأس بغلته يقول:
أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب
وهذا رجز موزون لا شك فيه، وقد أبعد ابن العربي رحمه الله في محاولته إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم نطق بالباء في (كذب) بالتنوين وليس في روايات الحديث ما يدل على ذلك, بل هو ظن منه وإلا فالأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم نطق بالباء ساكنة. ثم روى عن الأخفش والخليل أن ما جاء من الرجز على جزأين لا يكون شعرا.(5/49)
قلت: هذا مما جرى على لسانه صلى الله عليه وسلم منظوما سواء كان يعتبر شعرا عند الأخفش والخليل أو لا يعتبر.. إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقصد نظمه..هذا مع أن العادة جرت عند العرب كما ذكرت آنفا أن يرتجز أبطالهم في مثل هذه المواضع الحرجة إثارة للحماسة وتحريضا على القتال.. وهو هنا صلى الله عليه وسلم يقصد ذلك ويقصد معه أيضا إعلام أصحابه بوجوده وثباته وأنه لم يصب بسوء فتطمئن قلوبهم ويتم جمعهم فان موت القائد مدعاة للاضطراب.
ومنه أيضا ما رواه ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"زفت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أهديتم الفتاة؟ قالوا: نعم قال: أرسلتم معها من يغني؟ قالت: لا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الأنصار قوم فيهم غزل فلو بعثتم معها من يقول:
أتيناكم أتيناكم
فحيانا وحياكم
وأخرجه الهيثمي عن عائشة قالت: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم نساءهم يقلن في عرس:
وأهدى لها كبشا
صحيح في المربد
وزوجك في النادي
ويعلم ما في غد
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يعلم ما في غد إلا الله ألا قلتم:
أتيناكم أتيناكم
فحيونا نحييكم
وقد أخرج هذا الحديث البخاري ومسلم عن الربيع بنت معوذ بن عفراء ولفظه عند البخاري: قالت جاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل حين بنى علي فجلس على فراشي كمجلسك مني، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر قالت إحداهن:
وفينا نبي يعلم مافي غد
فقال: دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين (1) .
ما أنشده صلى الله عليه وسلم وما استنشده:
قال ابن كثير رحمه الله: ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يحفظ بيتا على وزن منتظم بل إن أنشده زحفه أولم يتمه.(5/50)
قلت: ذلك كان هو الغالب عليه صلى الله عليه وسلم لكنه لا يمنع أنه أحيانا ينشد أبياتا تامة من غير نقص ولا زحاف بل يقولها صلى الله عليه وسلم كما سبق في حديث ابن عباس وعائشة. وكما سيأتي في ذكر حفر الخندق وأنه صلى الله عليه وسلم كان ينشد أبياتا لا بيتا واحدا لعبد الله بن رواحة.
وكذلك في حديث جندب في الصحيحين وفي حديث الترمذي: إن تغفر اللهم تغفرجما.
وروى الترمذي وصححه والنسائي وأحمد ورواه البخاري في الأدب المفرد وابن كثير في تفسيره عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: "هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل شعرا قط.. قالت أحيانا إذا دخل بيته يقول:
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
هكذا رواه الأئمة، إلا أن ابن كثير قال: قال سعيد بن أبي عروة عن قتادة قيل لعائشة: "هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر. قالت: "كان أبغض الحديث إليه غير أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل ببيت أخي بني قيس فيجعل أوله آخره وآخره أوله". وفي رواية فجعل صلى الله عليه وسلم يقول: "ويأتيك من لم تزود بالأخبار" قال أبو بكر: ليس هذا هكذا. فقال صلى الله علنه وسلم: "إني لست بشاعر وما ينبغي لي". قلت: هذا الحديث مرسل؛ فإن قتادة لم يسمع من عائشة قال الحاكم في علوم الحديث: لم يسمع قتادة من صحابي غير أنس.
ومما أنشده صلى الله عليه وسلم ما رواه الشيخان أنه كان ينقل التراب يوم الخندق ويقول:
والله لولا الله ما اهتدينا
وفي رواية:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزل سكينة علينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
إن الآلي قد بغوا علينا
إذا أرادوا فتنة أبينا
وفي لفظ:
وإن أرادوا فتنة أبينا
قال البخاري: ثم يرفع صوته: أبينا أبينا
وهذه الأبيات لعبد الله بن رواحه رضي الله تعالى عنه.
ومنه أيضا ما رواه الحسن البصري مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت:
كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا(5/51)
فقال أبو بكر: يا رسول الله، كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا.
ومنه أيضا ما رواه البيهقي في دلائل النبوة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن مرداس السلمي: "أنت القائل: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة"فقال: إنما هو: بين عيينة والاقرع.. فقال صلى الله عليه وسلم: "الكل سواء".
وأصل هذه الأبيات أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أعطى الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن أكثر مما أعطاه وذلك من غنائم حنين قال العباس:
أتجعل نهبي ونهب العبيـ
د بين عيينة والأقرع
وما كان حصن ولا حابس
يفوقان مرداس في مجمع
هكذا أورده ابن حجر في الإصابة. وذكره ابن هشام كلامه عن غزوة حنين فقال: قال العباس بن مر داس يعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كانت نهابا تلافيتها
بكرى على المهر في الأجرع
وإيقاظي القوم أن يرقدوا
إذا هجع الناس لم أهجع
فأصبح نهبي ونهب العبيـ
د بين عيينة والأقرع
وقد كنت في الحرب ذا تدرء
فلم أعط شيئا ولم أمنع
إلا أفائل أعطيتها
عديد قوائمها الأربع
قال ابن هشام: أنشدني يونس النحوي:
فما كان حصن ولا حابس
يفوقان مرداس في المجمع
قال ابن إسحاق: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبوا به فاقطعوا عني لسانه، فأعطوه حتى رضي.
قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم أن عباس بن مرداس أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله: أنت القائل:
فأصبح نهبي ونهب العبيـ
د بين الأقرع وعيينة
فقال أبو بكر الصديق: بين عيينة والأقرع. فقال رسول الله: "هما واحد.."
فقال أبو بكر: أشهد أنك كما قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}
ومنه أيضا ما رواه ابن كثير أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يمشي بين القتلى يوم بدر وهو يقول "نفلق هاما" فيقول الصديق:
... من رجال أعزة
علينا وهم كانوا أعق وأظلما(5/52)
ومنه أيضا ما جاء في الصحيحين من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال:"كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار فنكبت إصبعه فقال صلى الله عليه وسلم:
هل أنت إلا إصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
وهذا البيت لعبد الله بن رواحه قالها في جملة أبيات يوم مؤتة لما أخذ اللواء من جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وقاتل فأصيبت إصبعه فقال:
هل أنت إلا إصبع دميت
وفي سبيل الله ما لقيت
يا نفس إلا تقتلي تموتي
هذي حياض الموت قد صليت
وما تمنيت فقد لقيت
إن تفعلي فعلهما هديت
ومنه ما روى الترمذي وقال حديث صحيح حسن غريب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
إن تغفر اللهم تغفر جما
وأي عبد لك ما ألما
وهذا البيت لأمية بن أبي الصلت وقيل لأبي خراش الهذلي ويذكر في كتب النحو وقبله:
إني إذا ما حدث ألما
أقول يا اللهم يا اللهما
ومنه ما أخرجه مسلم في كتاب الشعر عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: "ردفت النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ قلت: نعم. قال: هيه. فأنشدته بيتا فقال: هيه. ثم أنشدته بيتا. فقال: هيه. حتى أنشدته مائة بيت. وفي لفظ قال: إن كاد ليسلم".
قلت: وهذا يخالف مرسل قتادة الذي روى فيه أن عائشة قالت عن الشعر: "إنه كان أبغض الحديث إلى رسول الله صلى لله عليه وسلم".
ومما استنشده رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرجه البخاري وغيره عن سلمة بن الأكوع قال: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فسرنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: يا عامر ألا تسمعنا من هنيهاتك، وكان عامر رجلا شاعرا فنزل يحدو بالقوم يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا
فاغفر فداء لك ما أبقينا
وثبت الأقدام إن لاقينا
وألقي سكينة علينا
إنا إذا صيح بنا أبينا
وبالصياح عولوا علينا(5/53)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هذا السائق؟ " قالوا: عامر بن الأكوع. قال: "يرحمه الله". قال رجل من القوم: وجبت يا رسول الله لولا أمتعتنا به. وقد مات عامر في هذه الغزوة
وفي بعض روايات هذا الحديث عند الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي طلب من عامر فقال له: "حدثنا من هناتك", فنزل عامر يرتجز لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الهيثمي: رواه الطبراني عن أبي الهيثم بن التيهان عن أبيه ولم أعرف أبا الهيثم وبقية رجاله ثقات. قلت: أما أبو الهيثم فهو ابن مالك والتيهان لقب لأبيه بن عتيلة بن عمرو الأنصاري الأوسي. قال ابن إسحاق: هو ممن شهد بدرا وقال: كان نقيب بني عبد الأشهل في بيعة العقبة وقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عثمان بن مظعون وشهد المشاهد كلها، واختلف في وفاته فقيل توفي زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل توفي بصفين.
- للبحث صلة -
---
(1) في كتاب بدء الخلق من الجامع الصحيح (ط الحلبي1377 هـ) 87:5
عبارة ابن إسحاق يفهم منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مرددا لذلك الكلام وهو لغيره من العاملين في البناء. انظر سيرة ابن هشام ج1ص 496 (المجلة) .
(2) البخاري 1/117
(3) نفس المصدر 42:5.
(4) نفس المصدر 137:5
(5) سيرة ابن هشام 496:1.
(6) البخاري 194:5
(7) البخري 25:7
(8)
578:3
(9) معرفة علوم الحديث: 111
(10) ابن كثير 578:3
(11) البخاري 166:5(5/54)
فضل الجهاد والمجاهدين
عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
الحمد لله الذي أمر بالجهاد في سبيله، ووعد عليه الأجر العظيم والنثر المبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل في كتابه الكريم {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله أفضل المجاهدين وأصدق المناضلين وأنصح العباد أجمعين صلى الله عليه سلم وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الكرام الذين باعوا نفوسهم لله وجاهدوا في سبيله حتى أظهر الله بهم الدين وأعز بهم المؤمنين، وأذل بهم الكافرين رضي الله عنهم وأكرم مثواهم وجعلنا من أتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.(5/55)
أما بعد: فإن الجهاد في سبيل الله من أفضل القربات، ومن أعظم الطاعات، بل هو أفضل ما تقرّب به المتقربون وتنافس فيه المتنافسون بعد الفرائض، وما ذاك إلا لما يترتب عليه من نصر المؤمنين وإعلاء كلمة الدين، وقمع الكافرين والمنافقين وتسهيل انتشار الدعوة الإسلامية بين العالمين، وإخراج العباد من الظلمات إلى النور ونشر محاسن الإسلام وأحكامه العادلة بين الخلق أجمعين وغير ذلك من المصالح الكثيرة والعواقب الحميدة للمسلمين، وقد ورد في فضله وفضل المجاهدين من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ما يحفز الهمم العالية، ويحرك كوامن النفوس إلى المشاركة في هذا السبيل، والصدق في جهاد أعداء رب العالمين وهو فرض كفاية على المسلمين إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وقد يكون في بعض الأحيان من الفرائض العينية التي لا يجوز للمسلم التخلف عنها إلا بعذر شرعي كما لو استنفره الإمام أو حصر بلده العدو أو كان حاضرًا بين الصفين، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة معلومة، ومما ورد في فضل الجهاد والمجاهدين من الكتاب المبين قوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ, لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ, عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ, لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ, إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ(5/56)
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} .
ففي هذه الآيات الكريمات يأمر الله عباده المؤمنين أن ينفروا إلى الجهاد خفافًا وثقالاً أي شيبًا وشبانًا وأن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ويخبرهم عز وجل أن ذلك خير لهم في الدنيا والآخرة، ثم يبين سبحانه حال المنافقين وتثاقلهم عن الجهاد وسوء نيتهم، وأن ذلك هلاك لهم بقول عز وجل: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} الآية، ثم يعاتب نبيه صلى الله عليه وسلم عتابًا لطيفًا على إذنه لمن طلب التخلف عن الجهاد بقوله سبحانه: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} ، ويبين عز وجل أن في عدم الإذن لهم تبين الصادقين وفضيحة الكاذبين ثم يذكر عز وجل أن المؤمن بالله واليوم الآخر لا يستأذن في ترك الجهاد بغير عذر شرعي لأن إيمانه الصادق بالله واليوم الآخر يمنعه من ذلك، ويحفزه إلى المبادرة إلى الجهاد والنفير مع أهله، ثم يذكر سبحانه أن الذي يستأذن في ترك الجهاد هو عادم الإيمان بالله واليوم الآخر المرتاب فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وفي ذلك أعظم حث وأبلغ تحريض على الجهاد في سبيل الله، والتنفير من التخلف عنه، وقال تعالى في فضل المجاهدين: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .(5/57)
ففي هذه الآية الكريمة الترغيب العظيم في الجهاد في سبيل الله عز وجل وبيان أن المؤمن قد باع نفسه وماله على الله عز وجل وأنه سبحانه قد تقبل هذا البيع وجعل ثمن أهله الجنة وأنهم يقاتلون في سبيله فيقتلون ويقتلون، ثم ذكر سبحانه أنه وعدهم بذلك في أشرف كتبه وأعظمها التوراة والإنجيل والقرآن، ثم بين سبحانه أنه لا أحد أوفى بعهده من الله ليطمئن المؤمنون إلى وعد ربهم ويبذلوا السلعة التي اشتراها منهم وهي نفوسهم وأموالهم في سبيله سبحانه عن إخلاص وصدق وطيب نفس حتى يستوفوا أجرهم كاملا في الدنيا والآخرة، ثم يأمر سبحانه المؤمنين أن يستبشروا بهذا البيع لما فيه من الفوز العظيم والعاقبة الحميدة والنصر للحق والتأييد لأهله وجهاد الكفار والمنافقين وإذلالهم ونصر أوليائه عليهم وإفساح الطريق لانتشار الدعوة الإسلامية في أرجاء المعمورة، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ, تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ, يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ, وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} .(5/58)
ففي هذه الآيات الكريمات الدلالة من ربنا عز وجل على أن الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله هما التجارة العظيمة المنجية من العذاب الأليم يوم القيامة، ففي ذلك أعظم ترغيب وأكمل تشويق إلى الإيمان والجهاد، ومن المعلوم أن الإيمان بالله ورسوله يتضمن توحيد الله وإخلاص العبادة له سبحانه، كما يتضمن أداء الفرائض وترك المحارم ويدخل في ذلك الجهاد في سبيل الله لكونه من أعظم الشعائر الإسلامية ومن أهم الفرائض، ولكنه سبحانه خصه بالذكر لعظم شأنه، وللترغيب فيه لما يترتب عليه من المصالح العظيمة والعواقب الحميدة التي سبق بيان الكثير منها، ثم ذكر سبحانه ما وعد الله به المؤمنين المجاهدين من المغفرة والمساكين الطيبة في دار الكرامة ليعظم شوقهم إلى الجهاد وتشتد رغبتهم فيه، وليسابقوا إليه ويسارعوا في مشاركة القائمين به، ثم أخبر سبحانه أن من ثواب المجاهدين شيئًا معجلاً يحبونه وهو النصر على الأعداء والفتح القريب على المؤمنين، وفي ذلك غاية التشويق والترغيب.
والآيات في فضل الجهاد والترغيب فيه بيان فضل المجاهدين كثيرة جدًا، وفيما ذكر سبحانه في هذه الآيات التي سلف ذكرها ما يكفي ويشفي ويحفز الهمم ويحرك النفوس إلى تلك المطالب العالية والمنازل الرفيعة والفوائد الجليلة والعواقب الحميدة، والله المستعان.(5/59)
أما الأحاديث الواردة في فضل الجهاد والمجاهدين، والتحذير من تركه والإعراض عنه فهي أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر، ولكن نذكر منها طرفًا يسيرًا ليعلم المجاهد الصادق شيئًا مما قاله نبيه ورسوله الكريم عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم في فضل الجهاد ومنزلة أهله، ففي الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله، أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها"، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المجاهد في سبيل الله - والله أعلم بمن يجاهد في سبيله- كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالمًا مع أجر أو غنيمة" خرجه مسلم في صحيحه، وفي لفظ له: "تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنة الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة"، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مكلوم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمي اللون لون الدم والريح ريح المسك" متفق عليه، وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" رواه أحمد والنسائي وصححه الحاكم، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي العمل أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله" قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل" قيل: ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور" متفق على صحته، وعن أبي عبس بن جبير الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار" رواه البخاري في صحيحه، وفيه أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه(5/60)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض"، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه به مات على شعبة من نفاق"، وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلّط عليكم ذلاَّ لا ينزعه شيء حتى ترجعوا إلى دينكم" رواه أحمد وأبو داود وصححه ابن القطان، وقال الحافظ في البلوغ: "رجاله ثقات"، والأحاديث في فضل الجهاد والمجاهدين وبيان ما أعد الله للمجاهدين الصادقين من المنازل العالية، والثواب الجزيل، وفي الترهيب من ترك الجهاد والإعراض عنه كثيرة جدًا، وفي الحديثين الأخيرين، وما جاء في معناهما الدلالة على أن الإعراض عن الجهاد وعدم تحديث النفس به من شعب النفاق، وأن التشاغل عنه بالتجارة والزراعة والمعاملات الربوية من أسباب ذل المسلمين وتسليط الأعداء عليهم كما هو الواقع، وأن ذلك الذل لا ينزع عنهم حتى يرجعوا إلى دينهم بالاستقامة على أمر الله والجهاد في سبيله، فنسأل الله أن يمنّ على المسلمين جميعًا بالرجوع إلى دينه وأن يصلح قادتهم ويصلح لهم البطانة ويجمع كلمتهم على الحق ويوفقهم جميعا للفقه في الدين والجهاد في سبيل رب العالمين حتى يعزهم ويرفع عنهم الذل، ويكتب لهم النصر على أعدائه وأعدائهم أنه ولي ذلك والقادر عليه.(5/61)
العدد 12
فهرس المحتويات
1- ابن هشام الأنصاري وآثاره: بقلم الشيخ يوسف عبد الرحمن الضبع
2- أحب الأعمال إلى الله: بقلم الشيخ محمد الطاهر النيفر
3- أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم: بقلم الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
4- أضواءٌ على العالم الإسلامي:نداء من: محمد عبد القيوم خان رئيس دولة كشمير وجامو الحرة إلى جميع المسلمين في العالم
5- أضواء من التفسير: للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
6- الاقتصاد العالمي بين الاشتراكية والإسلام: بقلم الشيخ محمد المجذوب
7- الإمام أحمد ودفاعه عن السنة: بقلم الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي
8- المثل العليا للشباب: للشيخ محمد المهدي محمود
9- المسئولية في الإسلام (2) : بقلم الشيخ عبد الله قادري
10- المقصود من الجهاد: عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
11- دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
12- سيراليون: بقلم الشيخ: أحمد صالح محايري
13- شبَابُ الأمة عنوان مستقبلها: بقلم الشيخ محمد أبو فرحة
14- شعر أهل الحديث (3) : بقلم الأستاذ عبد العزيز القارئ
15- لقاء صحفي مع سعادة الدكتور محمد محسن خان: إعداد أحمد عبد الحميد عباس
16-هل يشترط لكاتب القصة التاريخية الإلمام باللغات الأوربية?: بقلم الطالب: عبد الرحمن الأنصاري
17- يستفتونك: يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(5/62)
ابن هشام الأنصاري وآثاره
بقلم الشيخ يوسف عبد الرحمن الضبع: المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
نسبه:
هو عبد الله أبو محمد جمال الدين. وفق عبارة ابن مالك:
واسما أتى وكنية ولقبا
وأخرن ذا أن سواه صحبا
واسم أبيه يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري أرومة ومحتدا، المصري نشأة ومولدا.
وهذا النسب قد جاء في كتابي السيوطي (بغية الوعاة وحسن المحاضرة) كما جاء في (شذرات الذهب) لأبي الفلاح عبد الحميد بن العماد, وفي (البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع) للعلامة الشوكاني, وفي (دائرة المعارف الإسلامية) .
وقد أثبته الزميل المحقق الأستاذ محمد شريف الزئبق في نشره حديثا أثرا هاما من آثار المترجم له صغير الحجم وفير العلم ظل رهين الغربي من المكتبات دفين المنسى من المخطوطات حتى أذن الله للأخ الشريف أن يبرزه في ثوب قشيب وضاح الجبين ذلك هو (الجامع الصغير) الذي ازدانت به المكتبات العربية وتسامع به عشاق تراث ابن هشام فأقبلوا إليه يزفون، وإنها لمكرمة تذكر فتشكر لأبي خالد؛ لأن فضيلة النشر في البقاع لا تقل عن فضيلة الاختراع زاده الله توفيقا في إحياء المخطوطات من ثمرات قرائح الراسخين في العلم.
ومن الأمانة العلمية في نسب ابن هشام أن نسجل ما ذكره الإمام ابن حجر في كتابه (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) فقد جاء فيها أنه عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام الأنصاري المصري.
فجعل جده الأدنى عبد الله وجد أبيه يوسف على حين قد أجمع غيره على أن جده أحمد وجد والده عبد الله.(5/63)
وإذا علمنا أن العلامة ابن حجر قد سبقهم في الترجمة لابن هشام ساغ لنا أن نقول إن الحق معه حيث ذكر النسب كاملا ويكون غيره على حق إذا روعي الاختصار في السلسلة النسبية بحذف ما يدل عليه مثله وهو هنا (عبد الله بن يوسف) فلا منافاة إذن بين النسبين.
وبدهي أنه من سلالة الأنصار الذين آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعززوه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه فسماهم من أجل ذلك أنصارا.
والأنصار ينتمون إلى الأوس والخزرج من قبائل الأزد بن الغوث بن ثبت بن مالك ابن زيد بن كهلان بن سبأ أخي جرهم وحضرموت أبناء قحطان.
وقد قرر بعض الشيوخ أن ابن هشام من الأوس ورأى آخرون أنه من الخزرج وهو الذي أيده العلامتان عبادة والأمير، وإلى الأخير أميل وأرجح.
مولده ووفاته:
ولد ابن هشام بالقاهرة يوم السبت الخامس من ذي القعدة في العام الثامن من القرن الثامن سنة ثمان وسبع مائة هجرية بإجماع الروايات.
واختاره الله لجواره ليلة الجمعة الخامس من شهر ذي القعدة في العام الأول من العقد السابع في القرن الثامن (سنة 761هـ) سنة إحدى وستين وسبعمائة هجرية عن ثلاثة وخمسين عاما لم تنقص ولم تزد فيما تضافرت عليه الروايات، ولم يشذ من بينها إلا ما ذكره صاحب (كشف الظنون) حاجي خليفة في غير موضع من كتابه أن وفاته كانت سنة اثنتين وستين وسبعمائة هجرية (762هـ) .
وأيا ما كان فلقد بورك له في عمره حيث أربت مؤلفاته وفيها البسيط والوجيز والوسيط على بضع وثلاثين من أمهات المراجع التي وهب الله لها ما وهب من قبول ورواج في شتى الآفاق. فإذا كان قد بلغ أشده واستوى في مستهل العقد الثالث من حياته المفعمة بالجد والعمل فيكون قد أتحف القراء في كل علم بكتاب وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا.
كشف اللثام عمن أطلق عليه (ابن هشام)(5/64)
يتسامى إلى ابن هشام جماعة كثيرة وعتهم (بغية الوعاة) في طبقات اللغويين والنحاة اشتهر من بينهم تسعة المترجم له واسطة عقدهم غير منازع لما جبل عليه من مواهب وتوافر لديه من مناقب جعلته في علوم العربية عامة وفنون الأدب خاصة صاحب البحر المسجور والروض الممطور إلى ما تطامن له في اللغويات وبلغ الغاية فيه من الشواهد النحوية وتخريجها وفق القراءات السبعة وخطها بيمينه بأحرف من نور في كتاب مسطور هو بحق كما قال فيه الكرام الكاتبون كالشهاب الخفاجي في حاشيته، وابن خلدون في غير موضع من مقدمته.
قال الخفاجي:
مغنى اللبيب جنة
أبوابها ثمانية
أما تراها وهي لا
تسمع فيها لاغية
وقد أخذه من قول العلامة الأمير في شرحه على (مغنى اللبيب)
ألا إنما مغنى اللبيب مصنف
جليل به النحوي يحوي أمانيه
وما هو إلا جنة قد تزخرفت
ألا تنظر الأبواب فيه ثمانية
وقال التاريخ المحقق بعد البيان المتدفق لابن خلدون:
ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له ابن هشام أنحى من سيبويه وقديما قيل:
إنما يقدر الكرام كريم
ويقيم الرجال وزن الرجال
حقا لقد كان ابن هشام موسوعة مطبوعة في البحث العميق والتحليل الدقيق ختمت به دولة المجتهدين في النحو ومن جاء بعده من فحول العلماء أما شارح لكلامه أو ناقل عنه وعن غيره شاهد له بطول الباع ورسوخ الأقدام وليس نبوغه وقفا على النحو بل وصل إلى الأعماق في كل ما يمت إليه من أدب ولغة وقراءات.
وكان من الفنون بحيث يقضى
له في كل فن بالجميع
وكأن الله تعالت آلاؤه وجلت نعماؤه قد أدخر للغة قرآنه وتوجيه بيانه من الراسخين في العلم الملهمين في الفهم من يستوعب لغة الضاد أصولها وفروعها معنيا بها موغلا فيها متوفرا على أجلها.
وإذا أردت من العلوم أجلها(5/65)
فأجلها منها مقيم الألسن
فكانت تلك الخصال بعض خلال ابن هشام الذي أنجبه القرن الثامن ليكون صاحب العلم في ميادين العلوم مستعينا بالصبر معتصما بالنهي شعاره تنطق به حكمته:
ومن يصطبر للعلم يظفر بنيله
ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل
ومن لم يذل النفس في طلب العلا
يعش دهرا طويلا أخا ذل
وإنها لنصيحة مجرب أخلق بكل طالب علم أن يأخذ نفسه بها ليسير في درب ابن هشام فيصل بعون الله، وفي مقال تال بيان عن بقية الأعلام ممن يطلق عليه ابن هشام.(5/66)
المقصودُ مِنَ الجِهَاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
الجهاد جهادان: جهاد طلب، وجهاد دفاع، والمقصود منهما جميعاً هو تبليغ دين الله ودعوة الناس إليه وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وإعلاء دين الله في أرضه وأن يكون الدين كله لله وحده كما قال عز وجل في كتابه الكريم من سورة البقرة: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} , وقال في سورة الأنفال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} , وقال عز وجل في سورة التوبة: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، والآيات في هذا المعنى كثيرة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله عز وجل" متفق على صحته من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا منيّ دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله". وفي صحيح مسلم عنه أيضا رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به". وفي صحيح مسلم أيضا عن طارق الأشجعي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه(5/67)
وحسابه على الله عز وجل". والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. وفي هذه الآيات والأحاديث الدلالة الظاهرة على وجوب جهاد الكفار والمشركين وقتالهم بعد البلاغ والدعوة إلى الإسلام، وإصرارهم على الكفر حتى يعبدوا الله وحده ويؤمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ويتبعوا ما جاء به، وأنه لا تحرم دماؤهم وأموالهم إلا بذلك وهي تعم جهاد الطلب وجهاد الدفاع، ولا يستثنى من ذلك إلا من التزم بالجزية بشروطها إذا كان من أهلها عملا بقول الله عز وجل: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} .(5/68)
وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه أخذ الجزية من مجوس هجر، فهؤلاء الأصناف الثلاثة من الكفار وهم اليهود والنصارى والمجوس ثبت بالنص أخذ الجزية منهم فالواجب أن يجاهدوا ويقاتلوا مع القدرة حتى يدخلوا في الإسلام أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، أما غيرهم فالواجب قتالهم حتى يسلموا في أحد قولي العلماء لأن النبي - صلى الله عليه وسلم – قاتل العرب حتى دخلوا في دين الله أفواجاً ولم يطلب منهم الجزية، ولو كان أخذها منهم جائزا تحقن به دماؤهم وأموالهم لبينه لهم، ولو وقع ذلك لنقل, وذهب بعض أهل العلم إلى جواز أخذها من جميع الكفار لحديث بريدة المشهور في ذلك المخرج في صحيح مسلم، والكلام في هذه المسألة وتحرير الخلاف فيها وبيان الأدلة مبسوط في كتب أهل العلم من أراده وجده، ويستثنى من الكفار في القتال النساء والصبيان والشيخ الهرم ونحوهم ممن ليس من أهل القتال ما لم يشاركوا فيه فإن شاركوا فيه أو ساعدوا عليه بالرأي والمكيدة قوتلوا كما هو معلوم من الأدلة الشرعية، وقد كان الجهاد في الإسلام في أطوار ثلاثة، الطور الأول: الأذن للمسلمين في ذلك من غير إلزام لهم به كما في قوله سبحانه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} ، الطور الثاني: الأمر بقتال من قاتل المسلمين والكف عمن كف عنهم، وفي هذا النوع نزل قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ} الآية. وقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} . وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} . في قول جماعة من أهل العلم، وقوله تعالى في سورة النساء: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا(5/69)
تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً، إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} والآية بعدها، الطور الثالث: جهاد المشركين مطلقا وغزوهم في بلادهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ليعم الخير أهل الأرض وتتسع رقعة الإسلام ويزول من طريق الدعوة دعاة الكفر والإلحاد وينعم العباد بحكم الشريعة العادل، وتعاليمها السمحة وليخرجوا بهذا الدين القويم من ضيق الدنيا إلا سعة الإسلام، ومن عبادة الخلق إلى عبادة الخالق سبحانه، ومن ظلم الجبابرة إلى عدل الشريعة وأحكامها الرشيدة، وهذا هو الذي استقر عليه أمر الإسلام وتوفي عليه نبينا محمد - عليه الصلاة والسلام - وأنزل الله فيه قوله عز وجل في سورة براءة وهي من آخر ما نزل: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية. وقوله سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} . والأحاديث السابقة كلها تدل على هذا القول وتشهد له بالصحة، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الطور الثاني وهو القتال لمن قاتل المسلمين والكف عمن كف عنهم قد نسخ لأنه كان في حال ضعف المسلمين فلما قواهم الله وكثر عددهم وعدتهم أمرهم بقتال من قاتلهم، ومن لم يقاتلهم حتى يكون الدين لله وحده أو يؤدوا الجزية إن كانوا من أهلها، وذهب آخرون من أهل العلم إلى أن الطور الثاني لم ينسخ(5/70)
بل هو باق يعمل به عند الحاجة إليه، فإذا قوي المسلمون واستطاعوا بدء عدوهم بالقتال وجهاده في سبيل الله فعلوا ذلك عملا بآية التوبة وما جاء في معناها، أما إذا لم يستطيعوا ذلك فإنهم يقاتلون من قاتلهم وتعدى عليهم، ويكفون عمن كف عنهم عملا بآية النساء وما ورد في معناها، وهذا القول أصح وأولى من القول بالنسخ وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميه - رحمه الله وبهذا يعلم كل من له أدنى بصيرة أن قول من قال من كتاب العصر وغيرهم أن الجهاد شرع للدفاع فقط قول غير صحيح والأدلة التي ذكرنا وغيرها تخالفه، وإنما الصواب هو ما ذكرنا من التفصيل كما قرر ذلك أهل العلم والتحقيق، ومن تأمل سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرة أصحابه - رضي الله عنهم - في جهاد المشركين اتضح له ما ذكرنا وعرف مطابقة ذلك لما أسلفنا من الآيات والأحاديث، والله ولي التوفيق.
وجوب الإعداد للأعداء:(5/71)
وقد أمر الله سبحانه عباده المؤمنين أن يعدوا للكفار ما استطاعوا من القوة وأن يأخذوا حذرهم كما في قوله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} وذلك يدل على وجوب العناية بالأسباب والحذر من مكائد الأعداء ويدخل في ذلك جميع أنواع الإعداد المتعلقة بالأسلحة والأبدان، كما يدخل في ذلك إعداد جميع الوسائل المعنوية والحسية وتدريب المجاهدين على أنواع الأسلحة وكيفية استعمالها وتوجيههم إلى كل ما يعينهم على جهاد عدوهم والسلامة من مكائده في الكر والفر والأرض والجو والبحر وفي سائر الأحوال لأن الله سبحانه أطلق الأمر بالإعداد وأخذ الحذر ولم يذكر نوعاً دون نوع ولاحالا ًدون حال وما ذاك إلا لأن الأوقات تختلف والأسلحة تتنوع، والعدو يقل ويكثر ويضعف ويقوى والجهاد قد يكون ابتداءا وقد يكون دفاعا فلهذه الأمور وغيرها أطلق الله سبحانه الأمر بالإعداد وأخذ الحذر ليجتهد قادة المسلمين وأعيانهم ومفكروهم في إعداد ما يستطيعون من القوة لقتال أعدائهم وما يرونه من المكيدة في ذلك، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الحرب خدعة" ومعناه: أن الخصم قد يدرك من خصمه بالمكر والخديعة في الحرب ما لا يدركه بالقوة والعدد وذلك مجرب معروف، وقد وقع في يوم الأحزاب من الخديعة للمشركين واليهود والكيد لهم على يد نعيم بن مسعود - رضي الله عنه - بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان من أسباب خذلان الكافرين وتفريق شملهم واختلاف كلمتهم، وإعزاز المسلمين ونصرهم عليهم وذلك من فضل الله ونصره لأوليائه ومكره لهم كما قال عز وجل: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} . ومما تقدم يتضح لذوي البصائر أن الواجب امتثال أمر الله والإعداد لأعدائه وبذل الجهود في الحيطة والحذر، واستعمال كل ما أمكن من الأسباب المباحة الحسية(5/72)
والمعنوية مع الإخلاص لله والاعتماد عليه والاستقامة على دينه، وسؤاله المدد والنصر، فهو سبحانه وتعالى الناصر لأوليائه والمعين لهم إذا أدوا حقه، ونفذوا أمره وصدقوا في جهادهم وقصدوا بذلك إعلاء كلمته وإظهار دينه، وقد وعدهم الله بذلك في كتابه الكريم وأعلمهم أن النصر من عنده ليثقوا به ويعتمدوا عليه مع القيام بجميع الأسباب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ، وقال سبحانه: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ، وقال عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} ، وقال عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} الآية. وقال تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} وقال سبحانه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ, وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} . وقد سبق في هذا المعنى آية سورة الصف وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ(5/73)
أَلِيمٍ, تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ, وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} ، والآيات في هذا المعنى كثيرة، ولما قام سلفنا الصالح بما أمرهم الله به ورسوله وصبروا وصدقوا في جهاد عدوهم نصرهم الله وأيدهم وجعل لهم العاقبة مع قلة عددهم وعدتهم وكثرة أعدائهم كما قال عز وجل: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} ، وقال عز وجل: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} ، ولما غير المسلمون وتفرقوا ولم يستقيموا على تعاليم ربهم وآثر أكثرهم أهواءهم أصابهم من الذل والهوان وتسليط الأعداء ما لا يخفى على أحد، وما ذاك إلا بسبب الذنوب والمعاصي، والتفرق والاختلاف وظهور الشرك والبدع والمنكرات في غالب البلاد، وعدم تحكيم أكثرهم الشريعة كما قال سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} ، وقال عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ، ولما حصل من الرماة ما حصل يوم أحد من النزاع والاختلاف والإخلال بالثغر الذي أمرهم(5/74)
النبي - صلى الله عليه وسلم - بلزومه جرى بسبب ذلك على المسلمين من القتل، والجراح والهزيمة ما هو معلوم، ولما استنكر المسلمون ذلك أنزل الله قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ولو أن أحداً يسلم من شر المعاصي وعواقبها الوخيمة لسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام يوم أحد وهم خير أهل الأرض ويقاتلون في سبيل الله ومع ذلك جرى عليهم ما جرى بسبب معصية الرماة التي كانت عن تأويل لا عن قصد للمخالفة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتهاون بأمره، ولكنهم لما رأوا هزيمة المشركين ظنوا أن الأمر قد انتهى وأن الحراسة لم يبق لها حاجة وكان الواجب عليهم أن يلزموا الموقف حتى يأذن لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بتركه، ولكن الله قد قدر ما قدره وقضى ما قضى لحكمه بالغة وأسرار عظيمة، ومصالح كثيرة قد بينها في كتابه سبحانه وعرفها المؤمنون وكان ذلك من الدلائل على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه رسول الله حقا، وأنه بشر يصيبه ما يصيب البشر من الجراح والآلام ونحو ذلك وليس بإله يعبد وليس مالكا للنصر، بل النصر بيد الله سبحانه ينزله على من يشاء، ولا سبيل إلى استعادة المسلمين مجدهم السالف واستحقاقهم النصر على عدوهم إلا بالرجوع إلى دينهم والاستقامة عليه وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، وتحكيمه في أمورهم كلها، واتحاد كلمتهم على الحق وتعاونهم على البر والتقوى كما قال الإمام مالك بن أنس - رحمة الله عليه -: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها "، وهذا هو قول جميع أهل العلم والله سبحانه إنما أصلح أول هذه الأمة باتباع شرعه والاعتصام بحبله والصدق في ذلك والتعاون عليه، ولا صلاح لآخرها إلا بهذا الأمر العظيم، فنسأل الله أن يوفق المسلمين للفقه في(5/75)
دينهم وأن يجمعهم على الهدى وأن يوحد صفوفهم وكلمتهم على الحق وأن يمن عليهم بالاعتصام بكتابه وسنة نبيه - عليه الصلاة والسلام - وتحكيم شريعته والتحاكم إليها، والاجتماع على ذلك والتعاون عليه إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.(5/76)
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب
لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
المدرس في كلية الشريعة بالجامعة
سورة مريم
قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} الآية. هذه الآية الكريمة تدل على أن كل الناس لابد لهم من ورود النار وأكد ذلك بقوله: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أن بعض الناس مبعد عنها لا يسمع لها حساً وهي قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ, لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} الآية.
والجواب هو ما ذكره الألوسي وغيره من أن معنى قوله: {مُبْعَدُونَ} : أي عن عذاب النار وألمها. وقيل: المراد إبعادهم عنها بعد أن يكونوا قريبا منها, ويدل للوجه الأول ما أخرجه الإمام أحمد والحكيم الترمذي وابن المنذر والحاكم وصححه وجماعة عن أبي سمية قال: "اختلفنا في الورود فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن وقال آخر: يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا فلقيت جابر ابن عبد الله رضي الله عنه فذكرت ذلك له, فقال- وأهوى بإصبعيه إلى أذنيه-: صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم عليه السلام حتى أن للنار ضجيجا من بردهم ثم ينجي الله الذين اتقوا". وروى جماعة عن ابن مسعود أن ورود النار هو المرور عليها"؛ لأن الناس تمر على الصراط وهو جسر منصوب على متن جهنم. وأخرج عبد بن عبد حميد وابن الأنباري والبيهقي عن الحسن الورود: المرور عليها من غير دخول. وروى ذلك أيضا عن قتادة قاله الألوسي.(5/77)
واستدل القائلون بأن الورود نفس الدخول كابن عباس بقوله تعالى: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} وقوله: {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} وقوله: {حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} ، فالورود في ذلك كله بمعنى الدخول واستدل القائلون بأن الورود القرب منها من غير دخول بقوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} ، وقول زهير:
فلما وردن الماء زرفاً جمامة
وضعن عصى الحاضر المتخيم
سورة طه
قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} هذه الآية الكريمة يتوهم منها أنه جل وعلا لم يخفها بالفعل ولكنه قارب أن يخفيها؛ لأن (كاد) فعل مقاربة. وقد جاء في آيات أخر التصريح بأنه أخفاها كقوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن المراد بمفاتح الخمس المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} الآية. وكقوله: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} وقوله: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} إلى غير ذلك من الآيات. والجواب من سبعة أوجه:
الأول: وهو الراجح، أن معنى الآية أكاد أخفيها من نفسي أي لو كان ذلك يمكن وهذا على عادة العرب؛ لأن القرآن نزل بلغتهم والواحد منهم إذا أراد المبالغة في كتمان أمر قال كتمته من نفسي أي لا أبوح به لأحد، ومنه قول الشاعر:
أيام تصحبني هند وأخبرها
ما كدت أكتمه عني من الخير(5/78)
ونظير هذا من المبالغة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه". وهذا القول مروي عن أكثر المفسرين, وممن قال به ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح كما نقله عنهم ابن جرير وجعفر الصادق كما نقله عنه الألوسي في تفسيره ويؤيد هذا القول أن في مصحف أُبيّ (أكاد أخفيها من نفسي) كما نقله الألوسي وغيره وروى ابن خالويه أنها في مصحف أبي كذلك بزيادة (فكيف أظهركم عليها) وفي بعض القراءات بزيادة (فكيف أظهرها لكم) وفي مصحف عبد الله ابن مسعود بزيادة (فكيف يعلمها مخلوق) كما نقله الألوسي وغيره.
الوجه الثاني: أن معنى الآية أكاد أخفيها أي أخفي الأخبار بأنها آتية والمعنى أقرب أن أترك الأخبار عن إتيانها من أصله لشدة إخفائي لتعيين وقت إتيانها.
الوجه الثالث: أن الهمزة في قوله: (أخفيها) هي همزة السلب لأن العرب كثيرا ما تجعل الهمزة أداة لسلب الفعل كقولهم شكا إلي فلان فأشكيته أي أزلت شكايته وقولهم عقل البعير فأعقلته أي أزلت عقاله وعلى هذا فالمعنى أكاد أخفيها أي أزيل خفاءها بأن أظهرها لقرب وقتها كما قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} . الآية. وهذا القول مروي عن أبي علي كما نقله عنه الألوسي في تفسيره ونقله النيسابوري في تفسيره عن أبي الفتح الموصلي ومنه قول امرئ القيس ابن عابس الكندي:
فإن تدفنوا الداء لا نخفه
وإن تبعثوا الحرب لا نقعد(5/79)
على رواية ضم النون من لا نخفه وقد نقل ابن جرير في تفسير هذه الآية عن معمر بن المثنى أنه قال: أنشدنيه أبو الخطاب عن أهله في بلده بضم النون من لا نخفه ومعناه لا نظهره أما على الرواية المشهورة بفتح النون من لا نخفه فلا شاهد في البيت إلا على قراءة من قرأ أكاد أخفيها بفتح الهمزة وممن قرأ بذلك أبو الدرداء وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وحميد وروي مثل ذلك عن ابن كثير وعاصم وإطلاق خفاه يخفيه بفتح الياء بمعنى أظهره إطلاق مشهور صحيح إلا أن القراءة به لا تخلو من شذوذ ومنه البيت المذكور على رواية فتح النون وقول كعب بن زهير أو غيره:
داب شهرين ثم شهرا دميكا
باريكين يخفيان غميرا
أي يظهرانه. وقول امرئ القيس:
خفاهن من إنفاقهن كأنما
خفاهن ودق من عشى مجلب
الوجه الرابع: أن خبر كاد محذوف والمعنى على هذا القول أن الساعة آتية أكاد أظهرها فحذف الخبر ثم ابتدأ الكلام بقوله: {أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} , ونظير ذلك من كلام العرب قول ضابئي ابن الحرث البرجمي:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني
تركت على عثمان تبكي حلائله
يعني وكدت أفعل.
الوجه الخامس: أن كاد تأتي بمعنى أراد وعليه فمعنى أكاد أخفيها أريد أن أخفيها وإلى هذا القول ذهب الأخفش وابن الأنباري وأبو مسلم كما نقله عنهم الألوسي وغيره قال ابن جني في المحتسب ومن مجيء كاد بمعنى أراد قول الشاعر:
كادت وكدت وتلك خير إرادة
لو عاد من لهو الصبابة ما مضى
كما نقله عنه الألوسي. وقال بعض العلماء أن من مجيء كاد بمعنى أراد قوله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} أي أردنا له كما ذكره النيسابوري وغيره ومنه قول العرب لا أفعل كذا ولا أكاد أي لا أريد كما نقله بعضهم.(5/80)
الوجه السادس: أن كاد من الله تدل على الوجوب كما دلت عليه عسى في كلامه تعالى نحو {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} أي هو قريب وعلى هذا فمعنى أكاد أخفيها أنا أخفيها.
الوجه السابع: أن كاد صلة وعليه فالمعنى أن الساعة آتية أخفيها لتجزى الآية. واستدل قائل هذا القول بقول زيد الخيل:
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه
فما أن يكاد قرنه يتنفس
أي فما يتنفس قرنه. قالوا: ومن هذا القبيل قوله تعالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} أي لم يرها وقول ذي الرمة:
إذا غير النأي المحبين لم يكد
رسيس الهوى من حب مية يبرج
أي لم يبرح على قول هذا القائل, قالوا ومن هذا المعنى قول أبي النجم:
وإن أتاك نعي فاندبن أبا
قد كاد يطلع الأعداء والخطبا
أي قد اطلع الأعداء.
وقد قدمنا أن أرجح الأقوال الأول والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي, يَفْقَهُوا قَوْلِي} لا يخفى أنه من سؤل موسى الذي قال له ربه أنه آتاه إياه بقوله: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} وذلك صريح في حل العقدة من لسانه, وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على بقاء شيء من الذي كان بلسانه كقوله تعالى عن فرعون: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} .
وقوله تعالى عن موسى: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ} . الآية.(5/81)
والجواب أن موسى- عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- لم يسأل زوال ما كان بلسانه بالكلية وإنما سأل زوال القدر المانع من أن يفقهوا قوله كما يدل عليه قوله: {يَفْقَهُوا قَوْلِي} . قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} ما نصه: وما سأل أن يزول ذلك بالكلية بل بحيث يزول العي ويحصل لهم فهم ما يريد منه وهو قدر الحاجة ولو سأل الجميع لزال, ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب الحاجة ولهذا بقيت بقية, قال تعالى إخبارا عن فرعون أنه قال: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} أي يفصح بالكلام. قال الحسن البصري: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} قال:"حل عقدة واحدة ولو سأل أكثر من ذلك أعطى"وقال ابن عباس:"شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه؛ فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون ردءا له ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه فأتاه سؤله فحل عقدة من لسانه", وقال ابن أبي حاتم: "ذكر عن عمر بن عثمان حدثنا بقية عن أرطأة بن المنذر حدثني بعض أصحاب محمد بن كعب عنه قال: أتاه ذو قرابة له فقال له: ما بك بأس لولا أنك تلحن في كلامك ولست تعرب في قراءتك فقال القرظي: يا ابن أخي ألست أفهمك إذا حدثتك؟ قال نعم, قال: فإن موسى عليه السلام إنما سأل ربه أن يحل عقدة من لسانه كي يفقه بنو إسرائيل قوله ولم يزد عليها". انتهى كلام ابن كثير بلفظه وقد نقل فيه عن الحسن البصري وابن عباس ومحمد بن كعب القرظي ما ذكرنا من الجواب ويمكن أن يجاب أيضا بأن فرعون كذب عليه في قوله: {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} كما كذب على الله في إدعاء الربوبية وأن قوله: {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} يدل على اشتراكه مع هارون في الفصاحة فكلاهما فصيح إلا أن هارون أفصح وعليه فلا إشكال والعلم عند الله تعالى.(5/82)
قوله تعالى: {فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} . الآية. يدل على أنهما رسولان وهما موسى وهارون وقوله تعالى: {فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، يوهم كون الرسول واحد. والجواب من وجهين:
الأول: أن معنى قوله: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي كل واحد منا رسول رب العالمين كقول البرجمي: فإني وقياراً بها لغريب.
وإنما ساغ هذا لظهور المراد من سياق الكلام.
الوجه الثاني: أن أصل الرسول مصدر كالقبول والولوع فاستعمل في الاسم فجاز جمعه وتثنيته نظرا إلى كونه بمعنى الوصف وساغ إفراده مع إرادة المثنى أو الجمع نظرا إلى الأصل من كونه مصدرا ومن إطلاق الرسول على غير المفرد قول الشاعر:
ألكنى إليها وخير الرسول
أعلمهم بنواحي الخبر
يعني وخير الرسل, وإطلاق الرسول مرادا به المصدر كثير ومنه قوله:
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم
بقول ولا أرسلتهم برسول
يعني برسالة.
قوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} .
قوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا} يقتضي أن المخاطب اثنان وقوله: {يَا مُوسَى} يقتضي أن المخاطب واحد والجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أن فرعون أراد خطاب موسى وحده والمخاطب أن اشترك معه في الكلام غير مخاطب غلب المخاطب على غيره كما لو خاطبت رجلا اشترك معه آخر في شأن والثاني غائب فإنك تقول للحاضر منهما ما بالكما فعلتما كذا والمخاطب واحد وهذا ظاهر.
الوجه الثاني: أنه خاطبهما معا وخص موسى بالنداء لكونه الأصل في الرسالة.(5/83)
الثالث: أنه خاطبهما معا وخص موسى بالنداء لمطابقة رؤوس الآي مع ظهور المراد ونظير الآية قوله تعالى: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} ويجاب عنه بأن المرأة تبع لزوجها وبأن شقاء الكد والعمل يتولاه الرجال أكثر من النساء, وبأن الخطاب لآدم وحده والمرأة ذكرت فيما خوطب به آدم بدليل قوله: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} فهي ذكرت فيما خوطب به آدم؛ والمخاطب عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} . ظاهر هذه الآية أن آدم ناس للعهد بالنهي عن أكل الشجرة؛ لأن الشيطان قاسمه بالله أنه له ناصح حتى دلاه بغرور وأنساه العهد وعليه فهو معذور لا عاص. وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} .
والجواب عن هذا من وجهين:
الأول: هو ما قدمنا من عدم العذر بالنسيان لغير هذه الأمة.
الثاني: أن نسي بمعنى ترك, والعرب ربما أطلقت النسيان بمعنى الترك ومنه قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ} . الآية. والعلم عند الله تعالى.
سورة الأنبياء
قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} . هذه الآية تدل على أن جميع المعبودات مع عابديها في النار.
وقد أشارت آيات أخر إلى أن بعض المعبودين كعيسى والملائكة ليسوا من أهل النار كقوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً} الآية, وقوله تعالى: {ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} . الآية.
والجواب من وجهين:(5/84)
الأول: أن هذه الآية لم تتناول الملائكة ولا عيسى لتعبيره بما الدالة على غير العاقل، وقد أشار تعالى إلى هذا الجواب بقوله: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} ، لأنهم لو أنصفوا لما ادعوا دخول العقلاء في لفظ لا يتناولهم لغة.
الثاني: أن الملائكة وعيسى نص الله على إخراجهم من هذا دفعا للتوهم ولهذه الحجة الباطلة بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} الآية, قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} , عبر في هذه الآية الكريمة بلفظ (إنما) وهي تدل على الحصر عند الجمهور وعليه فهي تدل على حصر الوحي في توحيد الألوهية وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه أوصى إليه غير ذلك كقوله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنّ} الآية, وقوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} , وقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الآية.
والجواب أن حصر الوحي في توحيد الألوهية حصر له في أصله الأعظم الذي يرجع إليه جميع الفروع لأن شرائع كل الأنبياء داخلة في ضمن لا إله إلا الله لأن معناها خلع كل الأنداد سوى الله في جميع أنواع العبادات وإفراد الله بجميع أنواع العبادات فيدخل في ذلك جميع الأوامر والنواهي القولية والفعلية والاعتقادية.
سورة الحج(5/85)
قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} , هذه الآية الكريمة تدل على أن قتال الكفار مأذون فيه لا واجب وقد جاءت آيات تدل على وجوبه كقوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الآية, وقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} الآية, إلى غير ذلك من الآيات. والجواب ظاهر وهو أنه أذن فيه أولا من غير إيجاب ثم أوجب بعد ذلك كما تقدم في سورة البقرة, ويدل لهذا ما قاله ابن عباس وعروة ابن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة ومجاهد والضحاك وغير واحد كما نقله عنهم ابن كثير وغيره من أن آية {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} هي أول آية نزلت في الجهاد والعلم عند الله تعال.
قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} .
ظاهر هذه الآية أن الأبصار لا تعمى، وقد جاءت آيات أخر تدل على عمى الأبصار كقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} , وكقوله: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ} .
والجواب: أن التمييز بين الحق والباطل وبين الضار والنافع وبين القبيح والحسن لما كان كله بالبصائر لا بالإبصار صار العمى الحقيقي هو عمى البصائر لا عمى الأبصار ألا ترى أن صحة العينين لا تفيد مع عدم العقل كما هو ضروري وقوله: {فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} يعني بصائرهم أو أعمى أبصارهم عن الحق وإن رأت غيره.
قوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} .
هذه الآية الكريمة تدل على أن مقدار اليوم عند الله ألف سنة وكذلك قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} .(5/86)
وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى في سورة سأل سائل: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} الآية, إعلم أولا أن أبا عبيدة روى عن إسماعيل ابن إبراهيم عن أيوب عن ابن أبي مليكة أنه حضر كلاً من ابن عباس وسعيد ابن المسيب سئل عن هذه الآيات فلم يدر ما يقول فيها ويقول لا أدري.
وللجمع بينهما وجهان:
الوجه الأول: هو ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس من أن يوم الألف في سورة الحج هو أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض، ويوم الألف في سورة السجدة هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه تعالى. ويوم الخمسين ألفا هو يوم القيامة.
الوجه الثاني: أن المراد بجميعها يوم القيامة وأن الاختلاف باعتبار حال المؤمن والكافر؛ ويدل لهذا قوله تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} ذكر هذين الوجهين صاحب الإتقان. والعلم عند الله.
قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} . الآية. هذه الآية الكريمة تدل على أن كل رسول وكل نبي يلقى الشيطان في أمنيته أي تلاوته إذا تلا ومنه قول الشاعر في عثمان رضي الله عنه:
تمنى كتاب الله أول ليلة
وآخرها لاقى حمام المقادر
وقول الآخر:
تمنى كتاب الله آخر ليلة
تمني داود الزبور على رسل(5/87)
ومعنى تمنى في البيتين قرأ وتلا. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال:"إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه". وقال بعض العلماء: "إذا تمنى أحب شيئا وأراده فكل نبي يتمنى إيمان أمته والشيطان يلقى عليهم الوساوس والشبه ليصدهم عن سبيل الله, وعلى أن (تمنى) بمعنى قرأ وتلا كما عليه الجمهور, فمعنى إلقاء الشيطان في تلاوته إلقاؤه الشبه والوساوس فيما يتلوه النبي ليصد الناس عن الإيمان به, أو إلقاؤه في المتلو ما ليس منه ليظن الكفار أنه منه, وهذه الآية لا تعارض بينها وبين الآيات المصرحة بأن الشيطان لا سلطان له على عباد الله المؤمنين المتوكلين, ومعلوم أن خيارهم الأنبياء كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ, إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} , وقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} , وقوله: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} , وقوله: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} , ووجه كون الآيات لا تعارض بينها أن سلطان الشيطان المنفي عن المؤمنين المتوكلين في معناه وجهان للعلماء:
الأول: أن معنى السلطان الحجة الواضحة, وعليه فلا إشكال إذ لا حجة مع الشيطان البتة كما اعترف به فيما ذكر الله عنه في قوله: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} .(5/88)
الثاني: أن معناه أنه لا تسلط له عليهم بإيقاعهم في ذنب يهلكون به ولا يتوبون منه, فلا ينافي هذا ما وقع من آدم وحواء وغيرهما فإنه ذنب مغفور لوقوع التوبة منه, فإلقاء الشيطان في أمنية النبي سواء فسرناها بالقراءة أو التمني لإيمان أمته لا يتضمن سلطانا للشيطان على النبي بل هو من جنس الوسوسة وإلقاء الشبه لصد الناس عن الحق كقوله: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} الآية, فإن قيل: ذكر كثير من المفسرين أن سبب نزول هذه الآية الكريمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم بمكة فلما بلغ {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى, وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} ألقى الشيطان على لسانه: (تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترجى) فلما بلغ آخر السورة سجد وسجد معه المشركون والمسلمون وقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم وشاع في الناس أن أهل مكة أسلموا بسبب سجودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى رجع المهاجرون من الحبشة ظنا منهم أن قومهم أسلموا فوجدوهم على كفرهم, وعلى هذا الذي ذكره كثير من المفسرين فسلطان الشيطان بلغ إلى حد أدخل به في القرآن على لسان النبي صلى الله عليه وسلم الكفر البواح حسبما يقتضيه ظاهر القصة المزعومة.(5/89)
فالجواب: أن قصة الغرانيق مع استحالتها شرعا لم تثبت من طريق صالح للاحتجاج, وصرح بعدم ثبوتها خلق كثير من العلماء كما بيناه بيانا شافيا في رحلتنا, والمفسرون يروون هذه القصة عن ابن عباس من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما, ومعلوم أن الكلبي متروك, وقد بين البزار أنها لا تعرف من طريق يجوز ذكره إلا طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير مع الشك الذي وقع في وصله, وقد اعترف الحافظ ابن حجر مع انتصاره لثبوت هذه القصة بأن طرقها كلها إما منقطعة أو ضعيفة إلا طريق سعيد بن جبير, وإذا علمت ذلك فاعلم أن طريق سعيد بن جبير لم يروها بها أحد متصلة إلا أمية بن خالد, وهو وإن كان ثقة فقد شك في وصلها؛ فقد أخرج البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب ثم ساق حديث القصة المذكورة, وقال البزار: "لا يروى متصلا إلا بهذا الإسناد تفرد بوصله أمية بن خالد وهو ثقة مشهور", وقال البزار: "وإنما يروى من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس والكلبي متروك". فتحصل أن قصة الغرانيق لم ترد متصلة إلا من هذا الطريق الذي شك راويه في الوصل, وما كان كذلك فضعفه ظاهر, ولذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره أنه لم يرها مسندة من وجه صحيح, وقال العلامة الشوكاني في هذه القصة: "ولم يصح شيء من هذا ولا ثبت بوجه من الوجوه ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله كقوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ} الآية, وقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} , وقوله: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} الآية, فنفى المقاربة للركون فضلا عن الركون", ثم ذكر الشوكاني عن البزار أنها لا تروى بإسناد متصل وعن البيهقي أنه قال: "هي غير ثابتة من جهة النقل"وذكر عن إمام الأئمة ابن خزيمة أن هذه القصة من وضع الزنادقة وأبطلها عياض(5/90)
وابن العربي المالكي والفخر الرازي وجماعات كثيرة, ومن أصرح الأدلة القرآنية في بطلانها أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بعد ذلك في سورة النجم قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} فلو فرضنا أنه قال تلك الغرانيق العلى ثم أبطل ذلك بقوله: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} فكيف يفرح المشركون بعد هذا الإبطال والذم التام لأصنامهم بأنها أسماء بلا مسميات وهذا هو الأخير وقراءته صلى الله عليه وسلم سورة النجم بمكة وسجود المشركين ثابت في الصحيح ولم يذكر فيه شيء من قصة الغرانيق وعلى القول ببطلانها فلا إشكال وأما على القول بثبوت القصة كما هو رأي الحافظ ابن حجر فإنه قال في فتح الباري: "إن هذه القصة ثبتت بثلاثة أسانيد كلها على شرط الصحيح وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض؛ لأن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلا فللعلماء عن ذلك أجوبة كثيرة من أحسنها وأقربها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتل السورة ترتيلا تتخلله سكتات فلما قرأ {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} قال الشيطان لعنه الله محاكيا لصوته صلى الله عليه وسلم: (تلك الغرانيق العلى الخ..) فظن المشركون أن الصوت صوته صلى الله عليه وسلم وهو بريء من ذلك براءة الشمس من اللمس, وقد بينا هذه المسألة بيانا شافيا في رحلتنا فلذلك اختصرناها هنا فظهر أنه لا تعارض بين الآيات والعلم عند الله تعالى.(5/91)
سيراليون
بقلم الشيخ: أحمد صالح محايري
خريج كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية
ومبعوث دار الإفتاء السعودية إلى سيراليون
أخي المسلم، هناك بلد جميل هواءه عليل يقع في أفريقا الغربية على ساحل المحيط الأطلسي يحده شمالا وشرقا غينيا، وجنوبا ليبيريا، وغربا المحيط الأطلسي مساحته 27000 ميل مربع.
استعمره الإنكليز ثمانين سنة وأجبر على منحه الاستقلال في 27 أبريل 1961م. عاصمته " فريتاون"أي مدينة الحرية، سميت كذلك لأن بريطانيا أخذت من أفريقيا أناسا أحرارا واستعبدتهم ونقلتهم إلى داخل المملكة البريطانية وسمتهم عبيدا واستخدمتهم مجانا في مصانعها وموانيها في الوقت الذي كانت تدعي فيه أنها الدولة المثالية العادلة, ولما كثرت نسبتهم في بريطانيا، اتخذ البرلمان البريطاني قرارا بتحرير العبيد (تخلصا منهم) وذلك في عام 1800م, وهكذا تم ترحيل أولئك المستعبدين من بريطانيا إلى إحدى مستعمراتها سيراليون وأنزلتهم في مدينة سميت مدينة الحرية (فريتاون) لأنهم في حين وصولهم تلك المدينة أصبحوا أحرارا وكان ذلك على دفعات بلغت الدفعة الأولى حوالي 480 رجلا وامرأة.. هؤلاء العائدون رجعوا إلى البلاد بلغة إنكليزية محرفة سميت لغة الكريول. وأصبحت هذه اللغة هي اللغة التي يتفاهم بها الناس عامة. وعدد سكان سيراليون ثلاثة ملايين نسمة ينتمون لقبائل شتى أكثرها عددا "التمني"ثم تليها قبيلة "الليمبا"ثم " المندي"وذلك بالاضافة إلى رعايا نزحت من قبائل مجاورة لسيراليون مثل الفلا، والسوسو، والهوسو، واليوروبا، والماندينكا.(5/92)
نسبة المسلمين في سيراليون في تزايد مستمر حتى بلغت حسب الإحصاءات الرسمية الأخيرة إلى 70% من مجموع السكان في حين أن هذه النسبة كانت قبل أربعين سنة لا تتجاوز 40%.. ومن هنا أخي المسلم أبدأ معك بالحديث عن سيراليون والإسلام فيه وذلك لأن هذا التزايد المستمر وهو الذي نلفت انتباه كل مسلم حريص على تتبع إسلامه وإخوانه المسلمين في كل مكان كما لفتت وأدهشت غير المسلمين.. حقا إنها لعظمة تدركها يا أخي المسلم إذا علمت أن عدد الجمعيات التبشيرية في سيراليون في ازدياد كل يوم مع ازدياد إمكانياتها المادية.. وأنا علمت أن السياسة المفروضة على المسلمين منذ دخول الإنكليز تلك المنطقة هي منعهم من اتصالهم بإخوانهم المسلمين خارج سيراليون, وذلك بمنع خروج أي مسلم لتلقي علوم الإسلام في أي بلد إسلامي، ثم يمنع دخول أي مبشر إسلامي إلى سيراليون غير (القادياني) صنيع الإنكليز الذي هيأله جو العمل ودفعه إليه منذ عام 1915م. إذا علمت هذا ثم علمت أن المسلمين في ازدياد حتى بلغت نسبتهم 80% أدركت الدعوة الإسلامية أشرقت في سيراليون ليقيم الحجة على أن الإسلام دين الفطرة والتبشير لغير الإسلام هو بعيد غريب عن الفطرة.
والكلام عن المسلمين في سيراليون سيكون إن شاء الله تعالى شاملا للنقاط التالية:(5/93)
1 – تاريخ دخول الإسلام إلى سيراليون، 2- الجمعيات الإسلامية ونشاطها ومشاريعها، 3- رجال الدعوة والمخلصين من أبنائه، 4- مساجد سيراليون وطريقة تمويلها، 5- الأخطار الرهيبة والمخططات العدوانية ضد المسلمين في المنطقة، 6- حالة المسلمين الثقافية والاقتصادية، 7- الطريقة المتبعة لنقل الإسلام وتبليغه من جيل إلى جيل، 8- الحركة (القاديانية) ونشاطها ومدارسها وتحالفها المكشوف مع بريطانيا على تحريف معاني الإسلام بنسخ الجهاد وبالتبشير برجل يوحي إليه من قبل الله تعالى اسمه الغلام أحمد القادياني وتكفيهم ضلالا عقيدتهم بوجوب الإيمان بهذا الغلام وكل من لم يؤمن به كافر عندهم لا يصلى عليه ولا تؤكل ذبيحته. 9- النشاط الصهيوني ضد الإسلام في سيراليون وبث الفتن والحزازات بين الجماعات الإسلامية هناك، 10- عدد الجماعات (القاديانية) النصرانية التي تنتمي لأكثر من عشر دول أوروبية، 11- تحالف (القاديانية) مع إسرائيل لتفريق جميع المسلمين.
أخي المسلم، في الأعداد القادمة إن شاء الله تعالى ستقرأ على صفحات هذه المجلة الغراء النقاط السابقة الذكر.. علك تتعرف على إخوة لك في سيراليون أشد تحمسا لدينك من كثير من المسلمين.. ولعلك تحقق في هذا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .
وإلى لقاء آخر أخي المسلم. والسلام عليكم.
قالوا وقلنا
قالوا:
المسلمون ثلاثة أعيادهم
الفطر والأضحى وعيد المولد
فإذا انقضت أفراحهم فسرورهم
لا ينقضي أبدا بحب محمد
(مجهول)
وقلنا:
عيدان عند أولي النهي لا ثالث
لهما لمن يرجو السلامة في غد
الفطر والأضحى، وكل زياد
بغي على شرع الحبيب محمد
(المجذوب)(5/94)
شبَابُ الأمة عنوان مستقبلها
بقلم الشيخ محمد أبو فرحة
المدرس في الجامعة
شباب كل أمة هو موضع رجائها، ومعقد آمالها، فإذا أردت أن تعرف مستقبل أمة.. ومصير دولة.. دقق النظر في شبابها فهم عدة المستقبل وهم رجاله، منهم الوجهون والقادة، ومنهم المربون والآباء..
فإن رأيت شبابا صلب الإرادة، قوي العزيمة، مخلصا لدينه، ومحبا لوطنه، شبانا ينهضون بأعمالهم، وموظفين يهتمون بمصالح أمتهم وعمالا يحسنون عملهم، ويتقنون صناعاتهم، وتجارا أمناء في بيعهم وشرائهم، ومدرسين يعملون جادين في بناء جيل صالح من تلاميذهم، جيل يؤمن بمبادئ الخير والعدل، كما قررها الإسلام، ورأيت طلابا يحرصون على التعليم وعلى التفوق في تعليمهم، فاعلم أن الأمة بخير، وأن مستقبلها إن شاء الله تعالى، سيكون زاهرا، المجد ينتظرها، والقوة تحرسها، والعلم يخدمها، والأخلاق تصونها من الانهيار.
أما إذا رأيت شبابا متسكعا في الطرقات، وشابات جاهلات لاهيات، ورائحات غاديات، ولا هم للجميع إلا الإسراف والتباهي بالمأكل والملبس والمسكن، ورأيت تجارا صار الغش ديدنا وعمالا أصبح الإهمال لهم دستورا، لا يحرصون على تعلم الجديد، ولا يحسنون ما تعلموه، ولا يتقنون صناعته، ولا يحاولون أن يسايروا ركب الحياة السريع في شئون الحياة، ورأيت شبانا ملأهم الغرور، وسيطرت عليهم الغفلة، فجهلوا واقعهم وواقع الناس، ولم يتنافسوا في السبق إلى معالي الأمور: فاعلم أن الأمة على خط الضلالة، وهي على شفا جرف، لابد وأن ينهار بها، فتنتكس على أعقابها، وتخسر ما كسبته بجهادها وتضحياتها، ويصدق في شبابها قول القائل:
شباب خنع لا خير فيهم وبورك في الشباب الطامحينا(5/95)
من أجل هذا طالب الإسلام أولى الأمر: حكاما وآباء ومربين أن يدرسوا بعقل الفاحص المدقق، حياة أممهم، ومظاهر شبابها، وخاصة الجيل الصاعد من الأبناء والبنات، لأن أولياء الأمور، هم الأمناء على مستقبل الأمة، وهم القوامون على شؤونها والمسئولون عن توجيهها، كل في دائرة اختصاصه، والشعب أمانة بين أيديهم، وهم رعاته استرعاهم الله إياه، فناظر ماذا يفعلون: "إن الله سائل كل راع عما استرعاه، حفظ أم ضيع ", "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ... الحديث "
إن صبيان اليوم وشباب الساعة، هم رجال المستقبل القريب وزعماؤه، وآباؤه وموجهوه، فإن نشئوا على العقيدة الصحيحة، والأمانة الحقة، وعلى الاعتزاز بالدين، وعلى حب الأمة، وعلى النظر للأمور والمشاكل بعين التعقل والروية، وحسبان العواقب، لا بعين العاطفة الهائجة، والرغبة الثائرة، فسيقودون الأمة إلى العزة والكرامة، وإن ألمت بها الخطوب، وأحاطت بها الأمواج، أخذوا بيدها إلى بر السلامة وشاطئ الأمان.(5/96)
أما إن تركوا من غير توجيه حقيقي، وأهملوا بلا تعليم موضوعي، أو رتعوا في النعيم، ولانت أظافرهم، أو شعروا بالحرمان من قومهم، تعقدت نفوسهم، وانحرفوا عن سنن الحق واستهانوا بالقيم العالية، وسهلت عليهم المبادئ فداسوها. فإذا ما سلمت إلى هذا الشباب قيادة الأمة، ليوجه دفتها، وأسند إليه زمام الجيل اللاحق ليرود له الطريق وهو لا يحسن عملا، تنازعته الأهواء وسار بمجتمعه إلى الهاوية، فتنتكس الأمور، وتضيع المكاسب، وتظهر المخاسير، وترتد الأمة على أعقابها، ويحل بها الدمار، تحقيقا لسنة الله في الوجود {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} . وتلك من السنن التي لا تتخلف مهما اختلفت الأزمان والأجيال، ولا تتغير مهما تغيرت الأماكن والأوطان {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} .
ولأمر ما كان الإسلام هو الدين الوحيد، الذي عني بالأجنة، قبل أن تكون خيالا يمر على فكر الأبوين، وقبل أن يلتقي عنصر الذكورة بعنصر الأنوثة، فأمر بأن يتخير الرجل المزرعة الصالحة لنطفته، لأن العرق دساس؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة لمالها وجمالها وحسبها ودينها, فاظفر بذات الدين تربت يداك" متفق عليه، وكان الواقع تصديقا لخبر الرسول وأمره على طول صفحة التاريخ الممتدة عبر القرون.
كما وجه الأنظار، إلى ما يستقر في الأصلاب، مما يتحول مع الليالي والأيام إلى عيال وأجيال فعلم الزوجين، في أول اللقاء بينهما، ووقت جوعهما الجنسي، ولذتهما الغامرة وغفلتهما عن كل شيء، علمهما أن يستعيذا بالله في خشوع ودعاء، وأن يرددا في وعي وقصيد ورجاء: "اللهم جنبنا وجنب الشيطان ما رزقتنا" ليحصنا من الشيطان ما عساه يتكون من جنين في هذا اللقاء.(5/97)
كما حرم الإجهاض وقرر المسئولية على من يصيب الجنين بأضرار، وطالب ولي الأمر، عندما تشرق طلعة الضيف الجديد في أفق الحياة أن يسمعه أول صوت في الوجود "الله أكبر الله أكبر"تأكيدا لزرع بذور الدين في نفس الوالدين والوليد وأن يطعمه حلو الطعام عسى أن يكون عذب الكلام، وأمر العقيقة وقص الشعر والصدقة والختان واختيار أحسن الأسماء والتعليم لم يغفل عنها الإسلام.
أبعد أن يعني الإسلام بأفلاذ أكبادنا هذه العناية, وبعد أن تتفتح براعمهم نتركهم في مهب الرياح؟ أو نسلمهم لخادمة جاهلة تعقد نفوسهم وتفسد أخلاقهم؟ أو نبعث بهم إلى مدارس الأجانب - كما في بعض دول الإسلام - ليعلموهم: كيف يحتقرون أهليهم وذويهم، وكيف يسخرون من دينهم. وكيف يتعلقون بـ "يسوع المسيح "من دون الله؟؟!!!
إنه لا يصلح لتربية الجيل الذي ينتظر منه أن يعيد للإسلام مكانته: إلا مدرسون ومدرسات وأمهات، درسوا نفسية الأطفال، وأصول التربية الإسلامية "لا الزائفة البراقة المستوردة فليس كل ما يلمع ذهبا"، يفتتح الواحد منهم أعماله كلها أمام أبنائه ببسم الله الرحمن الرحيم ويفتح أذهانهم على كون الله الفسيح، ويطلق بأضوائه الكاشفة على عظمة الإسلام، ويشيد بأبطاله، ويكون هو قدوة في العمل والجد لهؤلاء، فلا يترك أمرا أو حادثة للإسلام فيها جانب، إلا أكد بها إيمان الأطفال والناشئين بربهم.
إن كل أب وكل أم وكل مدرس وكل مدرسة مسئول مسئولية شخصية عن أولاده وعمن يوكل إليهم أمر تعليمهم، ولا يقبل منه اعتذار بمشغوليته بتجارة أو غيرها.
فيا أيها المشغول بحاضره عن مستقبله، وبأمواله عن أبنائه، وبلذاته عن بناته، ماذا تنتظرون من ربكم إلا أن يجري عليكم سنته فيمن كان قبلكم؟ إن ابنك وصل لماضيك بحاضرك، ووصل لحاضرك بمستقبلك، وامتداد لحياتك بعد وفاتك، فإما أن تجعل هذا المستقبل سعادة وهناءة، أو تجعله شقاء ومهانة.(5/98)
إن الصبي أمانة بين يديك، وقلبه الطاهر جوهرة نقية، وصحيفة خيرة بيضاء وعجينة لينة تشكلها كما تحب أن تكون، فإن عوّدته الخير، تعوّده وانطبع عليه، ومال إليه، وسعد في دنياه وأخراه، وانتفع به دينه، وفرحت به أمته، وشاركه الثواب أبواه، وكل من أدبه وعلمه ورباه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " - أبو داود والترمذي والنسائي والبخاري في المفرد -.
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه
وإن عودته الشر تعوده ومرن عليه، واستساغه ومال إليه، وإن أهملته تولى الشيطان تربيته، وكان الهلاك محققا، وكان الوزر عليك مؤكدا، وبقيت المسئولية تلاحقك، وتأخذ بتلابيبك حتى تقف بين يدي الله، فإن "كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه".
علموا أولادكم وبناتكم واقع حياتهم، ليعرفوا عيوبهم فيتحاشوها، ويعرفوا محاسنهم، فيستزيدوا منها، وادفعوهم إلى العمل الجاد المثمر، واغرسوا في نفس الجيل الناشئ أمامكم ألا يحتقر عملا، ما دام لمصلحة الأمة، وإن عليه أن يملأ أماكن الأعمال كبيرها وصغيرها، وألا يترك لدخيل ثغرة ينفذ منها إلى ثروة أمته، أو إلى التحكم في مواردها تجارية كانت أو زراعية أو صناعية.
أشعلوا جمرة الإيمان بالله في نفوس الأولاد وصدورهم، البنين والبنات على السواء واشرحوا لهم عزة الإسلام، وبطولة أبطاله، في قصص يقرءونها، وتحكيها الأمهات والمربيات وتنشدها لهم مع الصباح وفي المساء، بأسلوب يجعل معانيها تصل إلى القلب ثم تجري مع الدماء.
علموهم أن هذا العالم الإسلامي، كان ولا يزال مركزا "استراتيجيا"للقوة ومشعلا للهداية والنور، تضافرت عليه عوامل الفساد والضعف، من يوم أن جاست فيه جيوش الاحتلال غازية، يوم أن انصرف قادة المسلمين عن دين الله، وتهاونوا في حق الأمة.(5/99)
علموهم أن حكم أنفسهم بأنفسهم اليوم في بعض الدول، لم يكن منحة ولا هبة، ولكنه ثمرة من ثمرات ذلك الجهاد المتواصل، ضد الظلم الذي تحمله الآباء والأجداد في جلد، وجاهدوه في عنف، وبعد أن ظل الوطن يئن تحته ومنه العديد من السنوات.
علموهم أن من الخطوة البالغة على كل أمة، أن تقعد عن مواصلة الجهاد كما أمر الله، حتى ولو بعد الوصول إلى الاستقلال، إن العدو الذي ذاق طعم خيراتنا وتمتع بالسيطرة علينا فترة من الزمن، لا يزال يحلق فوق رؤوسنا، عساه يجد فرصة ينقض علينا لامتصاص دمائنا وإذلالنا من جديد، وإنه كذلك من الخطورة على أية أمة، ألا تعمل في كل يوم على كسب الجديد من أساليب الحياة، ترقي به مستواها، وتصل به إلى الجديد من العلوم والاكتشافات بما يرفع شأنها ويقوي جيشها وعزمها، وتستغل بنفسها خيراتها، وإلا تجمدت حياتها وأصبحت عالة وتابعة لغيرها، مهما كثرت أعدادها وأموالها، ثم تصبح فريسة من جديد.
نشئوا أولادكم على الخشونة والجلادة، وتحمل المسئولية، وتحمل شدائد الحياة ومكارهها، وعلموهم أن من يطلب معالي الأمور لابد أن يتحلى بعناصر الرجولة الرشيدة، حتى يستطيع التغلب على مشاكل الحياة، التي لا تنتهي، وأزماتها المتتابعة التي تساير همم الرجال صعودا وهبوطا والأمثل فالأمثل.(5/100)
لقد فتق الرسول صلى الله عليه وسلم أذهان الصبيان والشباب من أبناء المهاجرين والأنصار، فكانوا الفئة القليلة التي غلبت الفئة الكثيرة بإذن الله, والله مع الصابرين، لكنهم لما خرجوا عن الأمر ولو متأولين أطبقت عليهم الهزيمة من كل أفق فلما أن عادوا إلى ربهم أعاد الله نصره إليهم، فجعل منهم رعاة الدول بعد أن كانوا رعاة الشاة والإبل، وغدوا يخططون لدهاقنة السياسة والحكم، في عريق الأمم، بعد أن كانوا كالبهم السائمة، فوق رمال الصحراء يتيهون في فدافد الأرض، لا مرعى يجود لهم، ولا راع يجمع شملهم {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .
يا أولياء الأمور، بين أيديكم خامات إنسانية قيمة وغير محدودة أهملت كما أهمل الجيل السابق عليها ردحا طويلا من الزمن عن قصد وعمد، وأمامكم عناصر طيبة، من الأبناء والبنات، فلا تتركوها في مهب الرياح معرضة للتيارات المتلاحقة، من الدعايات المغرضة، والأفكار المسمومة، التي تدرس وتخطط لنا ولأبنائنا في الشرق والغرب على السواء، والتي يراد بها صرف الشباب المسلم عن مستقبله، ولتنأى به عن دينه ولتزعزع عقيدته، ولتباعد بينه وبين إخوانه ولتفقده الثقة في أمته حتى يتقبل ما يرد عليه من أفكار، ويعتنق ما يزيف له من مبادئ.
كونوا قدوة لأبنائكم في كريم الفعال وجميل الخصال، فإن ألف قول لا تساوي في موازين التربية عملا واحدا، واحذروا أن يطلعوا منكم على قبيح ابتليتم به أو نقيصة أصبتم بها؛ لأنه "من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " رواه مسلم.(5/101)
أخي القارئ، إن الحياة جادة لا تهزل، سائرة لا تقف، تهزأ بالغافل، وتسخر من اللاهي وتتوعد الكسول، ولن تترك النائم حتى يستيقظ، ولا المهمل حتى يجد {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .(5/102)
شعر أهل الحديث (3)
بقلم الأستاذ عبد العزيز القارئ
المدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة
ما أنشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشعر:
وهو كثير ومناسباته مختلفة وأكثره ما كان مدحا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهره قصيدة كعب بن زهير، قال ابن إسحاق:
"ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف كتب بجير بن زهير إلى أخيه كعب يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجالا بمكة ممن كان يهجوه ويؤذيه وأن من بقي من شعراء قريش: ابن الزبعري وهبيرة بن أبي وهب قد هربوا في كل وجه فإن كانت لك في نفسك حاجة فطر إلى رسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يقتل أحدا جاءه مسلما تائبا وإن أنت لم تفعل فانج إلى نجاتك، وكان كعب قد قال:
ألا أبلغا عني بجيرا رسالة
فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا
فبين لنا إن كنت لست بفاعل
على أي شيء غير ذلك دلكا
على خلق لم تلف أماً ولا أباً
عليه ولم تدرك عليه أخاً لكا
فإن أنت لم تفعل فلست بآسف
ولا قائل أما عثرت لعالكا
سقاك بها المأمون كأساً روية
فأنهلك المأمون منها وعلكا
قال: وبعث بها إلى بجير، فلما أتت بجير كره أن يكتمها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشده إياها فقال رسول الله: "سقاك بها المأمون, صدق وهو كذوب, أنا المأمون" ولما سمع: على خلق لم تلف أماً ولا أباً عليه. قال: "أجل لم يلف عليه أباه ولا أمه" ثم قال بجير لكعب:
من مبلغ كعباً فهل لك في التي
تلوم عليها باطلا وهي أحزم
إلى الله - لا العزى ولا اللات_وحده
فتنجو إذا كان النجاء وتسلم
لدى يوم لا ينجو وليس بمفلت
من الناس إلا طاهر القلب مسلم
فدين زهير وهو لا شيء دينه
ودين أبي سلمى علي محرم(5/103)
فلما بلغ كعباً الكتاب ضاقت به الأرض وأشفق على نفسه وأرجف به من كان في حاضره من عدوه فقال: هو مقتول. فلما لم يجد من شيء بداً قال قصيدته التي يمدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذكر خوفه وإرجاف الوشاة به من عدوه، ثم خرج حتى قدم المدينة فنزل على رجل كانت - بينه وبينه معرفة - من جهينة فغدا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الصبح فصلى مع رسول الله ثم أشار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا رسول الله فقم إليه فاستأمنه - فذكر لي - أنه قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس إليه فوضع يده في يده وكان رسول الله لا يعرفه فقال: يا رسول الله إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمنك تائباً مسلماً فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟. قال رسول الله: نعم. قال: أنا يا رسول الله كعب بن زهير. قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أنه وثب عليه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله دعني وعدو الله أضرب عنقه. فقال رسول الله: دعه عنك فقد جاء تائباً نازعاً عما كان عليه. قال: فغضب كعب بن زهير بن كعب على هذا الحي من الأنصار لما صنع به صاحبهم وذلك أنه لم يتكلم به رجل من المهاجرين إلا بخير فقال قصيدته اللامية التي يصف فيها محبوبته وناقته والتي أولها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم أثرها لم يفد مكبول
وفي رواية البيهقي:
وما سعاد غداة البين إذ ظغنوا
إلا أغن غضيض الطرف مكحول
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت
كأنها منهل بالكأس [1] معلول
تمشي الوشاة بجنبيها [2] وقولهم
إنك يا بن أبي سلمى لمقتول
وقال كل صديق كنت آمله
لا ألهينك إني عنك مشغول
فقلت خلوا سبيلي لا أبا لكم
فكل ما قدر الرحمن مفعول
كل بن أنثى وإن طالت سلامته
يوما على آلة حدباء محمول
نبئت أن رسول الله أوعدني
والعفو عند رسول الله مأمول(5/104)
مهلا هداك الذي أعطاك نافلة الـ
قرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم
أذنب ولو كثرت في الأقاويل
لقد أقوم مقاما لو يقوم به
أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظل ترعد من خوف بوادره
إن لم يكن من رسول الله تنويل
حتى وضعت يميني ما أنازعها
في كف ذي نقمات قوله القيل
فلهو أخوف عندي إذ أكلمه
وقيل إنك منسوب ومسئول
من ضيغم من ليوث الأسد مسكنه
في بطن عثر غيل دونه غيل
يغدو فيلحم ضر غامين عيشهما
لحم من الناس معفور خراديل
إذا يساور قرنا لا يحل له
أن يترك القرن إلا وهو مغلول
منه تظل سباع الجو نافرة
ولا تمشي بواديه الأراجيل
ولا يزال بواديه أخو ثقة
مفرج البتر والدرسان مأكول
إن الرسول لنور يستضاء به
مهند من سيوف الله مسلول
في عصبة من قريش قال قائلهم
ببطن مكة لما أسلموا زولوا
زالوا فما زال أنكاس ولا كشف
عند اللقاء ولا ميل معازيل
يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم
ضرب إذا عرد السود التنابيل
شم العرانين أبطال لبوسهم
من نسج داود في الهيجا سرابيل
بيض سوابغ قد شكت لها حلق
كأنها حلق الفقعاء مجدول
ليسوا مفاريح أن نالت رماحهم
قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا
لا يقع الطعن إلا في نحورهم
وما لهم عن حياض الموت تهليل
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمرو بن قتادة قال: فلما قال "السود التنابيل"وإنما أراد معشر الأنصار لما كان صاحبهم صنع وخص المهاجرين من قريش من أصحاب رسول الله بمدحته غضبت عليه الأنصار فبعد أن أسلم أخذ يمدح الأنصار ويذكر بلاءهم مع رسول الله وموضعهم من النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
من سره كرم الحياة فلا يزل
في مقنب من صالحي الأنصار(5/105)
ورثوا المكارم كابرا عن كابر
إن الخيار هم بنو الأخيار
الباذلين نفوسهم لنبيهم
يوم الهياج وفتنة الأجبار
الذائدين الناس عن أديانهم
بالمشرفي وبالقنا الخطار
والبائعين نفوسهم لنبيهم
للموت يوم تعانق وكرار
يتطهرون يرونه نسكا لهم
بدماء من علقوا من الكفار
وإذا حللت ليمنعوك إليهم
أصبحت عند معاقل الأغفار
ضربوا علياً يوم بدر ضربة
دانت لوقعتها جنود نزار
قوم إذا خفت النجوم فإنهم
للطارقين النازلين مقاري
لو يعلم الأقوام علمي كله
فيهم لصدقني الذين أمارى
هكذا أورده الحافظ بن القيم في زاد المعاد، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (9: 393) وقال رواه الطبراني ورجاله إلى ابن إسحاق ثقات. قلت وابن إسحاق الكلام فيه كثير إلا أن أكثر أئمة الجرح والتعديل يوثقونه ويردون من يجرح فيه وغاية ما يمكن أن يقال فيه إنه صدوق مدلس إلا أنه هنا صرح بالسماع من عاصم.
وقد ذكر قصة كعب ابن حجر في الإصابة عن أبي عاصم بسنده إلى الحجاج بن ذي الرقيبة بن عبد الرحمن بن كعب بن زهير عن أبيه عن جده. وذكرها عن ابن قانع من طريق الزبير بن بكار عن بعض أهل المدينة عن يحي بن سعيد عن سعيد بن المسيب [3] وقد روى عن سعيد بن المسيب بسند متصل عند محمد بن سلام الجمحي في طبقات الشعراء.. وقد روى قصة كعب بن زهير من الأئمة أيضا الحاكم في المستدرك [4] والبيهقي في سننه [5] .(5/106)
ومما أنشد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه أحمد عن عبد الرحمن بن بكرة عن الأسود بن سريع قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني قد حمدت ربي بمحامد ومدح وإياك فقال رسول الله:" أما إن ربك يحب المدح هات ما امتدحت به ربك"قال: فجعلت أنشده, فجاء رجل فاستأذن أو لم أصلع أعسر أيسر قال: فاستنصتني له رسول الله, ووصف لنا أبو سلمة كيف استنصته قال: كما صنع بالهر, فدخل الرجل فتكلم ساعة ثم خرج ثم أخذت أنشده أيضا ثم رجع بعد فاستنصتني رسول الله, ووصفه أيضا, فقلت: يا رسول الله من ذا الذي استنصتني له؟ فقال: "هذا رجل لا يحب الباطل هذا عمر بن الخطاب" [6] .
ومنه ما روى عن النابغة الجعدي، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأنشدته من قولي:
علونا العباد عفة وتكرما
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
قال: أين المظهر يا أبا ليلى؟ قلت: الجنة. قال: "أجل إن شاء الله".
ثم قال: أنشدني, فأنشدته قولي:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له
بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له
حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
قال: "أحسنت لا يفضض الله فاك".
قال الهيثمي: "رواه البزار وفيه يعلى بن الأشدق ضعيف" [7] .
قلت: لكنه توبع, وقد ذكر ابن حجر في الإصابة هذا الحديث بست طرق عن النابغة الجعدي [8] .
وذكرها كذلك ابن عبد البر في الاستيعاب والقصيدة حوالي مائتي بيت أورد منها ابن عبد البر ما يلي:
خليلي عوجا ساعة وتهجرا
ولو ما على ما أحدث الدهر أو ذرا
تذكرت والذكرى تهيج للفتى
ومن حاجة المحزون أن يتذكرا
نداماي عند المنذر بن محرق
أرى اليوم منهم ظاهر الأرض مقفرا
تقضي زمان الوصل بيني وبينها
ولم ينقض الشوق الذي كان أكثرا
وإني لأستشفي برؤية جارها
إذا ما لقاؤها علي تعذرا(5/107)
وألقى على جيرانها مسحة الهوى
وإن لم يكونوا لي قبيلا ومعشرا
ترديت ثوب الذل يوم لقيتها
وكان ردائي نخوة وتجبرا
حسبنا زمانا كل بيضاء شحمة
ليالي إذ تغدوا [9] جذاما وحميرا
إلى أن لقينا الحي بكر بن وائل
ثمانين ألفا دارعين وحسرا
فلما قرعنا النبغ بالنبغ بعضه
ببعض أبت عيدانه أن تكسرا
سقيناهم كأسا سقونا بمثلها
ولكننا كنا على الموت أصبرا
بنفسي وأهلي عصبة سليمة
يعدون للهيجا عناجح ضمرا
وقالوا لنا أحيوا لنا من قتلتم
لقد جئتم إداً من الأمر منكرا
ولسنا نرد الروح في جسم ميت
وكنا نسل الروح ممن تيسرا
نميت ولا نحي كذاك صنيغا
إذا البطل الحامي إلى الموت أهجرا
ملكنا فلم نكشف قناعا لحرة
ولم نستلب إلا الحديد المسمرا
ولو أننا شئنا سوى ذاك أصبحت
كرائمهم فينا تباع وتشترى
ولكن أحسابا نمتنا إلى العلى
وآباء صدق أن نروم المحقرا
وانا لقوم ما نعود خيلنا
إذا ما التقينا أن تحيد وتنفرا
وتنكر يوم الروع ألوان خيلنا
من الطعن حتى تحسب الجون أشقرا
وليس بمعروف لنا أن نردها
صحاحا ولا مستنكرا أن تعقرا
أتينا رسول الله إذ جاء بالهدى
ويتلو كتابا كالمجرة نيرا
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
ولا خير في حلم إذا لم يكن له
بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له
حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا(5/108)
ومما أنشد بين يديه صلى الله عليه وسلم أيضا حديث الأعشى المازني واسمه عبد الله بن الأعور كانت عنده امرأة يقال لها معاذة وخرج في رجب يمير أهله من هجر فهربت امرأته بعده ناشزا عليه فعاذت برجل منهم يقال له مطرف بن نهضل فجعلها خلف ظهره.. فلما قدم لم يجدها في بيته وأخبر أنها نشزت عليه وأنها عاذت بمطرف فأتاه فقال: يا ابن عم عندك امرأتي معاذة فادفعها لي, قال: ليست عندي, ولو كانت عندي لم أدفعها إليك, قال: وكان مطرف أعز منه فخرج حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فعاذ به وأنشأ يقول:
يا سيد الناس وديان العرب
إليك أشكو ذربة من الذرب
كالذبية العلساء في ظل السرب
خرجت أبغيها الطعام في رجب
فخلفتني بنزاع وهرب
أخلفت العهد ولطت بالذنب
وقذفتني بين عيص مؤتشب
وهن شر غالب لمن غلب
قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "وهن شر غالب لمن غلب"
قال الهيثمي: "رواه عبد الله بن أحمد ورجاله ثقات".
ومنه ما رواه ابن عبد البر وابن حجر في الإصابة "أن قتيلة بنت النضر بن الحارث وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل أباها صبرا يوم بدر كتبت إليه:
يا راكبا إن الأثيل مظنة
من صبح خامسة وأنت موفق
أبلغ به ميتا فإن تحية
ما إن تزال بها الجنائب تخفق
مني إليه وعبرة مسفوحة
جاءت بواكفها وأخرى تخنق
هل تسمعن النضر إن ناديته
بل كيف تسمع ميتا لا ينطق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه
لله أرحام هناك تشقق
صبرا يقاد إلى المنية متعبا
رسف المقيد وهو عان موثق
أمحمدا ولدتك خير نجيبة
في قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما
من الفتى وهو المغيظ المحنق
النضر أقرب من أسرت قرابه
وأحقهم إن كان عتقا يعتق(5/109)
قيل: فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رق حتى دمعت عيناه وقال لأبي بكر: "يا أبا بكر لو سمعت شعرها لم أقتل أباها".
- للبحث صلة -
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ويروى "بالراح ".
[2] ويروى "جنابيها "ز
[3] الإصابة 3: 279، وقد ذكر ابن حجر القصة بطريق أخرى فقال: ووقعت لنا بعلو في جزء إبراهيم بن ديزيل.
[4] في باب معرفة الصحابة.
[5] السنن الكبرى 10: 244 وقد كتب الشيخ إسماعيل الأنصاري بحثا جيدا حول هذه القصيدة والطرق التي رويت بها وقد استفدت منه ونشر بحثه في جريدة الرياض بتاريخ 13 جمادى الآخرة 1391هـ.
[6] المسند 3: 435.
[7] مجمع الزوائد 8: 126.
3: 509.
[8]
[9] يروى " نغزو"وهو أوضح معنى (المجلة) .(5/110)
لقاء صحفي مع:
سعادة الدكتور محمد محسن خان
مدير مستوصف الجامعة الإسلامية بالمدينة
أعده: أحمد عبد الحميد عباس
مدير العلاقات العامة في الجامعة
* سعادة الدكتور نرجو إعطاءنا فكرة ملخصة عن تاريخ حياتكم؟
ولدت عام 1345هـ في إقليم البنجاب (باكستان الغربية) وحصلت على بكالوريوس الطب والجراحة من جامعة البنجاب بلاهور وكان ترتيبي الثاني في الاختبار النهائي في الطب وحصلت على الميدالية الفضية وعملت في المستشفى الجامعي بلاهور مع أستاذ الطب الدكتور إلهي بخش ثم سافرت إلى انجلترا ومكثت تقريبا ثلاث سنوات ونصف وحصلت على دبلوم في الأمراض الصدرية من جامعة ويلز بإنجلترا ثم عملت في وزارة الصحة وكان آخر عملي مدير المصح السداد بالطائف ومكثت مدة حوالي 14سنة في وزارة الصحة ثم انتقلت للعمل مديرا لمستوصف الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
* متى بدأتم العمل في الجامعة الإسلامية؟
- انتقلت للعمل في الجامعة كمدير للمستوصف منذ أربع سنوات تقريبا.
* رأينا والحمد لله صحيح البخاري مترجما إلى اللغة الإنجليزية من قبلكم, والحقيقة أن هذا مجهود تشكرون عليه نسأل الله لكم مزيدا من التوفيق, نرجو الإفادة متى قررتم ترجمة صحيح البخاري، وما سبب ذلك؟
- السبب في ترجمة صحيح البخاري أنني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رؤيا في المنام فصح عزمي على كتابته فسألت العلماء الموجودين حولي في ذلك الوقت عن خير كتاب يجمع أصح أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم لكي أترجمها إلى اللغة الإنجليزية لتقوم حجة الإسلام على جميع الناطقين باللغة الإنجليزية في العالم أجمع، وحتى لا يقول أحد يوم القيامة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تبلغني رسالته.(5/111)
وقال لي العلماء إن أصح كتب الحديث هو البخاري فبدأت في ترجمته عام 76 واستغرقت تقريبا 12سنة (أي عام 88) ثم عرض الكتاب على صاحب المعالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة, فكوّن لجنة لتدقيق الكتاب من قبل الدكتور محمد أمين المصري رئيس قسم الشريعة والدراسات الإسلامية في مكة المكرمة والحاصل على الدكتوراه من جامعة كامبردج بانجلترا, والأستاذ شاكر نصيف العبيدي ماجستير في اللغة الإنجليزية من جامعة فاندزيلت الأمريكية وأستاذ اللغة الإنجليزية في جامعة بغداد واستغرق تدقيق الكتاب مدة سنتين ثم بعد ذلك عرضنا الكتاب على فضيلة الدكتور محمد تقي الدين الهلالي دكتوراه من جامعة برلين وأستاذ بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وزميلنا من السودان سعادة الدكتور محمود نصر بمستشفى الملك بالمدينة المنورة.
وقد استغرقت هذه المراجعات أكثر من عام وأنجزناه بفضل الله سبحانه وتعالى وحسن توفيقه وتبني فضيلة الشيخ محمد يوسف سيتي بالباكستان طبع هذا الكتاب بمطبعته حتى لا يكون حق الطباعة والنشر لمصلحة مادية وأن يكون خالصا لوجه الله تعالى وأن تكون قيمته هي قيمة الورق والحبر وعمال الطباعة والتجليد وليس مكسبا ماديا لأي فرد يشترك في هذا العمل الإسلامي الخير.
* في كم مجلد سيظهر الكتاب؟
- سوف يكون بإذن الله هذا الكتاب في عشر مجلدات كل مجلد تقريبا بين 400 إلى 500 صفحة.
* ما عدد المجلات التي تمت حتى الآن وهل وصلت إلى السوق أم لا؟
- ظهر إلى الآن الجزء الأول فقط (عربي إنجليزي بالأسانيد كاملة باللغة العربية) وراوي الحديث مباشرة من الرسول صلى الله عليه وسلم والحديث الكامل باللغة الإنجليزية لأنه إذا نقلت الأسانيد باللغة الإنجليزية يصبح الكتاب كبيرا جدا، وهي موجودة في الوقت الحاضر في أسواق المدينة المنورة بالمكتبات للبيع.(5/112)
* سعادة الدكتور، كم طبيبا يعملون الآن بمستوصف الجامعة؟
- يعمل الآن بمستوصف الجامعة ثلاثة أطباء.
* هل يوجد في الجامعة قسم للأشعة أم لا؟ وما هي أقسام المستوصف الأخرى؟
- نعم يوجد قسم خاص للأشعة في المستوصف, أما أقسام المستوصف فهي كالتالي:
الصيدلية. الأشعة. المختبر. الضماد.
وفي ختام حديثنا هذا نشكركم ونسأل الله لكم التوفيق.(5/113)
هل يشترط لكاتب القصة التاريخية الإلمام باللغات الأوربية
بقلم: عبد الرحمن الأنصاري
الطالب بالسنة الثالثة بكلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة
"غروب الأندلس"و "شجرة الدر"دراسة نقدية وتطبيقية مبسطة للمسرحية الشعرية، والقصة التاريخية..
هذا عنوان كتاب أصدره الدكتور عبد الكريم الأشتر سنة 1965م عن المكتبة الحديثة بدمشق. هذا ولا يهمني ما ذكره عن مسرحية عزيز أباظة الشعرية، فإن خطواته فيها خطوات حثيثة، وطبيعية. وموضوع حديثي إذن حول ما ورد عن دراسته لقصة محمد سعيد العريان التاريخية " شجرة الدر".
ذكر الدكتور في ص 57 أنه: "لا يشترط في القصة التاريخية أن تكون أحداثها كلها حقيقية مذكورة في التاريخ، وأن يكون أبطالها كلهم معروفين مذكورين في التاريخ".
"وإنما يجوز لكاتب القصة أن يتخيل بعض الحوادث، وأن يخلق بعض الشخوص.. ولكنه يشترط في القصة التاريخية أن تكون الحوادث الكبيرة والهامة حقيقية غير مختلفة ولا مهوشة، حتى لا تكذب هذه القصة حقائق تاريخية ثابتة فتفقد بذلك اعتبارها وصلتها بالتاريخ".
وأنا أوافق الدكتور إلى حد ما على كلامه السالف الذكر, ثم يتطرق الدكتور إلى الدور الذي لعبه جرجي زيدان في تشويه بعض حقائق التاريخ الإسلامي عن طريق قصصه التاريخية فيقول في ص 58: " ولعل بعض القصص التاريخية التي كتبها جرجي زيدان في (أدبنا الحديث) لم تتقيد بهذه الشروط، وقصته التي كتبها عن الملكة شجرة الدر مثل على ما نقول، فقد أحال أحداثها مجموعة مؤامرات وعلاقات غرامية مشبوهة، وجعل من أعظم أبطالنا في التاريخ رجالا يركضون وراء شهواتهم ومكاسبهم الخاصة، وقلل من روعة الانتصارات التي أحرزناها على أعدائنا، ووضع لها أسبابا تهون من شأنها".(5/114)
قلت: بل الحقيقة التي لا مراء فيها ولا تقبل التجزئة أو التشكيك هي: أن جرجي زيدان الصليبي إنما سلك ذلك المسلك المشين تجاه قادة الإسلام في كل العصور انتقاما منه للصليبية التي دوخها أولئك الأبطال الفاتحون، وحقدا على الإسلام والمسلمين، وإلا لماذا اختار التاريخ لتشويهه بالذات؟.
وفي صفحة 60 يدرج المؤلف الفاضل أسماء بعض كتاب القصة التاريخية في أدبنا العربي الحديث، ويدرج في القائمة طائفة من الصليبين، ومن بينهم جرجي زيدان، وفي نفس الوقت هم لا يقلون عنه حقدا على الإسلام والمسلمين، ثم يختم كلامه عنهم بهذه العبارة: "ولا شك أن هؤلاء الكتاب دفعوا إلى كتابة القصة التاريخية بدوافع كثيرة لعل أبرزها رغبتهم في إعادة تصوير ماضينا الزاهي تصويرا يثير العزائم، ويحرك الهمم للاقتداء بسير أبطالنا الكبار، وتقدير تضحياتهم".
قلت: من بين أولئك الكتاب الذين أشار إليهم المؤلف طائفة من النصارى لم يكن هدفهم - فيما ظهر لي مما كتبوه - إلا تقويض الإسلام، ومحاولة تشويه تاريخه النير بجعل أولئك المجاهدين الذين نشروا دين الله: رجالا يركضون وراء شهواتهم, وهمهم حبك المؤامرات, كما ذكر المؤلف قريبا, ومع ذلك أسماءهم في قائمة المدافعين عن أمجادنا!!
وكنت أود أن لا يقع المؤلف الفاضل في هذا التناقض، وفي هذه المحاباة المقيتة. ثم يتحدث المؤلف عن البواعث التي حملت الأستاذ محمد سعيد العريان على كتابة القصة التاريخية، ويقول في معرض كلام سابق:" ... ولعله - أي العريان - غضب للمنحى الذي نحاه زيدان في عرض التاريخ العربي الإسلامي فخالجته الرغبة في أن يعيد عرض بعض جوانبه في نحو آخر يحفظ له كرامته، ويجلو مثله، ويغسل عن رجاله ما رماهم به زيدان - تحت ستارة التصوير الفني - سرا وعلانية. فمن هنا أعاد كتابة قصة شجرة الدر التي كان زيدان كتبها قبله بأكثر من ثلاثين سنة".(5/115)
قلت: غضبه لذلك صحيح, كيف لا، وأستاذه الرافعي عليه الرضوان ما تجرأ الكاتبون على الإسلام وتاريخه مسخا وتشويها إلا بعد أن علاه التراب..
وفي صفحة 53 يعزو المؤلف ضعف قصص العريان التاريخية.. إلى عدم اتصاله بالآداب والعلوم الإنسانية اتصالا مباشرا , وهذه - في نظري - مغالطة صريحة ومكشوفة من الكاتب، ومفادها: أن السبب الذي حمل العريان وأستاذه الرافعي على الأصالة الأدبية العربية الحقة، إنما هو الجهل باللغات الأوروبية.
وما كان من نقص يلحقهما في هذه السبيل إنما هو عائد إلى ما ذكره من جهلهما باللغات الأوروبية.
وإذا كان ذلك كذلك فلماذا أجاد مصطفى لطفي المنفلوطي [1] ، وحافظ إبراهيم في هذا المجال مع جهلهما باللغات الأوروبية.
وإذا كانت معرفة اللغات الأوروبية هي التي تحول بين المرء وبين الأصالة الأدبية فلماذا أجاد شكيب أرسلان في هذا المجال حتى استحق بجدارة لقب: أمير البيان العربي.
ولعل خير ما أختم به كلمتي هذه أسطر كتبها العريان في ترجمة أستاذه وصديقه الرافعي نقلها المؤلف وأوردها في صفحة 92 من كتابه لتكون ردا على من يحاولون النيل من الأدب العربي القديم ممثلا في الصفوة المباركة من وعاته، قال رحمه الله:
"في الأدب العربي القديم نوايات كثيرة لم يتنبه لها الذين يدعون إلى العناية بأدب القصة في العربية، ولو قد تنبهوا لوجدوا معينا لا ينضب كان حريا بأن يمدهم بالمدد بعد المدد لينشئوا في العربية فنا جديدا من غير أن يقطعوا الصلة بين ماضينا وحاضرنا في التاريخ الأدبي. وبمثل هذا تحيا الآداب العربية وتتجدد، وإلى مثل هذا ينبغي أن تكون دعوة المجددين، لا إلى الاستعارة والاستجداد من أدب الغرب، والجري في غبار كتابه وشعرائه".
غزة.. الصامدة!
"ودحر الشباب الفلسطيني المجاهد في غزة جموع الغاصبين وبنت جثث الأبرار منهم صرحا لا ننساه عنوانا على تضحية الشهداء وغدر الدخلاء".(5/116)
قد هزمنا كل جبار عنيد
وكتبنا صفحات من خلود..
وغدت غزة رمزا للفدا
بوسام، سال من صدر الشهيد
وغدا العدوان في "طغيانه"
لعنة الأجيال في كل صعيد..
فلتدل راياته ولتندحر
دول البغي، وأعلام اليهود..
--------------------------------------------------------------------------------
[1] قصص المنفلوطي المترجمة غير ملتزمة الأصل، والمؤلفة ناقصة التكوين الفني ولعل هذا ما أراده الدكتور الأشقر. وأما شكيب فقد عرف عالما ومؤرخا وأديبا كبيرا ولم يعرف كاتب قصة "المجلة".(5/117)
يستفتونك
يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
س - رجل عنده امرأتان يريد أن يطلق واحدة منهما, هل إذا طلق واحدة منهما تطلق الأخرى؟
ج - إذا طلق الرجل إحدى زوجاته بالتصريح أو بالنية لم يطلق منهن إلا المطلقة المعينة أو المنوية وأما بقية زوجاته فلا يطلقن بذلك لأن الطلاق إنما يقع على من أوقع عليها خاصة دون غيرها وإذا كانت المطلقة لم تعين باسمها وإنما نواها بقلبه لم يطلق غيرها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" وأما قول بعض العامة أن الرجل إذا كان له زوجتان أو أكثر فطلق إحداهما أو إحداهن طلق الجميع فهو قول باطل لا أصل له وهكذا قول بعض العامة أن الرجل إذا كان عنده أكثر من زوجة وأحب أن يطلق إحداهن فإنه يوكل على ذلك ولا يباشر الطلاق بنفسه فهذا الكلام وأشباهه لا أصل له ولا ينبغي أن يعول عليه.
س - أنا مدرس وتزوجت بمدرسة منذ أربع سنوات ورزقنا بطفلة، ونحن خلال المدة المذكورة نعيش في مشاكل بسبب أهلها وأقاربها وأصحابها ولا أرى حلا سوى منعها عن العمل، هل يجوز لي ذلك؟(5/118)
ج - يجوز لك منع زوجتك من العمل وإلزامها بالقرار في بيتها والتفرغ لتربية أولادها والعناية بأمرك وليس لها أن تعمل خارج المنزل إلا برضاك وإذنك إذا قمت بما تحتاج إليه لأنك القيم عليها كما في الآية من سورة النساء {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} الآية، ولأنها مأمورة بالقرار في بيتها كما في الآية من سورة الأحزاب {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} الآية والأحاديث في إطاعة المرأة لزوجها في المعروف مشهورة معلومة إلا إذا كانت قد شرطت عليك عند العقد عدم منعها من العمل المذكور، ولا شك أن خروج النساء إلى معترك الأعمال المختلطة وتقليدهن لنساء الإفرنج في ذلك من أعظم الأسباب التي أدت إلى تفكك الأسر وفساد المجتمع، نسأل الله للجميع الهداية للسبيل القويم إنه خير مسئول.
س - هل تجب في ثلث الميت الزكاة أم لا؟
ج - ليس في الثلث الموقوف زكاة لأنه قد خرج بذلك عن ملك الميت وملك الورثة وصارت غلته للجهة التي عينها الموصي من الضحايا أو غيرها من وجوه البر.
وفق الله الجميع للفقه في الدين والثبات عليه أنه خير مسئول، والسلام عليكم ورحمة الله.(5/119)
أحب الأعمال إلى الله
بقلم الشيخ محمد الطاهر النيفر
الأستاذ بكلية الشريعة وأصول الدين بتونس
في البخاري حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة قال الوليد ابن عيزار أخبرني: قال سمعت أبي عمرو الشيباني يقول:"أخبرنا صاحب هذه الدار (وأومأ بيده إلى دار عبد الله [1] ) قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال:"الصلاة على وقتها", قال: ثم أي؟ قال:"ثم بر الوالدين"، قال ثم أي؟ قال:"الجهاد في سبيل الله", قال حدثني بهن ولو استزدته لزادني".
اشتمل هذا الحديث على خصال ثلاث هي أفضل ما يتقرب به إلى الله تعالى: أولاهما: الصلاة في وقتها, وقد دلت النصوص الكثيرة على عظم فضل من أوقعها في الوقت كما تضافرت الأدلة الشرعية على عظم جرم من أخرجها عن وقتها ويكفينا في التدليل على ذلك ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله": أي كأنما أصيب بأهله وماله.
وهذا التفسير للحديث يندرج على رواية النصب لكلمتي: أهله وماله، وروى بالرفع لهما وفسره مالك بقوله كأنما انتزع منه أهله وماله وكلمة (على) هاته: التي استعملها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله الصلاة على وقتها هي دالة على الاستعلاء حسب أفضل التفاسير، والاستعلاء هاهنا يراد به التمكن من أدائها في جزء من أجزاء الوقت, ويؤخذ منه: التنصيص على أن هاته الأفضلية تخص بأدائها في جميع أجزاء الوقت.(5/120)
وقال ابن بطال: "المراد البدار إلى أداء الصلاة في أول الوقت لأن ذلك هو الأحب إلى الله فيؤخذ من هذا أن اداء الصلاة في أول الوقت هو الأحب إلى الله". قال ابن دقيق العيد: ليس في هذا اللفظ ما يقتضي أولاً ولا آخراً وإنما المراد به الاحتراز عما إذا وقعت قضاء". وتعقبه بعضهم بأن لفظ أحب أفعل تفضيل يقتضي المشاركة والزيادة وعليه فيقتضي ذلك أن المحترز عنه محبوب وليس أداء الصلاة بعد وقتها بمحبوب لله تعالى بل هو محرم، فلا ينبغي أن يكون محترزا عنه وهذا يقتضي أن المحترز عنه إنما هو أداؤها في آخر الوقت.
والخلاصة أن أحب الأعمال إلى الله هو أداء الصلاة في أول وقتها.
وثانيها: بر الوالدين والمراد به الإحسان إليهما وامتثال أوامرهما في غير ما يؤدي إلى معصية الله تعالى ورعايتهما رعاية تامة مثل ما رعياه من قبل، مع ترك الإساءة إليهما ولو بما لا يسئ عرفا إذ كانا سبباً في وجوده ورعياه صغيراً جاهلاً محتاجاً فآثراه على أنفسهما، وسهرا ليلهما وأناماه، وجاعا وأطعماه وعريا وكسواه.
لذا لا يملك لهما الجزاء ولو ولي منهما ما ولياه منه، لما لهما من فضيلة التقدم بالنعمة على المكافي عليها وهذا المعنى قد أشار له الله تعالى في كتابه العزيز فأرشدنا إلى أن المرء لا يطمع بمجازاة والديه عما قدماه إليه، وحسبه أن يتوجه بالدعاء لهما عسى أن يتفضل الله عليهما بأحسن الجزاء وأجز له فهو الكفيل بإعطائهما جزاء ذلك العمل. قال جل من قائل: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} .
قال ابن العربي في تفسيره:"معناه ادع لهما في حياتهما وبعد مماتهما بأن يرحمهما الباري كما رحماك ويرفق بهما كما رفقا بك، فإنه تعالى هو الكفيل بجزاء الوالد عن الولد، إذ لا يستطيع الولد مكافأة والديه أبدا, وفي الحديث: "لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" فيخلصه من أسر الرق كما خلصه من أسر الصغر.(5/121)
وكما يطلب البر بالوالدين شرعا في حالة الحياة كذلك بعد الممات. ففي الحديث الصحيح: "أنه جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله: هل بقي من بر والدي شيء أبرهما به بعد وفاتهما؟ قال له صلى الله عليه وسلم:"نعم, الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما بعدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم الذي لا رحم لك إلا من قبلهما فهذا الذي بقي عليك".
ومما يروى من الأحاديث الدالة على بلوغ بعض الموفقين درجة عليا في الإحسان إلى الوالدين ما روي من أن البرامكة لما حبسوا كان منهم جنب في حاجة الاغتسال فقام ابنه بإناء ماء ليلة كاملة على السراج حتى دفئ فاغتسل به والده، فهذا لعمري منتهى البر بالأبوة.. فليعتبر شبابنا اليوم بأعمال أسلافهم ليفوزوا برضى الله وبره.
وثالثها: الجهاد في سبيل الله لحماية بيضة الإسلام وإعلاء كلمته وكسر شوكة الكفر وإذلاله.
وإذا كان هذا من بعض فضائل الجهاد فأحرى به أن يتبوأ المقام المحمود من بين الأعمال الصالحة، ويحسن بنا أن نذكر كلمة قررها عمنا المرحوم الشيخ محمد النيفر في تأليفه: حسن البيان في حكمة مشروعية الجهاد. وبها تقطع ألسنة بعض المتخرصين من الملاحدة الذين ضلهم الله على علم وفيها موعظة وذكرى لقوم يفقهون.
قال رحمه الله: "إن شريعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تأسست على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ودرء المفسدة قبل جلب المصلحة حتى أنه إذا توقع ضرر أن يرتكب أخفهما".(5/122)
ولذلك كانت دعوى الكافر أولا إلى الإسلام؛ لأن الكفر أعظم مفسدة ينبغي أن يدرأ عنهم وعن العالم أجمع لما فيه من كفران النعمة للخالق المستحق للعبادة لذاته قبل جلب مصلحة جزية يدفعونها كل سنة مع بقائهم على الكفر، ولذلك إذا لم يقبلوا الإسلام ودار الأمر بين ضرر القتل العظيم ودفع الجزية الخفيف يرتكب أخفهما فتطلب منهم الجزية ثاني مرة فإذا لم يكن ارتكاب أخفهما يصار إلى أثقلهما وهو القتل، والقتل أيضا بالنظر إلى استصلاح من بقي وكسر شوكة الكفر فيه ارتكاب أخف الضررين أيضا.
هذا وفي الحديث المذكور أن أفضل الأعمال وأحبها إلى الله هي الخصال الثلاث وهي مرتبة على حسب فضلها لكن ربما يعارض هذا ظواهر كثيرة من أحاديث أخر دلت على أمور أخرى، هي أفضل الأعمال منها ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه قال: "إن إطعام الطعام خير أعمال البر"، ومن ذلك ما روي عنه أيضا من قوله عليه الصلاة والسلام: "أحب العمل إلى الله أدومه".
وجاء في حديث آخر: "إن الجهاد أفضل الأعمال". وثبت في حديث أبي هريرة: "إن أفضل الأعمال: إيمان بالله تعالى".
ولابن دقيق العيد كلام يحصل به التوفيق, قال رحمه الله: "إن الأحاديث الأول محمولة على الأعمال البدنية والحديث الأخير من عمل القلوب لأن الإيمان منه.. وأما وجه التوفيق بين الأحاديث المتقدمة عليه. فللعلماء في ذلك أجوبة كثيرة منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم، أجاب كل سائل بما يوافق غرضه الذي علمه منه، أو بما هو محتاج إليه، فاختلفت الأجوبة باختلاف حالة المخاطبين أو باختلاف الأوقات فإن العمل قد يكون أفضل في وقت غير وقته الأول.
فالجهاد مثلا هو أفضل الأعمال في ابتداء الإسلام والصدقة أفضل من الصلاة في وقت مواساة المضطر مع تضافر النصوص على أن الصلاة أفضل منها.(5/123)
والظاهر أن الحديث الأول لا يدل على أن الخصال الثلاث هي أفضل الأعمال على الإطلاق في جميع الأزمان والأحوال وإنما الأمر الذي يؤخذ منه أن الخصال الثلاث هي من أفضل الأعمال إلى الله تعالى ومما يكون الجزاء عنها بالعطاء الوفير وإنما وقع الاختصار عليها لأن من حفظها يكون لغيرها أحفظ ومن ضيعها فهو لغيرها أضيع. فالصلاة مثلا التي هي عماد الدين من ضيعها فهو لغيرها أضيع وكذا بر الوالدين فهو من الحقوق التي من أضاعها فهو لحق الله أضيع.
وخلاصة القول أن المسلم عليه أن يحافظ على أداء الصلاة في وقتها وطاعة والديه والإحسان إليهما وإن كانا كافرين ما لم يأمراه بما لا يرضي الله، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. قال الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} . وكما قال: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} وأن يكون في نصرة الإسلام وإعلاء كلمة الله مجاهدا في سبيله بماله وبدنه وعلمه وتفكيره وأن يأخذ بيد المتعثر فيطعم الطعام ويواسي الضعيف ويأخذ بيد المحتاج مستديما لذلك ما دامت له الحياة.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] وعبد الله هذا الذي روى الحديث عنه أبو عمرو الشيباني: هو عبد الله ابن مسعود المشهور رضي الله عنه الشيباني.
والشيباني هذا نسبة إلى شيبان بن ثعلبة واسمه: سعد بن أبي إياس وقد أدرك الجاهلية والإسلام وطعن في السن حتى بلغ مائة وعشرين سنة. وقد روي عنه أنه قال:"أول ما سمعت بالنبي صلى الله عليه وسلم وأنا أرعى إبلا لأهلي بكاظمة". قال:"وتكامل شبابي يوم القادسية فكنت ابن أربعين سنة".(5/124)
أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم
بقلم الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
المدرس بكلية الشريعة بالجامعة
5 – نصحه صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى دين الله
لما بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالدين القويم قام بأعباء هذه المهمة على الوجه الأكمل وصبر على ما اعترضه في هذا السبيل من أذى. أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد فقال: لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الاخشبين فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا".
إنّ هذا لهو الخلق العظيم يناله صلى الله عليه وسلم مثل هذا الأذى وتحف به المصائب فينطلق على وجهه مهموما ثم تعرض عليه ملائكة الله القضاء على أعدائه بأن يطبقوا عليهم الاخشبين – وهما جبلا مكة – فلا يستجيب لهذا العرض ويجيب بالإجابة التي تبرهن على تمام نصحه ومحبته لأن يعبد الله وحده فيقول: "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا".(5/125)
وقد ترك صلى الله عليه وسلم الناس على محجة بيضاء واضحة كفيلة لمن سلكها بعز الدنيا وسعادة الآخرة جاء ذلك نتيجة لاتصاف الرسول صلى الله عليه وسلم بكمال النصح وقوة البيان ونهاية الأمانة فما من شيء يقرب إلى الله إلا دل عليه أمته ورغبها فيه كما حذرها مما يخالف ذلك فلم يقصر في صلى الله عليه وسلم في إبلاغه شرع الله ولم يقصر في بيانه عند الإبلاغ. أخرج مسلم في صحيحه عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قيل له: "قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة، قال فقال: أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول أو أن نستنجي باليمين أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار أو أن نستنجي برجيع أو عظم".
وقد أعلن صلى الله عليه وسلم قيامه بواجب التبليغ في أعظم جمع لقيه وذلك في حجة الوداع واستشهد الناس على أنفسهم فشهدوا الشهادة الحق بإبلاغه رسالة ربه وتأديته ما أمر به على أكمل وجه ونصحه في ذلك في حديث جابر الطويل في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه مسلم في صحيحه وفيه قوله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس يوم عرفة: "وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عني فماذا أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكثها إلى الناس: اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات".(5/126)
ولم يدع صلى الله عليه وسلم وسيلة فيها إيضاح وإفهام للناس وحفز للهمم إلى القيام بطاعة الله والبعد عن معصيته إلا سلكها في سبيل دعوته إلى الله وتحذيراً منه من النكوب عن الشرع القويم الذي جاء به صلى الله عليه وسلم فكان يضرب الأمثلة التي تجعل الشيء المبين في صورة المحسوس المشاهد، ففي مسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وأنا النذير العريان فالنجاء فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا فانطلقوا على مهلتهم وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق"، وفي صحيحه أيضا عن جابر رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي", واتفق البخاري ومسلم على إخراج هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن شيء وكانت الأهمية لغير المسؤول عنه لفت نظر السائل برفقه وحكمته صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الأهم. ففي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: "متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها؟ قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت". إلى غير ذلك من الوسائل التي اتبعها صلى الله عليه وسلم في هدايته وإرشاده.
6 – قوته وشجاعته صلى الله عليه وسلم(5/127)
المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه. وقد جمع الله أنواع القوة في عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم, جمع له إلى القوة الإيمانية الكاملة القوة البدنية فاستعمل هذه القوة في عبادة الله وطاعته والسعي الحثيث إلى كل ما يقربه إليه وهو الأسوة والقدوة لأمته في كل خير. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه. قالت عائشة: يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورا؟ ".
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة".
وفي الصحيحين أيضا عن أنس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قبل الصوت فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: لم ترعوا لم ترعوا وهو على فرس لأبي طلحة عرى ما عليه سرج في عنقه سيف فقال: لقد وجدته بحرا أو أنه لبحر".(5/128)
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقدم أصحابه في الجهاد في سبيل الله وقد شج وجهه وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم يوم أحد. وفي غزوة حنين ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انهزم الكثير ممن معه ففي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رجلا قال له: "يا أبا عمارة أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، إن هوازن كانوا قوماً رماة فلما لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا فأقبل الناس فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا سفيان بن الحارث آخذ في لجام بغلته البيضاء وهو يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب".
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره بعد سياق هذا الحديث: "قلت وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة أنه في مثل هذا اليوم في حومة الوعي وقد انكشف عنه جيشه وهو مع هذا على بغلة وليست سريعة الجري ولا تصلح لفر ولا كر ولا هرب وهو مع هذا يركضها إلى وجوههم وينوه باسمه ليعرفه من لم يعرفه صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين وما هذا كله إلا ثقة بالله وتوكلا عليه وعلما منه بأنه سينصره ويتم ما أرسله به ويظهر دينه على سائر الأديان".
7 – حقه صلى الله عليه وسلم على أمته وحق أمته عليه:
ولعل أن أختم هذه المحاضرة المشتملة على نماذج من أخلاقه صلى الله عليه وسلم بالإشارة إلى مجمل حقه على أمته وحق أمته عليه صلى الله عليه وسلم فأقول:(5/129)
من حقه على أمته – وقيامهم بهذا الحق عنوان سعادتهم – أن يشهدوا بأنه رسول الله حقا إلى جميع الثقلين الجن والإنس وأن شريعته باقية إلى قيام الساعة وأنها عامة لكل أحد فلا يسع أحد الخروج عنها. روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار.." وأن شريعته صالحة لكل زمان ومكان وأنه لا سعادة في الدنيا ولا نجاة في الآخرة إلا لمن سلك سبيله وسار على نهجه وأنه هو الأسوة والقدوة لأمته وأنه الصادق المصدوق في أخباره غائبها وماضيها ومستقبلها وأن تكون القلوب عامرة بحبه محبة أعظم من محبة النفس والوالد والولد والناس أجمعين، ومن محبته صلى الله عليه وسلم محبة شريعته وتعظيمها وتحكيمها والتحاكم إليها كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وأن تكون العبادة لله خالصة وعلى وفق الخطة التي رسمها رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يعبد الله إلا بما شرع كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"، وما أحسن قول أبي عثمان النيسابوري إذ يقول: "من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة".
وقد جمع هذه الأمور في عبارة وجيزة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله حيث قال في بيان المراد بشهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "طاعته فيما أمر وتصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر وأن لا يعبد الله إلا بما شرع".(5/130)
ومن حقه على أمته صلى الله عليه وسلم أن تكون الألسنة رطبة بالثناء عليه بكل ما يليق به مع الحذر من الغلو الذي لا يرضاه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وبالثناء على سنته وإيضاح محاسنها وبيان ضرورة الناس إلى التمسك بها وأن تكون الألسنة رطبة بالصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان، والبخيل حق البخيل من ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصل عليه، وأرغم الله أنف من ذكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصل عليه، وأبخل ممن يبخل بالدرهم والدينار من يبخل بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره صلوات الله وسلامه الأتمان الأكملان عليه وعلى آله وأصحابه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما حق الأمة عليه فهو إبلاغهم رسالة ربهم وإرشادهم إلى ما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} , وقال تعالى: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} .
روى البخاري في صحيحه عن ابن شهاب الزهري رحمه الله أنه قال: "من الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم". انتهى. وقد من الله على المؤمنين بإرسال رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبلاغ الرسالة على أكمل الأحوال وأتمها وأنزل الله تعالى عليه في أواخر حياته في حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} .(5/131)
وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: "وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عني فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد اللهم اشهد ثلاث مرات" رواه مسلم، فالذي من الله وهو الرسالة والذي على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو البلاغ كل منهما قد حصل على التمام والكمال أما الذي على الأمة وهو التسليم فالسعيد من وفق للقيام بذلك قولا وفعلا واعتقادا والشقي الطريد المخذول من كان بخلاف ذلك.
وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يوفقنا جميعا للتأدب بآداب هذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وأن يمن علينا بالتوفيق لاقتفاء آثاره والسير على نهجه وأن يميتنا على سنته ويحشرنا في زمرته ويجعلنا من الفائزين بشفاعته إنه ولي ذلك والقادر عليه ولا حول ولا قوة إلا به. ربنا تقبل منا إنك السميع العليم، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
الله أكبر
من مئذنة الأقصى السامقة.. انطلق المؤذن يوقظ الغفاة.. ويحي الموات..
ردد الكون نداءات الأمان أجمل الألحان في سمع الزمان..
دعوة للحق في أجوائنا
كلها خير وبر وحنان
لو عرفنا الله ما شطت بنا
سبل التضليل.. أو ذقنا الهوان..
غير أنا أمة قد أصبحت
خير ما فيها.. حديث ولسان..(5/132)
أضواءٌ على العالم الإسلامي
نداء من: محمد عبد القيوم خان رئيس دولة كشمير
وجامو الحرة إلى جميع المسلمين في العالم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ومن دعا بدعوته وعمل بسنته. وبعد:
أرى من الواجب علي كرئيس منتخب لدولة كشمير وجامو الحرة أن ألفت أنظار الشعوب الإسلامية إلى الكفاح التحريري الذي يكرسه الشعب الكشميري في سبيل تحرير بلاده, وأقول بصراحة وبدون أن أخاف لومة لائم: أن الدول الإسلامية لا تقدر جيدا الظلم الذي أصاب خمسة ملايين من المسلمين في كشمير: (جنة الله في الأرض) مع أنهم كانوا يتوقعون بحق أن ينالوا عطفا عميقا ويكسبوا اهتماما كبيرا بنضالهم وكفاحهم من إخوانهم، ولكن لا أسئ الظن بإخواني المسلمين لأني أعرف بأن عدم اهتمامهم بهذه القضية مرجعه قلة معلوماتهم عنها وإني على ثقة تامة أن أي فرد من المسلمين إذا فهم ما هو تاريخ كفاح الشعب الكشميري وما هو غايته فإنه بدون ما ريب لا يقصر في تركيز عنايته بهذه القضية على بعد الدار ونأي المزار، وعلى كل فأنا في غمرة من الاطمئنان والارتياح حينما أرى أن العالم الإسلامي أصبح يدرك بأن قضية كشمير ليست قضية محلية أو ليست نزاعا يقتصر على قطعة من الأرض بل إنها من أهم قضايا المسلمين وهذا هو الشعور الذي أبداه كثير من قادة المسلمين في مناسبات عديدة، وأنا أبذل جهدي المستطاع لأشرح هذه القضية ومفاهيمها الصحيحة وغاياتها الأصلية على صعيد عالمي.(5/133)
ومما لا ريب فيه أن كشمير ترتبط بالعالم الإسلامي بعلاقات وثيقة وأواصر عديدة، منها أن الشعب الكشميري يتمسك بالإسلام ويعض عليه بنواجذه, ومنها أن كفاح الشعب الكشميري ينصب تماما على نظام يخلو من أبسط مبادئ العدل والإنصاف، لأن عدونا الحقيقي هو نظام يقول بأن قطعة من الأرض أفضل من البشر وكرامته ولذلك قمنا نحارب ذلك النظام الغاشم.. النظام الذي يفضل طبقة خاصة الناس على عامة الجماهير.. وهذا النظام بدون ما ريب يقوم على قواعد الكفر ومبادئ الإلحاد.(5/134)
إن الهند تحاول أن تقنع الدنيا بأنها دولة ديمقراطية لا دينية، مع أن هذا الادعاء أمر يخالف الواقع ويعاكس الحقيقة، لأن قادة الهند وحكامه على رغم هذا الادعاء الكاذب ليسوا بمستعدين لأن يتخلوا عن طبيعتهم الهندوسية الشرسة غير القابلة للإصلاح. إن الديانة الهندوسية نفسها أكبر مدعاة لعدم المساواة في الحياة البشرية، ويتضح لكل من يدرس هذه الديانة أنها في صميم أفكارها ومبادئها وتعاليمها تحارب الكرامة البشرية، وهذا الأمر بعينه هو روح الكفر ومغزاه. إن الرجل الهندوسي حسب تعاليم كتبه الدينية (شاستر) يقسم مجتمعه إلى أربع طبقات: الطبقة الأولى: البرهما، والثانية: كشترى، والثالثة ويش، والرابعة: شودر (المنبوذ) ؛ أما الطبقة الأولى أي البرهما فهي تحتل أعلى مكانة في المجتمع بل تحتل مكانة الإله، وبكلمة أخرى أن البرهما يحتل مكانة أبرز من المكانة التي كان يحتلها الكهنة ورجال الدين في بابل ومصر إلى ما قبل أربعة أو خمسة آلاف سنة. وبموجب الديانة الهندوسية أن أي فرد من أفراد الطبقة الثانية (كشترى) والثالثة (ويش) مهما استفرغ الجهود واستنفد الإمكانيات لا يصل أبدا إلى درجة البرهما, وهكذا فإن الشودر (المنبوذ) ولد ليبقى أحط أنواع المجتمع الهندوسي وأسوأها حظا وأنه أي (المنبوذ) إذا وقع ظله على البرهما فإنه ينجس, وكذلك المنبوذ خلق ليقوم بأعمال تنظيف الأوساخ والأرجاس وأنه إذا صادف أن سمع آيات من كتاب الهندوس الديني يجب أن يفرغ في أذنه الرصاص عقوبة لهذه الجريمة، ولا تزال تتحكم هذه الأفكار في كثير من أقطار الهند، وقد حدث إلى ما قبل مدة أن جماعة من المنبوذين من جنوب الهند أحرقوا وهم أحياء لأنهم ربّوا شواربهم كما يربيها البرهما وتجاسروا بهذه الطريقة على مماشاة النوع الأعلى من الهندوس – أي البرهما –.(5/135)
والقانون الذي كان يسود كشمير في الفترة الماضية كان يعاقب كل من يذبح البقرة بعقوبة الموت ثم استبدلوا هذا القانون الغاشم بعقوبة سجن لمدة عشر سنوات، لأن الديانة الهندوسية تقدس البقرة لدرجة تقديس الإله, كما أنها تقدس شجرة (بيبل) من الشجرات المنتشرة في الهند ولا يخفى على كثير من الناس ما حدث في الهند من آلاف من المذابح والمجازر على المسلمين بجريمتهم أنهم ذبحوا البقرة أو قطعوا غصنا من أغصان الشجرة (بيبل) .
وأما فيما يتعلق بالمسلمين فإن الهندوس يطلقون عليهم لقب (الماليش) وهذه الكلمة معناها النجس والمنحط، والهندوس يعتبرون مسلمي الهند أجانب لا يستحقون أن يعيشوا في القارة الهندية، وهذا هو الشعور المتمرد الذي لحمته الكراهية وسداه عدم التسامح دفع المسلمين إلى أن يطالبوا بإقامة وطن مستقل يعيشون فيه أحرارا. وفي النهاية تمخضت هذه المطالبة عن تأسيس باكستان ولكن بتضحيات جسام ومحن قاسية لا عد لها ولا حصر.(5/136)
وأرى من اللازم في هذه المناسبة أن أذكر بعض الجوانب من مطامع الشعب الهندوسي العدوانية والاستعمارية. إن قادة الهند ورجال الفكر من الهندوس تمكنوا من إقناع شعبهم بأنه كان هناك مملكة هندوسية كبيرة الشأن إلى ما قبل بضعة آلاف من السنين تمتد حدودها من نهر جيحون (تركستان الغربية) إلى المحيط الهادي فهو مدعو إلى أن يبعث هذه المملكة من جديد ويعطي لها الأهمية الأولى. والهندوس كانوا يعتبرون باكستان عقبة كأداء في سبيل تحقيق هذه الرغبة ولأجل ذلك أنهم عارضوا فكرة قيام باكستان بكل عنف وبشعور مشبع بروح العصبية الدينية، ولا يخفى على أحد أن باكستان تأسست في النهاية على أشلاء مليون من المسلمين رجالا ونساء وشيوخا وشبابا قتلهم الهندوس والسيخ، حتى أن هؤلاء الهمجيين لم يرحموا الصغار فذبحوهم ورفعوا جثثهم فوق نصال أسنتهم وألقوهم في الزيت المغلي أمام أمهاتهم ... مناظر رهيبة من قساوة القلب لم يشاهدها عين السماء في تاريخ البشرية.(5/137)
ولكن الذي يؤسفنا أن زعماء الهند وسفرائه، الذين يتشبعون بهذا النوع من التفكير ويؤمنون بهذا الضرب من نظام الحياة يتجشمون في البلاد الإسلامية دعاة إلى التسامح وحاملين لواء السلام والأمن، بلغت بهم الوقاحة لدرجة أنهم حاولوا أن يندسوا إلى مؤتمر القمة الإسلامي الذي عقد في الرباط في شهر سبتمبر 1969م بينما تعيش الأقلية المسلمة في الهند منذ ثلاثة وعشرين عاما عيشة المنبوذين تقام عليهم بين آونة وأخرى المجازر الرهيبة وتسام بسوء العذاب. والذي حدث قبل سنة ونصف في مدينة حيدر آباد ليس ببعيد إذ قتل في هذه المدينة العريقة خمسة آلاف من المسلمين العزل أو أحرقوا وهم أحياء وها قد قامت قبل مدة يسيرة في مدينة (بهوبال) مذبحة ذهبت ضحيتها عشرات من المسلمين، وأريد أن أطلع الصحافة العالمية على هذه الأحداث الرهيبة الهمجية، وإني على مثل اليقين أن المسلمين في أنحاء العالم يعتبرونني محقا في ضوء هذه الحقائق التاريخية إذا صرحت لهم أن القيام بالجهاد ضد هذا النوع من الكفر فريضة واجبة على كل مسلم ومسلمة.(5/138)
إن عدونا له براعة فائقة في أساليب التضليل والخداع والمناورة, إنه يستطيع أن يجعل قضية بسيطة واضحة المعالم تتشوه وتختفي عن أعين الناس بمكره ودهائه وبواسطة جهازه الجبار للدعاية والنشر، وهذا ما فعله مع قضية كشمير على كونها قضية واضحة المعالم لا غبار عليها. وحقيقة هذه القضية ليست إلا أن الشعب الكشميري يريد أن يمارس حقه في تقرير مصير بلاده بينما الاستعمار الهندي يحاول أن يحرم هذا الشعب من هذا الحق الإنساني باستخدام جميع أساليب العنف والتنكيل, أما نحن الكشميريين فإننا نرفض مبدئيا أن تحتل بلادنا قوة بدون رضانا. ولذلك لما أرادت الهند أن تحتل كشمير بمجرد أن نالت الهند الاستقلال عام 1932م قمنا ننظم الحرب التحريرية ضد الهند، ونتيجة لهذا الجهاد تحررت المناطق التي تنضم الآن في دولة كشمير الحرة. ولما أوشكنا على الانتصار الكامل وتحرير جميع الأراضي الكشميرية تدخلت الدول الاستعمارية الغربية واستخدمت نفوذها في وقف إطلاق النار.
ومن الواضح جليا أن هدفنا من هذا الجهاد هو الإسلام ونطلب من الإخوة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن يساعدونا ويشدوا أزرنا ويدعموا كفاحنا ماديا ومعنويا.
ونتمنى أن نقيم في بلدنا نظاما يقوم على العدل والتساوي، وينطلق كفاحنا من الفكرة الإسلامية، وصممنا العزم على أننا إذا فشلنا في تحقيق تحرير بلادنا بوسائل سليمة فإننا سنشرع في الكفاح المسلح بإذن الله، وإنا نعتبر هذا الكفاح جهادا إسلاميا خالصا لأن من مقتضيات الفكرة الإسلامية للحياة أن لا نستسلم أمام الجور والظلم بل نقارعه بكل ما نملك من الإمكانيات والوسائل، وإن الشعب الكشميري لن يستسلم أبدا في كفاحه ضد الغاصب الغشوم، إن الشعب الكشميري يعتمد في حد كبير في كفاحه التحريري على ما لديه من الإمكانيات ولكن مع ذلك إنه بحاجة ملحة إلى تأييد العالم الإسلامي ومساندته ودعمه خاصة والدول المحبة للحرية عامة.(5/139)
إن مؤتمر الحج يشكل اجتماعا إسلاميا دوليا لا بديل له من حيث كون هذا المؤتمر مجالا فسيحا لدراسة المشكلات الإسلامية في العالم الإسلامي وأخذ موافقة الشعوب الإسلامية على تأييدها، وأي اجتماع يا ترى يكون أفضل من اجتماع الحج لدراسة مشكلة كشمير وقضية فلسطين، وأحب أن أشير إلى الناحية التي يلتقي فيها الشعب الفلسطيني مع الشعب الكشميري وهي تتجسد في القلق الذي يقض مضجع الشعبين المسلمين في تحرير وطنهما.
وهناك تشابه كبير بين مشكلتي كشمير وفلسطين، والتاريخ يشهد بأن الاستعمار البريطاني هو الذي لعب دورا خطيرا في جعل فلسطين وطنا قوميا لليهود وتسليمه لليهود الذين هاجروا إلى فلسطين من أنحاء العالم، وكما أن الاستعمار البريطاني هو الذي خلق مشكلة كشمير وذلك حينما فشل في منع قيام باكستان عام 1932م، ووضع الملايين من المسلمين تحت نير الهندوس, فسلم منطقة جورداسبور – المنطقة الحساسة التي كانت تعيش فيهما الأغلبية الإسلامية – للهند، ومنطقة جورداسبور هي الطريق الوحيد الذي تنفذ منه الهند إلى كشمير لأن تتلاصق حدودها من جميع الجهات بباكستان. وهكذا مهد الاستعمار البريطاني طريقا لاحتلال كشمير، ولو لم يكن الأمر هكذا لم يكن للهند أي اتصال جغرافي بوطننا كشمير ولم تحدث مشكلة كشمير التي نحن فيها اليوم، وكان هدف الاستعمار الغربي من زرع هذا التصادم بين الهند وكشمير هو نفس الهدف الذي كان يهدف إليه الاستعمار الانكليزي من تسليم فلسطين لحثالة العالم وشذاذ الآفاق أي طعن خنجر في قلب الإسلام وكما أن الصهاينة في فلسطين أداة مؤثرة بيد المستعمرين كذلك الهند تقوم بنفس الخدمة للمستعمرين في منطقة الجنوب الشرقي الآسيوي، والاستعمار الهندوسي في الهند، أسوة بالصهاينة، مصاب بداء جوع الأرض، وهذا الجوع من شأنه أن يدفع الإنسان إلى ارتكاب ظلم وطحن البشرية، ولا أتمالك إلا أن أطلع إخواننا المسلمين في العالم على أننا أصبحنا نعي الآن(5/140)
مطامع الهندوس بعد أن بقينا عرضة لها مدة من الزمن ولذلك نستطيع أن نقول على أساس تجاربنا أن البلاد الإسلامية وبعض البلدان في الشرق الأوسط وأفريقية ستكون عرضة للمطامع الهندوسية، ولا ألقي هذا القول على عواهنه، ولا لأجل الدعاية فقط بل إنكم إذا تشكون في ذلك فلكم أن تطالعوا المبادئ الأساسية التي يحتضنها الاستعمار الهندي الغاشم.
ومزايا الدبلوماسية الهندوسية تلتقي مع مزايا الدبلوماسية الصهيونية بقضها وقضيضها وهي الدعوة إلى السلام، كذبا وزورا، ثم اللجوء إلى العدوان المسلح، وتتكشف أكاذيب الفكرة الهندوسية كما تكشفت أكاذيب الفكرة اليهودية في العالم، وقليل من الناس في الدنيا الذين يثقون فيما يعلنه الصهاينة والهندوس من دعوتهم إلى السلام العالمي وينشرون من المخططات البناءة المزعومة بواسطة أجهزة الدعاية, فبينما كانت إسرائيل تدعي السلام وتطالب بإقامة السلام العالمي شنت هجوما عدوانيا على البلاد العربية، والهند كذلك تحذو حذوها وتتبع خطواتها، ومن سوء الحظ أن بعض زعماء الهند نجحوا في إقناع بعض البلدان العربية بأن الهند صديق مخلص وفيٌّ لها, ولكنه مع ذلك يوطد صداقتها مع إسرائيل، ولكن هذه الصداقة هي في حقيقتها لا تختلف عن تصريحات موشى دايان بأن إسرائيل صديقة للعرب.
وكذلك من أبرز وجوه التشابه في هذين العميلين الاستعمار الغربي اللذين يتجشمان على قلب الدول الأفرو آسيوية عُدُولهما عن الإيفاء بالمواثيق حيث أن الهند نكثت مرارا مواثيقها التي أبرمتها لحل قضية كشمير ولا تختلف تجارب البلاد العربية مع إسرائيل في هذا الباب عن تجارب أهل كشمير مع الهند لأن إسرائيل كذلك لا تزال تنكث وعودها وتمزق مواثيقها التي أبرمتها في المنابر الدولية لحل قضية فلسطين، وإذا أضفنا على الهند لقب – إسرائيل الآسيوية – فلا نتجاوز الحقيقة أبدا.(5/141)
وأنا في هذه المناسبة السعيدة وفي هذا الاجتماع العالمي أناشد جميع الأمم الإسلامية أن تدرس بنظرة عميقة لا مسألة كشمير فقط بل جميع المسائل التي يواجهها اليوم العالم الإسلامي، وسيكون هذا التضامن والتلاحم في العواطف والمشاعر خدمة جليلة يسديها الإسلام نحو الكتل البشرية.
وأدعو الله تعالى من صميم قلبي أن يوفق جميع المسلمين الذين جاءوا هذه البقعة المباركة من كل فج عميق إتباعا لسنة سيدنا إبراهيم عليه السلام يوفقهم لمعالجة مشاكل وآلام مسلمي فلسطين وكشمير وإريتريا وقبرص خاصة.
وهذه نماذج من المواثيق التي نكثت بها الهند على مرأى من العالم ومسمعه:
نص البرقية التي بعثها البانديت جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند إلى رئيس وزراء بريطانيا ورئيس وزراء باكستان بتاريخ 27 أكتوبر عام 1937م:
"أريد أن أوضح أن دعمنا لكشمير لا يعني أبدا تمهيد الجو لضم ولاية كشمير مع الهند، وإن نظريتنا التي تكرر إعلانها من قبلنا أن لا يجوز حل قضية المنطقة المتنازع عليها أو قضية انضمام ولاية من الولايات إلا بما يرضى به عامة الناس، ولا نزال قائمين على هذه النظرية بكل قوة".
وهذا مقتبس من الكلمة التي ألقاها رئيس وزراء الهند من إذاعة الهند بتاريخ 2 نوفمبر 1937م:
"أعلنا أن تقرير مصير كشمير لا يتم إلا بواسطة أهل كشمير, هذا ما أعطينا عليه التعهد القائم على اليمين، التعهد الذي أبداه المهاراجا حاكم كشمير أيضا والذي لا يتعلق بأهل كشمير فقط بل يتعلق بسائر الدنيا، ولا نستطيع أن نحيد عن هذا التعهد، ونحن على استعداد بأنه إذا ساد جو الأمن والسلام نقوم بإجراء الاستفتاء العام تحت إشراف منظمة دولية كمنظمة الأمم المتحدة، ونود أن نتوصل إلى رأي عامة الجماهير بطريق سليم وأمين، ونقبل كل ما يقررون ولا أتصور بعد ذلك هل هناك من عرض أكثر صحة وأمانة من هذا العرض".(5/142)
وهذا تصريح وزير هندي كرشنا مينان في لندن المنشور في جريدة "استيتمين "بتاريخ 2 أغسطس عام 1951م:
"لا تريد حكومة الهند أبدا أن تعدل عن وعودها، إذ نحن قائمون على ما وعدنا من إجراء الاستفتاء العام في كشمير بكل حزم، ووثقنا هذه الوعود مع الشعب الكشميري لأنه يؤمن بالنظام الديمقراطي، ولا نعتبر كشمير بضاعة للتجارة والمساومة".
وهذا إعلان مشترك لكل من رئيس وزراء الهند وباكستان صدر بتاريخ 20 أغسطس 1953م:
"جرت المباحثة حول قضية كشمير بصفة خاصة وهما على رأي أكيد بأن هذه القضية يلزم أن تحل وفق رغبة عامة الناس ليعيشوا في جو الرفاهية والرخاء ولا تأخذ الفوضى سبيلها إلى حياة كشمير، وأحسن طريق لمعرفة رغبة عامة الناس إجراء الاستفتاء العام بصورة نزيهة وأمينة ومحايدة، واقترح إجراء هذا النوع من الاستفتاء قبل بضعة سنوات، ثم كرِّس الاتفاق عليه ولكن لم تتخذ لحد الآن أي خطوة إلى الأمام في هذا الباب لوجود الخلاف في بعض المسائل الابتدائية، واتفق الرئيسان أنهما سيتباحثان في هذه المسائل الابتدائية مباشرة لكي يصلا إلى تقرير اتفاق بينهما ويجب أن يوضع هذا الاتفاق حيز التنفيذ قبل كل شيء، وتتبعها خطوة إلى تعيين مدير للاستفتاء العام".(5/143)
أضواء من التفسير
للشيخ عبد القادر شيبة الحمد: المدرس بكلية الشريعة
قال تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ. وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ. مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} .
المناسبة:
هذه الآيات حكاية لأباطيلهم المتفرعة على ما حكاه الله من استكبارهم وعنادهم، فبعد أن أخبر عنهم أنهم في غزوة وشقاق أردف بما صدر عنهم من تعجبهم منه، ونسبتهم السحر والكذب إليه.
المفردات:
{عَجِبُوا} .. استغربوا وأنكروا أشد الإنكار. {جَاءَهُمْ} أتاهم. {مُنْذِرٌ} أي رسول يبلغهم عن ربه ويعلمهم ويخوفهم. {مِنْهُمْ} أي من جنسهم في البشرية، ونوعهم في العربية والأمية. {الْكَافِرُونَ} الجاحدون. {سَاحِرٌ} متعاط للسحر وهو ما لطف ودق وخفي مأخذه، فالخوارق والمعجزات التي يأتي بها محمد صلى الله عليه وسلم من قبيل السحر عند هؤلاء. {جَعَلَ} بمعنى صير وهي من التصيير في القول والزعم لا في الخارج والوجود.
{إِلَهاً} أي معبودا مألوها مقصودا محبوبا. {وَاحِداً} متفردا بالألوهية ليس له شريك فيها. {عُجَابٌ} بناء مبالغة من العجب أي هذا بليغ في النكارة والغرابة لا يحتمل الوقوع. {انْطَلَقَ} ذهب.
{الْمَلأُ} الأشراف ووجوه القوم، منهم أبو جهل والعاص بن وائل والأسود بن المطلب بن عبد يغوث وعقبة بن أبي معيط.(5/144)
{امْشُوا} أمر بالمشي وهو نقل الأقدام وقيل الأمر بالمشي هنا لا يراد منه نقل الخطى إنما معناه سيروا على طريقتكم ودوموا على سيرتكم، والانطلاق الاندفاع في القول، والأول أظهر للسياق وهو الذي يدل عليه سبب النزول.
{وَاصْبِرُوا} احبسوا أنفسكم على عبادة آلهتكم وتمسكوا بها. {يُرَادُ} أي يطلب منا الانقياد له، أو أن هذا من نوائب الدهر مراد منا فلا انفكاك عنه، أو أن دينكم يطلب ليؤخذ منكم. {بهَذَا} بالتوحيد. {المِلَةَ} الشريعة. {الآخِرَةِ} ملة النصارى، أو قريش، أو اليهود والنصارى، أو الملة التي كنا نسمع أنها تكون في آخر الزمان إذ لم يذكر لهم أنها تدعو إلى التوحيد. {إِنْ} بمعنى ما. {هَذَا} أي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. {اخْتِلاقٌ} أي كذب وافتراء.
التراكيب:
الواو في قوله: {وَعَجِبُوا} للاستئناف، والضمير في عجبوا يعود إلى كفار قريش المفهومين من المقام.(5/145)
وأن مصدرية وهي مع مدخولها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر مقدر بمن أو اللام و {مِنْهُمْ} في محل رفع صفة لمنذر والتنوين في {مُنْذِرٌ} للتعظيم كمثله في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} . والواو في قوله: {وَقَالَ} للعطف أي عطف جملة على جملة. وأصل السياق يقتضي أن يقال: (وقالوا) ولكنه عدل عن ذلك ووضع الظاهر موضع الضمير فقال: {وَقَالَ الْكَافِرُونَ} تنبيها على الصفة التي أوجبت لهم العجب، حتى نسبوا من جاء بالهدى ودين الحق إلى السحر والكذب وإيذاناً بأنه لا يتجاسر على مثل هذا إلا المتوغلون في الجحود والكفران. وجملة {سَاحِرٌ كَذَّابٌ} في محل نصب مقول القول، وكذلك الجملتان بعدها. وإنما ترك العطف بين جملة {هَذََا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} وجملة {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} لأن بينهما كمال الانقطاع إذ الأولى خبرية والثانية إنشائية. وكذلك ترك العطف بين جملة {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} وجملة {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} لنفس الحال، فالأولى إنشائية والثانية خبرية وترك العطف لا يوهم خلاف المراد. والهمزة في أجعل الآلهة للاستفهام التعجبي معنى كيف.(5/146)
والواو في قوله {وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ} للاستئناف و {مِنْهُمْ} في موضع نصب على الحال من الملأ، وأن امشوا يجوز أن تكون أن مصدرية أي انطلقوا بقولهم أي امشوا ويجوز أن تكون مفسرة لانطلق لأنه ضمن معنى القول لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم أن يتكلموا، وقيل بل هي مفسرة لجملة محذوفة في محل نصب على الحال من الملأ أيضا والتقدير وانطلقوا يتحاورون أي امشوا. وقيل لا حاجة إلى التقدير ولا التضمين لأن الانطلاق هنا الاندفاع في القول والكلام نحو انطلق لسانه فأن مفسرة له، وقوله: {عَلَى آلِهَتِكُمْ} أي عبادتها، فهي على حذف المضاف. وقوله: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} تعليل للأمر بالصبر والإشارة راجعة إلى ظهور محمد صلى الله عليه وسلم وتأليه إله واحد المفهوم من السياق.
المعنى الإجمالي:
واستغرب هؤلاء وأنكروا أشد الإنكار لمجيء رسول عظيم يبلغهم عن ربه، ويعلمهم ويخوفهم، وهو من جنسهم في البشرية ومن نوعهم في العربية والأمية، وقال هؤلاء الجاحدون: هذا يأتي بالخوارق بواسطة تعاطي السحر وهو مغتر كثير الكذب، كيف يصير المعبودات الكثيرة معبودا واحدا فينفي الألوهية عنها. ويقصرها على إله واحد، إن تأليه إله واحد لشيء بليغ في العجب.
واندفع أشراف قريش من مجلس أبي طالب يتحاورون أي امشوا وسيروا – أو اندفعوا في الكلام – أي امشوا واثبتوا على طريقتكم، واحبسوا أنفسكم على عبادة معبوداتكم، إن ظهور محمد صلى الله عليه وسلم لأمر يطلب منا الانقياد له، أو أن هذا من نوائب الدهر ابتلينا به، وهو مراد منا فلا انفكاك لنا عنه، أو أن دينكم يطلب ليؤخذ منكم، ما سمعنا بالتوحيد في شريعة النصارى، أو في دين آبائنا أو في شريعة اليهود والنصارى، أو في الشريعة التي حدثنا بها الأحبار فإنهم لم يذكروا لنا التوحيد، وإنما ذكروا أن نبينا يبعث آخر الزمان, ما هذا الذي جاء به محمد إلا كذب وافتراء.(5/147)
ما ترشد إليه الآيات:
1 – استغراب الكفار لمجيء الرسول منهم.
2 – وأن سبب الاستغراب هذا هو الكفر.
3 – وأن الكفر لا يأتي بخير.
4 – وأن الدين الشائع عند ظهور الرسول هو الشرك.
5 – مبالغة الكفار في إنكار التوحيد.
6 – تواصي الكفار للتمسك بالشرك.
7 – تكذيب القرآن ودعواهم أنه سحر.
8 – اضطراب الكفار في وصف محمد صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ. أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ. أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأََسْبَابِ. جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ} .
المناسبة:
0 بعد أن بين الله تعالى ما صدر من هؤلاء الكفار نتيجة استكبارهم بين هنا استبعادهم اختصاص محمد بالذكر والشرف دون أشرافهم بدعوى أنه ليس من أصحاب الأموال، ثم بين سبب هذا الاستبعاد وهددهم وتوعدهم.
المفردات:
{أُنْزِلَ} ألقى. {الذِّكْرُ} القرآن. {شَكٍّ} ريب. {ذِكْرَى} كلامي يعني القرآن.
{لَمَّا} حرف نفي لما يتوقع حصوله. {يَذُوقُوا} يحسوا ويختبروا طعم العذاب. {عَذَابِ} عقاب.
{خَزَائِنُ} كنوز. {الْعَزِيزِ} الغالب القاهر. {الْوَهَّابِ} الواسع العطاء الكثير المواهب. {فليرتقوا} فليصعدوا. {الأََسْبَابِ} المعارج التي يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم. {جُنْدٌ مَا} أي جمع حقير. {مَهْزُومٌ} مكسور مقهور. {الأَحْزَابِ} الكفار الذين تعصبوا في الباطل.
التراكيب:(5/148)
الهمزة في قوله: {أَأُنْزِلَ} للاستفهام الإنكاري. وقوله {مِنْ بَيْنِنَا} يشير إلى سبب الإنكار وهو الحسد الذي طحن صدورهم حتى أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم، كما حكى عنهم في سورة الزخرف إذ قالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} . وبل في قوله {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} للإضراب الإبطالي عن مقدر يفهم من السياق تقديره: "ليس إنكارهم للذكر عن علم بل هم في شك منه". والإِخبار بأنهم في شك يقتضي كذبهم في قولهم: إن هذا إلا اختلاق. وبل في قوله {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} للاضراب الانتقالي لبيان الحال الذي يزول فيه شكهم. ويذوقوا مجزوم بلما، والتعبير بلما للدلالة على أن ذوقهم العذاب على شرف الوقوع. وقوله {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} للرد على قولهم أأنزل عليه الذكر من بيننا، وأم فيه منقطعة بمعنى همزة الاستفهام الإنكاري، وإنما قدم الظرف لأنه محل الإنكار. وإضافة الرب إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم للتشريف واللطف به. ولما استفهم استفهام إنكار في قوله: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} وكان ذلك دليلا على انتفاء تصرفهم في هذه الخزائن أتى بالإنكار والتوبيخ بانتفاء ما هو أعم فقال: {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضِ} "أي ليس لهم من ذلك شيء ". والفاء في قوله {فَلْيَرْتَقُوا} فصيحة. و {جُنْدٌ} خبر مبتدأ محذوف أي هم جند وما صفة لجند لإفادة التحقير، وهنالك صفة ثانية له، و {مَهْزُومٌ} خبر ثان. وقيل: جند مبتدأ وما صلة، وهنالك نعت ومهزوم الخبر. قيل إن الإشارة بهنالك إلى الارتقاء في الأسباب أي هؤلاء إن راموا ذلك جند مهزوم. وقال مجاهد وقتادة: "الإشارة إلى مصارعهم في بدر".
المعنى الإجمالي:(5/149)
ننكر أن يلقى على محمد القرآن وأن يختص بالشرف من بين أشرافنا، وليس بأكثرنا مالا، ولا أعظمنا جاها وليس إنكار هؤلاء للذكر عن علم بل هم في ريب من القرآن، وهم كذبة في قولهم إن هذا إلا اختلاق، بل هؤلاء لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، وسأنزل بهم قريبا، وهذا هو الحال الذي يزول فيه ريبهم وشكهم، أعند هؤلاء كنوز رحمة ربك يتصرفون فيها كيفما يشاءون حتى يصيبوا بها من شاءوا، ويصرفوها عمن شاءوا، ويتحكموا فيها بمقتضى آرائهم، وأهوائهم، فيتخيروا للنبوة بعض صناديدهم، ليس لهم ذلك، فالنبوة عطية من الله تعالى يتفضل بها على من يشاء من عباده – وهو أعلم حيث يجعل رسالته – لا يمنعه مانع، ولا يقهره قاهر، وهو الغالب الواسع العطاء. بل ألهؤلاء سلطان العوالم العلوية والسفلية؟ إن كان لهم ذلك فليصعدوا في المعارج التي يتوصل بها إلى العرش، حتى يستووا عليه، ويدبروا أمر العالم، هؤلاء القوم إن راموا ذلك جمع مقهور وجند مكسور من هؤلاء الجماعات التي تحزبت على أنبيائها في الباطل فقهرناهم وعندما تمت تحزباتهم كانت مصارعهم.
ما ترشد إليه الآيات:
1 – حسد الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم.
2 – إنكارهم القرآن بسبب الحسد.
3 – ميلهم إلى التحكم في رحمة الله.
4 – إنكارهم القرآن ليس عن علم.
5 – استغراقهم في الشك.
6 – هؤلاء لا يؤمنون إلا عند عقاب رادع.
7 – سيحل بهم العقاب قريبا.
8 – لا عطاء إلا من مالك.
9 – تبكيتهم وتوبيخهم.(5/150)
الاقتصاد العالمي بين الاشتراكية والإسلام
بقلم الشيخ محمد المجذوب
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة
بعض هذه الفصول طالعتها إبان صدورها في مجلة البعث الإسلامي، وكنت أتشوق لمتابعتها وقراءتها مجتمعة، ثم شاء الله أن أكتب مقدمتها – في الترجمة العربية – فتفرغت للاطلاع عليها جميعا، وكانت تلك فرصة ماتعة للإحاطة بمبادئها وغاياتها وهي متصلة الحلقات، يوضح بعضها بعضا، ويمهد بعضها لبعض.
وعلى الرغم من أنها كتبت قبل الكثير من التطورات الأخيرة التي اعتورت الأوضاع الدولية، والأفكار العالمية، والتنبهات الإسلامية في أوساط المثقفين وأولي العلم، فقد اشتملت على الكثير من الحقائق الأساسية الكشافة لحقيقة الفروق القائمة بين الإسلام والاشتراكية.. وإنما نظمت هذه البحوث – فيما يبدو لي – لمناقشة المخدوعين بأضاليل الاشتراكية من أبناء المسلمين، الذين أخذوا ببريقها الخادع ودعاياتها النفسية المركزة، وبخاصة في شبه القارة الهندية، وهم، كما يستخلص من إشارات الكتاب، يقبلوا على هذه المذاهب الدخيلة كفرا بدينهم أو إيثارا لها عليه – في بادئ الأمر – بل كانوا مدفوعين إلى ذلك بباعث الجهل لحقيقة الإسلام أولا، ثم امتلاء الذهن بالأحلام الزائفة التي صورت لهم تلك النحل الشيطانية في قمة الحلول العادلة لمشاكل البشرية.. ولهذا عني المؤلف المؤمن – رحمه الله – بعد المقارنات الدقيقة بين واقع الاشتراكية – على اختلاف ألبستها – ومثاليات الإسلام العملية التي تهدي دائما وأبدا للتي هي أقوم.. وليست هذه الفصول في تقويمها الحق سوى ظاهرة رائعة من النشاط الفكري الحي، الذي ينهض به العقل الإسلامي في تلك الربوع، ممثلا في التراث الواسع الذي يكتبه علماء الإسلام هناك، فلا يلبث أن ينتشر في جوانب العالم الإسلامي كلها كأشعة الشمس، تشرق على جانب من الأرض، ثم تمضي في طريقها لتعمها جميعا..(5/151)
لقد دسست الدعوة الاشتراكية على المسلمين، وهم يتخبطون في أشراك الاستعمار الذي حطم طاقاتهم، وسد في وجوههم سبل الحياة الكريمة، وغشى أعينهم بطلاء حضارته المشككة في كل فضائل الوحي.. وكان حملة هذه الدعوة الدخيلة شديدي الحرص على عرضها في صورة القوة المنقذة من أغلال الذل والتخلف، إلى جانب حذقهم في التركيز على النفوس الخاوية من حصانة المعرفة الصحيحة لحقائق الإسلام، فكان طبيعياً أن يكثر ضحاياها في أوساط الجاهلين وأشباه المتعلمين، ولا سيما أولئك الذين تأثروا بأساليب التفكير الغربي الذي لا يتجاوز نطاق المادة.. ومن هنا فتحت الثغور في صفوف المسلمين لهذه السموم، حتى بات من غير المستغرب أن تجد إنسانا يجمع قلبه بين النقيضين، فيزعم أنه مسلم وماركسي معاً، بل بات مألوفاً أن تقرأ وتسمع بذلك الشيء الطريف العجيب الذي يسمونه "اشتراكية الإسلام"فتؤلف فيه الكتب، وتذاع فيه الأحاديث، وتلقى حوله المحاضرات والمناقشات.. وفي بعض هذه البحوث علم وفقه ودين، وبين مؤلفي هذا الضرب من المصنفات رجال لم تشب إخلاصهم للإسلام شائبة فيما نعلم.. فهم لم يريدوا بما كتبوه نصرة الماركسية وفراخها الإبليسية، معاذ الله، ولكنهم رأوا انخداع الشباب حولهم بما نسب إليها من صفات العدالة والإنصاف، فسارعوا إلى عرض عدالة الإسلام العليا، تحت الاسم الذي فتنوا به، ليقرعوا أبواب قلوبهم بحقائق الشريعة الغراء. ولكنهم مع ذلك مؤاخذون بخطأ التسمية، لأن شياطين الماركسية، المزودين بكل وسائل الخداع والاستغلال والتضليل، قد عرفوا كيف يستفيدون من هذه العنوانات، فيوهموا أولئك السذج بأن اشتراكيتهم هي غاية الإسلام، لأنها السبيل الوحيدة لبناء (مجتمع الكفاية والعدل) و (الديمقراطية الاجتماعية) !.. ولا يزال كثيرون من الناس يتذكرون تلك الدعاية المركزة التي استمرت على بثها لمدة طويلة إذاعة إحدى الحكومات العربية التي أوقعتها الديكتاتورية في حبائل(5/152)
الماركسية باسم (الاشتراكية العلمية) .. مستغلة اسم أحد هذه المؤلفات وشهرة مصنفه الإسلامية، تقتطع منه نصا من هنا ونتفة من هناك، وعبارة من هنالك لتعمق في صدور المضللين من مستمعيها شعور التصديق بهذه الانحرافات الخبيثة، ولم يمنعها من ذلك احتجاج المؤلف – غفر الله له – يومئذ وتسفيهه تصرفها غير الشريف على صفحات الصحف!..
ولقد كان الجهل بحقيقة الاشتراكية ولا يزال من أكبر المساعدات على انتشارها في غمار العامة وأشباههم.. إذ كان كل ما يعرفونه من أمرها أنها تنظيم اقتصادي بحت، يصون للعمال والفقراء حقوقهم في الحياة وفي ثمرات كدهم من عبث الظالمين من ملاك المال ووسائل الإنتاج.. لا يتجاوز ذلك إلى أي شيء من مقدسات الناس وكرامتهم الإنسانية وتطلعاتهم الروحية.. ولكنهم ما إن أسلموها ثقتهم حتى وجدوا أنفسهم مقطورين بعجلتها إلى أعماق الظلمات، وإذا هم أخيرا في أقصى القاع، لا يملكون قدرة حتى على رفع أبصارهم إلى ما فوق مواقع أقدامهم، وهناك فقط علموا أن الاشتراكية ليست تنظيما اقتصاديا صرفا كما أوهموا من قبل، ولكنها (دين شيطاني) يريد أن يفرض نفسه على كل مقدرات الإنسانية خلقا وفلسفة وفنا وأدبا وعلما وسلوكا.. ثم يحبسها ضمن أغلال المادة فلا يسمح لها بالتفكير في ما وراء هذه القضبان من روحانية وألوهية وحشر وحساب!.. ثم كان عاقبة ذلك ما نراه من أقدام هؤلاء المضللين على تخريب الحياة كلها بإغراقها في سيول من الكوارث لا يكاد يتصورها الخيال، لولا بروزها في كل مكان تغلغلت إليه سموم هذه الدعوة اليهودية المدمرة!. ولا جرم أن المؤلف رحمه الله لو امتدت به السن إلى اليوم، وأتيح له أن يشهد ما شهدناه وتسامعنا به من جنون هذه النحلة الشيطانية وزوابعها المتبرة في الصين، حيث قامت زحوف الثورة الثقافية بما عجزت عنه كل الثعابين والجرذان والسباع الضواري في سائر أنحاء العالم، إلى جانب عملها في المجر حيث سحقت أربعة عشر(5/153)
ألف دبابة روسية أجساد مئات الألوف من الناس الذين جرؤا على المطالبة بحقوقهم الإنسانية، ثم في تشيكوسلوفاكية، حيث اقتحمت مئات ألوف الجنود الحمر بآلياتهم الجهنمية أنحاء البلاد، التي حاولت تحرير نفسها من بعض قيود التبعية الشيوعية.
وأخيراً ما صرنا إليه من هزائم حزيران التي توجب بها الاشتراكية المذلة جرائمها في تحطيم الطاقات الإسلامية، والحيلولة بينها وبين الدفاع عن بقية الوطن الإسلامي في قلب الديار العربية، ثم ما نواجهه اليوم من عدوان صارخ تحتاج به الوثنية – ومن ورائها أعوانها الطغاة من موسكو وواشنطن وتل أبيب – حرمات الأرض الطاهرة – باكستان – التي أقامها الإسلام لتكون مجال التطبيق العملي لنظامه الأمثل في العالم الضائع، فأبى حكامها الزائفون إلا أن يجردوها من كل المقومات الإسلامية، حتى فتحوا حصونها للاشتراكية الهدامة، فإذا هي تقتحم القلوب الفارغة من معانيه العليا، ليكونوا الأدوات المنفذة لأهداف الوثنية الهندية والبلشفية الصينية والروسية، فيعملوا في أمتهم من ألوان الفتك ما لم يخطر حتى في تصورات وحوش السيخ! .. أجل.. لو أتيح له أن يرى ذلك وأشباهه من مذابح ومحارق الاشتراكية في قلب الوطن الإسلامي وما حوله.. لما اكتفى بصفحاته هذه، ولوجد المجال متسعا لأضعاف ما كتب، ولا يراد أضعاف ما عرض من شواهد بل فضائح هذه النحلة الشيطانية، التي لم يعرف التاريخ قط وسيلة أنجع منها في الهبوط بمكانة الإنسان إلى أدنى دركات الحيوان.(5/154)
ومن مقتضيات المقارنة بين الإسلام والاشتراكية أنها تسوق إلى الكلام عن الجانب الآخر من الجاهلية العالمية الجديدة، وكذلك فعل المؤلف إذ تناول بالنقد العلمي نفسه معايب الرأسمالية وعواقب بغيها الرهيب، وأبرز بإنصاف العالم الدقيق دورها في التمهيد لذلك الطغيان، الذي هدم السدود الخلقية، التي أقامها الوحي والحضارة وتجارب عشرات الأجيال من حكماء البشر، في وجه الغرائز المنحطة، التي فجرتها التحريضات الاشتراكية في صدور الطبقة العاملة، فجعلت منها ألغاما تنسف كل ما بنته الإنسانية من مشاعر الاستقرار والمودة والخير.. وبذلك كشف الستار الموهوم عن مدى القرابة بين الاشتراكية وأختها الفوضوية الكافرة، فكانت هذه المذاهب التي أتمت دور الرأسمالية الغربية في تخريب الحياة البشرية.. لأن من طبيعة الوباء أن يوقظ أقصى طاقات الجسم الموبوء، فيكون رد الفعل لكل صدمة متناسبا مع ثقلها.. وهكذا قوبل نزوع الرأسمالية خلال الإسلام إلى التهام كل شيء بالاشتراكية التي تستهدف تجريد الإنسان من كل الوسائل التي تمكنه من السيطرة على أي شيء..(5/155)
وبإزاء هذا النقد الموضوعي الرصين لكلا النظامين الهدامين، يأتي مجهود المؤلف الموفق في عرض عظمة الإسلام واحتوائه كل الأسباب التي من شأنها حماية الجنس البشري من الانحرافات المهددة لأمنه.. فبينما تعطي الرأسمالية الفرد كل الحرية في تسخير القوى الإنسانية لمصلحته بكل الوسائل الممكنة حتى القانون والاحتكار والاستعمار.. والتحكم في مختلف المرافق الحيوية دون تحديد.. وبينما تقيد الاشتراكية حريته حتى تمسخ إنسانيته، وتلغي فطرته، لتجعل منه أداة إنتاج لمصلحة الطبقة الحاكمة وحدها.. بينما يحدث ذلك يتقدم الإسلام بحلوله العملية المبرأة من كل نقيصة، إذ يقيم كيان الإنسان على أساس الإيمان بالله رب كل شيء وخالق كل شيء، فيجمع بذلك أفراد المجتمع البشري على دستور الأخوة، الذي يحدد للفرد مجاله الحيوي ضمن مصلحة الجنس كله، فالفرد في ظل هذا النظام الرباني مطلق الطاقات، يضرب في مناكب الأرض للحصول على الثروة ولكنه ملزم الوقوف عند حدود مصادرها المشروعة التي لا ضرر فيها ولا ضرار، وملزم المشاركة في تأمين كيان الجماعة بأداء حقها من جهده، ثم بترك ثمار مساعيه أخيرا لتأخذ طريقها إلى التوزع، فلا تجتمع في يد واحدة على حكم القانون الإنجليزي أو الوثني. ولا توقف على الكلاب والقطط على طريقة الحماقة الأميركية.. وفي أثناء ذلك يحرم عليه استغلال درهم واحد من ماله في امتصاص جهود الآخرين عن طريق استخدامهم لإنماء ثروته بالربا الذي لا يشارك في أي جهد، كما يحرم عليه احتكار ضروريات الحياة للحصول على المزيد من الربح، ويعتبر مجرد كنزه المال، بعزله عن مجال النشاط، المساعد على توسيع دائرة النفع العام، جريمة تستحق العقاب الأليم.. إلى آخر ما هنالك من عوامل التضامن الأخوي، الذي يضع الثروة على اختلاف صورها في مكانها الطبيعي، وسيلة للسعادة التي يستأهلها المخلوق، الذي أكرمه الله فأسجد له ملائكته، ونفخ فيه من روحه.(5/156)
وبمثل هذه الموازنة الرائعة يزيف المؤلف ادعاء أولئك المخدوعين والخادعين الذين يزعمون أن الإسلام هو الاشتراكية، أو أن في الإسلام شيئا من هذه الاشتراكيات التي تدمر هناءة الشعوب.
وأخيرا ... إن المدقق في تضاعيف هذا الكتيب ليقدر للمؤلف المؤمن - رحمه الله - جهده المشكور في خدمة الحقيقة، ويتوقع مخلصا أن يكون عمله هذا أحد الميراث الثلاث التي إذا مات المؤمن انقطع عمله إلا منها - كما ورد في الحديث الصحيح -.
وأما بالنسبة إلى مترجمه فإلى جانب مشاركته في الأجر الذي نرجوه له من الله على نقل هذا البحث النافع إلى قراء العربية، لا يسعنا إلا أن نستشعر الكثير من الغبطة إذ نعتبر عمله هذا إحدى ثمرات الجامعة الإسلامية التي نتوقع لها أخوات وراء أخوات بفضله تعالى ومنه، إنه نعم الموفق والمستعان، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على مصطفاه الأمين للناس أجمعين.
ملاحظة: كتب هذا البحث ليكون مقدمة لكتاب وضعه بالأوردية الكاتب الإسلامي المرحوم الأستاذ "مسعود الندوي" وترجمه خريج الجامعة الأستاذ صهيب عبد الغفار حسن.(5/157)
الإمام أحمد ودفاعه عن السنة
بقلم الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:
ليس بخاف على أحد أن إسلامنا قد مر بأدوار مختلفة في عصور شتى بأزمات وعقبات لم تكن أخف وأسهل مما تعيش فيها اليوم أمتنا الإسلامية في جهات متعددة من العالم الإسلامي وغيره إلا ما شاء الله تعالى.
وليس غرضي في هذه المقالة المتواضعة أن أتعرض لتلك الأوضاع التي سدت طرق الخير والرشاد والتقدم في وجه العالم لأني لست ممن يضع الحلول السريعة لتلك الأوضاع المشار إليها، ولأن هناك بحمد الله رجالا مخلصين وهبهم الله تبارك وتعالى همة عالية وعزما أكيدا وإيمانا راسخا ولا تزال مساعيهم مبذولة لجمع الصفوف وتوحيد الكلمة وتثبيت الحق ورفع راية الحق عالية خفاقة وعلى رأسهم إمامنا المفدى حامي حمى الدين والداعية الإسلامي الكبير فيصل بن عبد العزيز آل سعود المعظم رعاه الله بعين رعايته ووفقه لكل خير، آمين.
نعم، قلت: قد مر الاسلام بأخطر أزمة وأشدها وأقساها وذلك في بداية القرن الثالث عندما تعرض لأكبر حملة شعواء من قبل تلامذة اليونان المتفلسفة وعلى رأسهم الخليفة العباسي عبد الله المأمون الرشيد القرشي.
قال الإمام ابن كثير في تاريخه البداية والنهاية 10: 266 – 267: "ثم دخلت سنة اثنتي عشرة ومائتين سنة 212. وفي ربيع الأول أظهر المأمون في الناس بدعتين فظيعتين إحداهما أطم من الأخرى وهي القول بخلق القرآن.
والثانية: تفضيل علي بن أبي طالب على الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أخطأ في كل واحدة منها خطأ كبيرا فاحشا وأثم إثما عظيما ".(5/158)
قلت: هذا بداية الشر الذي بدأ في ذلك اليوم من تاريخ الاسلام ودعوة صريحة إلى الالحاد وإنكار صفات الباري جل وعلا, ثم تطورت هاتان الفتنتان, حتى أخذتا شكلا آخر من حيث القوة والنشر حتى أصبحتا دين الخليفة وروحه وامتزجتا بعروقه، وهكذا هما في كل يوم في شأن وقوة إلى أن بلغتا أوجهما في سنة 218، حسب ذكر عمدة المؤرخين الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى إذ يقول 10: 272:"وفي هذه السنة يعني سنة 218 كتب المأمون إلى نائبه ببغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يأمره أن يمتحن القضاة والمحدثين بالقول بخلق القرآن وأن يرسل إليه جماعة منهم وكتب يستحثه في كتاب مطول". قلت: وكتب المأمون كتبا أخرى مماثلة إلى جميع نوابه في جميع البلدان وقد سردها الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه تاريخ الأمم والملوك 10: 284 – 292. ومن هنا نستنبط أن هذا المذهب المنكر الذي اتخذه المأمون كان مذهب الدولة الرسمي وكان مؤيدا بعصا السلطان القوية ولم يكن للناس بد من قبولهم إياه وإقبالهم عليه سواء أرضوا أم كرهوا فإذا كان الأمر كذلك فمن ذا الذي يواجه هذه القوة الباطلة وزد على ذلك أن الاكثرية الغالبة ممن كانوا يعيشون للبطون مع انتسابهم إلى العلم كانوا مع المأمون. قال أبو الفداء في نفس الصفحة:"والمقصود أن كتاب المأمون لما ورد بغداد قرئ على الناس وقد عين المأمون جماعة من المحدثين ليحضرهم إليه وهم محمد بن سعد الكاتب" (قلت: صاحب كتاب الطبقات الكبرى ويعتبر كتابه من المراجع الهامة في تاريخ الرجال) , "وأبو مسلم المستملى ويزيد بن هارون ويحي بن معين وأبو خيثمة زهير بن حرب وإسماعيل بن أبي مسعود وأحمد بن الدورقي فبعث بهم المأمون إلى الرقة, قلت: أما يزيد بن هارون فلا وجه لذكره هنا لأنه توفي في السنة السادسة بعد المائتين كما ذكره الحافظ في التقريب 2: 372 إذ يقول: "يزيد بن هارون بن زاذان السلمي مولاهم أبو خالد الواسطي ثقة متقن عابد من التاسعة(5/159)
مات 206 وقد قارب التسعين". انتهى". قلت: قال ابن كثير: "فامتحنهم المأمون بخلق القرآن فأجابوه إلى ذلك وأظهروا موافقته وهم كارهون فردهم إلى بغداد وأمر بإشهار أمرهم بين الفقهاء ففعل إسحاق ذلك". قلت: هؤلاء الممتحنون جلهم من كبار المحدثين ومن أئمة الجرح والتعديل ومن شيوخ جبل السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى الذي نحن بصدد ترجمته.
والبحث في ذلك طويل جدا وما قام به المأمون من حركة كبيرة لنشر هذه المذاهب الباطلة يطول ذكرها.(5/160)
وقد سبق أن قلت إن إسحاق بن إبراهيم بن مصعب نائب المأمون ببغداد أمر من قبل المأمون بامتحان القضاة والمحدثين. قال الإمام ابن كثير 10: 273: "فأحضر إسحاق جماعة من الأئمة وهم أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وقتيبة وأبو حيان الزيادي وغيرهم كثيرون" ذكرهم ابن كثير. قلت: فامتحنهم واحدا فواحدا ولما انتهت النوبة إلى امتحان أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى فقال له: أتقول إن القرآن مخلوق؟ فقال: القرآن كلام الله لا أزيد على هذا, فقال له: ما تقول في هذه الرقعة؟ - قلت: كانت تلك الرقعة التي كتب فيها بشر بن الوليد إقراره حول مسألة خلق القرآن وكان موافقا لما كان عليه مذهب السلف رضي الله تعالى عنهم وبشر هذا هو بشر بن الوليد الكندي وهو ثقة مأمون ذكره الخطيب في تاريخه 7: 74- قلت: قال الإمام أحمد مجيباً لإسحاق {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فقال رجل من المعتزلة: إنه يقول سميع بأُذن وبصير بعين فقال له إسحاق: ما أردت بقولك سميع بصير؟ فقال رحمه الله: أردت منها ما أراده الله منها وهو كما وصف نفسه ولا أزيد على ذلك فكتب جوابات القوم رجلا رجلا وبعث بها إلى المأمون، وكان من الحاضرين من أجاب إلى القول بخلق القرآن مصانعة مكرها لأنهم كانوا يعزلون من لا يجيب عن وظائفه وإن كان له رزق على بيت المال قطع وإن كان مفتيا منع من الإفتاء وإن كان شيخ حديث ردع من الأسماع والأداء.
ووقعت فتنة صماء ومحنة شنعاء وداهية دهياء فلا حول ولا قوة إلا بالله.
قلت: أتعرض أولا لترجمته ثم لوقوفه بتلك الوقفة التاريخية التي تشبه وقفة الصديق رضي الله تعالى في أصحاب الردة, ثم أتعرض لتعريف كتابه العظيم علل الحديث ومعرفة الرجال, ثم الالتماس والرجاء من إمامنا المفدى وقائد مسيرتنا الإسلامية وأب المسلمين بأن يأمر بطبع هذا الكتاب القيم المبارك لرجل عظيم بارع أمام أهل السنة أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله تعالى.(5/161)
فأما ترجمته فإنها ما شاء الله أفردت فيها تصانيف الأئمة رحمهم الله تعالى منهم الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي المتوفي سنة 597 فقد صنف في مناقب الإمام أحمد رحمه الله مجلداً لطيفاً بلغ ثلاث وثلاثين وخمسمائة صفحة وإنه كتاب حافل جواد ممتع كتب على طريقة المحدثين بإسناده إلى من أخذ العلم عن الإمام أحمد مباشرة وقد سبق الإمام ابن الجوزي شيخ الإسلام الهروي إلا أن كتابه مفقود وترجم له أيضا الخطيب البغدادي في تاريخه 4: 412 – 423 إذ يقول الخطيب:"الإمام الجليل أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسعر أبو عبد الله إمام المحدثين الناصر للدين والمناضل عن السنة والصابر في المحنة مروزي الأصل قدمت أمه بغداد وهي حامل فولدته ونشأ بها وطلب العلم وسمع الحديث من شيوخها ثم رحل إلى الكوفة والبصرة ومكة والمدينة واليمن والشام والجزيرة".
قال الخطيب بإسناده عن عبد الله بن أبي داود، قال:"أحمد بن حنبل من بني مازن بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل ابن قاسط بن هنب بن أفضى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار أخي مضر بن نزار وكان في ربيعة رجلان لم يكن في زمانهما مثلهما لم يكن في زمن قتادة مثل قتادة".
قلت: لعله يقصد من ذلك قتادة بن دعامة السدوسى أبو الخطاب البصري ثقة ثبت يقال ولد أكمه وهو رأس الطبقة الرابعة مات بضع وعشرة ومائة وهو من رجال الكتب الستة قاله الحافظ في التقريب.
وقال بن أبي داود: "ولم يكن في زمان أحمد بن حنبل مثله".
قال الخطيب راداً على عباس الدوري وأبي بكر بن أبي داود بقوله:"قلت أحمد من بني ذهل بن شيبان غلط", إنما كان من بني شيبان بن ذهل بن ثعلبة وذهل بن ثعلبة هذا هو عم ذهل بن شيبان".(5/162)
قال الخطيب 4: 413:"حدثني من أثق به من العلماء بالنسب قال: مازن ابن ذهل بن ثعلبة الحصن هو ابن عكابة بن مصعب بن علي ثم ساق النسب إلى ربيعة بن نزار كما ذكرناه عن ابن أبي داود".
قلت: قد يكون الخطيب مصيباً فيما يقول, وأما قوله: حدثني من أثق به من العلماء بالنسب فهذا مما لا يحتج به علماء الحديث, وأما عند علماء الأنساب فأنا لا أدري والله تعالى أعلم.
وترجم لهذه الشخصية العظيمة الفذة الإمام الحافظ شيخ الإسلام أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي المتوفي سنة 327هـ في كتابه تقدمة المعرفة لكتاب الجرح والتعديل 292 – 313.
مقدمات في المحنة
قال الإمام ابن كثير في البداية والنهاية 10: 331 – 332:"قد ذكرنا فيما تقدم أن المأمون كان قد استحوذ عليه جماعة من المعتزلة فأزاغوه عن طريق الحق إلى الباطل وزينوا له القول بخلق القرآن ونفي الصفات عن الله عز وجل".
قال البيهقي: "لم يكن في الخلفاء قبله من بني أمية وبني العباس خليفة إلا على مذهب السلف ومنهاجهم فلما ولي هو الخلافة اجتمع به هؤلاء فحملوه على ذلك وزينوا له واتفق خروجه إلى طرطوس لغزو الروم فكتب إلى نائبه ببغداد كما مر بكم ذكره".
وقال الإمام ابن كثير:" واتفق للمأمون ذلك آخر عمره قبل موته بشهور من سنة 218". قلت: نسأل الله العفو والعافية عن سوء العاقبة. قال ابن كثير:"فلما وصل الكتاب كما ذكر استدعى جماعة من أئمة الحديث فدعاهم إلى ذلك فامتنعوا فتهددهم بالضرب وقطع الأرزاق فأجاب أكثرهم مكرهين".(5/163)
قلت: وكان من المجيبين الإمام يحي بن معين وابن أبي خيثمة ومحمد بن سعد وغيرهم وكانوا من المكرهين كما مرّ, وقال الإمام ابن كثير:"واستمر على الامتناع من ذلك الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ومحمد بن نوح رحمه الله الجنديسابوري فحملا على بعير وسيرا إلى الخليفة عن أمره بذلك وهما مقيدان متعادلان في محمل على بعير واحد فلما كانا ببلاد الرحبة جاءهما رجل من الأعراب من عبادهم يقال له جابر بن عامر فسلم على الإمام أحمد وقال له:"يا هذا إنك وافد الناس فلا تكن شؤما عليهم وإنك رأس الناس اليوم فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه فيجيبوا فتحمل أوزارهم يوم القيامة وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل وإنك إن لم تقتل تمت وإن عشت عشت حميدا".
قلت: صدق الأعرابي رحمه الله ورب أحمد, وكيف لا؛ لأن محنة أحمد ووقفته تلك أعادت للقرآن الكريم – بعد الله عز وجل – حقيقته الكبرى وشرفه العظيم بأنه صفة من صفات الباري جل وعلا وكذا للسنة المحمدية قوتها ونضارتها وحجيتها.(5/164)
قال الإمام ابن كثير:"قال أحمد وكان كلام الأعرابي مما قوى عزمي على ما أنا فيه من الامتناع من ذلك ما يدعونني إليه, فلما اقتربا من جيش الخليفة ونزلوا دونه بمرحلة جاء خادم وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه ويقول: يعز علي يا أبا عبد الله أن المأمون قد سل سيفا لم يسله قبل ذلك وأنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم: قلت لو صح هذا فهو طامة كبرى لأن الحلف بغير الله شرك, ثم قال الإمام أحمد قيل لي: لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف قال: فجثي الإمام أحمد على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء وقال: سيدي عز حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أوليائك بالضرب والقتل اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فأكفنا مؤنته, قال: فجاهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الأخير من الليل, قلت وقد صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم قوله:"إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره"أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وكان أن شاء الله تعالى الإمام أحمد رحمه الله من أولئك العباد الصالحين الذين أشار إليهم الحديث.
وقال الإمام أحمد:"ففرحنا ثم جاء الخبر بأن المعتصم قد ولي الخلافة وقد انضم إليه أحمد بن أبي دؤاد والأمر شديد فردونا إلى بغداد في سفينة مع بعض الأسارى ونالني منهم أذى كثير". قال الإمام ابن كثير:"وكان في رجليه القيود ومات صاحبه محمد بن نوح في الطريق وصلى عليه أحمد فلما رجع أحمد إلى بغداد دخلها في رمضان فأودع في السجن نحوا من ثمانية وعشرين شهرا وقيل نيفا وثلاثين شهرا ثم أخرج إلى الضرب بين يدي المعتصم. وقد كان أحمد وهو في السجن هو الذي يصلي في أهل السجن والقيود في رجليه.
الإمام أحمد بين يدي المعتصم في حالة القيود(5/165)
لما أحضره المعتصم من السجن زاد في قيوده قال أحمد فلم أستطع أن أمشي بها فربطها في التكة وحملتها بيدي ثم جاءوني بدابة فحملت عليها فكدت أن أسقط على وجهي من ثقل القيود وليس أحد معي يمسكني فسلم الله حتى جئنا دار المعتصم فأدخلت في بيت وأغلقت علي وليس عندي سراج فأردت الوضوء فمددت يدي فإذا إناء فيه ماء فتوضأت منه ثم قمت ولا أعرف القبلة فلما أصبحت إذ أنا على القبلة ولله الحمد ثم دعيت فأخلت على المعتصم فلما نظر إلي وعنده ابن أبي دؤاد قال المعتصم: أليس قد زعمتم أنه حديث السن وهذا شيخ مكهل؟
قال الإمام أحمد: فلما دنوت منه سلمت قال لي: أدنه فلم يزل يدنيني حتى قربت منه ثم قال: اجلس فجلست وقد أثقلني الحديد فمكثت ساعة ثم قلت: يا أمير المؤمنين إلى ما دعا إليه ابن عمك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله, قلت فإني أشهد أن لا إله إلا الله, قال ثم ذكرت له حديث ابن عباس في وفد عبد القيس ثم قلت فهذا الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثم تكلم ابن أبي دؤاد بكلام لم أفهمه وذلك أني لم أتفقه كلامه", قلت: كره كلامه أبو عبد الله رضي الله عنه أشد الكراهية وكيف يتفقه كلامه وعنده كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظا دون المعنى وقد كفياه عما سواهما لأنها علم ونور وبرهان وحجة وأما ما كان عند ابن أبي دؤاد وأضرابه فإنه جهل وغواية وضلالة وفساد ودمار نسأل الله العفو والعافية عن تعليقها للقلب فتفسده وتضره.
"ثم قال المعتصم: لولا أنك كنت في يد من كان قبلي لم أتعرض إليك ثم قال: يا عبد الرحمن ألم آمرك أن ترفع المحنة؟ قال أحمد: فقلت: الله أكبر هذا فرج للمسلمين ثم قال: ناظره يا عبد الرحمن كلمه".(5/166)
قلت: لم أبحث عن عبد الرحمن هذا فإنه قد يكون فيما أظن أبا عبد الرحمن لأن كنيته أحمد بن أبي دؤاد بن جرير بن مالك الأيادي المعتزلي عليه من الله ما يستحق.
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: "فقال لي عبد الرحمن ما تقول في القرآن؟ فلم أجبه فقال المعتصم: أجبه فقلت: ما تقول في العلم؟ فسكت, فقلت: القرآن من علم الله ومن زعم أن علم الله مخلوق فقد كفر بالله فسكت فقالوا فيما بينهم: يا أمير المؤمنين كفرك وكفرنا فلم يلتفت إلى ذلك فقال عبد الرحمن: كان الله ولا قرآن فقلت: كان الله ولا علم فسكت فجعلوا يتكلمون من هاهنا وهاهنا فقلت يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى أقول به فقال ابن أبي دؤاد: وأنت لا تقول إلا بهذا وهذا؟
فقلت: وهل يقوم الإسلام إلا بهما.
قلت: ثم جرت بين القوم وبين إمامنا رحمه الله تعالى مناظرات طويلة وقد تغلب حجته على حججهم, ويقول الإمام أحمد: "وسمعت منهم مقالات لم أكن أظن أن أحداً يقولها وقد تكلم معي ابن غياث المريسي"- قلت: عليه من الله ما يستحق- بكلام طويل ذكر فيه الجسم وغيره بما لا فائدة فيه, فقلت: لا أدري ما تقول إلا أني أعلم أن الله أحد صمد ليس كمثله شيء, فسكت, وقد أوردت لهم حديث الرؤية في الدار الآخرة فحاولوا أن يضعفوا إسناده ويلفقوا من بعض المحدثين كلاما يتسلقون به إلى الطعن فيه وهيهات وأنى لهم التناوش من مكان بعيد, وفي غبون ذلك كله يتلطف به الخليفة ويقول:" يا أحمد أجبني إلى هذا حتى أجعلك من خاصتي وممن يطأ بساطي فأقول: يا أمير المؤمنين يأتوني بآية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أجيبهم إليها".
-للبحث صلة-
فضل السكوت
قالوا سكت وقد خوصمت، قلت لهم
إن الجواب لباب الشر مفتاح
فالصمت عن جاهل أو أحمق كرم
أيضا وفيه لصون العرض إصلاح(5/167)
أما ترى الأسد تخشى وهي ساكنة
والكلب يخسى لعمري وهو نباح(5/168)
المثل العليا للشباب
للشيخ محمد المهدي محمود
المدرس بدار الحديث بالمدينة التابعة للجامعة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من اصطفاه الله رحمة للعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي سعدت الدنيا ببعثته واستنارت برسالته واهتدت بنور الله تبارك وتعالى جل شأنه: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ, يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
حمل هذا المصباح السماوي المبارك المصطفى صلى الله عليه وسلم, قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً, وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً}
وهنا استنارت الدنيا بهذه المثل العليا الصادقة الربانية, المثل العليا التي تمثلت في هدي القرآن الكريم، في كتاب الله، وكتاب الله نور من الله لأهل الدنيا كي يهتدوا به في ظلمات الحياة، والحياة كلها ظلمات, ظلمات الشك والوهم، والظلم والانحراف، والخيانة والأنانية، والبخل وسوء الخلق. لذلك لابد من مصباح ينير الطريق يرسم الحياة على أجمل وأصفى ما تكون الحياة, يرسم الحياة الهادئة الآمنة الوديعة التي يستطيع الإنسان أن يحيا فيها مطمئنا يشعر بالسعادة الوارفة الظلال، الطيبة الثمار، وهكذا كان كتاب الله سبحانه وتعالى أحكمه الباري وهو العليم بما يصلح عباده وخلقه، فهداية القرآن جمعت مكارم الأخلاق السامية في أجمل صورة، وأبهى حلة، ونحن إذا بحثنا عن المثل العليا كأخلاق وصفات، فمصدرها الأول، وينبوعها الصافي، وروضها الوارف، وزهرها الجميل، ووردها الندي، وعطرها الشذي، إنما هو كتاب الخالق جل وعلا.(5/169)
وإذا بحثنا عن المثل العليا في بني الإنسان بحثنا عن الأخلاق في أسمى صورها العملية الكريمة إنما نجدها في إنسان تمثلت فيه أخلاق القرآن في إنسان كامل أثنى عليه الخالق جل وعلا بقوله سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .
وصدق الحق سبحانه وتعالى فلقد كانت عظمة أخلاقه صلوات الله وسلامه عليه مستمدة من القرآن الكريم كما أوضحت ذلك الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها حينما سئلت عن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان خلقه القرآن".
جاء القرآن بكل خير، ونهى عن كل شر، جاء بالتوحيد، والرحمة، والعدالة، والبر، والشفقة، والحلم، والإحسان، والأمانة في أدق صورها، والبر بالوالدين، والشفقة بالفقير والمسكين، ورعاية اليتيم، وإكرام الجار، والصدق في جميع الأقوال، والكرم، والجود والسخاء، والعفة، والمروءة، والنجدة، والحياء. أتى القرآن بكل خير، وبين ذلك خير بيان، في أسلوب جميل جذاب يسري إلى القلوب، فيستولى عليها ويوجه الإنسان إلى الحق والخير والفضيلة والسعادة في الدنيا والآخرة.
هذه بعض أمثلة مما جاء به القرآن من مكارم الأخلاق تصور المثل العليا في أجمل صورها، وقد أوردنا قطرة من بحار معاني آيات الله في كتابه التي لا يحصيها إلا الله جل وعلا، وتمثلت هذه الشيم العالية والأخلاق الربانية في أكمل صورة في أخلاق المصطفى صلوات الله وسلامه عليه.
وعلى هذا الأساس قامت الدولة الإسلامية الأولى تمسك بكتاب الله وأسوة حسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتربى أبطال الإسلام وعظماؤه على هذه المأدبة القرآنية والأخلاق المحمدية.(5/170)
لقد صاغ القرآن أبطال الرجال وجعل منهم أساتذة للعالم جعل منهم بدورا نيرة وشموسا ساطعة, فها هو أبو بكر رضي الله عنه في بره ولينه، وإيمانه القوي، وحرصه على المحافظة على أركان الإسلام، وها هو عمر رضي الله عنه الذي ضرب أعلى مثل في المحافظة على الرعية في خوف من الله وخشية من الله ثم ها هو عثمان عنوان الحياء والرحمة وسيدنا علي رجل البلاغة، والشجاعة، والقضاء، والعلم بكتاب الله.
إن سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سيرة عطرة شذية جميلة، هي عنوان الكمال المستمد من تعاليم القرآن الكريم، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، على أن تاريخ الإسلام مملوء بصور البطولة والعظمة، والشخصيات النبيلة الكريمة وأن سيرتهم العطرة تحمل عبيرا جميلا يسعد الإنسانية على ممر العصور والأزمان، وإن الشعوب العظيمة التي تريد أن تحيا حياة كريمة حياة العزة والكرامة، والسؤدد والمجد، حياة البطولة والقوة، تحرص كل الحرص على التمسك بالمثل العليا ونشر هذه المبادئ القويمة والأخلاق الكريمة ممثلة في الحكمة البالغة وممثلة في سلوك عظماء الرجال تحرص الدولة على أن يترسم شبابها هذه المثل العليا فتسمو نفوسهم إلى المجد، وتصبو إلى المعالي والرقي والفلاح.
إن الشباب عماد الدولة تعتمد عليه في مجدها وعظمتها، في نهضتها ورقيها، في حياتها السعيدة الرغيدة كي تأخذ مكانها في مصاف الدول العظمى التي تنشد المجد والعزة والكرامة.
ومن أولى بكل هذا من الشعوب الإسلامية ذات التاريخ المجيد يوم أن كانت مجتمعة تحت راية الخلافة الإسلامية تحت راية القرآن متحدة متعاونة تظللها عناية الله، ويصحبها نصر الله تبارك وتعالى.(5/171)
إن الشباب حينما تتضح أمامه المثل العليا، فيتمسك بمكارم الأخلاق، ويهتدي بنبراس حياة عظماء الرجال، يسير في حياته على ضوء هذه المثل، فيستنير أمامه طريق الحياة الكريمة، ويعرف درب البطولة الحقة التي اهتدى بها السابقون من العظماء والرجال والأبطال.
وللوصول إلى هذا الهدف السامي والغاية النبيلة ينبغي أن نحرص على ما يأتي:
أولاً: دراسة السيرة النبوية دراسة مستفيضة دراسة من ورائها العبرة والقدوة الحسنة, دراسة نستلهم منها مدى ما كان عليه الرسول صلوات الله وسلامه عليه من صور "بطولية"من عظمة الأخلاق الحقة كما أرشدنا ربنا سبحانه وتعالى بقوله المبارك: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} .
ثانياً: إعادة دراسة التاريخ الإسلامي في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا دراسة مستفيضة مع إبراز الجانب الخلقي والتعبدي في حياة رجال الإسلام وعدم الاقتصار على الجانب السياسي.
ثالثاً: تطهير أجهزة الإعلام في جميع الدول العربية والإسلامية من آثار الانحلال الخلقي الذي يتمثل في إذاعة الأغاني الخليعة الفاجرة الداعرة، والأفلام والصور العارية والثقافات المنحرفة المنحلة.
رابعاً: تثقيف المرأة ثقافة دينية ثقافة هادفة لمكارم الأخلاق كي تدرك المرأة رسالتها الفطرية الطبيعية التي فطرها الله عليها، هذه الرسالة العظيمة التي تتخلص في الأمور الآتية:
أ - سعادة الزوج، ب - رعاية المنزل، جـ - العناية بالطفل.(5/172)
وبذلك لا تكون المرأة معول هدم في أخلاق المجتمع الإسلامي وأداة لإهدار القيم الخلقية، وإننا حينما نؤرخ للغزو الثقافي والخلقي الذي قامت به الدول الغربية معتدية على بعض الدول الإسلامية في أيام ضعفها وتفككها، نجد أن الاستعمار حاول إبعاد الشباب عن المثل العليا ومكارم الأخلاق, وتوصل إلى ذلك بحذف دراسة الدين من المدارس الإسلامية والعمل على إضعاف اللغة العربية التي توصل إلى فهم الدين فهما صحيحا وجعل دراسة التاريخ الإسلامي دراسة صورية هزيلة منحصرة في الجانب السياسي وإبراز عنصر الخلاف بين المسلمين في الأيام الماضية.
والاستعمار يقصد من وراء كل هذا أن يحول بين شباب الأمة الإسلامية والعربية وبين المثل العليا التي اعتز بها الإسلام وساد بها المسلمون، ونجد المدرسة الاستعمارية تعمل جاهدة في نشر الثقافات الغربية العفنة الثقافة الإلحادية التي تشكك الشباب في العقيدة وفي الأديان وإذا انهارت العقيدة الصحيحة من نفوس الشباب انهار كل شيء في الحياة، ثم ها هو تيار التحلل الخلقي الذي يسير بعنف والذي يغزو الشعوب الإسلامية غزوا مروعا في الأفراد والأسر والجماعات وكان من آثاره ومظاهره ما نراه في بعض الشباب من ميوعة وتحلل، وهذه التقاليد التي يحاكيها، ومن حرص بعض النساء على تقليد الأجانب في الأزياء والعادات.
هذه كلها مظاهر تدل على ظلام التفكير وفقدان المثل العليا التي تبعث النور وتهدي إلى الخير والحق والفضيلة.(5/173)
بل هذه المظاهر تدل على أن هناك مؤامرة واسعة النطاق على الأخلاق الإسلامية تتزعمها الشيوعية الملحدة والصهيونية العالمية تجتهد في نشر الثقافات والأفكار والمبادئ الهدامة وتروج لمظاهر التحلل والفسق والفجور في الفرد والأسرة والجماعة فتتعثر الحياة أمام الشباب الذي فقد المثل العليا التي تتمثل في مكارم الأخلاق فهو يتخبط في سيره في الحياة لا يعرف المبادئ الكريمة وليس أمامه صورة كريمة ومثال خلقي يسير على ضوئه ويقتدي به وينهج على منهاجه فهو يسير في درب مظلم مملوء بالوهاد والمتاهات سريع الزلل قريب الكبوة يتخبط في ظلمات الحياة والحياة أمامه كلها ظلمات بعضها فوق بعض فإلى أين يسير وقد فقد نور الله.
وللأسف الشديد أن الكثير من أجهزة الإعلام في بعض الدول العربية والإسلامية لا زال يتردى في خيوط هذه المؤامرة الكبرى الموجهة ضد الأخلاق الإسلامية وتتجمع خيوط هذه المؤامرة في إشاعة الإلحاد ونشر الإنحلال الخلقي تارة عن طريق كتب الجنس الفاضح المكشوف وتارة أخرى بطريق إرسال الأغاني الفاجرة الماجنة الداعرة التي تحطم أقدس معاني الشرف والحياء والفضيلة وتدعو إلى التحلل والفسق والفجور، ثم طريق الأفلام والروايات والمناظر السينمائية التي تجسم الرذيلة وتغري بالتردي في حياة الانحراف الخطير.
كل هذه المصائب من عدم التمسك بالدين وبالشرع الشريف الذي هو نور من الله وعصمة لبني البشر من التردي في مهاوي الظلام والهلاك.(5/174)
أما طريق النور، طريق الخير والحق والفضيلة والسعادة فإنه طريق المثل العليا في الأخلاق والمثل العليا في القدوة الحسنة فإنها ترسم أمام الشباب صورة عظيمة من المجد العلمي والمجد الخلقي ترسم أمام الشباب الكمالات في كل صورها في وضوح واشراق ونور فيسير الشباب نحو المجد وقد ترسم أمامه الطريق واضحا، محفوفا بالأمل الحلو الباسم مزينا بالورود والرياحين والزهور ورود الحياة الكريمة وزهور السمو والنبل بالمثل العليا من مكارم الأخلاق وتاريخ الأبطال من الرجال الذين تمثلت فيهم صور العظمة الحقة يسير الشباب نحو المستقبل الزاهر الناجح المستقبل المثمر المشرف ومن الحكمة أن نردد أمام الشباب هذه الحكمة الغالية: إذا أردت أن تكون عظيما فاقرأ في سير عظماء الرجال واعمل بحكمهم:
وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالرجال فلاح
ومن هنا تسعد الأمة، فالشباب هو عماد الوطن وذخيرة المستقبل وحياة الشعوب.
إن عنف التيارات المنحلة يدعونا إلى مضاعفة الحرص على تربية الشباب تربية مثالية ولا نجد هذه التربية المثالية إلا في ظلال المثل العليا فالشاب حينما يقرأ كثيرا في تاريخ علماء الإسلام بعد قراءته عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى سبيل المثال نذكر سيدنا عمر بن عبد العزيز والأئمة الأربعة الإمام أبا حنيفة والإمام مالكا والإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنهم ثم أهل الحديث وفي مقدمتهم الإمام البخاري والإمام مسلم ثم من أبطال الإسلام صلاح الدين الأيوبي.
رجال لهم تاريخ في صفحات من نور مثلهم كمثل كواكب السماء يهتدي بهم في ظلمات الحياة سيرة عطرة شذية تملأ صدر الإنسان إيمان بالأخلاق العالية العظيمة.
وإنما تربى كل هؤلاء الأبطال على هدي كتاب الله وهدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين.(5/175)
وإذا كان المصطفى صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى للأخلاق العظيمة إذا كان المصطفى صلوات الله وسلامه عليه الصورة العملية لأخلاق القرآن ينبغي أن نحرص ما حيينا على قراءة حديثه المبارك صلوات الله وسلامه عليه وكتب الحديث كروضة من رياض الجنة إنها رياض العلم والنور من توجيهات المبعوث رحمة للعالمين. ومن هذه الكتب التي ينتفع بها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها كتاب رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين المصطفى صلى الله عليه وسلم جمعه الإمام المحدث الحافظ الشيخ المبارك والعالم الجليل الفاضل الشيخ النووي رضي الله عنه وأرضاه. وكتب في مقدمة رياض الصالحين خطبة للكتاب تعتبر منهجا كريما لمكارم الأخلاق يقول فيها بعد أن ذكر أن الله سبحانه وتعالى خلق الناس لعبادته وذكر بفناء الدنيا ونبه على وجوب الاستعداد للدار الآخرة وأن الطريق للهداية هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال رحمه الله ونفعنا بعلمه: "فرأيت أن أجمع مختصرا من الأحاديث الصحيحة مشتملا على ما يكون طريقا لصاحبه إلى الآخرة ومحصلا لآدابه الباطنة والظاهرة جامعا للترغيب والترهيب وسائر أنواع آداب السالكين من أحاديث الزهد ورياضات النفوس وتهذيب الأخلاق وطهارة القلوب وعلاجها وصيانة الجوارح وإزالة اعوجاجها وغير ذلك من مقاصد العارفين "وهذا الكتاب ينبغي أن يقرأه كل مسلم وأن يكون في كل بيت وأن يحرص أهل العلم على تعريف الناس به عملا بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله".(5/176)
على أن الشيخ النووي رضي الله عنه وأرضاه كان مثالا طيبا للعلماء العارفين بجلال الله فقد عاش رحمه الله للعلم ومن أجل العلم وأخذ عنه الكثير من العلماء الأعلام وترك ميراثا عظيما في العلم والتأليف ومن ذلك الكتب الآتية: شرح صحيح مسلم ورياض الصالحين والأذكار والأربعين والتبيان والمنهاج والروضة والفتاوى والإيضاح والإيجاز وتحرير ألفاظ التنبيه وطبقات الفقهاء وتهذيب الأسماء واللغات ومختصر أسد الغابة وكتب كثيرة موجودة في مقدمة كتاب رياض الصالحين، وعاش رحمه الله ورعا زاهدا مع التقوى والقناعة والورع والمراقبة لله تعالى في السر والعلانية. وكان يواجه الملوك والأمراء بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويكتب إليهم الرسائل ناصحا بالعدل في الرعية ومنع الظلم ورد الحقوق إلى أربابها.
قال أبو العباس بن فرج: "كان الشيخ النووي قد صارت إليه ثلاث مراتب كل مرتبة منها لو كانت لشخص شدت إليه الرحال: المرتبة الأولى: العلم والثانية: الزهد والثالثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
هذه لمحات عن كتاب رياض الصالحين وهو منبع صاف جميل المكارم والأخلاق التي تصور المثل العليا في أكمل صورها، ثم تعرضنا لقبس من سيرة هذا الإمام المبارك الشيخ النووي رضي الله عنه وأرضاه رجاء أن ننتفع بسيرته ونقتدي به، صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.(5/177)
المسئولية في الإسلام (2)
بقلم الشيخ عبد الله قادري
المدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة
.. ومما يجب التنبه عليه بهذه المناسبة أمران هامان:
الأول: تباين مناهج التعليم في معظم الشعوب الإسلامية – وإن شئت فقل الاختلاف الشديد بينها – حيث تدرس في بعض هذه المؤسسات مواد دينية ولا تعطى العلوم الأخرى فيها حظا كالحساب والهندسة والجغرافية ومبادئ الطب وأشباهها، من العلوم التي يسمونها بالعلوم العصرية، وهي في الواقع علوم قديمة، وطلاب هذه المؤسسة في حاجة إلى تلك العلوم في الوقت الذي تدرس العلوم العصرية في مؤسسة أخرى، وليس للعلوم الدينية فيها نصيب فيظهر طلابها طلاب مادة لا قيمة للغذاء الروحي عندهم، وتدرس في مؤسسة ثالثة العلوم العسكرية دون سواها فيظهر طلابها بمظهر الوحوش الضارية ليس لهم هم سوى الفتك والبطش، وعندئذ يحصل التصادم بين هذه الفرق فتصير كل فرقة حزبا له مبادئ خاصة، يناضل عنها ويحاول تحطيم مبادئ الآخرين و {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} إذ ليس لهم غاية مشتركة ولا هدف موحد يجمع نشاطهم ويوحد سلوكهم.
ولا أريد من هذا أن أدعو إلى إلغاء تخصص كل طائفة في علم خاص.(5/178)
الأمر الثاني: بعث طلاب من أبناء الشعوب الإسلامية إلى البلدان الأجنبية الكافرة، شرقية كانت أم غربية، وهم حدثاء الأسنان غير فاهمين دينهم فهما جيدا، ولم تتمكن العقيدة من قلوبهم تمكنا يؤمن معه ضلالهم، بل الكثير منهم لا يؤدي شعائر العبادة الظاهرة، وهو في بلاده بين آبائه وأجداده كالصلاة والصيام والحج، هؤلاء الأحداث - وللحداثة أهميتها في تلقي أي مبدأ - الجهال بدينهم - وللجهل أهميته كذلك في الانصياع السريع إلى أي فكر هدام، أقول هؤلاء الأحداث يرسلون إلى البلدان الأجنبية لأخذ حظ وافر من العلوم المفيدة لشعوبهم كالطب والهندسة وعلم طبقات الأرض والتدريبات الحربية والعسكرية والاقتصاد وغيرها إذ هي من الأمور المطلوبة لأن خلو الشعوب الإسلامية من هذه العلوم معناه الاستسلام للأعداء حيث يتقدمون في كل مجالات الحياة ونحن باقون على ضعفنا، وجهلنا بما يهمنا معرفته، وهذا أمر مذموم لا يقره الاسلام بل يأمر بالقوة والأخذ بأسباب العزة من علوم الدين والدنيا جميعا، وحسبنا أن أول آية نزلت على رسول الله بأكبر مفتاح للمعرفة والسعادة في الدارين وهي (القراءة) في قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ثم امتن بعد ذلك على الإنسان بأعظم وسيلة لحفظ ما يقرأ لجميع الأجيال ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وهي (الكتابة) كما قال تعالى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ, الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} كما أشار إلى نعمة تعليم الإنسان ما يجهل على وجه العموم فقال: {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} وفي ذلك ما فيه من حفظ هذا الإنسان في التطلع إلى المعرفة وعلم ما يجهل وأولى بذلك (المسلم) لأن كتابه أمره بذلك في شخص نبيه صلى الله عليه وسلم في أول آية نزلت منه.(5/179)
ومن أعظم الآيات الدالة على ذلك - أي حث المسلم على القوة- آية الحديد التي ذكر الله فيها أنه أرسل رسله إلى الناس بالكتب والبينات، وأنزل بجانبها الحديد، الذي وصفه بوصفين عظيمين.
وهل هناك دين من الأديان أشار هذه الإشارة الموجزة الجامعة كما أشارت إليه هذه الآية؟ ما أظن ذلك ومن عنده علم بالإيجاب فليتفضل علينا بعلمه. ومن الآيات الدالة على أنه يجب على المسلم أن يكون قويا قوة تقف في وجه عدوه وتخضعه حتى يخشى أن يمس الاسلام بسوء، قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} والآيات كثيرة جدا في هذا المعنى وفي ما ذكر كفاية.
وكذلك الأحاديث النبوية الصحيحة تحث المؤمن على القوة وتكره منه الضعف والخنوع، كما قال صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير, أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان" رواه مسلم.(5/180)
فالمؤمنون وإن كانوا مشتركين في الخير بسبب الإيمان فإنهم يتفاضلون بالقوة، فمن كان أكثر قوة في إيمانه وفي الأسباب المؤدية إلى حماية الدين ونصره فهو خير وأحب إلى الله تعالى، فالطبيب المسلم الذي يؤدي شعائر دينه ويقوم بمداوة المسلمين من الأمراض العادية أو الجروح الناجمة عن المعارك الواقعة بينهم وبين أعدائهم أفضل من غيره في ذلك، والمسلم القوي في بدنه الذي يبذل نفسه للجهاد في سبيل الله خير من ضعيف البدن الذي لا يستطيع ذلك، وإن كتب الله له أجر نيته الحسنة، والمسلم الغني الذي يبذل ماله في مصالح المسلمين من بناء مساجد وتأسيس مدارس وإنشاء مستشفيات وتجهيز الغزاة في سبيل الله خير من الفقير الذي لا يستطيع ذلك، والتفاضل قد يكون نسبيا، كما ذكرت بأن يكون هذا أفضل من جهة وذلك أفضل من جهة أخرى كالطبيب غير المجاهد، والمجاهد غير الطبيب، وقد يكون مطلقا كالتفاضل بين مؤمنين، أحدهما ضعيف البدن ليس عنده مال يتصدق منه، بل هو في حاجة إلى الصدقة، ولا خبرة له بشيء من الأمور التي تعود على الإسلام بخير، وثانيهما قوي البدن يجالد الأعداء في الغزوات الإسلامية خبير بالطب يداوي جرحى المسلمين ومرضاهم، غني يتصدق ويجهز الغزاة في سبيل الله، وينفق في كثير من طرق البر والإحسان، فهذان المسلمان يشتركان في الإيمان ولكن أحدهما خير من الآخر لقيامه بكثير من مصالح المسلمين العامة. والسبب في ذلك القوة وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين على الرمي وأشار إلى أنه هو القوة، وقد ذم من رمى ونسي الرمي وأن معرفة الرمي نعمة من الله تعالى، ففي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: " ألا إن القوة الرمي, ألا إن القوة الرمي, ألا إن القوة الرمي", وفي صحيح البخاري: "ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا" وفي صحيح مسلم أيضا: "ارموا واركبوا وإن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، ومن تعلم الرمي ثم نسيه فليس منا" وفي رواية: "فهي نعمة جحدها".(5/181)
ومن حرص الاسلام على قوة المسلم ولا سيما في السلاح المتخذ ضد العدو جعل الرسول صلى الله عليه وسلم صانع السلاح في سبيل الله ومن جهز به غازيا مثل الرامي به، فقال: "إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة، صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، والممد به"، رواه أهل السنن.
كما حث الرسول صلى الله عليه وسلم على علم الطب وبين قبل أربعة عشر قرنا أن لا يوجد مرض في الأرض إلا أوجد الله له دواء معينا علمه من علمه، وجهله من جهله، ولا تزال الاكتشافات الطبية تظهر معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموضوع، حيث يجمع كبار أطباء العالم اليوم أن مرضا ما لا دواء له، ثم يظهر غدا على يد بعضهم دواء يستأصل ذلك المرض. فسبحان خالق هذا الكون، وصلى الله على من أرسله رحمة للعالمين.
ومن أوضح الأمثلة على أن الدين الإسلامي دين قوة وعمل، وأنه يحث المسلم أن يعمل عملا يعود نفعه إليه في حياته ويبقى يدر عليه الحسنات بعد مماته، قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به" ومن تأمل هذه الأمور الثلاثة حق التأمل علم، علم اليقين أن ديننا ليس دين كسل، وخمول، ولكنه دين حركة ونشاط، وحيوية وعمل، فهو صلاة في المسجد وتعليم وتعلم في المدرسة، وجهاد ومجالدة في المعركة، وبيع وشراء في السوق، وصناعة في المصنع، بل إن النوم الذي يأخذ الإنسان به راحته يعتبر دينا عند خلص المؤمنين، كما قال بعض الصحابة: "والله إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي", ولننظر الآن في كل من الأمور الثلاثة التي نص عليها الحديث الشريف:(5/182)
1 – "صدقة جارية" والمراد بها ما يوقفه الإنسان من الأموال لصرفها في بعض أوجه البر؛ كأن يبني مسجدا للصلاة أو مدرسة للتعليم النافع أو مستشفى لمعالجة المرضى أو بيتا يأوي إليه من لا مسكن له من المحتاجين كالطلاب والمهاجرين والفقراء، أو تمهيد طريق عام يسلكه الناس، أو حبس أرض تصرف غلتها في سبل نافعة كتجهيز الغزاة، وما أعظم شخصا رزقه الله مالا فجمع بين هذه الأمور وأشباهها، فإنه يتسبب في كثرة سبل الخير النافعة لإخوانه المسلمين، وفي الوقت نفسه يتسبب في كثرة الحسنات التي يضاعفها الله له.
نعم الاسلام يحث المسلم أن يكون من عمله صدقة جارية وأحب الأعمال إلى الله أدومها، فكل ما كانت الصدقة أدوم وأكثر، كانت أحب إلى الله وأعظم أجرا، وهل يستطيع المسلم أن يخلف صدقة جارية بدون عمل منه وكدح في سبيل جمع المال؟ إن الفقير لا يستطيع ذلك، وإنما الغني هو الذي يستطيع، فالاسلام إذن يحث المسلمين أن يكونوا أغنياء، لينفقوا من أموالهم في السبل النافعة، والمؤمن الغني أقوى من المؤمن الفقير، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.
2 – "أو ولد صالح يدعو له" والولد الصالح لا يأتي بدون سبب بل لا بد من بذل جهود كثيرة لإيجاده, وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يتزوجوا الودود الولود ليتكاثر المسلمون، حتى يكونوا قوة جبارة ضد أعدائهم وهذا ما دعا الأعداء إلى أن ينادوا بتحديد النسل متذرعين بالخوف من عدم كفاية الأرزاق في المستقبل، وهم في الحقيقة يخططون مخططات بعيدة المدى يهدفون من ورائها إلى إضعاف المسلمين في عددهم ومعنوياتهم حتى تتسنى لهم السيطرة التامة عليهم ولا يخشوا منهم غزوا ولا دفاعا عن أنفسهم، فوجود الولد من حيث هو متوقف على الزواج، وصلاح الولد يتطلب أمورا كثيرة، منها:(5/183)
الأول: أن تكون أمه صالحة وصلاحها يقتضى تعليمها كل ما تحتاج إليه للقيام بمهام بيتها وزوجها وأولادها تنظيفا وتنظيما، وتهذيبا وتوجيها وتربية وتمريضا.
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعبا طيب الأعراق
ولقد عرف أعداء الإسلام أهمية المرأة في البيت، وأنها إذا أعدت إعدادا حسنا، وبقيت في بيتها أعدت جيلا يعجز الأعداء أن يصرفوه عن دينه أو أن يقوموا في وجهه، فأخذوا يصرخون وينوحون على تلك المرأة، ويدعون أنها مظلومة يجب نصرها، بإخراجها من البيت إلى المصنع والسوق والمكتب والمسرح، والمدرسة المشتركة وغيرها لتختلط بالرجال ويختلطوا بها، في خلواتهم وجولاتهم. واستجاب لهم أعداء الدين المتسترون من أبنائه فكتبوا وأذاعوا منادين في شعوبهم بما نادى به الأعداء الصرحاء، وحصل ما أرادوا، فصارت المرأة مبتذلة تتخطفها الأيدي وقت طرواتها وشبابها فإذا ذهبت الطراوة لفظوها كما تلفظ نواة التمرة، هكذا فعلوا بالمرأة، وهكذا أرادوا لها خشية أن تربي أجيالا لا يصلون إلى مصالحهم الاستعمارية مع وجودهم، ألا فلينتبه المسلمون.
الثاني: أن يكون أفراد البيت صالحين حتى يكتسب الولد الجديد منهم الصلاح وهذا يقتضي جهدا في تعليم كل أهل البيت وتأديبهم وتمرينهم على أفعال الخير، وتنفيرهم من أفعال الشر.
الثالث: عناية الأب بالولد خارج البيت، وذلك يقتضي منه مراقبته بأن يكون اختلاطه بأهل الخير والصلاح وأن يختار له معلما، يكون له قدوة في سلوكه وعبادته ومعاملته، وأن يختار له المدرسة التي يغلب على ظنه خيريتها بالنسبة للمدارس الأخرى وهذه أمور شاقة على الأب مما يدل أن الإسلام يحض على التربية والتعليم وإعداد الصالحين من الأولاد، حتى يتسلموا من آبائهم زمام الحياة فيقودوها قيادة حكيمة ناجحة.(5/184)
3- "أو علم ينتفع به"، والمقصود من العلم قد يتبادر إلى الأذهان أن المراد تعليم القرآن أو الحديث أو الفقه، وما شابه ذلك من علوم الدين، ولا شك أن هذه العلوم داخلة في العلم الذي ينتفع به دخولا أوليا ولكن العلم المنتفع به غير مقصور على ذلك، بل هو عام يشمل كل علم ينفع المسلمين في دينهم ودنياهم، فيدخل في ذلك ما يأتي:
1 – تعليم الناس علوم الدين على اختلاف طبقاتهم تدريسا ووعظا ورشادا.
2 – تأليف الكتب النافعة في ذلك وفي غيره من العلوم التي لها صلة بالدين كعلوم العربية والتاريخ وغيرها.
3 – تعليم المسلمين الصناعات النافعة، على اختلاف أنواعها، وكذا طرق الكسب والتجارة وعلوم الطب والعلوم العسكرية والخطط الحربية التي تفيدهم ضد عدوهم في داخل البلاد وخارجها، كل هذه الأمور إذا بذلها العالم لإخوانه المسلمين وبقيت متوارثة بينهم فإنها تبقى بعده تدر عليه الخير والحسنات، وكلما كثر المستفيدون منها ولو بالواسطة تضاعفت تلك الحسنات، وذلك يتطلب من المسلمين أن يلموا بكل العلوم النافعة في دينهم ودنياهم وأن يعلم بعضهم بعضا، وهو دليل قاطع على أن الاسلام يدعو المسلمين إلى العلم النافع مطلقا وإلى نشره بينهم ليبقى إلى يوم القيامة.(5/185)
ولا أريد أن أطيل بكثرة الأمثلة من الوحيين للحث على قوة المسلمين في كل المجالات وإنما أريد أن أشير فقط إلى ذلك، ومن أراد الوقوف على صحة ما قلت، فليتجرد من الهوى وليدرس كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بتعمق وتمحيص ليجد أن الأمر أعظم مما ذكرت، وذلك يقتضي منا أن نتعلم من غيرنا ما نجهله، ولا يعارض الدين الإسلامي ذلك إذا لم يوجد من المسلمين من يغنينا عنهم، ولكن لا يجوز أن نجعل تعلمنا منهم سببا لترك ديننا والتنكر له، وهذا ما أردت بيانه بالنسبة إلى ابتعاث أحداث الأسنان الذين يجهلون دينهم إلى البلدان الأجنبية، فإن المفاسد التي تنالها بلدانهم، من ابتعاثهم من الخروج على تعاليم الإسلام والعداء له ولأهله ولو كانوا آباءهم، أعظم من المصالح التي تحصل من ذلك بكثير، وما قيمة طبيب أو عسكري أو اقتصادي تعلم في الخارج ورجع ملحدا؟ ولذلك كانت المضار التي تحصل بسبب الابتعاث المذكور لا تحصى كثرة، ولا يعلم خطرها في مستقبل أمة الشعوب الإسلامية إلا الله، وإن كنا قد علمنا بعض تلك المضار وهي قسمان: مضار تلحق المبتعث في البلاد الأجنبية قبل أن يرجع إلى بلاده، وأخرى تلحقه وتلحق مجتمعه وأهله ودينه، بعد رجوعه إلى بلاده، والأولى أساس الثانية.
وسنتحدث عن ذلك كله في فرصة أخرى إن شاء الله.(5/186)
العدد 13
فهرس المحتويات
1- أخبار الجامعة- نتيجة اختبار الشهادة العالية (الليسانس) في كلية الشريعة وكلية الدعوة وأصول الدين في عام 1390/1391هـ
2- أضواء من التفسير: للشيخ عبد القادر شيبة الحمد
3- الإسلام والحياة- فريضة التفكير في الإسلام: بقلم الشيخ: أحمد عبد الرحيم السايح من علماء الأزهر
4- الإمام أحمد ودفاعه عن السنة: بقلم الشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي
5- الحج فضله وفوائده: بقلم الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد
6- الكيد اللئيم: بقلم الدكتور رانا إحسان الهي
7- الملكية الفردية في الإسلام: بقلم الشيخ محمد أمان صديق
8- النادي عند العرب: لفضيلة الشيخ محمد المنتصر الكتاني
9- النّداء الخالد - عن كتاب نظرية الإسلام وهديه في السياسة والدستور والقانون
للشيخ أبي الأعلى المودودي
10- الهزيمة عقوبة: للسيد حسن توهامي
11- دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب: لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
12- رحلة أدبية في ثنايا الأحلام: بقلم عبد الرحمن محمد الأنصاري
13- صلاة الليل برمضان: للشيخ محمد الطاهر النيفر
14- فضل رمضان وفوائد الصيام: عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
15- من أعلام النّحاة - ابن هشام: بقلم الشيخ يوسف عبد الرحمن الضبع
16- ندوة الطلبة- وادعوا إلى الله كي تحظوا بجنته *** وطبقوا سنة المختار في البشر بقلم: محمد عبد الرحمن شميلة الأهدل
17- نوادر المخطوطات مصحف الأمير أقبغا الأوجذي: بقلم الدكتور طه الزيني
18- هل التمسك بالحجاب الإسلامي غلو وانحراف?: بقلم الشيخ محمد أبو الفتح البيانوني
19- {وَذَكِّر فَإنّ الذِكرَى تَنْفَعُ المُؤمِنِين} : للشيخ حسن السيد متولي
20- يستفتونك: يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م(5/187)
أخبار الجامعة
نتيجة اختبار الشهادة العالية (الليسانس)
في كلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في
عام 1390/1391هـ
تقدم لاختبار هذه الشهادة في الدور الثاني للعام الدراسي 90 -91هـ (33) طالباً نجح من بينهم (22) وقد بلغ عدد الحاصلين على الشهادة العالية (الليسانس) من كلية الشريعة في الدورين الأول والثاني هذا العام (85) جامعياً وبإضافة هذه الدفعة من المتخرجين إلى جملة المتخرجين في الأعوام الستة الماضية وعددهم (423) يكون المجموع (508) جامعياً وفيما يلي أسماء وجنسيات المتخرجين في الدور الثاني هذا العام وتقديرات نجاحهم:
نتيجة امتحان الشهادة العالية (الليسانس) بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
عام 1390/1391هـ
تقدم للامتحان في هذه الشهادة في الدور الثاني (15) طالباً نجح من بينهم (12) وقد بلغ عدد الحاصلين على الشهادة العالية الليسانس من كلية الدعوة وأصول الدين في الدورين الأول والثاني هذا العام (49) جامعياً وبإضافة هذه الدفعة من المتخرجين إلى جملة المتخرجين في العام الماضي يكون المجموع (86) جامعياً وفيما يلي أسماء وجنسيات المتخرجين في الدور الثاني هذا العام.
وبإضافة هذا العدد إلى الناجحين في الدور الأول هذا العام وعددهم (75) يكون عدد الحاصلين على الشهادة الثانوية في العام الدراسي 90 -1391هـ (95) طالباً وبإضافتهم إلى عدد المتخرجين في الأعوام السبعة الماضية وعددهم (612) يكون جملة الحاصلين على الشهادة الثانوية من المعهد الثانوي التابع للجامعة الإسلامية (707) طلاب.(5/188)
بإضافة هذا العدد إلى جملة الناجحين في الدور الأول وعددهم (37) طالباً يكون عدد الحاصلين على الشهادة المتوسطة للعام الدراسي 90 – 1391هـ (52) طالباً وبإضافتهم إلى المتخرجين في الأعوام الأربعة الماضية وعددهم (74) طالباً يكون عدد الحاصلين على شهادة إتمام الدراسة المتوسطة (126) طالباً.(5/189)
الهزيمة عقوبة
للسيد حسين التهامي
قال السيد حسن التهامي مستشار الرئيس أنور السادات ورئيس بعثة الحج المصرية لهذا العام: إن جميع القوى العالمية -بلا استثناء- تجتمع اليوم ضد المسلمين وتتكتل لتقويض صرح الإسلام.
ويقول مراسل وكالة الأنباء السعودية: بأن السيد التهامي تحدث عما أسماه عار يونيو (1967) م؛ فقال: إنه كان نتيجة طبيعية للتخلي عن الإسلام وللزيف والزيغ العقائدي الذي اجتاح عالمنا العربي عشرين سنة.
ودعا السيد حسن التهامي إلى التمسك بالدعوة الإسلامية وإلى أن ينهض القادة جميعاً بهذا العبء وأن ينحازوا كلياً إلى الإسلام. فبغير الإسلام لن يستعيد العرب الأراضي وبغير الإسلام لن تقوم لهم قائمة.
وقال: إن التخطيط للجهاد ثم الجهاد هو طريقنا وإن كل ما سوى ذلك ليس إلاّ ألاعيب وأباطيل. وأكّد على أنه ليس يكفي المسلمين المؤتمرات الإسلامية ولا الأمانة الإسلامية. حتى ولا الحج إلى بيت الله الحرام..(5/190)
دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب
لفضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
المدرس بالجامعة
سورة " قد أفلح المؤمنون"
قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} : لا يخفى ما يسبق إلى الذهن فيه من رجوع الضمير إلى الرب والضمير بصيغة الجمع والرب جلّ وعلا واحد.
والجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: وهو أظهرها أن الواو لتعظيم المخاطب وهو الله تعالى كما في قول الشاعر.
ألا فارحموني يا إله محمد
فإن لم أكن أهلاً فأنت له أهل
وقول الآخر:
وإن شئت حرمت النساء سواكم
وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا برداً
الوجه الثاني: إن قوله ربّ استغاثة به تعالى وقوله ارجعون خطاب للملائكة ويستأنس لهذا الوجه بما ذكره ابن جرير عن ابن جريح قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة "إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى دار الدنيا؟ فيقول إلى دار الهموم والأحزان؟ فيقول بل قدموني إلى الله، وأما الكافر فيقولون له: نرجعك فيقول: رب ارجعون"
الوجه الثالث: وهو قول المازني أنه جمع الضمير ليدل على التكرار فكأنه قال: رب ارجعني ارجعني ارجعني. ولا يخلو هذا القول عندي من بُعدٍ والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} هذه الآية الكريمة تدل على أنهم لا أنساب بينهم يومئذ، وأنهم لا يتساءلون يوم القيامة؛ وقد جاءت آيات أُخر تدل على ثبوت الأنساب بينهم كقوله {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} الآية ... وآيات أُخر تدل على أنهم يتساءلون كقوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} .(5/191)
والجواب عن الأول: أن المراد بنفي الأنساب انقطاع فوائدها وآثارها التي كانت مترتبة عليها في الدنيا من العواطف والنفع والصلات والتفاخر بالآباء لا نفي حقيقتها.
والجواب عن الثاني من ثلاثة أوجه:
الأول: أن نفي السؤال بعد النفخة الأولى وقبل الثانية وإثباته بعدهما معاً.
الثاني: أن نفي السؤال عند اشتغالهم بالصعق والمحاسبة والجواز على الصراط وإثباته فيما عدا ذلك. وهو عن السدى من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
الثالث: أن السؤال المنفى سؤال خاص وهو سؤال بعضهم العفو من بعض فيما بينهم من الحقوق لقنوطهم من الإعطاء ولو كان المسؤول أباً أو ابناً أو أمًّا أو زوجة. ذكر هذه الأوجه الثلاثة أيضاً صاحب الإتقان.
قوله تعالى: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} . هذه الآية الكريمة تدل على أن الكفار يزعمون يوم القيامة أنهم ما لبثوا إلاّ يوماً أو بعض يوم وقد جاءت آيات أُخر يفهم منها خلاف ذلك كقوله تعالى: {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْراً} وقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} ._ والجواب عن هذا بما دل عليه القرآن؛ وذلك أن بعضهم يقول: لبثنا يوماً أو بعض يوم، وبعضهم يقول: لبثنا ساعة، وبعضهم يقول: لبثنا عشرا. ووجه دلالة القرآن على هذا أنه بَيَّن أن أقواهم إدراكاً وأرجحهم عقلاً وأمثلهم طريقة هو من يقول أن مدة لبثهم يوماً وذلك قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْماً} فدل ذلك على اختلاف أقوالهم في مدة لبثهم والعلم عند الله.
سورة النور
قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} .(5/192)
هذه الآية الكريمة تدل على تحريم نكاح الزواني والزناة على الإعفاء والعفائف ويدل لذلك قوله تعالى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} ... الآية، وقوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} الآية وقد جاءت آيات أُخر تدل بعمومها على خلاف ذلك؛ كقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} الآية وقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} .
والجواب على هذا مختلف فيه اختلافاً مَبْنِياً على الاختلاف في حكم تزوج العفيف للزانية أو العفيفة للزاني؛ فمن يقول (هو حرام) يقول: هذه الآية مخصصة لعموم وأنكحوا الأيامى منكم وعموم وأحل لكم ما وراء ذلكم.
والذين يقولون بـ (عدم المنع) وهم الأكثر أجابوا بأجوبة:
منها أنها منسوخة بقوله: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} ، واقتصر صاحب الإتقان على النسخ، وممن قال بالنسخ سعيد بن المسيب والشافعي.
ومنها أن النكاح في هذه الآية: (الوطء) وعليه فالمراد بالآية أن الزاني لا يطاوعه على فعله ويشاركه في مراده إلاّ زانية مثله أو مشركة لا ترى حرمة الزنا.
ومنها أن هذا خاص؛ لأنه كان في نسوة بغايا كان الرجل يتزوج إحداهن على أن تنفق عليه مما كسبته من الزنا؛ لأن ذلك هو سبب نزول الآية. فزعم بعضهم أنها مختصة بذلك السبب بدليل قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ} ... الآية، وقوله: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى} ... الآية، وهذا أضعفها والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَات} .(5/193)
هذه الآية الكريمة نزلت في براءة أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- مما رميت به، وذلك يؤيد ما قاله عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم من أن معناها: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء والطيبات من النساء للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من النساء؛ أي فلو كانت عائشة -رضي الله عنها- غير طيبة لما جعلها الله زوجة لأطيب الطيبين صلوات الله وسلامه وعلى هذا فالآية الكريمة يظهر تعارضها مع قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} إلى قوله {مَعَ الدَّاخِلِينَ} ، وقوله أيضاً {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْن} ... الآية؛ إذ الآية الأولى دلت على خبث الزوجتين الكافرتين مع أن زوجيهما من أطيب الطيبين وهما: نوح ولوط -عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام-، والآية الثانية دلت على طيب امرأة فرعون مع خبث زوجها.
والجواب أن في معنى الآية وجهين للعلماء:
الأول: -وبه قال ابن عباس وروى عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وحبيب بن أبي ثابت والضحاك، كما نقله عنهم ابن كثير واختاره ابن جرير- أن معناها الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول والطيبات من القول للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من القول؛ أي فما نسبة أهل النفاق إلى عائشة من كلام خبيث هم أوْلى به وهي أوْلى بالبراءة والنَّزاهة منهم؛ ولذا قال تعالى: {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُون} وعلى هذا الوجه فلا تعارض أصلاً بين الآيات.(5/194)
الوجه الثاني: هو ما قدمنا عن عبد الرحمن بن زيد، وعليه فالإشكال ظاهر بين الآيات. والذي يظهر لمقيده -عفا الله عنه- أن قوله الخبيثاث للخبيثين إلى آخره على هذا القول من العام المخصوص بدليل امرأة نوح ولوط وامرأة فرعون وعليه فالغالب تقييض كل من الطيبات والطيبين والخبيثات والخبيثين لجنسه وشكله الملائم له في الخبث أو الطيب مع أنه تعالى ربما قيض خبيثة لطيب كامرأة نوح ولوط أو طيبة لخبيث كامرأة فرعون لحكمة بالغة كما دل عليه قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} وقوله {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} مع قوله {وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} فدل ذلك على أن تقييض الخبيثة للطيب أو الطيبة للخبيث فيه حكمة لا يعقلها إلا العلماء؛ وهي: في تقييض الخبيثة للطيب أن يُبَيِّن للناس أن القرابة من الصالحين لا تنفع الإنسان وإنما ينفعه عمله ألا ترى أن أعظم ما يدافع عنه الإنسان زوجته وأكرم الخلق على الله رسله فدخول امرأة نوح وامرأة لوط النار كما قال تعالى: {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} . فيه أكبر واعظ وأعظم زاجر عن الاغترار بالقرابة من الصالحين والإعلام بأن الإنسان إنما ينفعه عمله ليس {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} ... الآية كما أن دخول امرأة فرعون الجنة يعلم منه الإنسان إذا دعته الضرورة لمخالطة الكفار من غير اختياره وأحسن عمله وصبر على القيام بدينه أنه يدخل الجنة ولا يضره خبث الذين يخالطهم ويعاشرهم فالخبيث خبيث وإن خالط الصالحين كامرأة نوح ولوط والطيب طيب وإن خالط الأشرار كامرأة فرعون، ولكن مخالطة الأشرار لا تجوز اختياراً كما دلت عليه أدلة أخر.(5/195)
قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا} لا يخفى ما يسبق إلى الذهن فيه من أن الضمير في قوله جاءه يدل على شيء موجود واقع عليه المجيء؛ لأن وقوع المجيء على العدم لا يعقل، ومعلوم أن الصفة الإضافية لا تتقوم إلا بين متضائفين فلا تدرك إلا بادراكهما، فلا يعقل وقوع المجيء بالفعل إلا بإدراك فاعل واقع منه المجيء ومفعول به واقع عليه المجيء وقوله تعالى {لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا} يدل على عدم وجود شيء يقع عليه المجيء في قوله تعالى: {جَاءَهُ} والجواب عن هذا من وجهين ذكرهما ابن جرير في تفسير هذه الآية؛ قال: فإن قال قائل: وكيف قيل {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئا} فإن لم يكن السراب شيئاً فعلام دخلت الهاء في قوله {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ؟.} قيل إنه شيء يُرى من بعيد كالضباب الذي يرى كثيفاً من بعيد والهباء، فإذا قرب منه دق وصار كالهواء وقد يحتمل أن يكون معناه حتى إذا جاء موضع السراب لم يجد السراب شيئاً فاكتفى بذكر السراب عن ذكر موضعه انتهى منه بلفظه.
والوجه الأول أظهر عندي وعنده بدليل قوله: وقد يحتمل أن يكون معناه الخ ...
قوله تعالى: {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} . هذه الآية الكريمة تدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- له الإذن لمن شاء وقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} الآية يوهم خلاف ذلك.(5/196)
والجواب الظاهر وهو أنه -صلى الله عليه وسلم- له الإذن لمن شاء من أصحابه الذين كانوا معه على أمر جامع كصلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو اجتماع في مشورة ونحو ذلك كما بينه تعالى بقوله: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُم} . وأما الإذن في خصوص التخلف عن الجهاد فهو الذي بَيَّن اللهُ لرسوله أن الأوْلى فيه ألا يبادر بالإذن حتى يتبين له الصادق في عذره من الكاذب وذلك في قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} . فظهر أن لا منافاة بين الآيات والعلم عند الله.
سورة الفرقان
قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} .(5/197)
هذه الآية الكريمة تدل على انقضاء الحساب في نصف نهار؛ لأن المقيل: القيلولة أو مكانها؛ وهي: الاستراحة نصف النهار في الحر، وممن قال بانقضاء الحساب في نصف نهار: ابن عباس وابن مسعود وعكرمة وابن جبير؛ لدلالة هذه الآية على ذلك كما نقله عنهم ابن كثير وغيره، وفي تفسير الجلالين ما نصه: وأخذ من ذلك انقضاء الحساب في نصف نهار كما ورد في حديث انتهى منه مع أنه تعالى ذكر أن مقدار يوم القيامة خمسون ألف سنة في قوله تعالى: {إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} والظاهر في الجواب أن يوم القيامة يطول على الكفار ويقصر على المؤمنين ويشير لهذا قوله تعالى بعد هذا بقليل: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} فتخصيصه عسر ذلك اليوم بالكافرين يدل على أن المؤمنين ليسوا كذلك وقوله تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} يدل بمفهومه أيضاً على أنه يسير على المؤمنين غير عسير كما دل عليه قوله تعالى: {مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} وقال ابن جرير: حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أنبأنا عمرو بن الحارث أن سعيداً الصواف حدثه أنه بلغه أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس وأنهم يتقلبون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس وذلك قوله: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} ونقله عنه ابن كثير في تفسيره، ومن المعلوم أن السرور يقصر به الزمن، والكروب والهموم سبب لطوله كما قال أبو سفيان بن الحارث يرثي النبي صلى الله عليه وسلم:
أرقت فبات ليلي لا يزول
وليل أخي المصيبة فيه طول
وقال الآخر:
فقصارهن مع الهموم طويلة
وطوالهن مع السرور قصار
ولقد أجاد من قال:(5/198)
ليلي وليلي نفى نومي اختلافهما
في الطول والطول، طوبى لي لو اعتدلا
يجود بالطول ليلي كلما بخلت
بالطول ليلي وإن جادت به بخلا
ومثل هذا كثير في كلام العرب جداً. وأما على قول من فسر المقيل بأنه المأوى والمنزل كقتادة رحمه الله فلا تعارض بين الآيتين أصلاً؛ لأن المعنى على هذا القول أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مأوى ومنزلاً والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} ... الآية. هذه الآية الكريمة تدل على أنهم يجزون غرفة واحدة وقد جاءت آيات أُخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى: {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} وكقوله: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} . والجواب:
- أن الغرفة هنا بمعنى الغرف كما تقدم مستوفي بشواهده في الكلام على قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُن} ... الآية.
- وقيل إن المراد بالغرفة: الدرجة العليا في الجنة وعليه فلا إشكال.
- وقيل الغرفة الجنة سميت غرفة لارتفاعها.
سورة الشعراء
قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} . هذه الآية تدل على أن قوم نوح كذبوا جماعة من المرسلين؛ بدليل صيغة الجمع في قوله المرسلين، ثم بين ذلك بما يدل على خلاف ذلك وأنهم إنما كذبوا رسولاً واحداً وهو نوح -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- بقوله: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ} ... إلى قوله {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} .(5/199)
والجواب عن هذا: أن الرسل -عليهم صلوات الله وسلامه- لما كانت دعوتهم واحدة وهي: (لا إله إلا الله) صار مكذب واحد منهم مكذباً لجميعهم؛ كما يدل لذلك قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} . وقد بين تعالى أن مكذب بعضهم مكذب للجميع بقوله: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} .
ويأتي مثل هذا الإشكال والجواب في قوله: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ} إلى أخره. وقوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِح} .
وكذلك في قصة لوط، وشعيب على الجميع وعلى نبينا الصلاة والسلام.
سورة النمل
قوله تعالى أخباراً عن بلقيس: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} ، يدل على تعدد رسلها إلى سليمان وقوله: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَان} بإفراد فاعل جاء، وقوله تعالى أخباراً عن سليمان أنه قال: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ} الآية يدل على أن الرسول واحد.
والظاهر في الجواب: هو ما ذكره غير واحد من أن الرسل جماعة وعليهم رئيس منهم فالجمع نظراً إلى الكل والإفراد نظراً إلى الرئيس؛ لأن من معه تبع له والعلم عند الله تعالى(5/200)
وقوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنَا} الآية. هذه الآية يدل ظاهرها على أن الحشر خاص بهؤلاء الأفواج المكذبة، وقوله -بعد هذا بقليل-: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} . يدل على أن الحشر عام كما صرحت به الآيات القرآنية عن كثرة.
والجواب عن هذا: هو ما بينه الألوسي في تفسيره من أن قوله: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} يراد به الحشر العام، وقوله {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجا} أي بعد الحشر العام يجمع الله المكذبين للرسل من كل أمة لأجل التوبيخ المنصوص عليه بقوله: {قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، فالمراد بالفوج من كل أمة: الفوج المكذب للرسل يحشر للتوبيخ حشراً خاصاً فلا ينافي حشر الكل لفصل القضاء. وهذا الوجه أحسن من تخصيص الفوج بالرؤساء كما ذهب إليه بعضهم.
قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَاب} الآية. هذه الآية تدل بظاهرها على أن الجبال يظنها الرائي ساكنة وهي تسير، وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الجبال راسية، والراسي هو: (الثابت في محل) كقوله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} . وقوله: {وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} وقوله: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} . وقوله: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} .(5/201)
ووجه الجمع ظاهر وهو أن قوله {أَرْسَاهَا} ونحوه يعني في الدنيا، وقوله وهي تمر مر السحاب يعني في الآخرة بدليل قوله: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَات} ثم عطف على ذلك قوله {وَتَرَى الْجِبَالَ} ... الآية. ومما يدل على ذلك النصوص القرآنية على أن سير الجبال في يوم القيامة كقوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَة} وقوله: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً} .
سورة القصص
قوله تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ} ... الآية. الخطاب في قوله: {وَلَكَ} يدل على أن المخاطب واحد وفي قوله: {لا تَقْتُلُوهُ} يدل على أنه جماعة. والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه.
الأول: أن صيغة الجمع للتعظيم.
الثاني: أنها تعني فرعون وأعوانه الذين هموا معه بقتل موسى فأفردت الضمير في قولها (لك) ؛ لأن كونه قرة عين في زعمها يختص بفرعون دونهم وجمعته في قولها (لا تقتلوه) ؛ لأنهم شركاء معه في الهمّ بقتله.
الثالث: أنها لما استعطفت فرعون على موسى التفت إلى المأمورين بقتل الصبيان قائلة لا تقتلوه معللة ذلك بقولها: {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} .
قوله تعالى: {فَقَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا} . الآية. {لأهْلِهِ} : زوجته بدليل قوله: {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} لأن المعروف أنه سار من عند شعيب بزوجته (ابنة شعيب) ، أو غير شعيب على القول بذلك. وقوله: {امْكُثُوا} خطاب جماعة الذكور فما وجه خطاب المرأة بخطاب جماعة الذكور. والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه:
الأول: أن الإنسان يخاطب المرأة بخطابة الجماعة تعظيماً لها ونظيره قول الشاعر:
فإن شئت حرمت النساء سواكم
وإن شئت لم أطعم نقاخاً ولا برداً
الثاني: أن معها خادماً والعرب ربما خاطبت الاثنين خطاب الجماعة.(5/202)
الثالث: أنه كان له مع زوجته ولدان له، اسم الأكبر منهما: (جيرشوم) واسم الأصغر (اليعازر) . والجواب الأول ظاهر والثاني والثالث محتملان؛ لأنهما من الإسرائيليات والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} قد قدمنا أن وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أن الهدى المنفي عنه صلى الله عليه وسلم هو: منح التوفيق، والهدى المثبت له هو: إبانة الطريق.
سورة العنكبوت
قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ} لا يعارضه قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} كما تقدم بيانه مستوفى في سورة النحل. (فأثقالهم) : أوزار ضلالهم و (الأثقال التي معها) أوزار إضلالهم ولا ينقص ذلك شيئاً من أوزار أتباعهم الضالين.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} . هذه الآية الكريمة تدل على أن النبوة والكتاب في خصوص ذرية إبراهيم، وقد ذكر في سورة الحديد ما يدل على اشتراك نوح معه في ذلك في قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} .
والجواب: أن وجه الاقتصار على إبراهيم أن جميع الرسل بعده من ذريته وذكر نوح معه لأمرين:
أحدهما: أن كل من كان من ذرية إبراهيم فهو من ذرية نوح.
والثاني: أن بعض الأنبياء من ذرية نوح ولم يكن من ذرية إبراهيم؛ كهود وصالح ولوط ويونس على خلاف فيه، ولا ينافي ذلك الاقتصار على إبراهيم؛ لأن المراد من كان بعد إبراهيم لا من كان قبله أو في عصره كلوط عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام.
سورة الروم(5/203)
قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفا} ... الآية. هذا خطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى: بعده {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} فقوله: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ} حال من ضمير الفاعل المستتر في قوله {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} الواقع على النبي -صلى الله عليه وسلم- فتقرير المعنى: فاقم وجهك يا نبي الله -صلى الله عليه وسلم- في حال كونكم منيبين إليه. وقد تقرر عند علماء العربية أن الحال إن لم تكن سببية لا بد أن تكون مطابقة لصاحبها إفراداً وثنية وجمعاً وتذكيراً وتأنيثاً فما وجه الجمع بين هذه الحال وصاحبها؟ فالحال جمع وصاحبها مفرد.
والجواب أن الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم يعمُّ حكمُه جميعَ الأمة؛ فالأمة تدخل تحت خطابه -صلى الله عليه وسلم- فتكون الحال من الجميع الداخل تحت خطابه -صلى الله عليه وسلم-. ونظير هذه الآية في دخول الأمة تحت الخطاب الخاص به -صلى الله عليه وسلم- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الآية. فقوله {طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} بعد يا أيها النبي دليل على دخول الأمة تحت لفظ النبي. وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} ثم قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} . وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّه} ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} الآية. وقوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} ثم قال: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} الآية. وقوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْن} ثم قال: {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} . ودخول الأمة في الخطاب الخاص بالنبي -صلى الله عليه وسلم- هو مذهب الجمهور وعليه مالك وأبو حنيفة وأحمد رحمهم الله تعالى خلافاً للشافعي رحمه الله.(5/204)
رحلة أدبية في ثنايا الأحلام
بقلم عبد الرحمن محمد الأنصاري
الطالب بالسنة الثالثة بكلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة
كنت في ليلة من ليالي الصيف أقرأ كتاباً من كتب الأدب القديم، فكلما وفد النوم علي رددته بفصل من فصول الكتاب الممتعة، حتى استسلمت في النهاية لسلطان النوم، والكتاب على صدري وهنا ذهبت في رحلة مع الأحلام، وكانت رحلة أدبية ممتعة، لم يذهب بصفائها إلا قصر الليل الذي تعود القصر في مثل هذه المناسبات..
وكان بدء الرحلة المنامية أن ذهبت برفقة صفيّ لي تعودت وإياه عدم المفارقة. ذهبت برفقته إلى شيخ من شيوخ الأدب القدامى، وكان زميلي على سابق معرفة به، وكان بدء الرحلة: أن قصدناه فوجدناه جالساً في دكة جميلة بمنزله، فتأملته فإذا هو طويل القامة، واسع الجبهة كأن عينيه من بروزهما قد ملّتا موضعهما من جبهته الواسعة مع طول السنين فبرزتا لشم النسيم.. عليه وقار العلماء، وفطنة الحكماء، يقول عن نفسه: إنه أمضى من سنين عمره ثمانين عاماً ولكن حواسه السليمة كلها تقريباً من سطوات الأيام لا تدل على ذلك.
والبسمة لا تفارق محياه رغم جحوظ عينيه وبروزهما.. رحب بنا وأدنى مجلسنا وفوراً قام زميلي بتقديمي له وتعريفه بي وزعم له أنني من هواة الأدب قديمه وحديثه.. وهنا تبسم بسمة الساخر الذي يمنعه كرمه وحفاوته من الجهر بالسخرية والازدراء.. ولاحظت بادئ ذي بدء أن ثمة وحشة قائمة بيننا وبينه بعامل السن. ولم نستطع مبادئته الحديث، فكأنه وجس ما هجس – كما يقول الحريري – وبخفة روح منه بالغة وبسمة مشرقة استنار منها محياه، وكأنه مصباح منير اتجه إلينا بكليته وجعل يلاطفنا بكلمات أرق من النسيم العليل.
وكان أن سأل زميلي عن صلتي به فكان جوابه له:
أن نفترق نسباً يؤلف بيننا
أدب أقمناه مقام الوالد
أو نفترق فالوصل منا عذب(5/205)
مائة تحدر من غمام واحد
وهنا أدركنا سرور الشيخ بوجودنا عنده من خلال أسطر البشر التي قرأناها على جبينه الناصع..
وقال: اعلموا أن الأدب لا يعترف بشيء اسمه "سن"وإنكم على ما ترون من كبر سني لربما كنت أشب منكما نفساً..؟
وكانت كلماته هذه قد أزالت بيننا وبينه كل حواجز التحفظ وقلت له:
ولكن نفراً ممن ينتمون إلى الأدب في زماننا قسموا الأدباء إلى قسمين:
أ – أدباء شيوخ.
ب – أدباء شبان.
وهنا اعتدل في جلسته وقال: اعلموا بنيّ أن هذا التقسيم غير علمي، ومبني على مغالطة لا تليق بمن ينتسب إلى هذه النسبة الشريفة "الأدب". قلنا: كيف؟ قال: إن الأدب منحة إلهية يمنحها من عباده أولي النفوس الشفاقة، والذوق السليم والحس المرهف، والنفس العطوفة التي تتأثر بكل شيء. ترى الجمال فتصفه وصف الشاكر وترى الجرح فتأسوه بيد الرحمة.. الأديب مصباح مضيء بالليل، هو جميل في نفسه بما فيه من الضياء الساطع، وفتيلته المحترقة: قلبه؛ لأنه يعيش لغيره قبل نفسه.. وشاعر بالنهار بمشاكل جيله فيضع لها الحلول المناسبة من واقع تجربته الذاتية.. هؤلاء هم الأدباء سواء كانوا شيوخاً أربوا على المائة أم شباناً لا يزالون في عمر الزهور والرياحين.. والمغالطة المبينة على تقسيمهم الذي ذكرت هي: أن هذا الأديب "الشيخ.."يفكر تفكير الشيوخ المحالين على التقاعد.. وأفكارهم ينبغي لها أن تحال على التقاعد أيضاً.!
وهذا الأديب "الشاب.."يفكر تفكير الشباب الناضج المتفتح على الحياة والمثقف ثقافة خاصة، وهذا هو مفهوم المخالفة – كما يقول علماء الأصول -.(5/206)
وسألناه: ما رأيك في الأدب الغربي، والمحاولات التي تستهدف صبغة الأدب "العربي"بالصبغة الغربية..؟ فأجاب: الأدب في كل أمة من الأمم شيء ضروري يعد من مستلزمات الحياة الإنسانية فلا يمكن لأية أمة من الأمم أن تستغني عنه إلا إذا أمكنها الاستغناء عن الغداء. ذلك أن الطعام والشراب هما قِوام الأبدان، وهما الطاقة التي تبعث الدفء والحركة في أجسام الناس، والأدب في نفس المستوى إلا أن مهمته أنبل وأسمى لأنه غذاء "الروح"وتأتي أفضليته من جهة: أن باقي الكائنات الحية تشارك بني الإنسان في الاستمتاع بالأطعمة والأشربة، وينفرد بنو الإنسان عنها "بالأدب".
أنا لا أنفي ما يجوزه العقل، ولا أثبت شيئاً لم يثبت حتى الآن بالنقل.. والأدب الغربي أدب غربي لأهله الأوروبيين يلامس وجدانهم، وبالتالي هو جزء لا يتجزأ من بيئتهم يتذوقونه ويرتاحون له كما يرتاحون لموسيقاهم التي هي في آذان بعضنا: صواعق منذرة بالويل والثبور وعظائم الأمور..
فكذلك الأدب العربي، أدب عربي من صميم بيئة العرب وواقعهم ومثلهم العليا، وتقاليدهم المثلى. أما محاولة صبغ الأدب العربي بصبغة غربية فهي محاولة فاشلة؛ لأنها مجرد معاينة العربي لنوع أدبي من هذا القبيل فإن نفسه الصافية، وفطرته السليمة تنفر من ذلك غاية النفور فيكون ذلك بمثابة وأد لهذه الفكرة وهي بعد في مهدها..
قلنا: إذن أنت تعارض التجديد وهي سنة من السنن الكونية التي تتم عن طريق تلاقي الأفكار، واتصال الأمم بعضها ببعض؟
فقال: أنا لا أعارض التجديد في أي شيء وخاصة في الأدب.. إنّ التجديد كما تفضّلتُما سنة من السنن الكونية التي ترافق بني الإنسان في سيرهم الطويل، والتطور والتجديد يكونان في كل شيء: في العمران، وفي المواصلات، وفي المعيشة، وفي وسائل الثقافة والترفيه إلى آخر ما هنالك..(5/207)
والأدب وصف وتعبير للأشياء المذكورة.. فكيف تتطور هي ويبقى هو جامداً؟. ولكن بالله عليكما أخبرني وأصدقاني القول:
هل الأدب العربي لا يتطور إلا من خلال ترجمة الأدب الغربي بكلمات عربية؟. هل هكذا طور العرب الأندلسيون "الأدب"من خلال احتكاكهم بغيرهم من الأمم؟. أم بكذلك تطور الأدب العربي في العصر العباسي نتيجة للاحتكاك بالفرس وغيرهم من الشعوب؟. أم بهكذا طور الأوروبيون أنفسهم ثقافتهم في عصور تَخَلُفهم – من جراء التقائهم بالثقافة العربية التي تعتبر أصولاً لكثير مما يتبجحون به علينا اليوم؟.
ولما وصل الشيخ من الحديث هذه النقطة دخل علينا غلامه قائلاً: بالباب رجل قال لي: "قل لسيدك عمرو بن بحر الجاحظ.."فلما سمعت اسم عمرو بن بحر ذهلت، قفلت لصاحبي: محدثنا الجاحظ.. صاحب البيان والتبيين..؟ قال: نعم!!
وهنا أيقظني صوت المؤذن: حي على الصلاة، حي على الفلاح فقمت بعد الصلاة طبعاً بتسجيل ما دار بيننا وبين الجاحظ. وإلى اللقاء ...(5/208)
صلاة الليل برمضان
للشيخ محمد الطاهر النيفر
الأستاذ في كلية الشريعة وأصول الدين بتونس
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل أكثر من إحدى عشرة ركعة في رمضان ولا في غيره كما صرحت به عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن ذلك. ففي البخاري حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن سعيد العقبري أبي مسلمة بن عبد الرحمن أنه أخبره أنه سأل عائشة رضي الله عنها كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فقالت:
"ما كان رسول صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً. قالت عائشة فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر فقال يا عائشة إن عيناي تنامان ولا ينام قلبي". وفي رواية مسروق رضي الله عنه أنه سألها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "سبع وتسع وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر". وروى الفجاج والنسائي وابن ماجة عن طريق إبراهيم بن الأسود عن عائشة أيضاً أنه كان يصلي بالليل تسع ركعات وفي رواية أخرى عنها من طريق هشام بن عروة أنها ثلاث عشرة ركعة.
والذي نجزم به للتوفيق بين هاته الروايات عنها أنها أدخلت ركعتي الفجر كما أخبرت بقولها ثلاث عشرة ركعة. ويرشد لهذا ما صرح به في رواية القاسم عنها من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت صلاته بالليل عشر ركعات ثم يوتر بسجدة ويركع ركعتي الفجر فتلك ثلاث عشرة ركعة.
وأما ما روي عنها من سبع وتسع فالجمع بينه وبين الروايات الأخرى أن ذلك كان في حالة كِبَرِهِ، وقد اختلفت الروايات من غير طريق عائشة ولا نرى في ذلك فائدة تذكر.(5/209)
فالمقطوع به أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل حسب ما نقل عن عائشة وهي أعرف الناس به كانت إحدى عشرة ركعة داخل في ذلك الوتر، ثم يأتي بركعتي الفجر بعد ذلك وأما مقدار ما يجمعه بتسليمة واحدة فاختلفت الروايات في ذلك أيضاً ففي رواية كان يسلم من كل اثنتين وفي رواية عائشة المتقدمة من كل أربع، وهناك روايات أخرى والمهم أنه كان لا يصليها في فور واحد بل ينام بعد كل تسليمة. ولا يعيد الوضوء عندما يقوم للمرة الموالية وكان صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة والركوع والسجود أخذاً من قول عائشة السالف (فلا تسأل عن حسنهن وطولهن) .(5/210)
وقد رغب النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل برمضان من ذلك قوله: من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. إلا أنه لم يأمر بعزيمة في ذلك كما نقله ابن حبيب في النوادر وإنما كان الصحابة يقومون على الصفة التي رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يقوم بها ولم يجمع النبي صلى الله عليه وسلم لها الناس فقد روى الأفقسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج فصلى بالناس ثلاث ليال ولم يخرج في الرابعة، وتفصيل هذا في حديث البخاري الذي رواه في باب فصل من قام رمضان فقد روى عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل وصلى بالمسجد فصلى الناس بصلاته فأصبح الناس يتحدثون فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه فأصبح الناس يتحدثون فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى فصلوا بصلاته فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد، ثم قال: أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم ولكن خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها. واختلف العلماء في تفسير (خشيت أن تفرض عليكم) وأظهر الوجوه ما ذكره العيني من أنه جرت العادة أن ما واظب عليه من القرب يفرض على أمته أو أن يقال إنه يخاف صلى الله عليه وسلم أن يظن أحد من أمته بعد انتقاله للرفيق الأعلى فرضية ذلك.
ويؤخذ من هذا أن الجمع في النوافل مشروع، كما يؤخذ من هذا أن النافلة تكون بالمسجد. وروى عن ابن القاسم أنه قال أحب إليّ أن يُتَنَفل نهاراً بالمسجد وليلاً بالبيت لاشتغاله في النهار، ولذا لو فقد ذلك كان بالبيت. ونقل عنه أيضاً أحب إليّ أن يتنفل الغريب بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ببيته. قال ابن رشد لأن الغريب لا يعرف وغيره يعرف وعمل السر أفضل.(5/211)
وفي رواية أخرى عنه أكره سجود النفل بالمسجد خوف الشهرة. ومشهور مذهب المالكية أن الجماعة لا تطلب في النفل لنهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يتخذ الإنسان بيته كالقبر لا يغشاه إلا وقت النوم ويستثني من ذلك رمضان فقد اتفق الفقهاء على استحباب الجمع إلا ما كان مظنة للرياء وكلامنا في غير السنن كالعيدين وأما هي فتسن الجماعة فيها.
واستمر الصحابة على ما كانوا عليه قبل أن يخرج لهم النبي صلى الله عليه وسلم فكان منهم من يقوم بالمسجد ومنهم من يقوم بالبيت وكانوا يطيلون القراءة اقتداء بالرسول الأعظم حتى قال بعضهم كنا نقرأ في الركعة بالمئين أي من الآيات.
ويظهر أن هذا هو مأخذ الفقهاء في القول باستحباب القراءة بجميع القرآن لإمام التراويح في كامل الشهر واستمر عملهم بذلك بعد انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى في خلافة أبي بكر وردح من خلافة عمر قدره بعضهم بنحو السنتين وبعد ذلك رأى عمر أن يجمع الناس في نفل رمضان أي التراويح لما أُمِن فرضية ذلك. ففي صحيح البخاري عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل. ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب. ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: نعمة البدعة هاته، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون. يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله.(5/212)
قال الجوهري وأوزاع من الناس معناه: جماعة قلل، قال الخطابي: ولا واحدة من لفظه وهذا الاجتهاد من عمر يمكن أن يكون مأخذه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الليالي الثلاث التي خرج فيها لما فيه من النشاط كما قاله ابن التين، ويستفاد من قوله ثم خرجت معه ليلة أخرى أن عمر كان لا يواظب عليها بالمسجد، ومذهب مالك أن صلاة التراويح يندب أداؤها بالبيت بشروط ثلاثة: ألا تعطل المساجد، وألا يخاف عدم النشاط، وألا يكون آفاقيا بالحرم وإلا فأداؤها بالمسجد أفضل وثبت أن مالكاً كان يصليها بالمسجد ثم عدل عن ذلك فرجع لصلاتها بالبيت وأخذ بعضهم من عمله هذا أن له قولين في الموضوع ويدل لمذهب مالك الذي رجع إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة. وهذا أخذ به أبو يوسف والشافعي أيضاً.
وقال الليث لو قام الناس في البيوت وعطلوا المساجد منه (أي التراويح) أجبروا على الخروج لأن قيام رمضان من الأمور التي لا ينبغي تركها.
وقريب من هذا ما نقل عن الطحاوي من قوله بوجوبها على الكفاية وقال ابن بطال بالسنية لأن عمر أخذها من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وتركها منه عليه السلام كان لخوف الافتراض وللشافعية في ذلك خلاف لا نطيل به وقيل جمع عمر الرجال على أبي بن كعب والنساء على تميم الداري وفي رواية أخرى جمع النساء على سليمان بن أبي جثمة ولعل ذلك تكرر من عمر.
واختلف في عدد الركعات التي جمع الناس عليها عمر وفي الموطأ أنها إحدى عشرة ركعة وروى هذا من وجوه أخرى. وروي عن زيد أن عمر جمع الناس على إحدى وعشرين ركعة يقومون بالمئين وينصرفون في بزوغ الشمس ( [1] ) وفي رواية أخرى عنه ثلاث وعشرون ركعة ولا خلاف في الواقع بين هاتين الروايتين كما هو ظاهر.(5/213)
ورأيت لبعض المحققين كلاماً يحصل به الجمع بين الروايتين المذكورين قال رحمه الله: دخل عمر المسجد فوجد الناس يصلون أفذاذاً فجمع الرجال على أبي بن كعب والنساء على تميم الداري وأمرهما أن يصلى بالناس إحدى عشرة ركعة بالوتر وكانوا يطيلون القراءة فثقل ذلك على الناس فخفف عمر رضي الله عنه في القراءة، وزاد في عدد الركعات، فبلغت ثلاثاً وعشرين بالوتر فكان يقرأ بالبقرة في ثمان ركعات وربما قرءوا بها في اثنتي عشرة ركعة.
هذا وقد اختار ما جرى عليه العمل في زمان عمر بعد التخفيف مالك وأبو حنيفة وأحمد واستمر عليه عمل المسلمين وتناقلوه خلفاً عن سلف إلى يومنا هذا. ولم يخالف ذلك إلا في زمان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فقد أمر بجعلها ستا وثلاثين ركعة يضاف فيها ثلاثة للوتر، وذلك لما رأى الناس يطيلون القراءة وهو موجب للضرر والسآمة فأمرهم بتقصير القراءة وتعويض ذلك بالزيادة في عدد الركعات واختار هذا مالك في رواية المدونة ولنا بحث في هذا الموضوع يحسن التعرض إليه وهو أن الحديث المذكور عن عائشة يحسن أن يكون دليلاً لأبي حنيفة الذي يرى أن نافلة الليل الأفضل فيها أن تكون بأربع من غير فصل بسلام، كما تكون حجة للحنفية الذين يرون أن الوتر ثلاثة ركعات بتسليمة واحدة، قالوا لأن الظاهر من قول عائشة رضي الله عنها (صلى أربعاً فلا تسأل عن حسنهن الخ..) ثم صلى ثلاثاً الخ.. إنها متصلة من غير فصل بثلاث، ولا يعدل عن الظاهر إلا بدليل ثم قال ابن بطال بعد هذا وفي ذلك أيضاً رد على مالك رضي الله عنه.(5/214)
ويظهر أن هذا الحديث لا يقوم حجة على مالك لا في المسألة الأولى ولا في الثانية لأن مسلماً رواه عن عائشة رضي الله عنها عن طريق يحي ابن يحي بلفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة يوتر فيها بواحدة، وروى مسلم أيضاً عن عائشة من طريق حرملة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء وهي التي يدعوها الناس العتمة إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم من كل ركعتين ويوتر بواحدة، ولا شك أن روايات الحديث يفسر بعضها بعضاً فرواية البخاري فيها إجمال؛ لأنه قال: يصلي أربعة ثم يصلي ثلاثاً يحتمل أنها من غير فصل ويحتمل أنها مع الفصل، ولا نسلم أنه أظهر من الأول لأنا نقول أن عائشة إنما خصصت الأربع والثلاث بالذكر لأنه هو المقدار الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام بعد أدائه.
وإذا كان الحديث مجملاً فيتعين حمله على المبين كما هي القاعدة وليس في ذلك دليل لغير مالك ولا حجة عليه ويبقى حديث مسلم المذكور دليلاً لمالك فيما ذهب إليه. ومما يشهد له ما روي عن عمر من قوله: صلاة الليل مثنى فإذا رأيت أن الصبح يدركك فأوتر بواحدة الحديث. ولابن رشد في بداية المجتهد كلام حسن جميل ينبغي مراجعته.
--------------------------------------------------------------------------------
( [1] ) المشهور "الفجر"مكان الشمس انظر رواية الموطأ عن السائب بن يزيد رقم 248 "المجلة".(5/215)
فضل رمضان وفوائد الصيام
عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيس الجامعة الإسلامية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فيا أيها المسلمون إنكم في مستقبل شهر عظيم مبارك ألا وهو شهر رمضان..شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن..شهر العتق والغفران..شهر الصدقات والإحسان، شهر تفتح فيه أبواب الجنان، وتضاعف فيه الحسنات، وتقال فيه العثرات، شهر تجاب فيه الدعوات، وترفع الدرجات، وتغفر فيه السيئات، شهر يجود الله فيه لأوليائه العطيات، شهر جعل الله صيامه أحد أركان الإسلام فصامه المصطفى صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بصيامه وأخبر صلى الله عليه وسلم أن من صامه إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم، فاستقبلوه رحمكم الله بالفرح والسرور والعزيمة الصادقة على صيامه وقيامه والمسابقة فيه إلى الخيرات، والمبادرة فيه إلى التوبة النصوح من سائر الذنوب والسيئات، والتناصح والتعاون على البر والتقوى والتواصي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى كل خير لتفوزوا بالكرامة والأجر العظيم. وفي الصيام فوائد كثيرة، وحكم عظيمة منها: تطهير النفس وتهذيبها وتزكيتها من الأخلاق السيئة كالأشر والبطر والبخل، وتعويدها الأخلاق الكريمة كالصبر والحلم والجود والكرم، ومجاهدة النفس فيما يرضي الله ويقرب لديه، ومن فوائد الصوم أنه يعرف العبد نفسه، وحاجته وضعفه وفقره لربه، ويذكره بعظيم نعم الله عليه، ويذكره أيضاً بحاجة إخوانه الفقراء فيوجب له ذلك شكر الله سبحانه، والاستعانة بنعمه على طاعته ومواساة إخوانه الفقراء والإحسان إليهم، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى هذه الفوائد في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ(5/216)
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فأوضح سبحانه أنه كتب علينا الصيام لنتقيه فدل ذلك على أن الصيام وسيلة للتقوى، والتقوى هي طاعة الله ورسوله بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه عن إخلاص له عزَّ وجلَّ ومحبة ورغبة ورهبة وبذلك يتقي العبد عذاب الله وغضبه، فالصيام شعبة عظيمة من شعب التقوى، ووسيلة قوية إلى التقوى في بقية شؤون الدين، والدنيا، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض فوائد الصوم في قوله صلى الله عليه وسلم "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" فبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الصوم وجاء للصائم أي وسيلة لطهارته، وعفافه وما ذاك إلاَّ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والصوم يضيق تلك المجاري ويذكر بالله وعظمته فيضعف سلطان الشيطان، ويقوي سلطان الإيمان، وتكثر بسببه الطاعات من المؤمن، وتقل به المعاصي، ومن فوائد الصوم أيضاً أنه يطهر البدن من الأخلاط الرديئة ويكسبه صحة وقوة، وقد اعترف بذلك كثير من الأطباء، وعالجوا به كثيراً من الأمراض، وقد ورد في فضله وفرضيته آيات وأحاديث كثيرة؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} إلى أن قال عزَّ وجلَّ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، وفي الصحيحين(5/217)
عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت" وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف يقول الله عز وجل: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فمّ الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"، وفي الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وأغلقت أبواب النار، وسلسلت الشياطين"، وأخرج الترمذي وابن ماجة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين، ومردة الجن، وفتحت أبواب الجنة ولم يغلق منها باب، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وينادي منادي يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشرِّ أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة"، وجاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان، ويقول لهم: "جاء شهر رمضان بالبركات فمرحباً به من زائر وآت". وأخرج ابن خزيمة عن سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه خطب الناس في آخر يوم من شعبان فقال: "أيها الناس إنه قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزيد فيه في رزق المؤمن، ... -إلى أن قال:- فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غنى بكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله، والاستغفار، وأما الخصلتان اللتان لا غنى بكم عنهما فتسألون الله الجنة، وتعوذون به من(5/218)
النار"، وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان في الغالب لا يزيد في رمضان ولا في غيره على أحد عشرة ركعة يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثاً، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه في بعض الليالي يصلي ثلاث عشرة ركعة، وفي بعضها أقل من ذلك، وليس في قيام رمضان حد محدود لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قيام الليل قال:"مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى"، ولم يحدد صلى الله عليه وسلم للناس في قيام الليل ركعات معدودة بل أطلق لهم ذلك فمن أحبَّ أن يصلي إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة أو ثلاث وعشرين ركعة أو أكثر من ذلك أو أقل فلا حرج عليه، ولكن الأفضل هو ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- وداوم عليه في أغلب الليالي وهو إحدى عشرة ركعة مع الطمأنينة في القيام، والقعود، والركوع، والسجود، وترتيل التلاوة، وعدم العجلة؛ لأن روح الصلاة هو الإقبال عليه بالقلب، والخشوع فيها، وأداؤها كما شرع الله بإخلاص وصدق، ورغبة ورهبة وحضور قلب، كما قال سبحانه وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وجعلت قرت عيني في الصلاة"، وقال للذي أساء في صلاته: "إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، ثم كبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ً ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ً ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" وكثير من الناس يصلي في قيام رمضان صلاة لا يعقلها ولا يطمئن فيها(5/219)
بل ينقرها نقراً وذلك لا يجوز بل هو منكر لا تصح معه الصلاة، فالواجب الحذر من ذلك، وفي الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أسْوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته، قالوا: يا رسول الله كيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها"، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر الذي نقر صلاته أن يعيدها.
فيا معشر المسلمين اغتنموا هذا الشهر العظيم وعظِّموه -رحمكم الله- بأنواع العبادة، والقربات، وسارعوا فيه إلى الطاعات؛ فهو شهر عظيم جعله الله ميداناً لعباده يتسابقون إليه فيه بالطاعات، ويتنافسون في أنواع الخيرات، فأكثروا فيه -رحمكم الله- من الصلوات والصدقات، وقراءة القرآن الكريم، والإحسان إلى الفقراء، والمساكين، والأيتام، وأنواع الذكر، والاستغفار، وسؤال الله الجنة، والاستعاذة به من النار؛ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، فتأسوا بِنَبِيِّكم -صلى الله عليه وسلم- واقتدوا به في مضاعفة الجود والإحسان في شهر رمضان، وأعينوا إخوانكم الفقراء على الصيام والقيام، واحتسبوا أجر ذلك عند الملك العلاّم، واحفظوا صيامكم عماَّ حرمه الله عليكم من الأوزار، والآثام فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"، وقال -عليه الصلاة والسلام-: "الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يفسق، فإن امرؤ سابه أحد فليقل إني امرؤ صائم"، وجاء عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ليس الصيام عن الطعام والشراب، وإنما الصيام من اللغو والرفث"، وقال جابر بن عبد الله الأنصاري _ رضي الله عنه _ إذا صمت فليصم سمعك، وبصرك، ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء. واحذروا -رحمكم الله- كلَّ ما ينقص الصوم ويضْعف الأجر، ويغضب الرب عزّ وجلّ من سائر المعاصي؛(5/220)
كالتهاون بالصلاة، والبخل بالزكاة، وأكل الربا، وأكل أموال اليتامى، وأنواع الظلم، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، والغيبة، والنميمة، والكذب، وشهادة الزور، والدعاوى الباطلة، والأَيْمان الكاذبة، وحلق اللحا أو تقصيرها، وإطالة الشوارب، والتكبر، وإسبال الثياب وشرب المسكرات، والتدخين، وتبرج النساء وتشبههن بنساء الكفار في أزيائهن، وغير ذلك مما نهى الله عنه ورسوله. وهذه المعاصي التي ذكرنا محرمة في كل زمان ومكان ولكنها في رمضان أشد تحريماً، وأعظم إثماً لفضل الزمان وحرمته، ومن أقبح هذه المعاصي وأخطرها على المسلمين ما ابتلي به الكثير من الناس من التكاسل عن الصلوات، والتهاون بأدائها في الجماعة في المساجد ولا شك أن هذا من أقبح خصال أهل النفاق، ومن أسباب الزيغ والهلاك، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} ، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من سمع النداء فلم يأت فلا صلاة له إلاّ من عذر" وقال له -صلى الله عليه وسلم- رجل أعمى: يا رسول الله إني بعيد الدار عن المسجد وليس لي قائد يلائمني فهل لي من رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "هل تسمع النداء بالصلاة"، فقال: نعم. قال: فأجب، وقال عبد الله ابن مسعود -رضي الله عنه-: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة في الجماعة إلاّ منافق معلوم النفاق أو مريض، وقال -رضي الله عنه-: لو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم. ومن أخطر المعاصي أيضاً ما بُليَ به الكثير من الناس من استماع الأغاني، وآلات الطرب، وإعلان ذلك في الأسواق وغيرها، ولا ريب أن هذا من أعظم الأسباب في مرض القلوب وصدها عن ذكر الله، وعن الصلاة، وعن استماع القرآن الكريم والانتفاع به، ومن أعظم الأسباب أيضاً في عقوبة صاحبه بمرض(5/221)
النفاق، والضلال عن الهدى، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} ، وقد فسرّ أهل العلم (لَهْوَ) الحديث بأنه الغناء، وآلات اللهو، وكل كلام يصدّ عن الحق، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرّ، والحرير، والخمر، والمعازف"، و (الحِرُ) هو: الفرج الحرام، و (الحرير) معروف، و (الخمر) هو: كلّ مسكر، و (المعازف) هي: الغناء، وآلات الملاهي كالعود والكمان وسائر آلات الطرب، والمعنى: أنه يكون في آخر الزمان قوم يستحلون الزنا، ولباس الحرير، وشرب المسكرات، واستعمال الغناء، وآلات الملاهي، وقد وقع ذلك كما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا من علامات نبوته ودلائل رسالته -عليه الصلاة والسلام-، وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع. فاتقوا الله أيها المسلمون واحذروا ما نهاكم الله عنه، ورسوله واستقيموا على طاعته في رمضان وغيره، وتواصَوْا بذلك وتعاونوا عليه لتفوزوا بالكرامة والسعادة، والعزّة والنجاة في الدنيا والآخرة.
والله المسؤول أن يُعيذَنا وجميعَ المسلمين من أسباب غضبه وأن يتقبل منا –جميعاً- صيامنا، وقيامنا، وأن يصلح ولاة أمر المسلمين، وأن ينصر بهم دينه ويخذل بهم أعداءه، وأن يوفق الجميع للفقه في الدين والثبات عليه، والحكم به، والتحاكم إليه في كل شيء إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.(5/222)
من أعلام النّحاة - ابن هشام
بقلم الشيخ يوسف عبد الرحمن الضبع
المدرس في كلية الشريعة بالجامعة
وفاء بما سلف الوعد به في كلمة سابقة من إماطة اللثام عمن يتحلى بكنية (ابن هشام) ودفعاً لما يتبادر إلى بعض الأذهان من لبس في هذا المشترك اللفظي على حد تعبير علماء النحو في الأعلام وقد يدعو اشتراك إمامين أو أكثر في عَلَم إلى نسبة تراث علمي إلى غير المنسوب إليه فيما يكاد الإجماع ينعقد عليه. كما يتوهم بعض الناشئين تجاه سيرة ابن هشام.
حيث يزعمون أنها لعباب النحو (جمال الدين) صاحب مغنى اللبيب على حين ينسبها لفيف من المؤرخين لطليعة الغر الميامين من النفر النابهين الذين محت آياتهم معالم جماعة كثيرة يطلق على كل منها (ابن هشام) لمع من بينه عشرة كرام بررة بشّر بهم العلامة السيوطي وأودعهم (بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة) .
أولهم عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري وقيل الذهلي وهو اللبنة الأولى في هذا البناء أو الألف من حروف الهجاء لهذا الرعيل الذي نقدمه لشباب الجيل من مشكاة الجامعة الإسلامية في مصباحها الجديد وثوب مجلتها القشيب.(5/223)
وكنية هذا العَلَم أبو محمد وقد حمدت في النحو سيرته وطابت سريرته. دلف من البصرة معقل النحاة السابقين الأولين وهبط مصر مع اللائذين الآمنين. تقرن السيرة النبوية الشهيرة باسمه ويضيفها كثير من الكرام الكاتبين إليه، بيد أن التاريخ المحقق لا ينكر فضله في تهذيب حواشيها وتنقيحها وحذف طائفة من أشعارها وهي في الواقع من صنع المؤرخ ابن إسحاق خطها بيمينه ورواها عنه ونقلها منه زياد البكائي لرفيقه وصديقه ابن هشام فلا نكران لفضله ولا كفران لسعيه وله إلى متصله السيرة شرح ما وقع في أشعار السير من الغريب. وله معها أنساب حمير وملوكها وقد وثقه أبو سعيد بن يونس. وكان براً كريماً بالإمام الشافعي رضي الله عنه وبحسبه منه كلمته الباقية (الشافعي حجة في اللغة) جاور ربه سنة ثماني عشرة وقيل ثلاث عشرة ومائتين من الهجرة.
ثانيهم محمد بن يحي بن هشام الخضراوي. أبو عبد الله الأنصاري الخزرجي الأندلسي. ينسب إلى الجزيرة الخضراء ويدعى بابن البردغي قال عنه الإمام السيوطي وهو يترجم له ويترجم عليه:
كان العلامة الخضراوي رأساً في العربية عاكفاً على التعليم تلقى العربية عن ابن خروف ومصعب والرندي وأخذ القراءات عن أبيه. وكفاه فضلاً أن يكون الشلوبين من بين بنيه النحويين. وينوه به وينقل عنه ابن هشام الأنصاري والصبان.(5/224)
ومن مؤلفاته: (فصل المقال في أبنية الأفعال) و (المسائل النجب) و (الإفصاح بفوائد الإيضاح) . و (الاقتراح في تلخيص الإيضاح وشرحه) . و (غرر الأصباح في شرح أبيات الإيضاح) . وله (النقض على الممتع لابن عصفور) . وله تصرف في الأدب يشهد بذلك ما دبجه من المنثور والمنظوم. ولد سنة 575هـ خمس وسبعين وخمسمائة. ومات بتونس الخضراء ليلة الأحد رابع عشر جمادى الآخرة سنة 646هـ ست وأربعين وستمائة هجرية ويشبهه (والتشبه بالرجال فلاح) إلى حد كبير سميه الأستاذ محمد الخضراوي الأجهوري المصري أستاذ الفقه والأصول بكلية الدعوة في الجامعة الإسلامية أدام الله النفع به وأقر بموفور علمه عيون بنيه ومقدريه وهم كثير والحمد لله.
ثالثهم محمد أبو عبد الله بن أحمد بن هشام بن إبراهيم بن خلف اللخمي السبتي كما ذكره النجيبي في رحلة كان من المتعمقين في اللغة الراسخين في النحو ومن مؤلفاته (المدخل إلى تقويم اللسان وتعليم البيان) قال عنه ابن الأبار إنه أدب بالعربية وكان قائماً عليها وعلى اللغات والآداب مع حفظ من النظم ضعيف ومن تأليفه المفيدة التي انتفع الناس بها كتاب (الفصول والمجمل في شرح أبيات الجمل) . و (نكت على شرح كتاب سيبويه للأعلم الشنتمري) و (لحن العامة) . و (شرح الفصيح) و (شرح مقصورة ابن دريد) .
روى عنه عبد الله بن الفار تأليفه وكانت حياته سنة 557هـ.
قال ابن دحية في (المطرب من أشعار أهل المغرب) : قال اللغويون (الخال) يأتي على اثني عشر معنى: أخو الأم. موضع الخال من الزمان الماضي. اللواء. الخيلاء. الشامة. الغرب. المنفرد. قاطع الخلا. الجبان. ضرب من البرود. السحاب. سيف خال قاطع.
وقد نظمها الفقيه الأستاذ النحوي الكبير المترجم له فقال:
أقوم لخالي وهو يوماً بذي خال
نروح ونغدو في برود من الخال
تمر كمر الخال يرتج ردفها
إلى منزل خلو من الخال
أقامت لأهل الخال خالاً فكلهم(5/225)
يؤم إليها من صحيح ومن خال
الرابع: جاء عنه في هامش الطبعة الأولى لكتاب (بغية الوعاة) بياض في الأصل الأمر الذي اقتضاني استقراء الكتاب جملة وتفصيلاً لعلي أجد على النار والنور هدى فأسلمني طول المراس إلى العثور على إمام يرتدي برود التواضع من أئمة النحو واللغة كأنه هو الحلقة المفقودة والضالة المنشودة في شخصي. محمد بن أحمد بن عبد الله بن هشام أبو عبد الله الفهري الذهبي ويعرف باسم الشواش.
قرر الآبار أنه أخذ النحو عن الإمام الجزولي وسمع من أبي عبد الله العرشي وغيره وجلس للإقراء والتحديث ودرس النحو واللغة وحمل الناس عنه. وكان كما شهد له العلامة السيوطي إماماً متواضعاً بارع الخط اختاره الله لجواره سنة 619هـ.
خامسهم: محمد بن عبيد الله بن أحمد بن محمد بن هشام بن عبد الرحمن بن غالب بن نصر الخشتي المالقي أبو عبد الله يعرف بابن العويص قال ابن الزبير: كان أستاذاً مقرئاً نحوياً فاضلاً، روى عن أبي عبد الله النضري وابن الطراوة، وأخذ عنه وعن أبي الحسن الصفار وجماعة. وروى عنه ابنا حوط الله وابن يربوع ومات يوم السبت تاسع عشر شوال سنة 576هـ.(5/226)
ندوة الطلبة
وادعوا إلى الله كي تحظوا بجنته
وطبقوا سنة المختار في البشر
بقلم: محمد عبد الرحمن شميلة الأهدل
الطالب بكلية الشريعة بالجامعة
عرّج فديت بذات النخل والحجر
وأربع على منزل الأحباب في السحر
وحي من فيه من شيخٍ يشع سناً
تخال ألفاظه صيغت من الدرر
محي لسنة خير الخلق مجتهدِ
موفقٍ لسديد القول والنظر
لم يثنه الغمز عن حق أراد ولا
يغتر قطعاً بقول الماذق الأشر
وطالبٍ دائبٍ في نيل مأربه
مدرعٍ بجميل الصبر ذي سهر
بشرى لكم معشر الطلاب إن لكم
عناية سبقت في مثبت القدر
لأنتم في بني العصر الذين هووا
في وهدة الجهل مثل الأنجم الزهر
فاسعوا إلى المجد لا تلووا على كَسلٍ
مضيع وقتَه في اللغو والهذر
وادعوا إلى الله كي تحظوا بجنّته
وطبّقوا سنة المختار في البشر
فيم السكوت وهذا الخطب فادحنا
وهذه شرعة المختار في خطر
فيم السكوت وأعداؤنا قد اتحدوا
مصوبين سهام الخبث والدّعر
ونحن في غفلة عما يُراد بنا
كأنّنا لم نصب في الدين بالغِيَرِ
أبعد أن أكمل الرّحمن منهجناً
وأوضح الحق بالقرآن والأثر
نُغزى من الخلف هل متيقظ فطن
يزيل عن ديننا ما كان منه بري
تالله لو أنّنا سرنا على سنن الأسلاف ما كان من ضعف ولا خور(5/227)
نوادر المخطوطات:
مصحف الأمير أقبغا الأوجدي
بقلم الدكتور طه الزيني
المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة
الأمير أقبغا هو علاء الدين أقبغا عبد الواحد، كان "استادار"الملك الناصر محمد بن قلاوون ومعنى "استادار"ناظر الخاصة الملكية، وهو الذي أنشأ المدرسة الأقبغاوية الموجودة على يسار الداخل إلى الجامع الأزهر، وبها مكتبة الأزهر الآن.(5/228)
وقد تم بناء القبة سنة 740هـ الموافق 1340م، وقد جعلت مكتبة للأزهر منذ سنة 1314هـ الموافق 1897م وعهد أقبغا بإنشائها إلى ابن السيوفي رئيس المهندسين في أيام الناصر محمد بن قلاوون، فجاءت آية في الفن المعماري المملوكي، والباقي منها الآن مدخلها وواجهة القبة ومحرابها ومحراب المدرسة والمنارة وقد أكملت قمتها أخيراً مصلحة الآثار. وهذا المصحف مكتوب على ورق الكتان الثقيل بخط علي بن أير حاجب سنة 732هـ الموافق 1333م وكل صفحة من صفحاته تضم أحد عشر سطراً بخط النسخ الكبير، وبأوله أوراق تشتمل على فوائد كثيرة، ففي الورقتين الأوليين من هذه الأوراق جداول مذهبة مبين فيها عدد جلالات القرآن، وهي ألف وستمائة وأربعة وتسعون، وعدد آياته وهي ستة آلاف ومائتان وست وثلاثون آية، وعدد سور القرآن وهي مائة وأربع عشرة سورة، وعدد كلمات القرآن وهي سبعون ألفاً وأربعمائة وستة وثلاثون كلمة، وعدد حروف القرآن وهي ثلثمائة ألف وعشرون ألفاً ومائتان وأحد عشر حرفاً، وعدد نقط القرآن وهي مائة ألف وخمسون ألفاً وإحدى وثمانون نقطة، وعدد الألفات والباءات والتاءات وغيرها إلى آخر الحروف الهجائية. وعدد سجدات القرآن وهي أربع عشرة سجدة على خلاف بين الفقهاء فيها. وفي الورقتين الرابعة والخامسة بيان السور التي فيها الناسخ وليس فيها المنسوخ وهي ست سور ذكرت أسماؤها، والتي فيها المنسوخ وليس فيها الناسخ وهي أربعون سورة مذكورة أسماؤها، والتي فيها الناسخ والمنسوخ معاً وهي خمس وعشرون سورة، مذكورة أسماؤها، والتي ليس فيها ناسخ ولا منسوخ وهي ثلاث وأربعون سورة مذكورة أسماؤها أيضاً، ومن الورقة السادسة إلى الحادية عشرة بيان كيفية نزول القرآن وسبب جمعه والمكي والمدني، وفي الصفحتين الثانية والأولى من الورقتين 11، 12 جداول مذهبة بها بيان ما وضع في القرآن من مصطلحات القراء السبعة، وبهامشها دوائر ذهبية، وفي الصفحة الأولى من الورقة الثالثة عشرة ما يأتي(5/229)
(وقف هذا المصحف من المقر الأشرف العالي المولوي أقبغا الأوحدي سنة 740هـ) ويلاحظ أن سنة وقف المصحف هي السنة التي تم فيها بناء المدرسة الأقبغاوية كما سبق ذلك، وقد كان لاقتران وقف المصحف بانتهاء بناء القبة أثر واضح في الإسراع بكتابة المصحف حتى يوضع فيها يوم تمام بنائها، إذ حبس كاتبه نفسه في بيته ستة أشهر متوالية لا يخرج منه حتى أتم كتابته، وهو زمن قليل جداً إذا قيس بما في المصحف من إتقانٍ وتذهيب ومعلومات قرآنية وتفسير.
وفي الصفحة الثانية من الورقة الثالثة عشرة والأولى من الرابعة عشرة زخارف ذهبية بأعلاها، وأسفلها مستطيل به هذه الآية {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} .
وبهامش المصحف وبين سطوره بعض التفسيرات وأحكام القراءات، وأسباب النزول مكتوبة بالمداد الأحمر ويقع المصحف في 435 ورقة كتانية حجم كل ورقة نصف متر.(5/230)
هل التمسك بالحجاب الإسلامي غلو وانحراف ?
بقلم الشيخ: محمد أبو الفتح البيانوني
المدرس في كلية الشريعة بالرياض
ليس غريباً أن يتعرض الحجاب الإسلامي لهجوم عنيف من قبل مجتمعاتنا الحديثة التي أعرضت عن الإسلام، واستبدلت مظاهر المدنية الجاهلية بكمالاته وهديه ... ولكن الغريب أن يجد هذا الهجوم المركز على الحجاب سبيلاً إلى عقول بعض المسلمين فيضعفوا أمامه، ويتأثروا به ويرددوا مقالات الأعداء الآثمة دون وعي لدوافعها وآثارها ...
لقد كان فرض الحجاب على المرأة حفظاً لكرامتها خاصة، ورعاية لكيان المجتمع عامة كغيره من الفرائض والهدى الذي جاء به هذا الدين فأنقذ الناس من الظلمات إلى النور، ومهد لهم سبل السعادة في الدنيا والآخرة. فعرف أسلافنا حقيقة هذه الأوامر وتمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ... فكانت سبب سعادتهم وسيادتهم، وجهل حقيقتهما أكثر الناس اليوم فأعرضوا عنها واستثقلوها فكان ذلك الإعراض سبب شقائهم وهوانهم ... {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
ولهذا، لم يكن فرض الحجاب غريباً على المرأة المسلمة في الصدر الأول ولا مفاجئاً لها، بل اهتدت إليه بعض الفطر السليمة في الجاهلية، وتمسكت به بعض النسوة حتى كاد يصل ببعضهن إلى الحجاب الكامل الذي دعا إليه الإسلام، وذلك في الوقت الذي انتشر فيه التبرج والسفور أيضاً ... فهذا هو الربيع بن زياد العبسي يرثي مالك بن زهير في الجاهلية فيقول من قصيدة:
من مثله تمسي النساء حواسراً وتقوم معولة مع الأسحار
قد كُنّ يخبأن الوجوه تستراً فاليوم حينَ بَدَون للنظار
يلطمن حُرّ وجوههن على فتى(5/231)
عفِّ الشمائل طيب الأخبار
ولقد تطلع بعض المسلمين في الصدر الأول إلى فرضية الحجاب، وتوقعوا صدوره عن الشارع تبعاً لما عرفوه عن طبيعة هذا الدين، ومن هنا كانت استجابة النساء المسلمات لآيات الحجاب استجابة سريعة رائعة. فما أن نزل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} حتى استجبن لهذا الهدي القرآني الاستجابة الكاملة فأسرعن إلى الحجاب، وأدنين عليهن من جلابيبهن حتى لا يكاد يُرى منهن إلاّ مكان عين واحدة.
فعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: "لما نزلت آية الحجاب، خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة".
ولم تكتف النساء المؤمنات بمطلق الحجاب، وبقيت أنفسهن المؤمنة تتطلع إلى الكمال فيه، فهذه أسماء بنت مرثد رضي الله عنها يتردد إليها النساء تبدو منهن الزينة والخلاخل، والصدور والذوائب، فيسيئها ذلك وتقول: ما أقبح هذا!؟ فينزل قول الله عز وجل: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ... الآية} .(5/232)
وهكذا عاشت المرأة المسلمة في ظل الحجاب الإسلامي الكامل عزيزة الجانب محفوظة الحقوق في مجتمع تمسك بالإسلام، وسار على نهجه وهديه، وما كانت إحداهن لتشعر بثقل هذا الحجاب وتفكر بالتخلص منه أو بتطويره على الأقل كما هو شأن كثير من النساء اليوم ... وما كان ليخطر في بال أحد أن هذا الحجاب كان يوماً ما سبباً في ذلة، أو إضاعة حق، أو إضعاف عقل كما يتوهم الواهمون ...
ولكن أتى على الناس حين من الدهر، بعدوا فيه عن الإسلام الصحيح وساءت فيه مفاهيمهم، فتغيرت نظرتهم إلى الإسلام عامة وإلى بعض أحكامه وهديه خاصة، تبعاً للضغط الجاهلي على النفوس، وتسرب الأفكار المعادية إلى العقول ... فنظروا إلى الحجاب الكامل نظرتهم لعبء ثقيل، وحاجب كثيف يحجب المرأة عن حقها، ويضيع لها كرامتها، ولا ينسجم مع الأوضاع الحاضرة، والمجالات العامة التي فتحها الجاهلية الحديثة لأبنائها وبناتها على السواء ... فوقفوا منه مواقف مختلفة بين مزدرٍ له متهجم عليه، وبين مستثقل يحاول تطويره والتخلص منه ... وبين مُبْعدٍ عنه صفة الشرعية، ومعتبر الحجاب الكامل - في زعمه – من بقايا العقليات المتخلفة، ومظاهر المفاهيم الخاطئة ...
يُقضى على المرءِ في أيام محنته
حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
وسأتعرض لنماذج من مواقف بعض الكتاب المسلمين الذين تأثروا بتلك الدعوات المغرضة والحملات المعادية؛ فسايروا في مقالاتهم تلك المواقف الشاذة المختلفة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ليكون القراء الكرام على بصيرة من أمرهم، وينتبهوا إلى الأفكار الدخيلة عليهم، ويحذروا الانسياق وراء الادعاءات والوشايات ...
فهذا هو الأستاذ "بهي الخولي"صاحب كتاب "الإسلام والمرأة المعاصرة"يتحدث في الطبعة الثالثة عن الحجاب فيقول في ص 159:(5/233)
"الحجاب كلمة عاشت بمدلولٍ خطير خاطئ دهوراً طويلة في المجتمعات الإسلامية على مختلف بيئاتها، فقد فهمه الكثيرون على أنه استقرار المرأة في البيت لا تبرحه إلى أي مكان آخر ... "إلى أن قال معدداً بعض المظاهر الخطيرة التي عاش فيها الحجاب:
"وكانت خلال إقامتها في البيت لا ترى أجنبياً ولا يراها أجنبي، حتى كانت إحداهن تمرض المرض الخطير فلا يستجيبون أن يدخل الطبيب ليكشف عن مرضها لأنه أجنبي. وأما شأنها مع غير الأجانب – أي الأقارب – فإنه لم يكن يؤذن في رؤيتها إلاّ لأبيها وأبي زوجها وإخوتها. أما غير هؤلاء من نحو أبناء عمها، أو أخوة زوجها فلا". ثم ختم حديثه عن هذه المظاهر الخاطئة – في زعمه – بقوله:
"ولما قام قاسم أمين ينادي بتحرير المرأة شنع بهذا الحجاب، وأبان عدم شرعيته، وأفاض في ذكر مساوئه وأثره في إضعاف شخصية المرأة وعقلها، وأقرّه على دعوته ذووا الرأي والاستنارة من علماء المسلمين"10هـ.
فأي خطأ يا ترى في حجب المرأة عن الأجانب عامة حيث لا ترى أجنبياً ولا يراها أجنبي!؟ وأي شرٍّ يترتب على حجب المرأة عن ابن عمها وأخوة زوجها!؟ وهل هذه التصرفات وأمثالها من التقاليد الخاطئة الدخيلة على الحجاب، أم أنها حقيقة الحجاب الإسلامي!؟
ماذا يقول كاتبنا في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يُسأل عن الحَمْوِ – وهو قريب الزوج – فيجيب محذراً: الحَمْوُ الموت!!
ومن هم أولئك المستنيرون ولعقلاء من ذوي الرأي الذين أقروا "قاسم أمين"على دعوته في "تحرير المرأة "؟! اللهم إلا إذا كانوا من المستنيرين بنور الغرب، وفكر الجاهلية التي ترى في الحجاب الإسلامي الكامل إضعافاً لشخصية المرأة وعقلها. فهل أضعف الحجاب الكامل من عقول وشخصيات نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، والفضليات من نساء المؤمنين يوم تمسكن به التمسك الكامل؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.(5/234)
وهذا هو الأستاذ الدكتور "تقي الدين الهلالي "يطالعنا في مقاله: " تعليم الإناث وتربيتهن"الذي نشر في العدد الرابع من مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة – بترديد مقالات أولئك، وبالتسليم لبعض آرائهم وهجومهم على الحجاب ... فيقول في ص 23 من العدد المذكور:
"وأما آباؤنا المتأخرون فقد انحرفوا عن الجادة في الدين والدنيا وعلومهما، فلما عجزوا عن إقامة صروح العفاف والأخلاق الكريمة وتنفيذ حدود الشرع المحمدي العظيم، لجأوا إلى الاختفاء والفرار والاختباء، فغلوا في الحجاب حتى دفنوا النساء كما قلتم، ومنعوهن من الخروج، وإذا خرجن يفرضون عليهن ستر وجوههن إلا عيناً واحدة أو نصف عين، وجعلوا صوتهن عورة وحديثهن مع الرجال وإن كانوا صالحين وبحضرة محارمهن أو أزواجهن وقاحة ... ".
فهل هذه المظاهر في الحقيقة من الغلو في الدين! ومن آثار آبائنا وأجدادنا المتأخرين المتخلفين الذين انحرفوا عن الجادة في الدين!؟.
وهل هذا هو الحجاب الكامل الذي وصفه الكاتب في حقيقته تعبير عن العجز والضعف، ولجوء إلى الاختباء والفرار!؟ وهل أن ستر المرأة لوجهها كله مظهر من مظاهر الخطأ والانحراف!؟
وقد يكون الكاتب الكريم يميل إلى جواز كشف وجه المرأة، فلا مجال في هذا المقال للدخول في نقاش معه حول هذا الموضوع، ولا للتعرض لأولئك الذين تحمسوا لهذا الرأي فدعوا المرأة إلى سفور الوجه في عصر الانحلال والفساد ... فلقد كُتِبَ عن هذا الكثير، وتبين لنا في كثير من المجتمعات الإسلامية أن كشف الوجه كان سبيلاً إلى السفور الكامل، وخطوة عاجلة إلى التبرج والفساد، ولطالما اتخذ الأعداء أقوال هؤلاء وسيلة ناجحة إلى ما يريدون ...(5/235)
ولكنني أكتفي هنا أن أتساءل: هل قال أحد من السلف أو الخلف إن ستر الوجه غلو في الدين وانحراف عن الجادة المستقيمة، وأثر من آثار التخلف والانحطاط؟ كلا، إن العلماء جميعاً متفقون على أن ستر الوجه كمال وفضيلة، ولم يكن خلافهم إلا في وجوب الستر وعدم وجوبه. فكيف يجرؤ مسلم على أن يحكم على الكمال المتفق عليه بأنه غلو وانحراف؟
ماذا يقول كاتبنا في قول ابن عباس رضي الله عنهما: "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عيناً واحدة "!!
وبماذا يجيب عن قول محمد بن سيرين حيث يقول: سألت عبيدة السلماني عن قول الله عز وجل {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنّ} فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى."؟
ثم إن كان هذا غلواً في الدين، فماذا يقول بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم نساءه بالحجاب من الأجانب حتى العميان منهم..! فهذه أم سلمة رضي الله عنها تقول: " كنت عند الرسول صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم، وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فدخل علينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احتجبا منه، فقلنا: أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا!؟ قال: أفعمياوان أنتما لستما تبصرانه!؟ ".
ثم نجد الكاتب المذكور يقول مناقشاً أولئك الذين منعوا المرأة حق تعلم الكتابة وذلك في ص 20 من هذا المقال:(5/236)
"وأما قولكم: إن القلم أحد اللسانين، وإن المرأة لجهلها بهذا اللسان وضرب الحجاب الشديد تأمن شر اللسانين ... فقد أخطأتم في ذلك خطأ فاحشاً، ألم تعلموا أن الفتاة التي ربيت على العفاف والتحصن لا يصل إليها سوء ولو كانت بين الرجال في غير ريبة، وقد كانت النساء يرافقن رجالهن في الغزوات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصحب معه نساءه في الغزو والحج، وكانت نساء الصحابة غير قابعاتٍ في بيوتهن، بل يخرجن لأشغالهن إن كانت، ويعلفن الخيل ويكدحن في أموالهن. وكان النساء يغزون بعد النبي صلى الله عليه وسلم ... وذلك مسطور في كتب الحديث لا نطيل بذكره، فلم يضرهن ذلك لقوة إيمانهن وكمال عفافهن ... ".
لا أريد هنا أن أخالف الكاتب الكريم في رأيه في أولئك الذين منعوا المرأة حق التعلم والكتابة، ولا في حكمه الذي يقول فيه: إن الفتاة إذا أسيئت تربيتها لا يمكن صيانتها ... فإن هذا مما تتفق عليه العقول. ولكنني أريد أن أشير إلى أن تلك الأوصاف التي أسهب في ذكرها عن المرأة المسلمة في الصدر الأول لا تنطبق عليها كل الانطباق، ولا يمكن أن يُؤخَذَ منها حكم عام يعم النساء في ذلك العصر ... فلم يكن نساء ذلك العصر خارجاتٍ ضارباتٍ في الأرض كادحاتٍ في أموالهن كما يكدح الرجال، وإنما كُنّ في معظم أحوالهن عاملات في ميدان عملهن الأول المناسب لطبيعتهن ألا: وهو البيت، حيث ترعى المرأة فيه أمور البيت والزوج، وتسهر على تربية الأولاد وتنشئتهم التنشئة الصالحة، فتتفرغ بذلك لأعمالها وتقوم بوظيفتها حق القيام ... ولولا أن القرار في البيوت هو الأصل المنسجم مع طبيعة المرأة لما أمرها الله عز وجل بذلك في صريح كتابه {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى..} {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} !!(5/237)
وفي تفسير هذه الآية يقول الإمام القرطبي: "معنى هذه الآية: الأمر بلزوم البيت، ثم يقول: كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة ... ".
ثم نرى الكاتب المذكور يختم حديثه عن هؤلاء وأولئك بقوله في ص 24:
"ولو قام رجال عقلاء صالحون بتغيير هذه العادة ورد النساء إلى ما كن عليه في زمان النبي صلى الله عليه وسلم – وهو: ما عليه نساء القرى والبوادي في البلاد الإسلامية بأسرها من أول ظهور الإسلام إلى اليوم – مع أدب غض البصر ونحوه، لوجب أن يُصغي لإصلاحهم، وأن يعانوا عليه ... ".
فهل يعجب الكاتب الكريم أن تسفر نساء المدن اليوم سفور أهل القرى زاعمات مع ذلك الاقتداء بسلفهن!؟
وكيف يجرؤ على أن يحكم على النساء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أنهن كن سافرات الوجوه سفور أهل القرى والبوادي!؟ _ حاشاهن من ذلك – فإن النصوص الكثيرة المتوافرة تؤكد لنا بأن ستر الوجه أمر مألوف معروف في القرون الأولى، وأن النساء المؤمنات كن يسترن وجوههن حتى في حالة الإحرام إذا ما مرّ أمامهن الرجال ... ولا عجب فلقد كانت المرأة المسلمة تعتبر كشف الوجه كشفاً للحياء ومصيبة من المصائب ...
فهذه أم خلاّدٍ رضي الله عنها – كما يروي أبو داود – تأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "متنقبة" وهي تسأل عن ابنها المقتول ... فيستغرب أحد الحاضرين نقابها ووقارها وهي على ما عليه من مصيبة، فتجيبه معبرة عن مفهوم المرأة المسلمة عن الحجاب: "إن أرزأُ ابني فلن أرزأ حيائي".(5/238)
ويذكر لنا عاصم الحول: أنهم كانوا يدخلون على حفصة بنت سيرين – رحمهما الله – وهي امرأة عجوز فتستتر بجلبابها وتغطي وجهها، فيقولون لها مداعبين: رحمك الله، قال الله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} فتقول لهم: أي شيء بعد ذلك؟ فيقولون: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُن ... } فتقول: هو إثبات الحجاب.
وما كانت أولئك الفضليات من النساء المؤمنات ضائعات الحقوق، ولا ضعيفات الشخصية وهن على ما عليه من حجاب كامل وتعفف صادق وإنما كن المؤمنات العزيزات، القانتات الصالحات، الهاديات المهديات المستجيبات لأمر الله، والمتأسيات بسيرة أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أجمعين.
أسأل الله لنا جميعاً الرشاد والسداد في القول والعمل، والحمد لله رب العالمين ...(5/239)
{وَذَكِّر فَإنّ الذِكرَى تَنْفَعُ المُؤمِنِين}
للشيخ حسن السيد متولي
المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين في الجامعة
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .(5/240)
وسبب نزول هذه الآيات أن نفراً من الأوس والخزرج كانوا جلوساً يتحدثون فمر بهم شاس بن قيس اليهودي فغاظه ما رآه من ألفتهم بعد ما كانوا عليه من العداوة في الجاهلية. وقال والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم من قرار. فأمر شاباً من اليهود أن يجلس معهم ويذكرهم يوم (بُعَاث) وينشدهم بعض ما قيل فيه. وكان الظفر في ذلك اليوم للأوس. ففعل. فتنازع القوم وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا. السلاح. السلاح، فاجتمع من القبيلتين خلق عظيم. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار من أصحابه حتى جاءهم. فقال: "يا معشر المسلمين ألله ألله. أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بين قلوبكم". فعلموا أنها نزغة من الشيطان وكيد من أعدائهم فألقوا السلاح واستغفروا وعانق بعضهم بعضاً وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والسبب خاص. ولكن الخطاب عام لجميع المؤمنين في جميع العصور. وقد خاطبهم الله تعالى لإشعارهم بأنهم الجديرون بمخاطبة الله وتكريمه.
والآية الأولى تكشف للمؤمنين عن أعدائهم وتحذرهم من خطرهم مبينة لهم أن طاعتهم لفريق من أهل الكتاب تفضي بهم إلى الكفر وقد حدث لهم من اليهود ما أثار الفتنة بينهم ولولا أن رسول الله حضر وذكرهم بنعمة الإسلام التي ألفت بين قلوبهم لعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية وقد حذر الرسول من تنازع المسلمين في حجة الوداع فقال: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض" والآية الثانية {وَكَيْفَ تَكْفُرُون} إنكار وتعجب لحدوث طاعة منهم لأهل الكتاب تجرهم إلى الكفر وتنحرف بهم عن دينهم والحال أن آيات الله تتلى عليهم والرسول صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم يرشدهم ويهديهم إلى طريق العزيز الحميد ثم بين لهم أن من اعتصم بالله وتمسك بدينه كان في غنى عن غيره وفاز بالاهتداء إلى الصراط المستقيم.(5/241)
أما الآية الثالثة: فإن الله ينادي المؤمنين آمراً لهم بأن يتقوه حق تقواه بحيث لا يتركون شيئاً مما يلزم فعله ولا يفعلون شيئاً مما يلزم تركه وعليهم أن يبذلوا في ذلك جهدهم واستطاعتهم طائعين لله غير عاصين متذكرين له غير ناسين شاكرين له دون كفر.
وأن يداوموا على تقواه فلا يلقون الله إلا وهم مسلمون.
ثم يأمرهم الله في الآية الرابعة بأن يعتصموا بحبل الله. و (العصمة) : المنعة؛ أي يمتنعون به عن كل ما يضرهم. وحبل الله هو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنه تنزيل من حكيم حميد وقد روي عن الرسول: "إن هذا القرآن حبل الله".
و (الحبل) : لفظ مشترك بين معان متعددة المناسب منها للآية ما ذكرناه وأصله في اللغة. السبب الذي يوصل إلى البغية والحاجة وينهاهم عن التفرق الذي يشتت شملهم ويمزقهم كل ممزق بقوله {وَلا تَفَرَّقُوا} كما يأمرهم في هذه الآية بتذكر نعمة الله الكبرى عليهم وهي الإسلام ليشكروها بالمحافظة عليها حيث قضت على ما كان عليه الأوس والخزرج قبل الإسلام من نزاع اصطلوا بناره عشرات من السنين فألف الله بين قلوبهم بالإسلام وصاروا بنعمته إخواناً ونجاهم الله وهم مشرفون على الهلاك بهدايتهم {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} والشفا: الحرف. ومثل ذلك البيان العظيم بين الله لكم آياته لعلكم تهتدون.
وقد بين سبحانه وتعالى في هذه الآيات أسساً ثلاثاً تقوم عليها بناء الأمة الإسلامية وتحيا بها في عزة ومنعة تؤدي رسالة الله في أرضه.
الأساس الأول:
التحذير من متابعة أعداء الأمة الإسلامية وهم أهل الكتاب فلا يأخذوا منهم شيئاً يعتقدونه ولا تشريعاً يعملون به ولا يقلدونهم في أخلاقهم وعاداتهم؛ لأنهم في غنى عن ذلك كله بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(5/242)
لكن الإسلام لا يمنع أن يأخذ المسلمون منهم ما وصلوا إليه من اكتشافات واختراعات ما داموا قد تخلفوا بسبب إهمالهم النظر في ملكوت الله والبحث عن الخصائص التي أودعها في كونه.
وكيان الأمة الإسلامية مرهون بمعرفة أعدائها ومعاملته على هذا الأساس؛ لأنهم لا يريدون للمسلمين إلا الدمار والهلاك. وكم حذر الله المؤمنين في كتابه فهو سبحانه يقول لهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} وقال لرسوله {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} .
إذاً فيستحيل زوال عداوة أهل الكتاب للمؤمنين إلاً إذا تهودوا أو تنصروا كما أخبر الله ونعوذ بالله من الردة والكفر.
ولهذا ينكر الله على المؤمنين متابعة أهل الكتاب ومصادقتهم وينبههم إلى ألد أعدائهم بقوله سبحانه: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} .
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . وقد اكتوت الجماعة المؤمنة بنار الحقد اليهودي منذ نشأتها حتى وقتنا هذا وسيظل هذا شأنهم ما دامت الحياة الدنيا. والتاريخ الإسلامي مليء بما فعله أعداء المسلمين بهم.
والأساس الثاني:(5/243)
الإيمان بالله مصحوباً بتقوى الله حق تقاته بحيث يظل المسلمون مدى حياتهم في كنف هذه التقوى حتى يلقوا الله مسلمين.
أما الأساس الثالث:
وهو التمسك بدين الله وكتابه والاجتماع حوله متآخين متحابين يستمدون منه عقائدهم وشريعتهم ودستورهم فهو الكافي للأمة الحامي لها من الانحراف والعاصم لها من الكفر يجمع بين قلوبها ويوحد صفوفها لتكون كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً تحتكم إليه عند الاختلاف كما أمر الله صوناً لوحدتها فهو سبحانه يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} فإذا ما استجابت الأمة الإسلامية لنداء ربها فآمنت وتمسكت بكتاب الله وسنة رسوله كانت خير أمة أُخرجت للناس وقادت هذا العالم إلى ما فيه خيره في معاشه ومعاده.
وقد أنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآيات منهجاً يسير عليه المؤمنون في حياتهم بعد أن بدأ اليهود ينفذون خطة عدائهم ضد الأمة الناشئة ليكون حصناً منيعاً لجماعة المؤمنين أمام مؤامرات أعدائهم وكيدهم.
وإنا بإزاء هذا المنهاج القويم نعرض صورتين للأمة الإسلامية صورة للسابقين الذين اعتنقوه وعملوا به وأخرى للأمة الإسلامية في عصرنا الحاضر وقد أهملت هذه الأسس لنرى الآثار التي انعكست عليها في كلتا الحالتين.
الحالة الأولى:(5/244)
سار الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنون معه مستمسكين بهذه الأسس مطبقين لمنهج الله الذي شرعه لهم مستجيبين لندائه فأيدهم بنصره وفشلت جميع الدسائس والمؤامرات التي حاكها اليهود ضدهم لأنهم اعتصموا بحبل الله وعاشوا حياتهم متحدين في أخوة إسلامية عقدها الرسول بين صحابته من المهاجرين والأنصار أُخوة فاقت أُخوة النسب وفي ظل هذا الإيمان وتلك الأخوة نمت الدولة الإسلامية ورفعت لواءها في هذا العالم عزيزة قوية عادلة رحيمة وباء أعداؤها بالخيبة والهزيمة؛ لأن حزب الله هم الغالبون المفلحون.
ألم ترَ إلى حيي بن أخطب وجماعته من اليهود حينما ألبوا مشركي الجزيرة العربية وتعاهدوا معهم على حرب الرسول وأصحابه في المدينة. المشركون من خارجها واليهود من داخلها حتى يتمكنوا من إبادة محمد والمؤمنين معه وهم قلة قليلة بالنسبة إليهم واستعد المسلمون لمواجهة أعدائهم وحفروا خندقاً حول المدينة وكان موقفاً عصيباً على المؤمنين لكن النصر حالفهم ولم تُجْدِ قوة الأعداء المادية أمام عون الله لعباده المؤمنين فقد صدق الله وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده.
واقرأ أو استمع لبيان الله تعالى في هذا الموقف تذكرة للمؤمنين بنصر الله لهم آيات تتلى عظة وعبرة لأولي الألباب.
يقول جلى شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} .(5/245)
وكان موقف المنافقين {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} .
أما المؤمنون فقالوا {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} .
فتولى الله الدفاع عنهم {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} . وصدق الله العظيم {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .(5/246)
وقد فتحت هذه الجماعة المؤمنة البلاد شرقاً وغرباً بعد أن انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى وانهارت أمامها عروش القياصرة والأكاسرة؛ لأنها آمنت بالله واعتصمت بكتابه وسنة رسوله ودعت إلى دينه ودافعت عن مبادئها لتكون كلمة الله هي العليا ووضعت نصب أعينها لحماية دينها. قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} .
فكان لها بعون الله ما أرادت.
أما أمة الإسلام في عصرنا الحاضر فعددها مئات الملايين وكيانها دول ودويلات متناثرة ضعيفة متخاذلة يحيط بها أعداؤها كما تحيط الأكلة الجياع بقصعتها ولكنهم مع هذه الكثرة كما قال الرسول "غثاء كغثاء السيل" لا قوة ولا منعة ونحن نحس هذا ونشاهده ونحترق بناره.(5/247)
وسبب هذا أنهم لم يستجيبوا لنداء الله تعالى فلم يعاملوا أهل الكتاب والمشركين على أنهم أعداء لهم بل صادقوهم وأطاعوهم، ولم يتمسكوا بكتاب الله عقيدة وعملاً كما أُمرُوا بل حكم معظمهم بغير ما أنزل الله، وأوقع الكفار بينهم العداوة والبغضاء حتى ضرب بعضهم رقاب بعض، والآن تُشَنُ الحرب على المسلمين من كل جانب من اليهود وغيرهم مؤامرة مدبرة من أعداء الله ضد الأمة الإسلامية وليس لها من دون الله كاشفة ولا نجاة للمسلمين إلاّ أن يرجعوا إلى دينهم متمسكين بحبل الله متحدين متآخين في الله متعاونين متناصرين فيبدل الله ضعفنا قوة وذلنا عزاً ويمكننا في أرضه ويمدنا بعونه كما قال سبحانه {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} .
ولن تصلح هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(5/248)
أضواء من التفسير
للشيخ عبد القادر شيبة الحمد: المدرس بكلية الشريعة
قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ. وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ لأَيْكَةِ أُولَئِكَ الأَحْزَابُ. إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ. وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ. وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} .
المناسبة:
لما ذكر أنه أهلك قبل قريش قروناً كثيرة لما كذبوا رسلهم، وهدد قريشاً وتوعدهم سرد هنا على سبيل الاستئناف بعض هؤلاء الهالكين، تقريراً لمضمون ما قبله وزيادة في تخويف الكفار وتهديدهم.
القراءة:
قرئ "فواق"بفتح الفاء وبضمها.
المفردات:(5/249)
"عاد"قوم هود وكانوا يسكنون الأحقاف جنوبي الجزيرة العربية. "الأوتاد"جمع وتد بكسر التاء وفتحها؛ وهو: ما رز في الأرض أو الحائط من خشب. "ثمود"قوم صالح وكانوا يسكنون الحجر. "قوم لوط"أهل سادوم وعامورة من دائرة الأردن. "الأيكة"الغيضة وهي الأشجار الملتفة المجتمعة. وهم قوم شعيب عليه السلام وكانوا يسكنون قرية مدين. "إن"بمعنى ما. "فحق"فثبت ووجب. "عقاب"الأصل عقابي أي عذابي. "ينظر"ينتظر. "هؤلاء"الإشارة لأهل مكة. "صيحة"أصل الصيحة الصوت بأقصى الطاقة والمراد هنا النفخة الثانية. "فواق"بفتح الفاء وضمها قيل هما لغتان بمعنى واحد وهو الزمان الذي بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع كقوله تعالى: {لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً} وقيل من فواق يعني: من رجوع، من أفاق المريض: إذا رجع إلى صحته، وأفاقت الناقة تفيق إفاقة: إذا رجعت واجتمعت الفيقة في ضرعها، والفيقة: اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين. وقال الفراء: فواق بالفتح: الأفاقة والاستراحة كالجواب من أجاب، وأما المضموم فاسم لا مصدر. والمشهور الأول أنها بمعنى واحد. "قطنا"أي نصيبنا؛ فالقط: الحظ والنصيب كما قال الفراء. وأصل القط: القطعة من الشيء من قطَّه إذا قطعه، ويطلق على الصحيفة بالجائزة؛ لأنها قطعة من القرطاس ومنه قول الشاعر:
ولا الملك النعمان يوم لقيته
بنعمته يعطي القطوط ويطلق
التراكيب:
قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} استئناف مقرر لمضمون ما قبله، وتأنيث قوم باعتبار معناه وهو: أنهم أمة وطائفة وجماعة، وقوله: {ذُو الأَْوْتَادِ} أي صاحب الأوتاد. قيل: المراد أنه اتخذ أربعة أوتاد يشد إليها يدي ورجلي من يريد تعذيبه، وقيل معناه: ذو الملك الثابت، شبَّهَ ثبوت الملك بثبوت البيت المطنب بأوتاده ومنه قول الأفوه العوذي:
والبيت لا يبتن إلاّ على عمد
ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
وكما قال الأسود بن يعفر:(5/250)
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة
في ظل ملك ثابت الأوتاد
وقال ابن مسعود وابن عباس في رواية عطية: الأوتاد: الجنود يقوون ملكه كما يقوي الوتد الشيء. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الأحْزَابُ} الظاهر أن الإشارة فيه راجعة إلى أقرب مذكور وهم قوم نوح ومن عطف عليهم، وفيه تفخيم لشأنهم، وإعلاء لهم على من تحزب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعناه: هؤلاء الأقوياء لما كذبوا الرسل عوقبوا، وأنتم كذبتم كتكذيبهم مع أنكم أضعف منهم. ويجوز أن يكون (أولئك) مبتدأ والأحزاب خبره، والجملة بدل من الطوائف المذكورة. ويجوز أن تكون (أولئك) مبتدأ والخبر إن كل إلاّ كذب الرسل مع حذف العائد والتقدير أي: كلهم أو كل منهم والجملة مستأنفة لتقرير مضمون ما قبلها. وقوله: {إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ} يجوز أن تكون الجملة خبراً كما مرّ ويجوز أن تكون استئنافية لتقرير تكذيبهم على أبلغ وجه، وتمهيد ما عقب به، و (كل) مبتدأ و (إلاّ) استثناء مفرغ، وجملة (كذب) الخبر؛ أي: ما كل واحد منهم محكوماً عليه بحكم أو مخبراً عنه بخبر إلاّ بأنه كذب الرسل، لأن الرسل يصدق بعضهم بعضاً وكلهم متفقون على الحق، فتكذيب كل واحد منهم تكذيب لهم جميعاً، ويجوز أن يكون من مقابلة الجمع بالجمع فيقتضي القسمة آحاداً، وعليه فالمعنى ما كل واحد منهم محكوماً عليه بحكم أو مخبراً عنه بخبر إلا بأنه كذب رسوله. والحصر -هنا- عل سبيل المبالغة؛ كأن سائر أوصافهم بالنظر إلى ما أثبت لهم بمنزلة العدم، فيدل على أنهم غالون في التكذيب. ويدل على ذلك أيضاً تكرير(5/251)
التكذيب وإيضاحه بعد إبهامه، وتنويع تكريره بالجملة الفعلية ألا وهي كذبت وبالاسمية الاستئنافية ثانياً؛ وهي: إن كل إلا كذب الرسل، وما في الاستثنائية من الوضع على وجه التخصيص والتأكيد، فكل هذا يفيد أنواعاً من المبالغة المسجلة عليهم باستحقاق أشد العذاب وأبلغه ولذلك رتب عليه قوله تعالى: {فَحَقَّ عِقَابِ} وقد وقع عليهم عقاب الله تعالى الذي أوجبته جناياتهم مع تنويع أصناف العقوبات فأغرق قوم نوح بالطوفان، وغشى فرعون وقومه من اليم ما غشيهم، وأهلكت عاد بالدبور، وثمود بالصيحة، وقوم لوط بالخسف وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة.
وقوله تعالى: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاء} شروع في بيان عقاب كفار مكة بعد بيان عقاب أضرابهم من الأحزاب، فالمشار إليه بهؤلاء أهل مكة، والإشارة به لتحقير شأنهم وتهوين أمرهم، وقوله تعالى: {مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} (ما) نافية ولها خبر مقدم و (من) حرف جرّ جيء به لاستغراق النفي، و (فواق) مبتدأ والجملة في محل نصب صفة لصيحة.
وقوله: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} استئناف لبيان استهزائهم بالوعيد، وسخريتهم من التهديد، ولتقرير مضمون ما تقدم من وصف استكبارهم وعنادهم.
المعنى الإجمالي:(5/252)
ليس تكذيب قريش لك غريباً في بابه، فريداً من نوعه، ولست أول من كذبه قومه، لقد جحدت أمة نوح عليه السلام رسالته، ومن بعدها عاد كذبوا هوداً، وثمود كذبوا صالحاً، وفرعون الجبار الشديد الأذى كذب موسى، وأهل سادوم وعمورة من دائرة الأردن كذبوا لوطاً، وأصحاب الغيضة أهل مدين كذبوا شعيباً، أولئك المتحزبون المتعصبون حقاً، ما وصفوا بغير تكذيب رسلهم وجحد رسالات ربهم، فأنزلت بهم عقابي، وأحللت عليهم غضبي، وهم أشد من أهل مكة قوة، وأكثر منهم جمعاً، فأغرقت قوم نوح بالطوفان، ودمرت فرعون غرقاً في اليم، وأرسلت على عاد ريحاً صرصراً في يوم نحس مستمر، وأخذت ثمود صاعقة العذاب الهون، وجعلت عالي أرض سادوم وعمورة سافلها، وأرسلت عليهم حجارة من طين، وأخذ أصحاب يوم الأيكة عذاب يوم الظلة.
وما أنتم يا أهل مكة بخير من هؤلاء وليس لكم براءة من الزبر، وما تنظرون إلا نفخة القيامة، تؤمنون لديها، وتحاسبون عندها، وتعاقبون فيها، العقاب الشديد الذي لا يخطر لكم على بال، ولا يمر منكم على خيال.
ولقد سخر هؤلاء الفجرة من هذا الوعيد الشديد، واستهزءوا بهذا التهديد، وقالوا: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} .
ما ترشد إليه الآيات:
1- تسلية النبي صلى الله عليه وسلم.
2- كانت الأمم السابقة أقوى من أهل مكة.
3- طغيان فرعون وشدة إيذائه للمؤمنين.
4- أن تحزب السابقين هو التحزب.
5- أخص صفات الكفار التكذيب.
6- عقاب المكذبين في العاجلة.
7- الإشارة بعدم استئصال أهل مكة.
8- سهولة إحياء الموتى.
9- الوعيد الشديد لأهل مكة.
10- سخريتهم واستهزاؤهم بالوعيد.(5/253)
قال تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالأشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} .
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى في الآية السابقة استخفاف أهل مكة بالوعيد وما تلفظوا به من قول ينم عن خبث طوية، مع تهديدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتل كما روي في بعض روايات أسباب النزول، أمر الله نبيه في هذه الآية بالصبر على أذاهم.
القراءة:
والجمهور {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} بنصبها، وقرئ برفعهما.
المفردات:
{اصْبِرْ} احبس نفسك عن الجزع {دَاوُدَ} من مشاهير أنبياء بني إسرائيل وممن أوتوا الملك منهم. {الأيْدِ} مصدر آد الرجل يئيد وإياداً بكسر الهمزة إذا قوي واشتد ومنه قولهم: أيدك الله تأييداً. {أَوَّابٌ} رجاع يعني لمرضاة الله تعالى. {سَخَّرْنَا} أتبعنا.
{يُسَبِّحْنَ} ينزهن الله تعالى ويقدسنه بصوت يتمثل لداود عليه السلام فكان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح كما روي عن ابن عباس. {بِالْعَشِيِّ} قال الراغب: من زوال الشمس إلى الصباح. وقيل المراد هنا وقت العشاء الأولى يعني المغرب. {وَالأشْرَاقِ} وقت إضاءة الشمس وصفاء نورها، يقال: شرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت وصفت. {مَحْشُورَةً} مجموعة إليه. {شَدَدْنَا} قوينا. {آتَيْنَاهُ} أعطيناه ومنحناه.
{الْحِكْمَةَ} النبوة وكمال العلم والإصابة في الأمور. {فَصْلَ الْخِطَابِ} البيان الشافي في كل قصد. وقيل: البينة على المدعي واليمين على من أنكر. وقيل: القضاء بين الناس بالحق وقيل كلمة أما بعد.
التراكيب:(5/254)
قوله تعالى: {إِنَّهُ أَوَّابٌ} تعليل لكونه ذا اليد، ودليل على أن المراد به القوة في الدين. وقوله: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ} استئناف مسوق لتعليل قوته في الدين، ويجوز أن يكون استئنافاً لبيان القصة أو التمهيد لها. وقوله: {مَعَهُ} متعلق بسخرنا وجوز أن يتعلق بقوله يسبحن. وإنما قال: (معه) ولم يقل: (له) كما قال: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} ؛ لأن تسخير الجبال له - عليه السلام- لم يكن بطريق تفويض التصرف الكلي فيها إليه كتسخير الريح لسليمان بل بطريق الإقتداء به والمشاركة في العبادة معه. وقوله {يُسَبِّحْنَ} في موضع نصب على الحال من الجبال، وقد وضع موضع مسبحات لإفادة الاستمرار التجددي وأنها يحصل منها التسبيح حالاً بعد حال. وقيل إن جملة يسبحن مستأنفة لبيان التسخير كأن سائلاً سأل: كيف كان تسخيرها؟ فقيل يسبحن. وقوله {وَالطَّيْرَ} على قراءة النصب معطوفة على الجبال و {مَحْشُورَةً} حال من الطير والعامل سخرنا وإنما لم يؤت بالحال فعلاً مضارعاً كالحال السابقة أعني (يسبحن) ؛ لأنه لم يُرد أنها تحشر شيئاً فشيئاً إذ حاشرها هو الله تعالى فحشرها جملة أدل على القدرة. وأما على قراءة الرفع فيهما فالطير مبتدأ ومحشوره خبره. وقوله: {كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} استئناف مقرر لمضمون ما قبله. وإنما وضع الأواب موضع المسبح لأن الأواب هو التواب وهو الكثير في الرجوع إلى الله، ومن دأبه إدامة التسبيح والضمير في قوله: {لَهُ} قيل لله تعالى ومعناه: وكل من داود والجبال والطير لله تعالى كثير الرجوع مديم التسبيح. وقيل الضمير لداود؛ أي: كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيح داود أواب والأول أظهر. وقوله: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} مفيد أن الله تعالى جمع لداود عليه السلام بين كمال الفهم وكمال النطق.
المعنى الإجمالي:(5/255)
لا تفزع يا محمد بسبب هذه المقالات المؤذية، ولا تجزع لما يتجدد من أمثالها، وتذكر قصة عبدنا الصالح التقي صاحب القوة في الدين الأواب إلى الله تعالى، لقد اتبعنا الجبال معه حال كونها تقدس الله تعالى بتقديسه وتجاوبه في تسبيحه، في طرفي نهاره، وكذلك أتبعنا الطير حال كونها مجموعة إليه، كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيح داود مسبح، وقد قوينا سلطانه، وأعطيناه النبوة. ومنحناه كمال العلم، وتمام الفهم، وملكناه زمام الفصاحة.
ما ترشد إليه الآيات:
1- الصبر على الأذى.
2- التأسي بالصالحين.
3- قوة داود في دينه ودنياه.
4- كثرة رجوعه إلى الله.
5- اتباع الجبال والطير له.
6- كمال قدرة الله تعالى.
7- تسبيح الجبال والطير بحمد ربها.
8- قوة سلطان داود.
9- نبوته وكمال علمه وثقوب فهمه.
10- فصاحته عليه السلام.(5/256)
يستفتونك
يتولى الرد على أسئلة القراء سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
رئيس الجامعة الإسلامية
س – نطلب الإفادة عن رجل تزوج بنت مطلقته هل يجوز ذلك؟
الجواب: لا يجوز للرجل أن يتزوج بنت مطلقته إذا كان قد دخل بها؛ لأنها ربيبه وقد حرم الله الربائب على عباده كما قال تعالى في بيان المحرمات من النساء: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِن} الآية.. والدخول هو الجماع، أما إن كانت لم يدخل بأمها بل عقد عليها ثم طلقها فلا حرج عليه في تزوج بنتها لقول الله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} .
س – قدّمنا الوداع على رمي الجمار في اليوم الثالث عشر بموجب فتوى من شخص يدعي أنه صاحب علم ونرغب الفتوى.
الجواب: لا يجوز الوداع قبل الانتهاء من أعمال الحج كلها ولذا فإن وداعكم قبل الانتهاء من رمي الجمار في أجزائه نظر والأحوط لكم أن تريقوا عن ذلك دماً بمكة يوزع على فقراء الحرم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ينفر أحد منكم حتى يكون آخر عهده بالبيت" أخرجه مسلم في صحيحه وينبغي أن لا يغتر الإنسان بفتوى كثير ممن ينتسب إلى العلم بل الواجب عليه أن يتحرى في ذلك سؤال أهل العلم المشهورين بالعلم والفضل والورع وتحري الحق.
س – قال تعالى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُن} . هل هي خاصة بالمتوفي عنها زوجها وعن المطلقة إذا وضعت حملها هل عليها عدة أم انتهت وعن المتوفي عنها زوجها وهي حامل هل لها مصرف حتى تضع الحمل أم ليس لها إلاّ ما خصها من الإرث؟.(5/257)
الجواب: إن الآية عامة تعم المتوفي عنها والمطلقة والمخلوعة والمفسوخة من جهة الحاكم بمسوغ شرعي كل واحدة منهن إذا كانت حاملاً تخرج من العدة بوضع الحمل للآية المذكورة. وهي قوله سبحانه: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُن} ولما ثبت في الصحيحين أن سبيعة الأسلمية رضي الله عنها وضعت حملها بعد وفاة زوجها بليال فاستفتت النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فأفتاها بأنها قد خرجت من العدة من حين وضعت حملها وأذن لها في الزواج متى بدا لها ذلك. وهذا قول أهل العلم جميعهم إلا خلافاً شاذاً يروى عن بعض السلف أن المتوفي عنها زوجها تعتد بأطول الأجلين وهو قول لا يعول عليه؛ لكونه مخالفاً للآية الكريمة والحديث الشريف.
أما نفقة المتوفي عنها إذا كانت حاملاً فهي عليها وليس على التركة من ذلك شيء في أصح أقوال العلماء.
وفق الله الجميع للفقه في دينه والثبات عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..(5/258)
الإسلام والحياة:
فريضة التفكير في الإسلام
بقلم الشيخ: أحمد عبد الرحيم السايح من علماء الأزهر
من أوضح سمات القرآن الكريم التي لفتت نظر الباحثين في القرآن من المسلمين وغير المسلمين إشادة القرآن بالعقل وتوجيه النظر إلى استخدامه إلى "الحقيقة "فقد دعا القرآن بطريق مباشر وغير مباشر إلى تعظيم العقل والرجوع إليه.
ويحرص القرآن على تأكيد هذا المعنى حتى إنه ليكرر هذه الدعوة بشكل يلفت النظر ويثير الاهتمام، ويشير القرآن إلى العقل ومعانيه المختلفة ومشتقاته ومرادفاته في نحو ثلاثمائة وخمسين آية مستخدماً لذلك كل الألفاظ التي تدل عليه أو تشير إليه من قريب أو بعيد من:
"التفكير"و "القلب"و "الفؤاد" و "اللب"و "النظر"و "العلم"و "التذكر"و "الرشد"و "الحكمة"و "الرأي"و "الفقه"إلى غير ذلك من الألفاظ التي تدور حول الوظائف العقلية على اختلاف معانيها وخصائصها وظلالها مما يعتبر إيحاءات قوية بدور العقل وأهميته بالنسبة للإنسان.(5/259)
قال ابن عباس محمود العقاد في كتابه "التفكير فريضة إسلامية "ففي كتب الأديان الكبرى إشارات صريحة أو مضمونة إلى التمييز، ولكنها تأتي عرضاً غير مقصودة وقد يلمح فيها القارئ - بعض الأحايين شيئاً - من الزراية بالعقل أو التحذير منه؛ لأنه مزلة العقائد وباب من أبواب الدعوى والإنكار. ولكن القرآن الكريم لا يذكر العقل إلاّ في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية، بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه. ولا يأتي تكرار الإشارة إلى العقل بمعنى واحد من معانيه التي يشرحها النفسانيون من أصحاب العلوم الحديثة، بل هي تشمل وظائف الإنسان العقلية على اختلاف أعمالها وخصائصها وتتعمد التفرقة بين هذه الوظائف والخصائص مواطن الخطاب ومناسباته، فلا ينحصر خطاب العقل في العقل الوازع ولا في العقل المدرك ولا في العقل الذي يناط به التأمل الصادق والحكم الصحيح، بل يعم الخطاب في الآيات القرآنية كل ما يتسع له الذهن الإنساني من خاصة أو وظيفة، وهي كثيرة لا موجب لتفصيلها في هذا المقام المجمل، إذ هي جميعاً مما يمكن أن يحيط به العقل الوازع والعقل المدرك والعقل المفكر الذي يتولى الموازنة والحكم على المعاني والأشياء.(5/260)
فالعقل في مدلول لفظه العام ملكة يناط بها الوازع الأخلاقي أو المنع عن المحظور والمنكر ومن هنا كان اشتقاقه من مادة "عقل"التي يؤخذ منها العقل، وتكاد شهرة العقال بهذه التسمية أن تتوارد في اللغات الإنسانية الكبرى التي يتكلم بها مئات الملايين من البشر. فإن كلمة "مايند"وما خرج من مادتها في اللغات الجرمانية تفيد معنى الاحتراس والمبالاة وينادى بها على الغافل الذي يحتاج إلى التنبيه. ونحسب أن اللغات في فروعها الأخرى لا تخلو من كلمة في معنى العقل لها دلالة على الوازع أو على التنبيه والاحتراس.
ومن خصائص العقل ملكة الإدراك التي يُناط بها الفهم والتصور وهي على كونها لازمة لإدراك الوازع الأخلاقي وإدراك أسبابه وعواقبه تستقل أحياناً بإدراك الأمور فيما ليس له علاقة بالأوامر والنواهي أو بالحسنات والسيئات.
ومن خصائص العقل أنه يتأمل فيما يدركه ويقلبه على وجوهه ويستخرج منها بواطنه وأسراره. ويبني عليها نتائجه وأحكامه وهذه الخصائص في جملتها تجمعها ملكة "الحكم "وتتصل بها ملكة الحكمة، وتتصل كذلك بالعقل الوازع إذا انتهت حكمة الحكيم به إلى العلم بما يحسن وما يقبح وما ينبغي له أن يطلبه وما ينبغي له أن يأباه.
ومن أعلى خصائص العقل الإنساني "الرشد"وهو مقابل لتمام التكوين في العقل الرشيد، ووظيفة الرشد فوق وظيفة العقل الوازع والعقل المدرك والعقل الحكيم؛ لأنها استيفاء لجميع هذه الوظائف وعليها مزيد من النضج والتمام والتمييز بميزة الرشاد حيث لا نقص ولا اختلال. وقد يؤتى الحكيم من نقص في الإدراك، وقد يؤتى العقل الوازع من نقص في الحكمة، ولكن العقل الرشيد ينجو به الرشاد من هذا وذاك.(5/261)
وفريضة التفكير في القرآن الكريم تشمل العقل الإنساني بكل ما احتواه من هذه الوظائف بجميع خصائصها ومدلولاتها. فهو يخاطب العقل الوازع والعقل المدرك والعقل الحكيم والعقل الرشيد، ولا يذكر العقل عرضاً مقتضياً بل يذكره مقصوداً مفصلاً على نحو لا نظير له في كتاب من كتب الأديان. فمن خطابه إلى العقل عامة – ومنه ما ينطوي على العقل الوازع – قوله تعالى في سورة البقرة {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .
ومنه في سورة المؤمنون.. {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
ومنه في سورة الروم {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} .(5/262)
ومنه في سورة العنكبوت: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} ومنه ما يخاطب العقل وينطوي على العقل الوازع كقوله تعالى في سورة الملك: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} .
وفي سورة الأنعام: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} .
ومنه بعد بيان حق المطلقات في سورة البقرة: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} .
ومنه في سورة يوسف: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
ومنه في سورة الحشر بياناًَ لأسباب الشقاق والتدابر بين الأمم: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} .
وهذا عدا الآيات الكثيرة التي تبتدئ بالزجر وتنتهي إلى التذكير بالعقل؛ لأنه خير مرجع للهداية في ضمير الإنسان كقوله تعالى في سورة البقرة: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
وكقوله في سورة آل عمران: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
وكقوله تعالى في سورة المائدة: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} .(5/263)
وفي سورة الأنعام: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
وفي سورة هود: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
وفي سورة الأنبياء: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
وفي غير هذه السور الكريمة تنبيه إلى العقل في مثل هذا السياق يدل عليه ما تقدم في هذه الآيات.
إن هذا الخطاب المتكرر إلى العقل الوازع يضارعه في القرآن الكريم خطاب متكرر مثله إلى العقل المدرك أو العقل الذي يقوم به الفهم والوعي وهما: أعم وأعمق من مجرد الإدراك وكل خطاب إلى ذوي الألباب في القرآن الكريم فهو خطاب إلى اللب، هذا العقل المدرك الفاهم لأنه معدن الإدراك والفهم في ذهن الإنسان، كما يدل عليه اسمه باللغة العربية.
{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُو الأَلْبَابِ} .
{قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ} .
{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الأَلْبَابِ} .
{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُو الأَلْبَابِ} .
{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} .(5/264)
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} .
ومن هذه الآيات نتبين أن اللب الذي يخاطبه القرآن الكريم وظيفته عقلية تحيط بالعقل الوازع والعقل المدرك والعقل الذي يتلقى الحكمة ويتعظ بالذكر والذكرى وخطابه خطاب لأناس من العقلاء لهم نصيب من الفهم والوعي أوفر من نصيب العقل الذي يكف صاحبه عن السوء ولا يرتقي إلى منزلة الرسوخ في العلم. والتمييز بين الطيب والخبيث والتمييز بين الحسن والأحسن في القول.
أما العقل الذي يفكر ويستخلص من تفكيره زبدة الرأي والروية فالقرآن الكريم يعبر عنه بكلمات متعددة تشترك في المعنى أحياناً وينفرد بعضها بمعناه، على حسب السياق في أحيان أخرى، فهو الفكر والنظر والبصر والتدبر والاعتبار والذكر والعلم وسائر هذه الملكات الذهنية التي تتفق أحياناً في المدلول – كما قدمنا – ولكنها لا تستفاد من كلمة واحدة تغني عن سائر الكلمات الأُخرى.
{وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الأَياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} .
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} .
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} .
{يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} .
{انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} .
{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} .(5/265)
{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} .
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} .
{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} .
{مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} .
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} .
{وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الْأَبْصَارِ} .
{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} .
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} .
{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} .
{فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ} .
{وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} .
{وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} .
{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} .
{أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} .
{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون} .(5/266)